تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الذي سيق الكلام لأجله ، ولكن لما صدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله ، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبيء الأمّي ، جمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبيء الأمي في طلب واحد ، ليكون هذا الطلب متوجها للفرق كلهم ، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي ، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدما على طلب الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله ، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) [النساء : ١٥٠] ، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) [النساء : ١٧١] فإنهم آمنوا بالله ورسله ، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث ، وهو المقصود من سياق الكلام.

والإيمان بالله الإيمان بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات ، والإيمان بالرسول الإيمان بأخص صفاته وهو الرسالة ، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم.

وفي قوله : (وَرَسُولِهِ) النبي (الْأُمِّيِ) التفات من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته ، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول ، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب ، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله ، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائر الأديان الإلهية الحق ، وهذا نظير قوله تعالى ، في تفضيل المسلمين : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩] وتقدم معنى الأمي قريبا.

وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] أي قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠]. فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل ، وأوثر هنا التعبير بكلماته ، دون كتبه ، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله ، أي أثر كلمته ، وهي أمر التكوين ، إذ كان تكوّن عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله (كُنْ) كما قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى ، أي

٣٢١

بكونه رسولا من الله ، وذلك قطع لمعذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله ، وليس ابن الله ، وفي ذلك بيان للإيمان الحق ، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه ، ورد على النصارى فيما غلوا فيه.

والقول في معنى الاتّباع تقدم ، وكذلك القول في نحو (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩))

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) عطف على قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) [الأعراف : ١٤٨] الآية ، فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) [الأعراف : ١٤٨] قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلّهم ، وللتنبيه على دفع هذا التوهم ، قدّم (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) على متعلقه.

وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن بقي متمسكا بدين موسى ، بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه ، فليس من قوم موسى ، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود ، لأن الإضافة في (قَوْمِ مُوسى) تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (أُمَّةٌ) : جماعة كثيرة متفقة في عمل يجمعها ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (أُمَّةً واحِدَةً) في سورة البقرة [٢١٣] ، والمراد أن منهم في كل زمان قبل الإسلام.

و (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي ، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكما لا جور فيه.

وتقديم المجرور في قوله : (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) للاهتمام به ولرعاية الفاصلة ، إذ لا مقتضي لإرادة القصر ، بقرينة قوله : (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) حيث لم يقدم المجرور ، والمعنى : إنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعلم ، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل ، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحد القاضيين اللذين في النار ، ولو صادف الحق ، لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق ؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها.

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ

٣٢٢

مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠))

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً).

عطف على قوله (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) [الأعراف : ١٥٩] إلخ ، فإن ذلك التقطيع وقع في الأمة الذين يهدون بالحق.

والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق ، والمراد به التقسيم ، وليس المراد بهذا الخبر الذم ، ولا بالتقطيع العقاب ، لأن ذلك التقطيع منة من الله ، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية ، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع ، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم ، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان ، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط إسحاق ، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائر لمّا كانوا في مصر ، ولمّا اجتازوا البحر ، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر ، وقبل انفجار العيون ، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) وذكره هنا الاستسقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة ، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسقاء ، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم ، وظاهر التوراة أنهم لما مروا بحوريب ، وجاء شعيب للقاء موسى : إن شعيبا أشار على موسى أن يقيم لهم رؤساء ألوف ، ورؤساء مئات ، ورؤساء خماسين ، ورؤساء عشرات ، حسب الإصحاح ١٨ من الخروج ، وذلك يقتضي أن الأمة كانت منتسبة قبائل من قبل ، ليسهل وضع الرؤساء على الأعداد ، ووقع في السنة الثانية من خروجهم أن الله أمر موسى أن يحصي جميع بني إسرائيل ، وأن موسى وهارون جمعا جميع بني إسرائيل فانتسبوا إلى عشائرهم وبيوت آبائهم ، كما في الإصحاح الأول من سفر العدد ، وتقدم ذكر الأسباط عند قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) في سورة البقرة [١٣٦].

وجيء باسم العدد بصيغه التأنيث في قوله : (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) لأن السبط أطلق هنا على الأمة فحذف تمييز العدد لدلالة قوله : (أُمَماً) عليه.

