تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الخروج ، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلّا الكلمات العشر ، التي بالفقرات السبع عشرة منه ، وقوله هنا (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر.

والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع ، مغفول عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) في سورة البقرة [٢٧٥] ، وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] ، وسيجيء قوله : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) في آخر سورة النحل [١٢٥].

والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها.

وانتصب (مَوْعِظَةً) على الحال من كل شيء ، أو على البدل من (من) إذا كانت اسما ـ إذا كان ابتداء التفصيل قد عقب كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك.

ولك أن تجعل (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) حالين من الضمير المرفوع في قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ) أي واعظين ومفصلين ، فموعظة حال مقارنة وتفصيلا حال مقدّرة ، وأما جعلهما بدلين من قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فلا يستقيم بالنسبة لقوله : (وَتَفْصِيلاً).

وقوله : (فَخُذْها) يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى ، ولما لم يقع فيما وليته ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة. تعين أن يكون قوله : (فَخُذْها) بدلا من قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) [الأعراف : ١٤٤] بدل اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق ، وقد اقتضاه العود ، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماما لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته ، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين ، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض ، ولو لا إعادة (فَخُذْها) لكان ما بين قوله : (مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : ١٤٤] وقوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا) اعتراضا على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصل ، وإعادة الأمر بالأخذ ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة ، فأخر مقيّد الأخذ ، وهو كونه بقوة ، عن التعلق بالأمر الأول ،

٢٨١

وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول ، فليس قوله : (فَخُذْها) بتأكيد ، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن.

ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ ، فيكون توكيدا لفظيا ، ويكون تأخير القيد تحسينا للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة ، ويكون الاعتراض قد وقع بين التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به.

والضمير المؤنث في قوله : (فَخُذْها) عائد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ). والمقول لموسى هو مرجع الضمير ، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله : (ما آتَيْتُكَ) [الأعراف : ١٤٤] وفي هذا ترجيح كون ما صدق (ما آتَيْتُكَ) هو الألواح ، ومن جعلوا ما صدق (ما آتَيْتُكَ) الرسالة والكلام جعلوا الفاء عاطفة لقول محذوف على جملة (وَكَتَبْنا) والتقدير عندهم : وكتبنا فقلنا خذها بقوة ، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم.

والأخذ : تناول الشيء ، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ.

والباء في قوله : (بِقُوَّةٍ) للمصاحبة.

والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قوة اليدين على الصنع الشديد ، والرجلين على المشي الطويل ، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة. وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس ، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم : قوة العقل.

وإطلاق اسم القوى على العقل وفيما أنشد ثعلب :

وصاحبين حازما قواهما

نبّهت والرقاد قد علاهما

إلى أمونين فعدّياهما

وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة ، والواهمة ، والمفكرة ، والمخيّلة ، والحس المشترك.

٢٨٢

فيقال : فرس قوي ، وجمل قوي على الحقيقة ، ويقال : عود قوي ، إذا كان عسير الانكسار ، وأسّس قوي ، إذا كان لا ينخسف بما يبنى عليه من جدار ثقيل ، إطلاقا قريبا من الحقيقة ، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشدّ منها في بعض آخر ، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه ، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد ، والأعمال عليه أيسر ، شاع إطلاقها على الوسائل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد ، والمال ، والجاه ، وهو إطلاق كنائي قال تعالى : (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في سورة النمل [٣٣].

ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) في سورة الأنفال [٥٢].

والقوة هنا في قوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح ، بمنتهى الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده. ومنه قوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) في سورة مريم [١٢].

وهذا الأخذ هو حظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها ، فالله المشرّع ، والرسول المنفذ ، وأصحابه وولاة الأمور هم أعوان على التنفيذ ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه ، وهو وهم فيما سوى ذلك كسائر الأمة.

فقوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها ، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق ، يقال : أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه ، كقوله : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) [الأعراف : ١٥٠] وقوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه : ٩٤]. ولم يعد فعل الأخذ بالباء في قوله : (فَخُذْها) لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل ، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة.

وجزم (يَأْخُذُوا) جوابا لقوله : (وَأْمُرْ) تحقيقا لحصول امتثالهم عند ما يأمرهم.

