تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع.

وأظهر لفظ أجل في قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) ولم يكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه ، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تجري مجرى المثل ، وإرسال الكلام الصّالح لأن يكون مثلا طريق من طرق البلاغة.

و (يَسْتَأْخِرُونَ) : و (يَسْتَقْدِمُونَ) بمعنى : يتأخّرون ويتقدّمون ، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب.

والمعنى : إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم. والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه ، فعطف (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يقدر أحد على تغييره وصرفه ، فكان قوله : (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا تعلّق له بغرض التّهديد. وقريب من هذا قول أبي الشيص :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخّر عنه ولا متقدّم

وكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء.

[٣٥ ، ٣٦] (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦))

يجيء في موقع هذه الجملة : من التّأويل ، ما تقدّم في القول في نظيرتها وهي قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦].

والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضح. وصيغة الجمع في قوله : (رُسُلٌ) ـ وقوله ـ (يَقُصُّونَ) تقتضي توقّع مجيء عدّة رسل ، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام ، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن ، ويرجح أن تكون هذه النّداءات الأربعة حكاية لقول موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥].

قال ابن عطيّة : «وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم ، قديمها وحديثها ، هو متمكّن لهم ،

٨١

ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه» يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطاب على لسان كلّ نبيء ، من آدم إلى هلم جرّا ، فما من نبيء أو رسول إلّا وبلّغه أمّته ، وأمرهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائب ، حتّى نزل في القرآن على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم.

وإذا كان ذلك متعيّنا في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية ، فشد به يدك. ولا تعبأ بمن حردك.

فأما إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّها إلى المشركين في زمن النّزول ، بعنوان كونهم من بني آدم ، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالبا. كأنّه قيل إن فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يفتكم فيما بقي ، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يدعونّكم ، ويتعيّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد ، تعظيما له ، كما في قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] أي كذّبوا رسوله نوحا ، وقوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وله نظائر كثيرة في القرآن.

وهذه الآية ، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٤] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله.

أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه ، وأراهم به مناهج الرّشد التي تعين على تجنّب كيده ، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح ، كما أشار إليه بقوله ، في الخطاب السّابق : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] الآية فلذلك حذّر الله بني آدم من كيد الشّيطان ، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] عسى أن يتّخذوا العدّة للنّجاة من مخالب فتنته ، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين ، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان ، بأن يبعث إليهم قوما من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين ، بقوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم.

و (إِمَّا) مركّبة من (إن) الشّرطيّة و (ما) الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية ، واصطلح

٨٢

أئمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدة ، رعيا لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم ، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها (مهما) و (أينما) ، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي) سورة مريم [٢٦] لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم ، وهذا الاقتران بالنّون غالب ، ولأنّها لما وقعت توكيدا للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة.

وقوله : (مِنْكُمْ) أي من بني آدم ، وهذا تنبيه لبني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسل يكون من جنس من أرسل إليهم ، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم ، مثل قوم نوح ، إذ قالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) [هود : ٢٧] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّه بشر قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤ ، ٩٥].

ومعنى (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص اتباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي ، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٧١] وأيّا ما كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيه.

الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء ، من قول أو فعل ، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده ، أو على صفاته ، أو على صدق رسله ، كما تقدّم عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في سورة البقرة [٣٩] ، وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في سورة الأنعام [٣٧] ، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس ، للتّعريض بالمشركين من العرب ، الذين أنكروا رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يعجز البشر عن تأليف مثله ، وذلك من خصائص القرآن ، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قبل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها ، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهده النّاس. فيدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس ، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل ، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة

٨٣

للعادة تحدّى بها الرّسول المرسل بتلك الأقوال أمّته ، فهذا معنى تسميتها آيات ، ومعنى إضافتها إلى الله تعالى ، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزات غير القولية ، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه‌السلام. وإبراء الأكمه لعيسى عليه‌السلام ، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها.

وجملة : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) جواب الشّرط وبينها وبين جملة : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) محذوف تقديره : فاتقى منكم فريق وكذب فريق (فَمَنِ اتَّقى) إلخ ، وهذه الجملة شرطيّة أيضا ، وجوابها (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس ، لا لنفع الرّسل ، عدل عن جعل الجواب اتّباع الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح. إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل ، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدته للأمم لا للرّسل ، كما قال شعيب : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك ، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب ، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقا بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح ، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين ، ومثله قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٢ ـ ٦٤].

