تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

غير مواضعها كفعل من هو في الظلام (لَفِي شِقاقٍ) أي : خلاف لكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبهة التي تلقوها من الشيطان ، وجادلوا بها أولياء الرحمن (بَعِيدٍ) عن الصواب (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) [الأنعام ، ١١٣] ، وعلى ثبوت ذكر القصة وجرى عليه الجلال المحلي ؛ قال : إنهم في خلاف طويل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم ، ثم أبطل ذلك.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بإتقان حججه وإحكام براهينه وضعف شبه المعاجزين (أَنَّهُ) أي : الشيء الذي تلوته أو تحدثت به (الْحَقُ) أي : الثابت الذي لا يمكن زواله (مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بتعليمك إياه (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبهة (فَتُخْبِتَ) أي : تطمئن وتخضع (لَهُ قُلُوبُهُمْ) وتسكن به نفوسهم (وَإِنَّ اللهَ) بجلاله وعظمته (لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : قويم ، وهو الإسلام يصلون به إلى معرفة بطلانه حتى لا تلحقهم حيرة ، ولا تعتريهم شبهة ، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : وجد منهم الكفر وطبعوا عليه (فِي مِرْيَةٍ) أي : شك (مِنْهُ) قال ابن جريج : أي : من القرآن ، وقيل : مما ألقى الشيطان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : فما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها ، وقيل : من الدين وهو الصراط المستقيم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي : القيامة ، وقيل : أشراطها ، وقيل : الموت (بَغْتَةً) أي : فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال عكرمة والضحاك : لا ليل بعده وهو يوم القيامة ، والأكثرون على أنه يوم بدر ، وسمي عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، ويقوي التفسير الأوّل قوله تعالى :

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (لِلَّهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال وحده ، ولما كان كأنه قيل : ما معنى اختصاصه به ، وكل الأيام له قيل : (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : المؤمنين والكافرين بالأمر الفصل الذي لا حكم فيه ظاهرا ولا باطنا لغيره كما ترونه الآن بل يمشي فيه الأمر على أتم شيء من العدل (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : وصدّقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا (الصَّالِحاتِ) وهي ما أمرهم الله به (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فضلا منه ورحمة لهم بما رحمهم‌الله تعالى من توفيقهم للأعمال الصالحات

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه (فَأُولئِكَ) أي : البعداء عن أسباب الكرم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا.

فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل؟ أجيب : بأن في ذلك تنبيها على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى ، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم ، ولذلك قال : (لَهُمْ عَذابٌ) ولم يقل : هم في عذاب.

ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا

٦٢١

فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد بعد الهجرة ، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف ، وألحق به مطلق الموت فضلا منه بقوله تعالى : (أَوْ ماتُوا) أي : من غير قتل (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) أي : الجامع لصفات الكمال (رِزْقاً حَسَناً) هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم ؛ لأنهم أحياء عند ربهم (وَإِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة (لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.

فإن قيل : الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال : (لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؟) أجيب : بأنّ غير الله يسمى رازقا على المجاز كقولهم : رزق السلطان الجيش أي : أعطاهم أرزاقهم ، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى ، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالا على ختام التي قبل : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه ، وقيل : هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع ، وقرأ نافع بفتح الميم أي : دخولا ، أو مكان دخول ، والباقون بالضم أي : إدخالا أو مكان إدخال (وَإِنَّ اللهَ) أي : الذي عمت رحمته وتمت عظمته (لَعَلِيمٌ) أي : بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره (حَلِيمٌ) عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى ، فلا يعاجل أحدا بالعقوبة.

روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين

(ذلِكَ) أي : الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك (وَمَنْ عاقَبَ) أي : جازى من المؤمنين (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ظلما من المشركين أي : قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي : ظلم بإخراجه من منزله ، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم ، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام ، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام ، فأبى المشركون ، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي : الذي لا كفء له (إِنَّ اللهَ) أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما (لَعَفُوٌّ) عن المؤمنين (غَفُورٌ) لهم.

فإن قيل : لم سمى ابتداء فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء؟ أجيب : بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ، ٤٠](يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء ، ١٤٢] ، وكما في قوله : كما تدين تدان.

