الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

٢ ـ ان الاول راجع الى الشياطين والثاني من يتولونهم ، أن الشياطين ما أشهدوا خلق الكون ليتخذوا أولياء ، وهم ما أشهدوا خلق أنفسهم ، أنها في الكيان بحيث يتخذونهم أولياء؟ ولكنما التولي هكذا لا يحتاج هكذا إشهاد لخلق أنفسهم ، وإنما وحي أو كتاب أو اثارة من علم إمّا ذا؟ ثم يكفي سلبا لهذا التولي (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).

٣ ـ عكس الثاني ان المتولين الشياطين ما اشهدوا خلق السماوات والأرض ، والشياطين ما أشهدوا خلق أنفسهم ، فإذا لا يحيطون علما بالسماوات والأرض فكيف يتخذون الشياطين أولياء من دون الله ، أتخرصا على الغيب أن الله اتخذهم لهم أولياء وأذن لهم؟ ام علما بالغيب (ما أَشْهَدْتُهُمْ) وما أشهدت الشياطين خلق أنفسهم انهم خلقوا اولياء؟ ولكنما الولاية الإلهية يكفيها الإعلام ، دون إشهاد لخلق أنفسهم!

او يقال : إذا لم يشهدوا خلق أنفسهم فأولى ألّا يشهدوا خلق السماوات والأرض ، فأنّى لهم الولاية الإلهية ولزامها العلم التام والقدرة؟ وهذا في نفسه صحيح ، ولكنه بنفسه غير فصيح ، ولا تتحمله لفظ الآية ، حيث (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) عطف على (ما أَشْهَدْتُهُمْ) ف «هم» فيهما ـ إذا ـ جماعة واحدة ، حيث اللفظة الصحيحة الفصيحة لاختلافهما «ولا أشهدتهم خلق أنفسهم» بل «ولا أشهدت هؤلاء ..»! ٤ ـ وقد تعنيهما الآية جمعا بين الحجتين.

ووجه خامس (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) اي ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض سنادا لولايتهم ، ولا أشهدت المتولين لهم خلق انفس إبليس وذريته ليحيطوا علما بتأهّلهم لذلك الولاية!

ووجه سادس يجمع بين الوجوه الصحيحة في نفسها.

واولى الوجوه هو الاول ، ثم هي بين غلط وصحيح ما ضمن الاول ،

١٢١

والجمع بين الصحيحة هو أصح الوجوه! :

انه تعالى ما أشهد الشياطين ولا المتولين لهم ولا المؤمنين ولا أولياءه المكرمين ، خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، لا إشهاد الحضور حيث لم يكونوا حضورا ، ولا إشهاد الإحاطة علما وقدرة ، فانه ولاية إلهية لا تثنى ولا إشهاد الاطلاع للمتولين الشياطين أن لهم ذلك التولي! او لشياطينهم تلك الولاية ـ ولا انه يعتضد بمن سواه ، ولو كان معتضدا لم يكن بالمضلين (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) ـ

فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو اوّل العابدين وآخر المرسلين ليس عضدا ولا وكيلا ولا وليّا تكوينيا ولا تشريعيا عن رب العالمين : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : (٧ : ١٨٨) (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ...) (٦ : ٥٠).

واشهاد خلق السماوات والأرض وإشهاد نفس المشهود له لنفسه ككلّ فيه علم الغيب كله ، والقدرة على الغيب كله ، فإذ لا ولاية عامة الأوّل العابدين الهادين فكيف إذا حال اوّل المضلين؟ (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)!

وكما ان للعضد الخير الهدى درجات كلها منفية لله ، كذلك للعضد الشر الضلال دركات وأحرى ان تكون منفية عن الله ، من عضد الولاية الإلهية ، او الرسالة وما دونها من دعوة إلهية بمراتبها ، ثم وغير العضد المستحيل لله أيا كان ، من أنصار لله فيما صح وأمكن ، ليس إلّا لمن هو على هدى ويهدي الى الحق (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٠ : ٣٥) ذلك اعتضاد مستحيل

١٢٢

لله على أية حال ولندرس منه حرمة اعتضاد المضلين فيما أمكن على اية حال كما لم يتخذ الإمام علي معاوية عضدا (١).

