الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٨

هنا وهناك (عَلى رَبِّكَ وَعْداً) حيث كتب على نفسه الرحمة «مسئولا» أن لو لم يقع لأهله ، كان آهلا للسؤال : رب قد وعدتني وها أنا عبدك التقي كما أمرتني! ام «مسئولا» بما سأله عباده الصالحون فأجابهم : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) كما وسأله لهم الملائكة : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهو القائل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) حيث وعد الاستجابة لصالح الدعاء ، فقد دعوا فليستجب ، وكما كتب على نفسه الرحمة.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً)(١٨).

وهل (ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعم كافة المعبودين من أصنام وطواغيت ، أو الصالحين من ملائكة ونبيين؟ والطواغيت هم الدعاة إلى أنفسهم ، فكيف يسمح لهم ذلك الكذب في اليوم الذي لا يسمح لأي كذب! : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٧٧ : ٣٥).

والأصنام الجامدة لا قيلة لها حتى تقول قولتها ، فيبقى ـ حينئذ ـ الصالحون (قالُوا سُبْحانَكَ) أن ندعي من دونك الوهة ، أم نقبل أن نعبد من دونك ، ف (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ) نحن (مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) نعبدهم ، فكيف نتخذ أنفسنا أولياء نعبد من دونك؟

إذا فلما ذا التعبير عن أصلح الصالحين العقلاء ب «ما»؟ علّه إخراجا لهم عن أية مكانة حتى العقل ، فضلا عن كونهم معبودين ، إظهارا لواقع حالهم في ذواتهم لولا رحمة من الله.

أم ان الله يستنطق الأصنام فتقول ما هي في كيانها وطبيعتها ، ف (إِنْ

٢٨١

مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ...) وأما الطواغيت فلا سبيل إلى قولتها هذه الكذب في يوم الصدق.

(ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) وإنما هم ضل السبيل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥ : ١١٧).

(ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ... وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) متع الحياة الدنيا وزهرتها ، فالتهوا بها (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) المذكور في فطرهم ، والمعقول بعقولهم ، والجائي به رسلهم ، نسوه نسيان التغافل التناسي «وكانوا» قبله وبعده (قَوْماً بُوراً) هلكى عن إنسانيتهم ، مسامحين عما فطروا عليه وعقلوه وأرسل به إليهم ، إذا فهم في بور كما كانوا في الأولى بورا.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(١٩).

فيا ويلاه أن المعبودين من دون الله يكذبوا عبدتهم في يوم الله (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) لهم عما يكذّبون (وَلا نَصْراً) لأنفسهم عليهم وعلى العذاب المحدق بهم (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) في الأولى شركا وهو الظلم الكبير «نذقه» في الأخرى (عَذاباً كَبِيراً).

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

٢٨٢

تعقيب عام إجابة شاملة عن شطحات المتعنتين لشروطات الرسالة ، أن كافة الرسل قبلك كانوا بشرا مثلك في كل متطلبات البشرية : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) فلو كنت ملكا لكنت بدعا من الرسل ، الأمر الذي يخرق إجماع الرسل وسنة الرسالة وهو مادة الريبة في رسالتي ، فإما أن تنكروا الرسالات البشرية كلها ، فإنكارا لأصل الرسالة الإلهية ، إذ لم يرسل غير البشر ، أو تصدقوا رسالتي التي هي تعقيبة خاتمة للرسالات كلها.

وليس هذا الجواب تحويلا للاعتراض من شخصه إلى كافة الرسل من قبله ، حتى يرجعوا قائلين : وكذلك الرسل من قبلك! إذ كان قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ) خاصا بهذا الرسول ، كأنه بدع من الرسل في كونه بشرا ، فتخطى في الجواب عن نفسه الشريفة إلى كافة الرسل (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ...).

ثم لو عمموا الاعتراض كما عمموه في مجالات أخرى ، فالجواب (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) ولذلك يكذبون بأنبياء الساعة ، و (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) و (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) جوابا محلّقا على كافة الاعتراضات الواقعة أو المحتملة ، حيث يقضي عليها كلها ، مع ما في سائر الآيات ، ك (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).

