السيد علي خان المدني الشيرازي
المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧
٣٦٦ ـ أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه |
|
ملكت فلا أسر لديّ ولا قتل (١) |
وهذا كما تراه غلط ظاهر ، فإنّ ما في البيت لا ينافي الصدريّة بدليل إنّ زيدا ما قام ، وزيد إنّه لقائم ، وزيد لأبوه قائم ، وقد تابعه بعض شرّاح التسهيل على هذا الغلط ، انتهى ، وهذا البعض هو ابن أمّ قاسم المراديّ.
والتاء وتخصّ باسم الله تعالى نحو : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء / ٥٧] ، وأمّا حكاية الأخفش «تربّ الكعبة» فشاذّ ، وأشذّ منه حكاية ابن خالويه (٢) «تالرحمن» و «تحياتك» ويلزمها التعجّب. قال الزمخشريّ في (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) الباء أصل حروف القسم ، والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو ، وفيها زيادة معنى التعجّب ، كأنّه تعجّب من تسهيل الكيد على يده وتأتّيه مع عتوّ نمرود وقهره.
قال السّفاقسيّ (٣) في إعرابه بعد نقل هذا الكلام : ما قاله من البدل قاله كثير من النحاة ، ولا يقوم عليه دليل ، وقد ردّه السهيليّ ، ومقتضي النظر أنّه ليس شيء منها أصلا للآخر ، وقوله : فيها معنى التّعجّب نصوصهم على أنّ ذلك لازم في لام القسم ، وأمّا التاء فقد يكون معها التعجّب ، وقد لا يكون انتهى. قلت : وقد نصّ غير واحد من النحاة على أنّ ذلك لازم في التاء أيضا (٤).
«وحتى» : وهي لانتهاء الغاية مكانيّة ، نحو : أكلت السمك حتى رأسها ، أو زمانيّة ، نحو : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر / ٥] ، ويجب في مجرورها إذا كان مسبوقا بذي أجزاء أن يكون آخرا أو متّصلا بآخر ، فلا يقال : سهرت البارحة حتى نصفها ، ثمّ إن كان ما بعدها اسما غير داخل فيما قبلها إمّا لكونه غير جزء له : نحو : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ،) أو لكونه جزء لم يقع الفعل عليه ، نحو : صمت الأيّام حتى يوم العيد ، فالجرّ بها متعيّن ، وإن كان جزء ممّا قبلها ولم يتعذّر دخوله ، نحو : صمت الأيّام حتى يوم الثلاثاء ، فالجرّ بها جائز ويجوز العطف.
تنبيه : متى دلّت قرينة على دخول الغاية في حكم ما قبلها أو على عدمه عمل بها ، والأقوال أصحّها الحكم بالدخول مع حتى دون إلى حملا على الغالب ، لأنّ الأكثر مع القرينة عدم الدخول في إلى والدخول في حتى.
__________________
(١) البيت لحاتم الطائيّ في بعض المصادر وفي بعض بلا نسبة.
(٢) الحسين بن أحمد بن خالوية ابو عبد الله إمام اللغة والعربية ، له من التصانيف : الجمل في النحو ، الاشتقاق ، شرح الدريدية ، مات بحلب سنة ٣٧٠ ، المصدر السابق ١ / ٥٢٩.
(٣) إبراهيم بن محمد إبراهيم بن أبي القاسم السفاقسيّ النحويّ صاحب إعراب القرآن (٦٩٧ ـ ٧٤٢ ه ق) ، المصدر السابق ١ / ٤٢٥.
(٤) سقطت هذه الجمل في «س».
قال ابن هشام في المغني : وزعم شيخ شهاب الدين القرافيّ أنّه لا خلاف في دخول ما بعد حتى ، وليس كذلك بل الخلاف مشهور ، وإنّما الاتّفاق في حتى العاطفة ، والفرق أنّ العاطفة بمعنى الواو ، انتهى.
وجعل الرضيّ دخول ما بعد حتى في حكم ما قبلها منشأ لتوهّم ابن الحاجب ما ذكره في الكافية في حتى من مجيئها بمعنى مع كثيرا ، وإلا فهي لا تكون بمعنى مع ، قال بعض المحقّقين : والقياس أن يكون حكمه بأنّ إلى تأتي بمعنى مع قليلا أيضا متوهّما من دخول ما بعدها في حكم ما قبلها ، إلا أنّ الرضيّ لم يذكره.
«والكاف» : ولها خمسة معان :
أحدها : التشبيه ، نحو : زيد كالأسد.
الثاني : التعليل : أثبته قوم ، ونفاه الأكثرون ، وقيّد بعضهم جوازه بان تكون الكاف مكفوفة [بما] ك حكاية سيبويه «كما أنّه لا يعلم فتجاوز الله عنه» ، والحقّ جوازه في المجرّد عن ما ، نحو : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص / ٨٢] ، أي أعجب لعدم فلاحهم ، وفي المقرونة بما الكافّة كما في المثال ، وبما المصدريّة ، نحو : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة / ١٩٨] ، أي لأجل هدايته إيّاكم.
الثالث : الاستعلاء ، ذكره الأخفش والكوفيّون ، قيل لبعضهم : كيف أصبحت؟ فقال : كخير [أي على خير] ، وقيل في «كن كما أنت عليه» : إنّ المعنى على ما أنت عليه ، وفي هذا المثال أعاريب ، ذكرها في المغني.
الرابع : المبادرة : وذلك إذا اتّصلت بما ، نحو : سلّم كما تدخل ، وصلّ كما يدخل الوقت ، ذكره ابن الخبّاز في النهاية وأبو سعيد السيرافيّ وغيرهما ، وهو غريب ، قاله ابن هشام.
الخامس : التوكيد وهي الزائدة ، نحو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشوري / ١١] ، إذ لا بدّ من الحكم بزيادة إحدى أداتي التشبيه ، وإلا صار المعنى ليس شيء مثل مثله ، فيلزم إثبات المثل لله تعالى ، ونفي المثليّة عن المثل ، وهو محال ، ولا سبيل إلى الحكم بزيادة مثل ، لأنّ زيادة ما هو على حرف واحد أولى ، ولا سيّما إذا كان من قسم الحرف ، لأنّه أولى بالزيادة من الاسم بل قيل : إنّ زيادة الاسم لم تثبت ، فكانت الكاف هي الزائدة.
قال ابن الجنيّ : وإنّما زيدت لتوكيد نفي المثل ، لأنّ زيادة الحرف كإعادة الجملة ثانيا ، هذا قول الجمهور. وقيل : الكاف غير زائدة ، والزائد مثل ، وليس بشيء لما مرّ ، وقيل : لا زائد منهما ، ثمّ اختلف ، فقيل : مثل بمعنى الذات ، وقيل : بمعنى الصفة ، وقيل : الكاف اسم مؤكّد بمثل كما عكس ذلك من قال [من الرجز] :
٣٦٧ ـ ... |
|
فصّيروا مثل كعصف مأكول (١) |
ولا تنقاس زيادة الكاف كما جزم به أبو حيّان في الإرتشاف ، وإن تردّد فيه بعضهم.
تنبيه : لا يرد على كلام المصنّف (ره) جرّ حتى والكاف للضمير في قوله [من الوافر] :
٣٦٨ ـ أتت حتّاك تقصد كلّ فجّ |
|
... (٢) |
وقوله [من الرجز] :
٣٦٩ ـ ... |
|
وأمّ أوعال كها أو أقربا (٣) |
لأنّها ضرورة خلافا للمبرّد والكوفيّين.
والواو وهو للقسم ، ولا تتعلّق إلا بمحذوف ، نحو : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس / ٢] ، فإن تلتها بواو أخري ، نحو : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) [التين / ٢ و ١] ، فالتإلى ة واو العطف ، وإلا لاحتاج كلّ من الاسمين إلى جواب ، وأمّا واو ربّ فالصحيح أنّه واو العطف ، وأنّ الجرّ بعدها بربّ مقدّرة ، خلافا للمبرّد والكوفيّين ، «ولا تختصّ» هذه الثلاثة أي حتى والكاف والواو «بظاهر معيّن» كما اختصّ ما قبلها بما مرّ.