و (أَسْباطاً) حال من الضمير المنصوب في (وَقَطَّعْناهُمُ) ولا يجوز كونه تمييزا لأن تمييز اثنتي عشرة ونحوه لا يكون إلّا مفردا.

وقوله : (أُمَماً) بدل من أسباط أو من اثنتي عشرة ، وعدل عن جعل أحد الحالين

٣٢٣

تمييزا في الكلام إيجازا وتنبيها على قصد المنة بكونهم أمما من آباء إخوة. وأن كل سبط من أولئك قد صار أمة ، قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦] مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم ، لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ).

هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطا ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة.

وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) في سورة البقرة [٦٠].

و (فَانْبَجَسَتْ) مطاوع بجس إذا شق ، والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيها لقصر المهلة بالتعقيب ونظائره كثيرة في القرآن ، ومنه ما وقع في خبر الشّرب إلى أم زرع قولها : «فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمّانتين فطلّقني ونكحها» إذ التقدير فأعجبته فطلقني ونكحها.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

ضمائر الغيبة راجعة إلى قوم موسى ، وهذه الآية نظير ما في سورة البقرة سوى اختلاف بضميري الغيبة هنا وضميري الخطاب هناك لأن ما هنالك قصد به التوبيخ.

وقد أسند فعل (قيل) في قوله : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] إلى المجهول وأسند في سورة البقرة [٥٨] إلى ضمير الجلالة وإذ قلنا لظهور أن هذا القول لا يصدر إلّا من الله تعالى.

[١٦١ ، ١٦٢] (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

٣٢٤

هذه الآية أيضا نظير ما في سورة البقرة إلّا أنه عبر في هذه الآية بقوله : (اسْكُنُوا) وفي سورة البقرة [٥٨] بقوله : (ادْخُلُوا) لأن القولين قيلا لهم ، أي قيل لهم : ادخلوا واسكنوها ففرّق ذلك على القصتين على عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجدادا لنشاط السامع.

وكذلك اختلاف التعبير في قوله هنا : (وَكُلُوا) وقوله في سورة البقرة [٥٨] (فَكُلُوا) فإنه قد قيل لهم بما يرادف فاء التعقيب ، كما جاء في سورة البقرة ، لأن التعقيب معنى زائد على مطلق الجمع الذي تفيده واو العطف ، واقتصر هنا على حكاية أنه قيل لهم ، وكانت آية البقرة أولى بحكاية ما دلت عليه فاء التعقيب ، لأن آية البقرة سيقت مساق التوبيخ فناسبها ما هو أدل على المنة ، وهو تعجيل الانتفاع بخيرات القرية ، وآيات الأعراف سيقت لمجرد العبرة بقصة بني إسرائيل.

ولأجل هذا الاختلاف ميزت آية البقرة بإعادة الموصول وصلته في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) [البقرة : ٥٩] وعوض عنه هنا بضمير الذين ظلموا ، لأن القصد في آية البقرة بيان سبب إنزال العذاب عليهم مرتين أشير إلى أولاهما بما يومئ إليه الموصول من علة الحكم ، وإلى الثانية بحرف السببية ، واقتصر هنا على الثاني.

وقد وقع في سورة البقرة [٥٩] لفظ (فَأَنْزَلْنا) ووقع هنا لفظ (فَأَرْسَلْنا) ولما قيد كلاهما بقوله : (مِنَ السَّماءِ) كان مفادهما واحدا ، فالاختلاف لمجرد التفنن بين القصتين.

وعبر هنا (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وفي البقرة [٥٩] (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) لأنه لما اقتضى الحال في القصتين تأكيد وصفهم بالظلم وأدي ذلك في البقرة [٥٩] بقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، استثقلت إعادة لفظ الظلم هنالك ثالثة ، فعدل عنه إلى ما يفيد مفاده ، وهو الفسق ، وهو أيضا أعم ، فهو أنسب بتذييل التوبيخ ، وجيء هنا بلفظ (يَظْلِمُونَ) لئلا يفوت تسجيل الظلم عليهم مرة ثالثة ، فكان تذييل آية البقرة أنسب بالتغليط في ذمهم ، لأن مقام التوبيخ يقتضيه.

