الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩٦

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٩٩).

أو لم يكن لحد الآن ذاهبا إلى ربه وقد (جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؟ إن لذهابه هذا طرفا أوّل يتكفل السلب : «لا إله» وكما جعلهم جذاذا ، وطرف ثان هو الإثبات «إلا الله» وقد فرغ من «لا إله» تقدمة الذهاب إلى ربه ، ثم وأصل سيره إلى الإثبات «إلا الله» وقد تعنيه (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ...) يقوله أمام جماهير المشركين الأسفلين بحجته الحاضرة الحاذرة الخارقة (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ف ـ «ذهابه إلى ربه بوجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل» (١)

إنها هجرة في المكانة قبل المكان ، يترك فيها أباه وقومه وأهله ووطنه وكل أواصر القرابة ، هجرة كاملة من حال إلى حال ، ومن كافة الأواصر التي قد تربطه بنفسها ، تعبيرا عن كامل التجرد والإخلاص والاستسلام لربه.

أو لم يكن مهديا لحد الآن حتى «سيهدين»؟ للهدى مراتب فوق بعض ، وكما تطلب دائبا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أم ولأنه تكملة لحجاجه أن الله هداه إلى أن «لا إله» ثم يهديه إلى «إلا الله» وثالثه هدى الدعوة في فسحتها ، وبأعوانها كإسماعيل وإسحاق قرتي عينيه ، وهي تتمثل في بلائه بإسماعيل كأعلى قمة : وقد يعطف قوله (إِنِّي ذاهِبٌ ...) بما وعد آزر

__________________

ـ فأخذ عنق من النار سخره حتى أحرقه قال ، فأمن له لوط فخرج مهاجرا الى الشام هو وسارة ولوط.

(١) المصدر ٤١٩ ح ٦٤ في كتاب التوحيد عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه ...

١٨١

وموازريه في الشرك : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (١٩ : ٤٨) فهنا يدعو ربه :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١).

هنا إبراهيم الوحيد وقد ذرف الثمانين بلا عقب يخلفه يستوهب ولدا من الصالحين ، فيبشّر ببكر ولده إسماعيل غلام حليم ، ومن ثم يثنّيه بإسحاق نبيا من الصالحين ، وقد يجاوب هذا الترتيب نص التوراة كما في التكوين ١٦ : ١٥ ـ ١٦ : «فولدت هاجر لإبراهيم ابنا. ودعا إبراهيم اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل ،» وفيه ١٧ : ١٥ ـ ١٦ «وقال الله لإبراهيم ساراى امراتك لا تدعو اسمها ساراى بل اسمها سارة ، وأباركها وأعطيك ايضا منها ابنا ...».

هنا يوصف إسماعيل بكر إبراهيم (بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وفي غيرها (صادِقَ الْوَعْدِ) وهو فيهما منقطع النظير في سائر القرآن : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١٩ : ٥٤) وقد يثنّى بحلمه أبوه إبراهيم : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٩ : ١١٤) (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(١١ : ٧٥).

وليس اختصاص «حليم» بهما في ساير القرآن إلّا لما برز من حلمهما القمة في ذبح إسماعيل مهما بطن لساير النبيين ، إذ لم يوقف أحد موقفه البلاء المبين :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١٠٢).

إسماعيل بكر ولده ، رسول نبي صادق الوعد حليم ، والوالد يذرف التسعين وقد لا يولد له غيره ، أم إذا ولد قد يغايره ، وقد بلغ معه

١٨٢

السعي في حاجيات الحياة معنوية ومادية بما سعى له فيهما ودرّبه ، فهو في لمعان الكمال ونوسان الاستكمال ، يؤمر بذبحه لا لشيء منهما يستحقانه حتى يوجّه ذبحه بوجه ظاهر (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)!

والرواية القائلة أن الذبيح هو إسحاق إسرائيلية تخالف نص القرآن إذ يبشره بإسحاق بعد قصة إسماعيل (١).

