دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

وقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد».

ولا يخفى أنّ نفي أوصاف الرجوليّة ـ كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك ـ وإن كان صحيحا ، ولكنّه لا يكون واجدا للخصوصيّة البلاغيّة ، وأمّا نفى الماهيّة والحقيقة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف فلا بأس في واجديّته للمرتبة الكاملة من البلاغة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، كما إذا قلنا : لا قمار في الإسلام ، لا سرقة في الإسلام ، لا أكل مال بالباطل في الإسلام» (١).

هذا حاصل ما يستفاد من الكفاية وحاشية الرسائل في المقام.

ويرد عليه : أنّ هذا البيان صحيح وقابل للالتزام في مثل «لا صلاة ، ولا رجال» ، فإنّ موضوعيّة ماهيّة الصلاة للأحكام والآثار ـ كالمعراجيّة مثلا ـ لا شبهة فيها ، وهكذا موصوفيّة ماهيّة الرجل للأوصاف ، فيصحّ نفي الماهيّة بنحو الحقيقة الادّعائيّة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف ، بخلاف مثل قوله : «لا ضرر» ؛ فإنّ ماهيّة الضرر لا تكون موضوعة للآثار والأحكام كما لا يخفى ، والموضوع لها هو الوضوء الضرري ، ولزوم المعاملة الغبنيّة ونحو ذلك ، والمنفي هو الضرر ، بما أنّه عنوان الضرر ، فلا أحكام في البين حتّى تكون نفي الماهيّة بلحاظ فقدانها.

أمّا القول بالمجازيّة بعلاقة السببيّة والمسببيّة بإطلاق لفظ الضرر الموضوع للمسبّب في السّبب بنحو المجاز والمسامحة ، وكون المراد من نفي الضرر هو نفي الحكم الضرري ، فهو أيضا ليس بصحيح بعد إنكار أصل السببيّة ، كما مرّ في الجواب عن المحقّق النائيني رحمه‌الله.

وأمّا القول بالمجاز في الحذف والتقدير وكون معنى قوله : «لا ضرر» أنّ كلّ

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٦٨.

٦١

حكم ينشأ منه الضرر ويرتبط به ارتباطا ما ـ ولو بنحو المعدّ أو أضعف منه ـ منفي ، فلزوم المعاملة الغبنيّة ينشأ منه الضرر ، وهو منفي ، وإيجاب الوضوء الضرري ينشأ منه الضرر، وهو منفي ، فهو أيضا لا يخلو عن الإشكال ؛ فانّه تتحقّق في الشريعة أحكام متمحّضة في الضرر ، ومع ذلك لا ينفيها قوله : «لا ضرر» مثل باب الزكاة والخمس ، والحكم بضمان من أتلف مال الغير ، والحكم بضمان يد العارية ، والحكم بانفساخ المعاملة في مورد تلف المبيع قبل قبضه وكونه على عهدة البائع ، مع أنّ الإقباض لا يكون من شرائط صحّة المعاملة ، وهكذا الحدود والتعزيرات ، وسلب الماليّة عن الخمر والخنزير ، وأمثال ذلك ، وخروجها عنه بصورة التخصيص يوجب تخصيص الأكثر المستهجن قطعا.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : إنّ تخصيص الأكثر إذا كان بدون وجود الجامع والقدر المشترك بين الموارد المخصّصة كما في مثل : أكرم القوم ، ثمّ إخراج الأكثر منه لا بمناط واحد ، بل كان إخراج كلّ واحد منه بمناط مستقلّ ، هذا يكون مستهجنا ، وإذا كان مع وجود الجامع المشترك بينها وبمناط واحد ليس بمستهجن ، كما في مثل : أكرم الناس ، ثمّ أخرج الأكثر بعنوان الفسّاق ، ومعلوم أنّ أفراد الفسّاق أكثر من أفراد العادل ، ومع ذلك لا مانع منه ؛ لتحقّق العنوان الجامع ، والجامع في ما نحن فيه وإن لم يكن معلوما بعنوانه الخاصّ ولكن تحقّقه بنحو الإجمال يكفي لعدم استهجان التخصيص (١).

وأجابه المحقّق النائيني رحمه‌الله وذكر بعنوان مقدّمة الجواب : أنّ العموم في القضيّة الخارجيّة يشمل الأفراد المحقّقة الوجود في الخارج فقط ، والعموم في القضيّة الحقيقيّة يشمل الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معا ، وملاك الحكم في

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤١.

٦٢

القضيّة الخارجيّة يمكن أن يكون متعدّدا بتعدّد الأفراد ، والجامع بينها هو الجامع اللفظي والعنواني ، مثل : «كلّ من كان في هذا المحبس محكوم بالقتل» ، وملاك الحكم في كلّ واحد غير الملاك في الآخر ، والجامع هو الكون في المحبس ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة ؛ إذ لا بدّ فيها من وحدة الملاك وشموله لجميع الأفراد ، سواء كانت محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود بملاك واحد ، فلا بدّ لها من الجامع الحقيقي ، وتحقّق الملاك فيه حتّى يكون شاملا للأفراد بعنوان المصداقيّة له ، مثل قولنا : «يجوز الاقتداء بكلّ عادل» ، فإنّ ملاك الحكم عبارة عن العدالة ، وهذا الملاك يكون جامعا حقيقيّا كلّيّا لها.

