الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٢

إمكانية له لأدائه ولا رجاء حسب ظاهر حاله مهما نوى الأداء ، فمن عنده إمكانية دون نية هو أقرب إلى الأداء ، فعلّه ينويه بعد ، ولكن الذي لا يتمكن لا يرجى أداءه مهما نوى فانها نية فارغة ، وليست شريطة النية هنا إلّا ذريعة للأداء المشروط بإمكانيته.

هذا ـ ولا يصدق القرض إلّا بالنية مع الإمكانية ، فلولاهما أو أحداهما لم يكن قرضا فلا يصح ولا يحل التصرف فيما اقترض.

«بالباطل» هنا علة للحكم بحرمة الأكل ، فلا بد ـ إذا ـ من وجهة حق عند الله في أكل الأموال على أية حال ، والأصل هو الحلّ إلّا ان يثبت انه باطل فمحرم ، لمكان الضابطة العامة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٣ : ٢٩).

فقد تعلم أنه أكل بالحق فحق لك أكله دون ريب ، او تعلم أنه باطل فباطل أكله دون ريب ، وأما المشكوك حقه وباطله وبعد التفتيش عن أدلة الحق والباطل ـ فهو حلّ قضية الإطلاق المستفاد من «خلق لكم» تحليلا لمطلق الانتفاع مما في الأرض ، خرج باطله وبقي الباقي تحت الإطلاق ومنه المشكوك حقه وباطله.

ثم «بالباطل» لا تتحمل الاستثناء ، فلا يصح تقييده بباطل دون آخر ، وليست الحقوق المالية الواجب إنفاقها في سبيل الله من الباطل حتى تقيد بها

__________________

ـ الدين لا يقدر على صاحبه ولا على وليّ له ولا يدري باي أرض هو؟ قال : «لا جناح عليه بعد ان يعلم الله منه ان نيته الأداء» وفي الكافي ٥ : ٩٥ والتهذيب ٢ : ٥٩ عن ابن رباط قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله عزّ وجلّ حافظان يعينانه على الأداء من أمانته فإن قصرت نيته عن الأداء قصّرا عنه من المعونة بقدر ما قصر من نيته.

٨١

الآية ، بل هي من أبرز مصاديق الحق ، مهما كان ببيان الله حيث يخفى حقها ، او كان من باب الحكومة ، ام المقصود هو الباطل في شرعة الله.

كما لا يختص الباطل بما نعرفه باطلا ، فبين الباطل عندنا والباطل عند الله عموم من وجه يتصادقان في الباطل عند الله كما عندنا مثل السرقة اما شابهها ، ويتفارقان في الباطل عند الله دوننا كالربا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٣ : ٢٧٥) والباطل عندنا دون الله كالاخماس والزكوات وسائر الإنفاقات التي قد تعتبر عند المجاهيل باطلا ، فالأصل الموضوع للحكم هو الباطل عند الله حيث يبينه في الكتاب او السنة ، فالمشكوك بطلانه عند الله ، إذا كان معروف البطلان في كل الأعراف السليمة الإنسانية فهو باطل ، وإلّا فحق ، كما المعلوم بطلانه عندنا المعلوم حقه عند الله فانه حق لا مرية فيه.

فكل ما لا ثمن له ام يحرم الانتفاع به من أموال وأعمال يحرم به أكل المال لأنه باطل وان كان بطيبة نفس من مالكه ، وقد يجتمع الباطلان معية وسببا ، ولكلّ أبعاد ، فمن أنحس الباطل ما يحصل بسبب باطل بأشده كالمسروق بالسرقة المسلحة ، ثم يصرف في باطل مغلظ كأن يشتري به خمرا أمّا شابه ويشرب.

فقد انتظمت الآية حظر الأكل في كل تعامل باطل ام سواه من باطل في مختلف التصرفات المالية والحقوقية ، في مثلث الأموال على أية حال.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) هي من الأسباب الباطلة : ولا تدلوا بها ـ ام ـ وان تدلوا بها ـ فإدلاء الأموال الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس ، ذلك من أكل المال بالباطل ، ولأن «بها» راجعة الى «أموالكم» فقد تشمل «أموالكم» أموالكم أنفسكم ، كما «لتأكلوا» تضيف إليها أموال الناس.

والإدلاء أصله من إلقاء الدلاء إلى الآبار بغية نزح الماء ، فالذي يؤتي من

٨٢

أمواله الحكام ذريعة لحكمهم بخلاف الحق (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هو من هؤلاء الذين يأكلون أموالهم واموال الناس بالباطل.

و «فريقا» هنا اعتبارا بان المؤتى رشاء يحتسب مما يأكله الراشي ، ففريقا يأكله باطلا من اموال الناس ، وفريقا يتصرف فيه باطلا من أمواله نفسه ، كذريعة للفريق الاوّل ، فحين يأكل كلّ أموال المرتشي عليه لم يأكل شخصيا إلّا فريقا منه إذ أعطى فريقا كرشاء لاستلابه ، و «لا تأكلوا» نهي عن الأكلين ذريعة ونتاجا.

