قال «القلقشندي» وقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عمّاله فيه لحن في لفظه ، فكتب إلى عامله : قنّع هذا سوطا معاقبة على لحنه (١).
وخاصم نحويّ نحويا آخر عند بعض القضاة في دين عليه ، فقال : «أصلح الله القاضي! لي على هذا درهمان».
فقال خصمه : «والله ـ أصلحك الله ـ إن هي إلّا ثلاثة دراهم ، ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهما» (٢).
فـ «النحو» لا يستغنى عنه ، ولا يوجد بدّ منه ، ومن جهله فبضاعته من العلوم مزجاة ، وفهمه عقيم ، ومن أتقنه وبرّز فيه فهو من أصحاب السبق ، لأن «النحو» مرقاة للوصول إلى جميع الفنون ، وهاك بعض الأمثلة لتقريب هذه الفكرة.
قال «أبو إسحاق الشاطبي» ـ ٧٩٠ ه : يحكى عن «الفراء» ـ ٢٠٧ ه أنه قال : من برع في علم واحد سهل عليه كلّ علم. فقال له «محمد بن الحسن» ـ ١٨٩ ه القاضي ـ وكان حاضرا في مجلسه ذلك ، وكان ابن خالة الفراء ـ : أنت قد برعت في علمك ، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك! ما تقول فيمن سها في صلاته ، ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟ قال «الفراء» : لا شيء عليه ، قال : وكيف؟
قال : لأن التصغير عندنا لا يصغّر ، فكذلك السهو في سجود السهو لا
__________________
(١) «صبح الأعشى» ١ : ١٧٠.
(٢) «صبح الأعشى» ١ : ١٧٢ ، و «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٨.
يسجد له ؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير ، فالسجود للسهو هو جبر للصلاة ، والجبر لا يجبر ، كما أن التصغير لا يصغر.
قال القاضي : ما حسبت أن النساء يلدن مثلك (١).
وروي أن «أبا يوسف» ـ ١٨٢ ه دخل على «الرشيد» ـ ١٩٣ ه و «الكسائيّ» ـ ١٨٩ ه يداعبه ويمازحه ، فقال له «أبو يوسف» : هذا الكوفي قد استفرغك (٢) ، وغلب عليك. فقال : يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل (٣) عليها قلبي. فأقبل «الكسائي» على «أبي يوسف» فقال : يا أبا يوسف! هل لك في مسألة؟ فقال : نحو أم فقه؟
فقال : بل فقه. فضحك «الرشيد» حتى فحص (٤) برجله ، ثم قال : تلقى على «أبي يوسف» فقها؟ قال : نعم ، قال : يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته : (أنت طالق أن دخلت الدار) وفتح «أن» (٥)؟ قال : إذا دخلت طلقت ، قال : أخطأت يا أبا يوسف ، فضحك «الرشيد» ، ثم قال : كيف
__________________
(١) وهذا من قبيل حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده ، حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد.
(٢) قالوا : استفرغ فلان مجهوده في كذا : بذله كلّه فيه واستقصاه.
(٣) قالوا : اشتمل عليه : احتواه وتضمنه.
(٤) قالوا : فحص الأرض : حفرها ، والشيء : كشفه.
(٥) «إن» المكسورة من ألفاظ الشرط (أي : علامات وجود الجزاء) ، فلو فتحها وقع للحال ما لم ينو التعليق فيدين «الدر المختار».
(قوله : فلو فتحها وقع للحال) هو قول الجمهور ؛ لأنها للتعليل ، ولا يشترط وقوع العلة وقت الوقوع ، بل يشترط الطلاق نظرا لظاهر اللفظ.
وزعم «الكسائيّ» مناظرا لـ «الشيباني» في مجلس «الرشيد» أنها شرطية بمعنى «إذا» ، وهو مذهب الكوفيين. ورجحه في «المغني».
وعلى كل حال إذا نوى التعليق ينبغي أن تصح نيته (نهر) مختصرا ، وإلى ذلك أشار الشارح بقوله :
فيدين. «حاشية ابن عابدين» ٢ : ٤٩٨.
«فائدة» «النهر» كتاب في الفقه الحنفي. ومؤلفه : العلامة الشيخ عمر سراج الدين ، الشهير بـ «ابن نجيم» ، الفقيه المحقق ، الرشيق العبارة ، الكامل الاطلاع ، كان متبحرا في العلوم الشرعية ، غواصا على المسائل الغريبة ، محققا إلى الغاية ، وجيها عند الحكام ، معظما عند الخاص والعام ، توفي سنة ١٠٠٥ ه «حاشية ابن عابدين» ١ : ١٨.