ثمّ قال : «إنّ التخصيص في القضيّة الحقيقيّة قد يكون تصرّفا في نفس الكبرى ومدخول كلمة «كلّ» مثل قوله : «أكرم كلّ عالم» ، وقوله : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» ، وهذا التخصيص يرجع إلى تقييد العامّ ، كأنّه قال من الابتداء : «أكرم كلّ عالم غير فاسق» ، وقد يكون تصرّفا في كلّيّة الكبرى وكلمة «كلّ» ، مثل قوله : «أكرم كلّ عالم» وقوله : «لا تكرم زيد العالم» ، وقوله : «لا تكرم بكرا العالم» ونحو ذلك ، بخلاف التخصيص في القضيّة الخارجيّة ، لانحصاره بالنوع الثاني لتصرّفه في كلمة «كلّ» والأداة المفيدة للعموم ، مثل قوله : «كلّ من كان في هذا المحبس صار محكوما بالقتل» ، وقوله : «إنّ محبوس كذا لا يكون محكوما بالقتل».

ثمّ إنّ تخصيص الأكثر في هذا النوع يكون مستهجنا ؛ لتقابل التخصيص مع أداة العموم ، بخلاف النوع الأوّل ؛ إذ التخصيص يكون بعنوان واحد وبمنزلة تقييد مدخول كلمة «كلّ» ، ولا يلاحظ فيه كثرة الأفراد وقلّتها ، فلا استهجان في البين».

٦٣

ثمّ قال بعد بيان هذه المقدّمة : «إنّ قوله «لا ضرر» يكون من قبيل القضيّة الخارجيّة لتوجّهه إلى الأحكام المجعولة المحقّقة في الشريعة : فإنّ ظاهر إطلاقها يقتضي عدم الفرق بين كونها ضرريّا أو غير ضرري ، فينبغي بقوله : «لا ضرر» ما كان منها ضرريّا ، وقد عرفت أنّ تخصيص الأكثر في القضيّة الحقيقيّة قد يكون مستهجنا ، وقد لا يكون كذلك ، وأمّا في القضيّة الخارجيّة يكون مستهجنا أبدا ، سواء كان التخصيص بعنوان واحد ، أو بعناوين متعدّدة ؛ لتوجّهه إلى الأداة المفيدة للعموم ولا يرتبط بمدخوله ، فلا محالة يكون تخصيص الأكثر مستهجنا» (١). هذا تمام الكلام في مقام جواب ما ذكره الشيخ الأنصاريرحمه‌الله.

ولكنّه ليس بتامّ ، فإنّ الاختلاف بين القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة بوحدة المناط في الأوّل وتعدّد المناط في الثاني خلاف التحقيق ؛ إذ الاختلاف يكون بسعة دائرة الكلّي والعموم وضيقها ، فإنّه قد يكون من العناوين التي تشمل الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معا ، وقد يكون من العناوين المنحصرة بالأفراد المحقّقة الوجود في الخارج.

ويرد عليه ـ بعد الإغماض عن ذلك ـ : أنّه لا شكّ في توجّه قوله : «لا ضرر» إلى جميع الأحكام المجعولة المستلزمة للضرر بمناط واحد ، وهو استلزام الحكم للضرر ، سواء كان حكما تكليفيّا أو حكما وضعيّا ، فكونه من القضيّة الخارجيّة ليس بتامّ ؛ لعدم انطباقه على مبناه.

والظاهر أنّ تخصيص الأكثر مستهجن مطلقا ، سواء كان بعنوان واحد أو متعدّد ، كما إذا قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم غير المراجع من العلماء» ،

__________________

(١) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني : ١٤٩ ـ ١٥١.

٦٤

إلّا أن يكون التخصيص متّصلا ، وهو في الحقيقة ليس بتخصيص ، بل إطلاق هذا العنوان عليه يكون من باب المسامحة.

ولكنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله بعد الجواب عمّا ذكره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ذكر طريقين للتخلّص عن إشكال تخصيص الأكثر.

الطريق الأوّل : أنّ بعد مقايسة قوله : «لا ضرر» مع الأدلّة الأوّليّة نلتفت إلى تخصيصه لها بعنوان الحكومة ، فإنّ لسانه بالنسبة إليها لسان التوضيح والتفسير ، ولكنّ الحكومة فيما كان الحكم بمقتضى طبعه مستلزما للضرر أحيانا لا دائما مثل حكومته على دليل وجوب الوضوء ؛ لأنّه قد يكون ضرريّا ، وقد يكون غير ضرري وصار محدودا بمورد غير ضرري بواسطة حكومته عليه ، بخلاف ما إذا كان الحكم بمقتضى طبعه متمحّضا في الضرر ، فلا تتحقّق هنا حكومة ، بل النسبة بينهما عبارة عن التعارض ، وكان سائر الأدلّة مقدّما عليه.