... (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) فالبعض الرسل فتنة للبعض المرسل إليهم ، والكفار منهم فتنة للرسل ، وكما هم فتنة للمؤمنين والمؤمنون فتنة لهم ، كما والرسل بعضهم لبعض فتنة ، فاختصاص المسيح بالولادة دون أم أصبح فتنة لسائر الرسل في قياس الناس ، واختصاص محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الرسل بآيته المعجزة الخالدة في قرآنه فتنة لسائر الرسل

٢٨٣

كذلك ، وكما هم بآياتهم غير الكتابية فتنة لهذا الرسول في قياس الناس : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) (٦ : ١٢٤) (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ...) (٢٨ : ٤٨).

«أتصبرون» على هذه الفتنة والامتحان أيها المفتتنون ، فالصبر في سبيل الله هو زادها إلى معادها ، صبرا للرسل على جهالات المرسل إليهم وتطاولاتهم وتخلفاتهم ، ودوائر السوء التي يتربصون بهم ، وصبرا للمؤمنين على أذى الكفار ، وصبرا للمرسل إليهم كافة على هذه الفتنة الملتوية الطائلة ، فالصبر مفتاح الفرج.

(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بك وبسائر المرسلين وكافة المرسل إليهم ، فربك منحك من الصبر وزان سائر الصبر لسائر المرسلين ، فإن حملك أثقل ، وقومك أهبل ، فليكن صبرك قدر صبرهم كلهم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).

«بصيرا» بما أعطاكم من الفطر والعقول ، «بصيرا» بمن يصبر أو لا يصبر في كل الحقول «بصيرا» بالحكمة العالية في هذه الفتنة المتواصلة طول خط التكليف على خيوط الرسالات ، «بصيرا» بالبداية و «بصيرا» بالنهاية «أتصبرون»!

هذه فتنة ربانية متعالية تتطلب الصبر ، فويل لمن لا يصبر وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ويل للعالم من الجاهل وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد ، بعضهم

٢٨٤

لبعض فتنة ثم قرأ آية الفتنة» (١).

فهذه فتنة تعم العالمين أجمعين خيرا وشرا وكله من الله خير : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٤ : ٦٥ ـ ٦٦ روى ابو الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفي الدر المنثور ٥ : ٦٦ ـ اخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن رفاعة بن رافع الزرقي قال قال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف ترى في رقيقنا أقوام مسلمين يصلون صلاتنا ويصومون صومنا نضربهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توزن ذنوبهم وعقوبتكم إياهم فان كانت عقوبتكم أكثر من ذنوبهم أخذوا منكم ، قال أفرأيت سبنا إياهم؟ قال : يوزن ذنبهم واذاكم إياهم فان كان أذاكم اكثر اعطوا منكم ، قال الرجل ما اسمع عدوا اقرب إليّ منهم فتلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) فقال الرجل : أرأيت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدي اضربهم ، قال : انك لا تتهم في ولدك فلا تطيب نفسا تشبع ويجوع ولا تكتسي ويعرو.

٢٨٥

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا

٢٨٦

هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

(الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) قد يعم اللقاء في الأولى معرفة له بالوحدانية ، فتخصيص العبادة إياه لا سواه ، كما الأخرى هي يوم اللقاء المعرفي إذ تزول الحجب إلّا حجاب الذات ، ولقاء الجزاء ثوابا وعقابا فإنه يوم الحساب.

(وَقالَ ... لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) كما يدعي محمد نزولهم عليه بالوحي ، فلو أن البشر ينزل عليه الملائكة فنحن بشر كما هو بل وأهدى سبيلا ، ولو أنه لا تنزل عليه الملائكة فقد جاء محمد بإفك.

أم إذا كان الوحي وحي مواجهة بمشافهة فلو لا نرى ربنا ، أم لماذا الوسطاء بشرا ام ملكا لا يستأصلان مجال الشك في رسالة الوحي ، فلولا نرى ربنا ، فيوحي إلينا كما أوحى إلى محمد في زعمه.

