أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي
المحقق: الدكتورة ابتسام مرهون الصفار
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٠
فصل
في التأني والعجلة
قال الله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ) (١) (جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) (٢).
قال بعض الحكماء :
ينبغي للوالي أن يتثبت (٣) في كل ما انتهى إليه ، ولا يعجل (٤) حتى ينظر (٥) الحال فيه ، ويأخذ بأدب سليمان عليه (السلام) (٦) إذ قال : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧).
وأنشد الأصمعي قول مروان بن أبي حفصة (٨) :
إليك قصرنا (١٠) النصف من صلواتنا |
|
مسيرة شهر بعد شهر نحاوله (٩) |
__________________
(١) في الأصل : (إذا).
(٢) الحجرات : ٦.
(٣) في الأصل : (يثبت).
(٤) في الأصل : (تعجل).
(٥) في الأصل : (تنظر).
(٦) زيادة ليست في الأصل.
(٧) النمل : ٢٧.
(٨) في الأصل : (مردان بن حفصة).
(٩) في الأصل : (قصدنا).
(١٠) في الأصل : (عد شهر يخاوله). وفي البيت إشارة إلى قصر الصلاة عن السفر ، والبيتان في مجموعة (مروان بن أبي حفصة وشعره) ص ٢٦.
ولسنا نخاف (٢) أن يخيب رجاؤنا |
|
لديك ، ولكن أحسن (١) البر عاجله |
ولما أنشد سديف بن ميمون السفّاح (٣) قصيدته التي يحرض بها على استئصال بني أمية ، ومنها (٤) :
لا يغرنّك ما ترى من رجال |
|
إن تحت الضلوع داء دويّا |
فضع السيف ، وارفع السوط حتى |
|
لا ترى فوق ظهرها أمويا (٥) |
قال : يا سديف (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (٦) ثم أمر بقتلهم.
ولأبي تمام قصيدة (٧) :
قد كان وعدك لي بحرا فصيّرني |
|
يوم (٨) الزماع إلى الضحضاح والوشل (٩) |
__________________
(١) في الأصل : (بخافل) وفي مجموع شعره : (ولا نحن نخشى).
(٢) في الأصل : (أهنا).
(٣) سديف بن ميمون قيل : إنه من موالي بني العباس ، شاعر وأديب كان في أيام الأمويين وعند قيام دولة العباسيين توجه نحوهم ، وحرضهم على بني أمية ، ثم إنه والى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن حين خرج على المنصور ، فقتل بأمر من المنصور. انظر : الأغاني ٤ / ٩٤.
(٤) الخبر والأبيات في طبقات الشعراء : ٤٠ ، الأغاني ج ٤ / ٩٤ وأولها :
يا بن عم النبي أنت ضياء |
|
استبنا بك اليقين الجليا |
(٥) روايته في الأغاني ج ٤ / ٩٤ :
جرّد السيف وارفع العفو حتى |
|
لا نرى فوق ظهرها أمويا |
(٦) الأنبياء : ٣٧.
(٧) البيتان من قصيدة له طويلة (ديوانه ص ١٨٨) مطلعها :
ما لي بعادية الأيام من قبل |
|
لم يثن كيد النوى كيدي ولا حيلي |
(٨) في الأصل : لوم. والزماع من زمعت بالأمر : إذا أقدمت ، ولم تثن ويريد به الفراق.
(٩) في الأصل : (الورشل) والضحضاح : الماء اليسير. والوشل : مثله.
وبيّن الله هذا في بريته |
|
في قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (١) |
وللسري الموصلي (٢) من قصيدة (٣) :
ما بال رسمي من جدوى يديك عفا |
|
فصار أوضح منه دارس الطل (٤) |
لقد تجاوزت بي وقتي وأي (٦) حيا |
|
في غير إبانه يشفى من الغلل (٥) |
وقد تمهلت شهرا بعده كملا |
|
وإنما (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (٧) |
قيل لأبي العيناء : لا تعجل (٨) إن العجلة من الشيطان.
قال (٩) : لو كانت من الشيطان لما قال كليم الرحمن : (عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِ) (١٠).