وقد نفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له ، وجيء باسمها مرفوعا لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا ، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحد ، ولو فتح مثله لصحّ ، ومنه قول الرّابعة من نساء حديث أمّ زرع : «زوجي كليل تهامه ، لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سئامة» فقد روي بالرّفع وبالفتح.

و (على) في قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) للاستعلاء المجازي ، وهو المقارنة والملازمة ، أي لا خوف ينالهم.

وقوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جملة عطفت على جملة : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ، وعدل عن عطف المفرد ، بأن يقال ولا حزن ، إلى الجملة : ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم ، فيدلّ على أنّ الحزن واقع بغيرهم ، وهم الذين كفروا. فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر ، نحو : ما أنا قلت

٨٤

هذا ، فإنّه نفي صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعا من غيره ، وعليه بيت «دلائل الإعجاز» ، (وهو للمتنبّي) :

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا

فيفيد أنّ الذين كفروا يحزنون إفادة بطريق المفهوم ، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون.

وجملة : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) معطوفة على جملة (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ). والرابط محذوف تقديره : والذين كفروا منكم وكذّبوا.

والاستكبار مبالغة في التّكبّر ، فالسين والتّاء للمبالغة. وهو أن يعد المرء نفسه كبيرا أي عظيما وما هو به ، فالسّين والتاء لعد والحسبان ، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنّهم عدوا قدرهم.

وضمن الاستكبار معنى الإعراض. فعلّق به ضمير الآيات. والمعنى : واستكبروا فأعرضوا عنها.

وأفاد تحقيق أنّهم صائرون إلى النّار بطريق قصر ملازمة النّار عليهم في قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) لأنّ لفظ أصحاب مؤذن بالملازمة. وبما تدلّ عليه الجملة الاسميّة من الدّوام والثّبات في قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[٣٧ ـ ٣٩] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩))

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).

٨٥

الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق ، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتبيّن أنّ صفات الضّلال ، التي أبهم أصحابها ، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ٢٧] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا ، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار ، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب ، فتفرّع على ذلك : أن من كذب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش ، أو كذب بآيات الله التي جاء بها رسوله ، فقد ظلم نفسه ظلما عظيما حتّى يسأل عمن هو أظلم منه.

ولك أن تجعل جملة : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) [الأنعام : ١٤٤] إلخ معترضة بين جملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٣٦] وجملة : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة ، وقد تقدّم الكلام على تركيب : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ) عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في سورة البقرة [١١٤] ، وأنّ الاستفهام للإنكار ، أي لا أحد أظلم.

والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣]. ولهذه الآية اتّصال بآية : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٤] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله.

و (من) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق ، المعبّر عنه بمن افترى على الله كذبا. و (من) الثّانية موصولة ، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة ، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلم منهم ، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى ، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداء عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم ، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قبله ، أو بأن يكذب عليه فيبلّغ عنه ما لم يأمر به فإن جمع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين : جهة إبطال ما يدلّ على مراده ، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله.

والمراد بهذا الفريق : هم المشركون من العرب ، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش ، كما تقدّم آنفا عند قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) [الأعراف : ٢٨].

٨٦

و (أو) ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلم وهم المشركون فريقين : فريق افتروا على الله الكذب ، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم ، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون ، مثل عمرو بن لحيّ ، وأبي كبشة ، ومن جاء بعدهما ، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية ، وفريق كذّبوا بآيات ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين ، من أهل مكّة وما حولها ، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلم منه ، لأنّ الفريق الآخر مساو له في الظلم وليس أظلم منه ، فأمّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أمورا من الضّلالات ، وكذّبوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم أشدّ ظلما ، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس ، وهذا كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] ، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها ، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة ، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة.

ولك أن تجعل (أو) بمعنى الواو ، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب ، ويكون صادقا على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك.

شيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناء على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء.

وجملة (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الاستفهام في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الآية ، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يسأل عمّا سيلاقونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته.

