

دليل الجزء الأوّل
مقدّمة التحقيق ................................................................. ٧
المبحث الأوّل : في المقدّمات ................................................... ٢٧
الباب الأوّل في
نبذ من أحواله ................................................. ٢٩
الباب الثاني في
المبادئ اللغويّة ................................................. ٣٦
الباب الثالث في
المبادئ الأحكاميّة ............................................. ٩٥
المبحث الثاني : في الأدلّة الشرعيّة ............................................. ١٨١
الباب الأوّل في
الكتاب ..................................................... ١٨٣
الباب الثاني في
السنّة ....................................................... ٢٠٢
الباب الثالث في
الإجماع .................................................... ٣٣٦
الباب الرابع في
الأدلّة العقليّة ................................................. ٣٨٦
الباب الخامس في
القياس .................................................... ٤٣٤
فهرس الموضوعات ........................................................... ٥٧٥
مقدّمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد ، وعلى
آله الطيّبين الطاهرين.
وبعد ؛ بين يديك ـ
أيّها القارئ الكريم ـ كتاب أنيس المجتهدين أحد مؤلّفات المحقّق الفاضل المولى
محمّد مهدي النراقي ، المتوفّى سنة ١٢٠٩ ه ، التي قام بتحقيقها مركز إحياء التراث
الإسلامي في مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة. وذلك مع مجموعة من آثار الفاضلين
النراقيّين التي أحيل تحقيقها إلى هذا المركز من قبل المؤتمر التكريمي لهذين
العلمين ، والذي انعقد في مدينة قم المقدّسة سنة ١٣٨٢ ش / ١٤٢٤ ه.
ترجمة المؤلّف
وردت ترجمته بشكل
مفصّل ـ أو مختصر ـ في كثير من كتب التراجم والتاريخ في القرنين الثاني عشر
والثالث عشر من الهجرة النبويّة. وكذا في مقدّمة بعض كتبه أو كتب ولده المولى أحمد
النراقي المصحّحة مؤخّرا. وقد كتب سماحة الشيخ رضا الاستادي تأليفا مستقلاّ في
ترجمة النراقيّين بالفارسيّة تحت عنوان شرح أحوال وآثار ملاّ مهدى نراقى وملاّ
أحمد نراقى وخاندان ايشان ، فإنّ فيما ورد فيه غنى وكفاية.
ولذلك لم نتعرّض
هنا لترجمة المولى محمّد مهدي النراقي. وما نقدّمه هنا ما هو إلاّ لمحات عن حياته
المباركة ، وقبسات من أنواره الملكوتيّة ، ونشير إلى نقاط عن حياته بقيت مجملة.
اسمه ونسبه
قال قدسسره في مقدّمة كتابه جامعة
الاصول : « أمّا بعد ؛ فيقول المحتاج إلى غفران ربّه السرمدي محمّد بن أبي ذرّ
النراقي ، المعروف بمهدي ، بصّره الله بعيوبه ، ونجّاه من أحزانه وكروبه ... » .
وقال في مقدّمة
رسالة الإجماع : « أمّا بعد ، فيقول المتمسّك بلطف الله الأبديّ والمتشبّث بفضله
السرمديّ محمّد بن أبي ذرّ النراقي المعروف بمهدي ، نوّر الله قلبه بالأنوار
العليّة و ... » .
وقد ذكر ولده
المولى أحمد في أكثر كتبه ، والإجازة التي كتبها لأخيه الصغير محمّد مهدي الثاني
الملقّب بـ « آقا بزرك » ، اسم أبيه بـ « محمّد مهدي » ، وقال في الإجازة : «
فمنها ما أخبرني به ... ، والدي واستاذي ، ومن إليه في جميع العلوم استنادي ،
مولانا محمّد مهدي بن أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد النراقي » .
وفي إنهاء الإجازة
كتب : « كتبه بيمناه الداثرة ... أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ ابن الحاجّ محمّد
القمّي النراقي الكاشاني مسكنا » .
كما أنّه ذكر نسبه
بـ « أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي » ، في افتتاح وانتهاء جميع مؤلّفاته.
فالمنتج من هذه
الذكريات والعبارات :
أوّلا : أنّ اسمه
محمّد بن أبي ذرّ والمعروف بمهدي ، أو محمّد مهدي.
وثانيا : أنّ اسم
جدّه أيضا كان محمّد ، المعروف بالحاجّ محمّد القمّي النراقي.
وذلك لأنّ قصبة
نراق كانت في سالف الزمان من توابع مدينة قم. وبعد الحقت بمدينة
__________________
كاشان. كما ذكره
أبو الحسن المستوفي في كتابه تاريخ گلشن مراد .
واحتمل سماحة
الشيخ رضا الاستادي في ابتداء شرح أحوال وآثار ملاّ مهدي نراقي وملاّ أحمد نراقي
أن يكون جدّه « الفاضل نصير الدين القمّي » صاحب رسالة الزكويّة. وذكر في الهامش
احتمالا آخر بأنّه يمكن أن يكون نصير الدين جدّه لامّه لا جدّه لأبيه .
لقبه
يلقّب المولى
محمّد مهدي بـ « المحقّق النراقي » و « العلاّمة النراقي ». وقد يعبّر عنه بـ «
النراقي الأوّل » ، كما يلقّب ولده المولى أحمد بـ « الفاضل النراقي » وقد يعبّر
عنه بـ « النراقي الثاني » ، كما ويعبّر عنهما بـ « النراقيّان » ، وصاحب الجواهر يعبّر عنهما بـ « الفاضل النراقي » .
ولادته
لم يرد تاريخ
ولادته في أيّ من كتب التراجم والمصادر المتوفّرة لدينا ، ولكن ورد في الكتيبة
التي كتبها ولده المولى أحمد النراقي بخطّه ، في آخر إحدى النسخ من كتاب لؤلؤة
البحرين ما يلي :
تاريخ وفاة الوالد
الماجد ... في أوّل ليلة السبت ثامن شهر شعبان المعظّم من شهور سنة ألف ومائتين
وتسع ... وكان عمره الشريف يبلغ ستّين سنة تقريبا .
وقد ذكر العلاّمة
المحقّق الرجالي المرحوم ميرزا محمّد حسن الزنوزي ( م ١٢١٨ ه ) معاصر النراقي في
كتاب رياض الجنّة أنّ عمره كان ما يقارب الثلاث وستّين سنة ، وبالنظر إلى أنّ
وفاته كانت سنة ١٢٠٩ ؛ لذا وجب أن تكون ولادته في أواخر النصف الأوّل من القرن
الثاني عشر ، أي في سنة ١١٤٩. وبناء على ذلك فلا يصحّ ما ذكره
__________________
المرحوم الشيخ
محمّد رضا المظفّر في مقدّمة كتاب جامع السعادات بأنّ ولادته كانت سنة ١١٢٨.
مكانته العلميّة
تميّز المحقّق
النراقي عن أقرانه بموسوعيّة المعرفة ، وحظي بمكانة علميّة واجتماعيّة ممتازة ،
ولم يقتصر على الفقه والاصول ومقدّماتهما ، فقد كان جامعا لأكثر العلوم والفنون. فنراه
عالما في الأدب واللغة والفقه والاصول والحديث والرجال والدراية والحكمة والكلام
والآداب والأخلاق والرياضيّات والنجوم ، حيث يتجلّى ذلك من خلال تأليفاته الكثيرة
المتنوّعة ، فلقد أتاحت له نشأته في الأوساط العلميّة فرص التعلّم المبكّر ،
ووفّرت له عقليّته الكبيرة وذكاؤه الوقّاد ، القدرة على استيعاب العلوم والفنون
المتعدّدة بسهولة ، وارتقى سلّم العلم فبلغ حدّا يكاد يعدّ من علماء الطراز الأوّل
للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري.
ولقد وصفه العلماء
المحقّقين من أصحاب التراجم بما لم يصفوا به غيره. وإليك بعض ما قالوا فيه :
١ ـ قال أبو الحسن
المستوفي الغفاري في كتاب تاريخ گلشن مراد :
|
فريد عصره ووحيد
دهره ، مولانا محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي ، حكيم استندت الشريعة إلى آرائه
القويمة ، وعالم تفوّقت آراؤه الصائبة على المستدلّين في كلّ حال ، وفقيه اعترف
بفضله وتقدّمه فقهاء عصره ، وعالم يغترف أرباب اليقين من بحر علمه ، نحرير أسرت
آراؤه قلوب الأحرار من طلاّبه ، وكان لجامع أفكاره الفضل في إظهار عظمة النقد
المحصّل وما احتوى من إفادات العلماء العظام ، فيلسوف تتباهى روحي أفلاطون
وأرسطو بوجوده ، ويلهج لسان حال ابن سينا بشكر مساعيه الحميدة.
فيلسوف بحقّ
وحكيم مطلق ، جامع المعقول والمنقول ، حاوي الفروع والاصول ، المولى الأعظم
والحبر الأعلم ، مظهر الحقائق ، مبدع الدقائق ، أستاذ البشر ، أعلم أهل البدو
والحضر ، متمّم علوم الأوائل والأواخر ، كاشف مشكلات المسائل
|
|
بالمآثر ، قدوة
الحكماء وأفضل العلماء ، سلطان المحقّقين وبرهان المدقّقين ، ينبوع العلم ،
مقنّن الرسوم ، مدّ الله ظلال إفاداته على رءوس العباد ، متّع الله المستفيدين
بطول بقائه بمحمّد وآله. كان ماهرا في جميع العلوم ، ومفسّرا لدقائق آراء
الأوائل والأواخر ، بل كان له سهم في تكامل العلوم .
|
٢ ـ وقال الزنوزي
في كتاب رياض الجنّة :
|
المولى الجليل
محمّد مهدي بن أبي ذرّ الكاشاني النراقي.
