الشيخ علي الغروي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: توحيد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6084-04-4
الصفحات: ٥٠٩
[٣٩٧] مسألة ٥ : الوسواسي يرجع في التطهير إلى المتعارف ، ولا يلزم أن يحصل له العلم بزوال النجاسة (١).
______________________________________________________
المثبتة ، فاللاّزم حينئذ هو استصحاب بقاء النجاسة مطلقاً سواء أكانت العين على تقدير وجودها حاجبة عن وصول الماء إلى المحل أم لم تكن.
وإن استند إلى السيرة بدعوى جريانها على عدم الاعتناء بالشك في وجود العين النجسة لدى الغسل ، كما ادعوا قيامها على ذلك في الشك في الحاجب في موردين : أحدهما : الطهارة الحدثية نظراً إلى أنهم يدخلون الحمامات والخزانات ويغتسلون ولا يعتنون باحتمال أن يكون على ظهرهم شيء مانع عن وصول الماء إلى بشرتهم كدم البق والبرغوث ونحوهما. وثانيهما : تطهير مخرج البول حيث لا يعتنون في تطهيره باحتمال أن يكون على المخرج لزوجة مانعة عن وصول الماء إليه.
ففيه : أن السيرة غير ثابتة في الموردين ، فان عدم اعتنائهم باحتمال وجود الحاجب مبني على اطمئنانهم بعدمه وبوصول الماء إلى البشرة كما هو الغالب ، أو أنهم لغفلتهم لا يشكون في وجود المانع أصلاً. ثم على تقدير تسليم السيرة في الموردين لا يمكننا تسليمها في الطهارة الخبثية إذ لم نحرز قيامها على عدم اعتنائهم بالشك في وجود عين الدم مثلاً في يدهم أو لباسهم عند تطهيرهما ، وعليه يجري استصحاب النجاسة حتى يعلم بارتفاعها بأن يصب عليه الماء بمقدار تزول به العين على تقدير وجودها.
(١) الوسواسي قد يشك في تطهير المتنجِّس على النحو المتعارف العادي كما إذا يبست النجاسة على المحل وصبّ الماء عليه مرّة أو مرّتين وشك في وصول الماء إليه وزوال العين عنه ، فإنّه شك عادي قد يعتري على غير الوسواسي أيضاً إذ النجاسة بعد يبوستها قد لا تزول بصبّ الماء عليها مرّتين ، وفي هذه الصورة يجري في حقِّه الاستصحاب وتشمله الأدلّة القائمة على اعتباره فلا يجوز له أن ينقض يقينه بالنجاسة بالشك في ارتفاعها.
وقد يشك فيه على نحو غير عادي بحيث لا يشك فيه غيره فيغسل المتنجِّس مرّة ثم يغسله ثانياً وثالثاً ورابعاً وهكذا ، ولا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في حقه
فصل في حكم الأواني
[٣٩٨] مسألة ١ : لا يجوز استعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين أو الميتة فيما يشترط فيه الطهارة من الأكل والشرب والوضوء والغسل (١) بل الأحوط (٢) عدم استعمالها في غير ما يشترط فيه الطهارة أيضاً.
______________________________________________________
لأن ما دلّ على حرمة نقض اليقين بالشك لا يشمل مثله لانصرافه إلى الشك العادي ومعه لا بدّ من أن يرجع في تطهيره إلى العادة المتعارفة بين الناس لأن شكه هذا غير عادي وهو من الشيطان أو أنه جنون كما ورد في صحيحة عبد الله بن سنان قال : « ذكرت لأبي عبد الله عليهالسلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان ، فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فإنّه يقول لك من عمل الشيطان » (١) وقد حكى ( مدّ ظله ) عن بعض مشايخه عن بعض المبتلين بالوسواس أنه كان يشك في جواز صلاة الصبح للشك في طلوع الفجر وعدمه وفي عين الوقت يشك في طلوع الشمس وقضاء صلاته.
فصل في أحكام الأواني
(١) لأنه بعد الفراغ عن نجاسة الميتة وجلد نجس العين لا إشكال في تنجس ما في تلك الظروف من المأكول والمشروب ولا يسوغ أكل المتنجِّس أو شربه أو التوضؤ والاغتسال به.
(٢) هذا الاحتياط وجوبي لعدم كونه مسبوقاً بالفتوى في المسألة فيناقض ما تقدم منه قدسسره في الكلام على نجاسة الميتة من جواز الانتفاع بها فيما لا يشترط فيه
__________________
(١) الوسائل ١ : ٦٣ / أبواب مقدمة العبادات ب ١٠ ح ١.
وكذا غير الظروف من جلدهما ، بل وكذا سائر الانتفاعات غير الاستعمال (١) فإن الأحوط ترك (*) جميع الانتفاعات منهما. وأما ميتة ما لا نفس له كالسمك ونحوه فحرمة استعمال جلده غير معلوم وإن كان أحوط (٢). وكذا لا يجوز استعمال
______________________________________________________
الطهارة ، وما أفاده قدسسره في تلك المسألة هو الصحيح لأن المنع عن استعمال الميتة والانتفاع بها وإن ورد في بعض الأخبار (٢) إلاّ أنه معارض بالأخبار المجوّزة ومعه لا بدّ من حمل المانعة على التصرّفات المتوقفة على الطهارة أو الكراهة وإن كان ترك الانتفاع بها هو الموافق للاحتياط.
(١) كتطعيمها للحيوانات وجعلها في المصيدة للاصطياد فان ذلك لا يعد استعمالاً للميتة أو الجلد.
(٢) التفصيل بين الميتة مما لا نفس له وبين ما له نفس سائلة إنما يتم فيما إذا استندنا في المنع عن الانتفاع بالميتة مما له نفس سائلة إلى مثل رواية الوشاء قال : « سألت أبا الحسن عليهالسلام فقلت إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها قال : هي حرام ، قلت فنستصبح بها؟ فقال : أما تعلم أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام » (٣) ورواية تحف العقول : « أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام ومحرم لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه فجميع تقلبه في ذلك حرام » (٤) لأنهما كما ترى تختصان بالميتة النجسة ولا تشملان الميتة الطاهرة كميتة ما لا نفس له.
