٣
الفرق بين المسجود له والمسجود عليه
كثيرا ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة وتتخيّل التربة المسجود عليها وثنا ، وهؤلاء ، هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثن يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين ، وزعم المسجود عليه مسجودا له ، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر ، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له ، يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع لله سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى ، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً : أين التراب وربّ الأرباب؟
نعم : الساجد على التربة غير عابد لها ، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها ، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان ، وسيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين
والحكم بشركهم ، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بدّ أن يكون عابدا لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!!
روى الآمدي عن علي أمير المؤمنين عليهالسلام انّه قال : السجود الجسماني : وضع عتائق الوجوه على التراب. (١)
روى الصدوق عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام قولهم : « الصلاة إقرار بالربوبية لله عزّ وجلّ ،. ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظام لله جلّ جلاله ».
كما أنّ وضع الذقن على الأرض تذلّل لله سبحانه قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) (٢). (٣)
__________________
١. غرر الحكم ودرر الكلم : ١ / ١٠٧ برقم ٢٢٣٤.
٢. الإسراء : ١٠٧.
٣. الفقيه : ١ / ٢١٥ ، الحديث ٦٤٥.
٤
السجدة في اللغة
لا شكّ انّ السجود من فرائض الصلاة ، وقد روى الفريقان عن ابن عباس ( رض ) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين. (١)
ومع ذلك فإنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، وأمّا الباقون فأشبه بالشرائط ويدلّ على ذلك قول أصحاب المعاجم حيث لا يذكرون في تعريف السجدة إلاّ وضع الجبهة على الأرض فكأنّ غيرها من شرائط السجدة التي فرضها الشارع وأضافها إلى حقيقتها اللغوية والعرفية.
قال ابن منظور ناقلا عن ابن سيده : سجد يسجد سجودا : وضع جبهته بالأرض ، وقوم سجد وسجود. (٢)
وقال ابن الأثير : سجود الصلاة ، وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه. (٣)
__________________
١. أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه : ١ / ٢٠٦ ومسلم في صحيحه : ١ / ٣٥٤.
٢. لسان العرب : ٦ ، مادة سجد.
٣. النهاية : ٢ ، مادة سجد.
وفي « تاج العروس من جواهر القاموس » : سجد : خضع ، ومنه سجود الصلاة وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه ، والاسم ، السجدة ( بالكسر ). (١)
وهذه الكلمات من أصحاب المعاجم ونظائرها المبثوثة في كتب اللغة ، تعرب عن أنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، ولو لا انّ النبي فرض السجود على سبعة أعظم لكفى وضع الجبهة على الأرض ، ولكنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أضاف إلى الوضع أمورا أخرى ، فصار الواجب السجود على سبعة أعظم.
فإذا كان كذلك فلا غرو في أن يختص وضع الجبهة بشرط خاص دون سائر الأعضاء ، ( هو اشتراط كون المسجود عليه هو الأرض أو ما ينبت منها ) ولا يجوز السجود على غيرها دون سائر الأعضاء.
سرّ كشف الجبهة في السجدة
والذي يعرب عن ذلك انّ معظم فقهاء السنّة ذهبوا إلى لزوم كشف الجبهة دون سائر الأعضاء ، فلو كان لسائر الأعضاء دور في حقيقة السجدة كالجبهة ، لكان حكمها حكم الجبهة مع أنّ الواقع خلافه.
١. ففي مختصر أبي القاسم الخرقي وشرحه : « ولا تجب عليه مباشرة المصلّي بشيء منها إلاّ الجبهة على إحدى الروايتين » ، وفي رواية أخرى انّه يجب عليه مباشرة المصلّي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب وروى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله عن السجود على كور العمامة فقال : لا يسجد على كورها ولكن يحسر (٢) العمامة. وهو
__________________
١. تاج العروس : ٨ ، مادة سجد.
٢. في المصدر : يحصر ( بالصاد ).
مذهب الشافعي.
لما روى خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ـ إلى أن قال : ـ وعن علي ( رض ) قال : إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته ، رواه البيهقي. (١)
٢. وفي « الوجيز » : يجب كشف الجبهة في السجود لما روي عن خباب ، قال :
شكونا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا ، أي لم يزل شكوانا.