والجواب كلمة واحدة قارعة (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) حيث اعتبروها في قمة الوحي حتى ينزل عليهم الملائكة بالوحي أم في مساماة الربوبية حتى يروا ربهم «وعتوا» على الحق ووحي الرسالة ورسالة الوحي (عُتُوًّا كَبِيراً) فرحم الله امرء عرف قدره وهم ما عرفوه ، لذلك هرفوا وخرفوا في اقتراحاتهم المتلاحقة.

هم في ذلك الاقتراحة الحمقاء قالوا «ربنا» مسايرة مع الرسول أنه الرب

٢٨٧

لا سواه ، وكما هو ربه كذلك هو ربنا ، وكما نحن هو بشر مثلنا ، فالمماثلة في البشرية ووحدة الربوبية تقتضي نزول الوحي علينا كما ينزل عليه!

وتقرير آخر (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) ليخبرونا أنك رسول الله (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا أنك رسوله ، حيث الوسيط البشرى مشكك لا يعتمد عليه ، أو ليست الحكمة الإلهية تقتضي في هدانا أن يسلك بنا سبيل اليقين؟.

ولكنه مستحيل من ناحية ، وهكذا رسالة فتنة حكيمة من أخرى (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) وان حجة الله بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

ثم إنهم سوف يرون الملائكة ولات حين مناص ، وفات يوم خلاص :

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)(٢٢).

ذلك هو يوم الموت ، بداية الرؤية لملائكة العذاب ، فهم يرونهم يومئذ بوحي العذاب وواقعه ، بديلا عما تطلبوا من وحي الرسالة أم تصديقها ، فذلك هو نصيبهم من رؤيتهم في ذلك اليوم العصيب (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) رغم ما تطلبوا قبله بشرى الوحي إليهم استكبارا في أنفسهم وعتوا كبيرا.

هنالك هم «يقولون» للملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً) حجرا عن وحي العذاب وواقعه ، والملائكة يقولون ـ كذلك ـ لهم (حِجْراً مَحْجُوراً) عن رحمة الله كما هجروها يوم الدنيا ، وحجروا على أنفسهم رحمة الله.

ترى وإذا «حجرا» فقد كفى ، فلما ذا «محجورا»؟ إنه مبالغة في الحجر ، أنه ليس فقط يكفي كونه حاجرا ، بل ليكن الحاجر كذلك

٢٨٨

محجورا ، حتى تنمحي آثار المواجهة عن بكرتها.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٢٣).

كيف «قدمنا»؟ وما له تعالى من قدم! وأين (ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ)؟ وما لهم من صالح الأعمال! وطالحها هباء قبل الإحباط! القدم منه تعالى ليس كسائر الأقدام ، وإنما هي كناية لطيفة عن الإقدام ، حيث الإقدام الجادّ هو حسب العادة بالأقدام ، ثم القادم ليس إلّا عن غياب وليس لله غياب ، اللهم إلّا غيابا عمليا عن إحباط أعمالهم قبل الموت ، فلأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة ، إذ كان بطول إمهاله لهم كالغائب عنهم ، ثم قدم فرآهم على خلاف ما استعملهم وهداهم فأحبط أعمالهم ، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة ، العامد في المعصية ، المرتكس في الضلالة.

ثم (ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) بين صالح وطالح ، فجعل صالحه هباء منثورا ، وأظهر طالحه ـ خلاف ما ظنوه صالحا ـ هباء منثورا ، في حين (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

و (هَباءً مَنْثُوراً) هو الغبار الهابي الرقيق «وشعاع الشمس الذي يخرج من الكوة» (١) «وريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء» (٢) ، كناية عن البطلان لما عملوا من عمل ، فقد أبطل ذلك العمل ، فعفّى رسمه وسقّط حكمه ، وبطل بطلان الغبار الممحق ، والغثاء المفرّق (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٦ ـ اخرج جماعة عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله : هباء منثورا.

(٢) المصدر ـ أخرجه جماعة عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآية.

(٣) المصدر اخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال قال رسول ـ

٢٨٩

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤).

