الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

جارية في جميع المطلقات ، بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : «أعتق رقبة» ليس إلّا الجامع لشروط الصحة ، لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا.

فكلّما شك في شرطية شيء كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ، فيجب الاحتياط ، للقطع باحرازه.

وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات ،

______________________________________________________

يجب الاتيان به (جارية في جميع المطلقات) ووجه جريان المغالطة في كل المطلقات هو ما ذكره بقوله :

(بأن يقال : انّ المراد بالمأمور به في قوله : «اعتق رقبة» ليس إلّا الجامع لشروط الصحة) فيلزم الاتيان بالرقبة الصحيحة الجامعة للشرائط (لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا) ومفهوم الصحيح مبيّن غير انه لما تردد مصداقه بين الأقل والأكثر ، لزم الاتيان بالأكثر.

وعليه : (فكلّما شك في شرطية شيء) في الرقبة كالايمان والذكورة وما أشبه ذلك من الشروط المشكوكة (كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط) فاذا لم نراع تلك الشروط لم نعلم بتحقق ذلك العنوان المأمور به (فيجب الاحتياط) بعتق رقبة جامعة لكل الشروط المشكوكة ، وذلك (للقطع باحرازه) أي : احراز تحقق ذلك العنوان ، لانه من العنوان والمحصل.

(وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات) إلى ما ذكرناه ، لان القيد في العتق ليس هو مفهوم الصحيح حتى يقال : بأن الصحيح عنوان ، فيلزم ان نأتي به ، بل القيد في العتق من الايمان والذكورة ، وما أشبه ذلك ، قد ثبت بالأدلة الخارجية فرضا ، فاذا كان نفس هذا القيد مجملا مرددا بين الأقل والأكثر جرى

٣٤١

فنرجع إلى المقصود ، ونقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ،

______________________________________________________

فيه البراءة عن الأكثر ولزم الاتيان بالأقل.

هذا هو توضيح ما ذكرناه قبل صفحة من الرسائل تقريبا حيث قلنا : وامّا الثاني : فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتب تلك الثمرة أعني : عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ، وحيث أوضحنا ذلك (فنرجع إلى المقصود) منه هنا ، وهو : البحث حول وجه النظر في الثمرة على القولين : الصحيح والأعم مع ان البراءة عن الأكثر نتيجة كلا القولين لا الاحتياط وان ذكر المحقق البهبهاني الاحتياط على القول بالصحيح في كلامه المتقدّم.

وحاصل ما بحثه المصنّف في الثمرة بين الصحيح والأعم ، هو ما أشار اليه في أخير هذه المسألة : من لزوم الاجمال على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح ، وأمّا على القول بكونها اسامي للأعم فليست مجملة ، بل يمكن القول بأنها مبيّنة ، فعلى الصحيح يتمسك بالبراءة أو الاحتياط على الاختلاف ، حيث ان بعضهم مع قوله بالصحيح يتمسك بالبراءة وبعضهم يتمسك بالاحتياط ، وامّا على الأعم فيتمسك بالبراءة مطلقا ، إلّا في الأجزاء والشرائط التي لها دخل في صدق اسم العبادة.

(و) عليه : فانا (نقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعم كغيرها من المطلقات كان لها حكمها) فيكون القياس هكذا : لفظ العبادة من المطلقات ، والمطلق له حكمه ، وحكمه هو التمسك بالاطلاق بشروط ثلاثة :

الاول : أن لا يكون المولى في مقام الاهمال والاجمال ، بل في مقام البيان.

الثاني : ان لا يكون هناك في المسألة قدر متيقن.

٣٤٢

ومن المعلوم أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسك به باطلاقه ، بل له شروط ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان ، ألا ترى أنّه لو راجع المريض الطبيب ، فقال له في غير وقت الحاجة : «لا بدّ لك من شرب الدواء والمسهل» ، فهل يجوز للمريض أن يأخذ باطلاق الدواء والمسهل؟.

______________________________________________________

الثالث : ان لا ينصب المولى قرينة على الخلاف.

وإلى الشروط الثلاثة أشار المصنّف بقوله : (ومن المعلوم : أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسك به) أي : بالمطلق (باطلاقه) تمسكا لنفي كل جزء وشرط مشكوك (بل له) أي : للتمسك باطلاق المطلق (شروط) مذكورة في باب المطلق والمقيد وهي الشروط الثلاثة التي أشرنا اليها هنا :

(كأن لا يكون واردا في مقام) بيان (حكم القضيّة المهملة) أي : لا يكون المولى في مقام الاجمال والاهمال (بحيث لا يكون المقام مقام بيان) فانه إذا كان المولى في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان لم يصح التمسك باطلاق المطلق في نفي شرط أو جزء مشكوك.