والباطل بصورة عامة ثابتة ضابطة هو كل ما لا ثمن له في ميزان الله ، فأخذ اموال الناس بما لا ثمن له ام بما دون الثمن غبنا واجحافا هو أكل بالباطل ، ككل في الاوّل وكبعض في الثاني.

و «الإثم» هو كل ما يبطئ عن الحق ، والرشا تبطئ عن حق الحكم ، كما ان أكل المال بالباطل ـ أيا كان ـ هو إثم يبطئ المجتمع عن حيوية الحياة السليمة ، فلا دور للباطل أيا كان في الحقول الاسلامية عن بكرتها ، ثم ولا يحلّل حكم الحاكم المال إذا لم يكن بحق مهما لم يكن هناك الرشا فضلا عما كانت فيه وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٣ ـ أخرج الشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ام سلمة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : إنما انا بشر مثلكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ فانما اقطع له قطعة من النار.

وفي آيات الأحكام للجصاص ١ : ٢٩٥ حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن اسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن ام سلمة قالت : كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجاء رجلان يختصمان في مواريث ـ

٨٣

ولقد ذكرت هذه الآية أصدق مصاديق الاكل بالباطل ، إدلاء إلى الحكام (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) وهو ذريعة الرشا (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها من أموال الناس ، وان الرشا إثم ، وأن أكل اموال الناس بها إثم.

هذا ـ ولكن (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تظل على عمومها في حظر الأكل بالباطل ، وهو كل تصرف في مال او حق بغير حق ، سواء أكان لك ام لسواك ، حيث المال ـ أيا كان ـ هو مال الله ، فلا يحق ان يتصرف فيه إلّا بمرضات الله.

وترى (لِتَأْكُلُوا ..) كغاية محرمة تحصر حرمة الرشاء فقط فيما يقصد فيها أكل اموال الناس؟ فإن أدلى مالا إلى حاكم ليحكم لصالحه استرجاعا لماله المغصوب جاز!.

أجل يجوز لغاية الحصول على حقه ، ولكن هذه الغاية الصالحة لا تبرر تلك الوسيلة غير الصالحة ، فانها تحاكم إلى الطاغوت الذي يتميل إلى ما إمالة المال.

فمهما لم يكن هذا أكلا لأموال الناس بذلك الإدلاء ، ولكنه أكل لمالك الغائب استرجاعا له بالباطل وهو التحاكم الى الطاغوت ، فيشمله اطلاق النص : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) كما ان استرجاع مالك بالفحش والضرب والفرية والقتل وما أشبه ، ذلك كله من أكل أموالكم بينكم بالباطل.

__________________

ـ وأشياء قد درست فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنما اقضى بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما فانما يقتطع من النار يأتي بها اسطا يوم القيامة في عنقه فبكى الرجلان فقال كل واحد منهما يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حقي له فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا ولكن اذهبا فتوخيا للحق ثم استهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه»

٨٤

فكما الغاية يجب ان تكون صالحة وهي الحصول على مالك ، كذلك الوسيلة حتى يصدق الأكل بالحق ، ولك الاعتداء بمثل ما اعتدي عليك دون زيادة كأن تحتال في استرجاع مالك ، دون اقتراف محرم فيه ولا ترك واجب اما ذا من ذرائع محرمة ، اللهم إلّا ما يتهاتر مع واجب الحفاظ على المال كالاحتيال وما أشبه.

فأكل اموال الناس بالباطل باطل ذو بعدين ، وأكل مالك بالباطل هو ذو بعد واحد يتلاقيان في أنه أكل بالباطل ، مهما كان الأكل نفسه في الثاني حقا ، وقد يكون أكل مالك ايضا ذا بعدين كأن تبذره بشرب الخمر او القمار أما شابه من محرمات والبعد الأوّل فيها هو التبذير.

ف ـ «بالباطل» تشمل كل باطل في شرعة الله لا يجوز به أكل المال منك او من غيرك ، ومنه «اليمين الكاذبة» (١) والشهادة الكاذبة أماهيه من ذرائع غير مشروعة ، فكما لا يجوز لك أخذ مالك بالضرب والشتم ، كذلك الرشاء بل هي انحس وأنكى ، حيث تعوّد حاكم الجور بأخذها ، بل وأصل الترافع اليه دون رشا ايضا محظور.

وقد تتجاوز (أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ) الى أهليكم فإنهن كإماء من أموالكم ، وكحرائر تملكون بضعهن من أموالكم ، وقد كانت قريش تتقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك (٢) ونظرا الى الضابطة العامة في حقل المساعي

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٧٦ عن المجمع وروي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) انه يعني بالباطل اليمين الكاذبة.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٧٥ عن الكافي بسند متصل عن زياد بن عيسى قال : سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عزّ وجلّ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) فقال : كانت قريش ....

