تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

سورة الرعد

مكية ، إلا (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) الآية أو مدنية إلا (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) وهي ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وأربعون آية وعدد كلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وسبعة أحرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الحق الذي كل ما عداه باطل (الرَّحْمنِ) الذي عمّ الرغبة والرهبة بعموم الرحمة (الرَّحِيمِ) الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الرهبة.

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

(المر) قال ابن عباس معناه أنا الله أعلم وأرى. وقال في رواية عطاء : أنا الله الملك الرحمن. وقد تقدم الكلام على شيء من أوائل السور في أوّل سورة البقرة ، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بالفتح ، وقرأ ورش بين بين والباقون بالإمالة (تِلْكَ ،) أي : هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ ،) أي : القرآن ، والإضافة بمعنى من ، وقيل : المراد بالكتاب السورة الكاملة ، ووصفت بالكمال من تعريف الكتاب بأل ؛ لأنّ خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة ، وقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ،) أي : القرآن مبتدأ وخبره (الْحَقُّ ،) أي : الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ،) أي : مشركي مكة (لا يُؤْمِنُونَ) لإخلالهم بالنظر والتأمّل فيه.

قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة حين قالوا : إنّ محمدا يقوله من تلقاء نفسه فرد الله تعالى عليهم بذلك.

١٦١

ولما ذكر تعالى أنّ (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها : قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ،) أي : سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب ، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل ، (تَرَوْنَها ،) أي : وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها ، فالعمد منفية بالكلية ، قال إياس بن معاوية : السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى ؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر ، وقيل : الضمير راجع إلى العمد ، أي : أن لها عمدا ولكن لا ترونها أنتم ، ومن قال بهذا القول يقول : أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة ، قال الرازي : وهذا التأويل في غاية السقوط ، لأنّ السموات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله.

تنبيه : الله مبتدأ ، والذي رفع السموات خبره ، ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر يدبر الأمر.

ثانيها : قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة ، أي : أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية.

وثالثها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ ،) أي : ذلل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) في فلكه (لِأَجَلٍ مُسَمًّى ،) أي : إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات ، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير ، ١] ، (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير ، ٢] ، (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ، ١] ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الإنفطار ، ١] وعن ابن عباس للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم إنها تعود مرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى ، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا ، فالمراد بقوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هذا ، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيرا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ،) أي : يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل ، وتكليف العباد ، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك ؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عزوجل ، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن عن شأن ، فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، فلا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.

١٦٢

ولما كان هذا بيانا شافيا لا لبس فيه قال تعالى : (يُفَصِّلُ ،) أي : يبين (الْآياتِ) التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريبا لعقولكم وتدريبا لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار.

ولما كان هذا التدبير وهذا التفضيل دالا على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله (لَعَلَّكُمْ) يا أهل مكة (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) بالبعث (تُوقِنُونَ) فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته ، يروى أنّ واحدا قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : إنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة ، فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة ، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد ، وإن كان الخلق عاجزين عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن عن شأن فكذلك ، يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.

تنبيه : اليقين صفة من صفات العلم ، وهي فوق المعرفة ، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك.

ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ،) أي : بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولو شاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا إنّ الأرض مسطحة لا كرة ، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة ، كما ثبت بالدليل؟ أجيب : بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتادا مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها ، فكذلك ههنا ، ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها ، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلا وأبين دليلا من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية.

الثاني منها قوله : (وَجَعَلَ ،) أي : وخلق (فِيها ،) أي : الأرض (رَواسِيَ ،) أي : جبالا ثوابت واحدها راسية ، أي : ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس : أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف ، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.

الثالث منها قوله تعالى : (وَأَنْهاراً ،) أي : وجعل في الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق ، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء ، وأصله الاتساع ، ومنه النهار لاتساع ضيائه.

الرابع منها قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وهو متعلق بقوله تعالى : (جَعَلَ فِيها ،) أي : الأرض (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ،) أي : وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين ، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض ، أو الحجم كالصغير والكبير ، أو الطبيعة كالحارّ والبارد.

١٦٣

فإن قيل : الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين؟ أجيب : بأنه قيل : إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد ، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء ، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع.

الخامس منها قوله تعالى : (يُغْشِي ،) أي : يغطي (اللَّيْلَ) بظلمته (النَّهارَ ،) أي : والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان ، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين ، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : الذي وقع التحدّث عنه من الآيات (لَآياتٍ ،) أي : دلالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ،) أي : يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.

ثم إنه تعالى ذكر دليلا ظاهرا جدّا بقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ ،) أي : التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك (قِطَعٌ ،) أي : بقاع مختلفة (مُتَجاوِراتٌ ،) أي : متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة ، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر ، وأخرى بالعكس ، وأخرى قليلة الريع ، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية ، وهو من دلائل قدرته تعالى (وَجَنَّاتٌ ،) أي : بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغير ذلك كما قال تعالى : (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمه العباس : «عمّ الرجل صنو أبيه» (١) يعني أنهما من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ ،) أي : متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة ؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون ، وعدم التنوين في الراء ، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء. ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال : تسقى قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير ، أي : المذكور ، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث ، أي : الجنات وما فيها (بِماءٍ واحِدٍ) فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ، ولا تتقدّم ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل في حدّه : جوهر سيال به قوام الأرواح (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ،) أي : في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك. وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك ، وذلك أيضا مما يدل على القادر الحكيم ، فإنّ اختلافها مع اتحاد

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٩٨٣ ، وأبو داود في الزكاة حديث ١٦٢٣ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٧٥٨.

