الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

هذا وبين ما اذا نذر ، أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد.

ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة ،

______________________________________________________

هذا وبين ما اذا نذر أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد) فانّ الفقهاء يوجبون الاحتياط هنا ، مع ان شبهة عدم فعلية التكليف على كل تقدير آت في النذر والحلف ايضا.

هذا (ولكن الأظهر هنا) في باب النذر واخويه من العهد واليمين : (وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين) وهي مسألة حرمة الرّبا التي يبتلي بها المكلّف في عدة معاملات في يومه او في عدة أيام.

وإنّما فرّق المصنّف بين الأمرين ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر وحرمة الربا ليسا متعلقين بزمان في الدليل الشرعي ، بل هما مطلقان ، مثل قوله تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (١) وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (٢) بخلاف الوطي في حال الحيض ، فان حرمته مقيدة بالوقت الخاص ومن المعلوم : ان المشروط لا يتقدّم على شرطه.

(وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية) في مثل وطي الحائض (فالظاهر : جواز المخالفة القطعيّة) بالنسبة إلى الزوج والزوجة

__________________

(١) ـ سورة الانسان : الآية ٧.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٨.

٢١

لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري فى خصوص ذلك المشتبه اباحة وتحريما.

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى اصالة الاباحة ، لعدم جريان استصحاب الطهر.

______________________________________________________

(لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنّسبة إليه) أي : إلى كل من الرجل والمرأة لما عرفت : من عدم كون التكليف فعليا على كل تقدير.

إذن : (فالواجب : الرّجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه) وعدّ العلم الاجمالي كأن لم يكن ، فلا يجب الاحتياط البعضي ولا الكلي بل يرجع الى الاصل فيه (اباحة وتحريما) أي : سواء كان الاصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه هو : الاباحة أم هو التحريم ، لأنّه حيث يسقط مقتضى العلم الاجمالي يكون مسرحا للاصول.

وعليه : (فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر) لليقين بالطهر أوّلا ، والشك في المحيض لا حقا ، فتتم أركان الاستصحاب فيجري الطهر ، (إلى أن يبقى مقدار الحيض) وهو الأيام الأخيرة من الشهر (فيرجع فيه) اي : في ذلك المقدار الباقي (إلى اصالة الاباحة) لا الى اصالة الطهارة وذلك (لعدم جريان استصحاب الطهر) لليقين بارتفاع الطهر اما بالدم السابق أو بهذا الدم ، ومثل هذا لا يكون مجالا للاستصحاب.

وكذا لا يجري استصحاب الحيض ايضا لعدم اليقين بالحيض ، كما انه لا يكفي استصحاب الطهر الى بقاء مقدار الحيض ، حتى نحكم بكون الباقي حيضا ، لان هذا من اللوازم العقلية ، واللوازم العقلية لا تثبت بالاستصحاب كما حقّق في محله.

٢٢

وفي المثال الثاني الى أصالة الاباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ فى كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها ، وعدم ترتّب الأثر عليها ، لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ، ولذا يفسد في حق القاصر بالجهل

______________________________________________________

(و) يرجع (في المثال الثاني) وهو مثال الربا من حيث التكليف (الى اصالة الاباحة) حيث نشك في ان هذا العمل حرام أو حلال فالاصل الاباحة.

(و) يرجع من حيث الوضع إلى أصالة (الفساد) من جهة الشك في الصحة والفساد الوضعيين ، والاصل عدم تحقّق المعاملة حتى يقوم الدليل على تحققها ، فانّ المعاملة أمر حادث اذا شك فيها فالاصل عدمها.

وعليه : (فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها) من حيث التكليف ، لجريان اصالة الاباحة (وعدم ترتّب الأثر عليها) من حيث الوضع فتكون كأن لم تكن.

وانّما يحكم بذلك (لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي) حتى اذا قلنا بالاباحة نقول بالصحة ، واذا قلنا بالحرمة نقول بالفساد ، فانّ فساد المعاملة ليس من لوازم حرمتها ، كما ان صحة المعاملة ليست من لوازم اباحتها ، ولهذا نقول بصحة المعاملة وقت النداء وان كانت حراما.