__________________
(١) الأنبياء : ٣٧.
(٢) هو أبو الحسن السري بن احمد الكندي الموصلي شاعر أديب كانت له مهاجاة مع الشاعرين الخالديين ، وقد آذاه الخالديان وسببا قطع رسمه من سيف الدولة. توفي نحو سنة ٣٦٠ ه معجم الأدباء ٤ / ٢٢٧ ـ ٢٢٩ ديوان المعاني ١ / ٣٢٣ ، ج ٢ / ١٧.
(٣) الأبيات من قصيدة يمدح بها يروخ التركي وقد قصده يستنجزه رسما كان له عليه ، وأول القصيدة :
حمى الأمير أمان الخائف الوجل |
|
وراحتاه حياة السهل والجبل |
(٤) قد حدث خطأ كبير في نسخ البيت في المخطوطة إذ كتب في الأصل (قد كان جدوى يدك عنى / فما أوضح منه دارس الطلل) وقد صوبناه من رواية الديوان.
(٥) الحيا : المطر.
(٦) إبانه : وقته ، الغلل : شدة العطش.
(٧) الأنبياء : ٣٧.
(٨) في الأصل : (لا يعجل).
(٩) في الأصل : (قالت).
(١٠) طه : ٨٤.
فصل
في الحب والبغض
قال الله تعالى في تراجع القلوب بعد تنافرها : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (١).
وقال جلّ ذكره : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (٢).
فصل
في الشباب والشيب
قال النبي صلىاللهعليهوسلم :
(أوصيكم (بالشباب) (٣) خيرا ، فإنه أرق (قلبا) (٤). إن الله بعثني بشيرا ونذيرا فحالفني الشباب ، وخالفني الشيوخ) ثم قرأ (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (٥).
وقال الصولي في كتاب فضل الشباب على الشيب الذي ألفه للمقتدر بالله (٦) :
__________________
(١) في الأصل : (غاديتم) والآية من سورة الممتحنة : ٧.
(٢) الأنفال : ٦٣.
(٣) في الأصل : (بالعينات).
(٤) في الأصل : (قده).
(٥) الحديد : ١٦.
(٦) في الأصل : (المقيدد) والصواب المقتدر.
إن السن لا تؤخر مؤخرا (١) ولا تؤخر مقدما ، بل ربما عدل بجليل الأمور ، ومهم الخطوب (الفتيان) (٢) لاستقبالهم إياها (٣) ، وسرعة حركاتهم ، وحدة أذهانهم ، وتيقّظ طباعهم ، ولأنهم (٤) على بناء المجد أحرص ، وإليه أحب وأحوج. وقد أخبر الله ـ عزوجل ـ عن يحيى بن زكريا عليهماالسلام (أنه منح) الحكمة في سن الصبى فقال : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٥) ، فلم يمنعه صغر سنه من أن أتاه الحكمة وأهّله لحملها والاستقلال بها بالكتاب والقوة.
قال ابن عباس في قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٦) قال :
أوتي الفهم والعبارة وهو ابن سبع سنين.
وقد ذكر الله تعالى الفتية في غير موضع من كتابه فقال : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) عددا (٧) وقال : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) (٨) ، وقال تعالى : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٩).
وقال المفسرون في قوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (١٠) قالوا : الشيب. ومن ذلك قال الحكماء : الشيب نذير المنية.
__________________
(١) في الأصل : (موجدا).
(٢) في الأصل : القيتان.
(٣) في الأصل : (لاستقبال أباهم) وهو تحريف في النسخ.
(٤) في الأصل : (ولا يهتم).
(٥) مريم : ١٢.
(٦) نفسها.
(٧) الكهف : ١٠.
(٨) نفسها : ١٣.
(٩) الأنبياء : ٦٠.
(١٠) فاطر : ٣٧.
وقال عدي بن زيد في الجاهلية :
وافتضاض السّواد من نذر الشيب |
|
وما بعده لحي نذير |
فصل
في ذكر القلة والكثرة
قال بعض العلماء :
الكثرة ليست مما وجد في كتاب الله تعالى ، وإنما الممدوحون هم الأقلون ، لأنا سمعنا الله يثني على أهل القلة ، ويمدحهم ، ويذم أهل الكثرة ، حيث يقول : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (١).