آية يتيمة في مقيل أصحاب الجنة ، لا ثانية لها ، وهو نوم نصف النهار المسمّى بالقيلولة ، وفيه راحة مزيحة للإتعاب و «يومئذ» هنا بازغ منذ الموت حتى (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) ، فهو يوم البرزخ دون القيامة الكبرى ، لا لتكوّر الشمس فيها فلا نهار حتى يكون نصف نهار ، إذ فيها شمس أخرى ، ولكن لا نوم فيها لا مقيلا ولا غير مقيل إذ لا تعب فيها يتطلب نومة ، ثم الآيات التالية لها تحدث عن قيامتي التدمير والتعمير.

وتراهم (أَحْسَنُ مَقِيلاً) من أصحاب النار وخير مستقرا منهم؟ ولا خير في مستقرهم ولا حسن في مقيلهم!

ليس التفضيل فيهما ـ فقط ـ بالنسبة لأصحاب النار ، بل وبالنسبة للحياة الدنيا ، فهما تفضيلان بالنسبة لها حقيقة ، وبالنسبة لهم مجاراة ، كما «أذلك خير أم جنة الخلد»؟

في هذه الضفّة مؤمنون مستقرون مستروحون ناعمون نائمون مقيلا في ظلال ، وفي الضفة الأخرى ، كافرون أعمالهم هباء منثور ، وهم خواء مضطربون.

__________________

ـ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى اعمالهم هباء ثم قذفهم في النار ، قال سالم : بابي وامي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حل لنا هؤلاء القوم ، قال : كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض الله تعالى اعمالهم.

أقول : كأنهم المنافقون ، حيث المؤمن لا يثب إلى الحرام مهما يبتلى به لمما ام كبيرة يتوب عنها.

٢٩٠

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥).

ف «يومئذ» هناك هو يوم لمّا تشقق السماء ، ولا نزل الملائكة تنزيلا ، وإنما هو (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) القابضين أرواحهم : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٨ : ٥٠).

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) هو يوم القيامة التدمير ، بتعاظم الغمام فيها ، وانتشارها في نواحيها ، انتقاضا لبنيتها ، وتغيّرها إلى غير ما هي عليها من حالتها ، كما تظهر في البناء آثار التداعي ، وأعلام التهافت ، من تثلّم الأطراف ، وتفطّر الأقطار ، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه ، ومنذرا بانتقاضه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وترى ما هي تلك الغمام التي تشقق بها السماء؟ علّها ظلل من الغمام في (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢ : ٢١٠).

... (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٨٤ : ٣) (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) كل ذلك بتلك الغمام وما يدريك ما هي تلك الغمام؟

طبعا ليست هي الغمام الحاملة للماء ، بل هي غمام الغمّة ، إثر الحملة المدمرة لبناء السماء ، أم والغمام والغازات المدمرة لها ، ف «بالغمام» تعم السببية كالثانية ، والمصاحبة التابعة كما الأولى.

ولقد كانت السماء بكواكبها يوما مّا غماما ودخانا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى

٢٩١

السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٤١ : ١٢) وعند قيامتها سوف ترجع غماما ودخانا كما كان (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) : رجعا إلى ما كانت.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)(٢٦).

«الملك» تعني حق الملك والملك الحق ملك الكون كله ، وهو ملكه ـ وبأحرى ـ كله ، ملكا فملكا حقيقيا في ظاهر الأمر وباطنه ، وقد كان العالمون مستخلفين في ظاهر منه لردح من زمن التكليف ، ملكة عارية : لهم ، عارية عن حق الملك وثابته!

ذلك (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) حيث تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ، «الملك» الحق «يومئذ» الحق ، هو فقط «للرحمن» ف (الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) خبران للملك لصق بعض ، أو الحق وصف له وللرحمن خبر.

صحيح أن الملك الحق هو ـ منذ كان ـ كان للرحمن ، لأنه مالك الملك ، ولكن مالكيته وملكيته بارزتان يوم الدين مهما خفيتا للأخفّاء والأخفياء يوم الدنيا ، فان دار التكليف هي دار الامتحان ، يستخلف فيه الإنسان لذلك الامتحان ،.