كان عالما كاملا
فاضلا صالحا جليلا محقّقا مدقّقا ثقة عدلا ثبتا ضبطا متضلّعا نحريرا متبحّرا
فقيها حكيما متكلّما مهندسا معاصرا ، ماهرا في أكثر العلوم والفنون والكتب ،
إسلاميّة كانت أم غيرها من الملل والأديان. وكان جليل القدر عظيم الشأن ، كريم
الأخلاق حسن الآداب ، كثير التأليف ، جيّد التحرير والتعبير ، له مؤلّفات كثيرة
لطيفة .
|
٣ ـ وقال
الخوانساري في روضات الجنّات :
|
العالم البارع
والفاضل الجامع ، قدوة خيل أهل العلم بفهمه الإشراقي ، مولانا مهدي بن أبي ذرّ
الكاشاني النراقي ...
كان من أركان
علمائنا المتأخّرين وأعيان فضلائنا المتبحّرين ، مصنّفا في أكثر فنون العلم
والكمال ، مسلّما في الفقه والحكمة والاصول والأعداد والأشكال .
|
٤ ـ وكتب العلاّمة
الطهراني في أعلام الشيعة :
|
المولى محمّد
مهدي بن أبي ذرّ النراقي الكاشاني المتوفّى سنة ١٢٠٩ هو جامع السعادات ومصنّفها
، ومعتمد الشيعة ومؤلّفها ، صاحب اللوامع وأنيس المجتهدين والتحفة الرضويّة ،
حلاّل مشكلات العلوم في المنثور والمنظوم ، رئيس الأبرار وأنيس التجّار
والموحّدين ، في المعاملات والعبادات وأصول الدين ، هذّب بتجريده أصول الأحكام ،
وأحرق بمحرقه قلوب الأنام بعد تكميله
|
__________________
|
على الأركان
الأعلام مثل صاحب الحدائق ، والمولى الخاجوئي ، والوحيد البهبهاني والمحدّث
الفتوني ، وعلاّمة الزمان محمّد بن محمّد زمان ، والمولى مهدي الهرندي والمولى
محمّد جعفر القاساني ... إلى أن ركب طائر القدس ولحق بمحلّ الانس وتوسّد التراب
خلف مرقد مولاه أبي تراب عليهالسلام ، ودفن من ورائه ولده أحمد ، سمي صاحب المستند عليه
صلوات الله الملك الأحد. وخلّف تصانيفه الرائقة ، وفيها نخبة البيان البديع في
بابي الاستعارة والتشبيه من فنّ البيان ، وتوضيح الإشكال ... وشرح لتحرير أقليدس
... وكتاب الرجال الذي رأيت النقل عنه في تأليفات بعض المعاصرين .
|
٥ ـ وجاء في لباب
الألقاب :
|
العارج أعلى
المراقي ، الحاجّ الملاّ مهدي بن أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد القمّي النراقي كان
عالما عيلوما محقّقا مدقّقا ، أستاذ الكلّ في الكلّ ، جامعا لجميع العلوم
العقليّة ، ماهرا حاذقا في العلوم الشرعيّة ، كاشفا عن أسرار دقائق لم يطّلع
عليها من قبله ، مبيّنا لقواعد حقائق لم يؤسّسها سواه ، فلو قال قائل إنّه بحر
العلوم على الحقيقة لما كان في هذا القول متجوّزا بل تكلّم بالحقيقة ، ولو قال
قائل : إنّه العلاّمة لما استحقّ الملامة. ولقّبه بعض الأفاضل بـ « خاتم الحكماء
والمجتهدين » وهو في محلّه. وقد تلمذ في الرياضيّات والحكمة على الملاّ إسماعيل
الخاجوئي في أصفهان ثلاثين سنة ، وفي الشرعيّات على الوحيد البهبهاني مدّة مديدة
...
وحكايات مشقّته
في التحصيل ، وتحميله للفقر والفاقة ، وصبره على نوائب الدهر وحوادث الجمّة
معروفة ، ورياضاته وعباداته مشهورة حتّى أنّ بعض الصوفيّة ادّعى أنّه من مشايخ
السلسلة ، ترويجا لعقيدته الفاسدة ، كلاّ إنّه كان رئيس الحكماء الإلهيّين ،
وأعلم الفقهاء والمجتهدين ، وأصل الزهّاد وقدوة العابدين ولعمري إنّه كان ناصرا
للملّة والدين ، بل آية من آيات الله داعيا إلى الحقّ المبين .
|
__________________
٦ ـ وكتب العلاّمة
حسن زادة الآملي :
|
منار شامخ للعلم
والتحقيق ، استاذ الكلّ في الكلّ ، العلاّمة المولى مهدي ـ أو محمّد مهدي ـ بن
أبي ذرّ بن الحاجّ محمّد النراقي رحمهالله. أحد نوابغ الدهر ، وجامع أزمّة العلوم والفنون ، السابق
في كلّ فنّ ، ودائرة المعارف الناطقة ، والمكتبة العظيمة الحيّة المتحرّكة.
بلا شكّ فإنه
يعتبر في الطراز الأوّل من علماء الإسلام الكبار ، في التبحّر والمهارة في جميع
العلوم العقليّة والنقليّة بما فيها الأدبيّات والرياضيّات العالية ، ومن نوادر
العصر في تحلّيه بالفضائل الأخلاقيّة والملكات الملكوتيّة.
له مصنّفات
بارزة ومؤلّفات قيّمة في العلوم المختلفة ، تلقّى العلم في كاشان وأصفهان ،
والعتبات المقدّسة في العراق ، على يد عظماء أمثال الملاّ إسماعيل الخاجوئي ،
والملاّ محمّد جعفر بيدگلي ، والآغا محمّد باقر الوحيد البهبهاني وغيرهم ،
ويعتبر من الأشخاص الذين يشار إليهم حين تذكر الفضائل .
|
٧ ـ وكتب الاستاذ
المرحوم السيّد جلال الدين الآشتياني رحمة الله عليه :
|
المجتهد البارع
، والحكيم المحقّق ، الملاّ محمّد مهدي النراقي.
من أكابر علماء
الشيعة الذين يمتازون بالشمول والإحاطة والتبحّر والتخصّص في العلوم النقليّة
والعقليّة ، والذين يقلّ نظيرهم : الآخوند الملاّ محمّد مهدي النراقي الكاشاني ،
المتوفّى سنة ١٢٠٩ ه ، مجتهد وحكيم عارف ورياضي ، عاش في أواخر القرن الثاني
عشر وأوائل القرن الثالث عشر الهجري القمري ، يعتبر من خرّيجي الحوزة العلميّة
في أصفهان ، كما استفاد لفترة من محضر الأساتذة المشهورين العظام في العتبات
المقدّسة في كربلاء والنجف. كان النراقي في العلوم العقليّة والنقليّة من تلاميذ
الفقيه والحكيم المحقّق الملاّ إسماعيل الخاجوئي والعالم البارع الشيخ محمّد ،
والعالم المحقّق الملاّ مهدي الهرندي ، والاستاذ المحقّق الرياضي الآغا ميرزا
نصير الأصفهاني .
|
__________________
٨ ـ وقال تلميذه
محمّد بن الحاج طالب طاهرآبادي ، في إنهاء نسخة أنيس المجتهدين :
|
المولى الأعظم
والحبر الأعلم ، سلطان العلماء الإلهيّين وبرهان الحكماء الراسخين ، رئيس
المجتهدين ، مشيّد قواعد الاصوليّين ومسدّد أركان المهندسين ، كشّاف حقائق
المتقدّمين ، صرّاف نقود المتأخّرين ، أفضل الأوائل المتبحّرين وأكمل الأواخر
المسترشدين ، ثالث المعلّمين بل أوّلهم لو كشف الغطاء من البين ، عالم معالم
التحقيق ، واقف مواقف التدقيق ، كاشف أستار المسائل ، مجمع إحراز الأواخر
والأوائل ، استاذنا بل استاذ البشر والعقل الحادي عشر ، مولانا محمّد مهدي
النراقي دام ظلّه العالي .
|
وقال في إنهاء
نسخة جامع الأفكار وناقد الأنظار :
|
قد تمّ تسويد
هذا الكتاب ... من مصنّفات استاذي بل استاذ الكلّ في الكلّ ، أفضل أعاظم
المدقّقين وأكمل أفاخم المحقّقين ، الفائق على الأوائل والأواخر والأوّلين
والآخرين ، الوحيد في عصره والفريد في دهره ، جامع المعقول والمنقول ، حاوي
الفروع والأصول ، الجامع بين مرتبتي العلم والعمل ، الحافظ نفسه الشريفة عن
الخطأ والزلل ، خاتم الحكماء والمجتهدين في أوانه ، وزبدة الفضلاء والمتبحّرين
في زمانه ، محمّد مهدي أيّده الله وأبقاه .
|
٩ ـ وقال ولده
المولى أحمد النراقي :
|
والدي واستاذي
ومن إليه في جميع العلوم العقليّة والنقليّة استنادي ، كشّاف قواعد الإسلام
وحلاّل معاقد الأحكام ، ترجمان الحكماء والمتألّهين ، ولسان الفقهاء والمتكلّمين
، الإمام الهمام ، والبحر القمقام ، اليمّ الزاخر والسحاب الماطر ، الراقي في
نفائس الفنون إلى أعلى المراقي .
|
مؤلّفاته في أصول الفقه
١. رسالة في
الإجماع ؛ ألّفها في كربلاء ، سنة ١١٧٨.
