تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

يأذن له الرجل فلما أعياه نظر ، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال : يا فلان ألم آمرك قال : أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ، فقال : أعدوّ الله قال : نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك ، فعصمك الله تعالى ، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به ، وقيل إن إبليس جاءه وقال : إن لي غريما يظلمني ، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه ، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل : إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى ، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبيا؟ فقال الحسن : كان نبيا ، وعن ابن عباس أنه إلياس ، وقيل : هو زكريا ، وقيل : هو يوشع بن نون ، وقال أبو موسى : لم يكن نبيا ، ولكن كان عبدا صالحا ، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى (كُلٌ) أي : كل واحد منهم (مِنَ الصَّابِرِينَ) على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي : فعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم ، فكان ظرفا لهم ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير ، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

القصة الثامنة : قصة يونس عليه الصلاة والسّلام المذكورة في قوله تعالى :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١))

(وَذَا النُّونِ) أي : واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) واختلفوا في معنى ذلك ، فقال الضحاك : مغاضبا لقومه ، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان قوم يونس يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبيا قويا إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني اسرائيل فقال له الملك فمن ترى؟ وكان

٥٨١

في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس : فإنه قويّ أمين ، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي قال : لا قال : فهل سماني لك ، قال : لا ، قال : فههنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه ، فخرج من بينهم مغاضبا للنبيّ والملك ولقومه ، فأتى بحر الروم فركبه ، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذابا لا كراهية الحكم لله تعالى.

وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب ، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب والمغاضبة ههنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة ، فمعنى قوله مغاضبا أي : غضبانا.

وقال الحسن : إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن ينظره ليذهب ، فقيل له : إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلا يلبسها ، فلم ينظره ، وكان في خلقه ضيق ، فذهب مغاضبا ، وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال التمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب : إنّ يونس كان عبدا صالحا ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها بين يديه وخرج هاربا ، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم ، فقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ، ٣٥] ، وقال : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم ، ٤٨](فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك ، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه ، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد ، ٢٦] وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك ، قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية فقال : أو يظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه ، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة ، وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه (فَنادى) أي : فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم ، فألقى نفسه في البحر ، فالتقمه الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة ، وقال عطاء : سبعة أيام.

وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة ، وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، ومنعناه أن يكون له طعاما ، فنادى (فِي الظُّلُماتِ) ظلمة الليل وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت وقيل : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة ، ١٧] وقوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة ، ٢٥٧] ، وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين ، وظلمة البحر (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى : (سُبْحانَكَ) أي : تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت ، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسبا إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعا «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش له لحما ، ولا تكسر له

٥٨٢

عظما ، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا ، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر ؛ قال : فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ، وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول ، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)(١).

فذلك قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبناه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي : من تلك الظلمات بتلك الكلمات (وَكَذلِكَ) أي : وكما نجيناه (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع : وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء ، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار ، وهذا شرط كل داع أه.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» (٢) ، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي ، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون ، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل : هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء ، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.

تنبيه : اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسّلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) [الصافات ، ١٤٥] ، ثم ذكر بعده : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات ، ١٤٧] ، وقال آخرون : إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات ، ١٣٩ ـ ١٤٤]

القصة التاسعة : قصة زكريا عليه الصلاة والسّلام المذكورة في قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا) أي : واذكر زكريا ويبدل منه (إِذْ نادى رَبَّهُ) نداء الحبيب القريب فقال : (رَبِ) بإسقاط أداة البعد (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي : وحيدا من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة (وَأَنْتَ) أي : والحال أنك (خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : الباقي بعد فناء خلقك ، وكثيرا ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيدا آخرين ، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب ، فتهبني ولدا تمنّ عليّ به.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه ، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس ، ولذلك عبر بما يدل على العظمة ، فقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ولدا وارثا نبيا حكيما عظيما (وَأَصْلَحْنا لَهُ) خاصة من بين أهل ذلك الزمان (زَوْجَهُ) أي : جعلناها صالحة لكل خير خالصة له ، فأصلحناها للولادة بعد عقمها ، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق ، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٣ / ١٩٣.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٣٥٠٠ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٥٠٥.

