الوصائل إلى الرسائل - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٣٧٢

في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة ، فهو غير واجب الاطاعة.

وحينئذ : فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه‌السلام.

لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار ، ومع تسليم ظهورها ، فهو أيضا من باب تعارض النقل الظنّي

______________________________________________________

(في طريق الحكم) فلا يفيد ما في طريقه العقل (وان كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة) كالسماع من الرواة الذين سمعوا منهم عليهم‌السلام ـ اذ لا شك انه داخل في تلك الروايات ، لعدم الاحتياج الى السماع من لفظ المعصوم ـ (فهو غير واجب الاطاعة).

ووجه هذا الادعاء : ان مثل هذا الحكم الذي في طريقه العقل داخل في قولهم عليهم‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١).

(وحينئذ : فلا يجدي) مجرّد (مطابقة الحكم المدرك) بواسطة العقل (لما صدر عن الحجة عليه‌السلام) واقعا من جهة عموم الابتلاء ، اذا لم نسمعه بدون الواسطة ومع الواسطة عن المعصوم عليه‌السلام.

(لكن) فيه اولا : انك (قد عرفت عدم دلالة الاخبار) على لزوم السماع عن المعصوم عليه‌السلام بل هي في مقام رد العامة في استبدادهم بالعقول بدون الاحتياج اليهم عليهم‌السلام.

(و) ثانيا : (مع تسليم ظهورها) اي ظهور تلك الاخبار في اعتبار السماع عنهم عليهم‌السلام فقط (فهو) اي هذا الظهور (ايضا من باب تعارض النقل الظني)

__________________

(١) ـ كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١.

١٨١

مع العقل القطعيّ ، ولذلك لا فائدة مهمّة في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضاء الله جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا ،

______________________________________________________

لان هذه الاخبار الآمرة بالرجوع اليهم فقط ، انّما تفيد الظن الخاص ـ مقابل الظن الانسدادي ـ (مع العقل القطعي) اذ العقل اذا قطع بان حكم الواقعة كذا ، وان الله يريد هذا الحكم ، لا يتمكن الظن الناشئ من الخبر أن يقوم في قباله.

لا يقال : كيف يقطع الانسان بشيء ويظن بخلافه؟.

لانه يقال : المراد هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ـ كما قرر في محله ـ.

(ولذلك) الذي ذكرناه : من انه من تعارض القطع والنقل (لا فائدة مهمة في هذه المسألة) وهي : دلالة الاخبار في الانحصار على السماع منهم ، وانّما قال : لا فائدة مهمة ، لانه قد يترتب عليها فائدة فيما لو لم يكن العقل قطعيا ، كما لو لم يقطع العقل بوجوب الصلاة في الدار المغصوبة ـ في المسألة السابقة ـ فانه يكون حينئذ من تعارض الظن العقلي مع الظن النقلي ، فليس كل مكان ظن من النقل ، وقطع من العقل.

وانّما لا فائدة مهمة (اذ بعد ما قطع العقل بحكم) سواء بالكشف من العقل المستقل ، او بسبب مقدمة عقلية ـ كما سبق مثالهما ـ (وقطع) العقل ايضا (بعدم رضاء الله جل ذكره بمخالفته).

بمعنى : انه قطع بعدم الاحتياج الى السماع (فلا يعقل ترك العمل بذلك) الحكم (ما دام هذا القطع باقيا).

ومعنى : «لا يعقل» : ان العقل يقول له : اذا خالفت فانت تستوجب العقاب ، فهو كمن قال له المولى : اسمع كلام خادمي فلان ، وجاء العبد الى الدار فرأى ولد

١٨٢

فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمؤوّل او مطروح.

نعم ، الانصاف أنّ الركون إلى العقل فيما يتعلّق بادراك

______________________________________________________

المولى قد سقط في البئر ، وعلم انه ان لم ينقذه هلك ، واذا هلك قطع بان المولى سيعاقبه عقوبة شديدة ، ولم يكن الخادم موجودا حتى يستفسر منه وجوب انقاذ الولد ، او عدم وجوبه لكنه مع قطعه ذلك لم ينقذ الولد حتى هلك ، أليس العقلاء يرون استحقاقه للعقاب لمكان قطعه وان لم يأمره الخادم؟.

وعليه : (فكل ما دل على خلاف ذلك) كالاخبار الدالة على الانحصار في السماع (فمؤوّل) بأن المراد منها : في قبال العامة لا في قبال العقل (او مطروح) اذا فرض انا لم نتمكن من تأويلها.

(نعم) هذا الكلام منا ليس معناه ، الاعتماد في الفقه على العقليات ، والمناطات الفكرية ، حتى يستلزم انحراف الفقه عن منهج الفقهاء كما يزعمه بعض من يدعو الى تجديد الفقه منذ قرن من الزمان ، بل مرادنا : ان نسير بسيرة الفقهاء ، الذين كانوا على طريقة الائمة المعصومين عليهم‌السلام في ما امروا به من : ان «عليهم الاصول وعلينا الفروع» (١).