الصواب؟ قال : إذا قال : «أن» فقد وجب الفعل ووقع الطلاق ، وإن قال :
«إن» فلم يجب ولم يقع. قال : فكان «أبو يوسف» بعدها لا يدع أن يأتي «الكسائي».
فهذه مسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين. (١)
__________________
(١) «الموافقات» ١ : ٨٤ ـ ٨٥.
الفصل الثاني :
فائدة تعلم النحو
عقد «أبو القاسم الزجاجي» ـ ٣٣٧ ه في كتابه «الإيضاح» ص : ٩٥ ، بابا ، ذكر فيه الفائدة في تعلم النحو ، قال فيه :فإن قال قائل : فما الفائدة في تعلّم النحو ، وأكثر الناس يتكلمون على سجيتهم بغير إعراب ، ولا معرفة منهم به ، فيفهمون ويفهمون غيرهم مثل ذلك؟.
فالجواب : الفائدة فيه : الوصول إلى التكلّم بكلام العرب على الحقيقة ، صوابا غير مبدل ولا مغيّر.
وتقويم كتاب الله ـ عزوجل ـ الذي هو أصل الدين والدنيا. ومعرفة أخبار النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، وإقامة معانيها على الحقيقة ؛ لأنه لا تفهم معانيها على صحة إلا بتوفيتها حقوقها من الإعراب. قال الله ـ عزوجل ـ في وصف كتابه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١) ، وقال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(٢) ، وقال :
(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)(٣). فوصفه بالاستقامة كما وصفه بالبيان في قوله :
(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، وكما وصفه بالعدل في قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا)(٤).
قال «المبرد» كان بعض السلف يقول : عليكم بالعربية ، فإنها المروءة الظاهرة ، وهي كلام الله ـ عزوجل ـ وأنبيائه وملائكته.
وقال «ابن عباس» : ما أنزل الله ـ تعالى ـ كتابا إلا بالعربية ، ثم ترجم لكل نبي على لسان أمته.
__________________
(١) يوسف : ٢.
(٢) الشعراء : ١٩٢.
(٣) الزمر : ٢٨.
(٤) الرعد : ٣٧.
وقال «عمر بن الخطاب» : عليكم بالعربية ، فإنها تثبت العقل ، وتزيد في المروءة.
وقال «عمر» أيضا : لأن أقرأ فأخطئ أحبّ إلي من أن أقرأ فألحن ؛ لأني إذا أخطأت رجعت ، وإذا لحنت افتريت.
وقال «أبو بكر» و «عمر» : تعلّم إعراب القرآن أحبّ إلينا من تعلّم حروفه.
وقال «عمر» لقوم رموا فأساؤوا الرمي ، فقال : بئس ما رميتم. فقالوا : إنا قوم متعلمين ، فقال : والله لخطؤكم في كلامكم أشد من خطئكم في رميكم. سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «رحم الله امرأ أصلح من لسانه» (١).
وقال بعض السلف : ربما دعوت فلحنت ، فأخاف ألّا يستجاب لي.
وقال «علي» ـ كرم الله وجهه ـ : «قيمة كل امرئ ما يحسن».
وهذا قول جامع في فنون العلم.
وبعد : فأدب العرب وديوانها هو الشعر ، ولا يتمكّن أحد من المولدين (٢) من إقامته (٣) إلا بمعرفة النحو. ولا يطيق أحد من المتكلفين قول الشعر أن يتعاطى قوله إلا بعد إتقانه وجوه العربية ، فإن تكلّفه منهم متكلف غير عارف بالعربية خبط في عشواء ، وبان عواره للخاصة في أقرب مدة.
__________________
(١) أورده «ابن الأنباري» في «الوقف والابتداء» ، و «الموهبي» في كتاب «العلم» ، و «ابن عدي» في «الكامل» ، و «الخطيب» في «الجامع لآداب المحدث والسامع» ، و «البيهقي» في «الشعب». كلهم عن «عمر بن الخطاب» ـ رضياللهعنه ـ. وأورده في «الميزان» في ترجمة «عيسى بن إبراهيم» ، وقال : ليس بصحيح. و «ابن عساكر» في «التاريخ» عن «أنس» ـ رضياللهعنه ـ. ورواه عنه «أبو نعيم» ، و «الديلمي» ، وأورده «ابن الجوزى» في «الواهيات» ، وقال : حديث لا يصح. «فيض القدير» ٤ : ٢٣ ـ ٢٤.