ووقع في هذه الآية (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ولم يقع لفظ (مِنْهُمْ) في سورة البقرة ، ووجه زيادتها هنا التصريح بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم ، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم ، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها.

٣٢٥

وقدم في سورة البقرة [٥٨] قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨] وعكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن ، فإن كلا القولين واقع قدّم أو أخّر.

وذكر في البقرة [٥٨] : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) ولم يذكر وصف رغدا هنا ، وإنما حكي في سورة البقرة ، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ.

وجملة (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) مستأنفة استئنافا بيانا لأن قوله : تغفر لكم في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائل يقول : وهل الغفران هو قصارى جزائهم؟ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان ، أي على الامتثال.

وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة [٥٨] ذكرت جملة (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) معطوفة بالواو على تقدير : قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين ، فالواو هنالك لحكاية الأقوال ، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب تغفر ـ بمثناة فوقية مبنيا للمجهول ، و (خَطِيئاتِكُمْ) ـ بصيغة جمع السلامة للمؤنث ـ وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : (نَغْفِرْ) ـ بالنون مبنيا للفاعل ـ و (خَطِيئاتِكُمْ) ـ بصيغة جمع المؤنث السالم أيضا ـ وقرأه أبو عمرو (نَغْفِرْ) ـ بالنون وخطاياكم ـ بصيغة جمع التكسير ، مثل آية البقرة ، وقرأ ابن عامر : تغفر ـ بالفوقية ـ وخطيئتكم ـ بالإفراد.

والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه : تفنن في حكاية القصة.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣))

غيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هنا : فابتدئ ذكر هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها ، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأنا غير شأن القصص الماضية ، ولا أحسب ذلك إلّا من أجل أن هذه القصة ليست مما كتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم ، ولكنها مما كان مرويا عن أحبارهم ، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها ، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها ،

٣٢٦

وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عقب الموعظة أثرا قد تعيّر الأمة به ، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعظة ، فالأمة في خويصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلّا بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولت الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزا عليها ومعرّة تعير بها ، وكذلك كان شأن اليهود لما أضاعوا ملكهم ووطنهم وجاوروا ـ أمما أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مساوي تاريخهم ، حتى أرسل الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرّة لأخلافهم ، وذلك تحدّ لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد.

فالسؤال هنا في معنى التقريع لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤال الاستفادة لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى ، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وزان : أعدوتم في السبت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائل يعلم حصول المسئول عنه ، ويعلم المسئول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره.

وجملة : (وَسْئَلْهُمْ) عطف على جملة : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ) [الأعراف : ١٦٨] ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل.

وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) الآية من سورة البقرة [٦٥].

وهذه القرية قيل : (أيلة) وهي المسماة اليوم (العقبة) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه‌السلام ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرب منه ، لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت (أيلة) متصلة بخليج من البحر

٣٢٧

الأحمر وهو القلزم.

وقيل هي (طبرية) وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية ، وقد قال المفسرون : إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود.

وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله : (إِذْ يَعْدُونَ) أي أهلها.

والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) إلخ فقوله : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم. فتقدير الكلام : وأسألهم إذ يعدو أهل القرية في السبت و (إِذْ) فيه اسم زمان للماضي ، وليست ظرفا.

والعدوان الظلم ومخالفة الحق ، وهو مشتق من العدو وبسكون الدال وهو التجاوز.

والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) في سورة النساء [١٥٤].

واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم.

وتعدية فعل (يَعْدُونَ) إلى (فِي السَّبْتِ) مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت ، نظرا إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت ، ونظرا إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان منوطا بحق خاص بيوم السبت ، وذلك هو حق عدم العمل فيه ، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه ، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة.

وهدف (فِي) للظرفية ، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت.

وقوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ل (يَعْدُونَ) أي يعدون حين تأتيهم حيتانهم.

والحيتان جمع حوت ، وهو السمكة ، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فلك ، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد ، والجمع حيتان.