إن المضلّ وإن في جهة من الجهات او وجه من الوجهات ـ ما صدق عليه مضل ـ لا يعتضد ، كما لم يعتضد الإمام الحسين (عليه السلام) من

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٨ ج ١٢٢ في امالي شيخ الطائفة باسناده الى جبلة بن سحيم عن أبيه قال : لما بويع امير المؤمنين علي بن أبي طالب بلغه ان معاوية قد توقف عن اظهار البيعة له وقال : ان اقرني على الشام او الأعمال التي ولانيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة الى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال له : يا امير المؤمنين! ان معاوية من قد عرفت وقد ولاه الشام من كان قبلك ، فولّه أنت كيما يتسق عرى الأمور ثم اعزله إن بدا لك ، فقال امير المؤمنين (عليه السلام) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته الى خلعه؟ قال : لا! قال : لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء ابدا (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)

وفيه ١٢٤ في كتاب الخصال عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) وقد ذكر معاوية بن حرب : واعجب العجب انه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد الي حقي في معدنه وانقطع طمعه في ان يصير في دين الله رابعا وفي امانة حملناها حاكما كر على العاص بن العاص فاستماله فمال اليه ثم اقبل به بعد ان أطمعه مصر وحرام عليه ان يأخذ من الفيء دون قسمته درهما ، وحرام على الراعي إيصال درهم اليه فوق حقه ، فاقبل يحيط البلاد بالظلم ويطأهم بالغشم ، فمن تابعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه اليّ ناكثا علينا مغيرا في البلاد شرقا وغربا ويمينا وشمالا ، والأنباء تأتيني ، والاخبار ترد علي بذلك فأتاني اعور ثقيف فأشار عليّ ان اوليه البلاد التي هو بها ، لأداريه بما اوليه منها ، وفي الذي أشار به الرأي في امر الدنيا لو وجدت عند الله عز وجل في توليه لي مخرجا ، او أصبت لنفسي في ذلك عذرا ، فأعملت الرأي في ذلك ، وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله (عليه السلام) ولي وللمؤمنين ، فكان رأيه في ابن آكلة الأكباد رأي ينهاني عن توليته ، ويحذرني ان ادخل في امر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني ان اتخذ المضلين عضدا!

١٢٣

تأبى عن نصرته بنفسه ، وعرض عليه فرسه وسيفه (١).

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)(٥٢).

هنا يوم يتجاهلون أن شركاءهم لا يجيبونهم إذ يدعون ، وهناك يوم لا يسطعون تجاهلهم ... (يَوْمَ يَقُولُ ..) موقف بائس كارث لا تجدي فيه دعوى بلا برهان حيث الديان يطالبهم قائلا : (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) وهل يقدرون او يجسرون ألّا ينادوهم لأنهم يعلمون انهم لا يستجيبون؟ كلّا! «فدعوهم» أصناما لا يعقلون (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) او طواغيت يعقلون (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) نداء من زعموهم بدعائهم شركاء حيث تبلى السرائر ولا تخبأ الجرائر ، ام صلحاء من ملائكة وأنبياء ، امّن ذا وحاشاهم ان يستجيبوا نداء المشركين (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) إذ يعلم هؤلاء وهؤلاء أنهم ما كانوا ايّاهم يعبدون فقد كانوا يعبدون أهواءهم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١٠ : ٢٨)(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) : مهلكا يهلك رباطا بينهم كانوا يزعمون ويهلكهم بما كانوا يزعمون ، ويهلك غير المؤمنين من شركائهم أوثانا وطواغيت : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦ : ٩٤) :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٨ ج ١٢٣ في كتاب مقتل الحسين (عليه السلام) لابي مخنف ان الحسين (عليه السلام) قام يتمشى الى عبد الله بن الحر الجعفي وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه ، فقام اليه ابن الحر واخلى له المجلس فجلس ودعاه الى نصرته فقال عبيد الله بن الحر : والله ما خرجت من الكوفة الا مخافة ان تدخلها ، ولا أقاتل معك ، ولو قاتلت لكنت اوّل مقتول ، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما فاعرض عنه بوجهه فقال : إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) :

١٢٤

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً)(٥٣).

