أخبار الزّمان

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

أخبار الزّمان

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٩

وضعف أصحاب دليفة عنهم لكثرتهم وشدة صبرهم ، فاستنصرت بأهل مدائن الصعيد فحاربوا أصحاب أيمن ، فأزالوهم عن منف ، وقد كانوا ظفروا بها وعاثوا فيها فهزموهم حتى ركبوا المراكب ، وعدوا إلى ناحية الشمال ، وكان معهم ساحر من أهل قفط ، فأظهر سحره نارا أحالت بينهم وبين أصحاب دليفة فانحازوا عنهم واستعدوا ، وعادوا لما كانوا فيه من الجد والطلب.

وفزع أهل مصر لطول المدة وعجز الجيوش عن مقاتلتهم ، وأشفقوا من خروج مصر من أيديهم ، فوجهوا سفراء بينهم على أيجعلوا البلد قسما بينهم فأجاب كل واحد منهم إلى الصلح وأن دليفة بعد إجابتها إلى الصلح غدرت وخالفت ، وأخرجت الاموال والجواهر ففرقتها في الناس ، وقد كان بعضهم لامها في الصلح ، فرجعت إلى الحرب ، واشتد الامر بين الفريقين ثلاثة أشهر ، ثم ظهر أيمن عليها وهزمها.

ولجأت إلى ناحية قوص وسار خلفها وتمكن من المملكة ، فلما رأت حقيقة الامر ونكول جندها وعجز كهنتها وسحرتها وأنها لابد لها أن تغلب سمت نفسها فهلكت.

وملك بعدها أيمن الملك صاحب الاندلس ملك مصر ، فتجبر وعتا وقتل خلقا ممن كان مع دليفة.

وكان الوليد بن دومع العملاقي قد خرج في جيش عظيم يتنقل (١) في البلدان ، ويغلب ملوكها ليسكن ما يوافق غرضه منها ، ويعتدل [حال] (٢) جسمه فيها على ما تقدم من ذكر علته.

فلما انتهى إلى الشام ، انتهى إليه خبر مصر وجلالة قدرها ، وأن أمرها قد صار إلى النساء وباد ملوكها ، فوجه إليها غلاما له يسمى عونا بجيش عظيم ، فوصل إلى مصر وأيمن ودليفة يقتتلان ، ففتحها وحوى أموالها وكنوزها ،

__________________

(١) في ب : نبتهل والتصحيح عن ق.

(٢) في ب : صلاح.

أخبار الزمان م (١٦)

٢٤١

وغاب خبره عن الوليد ، فلم يشك في هلاكه وهلاك الجيش الذي كان معه ، لما كان يعلمه من طلاسم مصر ومكر كهنتها.

ثم اتصل به ان عبده قد ملكها ، فسار إلى مصر وتلقاه العبد وعرفه أنه كان يسير إليه ، وإنما أخره ما أراد من تعديل الملك وإصلاحه فقبل قوله.

ودخل مصر الوليد بن دومع العمالقي وملكها فاستباح أهلها وأخذ أموالها ، وتتبع ما أمكنه الوصول إليه من كنوزها ، وهبط إليه أيمن بالطاعة من الصعيد ومدنها سامعا له إذ كان عسكره من قبله ، ومن أعانه بملكه وجيشه حتى أخذ بثأر خاله انداحس وتم الامر للوليد على أعظم أمر.

ثم سنح له ان يمشي حتى يقف على مخرج النيل ، ويغزو من بناحيته من الامم فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك ، حتى اصلح جميع ما احتاج إليه.

واستخلف عبده عونا على البلد وخرج في جيش كثيف ، وعدد عظيمة ، فلم يمر بأمة إلا أبادها.

فيقال انه اقام في سفره سنين كثيرة وأنه مر على امم السودان وجاوزهم ومر على ارض الذهب ، فوجد فيها مواضع فيها قضبان ثابتة وهي بلاد عانة.

ولم يزل الوليد يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل إليها من الانهار التي تخرج من جبل القمر ، وجبل القمر جبل شامخ عريض طويل ، وإنما سمي جبل القمر لان القمر لا يطلع عليه لانه خرج كثيرا عن خط الاستواء ، ونظر إليه كيف يخرج النيل من تحته فيمر في طرائق كثيرة كالانهار الرقاق ، فيصير بعضها إلى حظيرة عظيمة يجتمع فيها ، ويصير بعضها إلى حظيرة عظيمة ، ثم يخرج من كل حظيرة نهر عظيم ينصب إلى حظيرة عظيمة يجتمع النهران فيها وهي البطيحة الكبيرة ، وهي بعد خط الاستواء ، وقبل الاقليم الاول ، ويخرج من تلك البطيحة نهر واحد ، ويجوز خط الاستواء ويجري إلى مصر ويمده نهر آخر من ناحية مكران يصب فيه عند اول جبل معظم في ثلث الاقليم الاول.

٢٤٢

ويذكر أن هذين النهرين يزيدان وينقصان ، فيهما التماسيح وسمك كأمثال سمك النيل ، ويخرج منه نهر عظيم على مقربة من آخر شرقي جبل القمر.

وحكي عن الوليد أنه وجد القصر الذي فيه قماقم النحاس الذي عملها هرمس الاول في وقت البودشير الاول بن قفطويم بن مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام ، وهي خمس وثمانون صورة جعلها جامعة لمن يخرج من الماء من الجبل ، وبمعاقد وبمصاب مدبرة ، يجري منها إلى تلك الصور ، ويخرج من حلوقها على قياس معلوم وأذرع معدودة معلومة.