إلاّ أنّا لا نعتمد على شيء منهما لما ذكرناه في محله ، وإنما نعتمد في المنع عن الانتفاع بالميتة على تقدير القول به على صحيحة علي بن أبي مغيرة قال : « قلت لأبي
__________________
(*) مرّ منه قدسسره تقوية جواز الانتفاع بهما وهو الأظهر.
(١) تقدّمت في شرح العروة ٢ : ٤٧٣.
(٢) الوسائل ٢٤ : ١٧٨ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٢ ح ١ ، ٢٤ : ٧١ / أبواب الذبائح ب ٣٠ ح ٢.
(٣) الوسائل ١٧ : ٨٣ / أبوا ما يكتسب به ب ٢ ح ١ ، تحف العقول : ٣٣٣.
الظروف المغصوبة مطلقاً (١) والوضوء والغسل منها مع العلم
______________________________________________________
عبد الله عليهالسلام الميتة ينتفع بها بشيء؟ قال : لا ... » (١) ونحوها من الأخبار ، وهي مطلقة تشمل الميتات النجسة والطاهرة. ودعوى انصرافها إلى النجسة مما لا ينبغي التفوّه به ، فعلى القول بحرمة الانتفاع بالميتة لا وجه للتفصيل بين الميتة النجسة والطاهرة. والذي يهوّن الأمر ما قدّمناه في التكلّم على أحكام الميتة (٢) من جواز الانتفاع بها مطلقاً نجسة كانت أم طاهرة لصحيحة البزنطي قال : « سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال : نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها » (٣) ونحوها ، لأنها صريحة الدلالة على جواز الانتفاع بالميتة النجسة فضلاً عن الميتات الطاهرة ، ومعه لا بدّ من حمل ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالميتة إما على حرمته فيما يشترط فيه الطهارة وإما على الكراهة جمعاً بين الأخبار.
وعلى الجملة لا يمكننا التفصيل بين الميتة النجسة والطاهرة قلنا بحرمة الانتفاع بها أم قلنا بالجواز.
(١) لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه فلا يسوغ التصرف في ماله إلاّ بطيبة نفسه كما في موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفس منه » (٤).
__________________
(١) الوسائل ٢٤ : ١٨٤ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٤ ح ١ ، ٣ : ٥٠٢ / أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٢.
(٢) شرح العروة ٢ : ٤٧٣ ٤٧٤.
(٣) الوسائل ١٧ : ٩٨ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ٦ ، ٢٤ : ٧٢ / أبواب الذبائح ب ٣٠ ح ٤.
(٤) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ ، ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣.
باطل (١) مع الانحصار ، بل مطلقاً (*). نعم لو صبّ الماء منها في ظرف مباح فتوضأ أو اغتسل صح ، وإن كان عاصياً من جهة تصرفه في المغصوب.
______________________________________________________
(١) ظاهر لفظة « منها » في كلام الماتن قدسسره أن مراده الوضوء أو الغسل منها بالاغتراف لا بالارتماس والدخول فيها كما في الأواني الكبيرة فإنّهما خارجان عن محط بحثه في المقام ، ولنتعرض لهما بعد بيان حكم التطهر بالاغتراف. والكلام في الوضوء والاغتسال منها بالاغتراف أي بأخذ الماء منها غرفة فغرفة يقع في موردين : أحدهما : ما إذا انحصر الماء بالماء الموجود في الأواني المغصوبة. وثانيهما : ما إذا لم ينحصر لوجود ماء آخر مباح.
أمّا المورد الأوّل : فلا إشكال ولا خلاف في أن المكلف يجوز أن يقتصر فيه بالتيمم بدلاً عن وضوئه أو غسله لأنه فاقد الماء ، لما بيّناه غير مرة من أن المراد بالفقدان ليس هو الفقدان الحقيقي ، وإنما المراد به عدم التمكن من استعماله وإن كان موجوداً عنده ، وهذا بقرينة ذكر المرضي في الآية المباركة في سياق المسافر وغيره ، إذ المريض يبعد عادة أن يكون فاقداً للماء حقيقة وإن كان المسافر يفتقده كثيراً ولا سيما في القفار ، وحيث إن المكلف لا يجوز أن يتوضأ من الإناء ولو بإفراغ مائه إلى إناء آخر ، لأنه تصرف منهي عنه في الشريعة المقدّسة والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً فهو غير متمكن من استعمال الماء في الوضوء والغسل وفاقد له ووظيفته التيمم حينئذ. وعلى الجملة لم يخالف أحد في جواز الاقتصار بالتيمم في مفروض المسألة ، وإنما الكلام فيما إذا أراد التوضؤ والاغتسال والتصرف في ماء الإناء باستعماله في أحدهما فهل يصحان وضعاً بعد ما كانا محرمين تكليفاً أو أنهما باطلان؟
قد يقال بصحّة الوضوء والغسل حينئذ ، نظراً إلى أنهما وإن لم يكونا مأموراً بهما بالفعل لحرمة ما يتوقفان عليه ، إلاّ أن الملاك موجود فيهما وهو كاف في الحكم بصحّة العمل وفي التمكّن من قصد التقرّب به.
__________________
(*) الحكم بالصحة مع عدم الانحصار بل مطلقاً هو الأظهر.
ويرد عليه ما قدّمناه في بحث الترتب من أن الطريق لاستكشاف الملاك منحصر بالأمر والتكليف ، ومع ارتفاعهما لعدم التمكن من الامتثال يحتاج دعوى الاستكشاف إلى علم الغيب (١).
ودعوى : أن الأمر بهما ظاهره وجود الملاك ، مدفوعة بأن سعة المنكشف تتبع سعة الكاشف وهو الأمر وهو إنما يكشف عن الملاك ما دام موجوداً ولم يرتفع ، وأما بعد ارتفاعه فلا كاشف ولا منكشف. هذا ما قدمناه هناك.