فائدة : من حروف الجرّ ما لفظه مشترك بين الاسميّة والحرفيّة وهو ستّة :
أحدها وثانيها : عن وعلى ، فتقعان اسمين بمعنى جانب ، وفوق ، وذلك إذا دخلت عليها من كقوله [من الكامل] :
٣٧٠ ـ ... |
|
من عن يميني تارة وأمامي (٤) |
وقوله [من الطويل] :
٣٧١ ـ غدت من عليه بعد ما ثمّ ظمؤها |
|
... (٥) |
__________________
(١) قبله «ولعبت طير بهم أبابيل» ، وهو نسب إلى حميد الأرقط وإلى رؤبة. اللغة : أبابيل : جماعات ، العصف : التبن.
(٢) تمامه «ترجّى منك أنها لا تخيب» ، لم يسمّ قائله. اللغة : الفجّ : طريق في الوادي.
(٣) صدره «خلي الذنابات شمالا كثبا» ، والبيت للعجاج يصف حمار وحش وأتنه. اللغة : الذنابات : جمع ذنابة ، وهي أخر الوادي الّذي ينتهي إليه السيل ، كثبا : قريبا ، أم أوعال : هي هضبة في ديار بني تميم.
(٤) صدره «ولقد أراني للرماح دريئة» ، هو لقطري بن الفجاءة. اللغة : الدرئية : الحلقة الّتي يتعلّم عليها الطعن.
(٥) تمامه «تصلّ وعن قيض بزيراء مجهل» ، وهو لمزاحم العقيلي ، يصف القطاة. اللغة : غدت : صارت ، من عليه : أراد من فوقه ، فعلى هنا اسم ، ولذلك دخل عليه حرف الجرّ ، ظمؤها : زمان صبرها عن الماء ، تصلّ : تصوّت ، قيض : قشر البيضه الأعلى ، زيزاء : ما ارتفع من الارض ، المجهل : الّذي ليس له اعلام يتهدي بها.
قال ابن هشام في المغني : ومن الداخلة على عن زائدة عند ابن مالك ولابتداء الغايه عند غيره ، قالوا : قعدت عن يمينه ، فالمعنى في جانب يمينه ، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها ، فإذا جئت بمن تعيّن كون القعود ملاصقا لأوّل الناحية ، انتهى.
ولا تجرّ عن في المشهور إلا بمن ، وقد تجرّ بعلى ، وهو نادر ، والمحفوظ بيت واحد وهو [من الطويل] :
٣٧٢ ـ على عن يميني مرّت الطّير سنّحا |
|
... (١) |
قال البدر الدمامينيّ في شرح التسهيل ولا أعرف من أنشده تماما ، ولا تتقيّد اسميّة عن وعلى بحالة دخول من عليها ، كما يغلط فيه كثير ، فإذا قلت : زيد على السطح ، وسرت عن البلد ، احتمل الاسميّة.
الثالث : إلى ، حكاه ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري فقال : إنّ إلى تستعمل اسما ، فيقال : انصرفت من إليك ، كما يقال : غدوت من عليه ، وهو غريب.
الرابع والخامس : مذ ومنذ فيكونان اسمين ، وذلك في موضعين :
أحدهما : أن يليهما اسم مرفوع ، نحو : ما رأيته مذ يومان ، أو منذ يوم الجمعة وفيهما حينئذ أقوال : أحدها أنّها مبتدءان ، وما بعدهما خبر عنها واجب التأخير إجراء للرفع مجرى الجرّ ، وهو مذهب المبرّد وابن السّرّاج والفارسيّ من البصريّين وطائفة من الكوفيّين ، واختاره ابن الحاجب ومعناهما الأمد ، إن كان الزمن حاضرا أو معدودا ، وأوّل المدّة إن كان ماضيا.
الثاني : أنّهما ظرفان مخبر بهما عمّا بعدهما ، وهو مذهب الأخفش والزّجاج والزّجاجي ، ومعناها «بين وبين» مضافين ، فمعنى ما لقيته مذ يومان بيني وبين لقائه يومان ، وقال في المغني : ولا خفاء بما فيه من التعسف.
الثالث : أنّهما ظرفان ، وما بعدهما فاعل لكان تامّة محذوفة ، والتقدير مذ كان يومان ، أو منذ كان يوم الجمعة ، وهذا مذهب جمهور الكوفيّين ، واختاره ابن مالك وابن مضاء والسهيليّ.
الرابع : أنّهما ظرفان ، وما بعدهما خبر لمبتدإ محذوف ، والتقدير من الزمان الّذي هو يومان ، بناء على أنّ منذ مركّبة من كلمتين : من وذو الطائية ، وهذا قول لبعض الكوفيّين.
الثاني أن يدخلا على الجملة فعلية كانت ، وهو الغالب ، كقوله [من الكامل] :
__________________
(١) تمامه «وكيف سنوح واليمين قطيع» ، لم يسمّ قائله. اللغة : السنح : من سنّح سنوحا فهو سانح والجمع سنّح. إذا مرّ الطير من مياسرك إلى ميامنك والعرب تتفاءل بذلك.
٣٧٣ ـ ما زال مذ عقدت يداه إزاره |
|
... (١) |
أو اسميّة كقوله [من الطويل] :
٣٧٤ ـ وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع |
|
... (٢) |
وفيهما حينئذ قولان : أحدهما وهو المشهور ، أنّهما ظرفان مضافان ، فقيل : إلى الجملة ، وقيل إلى زمن مضاف إلى الجملة ، الثاني : أنّهما مبتدءان ، فيجب تقدير زمن مضاف إلى الجملة.
السادس : الكاف ، فيقع اسما مرادفا لمثل ، ولا يكون كذلك عند سيبويه والمحقّقين كما قال في المغني إلا في ضرورة الشعر كقوله [من الرجز] :
٣٧٥ ـ ... |
|
يضحكن عن كالبرد المنهمّ (٣) |
وقال كثير منهم الأخفش والفارسيّ : يجوز في الاختيار ، فجوّزوا في نحو : زيد كالأسد أن يكون الكاف في موضع رفع ، والاسد مخفوضا بالاضافة.
ويقع مثل هذا في كتب المعربين كثيرا. قال الزمخشريّ في قوله تعالى : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ) [آل عمران / ٤٩] إنّ الضمير فيه راجع إلى الكاف من كهيئة الطير ، أي فانفخ في ذلك الشيء المماثل ، فيصير كسائر الطيور انتهى.
ووقع مثل ذلك في كلام غيره ، ولو كان كما زعموا لسمع في الكلام مثل :
مررت بكالأسد.
ونقل في شرح «بانت سعاد» عن ابن مضاء أنّها اسم أبدا ، لأنّها بمعنى مثل وهو غريب ، وتتعيّن الحرفيّة حيث كانت زائدة خلافا لمن أجاز زيادة الأسماء وحيث وقعت هي ومخفوضها صلة ، كقوله [من الرجز] :
٣٧٦ ـ ما يرتجي وما يخاف جمعا |
|
فهو الّذي كاللّيث والغيث معا (٤) |
خلافا لابن مالك في إجارته أن يكون مضافا ومضافا إليه على إضمار المبتدأ كما في قراءة بعضهم (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام / ١٥٤] وهذا تخريج للفصيح على الشاذّ.
__________________
(١) تتمته «فسما فأدرك خمسة الأشبار» ، وهو للفرزدق يمدح بها يزيد بن المهلب. اللغة : الإزار : سروال ، سما : ارتفع وعلا ، الأشبار : جمع شبر : ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر.
(٢) تتمته : «وليدا وكهلا حين شبت وأمرادا» ، وهو للأعشى. اللغة : أبغي : أطلب ، إليافع : الغلام الّذي قارب الحلم أو راهق العشرين. الأمرد : من لا شعر في وجهه.
(٣) قبله «بيض ثلاث كنعاج جمّ» ، وهو للعجاج. اللغة : البيض : أراد به النساء ، النعاج : أراد به هنا بقر الوحش حيث شبه النساء بهنّ في العيون والأعناق ، الجمّ : بضم الجيم هي الّتي لا قرن لها ، وبفتح الجيم بمعنى الكثير ، البرد : حب الغمام ، المنهمّ : الذائب.
(٤) لم يسم قائله. اللغة : الغيث : المطر.