أما اذا دلّ العقل القطعي المستقل ، او المقدّمي ، على شيء ، نقول به ـ وهذا نادر كما لا يخفى ـ.

فان (الانصاف ان الركون الى العقل) بمقدماته الفلسفية المشهورة ، من ذكر التناقض والتضاد ، والدور ، والخلف ، والاقيسة المستظهرة (فيما يتعلق بادراك

__________________

(١) ـ فقد ورد عن الامام الصادق عليه‌السلام (علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا) ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦١ ب ٦ ح ٣٣٢٠١ ، كما ورد عن الامام الرضا عليه‌السلام (علينا القاء الاصول وعليكم التفريع) ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٢ ب ٦ ح ٣٣٢٠٢.

١٨٣

مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ،

______________________________________________________

مناطات الاحكام لينتقل منها) اي من تلك المناطات المستخرجة (الى ادراك نفس الاحكام) المشابهة (موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك).

فان الانتقال من الفرد الى الكلي ، ومن الكلي المستنبط الى فرد آخر ، لأجل كون ذلك الكلي جامعا بين هذين الفردين له صورتان :

الاولى : صورة الطبيعيات ، كأن ننتقل من تجربة الدواء الفلاني مرات عديدة الى ان العلاج الفلاني طبيعة لهذا الدواء ، والنتيجة : ان كل فرد من أفراد هذا النوع له نفس التأثير ، وكذلك في مثل الامور الفيزيائية وغيرها.

الثانية : صورة الشرعيات ، كأن ننتقل من كون العدّة في المرأة لأجل عدم اختلاط المياه ، الى ان العلة عدم الاختلاط ، وننتقل منه الى ان المرأة العقيمة التي لا تلد ، ومن بوشر معها بحائل ، حيث لم ينتقل المني ، او بدون المني ، او كانت مقلوعة الرحم ، او ما اشبه ، لا عدة لها ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة ، التي يريد المتغربون ان يجعلوه منهجا فقهيا.

وهذا ضرره أقرب من نفعه ، لانه خلاف طريقة العلماء منذ الغيبة الى اليوم ، ويكون من : اتّباع غير سبيل المؤمنين ، لأنه لو بنى الفقيه على سلوك هذا الامر ، لا يمضي زمان حتى يحصل له القطع بما لا يرضي الله في موارد كثيرة ، ولا يكون حينئذ معذورا ، كعدم معذورية الفلسفي الذي يبتني المقدمات العقلية الموصلة الى خلاف الادلة الشرعية ، للتقصير في المقدمات.

١٨٤

كما يدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة ، بمضمون : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» ، و «إنّه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول النّاس».

وأوضح من ذلك كلّه رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام : «قال : قلت له : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها من الدّية؟. قال : عشر من الابل.

______________________________________________________

(كما يدل عليه) اي على عدم جواز مثل هذا الركون الى العقل (الاخبار) المتقدمة (الكثيرة الواردة بمضمون : إنّ دين الله لا يصاب) اي لا يدرك (بالعقول) (١) كما في بعضها (وأنّه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول النّاس) (٢) و «أبعد» هنا ليس بمعنى التفضيل ، بل بمعنى «البعد» مثل ما في الآية الكريمة :

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٣) ومثل قول الفقهاء : «أحوط» و «أقوى» ولا يراد : أن طرفه أيضا «احتياط» أو «فيه قوة».

(وأوضح) الاشياء في افادة عدم الاعتماد على العقل في الشرعيات (من ذلك) الذي ذكرناه من الاحاديث المتقدمة (كله) والضمير عائد الى كل واحد واحد منها (رواية ابان بن تغلب) على وزن تضرب (عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها من الدّية؟) والدية فيما اذا كان الجاني قد ارتكب الجناية خطاء ، أو شبه عمد ، اما اذا كان عمدا فالمجني عليه مخيّر بين الدية والقصاص (قال عليه‌السلام : عشر من الابل) أو ما يساويه ، فان دية الانسان احد ستة أشياء ـ مذكورة في الفقه ـ ، ولكل اصبع عشر الدية.

__________________

(١) ـ مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١ ، كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩.

(٢) ـ تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٣ ح ٢٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٩٢ ب ١٣ ح ٣٣٥٧٢.

(٣) ـ سورة القيامة : الآية ٣٤.

١٨٥

قال : قلت : قطع إصبعين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا ، قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا. قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ، كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطان. قال عليه‌السلام : مهلا ، يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدية ، فاذا بلغ الثلث رجع إلى النصف.