وقوله : (شُرَّعاً) هو جمع شارع ، صفة للحوت الذي هو المفرد ، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء ، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد ، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله ،

٣٢٨

وقال الضحاك : (شُرَّعاً) متتابعة مصطفة ، أي فهو كناية عن كثرة ما يرد منها يوم السبت.

وأحسب أن ذلك وصف من شرعت الإبل نحو الماء أي دخلت لتشرب ، وهي إذا رعتها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه ، فمثلت هيئة الحيتان ، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين ، وهذا أحسن تفسيرا.

والمعنى : أنهم يعدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه ، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمنا فيه.

وقوله : (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) يجوز أن يكون لفظ سبت مصدر سبت إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) فإنه مضارع سبت ، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى : إنهم إذا حفظوا حرمة السبت ، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت ، جاءت الحيتان يومئذ شرعا آمنة ، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدّوا له آلاته ، وعزموا على الصيد لم تأتهم.

ويجوز أن يكون لفظ (سَبْتِهِمْ) بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع ، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود ، تعريضا بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد ، كقول أحد الطائيين :

علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

بأبيض ماضي الشفرتين يمان

وقول ربيعة بن ثابت الأسدي :

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم (١)

وعلى الوجهين يجوز في قوله : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أن يكون المعنى والأيام التي لا يحرم العمل فيها ، أي أيام الأسبوع ، لا تأتي فيها الحيتان ، وأن يكون المعنى وأيام السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها ينقطع فيها إتيان الحيتان ، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية ، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين.

__________________

(١) يزيد سليم هو ابن أسيد السّلمي والي مصر لأبي جعفر المنصور ويزيد بن حاتم الأزدي من آل المهلب بن أبي صفرة أمير مصر وإفريقية لأبي جعفر المنصور.

٣٢٩

فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم ، وقرينته قوله تعالى : (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع.

وجملة (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال من يقول : ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يرعوون عن انتهاك حرمة السبت.

والإشارة إلى البلوى الدال عليها (نَبْلُوهُمْ) أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم ، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وأصل البلوى الاختبار ، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازا عقليا أي ليبلو الناس تمسكهم بشرائع دينهم.

والباء للسببية و (ما) مصدرية ، أي بفسقهم ، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه ، فإذا عرض لهم داعيه خفّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى.

[١٦٤ ـ ١٦٦] (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

جملة : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) عطف على قوله : (إِذْ يَعْدُونَ) [الأعراف : ١٦٣] والتقدير : واسأل بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم ، فإذ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفا ، ولها حكم (إِذْ) [الأعراف : ١٦٣] أختها ، المعطوفة هي عليها ، فالتقدير : واسألهم عن وقت قالت أمة ، أي عن زمن قول أمة منهم ، والضمير المجرور بمن عائد إلى ما عاد إليه ضمير (وَسْئَلْهُمْ) [الأعراف : ١٦٣] وليس عائدا إلى القرية ، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم ، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية ، بل منظورا إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم ، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم ، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ) ولم يقل : وقالت أمة.

٣٣٠

والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول ، قال المفسرون : إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر ، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من اتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب ، وأمة كانت سادرة في غلوائها ، لا ترعوي عن ضلالتها ، ولا ترقب الله في أعمالها.

وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازا في الكلام ، اعتمادا على القرينة لأن قولهم : (اللهُ مُهْلِكُهُمْ) يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين ، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلّا بعد أن مارسوا أمرهم ، وسبروا غورهم ، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات ، ولا يكون ذلك إلّا بعد التقدم لهم بالموعظة ، وبقرينة قوله بعد ذلك (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) إذ جعل الناس فريقين ، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي ، لأنهم ليسوا بظالمين ، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء.

وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] وعند قوله آنفا (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) في هذه السورة [١٤٥].

واللام في (لِمَ تَعِظُونَ) للتعليم ، فالمستفهم عنه من نوع العلل ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظ لتحصيلها ، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول اتعاظهم ، والمخاطب ب (تَعِظُونَ) أمة أخرى.