تتمّة : أثبت الجمهور من البصريّين والكوفيّين الجرّ بالمجاورة لمجرور في النعت كقولهم : هذا حجر ضبّ خرب ، والتوكيد كقوله [من البسيط] :
٣٧٧ ـ يا صاح بلّغ ذوي الزوجات كلّهم |
|
... (١) |
بجرّ كلّهم بالمجاورة ، لأنّه توكيد لذوي المنصوب لا الزوجات ، وإلا لقيل كلهنّ ، وقيل في عطف النسق أيضا نحو : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة / ٦] ، فإنّه معطوف على أيديكم ، لأنّه مفعول.
قال أبو حيّان : وذلك ضعيف جدّا ، ولم يحفظ من كلامهم ، قال : والفرق بينه وبين النعت والتوكيد أنّهما تابعان بلا واسطة ، فهما أشدّ مجاورة من العطف المفعول بحرف العطف ، انتهى.
قال الدمامينيّ في التحفة : أخبرني الشيخ شمس الدين الخثعمي المعروف بابن النشار (٢) أنّه كان بيده من تفسير الثعلبي (٣) أو غيره ، وفيهما أنّ أرجلكم في آية الوضوء مخفوض بالمجاورة ، قال : فجئت إلى الشيخ جمال الدين ابن هشام ، وهو جالس بمصر بجامع عمرو بن العاص ، فأريته الكلام المذكور في الآية طالبا أن يتكلّم عليه ، فنظر في تلك الكرّاسة ، ثمّ ألقاها إلى ، وقال لي بحدّة ، خذ فاسا ، واكشط به هذا الكلام ، وارم به في وجه صاحبه ، فتركته ، ومضيت ، انتهى.
وزاد ابن هشام في شرح الشذور عطف البيان ، قال : لا يمنع في القياس ، لأنّه كالنعت والتوكيد في مجاورة المتبوع ، قال : وينبغي امتناعه في البدل ، لأنّه في التقدير من جملة أخري فهو محجوز تقديرا (٤) ، انتهى. وكذا قال أبو حيّان ، وزاد لا نعلم أحدا أجراه فيه ولا تحفظه من كلامهم ، انتهى.
قال في المغني : وأنكر السيرافيّ وابن جنيّ الجرّ بالمجاورة مطلقا وتأوّلا قوله : خرب بالجرّ صفة لضب ، ثمّ قال السيرافيّ : في الأصل هذا حجر ضب خرب الحجر منه بتنوين خرب ورفع الحجر ، ثمّ حذف الضمير للعلم به ، ثمّ أتي بضمير الحجر مكانه لتقدّم ذكره فاستتر. وقال ابن جنيّ : الأصل خرب حجره ، ثمّ أنيب المضاف إليه عن المضاف ،
__________________
(١) تمامه «أن ليس وصل إذا انحلّت عري الذّنب» ، وهو لأبي الغريب النصري ، اللغة : العري : جمع عروة وهي من الدلو والكوز المقبض.
(٢) لم أجد ترجمة حياته.
(٣) الثعلبي هو أحمد بن محمد الميدانيّ النيسابوريّ الإمام الفاضل النحويّ الأديب اللغويّ ، صنّف : الأمثال ، الأنموذج في النحو ، الكشف والبيان عن تفسير القرآن ، مات سنة ٥١٨ ه ق. المصدر السابق ١ / ٣٥٧.
(٤) ابن هشام الانصاري ، شرح شذور الذهب ، لاط ، قم مؤسسة الطباعة والنشر دار الهجرة ، ١٤١٤ ه ق ، ص ٣٣٢.
فارتفع واستتر ، ويلزمهما استتار الضمير مع جرى ان الصفة على غير من هي له ، وذلك لا يجوز عند البصريّين وإن أمن اللبس ، انتهى.
وقصره الفرّاء على السماع ، ومنع القياس على ما جاء منه ، فلا يجوز : هذه حجرة ضب خربة ، وخصّه قوم بالنكرة ، وهو مردود ، فقد سمع في المعرفة ، وهل يختصّ النعت بالمفرد؟ قال الخليل : نعم ، وسيبويه : لا ، بل يجرى في المثنّى ، قال أبو حيّان : وقياسه الجريان في الجمع ، والمانع يقول لم يرد إلا في الافراد ، وهو قريب من رأي الفرّاء.
تنبيه : حركة الجرّ على الجوار من جملة صور الإتباع ، وفي قولهم على الجوار ما يشير إليه ، وبهذا يندفع استشكال تصوّر العامل في المجرور به ، فإنّ العامل في مجاوره لا يصحّ أن يكون عاملا فيه من حيث إنّه ليس له في المعنى ، وإنّما هو لغيره وعامل غيره لا يقتضي جرّه ، إذا هو غير مجرور. وهنا انتقضي كلام المصنّف (ره) على النوع الثالث من أنواع المعربات ، وهو ما يرد مجرورا لا غير ، فشرع في النوع الرابع ، وهو ما يرد منصوبا وغير منصوب ، فقال :
المستثنى
ص : النوع الرابع : ما يرد منصوبا وغير منصوب ، وهو أربعة.
الأوّل : المستثنى : وهو المذكور بعد إلا وأخواتها ، للدلالة على عدم اتّصافه بما نسب إلى سابقه ولو حكما. فاإن كان مخرجا [من متعدّد] فمتّصل ، وإلا فمنقطع.
فالمستثنى بإلا إن لم يذكر معه المستثنى منه أعرب بحسب العوامل ، وسمّي مفرّغا ، والكلام معه غير موجب غالبا. وإن ذكر فإن كان الكلام موجبا نصب ، وإلا فإن كان متّصلا فالأحسن اتباعه على اللّفظ ، نحو : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ ،) وإن تعذّر فعلى المحلّ ، نحو : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ،) وإن كان منقطعا ، فالحجازيّون يوجبون النصب ، والتميميّون يجوّزون الاتباع : نحو : ما جائني القوم إلا حمارا ، أو حمار.
تتمّة : والمستثنى بخلا وعدا وحاشا ينصب مع فعليتها ، ويجرّ مع حرفيّتها ، وبليس ولا يكون منصوب على الخبريّة ، واسمها مستتر وجوبا ، وبما خلا وبما عدا منصوب وبغير وسوى مجرور بالإضافة ، ويعرب غير بما يستحقّه المستثنى بإلا ، وسوى كغير عند قوم ، وظرف عند آخرين.
ش : «النوع الرابع» من المعربات من الأسماء «ما يرد منصوبا وغير منصوب وهو أربعة» :
«الأول المستثنى ، وهو المذكور بعد إلا» غير الصفة «و» إحدى «أخواتها» ، وهو غير وسوى بلغاتها وعدا وخلا وحاشا بلغاتها وليس ولا يكون «للدلالة» متعلّق بالمذكور «على عدم اتّصافه» أي المذكور «بما نسب إلى سابقه ولو» كان سابقه «حكما» ، نحو : قام القوم إلا زيدا ، وما قام إلا زيد ، فزيد في المثال الأوّل مذكور بعد إلا «للدلالة على عدم اتّصافة» بالقيام الّذي نسب إلى سابقه ، وهو القوم ، وفي الثاني مذكور بعد إلا للدلالة على عدم اتّصافه بعدم القيام الّذي نسب إلى سابقه حكما ، وهو أحد ، إذ التقدير ما قام أحد إلا زيد.
وشمل الحدّ المستثنى المتّصل والمنقطع ، فلذلك بيّنهما مفصّلا بقوله : «فإن كان المستثنى مخرجا» حقيقة «من متعدّد» لفظا أو تقديرا (١) «فمتصل» ، نحو : جاء القوم إلا زيدا ، ما جاء إلا زيد ، «وإلا» يكن مخرجا من متعدّد لا لفظا ولا تقديرا «فمنقطع» ، نحو : جاء القوم إلا حمارا.
__________________
(١) لا لفظا ولا تقديرا «ح».
تنبيهات : الأوّل : قال ابن الحاجب : لا يمكن جمع المستثنى المتّصل والمنقطع في حدّ واحد ، لأنّ ماهيتهما مختلفان ، ولا يمكن جمع شيئين مختلفي الماهيّة في حدود ذلك ، لأنّ الحدّ متبيّن للماهية بذكر جميع أجزائها مطابقة إمّا تضمّنا أو تصريحا ، والمختلفان في الماهية لا يتساويان في جميع الأجزاء حتى يجتمعا في حدّ واحد ، والدليل على اختلاف ماهيتها أنّ أحدهما مخرج من متعدّد ، والاخر غير مخرج ، بلي يمكن جمعهما في حدّ واحد باعتبار اللفظ ، لأنّ مختلفي الماهية لا يمتنع اشتراكهما في اللفظ ، فيقال : المستثنى هو المذكور بعد إلا وأخواتها ، انتهى.