______________________________________________________

(قال قلت : قطع إصبعين؟ قال عليه‌السلام : عشرون) من الابل (قلت : قطع ثلاثا؟ قال) ديتها (ثلاثون) من الابل (قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون) من الابل (قلت : سبحان الله) وهذه الجملة تقال للتعجب (يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون) من الابل (ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟) بينما مقتضى القياس : انه كلما زادت الجناية زادت الدية ، فكيف صارت الدية على الجناية الاكثر اقل؟.

ثم قال أبان للامام الصادق عليه‌السلام : (كان يبلغنا هذا) الحكم المخالف للقياس (ونحن بالعراق) حيث كان حواره هذا مع الامام في المدينة (فقلنا : إنّ الّذي جاء به شيطان) وليس هذا حكم الله تعالى.

ف (قال) له الامام (عليه‌السلام : مهلا يا أبان) اي صبرا ، لا تستعجل في الفتوى ، فان (هذا) اي وجوب العشرين في قطع الاربع (حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ثم بيّن له الامام عليه‌السلام وجه هذا الحكم قائلا : (إنّ المرأة تعاقل) اي تساوي ، اي يكون عقلها كعقل (الرّجل إلى ثلث الدّية) ، والدية تسمى عقلا ، من جهة انها توجب قيد الجاني ، والعقل بمعنى القيد ، ومنه العقل في قبال الجنون (فاذا بلغ الثّلث) وارادت الدية المتجاوز قدرها على الثلث (رجع إلى النّصف) فدية الاصبع الواحدة عشرة ، والاثنتين عشرون ، والثلاثة ثلاثون ، فاذا كانت الزيادة

١٨٦

يا أبان! إنّك أخذتني بالقياس ، والسّنّة إذا قيست محق الدّين».

______________________________________________________

على الثلث اي الثلاثين ، رجعت الدية الى نصف دية الرجل ، وحيث ان دية الرجل في اربعة اصابع اربعون إبلا ، كانت دية المرأة في اربعة اصابع عشرين ابلا.

ثم قال الامام عليه‌السلام : (يا أبان ، إنّك أخذتني) واشكلت عليّ (ب) سبب (القياس) حيث انه لم يوافق كلامي القياس (و) لكن اعلم ان (السنّة) التي جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا قيست) بعض افرادها ببعض (محق) اي بطل (الدّين) (١) فاللازم ترك القياس وهنا امران : الاول : لما ذا دية المرأة نصف دية الرجل؟.

والجواب : ان الدية ليست هي قيمة الانسان رجلا كان أو امرأة ، وانّما لوحظ فيها الامر الاقتصادي ، ومن المعلوم : ان المرأة اضعف من الرجل في تحصيل المال ، حتى في العالم الذي فسح للمرأة كل مجال فانها لم تتمكن ان تعادل الرجل في كسب المال ، ولهذا كان ارثها ايضا في الغالب نصف ارث الرجل ، كما ان نفقتها بنتا واختا وأمّا وزوجة على الرجل في الغالب ، فالرجل واردة اكثر ونفقته اكثر ، فديته تكون اكثر ، ليسدّ الخلأ الاقتصادي.

الثاني : لما ذا لم يكن من الاول لكل اصبع من اصابع المرأة خمسة من الابل؟.

والجواب : نفع المرأة وعدم ضرر الجاني لوحظا معا الى حدّ الثلث ، فهذا هو الاستثناء ، لا ان ديتها على النصف استثناء ، وذلك جبرا لخاطرها بما لا يتضرر الجاني ضررا بليغا ، فاذا تجاوز الامر الثلث رجع الى القاعدة ، وهي : النصف ، هذا بالاضافة الى ان كثرة المعرضية للجراحات الصغيرة اوجبت تشديد الشارع في ديتها الى حد الثلث ، بينما الجراحات الكبيرة ليست المعرضية لها بتلك الكثرة ،

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٢٩٩ ح ٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٤١ ب ٦ ح ٣٣١٦٠ وج ٢٩ ص ٣٥٢ ب ٤٤ ح ٣٥٧٦٢.

١٨٧

وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على ردّ الرواية الظنيّة التي سمعها في العراق بمجرّد استقلال عقله

______________________________________________________

ولذا جعلت ديتها على القاعدة.

ومثله هذا موجود حتى لدى عقلاء العالم ، فان عقلاء العالم قرروا : عدم متابعة المحكمة للنزاعات الطفيفة ، فاذا صارت كبيرة تابعتها المحكمة.

وكذا قرروا : ان الماء والكهرباء والتلفون وما اشبه الى حد معيّن لكل وحدة منه قيمة دينار ـ مثلا ـ فان زادت عن القدر المقرر ، اصبحت القيمة لكل وحدة نصف دينار ، وذلك للجمع بين حق الدولة في الاقل ، وامكان الناس في الاكثر.

وعلى هذا ، فأمر الدية عقلي وهو ابعد من ان يناله قياس أبان ، ومعنى ان الدين يمحق بالقياس : انه يوجب اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر لا يشابهه واقعا ، وان زعم الناس انه يشابهه.