٨٥

والنتائج المباحة لها : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) قد يكون أكل اموال الناس في حقول التجارة والإجارة وسائر التعاملات ، يكون أكلها فوق المستحق من السعي أكلا بالباطل وأكلا باطلا.

فمن يشتري متاعا بعشرة ثم يبعها بعشرين أمّا زاد ، ولا يسوى سعيه إلّا الآحاد ، فالزائد عليهما باطل ، لأن اكله أكل بالباطل.

وكذلك الأمر في الأموال العامة المشتركة بين المسلمين ، فلكلّ منها نصيب قدر سعيه وحاجته ، فما زاد على السعي او الحاجة او عليهما باطل.

ومثله الوسطاء في المعاملات الذين يربطون بين المتعاملين ، فليس لهم إلّا قدر المساعي المبذولة في ذلك الحقل ، فالزائد عليه باطل.

فمن الباطل ما هو الباطل المطلق ، كالمال الذي تحصل عليه دونما سعي مشروع ، كأموال السرقة والربا.

ومنه مطلق الباطل كالمال فوق السعي ـ ككلّ ـ وفوق السعي او الحاجة في الأموال العامة ، ثم القيم السوقية الكاذبة المختلقة التي لا تتبنى الحاجيات الواقعية فإنها لا اعتبار بها ، فلا تسمح لأخذ الأثمان فوق المساعي ، اللهم إلّا في قيم زائدة حسب الحاجات الوقتية ، فتبيع حسب الحالة الحاضرة رعاية للنصفة.

وقد يأتى تتمة البحث حول الاكل بالباطل في آية النساء ان شاء الله تعالى.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩).

وهنا السؤال المستمر «يسألونك» يأتى عن دور أهلّة القمر ، فمهما كان

٨٦

ذلك السؤال عن الأسباب الكونية للأهلة او الغاية الشرعية أماهيه ، فصالح الجواب في كتاب التشريع هو الوجهة الشرعية : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) إتيانا لبيوت الرسالة من أبوابها ، سؤالا عما لا يعرف إلّا بالوحي ويحتاجه المؤمن في شرعة الله ، دون سائر الأسئولة المعروفة بغير الوحي ، اللهم إلّا هامشيا على وحي في الشرعة لتثبته.

فقد سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ فيما سئل ـ : ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد فنزلت (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) في محل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدة نساءهم والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم (١) ، فحتى ان كان السؤال عن الأسباب الكونية للأهلة ، فحق الجواب لمن يجهل الأحكام الدينية هو الجواب ، فان السؤال عن الراجح وأنت تجهل الواجب هو من إتيان البيوت من ظهورها ، وكما لمحت الآية في ذيلها.

وكذلك السؤال المتعنت المستجهل عن مختلف اشكال القمر ، ما هي الحكمة فيها كونيا او شرعيا ، تذرعا به لإثبات عدم الحكمة ، وهذا من إتيان البيوت من ظهورها ، فانه استدلال بالمجهول على نقض المعلوم من حكمة الله وإن تجهل وجهها.

«قل هي» الأهلة في منازل القمر المقدرة لها (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) في شتى حاجياتهم الدينية والزمنية (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٠٣ ـ أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عمر وهما رجلان من الأنصار قالا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما بال الهلال ...

٨٧

وَالْحِسابَ ...) (١٠ : ٥) (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٦ : ٣٩) (١) و «مواقيت للحج» الحج الأكبر لتبين أيامه في ذي الحجة ، والحج الأصغر كعمرة التمتع فانها بادئة من اوّل شوال ، واما المفردة التي لا وقت لها محددا فقد تدخل في المواقيت العرفية ، غير المحددة لها شرعيا ، والاهلة للحج هي من أحسب الحساب شرعيا لأنها عبادة سياسية جماهيرية ، ولذلك أفردت بالذكر بعد عموم «مواقيت» مهما كان الصوم أهم منه من الواجهة الفردية ، فان الحج هو جملة العبادات بجملتها سياسية وسواها وقد تشمل على الصوم ، وهي على أية حال في قمة الطقوس الإسلامية التي تحافظ على أساس الإسلام وأثافيّه.

وكذلك شهر الصيام لأول يومه وآخره وسائر أيامه : «فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما» (٢).

وحين يجعل الله تعالى الأهلة (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فغير صحيح ان يعتمدوا على غير الأهلة من أشهر وسنين إلّا هامشية زمنية ، تأصيلا للأشهر والسنين القمرية ، فكتاب التكوين والتدوين متجاوبان في أصالة القمرية ،

__________________

(١) إن أهلة القمر الثمانية والعشرين التي تفيدنا مواقيت الشهور والحج ذكرناها في تفسير يس على ضوء آيته (٣٩).