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) تنادى بمعية السعى حتى بلغ ، وبمعيته لإبراهيم كما سعى في دعوته ، فليس ـ فقط ـ أنه بلغ السعى لحاجياته الشخصية مهما كانت شاخصة ذات أهمية ، بل ومع إبراهيم في (ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) وهو لما عمل مثل عمله» (٢)

__________________

(١) اختلاف الروايات من الفريقين في «من هو الذبيح إسماعيل ام إسحاق» تقطعه الآيات حيث البشارة بإسحاق تاتي بعد قصة الذبيح بكاملها ، وهذه من الهرطقات الاسرائيلية ان إسحاق هو الذبيح لينحّوا فضلا عن إسماعيل الى إسحاق ، كما روى ابن بابويه باسناده عن داود بن كثير الرقي قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) أيهما اكبر إسماعيل او إسحاق وأيهما كان الذبيح؟ فقال (عليه السلام) : إسماعيل كان اكبر من إسحاق بخمس سنين وكان الذبيح إسماعيل وكان مكة منزل إسماعيل وإنما أراد ابراهيم ان يذبح إسماعيل ايام الموسم بمنى ... اما تسمع لقول إبراهيم حيث يقول : رب هب لي من الصالحين ، انما سأل الله عز وجل ان يرزقه غلاما من الصالحين وقال في سورة الصافات : فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل من هاجر قال ففدى إسماعيل بكبش عظيم فقال ابو عبد الله (عليه السلام) (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق فمن زعم ان إسحاق اكبر من إسماعيل وان الذبيح إسحاق فقد كذب بما انزل الله عز وجل في القرآن من نبإهما(تفسير البرهان ٤ : ٣٠ ح ٥).

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤١٩ ح ٦٧ في عيون الاخبار عن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه قال سالت أبا الحسن على بن موسى الرضا (عليه السلام) عن معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : انا ابن الذبيحين؟ قال : يعني إسماعيل بن ابراهيم ـ

١٨٣

ومن بلوغه معه السعى أن سعى معه بين الصفا والمروة بعد ما طافا البيت «فلما صارا في السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ...»

فقد بلغ معه السعي ولمّا يتم الرحلة إلى ربه والدعوة المتناصرة إلى دينه ، ولمّا يولد له (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومون (عليهم السلام) وقد استجيب في هذه الدعاء كما يتوافق له النصّان من التوراة ومن القرآن : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ..) (٢ : ١٢٩). (١)

ونص الاستجابة حسب الأصل العبراني في التوراة كالتالي :

«وليشمعيل شمعتينحا هينه برختي أوتو وهيفرتي اوتو وهيربتي أوتو بمئد مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ونتتيو لغوى غادل» (تكوين المخلوقات ١٧ : ٢٠) ـ :

«ولإسماعيل سمعته (ابراهيم) ها أنا أباركه كثيرا ، وأنميه كثيرا ، وأثمره كثيرا ، وأرفع مقامة كثيرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واثني عشر إماما يلدهم (إسماعيل) وأجعله أمة كبيرة» (٢).

__________________

ـ الخليل (عليه السلام) وعبد الله بن عبد المطلب ، اما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله تعالى به ابراهيم (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) وهو لما عمل مثل عمله ...

(١) المصدر ٤٢١ ح ٧٥٦ المجمع وروى العياشي باسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) كم كان بين بشارة ابراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق ... الى ان قال (عليه السلام) فلما رفع قواعده خرج الى منى حاجا وقضى نسكه بمنى ورجع الى مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم انطلق فلما صارا في السعى قال ...

(٢) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ص ٤٠ ـ ٤٣ تجد تفصيل هذه البشارة.

١٨٤

بعد هذه وتلك يؤمر الخليل بذبح إسماعيل وليس ذبحا واحدا ، إلّا وحيدا يجمع في جنباته ذبحات عدة أعلاها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته ، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا ابن الذبيحين!

إذا فتسليمهما لهكذا ذبح دونما سؤال علّة ولا خطرة ببال ، إنه القمة العليا من التسليم و (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)!

لو أمر إبراهيم أن ينتحر كان عليه أسهل من نحر إسماعيل ، فقد أمر بذبح من يفوقه في الكيان بحب الهيمان ، وأنه جد الرسول محمد وعترته ، وقد بلغ معه السعي ووصل إلى ذلك السعي بمساع الهجرة الهاجرة بواد غير ذي زرع : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) (١٤ : ٣٧) ف ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)!وبالروعة الإيمان والطاعة والتسليم!

(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ...).