ترى وإذا (لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) وهم عارفون أنهم أهل النار وهم يرونها ، فكيف «ظنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) ولم يستيقنوا؟

ان مواقعة النار وهي الوقوع من جانبي النار واهل النار ، هي دخولهم في النار واشتغال النار بهم (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) .. هذه المواقعة رغم أنها واقعة لهم دون شك ، ولكنهم حيث يترجون مهلة لهم بين رؤية النار ومواقعتها من ناحية ، ويرونهم قريبين إليها من أخرى (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أو أنهم على احتمال النجاة من النار ان يجدوا عنها مصرفا كما يرجوا كل مجرم (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) حال أنهم (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) : صرفا أو مكانا أو زمانا للصرف عنها ، خلاف ما ظنوه من مصرف أيا كان وأيان.

فليس الظن هنا ولا في غيرها علما كما العلم أيا كان ليس ظنا ، فاي منهما ليس بفصيح ولا صحيح حتى إذا قرن بقرينة وليست في ايّ منها! والحديث الوارد في ظن اليقين مطروح او مؤول (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٦٩ ج ١٢٥ في كتاب التوحيد حديث طويل عن علي (عليه السلام) يقول فيه وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات واما قوله (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) يعني أيقنوا انهم داخلوها ورواه في الاحتجاج مثله عنه (عليه السلام) وقد يكون بعض ظن الكافرين يقينا وذلك قوله «وراى ...»

أقول : قد يعني كون ظنهم يقينا انما يظنونه متيقن الوقوع وان كانوا يظنونه دون تيقن كا نرى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يرى ظنهم ففي الدر المنثور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال : ينصب الكافر يوم القيامة مقدار خمسين الف سنة ما لم يعمل في الدنيا وان الكافر ليرى جهنم ويظن انها مواقعته من مسيرة أربعين سنة والله اعلم» ـ

١٢٥

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٥٤).

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا

__________________

ـ أقول : فظن المواقعة من هذه المسيرة كما قلناه انهم يرونهم قريبين إليها من جهة وبعيدين من اخرى فظنوا قربها (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) فاسم الفاعل دليل الوقوع حالا رغم استقبال الوقوع مسيرة أربعين سنة في مرآهم!

ففي ٦٢ موضعا من القرآن ذكر فيها الظن بمختلف صيغة لا نجد ظنا بمعنى اليقين كما العلم واليقين لا نجدهما في ساير القرآن بمعنى الظن ، ولماذا يستعمل كل في الآخر أحقيقة وليس بها ام مجازا ولا مجوز محسنا له ودون اية قرينة ، وحتى لو كانت ما كانت محسنة لمجازه!.

ولو تأملوا فيها تأولوه بالعلم واليقين لرجعوا الى معنى الظن دون تأويل وإليكم موارد من ٦٢ موضعا : (١) (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ٢١ : ٨٧ ـ ظن بربه خيرا أن لن يضيق عليه بذهابه عن قومه مغاضبا ، فلا موضع هنا لليقين ، حيث المقام محتمل الضيق جزاء ذهابه عن قومه ، ولكنه ظن لحسن ظنه بربه ، ف (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (٤٨ : ٦)!

(١) (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ٦٩ : ٢٠ وهو ظن من اوتي كتابه بيمينه وملاقاته حسابه هو لقاء ثوابه ، وظنه تواضع منه وحسن ظن بربه ، فاليقين منه كان مطالبة حق ثابت.

(٢) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ٧٥ : ٢٥ ـ فانها ترجو رجاء كاذبا ألا يفقرهم العذاب تنحيا عن فقاره ام عن اصل العذاب.

(٣) (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : (٢ : ٤٦) في وصف الخاشعين وهو ظن القلب حيث الخشوع فعل القلب ، وظن القلب يوازي يقين العقل ثم وفي ثالث اليقين (حَقُّ الْيَقِينِ) يصبح يقينا في القلب كما في العقل وقد يعنيه :

(٤) (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) ٢ : ٢٤٩ ، أفهل يكون صحيحا او فصيحا حمل الظن في هذه الخمس على اليقين دون قرينة إلا عدم التأمل ضمن ٦٢ موضعا من القرآن العظيم؟

١٢٦

كُفُوراً) (١٧ : ٨٩) (١).