(٢) المولّدون : جمع مولّد ، وهو اللفظ الذي استعمله الناس قديما بعد عصر الرواية.
(٣) هذا التغيير منى ، وفي الأصل ولم يمكن أحد من المولدين إقامته).
وهذا باب يطول جدا ، أعني مدح العربية والنحو ، وفيما ذكرت منه مقنع في هذا الموضع ... ا ه بتصرف.
وبالجملة فسبب السلامة من اللحن يكون بتعلم النحو ، أي : بتعلم قدر يعرف به الإعراب.
وسبب السلامة من التصحيف الأخذ من أفواه أهل العلم ، لا من الكتب ، فقلّما سلم من التصحيف من أخذ العلم من الصّحف من غير تدريب المشايخ.
وأخيرا هذه كلمة صادقة أملاها علينا الإنصاف فسجلناها ، لننسب الفضل لروّاده ، لأولئك الذين نقلوا لنا اللغة بكل أمانة وصدق ، كيلا نكون من عصبة الجاهلين ، وزمرة المغرورين.
والله المسؤول أن يأخذ بأيدينا ، ويسدد خطانا في خدمة العلم وأهله.
الفصل الثالث :
آراء علماء الشريعة في تعلّم النحو
أـ لقد ذهب فريق من العلماء إلى أن تعلم القدر اللازم من اللغة العربية واجب ، وما زاد على ذلك فمشغلة.
قال «السخاوي» : صرح «العز بن عبد السّلام» في أواخر «القواعد» أن الاشتغال بالنحو الذي نقيم به كلام الله ـ تعالى ـ وكلام رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من مقدمة الواجب ؛ لأن حفظ الشريعة واجب لا يتأتى إلّا بذلك ؛ ولذا قال «الشعبي» : النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغني عنه أحد. ثم قال «العز» : ... لكن لا يجب التوغل فيه ، بل يكفيه تحصيل مقدمة مشيرة لمقاصده ، بحيث يفهمها ، ويميز بها حركات الألفاظ وإعرابها ، لئلا يلتبس فاعل بمفعول ، أو خبر بأمر ، أو نحو ذلك. قال «أبو أحمد بن فارس» في جزء «ذم الغيبة» له :
إن غاية النحو ، وعلم ما يحتاج إليه منه أن يقرأ فلا يلحن ، ويكتب فلا يلحن ، فأما ما عدا ذلك فمشغلة عن العلم ، وعن كل خير. و «الخطيب» قال في «جامعه» :
إنه ينبغي للمحدّث أن يتّقي اللحن في روايته ، ولن يقدر على ذلك إلا بعد دربة النحو ، ومطالعته علم العربية. ثم ساق عن الإمام «أحمد» أنه قال : ليس يتقي من لا يدري ما يتقي (١).
قال «القلقشندي» : ثم المرجع في معرفة النحو إلى التلقي من أفواه العلماء الماهرين فيه ، والنظر في الكتب المعتمدة في ذلك من كتب المتقدّمين والمتأخرين (٢).
وعلى هذا المهيع (٣) جرى العلماء في تعلم النحو.
ب ـ وذهب فريق آخر من الناس إلى طعن متعلمي العربية جهلا منهم.
__________________
(١) «فتح المغيث» ٢٢٨ ـ ٢٢٩.
(٢) «صبح الأعشى» ١ : ١٧١.
(٣) «المهيع» من الطرق : البيّن ، والجمع «مهايع».
قال «القلقشندي» : قال أبو جعفر النحاس (١) : وقد صار أكثر الناس يطعن على متعلّمي العربية جهلا وتعدّيا ، حتى إنهم يحتجون بما يزعمون أن «القاسم بن مخيمرة» (٢) قال : «النحو أوّله شغل ، وآخره بغي» (٣). قال : وهذا كلام لا معنى له ، لأن أول الفقه شغل ، وأول الحساب شغل ، وكذا أوائل العلوم ، أفترى أن الناس تاركين العلوم من أجل أنّ أوّلها شغل؟ قال : وأما قوله : «وآخره بغي» إن كان يريد به أن صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو ، واستحقر من يلحن ، فهذا موجود في غيره من العلوم ، من الفقه وغيره في بعض الناس ، وإن كان مكروها. وإن كان يريد بالبغي التجاوز فيما لا يحل ، فهذا كلام محال ، فإن النحو إنما هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن ، وهي لغة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكلام أهل الجنة ، وكلام أهل السماء ...