«إني أرى» تلمح لتكرار الرؤيا وتأكدها «في المنام» ورؤيا الأنبياء وحي (١) دونما ريب ، فلما ذا يتروّى في تحقيقها بعد الرؤيا الأولى ، ويستنظر ابنه فيها ، والوحي منذ نزوله ماض لوقته المقرر ، صارم للموحى إليه؟

إنه ما راى في الرؤيا صيغة الأمر بالذبح حتى يمضي فيه دون ترو ، وإنما (أَنِّي أَذْبَحُكَ) دون «أمرت بذبحك» ورؤية الفعل لا تدل على الأمر وإنما تلمح لوقوعه ، وفي الثانية تقوى هذه اللمحة ، وفي الثالثة

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٨١ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

١٨٥

توصل لحد الأمر (١) فان أفعال الأنبياء خيرات تفعل بالوحي (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) سواء أكانت في المنام أو اليقظة ، ولأن ما في المنام صورة عن الواقع في اليقظة ، فليحقق إذا في اليقظة سماحا أو رجحانا أم فرضا ، وما لمح لإبراهيم بفرض الذبح المترائى إلّا في رؤياه الأخيرة فقال (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).

... وقد تعني «أرى» رؤيا واحدة متأكدة دون تكرار ، وفي تبديل الماضي «رأيت» بالمستقبل «أرى» لمحة إلى أنه عاش رؤياه ذاكرا لها دون نسيان ، وأن مفاد رؤياه باق إلى الحال وحتى يتحقق عمليا ، ففي الماضي مجال التحول نسخا في الحال!

ولأن ذلك الأمر كان بلاء مبينا لهما ، لا ـ فقط ـ لإبراهيم ، فليعرض على الذبيح كما عرض على الذابح ، ولكي يسلم كما أسلم الذابح ، دونما مفاجئة عليه فيما رآه! فلا يأخذه على غفلة وغرّة تنفيذا لما رأى ، بل تحضيرا له لكي يرى ما رأى ولينال هو الأخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ، فإنه يحبّ لابنه ما يحبه لنفسه! و (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)!

ففي رؤياه تلك بلاء ، وفي عرضها على ابنه بلاء ثان ، وفي تحقيقها بعد عرض ثالثة البلاء ، فهي تفوق كل بلاء ابتلي بها إبراهيم طول حياته ، ولأنها التالية لبلاء أبيه آزر وقومه ، وبلاء النار وساير

__________________

(١) الفخر الرازي في تفسيره الكبير ٢٦ : ١٥٣ وروى من طريق آخر انه راى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول ان الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح الى الرواح أمن الله هذا الحلم ام من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما امسى رأى مثل ذلك فعرف انه من الله فسمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول اهل التفسير ... أقول من المحتمل صدقه إلا في شكه ام من الشيطان ، وكما ذكرناه في المتن.

١٨٦

البلاء (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ...) (٢ : ١٢٤) وتلك هي الكلمات العينية الدالات على قمة التسليم لرب العالمين! دون اللفظية التي يلفظها كل إنسان أيا كان وأيان!

(إِنِّي أَرى ... فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

(إِنِّي أَرى) رؤيا أنا أراها صادقة وأرى تحقيقها دون تروّ ومهلة ، زوايا ثلاث من الرؤية «فانظر» نظر العقل والبصيرة «ماذا ترى» فيما أرى بكل تروّ ومهلة! مشاورة ما أورعها وأروعها لتحقيق أمر هو بظاهره إمر ، لكنه لا مرد عنه ولا محيد ولتجري سنة المشاورة حتى فيما لا محيص عنه لغرض التمحيص ، وكما يؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إبلاغا مبلغك في الأمر ، لا تبلّغا بهم إلى أمر ثابت بالوحي ، حيث المشاورة تعم التناصر علميا وعمليا في أمر ، كالمعتاد منها ، أم ليستفيد المشير فيما يستشير فكذلك الأمر ، أم ليفيد المشير مستشيره أمن ذا تمحيصا له وتدريبا يبلّغه مبلغه ، وهكذا كانت مشاورة الرسول محمد وإبراهيم الخليل!