«وكان» يوم الملك الحق للرحمن (يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) وللمؤمنين يسيرا : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٧٤ : ٩) إذ كانوا يتحسبون أن لهم الملك الحق ظاهرين فوجدوه حقا للرحمن وهم أمام حساب عظيم عظيم.

ذلك يوم قيامة الإماتة التدمير ، ومن ثم يوم قيامة الإحياء التعمير :

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩).

٢٩٢

«الظالم» هنا ليس كل ظالم ، إنما هو الظلّام حيث (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) فلا تكفيه يد واحدة أن يعض عليها ، حيث ظلم بيديه ، بكل طاقاته ، فلذلك (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) لشدة ما يعانيه من الندم اللادع المتمثل في ذلك العض العضيض ، وهو صورة عسيرة من صور ذلك اليوم العسير ، على الكافرين غير يسير ، حركة معهودة ترمز إلى حالة بئيسة تعيسة ، في ندامة عميقة ولات حين مناص ، إذ فات يوم خلاص.

وقد وردت في شأن نزولها روايات «كما في عقبة بن معيط ، حيث كان يكثر مجالسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ، ففعل ، فعاتبه صديقه ابن أبي خلف قائلا له : صبأت! فقال : لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، فقال : لا أرضى منك إلّا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ألقاك خارج مكة إلّا علوت رأسك بالسيف ، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله.

ولا تناحرها ما وردت في شأن غيره ممن لم يتخذ مع الرسول سبيلا (١)

__________________

(١) في متظافر الروايات عن أئمة اهل البيت عليهم السلام ان السبيل هنا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) وممن رواه محمد بن العباس قال حدثنا احمد بن أبي القاسم عن احمد بن محمد السياري عن محمد بن خالد عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن محمد بن خالد عن محمد بن علي عن محمد بن فضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر وعن محمد بن إسماعيل باسناده عن جعفر بن محمد الطيار عن أبي الخطاب عن أبي عبد الله ...

واخرج ابو سعيد في شرف النبوة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «انا ـ

٢٩٣

مهما اختلفت الدركات ، بترك مختلف البركات.

فالذي يعرف الرسول برسالته ، ثم لا يتخذ معه سبيلا إلى ربه ، هو الظالم بحق الرسول وسبيله ، وبحق نفسه في سبيلها فليعض على يديه ، متحسرا حسيرا ، ومتعثرا كسيرا.

ترى ذلك الرسول ، وقد عرفه ، أفلا تكفي معرفته سبيلا إلى ربه ، ليتخذ معه سبيلا ، ولا سبيل مسلوكة إلى الرب إلا الرسول بقرآنه المبين ، وبرهانه المكين؟ ثم وما هي تلك السبيل؟.

الرسول سبيل إلى الرب ، ولكن معرفة هذه السبيل تتطلب دخولا إلى مدينة علمه من بابها التي عرف بها ، حتى تكتمل المعرفة ، فتسلك ذلك السبيل دون تزعزع وتلكّؤ ، ولكيلا يضله فلان الخليل عن ذلك السبيل.

ولقد تواتر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «انا مدينة العلم وعلي بابها» (١) «انا دار الحكمة

__________________

ـ واهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا فمن تمسك بنا اتخذ إلى ربه سبيلا» (ذخائر العقبى ص ١٦) ـ وأخرجه مثله الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٥٧.

(١) يروى عن ١٤٣ مصدرا من أعلام الحديث كلهم من إخواننا السنة ، ولقد صححه جمع من الحفاظ وأعلام الحديث ، وممن صححه الحافظ ابو زكريا يحيى بن معين البغدادي المتوفى ٢٣٣ والطبري ٣١٠ في تهذيب الآثار ، والحاكم النيسابوري ٤٠٥ في المستدرك والخطيب البغدادي ٤٦٣ والحافظ ابو محمد الحسن السمرقندي ٤٩١ في بحر الأسانيد ، ومجد الدين الفيروزآبادي ٨١٦ في النقد الصحيح والحافظ جلال الدين السيوطي ٩١١ في جمع الجوامع والسيد محمد البخاري في تذكرة الأبرار ، والأمير محمد اليماني الصنعاني ١١٨٢ في الروضة الندية ، والمولى حسن الزمان عده من المشهور المستحسن ، وابو سالم محمد بن طلحة القرشي ٦٥٢ ، وابو المظفر سيف بن قزاوغلي ـ

٢٩٤

وعلي بابها» (١) «انا دار العلم وعلي بابها» (٢) «أنا ميزان العلم وعلى كفتاه» (٣)

«انا ميزان الحكمة وعلي لسانه» (٤) «أنا المدينة وأنت الباب ولا يؤتى المدينة إلا من بابها» (٥)!.