فإن قيل : كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين ؛ لأنهم مظلومون؟ أجيب : بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام ، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى ، ٤٣] وبقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى ، ٤٠] وبقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ، ٢٣٧] ، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له ،

٦٢٢

فإني أنا الذي أذنت له فيها ، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه

(ذلِكَ) أي : النصر (بِأَنَّ اللهَ) أي : المتصف بجميع صفات الكمال (يُولِجُ) أي : يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) فيمحو ظلامه بضيائه ، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمدا فتعطلت مصالح النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فينسخ ضياءه بظلامه ولو لا ذلك لتعطلت مصالح الليل ، أو بأنّ يدخل كلا منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر (وَأَنَّ اللهَ) بجلاله وعظمته (سَمِيعٌ) لكل ما يقال (بَصِيرٌ) لكل ما يفعل ، دائم الاتصاف بذلك ، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع ، ولا لضياء النهار ليبصر ؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض.

ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم (بِأَنَّ اللهَ) أي : القادر على كل ما أراد (هُوَ) وحده (الْحَقُ) أي : الثابت الواجب الوجود (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) أي : يعبد المشركون (مِنْ دُونِهِ) وهو الأصنام (هُوَ الْباطِلُ) الزائل ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين ، والباقون بالياء على الغيبة ، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم (وَأَنَّ اللهَ) لكونه هو الحق الذي لا كفء له (هُوَ) وحده (الْعَلِيُ) أي : العالي على كل شيء بقدرته (الْكَبِيرُ) وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره ، ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة :

الأول : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ) أي : المحيط قدرة وعلما (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : مطرا بأنّ يرسل رياحا فتثير سحابا ، فيمطر على الأرض الماء (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) أي : بعد أنّ كانت مسودّة يابسة ميتة جامدة (مُخْضَرَّةً) حية يانعة مهتزة نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد فإن قيل : لم قال تعالى : (فَتُصْبِحُ ،) ولم يقل : فأصبحت؟ أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي إفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم عليّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت : فرحت وغدوت شاكرا له لم يقع ذلك الموقع. فإن قيل : لم رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ أجيب : بأنه لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض ؛ لأنّ معناه أنبتت الأخضر فينقلب بالنصب إلى نفي الأخضر ، ووجه ذلك : بأنّ النصب بتقدير أنّ وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقبا والرفع جزم بإثباته مثاله أنّ تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، فإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك في تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره ، وهذا وأمثاله مما يجب أنّ يتنبه له من اتسم بالعلم في علم الإعراب ، وتوقير أهله (أَنَّ اللهَ) أي : الذي له تمام النعم وكمال العلم (لَطِيفٌ) بعباده في إخراج النبات بالماء (خَبِيرٌ) أي : بمصالح الخلق ومنافعهم ، فإنه مطلع على السرائر ، وإن دقت فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته ، وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط.

الأمر الثاني : قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) أي : التي أنزل منها الماء (وَما فِي الْأَرْضِ) أي : التي استقر فيها ملكا وخلقا (وَإِنَّ اللهَ) أي : الذي له الإحاطة التامة (لَهُوَ) أي : وحده (الْغَنِيُ) في ذاته عن كل شيء (الْحَمِيدُ) أي : المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.

الأمر الثالث : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ) ذا الجلال والإكرام

٦٢٣

(سَخَّرَ لَكُمْ) فضلا منه (ما فِي الْأَرْضِ) كله من مسالكها وفجاجها ، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار ، فلو لا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم.

الأمر الرابع : قوله تعالى : (وَالْفُلْكَ) أي : وسخر لكم الفلك أي : السفن ، ثم بيّن تسخيرها بقوله : (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل (بِأَمْرِهِ) أي : بإذنه.

الأمر الخامس : قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) أي : كراهة (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : بمشيئته ، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء (أَنَّ اللهَ) أي : الذي له الخلق والأمر (بِالنَّاسِ) أي : على ظلمهم (لَرَؤُفٌ) أي : بما يحفظ من سرائرهم (رَحِيمٌ) أي : حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أبواب المضار.

