الشيخ مرتضى الأنصاري
المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨
المطالب الشرعيّة ، وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.
ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك ـ غالبا ـ سوى النقل الغير الموجب للعلم ، والرجوع إلى الكتب المصحّحة ظاهرا ، وسائر الأمارات الظنّية ، فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر.
فيكون خبر الواحد الثقة حجّة معتمدا عليها فيما نحن فيه ، ولا سيّما إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام والأجلاّء الكرام كما هو الغالب ، بل هو أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ؛ ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ، كما لا يخفى.
الثالثة : حصول استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب.
ووجهه : أنّ السبب المنقول بعد حجّيّته ، كالمحصّل في ما يستكشف منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلّة الظنّية باعتبار ظنّية أصله ؛ ولذا كانت النتيجة في الشكل الأوّل تابعة ـ في الضروريّة والنظريّة والعلميّة والظنيّة وغيرها ـ لأخسّ مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.
فينبغي حينئذ : أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه ، وتورّعه في النقل ، وبضاعته في العلم ، ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال ، واستقصائه لما تشتّت منها ، ووصوله إلى وقائعها ؛ فإنّ أحوال العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا. وكذلك حال الكتب المنقول فيها الإجماع ، فربّ كتاب لغير متتبّع موضوع على مزيد التتبّع والتدقيق ، وربّ كتاب لمتتبّع موضوع على المسامحة وقلّة التحقيق.
ومثله الحال في آحاد المسائل ؛ فإنّها تختلف أيضا في ذلك.
وكذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها ، وحال ما يدلّ عليه من جهة متعلّقه وزمان نقله ؛ لاختلاف الحكم بذلك ، كما هو ظاهر.
ويراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو الاحتجاج ؛ فإنّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان الأوّل الأولى (١) بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى.
وإذا (٢) وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة ما ذكر ، اخذ بما هو المتيقّن أو الظاهر.
ثمّ ليلحظ مع ذلك : ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم واليقين ؛ إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون المعلوم على التفصيل. مع أنّه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟
ويلحظ أيضا : سائر ما له تعلّق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد عليه (٣) من تلك الأسباب ـ كما هو مقتضى الاجتهاد ـ سواء كان من الامور المعلومة أو المظنونة ، ومن الأقوال المتقدّمة على النقل أو المتأخّرة أو المقارنة.
وربما يستغني المتتبّع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع ؛
__________________
(١) كذا في المصدر ، والأنسب : «كان الأوّل أولى».
(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «فإذا».
(٣) «عليه» من المصدر.
لاستظهاره عدم مزيّة (١) عليه في التتبّع والنظر ، وربما كان الأمر بالعكس وأنّه إن تفرّد بشيء كان نادرا لا يعتدّ به.
فعليه أن يستفرغ وسعه ويتبع نظره وتتبّعه ، سواء تأخّر عن الناقل أم عاصره ، وسواء أدّى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة ، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة وغيرها ممّا تعلّق بالمسألة ، فليس الإجماع إلاّ كأحدها.
فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنّة وصول الناقل إلى ما لم يصل هو إليه من جهة السبب ، أو احتمال ذلك ، فيعتمد عليه في هذا خاصّة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه ، ويصلح كلامه مؤيّدا فيما عداه مع الموافقة ؛ لكشفه عن توافق النسخ وتقويته للنظر.
فإذا لوحظ جميع ما ذكر ، وعرف الموافق والمخالف إن وجد ، فليفرض المظنون منه كالمعلوم ؛ لثبوت حجّيته بالدليل العلميّ ولو بوسائط.
ثمّ لينظر : فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجّة ظنّيّة ، حيث كان متوقّفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب أو كان المنكشف غير الدليل القاطع ، وإلاّ فلا.
وإذا تعدّد ناقل الإجماع أو النقل ، فإن توافق الجميع لوحظ كلّ (٢) ما علم على ما فصّل واخذ بالحاصل ، وإن تخالف لوحظ جميع ما ذكر واخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل ، وزمانه ،
__________________
(١) في (ظ) و (ه) : «عدم مزيّته».
(٢) في (ت) ، (ر) ، (ل) و (م) زيادة «مع» ، وشطب عليها في (ص).
ووجود المعاضد وعدمه ، وقلّته وكثرته ، ثمّ ليعمل بما هو المحصّل ، ويحكم على تقدير حجّيته بأنّه دليل واحد وإن توافق النقل وتعدّد الناقل.