١٦٤

الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار ، قال مجاهد : وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد ، أي : في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات ، فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها ، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد ، وكذلك الناس خلقوا من آدم ، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع.

وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ، ٨٢] وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف ، والباقون بالرفع (إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : الأمر العظيم الذي ذكرناه (لَآياتٍ ،) أي : دلالات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ،) أي : يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى.

ولما ذكر تعالى الدلائل القاهرة الدالة على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدل على المعاد بقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ ،) أي : يا أكرم الخلق من تكذيب الكفار لك بعد أن كنت تعرف عندهم بالصادق الأمين (فَعَجَبٌ ،) أي : فحقيق أن يتعجب منه (قَوْلُهُمْ ،) أي : منكري البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً ،) أي : بعد الموت (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ،) أي : خلق بعد الموت كما كنا قبله ، ولم يعلموا أنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال قادر على إعادتهم. وقيل : وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرّهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأنّ الله تعالى خلق السموات ، والأرض ، وهو يضر وينفع ، وقد رأوا قدرة الله تعالى وما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ذلك ، والعجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة ، وقال المتكلمون : العجب هو الذي لا يعرف سببه ، وذلك في حق الله تعالى محال ؛ لأنه تعالى علام الغيوب لا تخفى عليه خافية ، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائي بإدغام الباء في الفاء ، والباقون بالإظهار.

تنبيه : هنا آيتان في كل منهما همزتان ، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية ، ويدخل بينهما ألفا على الاستفهام ، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر ، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفا وينقل في الثاني على أصله ، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما ، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما ، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر ، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام ، وأدخل هشام بينهما ألفا بخلاف عنه ، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة ، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين.

فائدة : جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعا في تسع سور ، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين ، في هذه السورة موضع ، والثاني والثالث في سورة الإسراء ، والرابع في المؤمنون ، والخامس في النمل ، والسادس في العنكبوت ، والسابع في السجدة ، والثامن والتاسع في الصافات ، والعاشر في الواقعة ، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله.

١٦٥

(أُولئِكَ ،) أي : الذين جمعوا أنواعا من البعد من كل خير (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ،) أي : غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ، ثم رباهم بأنواع اللطف ، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم (وَأُولئِكَ) البعداء البغضاء (الْأَغْلالُ) يوم القيامة (فِي أَعْناقِهِمْ) بسبب كفرهم ، والغل : طوق من حديد تقيد به اليد في العنق ، وقيل : المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل ، وقيل : إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. (وَأُولئِكَ ،) أي : الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ،) أي : ثابت خلودهم دائما لا يخرجون منها ولا يموتون.

ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر ، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى ، وكلما هدّدهم بعذاب الدنيا قالوا له : فجئنا بهذا العذاب ، وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن وإظهار أنّ الذي يقول كلام لا أصل له نزل :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ،) أي : استهزاء وتكذيبا ، والاستعجال طلب التعجيل ، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له (بِالسَّيِّئَةِ ،) أي : العذاب (قَبْلَ الْحَسَنَةِ ،) أي : الرحمة ، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يقولون : اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

تنبيه : قوله (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) فيه وجهان : أحدهما : متعلق بالاستعجال ظرفا له والثاني : أنه

١٦٦

متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. (وَقَدْ ،) أي : والحال أنه قد (خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات ، أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ، ٤٥]. وقال ابن عباس : معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم ، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلا ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانيا ، ثم طعنوا في نبوّته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. ثالثا ، وهو المذكور في قوله تعالى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا ،) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ ،) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ،) أي : مثل عصا موسى وناقة صالح وذلك ؛ لأنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات ، وقالوا : هذا كتاب مثل سائر الكتب ، وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزا مثل معجزات موسى وعيسى عليهما‌السلام ، وكان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم راغبا في إجابة مقترحاتهم لشدّة التفاته إلى إيمانهم قال الله تعالى له : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ،) أي : ليس عليك إلا الإنذار والتخويف ، وليس عليك إتيان الآيات. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ،) أي : نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون. وقرأ ابن كثير في الوقف بياء بعد الدال ، وفي الوصل بغير ياء وتنوين الدال ، والباقون بغير ياء في الوقف والوصل مع تنوين الدال.

ولما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآيات أخبرهم الله تعالى عن عظيم قدرته وكمال علمه بقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر وغيره وواحد ومتعدّد وغير ذلك (وَما تَغِيضُ ،) أي : تنقص (الْأَرْحامُ) من مدّة الحمل (وَما تَزْدادُ ،) أي : من مدّة الحمل فقد تكون سبعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند الإمام أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الإمام الشافعي ، وإلى خمس عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنهم.

وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرما. وقيل : ما تنقصه الرحم من الأولاد وتزيده منهم. يروى أنّ شريكا كان رابع أربعة في بطن أمّه. وقيل : من نقصان الولد فيخرج ناقصا والزيادة تمام خلقه. وقيل : ما تنقص بالسقط عن أن يتم وما يزداد بالتمام. وقيل : ما تنقص بظهور دم الحيض ، وذلك أنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص بمقدار حصول ذلك. قال ابن عباس : كلما سال الحيض في وقت الحمل يوما زاد في مدّة الحمل يوما ليحصل الجبر ويعتدل الأمر والآية تحتمل جميع ذلك إذ لا تنافي في هذه الأقوال. ويدل لذلك قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ) من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها (عِنْدَهُ ،) أي : في علمه وقدرته (بِمِقْدارٍ) في كيفيته وكميته لا يجاوزه ولا يقصر عنه ولأنه تعالى عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.

تنبيه : قوله تعالى : (عِنْدَهُ) يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لشيء أو مرفوعه صفة لكل أو منصوبه ظرفا لقوله : (بِمِقْدارٍ) أو ظرفا للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبرا.

١٦٧

(عالِمُ الْغَيْبِ) وهو ما غاب عن كل مخلوق (وَالشَّهادَةِ) وهو ما شاهدوه ، وقيل : الغيب هو المعدوم والشهادة هو الموجود. وقيل : الغيب ما غاب عن الحس ، والشهادة ما حضر في الحس (الْكَبِيرُ ،) أي : العظيم (الْمُتَعالِ) عن خلقه بالقهر المنزه عن صفات النقص فهو تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامّة. وقرأ ابن كثير في الوقف والوصل بياء بعد اللام ، والباقون بغير ياء وقفا ووصلا.

ولما كان علمه تعالى شاملا لجميع الأشياء قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ ،) أي : في علمه تعالى (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ،) أي : أخفى معناه في نفسه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ،) أي : أظهره فقد استوى في علمه تعالى المسرّ بالقول والجاهر به (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ ،) أي : مستتر (بِاللَّيْلِ ،) أي : بظلامه (وَسارِبٌ ،) أي : ظاهر بذهابه في سربه (بِالنَّهارِ) والسرب : بفتح السين وسكون الراء الطريق ، وقال ابن عباس : سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة ، وقال مجاهد : سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التواري والضمير في (لَهُ) يعود إلى من في قوله (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أو للإنسان (مُعَقِّباتٌ ،) أي : ملائكة تعقبه ، والذي عليه الجمهور أنّ المراد بالملائكة الحفظة ، وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار ، وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويبتغونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملا ، ثم عاد إليه فقد عقب ، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل والنهار ، روي عن عثمان أنه قال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ملك عن يمينك للحسنات وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين : اكتب قال : لا لعله أن يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات فإذا قال ثلاثا قال اكتب أراحنا الله منه. فبئس القرين ما أقل مراقبته لله واستحيائه منا فهو قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ،) أي : قدّامه (وَمِنْ خَلْفِهِ ،) أي : ورائه ، وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك ، وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتيك يحفظان عليك الصلاة ، وملك على فيك ، لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهذه عشرة أملاك على كل أدمي» (١) ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فهم عشرون ملكا على كل آدمي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله تعالى وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون» (٢). وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك موكل يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته ، فإن قيل : الملائكة ذكور فلم ذكروا في جمع الإناث وهو المعقبات؟ أجيب : بجوابين : الأول : قال الفراء : المعقبات ملائكة

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٤٨ ، والسيوطي في الحبائك في الملائك ٨٦ ، والهيثمي في الفتاوى الحديثية ٣٣.

(٢) أخرجه البخاري في المواقيت حديث ٥٥٥ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٣٢ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٥٧٩ ، والترمذي في التفسير حديث ٢٩٦٤.

١٦٨

معقبة واحدها معقب ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل أبناآت ورجالات جمع أبناء ورجال والذي على التذكير قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ) والثاني : وهو قول الأخفش إنما أنت لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر ، واختلف في المراد من قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) على أقوال :

أحدها : إنه على التقديم والتأخير ، والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه.

ثانيها : أنّ فيه إضمارا ، أي : ذلك الحفظ من أمر الله ، أي : مما أمر الله تعالى به فحذف الاسم وأبقى خبره.

وثالثها : أنّ كلمة من معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وبإعانته ، وقال كعب الأحبار : لو لا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجنّ ، وقال ابن جريج : معنى يحفظونه ، أي : يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص هؤلاء الملائكة مع بني آدم وتسليطهم عليهم؟ أجيب : بأن الإنسان إذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ؛ لأنّ من اعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم ، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام إليها كما يزجره إذا حضر من يعظمه من البشر ، وإذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال ، كان ذلك أيضا ردعا له عنها ، وإذا علم أنّ الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.

ولما دل ذلك على غاية القدرة والعظمة قال تعالى : (إِنَّ اللهَ) مع قدرته (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ،) أي : لا يسلبهم نعمته (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما ،) أي : الذي (بِأَنْفُسِهِمْ) من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً ،) أي : هلاكا وعذابا (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا يقدر أحد لا من المعقبات ولا من غيرها أن يرد ما نزل بهم من قضائه وقدره (وَما لَهُمْ ،) أي : إن أراد الله بهم سواء (مِنْ دُونِهِ ،) أي : غير الله (مِنْ والٍ) يلي أمرهم وينصرهم ويمنع العذاب عنهم ، وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد اللام دون الوصل ، والباقون بغير ياء بعد اللام وقفا ووصلا.