جاء في «حاشية الصبان» ١ : ١٢٦ «فائدة» :
حيث قيل بالجواز والامتناع في أحكام العربية فإنما يعنى بالنسبة إلى اللغة ، ولا يلزم من التكلم بما لا يجوز لغة الإثم الشرعي ، فمن لحن في غير التنزيل والحديث ، كأن نصب الفاعل ، ورفع المفعول ، لا نقول : إنه يأثم ، إلا أن يقصد إيقاع السامع في غلط يؤدي إلى نوع ضرر ، فعليه حينئذ إثم هذا القصد المحرم.
قاله الشيخ «بهاء الدين السبكي» في شرح المختصر.
__________________
(١) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل المراديّ ، المصري ، مولده ووفاته بمصر ، مفسّر ، أديب ، توفي سنة ٣٣٨ ه.
«الأعلام» ١ : ٢٠٨.
(٢) هو القاسم بن مخيمرة الهمداني ، أبو عروة ، الكوفي ، نزيل الشام ، من رجال الحديث ، ثقة فاضل ، وكان يعيش من تجارة له ـ توفي سنة ١٠٠ ه. «تهذيب التهذيب» ٨ : ٣٣٧ ، و «تقريب التهذيب» ٢ : ١٢٠ ، و «الأعلام» ٥ : ١٨٥.
(٣) قال الدكتور أحمد مختار عمر في كتابه «من قضايا اللغة والنحو» في مبحث : «هل نستسلم لدعاة العامية» ١٢٣ ـ ١٣٦ : الهجوم على الفصحى ، والدعوة إلى تبنّي اللهجات العامية قد ارتبط في القديم بدعاوي الشعوبية وأعداء العروبة ، وفي الحديث بالاستعمار وأعوانه. فـ «ابن مخيمرة» دأب منذ أكثر من ألف عام على مهاجمة اللغة الفصحى ، والحط من شأنها ، وكان يردد دائما قوله : «النحو أوله شغل ، وآخره بغي» حتى انبرى له «أبو جعفر النحاس» العالم اللغوي ، المتوفى عام ٣٣٨ ـ ه.
الباب الثاني
مدخل إلى العلم الحديث النبويّ
وفيه فصلان :
(الفصل الأول) : تعريف الحديث ، والفرق بينه وبين الخبر والأثر.
(الفصل الثاني) : تدوين الحديث النبويّ.
تصحيح خطأ.
الفصل الأول :
تعريف الحديث والفرق بينه وبين الخبر والأثر
تعريف الحديث ، لغة :
الحديث : نقيض القديم ، والجديد من الأشياء ، والخبر. فالحديث والخبر مترادفان ، والحديث يأتي على قليل الخبر وكثيره ؛ لأنه يحدث شيئا فشيئا.
والجمع : أحاديث ، كقطيع وأقاطيع. وهو شاذ على غير قياس.
وقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(١) عنى بالحديث القرآن الكريم.
وقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) أي : بلّغ ما أرسلت به.
والحديث : ما يحدّث به المحدّث تحديثا ، وقد حدّثته الحديث ، وحدثته به.
قال «الجوهري» ـ ٣٩٣ ه :
المحادثة ، والتّحادث ، والتّحدّث ، والتّحديث. معروفات.
وقال «ابن سيده» ـ ٤٥٨ ه : قال «سيبويه» ـ ١٨٠ ه في تعليل قولهم : لا تأتيني فتحدّثني : كأنك قلت : ليس يكون منك إتيان فحديث ، أراد فتحديث ، فوضع الاسم موضع المصدر ؛ لأن مصدر حدّث إنما هو التحديث ، فأما «الحديث» فليس بمصدر (٣).
وقول الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) معناه : بلّغ ما أرسلت به ، وحدّث بالنبوة التي آتاك الله ، وهي أجلّ النّعم.
قال «الفراء» ـ ٢٠٧ ه وغيره : «الأحاديث» جمع «أحدوثة» ثم جعلوه جمعا لـ «الحديث».
__________________
(١) الكهف : ٦.
(٢) الضحى : ١١.
(٣) «الكتاب» ٢ : ٤١٨.
وقيل : بل جمع «أحدثة» على «أفعلة» ككثيب ، وأكثبة.