وقال في شرحه : ولا يجب كشف الجميع من ( الجبهة ) بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع ، ويجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض ، فلو كشف شيئا ووضع غيره لم يجز ، وإنّما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه ، فلو سجد على طرفه أو كور عمامته لم يجز ، لأنّه لم يباشر بجبهته موضع السجود.
لنا حديث خباب ، وأيضا روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الزق جبهتك بالأرض. (٢)
٣. وقال ابن رشد : اختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة ( مكشوفة ) وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه ، أم ليس ذلك من شرطه؟
وقال مالك : ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. (٣)
وقال جماعة : ليس ذلك من شرط السجود.
ومن هذا الباب : اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه
__________________
١. الشرح الكبير على متن الخرقي : ١ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨ على هامش المغني.
٢. العزيز ، شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير : ١ / ٥٢١.
٣. ومعنى ذلك انّه ليس شرطا للصحة بل شرط للكمال.
ثلاثة مذاهب :
قول بالمنع ، وقول بالجواز ، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة ، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها. (١)
٤. وقال القفال : فإن كان على جبهته عصابة لعلة بها فسجد عليها أجزأ ولا إعادة عليه ، ومن أصحابنا خرّج فيه قولا آخر في وجوب الإعادة من المسح على الجبيرة. (٢)
٥. وفي « الفقه على المذاهب الأربعة » : الشافعية ـ قالوا : يضر السجود على كور العمامة ونحوها كالعصابة إذا ستر كلّ الجبهة ، فلو لم يسجد على جبهته المكشوفة بطلت صلاته إن كان عامدا عالما إلاّ لعذر كأن كان به جراحة وخاف من نزع العصابة حصول مشقة شديدة ، فإنّ سجوده عليها في هذه الحالة صحيح. (٣)
الظاهر انّ سرّ لزوم كشف الجبهة لأجل إلصاق الجبهة المكشوفة بالصعيد حتّى يبلغ المصلّي منتهى الخضوع والعبودية.
غير انّ هؤلاء خصّوا كشف الجبهة بعدم وجود حاجز عليها يمنعها من السجود ككور العمامة وطاقاتها والعصابة وبالرغم من ذلك فقد سوغوا السجدة على السجاد والفرش.
وبذلك أبطلوا سرّ لزوم كشف الجبهة وفائدته.
__________________
١. بداية المجتهد : ١ / ١٣٩.
٢. حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء : ١٢٢.
٣. الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٢٣٣.
فعندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي :
إذا كانت السجدة على الفرش والسجاد جائزة ، فأي فرق بين السجود عليها والسجود على العصابة وكور العمامة؟! فإنّ التفريق بين الأمرين أمر غريب ، فإنّ العصابة أو العمامة منسوج كالفرش والسجاد ، وكون العمامة وأجزائها ممّا يحمله المصلّي دون الفرش والسجاد لا يوجب الفرق بعد اشتراكهما في تحقّق السجدة على زعمهم. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ سرّ الكشف هو لصوق الجبهة بالصعيد ، فعندئذ لا يكون أي فرق بين العصابة والسجاد.
وإلى ذلك ذهب علماؤنا أجمع ، قال العلاّمة : يجب إبراز الجبهة للسجود ، على ما يصحّ عليه السجود. (١)
__________________
١. منتهى المطلب : ٥ / ١٥٤.
٥
السجود
في عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعده
إنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء ، وغبار التراب ، ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، ولا على الفرش والسجاد ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها ، وقد شكا بعضهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من شدّة الحرّ ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبدّل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر ، فوسّع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مراحل ثلاث لا غير :
١. ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.
٢. المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر
والبواري والخمر ، تسهيلا للأمر ، ورفعا للحرج والمشقّة.
٣. المرحلة التي رخّص فيها السجود على الثياب اضطرارا وفي حال الضرورة.
وإليك البيان :
المرحلة الأولى
السجود على الأرض
١. روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ». (١)
والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يسجد عليه ويقصد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة ، وللتيمّم أخرى.
إنّ هذا الحديث يثبت بجلاء انّ وجه الأرض ، ترابا كان أو صخرا أو حصى هو الأصل في السجود وهو الذي يجب أن يتخذ موضعا للسجود ولا يجوز التعدي عن ذلك إلاّ بدليل آخر.
وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فليس هذا المعنى مغايرا لما ذكرناه ، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجدا للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما
__________________
١. صحيح البخاري : ١ / ٩١ كتاب التيمّم الحديث ٢ ، سنن البيهقي : ٢ / ٤٣٣ ، باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.
ذكر معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهورا » بعد « مسجدا » وجعلهما مفعولين لـ « جعلت » والنتيجة هي توصيف الأرض بوصفين : كونها مسجدا وكونها طهورا ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجدا ، هو الذي جعله طهورا. (١)
ومثله غيره من شرّاح الحديث.
فإذا كانت التربة والحصى طهورا فهي أيضا مسجود عليه للمصلّي.
فالحصر حجّة إلى أن يدلّ دليل على الخروج عنه.
تبريد الحصى للسجود عليها
٢. عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كنت أصلّي مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ أحوّلها إلى الكف الأخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني ، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ. (٢)
وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود. (٣)
ونحن نقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلا أم منفصلا جائزا ، لكان أسهل من تبريد الحصى ، ولأمكن حمل منديل أو سجّادة أو ما شابه للسجود عليه.
__________________
١. أحكام القرآن : ٢ / ٣٨٩ ، نشر بيروت.
٢. مسند أحمد : ٣ / ٣٢٧ من حديث جابر ، سنن البيهقي : ١ / ٤٣٩ باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
٣. سنن البيهقي : ٢ / ١٠٥.
٣. روى أنس قال : كنّا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في شدّة الحرّ ، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (١).
٤. عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا. (٢)
قال ابن الأثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك ، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم. (٣)
هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط ، حتّى أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنسوجات المنفصلة ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم مع كونه بالمؤمنين رءوفا رحيما أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدّة الحرّ.
والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض ، وعن إصرار النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحدة من الروايات ، وإليك البيان.
الأمر بالتتريب
٥. عن خالد الجهني : قال : رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صهيبا يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : « ترّب وجهك يا صهيب ». (٤)
__________________
١. السنن الكبرى : ٢ / ١٠٦.
٢. سنن البيهقي : ٢ / ١٠٥ ، باب الكشف عن الجبهة.
٣. النهاية : ٢ / ٤٩٧ ، مادة « شكا ».
٤. كنز العمال : ٧ / ٤٦٥ برقم ١٩٨١٠.
والظاهر أنّ صهيبا كان يتّقي عن التتريب ، بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كلّ تقدير ، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.
٦. روت أمّ سلمة : رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غلاما لنا يقال له « أفلح » ينفخ إذا سجد ، فقال : « يا أفلح ترّب ». (١)
٧. وفي رواية : « يا رباح ترّب وجهك ». (٢)
٨. روى أبو صالح قال : دخلت على أمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين ، فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت أمّ سلمة : ابن أخي لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : « ترّب وجهك لله ». (٣)
الأمر بحسر العمامة عن الجبهة
٩. روي : أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته. (٤)
١٠. روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال : « إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه » ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة. (٥)
__________________
١. المصدر نفسه : ٧ / ٤٥٩ برقم ١٩٧٧٦.
٢. المصدر نفسه : ٧ / ٤٥٩ برقم ١٩٧٧٧.
٣. المصدر نفسه : ٧ / ٤٦٥ ، برقم ١٩٨١٠ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٠١.
٤. الطبقات الكبرى : ١ / ١٥١ ، كما في السجود على الأرض : ٤١.
٥. منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند : ٣ / ١٩٤.
١١. روى صالح بن حيوان السبائي : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن جبهته. (١)
١٢. عن عياض بن عبد الله القرشي : رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : « ارفع عمامتك » وأومأ إلى جبهته. (٢)
هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتتريب ، ولما حسر العمامة عن الجبهة.
سيرة النبي في السجود
يظهر من غير واحد من الروايات انّ النبي كان يهتم بالسجود على الأرض وإليك نماذج من هذا :
١. يقول وائل بن حجر : « رأيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض ». (٣)
٢. يقول ابن عباس : انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سجد على الحجر. (٤)
٣. روي عن عائشة : ما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متقيا وجهه بشيء ». (٥)
قال ابن حجر : وفي الحديث إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هو
__________________
١. السنن الكبرى : ٢ / ١٠٥.
٢. المصدر نفسه.
٣. أحكام القرآن : ٣ / ٣٦ ؛ مسند أحمد : ٣١٥ ، ٣١٧.