وليس ما ذكرناه مختصّا بنقل الإجماع المتضمّن لنقل الأقوال إجمالا ، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا ، وكذا في نقل سائر الأشياء التي يبتني عليها معرفة الأحكام. والحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع ، كما هو ظاهر.
وقد اتّضح بما بيّناه : وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب : من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستدلال غالبا ، وردّه بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف ونحوهما ، فإنّه المتّجه على ما قلنا ، ولا سيّما فيما شاع فيه النزاع والجدال ، أو عرفت (١) فيه الأقوال ، أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الإجماع ؛ لقلّة المتعرّض (٢) لها إلاّ على بعض الوجوه التي لا يعتدّ بها ، أو كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ؛ لمعاصرته ، أو قصور باعه ، أو غيرهما ممّا يأتي بيانه ، فالاحتياج إليه مختصّ بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء ونادر من النقلة الأفاضل (٣) ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.
الفائدة المذكورة لنقل الإجماع بحكم المعدومة |
لكنّك خبير : بأنّ هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة ؛ لأنّ القدر الثابت من الاتّفاق بإخبار الناقل ـ المستند إلى حسّه ـ ليس ممّا
__________________
(١) في (ر) و (ص) : «إذ عرفت».
(٢) في (ظ) : «التعرّض».
(٣) كشف القناع : ٤٠٠ ـ ٤٠٥.
يستلزم عادة موافقة الإمام عليهالسلام ، وإن كان هذا الاتّفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العلم بصدور مضمونه ، لكن ليس علّة تامّة لذلك ، بل هو نظير إخبار عدد معيّن في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب. وليس أيضا ممّا يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتّى بالنسبة إلينا ؛ لأنّ استناد كلّ بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا ، ليس أمرا مخالفا للعادة.
ألا ترى : أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر ، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها ، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به ؛ لقصور سنده ، أو لكونه من الآحاد عنده ، أو لقصور دلالته ، أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليه (١) بضرب من الترجيح ، فإذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطهارة فلا يضرّه اتّفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الامور المختلفة المذكورة.
وبالجملة : الإنصاف (٢) ـ بعد التأمّل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع كما هو متعارف محصّلي عصرنا ـ أنّ اتّفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليهالسلام ، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى.
استلزام الإجماع قول الإمام عليهالسلام أو الدليل المعتبر إذا انضمّ إلى أمارات أخر |
فلم يبق في المقام إلاّ أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال
__________________
(١) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «عليها».
(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «فالإنصاف».
باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه ـ الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا (١) ـ القطع في مرحلة الظاهر باللازم ، وهو قول الإمام عليهالسلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليهالسلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل ، لكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديّا لقول الإمام عليهالسلام أو وجود الدليل المعتبر ، وإلاّ فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلّة حجّية خبر الواحد ، كما عرفت سابقا (٢).
ومن ذلك ظهر : أنّ ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة حجّية الإجماع المنقول ، ولا قولا بحجّيته في الجملة من حيث إنّه إجماع منقول ، وإنّما يرجع محصّله إلى : أنّ الحاكي للإجماع (٣) يصدّق فيما يخبره عن حسّ ، فإن فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما ـ بنفسه أو بضميمة أمارات أخر ـ لصدور الحكم الواقعي أو مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايته حجّة ؛ لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ، وإلاّ فلا ، وهذا يقول به كلّ من يقول بحجّية الخبر (٤) في الجملة ، وقد اعترف بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء.
__________________
(١) لم ترد في (م) : «تعبّدا».
(٢) راجع الصفحة ١٨٠.
(٣) في (م) زيادة : «إنّما».
(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «الواحد».
حكم المتواتر المنقول |
ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول ، وأنّ نقل التواتر في خبر لا يثبت حجّيته ولو قلنا بحجّية خبر الواحد ؛ لأنّ التواتر صفة في الخبر تحصل بإخبار جماعة تفيد العلم للسامع ، ويختلف عدده باختلاف خصوصيّات المقامات ، وليس كلّ تواتر ثبت لشخص ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة تحقّق المخبر به ، فإذا أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع ، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا ؛ لأنّ المفروض أنّ تحقّق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابت بخبر العادل.
نعم ، لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقّق المخبر به ، بأن يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة ـ كأن أخبر مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد وحضور جنازته ـ كان اللازم من قبول خبره الحكم بتحقّق الملزوم وهو إخبار الجماعة ، فيثبت اللازم وهو تحقّق موت زيد.