لذلك نراه صلى الله عليه وآله وسلم ، يسد الأبواب كلّها إلّا بابه ، فلقد «كان لنفر من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد ، قال يوما : سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي (عليه السلام) فتكلم في ذلك ناس فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ـ فإني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإني ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكني

__________________

ـ ٦٥٤ ، والحافظ صلاح الدين العلاني ٧٦١ ، وشمس الدين محمد الجزري ٨٣٣ ، وشمس الدين محمد السخاوي ، وفضل الله بن روزبهان الشيرازي ، والمتقي الهندي علي بن حسام الدين ٩٧٥ ، وميرزا محمد البدخشاني ، وميرزا محمد صدر العالم وثناء الله باني بني الهندي.

(١) أخرجه الترمذي في جامعة الصحيح ٣ : ٢١٤ ، وابو نعيم في حلية الأولياء ١ : ٦٤ والبغوي في مصابيح السنة ٣ : ٢٧٥ وجمع آخر يربو عددهم على ستين من الحفاظ وأئمة الحديث.

(٢) أخرجه البغوي في مصابيح السنة كما ذكره الطبري في ذخائر العقبى ص ٧٧ وجمع آخرون.

(٣) أخرجه الترمذي في جامعة الصحيح ٢ : ٢١٤ وابو نعيم في حلية الأولياء ١ : ٦٤ والبغوي عنه كالعجلوني في كشف الخفاء ١ : ٢٠٤ وغيره.

(٤) ذكره الغزالي في الرسالة العقلية وحكاه عند الميبدي في شرح الديوان المنسوب إلى امير المؤمنين (عليه السلام)

(٥) أخرجه العاصمي ابو محمد في كتابه «زين الفتى في شرح سورة هل أتى».

٢٩٥

أمرت بشيء فاتبعته» (١).

ذلك تأشيرا عشيرا لانحصار الباب إليه فيه (عليه السلام) وانحساره عمن سواه ، وليتخذوه مع الرسول سبيلا إلى الله لا سواه! فمعرفة الرسول كما يحق التزاما لسبيل الله ، هي السبيل الواضحة إلى الله ، ف «سبيلا» مع الرسول هي سبيل إليه ، وهما معا سبيل إلى الله.

__________________

(١) أخرجه وما في معناه جماعة من الحفاظ وارباب السنن عن زيد بن أرقم وعبد الله بن عمر بن الخطاب والبراء بن عازب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي حازم الاشجعي وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وسعد بن أبي وقاص وانس بن مالك وبريدة الأسلمي وامير المؤمنين علي (عليه السلام) كلهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ

أخرجه عنهم فيمن أخرجه : النسائي في السنن الكبرى والخصائص ص ١٣ والحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٥ وصححه ، والضياء المقدسي في المختارة ، والكلابادي في معاني الأخبار ، وسعيد بن منصور في سننه ، ومحب الدين الطبري في الرياض ٢ : ١٩٢ ، والخطيب البغدادي في تاريخه ، والكنجي في الكفاية ٨٨ ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة ٢٤٥ ، وابن أبي الحديد ٢ : ٤٥١ ، وابن كثير ٧ : ٣٤٢ ، وابن حجر في القول المسدد ١٧ ، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر ٧ : ١٢ ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز ٦ : ١٥٢ ، ١٥٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١١٤ ، والعيني في عمدة القاري ٧ : ٥٩٢ ، والبدخشي في نزل الأبرار ، وابن أبي شيبة ، وابو نعيم ، والحمويني في الفرائد ب ٢١ ، وابو يعلي في الكثير ، وابن السمان في الموافقة ، والجزري في أسنى المطالب ، والخوارزمي في المناقب ، وابو نعيم في الحلية ، والحافظ البزاز ... قال ابن حجر في فتح الباري والقسطلاني في ارشاد الساري ٦ : ٨١ ، ان كل طريق من هذا الحديث صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها» (الغدير للعلامة المغفور له الأميني ٣ : ٢٠٢ ـ ٢٢٩).