(وَهُوَ) أي : وحده (الَّذِي أَحْياكُمْ) أي : عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي : عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظا لأولي البصائر منكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي : يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : المشرك (لَكَفُورٌ) أي : لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو الأسود بن عبد الأسد ، وأبو جهل ، والعاص بن وائل ، وأبيّ بن خلف ، قال الرازي : والأولى تعميمه في كل المنكرين.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ) أي : في كل زمان (جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال ابن عباس : شريعة يتعبدن بها (هُمْ ناسِكُوهُ) أي : عاملون بها ، وروي عنه أنه قال : عيدا ، وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه ، وقيل : موضع عبادة ، وقرأ حمزة والكسائي : منسكا ، بكسر السين ، والباقون بفتحها (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي : أمر الذبائح ، نزلت في بديل بن ورقاء ، وبشر بن سفيان ، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون ، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى؟ يعنون الميتة ، وقال الزجاج : هو نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربنك فلان أي : فلا تضاربه ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت (وَادْعُ) أي : أوقع الدعوة لجميع الخلق (إِلى رَبِّكَ) المحسن إليك أي : إلى دينه ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّكَ) مؤكدا له بحسب ما عندهم من الإنكار (لَعَلى هُدىً) أي : دين واضح (مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام.

(وَإِنْ جادَلُوكَ) أي : في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة (فَقُلِ اللهُ) أي : الملك المحيط بالعز والعلم (أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من المجادلة الباطلة وغيرها ، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق ، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.

ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم ، وكان ذلك شديدا على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفا تحذيرا لهم : (اللهُ) أي : الذي لا كفء له (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي : بينك مع اتباعك وبينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي هو يوم التغابن (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به ، فهو كقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء ، ٢٢٧] ؛ قال البغوي : والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.

٦٢٤

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) بجلال عزه وعظيم سلطانه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء (إِنَّ ذلِكَ) أي : ما ذكر (فِي كِتابٍ) كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه ، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ (إِنَّ ذلِكَ) أي : علم ما ذكر (عَلَى اللهِ) وحده (يَسِيرٌ) أي : سهل ؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء.

(وَيَعْبُدُونَ) أي : المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي : الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر ، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار ، فقال تعالى : (مِنْ نَصِيرٍ) أي : ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم.

(وَإِذا تُتْلى) أي : على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان (عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي : من القرآن حال كونها (بَيِّناتٍ) لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : تلبسوا بالكفر (الْمُنْكَرَ) أي : الإنكار الذي هو منكر في نفسه ، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى : (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي : يوقعون السطوة بالبطش والعنف (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها ، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي : أفأخبركم خبرا عظيما (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم ، وقوله تعالى : (النَّارُ) كأنه جواب سائل قال : ما هو؟ فقيل : النار ، أي : هو النار ، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جزاء لهم فبئس الموعد هي (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : النار.

ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة ، فقال تعالى مناديا أهل العقل منبها تنبيها عاما :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم (فَاسْتَمِعُوا)

٦٢٥

أي : أنصتوا (لَهُ) وتدبروه ، ثم فسره بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي : لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه (وَلَوِ اجْتَمَعُوا) أي : الذين زعمتموهم شركاء (لَهُ) أي : الخلق فهم في هذا أمثالكم.

تنبيه : محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) النصب على الحال كأنه قال تعالى : يستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم ، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صورا وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ) أي : الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه ، وهو غاية في الحقارة (شَيْئاً) أي : من الأشياء جلّ أو قلّ (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) لعجزهم ، فكيف يجعلونهم شركاء لله؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل.

تنبيه : الذباب مفرد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذبان مثل غراب وأغربة وغربان ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء ، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه (ضَعُفَ الطَّالِبُ) قال الضحاك : هو العابد (وَالْمَطْلُوبُ) المعبود ، وقال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم ، والمطلوب هو الصنم ، وقيل : على العكس الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، أي : لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه.

ولما أنتج هذا جهلهم بالله عزوجل عبّر عنه بقوله تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله (حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموه حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه (إِنَّ اللهَ) أي : الجامع لصفات الكمال (لَقَوِيٌ) على خلق الممكنات بأسرها (عَزِيزٌ) أي : لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها ؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وغيرهم حيث قالوا : إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ، ونزل قوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق ، ٣٨] ؛ قال الرازي : واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة ، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية ، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة ، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه‌الله تعالى : فهو سبحانه

٦٢٦

وتعالى خير النعت عزيز الوصف ، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره ، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه ، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.

ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى : (اللهُ) أي : الملك الأعلى (يَصْطَفِي) أي : يختار ويختص (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسّلام (وَمِنَ النَّاسِ) كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص ، ٨] فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الجلال والجمال (سَمِيعٌ) لمقالتهم (بَصِيرٌ) بمن يتخذه رسولا.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : الرسل (وَما خَلْفَهُمْ) أي : علمه محيط بما هم مطلعون عليه ، وبما غاب عنهم ، فلا يفعلون شيئا إلا بإذنه (وَإِلَى اللهِ) أي : وحده تعالى (تُرْجَعُ) بغاية السهولة (الْأُمُورُ) يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهرا لا خفاء فيه ، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد ، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الجيم.

ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : تلبسوا بالإيمان (ارْكَعُوا) تصديقا لإيمانكم (وَاسْجُدُوا) أي : صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلا على صدقكم في الإقرار بالإيمان.

تنبيه : إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع ، فحسن التعبير بهما ، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون ، وقيل : كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية ، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى : (وَاعْبُدُوا) أي : بأنواع العبادة (رَبَّكُمْ) أي : المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية ، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها ، أو قد يكون بلا نية ، فقال : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي : كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى ؛ قال أبو حيان : بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة ، ثم بعام وهو : واعبدوا ربكم ، ثم بأعمّ وهو : وافعلوا الخير (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين ، ولا تتكلوا على أعمالكم ، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ : لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير ، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكل ميسر لما خلق له.

تنبيه : اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» (١) حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه ، وذهب قوم إلى

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجمعة حديث ٥٧٨ ، ومالك في القرآن حديث ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٥١.

٦٢٧

أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري ، وقول أبي حنيفة وأصحابه ؛ لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع في ذلك ، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.

ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل ، بالسيف وغيره وكل جهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس ، وقول البيضاوي : وعنه عليه الصلاة والسّلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (١). حديث رواه البيهقي وضعف إسناده ، وقال غيره : لا أصل له ، قيل : أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس (حَقَّ جِهادِهِ) أي : باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.

فإن قيل : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله ، كما قال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ؟) أجيب : بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه ، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن ، ١٦] ، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم لدينه ولنصرته ، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل ، ودينه أشرف الأديان ، وكتابه أعظم الكتب ، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ) أي : الذي اختاره لكم (مِنْ حَرَجٍ) أي : من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك ، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر ، وغير ذلك ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٢) رواه البخاري ، وعن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني اسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة ، وقوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي : اتبعوا ملة أبيكم ، أو على الاختصاص أي : أعني بالدين ملة أبيكم كقولك : الحمد لله الحميد ، وقوله تعالى : (إِبْراهِيمَ) عطف بيان.

فإن قيل : لم كان إبراهيم أبا للأمة كلها؟ أجيب : بأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أبا لأمّته ؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير (هُوَ) على قولين أحدهما أنه يعود على

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٣٧٩ ، ٧ / ٢١٨ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٥١١ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٠٦.

(٢) أخرجه البخاري في الاعتصام حديث ٧٢٨٨ ، ومسلم في الحج حديث ٤١٢ ، والفضائل حديث ١٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢ ، ٥٠٨.

٦٢٨

إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة ، ودعوة إبراهيم : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة ، ١٢٨] ، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ، والثاني : أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ ،) وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي : في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرآن (وَفِي هذا) أي : وسماكم في هذا القرآن الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب ، وهذا القول كما قال الرازي : أقرب لأنه تعالى قال : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي : يوم القيامة أنه بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي : أنّ رسلهم بلغتهم ، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض ، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى ، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء ؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثا لم يعطهن إلا الأنبياء : جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج ، وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ، ٦٠] ، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعا ، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تسمى الله عزوجل باسمين سمى بهما أمّتي ؛ هو السّلام وسمى أمتي المسلمين ، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين» (١).

تنبيه : في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة ، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسببب عن ذلك قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي : داوموا عليها (وَآتُوا الزَّكاةَ) التي هي طهرة أبدانكم ، وصلة بينكم وبين إخوانكم (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها ، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى : (هُوَ) أي : وحده (مَوْلاكُمْ) أي : المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث إنّ تتكمنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها ، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى : (فَنِعْمَ الْمَوْلى) أي : هو (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحدا كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته» (٢) الحديث إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، وهذا نتيجة التقوى ، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها ، وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٧٣ ، والسيوطي في الحاوي للفتاوى ٢ / ٢١٩.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٥٦.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ١٧٦.

٦٢٩

سورة المؤمنون

مكية ، وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية ، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة ، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الأمر كله (الرَّحْمنِ) الذي عم إنعامه (الرَّحِيمِ) الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل ، فأنزل عليه يوما فمكث ساعة حتى سرّي عنه ، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، اللهم أرضنا وارض عنا ، ثم قال : لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» (١) ، ثم قرأ :

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠))

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشرة آيات ، قال ابن عباس : قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة ، وقيل : الفلاح البقاء والنجاة ، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي وغيره.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٧٣.