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

كأنها كانت نظرة حاضرة دونما حاجة الى تأملة وفكرة ، حيث بلغ معه السعى فارتقى في سعيه إلى القمة التي ارتقى إليها إبراهيم من قبل ، فتجاوبا في ذلك البلاء المبين (... أَنِّي أَذْبَحُكَ ... افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) وهنا «ما تؤمر» عبارة أخرى تفسيرا ل ـ (إِنِّي أَرى ...) فقد كان أمرا عمليا دونما لفظة ، ووحيا إليه من فعل الخيرات يراه الذبيح فكيف لا يراه الذابح؟!

ولكنه بحاجة إلى صبر خارق وتسليم فائق ليس في طوق الإنسان أيا كان ، ولكنك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ) مشية التكوين التوفيق بعد مشيئة

١٨٧

التشريع «من الصابرين» أمام أمرك! وفي تحويل «صابرا» عن خاصة نفسه إلى «الصابرين*» حيث تشمله وسواه ، تحوّل من الأنانية بالتفرد ، إلى جمعيته الرحمة ، وتلميح أديب توصية إلى أبيه بالتصبر كما هو يصبر وأين صبر من صبر!

هنا لا تأخذه بطولة ولا شجاعة واعتماد على همة ولا يرى لنفسه حولا ولا قوة إلّا بالله ، ويا للأدب الرائع ونبل الإيمان وجزالة التسليم ، وإلى المذبح بكل طوع وتعظيم :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١٠٥).

أو لم يسلما لحد الآن؟ ومن قبل كانا مسلمين بكل مراتبه! أجل ولكنه حاضر التسليم عمليا ، بعد تحضيره نظريا ، وأين القول من النظر؟ وأين النظر من العمل؟ «تقولون في المجالس كيت وكيت فإذا جاء الجهاد فحيدي حياد»!

(فَلَمَّا أَسْلَما) ثم ماذا؟ «وتله» صرعه «للجين» ثم ماذا؟ لا نجد بين إسلامهما وتلّه هنا حديثا ، وهو مطوي يعرفه بطبيعة الحال كل عارف بالموقف والحال ، ولا نجد ل ـ «فلما ...» جوابا ، وقد طوي عنه لأنه مدهش دون حدّ ، وموحش لأي أحد. وها هنا كل إخلاص وإسلام ، هنا كل إسلام وتلّ ، واستسلام على التّلّ ، إسلام التل وتلّ الإسلام في أرفع قمة من القلل ، إسلام لا يفوقه إسلام.

إنه ليس هو الشجاعة والجرأة ولا اندفاعة وحماسة في الميدان ، يقتل فيه المجاهد أو يقتل ، ولكنه لا يقتل نفسه ، بل أنفس من نفسه :

١٨٨

إسماعيله ، وميدان التل في منى إبراهيم عند جمرة العقبة (١) لا مثيل له في أي ميدان.

علّه قال لأبيه بين إسلامه وتلّه : «لا تذبحني وأنت ناظر إلى وجهي فترحمني فلا تجهز علي ، يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب فتضرب عني ، واكفف عني ثيابك كيلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، أسرع مر السكين على حلقي بقوة ...» فهذه وتلك أحاديث تروى وليس هنا إلّا (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ).

إنه ما تلّه على القفا مهما كان أبعد عن الانعطاف ، وإنما «للجبين» كما يفعل بالذبائح كلها ، فأفضل الأعمال أحمزها.

(أَسْلَما وَتَلَّهُ) ولمّا يحقق فعله ، رغم ما كمّل ما لديه فلم يبق إلّا عمل المدية الواردة على عنقه ، إذا بخطاب النسخ لما أمر؟ فإنه يجوز حين العمل ولمّا يتم إذا كان أمر الابتلاء لا أمر العمل ، فقد نسخ أمر الذبح ولمّا يعمل :

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١٠٥).

ومن تصديقه الرؤيا (أَنِّي أَذْبَحُكَ) نعرف أنه اشتغل بذبحه ، ولكنما المدية وقعت بين أمر الخليل ونهي الجليل : «الخليل يأمرني والجليل ينهاني» صورة ثانية عن خرق العادة ، ف (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٨٠ ـ اخرج احمد عن ابن عباس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ان جبرئيل ذهب بإبراهيم الى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ ثم أتى به الى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع فساخ فلما أراد ...