(٢)المصدر أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): جعل الله الأهله مواقيت للناس فصوموا ... وفيه عن طلق بن علي قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): جعل الله الأهلّة مواقيت للناس فإذا رأيتم فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.

وفي نور الثقلين ١ : ١٧٦ عن تهذيب الأحكام بسند متصل عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : سألته عن الأهلة؟ قال : هي أهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر.

٨٨

وتلك الأهلة هي تقاويم قويمة قيمة للناس ككلّ مهما اختلف اعرافهم ومذاهبهم بالنسبة للسنين والحساب : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠ : ٥) ، فالقمر في كتابي التكوين والتشريع مقياس لضبط الأوقات والتعرف إليها ، ولا اضبط منه لكل الناس دون حاجة الى وسائل مصطنعة خاصة ضبطا للأيام في غير المقياس القمري ، فويل للأكثرية الساحقة او المطلقة للدول الإسلامية التي تصبغت بالصبغة الاستعمارية حتى في تاريخهم إذ سنوها مسيحية رومية لا تشبه تاريخ الإسلام لا في سنيّة ولا في شهوره.

وهل تعني «الأهلة» هلال القمر الأوّل في كل شهر ـ فقط ـ لا ومختلف منازله بأشكاله المختلفة؟ قد يقال : نعم ، حيث الهلال هو بادئ بدء الظهور للقمر كالعرجون القديم ، من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة او صاح ، ف «الأهلة» جمعا دون إفراد تعني أهلة القمر في مجموعة الشهور ، دون منازله في شهر.

وقد يقال : لا. حيث المواقيت للناس والحج ليست هي فقط بدايات الشهور ولا سيما الحج حيث الميقات له يوم عرفة والأضحى ثم ايام التشريق.

وعلّ الجمع اولى فانه أجمع ، فكما السؤال يتجه الى الأهلة لأوائل الشهور ، كذلك لكل ايام الشهور ، فالكل (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) دون اختصاص بالأهلة الاولى دون الأخرى ، ومهما كان لكلّ منزل من منازل القمر او منازل له اسم خاص ، ولكن الاسم الجامع لها ، ولا سيما ضما الى الأهلة الاولى ، هو ـ بطبيعة الحال ـ «الأهلة» اللهم إلّا ليلة التمام فهو فيه القمر والهلال هو في اطلاق عام يشمل كل الحالات القوسية وغير التامة للقمر ، لأنه مقوس إلّا حالة النصف الدائري ، فهو قبلها وبعدها مقوس ، مهما اختلفت أهلته من حيث النعومة والضخامة ، والأهلة تشمل البدر للأغلبية ، فهي تعم كل حالات القمر البارزة بأسرها.

٨٩

ولو كان المعني من الأهلة هي الأولى لكان يكفي «الهلال» كجنس لها فلا دور للجمع حين يقصد السؤال عن الهلال ، لأن هلال كل شهر هو كسائر الهلال.

وقد يقال : ان الأهلة الأولى هي نبراس التعرف إلى سائر ايام الشهور ، إذا ف «هي» هيه (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) حيث تعرف بها كل المواقيت ، وقد يعني جمعها تكرارها في كل شهر ، فإنها مواقيت في كل شهر بأيامها والحج بأيامه السابقة على ذي الحجة وأيامها هيه.

هذا ـ ولكن الأهلة الأولى ليست هي مواقيت إلا للذين استهلوها ام عرفوها ، دون «الناس» كل الناس ، فقد تعرف مواقيت الشهور بسائر الأهلة ولا سيما قبل البدر وبعده.

ولكن هذه المعرفة ليست دقيقة تعرف بها الأوقات الشرعية المرعية فيها الدقة ، مهما عرفت بها الأوقات العرفية التي قد لا تستأهل تلك الدقة.

إلّا أن هذه المعرفة الثانية مهما لم تكن دقيقة ككل ، ولكنها تشمل على الدقيقة ، و (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) تشمل كل المواقيت دقيقة وظنية ، مهما لا تكفي غير الدقيقة للمواقيت الشرعية.

و «مواقيت» جمع موقت قد تصح اسم مكان كما هو مصدر ميمي ، فهي اوقات للناس باعتبار دلالتها عليها ، وهي امكنة الأوقات ، لأن أمكنتها المنازل هي التي تدل على الأوقات.

وأيا كان (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) فالجواب يخص واقع حياتهم العملي بالفعل ، دون مجرد العلم النظري التجريبي ، ولأنهم بسذاجتهم ما كانوا يعون النظرية العلمية عن الدورة الفلكية للقمر ، مهما أفاد القرآن في مجالات أخرى

٩٠

حقائق علمية ما كادت البشرية لتعرف عمقها وحتى الآن إلّا نزرا ، ولكنه في مجالات الأسئولة يحولهم إلى معارف شرعية هي الأولى والأحرى بكل المسلمين أن يعرفوها ، تقديما للحاجة العامة على الخاصة ، وتحويلا للأوجب معرفة على سواه.