ـ قال «ابن بري» ـ ٥٨٢ ه :
ليس الأمر كما زعم «الفراء» ، لأن «الأحدوثة» بمعنى الأعجوبة ، يقال : قد صار فلان أحدوثة ، فأما أحاديث النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلا يكون واحدها إلا حديثا ، ولا يكون أحدوثة.
قال : وكذلك ذكره «سيبويه» في (باب ما جاء بناء جمعه على غير واحده المستعمل) كعروض وأعاريض ، وباطل وأباطيل.
ثم قال «سيبويه» : ومثل ذلك : حديث ، وأحاديث ... (١)
وفي حديث «فاطمة» (٢) ـ رضياللهعنها ـ أنها جاءت إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فوجدت عنده حدّاثا ، أي : جماعة يتحدّثون ، وهو جمع على غير قياس ، حملا على نظيره ، نحو : سامر ، وسمّار ، فإنّ السّمّار المحدّثون.
ورجل حدث ، وحدث ، وحدث ، وحدّيث ، ومحدّث ، بمعنى واحد ، وهو كثير الحديث ، حسن السياق له (٣).
تعريف «الحديث» شرعا :
قال «السيوطي» في «تدريب الراوي» ١ : ٤٠ : قال «ابن الأكفاني» في كتاب «إرشاد القاصد» : (٤)
__________________
(١) «الكتاب» ٢ : ١٩٩.
(٢) أخرجه «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الخراج والإمارة والفيء ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس ، وسهم ذي القربي) ٣ : ١٥٠.
(٣) «اللسان» و «تاج العروس» (مادة : حدث).
(٤) اسم الكتاب : «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد» ، تكلم فيه مؤلّفه على أنواع العلوم.
ألفه : محمد بن إبراهيم بن ساعد ، الأنصاري ، السّنجاري ، أبو عبد الله. ويعرف بـ «ابن الأكفاني».
وهو طبيب ، باحث ، عالم بالحكمة والرياضيات. (المتوفى سنة ٧٤٩) «الأعلام» ٥ : ٢٩٩.
علم الحديث الخاص بالرواية : «علم يشتمل على أقوال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأفعاله ، وروايتها ، وضبطها ، وتحرير ألفاظها» وعلم الحديث الخاص بالدراية : «علم يعرف منه حقيقة الرواية ، وشروطها ، وأنوعها ، وأحكامها ، وحال الرواة ، وشروطهم ، وأصناف المرويات ، وما يتعلق بها».
فحقيقة الرواية : نقل السنة ونحوها ، وإسناد ذلك إلى من عزي إليه بتحديث أو إخبار ، وغير ذلك.
وشروطها : تحمل راويها لما يرويه بنوع من أنواع التحمل ، من سماع ، أو عرض ، أو إجازة ، ونحوها.
وأنواعها : الاتصال ، والانقطاع ، ونحوهما.
وأحكامها : القبول والرد.
وحال الرواة : العدالة والجرح.
وشروطهم : من جهة التحمل والأداء.
وأصناف المرويات : المصنفات من المسانيد ، والمعاجم ، والأجزاء ، (١) وغيرها ، أحاديث ، وآثارا ، وغيرهما.
وما يتعلق بها : هو معرفة اصطلاح أهلها.
وقال «عز الدين ابن جماعة» ـ ٨١٩ ه :علم الحديث : «علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن».
__________________
(١) المسانيد : جمع مسند ، وهي الكتب التي جمع فيها حديث كل صحابي على حدة ، مرتبين على حروف الهجاء ، أو على القبائل ، أو السابقة في الإسلام ، أو غير ذلك.
والمعاجم : جمع معجم ، وهي ما تذكر فيها الأحاديث على ترتيب الصحابة ، أو الشيوخ ، أو البلدان.
والأجزاء : جمع جزء ، وهي ما دوّن فيها حديث شخص واحد ، أو مادة واحدة من أحاديث جماعة.
ولزيادة الفائدة في معاني هذه المصطلحات ارجع إلى كتاب «أصول التخريج ودراسة الأسانيد» للدكتور محمود الطحان ، الصفحات التالية : ٤٠ ، ٤٥ ، ١٣٧.
وقال «أبو الفضل ابن حجر» ـ ٨٥٢ ه :
علم الحديث : «القواعد المعرّفة بحال الراوي والمروي» وقال «الكرماني» ـ ٧٨٦ ه في «شرح البخاري» : وحدّه هو : «علم يعرف به أقوال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، وأفعاله وأحواله».
