روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله ، وقيل : معناه نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه ، وقيل : نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أي ندخله إياها ، وقد تقدم.

وقرئ بفتح النون من صلاه (وَساءَتْ مَصِيراً) أي جهنم أو التولية ، واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية ، فعن المزني أنه قال : كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لاسطوانة وسوى ثيابه فقال له : ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال : كتابه ، قال : وما ذا؟ قال : سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وما ذا؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله تعالى؟ فتدبر ساعة ساكتا ، فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال : نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عزوجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ) إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب ، وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.

واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة ، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع ، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان ، ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه.

واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية ، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة ، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف ، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة ، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام ، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول ، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما ، أو أحدهما ، أو الجمع بينهما ، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال : من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.

«فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم ، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة ، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين» يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين ، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور ، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه

١٤١

لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا ، واستصعب التفصي عنه ، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر ، وقريب منه قول الأصفهاني ، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما ، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور ، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر ، وعليه دليل آخر ، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما ، أو نعمل بمقابله ، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين ، وعلى الثاني ارتفاعهما ، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل ، فيلزم العمل به قطعا ، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) مطلقا بل بشرط المشاقة ، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر ، والقرينة عليه غير ظاهرة ، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما ، وأجابوا عما أجابوا عنه منها ، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال ، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد ، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد ، أو لأن للآية سببا آخر في النزول ، فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا من الشرك ، أو أحدا من الخلق ، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع ، ولا يبعد أن يكون من أفراده (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق ، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل ، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا (فَقَدْ ضَلَ) إلخ ، وفيما تقدم (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى ، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عزوجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا ، ولذلك جاء بعد تلك (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ٤٩] وقوله سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النساء : ٥٠] وجاء بعد هذه قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي ما يعبدون ، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما ، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان ، أو لما أن أسماءها مؤنثة ـ كما قيل ـ وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله :

وما ذكر فإن يكبر فأنثى

شديد اللزم ليس له ضروس

فإنه عنى القراد ، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة ، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر ـ كهبل وودّ وسواع وذي الخلصة ـ وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم ، وقيل : إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها ، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد ، وقيل : المراد بالإناث الأموات ، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل

١٤٢

ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس ، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز ، وقيل : سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها ، وقيل : لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان ، وقيل : كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا ؛ وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله عز اسمه ، وروي ذلك عن الضحاك ، وهو جمع أنثى ـ كرباب وربي ـ في لغة من كسر الراء.

وقرئ ـ إلا أنثى ـ على التوحيد ـ وإلا أنثى ـ بضمتين كرسل ، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب ، وإما جمع أنيث كقليب وقلب ، وقد جاء حديد أنيث ، وإما جمع إناث كثمار وثمر ، وقرئ ـ وثنا وأثنا ـ بالتخفيف والتثقيل ، وتقديم الثاء على النون ـ جمع وثن ـ كقولك : أسد وأسد ، وأسد ووسد ، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.

وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها ـ إلا أوثانا ـ (وَإِنْ يَدْعُونَ) أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق ، وقيل : المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال : «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس ، وهو المروي عن مقاتل وغيره ، والمريد والمارد والمتمرد : العاتي الخارج عن الطاعة ، وأصل مادة ـ م ر د ـ للملامسة والتجرد ، ومنه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [النمل : ٤٤] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء ، وقيل : لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء (لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده وأبعده عن رحمته ، وقيل : المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به ، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان.

وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب.

(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف على الجملة المتقدمة ، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن ، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال ، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي ، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل ، وإما حال مما بعده ، واختاره البعض ، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين ، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه‌السلام ما نال طمع في ولده ، وقال ذلك ظنا ، وأيد بقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] ، وقيل : إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله :

امتلأ الحوض. وقال : قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله ، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة ، وأقول لهم : ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل : أمنيهم بطول البقاء في الدنيا

١٤٣

فيسوفون العمل ، وقيل : أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة ، وروى الأول عن الكلبي (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالتبتيك ـ كما قال أبو حيان ـ أو بالضلال كما قال غيره (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، أو ليشقنها ـ كما قال الزجاج ـ بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء ، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَ) ممتثلين به بلا ريث (خَلْقَ اللهِ) عن نهجه صورة أو صفة ، ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه ، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.

وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا ، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خصاء الخيل والبهائم» ، وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك ، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان ، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له ، وعن طاوس أنه خصى جملا ، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول ، فقال : لا بأس به ، وعن الحسن مثله ، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا.

وقال النووي : لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه ، ولا يجوز في كبره ، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف ، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم ، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك ، وعن قتادة أنه قرأ الآية ، ثم قال : ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه ، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو ، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وحديث النهي محمول على غير ذلك (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته ، وقيد (مِنْ دُونِ اللهِ) لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم ، وأما ما قيل : من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها ، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها ، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشئ من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ظاهرا ، وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ (يَعِدُهُمْ) ما لا يكاد ينجزه ، وقيل : النصر والسلامة ، وقيل : الفقر والحاجة إن أنفقوا ، وقرأ الأعمش (يَعِدُهُمْ) بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات. (وَيُمَنِّيهِمْ) الأماني الفارغة ، وقيل : طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها ، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة : فلان يعطي ويمنع ، وضمير الجمع المنصوب في (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) راجع إلى ـ من ـ باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في (يَتَّخِذِ) و (خَسِرَ) راجع إليها باعتبار لفظها ، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة

١٤٤

وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر ، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة ، وإما بلسان أوليائه ، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد ، و (غُرُوراً) إما مفعول ثان للوعد ، أو مفعول لأجله ، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور ، أو غارا ، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن (يَعِدُهُمْ) في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين ، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد ، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما (أُولئِكَ) إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران (مَأْواهُمْ) ومستقرهم جميعا (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا ومهربا ، وهو اسم مكان ، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى ، ويقال : محيص ومحاص ، وأصل معناه كما قيل : الروغان ، ومنه وقعوا في حيص بيص ، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا ، و (عَنْها) متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا. ولم يجوزوا تعلقه ب (يَجِدُونَ) لأنه لا يتعدى بعن ، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد ، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه ، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدا خبره قوله تعالى :

(سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته ، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين ، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا وأحقه حقا ، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه ، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل ، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل (سَنُدْخِلُهُمْ) على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات ، ويكون (حَقًّا) حالا منه.

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) تذييل للكلام السابق مؤكد له ، فالواو اعتراضية ، و ـ القيل ـ مصدر قال ومثله القال.

وعن ابن السكيت : أنهما اسمان لا مصدران ، ونصبه على التمييز ، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع ، وبناء أفعل ، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة ، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى ، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه ، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي صدق ولا أصدق منه ، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه ، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلية ، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين : من أصدق من الله قيلا ، فيكون عطفا على (خالِدِينَ) أدهى وأمر.

وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) الخطاب للمؤمنين ، والأماني بالتشديد والتخفيف ـ وبهما قرئ ـ جمع أمنية على وزن أفعولة ، وهي كما قال الراغب : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها ، ويقال : منى له الماني أي قدر له المقدر ، ومنه قيل : منية أي مقدرة ، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له ، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور

١٤٥

ما ذكر ، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه ، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت ، والباء في (بِأَمانِيِّكُمْ) مثلها في ـ زيد بالباب ـ وليست زائدة والزيادة محتملة ، ونفاها البعض واسم (لَيْسَ) مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري ، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل : عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله ، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح ، وقيل : عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا ؛ وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى ، فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم و (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ؛ ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل الله تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) ، وقوله سبحانه (وَمَنْ أَحْسَنُ) إلخ أي ليس وعد الله تعالى ، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة ، أو العمل الصالح ، أو الإيمان ، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى ، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر ، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله ، أنه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم».

وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا : لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم : لا بعث ولا عذاب ، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا : وقرر سبحانه ذلك بقوله عزّ من قائل : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا أو آجلا ، فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : «كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت : بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك يا أبا بكر؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة».

وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : «لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها» والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى ، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات ، والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه ، فقد صح في غير ما طريق «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة».

١٤٦

وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ، وروي عن ابن مسعود ـ الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا ـ واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات ، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟ ، وظاهر الأحاديث ـ ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ـ أنها تكفرها ، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء» إلى غير ذلك.

ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم ، وخص بعضهم الجزاء بالآجل ، ومن بالمشركين وأهل الكتاب ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا : وهذا كقوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] ، وقيل : المراد من السوء هنا الشرك ، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير ، وكلا القولين خلاف الظاهر ، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته (وَلِيًّا) يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى (وَلا نَصِيراً) ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به ، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا ، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد ، «فمن» تبعيضية ، وقيل : هي زائدة.

واختاره الطبرسي وهو ضعيف ، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر ، وقوله سبحانه (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) في موضع الحال من ضمير (يَعْمَلْ) و (مَنْ) بيانية.

وجوز أن يكون حالا (مِنَ الصَّالِحاتِ) و (مَنْ) ابتدائية أي كائنة (مِنْ ذَكَرٍ) إلخ ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى ، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى ـ الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى ـ لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم ، وجعلهن محرومات من الميراث ، وقوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال أيضا ، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه ، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل ، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان ، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.

(يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء عملهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (يَدْخُلُونَ) مبنيا للمفعول من الإدخال (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم ، فإن النقير علم في القلة والحقارة ، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة ، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب ، فإذا لم يرض بالأول ـ وهو أرحم الراحمين ـ فكيف يرضى بالثاني ـ وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب ـ مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا ، والجملة تذييل لما قبلها ، أو عطف عليه.

١٤٧

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه ، وقيل : أخلص توجهه له سبحانه ، وقيل : بذل وجهه له عزوجل في السجود ، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي ، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه ، و (دِيناً) نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير : ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين ، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية ، و (مِمَّنْ) متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل ، وجوز فيه أن يكون حالا من (وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد صح أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام : «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وقيل : الأظهر أن يقال : المراد (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عقيدته ، وهو مراد من قال : أي وهو موحد ، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال ، والجملة في موضع الحال من فاعل (أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها ، وهذا عطف على (أَسْلَمَ) وقوله سبحانه : (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من (إِبْراهِيمَ).

وجوز أن يكون حالا من فاعل (اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه‌السلام ، والإيذان بأنه نهاية في الحسن ، وإظهار اسمه عليه‌السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على (وَمَنْ أَحْسَنُ) إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا ، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة ، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان ، ولا على صلة (مَنْ) لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أظهر من أن يخفى ، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر ، والعطف على (حَنِيفاً) لا يصح إلا بتكلف ، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية ، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال :

قد تخللت مسلك الروح مني

ولذا سمي الخليل خليلا

فإذا ما نطقت كنت حديثي

وإذا ما سكت كنت الغليلا

وإما من الخلل كما قيل : على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل الآخر ، وإما من الخلة بالفتح ، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة ، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق ، وقد جاء ـ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ـ أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه ، وإطلاقه على إبراهيم عليه‌السلام قيل : لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة ، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى ، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا ، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر ، وفي بعض الآثار ـ ولست على يقين في صحته ـ أنه عليه‌السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له : وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك ، فقال : يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى الله تعالى : إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي ، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه‌السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك : يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال : إن ربي عاتبني فيك ، وقال : أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك : أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع

١٤٨

إبراهيم عليه‌السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك فقال : تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقا ، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد» ، وقيل ـ واختاره البلخي والفراء ـ لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه‌السلام حين قال له يوم ألقي في النار : ألك حاجة؟ أما إليك فلا ، ثم قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل ، وقيل : في وجه تسميته عليه‌السلام خليل الله غير ذلك ، والمشهور أن الخليل دون الحبيب.