ومهما كان الإنسان اكثر شيء جدلا ف (لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) لكل جدل مثلا يواصف المقصود بما يمثله ويقرّبه الى الأفهام تحقيقا للحق المرام.

فأية صورة من جدل الإنسان لا تقوى دحضا لمثل القرآن حيث يضرب إلى إعماق البرهان ، فطرة وعقلا وحسا حيث لا تبقى باقية ، مهما بغت جدال الإنسان باغية ، فأين مثل من جدل ، وهطل من وحل!

هنا نعرف مدى جدل الإنسان في حق او باطل ، فهو (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) من شيء الملائكة في حق ومن شيء الجن في حق او باطل ، ومن شيء كائن يوازي الإنسان أيا كان!

انسان الحق يجادل في التفتيش عن الحق وتحقيقه بكل مثل ، وإنسان الباطل يجادل في تهديم صرح الحق وتحقيق الباطل ، وأمثال القرآن تحلّق في أجواء الباطل لإبطاله ، وفي أجواء الحق لإحقاقه ، دحضا لحجج الباطل دون إبقاء ، وقفزا لتحقيق الحق دون إبقاء.

ان مثل الحق صيغة سائغة للتصريف بمختلف الصيغ ، والله يصرف مثل الحق إلى كافة الصيغ السائغة لتنظيم جدل الإنسان فتقويم حقه وتحطيم باطله!

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً)(٥٥).

موانع مخيّرة لا مسيّرة تصدّ عن الايمان والاستغفار ، من أمنعها التّرف والاستكبار : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا

__________________

(١) مضى تفسيرها في الاسراء فلا نفصله هنا ـ

١٢٧

أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (١٧ : ٩٤) سنة بئيسة تعيسة للاوّلين منهم والآخرين ، طيلة الرسالات الإلهية حتى الاخيرة ، في جدال بالتي هي أسوء : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وأضرابها من الأعذار اللّامعقولة حيث تمنعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم.

ومن هذه السنة مطالبة العذاب إن كانت الهدى حقا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢)

ولكن هذه السنة او تلك كائنة للمستكبرين ككل وهنا (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) ومن اين تأتيهم وكيف وهي لزام لهم عندهم؟

قد تدخل في هذه السنة أو هي الأصل هنا ، سنة الأولين في عذاب الاسئصال : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (٣٥ : ٤٣) فعدم إتيان عذاب الاستئصال ، او عدم إتيانه قبلا كان من موانع الايمان في زعمهم الى سائر موانعه! وعند تحقق سنة الاوّلين عذابا واقعا لا يبقى مدعي الايمان حينه حتى يؤمن! وعند رؤية العذاب قبلا لا يفيد الايمان فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ... فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) (٤٠ : ٨٥) حيث خيل لهم أن مانعهم عن ايمانهم عدم ايقانهم ، فبرؤية البأس يوقنون فيؤمنون.

فإتيان سنة العذاب المستأصل او العذاب قبلا ـ ولمّا يأت ـ هو في عداد موانع الايمان والاستغفار ، موانع حمقاء ، ليست إلّا اعذارا أسوء من حماقات الطغيان.

وليس إتيان سنة العذاب قبلا او استئصالا لإثبات الحق من سنة الرسل وإنما هم يبشرون وينذرون حجاجا وجدالا بالتي هي أحسن دونما

١٢٨

حاجة إلى عذاب إمّا ذا؟ ثم العذاب او الثواب من الله :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦).