هذا وقد تحقق في باب النواهي : ان تحريم المعاملة لا يدل على فسادها ، وكذلك العكس بالعكس ، لان كل واحد من الصحة والفساد ، والاباحة والحرمة حكم مستقل مستفاد من الدليل ، فلا تلازم بينهما.

(ولذا) اي : لاجل ما ذكرناه : من ان فساد الربا ليس دائرا مدار الحرمة (يفسد) الربا ولا يحرم (في حق القاصر بالجهل) اي : اذا كان لا يعرف حرمته لجهله جهلا

٢٣

والنسيان والصغر على وجه ، وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود وإن قلنا بجواز التمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه ؛

______________________________________________________

قصوريا (والنسيان والصغر على وجه) وهو ـ كما قال به بعض ـ مبني على عدم كون الصغر مانعا عن صحة المعاملات.

وعليه : فاذا تعامل الصغير بالربا فسدت معاملته ، لكن لم تحرم عليه ، فان بين الفساد والحرمة عموم من وجه ، فقد يحرم ويفسد كمن عقد على أمّه عالما عامدا ، فان نفس الصيغة محرّم اجرائها ، وقد يحرم ولا يفسد كالبيع وقت النداء ، وقد يفسد ولا يحرم كالبيع الربوي للجاهل والمكره والناسي وما اشبه حسب ما يستفاد من الأدلة.

لا يقال : كيف تقولون بأنّ كل واحد من المعاملات التدريجية المحتملة للربا مباحة ، لكنها فاسدة من جهة استصحاب عدم انعقاد المعاملة مع ان المشهور : انّ الاصل في المعاملات المشكوك صحتها : الصحة لا الفساد ، وذلك لانه يشمله عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ولا يعلم بالاستثناء فيه للشك في كونه ربا ، فهو حينئذ من التمسك بالعام فيما اذا كانت شبهة مصداقية بالنسبة الى الخاص وهو الاستثناء.

لأنّا نقول : هنا مورد التمسك باستصحاب البطلان لا بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (و) ذلك لانّه (ليس هنا مورد التّمسّك بعموم صحة العقود وان قلنا بجواز التّمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه) مثل ما اذا قال المولى : اكرم العلماء وقال : لا تكرم الفساق منهم ، ثم شك في فرد انه فاسق ام لا مع علمنا بانه عالم ، فانه يتمسك فيه بأكرم العلماء ، لانّ دخوله في اكرم العلماء مقطوع به

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ١.

٢٤

للعلم بخروج بعض الشّبهات التدريجيّة عن العموم لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد.

اللهم إلّا أنّ يقال : أنّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة ، كما لا يقدح فى اجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في الاصول اللفظيّة ،

______________________________________________________

وخروجه بسبب الفسق مشكوك.

وإنّما قلنا : انه ليس هنا مورد التمسك بعموم صحة العقود (للعلم بخروج بعض الشّبهات التّدريجيّة عن العموم) علما اجماليا ، فالمقام من قبيل اكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، ثم علمنا بان زيدا أو عمرا فاسق فانّه لا يجوز التمسك باكرم العلماء لاكرامهما لانه نعلم بخروج أحدهما.

وإنّما نعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية من العموم (لفرض العلم بفساد بعضها) اي : بفساد بعض هذه المعاملات التدريجية (فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها) اي : الى تلك المشتبهات التي نعلم اجمالا بوجوب الربا في بعضها (ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد) فانه اذا سقط العام يكون المرجع الاصول ، والاصول هنا هو : استصحاب الفساد.

(اللهم إلّا أنّ يقال : انّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في اجراء الاصول العمليّة فيها) على ما ذكرناه (كذلك لا يقدح في) اجراء (الاصول اللّفظيّة) ايضا ، لانّ المانع عن التمسك بالعام انّما يكون اذا كانت الاطراف دفعية مثل المثال السابق وهو ما لو قال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ثم علمنا ان زيدا أو عمرا فاسق ؛ لا فيما اذا كانت الافراد تدريجيّة كالمعاملة الربوية في المثال.

٢٥

فيمكن التّمسك فيما نحن فيه لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظية والعمليّة ، فتأمّل.

السابع :

قد عرفت أنّ المانع من إجراء الاصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و

______________________________________________________

وعليه : (فيمكن التّمسك فيما نحن فيه) من المعاملات التدريجية (لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم) ومن المعلوم : انّ أصالة العموم مقدمة على الاستصحاب ، لان الاصل أصيل حيث لا دليل.