ولما خوّف الله تعالى بقوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه ، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً ،) أي : للمسافرين من الصواعق (وَطَمَعاً ،) أي : للمقيم في المطر ، وقيل : إنّ كل شيء يحصل في الدنيا يحتمل الخير والشر ، فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين ، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضرّه ذلك إما بحسب المكان وإما بحسب الزمان ، والبرق معروف وهو لمعان يظهر من بين السحاب (وَيُنْشِئُ ،) أي : يخلق (السَّحابَ الثِّقالَ ،) أي : بالمطر.

تنبيه : خوفا وطمعا مصدران ناصبهما محذوف ، أي : تخافون خوفا وتطمعون طمعا ، ويجوز غير ذلك ، والسحاب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : غربال الماء وهو غيم ينسحب في السماء ، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة وأكثر المفسرين على أنّ الرعد في قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) على أنه اسم للملك الذي يسوق السحاب والصوت المسموع منه تسبيحه ولا يردّ ذلك عطف الملائكة عليه في قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ ،) أي : تسبحه (مِنْ خِيفَتِهِ) أي : الله ؛ لأنه أفرد بالذكر تشريفا له ، كما في قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ، ٩٨]. قال ابن عباس : «أقبلت يهود على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال : ملك من

١٦٩

الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب» (١). قال ابن الأثير : والمخاريق جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا وهي آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه ، وقد جاء تفسير المخراق في حديث آخر ، وهو سوط من نور تزجر به الملائكة السحاب. وعن ابن عباس أنه قال : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته. وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : «لو أنّ عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد» (٢). وفي رواية عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه ، وأنه يسبح الله تعالى إذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وعن الحسن أنّ الرعد خلق من خلق الله ليس بملك ، وقد اختلفت الروايات في ذلك ، ففي بعضها أنه ملك موكل بالسحاب ، وفي بعضها أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه ، وفي بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، وفي بعضها : أنه ملك سمي به وهو الذي تسمعون صوته ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في البقرة ، وقيل : هؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعوانا ، فهم خائفون خاضعون طائعون ، وقيل : المراد بهم جميع الملائكة واستظهر وقوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) جمع صاعقة وهي العذاب المهلك تنزل من البرق فتحرق من تصيبه (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) حيث يكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتكذيب التشديد في الخصومة.

روي «أنّ عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاصدين لقتله فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف فتنبه له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهمّ اكفنيهما بما شئت». فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامر بغدة فمات في بيت سلولية فكان يقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فنزلت» (٣). «وعن الحسن أنه قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا يدعونه إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : أخبروني عن رب محمد الذي تدعونني إليه مم هو؟ أمن ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعوا ، إليه» فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مقالته الأولى وقال : أجيب محمد إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله ، ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث فقال : «ارجعوا إليه» فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : احترق

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٥١٢١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٥٩ ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ٢ / ٣٠٦.

(٣) أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية ٥ / ٥٧ ، ٥٨ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٨٢.

١٧٠

صاحبكم فقالوا : من أين علمتم؟ فقالوا : أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ»)(١). (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) واختلف المفسرون في قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) فقال عليّ رضي الله عنه : شديد الأخذ. وقال ابن عباس : شديد الحول. وقال مجاهد : شديد القوة. وقال أبو عبيدة : شديد القوة والمغالبة. واختلف في قوله تعالى :

(لَهُ ،) أي : لله (دَعْوَةُ الْحَقِ) فقال عليّ : دعوة الحق التوحيد. وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الحسن : الحق هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ ،) أي : وهم الكفار. (مِنْ دُونِهِ ،) أي : غير الله وهي الأصنام (لا يَسْتَجِيبُونَ ،) أي : الأصنام (لَهُمْ ،) أي : الكفار (بِشَيْءٍ) مما يطلبونه من نفع أو دفع ضر (إِلَّا ،) أي : الاستجابة (كَباسِطِ ،) أي : كاستجابة باسط (كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ ،) أي : على شفير البئر يدعوه (لِيَبْلُغَ فاهُ ،) أي : بارتفاعه من البئر إليه (وَما هُوَ ،) أي : الماء (بِبالِغِهِ ،) أي : فاه أبدا ؛ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته ، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم أبدا ؛ لأنّ أصنامهم كذلك ، وقيل : شبهوا في قلة فائدة دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسط كفيه ناشرا أصابعهما ، ولم يصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من مشربه ، ثم إنه تعالى عمم في أنه لا يستجاب لهم بقوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ،) أي : ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا آلهتهم لم تستطع إجابتهم ، وقيل : المراد بالدعاء في الحالين العبادة.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحتمل أن يراد به السجود على حقيقته وهو وضع الجبهة ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى : (طَوْعاً) للملائكة والمؤمنين من الثقلين حالتي الشدّة والرخاء وقوله تعالى : (وَكَرْهاً) للكافرين والمنافقين الذين أكرهوا على السجود بالسيف وأن يراد به التعظيم والاعتراف بالعبودية ، فكل من السموات والأرض معترف بعبودية الله تعالى كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ، ٨٧] وأن يراد به الانقياد والخضوع وترك الامتناع ، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى ؛ لأنّ قدرته ومشيئته نافذة في الكل.

تنبيه : قوله تعالى : (طَوْعاً وَكَرْهاً) إمّا مفعول من أجله وإمّا حال ، أي : طائعين وكارهين. واختلف في تفسير قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ ،) أي : البكر (وَالْآصالِ ،) أي : العشايا ، أي : تسجد فقال أكثر المفسرين : كل شخص سواء كان مؤمنا أو كافرا ، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله تعالى وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله تعالى وهو كاره. وقال الزجاج : جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباريّ : ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولا وأفهاما تسجد بها لله وتخشع. وقيل : المراد من سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس وهي منقادة مسلسلة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خص الغدوّ والآصال

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٩ / ٢٩٦.