٢٩٦

كيف لا وهو شاهد منه (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «علي مني وأنا منه ، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي» (١) «إن عليا مني وأنا منه» (٢) «علي مني مثل رأسي من بدني» (٣) «منزلة علي مني منزلتي من الله تعالى» (٤).

__________________

(١) حديث صحيح رجاله كلهم ثقات ـ أخرجه الامام احمد في مسنده ٤ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ، بأسانيد اربعة ، والحافظ ابن ماجة القزويني في سننه ١ : ٥٧ ، والحافظ ابو عيسى الترمذي في جامعه ١٣ : ١٦٩ و ٢ : ٤٦٠ و ٢١٣ والنسائي في الخصائص ٢٦ وابن المغازلي في المناقب بأسانيد متوفرة ، والبغوي في المصابيح ٢ : ٢٧٥ والخطيب العمري في المشكاة ٥٥٦ والكنجي في الكفاية ٥٥٧ والنووي في تهذيب الأسماء واللغات ، والمحب الطبري في الرياض ٣ : ٧٤ عن الحافظ السلفي وسبط ابن الجوزي في التذكرة ٢٣ والذهبي في تذكرة الحفاظ وابن كثير في تاريخه والسنحاري في المقاصد الحسنة والمناوي في كنوز الدقائق ٩٢ والحمويني في فرائد السمطين ب ٧ والسيوطي في الجامع الصغير وجمع الجوامع وابن حجر في الصواعق ٧٣ والمتقي الهندي في كنز العمال عن (١١) حافظا والبدخشاني في نزل الأبرار (٩) والفقيه شيخ بن العيد روس في العقد النبوي والشبلنجي في نور الأبصار ١٥٥ كلهم أخرجوه ورووه عن حبش بن جناده وعمران وأبي ذر الغفاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) رواه البخاري في ٤ من صحيحه عن عمر بن الخطاب وفي الجمع بين الصحاح ٢ من عدة طرق ومنها ما عن جنادة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : علي مني ... ورواه ابن المغازلي من عدة طرق بأسانيد.

(٣) رواه الامام احمد في مسنده وابن المغازلي بالإسناد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن الأثير في جامع الأصول عن البخاري ومسلم بسنديهما عن البراء بن عازب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٤) أخرجه الحافظ ابن المغازلي كما في العمدة لابن بطريق ٥٣ باسناده عن بكر ـ

٢٩٧

لا فحسب بل هو نفسه لآية أنفسنا : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٣ : ٦١).

فتارك السبيل مع الرسول (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) قررها الله والرسول.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) فلان الذي خلّ فيّ وأخلّ ، وأضلني عن سبيل مع الرسول ، أيا كان هذا الفلان ، فلان يضل عن رسالة الرسول ، فلا سبيل الرسول ولا سبيل مع الرسول! كما أضل ابن أبي خلف عقبة بن أبي معيط ، أو فلان يضل عن كامل رسالته حيث يغلق باب مدينة علمه ويفتح أبوابا سدها الله ، كمن يصد عن باب مدينة علم الرسول ، أم وأي فلان يحول دونك والرسول فيما يفعل او يقول ، مهما اختلف فلان عن فلان ، فضلال عن ضلال ، أضلّه قطع سبيل الرسول عن بكرتها في نكرتها.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي) فلان «عن الذكر» الرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وذلك خسران مبين وخذلان عظيم (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).

ومن أخذل من العطشان الذي يأتيه ماء فرات ثم يضله عنه فلان فيموت عطشانا؟ ... ومن أرذل من الذي يؤمن بالرسول ثم يكفر بسبيل صالحة مع الرسول فيضل عن الرسول بعد إذ جاءه.