ويجوز أن تكون جملة : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) عطف بيان لجملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٣٦] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.

وتكملة هذه الجملة هي جملة : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الآية كما سيأتي.

٨٧

ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة ، غير مفصحة عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات ، وتقول نلت ـ بضمّ النّون ـ من نال ينول ، وتقول نلت ـ بكسر النّون ـ من نال ينيل ، وأصل النّيل إصابة الإنسان شيئا لنفسه بيده ، ونوّله أعطاه فنال ، فالأصل أن تقول نال فلان كسبا ، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي ، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب منولا لا نائلا ، لأنّ النّصيب لا يحصّل الذين افتروا على الله كذبا ، بل بالعكس : الذين افتروا يحصلونه ، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) [الحج : ٣٧] ـ وقوله ـ (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [الأعراف : ١٥٢] ، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازا مرسلا في معنى مطلق الإصابة ، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طلبة فنالها ، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيء يكرهونه ، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه ، كما يطلب العدوّ عدوّه ، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنّه يطلب أن يحصّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادفهم ، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة:

ومهمه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

وقولهم : «عرضت النّاقة على الحوض».

والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) في سورة البقرة [٢٠٢] ، وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) في سورة النساء [٧].

والمراد بالكتاب ما تضمّنه الكتاب ، فإن كان الكتاب مستعملا حقيقة فهو القرآن ، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده ، مثل قوله تعالى آنفا : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٣٦] ، وإن كان الكتاب مجازا في الأمر الذي قضاه الله وقدّره ، على حدّ قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] أي الكتاب الثّابت في علم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم ، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب ، وأنّه لا يغفر لهم ، ويشمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفا بقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤].

٨٨

وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلّا ليكون نوال النّصيب حاصلا في مدّة ممتدّة ليكون مجيء الملائكة لتوفّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب ، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في (حتّى). وذلك غير ملتزم ، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره.

والمعنى : إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه ، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه ، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا ، فلا يغرّنهم تأخير ذلك لأنّه مصيبهم لا محالة عند حلول أجله ، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم.

وجملة : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) تفصيل لمضمون جملة (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) فالوقت الذي أفاده قوله : (إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لقوه في الدّنيا.

و (حَتَّى) ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة ، فالمعنى : ف (إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) إلخ ، و (حتّى) الابتدائية لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية ما يخبر به المخبر ، وليست غاية ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى ، لأنّ ذلك إنّما يلتزم إذا كانت حتّى عاطفة ، ولا تفيد إلّا السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها ، قال الرضي ؛ قال المصنف : وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمّا زال بسبب الاستئناف شرط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي ، جبرا لما فات من الاتّصال اللّفظي ، قال عمرو بن شأس :

نذود الملوك عنكم وتذودنا

ولا صلح حتّى تضبعون ونضبعا

وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) في سورة الأنعام [٣١] و (حتّى) الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام ، وهذا الكلام الواقع هنا بعد (حتّى) فيه تهويل ما يصيبهم عند قبض أرواحهم ، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم ، من الوعيد المتعارف ، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموت عليهم في آيات كثيرة لأنّهم كانوا يرهبونه. والرّسل هم الملائكة قال

٨٩

تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] ـ وقال ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠].

وجملة : (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) في موضع الحال من (رُسُلُنا) وهي حال معلّلة لعاملها ، كقوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) [الأعراف : ٦١ ، ٦٢] أي رسول لأبلّغكم ولأنصح لكم.

والتّوفي نزع الرّوح من الجسد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) في سورة آل عمران [٥٥] وهو المراد هنا ، ولا جدوى في حمله على غير هذا المعنى ، ممّا تردّد فيه المفسّرون ، إلّا أن المحافظة على معنى الغاية لحرف (حتى) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعا ، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال ، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.

ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفّون آحادهم في أوقات متفرّقة إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب ، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمع والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملك لمن وكّل بتوفّيه ، على طريقة : ركب القوم دوابّهم. وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة ، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.

والاستفهام في قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مستعمل في التّهكّم والتّأييس.

و (ما) الواقعة بعد أين موصولة ، يعني : أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يحضروكم ، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أرواحهم ، فقد جاء في حديث «الموطّأ» : أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله. وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.