ووصف القوم بأن الله مهلكهم : مبني على أنهم تحققت فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققت فيه ، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم ، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين.

واسما الفاعل في قوله : (مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام ، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب ، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول ، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما.

وفصلت جملة (قالُوا) لوقوعها في سياق المحاورة ، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون ب (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) إلخ.

والمعذرة ـ بفتح الميم وكسر الذال ـ مصدر ميمي لفعل (اعتذر) على غير قياس ،

٣٣١

ومعنى اعتذر أظهر العذر ـ بضم العين وسكون الذال ـ والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير ، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخذ بذنب ؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه ، أو متأول فيه ، ويقال : عذره إذا قبل عذره وتحقق براءته ، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ.

وارتفع (مَعْذِرَةً) على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين (لِمَ تَعِظُونَ) والتقدير موعظتنا معذرة منا إلى الله.

وبالرفع قرأه الجمهور ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة.

وقوله : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها.

فالمعنى : أن صلحاء القوم كانوا فريقين. فريق منهم أيس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم ، لتوغلهم في المعاصي ، وفريق لم ينقطع رجاؤهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار ، فأنكر الفريق الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة. واعتذر الفريق الثاني بقولهم : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن. والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعيا بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط ، ليكون لهم عذرا عند الله إن سألهم لما ذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة ، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه ، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف.

وضمير (نَسُوا) عائد إلى (قَوْماً) والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) في سورة الأنعام [٤٤].

و (الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) هم الفريقان المذكوران في قوله آنفا (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) ـ إلى قوله ـ (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم القوم المذكورون في قوله : (قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) إلخ.

والظلم هنا بمعنى العصيان ، وهو ظلم النفس ، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره.

وبيس قرأه نافع وأبو جعفر ـ بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين

٣٣٢

السين ـ على أن أصله بئس ـ بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم : ذيب في ذئب.

وقرأه ابن عامر بئس بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بئيس.

وقرأه الجمهور (بَئِيسٍ) ـ بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين ـ على أنه مثال مبالغة من فعل بؤس ـ بفتح الموحدة وضم الهمزة ـ إذا أصابه البؤس ، وهو الشدة من الضر. أو على أنه مصدر مثل عذير ونكير.

وقرأه أبو بكر عن عاصم (بَئِيسٍ) بوزن صيقل ، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة ، والمعنى ، على جميع القراءات : أنه عذاب شديد الضر.

وقوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) تقدم القول في نظيره قريبا.

وقد أجمل هذا العذاب هنا ، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده ، وهو عذاب أصيب به الذين نسوا ما ذكروا به ، فيكون المسخ عذابا ثانيا أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم ، وهو عذاب أشد ، وقع بعد العذاب البيس ، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة ، فلما لم ينتهوا وعتوا ، سلّط عليهم عذاب المسخ.

وقيل : العذاب البئيس هو المسخ ، فيكون قوله : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) بيانا» جمال العذاب البئيس ، ويكون قوله : (فَلَمَّا عَتَوْا) بمنزلة التأكيد لقوله : (فَلَمَّا نَسُوا) صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو ، ويكون المعنى : أن النسيان ، وهو الإعراض ، وقع مقارنا للعتو.

و (ما ذُكِّرُوا بِهِ) و (ما نُهُوا عَنْهُ) ما صدقهما شيء واحد ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فلما نسوا وعتوا عما نهوا عنه وذكروا به قلنا لهم إلخ ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب ، وتكثير أشكاله ، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب ، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد :

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشمولة غلثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع أسنامها

ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة ، وأبعد عن التكرير اللفظي ، فما في بيت لبيد كلام بليغ ، وما في الآية كلام معجز.

٣٣٣

و (العتو) تقدم عند قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) في هذه السورة [٧٧].

