الدكتور عفيف دمشقيّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٠٣
مقدمة
ليس من شأن هذه الدراسة أن تؤرخ لأبي الحسن الأخفش الأوسط ، سعيد بن مسعدة (المتوفى ٢١١ أو ٢١٤ ه) ، ولا أن تبحث في طبيعة علاقته بسيبويه ، أتلمذة هي أم زمالة ، ولا في شأن علاقته بالكوفيين ، وهل أثرّ فيهم ومهّد لهم السبيل إلى التوسع في السماع والقياس (١) ، أم تأثّر بهم وتلمذ لهم (٢) ، أم أن التأثّر والتأثير هما نتيجة تلاقح فكري بين آرائه وآرائهم كانت حصيلته اتفاقا في مسائل كثيرة من مسائل العربية (٣). كما ليس من شأنها التأريخ لنشأة المدرسة الكوفية وأشهر أقطابها ، فكل هذه الأمور وغيرها في متناول الدارسين ، تحفل بها كتب التراجم ،
__________________
(١) شوقي ضيف ، المدارس النحوية ، ص ٩٦.
(٢) الشيخ محمد الطنطاوي ، نشأة النحو ، ص ٨٩.
(٣) عبد الأمير محمد أمين الورد ، منهج الأخفش الأوسط في الدراسة النحوية ، ص ٣٩٧ / ٣٩٨.
والأبحاث الدائرة حول منهجية الأخفش وآرائه النحوية ، ومنهجية الكوفيين ومذاهبهم في النحو.
لذلك ترانا قصرناها على إبراز أهمّ الآراء التي شاءها الأخفش والكوفيون معالم جديدة على طريق النحو ، وبيان مدى جدّتها ، ومبلغ فاعليتها ـ إيجابا أو سلبا ـ في تطوير الدرس النحوي ، مذكرين بأن هدفنا الأخير كان ، وسيبقى ، تسهيل النحو على طلابه ، انطلاقا من مبدأ نخل التراث والإبقاء على ما فيه من زبدة تكون نواة طيبة لنحو عربي جديد.
المؤلف
الباب الأول
الأخفش الأوسط
تمهيد
لا بدّ ، قبل الخوض في آراء الأخفش النحوية الجديدة ، من المبادرة إلى القول إنه لم يكن بدعا من أقطاب مدرسته البصرية. فقد اقتفى خطاهم في الأخذ بالمبادىء الثلاثة التي قامت عليها مدرستهم : السماع ، والتعليل ، والقياس. لكن ما يبدو جديدا هو أنه لم يأخذ نفسه بالصرامة التي أخذوا بها أنفسهم في المبدأين الأول والثالث ، فجاز لديه الشاهد الواحد أو النادر ، وقبل أحيانا بما لم يكن مؤسسو المدرسة يقبلون به لأنه «شاذ» أو «لغة رديئة» ، أو «قال به بعض العرب» ممن لا تتوافر فيهم شروط «الفصاحة». فقد نقل عن أقوام أجمع أسلافه على عدم جواز النقل عنهم ، كاستشهاده مثلا على عمل «لعلّ» الجر ببيت لكعب بن سهم الغنوي :
فقلت أدع أخرى وارفع الصوت جهرة |
|
لعلّ «أبي» المغوار منك قريب |
وهذا الشاعر من بني عقيل بن كعب من سكان البحرين
الذين لا يؤخذ عنهم لمخالطتهم الهنود والفرس.
وجازت عنده كذلك بعض القراءات التي كان أسلافه يصنفونها فئة قائمة بنفسها ، ويعتبرونها «سنّة» ، فلا يتعرضون لها بتخطئة أو بتصويب ، وإن كانوا لا يقبلون القياس عليها واتخاذها منطلقا إلى تأصيل قاعدة كلية. والأمثلة على جواز القراءات عند الأخفش والقياس عليها كثيرة نجتزىء لها بهذين المثلين :
* أجاز وقوع ضمير الشأن بين الحال وصاحبها ، قياسا على قراءة من قرأ : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود / ٧٨] ، بنصب (أطهر).
