عامر الحلو
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: منشورات مركز أهل البيت عليهم السلام الثقافي الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٢٠
ولعل الحكمة في تخصيص النبي اليوم الأول من أيام شهر رمضان المبارك بكل هذه القيم والمبادئ والمفاهيم الروحية والتربوية لعل ذلك يرجع إلى كونه أول يوم من شهر مبارك ، خصه الله بنزول القرآن ونزول الكتب السماوية ، وبالصوم ، وجعل فيه ليلة هي عند الله خير من ألف شهر وهي : ليلة القدر ، فهو أول يوم من هذا الشهر يُقبل الإنسان على ربه بهذه الطاعة ، وبهذه العبادة تقربا واحتسابا لما عند الله تعالى .
دعاء اليوم الثاني :
« اللهم قربني فيه إلى مرضاتك وجنبني فيه من سخطك ونقماتك ، ووفقني فيه لقراءة آياتك برحمتك يا أرحم الراحمين »
أضواء على هذا الدعاء :
القرب تارة يكون قرباً حسياً ملموساً ، مثل قرب بعضا من بعض حيث أن هذا القرب يلمس ويُحس وله أبعاده ومشخصاته .
وتارة يكون قربا معنويا وهنا هو المطلوب في الدعاء ، أي يا رب أجعلني بطاعتي وعبادتي في هذا اليوم قريبا إلى رضاك ورضوانك .
وقد فُسر القرب بعدة تفاسير بالنسبة إلى قرب الله من عبده ، في قوله تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ١ .
فقيل :
١ ـ قريب بالإجابة .
وقيل :
٢ ـ قريب بالعلم ، بمعنى أن علمه تعالى محيط بكل شيء ، فهو يسمع أقوال العباد ويرى أعمالهم .
__________________
١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٦
وهو منزه عن الانحصار في مكان وهو القائل : ( وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) ١ ، وهو تعالى متعال عن القرب الحسي لتعاليه عن المكان ونظيره .
ثم يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« وجنبني فيه من سخطك ونقماتك »
ورد في اللغة : جنبه الشيء تجنيبا ، بمعنى : نحّاه عنه ومنه ، قوله تعالى : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) ٢ .
ومعنى ما ورد في الدعاء أي باعد بيني وبين ما يوجب سخطك ونقمتك ، وهو المعاصي والذنوب التي تسبب غضب الله وعذابه ، والسّخَط والسُخْط ضد الرضا وقد سخط أي غضب ، فهو ساخط وأسخطه أغضبه .
والنقمة جمعها نَقِمات ونقم عليه فهو ناقم أي عتب عليه ، وانتقم الله منه عاقبه ٣ .
أي جنبني يا رب عن ما يُسبب عقابك وانتقامك ، واجعلني من أهل طاعتك الذين يستحقون ثوابك وثوابهم جنتك التي وعدت بها عبادك المخلصين .
ثم ينتقل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعائه فيطلب من الله تعالى أن يوفقه لتلاوة آيات القرآن الكريم فإن شهر رمضان شهر القرآن ، وشهر التلاوة ، وشهر الذكر والقراءة المفيدة النافعة يجب أن تكون قراءة تدبر وتأمل ، وتلاوة القرآن الكريم والإكثار منها يفتح آفاق النفس على رحاب الله تعالى ، وتنفع
__________________
١ ـ سورة البروج ، الآية : ٢٠
٢ ـ مختار الصحاح : ١١٢
٣ ـ مختار الصحاح : ٦٧٨
صاحبها دنيا وآخرة .
قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : « نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن ولا تتخذوها مقابر ، فإن البيت إذا كثرة فيه التلاوة كثر خيره وأتسع أهله وأضاء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض » .
والقراءة في شهر رمضان لها حلاوة وطعم لذيذ لأنه موسم القرآن الكريم ، وفي الحديث : « أن لكل شيء ربيعا وربيع القرآن هو شهر رمضان » ، يُستحب في سائر الأيام ختم القرآن ختمه واحدة في كل شهر ، وأما في شهر رمضان فالمسنون فيه ختمه في كل ثلاثة أيام .