الفرق بين الحديث وبين الخبر والأثر :
قال «السيوطي» في «تدريب الراوي» (١ : ٤٢) :
قال «ابن حجر» في «شرح البخاري» : المراد بالحديث في عرف الشرع : «ما يضاف إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ» وكأنه أريد به مقابلة القرآن ، لأنه قديم.
قال «الطيبي» ـ ٧٤٣ ه : الحديث أعم من أن يكون قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والصحابيّ ، والتابعيّ ، وفعلهم ، وتقريرهم.
وقال «ابن حجر» في «شرح النخبة» (١).
الخبر عند علماء الفن مرادف للحديث. فيطلقان على المرفوع ، وعلى الموقوف ، والمقطوع.
وقيل : الحديث : ما جاء عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والخبر : ما جاء عن غيره. ومن ثمّ قيل لمن يشتغل بالسنة : محدّث ، وبالتواريخ ونحوها : أخباريّ (٢).
وقيل : لا يطلق الحديث على غير المرفوع إلا بشرط التقييد.
وقد ذكر «النووي» ـ ٦٧٦ ه في (النوع السابع) أن المحدثين يسمون المرفوع والموقوف بـ «الأثر» ، وأن «فقهاء خراسان» يسمون الموقوف بالأثر ، والمرفوع بالخبر. ويقال : أثرت الحديث بمعنى : رويته ، ويسمى المحدّث أثريّا ، نسبة
__________________
(١) «شرح نخبة الفكر» ١٦.
(٢) النسبة إلى الجمع على لفظه جائز عند قوم ، وخرج عليه قول الناس : فرائضيّ ، وكتبيّ ، وقلانسيّ. «همع الهوامع» ٢ : ١٩٧.
للأثر. ا ه «السيوطي».
ويظهر من صنيع «المبرد» أنه يريد من الحديث الخبر أحيانا ، فقد قال :
«وفي الحديث : لما طعن ...» وهاك نصه من «المقتضب» ١ : ٣٤ :
«وقال أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» ـ كرم الله وجهه ـ : «العين وكاء السّه».
ثم قال في ١ : ٢٢٣ : «وفي الحديث : العين وكاء السّه» (١) وقال في ٤ : ٢٥٥ : «وفي الحديث لما طعن العلج أو العبد عمر ـ رحمهالله ـ صاح :
يالله للمسلمين» ، ومثله في «الكامل» لـ «المبرد» (٢) ٧ : ٢١٥.
وقد حدد معنى الحديث بأخبار الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، فقد قال «أبو هريرة» ـ رضياللهعنه ـ : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لقد ظننت يا أبا هريرة ألّا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلّا الله خالصا من قلبه ، أو نفسه» (٣).
__________________
(١) أخرجه «البيهقي» ، و «الدارمي» في «سننه» ١ : ١٨٤ ، و «الطبراني» في «معجمه» مرفوعا ، من حديث «معاوية». انظر «نصب الراية» ١ : ٤٦.
قال «الفيومي» ـ ٧٧٠ ه في «المصباح المنير» :
الوكاء : مثل كتاب ، حبل يشدّ به رأس القربة. وقوله : «العينان وكاء السّه» فيه استعارة لطيفة لأنه جعل يقظة العينين بمنزلة الحبل ، لأنه يضبطها ، فزوال اليقظة كزوال الحبل ، لأنه يحصل به الانحلال.
والجمع : أوكية.
(٢) «فهارس كتاب سيبويه» ٧٦٣.
(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب الحرص على الحديث) ١ : ٣٣ ، وانظر «فتح الباري» ١ : ١٩٣.
وقال «أنس» ـ رضياللهعنه ـ : إنه ليمنعني أن أحدّثكم حديثا كثيرا أنّ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «من تعمّد علي كذبا فليتبوّأ مقعده من النار (١)»
وقال «ابن عباس» ـ رضياللهعنهما ـ : «إنّما كنّا نحفظ الحديث ، والحديث يحفظ عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول فهيهات» (٢).
وموجز القول : إذا أطلق «الحديث» أريد به ما أضيف إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير ، أو صفة خلقية أو خلقية.
وقد يراد به ما أضيف إلى صحابي أو تابعي ، ولكن الغالب أن يقيد إذا ما أريد به غير النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
ويطلق الخبر والأثر ويراد بهما ما أضيف إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما أضيف إلى الصحابة والتابعين. وهذا رأي الجمهور ، إلا أن فقهاء خراسان يسمون الموقوف أثرا ، والمرفوع خبرا (٣).