(و) ان قيل : ان الرواية ليست توبيخا على مراجعة العقل ، بل على ردّ الرواية المعتبرة السند.

فانه يقال : (هي) اي الرواية (وان كانت ظاهرة في توبيخ ابان) حيث قال له عليه‌السلام : «مهلا» (على ردّ الرواية الظنية) ظنا حجة ، لانه كان خبرا واحدا معتبرا سندها (التي سمعها) ابان (في العراق).

وانّما نقول : ان الرواية كانت معتبرة ، لانه ان لم تكن معتبرة ، كان اللازم ردّها بعدم حجية السند اي من باب عدم المقتضي ، لا ردها من جهة المانع ، وهو مخالفة حكمها للقياس والعقل ، فان مقتضى القاعدة ان يكون التعليل بعدم المقتضي ـ لا بوجود المانع ـ ، وانّما يعلل بالمانع ، اذا كان المقتضي موجودا كما نحن فيه حيث ان ابان ردّ الرواية (بمجرد استقلال عقله) بواسطة القياس

١٨٨

بخلافه او على تعجّبه ممّا حكم به الامام عليه‌السلام ، من جهة مخالفته لمقتضى القياس ، إلّا أنّ مرجع الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ، فهو توبيخ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع.

وقد أشرنا ، هنا وفي أوّل المسألة ، إلى عدم جواز الخوض في المطالب العقليّة لاستكشاف الأحكام الدينيّة والاستعانة بها في تحصيل مناط

______________________________________________________

(بخلافه) اي بخلاف مضمون الرواية وهو تعليل بوجوب المانع.

(او) في توبيخه (على تعجبه ممّا حكم به الامام عليه‌السلام) حيث قال أبان :

«سبحان الله» وكان تعجبه (من جهة مخالفته) اي مخالفة حكم الامام عليه‌السلام (لمقتضى القياس).

والحاصل : ان توبيخ الامام عليه‌السلام يرجع إما لردّ ابان الرواية ، او لتعجبه من الحكم.

(إلّا ان مرجع الكل) اي الامرين : من الردّ ، والتعجب (الى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الاحكام) من العلل المناسبة في الذهن ، لا من العلل الواقعية ، اذ العلل الواقعية ليست في متناول الانسان (فهو) اي توبيخ الامام عليه‌السلام لأبان (توبيخ على المقدمات) العقلية القياسية (المفضية) والمؤدية (الى مخالفة الواقع) فتكون هذه الرواية شاهدا لما ذكرناه بقولنا : نعم الانصاف الخ.

(وقد اشرنا هنا) عند قولنا : «نعم ، الانصاف» (وفي أوّل المسألة) عند قولنا : «ان ارادوا عدم جواز الخوض .. فلا وجه» (الى عدم جواز الخوض في المطالب العقلية) المبنية على المقدمات الحدسية غالبا (لاستكشاف الأحكام الدينية) منها (و) عدم جواز (الاستعانة بها) اي بتلك المطالب العقلية (في تحصيل مناط

١٨٩

الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللّم ،

______________________________________________________

الحكم) وعلته (والانتقال منه) اي من المناط (اليه) اي الى الحكم ـ كما تقدّم مثاله ـ.

وذلك (على طريق اللم) وهو مشتق من «لم» اي لما ذا ومعناه الانتقال من العلة الى المعلول ، كما انه لا يجوز العكس ايضا ، اي ان ننتقل من المعلول الى العلة فيرتب الاثر عليها.

مثلا : النار علة الاحراق ، والاحراق علة الرماد ، فالانسان اذا رأى النار ، انتقل الى وجود الاحراق ـ بدليل «اللّم» واذا رأى الرماد ، انتقل الى وجود النار بدليل «الإنّ» وكلاهما لا يصح في الشريعة ، لأنا لا نعلم العلل الحقيقية ، كما لا نعلم المعلولات الحقيقية لكل حكم شرعي.

مثل : «التقوى» علة للصيام ، كما قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

و «الصيام» علة لصحة البدن ، كما ورد في الحديث : «صوموا تصحّوا» (٢).

فلا يحق لنا ان نقول : «ان زيدا المتقي يصوم» انتقالا من «التقوى» العلة ، الى «الصوم» المعلول ، فهو اذا صحيح البدن ، ومن جهة قد نذر ابو زيد أن يتصدق اذا كان ابنه زيد صحيح البدن ، فننتقل من العلة الى المعلول : «صحة بدن زيد» فيترتب عليه حكم التصدق ووجوب الوفاء بالنذر.

وهكذا في عكسه : اي الانتقال من المعلول الى العلة نقول : ان عمرا صحيح البدن ـ كما نشاهده ـ فهو اذا يصوم ، فهو اذا متقي ، والمتقي تقبل شهادته ، فتقبل

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٢) ـ دعائم الاسلام : ج ١ ص ٣٤٢ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٦٨ ، دعوات الراوندي : ص ٧٦.