(لكنّ الظاهر : الفرق بين الاصول اللفظية) فلا تجري في اطراف الشبهة (والعمليّة) فتجري في أطراف الشبهة.

قال بعض المحشين في وجه الفرق : ان مبنى الاصول اللفظية على فهم العرف وامضاء الشارع لهم في فهمهم وهم متوقفون من العمل بالعموم في امثال المقام ، بخلاف الاصول العملية فانها تدور مدار عدم الفرق.

(فتأمّل) ولعله اشارة الى عدم الفرق ، اذ الفرق المذكور غير تام ، فانه كما لا تجري الاصول اللّفظية في أطراف العلم الاجمالي المخصص للعام لاجل العلم الاجمالي ، كذلك لا تجري الاصول العملية لاجل العلم الاجمالي ايضا ، فانّ العلم الاجمالي مانع عن جريان كلّ من الاصول ، لفظية كانت أو عملية.

(السابع) من التنبيهات : (قد عرفت : انّ المانع من اجراء الاصل في كلّ من المشتبهين) أو المشتبهات (بالشبهة المحصورة هو : العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و) ذلك لما مرّ : من تنجّز التكليف بسبب العلم ، سواء كان

٢٦

هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه.

وهذا من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو أنّ هذا الثوب مغصوب.

وقد عرفت في الأمر الأوّل انّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم

______________________________________________________

العلم اجماليا أم تفصيليا ، ويدل على ذلك العقل الحاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل في كل واحد منهما ، والشرع الآمر بالاحتياط فيها.

ثم ان (هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما) بأن علم ـ مثلا ـ أنّ احد الإناءين خمر ، أو أنّ احدهما نجس ، أو أنّ احدهما إمّا خمر وإمّا نجس ، الى غير ذلك.

(وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم اجمالا بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه) وذلك حسب قول المشهور ، حيث قالوا :

بانه يحرم على الرجل لباس المرأة ، ويحرم على المرأة لباس الرجل ، وهذا الخنثى يعلم بحرمة احد اللباسين عليه ، لانه يعلم بتوجه خطاب اليه : بأن لا تلبس ملابس النساء ، أو لا تلبسي ملابس الرجال ، فيجب عليه الاحتياط بترك اللباسين.

(وهذا) في الخنثى (من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو انّ هذا الثوب مغصوب) لما مرّ : من انه لا يلزم وحدة نوع التكليف ، فان نوع تكليف المرأة غير نوع تكليف الرجل ، لكن بعد العلم الاجمالي بأحد التكليفين يكون الواجب على الخنثى الاجتناب عنهما ، كما قال :

(وقد عرفت في الأمر الأوّل : انّه لا فرق) عقلا (بين الخطاب الواحد المعلوم

٢٧

وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين.

وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه ، لأنّ أحدهما عورة قطعا ، والتكلّم مع الرجال والنّساء إلا لضرورة ، وكذا استماع صوتهما ، وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها

______________________________________________________

وجود موضوعه بين المشتبهين) كالخمر الدائرة بين احد الإناءين (وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين) كالخمر والغصب الّذين يعلم المكلّف وجود احدهما في موضوع واحد أو في موضوعين.

(وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشف كلّ من قبليه) سواء الرجولية منها أم الانوثية لمن يتخذه زوجا أو زوجة ، لانّ الرجل يحرم كشف قبله للرجال لا لزوجته ، والمرأة يحرم كشف قبلها للنساء ، لا لزوجها ، والخنثى يعلم اجمالا بأنه مكلّف بأحدهما.

إذن : فلا يجوز للخنثى كشف كل من قبليه لكل من الرجل وان اتخذه زوجا ، وللمرأة وان اتخذه زوجة (لأنّ أحدهما عورة قطعا) فيعلم اجمالا يتوجه واحد من خطابي : (يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (١) و (يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) (٢) اليه.

(و) يحرم ايضا (التكلّم) اي : تكلم الخنثى (مع الرجال والنّساء إلا لضرورة) ان قلنا بحرمته ، لكن المشهور على عدم الحرمة ، ويدل عليه : تكلم النساء مع الرسول والائمة عليهم‌السلام وتكلمهم معهن.

(وكذا) يحرم على الخنثى (استماع صوتهما) أي صوت كل من الرجل

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٣٠.