٥٨٣

(إِنَّهُمْ) أي : الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل : زكريا وزوجه ويحيى (كانُوا) أي : جبلة وطبعا (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر ، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا) مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا (رَغَباً) أي : طمعا في رحمتنا (وَرَهَباً) أي : خوفا من عذابنا (وَكانُوا) أي : جبلة وطبعا (لَنا) خاصة (خاشِعِينَ) أي : خائفين خوفا عظيما يحملهم على الخضوع والانكسار ، قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب ، وقيل : متواضعين ، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال : أما إني سألت إبراهيم فقال : ألا تدري؟ قلت : أفدني ، قال : بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيرا لعلك ترى أنه يأكل خشنا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه.

القصة العاشرة : قصة مريم وابنها عليهما‌السلام المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّتِي) أي : واذكر مريم التي (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : حفظته من الحلال والحرام حفظا يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم ، ٢٠] ؛ لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي : أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله.

ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي : قصتهما أو حالهما ، ولذلك وحد قوله تعالى : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) من الجنّ والإنس والملائكة ، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل : هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء ، ١٢] أجيب : بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.

وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى :

(إِنَّ هذِهِ) أي : ملة الإسلام (أُمَّتُكُمْ) أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها (أُمَّةً) قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد ا. ه فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحد. أه ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى : (واحِدَةً) فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي : المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر ، ولا يشغلني شأن عن شأن (فَاعْبُدُونِ) دون غيري فإنه لا كفء لي ، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى.

(وَتَقَطَّعُوا) أي : بعض المخاطبين (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى ؛ قال الكلبي : فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض.

تنبيه : الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ، ويقبح عليهم فعلهم عندهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى ، والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء

٥٨٤

ويقتسمونه بينهم ، فيصير لهذا نصيب ، ولذاك نصيب تمثيلا لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى ، ثم توعدهم بقوله تعالى : (كُلٌ) أي : من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد (إِلَيْنا) يوم القيامة (راجِعُونَ) فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل ، فنعطي كلا من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه ، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقا بين المحسن والمسيء تحقيقا للعدل وتشويقا إلى الفضل.

(فَمَنْ يَعْمَلْ) أي : منهم الآن (مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ) أي : والحال أنه (مُؤْمِنٌ) أي : يأتي بعمله على الأساس الصحيح (فَلا كُفْرانَ) أي : لا جحود (لِسَعْيِهِ) بل يشكر ويثاب عليه.

تنبيه : قوله تعالى : فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول : فلا نكفر سعيه (وَإِنَّا لَهُ) أي : لسعيه (كاتِبُونَ) أي : مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئا قل أو جل ، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر ، فلا نقيم له وزنا ، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ : ولعله حذف هذين القسمين ترغيبا في الإيمان.

ولما كان هذا غير صريح في أنّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى : (وَحَرامٌ) أي : ممنوع (عَلى قَرْيَةٍ) أي : أهلها (أَهْلَكْناها) أي : بالموت (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلا من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيما أو عذابا دون النعيم والعذاب الأكبر.

تنبيه : ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها ، أو قدّرنا إهلاكها ، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة ، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي : يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت ، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك ، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون : الحرام بمعنى الواجب ، فعلى هذا يكون لا ثابتا ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي : حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي : لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي : يتقبل عمله ، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لا يتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة ؛ لكن الأوّل أظهر ، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء قال البغوي : وهما لغتان مثل حل وحلال.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) متعلق كما قال الزمخشري بحرام وحتى غاية له ؛ لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام أي : فهي الابتدائية لا الجارّة ولا العاطفة والمحكي هو الجملة الشرطية ، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان اسم لقبيلتين من جنس الإنس ويقدر قبله مضاف أي : سدّهما ، وذلك قرب الساعة يقال الناس عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج ، وقرأهما عاصم بهمزة ساكنة والباقون بالألف ، ثم عبّر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى بقوله تعالى : (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) أي : نشز عال من الأرض (يَنْسِلُونَ) أي : يسرعون من النسلان ، وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب ، وفي

٥٨٥

العبارة إيماء إلى أنّ الأرض كرة ، وقيل : الضمير راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : «اطلع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تتذاكرون؟ قلنا : نتذاكر الساعة ، قال : إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات ، فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» (١).

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي : يوم القيامة ؛ قال حذيفة : لو أنّ رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال الكلبيّ : شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.