١٩٠

لأنّ أنس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأ لطرح الأمارات النقليّة الظنيّة ،

______________________________________________________

شهادة عمرو ، «انتقالا» من المعلول وهو صحة البدن ، الى العلة وهو التقوى ، وهذا الانتقال يترتب عليه قبول الشهادة.

وهناك شيء ثالث غير «اللّم» و «الإن» وهو الانتقال من الملازم الى الملازم سواء في الايجاب ، مثل : الانتقال من الحرارة الى الضوء ، وكلاهما متلازمان للنهار ، حيث الشمس طالعة ، او في السلب ، مثل : انه اذا كان النهار فليس بليل ، واذا كان ليل فليس بنهار ، لانهما ضدان لا ثالث لهما ـ.

هذا في التكوينيات ، ونأتي بمثل ذلك في التشريعيات ، فنقول مثلا : ورد في الحديث : «الحياء والايمان مقترنان» (١).

فاذا رأينا في انسان حياء ، نقول : انه مؤمن ، ونرتب عليه احكام الايمان ، فاذا مات دفناه في مقبرة المسلمين ، والحال انا لا نعلم بانه مسلم او كافر ، لانه كان ـ مثلا ـ يعيش في برّية ليست من ارض الاسلام ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة التي توجب الاطالة فيها الخروج عن مقصد الشرح ، والله المستعان.

وانّما لا يجوز الخوض (لان انس الذهن بها) اي بالمطالب العقلية (يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه) من طريق المعصومين عليهم‌السلام (من الاحكام التوقيفية) التعبدية ، سواء في العبادات ، او المعاملات او سائر الاحكام الشرعية.

(فقد يصير) انس الذهن المنتهى الى عدم الوثوق (منشأ لطرح الامارات النقلية) و (الظنية) التي اعتبرها الشارع ، كخبر الواحد ، وحجية الظهور ، ولزوم قبول قول الشاهد ، او غير ذلك ، مع ان الشرع متوقف على أخبار الآحاد ، وحجية

__________________

(١) ـ الكافي (أصول) : ج ٢ ص ١٠٦ ح ٤ ، مجموعة ورام : ج ٢ ص ١٨٨ ، مشكاة الانوار : ص ٢٣٣.

١٩١

لعدم حصول الظّن له منها بالحكم.

______________________________________________________

الظهور ، وحجية الشاهد ـ على الشرائط المقررة في الفقه ـ.

وانّما يطرح الخائض في المطالب العقلية والامارات ، (لعدم حصول الظن له) اي لمن انس ذهنه بالامور العقلية (منها) اي من الامارات (بالحكم) الشرعي الواصل اليه ، واذا لم يظن لا يأخذ بالحكم.

والحاصل : ان الاعتماد مطلقا على العقليات افراط ، وعدم الاعتماد اطلاقا تفريط ، والاوسط هو طريقة فقهائنا العظام قدس‌سره من الشيخ الى الشيخ ، ومن السيّد الى السيّد ، اي من شيخ الطائفة الى الشيخ المرتضى ، ومن السيّد المرتضى الى السيّد صاحب العروة.

ولا يخفى : انه قد ابتلي بهذا الخوض المتجددون الذين انس ذهنهم بالقوانين الغربية ، ففي باب الطهارة يرون : ان كل معتصم مطهر ، وفي باب الصلاة : انه لذكر الله واستدلوا لذلك بقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١).

فقالوا ، اذا ذكر الانسان الله سبحانه كفى عن الصلاة ، وفي باب الصوم انه للتقوى ، فاذا كان متقيا فلا حاجة اليه ، وفي باب الحج انه كما قال الله تعالى :

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)(٢).

فاذا كان بناء مؤسسة خيرية انفع كفى عن الحج ، وفي باب الخمس والزكاة انهما من جهة ادارة الامور ، فاذا امكنت الادارة بواسطة سائر الضرائب صح جعلها عوضهما ، واستدلوا له بقوله سبحانه : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(٣).

وفي باب الزواج بالاربع ، انه كان من جهة كثرة النساء في اوّل الاسلام ، فحيث

__________________

(١) ـ سورة طه : الآية ١٤.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٢٨.

(٣) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

١٩٢

وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لادراك ما يتعلق باصول الدين ، فانّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد.

______________________________________________________

لا يكون اليوم ذلك فلا حق لأحد الا في زوجة واحدة.

وفي باب كثرة النسل انها حيث تنافي الموارد الاقتصادية الحالية ، فاللازم تحديدها ، الى غيرها ، وغيرها مما ذكروه في كل الفقه.

ومن نظر الى كتاب «الوسيط» للسنهوري من مصر ، وكتاب «القانون» للامامي في ايران رأى الآلاف من هذه الاحكام التي نشأت من التأثر بالقوانين الغربية (١).