(ألا ترى انّه لو راجع المريض الطبيب ، فقال له في غير وقت الحاجة) إلى الدواء ، كما إذا راجعه يوم الجمعة ـ مثلا ـ وكان عليه ان يشرب الدواء يوم السبت لئلا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة فقال له الطبيب : («لا بدّ لك من شرب الدواء والمسهل» ، فهل يجوز للمريض ان يأخذ باطلاق الدواء والمسهل؟) ويشرب أيّ دواء كان ، أو أيّ مسهل شاء؟ فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء محتجّين : بأن الطبيب كان في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان حتى يجوز له الأخذ باطلاقه.

٣٤٣

وكذا لو قال المولى لعبده : «يجب عليك المسافرة غدا».

وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلّم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه إلّا في مقام هذا المقدار من البيان ، لا يجوز أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يثبت الاطلاق وعدم إرادة القيد ، إلّا بضميمة أنّه إذا فرض ـ ولو بحكم الأصل ـ عدم ذكر القيد وجب إرادة الأعمّ من المقيّد وإلّا قبح التكليف ، لعدم البيان ،

______________________________________________________

(وكذا لو قال المولى لعبده : «يجب عليك المسافرة غدا») فانه لا يجوز للعبد الأخذ بالاطلاق والسفر إلى أيّ مكان شاء ، وبأية وسيلة أراد ، فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء قائلين : بأن المولى لم يكن في مقام البيان حتى يجوز ذلك الأخذ باطلاق كلامه.

(وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه) أي : المتكلم (إلّا في مقام هذا المقدار من البيان) الاهمالي أو الاجمالي ، فانه (لا يجوز ان يدفع القيود المحتملة للمطلق) دفعا (بالأصل) فانّ الأصل العقلائي غير جار في المقام ، لا أصل الاطلاق ، ولا أصل عدم القيد ، وذلك (لانّ جريان الأصل لا يثبت الاطلاق) حتى يتمسك به في دفع القيود والخصوصيات المشكوك فيها.

(و) كذا جريان الأصل لا يثبت (عدم إرادة القيد ، إلّا بضميمة انّه إذا فرض ـ ولو بحكم الأصل ـ عدم ذكر القيد : وجب إرادة الأعم من المقيّد ، وإلّا) بأن لم يكن كذلك ، كان من التكليف بلا بيان ، وقد عرفت : (قبح التكليف) حسب الفرض (لعدم البيان) وذلك لأنّ أصالة عدم ذكر القيد بمنزلة الصغرى ، ولا يثبت بمجردها إرادة الاطلاق ، بل لا بد من ضم الكبرى اليها وهي : قبح التكليف

٣٤٤

فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الاخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع.

والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في مقام الأمر بالعبادة كونها في غير مقام بيان كيفية الصلاة.

فان قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)

______________________________________________________

بلا بيان ، فان المتكلّم يقبح منه ارادة شيء مع عدم بيانه له ، لانه تكليف بما لا يطاق.

ومن الواضح : ان هذه الكبرى إنما تتم إذا كان المتكلم في مقام البيان ، لا أن يكون في مقام الاهمال والاجمال.

وعليه : (فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح) من المولى (الاخلال بذكر القيد مع إرادته) أي : مع إرادة المولى القيد (في الواقع) فاذا تحققت هذه الكلية التي ذكرناها وهي : ان المولى إذا لم يكن في مقام البيان لا يجوز التمسك باطلاق كلامه ، قلنا : من صغريات هذه الكلية ، ان المولى الحقيقي لم يكن في مقام البيان عند ذكره لألفاظ العبادات ، فلا يجوز إذن التمسك باطلاق ما ورد من ألفاظ العبادات في الكتاب والسنة.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات) والعمومات (الواردة في الكتاب) والسنة (في مقام الأمر بالعبادة) من الصلاة والصيام والحج وغيرها (كونها في غير مقام بيان كيفية الصلاة) ولا كيفية الصيام ، والحج ، وسائر العبادات ، وإنما هي في مقام بيان أصل التشريع وتأكيد الأمر بها.