__________________
(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب إثم من كذب على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ) ١ : ٣٥ وانظر «فتح الباري» ١ : ٢٠١.
(٢) أخرجه «مسلم» في مقدمة «صحيحه» ١ : ١٠.
(٣) أصول الحديث (علومه ومصطلحه) : ٢٨.
الفصل الثاني :
تدوين الحديث النبوي
إن الحديث الشريف لم يدوّن تدوينا كاملا في عهد الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كما دوّن القرآن الكريم.
وقد مر تدوين الحديث بمراحل منتظمة حققت حفظه ، وصانته من العبث ، وقد تضامنت الذاكرة والأقلام ، وكان جنبا إلى جنب في خدمة الحديث. روى «مسلم» ـ في كراهة الكتابة ـ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «لا تكتبوا عنّي ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدّثوا عني ولا حرج ، ومن كذب عليّ. قال همّام : أحسبه قال : متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» (١).
وروى «البخاريّ» ـ في إباحة الكتابة ـ عن أبي هريرة يقول : «ما من أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أحد أكثر حديثا عنه منّي إلّا ما كان من عبد الله ابن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب» (٢).
قال «ابن حجر» : روى أحمد والبيهقي في «المدخل» عن أبي هريرة قال : ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو (٣) ، فإنه كان يكتب بيده ، ويعي بقلبه ، وكنت أعي ولا أكتب ، استأذن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له» الحديث.
__________________
(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الزهد والرقائق ـ باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم) ٨ : ٢٢٩ ، وانظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ١٨ : ١٢٩ ، و «جامع بيان العلم وفضله» ١ : ٦٣.
(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب كتابة العلم) ١ : ٣٦ وانظر «فتح الباري» ١ : ٢٠٦.
(٣) عبد الله بن عمرو بن العاص.
يستفاد منه أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أذن في كتابة الحديث عنه ، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري.
والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره ، والإذن في غير ذلك.
أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما. أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس ، وهو أقربهما مع أنه لا ينافيها.
وقيل : النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ ، والإذن لمن أمن منه ذلك (١).
والنهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن ، فلما كثر عدد المسلمين وعرفوا القرآن معرفة رافعة للجهالة ، وميزوه من الحديث زال هذا الخوف عنهم ، فنسخ الحكم الذي كان مترتبا عليه ، وصار الأمر إلى الجواز (٢).
قال «ابن حجر» : قال العلماء : كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث ، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظا ، لكن لما قصرت الهمم ، وخشي الأئمة ضياع العلم دوّنوه.
وأوّل من دوّن الحديث «ابن شهاب الزهريّ» ـ ١٢٤ ه على رأس المائة بأمر «عمر بن عبد العزيز» ـ ٨٣ ه ثم كثر التدوين والتصنيف ، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد (٣).
يقول «الرّامهرمزيّ» ـ ١٠١ ه : «والحديث لا يضبط إلا بالكتاب ، ثم بالمقابلة ، والمدارسة ، والتعهد ، والتحفظ ، والمذاكرة ، والسؤال ، والفحص عن
__________________
(١) «فتح الباري» ١ ـ ٢٠٨.
(٢) ذيل «توضيح الأفكار» ٢ : ٣٥٣.
(٣) «فتح الباري» ١ : ٢٠٨.
الناقلين ، والتفقه بما نقلوه ، وإنما كره الكتاب من كره في الصدر الأول ، لقرب العهد ، وتقارب الإسناد ، ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، ويرغب عن تحفظه والعمل به ، فأما والوقت متباعد والإسناد غير متقارب ، والطرق مختلفة ، والنقلة متشابهون ، وآفة النسيان معترضة ، والوهم غير مأمون ، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى ، والدليل على وجوبه أقوى ، وحديث أبي سعيد : حرصنا أن يأذن لنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في الكتاب أحسب أنه كان محفوظا في أول الهجرة ، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن» (١).
__________________
(١) «المحدث الفاصل» ٣٨٥.