(٢) ـ سورة النور : الآية ٣١.

٢٨

بل النظر إليها ، لاصالة الحلّ ، بناء على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ، وعدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة على النساء ،

______________________________________________________

والمرأة ان قلنا بالحرمة ، ولكن الشهور لا يقولون بالحرمة ايضا.

هذا بالنسبة الى تكليف الخنثى ، وأمّا تكليف الآخرين بالنسبة الى الخنثى ، فكما قال : (وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها لاصالة الحلّ) وذلك لانهما بالنسبة الى الخنثى كواجدى المني في الثوب المشترك ، فانّ الرجال لا يعلمون انّ الخنثى امراة ، والنساء لا يعلمن انه رجل ؛ ولذا كان لكل واحد من الرجل والمرأة اجراء اصل الحل بالنسبة الى استماع صوت الخنثى والنظر اليه.

ثم انّ المصنّف جاء بلفظ «بل» الاضرابية ، لانّ جواز نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى محل كلام ، امّا بالنسبة للرجل : فلانه اذا قلنا بعموم قوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) لكل منظور اليه الّا ما خرج ، حرم نظر الرجل الى الخنثى ، لانه لا يعلم ، بخروج الخنثى ، امّا اذا قلنا بأن الآية ليست بهذا الصدد ، وذلك (بناء على عدم العموم في آية الغضّ للرجال) فلا تشمل النظر الى الخنثى ، اذ القدر المتيقن من دلالة الآية حرمة نظر الرجل الى النساء الاجنبيّات ، فيكون الاصل في النظر بالنسبة الى الخنثى هو الحلية.

(و) اما بالنسبة للمرأة : فلانه أيضا لا يجوز لها النظر الى الخنثى الّا بناء على (عدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة) واظهارها للخنثى (على النساء) فان قوله تعالى : (لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) (١) معناه : لا يبدين زينتهن للرجال ، ولا تعلم المرأة ان الخنثى رجل فيجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، واذا جاز لها ذلك جاز لها النظر الى الخنثى أيضا.

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٣١.

٢٩

لاشتباه مصادق المخصّص.

______________________________________________________

والحاصل : لا يقال : ان النظر لكل من الرجال والمرأة الى الخنثى غير جائز ، امّا عدم جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعموم (يَغُضُّوا) الشامل لغضّ الرجل عن المرأة وعن الخنثى.

وامّا عدم جواز نظر المرأة الى الخنثى ، فلعموم (يَغْضُضْنَ) على التقريب السابق في (يَغُضُّوا) ، ولعموم حرمة ابداء الزينة ، وذلك بتقريب : انّ حرمة ابداء الزينة جاءت من جهة حرمة نظر المرأة الى الغير ؛ فانه كلّما لم يجز لها ابداء الزينة لأحد لم يجز لها النظر اليه ، وحيث ان المرأة لا يجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، فلا يجوز لها النظر اليه ايضا.

لانّه يقال : يجوز النظر لكل من الرجل والمرأة الى الخنثى.

أمّا جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعدم العموم في (يَغُضُّوا).

وأمّا جواز نظر للمرأة الى الخنثى : فلعدم عموم (يَغْضُضْنَ) وكذا لعدم جواز التمسك بعموم آية الزينة ، فان آية الزينة تشمل حرمة نظر المرأة الى الرجل ، للتلازم بين حرمة ابداء الزينة وحرمة نظرها اليه ، امّا حرمة ابداء المرأة زينتها للخنثى ، فلا تشمله حتى يكون نظرها الى الخنثى محرّما أيضا.

وانّما لا يشمل عموم آية الزينة الخنثى (لاشتباه مصادق المخصّص) فانّ المرأة لا تعلم ان الخنثى رجل او امرأة ولعله امرأة ، فلا يصح التمسك بالعام عندها ، فيجوز لها ابداء زينتها للخنثى ، كما يجوز لها النظر اليها.

هذا غاية ما وصل فهمنا اليه من كلام المصنّف في إبداء الزينة.