تنبيه : فإذا هي إذا للمفاجأة وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء كقوله تعالى : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم ، ٣٦] ، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط ، فيتأكد ، ولو قيل : إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديدا ، قال سيبويه : والضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني القصة أنّ أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك ، وقال الزمخشري : هي ضمير مبهم توضحه الأبصار ، وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا النجوى وقولهم : (يا وَيْلَنا) أي : هلاكنا متعلق بمحذوف تقديره : يقولون يا ويلنا ، ويقولون في موضع الحال من الذين كفروا ويا للتنبيه (قَدْ كُنَّا) أي : في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي : اليوم حيث كذبنا وقلنا : إنه غير كائن ، ثم أضربوا عن الغفلة فقالوا : (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أنفسنا بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمّل دلائله ، والنظر في مخايله ، وكذبنا الرسل وعبدنا الأوثان.

وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ) خطاب لأهل مكة ، وأكده لإنكارهم مضمون الخبر (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره من الأوثان (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي : وقودها ، وهو ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصب والحصب في لغة أهل اليمن الحطب ، وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية قال الضحاك : يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصب ، وقوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي : داخلون استئناف أو بدل من حصب جهنم ، واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أنّ ورودهم لأجلها.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ) أي : الأوثان (آلِهَةً) أي : كما زعمتم (ما وَرَدُوها) أي : ما دخل الأوثان وعابدوها النار ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء خالصة في الوصل بعد تحقيق الأولى ، والباقون بتحقيقهما (وَكُلٌ) أي : من العابدين والمعبودين (فِيها) أي : في جهنم (خالِدُونَ) لا انفكاك لهم عنها بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر فإن قيل : لم قرنوا بآلهتهم؟ أجيب : بأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب ؛ لأنهم قدروا أنهم يستشفعون في الآخرة وينتفعون بشفاعتهم ، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.

فإن قيل : إذا عنيت بما تعبدون الأوثان فما معنى قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي : تنفس

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢١٨٣ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٥٥.

٥٨٦

عظيم على غاية من الشدّة والمد تكاد تخرج معه النفس؟ أجيب : بأنهم إذا كانوا هم وأوثانهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم : زفير ، وإن لم يكن الزافرون إلا هم دون الأوثان للتغليب ولعدم الإلباس (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) شيئا لشدّة غليانها ، وقال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أنّ أحدا يعذب في النار غيره ، وروي «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم إنكم وما تعبدون من دون الله الآية ، فأقبل عبد الله بن الزبعرى السلمي ، فرآهم يتهامسون فقال : فيم خوضكم ، فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته ، فدعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ابن الزبعرى : أأنت قلت ذلك؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى»)(١) أي : الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل ، ومنهم من ذكر سواء أضل بأحد منهم الكفار فأطروه أم لا (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (عَنْها) أي : جهنم (مُبْعَدُونَ) برحمة الله تعالى لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وفي رواية ابن عباس «أن ابن الزبعرى لما قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك سكت ولم يجب ، فضحك القوم ، فنزل قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف ، ٥٧ ، ٥٨] ، ونزل في عيسى والملائكة إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية ، وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك رضي الله تعالى عنه ، ومدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وادّعى جماعة أنّ المراد من الآية الأصنام ؛ لأنّ الله تعالى قال : وما تعبدون من دون الله ، ولو أراد الملائكة والناس لقال : ومن تعبدون ، يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم ، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول :

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٣ / ١٩٩ ، والطبري في تفسيره ١٧ / ٩٦.

٥٨٧

لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي : حركتها البالغة وصوتها الشديد ، فكيف بما دونه ؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي ، فإذا زادت حروفه زاد معناه ، فذكر ذلك بدلا من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها (وَهُمْ) أي : الذين سبقت لهم منا الحسنى (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) في الجنة كما قال تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف ، ٧١] والشهوة طلب النفس اللذة (خالِدُونَ) أي : دائما أبدا في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.

فائدة : في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قال الحسن : هو حين يؤمر بالعبد إلى النار ، وقال ابن عباس : هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [النمل ،] ، وقال ابن جريج : هو حين يذبح الموت وينادى : يا أهل النار خلود بلا موت ، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم ، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه (وَتَتَلَقَّاهُمُ) أي : تستقبلهم (الْمَلائِكَةُ) قال البغوي : على أبواب الجنة يهنونهم ، وقال الجلال المحلي : عند خروجهم من القبور ، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي : هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم.

ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى : (يَوْمَ) أي : تكون هذه الأشياء يوم (نَطْوِي السَّماءَ) طيا ، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه ، فقال مشبها للمصدر الذي دل عليه الفعل (كَطَيِّ السِّجِلِّ ،) واختلف في السجلّ فقال بعضهم : هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه (لِلْكُتُبِ) أي : القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد ، وقال السدّي : هو ملك يكتب أعمال العباد ، وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها ، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها ، والطي هو الدرج ، وهو ضدّ النشر ، وإنما وقع هذا الاختلاف ؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع ، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء ، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد ، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس ، فجميع السموات تطوى.