(و) على اي حال ، فانه (اوجب من ذلك) اي من ترك الخوض في العقليات لاستنباط الاحكام الشرعية (ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية) المرتبطة بالعقائد (لادراك ما يتعلق باصول الدّين) ووجه الاوجبية : ان الانحراف في فروع الدّين ، يوجب العصيان وبعض العقاب ، اما الانحراف في اصول الدّين ، فانه يوجب الكفر ودوام العقاب والعياذ بالله العاصم.

(فانه) اي الخوض في العقليات في اصول الدّين (تعريض) للنفس (للهلاك الدائم والعذاب الخالد) اذا انحرف الى ما يخالف الحق فيها ، ولذا كان بعض الفقهاء يشترطون على من كان يريد درس الفلسفة ، ان يقوّي اولا وقبل كل شيء مباني اصول دينه ويحكّم اساس فكره وعقائده بالكتب الكلامية المستقيمة ، وبمطالعة الآيات والروايات الواردة في اصول الدّين ، ثم يتعلم عند من يعرف بالاستقامة التامة ، والذي يذكر الآيات والروايات في درسه ، ويرد بها الامور

__________________

(١) ـ وقد المع الشارح الى بعض تلك الامور في طيات بعض كتبه ككتاب العائلة والفقه الاسرة ولما ذا تأخر المسلمون؟ والأزمات وحلولها وسقوط بعد سقوط.

١٩٣

وقد اشير الى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ،

______________________________________________________

المنحرفة لدى الوصول اليها في التدريس.

(وقد اشير الى ذلك) اي الى ان الخائض معرض للعذاب الدائم (عند النهي عن الخوض) في التفكر (في مسألة القضاء والقدر).

أقول : في غالب الروايات تقديم القدر على القضاء ، نعم في بعض الروايات تقديم القضاء على القدر.

والقدر : عبارة عن تقدير الاشياء.

والقضاء : عبارة عن ايجادها ـ في التكوينيات ـ قال سبحانه :

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...)(١).

وللامر بها في التشريعيات ، قال سبحانه : ـ

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(٢).

ولعل الاصل في «قضى» : الاجراء ، فبناء البيت : اجراء ، والامر بكذا : اجراء ، بل وحتى الاعلام بشيء في المستقبل : اجراء ، قال سبحانه :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ...)(٣).

والمثال السهل ، للقدر والقضاء في الامور العادية هو : انه اذا قدّر المالك حدود الدار ، التي يريد بنائها وسائر خصوصياتها ، من الغرف وغيرها ، يسمّى «تقديرا» ثم اذا أمر ببنائها ، او شرع المهندس في بنائها ، سمّي كل واحد من الامرين «قضاء».

والله سبحانه «قدّر الكون» ثم «اوجده في الخارج» ، هذا في الامور التكوينية.

__________________

(١) ـ سورة فصّلت : الآية ١٢.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٢٣.

(٣) ـ سورة الاسراء : الآية ٤.

١٩٤

وعند نهي بعض أصحابهم عليهم‌السلام ، عن المجادلة في المسائل الكلاميّة.

لكنّ الظاهر من بعض تلك الأخبار أنّ الوجه في النهي عن الأخير عدم الاطمينان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة فيصير مفحما

______________________________________________________

و «قدّر خصوصيات الصلاة والصوم والحج وغيرها» ثم امر بها ، وهذا في الامور التشريعية.

ثم انه انّما نهى عن الخوض في مسائل القضاء والقدر ، لان الخائض اذا لم يكن من العلماء العارفين ، امكن ان ينتهي الامر به الى الجبر ، او التجسم له سبحانه ، او انه ظالم والعياذ بالله ، الى غير ذلك.

(وعند نهي بعض اصحابهم عليهم‌السلام عن) البحث و (المجادلة في المسائل الكلامية) قيل : وانّما سمّي علم الكلام بعلم الكلام ، لان اوّل مسألة تكلموا فيها ، هي مسألة كيفية كلام الله سبحانه وخصوصياته ، حيث قال تعالى :

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١).

(لكن الظاهر من بعض تلك الاخبار) الناهية عن التكلم والمجادلة في المسائل الاصولية (ان الوجه في النهي عن الاخير) اي النهي عن البحث في المسائل الكلامية لبعض الاصحاب ، لم يكن من جهة انه خوض في العقليات الاصولية ، بل من جهة (عدم الاطمينان) العرفي (بمهارة الشخص المنهي في المجادلة) فمن يكون ماهرا لا بأس بتكلمه وجداله مع الاعداء ، اما من لم يكن ماهرا فلا حق له في التكلم.

فالنهي ليس عن الكلام بما هو مطلب عقلي وامر فلسفي ، وانّما من جهة الشخص المنهي (ف) اذا تكلم من لا مهارة في فن الكلام (يصير مفحما)

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ١٦٤.

١٩٥

عند المخالفين ويوجب ذلك وهن المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف.