ثم ينصب في أفواه الصور في انهار كثيرة ويتصل بالبطيحتين ، ويخرج منها كما قلنا إلى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من جبل القمر ، وقد هندس في تلك ورتب مقدارا من الماء في كل صورة [ما] معه صلاح البلدان التي يمر بها ، وينفع أهلها دون الفساد ، وسطح قبل انتهاء المسطح ثمانية عشر ذراعا بالذراع التي ذرعها مقدار اثنين وثلاثين أصبعا ، فما فضل عن ذلك عدل به عن يمين تلك الصور ويسارها إلى مسارب تخرج عن يمين القصر ويساره ، تنصب إلى غياض ورمال لا عمارة فيها.

وقد ذكر قوم من أهل الاثر أن الانهار الاربعة تخرج من أصل واحد من قبة في ارض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحان وجيحان والنيل والفرات.

وذكر بعضهم أنها من الجنة وأن تلك القبلة من زبرجد ، وأن جميع هذه الانهار قبل أن يسلك إلى البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك.

وممن جاء بهذا وذكره أبو صالح كاتب الليث وغيره من المحدثين ذكروا أن رجلا من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يقال له حايد وصل إلى القبة ، وله خبر يطول ذكره.

(١) [هذا الخبر الذي قال المسعودي إنه يطول ذكره أثبته هنا ، وإن لم يكن

__________________

(١) هذا الكلام وجد بالاصول وهو فيما يظهر زيادة وتعليق من الناسخ أو الراوي ، وقد وضعناه لذلك بين قوسين.

٢٤٣

هو ذكره لانه بموضعه وهو من كتاب العظمة رواه ببغداد الفقيه أبو الحسن عباد بن سرحان وهو يحدث به إلى الآن عن شيوخه ببغداد بأسانيد ذكرها عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يمج لوجدتم من ورقها.

حدثني أبو الطيب أحمد بن روح ، قال حدثني علي بن داود ، قال حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني الليث بن سعد قال زعموا والله أعلم أنه كان رجل من بني العيص ، يقال له حايد بن أبي سالوم من العيص بن إسحق بن إبراهيم عليهما السلام أنه خرج هاربا من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر فأقام بها سنين.

فلما رأى عجائب نيلها وما يأتي به جعل لله تعالى أن لا يفارق ساحله حتى يبلغ منتهاه من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك ، فسار عليه ـ قال بعضهم ثلاثين سنة في عبر الماء ، وقال بعضهم خمس عشرة سنة كذا وخمس عشرة سنة كذا ـ حتى انتهى إلى بحر فنظر إلى النيل مقبلا فصعد على ساحل البحر ، وإذا هو برجل قائم يصلي تحت شجرة تفاح ، فلما رآه استأنس به وسلم عليه ، فسأله الرجل صاحب الشجرة وقال له من أنت؟ فقال أنا حايد بن أبي سالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، ومن أنت أصلحك الله؟ قال له أنا عمران ، فما الذي جاء بك هاهنا يا حايد حتى انتهيت إلى هذا الموضع ، فان الله تعالى أوحى إلي أن أقف في هذا الموضع حتى يأتي أمره؟ فقال له حايد أخبرني يا عمران ما انتهى اليك من خبر هذا النيل ، وهل بلغك أن أحدا من بني آدم يبلغه؟ فقال عمران قد بلغني أن رجلا من ولد العيص يبلغه ، ولا أظنه غيرك يا حايد ، فقال حايد يا عمران كيف الطريق إليه؟ فقال له عمران لست أخبرك إلا أن تجعل لي ما سألتك قال وما ذلك يا عمران؟ قال إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي ، حتى يوحى إلي بأمرك أو يتوفاني الله تعالى فتدفنني ، قال له لك ذلك علي ، قال سر كما أنت على هذا البحر ، فإنك تصل إلى موضع فيه دابة ترى أولها ولا ترى آخرها فلا يهولنك أمرها ، فاركبها فإنها دابة معادية للشمس ، إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها ، حتى

٢٤٤

يحول بيتها حجبتها ، فإذا غربت أهوت إليها لتلتقمها ، فإذا ركبتها فسر راجعا عليها حتى تنتهي إلى النيل فانزل عنها ، فإنك ستنزل وتبلغ أرضا من حديد جبالها وأشجارها وسهلها من نحاس ، فان جزتها وقعت في أرض من فضة ، جبالها وأشجارها وسهلها من فضة ، فان جزتها وقعت في أرض من ذهب ، جبالها وسهلها من ذهب ، فيها ينتهي إليك علم النيل.

فسار حتى انتهى إلى أرض الحديد ، ثم منها إلى أرض النحاس ، ثم منها إلى أرض الفضة ، ثم منها إلى أرض الذهب ، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب وشرفه من ذهب ، فيه قبة من ذهب لها أربعة أبواب ، ونظر إلى الماء ينحدر من ذلك السور ، حتى يستقر في القبة ، ثم يفرق فيخرج على الانهار الاربعة.

وأما ما يخرج من الثلاثة فيفيض في الارض ، وواحد يشق على وجه الارض وهو النيل ، فشرب منه واستراح وأهوى إلى السور ليصعد ، فأتاه ملك ، فقال له يا حايد مكانك فقد انتهى اليك علم هذا النيل ، وهذه الجنة والماء ينزل من الجنة.

فقال إني أريد أن أنظر إلى ما في الجنة ، قال إنك لن تسطيع دخولها اليوم يا حايد ، فقال أي شئ هذا الذي أراه؟ قال هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وهو شبه الرحى ، قال إني أريد أن أركبه وأدور فيه ، فقال بعضهم إنه ركبه في دار الدنيا ، وقال بعضهم إنه لم يركبه ، فقال له الملك يا حايد إنه سيأتيك رزقك من الجنة فلا تؤثر عليه شيئا من الدنيا ، فانه لا ينبغي لشئ من الجنة أن يؤثر عليه شئ فانه يبقى ما بقيت.