روي عن ابن عباس أنه قال : يطوي الله تعالى السموات السبع بما فيها من الخليقة

٥٨٨

والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته ، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال : «أيها الناس إنّكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا» (١) أي : غير مختونين (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا غير مختونين نعيدهم يوم القيامة ؛ نظيره قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام ، ٩٤](وَعْداً) وأكد ذلك بقوله تعالى (عَلَيْنا) وزاده بقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا) أي : أزلا وأبدا على حالة لا تحول (فاعِلِينَ) أي : شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك.

ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع كتب الله تعالى المنزلة والذكر أمّ الكتاب الذي عنده ، ومعناه من بعدما كتب ذكره في اللوح المحفوظ ، وقال ابن عباس والضحاك : الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة ، وقال الشعبي : الزبور كتاب داود والذكر التوراة ، وقيل : الزبور كتاب داود ، والذكر القرآن ، وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف ، ٧٩] أي : أمامهم ، وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ، ٣٠] أي : قبله ، وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها (أَنَّ الْأَرْضَ) أي : أرض الجنة (يَرِثُها عِبادِيَ) وحقق ذلك ما أفادته إضافتهم إليه بقوله تعالى : (الصَّالِحُونَ) أي : المتحققون بأخلاق أهل الذكر ، المقبلون على ربهم الموحدون له ، المشفقون من الساعة ، الراهبون من سطوته ، الراغبون في رحمته ، الخاشعون له ، فهذا عام في كل صالح ، وقال مجاهد : يعني أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليله قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر ، ٧٤] وقال ابن عباس : أراد أنّ أراضي الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين ، وقيل : أراد بالأرض الأرض المقدسة ، وقيل : أراد جنس الأرض الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى ، وجرى على هذا البقاعي في تفسيره ، وقرأ حمزة بسكون الياء ، والباقون بفتحها.

(إِنَّ فِي هذا) أي : القرآن كما قاله البغوي (لَبَلاغاً) أي : وصولا إلى البغية ، فإن من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب ، وقيل : بلاغا أي : كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي : كفاية ، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر ، وقال الرازي : هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : عاملين به ، وقال ابن عباس : عالمين ، قال الرازي : والأولى أنهم الجامعون بين أمرين ؛ لأن العلم كالشجرة ، والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد ، والثمر بدون الشجر غير كائن ، وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الصلوات الخمس ، وشهر رمضان.

ولما كان هذا مشيرا إلى إرشادهم فكان التقدير فما أرسلناك إلا لإسعادهم عطف عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ) أي : على حالة من الأحوال (إِلَّا) على حال كونك (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) كلهم أهل السموات وأهل الأرض من الجنّ والإنس وغيرهم طائعهم بالثواب وعاصيهم بتأخير

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

٥٨٩

العقاب الذي كنا نستأصل الأمم به ، فنحن نمهلهم ونترفق بهم إظهارا لشرفك ، وإعلاء لقدرك ، ثم نردّ كثيرا منهم إلى دينك ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك بعد طول ارتكابهم الضلال ، وارتباكهم في إشراك المحال ، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين ، وتقوم الملائكة صفوفا والثقلان وسطهم ، ويموج بعضهم في بعض من شدّة ما هم فيه يطلبون من يشفع لهم فيقصدون أكابر الأنبياء نبيا نبيا عليهم الصلاة والسّلام ، فيحيل بعضهم على بعض وكل منهم يقول : لست لها حتى يأتوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : «أنا لها» ، ويقوم معه لواء الحمد ، فيشفعه الله تعالى ، وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الخلق أجمعين.