__________________
٢. جامعة الاصول ؛
فرغ من تأليفها سنة ١١٨٠.
٣. أنيس المجتهدين
؛ تمّ تأليفه سنة ١١٨٦.
٤. تجريد الاصول ؛
فرغ من تأليفه سنة ١١٩٠.
أنيس المجتهدين
لا ريب في نسبة
الكتاب إلى مؤلّفه المحقّق المولى محمّد مهدي النراقي.
يقول رحمهالله في مقدّمة الكتاب : « أمّا بعد ؛ فيقول الحقير في أنظار أرباب العقول ، مهديّ
بن أبي ذرّ النراقي ... وسمّيته أنيس المجتهدين ».
وذكره ولده الفاضل
المولى أحمد النراقي في تأليفات والده ، في رسالة كتبه في فهرس مؤلّفات والده
ومؤلّفات نفسه .
كما وينقل ، أو
يستند إلى بعض الآراء والأقوال ، عنه في مؤلّفاته الاصوليّة ، مثل أساس الأحكام
وشرح تجريد الاصول ومناهج الأحكام.
ونسبه إليه
المترجمون له قاطبة.
تأريخ تأليفه
كتب المؤلّف في
إنهاء نسخة الكتاب بخطّه الشريف ما نصّه :
|
قد تمّ كتاب
أنيس المجتهدين ، والحمد لله على إتمامه. وقد فرغت عنه [ كذا ] في يوم الثامن من
العشر الاول من الشهر الخامس من السنة السادسة من العشر التاسع من المائة
الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها ألف صلاة وتحيّة.
أسأل الله أن يقيل به بعض عثراتي ، ويكتبه في صحائف حسناتي ، ويجعله ممّا ينتفع
به الأذكياء ، ويوصل إليّ آخرة في دار الجزاء.
|
__________________
فعلى ذلك فرغ
المؤلّف من تأليفه يوم الثامن من شهر جمادى الأولى سنة ١١٨٦ من الهجرة النبويّة.
ماهيّته
قال رحمهالله في مقدّمة الكتاب :
|
إنّ علم الاصول
ممّا لا يخفى علوّ رتبته وسموّ مرتبته ... وتوقّف المباحث الشرعيّة عليه ،
وافتقار المسائل الفرعيّة إليه ، وهو عمدة ما يحصل به الاجتهاد ، والوصول إليه
دونه خرط القتاد.
وإنّي بعد ما
سرّحت النظر في مراتع مسائله ، وأجلت الفكر في ميادين دلائله ظفرت على فوائد
جمّة خلت عنها كتب أكثر العلماء ، وعثرت على قواعد مهمّة لم يأت بها أولوا
الأيدي الأذكياء ، فجمعتها في هذا الكتاب ؛ تبصرة للأحباب وتذكرة لاولي الألباب
، لعلّ الله ينفعني به يوم الحساب ، إنّه هو الكريم الوهّاب.
ودأبي في هذا
الكتاب تحقيق ما هو الحقّ من المسائل ، وذكر ما هو الأتمّ من الدلائل ، ولا أتعرّض
لذكر ما هو تطويل بلا طائل ... وكذا لا أتعرّض لنقض جميع أدلّة الخصوم. بل لما
يستصعب على المفهوم ، واشير في كلّ أصل إلى مسألة فرعيّة تتفرّع عليه ؛ ليحصل
بذلك الوقوف على كيفيّة التفريع.
|
وقد رتّب الكتاب
على مباحث ذوات أبواب ، ذوات فصول. وأشار في ذيل كلّ أصل إلى مسألة أو مسائل
فرعيّة تتفرّع عليه للوقوف على كيفيّة التفريع للفقيه.
فرتّب الكتاب على
مباحث خمسة :
المبحث الأوّل في
المقدّمات ، وفيه ثلاثة أبواب ، ومجموع فصولها خمسون.
المبحث الثاني في
الأدلّة الشرعيّة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والأدلّة العقليّة. في خمسة
أبواب ، ومجموع فصولها ثمانون.
المبحث الثالث في
مشتركات الكتاب والسنّة ، وفيه سبعة أبواب. ومجموع فصولها مائة وخمسة عشر.
المبحث الرابع في
الاجتهاد والتقليد ، وفيه بابان في سبعة عشر فصلا.
المبحث الخامس في
التعادل والتراجيح ، وفيه ثلاثة فصول.
عملنا في الكتاب
أ ـ نسخ الكتاب
١. نسخة مكتبة
الحاج الشيخ محمّد ، سلطان المتكلّمين في طهران.
٢. نسخة مكتبة
الحاج الشيخ علي أكبر النهاوندي في مشهد الرضا. سنة تحريرها ١٢٠٥ ه.
٣. نسخة مكتبة
الشيخ عبد الحسين الحلّي في النجف الأشرف ، التي حرّرت في زمان حياة المؤلّف.
٤. نسخة مكتبة
الحوزة العلميّة في قزوين.
٥. نسخة مكتبة آية
الله الحكيم رحمة الله عليه في النجف الأشرف.
٦. نسخة مكتبة شاه
چراغ في شيراز.
٧. نسخة مكتبة
مدرسة الآخوند الهمداني في همدان ، بخطّ محمّد بن الحاج طالب طاهرآبادي ، تلميذ
المؤلّف ، سنة ١١٩٢ ه.
٨. نسخة مكتبة
جامعة الإلهيّات في مشهد الرضا ، حرّرت في سنة ١١٩٠ ه.
٩. نسخة مكتبة
المدرسة الفيضيّة في قم المقدّسة ، بخطّ الميرزا مجد الدين بن أبي القاسم النراقي
في سنة ١٣٣٤ ه.
١٠. نسخة مكتبة
المسجد الأعظم في قم المقدّسة.
١١. نسخة مكتبة
أمير المؤمنين عليهالسلام في النجف الأشرف.
١٢. نسخة مكتبة
آية الله الشهيد القاضي الطباطبائي في تبريز .
__________________
١٣. نسخة مكتبة
المرحوم آية الله المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب ٤٢١٦ بخطّ طاهر
الحسيني الأنجداني ، سنة ١٢٣٤ ه ( ؟ ) في سلطان آباد.
ووقع اختيارنا على
النسختين التاليتين :
١٤. نسخة مكتبة
المرحوم آية الله المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب ٣٧٩.
حرّرت بيد علي نقي
البزّاز ، بأمر المؤلّف ، في خامس شوّال سنة ١١٨٦. أشرنا إليها برمز « أ ».
وهذه النسخة من
أجود النسخ خطّا ، واعتمدنا عليها ؛ لأنّها مصحّحة وفي آخرها إشارة إلى مقابلتها
مع نسخة المؤلّف :
|
وقد انتسخت من
النسخة التي نسخت من نسخة الأصل بخطّ المصنّف ، وقد كنت مأمورا بأمره العالي
بانتساخه ، وأنا أقلّ عبيد ربّ المشرقين ، محمّد حسين بن علي نقي البزّاز
الكاشاني.
|
ومن مميّزات هذه
النسخة أنّها قوبلت مع نسخة الأصل وأربع نسخ اخرى ، وصحّحت مجدّدا بأمر المؤلّف ،
وبواسطة محمّد ابن الحاجّ طالب الطاهرآبادي ، من تلاميذ المؤلّف.
وهذا نصّ عبارته :
|
وقد أمرني
بمقابلة هذه النسخة وأربع نسخ اخرى مع نسخة الأصل التي كتبها بيده الكريمة.
وقد اتّفق
الفراغ في سنة (١١٨٩) من الهجرة النبويّة المصطفويّة. والمرجوّ من ألطافه أن
يدعو لي بصالح الدعاء ، وليتكثّر لي ما عانيت في
هذه المقابلة من الكدّ والعناء.
وكتب ذا الفقير
إلى الله الهادي ، محمّد بن الحاجّ طالب الطاهرآبادي في سنة (١١٨٩) هجريّة.
|
١٥. أيضا نسخة
مكتبة المرحوم آية الله المرعشي النجفي في قم المقدّسة ، المرقّمة ب ١٠٢٥٦ ، وهذه
النسخة فيها أغلاط كثيرة وسقط في العبارة ، وأشرنا إليها برمز « ب » ، واستفدنا
منها في بعض الموارد.
__________________
ب ـ تخريج الأحاديث
حاولنا تخريج
الأحاديث التي أوردها المؤلّف ـ طاب ثراه ـ نصّا أو مضمونا عن طرق الخاصّة
والعامّة من المصادر الأصليّة المشار إليها في المتن ، كالكتب الأربعة وغيرها.
وخرّجنا أحاديث
العامّة عن طرقهم التي ورد ذكرها في غير واحد من كتب الصحاح والسنن ، وفي بعض
الموارد من كتبهم الفرعيّة.
ج ـ تخريج الأقوال
١. حاولنا تخريج
الأقوال والآراء الواردة في المتن تصريحا أو تلويحا ، وإرجاعها إلى مصادرها ،
وبذلنا ما في وسعنا من الجهد لتخريج الأقوال من مصادرها الأصليّة.