* أجاز أن ينوب عن الفاعل غير المفعول به رغم وجوده ، قياسا على قراءة أبي جعفر بن القعقاع : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية / ١٤] ، بإنابة الجار والمجرور (بما) عن الفاعل ، مع بقاء المفعول به (قوما) منصوبا.
ولم يكن الأخفش الأوسط كذلك بدعا من سابقيه في
عدم الاحتراز من الخلط بين مستويات الأداء اللغوي ، وما يؤدي إليه هذا الخلط من نتائج مغلوطة على مستوى اللغة الفصحى (١). فقد قال بأن من العرب من يجعل ضمير المخاطبين (كم) إذا كان قبله ياء ساكنة ـ مثل (عليكم) ـ أو حرف مكسور ـ مثل (بكم) ـ بمنزلة ضمير الغائبين (هم) ، فيقولون «عليكم» ، كما يقولون «عليهم» ، و «بكم» ، كما يقولون «بهم» (٢).
وقال أيضا بحذف نون التنوين لكثرة الاستعمال ، كما في قولهم «سلام عليكم» ، (٣) ، وبحذف الألف المبدلة من التنوين في آخر الاسم المنصوب ، كقولهم «رأيت فرخ» ـ بدلا من «رأيت فرخا» ـ وعزا إلى هذا قول الأعشى :
إلى المرء قيس أطيل السّرى |
|
وآخذ من كلّ حيّ عصم |
__________________
(١) راجع الفصل المتعلق بالخلط بين مستويات الأداء اللغوي من كتابنا «المنطلقات التأسيسية والفنية إلى النحو العربي».
(٢) منهج الأخفش الأوسط ، ص ١٩٨.
(٣) نفسه ، ص ٢٦٤. نميل إلى الاعتقاد بأن المحذوف هو «ال» التعريف ، أو أن همزة «ال» تحولت من همزة قطع إلى همزة وصل ثم خففت السين المشددة.
من «سلام» لتعذر النطق بساكن في بدء الكلام ، فصارت «سلام عليكم».
لأن الشاعر أراد «عصما» (١).
وإن المرء ليستغرب مثل هذا التخليط. فمما لا شك فيه أن حذف التنوين والألف المبدلة منه عند الوقف ـ كما في «رأيت فرخ» التي أصلها «رأيت فرخا» ثم «رأيت فرخا» عند الوقف ـ في الاسم المنصوب ، لا يمكن أن يتم على مستوى الفصحى في اختيار الكلام ـ كما يقولون ـ أي في النثر ، ولكنه جائز في الشعر عند تقييد القافية ، لأن عملية التقييد هذه ـ أي تسكين حرف الروي ـ تمنع ظهور حركات الإعراب ، رفعا كانت أو نصبا أو جرا ، وهو أمر معروف ومصطلح عليه منذ أقدم الأزمنة.
ولم يكن الأخفش بدعا من أقطاب مدرسته حيال فكرة «العامل». فعلى الرغم من محاولته دراسة الجملة العربية على ضوء الاستعمال أحيانا ، ومحاولته اتباع المنهج الوصفي بعيدا عن التعقيد والمبالغة في بيان العلل ، كما في قوله مثلا بأن المبتدأ إذا كان موصولا صلته فعل ـ كقولك «الذي يفعل هذا فله مكافأة» ـ وردت «الفاء» في خبره لأنه بمنزلة
__________________
(١) منهج الأخفش الأوسط ، ص ٢٦٧.
«من» ، و «من» يكون جوابها بالفاء في المجازاة (١) ؛ وكما في قوله في النصب بعد «فاء السببية» بأنه «الذي يسميه النحويون جواب الفاء ، وهو ما كان جوابا للأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والنفي والجحود» (٢) ، وأن نصب «يشفعوا» مثلا في قوله (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف / ٥٣] تمّ بعد «الفاء» لأنه جواب استفهام ؛ وكما في قوله أن جواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة كأنه «تفسير» ، وأن جزم «أوف» في قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة / ٤٠] جاء وكأنه قال «إن تفعلوا أوف بعهدكم» (٣) ؛ نقول : إنه على الرغم من محاولته دراسة الجملة العربية ، تبعا للمنهج الوصفي أحيانا ، لا تلبث أن تغلب عليه النزعة المنطقية القائمة على فكرة «العامل» بشكليه اللفظي والمعنوي ، فنراه يذهب إلى التأويل والتعليل وتقدير العوامل إن لم تكن ظاهرة.