ولما أورد تعالى على الكفار الحجج في أن لا إله سواه وبيّن أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي : ما يوحى إلي في أمر الإله إلا وحدانيته وما إلهكم إلا إله واحد لم يوح إلي فيما تدّعون من الشركة غير ذلك فالأوّل من قصر الصفة على الموصوف ، والثاني : من قصر الموصوف على الصفة والمخاطب بهما من يعتقد الشركة فهو قصر قلب ، وقال الزمخشري : إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد قائم ، وإنما يقوم زيد ، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية ؛ لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم ، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقصور على استئثار الله تعالى بالوحدانية انتهى. ولما كان الوحي الوارد على هذه السنن موجبا أن يخلصوا التوحيد لله تعالى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لما يوحى إلي من وحدانية الإله ، والاستفهام بمعنى الأمر أي : أسلموا.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : لم يقبلوا ما دعوتهم إليه (فَقُلْ) أي : لهم (آذَنْتُكُمْ) أي : أعلمتكم بالحرب كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة ، فنبذ إليهم العهد وأشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك ، وقوله : (عَلى سَواءٍ) حال من الفاعل والمفعول أي : مستوين في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم ولا أستبدّ به دونكم لتتأهبوا (وَإِنْ) أي : وما (أَدْرِي أَقَرِيبٌ) جدّا بحيث يكون قربه على ما يتعارفونه (أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من غلب المسلمين عليكم أو عذاب الله أو القيامة المشتملة عليه ، وإنّ ذلك كائن لا محالة ولا بدّ أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار ، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك ؛ لأنّ الله تعالى لم يعلمني علمه ، ولم يطلعني عليه ، وإنما يعلمه الله تعالى.

(إِنَّهُ) تعالى (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي : مما يجهرون به من العظائم وغير ذلك ، ونبه تعالى على ذلك فإنّ من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جدا بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين ، فأعلم سبحانه وتعالى أنه لا يشغله صوت عن آخر ، ولا يفوته شيء من ذلك ولو كثر (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) مما تضمرونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، ونظير ذلك قوله تعالى في أول السورة : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأنبياء ، ٤] ومن لازم ذلك من المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل فستعلمون كيف تخيب ظنونكم ويتحقق ما أقول فتنطقون حينئذ بأني صادق ولست بساحر ولا شاعر ولا كاهن ، فهو من أبلغ التهديد ، فإنه لا أبلغ من التهديد بالعلم ، ولما كان الإمهال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة قال :

٥٩٠

(وَإِنْ) أي : وما (أَدْرِي) أن يكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أم لا (لَعَلَّهُ) أي : تأخير العذاب (فِتْنَةٌ) أي : اختبار (لَكُمْ) ليظهر ما يعلمه منكم من السر لغيره لأنّ حالكم حال من يتوقع منه ذلك (وَمَتاعٌ) لكم تتمتعون به (إِلى حِينٍ) أي : بلوغ مدّة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل ، ثم يأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون ، ولما كان لله أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل ، وكان من العدل جواز تعذيب الله تعالى الطائع وتنعيم المؤمن العاصي ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ الغاية في البيان لهم ، وهم قد بلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه أمر الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه تسلية له بقوله تعالى :

(قالَ رَبِ) أيها المحسن إليّ (احْكُمْ) أي : أنجز الحكم بيني وبين قومي (بِالْحَقِ) أي : بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان ، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها ، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل : كيف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق؟ أجيب : بأن الحق ههنا بمعنى العذاب ، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر ، نظيره قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف ، ٨٩] ، وقال أهل المعاني : معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه ، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب ، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق (وَرَبُّنَا) أي : المحسن إلينا أجمعين (الرَّحْمنُ) أي : العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا ، ولو لا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين ، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره ، (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ، ٤٥](الْمُسْتَعانُ) أي : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) من كذبكم على الله تعالى في قولكم : اتخذ الله ولدا ، وعليّ في قولكم ساحر ، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي : روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ذلك في حروبه ، ولم يذكر له سندا ، وأما ما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ اقترب حاسبه الله حسابا يسيرا ، وصافحه وسلّم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن» (١) ، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ١٤١.

٥٩١

سورة الحج

مكية ، إلا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآيتين وإلا (هذانِ خَصْمانِ) الست آيات فمدنيات ، وهي ثمان ، وقيل : خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء (الرَّحْمنِ) الذي عمّ برحمته كل موجود (الرَّحِيمِ) الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون ، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم (اتَّقُوا) أي : احذروا عقاب (رَبَّكُمْ) أي : المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات ، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهبا لهم بقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي : حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي ، فتكون الزلزلة مصدرا

٥٩٢

مضافا إلى فاعله ، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ ، ٣٣] ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة ، ١] واختلف في وقتها ، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة ، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة (شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي : أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها ، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بدّ لكم من الحشر فيه إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) أي : الزلزلة أو الساعة ، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلا للأمر ، وترويعا للنفس (تَذْهَلُ) بسبب ذلك (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) أي : بالفعل أي : تنسى وتغفل حائرة مدهوشة ، والعامل في يوم تذهل.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مُرْضِعَةٍ ،) ولم يقل : مرضع؟ أجيب : بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع ، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها ، فقال : مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة (عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، فما إمّا مصدرية أو موصولة (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي : تسقطه قبل التمام رعبا وفزعا.