إلاّ أنّ لازم من يعتمد على الإجماع المنقول ـ وإن كان إخبار الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة للمخبر به ـ هو القول بحجّية التواتر المنقول.
معنى قبول نقل التواتر |
لكن ليعلم : أنّ معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت زيد مثلا ، يتصوّر على وجهين :
الأوّل : الحكم بثبوت الخبر المدّعى تواتره أعني موت زيد ، نظير حجّية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدّعى عليها الإجماع ، وهذا هو الذي ذكرنا : أنّه يشترط (١) في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر
__________________
(١) في (ر) ، (ص) و (ل) بدل «أنّه يشترط» : «أنّ الشرط».
به مستلزما عادة لوقوع متعلّقه.
الثاني : الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتّب (١) على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشرعيّة ، كما إذا نذر أن يحفظ أو يكتب كلّ خبر متواتر. ثمّ أحكام التواتر ، منها ما ثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص ، ومنها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا الشخص.
ولا ينبغي الاشكال في أنّ مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على الوجه الأوّل ، وأوّل وجهي الثاني ، كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.
الكلام في تواتر القراءات |
ومن هنا يعلم : أنّ الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فلا إشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمهالله بتواتر القراءات الثلاث (٢) ، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه (٣) ، لكن بالشرط المتقدّم ، وهو كون ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادة لتحقّق القرآنيّة.
وكذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ؛ فإنّه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند الشهيد بإخباره (٤).
__________________
(١) في (ر) ، (ل) و (ه) : «ليرتّب».
(٢) الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٨٧.
(٣) في (ت) و (ل) زيادة : «يعقوب وخلف».
(٤) في (ظ) و (م) : «بإخبار».
وإن كان الحكم معلّقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو مجتهده ، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات.
وإلى أحد الأوّلين نظر (١) حكم المحقّق والشهيد الثانيين (٢) بجواز القراءة بتلك القراءات ؛ مستندا إلى أنّ الشهيد (٣) والعلاّمة (٤) قدسسرهما قد ادّعيا تواترها وأنّ هذا لا يقصر عن نقل الإجماع.
وإلى الثالث نظر صاحب المدارك (٥) وشيخه المقدّس الأردبيلي (٦) قدسسرهما ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد : بأنّ هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة.
ولا يخلو نظرهما عن نظر ، فتدبّر.
والحمد لله ، وصلّى الله على محمّد وآله ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
__________________
(١) في (ر) ، (ص) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ت) : ينظر.
(٢) انظر جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦ ، وروض الجنان : ٢٦٢ ، والمقاصد العليّة : ١٣٧.
(٣) الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ١٨٧.
(٤) لم نعثر عليه في كتب العلاّمة ، بل وجدنا خلافه ، انظر نهاية الإحكام ١ : ٥٦٥ ، ولم ينسبه المحقّق والشهيد الثانيان في الكتب المذكورة إلاّ إلى الشهيد ، ويبدو أنّ المصنّف اعتمد في ذلك على ما نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٣٢٦.
(٥) المدارك ٣ : ٣٣٨.
(٦) مجمع الفائدة ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.
[الشهرة الفتوائية](١)
هل الشهرة الفتوائيّة حجّة ، أم لا |
ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتها بالخصوص :
الشهرة في الفتوى ، الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف (٢) أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم.
ثمّ إنّ المقصود هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ، بل المقصود إبطال توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلاّ فالقول بحجّيّتها من حيث إفادة المظنّة بناء على دليل الانسداد غير بعيد.
منشأ توهّم الحجّية |
ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران :
أحدهما : الاستدلال بمفهوم الموافقة : ما يظهر من بعض (٣) : من أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد تدلّ على حجّيّتها بمفهوم الموافقة ؛ لأنّه ربما يحصل منها الظنّ الأقوى من
__________________
(١) العنوان منّا.
(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «بخلاف».
(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٤٨٠ و ٤٩٩ ـ ٥٠١.
الحاصل من خبر العادل.
المناقشة في هذا الاستدلال |
وهذا خيال ضعيف تخيّله بعض في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك (١) ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.
وجه الضعف : أنّ الأولويّة الظنّية أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيتها؟! مع أنّ الأولويّة ممنوعة رأسا ؛ للظنّ بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ.
وأضعف من ذلك : تسمية هذه الأولويّة في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة ؛ مع أنّه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدالّ على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢).