١٧١

بالذكر ؛ لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.

تنبيه : الغدوّ جمع غداة كقنى وقناة ، والآصال جمع الأصل ، والأصل جمع أصيل ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.

ولما بيّن تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد لله تعالى عدل إلى الردّ على عباد الأصنام بقوله تعالى : (قُلْ) يا أشرف الخلق على الله تعالى لقومك (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،) أي : من مالكهما وما فيهما ومدبرهما وخالقهما؟ (قُلِ اللهُ ،) أي : أجب عنهم بذلك إن لم يقولوه ، ولا جواب لهم غيره ، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه ولقنهم الجواب به. وروي أنه لما قال للمشركين ذلك عطفوا عليه وقالوا : أجب أنت فأمره الله تعالى ، فأجاب بذلك ، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله تعالى : (قُلْ) لهم (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ ،) أي : غير الله (أَوْلِياءَ ،) أي : أصناما تعبدونها (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً) يجلبونه (وَلا ضَرًّا) يدفعونه فكيف يملكون لكم ذلك؟ وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم عند التاء ، والباقون بالإدغام ، ثم ضرب الله تعالى مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعبدون الله فقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) قال ابن عباس : يعني المشرك والمؤمن ، وإنما مثل الكافر بالأعمى ؛ لأنه لا يهتدي سبيلا ، فكذلك الكافر لا يهتدي سبيلا. ثم ضرب الله مثلا للإيمان والكفر بقوله تعالى : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ ،) أي : الكفر (وَالنُّورُ ،) أي : الإيمان؟ الجواب : لا. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي (يَسْتَوِي) بالياء على التذكير ، والباقون بالتاء على التأنيث ، وأمّا اللام من هل هنا فلا تدغم على القراءتين. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) والهمزة للانكار ، وقوله تعالى : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة شركاء ، أي : خلقوا سموات وأرضين وشمسا وقمرا وجبالا وبحارا وجنا وإنسا. (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ ،) أي : خلق الشركاء بخلق الله (عَلَيْهِمْ) من هذا الوجه فلا يدرون ما خلق الله ولا ما خلق آلهتهم ، فاعتقدوا استحقاق عبادتهم بخلقهم ، وهذا استفهام إنكار ، أي : ليس الأمر كذلك ولا يستحق العبادة إلا الخالق. ولما كان من المعلوم قطعا أن جوابهم أن الخلق كله لله لزمتهم الحجة فقال تعالى : (قُلْ) لهؤلاء المشركين (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ،) أي : مما يصح أن يكون مخلوقا ، فهو من العموم الذي يراد به الخصوص ، فلا يدخل في ذلك صفات الله تعالى ، وإذا كان لا خالق غيره فلا يشاركه في العبادة أحد ، فوجب أن ينفرد بالإلهية كما قال تعالى : (وَهُوَ الْواحِدُ ،) أي : الذي لا يجانسه شيء ، وكل ما سواه لا يخلو عن مماثل يماثله ، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له؟! (الْقَهَّارُ) الذي كل شيء تحت قهره ، فيدخل تحت قضائه ومشيئته وإرادته.

ثم ضرب تعالى مثلا للحق والباطل بقوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ،) أي : السحاب أو السماء نفسها (ماءً ،) أي : مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ ،) أي : أنهار جمع واد ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه ، وتنكيرها ؛ لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع (بِقَدَرِها ،) أي : بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضارّ ، أو بمقداره في الصغر والكبر. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ،) أي : عاليا عليه هو ما على وجهه من قذر ونحوه (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي : من جواهر الأرض الذهب والفضة والنحاس والحديد (ابْتِغاءَ ،) أي : طلب (حِلْيَةٍ ،) أي : زينة (أَوْ مَتاعٍ ،) أي : ينتفع به كالأواني إذا أذيبت ، وآلات

١٧٢

الحرب والحرث ، والمقصود من هذا بيان منافعها (زَبَدٌ مِثْلُهُ ،) أي : مثل زبد السيل ، وهو خبثه الذي ينفيه الكير ، ومن للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به ، والباقون بالتاء على الخطاب (كَذلِكَ ،) أي : مثل هذا الضرب العلي الرتب المتبين السبب (يَضْرِبُ اللهُ ،) أي : الذي له الأمر كله (الْحَقَّ وَالْباطِلَ ،) أي : مثلهما ، فإنه تعالى مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار ، ومثل الباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وهو قوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ ،) أي : من السيل وما أوقد عليه من الجواهر (فَيَذْهَبُ جُفاءً.)

قال أبو حيان : مضمحلا ، أي : متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري : متفرّقا ، وانتصابه على الحال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ،) أي : يثبت ويبقى لينتفع به أهلها (كَذلِكَ ،) أي : مثل ذلك الضرب (يَضْرِبُ ،) أي : يبين (اللهُ) الذي له الإحاطة الكاملة علما وقدرة (الْأَمْثالَ) فيجعلها في غاية الوضوح ، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل ، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال ، فإن الله يمحقه ويبطله ، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء ، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع ، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة.

ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ ،) أي : أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات ، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (الْحُسْنى) قال ابن عباس وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن ، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا ؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ، ٢٦] هذا ما لأهل الحق ، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة ، فالنوع الأوّل قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ،) أي : جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم ؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته ، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته ، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكا لما يساوي عالم الأجناس والأرواح ، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه ؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوبا بالذات ، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.

والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ

١٧٣

سُوءُ الْحِسابِ) وهو المناقشة فيه ، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء ، وإنما نوقشوا ؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى ، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى.

والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى : (وَمَأْواهُمْ ،) أي : مرجعهم (جَهَنَّمُ) وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا ، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم ، فيحترقون على مفارقتها ، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة ، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل : (وَبِئْسَ الْمِهادُ ،) أي : الفراش ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل ، وقيل : في عمار وأبي جهل.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ،) أي : يؤمن به ويعمل بما فيه ، وهو حمزة أو عمار رضي الله تعالى عنهما. (كَمَنْ هُوَ أَعْمى ،) أي : أعمى البصيرة ولا يؤمن به ولا يعمل بما فيه وهو أبو جهل ، قال ابن الخازن في تفسيره : وحمل الآية على العموم أولى ، وإن كان السبب مخصوصا ، والمعنى : لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن هو لا يبصر الحق ولا يتبعه ، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى ؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي لرشد (إِنَّما يَتَذَكَّرُ ،) أي : يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها ، ويأخذون من كل قشرة لبابها ، ويعبرون من ظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ،) أي : ما عاقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا : بلى ، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ،) أي : ما واثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى ، وبينهم وبين العباد ، فهو تعميم بعد تخصيص.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ،) أي : من الإيمان والرحم وغير ذلك ، والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. عن أبي موسى أنّ عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : فيما يحكي عن ربه تعالى : «أنا الرحمن وهي الرحم شققت

١٧٤

لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ، أو قال : بتته» (١). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرحم متعلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله» (٢). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (٣). ومعنى ينسأ يؤخر ، والمراد به تأخير الأجل ، وفيه قولان :

أحدهما وهو المشهور : أنه يزاد في عمره زيادة حقيقية.

والثاني : يبارك له في عمره فكأنه قد زيد فيه. وعن ابن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها» (٤). وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تأتي يوم القيامة لها ألسنة ذلقة الرحم فتقول : أي رب قطعت والأمانة تقول : أي رب تركت والنعمة تقول : أي : رب كفرت» (٥). وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ فقالوا : من خراسان. قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أنّ العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة ، فأساء إليها لم يكن من المحسنين.

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ،) أي : وعيده عموما ، والخشية خوف يشوبه تعظيم (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ،) أي : على طاعة الله تعالى وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه. وقال ابن عباس : صبروا على أمر الله. وقال عطاء : على المصائب والنوائب. وقيل : صبروا عن الشهوات وعن المعاصي ، ومرجع الكل واحد فإنّ الصبر الحبس ، وهو تجرع مرارة منع النفس عما تحب مما لا يجوز فعله (ابْتِغاءَ ،) أي : طلب (وَجْهِ رَبِّهِمْ ،) أي : رضاه لا طلب غيره من جور أو سمعة أو رياء أو لغرض من أغراض الدنيا أو نحو ذلك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ،) أي : المفروضة ، وقيل : مطلق الصلاة ، فيدخل فيه الفرض والنفل.

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال الحسن : المراد به الزكاة ، فإن لم يتهم بترك الزكاة فالأولى أن يؤدّيها سرّا ، وإن كان يتهم بترك أدائها ، فالأولى أن يؤدّيها علانية ، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوّع ، وبالعلانية الزكاة. وقيل : المراد بالسر ما يؤدّيه من الزكاة بنفسه وبالعلانية ما يدفعه إلى الإمام. (وَيَدْرَؤُنَ ،) أي : يدفعون (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) كالجهل بالحلم والأذى بالصبر. روي عن ابن عباس قال : يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل ، وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ، ١١٤] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» (٦). وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ مثل الذي يعمل

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة حديث ١٦٩٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٢٦ ، وابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٤١٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٣١١.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٥٥.

(٣) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٠٦٧ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٥٧.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٥٩٩١ ، والترمذي في البر حديث ١٩٠٨ ، وأبو داود في الزكاة حديث ١٦٩٧.

(٥) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٦) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٦٩ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٤ / ٢١٧ ، ٢١٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٤٥٣ ، ٨ / ٦٠٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٣٠٩٩.

١٧٥

السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» (١). وقال ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر : ليس الواصل من وصل ، ثم وصل تلك مجازاة لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله ، وليس الحليم من ظلم ، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا ، وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، وروي أنّ شقيقا البلخي دخل على ابن المبارك متنكرا فقال له : من أين أنت؟ فقال : من بلخ. فقال : وهل تعرف شقيقا؟ قال : نعم. فقال : وكيف طريقة أصحابه؟ قال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك : طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق : فكيف ينبغي أن يكون الأمر؟ فقال : الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. (أُولئِكَ ،) أي : العالو الرتبة (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.)