الطريق الثاني : أنّ أكثر الموارد المذكورة بعنوان المتمحّض في الضرر ليس بصحيح ، كالحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير ، فإنّ جبران ما أتلف باختياره ومباشرته لا يكون ضرريّا ، وكذا الحكم بالدية في مورد القتل العمدي أو الخطائي ، والحكم بإعطاء الزكاة بعد ما جعل الشارع سهما للفقراء في الأموال ، فكيف يكون الحكم بإعطاء الشريك سهم شريكه ضرريّا؟ نعم ، في مثل باب الجهاد والحجّ مستلزم للضرر وتحمّل المشقّات الكثيرة بدون أيّ عنوان آخر ، ولكنّه لا يكون موجبا لتحقّق عنوان تخصيص الأكثر (١).

وأجاب سيّدنا الاستاذ الامام رحمه‌الله عن الطريق الثاني بجوابين :

__________________

(١) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني : ١٥٢ ـ ١٥٣.

٦٥

الأوّل : أنّه سلّمنا أنّ بعد فرض كون الفقراء شركاء في باب الزكاة لا يكون إعطاء سهم الشريك ضرريّا ، إلّا أنّ أصل جعل الحكم بشركة الفقراء ضرري ، وهكذا الحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير عالما عامدا ليس بضرري ، ولكنّ الحكم بالضمان على النائم المتلف وغير الملتفت عن غير اختيار لا إشكال في كونه ضرريّا ، فلا يكون أكثر الموارد خارجا عن عنوان الضرر.

الثاني : أنّ العموم قد يكون قابلا وصالحا للتخصيص ، وتخصيص الأكثر فيه يكون مستهجنا ، وقد يكون آبيا عن التخصيص ، كالقواعد الواردة في مقام الامتثال ، مثل حديث الرفع ، وقاعدة لا حرج ، وغير ذلك ؛ لمنافاتها مع أصل التخصيص ، وقاعدة لا ضرر أيضا من هذا القبيل ، وكلمة «على مؤمن» في بعض الروايات شاهد على ورودها في مقام الامتنان ، فيكون سياقها آبيا عن تخصيص فضلا عن تخصيص الأكثر (١).

أمّا الجواب عن الطريق الأوّل ، فإنّ نتيجته الوقوع فيما فر منه ؛ إذ بعد وقوع التعارض بين دليل نفي الضرر ودليل وجوب الزكاة والخمس بلحاظ نفي الأوّل جنس الحكم الضرري بعنوان المطلق ، وإثبات الثاني الحكم الضرري الخاصّ في مورد ، فلا بدّ من كونه مخصّصا له ، فيعود الإشكال بقوّته ، فإذا كان معنى قوله : «لا ضرر» نفي الحكم الضرري يكون مستلزما لإشكال تخصيص الأكثر ، وهو غير قابل للجواب ، كما لا يخفى.

وأسند الشيخ الأنصاري رحمه‌الله معنى آخر لقوله : «لا ضرر» إلى بعض الفحول ، وقال : «هذا أردأ الاحتمالات وأضعفها ، وهو : أنّ معناه نفي الضرر ، لا نفي

__________________

(١) بدائع الدّرر في قاعدة نفي الضرر : ٨٩ ـ ٩٠.

٦٦

الضرر المطلق ، ولا نفي الحكم الضرري ، بل الضرر الموصوف بوصف والمقيّد بقيد ، وهو كونه غير متدارك ، فإن كان الضرر متداركا مثل تدارك العباء المغصوب بالمثل أو القيمة ، فلا يتحقّق الضرر ، فكلّ ضرر غير متدارك في الإسلام منفي لتداركه بالمثل أو القيمة أو الأرش.

ثمّ استشكل عليه بأنّ مجرّد إيجاب المثل أو القيمة أو الأرش لا يوجب تدارك الضرر في الخارج ، وما يتدارك به الضرر واقعا يمكن أن لا يتحقّق للعصيان والنسيان ، فكيف يمكن نفي حقيقة الضرر (١)؟!.

وقال المحقّق شيخ الشريعة الاصفهاني رحمه‌الله : إنّ قوله : «لا ضرر» يدلّ على النهي عن الضرر ، كأنّه قال : «لا يجوز في الإسلام أن يضرّ رجل رجلا» ، وهذا المعنى يستفاد من الأذهان العرفيّة الخالية عن الشبهات ومن الاستعمالات الكثيرة ، مثل قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٢) ، والمعنى : أنّه لا يجوز الرفث ولا يجوز الفسوق ، ولا يجوز الجدال في الحجّ ، ومثل الرواية الواردة في باب السبق والرماية أنّه : «لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل» (٣) ، يعنى لا تجوز المسابقة في غير هذه الثلاثة ، ومثل قوله : «لا غشّ بين المسلمين» (٤) ، ونحو ذلك ، مضافا إلى أنّ كلمة «على مؤمن» في ذيل بعض الروايات لا يكون متناسبا مع النفي ، وإلّا يكون معناه جواز المعاملة الغبنيّة إذا كان المغبون كافرا ذمّيّا ، والحال أنّ اشتراك الكافر والمسلم في الأحكام لا إشكال فيه ، وهذا دليل على كون «لا» ناهية.