ونزيده في المقام أن المكلف مع العجز عن الماء مأمور بالتيمم كما عرفت وظاهر الأمر وإطلاقه التعيين ، وتعيّن التيمم حينئذ يدل على عدم الملاك في الوضوء أو الغسل. وهذا هو الذي ذكره شيخنا الأُستاذ قدسسره وإن قرره بتقريب آخر وحاصله : أن الأمر بالوضوء مقيد في الآية المباركة بالتمكن من استعمال الماء فاذا ارتفع التمكن ارتفع الأمر والملاك (٢). وبعبارة اخرى : إن الآية قسّمت المكلفين إلى واجد الماء وفاقده لأن التفصيل قاطع للشركة ، وقيد الأمر بالوضوء بالوجدان كما قيد الأمر بالتيمم بالفقدان فاذا انتفى القيد وهو وجدان الماء انتفى المقيد والمشروط ومع ارتفاع الأمر يرتفع الملاك لا محالة. هذا على أن مجرد الشك في الملاك يكفينا في الحكم بعدم جواز الاكتفاء بالوضوء لاستلزامه الشك في تحقق الامتثال بإتيان غير المأمور به بدلاً عن المأمور به ، ومع الشك في السقوط لا بدّ من إتيان التيمم لأنه مقتضى القاعدة تحصيلاً للقطع بالفراغ.
وهذه المسألة لا تُقاس بما إذا أمر المولى بشيء على تقدير التمكن منه وبشيء آخر على تقدير العجز عنه ، كما إذا أمر عبده بشراء التفاح مثلاً إن تمكن وإلاّ فبشراء شيء آخر ، أو قال إذا جاءك زيد فقدّم له تمراً فان لم تجد فماء بارداً ونحو ذلك من الأمثلة فإن مقتضى الفهم العرفي في أمثال ذلك أن الملاك في شراء التفاح أو تقديم التمر مطلق ولا يرتفع بالعجز عنه. والوجه في منع القياس أن إحراز بقاء الملاك في تلك الأمثلة
__________________
(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٧٠.
(٢) أجود التقريرات ١ : ٣١٦ ٣١٧.
العرفية وعدم ارتفاعه بالعجز عنه إنما هو من جهة العلم الخارجي بالبقاء ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية إذ لا علم ببقاء ملاكاتها بعد زوال القيود لاحتمال زوال الملاك في الوضوء بارتفاع التمكن من الماء.
ومن الغريب في المقام ما صدر عن بعضهم من دعوى أن الأمر بالوضوء مطلق ولا يشترط فيه الوجدان مستشهداً عليه بالإجماع المحكي على حرمة إراقة الماء بعد الوقت. والوجه في غرابته أن الأمر بالوضوء لمن لا يتمكن من استعمال الماء تكليف بما لا يطاق فلا مناص من تقييده بالوجدان ، ومن هنا لم يدّع أحد الإطلاق في وجوب الوضوء وإن ادعى بعضهم الإطلاق في الملاك إلاّ أنهما دعويان متغايرتان والأولى غير ممكنة والثانية أمر ممكن وإن كانت باطلة.
والاستشهاد على الدعوى المذكورة بالإجماع على حرمة إراقة الماء بعد الوقت أجنبي عما نحن فيه ، وذلك لأن الأمر بالوضوء مع التمكن من الماء بعد الوقت فعلي منجز ، وتعجيز النفس من امتثال الواجب الفعلي كالعصيان محرم حسبما يقتضيه الفهم العرفي في أمثال المقام ، لأن السيد إذا أمر عبده بإتيان الماء مثلاً على تقدير التمكن منه وإتيان شيء آخر على تقدير العجز عنه ، لم يجز له أن يفوت قدرته على المأمور به بأن يعجّز نفسه عن إتيان الماء في المثال حتى يدخل بذلك في من لا يتمكن من المأمور به ويترتب عليه وجوب الإتيان بالشيء الآخر ، وأين هذا مما نحن فيه ، فدعوى الإطلاق في الأمر بالوضوء مما لا تمكن المساعدة عليه والاستشهاد في غير محله ، هذا كله فيما إذا اشترطنا في القدرة المعتبرة في التكليف القدرة على مجموع الواجب المركب من الابتداء ، بأن يعتبر في مثل وجوب الوضوء أن يكون عند المكلف قبل الشروع في التوضؤ ماء بمقدار يكفي لغسل تمام أعضاء الوضوء ولنعبّر عنها بالقدرة الفعلية على المركب.
وأما إذا لم نعتبر ذلك ولم نقل باعتبار القدرة الفعلية على مجموع العمل قبل الشروع فيه ، واكتفينا بالقدرة التدريجية في الأمر بالواجب المركب ولو على نحو الشرط المتأخر ، بأن تكون القدرة على الأجزاء التالية شرطاً في وجوب الأجزاء السابقة
بحيث لو لم يتمكن من القيام والركوع وسائر الأجزاء الصلاتية سوى التكبيرة مثلاً لمرض ونحوه ولكنه علم بطروء التمكن منها شيئاً فشيئاً بعد ما كبر بحيث لو كبر لتمكن من القراءة والقيام ولو أتى بهما تمكن من غيرهما من أجزاء الصلاة ، لبرء مرضه أو حل شدّه لو كان مشدوداً مثلاً وجبت عليه الصلاة قائماً.
أو إذا لم يكن له من الماء إلاّ بمقدار يفي بغسل الوجه فحسب ، إلاّ أنه يعلم بنزول المطر وتمكنه من غسل بقية الأعضاء به بعد ما غسل وجهه وجب عليه الوضوء ، أو إذا كان عنده ثلج يذوب شيئاً فشيئاً ولا إناء عنده ليجمعه ولا يتمكن من الماء إلاّ بمقدار غرفة يسعها كفه وهو لا يفي إلاّ بغسل الوجه فحسب ولا يتمكن من غسل سائر الأعضاء بالفعل ، إلاّ أنه يتمكن من غسلها بعد ما غسل وجهه لتمكنه من الغرفة الثانية والثالثة بعد ذلك على التدريج.