وبينها تعالى بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ ،) أي : إقامة لا انفكاك لها يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ، ثم استأنف بيان تمكنهم بها بقوله تعالى : (يَدْخُلُونَها) ولما كانت الدار لا تطيب بدون الأحبة قال تعالى عاطفا على الضمير المرفوع : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ ،) أي : الذين كانوا سببا في إيجادهم ، فيشمل ذلك الآباء والأمهات وإن علوا (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ،) أي : الذين تسببوا عنهم ، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، ويقال : إنّ من أعظم موجبات سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكروا الله تعالى على الخلاص منها والفوز بالجنة ، ولذلك قال الله تعالى في صفة أهل الجنة أنهم يقولون : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : ٢٦ ، ٢٧]. وفي ذلك دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم ، والتقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرد الأنساب لا تنفع.

وفسر ابن عباس الصلاح بالتصديق فقال : يريد من صدّق بما صدّقوا وإن لم يعمل مثل أعمالهم ، قال الرازي : قوله (وَأَزْواجِهِمْ) ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، وما روي عن سودة أنها لما همّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك. كالدليل على ما ذكرنا اه. وعلى هذا من تزوجت بغيره قيل : إنها تتخير بينهما.

ثم زاد تعالى في ترغيبهم بقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ) لأنّ الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز. ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والكرم قال تعالى : (مِنْ كُلِّ بابٍ) قال ابن عباس : لهم خيمة من درّة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصارعها من ذهب يدخلون عليهم من كل

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٤٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٢٣٧٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٠١٢٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٧ / ٢٨٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٠١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٠٦.

١٧٦

باب يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ،) أي : فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه (بِما صَبَرْتُمْ) على أمر الله ، والباء للسببية ، أي : بسبب صبركم ، أو البدلية ، أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه. فإن قيل : بم يتعلق قوله (بِما صَبَرْتُمْ) قال الزمخشري : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، وقال البيضاوي : متعلق بعليكم أو بمحذوف لا بسلام ، فإن الخبر فاصل مع أنّ الزمخشري قال ويجوز أن يتعلق بسلام ، أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ، وهذا أظهر وردّ الأول بأن الممنوع منه إنما هو المصدر المؤوّل بحرف مصدري وفعل ، والمصدر هنا ليس كذلك.

ولما تم ذلك تسبب عنه قوله تعالى : (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وهي المسكن في قرار المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها ، والمرافق التي ينتفع بها ، والعقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر ، والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : عقباكم. ولما ذكر تعالى صفات السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر أحوال الأشقياء ، وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكربة ، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ؛ ليكون البيان كاملا فقال تعالى :

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ ،) أي : فيعملون بخلاف موجبه ، والنقض التفريق الذي ينفي تأليف البناء (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ،) أي : الذي أوثقه عليهم من الإقرار والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما ،) أي : الذي (أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وذلك في مقابلة قوله من قبل (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الرعد ، ٢١] فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل ، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله ، أي : لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح ، ويدخل في ذلك وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموالاة والمعاونة ، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام ، ووصل سائر من له حق (وَيُفْسِدُونَ ،) أي : يوقعون الفساد (فِي الْأَرْضِ ،) أي : في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن والدعاء إلى غير دين الله تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء البغضاء (لَهُمُ اللَّعْنَةُ ،) أي : الطرد والبعد (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والدار لهم هي جهنم ، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.

ولما حكم تعالى على من نقض عهده في قبول التوحيد والنبوّة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة ، فكأنه قيل : لو كانوا أعداء الله تعالى لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا! فأجاب الله تعالى بقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ،) أي : يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ،) أي : يضيقه على من يشاء سواء في ذلك الطائع والعاصي ولا تعلق لذلك بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعا عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن موسعا عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من وفقه الله تعالى قال الله تعالى : (وَفَرِحُوا ،) أي : كفار مكة فرح بطر (بِالْحَياةِ الدُّنْيا ،) أي : بما نالوه فيها لا فرح سرور بفضل الله والعافية عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ،) أي : بكمالها (فِي الْآخِرَةِ ،) أي : في جنبها (إِلَّا مَتاعٌ ،) أي : حقير متلاش يتمتع به ويذهب كعجالة الراكب وهي ما يتعجله من تميرات أو شربة ماء سويق أو نحو ذلك.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (لَوْ لا ،) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ ،) أي : على هذا الرسول (آيَةٌ ،) أي : علامة بينة (مِنْ رَبِّهِ ،) أي : المحسن إليه كالعصا واليد لموسى والناقة لصالح لنهتدي بها فنؤمن به وأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : (قُلْ ،) أي : لهؤلاء المعاندين (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئا وإن أنزلت كل آية (وَيَهْدِي ،) أي : يرشد