هذه الآية وكثيرة أمثالها تحصر رسالة المرسلين في التبشير والإنذار وتحسرها عما سواها مما يتعنته الكفار من الإتيان بما يتطلبون من آيات وما يتكلبون خلاف الرسالة الإلهية من أصحاب الرسالات ، امّا يتمناه الرسل فيتحسرون إذ لا ينالون من هدي من لا يهتدي ، فتتواتر الآيات قارعة متطلبات المتفّتي ، متصدية لتسلية خواطر المرسلين (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) ولكن :

(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ ..) فقد يكون الجدال بالحق ، وبالتي هي أحسن تفتيشا عن الحق وتثبتا للحق فواجب على أهل الحق ودعاته ، وقد يكون لتزييف الحق او تضعيفه ، بالباطل كان ام بالحق (١) ، وكلاهما جدال بالباطل لدحض الحق ، فحرام مطلق!

وأصل الدحض الزّلق ، فهم أولاء يجادلون بالباطل ليزلقوا الحق بعد ثباته ، ويزيلوه عن مستقراته ، فيكون كالكسير بعد قوته والمائل بعد استقامته (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً): آيات الرسل وآيات الرسالات ، وما أنذروا من مخلّفات التكذيب بتلكم الآيات ، اتخذوها هزوا ، يجادلون بالباطل : طريقة باطلة لا تعني حقا ، وإنما هزء ولعبة لتوهين الحق وتهوينه أمام العالمين وهم اظلم الظالمين.

__________________

(١) كأن يجادل ويستدل بقرآن ام سنة ليّا لابطال القرآن والسنة وهو من انحس الجدال ، وهو جدال بالباطل حيث الاستدلال لابطال الحق بمادة الحق وصورته ، بتحريف في كيفية الجدال هي من أضل المزال للاقدام.

١٢٩

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)(٥٧) :

هنالك قلوب مفتّحة لاستقبال الحق ، تفتحها أصحابها فزادهم الله تفتّحا (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وهنا قلوب مقلوبة مغلقة عن تقبل الحق بإعراض أصحابها عما ذكروا بآيات الرب وتناسي ما قدمت أيديهم فزادهم الله إغلاقا جزاء وفاقا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)!

فكنّ القلوب عن استقبال الحق ووقر الآذان عن استماعه ووعيه هما بما اعرضوا وقدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

هنالك تذكير بآيات الرب (ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) لكي يهتدوا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى) ولكنهم بدل أن يتذكروا ويهتدوا ويشكروا نعمة ربهم بالذكرى والهدى (فَأَعْرَضَ عَنْها) : عنادا وتعمدا (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : نسيان التناسي المتعمد ما قدمت يداه من إعراض عن آيات الرب وخلفياته ، لحد قد يحسبه يحسن صنعا : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

فهنالك ـ إذا ـ الطامة الكبرى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) أكنة بما قدموها (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) بما وقروها فما وقرّوها ، اثنان باثنين في وفاق عددا وعددا ، ثم النتيجة العاجلة (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ثم الآجلة هي أشد وأنكى!

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)(٥٩)

١٣٠

«الغفور» هو معدن الغفر والستر ومنبعه ، فهو إذا «ذو الرحمة» الواسعة ما وجد لها سبيل ، لا الرحمة الفوضى التي هي زحمة على الصالحين وراحة للطالحين! «لو» أنه «يؤاخذهم» هؤلاء البغاة الطغاة (بِما كَسَبُوا) اخذة عاجلة (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الاولى قبل الأخرى «بل» كضابطة عامة لا تستثنى (لَهُمْ مَوْعِدٌ) لمؤاخذتهم بما كسبوا منذ الموت الى يوم يقوم الحساب (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) : مخلصا.

ثم وموعد آخر لمن تمادى في الطغيان يوم الدنيا ومن أمثاله (تِلْكَ الْقُرى) الغاربة في عمق التأريخ (أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) حيث الظلم ليس ليصبر عليه مهما كانت الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء ، (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) بالسنة رسلهم ، فلا يغرنكم إمهال الله لهم فانه إملال ، وان موعدهم آت في مستقبل أم حال ، وسنة الله لا تتخلف على أية حال.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ

١٣١

أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ

١٣٢

إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)

١٣٣

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢)

حلقة منقطعة النظير في القرآن كله عن مسيرة موسى (عليه السلام) مع من تعلم هو منه شيئا مما كان يجهله ، تقص مقاطع هامة من قصته تهم السالكين سبيل الهدى ، المتعلمين على سبيل نجاة من الردى.