وقوله : (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) في سورة البقرة [٦٥] ، ولأجل التشابه بين الآيتين ، وذكر العدو في السبت فيهما ، وذكره هنا في الإخبار عن القرية ، جزم المفسرون بأن الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية ، وبأن الأمة القائلة (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة ، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام ، كما أنه لا يمنع تشابه فريقين في العذاب ، فقد بينت أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧))

عطف على جملة : (وَسْئَلْهُمْ) [الأعراف : ١٦٣] بتقدير اذكر ، وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى اليهود المتقدم ذكرهم بالضمير الراجع إليهم بدلالة المقام في قوله تعالى: (وَسْئَلْهُمْ) [الأعراف : ١٦٣] كما تقدم بيان ذلك كله مستوفى عند قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) [الأعراف : ١٦٣] فالمتحدث عنهم بهذه الآية لا علاقة لهم بأهل القرية الذين عدوا في السبت.

و (تَأَذَّنَ) على اختلاف إطلاقاته ، ومما فيه هنا مشتق من الإذن وهو العلم ، يقال: أذن أي علم ، وأصله العلم بالخبر ، لأن مادة هذا الفعل وتصاريفه جائية من الأذن ، اسم الجارحة التي هي آلة السمع ، فهذه التصاريف مشتقة من الجامد نحو استحجر الطين أي صار حجرا ، واستنسر البغاث أي صار نسرا ، فتأذن : بزنة تفعل الدالة على مطاوعة فعل ، والمطاوعة مستعملة في معنى قوة حصول الفعل ، فقيل : هو هنا بمعنى أفعل كما يقال: توعد بمعنى أوعد فمعنى (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أعلم وأخبر ليبعثن ، فيكون فعل أعلم معلقا عن العمل بلام القسم ، وإلى هذا مال الطبري ، قال ابن عطية : وهذا قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم ، ويتبين ذلك من التعدي وغيره ، وعن مجاهد : (تَأَذَّنَ) تألّى قال في «الكشاف» معناه عزم ربّك ، لأن العازم على الأمر يحدث نفسه به» أراد أن إشرابه معنى القسم ناشئ عن مجاز فأطلق التأذن على العزم ، لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ، فهو يؤذنها بفعله فتعزم نفسه ، ثم أجرى مجرى فعل القسم مثل علم

٣٣٤

الله ، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم. قال ابن عطية : «وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب ، وأما اللفظة فبعيدة عن هذا» وعن ابن عباس (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) قال ربك يعني أن الله أعلن ذلك على لسان رسله.

وحاصل المعنى : أن الله أعلمهم بذلك وتوعدهم به ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) في سورة إبراهيم [٧].

ومعنى البعث الإرسال وهو هنا مجاز في التقييض والإلهام ، وهو يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة وليس ذلك مستمرا يوما فيوما ، ولذلك اختبر فعل (لَيَبْعَثَنَ) دون نحو ليلزمنهم ، وضمن معنى التسليط فعدي بعلى كقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥] وقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) [الأعراف : ١٣٣].

و (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية لما في القسم من معنى الاستقبال ، وهي غاية مقصود منها جعل أزمنة المستقبل كله ظرفا للبعث ، لإخراج ما بعد الغاية. وهذا الاستغراق لأزمنة البعث أي أن الله يسلط عليهم ذلك في خلال المستقبل كله ، والبعث مطلق لا عام.

و (يَسُومُهُمْ) يفرض عليهم ، وحقيقة السوم أنه تقدير العوض الذي يستبدل به الشيء ، واستعمل مجازا في المعاملة اللازمة بتشبيهها بالسوم المقدر للشيء ، وقد تقدم في سورة البقرة [٤٩] (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) وتقدم في هذه السورة نظيره ، فالمعنى يجعل سوء العذاب كالقيمة لهم فهو حظهم.

وسوء العذاب أشده ، لأن العذاب كله سوء فسوؤه الأشد فيه.

والآية تشير إلى وعيد الله إياهم بأن يسلط عليهم عدوهم كلما نقضوا ميثاق الله تعالى ، وقد تكرر هذا الوعيد من عهد موسى عليه‌السلام إلى هلم جرّا ، كما في سفر التثنية في الثامن والعشرين ففيه «إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس ... ويبددك الله في جميع الشعوب وفي تلك الأمم لا تطمئن وترتعب ليلا ونهارا ولا تأمن على حياتك» وفي سفر يوشع الإصحاح ٢٣ «لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى ولكن إذا رجعتم ولصفتم ببقية هؤلاء الشعوب اعلموا يقينا أن الله يجعلهم لكم سوطا على جنوبكم وشوكا في أعينكم حتى تبيدوا حينما تتعدون عهد الرب إلهكم».