ويدل على ذلك ما نذكره من الأمثلة : (فان قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١)

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٤٥

إنّما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ، نظير قوله : «من ترك الصلاة فهو كذا وكذا» ، و «أنّ صلاة فريضة خير من عشرين أو ألف حجّة».

نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ، إمّا قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وإمّا بعد البيان له حتى يكون إشارة إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب.

______________________________________________________

إنما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها) فالآية المباركة تكون (نظير قوله) عليه‌السلام : («من ترك الصلاة فهو كذا وكذا» (١) ، و) نظير قوله عليه‌السلام : («أنّ صلاة فريضة خير من عشرين (٢) أو ألف حجّة (٣)»).

إذن : فالآية والرواية هما (نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء) مثل أن يقول الطبيب للمريض : لا بد لك من شرب الدواء ، فهذا القول من الطبيب سواء كان قبل بيانه لجزئيات الدواء أم بعد بيانه لها ، ليس له اطلاق كما قال : (امّا قبل بيانه) أي : بيان الدواء (له) أي : للمريض (حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وامّا بعد البيان له حتى يكون إشارة إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب).

__________________

(١) ـ لقد ورد في الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٢٨٧ ح ٢٤ ومن لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٥٦٤ ب ٢ ح ٤٩٣٢ ووسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٢٠ ب ٤٦ ح ٢٠٦٢٩ «من ترك الصلاة متعمدا فقد بريء من ذمّة الله وذمة رسوله».

(٢) ـ انظر الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢٦٠ ح ٧ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣١٩ ح ٤٧ ، روضة الواعظين : ص ٣١٨ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٣٦ ب ١٢ ح ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٠٩ ح ٦٣٠ وص ٢٢١ ب ٢ ح ٢٢٣٧.

(٣) ـ انظر تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٤٠ ب ١٢ ح ٢٢ ، وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٤٠ ب ١٠ ح ٤٤٦٠.

٣٤٦

والأوامر الواردة بالعبادات فيه ، كالصلاة والصوم والحجّ ، كلّها على أحد الوجهين ، والغالب فيها الثاني.

______________________________________________________

مثلا : راجع المريض الطبيب صباح يوم الجمعة فقال له الطبيب : لا بد لك من شرب الدواء ، وراجعه عصر يوم الجمعة فقال له : اشرب العنّاب الأحمر والعنّاب الأسود والبنفسج والنّبات مخلوطا ثم راجعه صباح يوم السبت فقال له : لا بد من ان تشرب الدواء ، فان ما قاله صباح يوم الجمعة كان إشارة إلى ما سوف يفصله عصرا ، وما قاله صباح يوم السبت كان إشارة إلى ما فصله عصر أمس.

وعلى كلا التقديرين فقوله قبل العصر وبعد العصر ليس اشارة إجمالية إلى الدواء بدون ان يكون له تفصيل حتى يتمسك المريض باطلاقه.

(و) عليه : فاذا عرفت ذلك في الدواء نقول : (الأوامر الواردة بالعبادات فيه) أي : في الشرع (كالصلاة والصوم والحجّ ، كلّها على أحد الوجهين) السابقين ، فانها وردت إمّا قبل البيان ، وإمّا بعد البيان (والغالب فيها الثاني) بأن كان ورود الأوامر بالعبادات بعد بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها.

إذن : فلا يمكن التمسك باطلاق : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (١) ولا باطلاق : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٢) ولا باطلاق : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٣) ولا باطلاق سائر آيات الأحكام ، لانها كما قلنا : ليست في مقام بيان الكيفية ، بل في مقام أصل التشريع والتأكيد عليها ، وإنما أو كل بيان الكيفية فيها إلى رسوله ومن بعده إلى أهل بيت رسوله صلوات الله عليهم أجمعين ، حتى تواتر

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

(٢) ـ سورة آل عمران : الآية ٩٧.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

٣٤٧

وقد ذكر موانع أخر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها باصالة الاطلاق وعدم التقييد ، ولكنها قابلة للدفع

______________________________________________________

عن الفريقين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» (١) وفي زمان الغيبة إلى الفقهاء المراجع حسب التوقيع الشريف : «أما الحوادث الواقعة» (٢).

