مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-151-6
الصفحات: ٣٧٤
وقد تقدم نص هذه اللعنة النبوية في رواية تحف العقول من مصادرنا ، وقد نصت مصادر السنيين على أنها صدرت من النبي صلىاللهعليهوآله في حجة الوداع .
ـ ففي سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٠٥
عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته ، وإن راحلته لتقصع بجرتها ، وإن لغامها ليسيل بين كتفي ، قال ... ومن ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ . أو قال : عدلٌ ولا صرفٌ .
ـ وفي سنن الترمذي : ٣ / ٢٩٣
عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع .... ومن ادعى الى غير أبيه ، أو انتمى الى غير مواليه ، فعليه لعنة الله التابعة الى يوم القيامة .
ـ وفي مسند أحمد : ٤ / ٢٣٩
عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته ، وإني لتحت جران ناقته ، وهي تقصع بجرتها ، ولعابها يسيل بين كتفي ، فقال : ألا ومن ادعى الى غير مواليه رغبةً عنهم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . ورواه أحمد : ٤ / ١٨٧ بلفظ : ألا ومن ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً . انتهى . ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها ، وفي ص ٢٣٨ و ١٨٦ ، ورواه الدارمي في سننه : ٢ / ٢٤٤ و ٣٤٤ ، ومجمع الزوائد : ٥ / ١٤ ، عن أبي مسعود ، ورواه البخاري في صحيحه : ٢ / ٢٢١ ، و : ٤ / ٦٧
ولعلك
تسأل : ما علاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي صلىاللهعليهوآله بأهل بيته ؟! فهي تنصب على
الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه الى شخص آخر ، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد
لشخص آخر ، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه ، ويدعي أن ولاءه لشخص آخر !
فهذا هو معنى ( من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه ) !
والجواب : أن مقصود النبي صلىاللهعليهوآله بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة : أبوته هو المعنوية للأمة ، وبالولاء : ولايته وولاية أهل بيته عليها ، وليس مراده الأبوة النسبية وولاء المالك لعبده !
والدليل على ذلك : لو أن ولداً هرب من أبيه ، وسجل نفسه باسم والدٍ آخر ، ثم تاب من فعلته وصحح هويته ، واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل !
ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ الى شخص ، وادعى أنه سيده ، وبعد مدة رجع الى سيده واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل .
بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلىاللهعليهوآله مصبوبٌ عليه الغضب الإلۤهي الى الأبد ! ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) . والصرف هو التوبة ، والعدل الفدية ، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك .
فهذه العقوبة الإلۤهية المذكورة في خطب حجة الوداع ، إنما تصح لحالات الخيانة العظمى ، مثل الإرتداد وشبهه ، ولا يعقل أن تكون لولدٍ جاهلٍ يدعو نفسه لغير أبيه ، أو لعبدٍ مملوكٍ أو مظلومٍ يدعو نفسه لغير سيده !
ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك ، وخروجه من الإسلام ! كما في سنن البيهقي : ٨ / ٢٦ ، ومجمع الزوائد : ١ / ٩٧ ، وكنز العمال : ٥ / ٨٧٢ . وفي كنز العمال : ١٠ / ٣٢٤ ( من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . أحمد عن جابر ) .
ـ وفي / ٣٢٦ ( من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار . ابن جرير عن عائشة )
ـ وفي / ٣٢٧ ( من تولى غير مواليه فقد كفر . ابن جرير عن أنس ) .
ـ وفي : ١٦ / ٢٥٥ ( ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله . ش )
ولا نحتاج الى تتبع هذه الأحاديث في مصادرها وأسانيدها ، لأنها مؤيداتٌ لحكم العقل القطعي بأن مقصوده صلىاللهعليهوآله لا يمكن أن يكون الأب النسبي ، ومالك العبد .
ويؤيد ذلك أيضاً : أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد ، ليس فيها ذكر للولد والوالد ، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه ، ولم تخففها !
ويؤيد ذلك أيضاً : أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة ، بعد ذكر ما ميز به الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام من مالية خاصة هي الخمس ، وحرم عليهم الصدقات والزكوات !
ـ ففي مسند أحمد : ٤ / ١٨٦
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرةً من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوي هذه ، أو ما يزن هذه . لعن الله من ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . انتهى .