٢ ـ دلالة مرفوعة زرارة ، ومقبولة ابن حنظلة |
الأمر (٣) الثاني : دلالة مرفوعة زرارة ، ومقبولة ابن حنظلة على ذلك :
ففي الاولى : «قال زرارة : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو (٤) الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشّاذّ النادر ، قلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ قال : خذ بما يقوله أعدلهما ... الخبر» (٥).
__________________
(١) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٣٢٧.
(٢) الإسراء : ٢٣.
(٣) لم ترد في (ت) ، (ر) و (ه) : «الأمر».
(٤) كذا في (ص) والمصدر ، وفي غيرهما : «و».
(٥) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الحديث ٢.
بناء على أنّ المراد بالموصول مطلق المشهور رواية كان أو فتوى ، أو أنّ إناطة الحكم بالاشتهار تدلّ على اعتبار الشهرة في نفسها وإن لم تكن في الرواية.
وفي المقبولة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ، قال عليهالسلام :
«ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك ـ الذي حكما به ـ المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.
قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... إلى آخر الرواية» (١).
بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ؛ بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» فيكون في التعليل بقوله : «فإنّ المجمع عليه ... الخ» دلالة على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجب العمل به ، وإن كان مورد التعليل الشهرة في الرواية.
وممّا يؤيّد إرادة الشهرة من الإجماع : أنّ المراد لو كان الإجماع الحقيقيّ لم يكن ريب في بطلان خلافه ، مع أنّ الإمام عليهالسلام جعل مقابله ممّا فيه الريب.
__________________
(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
الجواب عن الاستدلال بالمرفوعة |
ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن :
أمّا الاولى : فيرد عليها ـ مضافا إلى ضعفها ، حتّى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدّث البحراني (١) ـ : أنّ المراد بالموصول هو (٢) خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق الحكم (٣) المشهور ؛ ألا ترى أنّك لو سألت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك ، فقلت : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان أو خانا أو سوقا ، وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين فقلت : ما كان أكبر.
والحاصل : أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرواية ممّا لا يظنّ بأدنى التفات (٤).
مع أنّ الشهرة الفتوائيّة ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة ، فقوله : «يا سيّدي ، إنّهما معا (٥) مشهوران مأثوران» أوضح شاهد على أنّ المراد بالشهرة الشهرة في الرواية الحاصلة بأن يكون الرواية (٦) ممّا
__________________
(١) الحدائق ١ : ٩٩.
(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «هي».
(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «حكم».
(٤) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «ملتفت».
(٥) لم ترد «معا» في (ر) ، (ص) ، (ل) و (م).
(٦) كذا في (ص) ، وفي (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «أنّ المراد بالشهرة في الرواية الحاصلة بأن يكون الرواية» ، إلاّ أنّ في (ر) بدلى «بالشهرة» : «الشهرة» ، وفي (ت) و (ه) : «أنّ المراد بالشهرة في الرواية الظهور بأن يكون الرواية».
اتّفق الكلّ على روايته أو تدوينه ، وهذا ممّا يمكن اتّصاف الروايتين المتعارضتين به.
الجواب عن الاستدلال بالمقبولة |
ومن هنا يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة ، وأنّه لا تنافي بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتّى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر ؛ فإنّ إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليّين ، وإلاّ فالمشهور هو الواضح المعروف ، ومنه : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر.
فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ، ويترك ما لا يعرفه إلاّ الشاذّ ولا يعرفه (١) الباقي ، فالشاذّ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشاركون (٢) الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة ؛ ولهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل المشكل الذي يردّ علمه إلى أهله ؛ وإلاّ فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث.
وممّا يضحك الثّكلى في هذا المقام ، توجيه قوله : «هما معا مشهوران» بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق بين القدماء والمتأخّرين ، فتدبّر.
__________________
(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «ولا يعرفها».
(٢) في (ر) و (ص) : «لا يشارك».
[حجية خبر الواحد](١)
ومن جملة الظنون الخارجة (٢) بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم :
خبر الواحد ـ في الجملة ـ عند المشهور ، بل كاد أن يكون إجماعا.
إثبات الحكم الشرعي بالأخبار يتوقّف على مقدّمات |
اعلم : أنّ إثبات الحكم الشرعيّ بالأخبار المرويّة عن الحجج عليهمالسلام (٣) موقوف على مقدّمات ثلاث :
الاولى : كون الكلام صادرا عن الحجّة.
الثانية : كون صدوره لبيان حكم الله ، لا على وجه آخر ، من تقيّة أو (٤) غيرها.