قال فبينما هو كذلك إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة ألوان لون كالزبرجد الاخضر ، ولون كاللؤلؤ الابيض ، ولون كالياقوت الاحمر ، ثم قال يا حايد قد انتهى إليك علم هذا النيل.

فقال ما هذه الثلاثة التي تفيض في الارض؟ قال أحدها الفرات ، والثاني سيحان والثالث جيحان.

٢٤٥

فرجع حايد حتى انتهى إلى الدابة فركبها ، فلما أهوت الشمس للغروب قذفت به في الموضع الذي ركبها فيه ، فأقبل حتى انتهى إلى عمران فوجده قد مات.

فأقام على قبره ثلاثا ، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود ، فبكى على عمران ثم أقبل إلى حايد فسلم عليه ، ثم قال له يا حايد ما الذي انتهى إليك من علم النيل؟ فأخبره ، فقال له الرجل هكذا نجده في الكتب.

وكان التفاح قد ظهر في تلك الشجرة من أحسن شئ ، فأغراه الشيخ وقال لحايد ألا تأكل منه شيئا؟ قال معي رزقي قد أعطيته من الجنة ونهيت أن لا أؤثر عليه شيئا من الدنيا ، قال صدقت يا حايد لا ينبغي لشئ من الجنة أن يؤثر عليه شئ من الدنيا ، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح؟ وإنما هذه الشجرة أخرجها الله من الجنة لعمران ليعيش منها فأنبتها له في هذه الارض ، وليست من الدنيا وما تركها إلا لك ، ولو وليت لرفعت ، فلم يزل به حتى أخذ منها تفاحة فبعضه عليها عض الملك على يديه ، وقال له أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنة ، أما انه لو سلمت بهذا العنقود الذي معك لاكل منه أهل الدنيا فلم ينفد فهو الآن مجهودك ان يبلغك ، فكان مجهوده أن بلغه.

فأقبل حايد حتى بلغ مصر فأخبرهم بهذا الخبر ، ومات رحمه الله ، وتم الخبر الذي أثبته وليس من الام ، ورجع الكلام إلى حيث انقطع] (١).

وقال آخرون تنقسم هذه الانهار إلى اثنين وسبعين قسما ، حذاء اثنين وسبعين لسانا للامم المذكورة.

وقال آخرون إنما هذه الانهار من ثلوج تنزل في أيامها ، وتتكاثق هناك فتحملها حرارة الشمس مرة بلطف ومرة بقوة ، فتسيل إلى هذه الانهار ، فتسقي لما أراد الله جل وتعالى من تدبير خلقه.

ونرجع إلى ذكر الوليد لما بلغ جبل القمر رأى جبلا عظيما ، فأعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرى ما خلفه فأشرف منه على البحر الاسود الزفتي النتن ، ونظر إلى النيل يجري عليه كالانهار الرقاق ، فأتته من ذلك البحر

__________________

(١) إلى هنا ينتهي الكلام الذي زاده الناسخ في النسخة الاصلية.

٢٤٦

روائح منتنة ، هلك بها كثير من أصحابه فأسرع بالنزول بعد ان كاد يهلك.

وذكر قوم أنه لم ير هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر كنور الشمس عند غروبها وقالوا إنه أقام في غيبته مدة عشرين سنة.

وان عونا علامة تجبر بمصر بعد سبع سنين من مسيره ، وادعى انه الملك ، وادعى انه لم يكن عبد الوليد ، وانه أخوه وله الملك من بعده وريب على الناس ، واستعان بالسحرة عليهم وأسنى جوائز السحرة والكهنة ، ولم يمنعهم محابهم ، فمال إليه الناس ووثقوا بأمره ولم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها ، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه.

وكان مع ذلك يكرم الهياكل والكهنة ، فكان الناس يمسكون عنه اشفاقا منهم من السحرة الذين أطافوا به إلى ان رأي في منامه الوليد ، وكان يقول له من أمرك أن تتسمى باسم الملك؟

وقد علمت أنه من فعل استحق القتل ، ونكحت إلى ذلك بنات الملوك ، وأخذت الاموال بغير واجب ، وكأنه أمر بقدور فملئت زفتا ثم غليت على النار وأحميت ، وكأنه يغمسه فيها فلما غليت أمر بنزع ثيابه ، فأتى طائر في صورة عقاب فاختطفه من أيديهم وعلق به في الجو ، فجعله في هوة على رأس جبل ، وكأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حمأة منتنة.

فانتبه مذعورا طائر القلب ، وكان في طول فعله ذلك في تملكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة يكاد عقله أن يزول فرقا منه ، لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوته.

وكاد مرة يوقن بهلاكه لطول غيبته وانقطاع خبره ، وكان مرة يخاف أنه حي.

فلما رأى الرؤيا لم يشك في حياة الوليد ، فأضمر في نفسه الهرب من مصر في الاموال ، فأطلع بعض السحرة ممن كان يثق به على أموره.

٢٤٧

وقال له إني خائف من الوليد ، وقد عزمت على الهرب من مصر ، فما عندكم؟

قالوا له نحن نحميك على أن تقبل منا ، قال قولوا ، قالوا له نعمل عقابا وتعبده ، فان الذي خلصك منه في نومك هو بعض الروحانيين ، وهو يريد منك أن تعمل صورته فتعبده.

قال عون أشهد لقد قال لي وأنا أسمع : اعرف لي هذا المقام ولا تنسه. قالوا لقد بينا نحن لك ذلك.

فسمع منهم وعمل عقابا من ذهب ، وعجل عينيه من جوهرتين موشحتين بأصناف العمل الغريب.