فالقرآن كأصل للحيوية الروحية هو كتاب شرعة ، مهما أشار او صرح بأقسام من العلوم النظرية والتجريبية كذرائع للتكملة الروحية ، فلا هو كتاب العلوم التجريبية كأصل كما يتحمس مفرطون في ذلك الحقل او يعتبروه إياه ، ولا هو خاو عنها كما يحاول بعض المفرّطين الطاغين فيه ، فكلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة الوحي القرآني ، التي تؤصل تأصيل المكلفين في نبوّ الروح الإنساني كما يريده الله ، تذرعا ـ كما يناسب مختلف البيئات والاستعدادات البشرية ـ بعلوم نظرية او تجريبية أماهيه.

ذلك ـ إضافة إلى ان كتاب الوحي يتكفل ـ كأصل في الدعوة الربانية ـ التعريف بما لا يعرفه الإنسان مهما حاول التعرف إليه ، واما الحاجيات المادية في سائر العلوم فهو ينالها قدر المساعي والجهود المبذولة لها ، والقرآن يقود المكلفين الى قواعد رصينة متينة منها كحركة أولى للدواليب العلمية في كل حقولها.

فالإبداع في الحقول المادية بشتى وسائلها وصنوفها وفي كل صفوفها ، هو موكول الى عقلية الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظريايه ، بما انها مهيّأة له بطبيعة تكوينه ، والقرآن يخطط له مسيره الى مصيره ماديا ومعنويا كيلا ينحرف او ينجرف.

هذا ـ وقد تعني «ويسألونك» سؤالا ـ فقط ـ عن الغاية الشرعية في الأهلة ، فينحصر الجواب فيما أجاب منحسرا عما سواه إذ لا سؤال ، وعلى أية حال فلا نقد على اختصاص الجواب بما أجاب ، لا سيما نظرا الى آيات

٩١

اخرى حول القمر وحالاته ومنازله منذ هلاله حتى عاد كالعرجون القديم ، وقد يكفي هذا الجواب لمحة صارحة عن موقف السؤال.

ثم ترى ما هي الصلة القريبة او البعيدة بين صدر الآية الى «والحج» وبين ذيلها (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)؟

إنه ظاهرة الصلة بمن يسألون عن الأحوال الكونية للأهلة وهم يجهلون دورها الشرعي ، وكذلك الصلة بواجهة التعنت في السؤال استجهالا في حكمة الأهلة ، وانه من إتيان البيوت من ظهورها ، وكذلك الصلة بالحج ، فقد تعودت جماعة ـ كسنة حسنة في زعمهم ـ ان يأتوا بيوتهم في حجهم او عمرتهم من ظهورها (١) ، فنهاهم الله عن هذه العادة المتخلفة ، ولكن الآية أشمل موردا من هذه الثلاث فهو ان يأتي الأمر من وجهه أي الأمور

__________________

(١) في الدر المنثور ١ : ١٠٤ عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية ، وعنه كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فقيل له في ذلك فنزلت هذه الآية. وفيه اخرج ابن جرير عن السري قال : ان ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون في ادبارها فلما حج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجة الوداع اقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم فلّما بلغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى ان يدخل قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني أحمس وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحمس قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنا أيضا أحمس فادخل فدخل الرجل فانزل الله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) أقول واما ما ورد من تقرير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لدخول البيوت من ظهورها ثم نزلت الآية ناسخة لذلك التقرير فليس بجدير لساحة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنه ما كان يسن غير البرّ فهل سنه الله أولا ثم نسخه فكيف يسن الله غير البر ثم ينسخه ، فانما كانت عادة جاهلية نشبت الى المسلمين لفترة والرسول يخالفهم فيها كما في نص الرواية الأخيرة حتى نزلت هذه الآية تنديدا بها.

٩٢

كان (١) حيث البيوت هي في وجهة عامة المقاصد مادية او معنوية أماهيه ، فليس من البر ان تأتوا حاجاتكم من غير مواردها ، فأتوها من مواردها ومظان خيراتها ، فكما ان آتي البيت من ظهره هو كالآكل من قفاه كذي جنّة ، كذلك كل من يأتي حاجته من غير وجهها.

فبيت الدين يؤتى من وجهه وهو الذي وجهنا الله إياه ، فتحويل صيام رمضان الى سواه ، او الحج الى غير أشهره ، او مواقيت القمر الى غيرها أما ذا من تحويل دون دليل ، هو إتيان للبيت من ظهره.