تصحيح خطأ
ورد في كتاب «أصول التفكير النحوي» ١٤٢ ما يلي : ومن الأخطاء الشائعة أن الحديث لم يدوّن إلا بعد عهد «عمر بن عبد العزيز» إذ من الحقائق التاريخية الثابتة أن الحديث كان يدوّن على عهد صحابة رسول الله ، في النصف الأول للقرن الأول من الهجرة ، ومن المؤكد أن «عبد الله بن عمرو بن العاص» كان يدوّن ما يسمع من رسول الله في صحيفة سماها : «الصّادقة» (١) ، وأن «همام بن منبه» كان يكتب ما يسمع من أحاديث الرسول التي يرويها «أبو هريرة» في صحيفة سماها : «الصحيحة» (٢) ، ويعدها بعض الباحثين أقدم ما دوّن في الحديث النبوي ، لأن أبا هريرة توفي سنة ٥٨ ه ، ومن المؤكد ـ عنده ـ أنها قد دوّنت قبل وفاته. ا ه.
أقول ـ وبالله التوفيق ـ : إنّ قوله : «ومن الأخطاء الشائعة أن الحديث لم يدوّن إلا بعد عمر بن عبد العزيز ...» خطا لا يعول عليه ؛ لأن ما قاله علماء الحديث قاطبة في أولية التدوين هو اصطلاح لهم ، ومرادهم به بداية عهد التدوين الجماعي ، أما الصحيفة الصادقة ، والصحيفة الصحيحة ، فهما من قبيل الكتابة الإفرادية ، وقد وجد في هذه الفترة من منع الكتابة ، ومن أجازها ، فالمسألة بين أخذ ورد ، وبين مد وجزر ، أما في عهد «عمر بن عبد العزيز» فقد استقر الأمر على الكتابة دون منازع ، بأمر الخليفة العادل ، وهاك مزيدا من البيان :
قد اعتبر علماء الحديث تدوين «عمر بن عبد العزيز» أول تدوين للحديث ، وتناقلوا في كتبهم العبارة التالية :
«وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز» (٣) أو نحوها.
__________________
(١) «الطبقات الكبرى» ٢ : ٣٧٣.
(٢) توجد نسخة من هذه الصحيفة بدار الكتب المصرية ، رقم ١٩٨١ حديث.
(٣) «تدريب الراوي» ١ : ٩ ، و «قواعد التحديث» ٤٦ ، و «توجيه النظر» ٦.
ويفهم من هذا أن التدوين الرسمي والجماعي كان في عهد «عمر بن عبد العزيز» أما تقييد الحديث ، وكتابته إفراديا ، وحفظه في الصحف والرقاع والعظام فقد مارسه الصحابة في عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم ينقطع تقييد الحديث بعد وفاته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بل بقي جنبا إلى جنب مع الحفظ ، حتى قيض للحديث من يودعه المدونات الكبرى.
وقد كانت نهاية القرن الأول الهجري ، وبداية القرن الثاني خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة من بعض العلماء ، وإباحتها من بعض آخر ، فقد امتنع عن الكتابة من كبار التابعين :
«عبيدة بن عمرو السلماني المرادي» ـ ٧٢ ه ، و «إبراهيم بن يزيد التيمي» ـ ٩٢ ه ، و «جابر بن زيد» ـ ٩٣ ه ، و «إبراهيم النخعي» ـ ٩٦ ه (١).
قال «الأوزاعيّ» ـ ١٥٧ ه : «ما زال هذا العلم عزيزا يتلقاه الرجال حتى وقع في الصحف مجمله ، أو دخل فيه غير أهله» (٢).
وكان «عامر الشعبي» ١٧ ـ ١٠٣ ه يقول : «ما كتبت سوداء في بيضاء ، ولا سمعت من رجل حديثا فأردت أن يعيده عليّ» (٣).
وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عند ما اشتهرت آراؤهم الشخصية ، فخافوا أن يدونها طلابهم مع الحديث ، وتحمل عنهم ، فيدخله الالتباس (٤).
ومنهم من كان يحرص على الكتابة حرصا شديدا ، منهم «سعيد بن جبير» ـ ٩٥ ه كان يكتب عن «ابن عباس» (٥) ...
__________________
(١) «جامع بيان العلم» ١ : ٦٧ ، و «طبقات ابن سعد» ٦ : ٦٣.
(٢) «سنن الدارمي» (باب من لم ير كتابة الحديث) ١ : ١٢١.
(٣) «جامع بيان العلم» ١ : ٦٧ ، و «سنن الدارمي» ١ : ١٢٥ ، و «المحدث الفاصل» ٣٨٠.
(٤) «جامع بيان العلم» ٢ : ٣١.
(٥) «سنن الدارمي» (باب من رخص في كتابة العلم) ١ : ١٢٨.