هذا (وقد ذكر موانع أخر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها) غير الموانع الثلاثة التي ذكرناها : وقالوا : بأن هذه الموانع الأخر تمنع من التمسك في العبادات (باصالة الاطلاق ، و) من التمسك بأصالة (عدم التقييد) فمع وجود أحدها لا يمكن التمسك بهما (ولكنها) أي : تلك الموانع المذكورة (قابلة للدفع) فانها ليست كما ذكر تمنع من التمسك باطلاقات ، وإنما التي تمنع منه هي الثلاثة التي ذكرناها فقط.

ثم ان من الموانع التي ذكروها هي : ان ألفاظ العبادات منصرفة إلى خصوص الصحيحة ، فتكون بالنسبة إلى الأعم مجملة لا إطلاق لها حتى يتمسك به.

ومن الموانع : ان إطلاقات الكتاب ورد فيها تقييدات كثيرة ، وذلك يسبّب سقوطها عن الحجية.

ومن الموانع : كونه في مقام بيان جهة خاصة فقط كما في قوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (٣) فانه في مقام بيان حلّية الصيد فقط ، فلا يمكن التمسّك

__________________

(١) ـ معاني الاخبار : ص ٩١ ، كمال الدين : ص ٢٤٧ ، المسائل الجارودية : ص ٤٢ ، المناقب : ج ٢ ص ٤١ ، عيون اخبار الرضا : ص ٦٢ ، كشف الغمّة : ج ١ ص ٤٣ ، متشابه القرآن : ج ٢ ص ٣٥ ، الارشاد : ج ١ ص ١٨٠ ، بحار الانوار : ج ٥ ص ٦٨ ب ٢ ح ١ ، ارشاد القلوب : ص ٣٤٠.

(٢) ـ كمال الدين : ص ٤٤٠ ب ٤٥ ح ٤ ، منتخب الانوار المضيئة : ص ١٢٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠ ب ٩ ح ٣٣٤٢٤.

(٣) ـ سورة المائدة : الآية ٤.

٣٤٨

أو غير مطّردة في جميع المقامات ، وعمدة الوهن لها ما ذكرناه.

فحينئذ : إذا شك في جزئية شيء لعبادة لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية من أصالة عدم التقييد ، بل الحكم هنا هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط

______________________________________________________

باطلاق الآية لاثبات طهارة موضع العض ، وغير ذلك من الموانع التي ذكروها لعدم التمسك بالاطلاق ، لكنها كما لا يخفى امّا قابلة للدفع (أو غير مطّردة في جميع المقامات) فالعمدة من الموانع هي الثلاثة التي ذكرناها فقط ، وقد ذكرت في الكتب الاصولية في باب الاطلاق والتقييد.

(و) كيف كان : فان (عمدة الوهن لها) أي : للاطلاقات هو (ما ذكرناه) من قولنا قبل عدة صفحات : ومن المعلوم ان المطلق ليس يجوز دائما التمسك به باطلاقه ، بل له شروط ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضية المهملة ، إلى آخره.

(فحينئذ) أي : حين كان واردا في مقام الاهمال والاجمال كألفاظ العبادات في الكتاب والسنة ، فانه (إذا شك في جزئية شيء لعبادة) كجلسة الاستراحة للصلاة مثلا (لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية : من أصالة عدم التقييد) لانّ الألفاظ مجملة ، فلا يجري فيها أصالة عدم التقييد ، إذ أصالة عدم التقييد إنّما تجري في المطلق لا في المجمل.

(بل الحكم هنا) فيما ورد من ألفاظ العبادات في الآيات والروايات على مذهب الأعمّي : (هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح : في رجوعه إلى وجوب الاحتياط) والاتيان بالأكثر ، وذلك على ما قاله البهبهاني وجماعة لاحراز العنوان واليقين بالفراغ فيما إذا كان الشك في جزء أو شرط في باب العبادات.

٣٤٩

أو أصالة البراءة ، على الخلاف في المسألة.

فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الاجمال على القول بالصحيح ، وحكم المجمل هو مبني على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البراءة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية ، لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم ،

______________________________________________________

(أو) الرجوع إلى (أصالة البراءة) كما هو مختار مشهور القائلين بالصحيح ، وذلك (على الخلاف في المسألة) أي : مسألة الشك في وجوب الأقل أو الأكثر.

والحاصل : إنّ الأعمّي كالصحيحي في باب الشك في الجزء والشرط ، فبعض من الطائفتين قال بجريان اصالة الاشتغال ووجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، وبعض من الطائفتين قال بجريان أصالة البراءة وعدم وجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، فلا ثمرة إذن بين الصحيحي والأعمّي.