كذلك بيت الرسالة السامية لا يؤتى من ظهره ، بل من بابه الذي عينها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقررها بأمر الله وكما يروى عن باب مدينة العلم وقد جعل الله للعلم أهلا وفرض على العباد طاعتهم بقوله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) والبيوت هي بيوت العلم (٢) ف آل محمد (صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) في محاسن البرقي عن الباقر (عليه السّلام) في الآية قال : يعني ان يأتي ...

(٢) نور الثقلين ١ : ١٧٧ عن الاحتجاج عن امير المؤمنين (عليه السّلام) حديث طويل وفيه : ... وعنه عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت عند امير المؤمنين (عليه السّلام) فجاء ابن الكوا فقال : يا امير المؤمنين (عليه السّلام) قول الله عزّ وجلّ : (لَيْسَ الْبِرُّ ...) فقال : نحن البيوت أمر الله ان تؤتى أبوابها ، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منه فمن بايعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها ، ان الله عزّ وجلّ لو شاء عرف الناس نفسه حتى يعرفونه ويأتونه من بابه ، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه ، قال : فمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها وانهم عن الصراط لناكبون ...

وعن الامام الباقر (عليه السّلام) من أتى آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتى عينا صافية تجري بعلم الله ليس لها نفاد ولا انقطاع ذلك بأن الله لو شاء لأراهم شخصه حتى يأتوه من بابه ولكن جعل آل محمد أبوابه التي يؤتى منها وذلك قوله عزّ وجلّ : وأتو البيوت من أبوابها.

٩٣

وسلّم) أبواب الله وسبيله والدعاة الى الجنة والقادة إليها والأدلاء عليها الى يوم القيامة (١).

ف ـ (لَيْسَ الْبِرُّ) في حساب الله (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) أية بيوت كانت (مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) محارم الله على أية حال ، وفي كل حلّ وترحال (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ) في كل إتيان الى كل البيوت (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في إتيانكم كل البيوت المتاحة لكم.

فالأصل هو تقوى الله في كل الوجهات وإتيان البيوتات ، لو لولاها لم يفلحكم إتيان البيوت لا من ظهورها ولا من أبوابها ، ثم وإتيانها من ظهورها هو خلاف تقوى الله.

فثلاثة أرباع من الصلات بين شطري الآية بين أيدينا ماثلة حاصلة ، ثم الرابع هو ارشاد عام في إتيان الأمور من وجوهها فطريا وفكريا وعقليا وشرعيا ، تحذرا عن اللفتات والفلتات والقفزات ، حيث «أبي الله ان يجري الأمور إلا بأسبابها».

هنا «من اتقى» خبرا للبر للمبالغة ان «من اتقى» هو البر كله حيث التقوى تبرر ساحة المتقي عن كل ما يخالف البر ، ولذلك (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في مصارع الحياة ومعاركها.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠).

«وقاتلوا» أمر بالدفاع عن انفس المسلمين قتالا (فِي سَبِيلِ اللهِ) دون

__________________

(١) المصدر في تفسير العياشي عن سعد عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : سألته عن هذه الآية فقال : ...

٩٤

سائر السبيل وقد سئل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمن يقاتل في سبيل الله فقال : هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة (١).

أجل إنه فقط قتال في سبيل الله دون سائر السبل التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة دونما أصل إلّا قضية الأمجاد والاستعلاء في الأرض ، ولا في سبيل المغانم وسائر المكاسب السياسية أمّاهيه ، ولا في سبيل تسويد طبقة على اخرى او جنس على آخر ، انما هو (فِي سَبِيلِ اللهِ) لا سواه ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ولم يكن الدفاع الدموي مسموحا فيه في العهد المكي لظروف مضت واقتضت الحالة السلبية أمام الهجمات الكافرة ، وهنا وبعد الإذن في القتال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...) (٢٢ : ٣٩) يؤمر المسلمون بقتال من يقاتلهم دون اعتداء وهو قتال من لا يقاتلهم من سائر الكفار ، والإهلين من مقاتليهم ، وهكذا كان يأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «فيقول انطلقوا باسم الله وفي سبيل الله تقاتلون اعداء الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا» (٢).

ومن الاعتداء ملاحقة المدبر عن المعركة ، او مقاتلة من ألقى إليكم السّلم أمّن ذا من هؤلاء الذين ليسوا في حالة القتال مهما كانوا مقاتلين قبل هنيئة وقد تكون هذه الآية اولى ما نزلت بشأن الأمر بالقتال مهما كانت آية الحج أولاها بشأن الإذن لها : فلما نزلت كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقاتل

__________________

(١) تفسير الرازي ٥ : ١٢٧ روى ابو موسى ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سئل ...

(٢) الدر المنثور ١ : ٢٠٥ ـ أخرج ابن أبي شيبة عن انس قال كنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول : ....