ثم يستمطر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رحمة ربه الغفور الرحيم ، بل هو الأرحم من كل شيء ، وقد نعت ذاته المقدسة بأنه أرحم الراحمين ، وهو الرحمن الرحيم ، والذي وسعت رحمته كل شيء ، وسبقت رحمته غضبه .
دعاء اليوم الثالث :
« اللهم أرزقني فيه الذهن والتنبيه ، وباعدني فيه من السفاهة والتمويه ، وأجعل لي نصيبا من كل خير تُنزله فيه يا أجود الأجودين »
أضواء على هذا الدعاء :
[ طلب الرزق من وظيفة العباد وتنظيم الأمور وترتيب الأسباب الظاهرية وغير الظاهرية التي تخرج عن اختيار العباد غالبا ، فيكون بتقدير من الباري تعالى ] ١ .
قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ٢
وكما أن الله تعالى يزرق الإنسان رزقا يسد به رمقه ويستعين به على أمور حياته ومن معه في الدنيا ، كذلك يرزق أمورا أخرى مثل : الجاه ، والذكاء ، والشجاعة ، وقوة الحافظة ، والخلود للشهداء الذين يضحون من أجل دينهم ومبادئهم قال تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ٣
[ ومعنى قوله : ( يُرْزَقُونَ ) أي : يرزقون النعيم في قبورهم ، فهم أحياء حياة محققة ، وترد إليهم أرواحهم في
__________________
١ ـ الأربعون حديثا : ٦١٣
٢ ـ سورة الملك ، الآية : ١٥
٣ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩
قبورهم فينعمون وإن أرواحهم تدخل الجنة في وقت خروجها من الأجساد ] ١ .
وبالعودة إلى دعاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في اليوم الثالث من شهر رمضان المبارك نجد أنه يطلب من الله تعالى أن يرزقه الذهن ، و [ الذهن لغة الفِطنة والحفظ والتنبيه ، وهو مأخوذ من قولهم نَبُه الرجل أي شَرُف واشتهر فهو نبيه ونابه وهو ضد الخامل ، ونبه غيره تنبيها رفعه من الخمول ] ٢ .
والذي يتضح من هذه الفقرة أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الله أن يرزقه في هذا اليوم الذهن الوقاد المتيقظ ، والنباهة التامة الكاملة ليكون قويا في طاعة الله ، وقادرا على تأدية فرائضه ومستحباته .
ثم ينتقل إلى الفقرة الأخرى من الدعاء فيقول :
« وباعدني فيه من السفاهة والتمويه » .
وهو تماما عكس الذهن والتنبيه ، حيث نجد في اللغة أن [ السفه ضد الحلم ، وأصله الخفة وسفه الرجل صار سفيها ، والسفاهة هي الخفة وعدم الاتزان ، والسفيه هو الذي لا يُحسن التصرف لخفة عقله .
ـ والتمويه لغة مأخوذ من قولهم ـ موه الشيء تمويها طلاه بفضة أو ذهب وتحت ذلك نحاس أو حديد ، ومنه التمويه وهو التلبيس ] ٣ .
__________________
١ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن : ٤ / ٥٥٣
٢ ـ مختار الصحاح : ٢٢٤ و ٦٤٤
٣ ـ مختار الصحاح : ٣٠٢ و ٦٤٠
وهو منهي عنه قرآنياً حيث يقول الحق تبارك وتعالى : ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ١
وهذا ما يدعو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ربه أن يبعده عنه ، لأنه لا يتناسب مع الصيام الذي جعله الله جُنة ووقاية من كل الذنوب الظاهرة والباطنة .
ثم يدعو النبي ربه أن يجعل له في هذا اليوم نصيبا ، أي : حظاً وقسمة من كل خير يُنزله الله في ذلك اليوم على عباده من البركات وطول العمر ، ودفع البلايا والأسقام ، وغيرها .
والله تعالى هو الجواد الكريم المنعم المتفضل ، بل هو وحسب دعاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أجود الأجودين ، أي : أكرم الأكرمين ، وهو كذلك أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين ، وأحسن الخالقين ، وتلك أمور لا يعرفها إلا العارفون .