ثم بعد ان عرفت بطلان هذه الثمرة نقول : (فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو : لزوم الاجمال على القول بالصحيح) في باب ألفاظ العبادات (وحكم المجمل هو) كما عرفت : (مبنيّ على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البراءة).

هذا على القول بالصحيح ، وأمّا على القول بالأعم ، فكما قال : (وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم) أي : ان الأعمى يقول : ان ألفاظ العبادات ليست مجملة ، بل يمكن أن يقال : انها مبيّنة لان الشارع أراد ما يصدق عليه الصلاة ، فاذا صدقت الصلاة على الفاقدة للجزء أو الشرط

٣٥٠

فافهم.

______________________________________________________

المشكوك ، كفى في التمسك باطلاق : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) لدفع ما شك في جزئيته أو شرطيته.

وان شئت بيان الثمرة ، قلت : ان القول بالصحيح مستلزم قطعا لاجمال الخطاب ، وإذا كان الخطاب مجملا ، فحكمه الاحتياط أو البراءة على الخلاف بين القائلين بالصحيح كما عرفت ، واما على القول بالأعم فلا يستلزم كون الاطلاقات واردة في مقام الاجمال حتى يمنع من التمسك بالاطلاق ، فيجوز للأعمي التمسك بالاطلاق في نفي الجزء أو الشرط المشكوك فيكون الصحيحي قولان ، بينما للأعمّي قول واحد فقط وهو البراءة.

(فافهم) فان المصنّف قال على الصحيح فاجمال وحكمه الخلاف بين الاحتياط والبراءة ، وعلى الأعم فامكان البيان وحكمه البراءة ، ومن المعلوم : أن مجرد الامكان لا ينفع الواقع ، فما ذكره من الثمرة ليست بثمرة عملية بل مجرد فرق علمي.

وقال بعض المحشين : ان قوله : «فافهم» إشارة إلى ان هذه الثمرة ليست ثمرة مثمرة في الفقه ، ومجرد الثمرة العلمية لا يناسبه عنوان هذا المبحث الطويل في اصول الفقه مع عدم كونه مفيدا في مقام استنباط مسائله أصلا.

هذا ، ولا يخفى انهم قد ذكروا للثمرة بين الصحيح والأعم وجوها :

منها : ان الألفاظ على القول بوضعها للماهيات الصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، تكون مدلولاتها مجملة ، فلا بد عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته بعد اليأس عن الدليل من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي من البراءة أو الاشتغال.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٥١

المسألة الثالثة :

فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها.

ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ

______________________________________________________

وإنما يرجع فيها إلى الأصل العملي لانها حينئذ تجري مجرى الأدلة اللبية في عدم اطلاقها ، وكما ان المرجع في الأدلة اللبية : الاصول العملية ، فكذلك في المقام ، بينما على القول بوضعها للأعم تكون كألفاظ المعاملات مدلولاتها أمور بيّنة من حيث الصدق العرفي ، فيرجع إلى اطلاقها عند الشك في شرط أو جزء بعد احراز صدق الماهية.

ومنها : جواز اجراء الأصل في الجزء والشرط المشكوك فيهما على القول بالأعم وعدمه ، ووجوب الاحتياط فقط على القول بالصحيح.

ومنها : ما ذكره المحقق القمي من ان الثمرة تظهر في النذر ، فلو نذر أحد ان يعطي شيئا لمن يراه يصلي فرأى من يصلي ، جاز اعطاء النذر له وبرئت ذمته ، لصدق الصلاة عليها سواء كانت صحيحة أم فاسدة؟ بينما على القول بالصحيح لا يجوز اعطاؤه إلّا إذا علم بصحة صلاته ، وغير ذلك من الثمرات التي ذكروها بين الصحيح والأعم ، لكن غالبها لا يخلو عن مناقشة.

(المسألة الثالثة) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : (فيما إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها) بالنسبة إلى الصلاة (ومقتضى اطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ) بين النصين سندا ، ودلالة ، وجهة

٣٥٢

ثبوت التخيير هنا.

لكن ينبغي ان يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم جزئية هذا المشكوك ، كأن يكون هناك اطلاق معتبر للأمر بالصلاة بقول مطلق ، وإلّا فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ،

______________________________________________________

صدور هو : (ثبوت التخيير هنا) أيضا ، لان المقام من صغريات تلك الكبرى الكلية ، وقوله : «ثبوت التخيير» خبر لقوله : «ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب».