٩٥

من قاتل ويكف عن قتال من تركه وبقي على هذه الحالة إلى ان انزل الله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ومن الاعتداء مقاتلة غير المقاتل وهو القتال البدائي ، إذ كان محرما في البداية ثم سمح فيها (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في كل الحقول ، و «لا يحب» من الله هي عبارة أخرى عن «يبغض» إذ لا يصح في ساحته سلب الحب والبغض لكائن هو كوّنه ، اللهم إلّا جهلا بحاله وسبحانه عن أن يجهل ، فهو يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ولا عوان بينهما غير محبوب له ولا مبغوض ، إذ لا يخلو إنسان عن حالة طاعة او عصيان.

وترى القتال خاصة بمن يقاتلنا؟ (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٣ : ٢١٧) و «الذين يسعون في الأرض فسادا» هم اخطر من المقاتلين ، أمّن ذا ممن يجوز او يجب قتالهم!.

قد يعني «وقاتلوا» هنا المرحلة الثانية في شأن القتال فانها كأمثالها من أحكام مرحلية ، فقد اذن في القتال بداية العهد المدني ، ثم أمر بها هنا دفاعيا في خصوص الذين يقاتلونكم دون اعتداء ، ثم سمح أو أمر بقتال المفتنين والساعين في الأرض فسادا شخصيا وجماهيريا ، ثم الدفاع الهجومي حفاظا على المستضعفين المظلومين المضلّلين (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) (٣ : ١٦٧) ـ (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) (٤ : ٧٦) (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (٩ : ١٢).

ثم يحلّق القتال على كل الحقول الكافرة وربوعها : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (٣ : ١٩٣) (... وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٥ : ١٢٧ قال الربيع وابن زيد هذه الآية أول آية نزلت في القتال فلما نزلت ...

٩٦

(٨ : ٣٩) إعلانا صارخا بتداوم القتال حتى لا تكون أية فتنة سلبا لها ككل من كل المفتتين : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) تحليقا لطاعة الله على كل الربوع باستقرار حاكمية اسلامية سامية عالمية حيث ننتظرها في الأيام الأخيرة في الدولة المهدوية المظفرة.

لذلك فقد تكون هذه الآيات متفاصلة النزول فترة بعد اخرى حتى تصدق المرحلية الباهرة منها ، ونحن نعيش بعد الأخيرة منها المرحلة الأخيرة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) إذا فحياتنا نحن المسلمين اجمع هي حياة القتال سلبا لأية فتنة وإيجابا لدولة الحق العالمية حتى يأتي دورها بمواصلة المجاهدات الجادّة من مجاهدين مسلمين في كل المعمورة.

فالجهاد في سبيل الله سلبيا لإزالة النكبات والعقبات ، وايجابيا لاقامة دولة الحق ، ذلك هو حياة المسلم على طول الخط ، في مختلف الحقول الحيوية الانسانية والاسلامية السامية ، علميا وعقيديا وأخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وحربيا ، بحرب حارة أم باردة.

ففرض المقاتلة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) يحلّق على كل العصور الإسلامية ، مهما كانت زمن الغيبة هي تعبيد الطريق وتوطئة لاجتثاث الفتن العالمية عن بكرتها.

فسياسة الخطوة بعد الخطوة ، سائرة دائرة في الحفاظ على أنفس المسلمين ، ابتداء من الحياد عن جوّ الإيذاء ، ثم الصبر دون دفاع ، ثم دفاع قدر المقدور عن أنفسهم المهاجم عليها ، ثم الدفاع عن نفوس آخرين مستضعفين ، ثم الدفاع عن ناموس الحق أمام من لا يدينون دين الحق مهما لم يهاجموا هم أنفسهم عقيديا ولا نفسيا ، حملا لهم على سماع الحق فإما تسليما لما تسلّموه أم إخمادا لنائرتهم.

٩٧

وكلّ يقدّر بقدر المستطاع ، دون النزوع الى ما لا يطاق ، وإلى ان يتسلم الإمرة الشاملة ـ على العالم كله ـ ولي الأمر كله عجل الله تعالى له الفرج وسهل له المخرج.

ولما ذا كان الكف عن الدفاع في العهد المكي واجبا لزاما؟ والدفاع ـ على أية حال ـ حق ذاتي لكل من يهاجم؟.

قد يكون من أسبابه تطوع نفوس المؤمنين الأول ـ وهم قواعد بناية الإسلام ـ للتصبّر ، خضوعا لقيادة موحّدة ، وهم شديدو الحماسة لا يتصبرون على الظلم والضيم ، وذلك الصبر يمرّن على الطوع رغم النزعات الشديدة والهياجات المديرة في أية حركة مضادة عليهم ، صبرا بما أمروا (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

ثم البيئة العربية كانت ـ ولا تزال ـ بيئة نخوة ونجدة ، إذا فصبر المسلمين على الأذى وفيهم من يملك الصاع صاعين وأصواعا ، ذلك كان مما يثير نخوة الآخرين وتحريك قلوبهم نحو الإسلام بهكذا مسلمين ، وقد حدث بالفعل في اضطهاد الشعب عند ما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم فيه لكي يتخلوا عن حماية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فلما تفاقم أمر الاشتداد في الاضطهاد ثارت نفوس من قريش نجدة ونخوة ، فمزقت صحيفة المعاهدة الملعونة ضد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتهى الحصار ، كخليفة صالحة لذلك الحياد عن الدفاع في تلك الفترة.