٤. السنن للبيهقي : ٢ / ١٠٢.
٥. المصنف : ١ / ٣٩٧ وكنز العمال : ٤ / ٢١٢.
الأصل ، لأنّه علق بعدم الاستطاعة. (١)
وهذا الحديث يعرب عن جواز السجود على الثياب عند الضرورة وعدم جوازه في حال الاختيار ، وهذا هو المروي عن أئمّة أهل البيت.
فعن عيينة بباع القصب قال : قلت لأبي عبد الله أدخل في المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أنّ أصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه ، قال : نعم ليس به بأس. (٢)
وعن القاسم بن الفضيل قال : قلت للرضا عليهالسلام : جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من أذى الحرّ والبرد ، قال : لا بأس به. (٣)
* * *
إنّ هناك أحاديث وروايات تعرب عن أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يسجد على الطين والأرض في البرد القارص ، وكان يصلي في كساء يتقي به برد الأرض بيده ورجله دون جبهته ، وإليك ما يدلّ على ذلك.
١. عن وائل بن حجر رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله. (٤)
٢. عن ثابت بن صامت انّ رسول الله صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفف به يضع يديه عليه يقي برد الحصى. (٥)
__________________
١. فتح الباري : ١ / ٤١٤.
٢. الوسائل : ٣ ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١.
٣. الوسائل : ٣ ، الباب ٤ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ٢.
٤. السنن الكبرى : ٢ / ١٠٦.
٥. سنن ابن ماجة : ١ / ٣٢٩.
٣. عن أبي هريرة قال : سجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته. (١)
هذه الروايات ونظائرها تعرب عن عمل النبي في سجدته في يوم مطير والبرد وانّه كان يسجد تارة على الطين ولم يقي وجهه بشيء ، وأخرى وقى يديه من دون تعرض للوجه مع أنّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبي في اتقاء يديه بالكساء عن البرد والطين وتركهم ذكر الجبهة يكشف عن أنّه لم يبق وجهه بشيء وإلاّ لذكره الرواة ولم يغفلوا عنه.
* * *
سيرة الصحابة والتابعين في السجود
يظهر من غير واحد من الروايات انّ سيرة لفيف من الصحابة كانت جارية على السجود على الأرض.
١. عن أبي أميّة أنّ أبا بكر كان يسجد أو يصلّي على الأرض مفضيا إليها. (٢)
٢. عن أبي عبيدة انّ ابن مسعود لا يسجد ـ أو قال لا يصلّي ـ إلاّ على الأرض. (٣)
٣. كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود لا يرخص في السجود على غير الأرض حتّى في السفينة ، وكان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه. (٤)
__________________
١. مجمع الزوائد : ٢ / ١٢٦.
٢. المصنف لعبد الرزاق : ١ / ٣٩٧.
٣. المصنف : ١ / ٣٩٧.
٤. الطبقات الكبرى : ٦ / ٥٣ ، المصنف لعبد الرزاق : ٢ / ٥٨٣.
٤. كان إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي التابعي يقوم على البردي ويسجد على الأرض.
قال الراوي : قلنا ما البردي ، قال : الحصير. (١) وفي لفظ انّه كان يصلّي على الحصر ويسجد على الأرض.
٥. كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب ويسجد عليه. (٢)
٦. كان عروة بن الزبير يكره الصلاة على شيء دون الأرض. (٣)
٧. كتب علي بن عبد الله بن عباس إلى « زرين » ان ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد. (٤)
* * *
والحاصل انّ التذلل والخضوع في مقابل عظمة الله سبحانه يتحقّق بأفضل مجاليه بوضع الجبهة والأنف على التراب والطين ، قائلاً : أين التراب ورب الأرباب وأنّه والتراب سواسية ولا تجد ذلك في السجود على المصنوعات وللعلاّمة الأميني كلمة قيمة وإليك نصّها :
والأنسب بالسجدة التي إن هي إلاّ التصاغر والتذلّل تجاه عظمة المولى سبحانه وو جاه كبريائه ، أن تتخذ الأرض لديها مسجدا يعفّر المصلّي بها خدّه ويرغم أنفه لتذكّر السّاجد لله طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها وإليها
__________________
١. المصنف لعبد الرزاق : ١ / ٣٩٧.
٢. فتح الباري : ١ / ٤١٠.