الثالثة : ثبوت دلالته (٥) على الحكم المدّعى ، وهذا يتوقّف :
__________________
(١) العنوان منّا.
(٢) كذا في (ت) و (ر) ، وفي غيرهما : «الخارج».
(٣) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «الحاكية لقولهم».
(٤) في غير (م) : «و».
(٥) في غير (ت) : «دلالتها».
أوّلا : على تعيين أوضاع ألفاظ الرواية.
وثانيا : على تعيين المراد منها ، وأنّ المراد مقتضى وضعها أو غيره.
فهذه امور أربعة :
قد (١) أشرنا (٢) إلى كون الجهة الثانية من المقدّمة الثالثة من الظنون الخاصّة ، وهو المعبّر عنه بالظهور اللفظيّ ، وإلى أنّ الجهة الاولى منها ممّا لم يثبت كون الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصّة ، وإن لم نستبعد الحجّية أخيرا (٣).
وأمّا المقدّمة الثانية : فهي أيضا ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ، وهي حجّة ؛ لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء : من حمل كلام المتكلّم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة أو خوف ؛ ولذا لا يسمع دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته.
و (٤) أمّا المقدّمة الاولى : فهي التي عقد لها مسألة حجّيّة أخبار الآحاد ، فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة ـ أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟
__________________
(١) في (ت) ، (ص) و (ل) : «وقد» ، لكن شطب على «و» في (ص).
(٢) راجع الصفحة ١٣٧.
(٣) راجع الصفحة ١٧٧ ، ولم ترد في (ظ) ، (ل) و (م) : «وإن لم نستبعد الحجّيّة أخيرا».
(٤) لم ترد «و» في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه).
ومن هنا يتّضح دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلّة ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى : أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحث عن أحوال الدليل (١).
ثمّ اعلم : أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ، بل لا يبعد كونه ضروريّ المذهب.
الخلاف في الأخبار المدوّنة في مقامين |
وإنّما الخلاف في مقامين :
١ ـ هل هي مقطوعة الصدور ، أم لا؟ |
أحدهما : كونها مقطوعة الصدور أو غير مقطوعة؟ فقد ذهب شرذمة من متأخّري الأخباريّين (٢) ـ فيما نسب إليهم ـ إلى كونها قطعيّة الصدور.
وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه ، إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ؛ وإلاّ فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه. وقد كتبنا في سالف الزمان في ردّ هذا القول رسالة (٣) تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه ، وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر.
٢ ـ هل هي معتبرة بالخصوص ، أم لا؟ |
الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرة بالخصوص أم لا؟
__________________
(١) هذه الدعوى من صاحب الفصول في الفصول : ١٢.
(٢) منهم : صاحب الوسائل في الوسائل ١٨ : ٥٢ و ٧٥ ، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار : ١٧.
(٣) الظاهر أنّ هذه الرسالة مفقودة.
فالمحكيّ عن السيّد (١) والقاضي (٢) وابن زهرة (٣) والطبرسي (٤) وابن إدريس قدّس الله أسرارهم : المنع (٥) ، وربما نسب إلى المفيد (٦) قدسسره ؛ حيث حكى عنه في المعارج (٧) أنّه قال : «إنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ، وربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل» (٨) ، وربما ينسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه (٩) ، وكذا إلى المحقّق ، بل إلى ابن بابويه (١٠) ، بل في الوافية : أنّه لم يجد القول بالحجّيّة صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة (١١) ، وهو عجيب.
ما هو المعتبر منها؟ |
وأمّا القائلون بالاعتبار ، فهم مختلفون من جهة : أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب المعتبرة (١٢) ـ كما يحكى عن بعض
__________________
(١) الذريعة ٢ : ٥٢٨ ، رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩.
(٢) حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم : ١٨٩.
(٣) الغنية (الجوامع الفقهية) : ٤٧٥.
(٤) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.
(٥) السرائر ١ : ٥١.
(٦) في (ظ) و (م) : «ينسب».
(٧) المعارج : ١٨٧.
(٨) التذكرة بأصول الفقه (مصنّفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٤.
(٩) انظر الصفحة ٣١٩ ، وما بعدها.
(١٠) نسبه إليهم الفاضل التوني في الوافية : ١٥٨.
(١١) الوافية : ١٥٨.
(١٢) لم ترد «المعتبرة» في (ر) و (ظ) ، وشطب عليها في (ل) ، ووردت بدلها في (ر) و (ظ) : «الأربعة» ، وفي (ت) ونسخة بدل (ص) و (ه) زيادة : «الأربعة».