ثم ان الأوثق ذكر هنا نكتة في اختلاف تعبير المصنّف بين قوله «بناء على عدم العموم في آية الغض للرجال» وبين قوله «وعدم جواز التمسك بعموم

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

آية حرمة ابداء الزينة على النساء» من قوله سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ...) (١) الى آخر الآية ، ما لفظه :

«ولا يذهب عليك : ان الأمر بوجوب الغض للنساء كآية الأمر بغض البصر للرجال ليس له عموم ، بخلاف النهي عن ابداء الزينة ؛ فانّ له عموما بقرينة الاستثناء ، ولذا غيّر اسلوب العبارة ؛ فبنى الأمر في الآية الاولى على عدم العموم ، وفي هذه على عدم جواز التمسك بالعموم في المقام نظرا الى كون الشبهة مصداقية ، وظاهره : تسليم العموم هنا خاصة. وكذا قد جعل بناء الاستدلال في الاولى على الأمر بالغض ، وهنا على حرمة ابداء الزينة مع الأمر بالغض أيضا ، فمقتضى العموم : حرمة النظر الى النساء على كل من الرجال والنساء ، واذا انضمت اليه حرمة نظر النساء الى الرجال ، كما هو مقتضى صدر الآية ـ لأنه وإن لم يكن له عموم كما تقدّم الّا أن هذا متيقن منه ـ يثبت بمقتضى صدر الآية والمستثنى منه في ذيلها : حرمة نظر كل من الرجال والنساء الى النساء ، ونظر النساء الى الرجال ، وقد استثنى من ذلك جواز نظر النساء الى امثالهن.

وعليه : فاذا نظرت المرأة الى الخنثى ، فان كانت الخنثى مؤنثا في الواقع يكون هذا النظر حلالا ، وان كان مذكرا كان حراما ، وحيث فرض تردّدها بينهما كانت الشبهة في الحكم لاجل الشبهة في مصداق موضوعه في الخارج ، فلا يجوز

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٣١.

٣١

وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصل عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج.

ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ، إمّا لانصرافها إلى غيرها ،

______________________________________________________

التمسك بالعموم حينئذ ، وهذا غاية توجيه المقام» (١) الى آخر كلام الاوثق.

(وكذا) من احكام الخنثى : انه (يحرم عليه التزويج والتّزوج) لانه يعلم اجمالا بحرمة احدهما عليه ، وذلك (لوجوب احراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصل) عند الشك في الموضوع يعني : رجولية الزوج أو انوثية الزوجة عدم صحة العقد ، لاحتمال ان يكون العقد بين رجلين ، او بين امرأتين ، فالاصل (عدم تأثير العقد ووجوب حفظ الفرج) فانّه لا يجوز اباحة الفرج الّا للزوجين.

ثم ان صاحب الحدائق مع انه يرى الاحتياط في الشبهة المحصورة ، قال بالبراءة في مسألة الخنثى بالنسبة الى التكاليف المختصة بالرجال أو بالنساء ، فلا يجب الاحتياط على الخنثى احتياطا من جهة العلم الاجمالي ، وذكر لذلك وجهين :

الاول : انصراف التكاليف المختصة الى غير الخنثى.

الثاني : اشتراط التكاليف المختصة بمن يعلم تفصيلا توجّه الخطاب اليه.

والى الوجه الاول اشار المصنّف بقوله : (ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التّكليفيّة المختصّة) بالرجال والنساء (إليها) اى : الى الخنثى ، وذلك (امّا لانصرافها) اي : انصراف تلك الخطابات (إلى غيرها) اي : الى غير الخنثى

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٣٤٢ حصول المشتبهات تدريجيا.

٣٢

خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلا ، وإن كان مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلا ، لأنّ الخطابين بشخص واحد

______________________________________________________

من الاشخاص الذين هم معلوم رجولتهم أو انوثتهم ، فانه هو المستفاد في النصوص لكثرة اولئك وقلّة الخناثى.

(خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر) فانه منصرف الى تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال ، امّا الخناثى فلا يشملهنّ تلك الخطابات.

وأشار الى الوجه الثاني بقوله : (وامّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلا) فانه يشترط في تنجّز التكليف ان يعلم المكلّف بأنّ الخطاب موجّه اليه ، فلا يكفي أن يعلم المكلّف اجمالا بانه مخاطب إمّا بهذا الخطاب ، أو بذاك الخطاب ، كعلم الخنثى بتوجّه احد الخطابين اليه ، فانه لا يتنجز التكليف في حقه.