وأيد بما أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «جلس ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر : ما ذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما ، وقال آخر : فعيسى روح الله تعالى وكلمته ؛ وقال آخر : آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» ، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ، ثم قال وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» ، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة ، وأن المحبة أوسع دائرة ، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه‌السلام ، وهي المرتبة الثابتة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه‌السلام ، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة ، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه في إبراهيم عليه‌السلام ، فقد صح أن خلقه القرآن ، وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وشهد الله تعالى له بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يؤذن بذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.

وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل أن يتوفى : إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، والتشبيه على حدّ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] في رأي ، وقيل : إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى.

وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما ، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع ، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل ، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق ، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك ، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى

١٤٩

المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى ، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره ـ كما قيل ـ وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول ، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها قطعا ، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل ، وما بينهما من قوله سبحانه : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه : (وَاتَّخَذَ اللهُ) إلخ بناء على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.

وقيل : لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شئونه كما هو دأب المخلوقين ، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمته وتشريفه ، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه‌السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة بناء على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام ، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف ، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس ، أو لتحصيل أحوال الكمالات (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي تنقصوا من الأعمال البدنية (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل ، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية ، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما في بحار «لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي الأعمال البدنية (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وليفعلوا كما تفعل (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة ، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس (فَإِذا سَجَدُوا) وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) ذابين عنكم اعتراض الجاهلين ، أو قائمين بحوائجكم الضرورية (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) منهم (لَمْ يُصَلُّوا) بعد (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) وليفعلوا فعلك (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) كما أخذا الأولون أسلحتهم ، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن ، وقيل : الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص ، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة ، وفي الثاني أمر الحذر أيضا (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قوى النفس الأمارة (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) وهي

١٥٠

قوى الروح (وَأَمْتِعَتِكُمْ) وهي المعارف الإلهية (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً) بأن أصابكم شؤبوب (مِنْ مَطَرٍ) يعني مطر سحائب التجليات (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) من القوى النفسانية (عَذاباً مُهِيناً) أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أي أديتموها (فَاذْكُرُوا اللهَ) في جميع الأحوال (قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محل القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) ووصلتم إلى محل البقاء (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم (كَما تَأْلَمُونَ) منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) أي تأملون منه سبحانه (ما لا يَرْجُونَ) لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة ، ولا يخطر ذلك لهم ببال ، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) فيعلم أحوالكم وأحوالهم (حَكِيماً) فيفيض على القوابل حسب القابليات (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها (بِالْحَقِ) متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) خواصهم وعوامهم (بِما أَراكَ اللهُ) أي بما علمك الله سبحانه من الحكمة (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره (خَصِيماً) تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان ، أو تقول لله تعالى : يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون ، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فيفعل ما تطلبه منه وزيادة (وَلا تُجادِلْ) أحدا عن (الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) بتضييع حقوقها (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) لنفسه (أَثِيماً) مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بإزالتها وقلعها (وَهُوَ مَعَهُمْ) محيط بظواهرهم وبواطنهم (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من الوهميات والتخيلات الفاسدة (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فيجازيهم حسب أعمالهم (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) بظهور صفة من صفات نفسه (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بنقص شيء من كمالاتها (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) بإظهار بعض الرذائل (أَوْ إِثْماً) بمحو ما في الاستعداد (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) بأن يقول : حملني الله تعالى على ذلك ، أو حملني فلان عليه (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود ، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) إلى أن قال : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه (وَرَحْمَتُهُ) حيث وهب لك الكمال المطلق (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لعود ضرره عليهم ،