وفي الموارد التي
أشار رحمهالله فيها إلى أقوال الفقهاء ، أو نسب القول إلى الأكثر ، ذكرنا
لها أكثر من مصدر.
٢. خرّجنا الإجماعات
المنقولة ، أو الشهرة المنقولة من كتب المتقدّمين.
٣. خرّجنا الأقوال
والآراء التي لم يسمّ المؤلّف رحمهالله قائلها واكتفى بالتعبير عنها بمثل :
نقل ، قيل ، بعض
الأصحاب ، بعض الاصوليّين ، وغيرها.
د ـ تقويم النصّ وتنظيم الهوامش
١. اعتمدنا في
التحقيق على النسختين اللتين مرّ وصفهما ، وأشرنا إلى بعض الاختلافات التي تغيّر
المعنى في الهامش.
٢. ميّزنا نصّ
الآيات الشريفة القرآنيّة ، بوضعها ما بين القوسين المظهّرتين ، هكذا : ( ... ).
وميّزنا نصّ
الأحاديث بوضعها ما بين القوسين المتضايفين ، هكذا : « ... » وكذا نصّ الأقوال
الواردة ، وإن كان القول أكثر من سطر وضعناه مصفوفا على اليسار.
٣. أمّا الإضافات
التي أوردناها ـ لاستقامة العبارة ، أو من المصادر ـ فقد وضعناها بين معقوفين ،
هكذا : [ ... ].
وتعميما للفائدة
ختمنا التحقيق باستخراج فهارس علميّة وفنّيّة شاملة ، تتيح للقارئ الكريم الوصول
إلى ما يريد بأقصر الطرق وأيسرها ، يجدها القارئ مطبوعة في آخر الجزء الثاني من
هذا الكتاب.
كلمة شكر
ويسّرنا هنا أن
نتقدّم بجزيل الشكر وجميل الثناء إلى كافّة الإخوة الأعزّاء الذين ساهموا في تحقيق
وإخراج هذا الكتاب الجليل ، نخصّ منهم بالذكر :
الإخوة المحقّقين
: فضيلة الشيخ نعمت الله جليلي ، والشيخ غلام رضا النقي ، والشيخ ولي الله
القرباني ، فإنّهم تولّوا معا تحقيق الكتاب ، من مراجعة المصادر وتقويم النصّ
والتقطيع ، كما أنّ الشيخ جليلي تصدّى للمراجعة العلميّة لكلّ الكتاب ، والشيخ
القرباني تصدّى ثانيا لمراجعة المصادر وتنظيم الهوامش.
والأخوان إسماعيل
بيك المندلاوي وطه النجفي في تصحيح التجارب المطبعيّة.
والشيخ محسن
النوروزي في المراجعة النهائيّة وإصلاح ما زاغ عنه البصر ، ووضع الفهارس.
والأخوان محمّد
خازن ورمضان علي القرباني في تنضيد الحروف وتصحيحها ، وتنظيم الصفحات وإخراجها على
أحسن صورة.
ولا ننسى أن
نتقدّم بالشكر الخالص إلى كلّ من أسدى خدمة في إنجاز هذا الكتاب وإخراجه إلى النور
، خصوصا مسئولي مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة حيث أتاحوا لنا فرصة تحقيق هذا
السفر القيّم. والإخوة الأعزّاء في قسم النشر حيث بذلوا جهدهم لإخراج الكتاب بهذه
الحلّة القشيبة.
نسأل الله تعالى
لهم التوفيق في أعمالهم ، ومضاعفة الأجر والثواب منه تعالى ، وعليه نتوكّل وبه نثق
وإيّاه نستعين.
|
علي
أوسط الناطقي
المشرف
على مركز إحياء التراث الإسلامي
١٥ ربيع
الثاني ١٤٢٩
قم
المقدّسة ـ ايران
|




بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
جعل علم الاصول وسيلة للصعود إلى مدارج حقائق المباحث الشرعيّة ، وصيّره ذريعة
للعروج إلى معارج دقائق المسائل الفقهيّة.
أحمده على ما
ألهمنا من قواعد المعارف والعلوم الأصليّة ، ووفّقنا للإرشاد إلى مسالك مدارك دروس
الشرائع والأحكام الفرعيّة.
والصلاة والسلام
على نبيّنا الذي مهّد القوانين والضوابط الكلّيّة ، ولم يدع شيئا من المطالب
والمقاصد الجزئيّة. فصلوات الله عليه وعلى آله الذين قرّروا المعالم الدينيّة ،
وبيّنوا النواميس النبويّة.
أمّا بعد ؛ فيقول
الحقير في أنظار أرباب العقول ، مهديّ بن أبي ذرّ النراقي ـ حشرهما الله مع آل
الرسول ـ : إنّ علم الأصول ممّا لا يخفى علوّ رتبته ، وسموّ مرتبته ، وجلالة شأنه
، وشرافة مكانه ، وفخامة فائدته ، وجسامة عائدته ، ومتانة دلائله ، ورشاقة مسائله
، ووثاقة مبانيه ، وحلاوة معانيه ، وتوقّف المباحث الشرعيّة عليه ، وافتقار
المسائل الفرعيّة إليه ، وهو عمدة ما يحصل به الاجتهاد ، والوصول إليه دونه خرط
القتاد .
وإنّي بعد ما سرحت
النظر في مراتع مسائله ، وأجلت الفكر في ميادين دلائله ، ظفرت على فوائد جمّة خلت
عنها كتب أكثر العلماء ، وعثرت على قواعد مهمّة لم يأت بها اولو الأيدي الأذكياء ،
فجمعتها في هذا الكتاب ؛ تبصرة للأحباب ، وتذكرة لاولي الألباب ، لعلّ
__________________
الله ينفعني به
يوم الحساب ، إنّه هو الكريم الوهّاب.
ودأبي في هذا
الكتاب تحقيق ما هو الحقّ من المسائل ، وذكر ما هو الأتمّ من الدلائل ، ولا أتعرّض
لذكر ما هو تطويل بلا طائل ، كما هو مذكور في بعض كتب اولي الفضائل ؛ لأنّي لم أر في مثل ذلك مدحا ، ولذلك طويت عنه كشحا.
وكذا لا أتعرّض
لنقض جميع أدلّة الخصوم ، بل لما يستصعب على الفهوم ، واشير في كلّ أصل إلى مسألة
فرعيّة تتفرّع عليه ؛ ليحصل بذلك الوقوف على كيفيّة التفريع ، وسمّيته أنيس
المجتهدين. ورتّبته على مباحث ذوات أبواب ذوات فصول.
__________________
المبحث الأوّل
في المقدّمات
وفيه أبواب :
الباب الأوّل
في نبذ من أحواله
وفيه فصول :
الفصل الأوّل : في تعريفه
اعلم أنّ لفظ «
اصول الفقه » لمّا كان مركّبا إضافيّا من « الاصول » و « الفقه » ، ولكلّ واحد من
جزءيه معنى لغوي واصطلاحي ، ثمّ صارا علما لعلم خاصّ ؛ فحصل له تعريفان باعتبارين
:
أحدهما : باعتبار التركيب. وتعريفه بهذا الاعتبار إنّما يحصل
بتعريف كلّ واحد من جزءيه ؛ لأنّ تعريف المركّب إنّما يحصل بتعريف أجزائه.
وثانيهما : باعتبار العلميّة. وبهذا الاعتبار لا يلتفت إلى الأجزاء
من حيث دلالتها على معانيها اللغويّة أو العرفيّة ، بل يلتفت إليها من حيث إنّها
صارت علما لعلم مخصوص ، ولذا ترى الاصوليّين يعرّفون أوّلا
كلّ واحد من لفظي : « الاصول » و « الفقه » ؛ ليحصل التعريف بالاعتبار الأوّل. ثمّ
يعرّفون علم الاصول باعتبار العلميّة.
وغير خفيّ أنّ ما
هو من المبادئ إنّما تعريفه بالاعتبار الثاني لا الأوّل. نعم ، فيه زيادة بصيرة ،
فنحن أيضا نقتدي بهم لذلك ، فنقول في تعريفه بالاعتبار الأوّل :
الاصول لغة : ما
يبنى عليه غيره . وعرفا : عبارة عن الأدلّة ؛ لابتناء المدلولات عليها.
__________________
والفقه لغة :
الفهم وهو جودة الذهن من حيث استعداده لتحصيل المطالب ، لا العلم
على الأصحّ.
واصطلاحا : قد
عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو من اختلال إمّا في العكس ، أو الطرد.
والصحيح منها هو :
أنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.
وفائدة كلّ واحد
من القيود الثلاثة ظاهرة.
وفائدة القيد
الرابع إخراج علم الله والملائكة والأنبياء. والقيد الخامس لإخراج علم المقلّد ؛ فإنّه
ليس مكتسبا من الأدلّة التفصيليّة ، بل من دليل إجمالي مطّرد في جميع ما يعلمه ،
وهو أنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ؛
فهذا حكم الله في حقّي.
وأمّا خروج ما علم
كونه من الدين ضرورة ـ كوجوب الصلاة والزكاة والصوم ، وحرمة الخمر والميتة ـ فيمكن
بكلّ واحد من القيدين الأخيرين. فتأمّل.
وهذا التعريف
للفقه إنّما هو بحسب اصطلاح المتشرّعة ، والفقيه على هذا هو من حصّل الأحكام
بالنحو المذكور ، وهو المعبّر عنه بالمجتهد.