__________________

(١) رسائل فقهيّة : ١١٤.

(٢) البقرة : ١٩٧.

(٣) الكافي ٥ : ٤٨ ـ ٥٠.

(٤) سنن الدارمي ٢ : ٢٤٨.

٦٧

ومضافا إلى أنّ ترتيب الصغرى والكبرى في بعض الروايات ، مثل : قوله :«إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار» يناسب هذا المعنى.

على أنّه يستفاد من الكتب اللّغويّة كما ذكر في النهاية ، والمعنى : «لا يضرّ الرجل أخاه شيئا» ، فالمراد من «لا ضرر» هو النهي إمّا لكون «لا» ناهية ، وإمّا للانتقال من النفي إلى النهي ، فلا فرق بينهما.

ونتيجة هذا البيان كونه من الأحكام الأوّليّة المحرّمة في قبال سائر المحرّمات ، فلا قاعدة في البين.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ كثرة استعمال «لا» في النهي من استعماله في النفي لا يكون قابلا للقبول ، بل الأمر بالعكس في الاستعمالات الفقهيّة والمحاورات العرفيّة ، كما لا يخفى على المتتبّع ، مضافا إلى عدم تناسب كلمة «على مؤمن» مع النهي أيضا ؛ لعدم جواز الإضرار بغير المؤمن أيضا في كثير من الموارد.

وثانيا : أنّ دخول «لا» الناهية على الاسم بصورة الاستعمال الحقيقى ليس بتامّ ، وهكذا استعمال «لا» في النفي وإرادة النهي منه استعمالا حقيقيّا لا يكون قابلا للتصوّر ، وأمّا الاستعمال بصورة المسامحة والمجاز فلا مانع منه ، ولكن حمل قوله : «لا ضرر» ـ مع أهمّيّته ـ على المعنى المجازي لا يكون قابلا للالتزام.

وكان لاستاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله تحقيق آخر في معنى قوله : «لا ضرر» ، وهو : أنّ «لا» ناهية والنهي مولوي نبوي صادر من مقام الحكومة ، لا يرتبط بالنواهي الالهيّة ، ولا بدّ لتوضيح ذلك من بيان امور :

الأمر الأوّل : أنّه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة مناصب ومقامات ، وكان لكلّ منها أحكام خاصّة :

المقام الأوّل : هو مقام النبوّة والمخبريّة عن الله تعالى ، وليس له في هذه

٦٨

المرحلة أمرا ونهيا مستقلّا ، بل كلّ ما يقول به هو من ناحية الباري تعالى ، ومخالفته مخالفة الله تعالى ، وأوامره إرشاديّة ، فالعقوبة والمثوبة من خصوصيّات المرشد إليه ، فالجعل والتقنين والتشريع لا يرتبط به صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١).

المقام الثاني : هو مقام الحكومة ، والدليل عليه قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ ...)(٢) ومعلوم أنّ الأمر في (أَطِيعُوا اللهَ) إرشادي إلى حكم العقل ، بخلاف الأمر في (أَطِيعُوا اللهَ) فإنّه من الأحكام المولويّة الإلهيّة الثابتة في الشريعة ، كأنّه يقول : أيّها المسلمون ، يجب عليكم إطاعته في أوامره ونواهيه الصادرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنّه رسول ، ويستفاد منه أنّ الله جعل له مقام الحكومة والسلطنة بالنسبة إلى المسائل الاجتماعيّة ، مضافا إلى مقام النبوّة. والشاهد عليه تكرار كلمة «أطيعوا» في الآية ، وجعله في مقابل إطاعة الله يعني إطاعة الرسول في الشئون المربوطة بنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا في الأوامر والنواهي الإلهيّة ؛ لعدم ارتباطها برسول الله ، بل ترتبط مستقيما بالله تعالى ، فهو يدلّ بصورة الأمر المولوي على وجوب إطاعة الرسول ، فتارك حفر الخندق ـ مثلا ـ بلا عذر يعاقب لا بما أنّه خالف الله تعالى مستقيما ، بل بما خالف الرسول ، مع أنّه كان واجب الإطاعة بمقتضى قوله : (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) فالمأمور به هو نفس إطاعة الرسول.

وهكذا قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ...)(٣) ومعنى الأولويّة المجعولة من ناحية الله تعالى له : وجوب إطاعة أوامره في المسائل الاجتماعيّة

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) الأحزاب : ٦.

٦٩

والشخصيّة فإذا أمر زيدا أن يطلّق زوجته أو يبيع داره يجب عليه إطاعة أمره بمقتضى الآية وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأشار إليه في حديث الغدير بقوله : «ألست أولى بكم من أنفسكم» (١).

المقام الثالث : هو مقام القضاوة وفصل الخصومة ، وهذا واضح ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينصب القاضي ويرسله إلى البلاد ، إذا كان النصب من وظائفه فيستفاد ثبوته له بطريق أولى.