______________________________________________________

اي مجابا ومغلوبا (عند المخالفين) الذين يجادلونه (ويوجب ذلك) اي افحام المخالف للموالي (وهن المطالب الحقة في نظر اهل الخلاف) والاستهزاء بالله ورسوله والائمة عليهم‌السلام ، كما هو الشأن فيمن ليس بماهر ، ويجادل الملحدين والمنحرفين.

ولهذا امر الامام عليه‌السلام هشام بن الحكم بالمناقشة والمناظرة قائلا له : «مثلك فليكلم الناس» (١).

وقال الصادق عليه‌السلام ليونس ـ عند ما ورد عليه رجل من الشام يريد البحث والجدل ـ : «يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته» ، فقلت : جعلت فداك اني سمعتك عن الكلام تقول : ويل لاصحاب الكلام يقولون : هذا ينقاد وهذا لا ينقاد ، وهذا ينساق وهذا لا ينساق ، هذا نعقله وهذا لا نعقله ، فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : انّما قلت : «ويل لهم إن تركوا ما أقول ، وذهبوا إلى ما يريدون» (٢).

وفي رواية اخرى : حيث نهى الامام عليه‌السلام بعض الاصحاب عن التكلم ، فقال للامام : إذن لما ذا مؤمن الطاق يتكلم؟ قال له الامام عليه‌السلام : انه يطير وينقض (٣) ، كناية عن معرفته بالنقض والرّد ، بينما لم يكن المنهي يعرف مثل ذلك ، والروايات كثيرة مذكورة في بابه ، من البحار وغيره ، والله المستعان.

ثم لا يخفى ان المطالب المربوطة بالمبدإ والمعاد وخلق الكون والرسالة والامامة على قسمين : ـ

__________________

(١) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٧٣ ب ١ ح ٤.

(٢) ـ الكافي (أصول) : ج ١ ص ١٧١ ح ٤.

(٣) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٧١ ب ٧ ح ٣٣٢٣٠ (بالمعنى).

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاول : ما هو خارج عن ادراك العقل ، وذلك لان العقل محدود حسب كونه ممكنا ، والله سبحانه وتعالى وصفاته غير محدود ، ولا يعقل احاطة المحدود بما هو غير محدود ، كما لا يعقل عكسه ، اي انطباق غير المحدود على المحدود ـ فكلا الامرين يستلزم التناقض ـ.

الثاني : ما هو ليس بخارج عن ادراك العقل.

اما التكلم في الاول : فانه لا يزيد الانسان علما ، ولا وصولا الى الحقيقة والواقع ، وعليه ، فالأولى عدم التكلم فيه ، لانه على اقل تقدير ضياع للعمر.

واما التكلم في الثاني : فهو انّما يصح اذا كان مما له الى النتيجة سبيل وإلّا كان كمدير صيدلية بغير علم مسبق ، فهل يتمكن ان يميّز بين مختلف الادوية ومنافعها ومضارها؟.

والروايات الواردة في المقام ناظرة الى الامور الثلاثة كل في موضعه.

وهناك تقسيم آخر بالنسبة الى الاشخاص : فبعض الاذهان تتمكن ان تستوعب المطالب الممكنة ذاتا ، وبعضها لا تتمكن ، لاختلاف العقول ، قال عليه‌السلام :

«إنّ هذه القلوب أوعية» (١).

فاللازم على الانسان ان يعرف قدر امكانه حتى لا يدخل فيما ليس بامكانه ، كاختلاف الاجسام في قدرة الحمل للاشياء الثقيلة ، حيث يلزم على الحامل للاثقال ان يعرف مقدار قدرته الجسمية ، فلا يحمل ما لا طاقة له به ، وكثيرا ما اذا حمل اوجب عطبه وهلاكه.

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : خطبة ١٤٧ ، روضة الواعظين : ص ١٠ ، تحف العقول : ص ١٦٩ ، كمال الدين : ص ٢٨٩ ، الارشاد : ج ١ ص ٢٢٧ ، الامالي للمفيد : ص ٢٤٧ ، غرر الحكم : ص ٦٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٣٤٦.

١٩٧

التنبيه الثالث :

قطع القطاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطاع لا اعتبار به ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره ، بعد الحكم بأنّ كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه.

______________________________________________________

قطع القطاع

(الثالث) من تنبيهات بحث القطع وهو انه : (قد اشتهر في ألسنة المعاصرين) كصاحب الجواهر وغيره (ان قطع القطاع) الذي يكثر قطعه من غير الاسباب العادية المفيد للقطع ، بان تمرض ذهنه في قبال من لا يقطع من اسباب القطع ، لتمرض ذهنه ايضا ، والوسط بينهما هو الذي يحصل له القطع من الاسباب المتعارفة كسائر الناس المتعارفين في قطعهم وظنهم وشكهم.

ومنه يعلم انه لا يراد بالقطاع هنا : من كثر قطعه لكثرة علمه ، كالمهندس الذي يكثر قطعه بصغريات الهندسة ، مما ليس كذلك جاهل الهندسة.