ومن ثم لم يكن من الصالح سياسيا اسلاميا للقيادة العليا الرسالية إثارة حروب دموية داخل البيوت ، إذ كان المسلمون في العهد المكي فروعا قليلة من غزيرة البيوت ، ولم تكن هناك سلطة موحدة تتولى الإيذاء العام ، فلو أذن للمسلمين بالدفاع لكان معناه الإذن في اقامة المعارك المتواصلة في جل البيوت ،

٩٨

مما كان يجعل الإسلام في نظر المشتركين دعوة تفتيت للبيوت ، فأما بعد الهجرة وقد انعزلت الكتلة المؤمنة كوحدة مستقلة وحيدة غير وهيدة فقد تغيّرت الحال فتحولت إلى سماح القتال.

كل ذلك إضافة الى ان مسلمي مكة ـ وهم شذر نزر ـ ما كانوا يستطيعون البقية على أنفسهم ونفائسهم ، فضلا عن الدفاع الدموي ، الذي ما كان يخلّف إلّا استئصالا للكتلة المؤمنة عن بكرتها وهي في بزوغها ولمّا تقوى.

لهذه وأشباهها كان العهد المكي عهد الاستسلام حتى يأتي امر الله وقد أتى ابتداء بالاذن في القتال وانتهاء الى حرب دائبة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وطبعا بعد إلقاء الحجة الساطعة والبيان ، والتأكد من عناد الكفار وصمودهم على إثارة الفتن.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١٩١).

«هم» المكرورة هنا راجعة إلى المقاتلين من الكفار وليسوا هم جميعا ، فالحرب حتى الآن هي الدفاعية المحضة دونما أية هجمة ابتدائية.

و «ثقفتموهم» لا تعني فقط وجدتموهم او اخذتموهم (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٣٣ : ٦١) فهي أخص من وجدتموهم : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٩ : ٦).

والثقف هي الدرك الدقيق المحيط مع حذق وشطارة ، فهي الملاحقة الدقيقة الحاذقة الشاطرة ، مما يدل على ان ملاحقة المقاتلين مسموحة ، اللهم إلّا إذا انتهوا او استسلموا وألقوا إليكم السلم ، او أدبروا عن المعركة دونما عزم على المواصلة ولا فتنة.

٩٩

ثم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) هو من الاعتداء بالمثل ، فكما أخرجوكم عن حرم الله أخرجوهم عنه ولا تسمحوا لهم بالمقام عنده ، فلقد فتنوكم إذ أحرجوكم حتى أخرجوكم ، فتنة عن دينكم ، وضغطا عليكم حتى تتركوه (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ـ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ...) (٢ : ٢١٧) فالارتداد عن الدين هو أشد واكبر من القتل ، لأن ذلك قتل للأرواح وهذا قتل للأجساد ، كذلك ومحاولة الارتداد أشد واكبر من القتال التي هي محاولة القتل ، فليقاتل صاحب الفتنة كما يقاتل المقاتل وهو أحرى ان يقاتل.

فلأن «الفتنة أشد واكبر من القتل» فقد يجوز او يجب قتال المفتتنين وان لم يكونوا مقاتلين إنذارا عليهم في البداية حتى يكفوا عن فتنتهم ، ثم يقاتلون ان لم ينتهوا ، حيث الفتنة أشد واكبر من القتل. والأكبر ـ هو بطبيعة الحال ـ أوجب قتالا.

ف ـ «قاتلوهم ـ واقتلوهم» ولكن (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حرمة له (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) مما يلمح لسماح قتالهم في سائر الأمكنة وان لم يقاتلوكم ما هم مفتتنون «كذلك» البعيد المدى ، السديد الصدى (جَزاءُ الْكافِرِينَ) مقاتلين او مفتتنين.

وإذا كانت مقاتلة المشركين وقتلهم عند المسجد الحرام محظورا إلّا إذا قاتلوا عنده ، فبأحرى محظورا قتل المسلم المذنب اللاجئ الى المسجد الحرام ، مهما يضيق عليه حتى يخرج فيقام عليه الحد.

و (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لا «فيه» كما (يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) علّه للتأشير إلى توسعة مكان الحظر عن قتالهم أنه ليس فقط «في المسجد الحرام» بل و (عِنْدَ

١٠٠