تنبيه : هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها ، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك؟ فقيل : هو تصوير لهولها ، قاله البيضاوي ، وقال البقاعي في المرضعة : هي من ماتت مع ابنها رضيعا ، وفي ذات الحمل : من ماتت حاملا ، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه ، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته ، فذكرت له هذين القولين ، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني ، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة ، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.

ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ـ زاد في رواية والخير في يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ؛ قال : يا رب ، وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحوامل حملها ، ويشيب الوليد وساق بقية الآية» (١) ، وهي (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) أي : لما هم فيه من الدهشة والحيرة ، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى : (وَما هُمْ بِسُكارى) أي : من الشراب ، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ) ذي العزة والجبروت (شَدِيدٌ) فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر ؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم ، تم الحديث عند آخر الآية ، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٢٢.

٥٩٣

قالوا : يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار ، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة ، فكبّرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة فكبّرنا» (١) ، وفي رواية : «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة» (٢).

روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا ، فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم فلم نر أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا ، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث بعث النار ـ وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ـ ثم قال : «يدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب» قال عمر : سبعون ألفا؟ قال : «نعم ومع كل واحد سبعون ألفا» (٣).

وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما ، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف ، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة ، وورش بين بين ، والباقون بالفتح. ونزل في النضر بن الحرث ، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا.

(وَمِنَ النَّاسِ) أي : المذبذبين (مِنَ) لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبها ، فيكذب فيؤبق بسوء عمله ؛ لأنه (يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : في قدرته على ذلك اليوم ، وفي غير ذلك بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بل بالباطل الذي هو جهل صرف فيترك اتباع الهداة (وَيَتَّبِعُ) بغاية جهده في جداله (كُلَّ شَيْطانٍ) محترق بالسوء مبعد باللعن (مَرِيدٍ) أي : متجرّد للفساد ولا شغل له غيره ؛ قال البيضاوي : وأصله العري أي : عن الساتر.

(كُتِبَ) أي : قدّر وقضي على سبيل الحتم الذي لا بدّ منه تعبيرا باللازم عن الملزوم (عَلَيْهِ) أي : على ذلك الشيطان (أَنَّهُ) أي : الشأن (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي : فعل معه فعل الولي مع وليه باتباعه والإقبال على ما يزينه (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) بما يبغض إليه من الطاعات ، فيخطىء سبيل الخير (وَيَهْدِيهِ) أي : بما يزين له من الشهوات الحاملة على الزلات (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي : النار.

ثم ألزم الحجة منكري البعث بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : كافة ويجوز أن يراد به المنكر فقط (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي : شك وتهمة وحاجة إلى البيان (مِنَ الْبَعْثِ) وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها فتفكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أنّ القادر على خلقكم أوّلا قادر على خلقكم ثانيا ، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة :

__________________

(١) انظر الحاشية السابقة.

(٢) أخرجه الحميدي في مسنده ٨٣١.

(٣) أخرجه الترمذي حديث ٣١٦٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ١٨١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٤٣.

٥٩٤

المرتبة الأولى : قوله تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء (مِنْ تُرابٍ) لم يسبق له اتصاف بالحياة ، وفي الخلق من تراب وجهان ؛ أحدهما : أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسّلام من تراب كما قال تعالى : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران ، ٥٩] ، الثاني : من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعا للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء ، فصح قوله تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ.)

المرتبة الثانية : قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق ، ٦] وأصلها الماء القليل ، قاله البغوي ، وأصل النطف الصب ، قاله البيضاوي.

المرتبة الثالثة : قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي : قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان ، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.

المرتبة الرابعة : قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي : قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ (مُخَلَّقَةٍ) أي : مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي : وغير مسوّاة ، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم ، هذا قول قتادة والضحاك ، وقال مجاهد : المخلقة الولد الذي يخرج حيا وغير المخلقة السقط ، وقال قوم : المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة ، وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وتشكيل ، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفا عليه قال : إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دما ، ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة قال الملك : أي رب ذكر أم أنثى ، وشقيّ أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت؟ فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها ، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال : حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفه ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ، فو الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (١) فكأنه تعالى يقول : إنما نقلناكم من حال إلى حال ، ومن خلقه إلى خلقة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا ، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلا ، ثم من نطفة ثانيا ، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر ، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاما قدر على إعادة ما أبدأه بل هو

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٣٢ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٨ ، والترمذي في القدر حديث ٢١٣٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٧٦.