وقولهم : (ضَلُّوا عَنَّا) أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا ، وهذا يقتضي أنّهم لمّا يعلموا أنّهم لا يغنون عنهم شيئا من النّفع ، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم ، ولم يعلموا سببه ، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم ، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله

٩٠

بخلاف ما حكي عنهم في يوم الحشر من قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ولذلك قال هنا : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ، وقال في الأخرى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأنعام : ٢٤].

والشّهادة هنا شهادة ضمنية لأنّهم لما لم ينفوا أن يكونوا يدعون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم.

فأمّا قوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) فهذا قول آخر ، ليس هو من المحاورة السّابقة ، لأنّه جاء بصيغة الإفراد ، والأقوال قبله مسندة إلى ضمائر الجمع ، فتعيّن أنّ ضمير (قال) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام ، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى ، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حين أوّل قدومهم على الحياة الآخرة ، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيكون خطابا صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته ، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قبل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النّار ، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.

ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة ، فذكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالا لذكر حال مصيرهم ، وتخلّصا إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم. وأيّا ما كان فالإتيان بفعل القول ، بصيغه الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.

ويجوز أن تكون جملة : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) في موضع عطف البيان لجملة (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي : قال الله فيما كتبه لهم (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) [الأعراف : ٣٤] أي أمثالكم ، والتّعبير بفعل المضي جرى على مقتضى الظّاهر.

والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ).

و (في) من قوله : (فِي أُمَمٍ) للظّرفية المجازيّة ، وهي كونهم في حالة واحدة وحكم واحد ، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بعدهم ، وهي بمعنى (مع) في تفسير المعنى ، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظّر (في) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة :

٩١

إن تكن عن حسن الصّنيعة مأفو

كا ففي آخرين قد أفكوا

ومعنى : (قَدْ خَلَتْ) قد مضت وانقرضت قبلكم ، كما في قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) في سورة البقرة [١٣٤] ، يعني : أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلهم ، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك ، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء.

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

جملة : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، لوصف أحوالهم في النّار ، وتفظيعها للسّامع ، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) داخلة في حيز الاستيناف.

ويجوز أن تكون جملة : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) معترضة بين جملة : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) وبين جملة : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) إلخ. على أن تكون جملة (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) مرتبطة بجملة (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) بتقدير محذوف تقديره : فيدخلون حتّى إذا اداركوا.

و (ما) في قوله : (كُلَّما) ظرفية مصدريّة ، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها.

والتّقدير : لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم ، فتفيد عموم الأزمنة.

و (أُمَّةٌ) نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة ، فتفيد العموم ، أي كلّ أمة دخلت ، وكذلك : (أُخْتَها) نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضا ، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها ، والمراد بأختها المماثلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار ، كما يقال : هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب ، فيقال : بكر وأختها تغلب ، ومنه قول أبي الطّبيب :

وكطسم وأختها في البعاد

٩٢

يريد : كطسم وجديس.

والمقام يعيّن جهة الأخوّة ، وسبب اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب ، والأمر بإدخالهم النّار ، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل ، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه ، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيّنه ، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلية العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم ، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا ، بوجه من وجوه العلم ، أنّهم أدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه.

وقيل : المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها.

وأفادت (كُلَّما) لما فيها من معنى التّوقيت : أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار ، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير : لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار ، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تلعن أختها ، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدها الثّانية ، ومن بعدها بطريق الأولى ، أو تردّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة. والمعنى: كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله : (لَعَنَتْ أُخْتَها).

و (حتّى) في قوله : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) ابتدائيّة ، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن (حتّى) الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب ، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها ، فيجوز أن تكون مترتبة في المعنى على مضمون قوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) إلخ ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها).

و (ادَّارَكُوا) أصله تداركوا فقلبت التّاء دالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف ، وسكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين ، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن ، وهذا قلب ليس بمتعيّن ، وإنّما هو مستحسن ، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازداد وادّكر : ومعناه : أدرك بعضهم بعضا ، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل ، والمعنى : تلاحقوا واجتمعوا في النّار. وقوله : (جَمِيعاً) حال من ضمير (ادَّارَكُوا) لتحقيق استيعاب الاجتماع ، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها.