١٨٩

امر من الجليل خلاف كل التآمرات على الخليل ولينجوا في معركة صاخبة بين الحق والباطل ، و (صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) هنا نهي من الجليل تخليصا ثانيا للخليل هو أنبل وأعلى من خلاصه الأوّل ، وفي الخلاصين له إخلاص ، وأين خلاص من خلاص وإخلاص من إخلاص؟.

ماذا يدريك أمورا حصلت بين (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) إنها فوق المواصفة والإدراك ولذلك يطوى عنه إلى أمر الخلاص (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لم يكن القصد من أمر الذبح قتل البريء ، وإنما ظهور مدى الإخلاص وقد ظهر بأعلاه ، حيث تم الابتلاء وطمّ ، ولم يعد يبقى إلّا الجسد الذبيح والدم المسفوح ولم يكن بنفسه مقصودا ، وإنما بالإخلاص في تحقيقه وقد حصل :

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

لقد جدت يا إبراهيم بكل ما تملكه وفوقه ، وجدت بإسماعيلك وهو أعز من نفسك وكل نفيسك ، بكل هدوء وطمأنينة ، فلم يبق هناك إلّا اللحم والدم ، وهما ينوب عنهما أي ذبح من لحم ودم هو رمز للفداء ، وغذاء للفقراء.

لقد كانت هنا مشيئتان ، ظاهرة بالذبح كما أمر الله تشريعا في ابتلاء ، وباطنة ألّا يذبح تكوينا جزاء البلاء للمحسنين ، فقد «أمر ابراهيم بذبح ابنه إسماعيل وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشاء أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله ...» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٢٠ ح ٧٢ في كتاب التوحيد باسناده الى فتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) حديث طويل وفيه يقول يا فتح ان لله ـ

١٩٠

أترى هناك تورية في أمر الله؟ والله لا يورّي ، ولا يقول أمره ونهيه إلّا صراحا! كلّا إن الله لا يوّري.

وإنما يمكر الماكرين عن قوة ، وليس منهم إبراهيم ، ولم يكن امره إلّا صورة الذبح (أَنِّي أَذْبَحُكَ) وقد حصلت تلك الصورة ، فليس للمكلف إلا فعل ما يؤمر كما يستطيع ، وقد فعل إبراهيم كما يستطيع (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فلم تكن هناك أية تورية!.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(١٠٦)

بلاء يبين مدى تسليم المبتلى ، ويبين أن ابراهيم تحقّ له الإمامة الكبرى ، حيث أتم به كلمات حمّل لتدليلها على معانيها ، التي تتوحد في غاية التسليم لرب العالمين :

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(١٠٨).

الذبح كسرا مصدر وفتحا هو المذبوح ، أترى بعد أن «ذبح عظيم» هو المذبوح كبشا نازلا من الجنة رعى أربعين خريفا فيها؟ (١) وهو ذبح

__________________

ـ إرادتين ومشيتين ، إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ذلك ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن ان يأكلا من الشجرة وهو يشاء ذلك ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو اكلا لغلبت مشيتهما مشية الله وامر ابراهيم ...

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٨٤ ـ اخرج البخاري في تاريخه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : هبط الكبش الذي فدى ابن ابراهيم من هذه الخيبة على يسار الجمرة الوسطى ، وفيه اخرج البغوي عن عطاء بن السائب قال كنت قاعدا بالمنحر مع رجل من قريش فحدثني القرشي قال حدثني أبي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له ان الكبش الذي نزل على ابراهيم في هذا المكان.

وفي نور الثقلين ٤ : ٤٢٩ ح ٩٣ المجمع عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن كبش ابراهيم (عليه السلام) ما كان لونه؟ قال : أملح أقرن ـ

١٩١

وليس ذبحا ، ثم وليس عظيما وجاه المفدى له مهما كان عظيما لأنه عطية الرب من الجنة ، فأين إسماعيل الذبيح وأين هذا الكبش أيا كان من كبش التأريخ؟ ثم وليس لزام «ذبح عظيم» وحدته ، خلاف «ذبح عظيم» حيث تشي إلى وحدته! ...

ولأن ذلك الكبش لم يكن هو ـ فقط ـ العظيم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخمر قرناه المعلقين على الكعبة المشرفة (١)!.

أم انه ذبح الذبيح العطشان الإمام الحسين عليه آلاف التحية والسلام؟ وهو أعظم من إسماعيل فكيف يفدى به لمن هو أدنى منه! ثم الذابح للحسين ليس هو الله ولا كان بأمر الله ، فكيف إذا (فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)؟!.