و (بِأَحْسَنِها) وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحسن ، فإضافتها إلى

٢٨٣

ضمير الألواح على معنى اللام ، أي : بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها ، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن ، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له ، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها ، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال ، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضل من بعض ، كالمندوب بالنسبة إلى المباح ، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة ، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكورا في الشريعة ، فكان ذلك من جملة الأخذ بها ، فقرائن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة ، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة الزمر [٥٥]. والمعنى : وامر قومك يأخذوا بما فيها لحسنها.

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ).

كلام موجّه إلى موسى عليه‌السلام فيجوز أن يكون منفصلا عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافا ابتدائيا : هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة ، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كتب له في الألواح. والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها.

والدار المكان الذي تسكنه العائلة ، كما في قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) في سورة القصص [٨١] والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٩١] وقد تقدم. وتطلق الدار على ما يكون عليه الناس أو المرء من حالة مستمرة ومنه قوله تعالى : (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤] ، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره ؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه. وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) في سورة الأنعام [١٣٥].

وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل ، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه.

والإراءة من رأى البصرية ؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط.

٢٨٤

وأوثر فعل (سَأُرِيكُمْ) دون نحو : سأدخلكم ، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) في سورة المائدة [٢٦]. وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول : أن الله قال لموسى : «وأنت لا تدخل إلى هناك» وفي الإصحاح (٣٤) «وصعد موسى إلى الجبل (نبو) فأراه الله جميع الأرض» وقال له : «هذه الأرض التي أقسمت لإبراهيم قائلا لنسلك أعطيها قد أريتك إياها بعينيك ولكنك لا تعبر».

ويجوز أن يكون سأريكم خطابا لقوم موسى ، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين ، والحلول في ديار قوم لا يكون إلّا الفتح والغلبة ، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين ، والمراد بالفاسقين المشركون ، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها ، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطابا للشعب «احفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين ، والكنعانيين ، والحثيين ، والفرزيين ، والحويين ، واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسجد لإله آخر».

ويؤيده ما روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة ، وهي الشام ، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها ، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم ، وفي الإصحاح ٣٤ من سفر الخروج «احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن» ، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه.

وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم ، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم ، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد.

والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين ؛ لأنه أدل

٢٨٥

على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه ، ولأنه أجمع وأوجز ، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائع في التعبير عن الشرك في القرآن ؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معا.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦))

يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه ، فتكون جملة (سَأَصْرِفُ) إلخ بأسهم ، استئنافا بيانيا ، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخشون ، فكأنهم تساءلوا كيف ترينا دارهم وتعدنا بها ، وهل لا نهلك قبل الحلول بها ، كما حكى الله عنهم (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) الآية في سورة العقود [٢٢] وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد ، فاجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياته.

والصرف الدفع أي سأصدّ عن آياتي ، أي عن تعطيلها وإبطالها.

والآيات الشريعة ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام ، فيكون المعنى سأتولّى دفعهم عنكم ، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طارد من قدّامك الأموريين إلخ» ، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومه بما يهيئ لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء ، كإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتشتيت كلمتهم ، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عدتهم أو تكون الجملة جوابا لسؤال من يقول : إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا ، ويتبعون ديننا ، فلا نحتاج إلى قتالهم ، فأجيبوا بأن الله يصرفهم عن اتباع آياته ؛ لأنهم جبلوا على التكبر في الأرض ، والإعراض عن الآيات ، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام ، وعن الحسن : أن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مات قلبه.

وفي قصّ الله تعالى هذا الكلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافعهم عن تعطيل آياته ، وبأنه مانع كثيرا منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفا.

ويجوز أن تكون جملة (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) من خطاب الله تعالى لرسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم روى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة ، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل

٢٨٦

بمناسبة قوله : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥] تعريضا بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين ، وتصريحا بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان ، فتكون الجملة مستأنفة استينافا ابتدائيا ، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل (سَأَصْرِفُ) بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يعجل ذلك الصرف.

وتقديم المجرور على مفعول (سَأَصْرِفُ) للاهتمام بالآيات ، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسن.

وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف. وهي ما تضمنته الصلات المذكورة ، لأن من صارت تلك الصفات حالات له ينصره الله ، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه ، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف.

والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتمّ الانطباق.

والتكبر الاتصاف بالكبر. وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف ، وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤] وقوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) في سورة البقرة [٨٧] ، والمعنى : أنهم يعجبون بأنفسهم ، ويعدون أنفسهم عظماء فلا يأتمرون لآمر ، ولا ينتصحون لناصح.

وزيادة قوله : (فِي الْأَرْضِ) لتفضيح تكبرهم ، والتشهير بهم بأن كبرهم مظروف في الأرض ، أي ليس هو خفيا مقتصرا على أنفسهم ، بل هو مبثوث في الأرض ، أي مبثوث أثره ، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس : ٢٣] وقوله : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [البقرة : ٢٧] وقوله : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء : ٣٧] وقول مرة بن عدّاء الفقعسي :

فهلّا أعدوني لمثلي تفاقدوا

وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب

وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له ، وهو مغايرة الحق ، أي : باطل وهي حال لازمة للتكبر ، كاشفة لوصفه ، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق ، وإنما هو وصف لله بحق ؛ لأنه العظيم على كل موجود ، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد (بِغَيْرِ الْحَقِ) للاحتراز عنه ، كما في

٢٨٧

«الكشاف».

ومن المفسرين من حاول جعل قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) قيدا للتكبر ، وجعل من التكبر ما هو حق ، لأن للمحق أن يتكبر على المبطل ، ومنه المقالة المشهورة «الكبر على المتكبر صدقة» وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط.

وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) عطف على قوله : (يَتَكَبَّرُونَ) فهو في حكم الصلة ، والقول فيه كالقول في قوله : (لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) في سورة يونس [٩٦ ، ٩٧] وكل مستعملة في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) في سورة البقرة [١٤٥].

والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي. والرؤية مستعارة للإدراك.

والاتخاذ حقيقته مطاوع أخّذه بالتشديد ، إذا جعله آخذا ، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيره ، وهو هنا مستعار للملازمة ، أي لا يلازمون طريق الرشد ، ويلازمون طريق الغي.

والرشد الصلاح وفعل النافع ، وقد تقدم في قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) في سورة النساء [٦] والمراد به هنا : الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة.

والغي الفساد والضلال ، وهو ضد الرشد بهذا المعنى ، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال ، فالمعنى : أن يدركوا الشيء الصالح لم يعملوا به. لغلبة الهوى على قلوبهم ، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى ، فالعمل به حمل للنفس على كلفة ، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مرغوبها ، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي ، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء ، بخلاف الغي ، فإنه ما ظهر في العالم إلّا من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزين لها الظاهر العاجل ، وتجهل عواقب السوء الآجلة ، كما جاء في الحديث : حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات.

والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة : لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها.

وقرأ الجمهور : (الرُّشْدِ) ـ بضم فسكون ـ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف :

٢٨٨

بفتحتين ، وهما لغتان فيه.

وجملة : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالا.

والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق ، نزّل منزلة الموجود في الخارج وهو ما تضمنه قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) إلى آخر الآية ، واستعمل له اسم إشارة المفرد ؛ لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] أي من يفعل المذكور ، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة ، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) في سورة البقرة [٦١].

والباء السببية أي : كبرهم. وعدم إيمانهم ، واتباعهم سبيل الغي ، وإعراضهم عن سبيل الرشد سببه تكذيبهم بالآيات ، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر ، وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات ، فكان ذلك سبب السبب ، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذة من (سَأَصْرِفُ) لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سببا ثانيا للصرف ، وجعله سببا للسبب أرشق.

واجتلبت (أن) الدالة على المصدرية والتوكيد ؛ لتحقيق هذا التسبب وتأكيده ، لأنه محل عرابة.

وجعل المسند فعلا ماضيا ، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم ، فكان رسوخ ذلك فيهم سببا في أن خلق الطبع والختم على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم ، ولا يصلحون أنفسهم ، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين.

ومعنى (كَذَّبُوا بِآياتِنا) إنهم ابتدءوا بالتكذيب ، ولم ينظروا ، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه ، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات ، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب ، لأن ذلك قد علم من قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها).

والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصد أو بغير قصد ، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل ، والمذموم منها ما كان عن قصد ، وهو مناط التكليف والمؤاخذة ، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها ، وهي المقصود من

٢٨٩

قول علماء أصول الفقه : يمتنع تكليف الغافل.

وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة (كانُوا عَنْها غافِلِينَ) للدلالة على استمرار غفلتهم. وكونها دأبا لهم ، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها ، فأما لو كانت عن غير قصد. فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) [الأعراف : ١٤٦] إلى آخر الآيات على الوجهين السابقين ويجوز أن يكون معطوفة على جملة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ١٤٦] ، ويجوز أن تكون تذييلا معترضا بين القصتين وتكون الواو اعتراضية ، وأيّا ما كان فهي آثارها الإخبار عنهم بأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، فإن ذلك لما كان هو الغالب على المتكبرين الجاحدين للآيات ، وكأن لا تخلو جماعة المتكبرين من فريق قليل يتخذ سبيل الرشد عن حلم وحب للمحمدة ، وهم بعض سادة المشركين وعظماؤهم في كل عصر ، كانوا قد يحسب السامع أن ستنفعهم أعمالهم ، أزيل هذا التوهم بأن أعمالهم لا تنفعهم مع التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة ، وأشير إلى أن التكذيب هو سبب حبط أعمالهم بتعريفهم بطريق الموصولية ، دون الإضمار ، مع تقدم ذكرهم المقتضي بحسب الظاهر الإضمار فخولف مقتضى الظاهر لذلك.

وإضافة (وَلِقاءِ) إلى (الْآخِرَةِ) على معنى (في) لأنها إضافة إلى ظرف المكان ، مثل (عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤] أي لقاء الله في الآخرة ، أي لقاء وعده ووعيده.

والحبط فساد الشيء الذي كان صالحا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) في سورة المائدة [٥].

وجملة : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مستأنفة استينافا بيانيا ، جوابا عن سؤال ينشأ عن قوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إذ قد يقول سائل : كيف تحبط أعمالهم الصالحة ، فأجيب بأنهم جوزوا كما كانوا يعملون ، فإنهم لما كذبوا بآيات الله كانوا قد أحالوا الرسالة والتبليغ عن الله ، فمن أين جاءهم العلم بأن لهم على أعمالهم الصالحة جزاء حسنا ، لأن ذلك لا يعرف إلّا بإخبار من الله تعالى ، وهم قد عطلوا طريق الإخبار وهو الرسالة ، ولأن الجزاء إنما يظهر في الآخرة ، وهم قد كذبوا بلقاء الآخرة ، فقد قطعوا الصلة بينهم وبين

٢٩٠

الجزاء ، فكان حبط أعمالهم الصالحة وفاقا لاعتقادهم.

والمراد ب (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ما كانوا يعتقدون ، فأطلق على التكذيب بالآيات وبلقاء الآخرة فعل (يَعْمَلُونَ) لأن آثار الاعتقاد تظهر في أقوال المعتقد وأفعاله ، وهي من أعماله.

والاستفهام ب (هَلْ) مشرب معنى النفي ، وقد جعل من معاني (هل) النفي ، وقد بيناه عند قوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في سورة النمل [٩٠] ، فانظره هناك.

و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مقدر فيه مضاف ، والتقدير مكافئ ما كانوا يعملون بقرينة قوله : (يُجْزَوْنَ) لأن الجزاء لا يكون نفس المجزي عليه ، فإن فعل جزى يتعدى إلى العوض المجعول جزاء بنفسه ، ويتعدى إلى العمل المجزي عليه بالباء ، كما قال تعالى :(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الإنسان : ١٢] ونظير هذه الآية قوله في سورة الأنعام [١٣٩] (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ).

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨))

عطف على جملة : (وَواعَدْنا مُوسى) [الأعراف : ١٤٢] عطف قصة على قصة ، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة ، وما حصل فيها من الآيات والعبر ، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى ، في مدة مغيبه في المناجاة ، من الإشراك.

فقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد مغيبه ، كما هو معلوم من قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] ومن قوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف : ١٤٢].

وحذف المضاف مع «بعد» المضافة إلى اسم المتحدّث عنه شائع في كلام العرب ، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة.