__________________

ـ ابن سوادة عن قبيضة بن ذويب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) والسيرة الحلبية ٣ : ٣٩١.

٢٩٨

هنالك سبل مع الرسول إلى الله ، من قرآنه كثقل أكبر ، ومن عترته كثقل أصغر ، ومن تقوى صالحه اتباعا للثقلين ، وكما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مجمع الثقلين ، مثلث من السبل مع الرسول ، كما الرسول سبيل معها ، ولكنه هو رأس الزاوية من مربع السبيل إلى الله ، ف (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٤ : ١١٥).

كلّ ذلك سبيل معه إلى الله في النهاية ، مهما كانت سبلا إلى رسول الله في البداية ، فكلمة واحدة في سائر القرآن (سَبِيلِ اللهِ)(١) دون سبيل رسول الله أم سواه ، ولا يعني (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤ : ١١٥) إلّا سبيلهم مع الرسول إلى الله وكما قررها الله.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(٣٠).

«وقال» علّها عطفا على «ويوم» حكاية عن قيله يوم العضّ ، لأن القرآن هو المحور الأصيل من السبيل مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهجر القرآن هو هجر الرسول وعترة الرسول.

ثم و «قومي» لا يخص الظالم الذي يعض على يديه ، فإنهم كل من وجبت عليهم الدعوة الإسلامية في طول الزمان وعرضه ، فقليل هؤلاء الذين لم يتخذوا هذا القرآن مهجورا ، وكثير هؤلاء الذين اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، وكما نراه طول التاريخ الإسلامي.

ومهما (قالَ الرَّسُولُ) قوله الشاكي عند ربه يوم الأخرى ، فهو قائله يوم الأولى ، كما نعرفه من طيات شكاواه.

__________________

(١) يذكر السبيل في القرآن (١١٦) مرة ولا يعني خيرها الا سبيل الله ، ام وسبيل المؤمنين وهي ايضا سبيل الله.

٢٩٩

فان الصلة القرآنية درجات ، وهجره دركات حسب ترك الدرجات :

فمنهم من هجروا الإيمان به ، فلم يفتحوا له أسماعهم ، بل وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، خوفة منهم أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا ، ثم وهجروا فيه بما هرفوا وخرفوا وألغوا فيه.

ومنهم من أسلم له نفاقا دون وفاق ، إسلاما في صورته ، وكفرا بسيرته وهم المنافقون.

ومنهم من آمن به ، سامعين لآياته وقارئين ، ولكنهم لا يتدبرون معانيه ، ولا يستشعرون مبانيه ومغازيه.

ومنهم من يعتمده الأصل الاوّل والأخير من التشريع الإسلامي ، وعلى ضوئه السنة المحمدية ، ولكنهم هجروا دراسته ، وأخلدوا إلى ما يسمونه علوما إسلامية ، تخيلا أنها تقدّمهم لتفهمه ، وبالمآل نرى الحوز الإسلامية تؤصّل كل دراسة إلّا القرآن ، لحد أصبح طالب علوم القرآن ودارسة ومدرسه ومفسره من البطالين في قياسهم ، البعيدين عن العلوم الحوزوية ، فأصبح القرآن مهجورا عن حوزاته ، لا يدرس إلّا هامشيا دونما تدبر لائق به (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤٧ : ٢٤)؟ أجل وعلى قلوب أقفالها في إغفالها القرآن وإقفال باب مراسته في دراسته.

فنحن ـ إذا ـ ممن لم يتخذ مع الرسول سبيلا ، حيث هجرنا أعظم السبل معه إلى الله وهو كتاب الله ، ومن خلفياته ترك الرسول بترك سنته حيث لا تعرف إلّا عرضا موافقا لكتاب الله ، فقد تركنا ـ إذا ـ كلا الثقلين ، فنحن من الظالمين الذين يشكونا الرسول عند ربه يوم يقوم الأشهاد.

وهكذا راح القرآن يهز القلوب المقلوبة بهذه المشاهد المزلزلة المزمجرة ،

٣٠٠