(لكن ينبغي ان يحمل هذا الحكم) أي : حكم التخيير (منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاق) معتبر (يقتضي أصالة عدم تقييده : عدم جزئية هذا المشكوك) في انه من العبادة أو ليس من العبادة (كأن يكون هناك اطلاق معتبر للأمر بالصلاة بقول مطلق) وإنما كان هناك خبران فقط أحدهما يدل على جزئية السورة ، والآخر يدل على عدم جزئيتها ولم يكن عندنا اطلاق معتبر.

(وإلّا) بأن كان هناك إطلاق معتبر (فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق) لأن المتكافئين يتساقطان فيرجع في الحكم إلى دليل ثالث وهو الاطلاق في المقام ، لانّ الشك في الأقل والأكثر قد يكون مع خلو المسألة من اطلاق معتبر ، وقد يكون مع وجود اطلاق معتبر ، فاذا قبلنا : إن قوله سبحانه : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) في مقام الاطلاق ، ثم ورد دليلان : أحدهما يقول : بان السورة جزء ، والآخر يقول : بان السورة ليست بجزء ، فانهما بعد تعارضهما يتساقطان ، ويكون المرجع دليل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ممّا تكون النتيجة : انه لا احتياج للسورة.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٥٣

لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصح لتقيده بمعارض مكافئ.

وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ، لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد مفروضة فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للاصول العمليّة.

______________________________________________________

لا يقال : بعد فرض دليل خاص مقيّد للصلاة بالسورة يلزم تقييد المطلق ، فكيف يكون المطلق مرجعا؟.

لأنه يقال : المفروض ان المقيّد مبتلى بالمعارض فيتساقطان ؛ ويبقى المطلق سالما عن التقييد ، فنأخذ به كما قال :

(لسلامته) أي : المطلق (عن المقيّد بعد ابتلاء ما يصح لتقيده) أي : لتقيد المطلق وهو الخبر القائل : بان السورة جزء من الصلاة (بمعارض مكافئ) وهو الخبر القائل بأنّ السورة ليست بجزء ، فانه بعد تعارض الدال على الجزئية الصالح في نفسه لتقييد (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مع الخبر الدال على عدم جزئية السورة وتساقطهما يبقى المطلق سليما عن التقييد.

(وهذا الفرض) وهو وجود اطلاق معتبر فيما نحن فيه (خارج عن موضوع المسألة) أي : مسألة الشك في الأقل والأكثر.

وإنما يكون خارجا عن المسألة (لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد) الواردة في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين (مفروضة فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي سليم عن المعارض متكفّلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للاصول العمليّة) فإنّ مبحثنا في الاصول العملية ، وإذا كان في المقام دليل اجتهادي يكون خارجا عن مبحثنا.

ومن الواضح : ان الاطلاق المعتبر هو من الأدلة الاجتهادية ، فلا مسرح معه

٣٥٤

فان قلت : فايّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا؟ كما لو لم يكن مطلق.

______________________________________________________

للاصول العملية كالتخيير بين المتعارضين.

وحيث قد تقدّم : من اطلاق حكم التخيير فيما لو كان هناك نصّان متعارضان يقول أحدهما : بأنّ السورة جزء ، وثانيهما : بأنّ السورة ليست بجزء ، أشكل عليه المصنّف : بأنّ الحكم بالتخيير صحيح ، لكن لا على إطلاقه ، بل بشرط عدم وجود مطلق في البين ، وإلّا فلا تخيير.

ثم أعقبه بقوله : ان قلت ، ليشير إلى ان هذا التقييد غير صحيح ، لأنه ان كان حكم المتكافئين التساقط : فالمكلف مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها ؛ إذ المطلق لازمه التخيير بين الخصوصيات ؛ فاذا قال الشارع : «أقيموا الصلاة» تخيّر المكلّف بين أن يأتي بالصلاة مع السورة أو بدونها.

وإن كان حكم المتكافئين التخيير لا التساقط ، فالمكلف أيضا مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها سواء وجد المطلق أم لا ، إذ لو أخذنا بالمطلق كان معناه : إنّا قدّمنا الخبر الموافق للمطلق ، وهو خلاف الفرض القائل بأنّ الخبرين الخاصين لا يقدّم أحدهما على الآخر.