قد يعني (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) سنة الذبح يوم الأضحى ، فرضا للحاج في منى ، ونفلا لغيره في غيرها ، بادئة من ذلك الكبش وإلى كل ذبح في منى إلى يوم الدين ، ولا تنافيه الروايات القائلة أنه ذلك الكبش ، حيث بدأت به سنة الأضحى.

إن في تقديم الأضاحي يوم الأضحى ، وهو مما ترك على إبراهيم في الآخرين ، فيه رموز عدة كل واحدة في حدها عظيمة ، فهو ذبح عظيم في

__________________

ـ ونزل من السماء على الجبل الأيمن من مسجد منى بجبال الجمرة الوسطى وكان يمشي في سواد ويأكل في سواد وينظر في سواد ويعبر في سواد ويبول في سواد.

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٨٤ ـ اخرج سعيد بن منصور واحمد والبيهقي في سننه عن امراة من بني سليم قالت أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى عثمان بن طلحة فسألت عثمان لما دعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال قال (صلى الله عليه وآله وسلم) اني كنت رأيت قرني الكبش حينما دخلت الكعبة فنسيت ان أمرك ان تخمرهما فخمرهما فانه لا ينبغي ان يكون في البيت شيء يشغل المصلين.

١٩٢

نفسه وفي مغزاه ، في جسمه وفي معناه ، يفدى به إسماعيل العظيم ، فهو أمثولة أولى للتضحية والفداء ، والأضاحي كلها أمثاله إلّا في اللحم والدم!

إن مناسك الحج كلها رموز ، ويبدأ قسم منها من قصة إبراهيم في ذبح إسماعيل كرمي الجمرات والأضاحي في منحر منى

ابراهيم يرمي الشيطان المتمثل في صورة شيخ هرم عند الجمار الثلاث في كلّ بسبع حصيات ، حيث كان يعترضه ناصحا لكي يهدم صرح عزمه في تضحيته ، والسبع رمز إلى شيطنات سبع ، والثلاث إلى شياطين ثلاثة.

الحاج يبدأ في مناسكه بإحرامه من مكة المكرمة ، ثم إلى عرفات ليستحكم معرفيّات مستجدّا لها ، مستعرضا إياها في زواياها الثلاث نفسا وخلقا آخرين وخالقا ، ثم إلى المشعر الحرام ، غربلة دقيقة لما استعرفه في عرفات ، وليستخلص سمينها عن غثها ، شعورا أدق من عرفات ، ومن ثم إلى منى ليطبق مناه في كلا النفي والإثبات : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) طردا ودحرا للشيطان بمختلف شيطناته برمز رمي الجمرات ، وإثباتا للرحمن برمز التضحية والفداء ، ونقصا عن نفسه بحلق أو تقصير خلاصا عن نفسياته وإنياته ، وإخلاصا لله ، تهيئة لها وتعبيدا لطريقها إلى طواف وسعي أماذا.

فلما يرجع من جبهة العقبة وقد رمى الشيطان الأكبر ، ينحو نحو المنحر ليقدم أضحيته ، وكما فعله إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام ، وفيها زوايا ثلاث لكلّ أهميتها وعظمها ، فهي إذا «ذبح عظيم».

فالزاوية الأولى منها رمز التفدية للنفس في الله ، أنني يا رب ـ وبعد نفي الشيطان ـ حضّرت نفسي للفداء في سبيلك وبأمرك ، ولأن الانتحار محرّم في شرعتك ، أقدّم بديلا عني فداء الأضحية : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) هدية

١٩٣

ترمز إلى الفداء والتضحية : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ...) (٢٢ : ٣٧) ومن ذلك أنها تشعر بذلك الرمز.

والثانية رؤية سيول الدماء والأشلاء حتى لا يهابها في سبيل الله دفاعا وجهادا أن يقتل أو يقتل ، فإن لمعرض الدماء والأشلاء تأثيرا عميقا في استقبال المعارك الدموية في سبيل الله ، وهذه ثانية الشعائر.

والثالثة أنها معرض عريض لإطعام الجياع : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٢٢ : ٣٧) (... لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٢ : ٣١).