وعمل له هيكلا لطيفا وجعله في صدره ، وأرخى عليه ستور الحرير ، فأقبل عليه السحرة على خدمته بالبخور والقربان ، إلى أن نطق لهم ، فأقام عون على عادته ودعى الناس إلى ذلك فأجابوه ، فلما مضت لذلك مدة أمر العقاب ببناء مدينة يحوله إليها فتكون حرزا له ومعقلا من كل أحد ، فأمر عون كل فاعل بمصر أن يجتمعوا له ، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا إليه أرضا حسنة الاستواء ، ويكون المدخل فيها بين فجوج صعبة وجبال وعرة ، ويتوخى ان تكون تلك الارض قريبة من مغاض المياه ، فكان مغيض الماء هو اليوم الفيوم وكان مغيضا لمياه النيل ، حتى أصلحه يوسف عليه السلام ، وإنما أراد عون قرب مكان المدينة من مغيض المياه ليجري إليها الماء منها ، فخرج أصحابه يطوفون في الارض ، فأقاموا في ذلك شهرا حتى وجدوا له بغيته ، فلم يبق بمصر فاعل ولا مهندس ممن كان يفتت الصخور ويقطعها ويعمل شيئا مما يصلح للبنيان إلا وجهه ، وأنفذ معهم ألف فارس في طاعتهم ، وأنفذ معهم جميع الآلات ، وأقام في توجيه الزاد إليهم شهرا على العجل ، وطرق العجل اليوم ظاهرة واضحة في صحراء الغرب من خلف الاهرام ، وهي التي يقصدها أصحاب المطالب وهي بنية مشهورة.

٢٤٨

فلما تكامل لهم ما يريدونه من قطع الحجارة ونحتها أعدوا من العدد ، وخطوا موضع المدينة وجعلوه فرسخين في مثلهما ، وحفروا في وسطها بئرا ، وجعلوا في تلك البئر تمثالا من نحاس صورة خنزير ونحاسة بأخلاط ، وجعلوا وجهه إلى الشرق.

وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له وهو في شرفه.

وأخذوا خنزيرا فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره ، وأخذوا شيئا من شعره وعظامه ولحمه ودمه ومرارته ، فجعلوا ذلك في جوف خنزير من النحاس ونقشوا عليه آيات زحل.

ثم شقوا في البئر أخدودا من أربعة أوجه المدينة ، وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع فيها بباب من أبواب المدينة ، ووصلوا ما بينها بالمنازل الحسنة والطرقات ، وجعلوا حول القبة تماثيل من نحاس بأيديهم حراب ، ووجوهها مقابلة لتلك الابواب.

وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود ، وفوقة حجر أحمر ، وفوقه حجر أخضر ، وفوقه حجر أصفر ، وفوق الكل ابيض شفاف ، مثقبة كلها بالرصاص المصبوب بينها ، وفي قلوبها أعمدة الحديد على صفة بناء الاهرام.

وجعل طول حصنها ستين ذراعا ونصف ذراع ، وعلى كل باب من أبوابها على أعلى الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط ، أجوف ناشر الجناحين ، وعلى كل من أركان المدينة صورة فارس بيده حربة ووجهه إلى خارج المدينة ، وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقي ينحدر في صبيب إلى الباب البحري ، ويخرج إلى بطائح هناك ، وكذلك من الباب الجنوبي إلى الشمالي.

وقرب لتلك العقبان عقبانا ذكرا ولطخها بدمها ، واجتلب الرياح إلى أبواب التماثيل فكانت الرياح إذا دخلتها يسمع لها أصواب شديدة ، لا يسمعها أحد إلا هالته ، وضمدها بعقارب مطلسمة تمنع الناس من دخولها إلا أن يكون مع الغريب الداخل إليها أحد من أهلها ، ونصب العقاب الذي يتعبد

٢٤٩

له تحت القبة التي في وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان في كل ركن منها شيطان مشوه ، وجعلها على عمود زبرجد ، فكان العقاب يدور على كل جهة من الجهات الاربع ، ويقيم كذلك ربع السنة يقرب إليه من جهته.

فلما فرع من ذلك كله حمل إليها جميع الاموال والجواهر المخزونة بمصر ، وما وجد في خزائن الملوك من التماثيل والحكم ، وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك.

وحول إليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والمهن ، وقسم المساكن التي بناها بينهم ، لا يختلط بعضهم ببعض ، وبنى حول سورها ربضا يحيط بها ، وبنى فيه مساكن لاصحاب مهن الحرث والزرع وغير ذلك ، وما يتعلق بالعمارة.

وعقد على ما أجراه من الانهار قناطر يجوز عليها الخارج من المدينة والداخل إليها ، وجعل الماء يدور حول الربض ، ونصب عليه أعلاما ثم غرس ما وراء ذلك كله بأجناس الاشجار وغرائبها ، فأقام بها من الجنات كل غريبة حسنة كثيرة الفوائد ، ثم جعل ما وراء ذلك مزارع لكل نوع من الحبوب ، فاستغل بذلك كله أعظم الغلات.

وكان يرتفع إليه منها في السنة ما يكفيه عشر سنين ، وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام ، فكان يخرج إليها فيقيم بها عشرة أيام ، ثم يعود إلى منف.

وكان لتلك المدينة أربعة أعياد في السنة في كل وقت يتحول فيه العقاب إلى الجهات الاربع ، فلما تم لعون ذلك اطمأن قلبه وسكنت نفسه.

إلى أن وافاه كتاب الوليد من ناحية النوبة ، يأمره ان ينفذ إليه الازودة ، وينصب له الاسواق ، فوجه عون ذلك كله من أحسن شئ وأتمه في المراكب وعلى الظهر.

وحول جميع عياله ومن اصطفاه من بنات الملوك من مصر وكبرائها إلى

٢٥٠

المدينة المبنية ، فلما قرب دخول الوليد مصر تحول هو إلى مدينته فتحصن بها وخلف للوليد خليفة يكون بين يديه.