والحاصل : ان تقييد المصنّف حكم التخيير بين الخبرين المتعارضين بعدم وجود مطلق في المسألة غير تام.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : (فان قلت : فايّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟) أي : عدم وجود المطلق (وما المانع من الحكم بالتخيير هنا؟) أي : مع وجود اطلاق معتبر (كما لو لم يكن مطلق) معتبر رأسا ، فوجود المطلق وعدمه سيّان كما قال :

٣٥٥

فانّ حكم المتكافئين إن كان هو التساقط ، حتى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما ، كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير هو التساقط والرجوع إلى الأصل المؤسّس فيما لا نصّ فيه واجماله من البراءة أو الاحتياط على الخلاف.

______________________________________________________

(فانّ حكم المتكافئين ان كان هو التساقط) كما قاله بعض في باب تعارض الخبرين المتكافئين ، فاللازم اسقاطهما معا والرجوع إلى غيرهما (حتى أنّ المقيّد) بصيغة اسم الفاعل (المبتلى بمثله) لفرض ان أحد الخبرين يقول بوجوب السورة فيقيّد اطلاق : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) وأحد الخبرين لا يقول بوجوب السورة فينفي تقييده ، فيكون المقيّد والنافي (بمنزلة العدم) لانهما يتساقطان حسب الفرض (فيبقى المطلق سالما) من التعارض فيرجع اليه.

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى أصالة الاطلاق يوجب كون الحكم أيضا : التخيير بين الاتيان بالسورة ، وعدم الاتيان بها.

وعليه : فان كان حكم المتكافئين التساقط (كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق) أيضا (التي حكم فيها بالتخيير) لانه إذا لم يكن مطلق ، فالخبران يتعارضان ويتخير المكلّف بينهما فيكون اللازم فيها أيضا (هو التساقط والرجوع إلى الأصل) العملي (المؤسّس) بصيغة اسم المفعول بمعنى : الأصل الذي أسس (فيما لا نصّ فيه و) كذا في (اجماله) أي : في اجمال النص ، فيرجع فيهما إلى الأصل العملي (من البراءة أو الاحتياط على الخلاف) الموجود بين العلماء في الأصل المؤسس.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٥٦

وان كان حكمهما التخيير ، كما هو المشهور نصّا وفتوى ، كان اللازم عند تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله الحكم بالتخيير هنا ، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.

قلت :

______________________________________________________

والحاصل : انه كما يرجع في مسألة ما لا نص فيه ومسألة اجمال النص إلى الأصل العملي ، كذلك يرجع إلى الأصل العملي في مسألة تعارض النصين.

هذا (وان كان حكمهما) أي : الخبران المتكافئان (: التخيير ، كما هو المشهور نصّا وفتوى ، كان اللازم عند تعارض المقيّد) وهو الخبر الدال على جزئية السورة (للمطلق الموجود) أعني : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) (بمثله) أي : بمثل الخبر المقيّد ، وهو الخبر النافي لجزئية السورة (الحكم بالتخيير هنا ، لا) التساقط و (تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو) أي : الرجوع إلى المطلق (بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد).

وإنّما كان اللازم الحكم بالتخيير هنا أيضا لوضوح : انه لو تمسكنا باطلاق الخطاب في : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) كان معناه : عدم لزوم الاتيان بالسورة ، فيكون قد قدّمنا الخبر النافي على الخبر المثبت ، وهو خلاف فرض انهما متكافئان لا يؤخذ لا بهذا ولا بذاك.

ولا يخفى : ان في عبارة المصنّف نوعا من الغموض حتى قال بعض المحشين بالتشويش في العبارة لكنّا فسرناها كما استظهرنا ، والله العالم.

ان قلت ذلك (قلت) : ان الاشكال على المصنّف : بأنّ تقييده لحكم التخيير

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٥٧

أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غير متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجح له ، فيؤخذ به ويطرح الآخر ، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محل الكلام.

______________________________________________________

غير تام ، ليس في محله ، بل هو تام لانّه : إمّا ان نقول : بان وجود المطلق يوجب عدم تكافؤ الخبرين وانه يجب ان يؤخذ بالخبر الموافق للمطلق ، فلا تخيير ، وامّا ان نقول : بأنّ الخبرين يتكافئان ، والمطلق مرجح ، فلا تخيير أيضا.