وعليه : فالتكليف مشترط بالعلم بتوجه الخطاب التفصيلي الى المكلّف (وإن كان) الخطاب التفصيلي الموجّه الى المكلّف (مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلا) كما اذا علم بأنّه مخاطب إمّا باجتناب الخمر وإمّا باجتناب الغصب ، حيث يعلم ان هذا الاناء خمر أو غصب ، فانه يعلم تفصيلا بتوجه الخطاب اليه ، وان كان متعلق الخطاب مردّدا بين الخمر والغصب فيتنجّز التكليف عليه.

وانّما يشترط في تنجز التكليف : العلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه وان كان مرددا بين خطابين ، كفاية العلم بالتوجه الاجمالي (لأنّ الخطابين بشخص واحد

٣٣

بمنزلة خطاب واحد بشيئين ، اذ لا فرق بين قوله : «اجتنب عن الخمر» و : «اجتنب عن مال الغير» ، وبين قوله : «اجتنب عن كليهما» ، بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما.

لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة

______________________________________________________

بمنزلة خطاب واحد بشيئين) فاذا تردّد الخطاب بين أمرين فتمسّك المكلّف بالبراءة ، علم بانه خالف خطابا تفصيليا (اذ لا فرق بين قوله : «اجتنب عن الخمر» و «اجتنب عن مال الغير» ، وبين قوله : «اجتنب عن كليهما»).

وعليه : فكما يجب على المكلّف الاجتناب في الصورة الثانية فيما اذا قال : «اجتنب عن كليهما» حيث يعلم تفصيلا بتوجه الخطاب اليه ، فكذلك يجب الاجتناب فيما كان الخطاب التفصيلي مردّدا بين خطابين موجّهين اليه كما في الصورة الاولى فيما اذا قال : «اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن مال الغير» فان الخطابين الذين يعلم المكلّف توجههما اليه من الشرع يكونان بمنزلة خطاب واحد.

(بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما) كالخنثى حيث يعلم المكلّف انه داخل إمّا تحت خطاب الرجل وإمّا تحت خطاب المرأة ، فانه هنا لا يرجع الخطابان الى خطاب واحد حتى يلزم مخالفة خطاب تفصيلي فيما لو تمسك الخنثى بالبراءة فيهما.

وعليه : فهو كما اذا قال المولى : العبيد من اهل النوبة يصلّون ، والعبيد من اهل الصقلية يصومون ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل ايّ البلدين؟ فانه حيث لا يعلم بتوجه ايّ الخطابين اليه يجري البراءة من الصلاة والصوم ولا شيء عليه.

هذا (لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة) التي ذكرها بقوله : «وامّا

٣٤

ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزّنا والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى.

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ، فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الاباحة في المشتبهين.

______________________________________________________

لاشتراط التكليف بعلم المكلّف ...» (ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج) لكل من الرجل والانثى (عن الزّنا ، والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى).

وإنّما قال بضعف كل من الدعويين ، لانه لا وجه للانصراف الذي هو أول دعويين الحدائق ، فان ندرة وجود مجهول الرجولية والانوثية وكثرة معلومهما لا يوجب الانصراف ، وإنّما الذي يوجب الانصراف الى بعض الأفراد دون بعض ، هو كثرة الاستعمال وهي منتفية هنا.

ثم انه لو كان ندرة الوجود سببا للانصراف لم يجب على الخنثى ايّ تكليف ، لانّ التكاليف منصرفة الى الرجال والنساء من اول الصلاة الى آخر الديات على ما ذكر.

(وكذا) يكون ضعيفا (دعوى اشتراط) تنجّز (التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي) الى المكلّف بضميمة : ان الخنثى لا يعلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه ممّا ذكره في دعواه الثانية ، فلا يتنجّز التكليف في حقه.

وإنّما تكون هذه الدعوى ضعيفة ايضا لانه كما قال : (فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة : عدم جواز اجراء أصل الاباحة في المشتبهين) وهذا هو الميزان العقلي لوجوب الاطاعة ، ومناطه هو دفع الضرر المحتمل بعد

٣٥

وهو ثابت فيما نحن فيه ، ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد.

فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ،

______________________________________________________

حكم العقل بتنجز التكليف بالعلم الاجمالي على المكلّف (وهو) أي : المناط المذكور (ثابت فيما نحن فيه) من مسألة الخنثى.