الأمر الثاني : أنّ تعبيرات الروايات المنقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مختلفة ؛ إذ يعبّر في بعضها بكلمة «قال» ، وفي بعضها بكلمة «أمر» ، وفي بعضها بكلمة «قضى أو حكم» : فإذا كان التعبير بكلمة «قال» فلا ظهور له بارتباط مقولة القول بمقام النبوّة أو الحكومة والسلطنة ، بل محتمل الوجهين ، وإذا كان التعبير بكلمة «أمر بكذا» أو «نهى عن كذا» أو «قضى وحكم بكذا» في غير مورد فصل الخصومة ، والظاهر أنّه يرتبط بمقام الحكومة وبما أنّه حاكم بين المسلمين.

إذا عرفت ذلك فنقول : أنّه قد مرّ ما ذكره شيخ الشريعة في المقام من وحدة الروايات المنقولة من طرق الإماميّة في باب أقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكون الراوي في أكثرها عبارة عن عقبة بن خالد ، مثل : ما نقله أهل التسنّن عن عبادة بن صامت ، ولكن لم نلتزم بذلك لبعض الشواهد ، إلّا أنّ التعبيرات الموجودة في رواية عقبة بن خالد يتحقّق أكثرها في رواية عبادة بن صامت الجامع لأقضية الرسول ، وهذا يوجب الوثوق والاطمئنان لأن تكون رواية عبادة بن صامت مطابقة للواقع وإن لم تكن منقولة من طرق الإماميّة ، فإنّ

__________________

(١) كمال الدّين : ٣٣٧.

٧٠

تطابق مفادها وأكثر ألفاظها وتعبيراتها مع ما نقل عن عقبة بن خالد لا برواية واحدة ، ومع كون عبادة بن صامت إماميّا موثّقا يوجب الوثوق بذلك بيننا وبين وجداننا ، ونرى في رواية عبادة بن صامت استعمال كلمة «قضى» في مورد «لا ضرر» ، وقد عرفت ظهورها في مقام الحكومة والولاية إن لم تكن قرينة على الخلاف ، فالظاهر أنّه مع قطع النظر عن قضيّة سمرة بن جندب يرتبط بمقام الحكومة لا بمقام النبوّة.

وأمّا قضيّة سمرة بن جندب فلا بدّ من ملاحظة خصوصيّاتها ، ومن المعلوم أنّ مراجعة الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد النزاع والمكالمة مع سمرة بن جندب يكون بعنوان الاستمداد وإحقاق الحقّ عند الحاكم بما أنّه حاكم على المسلمين ، لا بعنوان الاستفهام والسؤال عن الحكم الشرعي.

وأمّا قوله : «إذا أردت الدخول فاستأذن» ومكالمته معه في مقام المساومة وامتناعه من الاستيذان والمعاملة الدنيويّة والاخرويّة ثمّ الأمر بالقلع ، فهو لكونه نبيّ الرحمة ومظهر رحمة الله تعالى وعطفه ، ولكنّ إباء سمرة صار مانعا عن شمولها له ، فالمراجعة مربوطة بمقام الحكومة ، ولا محالة يكون قوله : «لا ضرر ولا ضرار» مربوطا بهذا المقام ؛ فإنّ الأمر بالقلع لا شكّ في كونه حكما حكومتيّا وقوله : «لا ضرر» يكون بمنزلة التعليل له ، ومقتضى قاعدة السنخيّة أن يكون التعليل أيضا حكما حكومتيّا.

والإشكال على علّيّة قوله : «لا ضرر» لقوله : «اقلعها وارم بها إليه» أنّ القلع والرمي يدفع الضرر عن الأنصاري ، ولكن يتوجّه إلى سمرة بن جندب ، وهو لا يتناسب مع نفي جنس الضرر.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسالة لا ضرر في آخر المكاسب : إنّ

٧١

الاستدلال بقوله : «لا ضرر ولا ضرار» والاستفادة منه في المقام باق بحاله وإن لم يمكن لنا حلّ الإشكال فرضا.

ولكنّه ليس بصحيح ، فإنّ خروج مورد التعليل عن الحكم العامّ المعلّل أمر مستهجن.

وهذا يهدينا إلى الالتزام بالمعنى الذي كان قابلا للانطباق على مورد العلّة ، فإن كان «لا ضرر» حكما إلهيّا لا مجال لدفع الإشكال ؛ لعدم الفرق في الأحكام الإلهيّة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره وإن كان حكما حكومتيّا صادرا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما هو التحقيق ـ فلا معنى لشموله للحاكم بما أنّه حاكم ، فكما أنّ الأحكام الإلهيّة لا يتصوّر شمولها لله تعالى ، كذلك الأحكام الحكومتيّة لا يتصوّر شمولها للحكم الصادر عن الحاكم بهذا العنوان ، فالأمر بالقلع والرمي وإن كان ضررا على سمرة بن جندب ولكن لا يشمله عموم التعليل.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن الإشكال : أوّلا : بأنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» لا يكون علّة لقوله : «اقلعها وارم بها إليه» ، بل يكون علّة لقوله : «إذا أردت الدخول فاستأذن» ، وعلّة أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقلع والرمي أنّه بمقتضى الولاية العامّة على المسلمين ألغى قاعدة : «النّاس مسلّطون على أموالهم» ، وكأنّه قال : لا سلطنة له على ماله (١).