وإليك بعض الأمثلة على ذلك :
__________________
(١) مخطوطة معاني القرآن ، ٣٧ / أ، بـ ـ ٧٩ / بـ ـ ١٢٤ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢٢٢.
(٢) نفسه ، ٢٨ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الاوسط» ، ص ٢٢٣.
(٣) نفسه ، ٣٤ / بـ ، نقلا عن «منهج الأخفش الاوسط» ، ص ٢٢٢.
* لا بدّ في الجمل الدعائية المبدوءة باسم منصوب : «تعسا له» ، «بعدا له» ، «ويل زيد» ، «حمدا لله» ، الخ ... من تقدير فعل يكون انتصاب الاسم به.
* لا يجوز أن تتقدم الحال على المبتدأ الذي خبره جملة فعلية عاملة في الحال ، فلا يقال «راكبا زيد جاء» ، لبعد الحال عن العامل فيه ، ولكن يجوز أن تتقدم على عاملها إذا التصقت به ، فيقال عندئذ «راكبا جاء زيد» (١).
* الظرف عند الأخفش قوي قوة الفعل ويعمل عمله في أنه يرفع الظاهر بعده فاعلا له ، فـ «زيد» في قولنا «عندك زيد» فاعل للظرف «عند» (٢).
* «غول» في قوله (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات / ٤٧] ، مرفوع على الابتداء ، ولم تعمل فيه (لا) ، لأنها لا تقوى
__________________
(١) همع الهوامع ، ١ / ٢٤٢.
(٢) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٤٤. إعراب القرآن ، ١ / ٢٠٣ ـ ٢ / ٥٢١ ـ ٥٣١ ـ ٥٣٥.
على العمل فيه بعد أن فصل بينها وبينه بـ (فيها) (١).
* إذا حذف العامل وسقطت الحاجة إليه في المعنى ، زال عمله ، كما في قوله (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) [الصافات / ٧ ـ ٨] ، فالمعرب بالخيار في أن يجعل جملة «لا يسّمّعون» ابتدائية ، أو أن يقدّرها بـ «وأن لا يسّمّعوا» ، فلما حذفت (أن) ارتفع الفعل ، كما في قولك «أتيتك تحسن إليّ» ، و «مره يعطيني» ، فإن شئت قدّرت «فأنت تحسن إليّ» ، و «فهو يعطيني» ، وإن شئت قدّرت «أن تحسن إليّ» ، و «أن تعطيني» ، فلما طرحت (أن) ارتفع الفعل (٢).
وبناء على ما تقدم ، يمكن أن نخلص الى القول إن
__________________
(١) مخطوطة معاني القرآن ، ١٢ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢١٣.
(٢) نفسه ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢٥٥.
الأخفش كان في إطار منهجه العام «نحويا تقليديا». لكن هذا لا يمنع أنه خرج على بعض قواعد مدرسته البصرية ، وحاول الإتيان بجديد سوف نسعى الى بيانه ومناقشته في قابل البحث.
الفصل الأول
اجتهادات عقّدت النحو
لعله لم يكن في وسع الأخفش الأوسط ـ وقد رست قواعد المدرسة البصرية الكلية أو شبه الكلية ، بدليل وجود كتاب سيبويه ـ أن يتصدّى لاستبدال الأصول النحوية بأصول أخرى ، فما كان منه ـ والحالة هذه ـ إلّا أن عمد إلى التفريع على تلك الأصول باجتهادات أرادها دعائم لمباشرة عملية ترميم وإصلاح في بناء النحو البصري ، فما زادت على أن كانت في معظمها مداميك إضافية أثقلت البناء ، وفتحت الأبواب على مصاريعها لكل راغب في عرض مهارته المنطقية ، وعارضته الجدالية.