١٧٧

(إِلَيْهِ ،) أي : إلى دينه (مَنْ أَنابَ ،) أي : رجع إليه كأبي بكر الصدّيق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم ولو حصلت آية واحدة فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله تعالى في طلب الهداية.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من أناب أو خبر مبتدأ محذوف (وَتَطْمَئِنُّ ،) أي : تسكن (قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ،) أي : أنسا به واعتمادا عليه ورجاء منه أو بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده أو بالقرآن الذي هو أقوى المعجزات وقال ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت فإن قيل : قد قال الله تعالى في سورة الأنفال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال ، ٢] والوجل ضد الاطمئنان فكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ أجيب : بأنهم إذا ذكروا العقاب ولم يأمنوا أن يقدموا على المعاصي فهناك يحصل الوجل وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وحينئذ حصل الجمع بينهما (أَلا بِذِكْرِ اللهِ ،) أي : الذي له الجلال والإكرام لا بذكر غيره (تَطْمَئِنُّ ،) أي : تسكن (الْقُلُوبُ) ويثبت اليقين فيها.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ خبره (طُوبى لَهُمْ) واختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس : فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة : نعمى لهم. وقال قتادة : حسنى لهم. وقال النخعي : خير لهم وكرامة. وقال سعيد بن جبير : طوبى اسم الجنة بالحبشية. قال الرازي : وهذا القول ضعيف ؛ لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما ، اشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر. وعن أبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها. وقال عبيد بن عمير : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل : وكل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله تعالى بأنواع التسبيح. وعن أبي سعيد الخدري أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما طوبى؟ قال : «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» (١). وعن معاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه : «طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» (٢). وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال : «إنّ في الجنة شجرة يقال لها : طوبى يقول الله تعالى لها : تفتقي لعبدي عما يشاء فتتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتتفتق له عن راحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء» (٣). وقيل : طوبى فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا لضم ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت خيرا وطيبا. (وَحُسْنُ مَآبٍ ،) أي : حسن المنقلب.

(كَذلِكَ ،) أي : مثل إرسال الرسل الذين قدمنا الإشارة إليهم في آخر سورة يوسف وفي

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٥٩ ، والطبري في تفسيره ١٣ / ١٠١.

(٢) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٥٩ ، ٦٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٢٥٠ ، ٣٩٢٥٢ ، والقرطبي في تفسيره ٩ / ٣١٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٦٣.

(٣) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٥٢٣ ، ٥٤٤ ، ٥٤٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٦٠.

١٧٨

غيرها (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ ،) أي : جماعة كثيرة (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها) أي : تقدّمتها (أُمَمٌ) طال أذاهم لأنبيائهم ، ومن آمن بهم ، واستهزاؤهم بهم في عدم الإجابة حتى كأنهم تواصوا بهذا القول فليس ببدع إرسالك إليهم (لِتَتْلُوَا ،) أي : لتقرأ (عَلَيْهِمُ ،) أي : على أمّتك (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن وشرائع الدين (وَهُمْ ،) أي : والحال أنهم (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ،) أي : بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء.

وقال قتادة : هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية ، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهل بن عمرو : لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ» (١) فهذا معنى قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ،) أي : أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ : والمعروف أنّ الآية مكية ، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن ، فرجع إلى المشركين فقال : إنّ محمدا يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن ، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء ، ١١٠]. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسجدوا للرحمن» قالوا : وما الرحمن؟ قال الله تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ،) أي : اعتمدت عليه في أموري كلها (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي : مرجعي ومرجعكم. روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض الإسلام عليهم ، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي : سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا ، واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها ، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أم باطل؟ فقد كان عيسى يحيي الموتى ، وسخر لنا الريح حتى نركبها إلى البلاد ، فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ، فلست بأهون على ربك من سليمان ، فنزل قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٨٤.

١٧٩

وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ،) أي : نقلت عن أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ ،) أي : شققت (بِهِ الْأَرْضُ) من خشية الله تعالى عند قراءته ، فجعلت أنهارا وعيونا. (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ،) أي : بأن يحيوا ، وجواب لو محذوف ، أي : لكان هذا القرآن في غاية ما يكون من الصحة ، واكتفى بمعرفة السامعين مراده ، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقيل : تقديره لما آمنوا ، ونقل عن الفراء أنّ جواب لو هي الجملة من قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ) ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض ، وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن لو أنّ قرآنا سيرت به الجبال ، أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن ، ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم.

فإن قيل : لم حذفت التاء في قوله تعالى : (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) وثبتت في الفعلين قبله؟ أجيب : بأنه من باب التغليب ؛ لأنّ الموتى يشمل المذكر والمؤنث. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ ،) أي : القدرة على كل شيء (جَمِيعاً) وهذا إضراب عما تضمنته لو من معنى النفي ، أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات ، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك لعلمه تعالى بأنه لا يلين قلوبهم ويؤيد ذلك قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا (أَنَّ ،) أي : بأنه (لَوْ يَشاءُ اللهُ ،) أي : الذي له صفات الكمال (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ،) أي : إلى الإيمان من غير آية ، ولكنه تعالى لم يشأ هداية جميع الخلائق (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ،) أي : جميع الكفار (تُصِيبُهُمْ بِما ،) أي : بسبب ما (صَنَعُوا قارِعَةٌ ،) أي : نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا تارة بالجدب ، وتارة بالسلب وتارة بالقتل ، وتارة بالأسر وغير ذلك. واختلف في الكفار على قولين.

قيل : أراد بهم جميع الكفار ، لأنّ الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من ذلك أوجبت حصول الغم في قلب الكل.

وقيل : المراد الكفار من أهل مكة والألف واللام للمعهود السابق ويدل لهذا قول ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثها إليهم (أَوْ تَحُلُّ ،) أي : تنزل نزولا ثابتا تلك القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ،) أي : فتوهن أمرهم ، وقيل : معناه أو تحل أنت يا محمد بجيشك قريبا من دارهم مكة كما حل بالحديبية (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ ،) أي : بالنصر وظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه بفتح مكة ، أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه‌السلام فينقطع ذلك ؛ لأنه لا يبقى على الأرض كافر.

وقيل : أراد بوعد الله يوم القيامة ؛ لأنّ الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم (إِنَّ اللهَ لا

١٨٠