إنها ليست اسطورة مختلفة كما يهرفها الخارفون ، بل هي حقيقة تقصّ من عمق التاريخ كسائر القصص القرآنية ، تحمل أمثالا حقة من التربية الإلهية ، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وترى إن موسى القصة هو ابن عمران ثالث اولى العزم من الرسل الذين دارت عليهم الرحى؟ وأولوا العزم هم المفضّلون على من سواهم

١٣٤

من رسل وأنبياء أمن ذا في زمنهم وحتى ولاية عزم اخرى علما وعملا لدنيا من عند ربنا ، فكيف يحمل موسى هذا نصبا في سفره حتى يلقى لنفسه معلما بأمر الله : (عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ، قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ، قالَ إِنَّكَ لَنْ ..)؟! ومعلمه هذا أيا كان هو من أمته ومتعلمه في شرعته خضرا أمّن ذا؟!

فهل هو ـ إذا ـ موسى غير ابن عمران ، نبيّا او أيّا كان ، بتعلم من معلّم له هو فوقه علما وخبرا؟ وقد ذكر موسى فيما ذكر (١٣٤) مرة يعنى به ابن عمران ، أفي هاتين المرتين اليتيمتين هنا يعنى به غيره دونما أية قرينة ولا إشارة؟ سبحانك اللهم إن هذا إلا خرافة جارفة جازفة لا صحيحة في ادب التعبير ولا فصيحة! (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٩! اخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس : ان نوفا البكالي يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل؟ قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب انه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول : ان موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل اي الناس اعلم؟ فقال : انا! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم اليه فأوحى الله اليه ان لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك قال موسى : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا تجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ـ الى آخر القصة وقد نذكر مواضيع منها حسب المناسبات ـ إنشاء الله تعالى.

وفي نقل أخر بنفس السند عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال اي رب ان كان في عبادك احد اعلم مني فدلني عليه قال : نعم في عبادي من هو اعلم منك فنعت له مكانه ، فان له في لقية فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت ـ

١٣٥

إنه هنا موسى بن عمران كما في سائر القرآن ، وقد ابتلى بسفره النصب بسبب منه حيث خيّل إليه أنه أعلم ممن سواه في علمي الظاهر والباطن ، فقد وكلّ موسى بعلم لا يطيقه خضر كما وكلّ خضر بعلم لا يطيقه موسى فليتعلم كلّ ما عند الآخر ليكتمل بما عند الآخر كما وعلّ آصف بن برخيا وزير سليمان كان أعلم منه حيث آتاه عرش بلقيس قبل ان يرتد إليه طرفه ، وكان آصف من أمته في الشرعة الظاهرة.

فعلم الشرعة الظاهرة وعلم الباطن قد يفترقان كما في موسى وخضر وسليمان وآصف وقد يجتمعان كما في أهل بيت الرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكما قد ينتفيان كمن يجهلهما وحيا أمّاذا؟.

وخضر هذا نبيا كان ام غير نبي هو كلقمان (١) كان أعلم من موسى بن

__________________

ـ مليح قد قيل إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك ..

وفي نور الثقلين ٣ : ٢٧ ج ١٢٨ في تفسير القمي وفي العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وكان سبب ذلك انه كلم الله موسى تكليما وانزل عليه الألواح وفيها كما قال الله عز وجل (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) رجع موسى (عليه السلام) الى بني إسرائيل فصعد المنبر فأخبرهم ان الله عز وجل قد انزل عليه التوراة وكلمه وقال في نفسه : ما خلق الله خلقا اعلم مني فأوحى الله عز وجل الى جبرئيل (عليه السلام) أدرك موسى قد هلك واعلمه ان عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل اعلم منك فصر اليه وتعلم منه فنزل جبرئيل (عليه السلام) على موسى (عليه السلام) وأخبره فذل موسى في نفسه وعلم انه اخطأ ودخله الرعب وقال لوصيه يوشع : ان الله عز وجل قد امرني ان اتبع رجلا عند ملتقى البحرين وأتعلم منه فزود يوشع حوتا مملوحا فلما خرجا وبلغا ذلك المكان وجدا رجلا مستلقيا على قفاه فلم يعرفاه ، فاخرج موسى الحوت وغسله الماء ووضعه على الصخرة ومضيا ونسيا الحوت وكان ذلك الماء ماء الحيوان فحيى الحوت ودخل الماء :

(١) تتضارب الروايات هنا في ان خضر كان نبيا او لم يكن نبيا ، ولا دلالة في هذه الآيات على نبوته ، ولا اثر عنه في ساير القرآن.