ففي الهدي هدى معنوية في بعدين (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ...) وهدى اقتصادية في بعد واحد هو الركن الركين في ظاهر الأمر ، المأمور بها في آيات الهدى : إطعام البائس الفقير ، القانع والمعتر (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) فإنها تنال الفقراء (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) رمز الفداء وألّا يهاب الدماء والأشلاء!

هكذا تصبح الأضاحي قياما للناس بسائر الشعائر والمناسك ، وكما قام الخليل (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ...) (٥ : ٩٧)

وهكذا (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) لو أن المسلمين ذبحوا كما يجب قياما لهم في جنبات روحية واقتصادية ، لا أن يهدروا أتلال اللحوم تعفّن جو

١٩٤

العبادة فتحرق او تدفن والفقراء الجياع لا ينالهم منها إلّا قليل لا يعبأ به (١)

هكذا (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٠٨)

تركا لذكر إبراهيم وذكراه في التضحية والفداء ، لحد أصبح تقديم الضحية من فروض الحج في منى ، كما وأن إبراهيم شيخ الأنبياء يذكر بمناسبات هامة رسالية في كتابات الأنبياء وفي كل حياتهم :

(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١١٠).

«سلام» من الله (عَلى إِبْراهِيمَ) وسلام من المتروك عليه من أهل الله (عَلى إِبْراهِيمَ) سلاما عليه قولا ، وتسليما له فعلا ، وكل سلام من أهل السلام ما بقي الدهر (عَلى إِبْراهِيمَ) و (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) طول الحياة في هذه الأدنى وفي الآخرة إلى دار السلام.

وتلك بشارة أولى لإبراهيم بإسماعيل غلام حليم حيث بلغ معه السعي وحلم في البلاء المبين ومن ثم ثانية :

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣).

فبشارته بإسحاق ثانيتهما ، وبعد أن ولد إسماعيل وترعرع وبلغ معه السعي وتذبّح ، وقد تتطلب هذه لأقل تقدير ثلاثة عشر من السنين ، فهناك غلام حليم ما أحلمه لإسماعيل ، وهنا نبيا من الصالحين لإسحاق ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) : إسماعيل وإسحاق (مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) ومن أحسن المحسنين من ذرية إسماعيل محمد وعترته المعصومون ، ومن أظلم

__________________

(١) لقد فصلنا القول حول حكم الاضاحي في منى بعدا عن كل إسراف وتبذير في كتابنا (اسرار ـ مناسك وادلة حج) باللغة الفارسية فراجع ، وكذلك في سورة الحج.

١٩٥

الظالمين من ذرية إسحاق الصهاينة المجرمون ، وإلى عرض موجز عن جموع من النبيين :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي

١٩٦

الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

هنا منن ربانية على موسى وهارون ، ابتداء بسلب هو دوما يتقدم الإيجاب (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو فرعون وملأه إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم!

١٩٧

ثم إيجاب في مربع من المنة : (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) نصرة بالحجة منذ الدعوة ، وأخرى في خوض اللجة حيث أغرق فيها فرعون وملأه ـ ثم.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) (١٧) نصرة بعد نصرة ، والكتاب هو التوراة ، أوتيته موسى أصلا ، وهارون فرعا ، وهو المستبين حيث يستبين في هذه الرسالة السامية ما تتطلبها دعوة للأمة إلى صراط مستقيم كما :

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١٨) صراط العصمة العبودية والرسالية وصراط الدعوة الصارخة الصارمة ، لحد :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ)(١١٩) وعلّه مخمّس المنة ولا سيما الضلع الأخير : الصراط المستقيم ، ف :

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) سلام معهم وسلام في الآخرين الذين هم استمرارية لسلامهم (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٢١) الذين يحسنون الدعوة إلى الله والدعاية لله (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢)

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣) وقد تضاربت الأخبار والأقوال حول : من هو إلياس ، والمتقن هو أن إلياس هو إلياس ، فلا تهمنا أسماء تختلف عن النص أو تخالفه ، ومحطة رسالته هي الإنذار : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤) الله ، وبأس الله ، وأيام الله؟.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ)(١٢٥) وبعل هي أحد الأوثان المعروفة ، وكأنها كبير الآلهة عندهم ، وكيف تذرون دعوة أحسن الخالقين وبعل من مخلوقيه دون الأحسن ، وأنتم أحسن المخلوقين (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وهو (اللهَ رَبَّكُمْ) فضلا عن بعل (وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الذين كانوا يدعون بعلا ، فالعبّاد والمعبودون دون الله والآباء القدامى كلهم من