قال الرضيّ : ولقائل أن يمنع اختلافها في الماهية قوله ، لأنّ أحدهما مخرج من متعدّد ، والآخر غير مخرج. قلنا : لا نسلم أنّ كون المتّصل مخرجا من متعدّد من أجزاء ماهيته ، بل حقيقة المستثنى متّصلا كان أو منقطعا هو المذكور بعد إلا وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا وإثباتا ، ثمّ نقول : كون المتّصل داخلا في متعدّد لفظا أو تقديرا من شرطه لا من تمام ماهيته ، فعلى هذا المنقطع داخل في هذا الحدّ كما في : جاءني القوم إلا حمارا ، لمخالفة القوم الحمار في المجئ ، انتهى. وعلى هذا جرى المصنّف في تعريفه المذكور.
الثاني : يرد على الاستثناء المتّصل إشكال مشهور ، وهو لزوم التناقض في المستثنى ، وذلك أنّك إذا قلت مثلا : قام القوم إلا زيدا ، فقد أثبت القيام للقوم الّذين من جملتهم زيد ، وقولك : إلا زيدا نفي القوم إلا زيدا ، فنفي عنه القيام الّذي ثبت له في ضمن القوم ، فيلزم التناقض ، وكذا قولك : أضرب القوم إلا زيدا ، يلزم أن يكون زيد مطلوبا ضربه وغير مطلوب ، وهذا لا يتصوّر في كلام العقلاء. وقد ورد في الكتاب العزيز من الاستثناء شيء كثير ، كقوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) [العنكبوت / ١٤] ، فيكون المعنى لبث الخمسين في جملة الألف ، ولم يلبث تلك الخمسين ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. واختلفوا في التقصي عن هذا الإشكال ، فقال بعضهم : يختار أنّ المستثنى غير داخل في المستثنى منه ، فالقوم في قولك : جاء القوم ، عامّ مخصوص ، أي أإنّ المتكلّم أراد بالقوم جماعة ليس فيهم زيد وقوله : إلا زيدا قرينة تدلّ السامع على مراد المتكلّم ، وأنّه أراد بالقوم غير زيد ، انتهى.
وكان المصنّف ارتضى هذا الجواب حيث قال في الحدّ : هو المذكور بعد إلا وأخواتها للدلالة على عدم اتّصافه بما نسب إلى سابقة ، لكن قال الرضيّ : إنّه ليس بشيء لإجماع أهل اللغة على أنّ الاستثناء مخرج ، ولا إخراج إلا مع الدخول ، وأيضا يتعذّر دعوى عدم الدخول في قصد المتكلّم في نحو له على عشرة إلا واحدا ، لأنّ الواحد في العشرة بقصده ثمّ أخرج ، وإلا لكان مريدا بلفظ العشرة تسعة ، وهو محال.
وقال أبو بكر الباقلانيّ (١) وعبد الجبّار (٢) : المستثنى والمستثنى منه وأداة الاستثناء بمترلة اسم واحد لما بقي ، فقولك : له عشرة إلا واحدا بمعنى له على تسعة لا فرق بينهما من وجه ، ولا دخول هناك ولا إخراج ، وردّ عليهما بأنّه ليس في لغتهم اسم مركّب من أكثر من لفظين ، وقيل : وليس بشيء ، لأنّه يسمّى بالجملة وإن طالت ، نعم يرد عليهما أنّه لا يفصل بين أجزاء الكلمة بكلمة أخرى ولا إباء عن قولنا : جاءني القوم يوم الجمعة أمام الأمير في ساحة البلد إلا زيدا ، انتهى.
وقال آخرون : واستحسنه الرضيّ ، أنّ المستثنى داخل في المستثنى منه ، والتناقض غير لازم ، لأنّه أنّما يلزم لو كانت النسبة إلى مجرّد المستثنى ، وليس كذلك ، بل النسبة إلى المستثنى منه والمستثنى معا ، وإنّما أجرى الإعراب على المستثنى منه ، وإن كان المنسوب إليه الجميع ، لأنّ العادة إجراء الإعراب على أوّل أجزاء المنسوب إليه غير المفرد ، والإعراب على الجزء الأخير بكونه مضافا إليه أو تابعا من التوابع أو شبه المفعول كالمستثنى ، فالمستثنى مخرج قبل الإسناد إلى المستثنى منه. قال الرضيّ : وهذا الجواب هو الصحيح المندفع عنه الإشكالات كلّها ، انتهى.
قال بعض المتأخّرين : وفيه أنّ المستثنى لم يخرج عن كونه مدلول المستثنى منه ، لأنّه غير ممكن ، ولا عن النسبة ، لأنّه لا نسبة ، فكيف يتصوّر إخراج ، ونحن نقول : نسب المسند إلى المستثنى منه فأخرج من النسبة المستثنى ، ثمّ حكم أو طلب ، فلا تناقض ، فتأمّل ، انتهى.
وقد سبقه إلى هذا صاحب غاية التحقيق (٣) حيث قال : إنّه داخل من حيث الإفراد واللفظ ، فاخرج عنه في التركيب والحكم ، انتهى. والتأمّل منتف هنا.
سبب تسمية المستثنى المتّصل والمنقطع : الثالث : إنّما سمّي المتّصل متّصلا لأنّه داخل في دلالة منطوق المستثنى منه ، والمنقطع منقطعا لدخوله في دلالة مفهومه ، ودلالة المنطوق أقوي ، فسمّي المخرج منها متّصلا بخلاف دلالة المفهوم ، فإنّها ضعيفة.
الرابع : لا يشترط في المنقطع أن يكون من غير جنس المستثنى منه ، بل أن لا يكون داخلا في المتعدّد الأوّل قبل الاستثناء ، سواء كان من جنس المتعدّد كقولك : جاءني القوم
__________________
(١) الباقلاني (أبو بكر محمّد) «ت ٤٠٣ ه / ١٠١٣ م) من كباء علماء الكلام. ولد في البصرة وسكن بغداد من كتبه «إعجاز القرآن» «والانصاف» «دقائق الكلام» المنجد في الأعلام ص ١٠٧.
(٢) هناك أربعة أشخاص باسم عبد الجبار ، وكلّهم من النحاة وماتوا في نحو سنة خمسائة. بغية الوعاة. ٢ / ٧٢.
(٣) غاية التحقيق في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق لطا شكبري زاده أحمد (١٤٩٥ ـ ١٥٦١ م) ، مؤرخ عثماني. كشف الظنون ٢ / ١١٩١.
إلا زيدا ، مشيرا بالقوم إلى جماعة خإلى ة عن زيد ، أو لم يكن ، نحو : جاءني القوم إلا حمارا ، فتبيّن أنّ المتّصل ليس هو المستثنى من الجنس كما ظنّ بعضهم.
الخامس : حرّك بعض المتأخّرين هنا بحثا فقال : هلّا كان الاستثناء كلّه متّصلا ، ولكن تارة يكون المخرج منه مذكورا ، وتارة يكون مقدّرا ، فيكون الأصل في نحو ما فيها أحد إلا حمارا ، ما فيها أحد ولا ما يتبعه إلا حمارا ، وما يتبعه يشمل الإبل والبقر والغنم وغير ذلك ، فاستغني الحمار منه ، ودلّ على هذا المحذوف استثناء الحمار ، كما دلّ على تقدير أحد في الاستثناء المفرّغ ، ما جاءني إلا زيد إخراج زيد ، وعلى تقدير حال من الأحوال فيما جائني زيد إلا راكبا ، وكذا القول في البواقي.
ويكون الفرق بين هذا الّذي يسمّونه منقطعا ، والاستثناء المفرّغ اشتغال العامل بمطلوبه في نحو : ما جاءني إلا حمارا ، أو عدم اشتغاله في ما جاءني إلا زيد ، وأجاب هذا الباحث بأنّ ذلك إذا سلم لم يخرج عن الانقطاع باعتبار الظاهر ، وإن كان متّصلا باعتبار التقدير ، فإذا صحّ له الاسمان بالاعتبارين المختلفين فلا بأس بقصره على أحدهما لقصد التمييز بينه وبين نوع آخر يخالفه في طريقته ، وهو المتّصل لفظا ، انتهى.