أو أن الماء كان لغيره ولم يأذن له في التصرف إلاّ بمقدار غرفة ، ولكنه علم أن المالك يبدو له فيرضى بالغرفة الثانية والثالثة بعد ما غسل وجهه وجب عليه الوضوء في تلك الموارد ولا يسوغ التيمم في حقه لتمكنه من الماء متدرجاً ، وقد بيّنا كفاية القدرة التدريجية في الأمر بالمركب فلا بأس بالتوضؤ من الأواني المغصوبة لإمكان تصحيحه بالترتب ، حيث إن المكلف بعد ما ارتكب المحرم واغترف من الإناء يتمكن من الوضوء بمقدار غسل الوجه فحسب ، إلاّ أنه يعلم بطروء التمكن له من غسل بقية أعضائه لعلمه بأنه سيعصي ويغترف ثانياً وثالثاً وإن لم يتوضأ ولم يغتسل فعلى ذلك فهو متمكن من الوضوء بالتدريج فلا بد من الحكم بوجوبه ، إلاّ أنه بالترتب لترتب الأمر به على عصيانه ومخالفته النهي عن الغصب بالتصرف في الإناء ، لتوقف قدرته على الوضوء على معصيته بحيث إن طالت المعصية طالت القدرة وإن قصرت قصرت ، فهو وإن كان مأموراً بالتجنب عن التصرف فيه لأنه غصب محرم ويجب عليه التيمم لفقدانه الماء إلاّ أنه لو عصى النهي وجب الوضوء في حقه لصيرورته واجداً له بالعصيان.
ونظير ذلك ما إذا ابتلى المكلف بالنجاسة في المسجد لأن وجوب الصلاة في حقه
مترتِّب على عصيانه الأمر بالإزالة ، بل هو بعينه مما نحن فيه لوجوب الإزالة في جميع آنات الصلاة ، فالمكلف غير قادر عليها بوجه إلاّ أنه بعد الآن الأول من ترك الإزالة يتمكّن من تكبيرة الصلاة ، وهو في هذا الحال وإن لم يتمكن من بقية أجزاء الصلاة لوجوب الإزالة في حقه إلاّ أنه يعلم بتمكنه منها لعلمه بأنه يعصي الأمر بالإزالة في الآن الثاني أيضاً فيقدر على الجزء الثاني من الصلاة وفي الآن الثالث فيتمكن من الجزء الثالث وهكذا. وحيث إن الترتب على طبق القاعدة ولا يحتاج في وقوعه إلى دليل في كل مورد فلا مناص من الالتزام به في الوضوء أيضاً.
وأمّا ما عن شيخنا الأُستاذ قدسسره من أن الترتب يتوقف على أن يكون المهم واجداً للملاك مطلقاً حتى حال المزاحمة أعني حال وجود الأمر بالأهم ، وهو إنما يحرز فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في المهم عقلية ، وأما إذا كانت شرعية بأن أُخذت قيداً للمهم في لسان الدليل كما هو الحال في الوضوء فبانتفاء القدرة في ظرف الأمر بالأهم لا يبقى ملاك للأمر بالمهم لارتفاعه بارتفاع قيده وشرطه ومعه لا يجري فيه الترتب بوجه ، على ما أفاده قدسسره في التنبيه الذي عقده لذلك في بحث الأُصول (١).
فقد أجبنا عنه في محله بأن الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في المهم لأنه مما لا سبيل له سوى الأمر ومع سقوطه لا يبقى طريق لاستكشافه ، سواء أكانت القدرة المأخوذة فيه عقلية أم كانت شرعية ، لأن في كل منهما يحتمل زوال الملاك بالعجز (٢).
والمتلخص أن في هذه الصورة يمكن أن يصحح الغسل والوضوء بالترتب هذا كله في صورة الانحصار.
وأمّا المورد الثاني : أعني صورة عدم الانحصار : فالاغتراف من الأواني المغصوبة وإن كان عصياناً محرماً إلاّ أن الوضوء أو الغسل الواقع بعده صحيح لا محالة ، وذلك لبقاء الأمر بالوضوء في حقه إذ المفروض تمكنه من الماء في غير الأواني المغصوبة ، وما يأخذه من الإناء المغصوب أيضاً مباح بعد الاغتراف لأنه ملكه وإن كان في إناء
__________________
(١) فوائد الأُصول ١ : ٣٦٧ التنبيه الأول.
(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٩٥.
مغصوب ولا فرق بينه وبين الماء الموجود في غيره بحيث لو توضأ أو اغتسل منه لصح وإن ارتكب أمراً محرماً.
نعم ، لو قلنا إن ما يأخذه من الأواني المغصوبة وإن كان ملكاً له إلاّ أن الوضوء به تصرف في الإناء ، لأن التصرف في الأواني ليس إلاّ بأخذ الماء منها وصرفه في الأكل والشرب والصب والوضوء وغيرها ، وعليه فالوضوء أو الغسل في أنفسهما معدودان من التصرف في الأواني المغصوبة بمعنى أن الوضوء بالماء المأخوذ من الإناء المغصوب بنفسه مصداق للغصب والتصرّف الحرام وكذلك الحال في الاغتسال به ، فهما باطلان إذ لا معنى للتقرّب بما هو مبغوض في نفسه ، ولو تمت هذه الدعوى لم يكن فرق بين صورتي الانحصار وعدمه لأنّ الوضوء في كليهما تصرّف حرام والتقرّب بالمبغوض أمر لا معنى له فلا مناص من الحكم ببطلانه.
ولعلّ الماتن وغيره ممن حكم بالبطلان في كلتا الصورتين قد نظروا إلى ذلك ، هذا.
ولكن دعوى أن التصرّفات الواقعة بعد أخذ الماء تصرف في نفس الإناء دون إثباتها خرط القتاد ولا يمكن تتميمها بدليل ، لأن التصرف في الإناء بحسب الفهم العرفي إنما هو الاغتراف وأخذ الماء منه ، وأما سقيه بعد ذلك للحيوان أو صبّه على الأرض أو شربه فكل ذلك تصرفات خارجية إنما تقع في ملكه وهو الماء ولا يقع شيء من ذلك في الإناء ، فهل يقال إن سقي الحيوان بالماء الموجود في الكف تصرف في الإناء.