ورواه في كنز العمال : ٥ / ٢٩٣ ، وفي كنز العمال : ١٠ / ٢٣٥ ( ومن تولى غير مواليه ، فليتبوأ بيتاً في النار . ابن عساكر عن عائشة ) انتهى .
أما في مصادر أهل البيت عليهمالسلام فالحديث ثابتٌ عنه صلىاللهعليهوآله في خطب حجة الوداع في المناسك .. وهو أيضاً جزءٌ من حديث الغدير ..
ـ ففي بحار الأنوار : ٣٧ / ١٢٣
عن أمالي المفيد ، عن علي بن أحمد القلانسي ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرحمان بن صالح ، عن موسى بن عمران ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله بغدير خم يقول : إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، لعن الله من ادعى الى غير أبيه ، لعن من تولى الى غير مواليه ، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر ، وليس لوارث وصية .
ألا وقد سمعتم مني ، ورأيتموني .. ألا من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار .
ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة ، فلا تسودوا وجهي .
ألا لأستنقذن رجالاً من النار ، وليستنقذن من يدي أقوامٌ .
إن الله مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة .
ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه . انتهى .
وروى نحوه في / ١٨٦ ، عن بشارة الإسلام .
ـ وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة / ٣٤٤
وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبى صلىاللهعليهوآله : لعن الله من انتمى الى غير أبيه ، أو توالى غير مواليه ، فهي من أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين عليهالسلام والأمر بولائه دون غيره ، يريد بقوله : من تولى غير مواليه يعني نفسه صلىاللهعليهوآله وعلياً عليهالسلام بعده ، بدليل ما تقدم من الصحاح من غير طريق ، في فصل مفرد مستوفى ، وهو قول النبي صلىاللهعليهوآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، ثم قال مؤكداً لذلك : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
فمن كان النبى صلىاللهعليهوآله مولاه فعلي مولاه ، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً ، بدليل ما تقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي صلىاللهعليهوآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر : بخٍ بخٍ لك يا علي ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وفي رواية : مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن .
وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى ، ثم جعلها الله لرسوله صلىاللهعليهوآله ولعلي عليهالسلام بدليل قوله تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ...
وقوله صلىاللهعليهوآله : من انتمى الى غير أبيه فالمراد به : من انتمى الى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام في الولاء ، مأخوذٌ من قول النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : أنا وأنت أبوا هذه الأمة ، فعلى عاق والديه لعنة الله . انتهى .
كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث جزءٌ مما كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي صلىاللهعليهوآله الذي ورَّثه لعلي عليهالسلام .. فقد رواه البخاري في صحيحه : ٤ / ٦٧ ، ومسلم : ٤ / ١١٥ ، و ٢١٦ ، بعدة روايات ، والترمذي : ٣ / ٢٩٧ .. ورواه غيرهم أيضاً ، وأكثروا من روايته ، لأن الراوي ادعى فيه على لسان علي عليهالسلام أن النبي صلىاللهعليهوآله لم يورث أهل بيته شيئاً من العلم ، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف !!
وقد وجدنا أن النبي صلىاللهعليهوآله أطلق هذه اللعنة في مناسبة رابعة ، عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله وقالوا : ( إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ، أي مزبلة ) فبلغ ذلك النبي فغضب ، وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم !!
ـ فقد روى في بحار الأنوار : ٣٨ / ٢٠٤
عن أمالي المفيد ، عن محمد بن عمر الجعابي ، عن ابن عقدة ، عن موسى بن يوسف القطان ، عن محمد بن سليمان المقري ، عن عبد الصمد بن علي النوفلي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الأصبغ بن نباتة قال :
لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة ، وجماعة معنا ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء فبكينا ، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا الى منازلكم ، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت ، وخرج الحسن وقال : ألم أقل لكم : انصرفوا ؟ فقلت : لا والله يا ابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليهالسلام .
قال : فبكيت ، ودخل فلم يلبث أن خرج فقال لي : أدخل ، فدخلت على أمير المؤمنين عليهالسلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف واصفر وجهه ، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة ؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت .
فقال لي : لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة .
فقلت له : جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير الى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين . جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله ، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً ، قال :
نعم يا أصبغ : دعاني رسول الله صلىاللهعليهوآله يوماً فقال لي : يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ، ثم تصعد منبري ، ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاةً كثيرة ، ثم تقول :
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى الى غير أبيه أو ادعى الى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهصلاةً كثيرةً ، ثم قلت :
أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى الى غير أبيه ، أو ادعى الى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره .
قال : فلم يتكلم أحدٌ من القوم إلا عمر بن الخطاب ، فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ، ولكنك جئت بكلامٍ غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله .
فرجعت الى النبي صلىاللهعليهوآله فأخبرته الخبر ، فقال : إرجع الى مسجدي حتى تصعد منبري ، فاحمد الله وأثن عليه وصل علي ، ثم قل :
أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم . انتهى .
وقد
وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً ، فقد
روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره / ٣٩٢ قال :
حدثنا عبد السلام بن مالك قال : حدثنا محمد بن موسى بن
أحمد قال : حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال : حدثنا الحكم بن سنان الباهلي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح قال : قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، واحتج به على الناس .
قالت : نعم ، أخبرني أبي أن النبي صلىاللهعليهوآله كان نازلاً بالمدينة ، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلىاللهعليهوآله فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوآله وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك .
قال : فأطرق النبي صلىاللهعليهوآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ ، وإن أمرت به أعلمتكم .
قال : فنزل جبرئيل عليهالسلام فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك ، وقد أنزل الله عليهم فريضة : قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ .
قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء ، وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد الطلب .
قال : فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله الى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعى الى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار .
قال : فقام رجلٌ وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم . فأتى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره ، فقال رسول الله : ويلٌ لقريشٍ من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين . انتهى .
* *
البحث الرابع حاجة الأنبياء عليهمالسلام في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس
ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من المحدثين والمفسرين ، خطأين أساسيين في تفسير آية التبليغ ، فشوهوا بذلك معناها :
الخطأ الأول ، في مفهوم تبليغ الأنبياء عليهمالسلام ومنهم نبينا صلىاللهعليهوآله .
والخطأ الثاني ، محاولتهم إخفاء واقع قريش بعد الفتح ، وإبعاد الآية عنها ، وأن يصوروا للمسلمين أن قريشاً المشركة منجم الفراعنة وأتباعهم ، قد تحولت بين عشية وضحاها ، الى قبيلة مسلمةٍ مؤمنةٍ تقيةٍ ، تقود الناس بالإسلام والهدى !
معنى التبليغ في القرآن
مفهوم التبليغ في القرآن مفهومٌ بسيط ، فتبليغ الرسل يعني بيانهم الرسالة الإلۤهية للناس .. ثم الناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا ، أو يتولوا ، وحسابهم على الله تعالى ، وليس على أنبيائه !
ومن هذا الأساس العميق تتفرع عدة مبادئ :
أولاً : أن النبي يحتاج الى ضمان حرية التعبير عن الرأي ، لكي يتمكن من إيصال رسالة ربه الى العباد وإبلاغهم إياها . وقد كان ذلك مطلب الأنبياء عليهمالسلام الأول من أممهم .
ثانياً : مهمة الأنبياء عليهمالسلام هي التبليغ فقط ( الإبلاغ ) حتى أن الجهاد لم يكن مفروضاً على أحد من الأنبياء قبل ابراهيم عليهمالسلام وقد فرضه الله تعالى عليه وعلى الأنبياء من ذريته ( وكل الأنبياء والأوصياء بعده من ذريته ) من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ ، أو رد اعتداءات الكفار على الذين اختاروا الدين الإلۤهي وإقامة حياتهم على أساسه .
ثالثاً : لا إكراه في الدين ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً ، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة .
رابعاً : الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده ، واضحة كاملة تامة .. حتى لا يقولوا يوم القيامة : لم يقل النبي لنا ، لم يبلغنا ذلك ، لم نعرف ذلك ، وكنا عنه غافلين . فإقامة الحجة في الدين الإلۤهي محورٌ أصلي دائم في عمل الأنبياء عليهمالسلام سواء على مستوى الكافرين ، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم .
فالمهم عند النبي عليهالسلام أن يوصل العقيدة والأحكام الى الناس .. أن يقول لهم ، ويبين لهم ، ويوضح لهم ويفهمهم .. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل .. وبذلك يؤدي ما عليه ، ويسقط المسؤولية عن عاتقه .
أما استجابتهم أو تكذيبهم .. وأما عملهم وسلوكهم ، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه ، بل هو من اختصاص الله تعالى .
قال الله تعالى : قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ الأنعام ـ ١٤٩
وأدلة هذه الحقائق التي ذكرناها كثيرة ، من آيات القرآن وأحاديث السنة ، نشير منها الى ما ذكره الله تعالى من قول نوح عليهالسلام : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . الأعراف ـ ٦٢
وقول شعيب عليهالسلام : فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ الأعراف ـ ٩٣
وقول هود عليهالسلام : فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَئ حَفِيظٌ هود ـ ٥٧
وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهمالسلام :
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ النحل ـ ٣٥
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . يس ١٦ ـ ١٧
ولا يتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث ، فهي أجزاء مشرقة من ( نظرية متكاملة ) نشير منها الى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال : هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ . ابراهيم ـ ٥٢
وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يَبْلُغها الإسلام :
قل أي شئ أكبر شهادةً ؟ قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ . الأنعام ـ ١٩
وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته ، رغم مقاومة الناس واستهزائهم ، فقال عز وجل : يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا . الأحزاب ـ ٣٩
كما وصف سبحانه عملية تلقي الوحي وتبليغه بأنه من الأعمال الدقيقة الخطيرة التي تحتاج الى شخصيات من نوع خاص ، وحراسة ربانية خاصة لهم أيضاً ، فقال :
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ،إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ، لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَئ عَدَدًا . الجن ٢٦ ـ ٢٨
مهمة نبينا صلىاللهعليهوآله في التبليغ
والذي يتصل بموضوعنا مباشرةً هو تبليغ نبينا محمد صلىاللهعليهوآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته : وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . المائدة ـ ٩٢
قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . النور ـ ٥٤
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . آل عمران ـ ٢٠
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ . الشورى ـ ٤٨
فقد أرسل الله نبينا صلىاللهعليهوآله على أساس نظام الرسالة والتبليغ الإلۤهي ، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهمالسلام وهو قاعدة : إقامة الحجة وإتمامها على الناس ، وعدم إجبارهم على العمل . وهذا هو معنى ( فإنما عليك البلاغ ) فقط ، وفقط !
وهذا هو معنى قوله صلىاللهعليهوآله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلۤه إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم .
فالإجبار الذي جاء به النبي صلىاللهعليهوآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام ، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام .. وما عداه متروكٌ للأمة ، داخل هذا الإطار ، يطيع منها من يطيع ، ويعصي من يعصي ، ويهتدي منها من يهتدي ، ويضل من يضل .. والمحاسب هو الله تعالى .
ومن الطبيعي إذن ، أن تحتاج مهمة التبليغ الى حماية للنبي صلىاللهعليهوآله حتى يؤديها وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم ، سرعان ما يدبرون قتله ، أو تشويه سمعته وعزله ، وحجب الناس عن سماع صوته .
ورغم أن الألطاف الإلۤهية على أنبيائه عليهمالسلام كثيرة ومتنوعة ، وما خفي عنا منها أعظم مما عرفناه ، أو ما يمكن أن يبلغه فهمنا .. لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك حمايتهم للأسباب ( الطبيعية ) مضافاً الى تلك الألطاف .
ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلىاللهعليهوآله من الجرح والقتل ، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها .. وقد تقدمت النصوص الدالة على استمرار حراسته صلىاللهعليهوآله الى آخر حياته ، ونضيف هنا ما رواه الجميع من أنه صلىاللهعليهوآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه .
ـ ففي سيرة ابن هشام : ٢ / ٢٣ عن ربيعة بن عباد ، قال :
إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به . انتهى . ورواه الطبري في تاريخه : ٢ / ٨٣ ، وابن كثير في سيرته : ٢ / ١٥٥
ـ وقال اليعقوبي في تاريخه : ٢ / ٣٥ :
وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم شريف كل قوم ، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لا أكره أحداً منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي ، فلم يقبله أحد ، وكانوا يقولون : قوم الرجل أعلم به ! انتهى .