و (من) في مثله للابتداء ، وهو أصل معاني (من) وأما (من) في قوله : (مِنْ حُلِيِّهِمْ) فهي للتبعيض.

والحلّي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية ، جمع حلي ، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية ، ووزن هذا الجمع فعول كما جمع ثدي ، ويجمع أيضا على

٢٩١

حلي ، بكسر الحاء مع اللام ، مثل عصي وقسي اتباعا لحركة العين ، وبالأول قرأ جمهور العشرة ، وبالثاني حمزة ، والكسائي ، وقرأ يعقوب حليهم بفتح الحاء وسكون اللامعلى صيغة الإفراد ، أي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب ، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائهم وبناتهم وبنيهم.

والعجل ولد البقرة قبل أن يصير ثورا ، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري ، وفي التوراة أن صانعه هو هارون ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى ، ولم يكن هارون صائغا ، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي ، لأنهم الآمرون باتخاذه والحريصون عليه ، وهذا مجاز شائع في كلام العرب.

ومعنى اتخذوا عجلا صورة عجل ، وهذا من مجاز الصورة ، وهو شائع في الكلام.

والجسد الجسم الذي لا روح فيه ، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح ، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلّا أنه ليس بحي وما وقع في القصص : إنه كان لحما ودما ويأكل ويشرب ، فهو من وضع القصاصين ، وكيف والقرآن يقول : (مِنْ حُلِيِّهِمْ) ، ويقول : (لَهُ خُوارٌ) ، فلو كان لحما ودما لكان ذكره أدخل في التعجيب منه.

والخوار بالخاء المعجمة صوت البقر ، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجويفا على تقدير من الضيق مخصوص ، واتخذ له آلة نافخة خفية ، فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه ، وخرج من المضيق ، فكان له صوت كالخوار ، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار ، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعلا.

و (جَسَداً) نعت ل (عِجْلاً) وكذلك (لَهُ خُوارٌ).

وجملة : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا ؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم.

والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم ، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية ، لأن نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر ، ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه ، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك ، مبالغة ، وهو للتعجيب وليس للإنكار ، إذ لا ينكر ما ليس بموجود ، وبهذا يعلم أن معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسئول عنهم منزلة من لا يرى ، وقد تقدم بيان ذلك عند

٢٩٢

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٤٣].

والرؤية بصرية ، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم ، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم ، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام ، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب.

وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلها ، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلها بأن خصائصه خصائص العجماوات ، فجسمه جسم عجل ، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة ، وصوته صوت البقر ، وهو صوت لا يفيد سامعه ، ولا يبين خطابا ، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه ، فهو من الموجودات المنحطة عنهم ، وهذا كقول إبراهيم (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣] فما ذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية ، فضلا على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق ، والذين عبدوه أشرف منه حالا وأهدى ، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية ، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر.

وجملة : (اتَّخَذُوهُ) مؤكدة لجملة (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) فلذلك فصلت ، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب ، كما يقال : نعم اتخذوه ، ولتبنى عليه جملة (وَكانُوا ظالِمِينَ) فيظهر أنها متعلقة باتخاذ العجل ، وذلك لبعد جملة : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) بما وليها من الجملة وهذا كقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ـ إلى قوله ـ (فَلْيَكْتُبْ) [البقرة : ٢٨٢] أعيد فليكتب لتبنى عليه جملة : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) [البقرة : ٢٨٢] ، وهذا التكرير يفيد مع ذلك التوكيد وما يترتب على التوكيد.

وجملة : (وَكانُوا ظالِمِينَ) في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله :(اتَّخَذُوهُ) وهذا كقوله في سورة البقرة [٥١] (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩))

كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) الآية ، عن قوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] لأنهم

٢٩٣

ما سقط في أيديهم إلّا بعد أن رجع موسى ورأوا فرط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإيّاهم ، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلا بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة ، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم ، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه.

و (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) مبني للمجهول ، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذا أنظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة ، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يضرب بالسيف والرمح ، ولذلك حين يدعون على أنفسهم بالسوء يقولون : «شلّت من يديّ الأنامل» ، وهي آلة القدرة قال تعالى : (ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧] ، ويقال : ما لي بذلك يد ، أو ما لي بذلك يدان أي لا أستطيعه ، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال : سقط في يده ساقط ، أي نزل به نازل.

ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقا من فعله ، ساغ أن يبنى فعله للمجهول فمعنى «سقط في يده» سقط في يده ساقط فأبطل حركة يده ، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم ، إلّا بأنه شيء دخل في يده فصيّرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فجأه ما أوجب حيرته في أمره ، كما يقال : فت في ساعده.

وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبيّن الخطأ لهم ، فهو تمثيل لحالهم بحال من سقط في يده حين العمل. فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم ، فالندامة هي معنى التركيب كله ، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد ، قال ابن عطية «وحدثت عن أبي مروان بن سراج (١)» أنه كان يقول قول العرب : سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال الزجاج هو نظم لم يسمع قبل القرآن ، ولم تعرفه العرب.

قلت وهو القول الفصل ، فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن ، فقول ابن سراج : قول العرب سقط في يده ، لعله يريد العرب الذين بعد القرآن.

والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه ،

__________________

(١) عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج مولى بني أمية من أهل قرطبة من بيت علم ولد سنة ٤٠٠ وتوفي ٤٨٩. أخذ عن أبيه سراج وأخذ عنه ابنه أبو الحسين سراج بن عبد الملك.

٢٩٤

وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه : ٩١] ، إلّا بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم ، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم ، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم ، وكأنه قيل : فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا.

وقولهم : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) توبة وإنابة ، وقد علموا أنهم أخطئوا خطيئة عظيمة ، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطأته اللام. وقدموا الرحمة على المغفرة ؛ لأنها سببها.

ومجيء خبر كان مقترنا بحرف (من) التبعيضية ؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ٥٦].

وقرأه الجمهور (يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ) بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربّنا ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء ، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم.

[١٥٠ ، ١٥١] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

جعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبل على الأسلوب المبين في قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩]. فرجوع موسى معلوم من تحقق انقضاء المدة الموعود بها ، وكونه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومه في مغيبه ، وقد صرح بذلك في سورة طه [٨٥] (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) ف (غَضْبانَ أَسِفاً) حالان من موسى ، فهما قيدان ل (رَجَعَ) فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع.

٢٩٥

والغضب تقدم في قوله : (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) في هذه السورة [٧١].

والأسف بدون مد ، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد ، أي رجع غضبان من عصيان قومه حزينا على فساد أحوالهم ، وبئسما ضد نعمّا ، وقد مضى القول عليه في قوله تعالى : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) في سورة البقرة [٩٣] ، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خلافتكم.

وتقدم الكلام على فعل خلف في قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف : ١٤٢] قريبا.

وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم ، لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون (خَلَفْتُمُونِي) مستعملا في حقيقته ، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم ، فأما هارون فلأنه لم يحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى ، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى ، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلوف عنه ، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته ، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل (خَلَفْتُمُونِي) مستعملا في حقيقته ومجازه.

وزيادة (مِنْ بَعْدِي) عقب (خَلَفْتُمُونِي) للتذكير بالبون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوف عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعد ما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فيكون قيد (مِنْ بَعْدِي) للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] ، ومعلوم أن السقف لا يكون إلّا من فوق ، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها ، ونظيره قوله تعالى ، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم ، (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [الأعراف : ١٦٩] أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات.

و «عجل» أكثر ما يستعمل قاصرا ، بمعنى فعل العجلة أي السرعة ، وقد يتعدى إلى المعمول «بعن» فيقال : عجل عن كذا بمعنى لم يتمّه بعد أن شرع فيه ، وضده تم على الأمر إذا شرع فيه فأتمّه ، ويستعمل عجل مضمنا معنى سبق فعدي بنفسه على اعتبار هذا المعنى ، وهو استعمال كثير.

ومعنى «عجل» هنا يجوز أن يكون بمعنى لم يتم ، وتكون تعديته إلى المفعول على

٢٩٦

نزع الخافض.