إعراب المستثنى المفرّغ : «فالمستثنى بإلا إن لم يذكر معه المستثنى منه» لفظا بل نوي ويسمّى الكلام حينئذ ناقصا ، «أعرب بحسب» اقتضاء «العوامل» من رفع ونصب وجرّ لقيامه مقام المستثنى منه ، لكن لا إصالة ، إذ العوامل في التحقيق عاملة في ذلك المقدّر ، ولكن لمّا حذف ، وقام المستثنى مقامه عمل فيه لا بطريق الإصالة لصحّة ما قام إلا هند ، وقيل : بطريق الإصالة والصحّة للفصل بإلا ، وفيه نظر ، إذ الفصل أنّما يكون مسوّغا لترك التاء في الجملة لا مقتضيا لتركها وجوبا أو اختيارا وما قام إلا هند ، يجب فيه ترك التاء عند قوم ، ويختار عند آخرين ، وهو الحقّ بدليل قوله [من الرجز] :
٣٧٨ ـ ما برئت من ريبة وذمّ |
|
في حربنا إلا بنات العمّ (١) |
«وسمّي» المستثنى «مفرّغا» ، أي مستثني مفرّغا ، لأنّه الاسم لا مفرّغ وحده ، وإنّما سمّي بذلك تسمية له باسم عامله ، لأنّه هو المفرّغ في الحقيقة ، إذ لم يشتغل (٢) بمستثني منه ، يعمل فيه لفظا ، ففرغ عنه للعمل في المستثنى ، فلا حاجة إلى ما قاله بعضهم بأنّ المراد بالمفرّغ المفرّغ له على الحذف والإيصال ، كما يراد بالمشترك المشترك فيه ، لأنّه
__________________
(١) لم يسم قائله وتقدّم برقم ٨٩.
(٢) في «ح» أو لم يشتغل وفي «ط» إذا لم يشتغل.
فرغ له العامل عن المستثنى منه ، على أنّ لك أن تفسّر المفرّغ بالمفرّغ عن إعرابه لإعراب المستثنى منه ، ولك أن تجعله اسم مكان لوقوع التفريغ فيه.
تنبيهان : الأوّل : التفريغ لا يكون في المصدر المؤكّد لعدم الفائده ونحو : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية / ٣٢] ، محمول على أنّه مصدر نوعيّ ، أي إلا ظنّا ضعيفا ، ويكون فيما عدا ذلك من جميع المعمولات كالخبر ، نحو : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) [النجم / ٢٣] ، والفاعل ، نحو : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) [إبراهيم / ٩] ، والنائب عن الفاعل ، نحو : (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام / ٤٧] والمفعول به ، نحو : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة / ٢٨٦] ، والمفعول فيه ، نحو : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات / ٤٦] ، والمفعول له ، نحو : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) [البقرة / ٢٧٢] ، ولا يكون في المفعول معه ، فلا يقال : لا تسر إلا والنيل.
قال الرضيّ : ولعلّ ذلك أنّ ما بعد إلا كأنّه منفصل من حيث المعنى عمّا قبله لمخالفته له نفيا وإثباتا ، والواو أيضا مؤذنة بنوع من الانفصال ، فاستهجن عمل الفعل مع حرفين مؤذنين بالانفصال ، وأمّا وقوع واو الحال بعدها نحو : ما جاءني زيد إلا وغلامه راكب فلعدم ظهور عمل الفعل لفظا في ما بعد الواو ، انتهى.
ويكون في الملحقات بالمفعول كالحال ، نحو : ما جاءني زيد إلا راكبا ، (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [التوبة / ٥٤] ، والتمييز ، نحو : ما امتلأ الإناء إلا ماء.
وقوع التفريغ في التوابع : وأمّا التوابع فإنّما يقع التفريغ منها في البدل ، نحو : ما سلب زيد إلا ثوبه ، وأمّا عطف النسق فلا يكون فيه لما تقدّم ، وعطف البيان والتأكيد ينافيهما التفريغ ضرورة أنّه لا يكون إلا في متعدّد مماثل ، والتعدّد ينافي عطف البيان ، لأنّه إمّا علم أو مختصّ مثله ، فلا يمكن أن يقدّر عطف بيان متعدّد شامل للمذكور وغيره ، وكذا التأكيد ، لأنّه ليس لنا ألفاظ تاكيديّة عامّة تشتمل المستثنى وغيره حتى تقدّرها ، وتخرج منها التأكيد المستثنى ، وأمّا الوصف فجّوز الرضيّ وصاحب اللباب وقوع التفريغ فيه ، نحو : ما جاءني أحد إلا ظريف ، وما لقيت أحدا إلا أنت خير منه.
وفي المغني لابن هشام إنّ التفريغ لا يجوز في الصفات ، ولم يحك جوازه إلا عن الزمخشريّ وأبي البقاء ، قال : وكلام النّحويّين بخلاف ذلك ، وظنّ التفتازانيّ أنّ المسألة إجماعية ، فقال في شرح المفتاح : لا خلاف في جواز الاستثناء المفرّغ في الصفة.
الثاني : كلّ استثناء مفرّغ لا يكون إلا متّصلا ، لأنّه يعرب على حسب العوامل ، فيكون من تمام الكلام ، وإليه النسبة ، ولذلك لم يجز نصبه على الاستثناء.
الثالث : يقدّر المستثنى منه في المفرّغ بقدر الضرورة ، وما يتناول المستثنى ويناسبه في جنسه ووصفه ففي نحو : ما ضربت إلا زيدا ، أي أحدا ، وما جئت إلا راكبا ، أي على حال من الأحوال ، وما ضربته إلا تأديبا أي لغرض ، وقس على ذلك.
الرابع : من العرب من يشغل العامل في التفريغ بمحذوف ، فينصب ما بعد إلا على الاستثناء ، نحو : ما ضربت إلا زيدا ، وما مررت إلا زيدا ، فزيد في المثالين منصوب على الاستثناء ، ومعمول الفعل محذوف ، وهذا إنّما يكون فيما يمكن حذفه ، فلو قلت : ما قام إلا زيد ، لم يجز النصب ، لأنّ الفاعل لا يحذف ، وأجازه الكسائيّ على مذهبه في جواز حذف الفاعل ، قاله المراديّ في شرح التسهيل.
«والكلام معه» أي مع المستثنى المفرّغ «غير موجب» بفتح الجيم ، وهو ما يتقدّمه نفي أو شبهه من نهي أو استفهام إنكاريّ «غالبا» لا دائما لاستبعاد اشتراك أفراد الجنس في وقوع الفعل منها أو عليها ومخالفة واحد إيّاها ، ولكنّ ذلك ممكن ، وهو قليل جدّا ، فكان غير الغالب ، نحو : كلّ حيوان يحرّك الفكّ الأسفل في الأكل إلا التمساح ، وقرأت إلا يوم كذا ، إذ لا يبعد أن تقرأ جميع الأيام إلا اليوم المستثنى ، وضابطه استقامة المعنى ، كما قال ابن الحاجب.
وفسّر بعضهم استقامة المعنى بأن يكون الحكم ممّا يصحّ أن يثبت على سبيل العموم كالمثال الأوّل ، أو تكون هناك قرينة دالّة على أنّ المراد بالمستثني منه بعض معيّن ، يدخل فيه المستثنى قطعا كالمثال الثاني لظهور أنّ المتكلّم لا يريد جميع أيّام الدنيا ، بل أيّام الأسبوع أو الشهر أو مثل ذلك ، انتهى.
وقال ابن مالك في شرح التسهيل : إذا كان في الإيجاب معنى النفي عومل معاملته ، نحو : عدمت إلا زيدا ، وصمت إلا يوم الجمعة ، فإنّه بمعنى لم أجد ، ولم أفطر ، انتهى.
تنبيهان : الأوّل : لا يقال ما زال زيد إلا عالما ، وإن كان ظاهر الكلام غير موجب ، لأنّ معنى زال نفي ، والنفي إذا دخل على النفيّ أفاد الإيجاب الدائم ، فيكون المعنى دام زيد على جميع الصفات إلا على صفة العلم ، وهو محال.