فدخل الوليد مصر فتلقاه الناس ، فشكوا إليه عونا ، وما حل بهم منه ، فقال : وأين عون؟ قالوا : فر عنك وتحصن دونك.

فاغتاظ وأمر ان ينفذ إليه جيش كثيف ، فعرفوه كيف بنى مدينته وأسكن فيها معه من السحرة ، وأن امره صعب فما يكون إلا بعد نظر شاف واستعداد كاف ، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه ، ويحذره التخلف عنه ، ويقسم عليه إن لم يفعل وظفر به يبضع لحمه بعد المبالغة في عذابه.

فرد عليه عون جوابا يقول فيه : ما على الملك مني في هذا الموضع؟ ولا أتعرض لبلده ، ولا أعبث في شئ منه لاني عبده ، وأنا في هذه الجهة حام له من كل عدو يقصده من ناحية من نواحي الغرب ، ولا أقدر على المسير إليه لخوفي منه على نفسي ، فليقرني الملك على حالي كأحد عماله ، وأوجه إليه في كل وقت ما يلزمني من خراجه ومن هداياه ، ووجه مع الجواب أموالا جزيلة جليلة وجوهرا نفيسا ، فلما رأى الملك ذلك قنع به ، وكف عنه.

فأقام الوليد بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم مائة سنة وعشرين سنة ، فأبغضوه وشتموه.

وأنه ركب في بعض الايام متصيدا ، فألقاه فرسه في هوة من الارض فقتله ، وأراح الله الناس منه.

وكان ابنه الريان ينكر فعله ولا يرضاه منه ، فلما هلك عمل له ناووسا قرب الاهرام ، وقيل انه دفن في أحد الاهرام.

ثم ملك بعده ابنه الريان الملك ، وهو فرعون يوسف عليه السلام ، والقبط تسميه نهراوس ، فجلس على سرير الملك ، وكان عظيم الخلق جميل الوجه ، عاقلا متمكنا من العلم ، فدخل عليه الناس وهنأوه ودعوا له ، فتكلم بجميل ، ومنى الناس ووعدهم بالاحسان ، وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين ، فدعوا له وأثنوا عليه وشكروه.

٢٥١

فأمر بفتح الخزائن وفرق ما فيها على الخاص والعام ممن حضر مجلسه ، فخرجوا عنه شاكرين له محبين فيه ، فملك وأحسن.

وتمكنت منه أريحية الصبا ، فملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له المعين (١) وهو الذي يسميه اهل الاثر العزيز ، وكان من أولاد الوزراء عاقلا متمكنا من عقله حصيف الرأي ، كثير نزاهة النفس ، مستعملا للعدل والصلاح ، وأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه.

وكان يغدو ويروح إلى باب الملك ، ويخرج العمال وجميع الوزراء والكتاب بين يديه عند مسيره وعند رجوعه.

فقام بالملك ، وكفى الملك مهمه ، وأصلح جميع الامور ، ووطأ البلاد ، وأمن الناس ، وأقام سوق العدل.

والملك نهراوس منغمس في لذاته ، معتكف على لهوه ، لا ينظر في عمل ولا يفكر في أمر ولا يخاطبه أحد ، فأقاموا لذلك حينا من الدهر ، والبلد عامر ، والخراج مدر.

يقال انه بلغ في وقته تسعة وتسعون ألف ألف مثقال (٢) فجعلها أقساما فما كان له ولنسائه ولمائدته حمل إليه ، وما كان في أرزاق الجيوش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصانع البلد وإصلاح العقار والحرث والغرس وأصحاب المهن حمل إليهم ، وما فضل عن ذلك كله حمل إلى خزائن الملك في قصره.

ونهر اوس مع ذلك غير ناظر في شئ من ذلك ولا سائل عنه ، وقد عملت له عدة متنزهات على عدة أيام السنة ، فكان في كل يوم في موضع منها ، فإذا كان من الغد انتقل إلى موضع آخر في كل يوم في موضع من الفرش والآنية ما ليس في غيره.

فلما اتصل ذلك بملوك النواحي طمعوا فيه واستضعفوه ، فقصده رجل من

__________________

(١) في ق : يقال له قطفير.

(٢) في ق : سبعة وستين ألف ألف مثقال من الذهب.

٢٥٢

العمالقة يقال له عابد بن سجوم ، ويكنى بأبي قابوس ، فسار قاصدا إلى مصر حتى نزل على حد من حدودها.

فأنفذ إليه العزيز جيشا وجعل عليه قائدا يقال له دوناس ، فقتله ذلك الملك وهزم عسكره ، ودخل حدود مصر فهدم أعلاما ومصانع كثيرة ، واشتد طمعه في مصر وجهاتها.

واتصل خبره بأهل مصر فأعظموا ذلك وأكبروه واجتمعوا إلى العزيز ، فأمرهم أن يسيروا إلى قصر الملك ، فأتوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون ، فسمعهم نهراوس ، فسأل عن حالهم ، فأخبر خبر العمالقي وأنه قد دخل حدود مصر وعاث فيها ، وأفسد مزارعها وغير مصانعها ، وهدم أعلامها وأنه مقبل بجيوشه يريد قصر الملك ، فارتاع لذلك وأنف منه ، وانتبه من غفلته.

وتذكر القبط أنه سمع نياح الجن على أبيه ، فارتاع لذلك فعرض جيشه وأصلح أمره ، وخرج إلى العمالقي واتبعه إلى حدود الشام.

وقتل أكثر أصحابه ، وأفسد الزرع وقطع الاشجار ، وأحرق الديار ، وصلب من أسره من الجيوش ، ونصب أعلاما على الموضع الذي بلغه أي لمن جاوز هذا المكان.