وأمّا العرف
العامّ ، فقد يطلق الفقه على العلم بجملة من الأحكام ولو كان عن تقليد ، والفقيه ـ
على هذا ـ من حصّل جملة من الأحكام ولو تقليدا.
فحينئذ لو أوصى
أحد بمال للفقهاء فهل يحمل « الفقهاء » على المعنى الأوّل أو الثاني ؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ العرف العامّ مقدّم على الاصطلاح ، كذا رجّح الشهيد
الثاني وهو كذلك ؛ لأنّ المعنى الاصطلاحي ليس من اصطلاح ( الشرع ،
بل من اصطلاح ) المتشرّعة ، وكذا الحكم في الأوقاف ، والأيمان ، والنذور ،
والتعليقات.
__________________
ثمّ إنّه أورد على
التعريف المذكور إيرادان :
أحدهما : أنّ « الأحكام » جمع معرّف باللام وهو يفيد العموم ،
فيلزم منه أن لا يصدق « المجتهد » إلاّ على من كان عالما بجميع الأحكام ، وهذا لا
يتمّ في حقّ أكثر المجتهدين ، بل جميعهم.
وأصحّ الأجوبة عنه
أنّ المراد بالعلم بالأحكام هو التهيّؤ القريب له ، وإطلاق العلم عليه شائع ،
سيّما في مباحث الفقه.
ولدفع هذا الإيراد
زاد بعضهم في التعريف « فعلا أو قوّة قريبة » .
والحقّ عدم
الاحتياج إليه ؛ لما ذكر .
وثانيهما : أنّ الفقه غالبا من باب الظنّ ؛ لابتنائه على أخبار
الآحاد ، والإجماعات المنقولة ، والأدلّة الاصوليّة المفيدة للظنّ ، فكيف اطلق
عليه العلم؟!
وأصحّ الأجوبة عنه
أنّ المراد بالعلم معناه الأعمّ ، وهو ترجيح أحد الطرفين وإن لم يمنع من النقيض ،
وهذا الإطلاق في المباحث الفقهيّة شائع.
فائدة
اعلم أنّ
الاصوليّين أجمعوا على جواز العمل بظنّ المجتهد في نفس الأحكام وموضوعاتها ، وبعض الأخباريّين
على عدم جواز العمل به في الأوّل دون الثاني ، وبعضهم عليه
مطلقا .
واستدلّ الأخباريّون
بالعمومات والإطلاقات الدالّة على المنع من الظنّ .
ثمّ إنّهم لمّا
قالوا بعدم جواز العمل بالظنّ اضطرّوا إلى القول بوجوب تحصيل اليقين في
__________________
الأحكام الشرعيّة ؛ فأعرضوا عن الأدلّة الاصوليّة لظنّيّتها ، ولم يمكن لهم إنكار حجّيّة أخبار
الآحاد ؛ لانسداد باب الفقه حينئذ ؛ فقالوا : إنّها تفيد العلم .
وبما ذكرنا ظهر
أنّ مناط الفرق بين المجتهد والأخباريّ أنّ الأوّل يجوّز العمل بالظنّ في الأحكام
، بخلاف الثاني ؛ فإنّه يشترط اليقين.
ولا يخفى أنّ
حقّيّة مذهب المجتهدين في غاية الظهور ؛ فإنّ الإجماع منعقد على جواز العمل بظنّ
المجتهد ، كما ادّعاه جمع كثير . وليس هذا الإجماع من الشيعة فقط ، بل من جميع المسلمين ،
فخلاف طائفة قليلة من الأخباريّين لا اعتداد به ، سيّما مع كونهم من المتأخّرين ؛
لأنّ هذا الخلاف نشأ منهم.
والجواب عمّا
استدلّوا به : أنّ الحكم المستنبط من اجتهاد المجتهد ليس من باب الظنون ، بل الظنّ
في طريقه. وأمّا نفس الحكم فهو معلوم ؛ لكونه حكم الله يقينا في حقّه ، فإذا غلب
على ظنّ المجتهد حكم شرعيّ بطريق شرعي ، يحصل عنده قياس يقينيّ منتج لمطلوبه ، وهو
أنّ هذا الحكم مظنون الثبوت عندي بالطريق الشرعيّ ، وكلّ مظنون الثبوت عندي
بالطريق الشرعيّ حكم الله يقينا في حقّي ، ينتج ، هذا حكم الله يقينا في حقّي.
والصغرى يقينيّة
وجدانيّة ، والكبرى ثابتة بالإجماع ، فالحكم المستنبط من الاجتهاد وإن لم يكن
معلوما يقينا أنّه حكم الله الواقعيّ ، إلاّ أنّه يعلم أنّه حكم الله في حقّ
المجتهد يقينا ، فهو خارج عن باب الظنون الممنوع عنها ؛ لأنّ المراد منها الظنون
التي لم يكن العمل بها واجبا في حقّ الظانّ. والمخرج هو الإجماع.
ثمّ إنّك إن
تأمّلت في حديث الإجماع ، فاستمع حتّى يثبت لك المطلوب بطريق برهاني قطعيّ لا ينكر
عليه.
فنقول : أدلّة
الفقه منحصرة بالكتاب ، والأخبار ، والأدلّة العقليّة الاصوليّة.
والأدلّة العقليّة
، كالاستصحاب ، وأصل العدم ، والقياس وغيرها لا تفيد إلاّ الظنّ ، وكذا
__________________
أكثر الإجماعات.
والقطعيّة منها قليلة ، مع أنّ الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة هذه الأدلّة جميعا.
والكتاب وإن كان
قطعيّ المتن إلاّ أنّه ظنّي الدلالة.
والأخبار متواترها
قليلة جدّا ، حتّى اعترف بعض بعدم وجودها في أخبارنا رأسا .
وآحادها لا تفيد
إلاّ الظنّ ؛ لأنّها ظنّيّة السند ، بل أكثرها ظنّي الدلالة أيضا ، وقد وقع فيها
تحريفات وتصحيفات وتقطيعات ، وخرج كثير منها مخرج التقيّة ، مع أنّه قد كثر عليهم عليهمالسلام الكذّابة.
وورد في الاحتجاج
أنّ من أسباب اختلاف الأحاديث افتراء أهل الكذب عليهم .
وورد النصّ الصحيح
بأنّ المغيرة بن سعيد يدسّ في كتب أصحاب الأئمّة عليهمالسلام أحاديث لم يرووها ، وكذا أبو
الخطّاب .
ومع ذلك أخبارنا
متعارضة ، ولا بدّ لنا من الجمع أو الترجيح وهما موقوفان على الظنون الاجتهاديّة.
والترجيح بالمرجّحات المنصوصة ـ كما هو دأب الأخباريّين ـ أيضا ظنّي ؛ لأنّها
أخبار آحاد ، مع أنّها أيضا متعارضة ؛ فإنّ بعضها يدلّ على وجوب أخذ الأوفق
بالقرآن أوّلا ، وبعضها يدلّ على وجوب أخذ المخالف لمذهب العامّة أوّلا ، وبعضها على وجوب أخذ الأصحّ سندا أوّلا ، وبعضها على
وجوب أخذ المجمع عليه أوّلا .
وكذا وقع التعارض
فيها في وجوب الأخذ ثانيا وثالثا ورابعا ، فهذه المرجّحات المنصوصة أيضا محتاجة في
الترجيح إلى الظنون الاجتهاديّة.
فظهر أنّ جميع
أدلّة الفقه ـ إلاّ قليلها ـ لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلو لم يعمل بالظنّ يلزم انسداد
باب الفقه مع كون التكليف باقيا ، وهذا محال.
__________________
هذا ؛ وأمّا تعريف
أصول الفقه بالاعتبار الثاني أي العلميّة : فالعلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى
استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.
الفصل الثاني : في موضوعه
اعلم أنّ موضوع
كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أو عن العوارض الذاتيّة لنوعه ، أو
لعوارضه الذاتيّة.
وبالترديدين يندفع
ما أورد على القوم ـ حيث سامحوا ، وخصّصوا البحث عن عوارضه الذاتيّة فقط ـ بأنّه
يجب على هذا أن يكون جميع موضوعات المسائل موضوع العلم ، وليس كذلك ؛ فإنّ أكثر
موضوعاتها إمّا أنواعه ، أو أعراضه الذاتيّة.
ووجه الاندفاع أنّ
هذا مسامحة منهم ، ومقصودهم ما ذكرناه ، ولذا صرّح به بعض القدماء كالشيخ الرئيس وغيره.
والعرض الذاتي :
ما يلحق الشيء لذاته ، كالتعجّب للناطق.
أو لجزئه المساوي
، كالتعجّب للإنسان.
أو لجزئه الأعمّ ـ
على رأي المتأخّرين ـ كالتحرّك بالإرادة للإنسان. وهذا القسم لم يعدّه القدماء
من الأعراض الذاتيّة ، بل الغريبة. وتصفّح مسائل العلوم يؤيّد قول المتأخّرين ، مثلا
أهل الهيئة يبحثون عن الحركة مع أنّ عروضها للفلك بواسطة الجسم الذي هو جزؤه
الأعمّ.
أو لعرض يساوي
ذاته ، كالضحك للإنسان.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الشرعيّة ؛ لأنّه يبحث فيه :
إمّا عن العوارض
الذاتيّة لأنفسها ، كما يقال : الكتاب حجّة ، أو السنّة حجّة ، أو الإجماع حجّة.