هذا ، ولكنّه خلاف الظاهر بعد فصل الجملات المتعدّدة بين القولين ، وكون المخاطب في الأوّل سمرة بن جندب ، وفي الثاني الأنصاري ، وذكر قوله : «لا ضرر» عقيب قوله : «اقلعها وارم بها إليه» ومتن الحديث : أنّه «فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله فشكى إليه ، فخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني : ١٤٢.

٧٢

وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله للأنصاري : اذهب واقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار».

مضافا إلى أنّ بعد قبول كون قوله : «اقلعها وارم بها إليه» حكما حكومتيّا لا دليل لعدم قوله : «لا ضرر ولا ضرار» كذلك ، بل هو أيضا حكم حكومتي ، فلا وجه للفرار عن هذا المعنى ، والالتزام بكونه حكما إلهيّا ثانويّا.

ومضافا إلى أنّ إلغاء ماليّة النخلة كان بمعنى جواز أنواع التصرّفات فيها من الأنصاري وسائر المسلمين كأنّه صارت النخلة بلا مالك ، مع أنّه ليس بصحيح ، فإنّ جواز التصرّف محدود بالقلع والرمي بها إليه من ناحية الأنصاري فقط ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه على فرض كونه علّة للقلع والرمي ، ولكنّه من الأحكام الإلهيّة الثانويّة الحاكمة على الأحكام الأوّليّة ، فكما أنّه حاكم على أدلّة وجوب الوضوء والغسل في مورد الضرر كذلك حاكم على قاعدة السلطنة ، ومقتضى حكومته عليها أنّه لا حقّ للمالك أن يمنع من التصرّف في المال في مورد الضرر ، فلا احترام لماله.

ثمّ قال : إن قلت : سلّمنا أنّ احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة ولكنّ القاعدة مركّبة من الأمرين : الإيجابي والسلبي ، الأمر الإيجابي : أنّه للمالك أن يتصرّف في ماله بما يشاء ، والأمر السلبي : أنّ له أن يمنع من تصرّف الغير فيه ، ومعلوم أنّ الضرر مربوط بالأمر الإيجابي ، فإنّ إطلاقه يشمل الدخول بدون الاستئذان ويستلزم الضرر ، ولا يرتبط بالأمر السلبي أصلا ؛ لعدم ارادة

٧٣

الأنصاري التصرّف في النخلة ، بل الضرر من ناحية كيفيّة تصرّف المالك ، والحال أنّ جواز تصرّف الأنصاري بالقلع والرمي معلّل بقوله : «لا ضرر» ، أي الأمر السلبي لا الأمر الإيجابي المستلزم للضرر.

ثمّ أجاب عنه بأنّ انحلال القاعدة إلى الأمرين الإيجابي والسلبي يكون بالتحليل العقلي ، ومع قطع النظر عنه لا تركيب فيها ، وحينئذ فيصحّ القول بحكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة وجعلها تعليلا للقلع والرمي ، إلّا أنّ مقتضى الدقّة والتأمّل أنّ الضرر والدخول بدون الاستئذان ناش من حقّ إبقاء النخلة في مكانها ومتفرّع عليه ، وسلب هذا الحقّ معلّل بقوله : «لا ضرر» ، والضرر مستند إلى علّة العلل ، وهو نظير تفرّع وجوب المقدّمة على ذيها ، فإذا كانت المقدّمة ضرريّة يكون نفي وجوبها بقوله : «لا ضرر» مستلزما لنفي وجوب ذيها ؛ لامتناع التفكيك بينهما عقلا مع حفظ المقدّميّة على القول بوجوب المقدّمة إلّا أن نقول بعدم المقدّميّة في حال الضرر.

ثمّ قال : يمكن أن يقال : إنّ اللزوم في المعاملة الغبنيّة متفرّع على الصحّة مع أنّ المنفى بقوله : «لا ضرر» هو اللزوم فقط لا الصحّة ، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه.

وأجاب عنه : أنّ مجرّد التفرّع لا يكفي للاستناد ، بل اللازم هو التفرّع مع العلّيّة بين المتفرّع والمتفرّع عليه ، مثل علّيّة حقّ الإبقاء لجواز الدخول بلا استيذان ، وعلّيّة وجوب ذي المقدّمة لوجوب المقدّمة ، ولا تتحقّق العلّيّة بين صحّة المعاملة ولزومها ، وإلّا يلزم عدم تحقّق المعاملة الجائزة أصلا ، وهو كما ترى ، فلا مانع من نفي حقّ الإبقاء بعنوان علّة العلل للضرر باستناد قوله : «لا ضرر ولا ضرار» (١). هذا تمام كلامه مع توضيح وتصرّف.

__________________

(١) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني : ١٤٣.

٧٤

ويرد عليه : أوّلا : أنّ جعل احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة ليس بصحيح ؛ لافتراقهما من حيث العنوان والمفهوم والدليل ، فإنّ الظاهر أنّ قاعدة السلطنة مستندة إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» في خطبة حجّة الوداع ، ومعناه : جواز تصرّف المالك في ماله بما يشاء ، وجواز منعه من تصرّف الغير فيه ، وأمّا قاعدة احترام مال المسلم فهي قاعدة مستقلّة ، موضوعها مال الغير بالنسبة إلى الأجنبي عنه ، وأنّ مال المسلم ذا حريم لا يجوز للغير التصرّف فيه ، فلا ترتبط بقاعدة السلطنة أصلا.