__________________
١ ـ سورة البقرة ، الآية : ٤٢
دعاء اليوم الرابع :
« اللهم قوني فيه على إقامة أمرك ، وأذقني فيه حلاوة ذكرك ، وأوزعني فيه لأداء شكرك بكرمك ، واحفظني فيه بحفظك وسترك يا أبصر الناظرين »
أضواء على هذا الدعاء :
في هذا الدعاء يطلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الله القوة وهو مصدرها وهو القائل : ( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا ) ١ .
وفي اللغة : [ القوة ضد الضعف ، والقوة الطاقة وجمعها قوى ، ويقال : رجل شديد القوى ، أي : شديد أسْرِ الخَلقَ ] ٢ .
والدعاء يتضمن طلب القوة من الله تعالى لإقامة أمر الله تعالى من : صوم ، وصلاة ، وتلاوة ، والتذاكر في العلم وسائر العبادات التي تحتاج إلى طاقة وقوة جسدية ، وروحية ، وفكرية ليتمكن الإنسان للقيام بها .
ثم يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« وأذقني فيه حلاوة ذكرك »
وهو غاية في البلاغة ، وكيف لا يكون كذلك ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أفصح من نطق بالضاد ، فقد جعل الذكر حلوا ، وأن الإنسان ليتذوق الحلو ، وذكر الله تعالى هو سبيل أوليائه وهو
__________________
١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٦٥
٢ ـ مختار الصحاح : ٥٥٨
القائل : ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ١ .
ويقول : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) ٢ .
ويقول : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ ) ٣
ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « وأوزعني فيه لأداء شكرك بكرمك »
وقد ورد في اللغة : [ أوزعه بالشيء أغراه به واستوزعتُ شكر الله فاوزعني ، أي : استلهمته فألهمني ] ٤ .
والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو ربه أن يلهمه القدرة والتمكن من أداء شكره تعالى على نعمه الكثيرة وآلائه العميمة ، والتي هي لا تعد ولا تُحصى .
قال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ) ٥ ، وكيف يؤدي العبد شكر الله المنعم المفضل ؟
يكون ذلك بلزوم طاعته والانتهاء والكف عن معصيته ، والشكر تارة يكون باللسان وهو المتعارف عليه ، وتارة يكون بالعمل الصالح .
قال تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ) ٦ .
كل ذلك يتم بكرم وتفضل وجود من الله تعالى ، ثم يدعو صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحفظه الله فيه بحفظه لأنه هو الحافظ ، القادر على الحفظ دون غيره ، وهو القائل عز من قائل : ( فَاللَّـهُ خَيْرٌ
__________________
١ ـ سورة الرعد ، الآية : ٢٨
٢ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٥٢
٣ ـ سورة الحديد ، الآية : ١٦
٤ ـ مختار الصحاح : ٧١٩
٥ ـ سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤
٦ ـ سورة سبأ ، الآية : ١٣
حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ١ .
وهو الساتر الذي يستر على عباده عيوبهم ، وهو عز وجل يحب الستر والساترين ، وقد ورد في الدعاء : « يا من أظهر الجميل وستر القبيح ، يا من لم يؤاخذ بالجريرة ، يا من لم يهتك الستر »
وقد ورد في اللغة : [ السُترة ما يُستر به كائنا ما كان ، ورجل مستور وستير ، أي : عفيف ، والمرأة ستيرة ، أي : عفيفة ] ٢ .
وقد يكون الستر والحفظ معنى واحد في بعض الأحيان . والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الدعاء يطلب من الله تعالى الحفظ والستر من غوائل الدنيا ، ومصائب الحياة ، ما ظهر منها وما بطن ، وما عُرف منها وما خفيُّ ، وكل ذلك مرده إلى الله تعالى ، فهو القادر على كل شيء وهو أرحم الراحمين ، وهو أبصر الناظرين كما ختم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك دعائه .