وقيل إنه بلغ الموصل ، وضرب على أهل الشام خراجا ، وبنى عند العريش مدينة عظيمة وشحنها بالرجال وملا تلك النواحي بالجنود ، وانصرف إلى مصر ، فلما فعل ذلك هابته الملوك ، وفزعوا منه وأعظموه وهادوه وصالحوه.

ولما استقر بمصر حشد جنوده من جميع الاعمال ، واستعد لغزو ملوك الغرب ، فخرج في تسعمائة ألف [مقاتل] واتصل بالملوك خبره ، فمنهم من تنحى عن طريقه ، ومنهم من دخل في طاعته ، ومنهم من بذل الاموال والذخائر وصالح بلده ، ومنهم من قهره واستباحه.

٢٥٣

ومر بأرض البربر فأخذ كثيرا منها ، ووجه قائدا يقال له مريطس ، فركب في سفن كثيرة ، وأخذ سواحل البحر فقتل بعض البربر ، ودخل أرضهم وصالحه بعضهم ، وحملوا إليه الاموال.

ومضى الملك إلى إفريقية وقرطاجنة ، فصالحوه على ألطاف وأموال كثيرة حملوها إليه.

ومر حتى بلغ مصب البحر الاخضر إلى بحر الروم ، وعمل هناك صنما من نحاس وهو الموضع الذي فيه الاصنام القديمة ، وأقام تحته علما عظيما زبر عليه اسمه وتاريخ الوقت ، وصفة الامر الذي خرج إليه ، وضرب على أهل تلك النواحي خراجا.

وعبر إلى الارض الكبيرة وسار إلى الافرنجة وسار إلى الاندلس ، وصاحبها عند ذلك اللاذريق ، فحاربه أياما ، وقتل من أصحابه خلقا كثيرا.

وصالحوه بعد ذلك على ذهب كثير في كل سنة يحمل إليه ، وعلى أن لا يغزو أحدا في البحر ولا في البر شيئا من حدوده ، من جميع من في تلك النواحي ، وعلى أن يمنع من رام شيئا منهم من ذلك ويغالبهم عنه.

وانصرف راجعا عنه ، فسار على عبر البحر مشرقا على بلاد البربر. فلم يمر بموضع إلا خرج إليه أهله وأهدوه ودخلوا في طاعته ، ومشوا بين يديه.

وأخذ إلى ناحية الجنوب ، فمر بناحية الكوفاس (١) وهي أمة عظيمة فحاربوه فقتل منهم خلقا كثيرا.

وبعث قائدا له إلى مدينة على ساحل البحر المظلم ، فخرج إليه ملك المدينة وأهلها يسألونه ما هو وما قصده؟ فعرفهم القائد بحال الملك الريان وإذعان الملوك له ومصالحتهم إياه. فقالوا له أما نحن فما بلغنا أحد قط ولا رأيناه ولا ضرنا أحد ولا ضاررناه. وأخرجوا إليه مالا وجوهرا. وصالحوه على

__________________

(١) في ق : الكوشانيين على معبر البحر الاسود.

٢٥٤

مدينتهم. فقبل ذلك منهم. وسألهم هل ركب هذا البحر أحد قط؟ فقالوا جميعهم إنه ما يستطيع أحد أن يركبه ، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياما.

ثم أتاهم الملك الريان فتلقوه بهدايا وفاكهة أكثرها التوت وحجارة سود. فإذا جعلت في الماء صارت بيضاء.

وسار على أمم السودان حتى بلغ إلى مملكة الزموم (١) الذين يأكلون الناس ، فخرجوا إليه عراة بأيديهم حراب الحديد ، وخرج ملكهم على دابة عظيمة الخلق لها قرون ، وكان جسيما أحمر العينين فصبر للحرب صبرا عظيما ثم ظفر به الريان ، فانهزموا في أوحال وأدغال وغيران وجبال وعرة ، فلم يتهيأ له أتباعهم فيها.

فجاوزهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة خفاف يلتفون بها من غير ريش ، ومر على البحر المظلم ، فلما أمعن في السير فيه غشيهم منه غمام فرجع متيامنا ، حتى انتهى إلى جبل نبارس ، فرأى فوقه تمثالا من حجر أحمر يومئ بيده ، أن ارجعوا وعلى صدره مزبورا «ما وراثي أحد».

وانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها ، ثم مضى في الوادي المظلم ، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ، ولا يرون شيئا منه لشدة ظلمته.

ثم سار حتى انتهى إلى وادي الرمل فرأى على عين أصناما عليها اسماء الملوك قبله ، فأقام صنما وزبر عليه اسمه ، فلما عدا وادي الرمل جاز إلى الخراب المتصل بالبحر الاسود المظلم ، فسمع جلبة وصياحا هائلا ، فخرج في شجعان من أصحابه يتبعون ذلك الصياح حتى أشرف على سباع عظيمة غريبة الخلق مخزمة الانوف وبعضها يغير على بعض فيأكل بعضها بعضا ، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع وعدى وادي الرمل ، فمر بأرض العقارب فأهلكت بعض أصحابه فرجعوها عن أنفسهم بالنار وبالرقا والعزائم التي كانوا قد عرفوها حتى جاوزها.

__________________

(١) في ق : الدمدم.

٢٥٥

وسار حتى انتهى إلى أرض سلوقة (١) وكانت بها حية تخرج عن الحد والمقدار ، فرأوها ممتدة فظنوها ميتة ، فهمموا عليها فوجدوها حية. فرجعوا عنها هاربين وتعوذوا منها بالرقا.

وتزعم القبط أنه سحرها ، ومنعها من الحركة ، وتركها على حالها ، فلم تتحرك حتى هلكت ويقال إن طول هذه الحية ميل وإنها كانت تبتلع الفيلة.