والمراد : ب (أُخْراهُمْ) : الآخرة في الرّتبة ، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم ، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورعاع ، والمراد بالأولى : الأولى في

٩٣

المرتبة والاعتبار ، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضا ، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفين محذوفين ، أي أخرى الطّوائف لأولاهم ، وقيل : أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان ، وبالأولى أسلافهم ، لأنّهم يقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٣]. وهذا لا يلائم ما يأتي بعده.

واللّام في : (لِأُولاهُمْ) لام العلّة ، وليست اللّام التي يتعدّى بها فعل القول ، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجّه إلى الله تعالى ، بصريح قولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) إلخ ، لا إلى الطّائفة الأولى ، فهي كاللّام في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١].

والضعف ـ بكسر الضّاد ـ المثل لمقدار الشّيء ، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجود معنى آخر ، كالزّوج والنّصف ، ويختص بالمقدار والعدد ، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأئمّة اللّغة ، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار ، مثل العذاب في قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الفرقان : ٦٩] ـ وقوله ـ (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي أعطهم عذابا هو ضعف عذاب آخر ، فعلم أنّه ، آتاهم عذابا ، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته ، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مثل لعذاب حصل قبله إذ لا تقول : أكرمت فلان ضعفا ، إلّا إذا كان إكرامك في مقابلة إكرام آخر ، فأنت تزيده ، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب ، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١].

وفعل : (قالَ) حكاية لجواب الله إياهم عن سؤالهم مضاعفة العذاب لقادتهم ، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات ، والتّنوين في قوله : (لِكُلٍ) عوض عن المضاف إليه المحذوف ، والتّقدير : لكلّ أمّة ، أو لكلّ طائفة ضعف ، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أول الأمر ، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا ، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنهم ضلّوا بإضلال قادتهم ، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم ، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم ، وإعطائهم إياهم الأموال والرّشا ، يزيدونهم طغيانا وجراءة

٩٤

على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه.

والاستدراك في قوله : (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) لرفع ما توهمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب : أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب ، لأنّهم لو لا القادة لما ضلّوا ، والمعنى : أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني ، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال ، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال. ومفعول (تَعْلَمُونَ) محذوف دلّ عليه قوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) ، والتّقدير : لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين ، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم.

وقرأ الجمهور : (لا تَعْلَمُونَ) ـ بتاء الخطاب ـ على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى ، وقرأه أبو بكر عن عاصم ـ بياء الغيبة ـ فيكون بمنزلة التّذييل خطابا لسامعي القرآن ، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يعلمون أنّ لكلّ ضعفا فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سلّط على الفريقين.

وعطفت جملة : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) على جملة : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) لأنّهم لم يدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة.

والفاء في قولهم : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فاء فصيحة ، مرتبة على قول الله تعالى (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب. و (ما) نافية. و (من) زائدة لتأكيد نفي الفضل ، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) لا وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عطفوا قولهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) على قولهم : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) بفاء العطف الدّالة على التّرتب. فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذابا ضعفا.

وصيغة الأمر في قولهم : (فَذُوقُوا) مستعملة في الإهانة والتشفّي.

والذّوق استعمل مجازا مرسلا في الإحساس بحاسّة اللّمس ، وقد تقدّم نظائره غير مرّة.

والباء سببيّة ، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب ، وعبّر

٩٥

بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم ، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغراب بما علّموهم وما سنوا لهم ، فشمل ذلك كلّه أنّه كسب.

يجوز أن يكون قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من كلام الله تعالى ، مخاطبا به كلا الفريقين ، فيكون عطفا على قوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ويكون قوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله : (فَذُوقُوا) للتكوين والإهانة.

وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يزجّ بهم في الضّلالة ، ويحسّن لهم هواهم ، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم ، ولا يبلغهم النّصيحة ، وفي الحديث : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته».

[٤٠ ، ٤١] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النّار ، الواقع في قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٣٦] فأخبر الله بأنّه حرمهم أسباب النّجاة ، فسدّ عليهم أبواب الخير والصّلاح ، وبأنّه حرّمهم من دخول الجنّة.