__________________
١ ـ سورة يوسف ، الآية : ٦٤
٢ ـ مختار الصحاح : ٢٨٦
دعاء اليوم الخامس :
« اللهم اجعلني فيه من المستغفرين ، واجعلني فيه من عبادك الصالحين القانتين ، واجعلني فيه من أوليائك المقربين برأفتك يا أرحم الرحمن »
أضواء على هذا الدعاء :
الجعل قسمان وهما :
١ ـ الجعل التكويني :
قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) ١ ، وقد ورد في تفسيرها : [ جعلناكم شعوبا وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض ، بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا ويتم بذلك أمر اجتماعكم ] ٢
وهذا الجعل جعل تكويني .
٢ ـ الجعل التشريعي :
[ ويراد به ثبوت الحكم في الشريعة ، أي : تشريعه من قبل الله تعالى مثل : وجوب الحج على المسلم ] ٣ .
قال تعالى : ( وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ٤ .
__________________
١ ـ سورة الحجرات ، الآية : ١٣
٢ ـ الميزان في تفسير القرآن : ١٨ / ٢٢٥
٣ ـ معجم المصطلحات الأصولية : ٦١
٤ ـ سورة آل عمران ، الآية : ٩٧
والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعو الله تعالى أن يجعله من المستغفرين فيه ، والاستغفار درجة عالية من درجات عباد الله المخلصين ، وقد سمع أمير المؤمنين علي عليهالسلام رجل يقول : [ أستغفر الله ] فقال : « أتدري ما الاستغفار ؟ ، الاستغفار درجة العليين ، وهو أسم واقع على معان ستة :
١ ـ الندم على ما مضى من المعصية أبدا .
٢ ـ العزم على ترك المعصية أبدا .
٣ ـ أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملسا ليس عليك تبعه .
٤ ـ أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها .
٥ ـ أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ لحم جديد .
٦ ـ أن تذيق الجلد ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله » ١ .
ثم يقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعائه :
« واجعلني فيه من عبادك الصالحين القانتين »
والعبودية لله تعالى أشرف صفة يتصف بها صفوة أولياء الله ، فهي مقدمة حتى على النبوة ، قال تعالى : ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ٢
وقال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ٣ .
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ٧٥٣
٢ ـ سورة مريم ، الآية : ٣٠
٣ ـ سورة الإسراء ، الآية : ١
وصفوة عباد الله الصالحون ، ولذلك يطلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعائه أن يكون منهم ، قال تعالى :
( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) ١ .
والقنوت : أصله الطاعة ، ومنه قوله تعالى : ( وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ) ، وقوله تعالى : ( وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ ) ٢ .
[ وأكثر علمائنا قالوا باستحبابه في الصلاة ، وقال الشيخ الصدوق ، وابن عقيل : بوجوبه ، ومحله في جميع الصلوات الواجبة والمندوبة بعد قراءة السورة الثانية ، وقبل ركوعها ، وفي الجمعة قنوتان في الأولى قبل الركوع ، وفي الثانية بعده ، والقنوت كله جهار كما في رواية زرارة عن الإمام الباقر عليهالسلام ، ويذكر أن الإمام الشافعي ـ محمد بن إدريس ـ كان يقنت بصلاة الصبح فقط لما كان بالقاهرة ، فلما جاء إلى بغداد لم يقنت احتراما لمذهب : أبي حنيفة ] . ٣
ثم يدعو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقول :
« واجعلني فيه من أوليائك المقربين »
أي : أجعلني من المحبين المقربين لك بالطاعة والتهجد .
[ والأولياء جمع ولي ، وهو لغة ضد العدو وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ] ٤ .
والولي هو : المحب ، والناصر ، والجار ، والحليف ، وابن العم كذلك .
__________________
١ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٥
٢ ـ سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨
٣ ـ كنز العرفان ، ١ / ١٤٥
٤ ـ مختار الصحاح : ٧٣٦
ولا يكون العبد وليا لله مقربا منه إلا إذا أخلص الطاعة لله تعالى فيكون منه قريبا بالرحمة ، والمغفرة ، والرضوان ، والثواب ، وقد ورد في دعاء كميل لأمير المؤمنين علي عليهالسلام قوله :
« واجعلني من أحسن عبيدك نصيبا عندك ، وأقربهم منزلة منك ، وأخصهم زلفة لديك » ١ .