الثاني : إذا كان الموجب لازما له النفي كلولا ولو فذهب المبرّد إلى جواز التفريغ معه ، نحو : لولا القوم إلا زيد لأكرمتك ، ولو كان معنا إلا زيد لغلبنا ، قال أبو حيّان في الإرتشاف : والصحيح أنّه لا يجوز ، وإن ذكر مع المستثنى المستثنى منه ، ويسمّى الكلام حينئذ تامّا ، ففيه تفصيل ، فإن كان الكلام موجبا ، وهو ما لم يتقدّمه شيء ممّا تقدّم نصب المستثنى وجوبا ، سواء كان متّصلا ، نحو قوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً)
[البقرة / ٢٤٩] ، أو منقطعا ، نحو : جاء القوم إلا حمارا ، تأخّر المستثنى عن المستثنى منه كما مرّ ، أو تقدّم ، نحو : قام إلا زيد القوم.
عامل المستثنى : واختلف في عامل النصب ، فقيل : هو «إلا» لاختصاصها بالاسم ، وليست كالجزء منه فعملت كسائر الحروف الّتي هي كذلك ، وهذا مذهب سيبويه والمبرّد والزجاج والجرجانيّ ، واختاره ابن مالك وابن هشام ، وقيل : العامل ما قبل إلا بواسطتها ، وهو رأي السيرافيّ ، وقال ابن عصفور وغيره : هو مذهب سيبويه والفارسيّ وجماعة من البصريّين ، وقال الشلوبين : هو مذهب المحقّقين. وقيل : هو ما قبلها مستقلّا ، وإليه ذهب ابن خروف ، وعزاه إلى سيبويه ، فعلى هذا كلّ من هذه المذاهب قد نسب إلى سيبويه [يقول الشاعر من الوافر] :
٣٧٩ ـ وكلّ يدّعون وصال ليلى |
|
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا (١) |
وقيل : هو استثني مضمرا ، حكاه السيرافيّ عن المبرّد والزجّاج.
وفي التاريخ أنّ عضد الدولة (٢) قال للفارسي وهو مسائر له في ميدان شيراز : لم انتصب المستثنى في قولك : جاء القوم إلا زيدا؟ فقال : لأنّه بتقدير أستثني زيدا. فقال لم لا تقدّره امتنع زيد؟ فانقطع الفارسيّ وقال : هذا جواب ميدانيّ (٣) ، ثمّ كتب فيه شيئا.
وقيل : العامل أنّ بفتح الهمزة وتشديد النون مقدّرة بعد إلا ، حكاه السيرافيّ عن الكسائيّ ، فالتقدير في نحو : قام القوم إلا زيدا ، إلا أنّ زيدا لم يقم. وقيل غير ذلك ، وهو خلاف لا ثمرة له (٤).
تنبيهات : الأوّل : ظاهر كلام المصنّف (ره) تعيين النصب في الكلام التامّ الموجب عند جميع العرب ، وليس كذلك ، بل الإبدال فيه لغة ، حكاها أبو حيّان ، وخرّج عليها قراءة : فشربوا منه إلا قليل بالرفع ، وقال ابن مالك في توضيح البخاريّ : لا يعرف أكثر المتأخّرين في هذا النوع إلا النصب. وقد أغفلوا وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخير ومحذوفه ، فمن الأوّل قول أبي قتادة (٥) : أحرموا كلّهم إلا أبو قتادة لم يحرم ، وإلا بمعنى
__________________
(١) ما وجدت قائل البيت.
(٢) عضد الدولة (ت ٣٧٢ ه / ٩٨٣ م) أعظم ملوك بني بويه رعي العلماء والأباء ، مدحه المتنبي. المنجد في الأعلام / ٣٧٥.
(٣) الميداني هو النيسابوري الّذي تقدم ذكره في ص ٣٨٦.
(٤) على حسب المعنى الأفضل أن نقول : إن العامل للاسم الواقع بعد إلا فعل محذوف تدلّ عليه إلا ، والتقدير : استثني مثلا.
(٥) قتادة بن دعامة ، مفسّر حافظ ، وكان مع علمه بالحديث ، رأسا في العربية ومفردات اللغة. مات سنه ١١٨ ه. الأعلام للزركلي ، ٦ / ٢٧.
لكن ، وأبو قتادة مبتدأ ، ولم يحرم خبره ، ومن محذوف الخبر قوله عليه السّلام : «كلّ أمتى معافي إلا المجاهرون بالمعاصي (١)» وقراءة بعضهم فشربوا منه إلا قليل ، أي إلا قليل منهم لم يشرب ، وجزم بذلك في مختصر العمدة (٢).
وقال أبو حيّان في النهر (٣) : إذا تقدّم موجب جاز فيما بعد إلا وجهان : النصب على الاستثناء ، وهو الأفصح ، وأن يكون ما بعد إلا تابعا لإعراب المستثنى منه إن رفعا فرفع ، أو نصبا فنصب ، أو جرّا فجرّ ، سواء كان ما قبل إلا ظاهرا أو مضمرا. قال : واختلفوا في إعرابه. وقيل : هو نعت ، وإنّه ينعت بما بعد إلا الظاهر والمضمر ، يعني أنّ المضمر ينعت في هذا الباب. وقيل : لا ينعت بما بعدها إلا النكرة أو المعرّف بلام الجنس ، فإن كان معرّفا بلام العهد أو الإضافة لزم النصب على الاستثناء. وزعم أنّ من الاتباع قوله [من الوافر] :
٣٨٠ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه |
|
لعمر أبيك إلا الفرقدان (٤) |
حكم المستثنى إذا تقدّم على المستثنى منه : الثاني : إذا تقدّم المستثنى على المستثنى منه تحتمّ نصبه أيضا ، سواء كان متّصلا أو منقطعا ، وسواء كان في سياق الإيجاب ، كقام إلا زيدا القوم أو في غيره ، كقول الكميت (ره) [من الطويل] :
٣٨١ ـ وما لي إلا آل أحمد شيعة |
|
وما لي إلا مشعب الحقّ مشعب (٥) |
ولا يصحّ الإبدال ، لأنّ التابع لا يتقدّم على المتبوع ، هذا مذهب البصريّين ، وأجاز الكوفيّون والبغداديّون غير النصب في المسبوق بالنفي ، نحو : ما قام إلا زيد أحد.
قال سيبويه : سمع يونس بعض العرب الموثوق بعربيّتهم يقول : ما لي إلا أبوك ناصر ، وقال حسان [من الطويل] :
٣٨٢ ـ ... |
|
إذا لم يكن إلا النبيّون شافع (٦) |
قال ابن هشام : ووجهه أنّ العامل فرع لما بعد إلا ، وأنّ المؤخّر عامّ أريد به خاصّ ، فصحّ إبداله من المستثنى ، لكنّه بدل كلّ ، ونظيره في أنّ المتبوع آخر ، وصار تابعا ما
__________________
(١) نهج الفصاحة ص ٤٥٨ ، حديث ٢١٦٧. صحيح البخاري ٤ / ٣٤٣ ، رقم ٩٥١. وفي كلا المصدرين «المجاهدين بالمعاصي».
(٢) العمدة في النحو مختصر لابن مالك. كشف الظنون ٢ / ١١٧٠.
(٣) النهر الممّاد من البحر في التفسير لأبي حيان. المصدر السابق ص ١٩٩٣.
(٤) تقدم برقم ٣٠٤.
(٥) اللغة : المشعب : الطريق ومشعب الحق : طريقة المفّرق بينه وبين الباطل. ويروى في مكانه. مذهب الحق.
(٦) صدر البيت «فإنهم يرجون منه شفاعة».
مررت بمثلك أحدا ، انتهى. وقال ابن الضائع : الوجه أن يقال : هو بدل من الاسم مع إلا مجموعين فيكون بدل شيء لغير واحدة ، انتهى.