وأكّد الخبر ب (إِنَ) لتأييسهم من دخول الجنّة ، لدفع توهّم أن يكون المراد من الخلود المتقدّم ذكره الكناية عن طول مدّة البقاء في النّار فإنّه ورد في مواضع كثيرة مرادا به هذا المعنى.

ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائدا إلى إحدى الطّائفتين المتجاورتين في النّار ، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذانا بما تومئ إليه الصّلة من وجه بناء الخبر ، أي : إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها ، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفا.

والسّماء أطلقت في القرآن على معان ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير

٩٦

الأرضيّة ، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مراتب وفيها عوالم القدس الإلهيّة من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة ، ومصدر إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي ، ومصدر المقادير المقدّرة قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] ، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس.

وأبواب السّماء أسباب أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال ، ومسالك وصول الأمور الخيريّة الصّادرة من أهل الأرض ، وطرق قبولها ، وهو تمثيل لأسباب التّزكية ، قال تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلّا الله تعالى ، لأنّها محجوبة عنّا ، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وردوا المكان قد يقبلون ويرضى عنهم فتفتح لهم أبواب القصور والقباب ويدخلون مكرّمين ، وقد يردّون ويسخطون فتوصد في وجوههم الأبواب ، مثّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدم الرّضا عنهم في سائر الأحوال ، بحال من لا تفتح له أبواب المنازل ، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية ، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء ، وعدم قبول الأعمال والعبادات ، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها ، فقوله : لا نفتح (لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة ، وإن كانوا ينالون من نعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم ، فيغاثون بالمطر ، ويأتيهم الرّزق من الله ، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدّنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنّة. كما قال النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسّر لمّا خلق له» وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ـ ١٠].

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : (لا تُفَتَّحُ) ـ بضمّ التّاء الأولى وفتح الفاء والتّاء الثّانية مشدّدة ـ وهو مبالغة في فتح ، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم ، أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين ، وهو فتح قوي ، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم.

وقرأ أبو عمرو ـ بضمّ التّاء الأولى وسكون الفاء وفتح التّاء الثّانية مخفّفة ـ. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف لا يفتح ـ بمثنّاة تحتيّة في أوّله مع تخفيف المثنّاة الفوقية مفتوحة ـ على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعا لمذكّر.

٩٧

وقوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) اخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النّار.

وبعد أن حقّق ذلك بتأكيد الخبر كلّه بحرف التّوكيد ، زيد تأكيدا بطريق تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه ، المشتهر عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يشبه الذّم ، وذلك بقوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنّة امتدادا مستمرا ، إذ جعل غايته شيئا مستحيلا ، وهو أن يلج الجمل في سمّ الخياط ، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنّة غاية لكانت غايته ولوج الجمل ـ وهو البعير ـ في سمّ الخياط ، وهو أمر لا يكون أبدا.

والجمل : البعير المعروف للعرب ، ضرب به المثل لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب. والخياط هو المخيط ـ بكسر الميم ـ وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبرة ، والفعال ورد اسما مرادفا للمفعل في الدّلالة على آلة الشّيء كقولهم حزام ومحزم ، وإزار ومئزر ، ولحاف وملحف ، وقناع ومقنع.

والسمّ : الخرت الذي في الإبرة يدخل فيه خيط الخائط ، وهو ثقب ضيّق ، وهو بفتح السّين في الآية بلغة قريش وتضمّ السّين في لغة أهل العالية. وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكّة.

والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجمل وحقيقة الخياط ، ليعلم أنّ دخول الجمل في خرت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين.

والإشارة في قوله : (وَكَذلِكَ) إشارة إلى عدم تفتّح أبواب السّماء الذي تضمّنه قوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي ، ومثل ذلك الانتفاء ، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنّهم بإجرامهم ، الذي هو التّكذيب والإعراض ، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنّجاة ، فلم يتوخّوها ولا تطلبوها ، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم ، وسدّ عليهم أبواب الخيرات.

وجملة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) تذييل يؤذن بأنّ الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء ، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجزون بمثل ذلك الجزاء ، وهم المقصود الأوّل منهم ، لأنّ عقاب المجرمين قد شبّه عقاب المجرمين بعقاب هؤلاء ، فعلم أنّهم مجرمون ، وأنّهم في الرّعيل الأوّل من المجرمين ، حتّى شبّه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء

٩٨

وكانوا مثلا لذلك العموم.