وها نحن أولاء نسوق طائفة من الاجتهادات الأخفشية ، مبينين كيف مالت بالدرس النحوي إلى التعقيد :
أولا ـ في بعض الصيغ الخاصة :
* ذهب الأخفش إلى أن (ما) التعجبية في «ما أحسن زيدا» اسم موصول صلته (أحسن) وخبره محذوف تقديره (شيء عظيم) ، أو نحو ذلك. كما ذهب في رأي آخر إلى أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها في موضع رفع نعتا لها ، والخبر محذوف (١).
فيكون التقدير في الرأي الأول : «الذي أحسن زيدا ـ أي جعله حسنا ـ شيء عظيم» ، وفي الرأي الثاني : «أمر محسن زيدا شيء عظيم».
وكان سيبويه يرى أن (ما) نكرة تامّة بمعنى (شيء) موضعها الرفع على الابتداء ، والجملة بعدها ـ من فعل التعجب وفاعله المقدّر ـ خبرها ، والتقدير في ذلك : «شيء أحسن زيدا» ، أي جعله (حسنا).
وإذا كنا نجهل السبب الذي حمل سيبويه على القول بأن (ما) نكرة تامّة ـ وهي في اعتقادنا لا تختلف عن أية نكرة أخرى غير مفيدة ـ فإننا
__________________
(١) مغني اللبيب ، ١ / ٢٩٧.
نميل إلى الاعتقاد بأن رفض الأخفش الذهاب إلى أنها كذلك ، ولجوءه إلى القول بموصوليتها تارة ، وبكونها نكرة موصوفة طورا ، يظلان أقرب إلى «المنطق» الذي طبع الدرس النحوي فارضا عدم جواز الابتداء بنكرة ما لم تفد. فإذا كانت (ما) اسما موصولا فهي معرفة يجوز الابتداء بها ، ولا شيء يمنع من اعتبارها كذلك ما دام مبدأ الإسناد سليما ، حين يقال بأن ما بعدها ـ وهو جملة «أحسن» ـ صلتها ، وأن خبرها مقدّر. وإذا كانت نكرة موصوفة ـ والمنطق هنا سليم أيضا ، إذ جعلت جملة «أحسن» نعتا لـ (ما) ـ فهي معرفة أيضا ، وهي مبتدأ خبره مقدّر. ولعل ما يشفع له في ذلك أنه «رأى أن (ما) التامة غير ثابتة أو غير فاشية ، وحذف الخبر فاش ، فترجح عنده الحمل عليه» (١).
وأما أن تدرس هذه الصيغة التعجبية دراسة مستقلة ، بعيدا عن المنطق الرياضي ، فأمر لم يخطر
__________________
(١) مغني اللبيب ، ٢ / ٦٠٢.
على ما يبدو للأخفش ، كما لم يخطر لأسلافه من قبله.
* رأى سيبويه أن (لات) بمعنى (ليس) ، وأن اسمها وخبرها من اسماء الزمان ، مع شيوع حذف الاسم معها. (١)
أما الأخفش فله في (لات) رأيان :
الأول ـ أنها تعمل عمل (إنّ) ، وأن (حين) في قوله (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص / ٣] ، هو اسمها ، أما خبرها فمقدّر بـ (لهم) ، أي «لا حين مناص لهم» ، أو «لا حين مناص حينهم» (٢)
الثاني ـ أنها حرف غير عامل. فإذا وليها مرفوع كان مبتدأ محذوف الخبر ، أي «لا حين مناص كائن لهم» (٣) ، وإذا وليها منصوب فبتقدير فعل ، والتقدير عنده في الآية «لا أرى حين مناص» (٤). وقد قاده هذا الرأي الأخير إلى
__________________
(١) همع الهوامع ، ١ / ١٢٦.
(٢) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ١١٢.
(٣) مغني اللبيب ، ١ / ٢٥٤.
(٤) نفسه ، وهمع الهوامع ، ١ / ١٢٦.