٦٣٠

تنبيه : قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل : ما المؤمن؟ أجيب : بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما : أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه ، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق ، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعا لصفات سبعة :

الصفة الأولى : كونهم مؤمنين.

الصفة الثانية : المذكورة في قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ) أي : بضمائرهم وظواهرهم (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قال ابن عباس : مخبتون أذلاء ، وقيل : خائفون ، وقيل : متواضعون ، وعن قتادة : الخشوع إلزام موضع السجود ، روى الحاكم ـ وقال : صحيح على شرط الشيخين ـ : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده» (١) أي : موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأن الدنيا ، وقيل : هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها ، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار ، وتقليب الحصى ، روى الترمذي لكن بسند ضعيف : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» (٢) ، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زوّجني الحور العين فقال : بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث ، وعنه أنه قال : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع ، وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» (٤) وقال : «من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (٥).

فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام ، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلبا للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل : لم أضيفت الصلاة إليهم؟ أجيب : بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده ، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته ، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ) أي : بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٣٩٣ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٩٤.

(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٢٨٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٢٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٨٩١.

(٣) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ١١٦.

(٤) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ١١٢ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ١ / ١٥٩.

(٥) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٥٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٢٥٨.

٦٣١

(عَنِ اللَّغْوِ) قال ابن عباس : عن الشرك (مُعْرِضُونَ) أي : تاركون ، وقال الحسن : عن المعاصي ، وقال الزجاج : هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل ، وقيل : هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أن يسقط ويلغى ، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ، ٧٢] أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.

الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي : مؤدون.

تنبيه : الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية ، وهو المراد هنا ؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل ، ويقال لمحدثه : فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية ، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ، وقيل : الزكاة هنا هي العمل الصالح ؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة قال البقاعي : والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب ، وأنّ أصل الزكاة كان واجبا بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام ، ١٤١] انتهى.

الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ) في الجماع ومقدّماته (حافِظُونَ) أي : دائما لا يتبعونها شهوتها ، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة ، وحفظه التعفف عن الحرام ، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح ، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي : واليا عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثم سميت المرأة فراشا ، وقيل : على بمعنى من ، وجرى على ذلك البغوي (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) رقابه من الإماء. فإن قيل : هلا قال تعالى : أو من ملكت؟ أجيب : بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان : أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع ، قال البغوي : والآية في الرجال خاصة ؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي ، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء ، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم.

(فَمَنِ ابْتَغى) أي : طلب متعديا (وَراءَ ذلِكَ) العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها (فَأُولئِكَ) المبعدون من الفلاح (هُمُ العادُونَ) أي : المبالغون في تعدّي الحدود ، عن سعيد بن جبير قال : عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم ، أي : في أيديهم ، وقيل : يحشرون وأيديهم حبالى.

الصفة السادسة : المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أي : في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام ، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع ، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق (وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي : حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح ، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه ، ويقع أيضا على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى : (قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) [آل عمران ، ١٨٣].

٦٣٢

تنبيه : سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء ، ٥٨] ، وقال تعالى : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال ، ٢٧] ، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير : لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر ، والباقون بالألف على الجمع.

الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) التي وصفوا بالخشوع فيها (يُحافِظُونَ) أي : يواظبون عليها ولا يتركون شيئا من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم ، ويؤدّونها في أوقاتها.

فإن قيل : كيف كرّر الصلاة أولا وآخرا؟ أجيب : بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها ، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها ، وأيضا فقد وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت وجمعت آخرا على غير قراءة حمزة والكسائي ، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع ، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة ، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء ، والوتر والضحى وصلاة التسبيح ، وصلاة الحاجة ، وغيرها من النوافل.

ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى :

(أُولئِكَ) أي : البالغون من الإحسان أعلى مكان (هُمُ الْوارِثُونَ) أي : المستحقون لهذا الوصف ، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» (١) وقال مجاهد : لكل واحد منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار ، وقال بعض المفسرين : معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) وهو أعلى الجنة ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» (٢) اللهمّ بجاه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي : لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى : (فِيها ،) على تأنيث الجنة ، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر ، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية : ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان» ، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٤١.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٣ ، وابن ماجه في صفة الجنة حديث ٢٥٢٩.