١٩٨

خلقه ، ثم يعبد خلق من خلقه وهو في أحسن تقويم ـ يعبد بعلا وهو في أدون تقويم ، لأنه جماد فهو أدنى من نبات هو أدنى من حيوان هو أدنى من جان هو أدنى من إنسان ، فما هذه الدنائة في الدعوة (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ)؟.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٢٧) هم كلهم ، من المكذبين وسواهم ، إحضارا للحساب ، فإلى ثواب أو عقاب ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٢٨) إذ لا سؤال عنهم يوم السؤال ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ).

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(١٢٩) دعوته ورسالته ، حيث المرسلون ـ تلو بعضهم لصق بعض ـ يتناصرون في الدعوة الرسالية دون خمول ولا فتور.

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢).

ترى من هو «ال ياسين» دون مدّ كما في بعض القراآت وهي المثبتة في القرآن؟ ومن هو «آل ياسين» مدا كما في قراءة آخرين؟ (١)

فهل هو «إلياس (٢)» السابق ذكره ، وكما يقتضيه الترتيب في إبراهيم وموسى وهارون؟ فلما ذا ـ إذا ـ «إل ياسين» دون إلياس المذكور قبله وفي الأنعام : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٥)! ولماذا بعد الفصل بين «إل وياسين»؟

__________________

(١) المد هو قراءة نافع وابن عامر ويعقوب وزيد بن علي وابن عباس وعمر بن الخطاب والكسر قراءة آخرين.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢١٦ ـ اخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : هو الياس.

١٩٩

أم هو المخفف عن «إلياسيين» فيعني به إلياس وآله وأتباعه من المؤمنين؟ والصحيح ـ إذا ـ هو الشدّ دون تخفيف صونا عن أي التباس! وكيف يختص إلياس بهذه الكرامة الشاملة دون إبراهيم وموسى وهارون وهم أفضل منه وأنبل؟!

ولماذا الفصل ـ إذا ـ بين «إل» و «ياسين»! وهكذا الأمر لو كان هو نبيا غير إلياس لا نعرفه في سائر القرآن! وإذ لا مجال فيما نعرف ل «إل ياسين» فهو هو «آل ياسين»؟

ترى أنه بعد «إلياس» لأنه ابن ياسين؟ ولا نجد في سائر القرآن نبيا ينسب إلى أبيه أيا كان ، فإن نسبة النبوة تغنيه عن أية نسبة! ثم وصحيح النسبة «ابن ياسين» أو «الياس بن ياسين» ، وأن يذكر أولا بنسبته ثم تثنى.

أم إنه آل محمد ، فإن ياسين من أسماءه في القرآن ، عني به النداء في يس ، والعلم تخليا عنها في الصافات ، كما ارتآه بعض كبار الصحابة (١) وكما اتفقت عليه رواية اهل البيت في حجاجات وإجابات عن السؤال

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٨٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله «سلام على آل ياسين» قال : نحن آل محمد آل ياسين ، وفي ملحقات احقاق الحق للمرجع الديني العظيم السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ج ٣ ص ٤٤٩ رواه جمع من فطاحل القوم ونحن نكتفي بسرد من وقفنا عليه فنقول : منهم فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦ : ١٦٢ والقرطبي في جامع احكام القرآن ١٥ : ١١٩ وابو حيان الاندلسي في البحر المحيط ٧ : ٣٧٣ وابن كثير في تفسيره ٤ : ٢٠ والهيثمي في الصواعق المحرقة ١٤٦ والترمذي في مناقب مرتضوي ٥٤ والشوكاني في فتح الغدير ٤ : ٤٠٠ والآلوسي في روح المعاني ٢٣ : ١٢٩ والسيد ابو بكر الحضرمي في رشفة الصادي ٢٤ ونقله النقاش عن الكلبي ، كلهم يروون قول ابن عباس انه آل محمد ، وفي كفاية الخصام ٤٦٩ وابو نعيم الاصفهاني بسنده عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مثله وعن ابن بابويه بسنده عن ابن عباس في الآية قال «السلام من رب العالمين على محمد» ـ

٢٠٠