حكم المستثنى غير الموجب : «وإلا» يكن الكلام موجبا بل كان غير موجب ، ففيه تفصيل ، «فإن كان» المستثنى «متّصلا فالأحسن والأرجح إتباعه» ، أي اتباع المستثنى للمستثني منه «على اللفظ» بدلا منه ، بدل بعض من كلّ عند البصريّين ، وعطف نسق عليه عند الكوفيّين ، لأنّ إلا عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء خاصّة ، وهي عندهم بمترلة لا العاطفة في أنّ ما بعدها مخالف لما قبلها ، لكنّ ذلك منفيّ بعد إيجاب ، وهذا موجب بعد النفي. قاله ابن هشام في المغني ، واعترض مذهب البصريّين بأنّ بدل البعض لا بدّ له من رابط ، ولا ضمير يعود إلى المبدل منه ، وإنّه مخالف للمبدل منه ، فإنّ المبدل موجب ، والمبدل منه منفيّ.
وأجيب عن الأوّل بأنّ الربط بالاستثناء أغني عن الربط بالضمير لظهور إفادة البعضية ، وعن الثاني بأنّه لا منع من التخالف مع الحرف المقتضي لذلك كما جاز في الصفة ، نحو : مررت برجل لا ظريف ولا كريم ، جعلت النفي مع الاسم الّذي بعده صفة لرجل ، والإعراب على الاسم كذلك تجعل في نحو : ما جاء القوم إلا زيد ، قولنا : إلا زيد بدلا ، والإعراب على الاسم ، قاله الرضيّ (ره) ، واعترض مذهب الكوفيّين باطّراد قولهم : ما قام إلا زيد ، وليس شيء من حروف العطف يلي العوامل. قال ابن هشام في المغني : وقد يجاب بأنّه ليس تإليها (١) في التقدير : إذ الأصل ما قام أحد إلا زيد ، انتهى.
قال الدمامينيّ : لكن يلزم عليه جواز حذف المعطوف عليه مطّردا ، والفرض أنّه قليل ، انتهى.
فائدة : قال ابن الدهان في الغرّة : ليس في الابدال ما يخالف حكم المبدل منه إلا في الاستثناء وحده. وذلك أنّك إذا قلت : ما قام أحد إلا زيد فقد نفيت القيام عن أحد ، وأثبته لزيد. وهو المبدل منه ، نحو : قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء / ٦٦] ، قرأ الستّة بالرفع على أنّه تابع للضمير المرفوع المتّصل بالفعل ، وابن عامر بالنصب على الاستثناء.
تنبيهات : الأوّل : زاد جماعة منهم ابن مالك في التسهيل وابن هشام في الجامع في هذه المسألة ، أعني ترجيح الاتباع على النصب قيدين آخرين : أحدهما : أن يكون المستثنى متراخيا عن المستثنى منه ، نحو : ما جاءني أحد حين كنت جالسا هنا إلا زيدا ، وثانيها :
__________________
(١) ليس طالبا «ح».
أن لا يكون مردودا به كلام تضمّن معنى الاستثناء ، نحو : ما قام القوم إلا زيدا ، ردّا على من قال : أقام القوم إلا زيدا ، فإنّه في هاتين الصورتين يترجّح النصب على الاتباع ، أمّا في الأولى فلأنّ البدل إنّما كان مختارا لطلب المشاكلة بينه وبين المستثنى منه ، ومع التراخي لا يبيّن ذلك ، وأما في الثانية فلأنّه غير مستقلّ ، والبدل في حكم الاستقلال.
قال أبو حيّان : وهذان القيدان لا يعرفهما أصحابنا إلا ابن عصفور ، فإنّه حكى نحو القيد الثاني عن ابن السّراج ، وردّه ، انتهى. فلا يرد حينئذ على قضية إطلاق المصنّف (ره).
الثاني : قد يقال : لا يستفاد من كلام المصنّف (ره) حقيقة هذه الاتباع ، فينبغي التصريح بأحد القولين ، وقد يجاب بأنّه أنّما فعل ذلك إشارة إلى عدم ترجيح أحد المذهبين لتكافئ الأدلّة.
الثالث : علّل كثيرون ترجيح الاتّباع على النصب بما فيه من حصول المشاكلة بين المستثنى والمستثنى منه في الإعراب ، قال البدر الدمامينيّ في المنهل : وقضية ذلك أن لا يكون البدل في قولنا : ما ضربت أحدا إلا زيدا ، مختارا على النصب ، ضرورة أنّ المشاكلة حاصلة على كلا التقديرى ن فيستويان ، انتهى.
قلت : وقد صرّح بذلك الشيخ محبّ الدين ناظر الجيش في شرح التسهيل قال : لو حصلت المشاكلة في تركيب استويا ، والأحسن في تعلى ل ذلك ما علّل به بعضهم ، منهم صاحب الفوائد الضيائية من أنّ النصب على الاستثناء أنّما هو على التشبيه بالمفعوليّة لا بالإصالة وبواسطة إلا ، وإعراب البدل بالإصالة وبواسطة إلا ، وإعراب البدل بالإصالة وبغير واسطة ، فإن تعذّر اتباع المستثنى للمستثني منه على اللفظ لمانع فعلى المحلّ عملا بالمختار على قدر الإمكان ، وذلك في ثلاثة مواضع :
أحدها : في المجرور بمن الزائدة الاستغراقيّة ، نحو : ما جاءني من رجل إلا زيد ، فزيد مرفوع على البدليّة من محلّ أحد ، لأنّه في موضع رفع بالفاعلية لتعذّر الإبدال من لفظ المجرور بمن المذكورة ، لأنّها وضعت لتفيد أنّ النفي شامل لجميع أفراد المجرور بها ، سواء باشرت المجرور نحو : ما جاءني من رجل ، أو كان المجرور تابعا لمباشرها نحو : ما جاءني من رجل وامرأة ، وإلا ناقضة لما يقع بعدها من النفي ، ومع بطلان النفي لا يتأتّي أن يكون شاملا لأفراد ما بعدها ، ولا يجوز : الإبدال على اللفظ أيضا على مذهب الأخفش ، وإن جوّز زيادة من في الموجب مطلقا معرّفا كان أو غيره ، لأنّ الكلام في من الاستغراقيّة ، ولا يمكنه إرتكاب ذلك هنا.
الثاني : المجرور بالباء الزائدة نحو : ليس زيد بشيء إلا شيئا يعبأ به ، فشيئا منصوب على البدلية من محلّ شيء ، لأنّه في موضع نصب لتعذّر الإبدال من لفظ المجرور بها أيضا ، لأنّها وضعت لتدلّ على تاكيد نفي المجرور بها ، سواء كان المجرور مباشرا كما مرّ أو تابعا للمباشر لها ، نحو : ما زيد بقائم ولا قاعد ، وقد تقرّر أنّ إلا مبطلة لما يتقدّمها من نفي ، وإذا بطل فلا يؤكّد.
إعراب لا إله إلا الله : الثالث : اسم لا التبرئة ، نحو : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [الصافات / ٣٥] ، فاسم الجلالة مرفوع على البدليّة من المحلّ كما سيأتي لتعذّر الإبدال من لفظ اسم لا ضرورة أنّ لا لا تقدّر عاملة بعد إلا ، لأنّها لا تعمل في معرفة ، ولمناقضتها لإلا في المعنى ، لأنّها إنّما عملت للنفي وقد انتقض بإلا ، ولا يرد نحو : ليس زيد شيئآ إلا شيئا لا يعبأ به ، مع انتقاض النفي فيه أيضا بإلا ، لأنّ لا إنّما عملت للنفي ، فلا تقدّر عاملة إلا مع وجوده ، وهو مع إلا مفقود كما عرفت ، فبطل تقديرها بعده ، وليس إنّما عملت للفعلية لا للنفي ، وهي بمترلة ما وكان جميعا ، ويجوز ما كان زيد شيئا إلا يعبأ به على البدل ، لأنّ العمل لكان لا للنفي ولا لكان والنفي جميعا.
وكان بمجرّدها يصحّ تقديرها بعد إلا ولمّا كانت ليس فعلا ، معناه النفي توهّم أنّها بمثابة لا في العمل ، وليس كذلك ، بل عملها للفعلية ، والفعلية إذا قدّرت مجرّدة عن النفي لم يتعذّر العمل ، ولكن لمّا كان انفكاكها عن النفي متعذّرا توهّم أنّ النفي متعذّر ، قاله ابن الحاجب.