__________________
أو عن العوارض الذاتيّة
لأنواعها ، كما يقال : المحكم من الكتاب كذا ، والناسخ منه كذا ، وأخبار الآحاد
حجّة ، والعامّ كذا ، والخاصّ كذا ، والمطلق أو المقيّد أو المجمل أو المبيّن كذا
، والإجماع المنقول كذا.
أو عن العوارض
الذاتيّة لعوارضها الذاتيّة ، كما يقال : العموم كذا ، والخصوص كذا ؛ فإنّهما من
العوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة ، فالبحث عن حالهما بحث عن العوارض الذاتيّة
للعوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة.
وأمّا البحث عن
التراجيح والاجتهاد ، فهو بحث عن العوارض الذاتيّة لذات الموضوع أو أنواعه ؛
لأنّهما لمّا كانا معتبرين بالقياس إلى الأدلّة ، فهما من عوارضها ، أو عوارض
أنواعها ، بل بعض مسائلهما يكون البحث فيها عن عوارض العوارض أيضا ، كما لا يخفى.
ثمّ مسائل كلّ علم
لمّا كانت هي المطالب المثبتة فيه ـ أعني المجموع المركّب من الموضوع والمحمول ـ فقولنا
: الإجماع حجّة ، والأمر يقتضي الوجوب ، وأمثالهما من مسائل علم الاصول.
الفصل الثالث : في مرتبته وفائدته ومعرفته
أمّا مرتبته ،
فبعد الكلام ، والعربيّة ، والمنطق ، ووجهه معلوم.
|
وأمّا فائدته ،
فاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وهي سبب الفوز بالسعادات.
وأمّا معرفته ،
فكفائيّة على الأصحّ ، والسرّ معلوم.
|
الباب الثاني
في المبادئ اللغويّة
وفيه فصول :
فصل [١]
اعلم أنّ المبادئ
على قسمين : تصوّريّة ، وتصديقيّة.
والاولى : تصوّر
أشياء يتوقّف الشروع مع البصيرة عليه ، فالمبادئ التصوّريّة لعلم الاصول حدّه ،
وحدّ موضوعه وأجزائه وجزئيّاته وأعراضه الذاتيّة ، وتصوّر غايته ومرتبته. وقد
أشرنا إلى بعضها ، وسنشير إلى بواقيها في مواضع تليق بها.
ومن جملة المبادئ
التصوّريّة لهذا العلم تصوّر الأحكام الخمسة مع ما يتعلّق بها ؛ لأنّ الناظر فيه
ينظر في أدلّتها ، ومقصوده إثباتها ونفيها ، فلا بدّ أن يكون متصوّرا لها. وهذا ما
يعبّر عنه بـ « المبادئ الأحكاميّة ». ونذكرها في الباب الآتي إن شاء الله.
والثانية :
مقدّمات يتوقّف الاستدلال في هذا العلم عليها. وهي قد تكون بديهيّة ، وقد تكون
نظريّة مثبتة في علم آخر. فالمبادئ التصديقيّة لهذا العلم طائفة من مسائل : الكلام
، والعربيّة ، والمنطق. ووجه توقّفه عليها ظاهر.
وقد جرت عادة
القوم بذكر بعض مسائل اللغة هنا ؛ لشدّة الاحتياج في هذا العلم إليها ،
__________________
وتفريع بعض الفروع
عليها ، وهو الذي يعبّر عنه بـ « المبادئ اللغويّة ». ونذكرها في هذا الباب إن شاء
الله.
فصل [٢]
اللغة : كلّ لفظ
وضع لمعنى. والحقّ أنّه ليس بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة ـ كما ذهب إليه عبّاد
بن سليمان الصيمري ، وأهل التكسير ، وبعض المعتزلة ـ وإلاّ كان كلّ أحد عالما بكلّ لغة ، ولم يوضع لفظ واحد للنقيضين والضدّين ،
كالقرء للطهر والحيض ، والجون للأسود والأبيض.
واستدلّ المخالف :
بأنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة لكان تخصيص هذا اللفظ بهذا
المعنى ترجيحا بلا مرجّح .
والجواب : أنّ
المرجّح هو سبق المعنى إلى ذهن الواضع.
وهذا الجواب على
ما نختاره ـ من أنّ اللغات اصطلاحيّة وواضعها البشر ـ صحيح.
وعلى مذهب التوقيف
فالجواب أنّ المرجّح هو إرادة الواضع المختار. وهذا الجواب يتأتّى على ما اخترناه
أيضا.
فصل [٣]
اختلف العلماء في
أنّ اللغات توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟
فذهب بعضهم إلى
أنّها توقيفيّة ، أي وضعها الله تعالى ، ووقّفنا عليه بالوحي إلى الأنبياء
، أو بخلق أصوات تدلّ عليه ، وأسمعها واحدا أو جماعة ، أو بخلق علم ضروريّ بها.
وذهب بعضهم إلى
أنّها اصطلاحيّة ، يعني أنّ واضعها البشر واحدا أو جماعة ثمّ حصل
__________________
التعريف باعتبار
الإشارة ، والتكرار ، والترديد بالقرائن ، كما في الأطفال يتعلّمون اللغات.
وذهب بعض إلى أنّ
القدر المحتاج إليه في معرفة الاصطلاح توقيفيّ والباقي اصطلاحيّ .
وذهب جمع إلى
التوقّف .
والحقّ المذهب
الثاني ؛ لأنّا نعلم بالبداهة أنّ كثيرا من اللغات حدثت من الناس في وقت لم يكن
بينهم نبيّ ، ولم يدّع أحد استماع صوت ، ولا علما ضروريّا بأنّ هذا موضوع لذاك.
نعم ، يمكن القول
بإلهام بعض الناس بأن يضع هذا اللفظ لهذا المعنى ، لا بأنّ هذا اللفظ وضعه الله لهذا
المعنى ؛ لأنّه لم يدّع أحد ذلك ، ولو كان الأمر كذلك لسمع أو نقل ادّعاؤه من أحد.
وبالجملة ، هذا
خلاف المعتاد ، ونحن نرى أنّ لغة واحدة تتغيّر بحيث تخرج عن الوضع الأوّل ، كما هو
ظاهر من لغة العرب والفرس ، وهذا التغيير والتبديل لا شكّ في استناده إلى البشر.
وبالجملة ، استناد وضع اللغات إلى البشر أمر يدلّ عليه الوجدان ، ويقتضيه المشاهدة
والعيان.
واستدلّ على هذا
المذهب أيضا بقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ).
ووجه الاستدلال به
: أنّه دلّ على أنّ لكلّ قوم لغة سابقة على إرسال الرسول إليهم. والتوقيف يقتضي
كون اللغات مسبوقة بإرسال الرسل .
وأجيب عنه : بمنع
استلزم التوقيف مسبوقيّة اللغات بالإرسال ؛ فإنّ الله علّم آدم اللغات ـ كما تدلّ
عليه آية التعليم ـ وعرّفها آدم لذرّيّته ، ولمّا جاء كلّ رسول إلى قومه ،
كان لهم
__________________
لغة ، وأمّا آدم
فلم يكن له قوم حتّى يدخل في عموم الآية .
وأنت ستعلم اندفاع
هذا الجواب بعد ما نردّ استدلال أهل التوقيف بآية التعليم.
هذا ؛ واستدلّ أهل
التوقيف على مذهبهم بآيتين : آية تعليم الأسماء ، وقوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ).
ووجه الاستدلال
بالآية الاولى ظاهر.
والجواب عنها :
أنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء بدليل الضمير ، أو المراد منها أسماء الله الحسنى.
ويمكن أن يقال :
المراد بالتعليم إلهام آدم وإقداره على وضع الألفاظ بإزاء المعاني.
ووجه الاستدلال
بالآية الثانية أنّه لا يمكن أن يراد من « الألسنة » معناها الحقيقي ـ أعني
العضويّ المخصوص ـ إذ ليس فيه كثير اختلاف ، فلا بدّ أن يراد منها معناها المجازي
، وهو اللغات ، فيكون المعنى : ومن آياته خلق اللغات المختلفة وتوقيف الناس عليها.
والجواب عنه :
أنّه إذا تعيّن الحمل على المجاز ، يمكن أن يراد مجاز آخر ، وهو أن يراد بخلق
الألسنة إقدار الناس على وضع اللغات ، وليس إرادة أحد المجازين أولى من إرادة
الآخر.
وبما ذكرنا ظهر
بطلان المذهبين الآخرين.
إذا علمت الحقّ في
هذه القاعدة ، فاعلم أنّه يتفرّع عليها فروع.
منها : المسألة
المعروفة بـ « مسألة مهر السرّ والعلانية » وهي ما إذا تزوّج رجل امرأة بألف درهم
، واصطلحا على تسمية الألفين بالألف .
وكيفيّة التفريع
أنّه بناء على التوقيف يلزم الألف ، ولا مدخليّة للاصطلاح.
__________________
وعلى المذهب الحقّ
تصير المسألة خلافيّة ، بناء على أنّ المناط هل الاصطلاح اللغوي السابق ، أو
الاصطلاح الحادث؟
والحقّ : أنّه إن
اعتبر اللفظ والقصد معا في العقود يكون العقد باطلا ، وإن لم يعتبر القصد فالمناط
الاصطلاح السابق ، ولا يقاومه الاصطلاح الطارئ ، فيلزم الألف.