والأمر يكون بمعنى التكليف وهو ما أمرهم الله به : من المحافظة على الشريعة ، وانتظار رجوعه ، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا ، ويجوز أن يكون بمعنى سبق أي بادرتم فيكون الأمر بمعنى الشأن أي الغضب والسخط كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) [هود : ٤٠] فالأمر هو الوعيد ، فإن الله حذرهم من عبادة الأصنام وتوعدهم ، فكان الظن بهم إن وقع منهم ذلك إن يقع بعد طول المدة ، فلما فعلوا ما نهوا عنه بحدثان عهد النهي ، جعلوا سابقين له على طريقة الاستعارة : شبهوا في مبادرتهم إلى أسباب الغضب والسخط بسبق السابق المسبوق ، وهذا هو المعنى الأوضح ، ويوضحه قوله ، في نظير هذه القصة في سورة طه [٨٦] ، حكاية عن موسى : (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي). وقد تعرضت التوراة إلى شيء من هذا المعنى في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج «وقال الله لموسى رأيت هذا الشّعب فإذا هو شعب صلب الرقبة فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم فأفنيهم».

وإلقاء الألواح رميها من يده إلى الأرض ، وقد تقدم بيان الإلقاء آنفا. وذلك يؤذن بأنه لما نزل من المناجاة كانت الألواح في يده كما صرح به في التوراة.

ثم إن إلقاءه إياها إنما كان إظهارا للغضب ، أو أثرا من آثار فوران الغضب لما شاهدهم على تلك الحالة ، وما ذكر القرآن ذلك الإلقاء إلّا للدلالة على هذا المعنى إذ ليس فيه من فوائد العبرة في القصة إلّا ذلك ، فلا يستقيم قول من فسرها بأن الإلقاء لأجل إشغال يده بجرّ رأس أخيه ، لأن ذكر ذلك لا جرور فيه ، ولأنه لو كان كذلك لعطف ، وأخذ برأس أخيه بالفاء.

وروي أن موسى عليه‌السلام كان في خلقه ضيق ، وكان شديدا عند الغضب ، ولذلك وكز القبطي فقضى عليه ، ولذلك أخذ برأس أخيه يجره إليه ، فهو دليل على فظاعة الفعل الذي شاهده من قومه ، وذلك علامة على الفظاعة ، وتشنيع عليهم ، وليس تأديبا لهم ، لأنه لا يكون تأديبهم بإلقاء ألواح كتب فيها ما يصلحهم ، لأن ذلك لا يناسب تصرف النبوءة (ولذلك جزمنا بأن إعراض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كتابة الكتاب الذي همّ بكتابته قبيل وفاته لم يكن تأديبا للقوم على اختلافهم عنده ، كما هو ظاهر قول ابن عباس ، بل إنما كان ذلك لما رأى من اختلافهم في ذلك ، فرأى أن الأولى ترك كتابته ، إذ لم يكن الدين محتاجا

٢٩٧

إليه) ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها ، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي ، وما روي من أن الألواح كانت من حجر ، يقتضي أنها اعتراها انكسار ، ولكن ذلك الانكسار لا يذهب ما احتوت عليه من الكتابة ، وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة أسباعها ، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها ، فهو من وضع القصّاصين والله تعالى يقول : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤].

وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه ، أي إمساكه بشعر رأسه ، وذلك يولمه ، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عبدة العجل ، واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول ، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه : ٩٤] لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب ، ولم يكن له عذرا ، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل ، وما هارون إلّا من جملة قومه بهذا الاعتبار ، وإنما كان هارون رسولا مع موسى لفرعون خاصة ، ولذلك لم يسع هارون إلّا الاعتذار والاستصفاح منه.

وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه ، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير.

وفصلت جملة : (قالَ ابْنَ أُمَ) لوقوعها جوابها لحوار مقدر دل عليه قوله (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) لأن الشأن أن ذلك لا يقع إلّا مع كلام توبيخ ، وهو ما حكي في سورة طه [٩٢ ، ٩٣] بقوله : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) على عادة القرآن في توزيع القصة ، واقتصارا على موقع العبرة ؛ ليخالف أسلوب قصصه الذي قصد منه الموعظة أساليب القصّاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث.

و (ابْنَ أُمَ) منادى بحذف حرف النداء ، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع ، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب ، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه [٩٤] (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي) ثم قال ، بعد ذلك (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) فهما كلامان متعاقبان ، ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني ، وأن ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون ، لأنه كان جوابا عن قول موسى : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : ٩٢ ، ٩٣].