واختلف في المبدل منه لاسم الجلالة ما هو ، فقيل : هو لا مع اسمها ، لأنّها في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه ، وقيل : هو اسم لا باعتبار محلّ الاسم قبل دخول لا ، لأنّه في موضع رفع بالابتداء ، وهو قول الأكثرين ، ويشكل عليه أمران : أحدهما أنّ اعتبار محلّ اسم لا على أنّه مبتدأ ، قيل : دخول لا قد زال بدخول الناسخ كما قال الرضيّ في باب إنّ. الثاني : إنّ المراعي في البدل صحّة حلوله محلّ اسم لا منه ، وهو هنا متعذّر ، وأجاب عن هذا ابن هشام بأنّه بدل من الاسم مع لا ، فإنّهما كالشيء الواحد ، ويصحّ أن يخلفهما ، ولكن يذكر الخبر حينئذ ، فيقال : الله موجود ، انتهى.
وتعقّبه الدمامينيّ بأنّ هذا خروج عن فرض المسألة ، لأنّ الإشكال أنّما ورد على القائلين بأنّ الاسم المرفوع بدل من اسم لا باعتبار محلّه ، ولم يقولوا : بدل من مجموع الاسم ولا ، فكيف يكون هذا رافعا للاشكال ، انتهى. قلت : وأيضا فما أجاب به ابن هشام قول مستقلّ كما عرفت ، قال به جماعة ، وحكاه في الهمع ، فيكون هذا منه
كالخلط بين القولين ، وأجاب الشلوبين عن ذلك بأنّ هذا الكلام أنّما هو على توهّم كلام آخر.
فإذا قلت : لا أحد فيها إلا زيد ، صحّ الإبدال ، لأنّه على توهّم ما فيها إلا زيد. وكذا يقال في كلمة الشهادة وهو في معنى ما في الوجود إله إلا الله ، فيصحّ فيه الإبدال ، وهذا الجواب رافع للإشكإلى ن ، كما لا يخفي ، وقيل : المبدل منه هو الضمير المستتر في الخبر المقدّر العائد على اسم لا ، فيكون الاتباع حينئذ على اللفظ لا على المحلّ. قال ناظر الجيش في شرح التسهيل : وهو أولى ، لأنّ فيه إبدالا من الأقرب ، ولأنّه لا داعي إلى الاتّباع على المحلّ مع امكانه على اللفظ ، انتهى.
فإن قيل : إن قدّرت الخبر في كلمة التوحيد «موجود» ، لم يلزم منه إلا نفي وجود ما سوى الله تعالى من الإلهة ، لا نفي امكان وجوده ، وإن قدرت «ممكن» لم يلزم منه إلا إثبات إمكان الوجود لله تعالى ، لا إثبات وجوده ، وعلى التقديرين لا يتمّ التوحيد ، لأنه أنّما يتمّ بنفي إمكان الوجود عمّا سوى الله من الإلهة ، وإثبات الوجود به تعالى ، وعلى الأوّل لم يلزم (١) نفي الامكان عن غيره تعالى ، وعلى الثاني لم يلزم إثبات الوجود به تعالى. قلت : أجاب الزمخشريّ في بعض تاليفه عن هذا بأنّ المرفوع بعد إلا مبتدأ وإلا لغو لفظا ، والأصل في كلمة الشهادة الله إله ، فالمعرفة مبتدأ ، والنكرة خبر على القاعدة.
ثمّ قدّم الخبر ، ثمّ أدخل النفي على الخبر ، والإيجاب على المبتدأ ، وتركّبت لا مع الخبر ، انتهى.
قال ابن هشام : فيقال له ما تقول في نحو : لا طالعا جبلا إلا زيد ، لم انتصب خبر المبتدإ؟ فإن قال : إنّ لا عاملة عمل ليس ، فذلك ممتنع لتقدّم الخبر ولانتقاض النفي ولتعريف أحد الجزئين ، انتهى.
وأجاب بعضهم بأنّ كلمة الشهادة غير تامّة في التوحيد بالنظر إلى المعنى اللغويّ ، لأنّ التقدير لا يخلو عن أحد الأمرين ، وقد عرفت أنّه لا يتمّ (٢) ، وإنّما تعدّ كلمة الشهادة تامّة في أداء معنى التوحيد ، لأنّها قد صارت عليه علما شرعا ، ومنهم من أجاب بتقدير كلّ من موجود وممكن ، قيل : وهو بعيد.
قال بعض المحقّقين : وتحقيق الجواب على التقديرى ن أنّ المراد بالإله في هذه الكلمة هو المعبود بالحقّ ، والمعبود بالحقّ لا يكون إلا واجب الوجود ، ومحالّ أن يبقي واجب الوجود في عالم الامكان ، فإن قلنا : لا إله موجود إلا الله ، لزم نفي إمكان إله غيره ، وإن
__________________
(١) على الأوّل يلزم «ح».
(٢) وقد عرفت أنّه لا يتمّ سقطت في «س».
قلنا : لا إله ممكن إلا الله لزم وجود الله تعالى لاستحالة بقاء واجب الوجود في رتبة الإمكان ، وهذا دقيق لطيف جدّا ، انتهى.
فإن قلت : مقتضى قول المصنّف فالأحسن اتباعه أنّ نصبه على الاستثناء جائز في المواضع المذكور ، إلا أنّه مرجوح. قلت : أمّا في صورتي المجرور بمن والباء الزائدتين فواضح ذلك فيهما ، ويجوز فيهما الجرّ على الصفة ، أنشد الكسائيّ [من الكامل] :
٣٨٣ ـ با ابني لبيني لستما بيد |
|
إلا يدا ليست لها عضد (١) |
بالخفض. أمّا في صورة اسم لا التبرئة ، فقال في الهمع : إذا وقعت إلا بعد لا جاز في المذكور بعدها الرفع والنصب ، نحو : لا سيف إلا ذو الفقار وذا الفقار ، ولا إله إلا الله وإلا الله ، فالنصب على الاستثناء.
ومنعه الجرميّ ، قال : لأنّه لم يتمّ الكلام ، وردّ بأنّه ثمّ بالإضمار ، والرفع على ما ذكر ، وقيل : على الخبر للامع اسمها ، لأنّهما في محلّ رفع على الابتداء ، انتهى.
وقيل : على الخبر لأنفسها ، ولم يتعرّض له لفساده. قال ابن هشام : يردّه أنّ لا لا تعمل إلا في نكرة منفيّة ، واسم الله تعالى معرفة موجبة ، وإن كان المستثنى منقطعا ، فإن لم يمكن تسليط العامل على المستثنى ، وجب النصب اتّفاقا ، نحو : ما زاد هذا المال إلا ما نقص ، فما مصدريّة ، ونقص صلتها ، وموضعها نصب على الاستثناء ، ولا يجوز تقديرها في موضع الرفع على الإبدال من الفاعل ، إذ لا يمكن تسليط العامل عليه ، لا يصحّ أن يقال : ما زاد النقص ، والتقدير في ذلك ما زاد هذا المال لكن نقص ، وكذا كلّ استثناء منقطع يقدّر بلكن ، كما قال البصريّون ، والكوفيّون يقدّرونه بسوى.
قال بعضهم : ويردّه أنّها لا تفيد الاستدارك ، والمستثنى المنقطع للاستدراك ، ودفع توهّم دخوله في حكم السابق ، انتهى.
وإن أمكن تسليط العالم فالحجازيّون يوجبون النصب لامتناع احتمال البدليّة ، فيقولون : ما فيها أحد إلا حمارا ، وبلغتهم جاء التتريل ، قال تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء / ١٥٧]. والتميميّون يجيزيون مع اختيارهم النصب على الاستثناء الاتّباع ، أي جعله تابعا للمستثني منه على ما مرّ ، نحو : ما جاء القوم إلا حمارا بالنصب على الاستثناء ، أو ما جاء القوم إلا حمار بالرفع على الاتباع ، قال الشاعر [من السريع] :
٣٨٤ ـ وبلدة ليس بها أنيس |
|
إلا اليعافير وإلا العيس (٢) |
__________________
(١) هو لأوس بن حجر أو لطرفة بن العبد.
(٢) هو لحبران العود النمري واسمه عامر بن الحارث. اللغة : إليعافير : جمع يعفور : ولد البقر الوحشية ، العيس : جمع عيساء : الإبل البيض يخلط بياضها شقرة.