وأعظم هذه الوصايا هي العهد باتباع الرسول الذي يرسل إليهم ، كما تقدم ، ولذلك كان قوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) معناه ما داموا على

٣٣٥

إعراضهم وعنادهم وكونهم أتباع ملة اليهودية مع عدم الوفاء بها ، فإذا أسلموا وآمنوا بالرسول النبي الأمي فقد خرجوا عن موجب ذلك التأذن ودخلوا فيما وعد الله به المسلمين.

ولذلك ذيل هذا بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي لهم ، والسرعة تقتضي التحقق ، أي أن عقابه واقع وغير متأخر. لأن التأخر تقليل في التحقيق إذ التأخر استمرار العدم مدة ما.

وأول من سلط عليهم «بخت نصّر» ملك (بابل). ثم توالت عليهم المصائب فكان أعظمها خراب (أرشليم) في زمن (أدريانوس) انبراطور (رومة) ولم تزل المصائب تنتابهم وينفس عليهم في فترات معروفة في التاريخ.

وأما قوله : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو وعد بالإنجاء من ذلك إذا تابوا واتبعوا الإسلام ، أي لغفور لمن تاب ورجع إلى الحق ، وفيه إيماء إلى أن الله قد ينفس عليهم في فترات من الزمن لأن رحمة الله سبقت غضبه ، وقد ألمّ بمعنى هذه الآية قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٤ ـ ٨].

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨))

عطف قصة على قصة ، وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ، والتقطيع التفريق ، فيكون محمودا مثل (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) [الأعراف : ١٦٠] ، ويكون مذموما ، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع.

فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض.

٣٣٦

و (أُمَماً) جمع أمّة بمعنى الجماعة ، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعا مذموما أي تفريقا بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عند ما غزا مملكة إسرائيل (شلمناصر) ملك بابل. ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة ٧٢١ قبل الميلاد. ثم أسر (بخت نصّر) مملكة يهوذا وملكها سنة ٥٧٨ قبل الميلاد ، ونقل اليهود من (أرشليم) ولم يبق إلّا الفقراء والعجّز. ثم عادوا إلى أرشليم سنة ٥٣٠ ، وبنوا البيت المقدس إلى أن أجلاهم (طيطوس) الروماني ، وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ.

ووصف الأمم بأنهم (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينهما ، كما دل عليه قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ).

وشمل قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) كل من لم يكن صالحا على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم.

و (الصَّالِحُونَ) هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته ، وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلّا قليلا منهم : الذين آمنوا به ، وزادوا بعد بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم إيمانهم به ، بعدا عن الصلاح إلّا نفرا قليلا منهم مثل عبد لله بن سلام ، ومخيريق.

وانتصب (دُونَ ذلِكَ) على الظرفية وصفا لمحذوف دل عليه قوله : (مِنْهُمُ) أي ومنهم فريق دون ذلك ، ويجوز أن تكون (من) بمعنى بعض اسما عند من يجوّز ذلك ، فهي مبتدأ ، و (دُونَ) خبر عنه.

ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل ، وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) مثل (دانيال) وغيره ، ومنهم دون ذلك ، لأن التقسيم بمنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين.

وقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر ، أو في الجزع والكفر ، بسبب الحسنات والسيئات ، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تحسن والتي تسوء ، كما تقدم في قوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وعلى هذا يكون الحسنات

٣٣٧

والسيئات تفصيلا للبلوى ، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى ، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ، توزيعا لحال الضمير المنصوب في قوله : (بَلَوْناهُمْ).

وجملة : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ، على حسب الوجهين المتقدمين. والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ، وهو معنى التوبة.

هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى (قَطَّعْناهُمْ).

ويجوز عندي أن يكون قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) ، عودا إلى أخبار المنن عليهم ، فيكون كالبناء على قوله : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] ، فيكون تقطيعا محمودا ، والمراد بالأرض : أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] للدلالة على أنهم عمروها كلها ، ويكون قوله : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) إنصافا لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ، وقوله : (وَبَلَوْناهُمْ) إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم.