نعم ، يحرم الأكل في أواني الذهب والفضة وفي الأواني المغصوبة إلاّ أنها ليست مستندة إلى أن الأكل تصرّف في الأواني وإنما هي من جهة الدليل الذي دلّ على حرمة الأكل في الأواني المذكورة ، فإن الأكل في الإناء بطبعه يقتضي أخذ الطعام أو غيره منه ووضعه في الفم ، ولم يرد دليل على حرمة التوضؤ من الأواني المغصوبة حتى نلتزم بحرمة نفس التوضؤ بعد أخذ الماء منها ، وإنما قلنا بحرمة الوضوء منها من أجل أنه تصرف في مال الغير من غير رضاه ، وهو يختص بالأخذ والاغتراف دون التوضؤ أو الاغتسال أو غيرهما من التصرّفات ، هذا كله فيما إذا كان التوضؤ بالاغتراف.
وأمّا لو أخذ الماء من الإناء المغصوب دفعة واحدة بمقدار يفي بالوضوء كما إذا فرغ ماءه في إناء آخر ثم توضأ أو اغتسل به صحّ وضوءه أو غسله لأنه ماء مباح وإن ارتكب معصية بأخذ الماء منها ، ولا فرق في ذلك بين صورتي الانحصار وعدمه.
وأمّا لو توضّأ منها بالارتماس كما إذا أدخل يده فيها مرّة أو مرّتين فالظاهر البطلان ، لأنّ إدخال اليد في الإناء للوضوء أو لغيره تصرف فيه عرفاً بلا فرق في ذلك بين استلزامه تموج الماء على السطح الداخل للإناء كما هو الغالب أو الدائم وبين عدم استلزامه على فرض غير محقّق وذلك لصدق التصرف على الارتماس وإن لم يستلزم التموج في الماء. ومع فرض كون الوضوء تصرّفاً محرّماً لا يمكن التقرّب به ولا يكفي في الامتثال ، لأن الحرام لا يكون مصداقاً للواجب.
بقي شيء لا بأس بالإشارة إليه ، وهو أن المالك لو أذن له في الإفراغ فحسب فهل يصح التوضؤ منها بالاغتراف أو لا يصح؟
بناء على بطلانه على تقدير عدم الاذن في الإفراغ الظاهر عدم صحّة الوضوء وهذا لا لأن وجوب المقدمة مشروط بقصد التوصل بها إلى ذيها حتى يجاب بأن المقدمة بناء على وجوبها واجبة في ذاتها وإن لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ، بل من جهة أن الترخص في الإفراغ قد يراد به جواز الإفراغ ولو في بعض الإناء بأن يفرغ بعض الماء دون بعض ، ولا إشكال حينئذ في صحة الوضوء منه بالاغتراف لأنه إفراغ لبعض مائة ، إلاّ أن هذه الصورة خارجة عن مورد الكلام. وقد يراد به جعل الإناء خالياً من الماء كما هو معنى الإفراغ وحينئذ لو توضأ منه بالاغتراف بطل وضوءه لأنه إفراغ لبعض مائه لعدم صيرورة الإناء خالياً بذلك عن الماء فالوضوء منه بالاغتراف مما لم يأذن به المالك فيبطل.
وعلى الجملة مورد الاذن إنما هو الإفراغ فيسوغ جعل الإناء خالياً عن الماء دفعة واحدة أو متدرجاً بأن يفرغ بعض مائه مشروطاً بانضمامه إلى إفراغ البعض الآخر وأما الإفراغ لا بشرط أو بشرط لا فهما خارجان عن مورد الاذن والترخيص ، وبما أن الاغتراف للوضوء تخلية لبعض الإناء عن الماء بشرط لا فهو خارج عن مورد الإذن المالكي ، اللهمّ إلاّ أن نصححه بالترتب كما تقدم في الصورة السابقة.
[٣٩٩] مسألة ٢ : أواني المشركين وسائر الكفار محكومة بالطهارة ما لم يعلم ملاقاتهم لها مع الرطوبة المسرية (١).
______________________________________________________
(١) وذلك لأحد أمرين :
أحدهما : استصحاب طهارتها فيما لو شككنا في أصل تنجسها مع العلم بطهارتها السابقة ، لعموم التعليل الوارد في صحيحة ابن سنان قال : « سأل أبي أبا عبد الله عليهالسلام وأنا حاضر إني أُعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده عليَّ فأغسله قبل أن أُصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه » (١) فان قوله : « أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه » يدل على جريان الاستصحاب في مورد الصحيحة وهو إنما يتقوّم باليقين السابق والشك اللاّحق ، وهذا يجري في أواني الكفّار أيضاً إذ لا خصوصية للثوب والإعارة جزماً ولا سيما في الطهارة التي هي مورد الصحيحة ، وحيث إنّا ندري بطهارة أوانيهم أولاً ونشك في تنجسها عندهم فلا بد من البناء على طهارتها بالاستصحاب ، بل يجري استصحاب الطهارة في كل ما نشك في تنجسه مما عندهم إذ لا خصوصية للأواني في ذلك.
وثانيهما : قاعدة الطهارة فيما لو علمنا بطروء حالتين متضادتين على أواني الكفار كما إذا علمنا بنجاستها في زمان وطهارتها في وقت آخر وشككنا في السبق واللحوق كما هو الغالب فيها لأنها تتنجس وتطهر هذا ، نعم ورد في جملة من الروايات النهي عن الأكل في أواني أهل الكتاب (٢) وقد ورد في بعضها الأمر بغسل آنيتهم (٣) وهو إرشاد إلى نجاستها.
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٥٢١ / أبواب النجاسات ب ٧٤ ح ١.
(٢) الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤.
(٣) كما في صحيحة زرارة وروايته المرويتين في الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ٢ ، ٨.
ومن هنا قد يتوهّم أن المقام من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، لأن مقتضى الاستصحاب أو قاعدة الطهارة وإن كان طهارة آنيتهم إلاّ أن الظاهر لما اقتضى نجاستها لنجاسة أيديهم وطعامهم قدّمه الشارع على مقتضى الأصلين حسبما دلت عليه الأخبار الواردة في المقام. نعم لا بدّ من إخراج صورة العلم بطهارتها كما إذا أخذها الكافر من المسلم ثم استردها المسلم من غير فصل إذ لا يمكن الحكم بنجاستها مع العلم ببقائها على طهارتها ، وأما صورة الشك في الطهارة فهي باقية تحت المطلقات.