__________________
١ ـ مفاتيح الجنان : ١٠٥
دعاء اليوم السادس :
« اللهم لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك ، ولا تضربني فيه بسياط نقمتك ، وزحزحني فيه من موجبات سخطك بمنك وأياديك يا منتهى رغبة الراغبين »
أضواء على هذا الدعاء :
يتضمن هذا الدعاء كما هي العادة فيما مضى عدة فقرات تحمل مضامين عالية في التربية والتهذيب ، وسوف نأخذ الفقرة الأولى التي يقول فيها المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« اللهم لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك »
والخذلان مأخوذ لغة : [ من خذلُه يخذلُه خِذلانا ـ بكسر الخاء ـ أي ترك عونه ونصرته ] ١
فالنبي هنا يطلب من الله أن ينصره على النفس ، وأن يعينه على الطاعة لأن التعرض للمعصية خِذلان ، وقد ورد في دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين علي عليهالسلام قوله :
« وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خِذلانك إلى حيث النصب والحرمان » ٢ .
« ولا تضربني فيه بسياط نقمتك »
وهذا لون بلاغي فريد من نوعه وجديد في بابه ، فجعل للنقمة
__________________
١ ـ مختار الصحاح : ١٧١
٢ ـ مفاتيح الجنان : ٩٨
سياط يضرب بها الله تعالى من يعصيه ويؤدب بها من يخالف أوامره ونواهيه ، ومعناه لا تجعل عقابك ضربك لي بسياط النقمة .
والنقمة لغة مأخوذة من : [ نقم عليه فهو ناقم ، أي : عتب عليه ، وأنتقم الله منه عاقبه ] ١ .
« وزحزحني فيه من موجبات سخطك »
ومعنى ذلك أي : باعد بين وبين ما يوجب سخطك وغضبك ، وليس إلا المعصية ما يجب سخط الله وغضبه ، وكل المعاصي توجب سخط الله ، وترك الطاعات أيضا يوجب سخطه تعالى .
والمعنى اللغوي للزحزحة هو : [ زحزحه عن كذا باعده ، وتزحزح تنحى ] ٢ .
ومنه قوله تعالى : ( فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ٣ .
وقد جاء في تفسيرها : [ نُجي من النار وفاز وظفر بالبغية ] ٤ .
وقوله تعالى : ( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ) ٥ .
وقد جاء في تفسيرها : [ بمباعده من العذاب ] ٦ .
__________________
١ ـ مختار الصحاح : ٦٧٨
٢ ـ مختار الصحاح : ٢٦٩
٣ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٨٥
٤ ـ تفسير شبر : ١٠٥
٥ ـ سورة البقرة ، الآية : ٩٦
٦ ـ تفسير شبر : ٥٤
« بمنك وأياديك يا منتهى رغبة الراغبين »
والمَن كما قال الزجاج : [ كل ما يمُن الله تعالى به مما لا تعب فيه ولا نصب ، ومَن عليه أنعم ، والمنان مِن أسماء الله تعالى ] ١ .
والمقصود هنا به التفضل الإلهي على العبد ، ومنه قول أمير المؤمنين علي عليهالسلام في دعاء كميل المشهور : « ومُنّ عليّ بحُسن إجابتك وأقلني عَثرتي وأغفر زلتي » ٢ .
والأيادي : مأخوذة لغة من : [ اليد ، وهي : النعمة والإحسان ] والأيادي هنا النعم الإلهية التي تكرم بها على الخلق ، والأيادي لغة أيضا ، جمع الأيدي ومنه قول الشاعر :
له أيادٍ عليّ وافرة |
|
أعدُّ منها ولا أعددها |
« يا منتهى رغبة الراغبين »
ومعناه يا من لا يرجو الراغبون غيره ، ولا يرجعون إلا إليه لأنه المنتهى للراغب ، والقاضي حاجات الطالب .
والرغبة لغة من : [ من رغب فيه أراده ، ورغب عنه لم يُرده ] ٣ .