وسار إلى مدينة الكند وهي مدينة الحكماء ، فهربوا إلى جبل وعركان لهم صعدوا إليه من داخل مدينتهم من مواضع لا يقدر هو ولا أصحابه على الصعود فيها ، فأقام على تلك الطريق يحرسها حتى عدم الماء ، ولم يجد منه شيئا وضاع أصحابه ، وكادوا أن يهلكوا عطشا.

فنزل إليه رجل منهم يقال له ميدوش وكان من أفاضل الحكماء وقد غطى شعره جسده ، فقال له أيها الملك المغرور أين تريد ، وقد مد لك في الاجل ، ورزقت فوق الكفاية؟ ففيم تتعب نفسك وجيشك ، هلا قنعت بما تملكه ، واتكلت على خالقك الذي وهبك الغنى ، وأعانك بهذا الخلق!

فعجب نهراوس من قوله وسأله عن الماء فدله عليه. وسأله عن موضعهم إذ لم يكن إصاب في جيشهم أثرا لسكناهم. قال نحن في موضع لا يصل إليه أحد.

قال فما معاشكم؟ قال من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع فيقيتنا ويكفينا اليسير منه.

قال فمن أين تشربون؟ قال من غدران لنا في الارض يجتمع إليها الماء من الامطار والثلوج.

قال فلم هربتم عنا؟ قال رغبة عن جواركم ، وزهادة في خلطتكم وكراهة لقربكم ، وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه.

قال فأين تكونون إذا حميت الشمس؟ قال في غيران لنا تحت هذا الجبل.

قال فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم؟ قال إنما يحتاج إلى هذا المال أهل

__________________

(١) في ق : صلوفه. وهي حية عظيمة كأنها جبل.

٢٥٦

البذخ. ونحن لا نستعمل شيئا منه فاستغنينا عنه بما قد اكتفينا به. ومع ذلك فانا قد رزقنا منه ما لو رأيته لحقرت ما عندك. قال فأرنيه! قال فسر معي ، قال فانطلق الملك ونفر من أصحابه معه إلى أرض في سفح جبل يتصل بهم فرأوا فيه قضبان الذهب نابتا ، وأروه واديا لهم على حافتيه حجارة الزبرجد والفيروزج.

فأمر نهراوس أصحابه أن يتخيروا من جياد تلك الحجارة ، ويحملوا منها ما يقدروا عليه ففعلوا ، ورجع بهم إلى مصر فرأوا قوما من اهل العسكر يحملون صنما لهم ويعظمون امره ، فجزع من ذلك ، وسأل [الرجل] الملك أن يقيم بأرضهم ، ونهاه عن عبادة الاصنام وخوفهم منها.

فسأله نهراوس أن يدله على الطريق ، ففعل وودعه وسار على السمت الذي وصفه له ، فلم يمر على امة إلا أثر فيها اثرا إلى أن بلغ إلى ارض النوبة ، فصالح أهله على ما يحملونه إليه ثم أتى إليه دنقلة فأقام بها علما وزبر اسمه عليه ومسيره وجميع ما عمله في سفرته تلك.

ثم سار منها يريد منف فلم يبق احد إلا خرج إليه مع العزيز ، وتلقوه بأصناف الطيب والرياحين والبخورات والملاهي وغرائب الالعاب.

وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الغريب الابيض الصنعة الملون ، وجعل فيه صهريجا من زجاج سماوي ، وجعل في ارضه سمكا من الزجاج الغريب فلما دخل منف أنزله العزيز في ذلك المجلس ، وأقام الناس أياما في لهو وسرور يأكلون ويشربون.

وأمر بعرض جيشه ففقد سبعين ألفا ، وقد كانوا خرجوا في ألف ألف ، وكانت غيبته أحد عشر عاما.

ولما سمع الملوك بذكر ما عمل في سفره ، وما غلب من الامم ، وما فتح من البلاد ، وقتل وأسر من الخلق هابوه وخافوه ، لشدة بأسه وعظيم سلطانه.

أخبار الزمان ـ م (١٧)

٢٥٧

وتجبر نهراوس فبنى في الجانب الغربي قصورا من رخام ، ونصب عليها أعلاما فكان يغشاها أبدا ، ويقيم فيها اياما كثيرة ، وكان الخراج في وقته تسعة وتسعين ألف ألف ، فأمر بالزيادة في طلب العمارات ، وطلب وجوه الزيادة فيها من احسن الطرقات لا من رديئها.

وأمر باصلاح الجسور في الجهات ، والتحمل في أن يزيد الماء في انبساطه في الارض ، ففعل ذلك كله حتى وافى الخراج مراده وزاد عليه.

وقالت القبط : إن في مدته دخل البلد غلام من الشام له أخوة يحسدونه ، فاحتالوا عليه حتى بيع من تجار يقصدون مصر ، وكانت قوافل الشام تعرس بمصر بناحية الموقف اليوم ، فأوقف الغلام للبيع ونودي عليه ، وهو يوسف الصديق عليه السلام ، فبلغ وزنه ذهبا ووزنه فضة ، فاشتراه العزيز ليهديه للملك ، فلما أتى به إلى منزله رأته زليخا امرأته ، وكانت ابنة عمه فقالت له اتركه عندنا نربيه ففعل ، وكان من أمره معها وعشقها له ما قصه الله تعالى في كتابه ، وكانت تكتم حبها عنه ، حتى غلبها الامر ، فتزينت له وجاءته فعرفته عشقها له ، وأنها مطاوعة له في كل ما يريده منها ، وأنها لابد لها منه ، وحبته بمال عظيم ، فامتنع عليها ، ولم يجد عنها مهربا ، فرامت تقبيله فأبى عليها ، فهجمت عليه ولم تزل تعاركه وهو يمتنع إلى أن دخل زوجها فوجده هاربا عنها وكان عنينا لا يأتي النساء ، فقال لهما ما هذا فجعل يوسف عليه السلام يعتذر إليه ، وقالت هي كنت نائمة فأتاني يراودني عن نفسي ، ففطن أن الامر كان منها.