١٥١

وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الجامع لتفاصيل العلم (وَالْحِكْمَةَ) التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) وهو ما كان من جنس الفضول ، والأمر الذي لا يعني (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة ، (أَوْ مَعْرُوفٍ) قولي كتعلم علم ، أو فعلي كإغاثة ملهوف (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) الذي هو من باب العدل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) ويجمع بين تلك الكمالات (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) الله تعالى (أَجْراً عَظِيماً) ويدخله جنات الصفات (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالف ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير ما عليه أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) الحرمان (وَساءَتْ مَصِيراً) لمن يصلاها (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها ، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه (لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده عن رياض قربه (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الطريق الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات (لَيْسَ) أي حصول الموعود (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) بل لا بد من السعي فيما يقتضيه ، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس ، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) أي حالا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وسلم نفسه إليه وفني فيه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في التوحيد (حَنِيفاً) مائلا عن السوي (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عزوجل فهو عارف به بكل جزء منه ، ومن هنا قيل : إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله ؛ وأنشد :

ما قدّ لي عضو ولا مفصل

إلا وفيه لكم ذكر

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ

١٥٢

الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)

١٥٣

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شئونه سبحانه (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود ، وهو رب الكرم والجود ، لا رب غيره ، ولا يرجى إلا خيره (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا ، وقال غير واحد : إن المراد (يَسْتَفْتُونَكَ) في ميراثهن ، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا ، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس ، وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ ، ثم قالوا : سلوا فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه ، وإلى الأول مال شيخ الإسلام : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي يبين لكم حكمه فيهن ، والإفتاء إظهار المشكل على السائل ، وفي البحر يقال : أفتاه إفتاء ، وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) في (ما) ثلاثة احتمالات : الرفع والنصب والجر ، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي ـ وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم ـ وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها ، وفي الكتاب متعلق ـ بيتلى ـ أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب ، وإما أن تكون مبتدأ ، و (فِي الْكِتابِ) خبره ، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له ، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو ، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى ، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في (يُفْتِيكُمْ) وصح ذلك للفصل ، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع ، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل ، والمتلو فاعل مجازي له ، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف ، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه ، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل ، والإيراد أيضا غير وارد ، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد ، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى ، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى ، والجملة إما معطوفة على جملة (يُفْتِيكُمْ) وإما معترضة ، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وأقسم ـ بما يتلى عليكم في الكتاب ـ وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى ، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه ، نعم فيه اختلال معنوي لا يكاد ينفعه ، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم ، ولا يخفى ما فيه ، وقوله سبحانه : (فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلق ـ بيتلى ـ في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون (ما) مبتدأ ، و (فِي الْكِتابِ) خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة ، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا ، وجوزوا أن يكون بدلا من (فِيهِنَ) وأن يكون صلة أخرى ـ ليفتيكم ـ ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى ، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد ، وفي الثاني

١٥٤

هنا سببية كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن امرأة دخلت النار في هرة» فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه ، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص ، وادعي أنه الأظهر وليس بشيء ـ كما قال الحلبي وغيره ـ وقرئ ـ ييامى ـ بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام ، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه ، واختاره الطبري ، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، واختاره الجبائي ، وقيل : (ما كُتِبَ لَهُنَ) من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج.

وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم (وَتَرْغَبُونَ) عطف على صلة (اللَّاتِي) أو على المنفي وحده ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (تُؤْتُونَهُنَ) فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو : فظاهر ، وإذا قلنا بعدم الجواز : التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي في (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أو عن (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فإن أولياء اليتامى ـ كما ورد في غير ما خبر ـ كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن ، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن ، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا ، بل إجمال ، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل ، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه ، والشافعية يقولون : إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر ، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على يتامى النساء ، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا.