[١٦٩ ، ١٧٠] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

جملة (فَخَلَفَ) تفريع على قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ) [الأعراف : ١٦٨] إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم ، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك (كورش) ملك الفرس في حدود سنة ٥٣٠ قبل الميلاد ، فإنه لما فتح بلاد أشور أذن لليهود الذين أسرهم (بختنصر) أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا ، وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد (نحميا) و (عزرا) كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا ، وكان من جملة ما أحيوه أنهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرءوه على الشعب في (أورشليم) فيكون المراد بالخلف ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الذين

٣٣٨

رجعوا من أسر الآشوريين. والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم (عزرا) المعروف عند أهل الإسلام باسم عزير ، ويكون أخذهم عرض الأدنى أخذ بعض الخلف لا جميعه ، لأن صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون.

وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمما تكثيرهم والامتنان عليهم ، كان قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) تفريعا على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم ، فيكون المراد بالخلف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها ، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام ، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وإلى هذا المعنى في (الخلف) نحا المفسرون.

والخلف ـ بسكون اللام ـ من يأتي بعد غيره سابقه في مكان أو عمل أو نسل ، يبينه المقام أو القرينة ، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيئ ، قاله النضر بن شميل ، خلافا لكثير من أهل اللغة إذ قالوا : الأكثر استعمال الخلف ـ بسكون اللام ـ فيمن يخلف في الشر ، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير ، وقال البصريون : يجوز التحريك والإسكان في الرديء ، وأما الحسن فبالتحريك فقط.

وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خالف ، والخلف مأخوذ من الخلف ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم ، ولا حد لآخر الخلف ، بل يكون تحديده بالقرائن ، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن ، بل قد يكون الخلف ممتدا ، قال تعالى بعد ذكر الأنبياء (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) [مريم : ٥٩] فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم ، فإنه ذكر من أسلافهم إدريس وهو جد نوح.

و (وَرِثُوا) مجاز في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) في هذه السورة [٤٣] وقوله فيها : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) [الأعراف : ١٠٠] فهو بمعنى الخلفية ، والمعنى : فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب ، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف ، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف.

وجملة : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) حال من ضمير (وَرِثُوا) ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل ، وذلك أشد مذمة ، كما قال تعالى :

٣٣٩

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣].

ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي : يلابسونه ، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي.

والعرض ـ بفتح العين وفتح الراء ـ الأمر الذي يزول ولا يدوم. ويراد به المال ، ويراد به أيضا ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع.

والأدنى الأقرب من المكان ، والمراد به هنا الدنيا ، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلّا قد قضيت قضاءها

وقد قيل : أخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب ، وبذلك فسر سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والطبري ، فيشمل كل ذنب ، ويكون الأخذ مستعملا في المجاز وهو الملابسة ، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك ، فهو من عموم المجاز ، وقيل عرض الدنيا هو الرّشا وبه فسّر السّدي ، ومعظم المفسرين ، فيكون الأخذ مستعملا في حقيقته وهو التناول ، وقد يترجح هذا التفسير بقوله (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ) كما سيأتي.

والقول في : (وَيَقُولُونَ) هو الكلام اللساني ، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات ، لأن (ما) بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي ، ويجوز أن يكون الكلام النفساني ، لأنه فرع عنه ، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي ، فهو بمنزلة قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة : ٨] وذلك من غرورهم في الدين.

وبناء فعل «يغفر» على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف ، وهو الله ، إذ لا يصدر هذا الفعل إلّا عنه ، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم ، أو الذي تلبّسوا به حين القول ، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق ، والتقدير : سيغفر لنا ذلك ، أو ذنوبنا ، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) كما تقدم في سورة البقرة [٨٠] ، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة ، وهو التوبة كما يعلم من السياق ، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها.

وقوله (لَنا) لا يصلح للنيابة عن الفاعل ، لأنه ليس في معنى المفعول ، إذ فعل

٣٤٠