كذلك نصت المصادر على أنه صلىاللهعليهوآله طلب البيعة من الانصار ، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم .. ففي سيرة ابن هشام : ٢ / ٣٨ : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا الى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . قال فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر .
ـ ورواه في تاريخ الطبري : ٢ / ٩٢ ، وأسد الغابة : ١ / ١٧٤ ، وعيون الأثر : ١ / ٢١٧ ، وسيرة ابن كثير : ٢ / ١٩٨ ، ورواه أحمد : ٣ / ٤٦١ ، وقال عنه في مجمع الزوائد : ٦ / ٤٤ : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن اسحق وقد صرح بالسماع . ورواه في كنز العمال : ١ / ٣٢٨ ، و ٨ / ٢٩
* *
الى هنا يتسق الموضوع .. فقد طلب النبي صلىاللهعليهوآله الحماية لتبليغ رسالة ربه على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء عليهمالسلام وحصل عليها من الأنصار ، ونصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود ، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج ، وامتدت الى أطراف الشام ، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين .. وها هو صلىاللهعليهوآله في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع ، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس !!
فما عدا مما بدا ، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي صلىاللهعليهوآله الآن وهو قائد الدولة القوية ، بحاجة الى حماية وعصمة من الناس !!
إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلىاللهعليهوآله الى الحماية المادية ، لأن الله تعالى أراد أن تجري بالأسباب الطبيعية ، ووفرها على أحسن وجه .. فلا بد أن تكون العصمة في الآية من نوع الحماية المعنوية .
والباحث ملزمٌ ثانياً ، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغُ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس .. وأن يفسر الناس الذين يثقل عليهم ذلك بالمنافقين من المسلمين ، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم ، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية .
وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى ، إلا العصمة من الطعن في نبوته ، إذا بلغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلىاللهعليهوآله .
فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها :
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ : إنما أنت رسول مبلغ ، ولست مسؤولاً عن النتيجة وما يحدث ، بل هو من اختصاص ربك تعالى .
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ : وأمرك به جبرئيل في علي ، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع ، فشوش المنافقون عليك .
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ : ولم تكمل إقامة الحجة لربك ، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك ، وإن ظنه المنافقون كذلك ، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة ، وإذا انتفى الجزء انتفى الكل .
وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ : من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ ، وإن كان ثقيلاً عليها .. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه .. وسوف تمر المسألة بسلام ولا يكون تشويش عليك في التبليغ ولا ردة .. وبذلك تكون بلغت عن ربك ، وأتممت له الحجة على أمتك .. ولكن علياً سوف يحتاج الى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله !
إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ : الذين يظلمون عترتك من بعدك ، ويظلمون الأمة بذلك ، ويبدلون نعمة الله كفراً ، ويحلون الأمة دار البوار !
* *
البحث الخامس قريش هي السبب في حاجة نبينا صلىاللهعليهوآله الى عصمة إضافية
تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي صلىاللهعليهوآله لرسالة ربه في عترته عليهمالسلام كان من شأنه أن يحدث زلزلة في الأمة وتهديداً لنبوته صلىاللهعليهوآله !
فما هو السبب ، وما هي الظروف التي كانت قائمة ؟!
إن مصدر الخطر على ترتيب النبي صلىاللهعليهوآله لأمر الخلافة من بعده ، كان محصوراً في قريش وحدها .. فلا قبائل العرب غير قريش ، ولا اليهود ، ولا النصارى .. يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه ، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه !
والظاهر أن النبي صلىاللهعليهوآله كان آيساً من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع ، بدليل أنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي !!
والسبب في ذلك طبيعة قريش وتركيبتها القبلية !
قريش منجم الفراعنة
زعماء قريش الذين واجهوا النبي صلىاللهعليهوآله ـ إذا صحت أنسابهم الى إسماعيل عليهالسلام ـ فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة ، وقد جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من أبناء عمهم إسحاق ، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة !
وقريش ، باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم ، منجماً للتكبر ! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً ، بالجمع لا بالمفرد ، فقال تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا . فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا . المزمل ـ ١٥ ـ ١٦
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر :
جزاكم الله من عصابة شراً ! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً .
ثم التفت الى أبي جهل بن هشام ، فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحِّدَ الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى !!