وإنّما يكون المناط وجوب الاحتياط ثابت في الخنثى (ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد) فان الخنثى لا يشك أبدا في انه مقصود بخطاب حفظ فرجه إمّا من باب انه رجل ، وإمّا من باب انه امرأة ، ومن المعلوم : ان العقل مستقل بتنجّز التكليف بهذا العلم الاجمالي ؛ فيجب الاحتياط : ولا يجوز له اجراء أصالة الحل.

إذن : فالمقام من قبيل أن يقول المولى : يا أيها العبيد من أهل النوبة احفظوا فروجكم ، ويا أيها العبيد من اهل الصقلية احفظوا فروجكم ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل الصقلية أو من اهل النوبة؟ فانه لا يشك في وجوب حفظ فرجه ، لانّه سواء كان من هذا الصنف أو من ذاك الصنف ، فقد وجب عليه حفظ الفرج بالخطابين الصادرين من المولى.

وعليه : (فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا) في وجوب جمعه بين القصر والتمام ، لانّ المسافر مخاطب بالقصر ، والحاضر

٣٦

لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما.

______________________________________________________

مخاطب بالتمام ، والتردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا إنّما حصل له (لبعض الاشتباهات) الخارجية ، بأن كانت الشبهة موضوعية.

مثلا : لو لم يعلم بأن الفاصلة بين بلده ومقصده هل هي ثمانية فراسخ ام لا؟ فانّه يعلم اجمالا بتوجه واحد من خطابي الحاضر والمسافر اليه ، فيكون التكليف بالصلاة منجزا عليه ، لكن المكلّف به مشكوك ، والشك في المكلّف به مورد الاحتياط ان امكن الاحتياط فيه (فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما) لما عرفت : من ان العقل يلزمه ـ من باب دفع الضرر المحتمل ـ بامتثال الخطابين.

هذا ، ولكنّا ألمعنا سابقا في هذا الكتاب وفي كتاب النكاح من الفقه : الى ان الخنثى المشكل ليس قسما ثالثا ، فهو مكلف بأحد التكليفين بعد كونه رجلا أو امرأة.

إذن : فمختارنا هو : ان الخنثى مخيّر في ان يجعل نفسه من الرجال أو من النساء ، فيجري على نفسه كل تكاليف الرجل ، أو كل تكاليف المرأة.

وعلى غير الخنثى معاملة الخنثى حينئذ بما اختاره هو لنفسه من كونه رجلا او امرأة ، ويدل عليه : «الناس مسلطون على أنفسهم» (١) وقد ذكر ذلك بعض الفقهاء ، كما يظهر من مبسوط الشيخ ، ولو لم نقل بذلك فلا اقل من القرعة الملحقة له بالرجال أو بالنساء.

__________________

(١) ـ المستفاد من قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) سورة الاحزاب : الآية : ٦.

٣٧

الثامن :

انّ ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ، لأنّ المفروض : عدم جريان الأصل فيهما ،

______________________________________________________

(الثامن :) من التنبيهات انه ربّما يتوهم : ان الرجوع الى الاحتياط الذي هو مقتضى العلم الاجمالي انّما يكون فيما اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين ـ مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ـ هو : الحلية ، فانّ في مثل هذا المقام يجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، كما اذا كان هناك اناءان طاهران ثم تنجس احدهما ، ففي هذه الصورة يقتضي العلم الاجمالي الاحتياط عنهما.

وامّا اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين الحرمة ، فيجب اجتنابهما لا للعلم الاجمالي ، بل لأصالة الحرمة فيهما ، كما اذا كان هناك اناءان نجسان ثم طهّر أحدهما ، فانه يستصحب نجاسة هذا الاناء ونجاسة ذاك الاناء فيجب اجتنابهما لمقتضى أصل النجاسة ، لا لمقتضى العلم الاجمالي القاضي بالاحتياط.

لكن هذا التوهم ليس في محله وذلك كما قال : (انّ ظاهر كلام الأصحاب) حيث يستدلون للاحتياط بتعارض الأصلين وتساقطهما (التسوية بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه) مع قطع النظر عن العلم الاجمالي (هو الحلّ) كماءين طاهرين علم بنجاسة أحدهما ، وزوجتين علم بطلاق احداهما وما أشبه ذلك. (أو الحرمة) كماءين نجسين علم بطهارة احدهما ، وكامرأتين اجنبيتين علم بتزويج احداهما.