وثانيا : أنّ انحلال قاعدة السلطنة بالجزءين الإيجابي والسلبي انحلالا عقليّا ليس بتامّ ؛ إذ التحقيق أنّ القاعدة لا يكون لها جزءان ، بل كان لها متعلّقان : السلطنة على التصرّف في ماله بما يشاء وعلى منع الغير من التصرّف في ماله ، مثل السلطنة على الدار والدكّان ، فلا يتحقّق النوعان من السلطنة ، مضافا إلى أنّ منع الغير من التصرّف لا يكون أمرا سلبيّا وعدميّا ، بل هو أيضا أمر وجودي.

والإشكال النقضي عليه : أنّ لازم ذلك جريان هذا الحكم في الدار أيضا إذا كان طريقه من دار الغير وإباء صاحبها عن الاستئذان عند الدخول ، فإنّ الدخول بلا استئذان متفرّع على حقّ إبقاء هذه الدار في مكانها ، وتتحقّق العلّيّة والمعلوليّة بينهما ، فيجوز تخريب الدار بمقتضى الحكم الإلهي الساري في هذا المورد ، وهو قوله : «لا ضرر ولا ضرار» ، مع أنّه لم يلتزم به أحد.

والإشكال الأساسي : أنّ تفرّع حقّ الدخول على حقّ الإبقاء ليس بصحيح ؛ إذ يتحقّق لملكيّة النخلة سبب خاصّ ولحقّ الدخول سبب آخر ، فلذا يجوز هبة النخلة وبيعها بدون الطريق ، ولا بدّ للموهوب إليه والمشتري

٧٥

جلب رضاية صاحب الملك للدخول إليها ، وهذا بخلاف تفرّع وجوب المقدّمة على وجوب ذي المقدّمة ؛ لتحقّق الملازمة والعلّيّة بينهما ولا علّيّة بين حقّ الإبقاء وحقّ الدخول ، فلا يكون حقّ الإبقاء علّة العلل لجواز الدخول ، فلا بدّ من ملاحظة ما هو منشأ الضرر ، وهو الدخول بلا استئذان ، فلا يكون القلع والرمي معلّلا بقوله : «لا ضرر» فهذا البيان ليس بتامّ.

والتحقيق : أنّ الحكم بالقلع والرمي والحكم بنفي الضرر حكم حكومتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حاكم على قاعدة السلطنة ، فكان لسمرة بن جندب بملاحظة قاعدة السلطنة منع الرجل الأنصاري من التصرّف في النخلة ، ولكن بمقتضى الحكم الحكومتي منهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجوز للأنصاري التصرّف الخاصّ فيها ، وهو القلع والرمي بها إليه فقط.

لا يقال : إنّ هذا المعنى يوجب بقاء نفى وجوب الوضوء الضرري ـ مثلا ـ ونفي لزوم المعاملة الغبنيّة بلا وجه ولا دليل.

فإنّا نقول : إنّ الدليل الخاصّ والروايات الخاصّة ينفي الوجوب عن الوضوء الضرري والإجماع دليل على تحقّق خيار الغبن في المعاملة الغبنيّة وإن لم تكن قاعدة لا ضرر ، مضافا إلى عدم إمكان إثبات الخيار بقاعدة لا ضرر ؛ إذ هي تمنع من الضرر ومنع الضرر يتحقّق بإعطاء الغابن الأرش للمغبون ، مع أنّ المتحقّق في الخيار هو حقّ الفسخ ، وهو لا يثبت بالقاعدة فلا ينطبق الدليل على المدّعى ، وهكذا في خيار العيب لا نحتاج إلى القاعدة بعد تحقّق الروايات المتضافرة وعدم تعيّن الأرش ، بل التخيير بين الفسخ وأخذ الأرش ونحو وذلك.

ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا المعنى لقوله : «لا ضرر ولا ضرار» مخالف لفهم

٧٦

المشهور منه ، مع أنّه دليل وحجّة في الاستفادة من الروايات.

ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ الحجّة هو ظاهر الرواية بعد وضوح مداركها ، وما بأيدينا من كيفيّة استدلال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسب النقل المعتبر في قضيّة سمرة بن جندب ، مضافا إلى عدم اتّفاق المشهور في المعنى ، بل يتحقّق الاختلاف الشديد من كونه حكما إلهيّا أوّليّا ودلالته على النهي المولوي ، وأنّه لا يجوز أن يضرّ أحد أحدا ، وتأييده بالقول اللغوي كما التزم به شيخ الشريعة ، وكون المنفي هو الضرر الغير المتدارك ، وكون «لا» ناهية وناظرا إلى الأحكام الأوّلية في مقام الإخبار عن عدم تشريع الحكم الضرري بنحو الحقيقة أو الحقيقة الادّعائيّة أو المجاز ، كما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله.