١٣٦

عمران في التأويل : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ..) ـ (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)! (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) اللهم إلّا علام الغيوب ، أو من علّمه من علم ما كان وما يكون وما هو كائن كالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين!

ولان القرآن لا يذكر زمن هذه القصة ، أكانت في نبوءة موسى قبل رسالته؟ ام كانت في بداية رسالته ولما تنضج النضجة الكاملة بعلم التأويل ، ام في نبوته بولاية عزمة وفي قمتها ، إذا فكل محتمل ، مع العلم أنه كان يوحي إليه ، وإلّا فكيف عرف ذلك الموقف لمجمع البحرين و (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ولا يأتي مثل هذا الغيب إلّا بوحي ، اللهم إلّا وحيا دون نبوءة كما (أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) فقد تكون هذه المصاحبة قبل نبوته ام فيها قبل رسالته ، ام فيها قبل ولاية عزمه ، ام وفي ولاية عزمه ، فعلى أية حال لا يبقى اشكال في كيف يتعلم موسى من خضر؟ فان ولاية العزم في الشرعة الظاهرة لا تلزمها الولاية الباطنة مهما تجتمعان في البعض من أولياء العزم كالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).

ولكن الرقابة على تكاليف الشرعية تنتج نورانية في الباطن ف (مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) و (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) فكيف إذا كانت رقابة العصمة في ولي العزم ، فليعلم موسى من علم الباطن ما يعلمه خضر وسواه بل واكثر وأحرى ، فكيف يتطلب منه ان (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)؟

علّه لأنه كما علم الشريعة قد يحصل بتحصيل ، وقد لا يحصل إلّا بوحي ، فما كل متعلّم محاول للحصول عليه يوحى إليه ، كذلك علم الباطن منه ما يحصل بتلك الرقابة ، ورقابة العصمة أحرى وأجري

١٣٧

للحصول عليه ولكن منه ما لا يحصل برقابة كالعلم الباطن اللدني ، فعلم الوحي الشريعة لا يستلزم ذلك العلم اللدني مهما يستلزم علما دون ذلك ، فقد أوتي خضرا رحمة من عند الله وعلم علما من لدن الله ليس من مخلفات وحي الشريعة والرقابة التامة عليه!.

ولان ولاية العزم لزامها الحفاظ على حقوق الامة ومصالحها في الباطن كما الظاهر ، فليعلم موسى الرسول في ولايته العظيمة العزيمة ، تأويل قضايا كمثل السفينة والغلام والجدار ، فقد يحتمل أن القصة كانت في بداية أمره ولما يعظم ويعزم امر رسالته القمة ـ والله اعلم حيث يجعل رسالته!.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)(٦٠)

مجمع البحرين هو عنوان ملتقاه مع خضر كما أوحي إليه ولكن موسى لا يعرفه بتفصيل ، فلو كان عارفه فلما ذا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) سنة الى ثمانين وكما جاوزه إذ نسيا حوتهما ، فقد يعرف ان فيه ملتقاه وأنه في سفرته هذه يمرّ عليه ، كما تلمح له (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) لا «مجمعا لبحرين» حتى تكون له مصاديق عدة ، وإنما قال كغير عارف بالملتقى (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) لأن مجمع بينهما كان متسعا شاسعا قد يحتاج الوصول الى منتهاه الى ان يمضي حقبا واقله التأكيد على ذلك التصميم وإن لم يحتج وصوله الى مضي حقب ، فحق لموسى وفتاه لمّا بلغا مجتمع بينهما أن ينسيا حوتهما حيث بهرهما بلوغ المجمع نظرة الملتقى ، وأما فتاه فزاد نسيانا على نسيان لما أويا الى الصخرة.