وكذا الحال في كلّ
عقد اصطلاح المتبايعان أو أحدهما على تسمية العوضين أو أحدهما بغير اسمه المعروف ،
بل يمكن التأتّي في غير العقود أيضا. وكيفيّة التفريع في الجميع على ما ذكرنا.
فصل [٤]
اعلم أنّ طريق
معرفة اللغات إمّا النقل المحض وهو إمّا متواتر ، أو آحاد ومثالهما ظاهر.
وإمّا المركّب من
النقل والعقل ، كما إذا حصل لنا مقدّمتان نقليّتان ، أو إحداهما نقليّة والاخرى
عقليّة ، فرتّبهما العقل وحصّل منهما نتيجة دالّة على وضع لفظ لمعنى. مثلا ثبت
بالنقل أنّ الجمع المعرّف باللام يصحّ منه الاستثناء ، وثبت أيضا أنّ الاستثناء
إخراج أمر لو لا الاستثناء لدخل هذا الأمر في المستثنى منه ، فيعلم منه أنّ الجمع
المعرّف شامل له ولغيره ، وهو معنى الاستغراق ؛ فيثبت من هذا أنّ الجمع المعرّف
باللام موضوع للاستغراق. وطريق الإثبات من النقل والعقل.
وذهب بعض العامّة
إلى جواز إثبات اللغات بالقياس بأن يسمّى شيء باسم إلحاقا له بشيء مسمّى بذلك الاسم لمعنى
يدور معه وجودا وعدما بسبب وجود هذا المعنى في الشيء الأوّل ، كما قالوا : تسمية
ماء العنب بالخمر دائرة مع التخمير ، فقبله لا يسمّى خمرا ومعه يسمّى خمرا ، فيعلم
منه أنّ علّة التسمية بالخمر وجود التخمير ، فكلّ شيء وجد فيه التخمير يسمّى خمرا
، كالنبيذ وغيره من المسكرات. وكذا تسمية النبّاش بالسارق ؛ للأخذ بالخفية ،
واللائط بالزاني ؛ للإيلاج المحرّم.
__________________
والجواب : أنّ
علّة التسمية ليست التخمير فقط ، بل هو مع المحلّ الخاصّ ، أعني ماء العنب ، وفي
النبيذ مثلا وجد أحدهما فقط.
وإذا عرفت هذا ،
تعلم أنّه يتفرّع عليه عدم إجراء جميع أحكام أشياء معيّنة مسمّاة بأسماء خاصّة على
أشياء أخر سمّيت بأسماء الأشياء الاول بسبب الدوران ، كإجراء أحكام الخمر على جميع
المسكرات ، اللهمّ إلاّ في بعض ثبت بدليل من خارج.
فائدة
ذهب بعض النحاة
إلى أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للحقائق الخارجيّة .
وهذا القول لا
خفاء في بطلانه ؛ لأنّ بعض الألفاظ موضوع للمعدومات الممكنة والممتنعة.
وذهب جمع إلى
أنّها بأسرها موضوعة للمعاني الذهنيّة .
واستدلّوا :
بدوران الألفاظ معها وجودا وعدما ؛ فإنّ من رأى شبحا من بعيد وظنّه إنسانا يسمّي
به ، ثمّ إذا تغيّر ظنّه الأوّل وظنّه حجرا يسمّي به ، وهكذا.
والحقّ ، أنّ هذا
الدليل غير تامّ ؛ لأنّه يجوز أن يكون لفظا : الإنسان والحجر موضوعين للإنسان
والحجر الخارجيّين ، إلاّ أنّ الرائي لمّا ظنّ الشبح المرئيّ إنسانا خارجيّا ، أو
حجرا خارجيّا سمّاه بأنّه ما وضع له.
ذهب بعض
المتأخّرين إلى أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن كونها
موجودة في الخارج أو الذهن .
وهذا المذهب عندي
أقرب إلى التحقيق ؛ فإنّ من يضع لفظا بإزاء شيء قد يلاحظ الشيء الخارجيّ ويضع لفظا
بإزائه ، وقد يلاحظ ما في ذهنه ولا يلتفت إلى الخارج ويضع
__________________
لفظا بإزائه فيعلم
منه أنّ منظوره الماهيّة من حيث هي ، ولا دخل للخارج والذهن لذلك.
وعلى أيّ تقدير ،
لا كلام في أنّ الألفاظ لم توضع للأشباح المثاليّة ، كالصور المرتسمة على الجدار
والماء والمرآة ، بل إطلاقها عليها على المجاز.
ويتفرّع على هذا
جواز النظر إلى صور النساء الأجنبيّة المرتسمة في الماء والمرآة والجدار ، وعدم
الحنث بالنظر إلى شبح زيد ـ مثلا ـ في الماء أو المرآة إذا أقسم أن لا ينظر إليه.
وكذا الحكم في النذور والعهود والتعليقات.
فصل [٥]
الكلام يطلق على
ما يتلفّظ به حقيقة ، وعلى النفسي مجازا. وهذا ظاهر من اللغة والعرف.
وكذا الحكم في «
الكلمة » و « القول » و « الذكر ».
وإذا كان الأمر
هكذا ، فكلّ حكم علّق على أحد المذكورات نفيا أو إثباتا ، فتحقّقه موقوف على
تحقّقه كذلك. والأمثلة ظاهرة.
قاعدة
لا يشترط في الكلام
أن يكون صادرا من متكلّم واحد ، وهذا لا خلاف فيه ، ودليله ظاهر ، فلو توافق شخصان
على أن يقول أحدهما : « زيد » والآخر : « قائم » يكون كلاما.
ويتفرّع عليها
أنّه إذا وكّل رجل شخصين في إعتاق عبده ، أو بيع متاعه ، فقال أحدهما : « أعتقت »
أو « بعت » ، وقال الآخر : « هذا » كان هذا العتق والبيع صحيحين.
ويلزم من هذه
القاعدة أنّه لو قال رجل لآخر : « لي عليك ألف » ، فقال المدّعى عليه : « إلاّ
عشرة » ، يثبت الإقرار بباقي الألف.
ورجّح في التمهيد عدم الثبوت ؛ لأنّ المدّعى عليه نفى بعض الألف ، ونفي بعض الشيء لا يستلزم
ثبوت الباقي وفيه تأمّل.
__________________
وكذا لا يشترط في
الكلام أن يكون المتكلّم قاصدا للكلام ، فاهما له ، وهذا أيضا ظاهر.
ويتفرّع عليه وجوب
سجود التلاوة عند قراءة الساهي أو النائم آية السجدة.
ضابطة
يجب حمل الألفاظ
على المعاني المتعارفة المتبادرة المعتادة ؛ لأنّ الفهم العرفي حجّة.
ويدلّ عليه ـ مضافا
إلى الإجماع ـ قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ).
ويتفرّع عليها
فروع كثيرة ، كعدم نقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين إذا لم يصر معتادا ؛ لأنّ
الأخبار دلّت على نقض الوضوء بالخارج من السبيلين والطرفين ، والمتعارف منهما الموضعان المعتادان ، فلا ينقض بالخارج من غيرهما ، إلاّ
إذا اعتيد وانسدّ الطبيعيّان ؛ فإنّ النقض حينئذ إجماعي.
وكذا يتفرّع عليها
جواز استعمال الأشياء المعمولة من الذهب والفضّة إذا لم تكن من الأواني المتعارفة.
فصل [٦]
لا شبهة في وقوع
المترادف في اللغات ، وإنّما الخلاف في جواز وقوع كلّ من المترادفين مقام الآخر.
فذهب بعضهم إلى الجواز
مطلقا . وبعضهم إلى المنع مطلقا . وبعضهم إلى الجواز في لغة واحدة ، والمنع من لغات مختلفة .
والحقّ : أنّ
النزاع إن كان في جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في جميع الموادّ ، فلا يمكن
الحكم بالجواز مطلقا إلاّ فيما ثبت بدليل من خارج ؛ لأنّه يجوز أن يحصل التعبّد
__________________
بأحدهما في بعض
العبادات ، أو الإيقاعات ، أو العقود دون الآخر.
وإن كان النزاع
فيه في إفادة أصل المعنى فقط ، أو في مادّة منوطة به فقط ، فلا شبهة في الجواز
مطلقا ، ولا مانع منه عقلا وشرعا ولغة ؛ لأنّ المقصود إذا كان إفادة المعنى ـ وهو
يحصل بكلّ واحد من اللفظين ـ فأيّ مانع من وقوع أحدهما مقام الآخر؟
والقول بأنّهما
إذا كانا من لغتين فلا يجوز ؛ للزوم اختلاط اللغات ، ولأنّ أحدهما بالقياس إلى لغة
الآخر مهمل ، فلا يفيد ما أفاده .
يرد عليه أنّ
الاختلاط ليس فيه مفسدة ؛ لأنّ المدلول واحد ، وأهل لغة إذا كانوا عارفين بلغة
اخرى ، فلا تكون تلك اللغة مهملة عندهم.
ويتفرّع عليه جواز
رواية الحديث بالمعنى المتعارف ؛ لأنّ المقصود من ألفاظ الحديث إفادة أصل المعنى
فقط ، مع أنّ الجواز عندنا منصوص .
ويتفرّع عليه أيضا
عدم انعقاد العقود بالصيغ غير العربيّة ؛ لإمكان حصول التعبّد بالعربيّة فقط ، وإن
أمكن أن يقال : انعقاد العقود منوط بما يفيد أصل معنى العقد فقط ، وحينئذ يتّجه
الانعقاد. فتأمّل.