فالتحقيق : أنّه حكم حكومتي ناظر إلى قاعدة السلطنة ، وأنّ الإضرار بالغير استنادا إلى قاعدة السلطنة في محيط الشرع ممنوع ، وهذا الحكم لا يختصّ بزمان خاصّ بل هو من الأحكام السارية في جميع الأعصار والأدوار إلى يوم القيامة ، ولذا نشاهد نقله في روايات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فالنهي عن إيقاع الضرر والضرار على الغير في مقابل قاعدة السلطنة باق إلى الأبد ، وأمّا القلع والرمي فهو حكم خاصّ لمخاطب خاصّ.

وأمّا النقض الذي أوردناه على المحقّق النائيني رحمه‌الله من عدم التزام أحد بهذا الحكم فيما إذا كان طريق الدار منحصرا بالدخول إلى دار الغير وعدم الاستئذان عند الدخول ، فلا يرد على هذا المعنى ؛ لأنّه بعد المنع عن الدخول بلا استئذان استنادا إلى قاعدة لا ضرر ، والامتناع من الاستئذان لا بدّ من مراجعة الحاكم العادل على القول بثبوت الولاية للفقيه ، وحينئذ لا مانع له أن يحكم بمقتضى المصلحة في مورد بتخريب الدار ، وفي مورد آخر ، بحكم آخر ،

٧٧

وهكذا ، فالحكم بالقلع والرمي لا يكون حكما دائميّا ، بل حكم شخصي تابع لنظر الحاكم وتشخيصه ، فهذا المعنى يكون ذات مزيّة وراجحا على سائر المعاني ، كما ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله (١).

__________________

(١) بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر : ١٠٥.

٧٨

تنبيهات قاعدة لا ضرر

ولا بدّ لنا من التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ قاعدة لا ضرر نهي مولوي صادر عن المقام الحكومي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضوع النهي هو الإضرار بالغير ، ولا يتعدّى هذا الحكم عن هذا العنوان إلى عنوان دفع الضرر عن الغير ؛ لاختلافهما عنوانا ومفهوما ، وإذا كان دفع الضرر مستلزما للإضرار بالغير ، فهل هو جائز أم لا؟

والتحقيق : أنّه لا بدّ من القول بالتفصيل هنا بين ما إذا انطبق عنوان الإضرار بنفس عنوان دفع الضرر ، فيشمله قوله : «لا ضرر» ، وبين إذا لم ينطبق بنفسه بل الإضرار مستند إلى أمر آخر ، فلا يشمله ذلك ، مثلا : دفع السيل المتوجّه إلى ملك شخص قد يكون بإيجاد المانع مقابل ملكه ، وقد يكون برفع المانع عن مقابل ملك الجار ، والإضرار بالغير في الأوّل مستند إلى السيل لا بدفع الضرر ، وفي الثاني مستند إلى نفس دفع الضرر ، فيجوز في الصورة الاولى دون الثانية.

الثاني : أنّ الإكراه المتناسب بالإضرار بالغير هل يوجب رفع حرمته بحديث الرفع أم لا؟ مع العلم بأنّ أقلّ مراتب الإكراه لا يكون مجوّزا لارتكاب أعظم المحرّمات.

٧٩

والتحقيق : أنّ حديث الرفع كما يرفع الحرمة من المحرّمات الإلهيّة كذلك يرفعها من المحرّمات النبويّة ، وإن قلنا بعدم شمول الحديث للأحكام النبويّة لا بدّ من إرجاعها إلى الأحكام الالهيّة ، وأنّ مخالفة أوامره ونواهيه بمقتضى قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(١) مخالفة الأحكام الإلهيّة ، فالإكراه بالإضرار بالغير يرجع إلى الإكراه بمخالفة أمر الله تعالى بإطاعة الرسول ، فلا يتحقّق استحقاق العقوبة على مخالفته.

الثالث : إذا كان تصرّف المالك في ملكه مستلزما للإضرار بالغير وترك التصرّف موجبا لتضرّر نفسه ـ كما إذا كان حفر البئر في مكان موجبا للإضرار بالجار ، وتركه موجبا لتضرّر نفسه ـ فلا مانع من تصرّفه في ملكه استنادا إلى دليلين :

الأوّل : انصراف قاعدة لا ضرر عن هذا المورد. الثاني : تعارض القاعدة الجارية بالنسبة إلى ترك تصرّف المالك مع القاعدة الجارية بالنسبة إلى تضرّر الجارّ وتصرّفه ، والرجوع إلى الدليل الآخر بعد تساقطهما مثل جريان الاستصحاب في الشكّ السببي والمسبّبي وتعارضهما ، إلّا أنّ الأصل في السبب مقدّم على الأصل في المسبّب بمقتضى القاعدة السببيّة ، وبعد سقوطهما يحكم بجواز تصرّف المالك بمقتضى قاعدة السلطنة.

ولكن يرد عليه أنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» قضيّة واحدة ، وإذا كان جريانه مستلزما للضرر فينفى بنفس قوله : «لا ضرر» ، وعليه يلزم أن تكون جملة واحدة حاكمة ومحكومة ، وهو كما ترى.

هذا بخلاف الشكّ السببي والمسبّبي فإنّ بعد جريان الأصل في السبب

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٨٠