وقال : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (٢). (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣).
وقال تعالى في ذم أهل الكثرة : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (٤).
وقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥).
__________________
(١) البقرة : ٨٣.
(٢) المائدة : ١٣.
(٣) سبأ : ١٣.
(٤) البقرة : ١٠٩.
(٥) نفسها : ١٠٠.
وقال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (١).
وقال : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٢) (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٣).
وقال : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (٤).
فصل
في الأعداد
روي (٥) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول :
ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث ، والمكر ، قال الله تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٦) وقال تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (٧) وقال :
(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٨).
وقال غيره :
__________________
(١) نفسها ٢ / ٢٤٣.
(٢) المائدة : ١٠٣.
(٣) الأعراف : ١٧.
(٤) نفسها : ١٠٢.
(٥) الخبر في التمثيل والمحاضرة : ٤٧٣ ، وفي الأصل ثلاث مرات.
(٦) يونس : ٢٣.
(٧) الفتح : ١٠ وفي الأصل : (وممن).
(٨) فاطر : ٤٣.
ثلاث من صانهن الله فلا خوف عليه (١) : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٣) ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٤).
وعن جعفر بن محمد رضي الله عنهما :
عجبت لأربعة يغفلون (٥) عن أربعة :
عجبت لمن يبتلى بالغم كيف يذهب عنه أن يقول : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦). والله تعالى يقول : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٧).
وعجبت لمن يخاف العدو ، وكيف لا يقول : حسبي الله ونعم الوكيل (٨) والله يقول : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (٩).
__________________
(١) في الأصل : (خلف عليهن).
(٢) التوبة : ١٢٠.
(٣) يوسف : ٥٢.
(٤) يونس : ٨١.
(٥) في الأصل : (يعقلون).
(٦) الأنبياء : ٨٧.
(٧) نفسها : ٨٨.
(٨) من قوله تعالى في سورة آل عمران : ١٧٣ (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
(٩) آل عمران : ١٧٤.
وعجبت لمن كابد العدو ، وكيف لا يقول : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١) والله يقول : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) (٢).
وعجبت لمن يستحسن شيئا ، ويتمناه كيف لا يقول : (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) (٣).
وعنه رضي الله عنه : أربعة لا تستجاب دعواهم :
رجل جالس في بيته ، فاتح فاه ، يقول : يا رب ارزقني ، فيقول الله : ألم آمرك بالطلب ، ألم تسمع قولي : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (٤).
ورجل له امرأة مؤذية يقول : يا رب خلصني منها فيقول له : ألم أجعل أمرها بيدك.
ورجل كان له مال فأتلفه (٥) إسرافا ، ثم جعل يقول : يا رب اخلف عليّ. فيقول : ألم تسمع قولي : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦).
ورجل دفع مالا إلى رجل بغير بيّنة (٧) ، ثم طالبه ، فأنكر. فجعل يقول : يا ربّ ، أنصفني منه ، فيقول له : ألم آمرك بالشهادة ، ألم تسمع قولي : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (٨).
__________________
(١) غافر : ٤٤.
(٢) نفسها : ٤٥.
(٣) الكهف : ٣٩ ، ٤٠.
(٤) الجمعة : ١٠.
(٥) في الأصل : فابله).
(٦) الفرقان : ٦٧.
(٧) في الأصل : يعبر بينه).
(٨) البقرة : ٢٨٢.
وكان سفيان يقول :
أربع لا حساب عليهن فيهن : سدّ الجوع (١) ، وردّ العطش (٢) ، وستر العورة ، والاستكنان من البرد والحر.
قال بعض العلماء :
الأرزاق ثلاثة : رزق معلوم ، ورزق مقسوم ، ورزق مضمون.
فالمعلوم قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٣).
والمقسوم قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤).
والمضمون قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٥).
__________________
(١) في الأصل : (الجوعة).
(٢) في الأصل : (الطعشة).
(٣) الحجر : ٢١.
(٤) الزخرف : ٣٢.
(٥) الذاريات : ٢٢ ، ٢٣.