ولكن التوهّم غير تام وذلك لأن في بعض الروايات قيدت الأواني بما شرب فيه الخمر أو ما أكل فيه الميتة أو لحم الخنزير كما في صحيحتي محمد بن مسلم (١) والثانية منهما أصرح في التقييد لمكان « إذا » الشرطية ، وبذلك تقيد المطلقات الواردة في المقام ولا يلتزم بالنجاسة إلاّ فيما يشرب فيه الخمر أو يؤكل فيه شيء من النجاسات. وإذا شككنا في إناء من آنيتهم في أنه مما يؤكل فيه الميتة أو يشرب فيه الخمر مثلاً فهو شبهة مصداقية لا يمكن التمسك فيها بالمطلقات ، فلا مناص من الرجوع إلى استصحاب طهارتها أو إلى قاعدة الطهارة.
تتميم : لا يخفى أن الأخبار الواردة في أواني أهل الكتاب على طوائف ثلاث :
منها : ما دلّ على المنع من الأكل أو الشرب في آنيتهم من غير تقييدها بشيء (٢) وهو في نفسه يكشف عن نجاسة أهل الكتاب بعد العلم بأن مجرد تملك الكتابي للإناء لا يقتضي نجاسته وإنما يتنجّس الإناء باستعماله.
ومنها : ما دلّ على المنع عن الأكل في آنيتهم التي يأكلون فيها الميتة أو يشربون فيها الخمر (٣) وهذا يدلّنا على أن نجاسة آنية أهل الكتاب عرضية ناشئة من ملاقاتها
__________________
(١) الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ٣ ، ٦.
(٢) كما في صحيحة زرارة وصدر صحيحة محمد بن مسلم المرويتين في الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ٢ ، ٣.
(٣) كما في ذيل صحيحة محمد بن مسلم وصحيحته الأُخرى المرويتين في الوسائل ٢٤ : ٢١٠ /
بشرط أن لا تكون من الجلود ، وإلاّ فمحكومة بالنجاسة إلاّ إذا علم تذكية حيوانها ، أو علم سبق يد مسلم عليها (١) وكذا غير الجلود وغير الظروف ممّا في أيديهم ، مما يحتاج إلى التذكية كاللّحم والشّحم والألية ، فإنّها محكومة
______________________________________________________
للخمر أو الميتة أو غيرهما من النجاسات كما يدل على طهارة الكتابي بالذات.
ومنها : طائفة ثالثة دلت على أن النهي عن الأكل في آنيتهم نهي تنزيهي (١) ولو كنّا نحن وهذه الروايات لحملنا الأخبار المانعة على التنزه وقلنا بطهارتهم ، جمعاً بين ما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وما دلّ على طهارتهم ، وإنما لا نلتزم بذلك للشهرة العظيمة القائمة على نجاسة أهل الكتاب وارتكازها في أذهان المسلمين.
وكيف كان فالأخبار الواردة في المقام سواء دلت على طهارتهم أم دلت على نجاسة آنيتهم وأنفسهم لا نظر لها إلى بيان الحكم الظاهري والوظيفة الفعلية حال الشك في طهارتها ونجاستها ، فإنّها لو دلت فإنّما تدل على الحكم الواقعي وأنه الطهارة أو النجاسة ، وعليه فعند الشك في طهارة آنيتهم لا بدّ من الرجوع إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها لحكومة أدلة الأُصول على أدلة الأحكام الواقعية ، هذا كله فيما بأيديهم غير الجلود واللحوم والشحوم.
(١) اللحوم والجلود وغيرهما مما يحتاج إلى التذكية لا يجوز أكلها ولا الصلاة فيها إذا كانت بأيدي غير المسلمين لاستصحاب عدم التذكية ، وأما الحكم بنجاستها فقد ذكرنا غير مرة من أن النجاسة لم تترتب في أدلتها على عنوان ما لم يذكّ وإنما ترتبت على عنوان الميتة ، وأصالة عدم التذكية لا تثبت كونها ميتة بوجه وإن حرم أكلها ولم تصح فيها الصلاة ، اللهمّ إلاّ أن تكون هناك أمارة على التذكية من يد المسلم أو غيرها.
__________________
أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ٣ ، ٦.
(١) كما في صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل ٢٤ : ٢١٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٤ ح ٤.
بالنجاسة (*) (١) إلاّ مع العلم بالتذكية أو سبق يد المسلم عليه. وأما ما لا يحتاج إلى التذكية فمحكوم بالطهارة إلاّ مع العلم بالنجاسة ، ولا يكفي الظن (٢) بملاقاتهم لها مع الرطوبة ، والمشكوك في كونه من جلد الحيوان أو من شحمه أو أليته (٣) محكوم بعدم كونه منه ، فيحكم عليه بالطهارة وإن أُخذ من الكافر.
[٤٠٠] مسألة ٣ : يجوز استعمال أواني الخمر بعد غسلها (٤) وإن كانت من الخشب أو القرع أو الخزف غير المطلي بالقير أو نحوه (٥) ولا يضر نجاسة باطنها
______________________________________________________
(١) قد عرفت الكلام في نجاستها.
(٢) لعدم حجية الظن شرعاً.
(٣) كما إذا شككنا في شيء أنه من اللاستيك المتداوَل في عصرِنا أو من الجلود وقد فرّع الماتن الحكم بطهارته على الحكم بعدم كون المشكوك فيه من الحيوان ، ويظهر من تفريعه هذا أنه قدسسره يرى جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية كما اخترناه وتقريب ذلك : أن إضافة الجلد أو اللحم أو غيرهما إلى الحيوان أمر حادث مسبوق بالعدم ولا ندري تحققها حال حدوثهما والأصل عدم تحقق إضافتها إلى الحيوان حينئذ ، وهذا بناء على جريان الأصل في الأعدام الأزالية مما لا غبار عليه وأما إذا منعنا عن ذلك فلا مناص من الحكم على المشكوك فيه أيضاً بالطهارة والحلية لقاعدة الطهارة وأصالة الحل.
(٤) لأنها كسائر الأواني المتنجسة قابلة للطهارة بالغسل لإطلاق ما دلّ على غسل الإناء ثلاث مرات أو أكثر (٢).