٦٣٣

بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (١) ، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة ، والجنة مخلوقة الآن ؛ قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ، ١٣٣] ، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعا :

الأول : الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة ، وهي تسع مراتب.

الأولى : قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي : آدم (مِنْ سُلالَةٍ) هي من سللت الشيء من الشيء أي : استخرجته منه ، وهو خلاصته ، وقال ابن عباس : السلالة صفرة الماء ، وقوله تعالى : (مِنْ طِينٍ) متعلق بسلالة ، وقيل : المراد بالإنسان هذا النوع ؛ والسلالة قال مجاهد : من بني آدم ، وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر ، والعرب تسمي النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ؛ لأنهما مسلولان منه.

المرتبة الثانية : قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : نسله ، فحذف المضاف (نُطْفَةً) أي : منيا من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : مستقر حصين هو الرحم.

تنبيه : مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.

المرتبة الثالثة : قوله تعالى : (ثُمَ) أي : بعد تراخ في الزمان ، وعلوّ في المرتبة والعظمة (خَلَقْنَا) أي : بما لنا من العظمة (النُّطْفَةَ) أي : البيضاء جدا (عَلَقَةً) حمراء دما غليظا. شديد الحمرة جامدا غليظا.

المرتبة الرابعة : قوله تعالى : (فَخَلَقْنَا) أي : بما لنا من القوة والقدرة العظيمة (الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي : قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.

المرتبة الخامسة : قوله تعالى : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) أي : بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة (عِظاماً) من رأس ورجلين وما بينهما.

المرتبة السادسة : قوله تعالى : (فَكَسَوْنَا) بما لنا من قوة الاختراع تلك (الْعِظامَ لَحْماً) بما ولدنا منها ترجيعا لحالها قبل كونها عظاما فسترنا تلك العظام ، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر : عظاما ، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع ؛ قال الجلال المحلي : وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.

المرتبة السابعة : قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ) أي : هذا المحدث عنه بعظمتنا (خَلْقاً آخَرَ) أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا وناطقا ، وكان أبكم وسميعا ، وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح ، وثم لما بين الخلقين من التفاوت ؛ قال الزمخشري : وقد احتج به أبو حنيفة رحمه‌الله فيمن غصب

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٦٩ ، ١٢٨ ١٣٤.

٦٣٤

بيضة فأفرخت عنده ، فقال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة ، اه. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سببا لتعظيم الخالق ؛ قال تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال ، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي : المقدرين ، ومميز أحسن محذوف أي : خلقا. روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ قوله (خَلْقاً آخَرَ) قال : «فتبارك الله أحسن الخالقين» (١) وروي «أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ» ، فلحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح ، وروى «سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا أنزلت يا عمر» وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيرا منكن فنزل قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التحريم ، ٥] الآية ، والرابع : قلت : فتبارك الله أحسن الخلقين ، فقال : «هكذا نزل» (٢) قال العارفون : هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل : إنه مات كافرا ؛ قال الله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة ، ٢٦].

المرتبة الثامنة : قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد فى العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير (لَمَيِّتُونَ) أي : لصائرون إلى الموت لا محالة ، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل ، وهو مائت ، فإنه للحدوث لا للثبوت.

المرتبة التاسعة : قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : الذي تجمع فيه جميع الخلائق (تُبْعَثُونَ) للحساب والجزاء.

النوع الثاني : من الدلائل الاستدلال بخلق السموات وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك (سَبْعَ طَرائِقَ) أي : سموات جمع طريقة ؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم ، وقيل : الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها ، وقيل : لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل ، وكل شيء فوقه مثله ، فهو طريقة (وَما كُنَّا) أي : بما لنا من العظمة (عَنِ الْخَلْقِ) أي : الذي خلقناه تحتها (غافِلِينَ) أي : أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها ، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.

النوع الثالث من الدلائل : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات ، وهو قوله

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٩٥.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٧٠ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٢ ، والترمذي حديث ٢٩٤٣ ، والنسائي في الافتتاح باب ٣٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤ ، ٤٠ ، ٤٣ ، ٤ / ٢٠٥.

٦٣٥

تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي : من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه (ماءً بِقَدَرٍ) أي : بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة ، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار ، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار (فَأَسْكَنَّاهُ) أي : فجعلناه ثابتا مستقرا (فِي الْأَرْضِ) كقوله تعالى : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر ، ٢١] ، وعن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند ، وجيحون نهر بلخ ، ودجلة والفرات نهرا العراق ، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء» (١) وذلك قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) قدرة هي في نهاية العظمة ، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله ، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ؛ قال البغوي : وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان.