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) عطف على ما قبله ، وإن جعل في يتامى بدلا ، فالوجه النصب في هذا ، و (الْمُسْتَضْعَفِينَ) عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل ، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا ، ولو عطف على البدل لكان بدلا ، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام ، وجوز في (أَنْ تَقُومُوا) الرفع على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف أي خير ونحوه ، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم ـ أن تقوموا ، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم ، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم (وَما تَفْعَلُوا) في حقوق المذكورين (مِنْ خَيْرٍ) حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) فيجازيكم عليه ، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه ، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) شروع في بيان أحكام لم تبين قبل ، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : «خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية ، وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت ، فهو من باب الاشتغال ، وزعم الكوفيون أن (امْرَأَةٌ) مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي ، وقدر بعضهم هنا ـ كانت ـ لاطراد حذف كان بعد إن ، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور ، والخوف إما على حقيقته ، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل

١٥٥

(مِنْ بَعْلِها) أي زوجها ، وهو متعلق ـ بخافت ـ أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (نُشُوزاً) أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب ، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين (أَوْ إِعْراضاً) أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه ، وفي البحر : النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا ، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن ، أو دمامة ، أو شين في خلق ، أو خلق ، أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز (فَلا جُناحَ) أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.

(أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة ، أو كسوة ، أو تهبه المهر ، أو شيئا منه ، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل ، وقرأ غير أهل الكوفة ـ يصالحا ـ بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها ، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت ، وقرأ الجحدري ـ يصلحا ـ بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم ـ كما قال أبو البقاء ـ لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.

وقرئ يصطلحا ـ وهو ظاهر ، و (صُلْحاً) على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح ، أو بواسطة حرف أي يصلح ، والمراد به ما يصلح به ، و (بَيْنَهُما) ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من (صُلْحاً) أي كائنا بينهما ، وإما مصدر محذوف الزوائد ، أو من قبيل (أَنْبَتَها) الله (نَباتاً) [آل عمران : ٣٧] و (بَيْنَهُما) هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف ، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل ، ويجوز أن يكون (بَيْنَهُما) ظرفا ، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه ، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا ، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما (صُلْحاً) واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد ؛ وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة ، فاللام للعهد ، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر ، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس ؛ وقيل : إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية ، والجملة اعتراضية ، وكذا قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية ، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما ، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة ، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل ، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين ، والأول هو (الْأَنْفُسُ) القائم مقام الفاعل ؛ والثاني (الشُّحَ) ، والمراد أحضر الله تعالى (الْأَنْفُسُ الشُّحَ) وهو البخل مع الحرص ، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها ، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه ، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته ، وكذا شح

١٥٦

نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة مع النساء (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن ، أو بذل ما يعز عليهن. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى ، أو بجميع ما تعملون ، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا (خَبِيراً) فيجازيكم ويثيبكم على ذلك ، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب ، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشئون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.

وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال : لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع ، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : في الجماع ، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا : في المحبة ، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبها أكثر من غيرها ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وعنى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على إقامة ذلك وبالغتم فيه (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها ، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره (فَتَذَرُوها) أي فتدعوا التي ملتم عنها (كَالْمُعَلَّقَةِ) وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التي ليست مطلقة ولا ذات بعل ، وقرأ أبي ـ كالمسجونة ـ وبذلك فسر قتادة المعلقة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في (فَتَذَرُوها) وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير ، وحذف نون (فَتَذَرُوها) إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي ، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله ، وفي الآية ضرب من التوبيخ ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال : ـ كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل ، وعن مجاهد قال : كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه ، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما كنتم تفسدون من أمورهن (وَتَتَّقُوا) الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) فيغفر لكم ما مضى من الحيف (رَحِيماً) فيتفضل عليكم برحمته (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي المرأة وبعلها ، وقرئ ـ يتفارقا ـ أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه ، وقيل : يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر (مِنْ سَعَتِهِ) أي من غناه وقدرته ، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق ، وقيل : زجر لهما عن المفارقة ، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى (وَكانَ اللهُ واسِعاً) أي غنيا