(٥) قد يقال بالمنع من استعمال ما ينفذ فيه الخمر غسل أو لم يغسل ، ويستدل على ذلك بأن للخمر حدة ونفوذاً فاذا لم تكن الآنية صلبة نفذت في أعماقها من غير أن يصل إليها الماء حال تطهيرها وبذلك تبقى على نجاستها.
__________________
(*) فيه وفي الحكم بنجاسة الجلود مع الشك في وقوع التذكية على حيوانها إشكال بل منع ، وقد تقدم التفصيل في بحث نجاسة الميتة.
(١) الوسائل ٣ : ٤٩٦ / أبواب النجاسات ب ٥٣ ح ١.
بعد تطهير ظاهرها داخلاً وخارجاً ، بل داخلاً فقط. نعم يكره استعمال ما نفذ الخمر إلى باطنه إلاّ إذا غسل على وجه يطهر باطنه أيضاً.
______________________________________________________
ويرد على ذلك أولاً : أن هذا لا اختصاص له بأواني الخمر بوجه ، لأنه لو تمّ لعمّ الأواني الملاقية للبول والماء المتنجِّس وغيرهما من المائعات النجسة أو المتنجسة لأنها أيضاً تنفذ في أعماقها ولا يصلها الماء حال تطهيرها.
وثانياً : قدّمنا في البحث عن المطهرات أن أواني الخمر قابلة للطهارة حتى أعماقها بجعلها في الكر أو الجاري إلى أن ينفذ الماء في جوفها.
وثالثاً : أن نجاسة باطنها وعدم قبوله التطهير لو سلم لا يمنعان عن الحكم بطهارة ظاهرها بغسله ، فلو غسلنا ظاهرها من الداخل حكم بطهارته وإن كان باطنها نجساً ، هذا ولكن المعروف بينهم كراهة استعمال ما نفذ فيه الخمر كما أشار إليه الماتن بقوله : نعم يكره ....
وبصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : « سألته عن نبيذ قد سكن غليانه إلى أن قال ـ : وسألته عن الظروف؟ فقال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الدباء والمزفت ، وزدتم أنتم الحنتم يعني الغضار والمزفت يعني الزفت الذي يكون في الزق ويصب في الخوابي ليكون أجود للخمر ، قال : وسألته عن الجرار الخضر والرصاص؟ فقال : لا بأس بها » (١) والدباء هو الظروف المصطنعة من القرع ، والمزفت من الأوعية هو الإناء الذي طلي بالزفت وهو القير والحنتم هي الجرار الصلبة المصنوعة من الخزف وقد يعبّر عنها بالجرار الخضر (٢) وفي بعض العبائر « الحتم » وهو غلط. والوجه في نفيه عليهالسلام البأس عن الجرار
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٤٩٥ / أبواب النجاسات ب ٥٢ ح ١.
(٢) وأما الرصاص فلم نعثر على تفسيره فيما يحضرنا بالفعل من كتب الحديث واللغة ، ولعل المراد به هو الحنتم ، وإنما أُطلق عليه لاستحكامه وتداخل أجزائه ومنه قوله عزّ من قائل ( كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) الصف ٦١ : ٤.
الخضر والرصاص أعني الحنتم هو عدم كونه منهياً عنه في كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنما زيد من قبلهم لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : وزدتم أنتم الحنتم.
وهذه الرواية وإن كانت صحيحة سنداً إلاّ أنها غير تامة الدلالة على المراد ، وذلك لأن المزفت بل الدباء مما لا يصل الماء إلى جوفه فأين هذا من الأواني التي تنفذ الخمر في باطنها ، ولعل النهي عن استعمال تلك الظروف مستند إلى ملاك آخر غير كونها ظروف خمر ، ككونها موجبة لبعض الأمراض أو غير ذلك من الملاكات. على أنها معارضة بما دلّ على طهارة ظروف الخمر بالغسل كما قدّمناه في محلِّه (١).
ورواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كل مسكر فكل مسكر حرام قلت : فالظروف التي يصنع فيها منه؟ قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير ، قلت : وما ذلك؟ قال : الدباء : القرع ، والمزفت : الدنان ، والحنتم : جرار خضر ، والنقير : خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها » (٢) وهذه الرواية مضافاً إلى قصورها سنداً لعدم توثيق أبي الربيع وإن لم يبعد تشيّعه لا دلالة لها على المدعى لأن الأواني المذكورة فيها ليست مما تنفذ الخمر في أعماقه لصلابتها. على أنها تنافي الصحيحة المتقدِّمة لأنها نفت البأس عن الحنتم كما عرفت ، كما أنها تعارض الأخبار الدالّة على طهارة ظروف الخمر كغيرها بالغسل.
فالمتحصل أن الروايتين لا دلالة لهما على المنع عن استعمال أواني الخمر غير الصلبة تحريماً ولا كراهة ، وعلى تقدير التنازل نلتزم بالكراهة في مورد الروايتين ولا يمكننا التعدي عنه إلى بقية الظروف ، أو نلتزم باستحباب الترك في مورد الرواية بناء على القول بالتسامح في أدلة السنن. نعم لا مانع من الاحتياط بالترك في أواني الخمر مطلقاً خروجاً عن شبهة الخلاف.
__________________
(١) في ص ٤٨.
(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٦ / أبواب النجاسات ب ٥٢ ح ٢.
[٤٠١] مسألة ٤ : يحرم استعمال (*) أواني الذّهب والفضّة في الأكل والشرب (١)
______________________________________________________
(١) المعروف بل المتسالم عليه بين الأصحاب حرمة استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ، وحكي عن الشيخ في الخلاف القول بكراهته (٢) وقد حملوا الكراهة في كلامه على الحرمة بقرينة دعواهم الإجماع على حرمته وتصريحه بالتحريم في محكي زكاة الخلاف (٣) ولعله إنما عبّر بالكراهة تبعاً لبعض النصوص. وقد وردت حرمته في رواياتنا وروايات المخالفين ففي الحدائق (٤) أن الجمهور رووا عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : « لا تشربوا في آنية الذهب والفضّة ولا تأكلوا في صحافها فإنّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » وعن علي عليهالسلام : « الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ». وفي تعليقته أن الرواية الأخيرة أعني الرواية عن علي عليهالسلام لم توجد في طرقهم.