تنبيه : في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه ، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك ، ٣٠] ، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر.

ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى : (فَأَنْشَأْنا) أي : فأخرجنا وأحيينا (لَكُمْ) خاصة لا لنا (بِهِ) أي : بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار ، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني ، فإنه المقصود من شجرته ، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى : (لَكُمْ) أي : خاصة (فِيها) أي : الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها (وَمِنْها) أي : ومن الجنات من ثمارها وزروعها (تَأْكُلُونَ) رطبا ويابسا وتمرا وزبيبا.

وقوله تعالى : (وَشَجَرَةً) عطف على جنات أي : وأنشأنا لكم شجرة أي : زيتونة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران بين مصر وإيلة ، وقيل : بفلسطين ، وفي رواية أخرى : طور سينين ، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين ، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس ، وبعلبك فيمن أضاف ، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو ، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة ، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء ، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١٥٢٥.

٦٣٦

لم يصرفه ؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء ؛ قال مجاهد : معناه البركة أي : من جبل مبارك ، وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن ، وقال الضحاك : هو بالقبطية ومعناه الحسن ، وقال عكرمة : بالحبشية ، وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (تَنْبُتُ) بضم التاء الفوقية ، وكسر الباء الموحدة من الرباعي ، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى : (بِالدُّهْنِ) تكون الباء على الأول زائدة ، وعلى الثاني معدية قال المفسرون : وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل ؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت ؛ ولأنّ معظمها هناك.

قال بعض المفسرين : وإنما عرف الدهن ؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها ، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به ، وقوله تعالى : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) عطف على الدهن أي : إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه ، وهو الزيت ؛ قيل : إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) [النور ، ٣٥].

النوع الرابع من الدلائل : الاستدلال بأحوال الحيوانات ، وهو قوله تعالى :

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

٦٣٧

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أي : اللبن نجعله لكم شرابا نافعا للبدن موافقا للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم (وَلَكُمْ فِيها) أي : جماعة الأنعام ، وقدم الجار تعظيما لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضا بسهولة من غير امتناع ما من شيء من ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم ، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذرا لا يؤكل ، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.

(وَعَلَيْها) أي : الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر ، وقيل : المراد الإبل خاصة ؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) لأنها سفائن البر ، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى (١) :

سفينة بر تحت خدي زمامها

قال الزمخشري : يريد صيدحه أي : ناقته ؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال (٢) :

رأيت الناس ينتجعون غيثا

فقلت لصيدح انتجعي بلالا

يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة.

ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئا بقصة نوح ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (نُوحاً) وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسّلام ، وكان اسمه يشكر ، وسمي نوحا لوجوه : أحدها : لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك ، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان ، فندم على ذلك ، ثانيها : لمراجعته ربه في شأنّ ابنه ، ثالثها : أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. (إِلى قَوْمِهِ) وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة ؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى جميع الأنبياء (فَقالَ) أي : فتسبب عن ذلك أن قال (يا قَوْمِ) ترفقا بهم (اعْبُدُوا اللهَ) وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال ، واستأنف على سبيل التعليل قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) أي : معبود بحق (غَيْرُهُ) فلا تعبدوا سواه (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره ، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء ، والباقون بضمهما.

(فَقالَ) أي : فتسبب عن ذلك أن كذبوه بأنّ قال (الْمَلَأُ) أي : الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لعوامهم ما هذا أي : نوح (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : فلا

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٥٣٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٦٧ ، ١٦٨ ، ولسان العرب (صدح) ، (نجع) ، والمقتضب ٤ / ١٠ ، ونوادر أبي زيد ص ٣٢ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣٩٠.

٦٣٨

يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أن يكون بعض البشر نبيا ، ولم ينكروا أن يكون بعض الطين إنسانا وبعض الماء علقة ، وبعض العلقة مضغة إلى آخره ، فكأنه قيل : ما حمله على ذلك فقالوا : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ) يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا (عَلَيْكُمْ) لتكونوا أتباعا له ولا خصوصية له دونكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي : الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره (لَأَنْزَلَ) كذلك (مَلائِكَةً) رسلا بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري : وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضوا للألوهية بحجر (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : الذي دعا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي : الأمم الماضية.