موسى الرسول ما كان يعرفه بعينه ، ولا أن القرآن عرّفه لنا ، فما لنا من سبيل الى معرفته القطعية إلّا حدسيات : أنه منطقة كانت مسرح

١٣٨

تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر كملتقى بحري الروم والقلزم أي الأبيض والأحمر ، ومجمعهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التسماح ، او مجمع خليجي العقبة والسويس الأحمر ، او ما ينتهي اليه بحر الروم من الجانب الشرقي وبحر الفرس من الجانب الغربي أمّاذا؟

إلا ان مسرح تاريخ بني إسرائيل المعلوم لدى الجميع يختلف عن مسرح موسى الرسول (صلوات الله عليه) الخاص به ، وهو لا يعرفه بتفصيل ، والا فلما ذا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)؟ فلنترك ما تركه القرآن ونسكت عما سكت الله عنه ، وقصارى ما يعرفه موسى من ذلك الملتقى أنه مجمع البحرين وفيه حياة الموتى كما اتخذ غذائه الحوت فيه (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً .. عَجَباً) (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً ، فَوَجَدا ...)

وفتى موسى هو صاحبه الخاص فعلّه وصيه يوشع بن نون بفتوّة صحبة الايمان (١) وقد يكون «وإذ قال ...» معطوفا على محذوف يناسبه ام على قصة اصحاب الكهف ان يذكره الرسول ومن معه ذكرى ثانية للرحمة الخاصة الإلهية الخانية على عباده الأخصاء وهو من أخصهم ، فلتتواتر عليه رحمة من لدنه وعلم من لدنه ، ربوة على كل عالم ومرحوم!

و (لا أَبْرَحُ) تصريحة بملاحقة السير في هذه السفرة إذ يقصد من ورائها امرا امر بالحصول عليه إعلانا لفتاه في البداية استعدادا لوعثاء السفر ونصبه ، مهما طال الزمن : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) تعبيرا حاسما عن

__________________

(١) الدر المنثور في الحديث السابق عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) «ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون .. وفي نور الثقلين ٣ : ٢٧٢ ج ١٣٠ عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان وصي موسى بن عمران يوشع بن نون وهو فتاه الذي ذكره الله في كتابه.

١٣٩

تصميمه القاطع ، عارفا صارما بوصوله عاجلا او آجلا الى ملتقاه في مجمع البحرين.

وهذه من السنن الحسنة مع رفقة السفر التابعين لك ان تعلن دون إسرار كالشمس في رايعة النهار مسيرك ومصيرك في سفرتك دون تحميل عليهم كما (قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ) دون «لا نبرح حتى نبلغ ...» وليجعل صاحبه في سعة من أمره إن شاء لزمه عارفا بالسفرة وان شاء تركه.

و «لا أبرح» يعني لا أزال سائرا مسافرا دونما انقطاع ، مما يوحي باهمية بالغة للهدف المرام ، اعدادا لفتاه إن شاء استعد على علم بهامة السفر ونصبه.

وليبلّغه مدى تصميمه مقصدا وزمنا لأقصى حدّه كما أبلغه (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)! و (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) هنا هو الغاية القصوى من السفر النصب وليجمع فيه بين بحري العلم الظاهر من موسى والباطن من خضر ، او بحري الرسالة الظاهرة والولاية الباطنة ، وكما قال له خضر في ملتقاه «إني وكلت بأمر لا تطيقه ووكلت بأمر لا أطيقه».

فيما لمجمع البحرين من نبضات الحياة وومضاتها حيث الحوت المطبوخ الغذاء فيه يحيى (١)(فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) «وعجبا» وموسى الرسول يزداد حياة من علم الباطن إلى علمه الظاهر وكما الخضر يزداد علم الظاهر الى علمه الباطن.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ

__________________

(١) في الدر المنثور في حديثه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القصة : فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي فاتخذ سبيله في البحر سربا. وكما في أحاديث عدة ولا نجد في اي حديث أنه كان حيا.

١٤٠