٥٩٥

أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس ، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) أي : من ذلك الذي خلقناه (ما نَشاءُ) إتمامه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها ، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء ، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته ، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام ، أو تحرقه فيضمحل.

المرتبة الخامسة : قوله تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) وهو معطوف على نبين ، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا ، والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر ، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.

المرتبة السادسة : قوله تعالى : (ثُمَ) أي : نمدّ أجلكم (لِتَبْلُغُوا) بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة (أَشُدَّكُمْ) أي : الكمال والقوّة ، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور.

المرتبة السابعة : قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي : عند بلوغ الأشدّ أو قبله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لو لا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط (إِلى أَرْذَلِ) أي : أخس (الْعُمُرِ) وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) كان أوتيه (شَيْئاً) أي : ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك : من هذا؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.

فإن قيل : هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين ، ٥ ـ ٦] أجيب : بأن معنى قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) هو دلالة على الذمّ ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ،) لكن قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة ، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعا أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات ، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج ، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلا آخر على البعث مشاهدا بقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي : يابسة ساكنة سكون الميت (فَإِذا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من القدرة (عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي : تحركت وتأهلت لإخراج النبات (وَرَبَتْ) أي : ارتفعت ، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين ، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء ، وقوله تعالى : (وَأَنْبَتَتْ) مجاز ؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعا أي : أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي : صنف (بَهِيجٍ) أي : حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها ، قال الجلال المحلي : من زائدة ، ولم أر من ذكر ذلك من المفسرين.

تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال ، فكذلك الإنسان المؤمن

٥٩٦

يترقى من نقص إلى كمال ، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السّلام مبرأ عن عوارض هذا العالم.

ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة ، وذكر أمورا خمسة أحدها قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض (بِأَنَ) أي : بسبب أن تعلموا أنّ (اللهَ) أي : الجامع لأوصاف الكمال (هُوَ) أي : وحده (الْحَقُ) أي : الثابت الدائم وما سواه فان ، ثانيها قوله تعالى : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي : قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة ، ثالثها : قوله تعالى : (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الخلق وغيره (قَدِيرٌ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس ، ٨٢] ، رابعها : قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ) التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم (آتِيَةٌ لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيها) أي : بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله ، وهو حكيم لا يخلف ميعاده ، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب ، خامسها : قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ) بالإحياء (مَنْ فِي الْقُبُورِ) بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف ، وقد وعد الساعة والبعث ، فلا بدّ أن يفي بما وعد.

ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) أي : بغاية جهده (فِي اللهِ) أي : في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتابا أو غيره (وَلا هُدىً) أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى ، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل ، وقيل : قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص ، وقيل : الأوّل في المقلدين ، وهذا في المقلدين.

وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال أي : لاوي عنقه تكبرا عن الإيمان كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان ، ٧] والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال ، وقوله تعالى : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) علة للجدال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها.

فإن قيل : على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله ، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال؟ أجيب عن الأوّل : بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، وعن الثاني : بأنّ الهدى لما كان معرّضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي : إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : الإحراق بالنار ، وعن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازا.

(ذلِكَ) أي : العذاب العظيم (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي : بعملك ، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد ؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى (وَأَنَ) أي : وبسبب

٥٩٧

أنّ (اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي : بذي ظلم ما (لِلْعَبِيدِ) وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيرا ، واطمأن به ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرّا ، فينقلب عن دينه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) أي : يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته (عَلى حَرْفٍ) فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له ، وكالذي على طرف من العسكر ، فإن رأى غنيمة استمرّ ، وإن توهم خوفا طار وفرّ ، وذلك معنى قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي : من الدنيا (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : بسببه وثبت على ما هو عليه (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي : محنة وسقم في نفسه وماله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : رجع إلى الكفر ، وعن أبي سعيد الخدريّ : «أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلني ، فقال : إن الإسلام لا يقال ، فنزلت» (١) ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا) بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة ، ٦٦] ، وروي «إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (٢).

(وَالْآخِرَةَ) بالكفر ، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الأمر العظيم (هُوَ) أي : لا غيره. (الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي : البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى :

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٢ / ١٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٤٦ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١١٢ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٦٥٠٣ ، والعقيلي في الضعفاء ٣ / ٣٦٨.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٧٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٦٦١١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٤٨١ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ١٦٤ ، ٢٦٤.