٢٩٨

واختيار التعريف بالإضافة ؛ لتضمن المضاف إليه معنى التذكير بصلة الرحم ، لأن إخوة الأم أشد أواصر القرابة ؛ لاشتراك الأخوين في الألف من وقت الصبا والرضاع.

وفتح الميم في (ابْنَ أُمَ) قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وحفص عن عاصم ، وهي لغة مشهورة في المنادى المضاف إلى أم أو عم ، وذلك بحذف ياء المتكلم وتعويض ألف عنها في آخر المنادى ، ثم يحذف ذلك الألف تخفيفا ، ويجوز بقاء كسرة الميم على الأصل ، وهي لغة مشهورة أيضا ، وبها قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف.

وتقدم الكلام على الأم عند قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) في سورة النساء [٢٣].

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) لتحقيقه لدى موسى ، لأنه بحيث يتردد فيه قبل إخبار المخبر به ، والتأكيد يستدعيه قبول الخبر للتردد من قبل إخبار المخبر به ، وإن كان المخبر لا يظن به الكذب ، أو لئلا يظن به أنه توهم ذلك من حال قومه ، وكانت حالهم دون ذلك.

والسين والتاء في (اسْتَضْعَفُونِي) للحسبان أي حسبوني ضعيفا لا ناصر لي ، لأنهم تمالئوا على عبادة العجل ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة.

وقوله : (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلّم خشية القتل.

والتفريع في قوله : (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تفريع على تبين عذره في إقرارهم على ذلك ، فطلب من أخيه الكف عن عقابه الذي يشمت به الأعداء لأجله ، ويجعله مع عداد الظالمين فطلب ذلك كناية عن طلب الإعراض عن العقاب.

والشماتة : سرور النفس بما يصيب غيرها من الإضرار ، وإنما تحصل من العداوة والحسد. وفعلها قاصر كفرح ، ومصدرها مخالف للقياس ، ويتعدى الفعل إلى المفعول بالباء يقال : شمت به : أي : كان شامتا بسببه ، وأشمته به جعله شامتا به ، وأراد بالأعداء الذين دعوا إلى عبادة العجل ، لأن هارون أنكره عليهم فكرهوه لذلك ، ويجوز أن تكون شماتة الأعداء كلمة جرت مجرى المثل في الشيء الذي يلحق بالمرء سوءا شديدا ، سواء كان للمرء أعداء أو لم يكونوا ، جريا على غالب العرف.

٢٩٩

ومعنى (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لا تحسبني واحدا منهم ، ف (جعل) بمعنى ظن كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ) عند (الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩]. والقوم الظالمون هم الذين أشركوا بالله عبادة العجل ، ويجوز أن يكون المعنى : ولا تجعلني في العقوبة معهم ، لأن موسى قد أمر بقتل الذين عبدوا العجل ، ف (جعل) على أصلها.

وجملة : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) جواب عن كلام هارون ، فلذلك فصلت. وابتدأ موسى دعاءه فطلب المغفرة لنفسه تأدبا مع الله فيما ظهر عليه من الغضب ، ثم طلب المغفرة لأخيه فيما عسى أن يكون قد ظهر منه من تفريط أو تساهل في ردع عبدة العجل عن ذلك.

وذكر وصف الأخوة هناك زيادة في الاستعطاف عسى الله أن يكرم رسوله بالمغفرة لأخيه كقول نوح : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥].

والإدخال في الرحمة استعارة لشمول الرحمة لهما في سائر أحوالهما ، بحيث يكونان منها ، كالمستقر في بيت أو نحوه مما يحوي ، فالإدخال استعارة أصلية وحرف (في) استعارة تبعية ، أوقع حرفه الظرفية موقع باء الملابسة.

وجملة : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) تذييل ، والواو للحال أو اعتراضية ، و (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأشد رحمة من كل راحم.

[١٥٢ ، ١٥٣] (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))

يجوز أن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلى قوله : (الدُّنْيا) من تمام كلام موسى ، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل. وأنه سيظهر أثر غضبه عليهم ، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه ، وانتهى كلام موسى عند قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وأن جملة : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) خطاب من جانب الله في القرآن ، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه ، وأن جملة : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم.

٣٠٠