فقال ليوسف عليه السلام أعرض عن هذا أي عن اعتذارك ، وقال لزليخا استغفري لذنبك ، فانك قد أخطأت.

واتصل خبر الغلام وجماله بالملك ، وأن العزيز ابتاعه له ، فلما لم يره سأله عنه انكر المعين أمره وغير له خبره ، وغلظ فيه عليه ، وثقف الغلام عنده في القصر ومنعه الخروج فنسي خبره.

٢٥٨

وكان نهراوس قد عاود الانعكاف على اللذات ، والاحتجاب عن الناس لما كان العزيز كفاه من أمر الملك والرعية.

واتصل خبر زليخا مع يوسف عليه السلام بنساء من نساء أصحاب الملك فعيرنها بذلك.

فأحضرت منهن جماعة وعملت لهن طعاما ، فلما أكلنه أحضرت لهن شرابا ، وأجلستهن مجلسين مجلسا حذاء مجلس ، مذهبين جميعا ، وفرشتهما بالديباج الاصفر المذهب ، وأرخت عليهما ستور الحرير والديباج.

وجلسن فيهما للشراب وقدمت بين ايديهن فاكهة كثيرة ، وسكاكين أنصبتها من الجوهر ، وقالت لهن اقطعن من هذه الفاكهة بهذه السكاكين ، ويقال إن الذي كان ينزل بين أيديهن أترج وهو المتكأ ، فأمرت المواشط بتزيين يوسف عليه السلام. وإخراجه إلى المجلس الذي كانت تجلس هي فيه والنسوة للشراب. وكانت الشمس ذلك الوقت محاذية لذلك المجلس. فأخذته المواشط ونظمن شعره بأصناف الجوهر. وألبسنه ثوب ديباج أصفر منسوج بدوائر مذهبة.

وفيها صور خضر صفار. وعدلن شعره على جبينه إلى قرب حاجبيه. ووصلن جبهته ، وعقربن على خديه صدغيه ، ورددن ذؤابته على صدره. ودفعن إليه بمذبة ذهب شعرها أخضر.

فلما فرغ النسوة من أكلهن وجلسن للشراب ، وأحضرت الفواكه وسقتهن أقداحا دفعت اليهن السكاكين ، وقالت لهن قد بلغني ما أخذتن فيه من أمري مع عبدي. فقلن لها إن الامر على ما بلغك إلا أنك أعلى عندنا قدرا من هذا ومثلك يرتفع عن اولاد الملوك لحسنك وشرفك وعقلك ، فكيف كنت ترضين بعبدك؟ قالت لم يبلغكن الصدق عني. ولم ارض لنفسي بذلك ، فلو رضيته لكان هو اهلا لذلك ، وشارت إلى المواشط باخراجه ، فرفعت ستور المجلس الذي يحاذي مجلسها

٢٥٩

واقبل يوسف عليه السلام والمذبة بيده ، وهن يرمقنه ، محاذيا للشمس. فأشرق المجلس وما فيه بوجه يوسف عليه السلام وارسل مع نور الشمس شعاعا فكاد يخطف ابصارهن.

واقبل يوسف عليه السلام والمذبة بيده وهن يرمقنه حتى وقف على رأسها يذب عنها ، وهن لا يعقلن ، وقد وضعن تلك السكاكين على أيديهن وأصابعهن ، فقطعنها مكان الفاكهة ولا يشعرن بذلك ولا يجدن ألما وهي تخطبهن فلا يفهمن خطابها للذي أدهشهن من النظر إلى وجه يوسف عليه السلام.

فقالت لهن زليخا ما لكن قد اشتغلتن عن فهم خطابي بالنظر إلى عبدي؟ فقلن معاذ الله أن يكون هذا عبدك أو يكون هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم ، ولم تبق منهن واحدة الا أنزلت وحاضت من محبته.

فقالت لهن زليخا عند ذلك فهذا الذي لمتنني فيه ، فقلن لها ما ينبغي لاحد أن يلومك بعد هذا ، ومن لامك فقد ظلمك فدونكه ، وقالت قد فعلت فأبى على فخاطبنه إن قدرتن واعدنه الخير مني وحذرنه عقوبتي على رده لي ، فكانت كل واحدة منهن تدعوه إلى نفسها سرا ، وتبذل له ما قدرت عليه وهو يمتنع ، فإذا قطعت رجاءها منه لنفسها حينئذ خاطبته عن زليخا ، وقالت له مولاتك تحبك وأنت تكرهها ، وما ينبغي أن تخالفها وهي تبلغك إلى افضل المنازل ، وتعطيك من الاموال والجواهر فوق ما يرضيك ، فيقول ما لي بذلك من حاجة ، فلما رأين ذلك منه أجمعن على أخذه غصبا.

فقالت زليخا ما يجوز ذلك ولا يمكن ، ولكنه ان لم يفعل لامنعنه اللدات ، ولانزعن عنه جميع ما أعطيته ولاسجننه.

فقال يوسف عليه السلام رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، فأقسمت بالهها ، وكان صنما من زبرجد أخضر باسم عطارد أنه إن لم يجبها إلى ما تريده لتعجلن له ذلك وكشفت عن الصنم واستعانته على أمره ، ثم أمرت بنزع ثيابه وألبسته الصوف وسألت زوجها أن يحبسه لها ليزول عنها ذكرها به فمال إلى قولها لئلا يظن الناس بأهله القبيح ، وعسى [أن] ينفي عنها القالة بذلك.

٢٦٠