٥٩٨

كُلَّما (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

(يَدْعُوا) أي : يعبد حقيقة أو مجازا (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غير من الصنم (ما لا يَضُرُّهُ) إن لم يعبده (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده (ذلِكَ) أي : الدعاء (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا فطالت وبعدت مسافة ضلاله.

ولما كان الإحسان جالبا للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بيّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض ، فقال تعالى : (يَدْعُوا لَمَنْ) أي : من (ضَرُّهُ) بكونه معبودا ، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) الذي يتوقع منه بعبادته ، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى.

تنبيه : علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي ، (فإن قيل) : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض.

(أجيب) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرّا ولا نفعا فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : الناصر هو (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي : الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء.

ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص (يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله (وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : في أيّ مكان من أرضها (الْأَنْهارُ.)

ولما بين سبحانه وتعالى حال الفريقين قال تعالى (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إكرام من يطيعه وإهانة من بعصيه لا دافع له ولا مانع وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فيه اختصار والمعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخر فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فالضمير راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قيل : لم يجر له ذكر في هذه الآية (أُجِيبُ) بأنّ فيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله ، وقيل : الضمير راجع إلى من في أوّل الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى المذكور إذا أمكن ذلك ، وعلى هذا المراد بالنصر الرزق. قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله؟ أي : من يعطني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي : بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي : سقف بيته يشدّ بينه وبين عنقه (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي : ليختنق به بأن يقطع نفسه من

٥٩٩

الأرض كما في الصحاح. وقيل : فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليصعد عليه فيجتهد في دفع نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأوّل ، أو يحصل رزقه على الثاني ، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام والباقون بسكونها (فَلْيَنْظُرْ) ببصره وبصيرته (هَلْ يُذْهِبَنَ) وإن اجتهد (كَيْدُهُ) في عدم نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء كلمته أو أنّ ذلك لا يغلب القسمة فإنّ الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع : اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا ، مت غيظا ونحو ذلك ، والحاصل : إن لم يصبر طوعا صبر كرها واختلف في سبب نزول هذه الآية على القول الأوّل فذكروا فيها وجوها :

أحدها : كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على الكفار يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت.

ثانيها : قال مقاتل : نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا.

ثالثها : أنّ حساده وأعداءه كثيرة وكانوا يتوقعون أن لا ينصره وأن لا يعينه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما أنزلنا هذه الآيات لبيان حكمها وإظهار أسرارها (أَنْزَلْناهُ) أي : القرآن الباقي وقوله تعالى : (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي : معجزا نظمها كما كان معجزا حكمها حال وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ) أي : الموصوف بالإكرام كما هو موصوف على محل أنزلناه.

ولما قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، وبدأ بالقسم الأوّل بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان الذي هو أدنى وجوه الإيمان ثم شرع في القسم الثاني بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا) أي : انتحلوا دين اليهودية (وَالصَّابِئِينَ) وهم فرقة من النصارى سميت بذلك قيل : لنسبتها إلى صابي عم نوح ، وقيل : لخروجهم عن دين إلى دين لآخر ، وإطلاق الصابئة على هذا هو المشهور وتارة يوافقونهم في أصول دينهم فتحل مناكحتهم وتارة يخالفونهم فلا تحل مناكحتهم وتطلق أيضا على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها وينفون الصانع المختار فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وقد أفتى الإصطخري والمحاملي بقتلهم لما استفتى القاهر الفقهاء فيهم فبذلوا له أموالا كثيرة فتركهم والبلاء قديم وقرأ نافع بالياء التحتية بعد الباء والباقون بهمزة مكسورة بعد الباء الموحدة (وَالنَّصارى) أي : الذين انتحلوا دين النصرانية (وَالْمَجُوسَ) قال قتادة : هم عبدة الشمس والقمر والنيران قال : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم عبدة الأوثان قال مقاتل : الأديان كلها ستة واحد للرحمن وهو الإسلام ، وخمسة للشيطان وقيل : خمسة ، أربعة للشيطان ، وواحد للرحمن بجعل الصابئين مع النصارى لأنهم فرع منهم كما مر على المشهور وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة (إِنَّ اللهَ) الذي هو أحكم الحاكمين (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بإدخال المؤمنين الجنة وغيرهم النار وأدخلت إنّ على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير (١) :

إنّ الخليفة إنّ الله سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لجرير في ديوانه ص ٦٧٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٣٦٤ ـ ٣٦٨ ، وبلا نسبة في أمالي الزجاجي ص ٦٢ ، وتذكرة النحاة ص ١٣٠ ، ولسان العرب (ختم).

٦٠٠