٣. فتح الباري : ١ / ٤١٠.
٤. أخبار مكة للأزرقي.
يعود ومنها يعاد تارة أخرى حتّى يتّعظ بها ويكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتى له خضوع روحي وذلّ في الباطن وانحطاط في النفس واندفاع في الجوارح إلى العبودية وتقاعس عن الترفّع والأنانية ، ويكون على بصيرة من أنّ المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذلّ والمسكنة ليس إلاّ.
ولا توجد هذه الأسرار قطّ وقطّ في المنسوج من الصوف والديباج والحرير وأمثاله من وسائل الدّعة والراحة ممّا يري للإنسان عظمة في نفسه ، وحرمة وكرامة ومقاما لديه ويكون له ترفّعا وتجبرا واستعلاء وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع. (١)
__________________
١. سيرتنا وسنّتنا : ١٢٥ ـ ١٢٦.
المرحلة الثانية
الترخيص في السجود على الخُمُر والحُصر
ما مرّ من الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنها ، وإن صعب الأمر واشتدّ الحرّ ، لكنّ هناك نصوصا تعرب عن ترخيص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بإيحاء من الله سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهُل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الإصر والمشقّة في الحرّ والبرد ، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :
١. عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة. (١)
٢. عن ابن عباس : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة ، وفي لفظ : وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة. (٢)
٣. عن عائشة : كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة. (٣)
٤. عن أمّ سلمة : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة. (٤)
__________________
١. أخبار أصبهان : ٢ / ١٤١.
٢. مسند أحمد : ١ / ٢٦٩ ، ٣٠٣ ، ٣٠٩ و ٣٥٨.
٣. المصدر نفسه : ٦ / ١٧٩ وفيه أيضا قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.
٤. المصدر نفسه : ٣٠٢.
٥. عن ميمونة : ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة فيسجد. (١)
٦. عن أمّ سليم قالت : كان [ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ] يصلّي على الخمرة. (٢)
٧. عن عبد الله بن عمر : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمر. (٣)
وقد اعترض عليّ بعض المرشدين في المسجد الحرام لمّا رأى التزامي بالسجود على الحصير ، وسألني عن وجهه فقلت له : إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلّي على الحصير ، فقال : إنّ صلاة النبي على الحصر والبواري لا يلازم السجود عليهما إذ يمكن أن يصلّي على الحصير ويسجد على شيء آخر.
فقلت له : إنّ التفريق بين الأمرين لا يقبله الذوق السليم فان قوله : يصلّي على الحصير بمعنى انّه يصلّي عليه في عامة حالات الصلاة من القيام والركوع والسجود لا انّه يضع قدميه على الحصير أو ركبتيه ويديه عليه ويضع جبهته على شيء آخر.
على أنّ في لفيف من الروايات تصريحا بسجوده على الحصير.
١. روى أبو سعيد الخدري أنّه دخل على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : فرأيته يصلّي على حصير يسجد عليه. (٤)
٢. وعن أنس بن مالك قال :
« كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي على الخمرة ويسجد عليها ». (٥)
وفي ضوء الأحاديث المذكورة يتبين جواز السجود على الأرض والتراب وبعض ما ينبت من الأرض مثل الحصير المصنوع من خوص جريد النخل.
__________________
١. مسند أحمد : ٦ / ٣٣١ و ٣٣٥.
٢. المصدر نفسه : ٣٧٧.
٣. المصدر نفسه : ٢ / ٩٢ و ٩٨.
٤. صحيح مسلم : ٢ / ٦٢ ، دار الفكر ، بيروت.
٥. صحيح ابن خزيمة : ٢ / ١٠٥ ، المكتب الإسلامي ، ط ٢ ـ ١٤١٢ ه ، المعجم الأوسط : ٨ / ٣٤٨ ، المعجم الكبير : ١٢ / ٢٩٢.
المرحلة الثالثة
السجود على الثياب لعذر
قد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّرا عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء ، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى ، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع حرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، وإليك ما ورد في هذا المقام :
١. عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.
٢. وفي لفظ آخر : كنّا نصلّي مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.
٣. وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود. (١)
وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد تكشف عن حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في
__________________
١. صحيح البخاري : ١ / ١٠١ ؛ صحيح مسلم : ٢ / ١٠٩ ؛ مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ؛ السنن الكبرى : ٢ / ١٠٦.