وأما الأخبار الواردة من طرقنا في الأواني والآلات المتخذة من الذهب والفضة فهي من الكثرة بمكان ، وقد جمعها صاحب الحدائق قدسسره ونقلها في الوسائل في أبواب مختلفة وهي في الأواني على طوائف ثلاث :
الاولى : ما اشتملت على النهي عن استعمالهما في الأكل والشرب كمصحّحة محمّد ابن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « لا تأكل في آنية ذهب ولا فضّة » (٥) وصحيحته المرويّة في المحاسن عن أبي جعفر عليهالسلام « أنه نهى عن آنية الذهب والفضّة » (٦) وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « لا تأكل في آنية من فضّة ولا في آنية مفضّضة » (٧) وغير ذلك من الأخبار.
__________________
(*) الحكم بالحرمة في غير الأكل والشرب مبني على الاحتياط.
(١) الخلاف ١ : ٦٩ المسألة ١٥.
(٢) الخلاف ٢ : ٩٠ المسألة ١٠٤.
(٣) الحدائق ٥ : ٥٠٤ ٥٠٧.
(٤) الوسائل ٣ : ٥٠٨ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ٧.
(٥) الوسائل ٣ : ٥٠٦ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ٣.
(٦) الوسائل ٣ : ٥٠٩ / أبواب النجاسات ب ٦٦ ح ١.
الثانية : الأخبار المشتملة على الكراهة كصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن آنية الذّهب والفضّة فكرههما .. » (١) وموثقة بريد عن أبي عبد الله عليهالسلام « أنه كره الشرب في الفضّة وفي القدح المفضّض » (٢) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام « أنه كره آنية الذهب والفضّة والآنية المفضّضة » (٣) وقد ذكروا أن الكراهة في تلك الطائفة بمعنى المرجوحية المطلقة لا المعنى المصطلح عليه ، فلا تنافي الطائفة الدالّة على حرمة استعمالهما في الأكل أو الشرب لأن الحرمة تجتمع مع المرجوحية المطلقة ، هذا.
ولكن الصحيح أن تلك الطائفة أيضاً تدل على الحرمة مع قطع النظر عن الطائفة المتقدِّمة ، وذلك لأن الكراهة التي هي في قبال الأحكام الأربعة اصطلاح مستحدث وأما بحسب اللّغة فهي بمعنى المبغوضية لأن معنى كرهه : ضد أحبه ، أي أبغضه. وعلى ذلك فالكراهة تدل على الحرمة ما دام لم تقم قرينة على خلافها ، إذ الدليل قد يدل على الحرمة نفسها وقد يدل على الحرمة بالدلالة على منشئها الذي هو البغض.
هذا ، وقد استعملت الكراهة بمعنى الحرمة في بعض الأخبار أيضاً فليراجع (٤) ويؤيد ما ذكرناه صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : « سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟ قال : نعم ، إنما يكره استعمال ما يشرب به ... » (٥) إذ الكراهة في قوله عليهالسلام إنما يكره بمعنى الحرمة ، وذلك
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٥٠٥ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ١.
(٢) الوسائل ٣ : ٥٠٩ / أبواب النجاسات ب ٦٦ ح ٢.
(٣) الوسائل ٣ : ٥٠٨ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ١٠.
(٤) كما في رواية سيف التمار قال : « قلت لأبي بصير : أُحب أن تسأل أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل استبدل قوصرتين فيهما بسر مطبوخ بقوصرة فيها تمر مشقق قال : فسأله أبو بصير عن ذلك ، فقال عليهالسلام هذا مكروه ، فقال أبو بصير : ولِمَ يكره؟ فقال : إن علي بن أبي طالب عليهالسلام كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر ، لأن تمر المدينة أدونهما ولم يكن علي عليهالسلام يكره الحلال » الوسائل ١٨ : ١٥١ / أبواب الربا ب ١٥ ح ١.
(٥) الوسائل ٣ : ٥١١ / أبواب النجاسات ب ٦٧ ح ٥.
لأن معنى تلك الجملة حسبما يقتضيه الفهم العرفي أنه لا يصلح استعمال أواني الفضة لأن مقابل يصلح هو لا يصلح ، فكأنه عليهالسلام قال : لا بأس بالتصرف في المرآة التي فيها حلقة من فضة وإنما المحرم ما إذا كانت الآنية فضة ، هذا على أن الكراهة في الإناء لو كانت بمعنى الكراهة المصطلح عليها كما في المشطة والمدهن ونحوهما لم يتم الحصر في قوله : « إنما يكره » لثبوت الكراهة في غير الآنية أيضاً. وعليه فالصحيحة تدلنا على أن المراد بالكراهة المنحصرة في الإناء هو الحرمة.
والطائفة الثالثة : ما اشتمل على كلمة « لا ينبغي » كموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة » (١).
قالوا إن لفظة لا ينبغي غير مستعملة في الأُمور المحرمة على ما هو الشائع المتعارف من استعمالاتها ، وإنما يستعمل في الأُمور غير المناسبة فهي على هذا تؤول إلى الكراهة ، بل ربما تؤخذ هذه الموثقة قرينة على التصرف في الأخبار الناهية المتقدِّمة وحملها على الكراهة لولا الإجماع.
ولا يمكن المساعدة على شيء من ذلك لأن « الانبغاء » في اللغة بمعنى التيسّر والتسهّل ، فمعنى لا ينبغي الشرب : أنه لا يتيسّر ولا يتسهّل ولا يمكن للمكلّفين وحيث إن الأكل والشرب من أواني الذهب والفضة أمر ميسور لهم فلا يكاد يحتمل أن يراد منها في الرواية معناها الحقيقي الخارجي ، فلا مناص من أن يراد بها في المقام عدم كون الأكل والشرب منهما ميسراً لهم في حكم الشارع ، وهذا لا يتحقق إلاّ في المحرّمات.
ويؤيِّد ذلك أن كلمة « لا ينبغي » قد استعملت في غير موضع من الكتاب العزيز بمعناها اللغوي كما في قوله عزّ من قائل ( قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) (٢) وقوله ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) (٣) وقوله :
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٥٠٧ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ٥.
(٢) الفرقان ٢٥ : ١٨.
(٣) يس ٣٦ : ٤٠.