والإجرام : فعل الجرم ـ بضمّ الجيم ـ وهو الذنب ، وأصل : أجرم صار ذا جرم ، كما يقال : ألبن وأتمر وأخصب.

والمهاد ـ بكسر الميم ـ ما يمهد أي يفرش ، و «غواش» جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان ، أي يغطّيه كاللّحاف ، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمهاد ، وما هو فوقهم منها بالغواشي ، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم ، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة ، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار. فقد انتفت راحتهم ، وهذا ذكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حرمانهم من الخير.

وقوله : (غَواشٍ) وصف لمقدّر دلّ عليه قوله : (مِنْ جَهَنَّمَ) ، أي ومن فوقهم نيران كالغواشي. وذيله بقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ليدلّ على أن سبب ذلك الجزاء بالعقاب : هو الظلم. وهو الشّرك. ولمّا كان جزاء الظّالمين قد شبّه بجزاء الذين كذّبوا بالآيات واستكبروا عنها ، علم أنّ هؤلاء المكذّبين من جملة الظّالمين. وهم المقصود الأوّل من هذا التّشبيه ، بحيث صاروا مثلا لعموم الظالمين ، وبهذين العمومين كان الجملتان تذييلين.

وليس في هذه الجملة الثّانية وضع الظّاهر موضع المضمر : لأنّ الوصفين ، وإن كانا صادقين معا على المكذّبين المشبّه عقاب أصحاب الوصفين بعقابهم. فوصف المجرمين أعمّ مفهوما من وصف الظّالمين ، لأنّ الإجرام يشمل التّعطيل والمجوسيّة بخلاف الإشراك. وحقيقة وضع المظهر موقع المضمر إنّما تتقوّم حيث لا يكون للاسم الظّاهر المذكور معنى زائد على معنى الضّمير.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢))

أعقب الإنذار والوعيد للمكذّبين ، بالبشارة والوعد للمؤمنين المصدّقين على عادة القرآن في تعقيب أحد الغرضين بالآخر.

وعطف على : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ٤٠] أي : وإنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات إلخ ، لأنّ بين مضمون الجملتين مناسبة متوسّطة بين كمال الاتّصال وكمال

٩٩

الانقطاع ، وهو التّضاد بين وصف المسند إليهما في الجملتين ، وهو التّكذيب بالآيات والإيمان بها ، وبين حكم المسندين وهو العذاب والنّعيم ، وهذا من قبيل الجامع الوهمي المذكور في أحكام الفصل والوصل من علم المعاني.

ولم يذكر متعلّق ل (آمَنُوا) لأنّ الإيمان صار كاللّقب للإيمان الخاص الذي جاء به دين الإسلام وهو الإيمان بالله وحده.

واسم الإشارة مبتدأ ثان ، و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبره والجملة خبر عن (الَّذِينَ آمَنُوا). وجملة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضة بين المسند إليه والمسند على طريقة الإدماج. وفائدة هذا الإدماج الارتفاق بالمؤمنين ، لأنّه لمّا بشّرهم بالجنّة على فعل الصّالحات اطمأن قلوبهم بأن لا يطلبوا من الأعمال الصّالحة بما يخرج عن الطّاقة ، حتّى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنّة ، بل إنّما يطلبون منها بما في وسعهم ، فإنّ ذلك يرضي ربّهم.

وعن معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه ، أنّه قال ، في هذه الآية ، إلّا يسرها لا عسرها أي قاله على وجه التّفسير لا أنّه قراءة.

والوسع تقدّم في قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في سورة البقرة [٢٨٦].

ودلّ قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) على قصر ملازمة الجنّة عليهم ، دون غيرهم ، ففيه تأييس آخر للمشركين بحيث قويت نصيّة حرمانهم من الجنّة ونعيمها ، وجملة : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) حال من اسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ).

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

انتساق النّظم يقتضي أن تكون جملة : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) حالا من الضّمير في قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٤٢] ، وتكون جملة : (وَنَزَعْنا) معترضة بين جملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [الأعراف : ٤٢] ، وجملة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلخ ، اعتراضا بيّن به حال نفوسهم في المعاملة في الجنّة ، ليقابل الاعتراض الذي أدمج في

١٠٠