١٥٧

وكافيا للخلق ، أو مقتدرا أو عالما (حَكِيماً) متقنا في أفعاله وأحكامه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة ، ولا الإيناس بعد الوحشة ـ ولا ولا ـ وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى ، والجملة مستأنفة جيء بها ـ على ما قيل ـ لذلك (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أمرناهم بأبلغ وجه ، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم ، والكتاب عام للكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة ، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص ، و (مِنْ) متعلقة ـ بوصينا ـ أو ـ بأوتوا ـ (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن (أَنِ) مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين ، ووصلها بالأمر ـ كالنهي وشبهه ـ جائز كما نص عليه سيبويه ، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول ، وقوله تعالى :

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عطف على (وَصَّيْنَا) بتقدير قلنا ـ أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم ، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته ـ وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين ، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على (اتَّقُوا اللهَ) وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية ، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا ، والفعل (وَصَّيْنَا) أو أمرنا أو غيره ، وقيل : إن العطف المذكور من باب : علفتها تبنا وماء باردا.

وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها ، أو مع الذين أوتوا الكتاب (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وقيل : إن قوله سبحانه : و (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء ، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له ، وقوله عزوجل : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة ، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تذييل لما قبله ، والوكيل هو القيم ، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه ، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى ، وفي النهاية يقال : وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه ، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد ، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه ، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم ، وتوكل على الله تعالى ، وادعى البيضاوي ـ بيض الله تعالى غرة أحواله ـ أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عزوجل كفاه ، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا ، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه (إِنْ يَشَأْ) إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين (يُذْهِبْكُمْ) يفنكم ويهلككم.

(أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر ، فالخطاب لنوع من الناس ، وقد

١٥٨

أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨] ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ، وقال : إنهم قوم هذا» وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية ، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس ، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز ـ كما قيل ـ لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن ـ غيرا ـ تقع على المغاير في جنس أو وصف ، ـ وآخر ـ لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.

وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر ، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] وقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] فوصف جل اسمه ـ مناة ـ بالأخرى لما جانست ـ العزى ، واللات ـ ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر ، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال : جاءت هند ورجل آخر ، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من ، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت : قال : الفند الزماني ، وقال آخر : كان تقدير الكلام ، وقال آخر : من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها ، وكثرة استعمال آخر في النطق ، وفي الدر المصون : إن هذا غير متفق عليه ، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة ؛ وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف ، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب ، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف ـ وهنا ليست بخاصة ـ فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف ؛ وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة : إن العرب لا تقول : مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا ، وإفرادا ، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث

وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي

وقال أبو حية النميري :

وكنت أمشي على ثنتين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشجر

وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت : جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر ، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى ؛ وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر ، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب ، وبالآخر مقابل البائع ، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف ، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر ، واشترطه ابن جني ، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة :

والخيل تقتحم الغبار عوابسا

من بين منظمة وآخر ينظم

١٥٩

وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار ، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه ، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، فلو قلت : جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز ، ولو قلت : أكلت رغيفا ، وهذا قميص آخر لم يحسن ، وأما قول الشاعر :

صلى على عزة الرحمن وابنتها

ليلى وصلى على جاراتها الأخر

فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها ، ولو لا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات ، بل كان يقول وصلى على بناتها الأخر ، وقد قوبل في البيت أيضا ـ أخر ـ وهو جمع بابنتها وهو مفرد ، وزعم السهيلي أن ـ أخرى ـ في قوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير (مَناةَ) الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد ؛ فجعلها ثالثة اللات والعزى ، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر ، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى ، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى ، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى ، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.

وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها ، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله ، فلو قلت : أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام ، وهو يشبه ـ سائر وبقية وبعض ـ في أنه لا يستعمل إلا في جنسه ، فلو قلت : ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما ، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس :

إذا قلت : هذا صاحبي ورضيته

وقرت به العينان بدلت آخرا

وفي الحديث «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد خفة في مرضه فقال : انظروا من أتكئ عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما».

وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا ، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين (قَدِيراً) بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية.

(فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء ، وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران ، فيقال : من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك ، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ،

١٦٠