وانّما قال الاصحاب بالتسوية بين كون الاصل : الحل أو الحرمة (لأنّ المفروض : عدم جريان الأصل فيهما) اي في طرفي العلم الاجمالي في كلا

٣٨

لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده كعدمه.

ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام وتخصيص الجواز بالصورة الأولى ، ويحكمون في الثّانية بعدم جواز الارتكاب ، بناء على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ،

______________________________________________________

الفرعين ، وذلك (لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده) أي : الاصل (كعدمه) في انه لا اثر في كلا الفرعين ، فيكون الاجتناب فيهما واجبا لقاعدة الاحتياط.

هذا (ويمكن الفرق من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام) حيث قد تقدّم : ان بعض الفقهاء يجوّزون ارتكاب ما عدا الحرام ، فاذا كان اناءان احدهما خمرا قالوا : بجواز شرب أحدهما ، واذا كانت امرأتان احداهما رضيعته قالوا بجواز التزويج باحداهما (وتخصيص) هذا (الجواز بالصورة الاولى) فقط وهو ما كان الاصل فيهما الحل.

(و) اما في الصورة الثانية : فانهم كما قال : (يحكمون في الثّانية) وهو ما كان الاصل فيهما الحرمة (بعدم جواز الارتكاب) لكل من المشتبهين.

وإنّما يكون هذا الفرق بينهما (بناء على العمل بالأصل فيهما) أي : في الصورتين لا بناء على ما يقتضيه العلم الاجمالي فيهما.

والحاصل : القائلون بالاحتياط يقولون بالاحتياط في الصورتين : امّا القائلون بارتكاب ما عدا مقدار الحرام لدليل الاصل ، فيفرّقون بين الصورتين ، فيجوّزون الارتكاب لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى عملا بأصالة الحل والطهارة ويوجبون الاجتناب عن الجميع في الصورة الثانية عملا بأصالة الحرمة والنجاسة في كلا المشتبهين (و) يقولون : انه (لا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل) اي : لا يلزم من اجراء الاصلين في الصورتين مخالفة عملية وذلك واضح.

٣٩

ولا دليل على حرمتها إذا لم يتعلق بالعمل ، خصوصا إذا وافق الاحتياط.

إلّا أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

______________________________________________________

هذا من حيث المخالفة العملية هنا ، وأمّا من حيث المخالفة الالتزامية : فكما قال : (ولا دليل على حرمتها) اي : حرمة المخالفة (إذا لم يتعلق بالعمل) وانّما كان بالالتزام فقط ، فان أحد المشتبهين وان كان حلالا وطاهرا في الواقع الّا ان الحلال والطاهر يجوز تركه ، فاذا جاز تركه فاجراء اصالة الحرمة في كل من المشتبهين وتركهما معا لا يكون مخالفة عملية لحكم الشارع حتى يكون حراما ، بل يكون مخالفة التزامية حيث لم يلتزم المكلّف بالحل والطهارة ظاهرا ، ولكن لا دليل على حرمته فيكون جائزا.

وعليه : فالمخالفة الالتزامية جائزة ، كما سبق ايضا (خصوصا إذا وافق الاحتياط) كما في الصورة الثانية فانّ الأصل في كل من المشتبهين في الصورة الثانية هو : الحرمة والنجاسة فيكون العمل بالاصل فيها موافقا للاحتياط ، وتكون المخالفة الالتزامية فيها أخفّ مما لم يتوافق الاصل فيه مع الاحتياط كما في الصورة الاولى ، فان الاصل في كل من المشتبهين في الصورة الاولى هو : الحلية والطهارة.

ثم إنّ قول المصنّف : «بناء» ، إنّما هو في قبال ما اذا استفيد حكم الاحتياط في طرفي العلم الاجمالي من روايات الاحتياط ، لا تفرّق بين المشتبهين المسبوقين بالحل والطهارة ، وبين المسبوقين بالحرمة والنجاسة ، فلا يمكن لمن يستند بالروايات في باب العلم الاجمالي ان يقول بهذا التفصيل ، كما قال : (إلّا أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب) لما عدا مقدار الحرام في اطراف العلم الاجمالي (بالأخبار الدالّة على حليّة المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

٤٠