( حلية الأبرار : ١ / ١٢٧ ، أمالي الطوسي : ١ / ٣١٦ ، وعنه البحار : ١٩ / ٢٧٢ ح ١١ وكذا في مجمع الزوائد : ٦ / ٩١ ) .
ـ وروى ابن هشام في : ١ / ٢٠٧ قول أبي جهل :
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه ! والله لا نؤمن به أبداً ، ولا نصدقه ! انتهى .
ورواه في عيون الأثر : ١ / ١٤٦ ، وابن كثير في سيرته : ١ / ٥٠٦ .
ـ وفي تفسير القمي : ١ / ٢٧٦
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لقريش : إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك اليكم ، فأجيبوني الى ما أدعوكم اليه تملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة . فقال أبو جهل : اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم ، حسداً لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم قال : كنا وبنو هاشم كفرسي رهان ، نحمل إذا حملوا ، ونطعن إذا طعنوا ، ونوقد إذا أوقدوا ، فلما استوى بنا وبهم الركب ، قال قائل منهم : منا نبي ! لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم ، ولا يكون في بني مخزوم !!
ـ وقال الأبشيهي في المستطرف : ١ / ٥٨
قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم أمرأة ! فقال : أجهلُ من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فاهدنا اليه .
ـ وقال البياضي في الصراط المستقيم : ٣ / ٤٩
قال معاوية : فضل الله قريشاً بثلاث : وأنذر عشيرتك الأقربين ، ونحن الأقربون . وإنه لذكرٌ لك ولقومك ، ونحن قومه . لإيلاف قريش ، ونحن قريش .
فقال رجلٌ أنصاري : على رسلك يا معاوية ، قال الله : وكذب به قومك ، وأنت من قومه . إذا قومك عنه يصدون ، وأنت من قومه . إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، وأنت من قومه !! فهذه ثلاثٌ بثلاث ، ولو زدتنا لزدناك !! فأفحمه . انتهى .
وفرعون وقومه عندما أخذهم الله بالسنين ، طلبوا من موسى عليهالسلام أن يدعو لهم ربه .. ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآله دعا ربه على قريش فأخذهم الله بالسنين ، وأصيبوا بالفقر والقحط ، حتى أكلوا العلهز .. وما استكانوا لربهم وما يتضرعون !!
ـ قال الحاكم في المستدرك : ٢ / ٣٩٤
عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، قد أكلنا العلهز ! يعني الوبر والدم ، فأنزل الله عز وجل : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . انتهى .
ولكن أتباع الخلافة الأموية لا يعجبهم هذا الحديث ، ولا يفسرون به الآية ، ويقولون إن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا ، ودعا لهم الرسول صلىاللهعليهوآله !! فانظرالى ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية : ٦ / ١٠١
لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة حصدت كل شئ ، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز . ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم !! . انتهى .
ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة أبي سفيان ، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة ، يعرف أن مجئ أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي صلىاللهعليهوآله على حالة قريش ، وأرسل اليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال ، لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله ، فاغتنموا لفتة القلب النبوي الرحيم ، وبعثوا أبا سفيان بمشروع ( صلح ) مع النبي صلىاللهعليهوآله من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا ، فرفضه النبي صلىاللهعليهوآله وذهب أبو سفيان الى علي وفاطمة عليهماالسلام يرجوهما التوسط الى النبي صلىاللهعليهوآله فلم يقبلا ، وعرض عليهم أن يكون هذا ( الصلح ) باسم الحسن والحسين عليهماالسلام حتى يكون فخراً لهما في العرب ، فقالا : إنا لا نجير أحداً على رسول الله صلىاللهعليهوآله !!
ـ قال في معجم البلدان : ٣ / ٤٥٨
والعلهز : دم القراد والوبر ، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب ! وقال آخرون : العلهز دم يابس يدق مع أوبار الإبل في المجاعات . وأنشد بعضهم :
وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ |
|
فأقبح بهذا ويحَ نفسك من فعلِ ! |
قبائل قريش
وكانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها :
بنو هاشم بن عبد مناف
بنو أمية بن عبد شمس
بنو عبد الدار بن قصي
بنو مخزوم بن يقظة بن مرة
بنو زهرة بن كلاب
بنو أسد بن عبد العزى