وعليه : فالقطاع اعتباطا (لا اعتبار به) بمعنى ان قطعه ليس بحجة.

(ولعل الاصل في ذلك) اي المنشأ في هذا الاشتهار (ما صرح به) الشيخ جعفر الكبير الملقب ب : (كاشف الغطاء قدس‌سره) وانّما لقب بذلك ، لانه كتب كتابا سماه : «كشف الغطاء» ومراده : كشف غطاء الفقه (بعد الحكم) اي بعد حكمه في ذلك الكتاب (بان كثير الشك لا اعتبار بشكه) فانه يبني على الصحيح من طرفي الشك ، واذا كان كلا الطرفين صحيحا بنى على أيهما اراد.

اما اذا كان كلا الطرفين باطلا ، كما اذا شك في ان ركعات صلاته التي صلاها

١٩٨

قال «وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنّه فيلغو اعتبارهما في حقّه» انتهى.

أقول : أمّا عدم اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ،

______________________________________________________

ستا او سبعا ، كانت الصلاة باطلة من جهة ان معنى هذا الشك : علمه التفصيلي بالبطلان ، وذلك اما من جهة ان الصلاة كانت ست ركعات ، او من جهة انها كانت سبع ركعات.

(قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنه) مما يكون الظن فيه حجة ، باعتباره طريق العقلاء ، كالظن بالظهور ، ومطابقة الخبر الواحد الجامع للشرائط للواقع والظن بصحة اعمال الناس واقوالهم ، الى غير ذلك فاذا كثر قطعه او ظنه على غير المتعارف ، كأن يقطع او يظن بسبب الرؤيا ، او بالتطيّر ، او بالتفؤّل ، او باخبار الصبيان ، والرمّالين ، والمنوّمين ، وما اشبه ذلك (فيلغوا اعتبارهما) اي القطع والظن (في حقه) (١) أي في حق كل من القطاع والظنّان (انتهى) كلام كاشف الغطاء قدس‌سره.

(اقول : اما) عدم اعتبار شك كثير الشك ، فلان المتبادر من أدلة الشك : هو الشاك المتعارف ، فالشكّاك خارج عن ادلة احكام الشك ، مضافا الى وجود النص في عدم اعتبار شك كثير الشك ، كما ان في عكسه : اي قليل الشك ، بأن يظن دائما فانه يكون كمتعارف الشك ، محكوم بحكم الشاك ، لا بحكم الظان ـ كما سيأتي ـ.

واما (عدم اعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه) فان الظن حجة في بعض الاماكن ، ـ لا في أي مكان ـ مثل : الظن بالقبلة ، والظن بعدد الركعات ، والظن الحاصل

__________________

(١) ـ كشف الغطاء : ص ٦١.

١٩٩

فلأنّ أدلّة اعتبار الظنّ في مقام يعتبر فيه مختصّة بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظنّ منها لمتعارف الناس

______________________________________________________

من قول الاعراب بالميقات ، الى غير ذلك (فلان ادلة اعتبار) حجية (الظن في) كل (مقام يعتبر فيه) الظن (مختصة) بالمتعارف بحكم الانصراف اذ المنصرف من كلماتهم هو المتعارف في كل مقام.

وكذا قالوا : ان الوجه اذا كان كبيرا خارجا عن المتعارف ، لا يحتاج غسل اكثر مما بين الابهام والوسطى في غسل الوجه.

كما انه اذا كان بين الابهام والوسطى اكبر من المتعارف ، حتى يصل الى قريب الاذن ، او اصغر حتى لا يستوعب كل الوجه المتعارف ، لم يلزم في الاكبر الغسل ، ويلزم في الاصغر غسل اكثر مما بينهما.

الى غير ذلك ، مثل : الاشبار في الكر ، والاذرع في الفرسخ.

لا يقال : فلما ذا يقولون بكفاية غسل كل البدن في الغسل اذا كان البدن صغيرا ، ويلزمون ايضا غسل كل البدن اذا كان كبيرا خارج المتعارف؟.

لانه يقال في الوجه : لا شيء هناك يدل على غسله خارجا عن المتعارف بينما في الثاني : يدل على غسل الجميع قولهم عليهم‌السلام : «تحت كلّ شعرة جنابة» (١).

فالاعتبار مختص (بالظن الحاصل من الاسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس) فقد يكون المخبر ـ مثلا ـ غير متعارف ، ككثير النسيان ، وقد يكون متلقّي الخبر غير متعارف ، كسريع الظن ، الذي يظن حتى من طيران

__________________

(١) ـ فقه الرضا : ص ٨١ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ٢٩ ص ٤٧٩ ح ١٢١٣ ، بحار الانوار : ج ٨١ ص ٥١ ب ٣ ح ٢٣ ، سنن الترمذي : ج ١ ص ١٧٨ ح ١٠٦.

٢٠٠