(إِنْ) أي : ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ولأجله يقول ما يدعيه (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) أي : فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه (حَتَّى) أي : إلى (حِينٍ) لعله يفيق أو يموت ، فكأنه قيل : فما قال؟ فقيل : (قالَ) عندما أيس من فلاحهم (رَبِّ انْصُرْنِي) أي : أعني عليهم (بِما كَذَّبُونِ) أي : بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.

(فَأَوْحَيْنا) أي : فتسبب عن دعائه أن أوحينا (إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) أي : السفينة (بِأَعْيُنِنا) أي : إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم ، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء ، فثق بحفظنا ولا تخف شيئا من أمرهم ، روي أنه لما أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ، قال الجوهري : جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى : (وَوَحْيِنا) أي : وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع ، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة ، ووصف كيفية اتخاذها له ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي : بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب (وَفارَ التَّنُّورُ) قال ابن عباس : وجه الأرض ، وفي القاموس : التنور الكانون يخبز فيه ، ووجه الأرض ، وعن قتادة : أنه أشرف موضع في الأرض أي : أعلاه ، وعن علي : طلع الفجر ، وعن الحسن : أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه ، وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس ، والأقرب كما قال الرازي ، وعليه أكثر المفسرين ، هو التنور المعروف بتنور الخباز ، فيكون له فيه آية ، روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته ، فركب وقيل : كان تنور آدم ، وكان من حجارة ، فصار إلى نوح ، واختلف في مكانه ، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد ، وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة ، وقيل : بالهند.

وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين ، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل (فَاسْلُكْ) أي : أدخل (فِيها) أي : السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ،) من الحيوان (اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي : من كل نوع زوجين ، فزوجين مفعول واثنين تأكيد ، والباقون بغير تنوين ، فاثنين مفعول ، ومن متعلق باسلك ، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما ، فجعل يضرب يده في كل جمع ، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة ، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض (وَأَهْلَكَ) أي : وأهل بيتك من زوجك وأولادك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ) لا له (الْقَوْلُ مِنْهُمْ)

٦٣٩

بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث ، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة ، وفي سورة هود (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود ، ٤٠] ، قيل : كانوا ستة رجال ونساءهم ، وقيل : جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء (وَلا تُخاطِبْنِي) أي : بالسؤال في النجاة (فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : كفروا ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ، فإنه تعالى بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل.

ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أي : اعتدلت (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) أي : من البشر وغيرهم (عَلَى الْفُلْكِ) ففرغت من امتثال الأمر بالحمل (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : الذي لا كفء له ؛ لأنه مختص بصفات الحمد (الَّذِي نَجَّانا) بحملنا فيه (مِنَ الْقَوْمِ) أي : الأعداء الأغبياء (الظَّالِمِينَ) أي : الكافرين لقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام ، ٤٥].

تنبيه : إنما قال تعالى : قل ، ولم يقل : قولوا ؛ لأنّ نوحا كان لهم نبيا وإماما فكان قوله قولا لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية ، وإن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.

ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل أتبعه بالإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) في الفلك ثم في الأرض ، وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه (مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي : يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين ، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي : مكان النزول ، والباقون بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان ، ثم إن الله تعالى أمره أن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته وهو قوله تعالى : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ما ذكر لأنك تكفي نزيلك كل ملم وتعطيه كل أمر.

ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص حث على تدبرها بقوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار (لَآياتٍ) أي : دلالات على قدرة الله تعالى وصدق الأنبياء في أن المؤمنين هم المفلحون وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين ، وإن عظمت شوكتهم واشتدت صولتهم (وَإِنْ كُنَّا) بما لنا من العظمة والوصف الثابت الدال على تمام القدرة (لَمُبْتَلِينَ) أي : فاعلين فعل الخبير المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالح منهم من غيره ، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم وينقص سيئاتهم ويعلي درجاتهم ، ثم نجعل لهم العاقبة كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ، ١٢٨].

تنبيه : إن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة.

القصة الثانية : قصة هود ، وقيل : صالح عليهما‌السلام المذكورة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا) أي : أحدثنا وأحيينا (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد إهلاكهم (قَرْناً) أي : قوما (آخَرِينَ) هم عاد قوم هود ، وقيل : ثمود قوم صالح.

(فَأَرْسَلْنا) أي : فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أنا أرسلنا (فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود،

٦٤٠