وإنّما نقول في صورة وجود المطلق المعتبر بأنّ المطلق مرجّح ، لانصراف أدلة التخيير في الخبرين المتكافئين إلى صورة عدم وجود دليل شرعي ، ومن المعلوم : ان المطلق دليل شرعي ، فيكون تقييد المصنّف حكمهم بالتخيير في الخبرين المتعارضين الدال أحدهما على جزئية السورة ـ مثلا ـ والآخر على عدم جزئيتها تقييدا بشرط عدم وجود مطلق في البين تام ، كما قال :

(امّا لو قلنا : بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق) المعتبر يجعل الأدلة الواردة ثلاثة : مطلق وخبران متعارضان ، فيكونان معه (غير متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجح له ، فيؤخذ به) أي : بالخبر الموافق للمطلق (ويطرح الآخر) وهو الخبر المخالف للمطلق.

وعليه : (فلا اشكال في الحكم) الذي ذكرناه : من التمسك بالمطلق وعدم التخيير بين المتكافئين.

(و) كذلك لا اشكال (في خروج مورده) أي : مورد هذا الفرض (عن محل الكلام) إذ البحث إنما هو في المتعارضين المتكافئين ، وإذا كان المطلق يسند أحدهما ؛ فالمتعارضان ليسا متكافئين لما عرفت : من ان الخبر الموافق للمطلق راجح على الخبر الذي يخالف المطلق.

٣٥٨

وإن قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجع لا مرجّح ، نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديا ، لا من باب الظهور النوعيّ ؛

______________________________________________________

هذا (وان قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجع) بعد تساقطهما (لا مرجّح) لأحدهما على الآخر ، وذلك (نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد) إنّما يكون أصلا (تعبّديّا) من العقلاء (لا من باب) الظن و (الظهور النوعي) لاختلافهم في ان حجيّة أصالة الاطلاق هل هي من باب حصول الظن النوعي بارادة ظاهر اللفظ ، لانّ نوع السامعين يحصل لهم من ظاهر لفظ المطلق : الظن بأنّ المتكلم أراد الاطلاق ، أو من باب التعبد العقلائي وان لم يحصل هناك ظن نوعي وإنما بنى العقلاء على ذلك لتمشية أمورهم في المكالمات والمفاهمات؟.

فعلى الأوّل وهو : كون حجيّة الاطلاق من باب الظن النوعي ، يكون الخطاب الذي يظن من ظاهره ارادة الاطلاق ، مؤيدا للخبر النافي للجزئية ، لانّ الخبر النافي للجزئية يقول : انه ليس بجزء ، والاطلاق يقول : انه يجوز الاتيان به بدون ذلك الجزء ، فيكون الخبر النافي للجزئية لأجل موافقة الاطلاق راجحا على الخبر الدال على الجزئية لانّ خبر الجزئية حينئذ ينافي الاطلاق ، فلا تكافؤ إذن بين الخبرين الخاصين حتى يحكم بالتخيير.

وعلى الثاني وهو : كون حجية الاطلاق تعبّد عقلائي ، لا يكون المطلق مؤيدا للخبر ، النافي للجزئية ، إذ الأصل التعبدي لا يكون مرجحا لأحد الخبرين على الآخر ، كما سيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض ان شاء الله تعالى ، بل يكون الاطلاق حينئذ حاكما على أخبار التخيير ، لانّ أخبار التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي ، وحيث ان في المقام دليلا اجتهاديا وهو المطلق ، فلا يكون محلا لاخبار التخيير ، بل يكون المطلق

٣٥٩

فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ، وأنّها مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها.

والمفروض وجود قول الشارع هنا ، ولو بضميمة أصالة الاطلاق

______________________________________________________

هو المرجع بعد تساقط الخبرين الخاصين الدال أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدم جزئيتها.

إذن : (فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين) وهما : المتكافئان مع وجود مطلق بينهما ، هو : (دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار) أي : أخبار التخيير (بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة) التي تعارض فيها خبران متكافئان (وانّها) أي : اخبار التخيير (مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاصول العقليّة والنقليّة) العملية (المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها) أي : في تلك الواقعة ولو كالمطلق ـ مثلا ـ.

وعليه : فإنّ أخبار التخيير خاصة بصورة عدم وجود قول من الشارع في المسألة (والمفروض وجود قول الشارع هنا) لان المفروض وجود المطلق مثل قوله سبحانه : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) فلا مسرح معه للتخيير بين الخبرين الخاصين ، بل يسقط الخبران ويكون المطلق هو المرجع (ولو بضميمة أصالة الاطلاق

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٦٠