__________________
١ ـ مختار الصحاح : ٦٣٦
٢ ـ مفاتيح الجنان : ١٠٥
٣ ـ مختار الصحاح : ٢٤٨
دعاء اليوم السابع :
« اللهم اعني فيه على صيامه وقيامه ، وجنبني فيه من هفواته وآثامه ، وارزُقني فيه ذكرك بدوامه بتوفيقك يا هادي المضلين »
أضواء على هذا الدعاء :
في هذا الدعاء يطلب المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم من الله الإعانة على الصيام والقيام في ذلك اليوم ، وليس للمؤمن عون إلا الله خصوصا في الهداية والتوفيق للطاعة والبُعد عن المعصية .
والعون لغة هو : [ الظهير على الأمر ، والجمع الأعوان ، والمعونة الإعانة .
وفي الدعاء : « رَبِّ أعني ولا تُعن عليّ » ١ .
وقد ورد في الدعاء أيضا : « اللهم أعنا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم »
وفي الدعاء أيضا : « اللهم وأعنا على الاستنان بسنته فيه ونيل الشفاعة لديه ، اللهم وأجعله شفيعا مشفعا ، وطريقا إليك مهيعا » ٢ .
ثم ينتقل صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الفقرة الثانية فيقول :
« وجنبني فيه من هفواته وآثامه »
__________________
١ ـ مختار الصحاح : ٤٦٣
٢ ـ مفاتيح الجنان : ٢١٧
أي : باعد يا ربي بيني وبين الهفوات والآثام التي توجب البعد عن الله تعالى ، والقرب من الشيطان .
و [ الهفوات : جمع هفوة ، وهي : الزلة مأخوذة من هفا يهفو هفوة ] ١ .
و [ الآثام : جمع أثم ، وهو : الذنب وقد أثم إثما ومُأثما إذا وقع في الآثم ، فهو : آثم ، والمأثوم المجزي جزاء إثمه .
وقد تسمى الخمر إثما ومنه قول الشاعر :
شربت الآثم حتى ضلّ عقلي |
|
|
كذلك الآثم تَذهب بالعقول ] ٢ |
ثم يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« وارزقني فيه ذكرك بدوامه »
أي : أجعلني دائم الذكر لك في ذلك اليوم ، وليكن لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما .
« وبتوفيقك يا هادي المضلين »
والتوفيق من الله تعالى يهبه لمن يستحق التوفيق ، ومن أكثر من النبي الأكرم عند الله توفيقا .
والله تعالى هو الهادي الذي يهدي المضلين الغافلين لكي يرتدعوا ويعودوا إلى طريق الصواب ، ويبتعدوا عن طريق الضلال .
__________________
١ ـ مختار الصحاح : ٦٩٦
٢ ـ مختار الصحاح : ٦
دعاء اليوم الثامن :
« اللهم أرزقني فيه رحمة الأيتام ، وإطعام الطعام ، وإنشاء السلام ، وصحبة الكرام بطولك يا ملجأ الأملين » .
أضواء على هذا الدعاء :
يقول المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعاء هذا اليوم : اللهم أرزقني أن أكون رحيما للأيتام ، والرحمة باليتيم لها مصاديق منها :
١ ـ أن تمسح على رأسه لتعوضه حنان من فقد .
٢ ـ أن لا تأكل ماله كما نهانا عن ذلك القرآن ، إذ يقول الحق تبارك وتعالى : ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ١ .
٣ ـ أن ندخل على قلبه الفرح ، والسرور ، وأن نمد له يد المساعدة وقد ورد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله : « أن في الجنة دارا يقال لها الفرح لا يدخلها إلا من فرح يتامى المؤمنين »
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا أتقى الله عز وجل » وأشار بالسبابة والوسطى ، وأتي إلى النبي برجل يشكو قسوة قلبه ، قال له :
« أتُحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ، أرحم اليتيم وأمسح رأسه وأطعمه من طعامك يلين قلبك وتدرك حاجتك » .
__________________
١ ـ سورة الأنعام ، الآية : ١٥٢