فصل [٧]
المشترك : لفظ وضع
لمعان متعدّدة ، ولا شبهة في وقوعه ، كالقرء للطهر والحيض ، والعين لمعانيها
المعروفة ، ووقع في القرآن أيضا كـ ( ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) و ( عَسْعَسَ ) كـ « أقبل » و «
أدبر » .
وخلاف جماعة في
الموضعين شاذّ ؛ ودليلهم غير ملتفت إليه.
ثمّ إنّ القوم
اختلفوا في جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد وعدمه.
__________________
فجوّزه بعض مطلقا . ومنعه بعض آخر كذلك . وذهب بعض إلى المنع في المفرد والجواز في التثنية والجمع . وبعض آخر إلى الجواز في النفي دون الإثبات .
ثمّ المانعون
اتّفقوا على أنّه عند عدم القرينة لا يحمل على شيء من معانيه ، بل يجب التوقّف
حينئذ ؛ لكونه مجملا.
والمجوّزون بين
قائل بأنّه إذا عدم القرينة يجب التوقّف ، وعند وجودها يحمل على ما يدلّ عليه
القرينة ، لكن إن دلّت القرينة على واحد يكون الاستعمال فيه حقيقة ، وإن دلّت على
متعدّد يكون الاستعمال فيه مجازا.
وقائل بأن المشترك
عند عدم القرينة ظاهر في جميع معانيه ، فيجب الحمل عليه.
وقائل بأنّه عند
عدم القرينة مجمل يجب فيه التوقّف ، وعند القرينة يحمل على ما يقتضيه القرينة ،
ويكون الاستعمال حقيقة وإن كان ما يدلّ عليه القرينة متعدّدا .
وهذا هو الحقّ ،
وتنقيحه موقوف على بيان امور :
[
الأمر ] الأوّل : إنّما الخلاف في
استعمال المشترك في المعاني التي كان الجمع بينها ممكنا ، كالقرء في قولنا : «
القرء من صفات النساء ». وأمّا إذا لم يمكن الجمع بينها ، كاستعمال الأمر في
الوجوب والتهديد ، فلا خلاف في عدم الجواز.
[
الأمر ] الثاني : لا شبهة في أنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من معانيه على سبيل لا بشرط
شيء ، أي لا بشرط الانفراد ولا الاجتماع. فما وضع له اللفظ واستعمل فيه ، هو كلّ
واحد من المعاني بدون الشرطين على ما هو شأن الماهيّة المطلقة التي تتحقّق حالة
__________________
الانفراد
والاجتماع معا. والانفراد والاجتماع ليسا من أجزاء الموضوع له ، بل هما من عوارض الاستعمال ، والاستعمال في كلا الحالين على
سبيل الحقيقة. هذا إذا دلّت القرينة على أنّ المراد أحد المعاني ، أو مجموعها
وأمكن الجمع بينها .
وأمّا مع فقد
القرينة فيكون مجملا ، ويجب التوقّف ؛ لأنّ اللفظ لمّا كان موضوعا لما هو بمنزلة
الماهيّة المطلقة المتحقّقة في ضمن واحد لا بعينه والمجموع ، ونسبته إليهما على
السواء ، فالحمل على أحدهما بدون قرينة ترجيح بلا مرجّح ، كما أنّ الحمل على أحد
الأفراد المعيّنة أيضا بدون القرينة كذلك.
نعم ، يمكن أن
يقال : إذا وقع المشترك في كلام الشارع ، ولم يقم قرينة على أنّ المراد ما هو ،
فيمكن الحمل على المجموع ، أو أحد الأفراد على سبيل التخيير ، وإلاّ يلزم الإغراء
بالجهل ، والتكليف بما لا يعلم ، وهو غير لائق بمقنّن القوانين ، فتأمّل.
هذا في صورة كون
اللفظ المشترك مفردا.
وأمّا إذا كان
جمعا أو تثنية واستعمل في أكثر من معنى ، فيكون حقيقة أيضا ؛ لأنّ الجمع والتثنية
في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، والاتّفاق في اللفظ دون المعنى ؛ فإنّ قولنا : « زيدون » في قوّة المفردات المتعاطفة المتّفقة في اللفظ
، المختلفة في المعنى ؛ لكون حقائق الآحاد مختلفة ، وحينئذ إذا قلنا : « أعين »
يكون في قوّة المفردات المتعاطفة ، فكما يمكن حمل كلّ عين على معناه ، فكذلك ما في
قوّته.
فإن قيل : لا
نسلّم أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، بل هما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد
من المفرد ، ولا يدلاّن على المعاني المختلفة كما تدلّ عليها المفردات المتعاطفة ؛
فإنّ زيدا ـ مثلا ـ موضوع للمسمّى به ، وزيدين للمسمّيين به لا للمعاني المختلفة ،
وحينئذ إذا لم يمكن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى ، بل كان استعماله
مقصورا على معنى واحد ، فيكون المراد من جمعه معاني متعدّدة من نوع المعنى الذي
دلّ عليه المفرد. مثلا يكون المراد من « العيون » طائفة متعدّدة من النابعة أو
الدامعة ، لا جملة مختلفة مشتملة
__________________
على الدامعة
والنابعة وعين الذهب والشمس.
وإن أمكن استعماله
في أكثر من معنى واستعمل فيه ، فيكون المراد من جمعه جملة مركّبة من الجمل التي
كلّ جملة منها مشتملة على معان متعدّدة من نوع المعنى الذي دلّ عليه المفرد. مثل
أن يكون المراد من العيون طائفة متعدّدة من النابعة ، وطائفة متعدّدة من الدامعة ،
وهكذا.
قلنا : لا بدّ لنا
من تمهيد مقدّمة ، ثمّ الإشارة إلى الجواب.
وهي أنّه لا شبهة
في أنّ أفراد كلّ جمع مختلفة ، إمّا بالاختلاف الشخصي ، كآحاد جموع أسماء الأعلام
، أو بالصنفي فقط ، أو بهما معا ، كآحاد بعض جموع أسماء الصفات والأجناس ، أو
بالنوعي فقط ، أو به مع أحد الأوّلين ، أو كليهما ، كآحاد بعض آخر من جموع أسماء
الصفات ، بل الاختلاف الجنسي أيضا في بعضها موجود ، ولا شكّ أنّ استعمال كلّ جمع
في جميع أفرادها المختلفة بالاختلافات المذكورة على سبيل الحقيقة.
وبعد تمهيد هذه
المقدّمة نقول : إذا استعمل « العيون » في النابعة والدامعة وعين الذهب ، يكون
آحادها مختلفة بالنوع ، ولا ضير فيه من هذه الجهة ؛ لتأتّي ذلك في الجموع ،
كاستعمال « الموجودات » و « المخلوقات » وغيرهما في الأجناس ، والأنواع المختلفة
على سبيل الحقيقة.
نعم ، بين اسم
الصفة والمشترك فرق ، بأنّ اسم الصفة كـ « الموجود » موضوع لما ثبت له الوجود ،
فكلّ ما ثبت له الوجود من أيّ نوع كان ، معنى حقيقي للموجود ، وهذا معنى واحد
موجود في جميع الأجناس والأنواع ، والاختلاف بينها إنّما هو من خارج ، فجمعه إنّما يفيد تكرّر هذا المعنى. وكذا الحال في اسم
الجنس.
وأمّا المشترك ،
فإنّه موضوع لكلّ واحد من هذه الحقائق المختلفة التي تدلّ عليها صيغة الجمع ، فلا
يتحقّق في جمعه تكرّر معنى واحد موجود في المفرد ، ولكنّ اسم العلم كالمشترك ؛
فإنّه أيضا موضوع لكلّ واحد من الأشخاص المختلفة ، فلا يلزم في جمعه
__________________
تكرّر معنى واحد
موجود في المفرد ، فلا بدّ من ارتكاب أحد من ثلاثة امور :
أحدها : القول بأنّ المراد من تكرّر ما يستفاد من المفرد تعدّد
الموضوع له ، سواء كان معنى واحدا أو مختلفا. وهذا هو الحقّ ، ولا شكّ في تحقّق
ذلك في جمع المشترك إذا اريد منه المعاني المختلفة.
وثانيها : تأويل اسم العلم بالمسمّى به ، وهذا مع بعده آت في
المشترك أيضا ؛ فإنّه كما يمكن تأويل « زيد » بالمسمّى به ، يمكن تأويل « العين »
بالمسمّى به ، فجمعه يفيد تكرّر هذا المعنى.
وثالثها : القول بأنّ جمع اسم العلم وإن دلّ على الآحاد المختلفة ،
إلاّ أنّ اختلافها لمّا كان شخصيّا لا مانع فيه ، بخلاف جمع المشترك ، فإنّه يدلّ
على الآحاد المختلفة بالنوع ، ولذلك لا يجوز. وهذا مع سخافته لم يقل به أحد.
فظهر أنّه يجوز أن
يستعمل المشترك ـ مفردا كان أو جمعا أو تثنية ـ في أكثر من معنى على سبيل الحقيقة.
[ الأمر
] الثالث : استدلّ المانع
مطلقا بأنّه لا شكّ في وضع اللفظ المشترك لكلّ واحد من معانيه ، فإذا استعمل في
مجموعها يجب أن يكون بطريق الحقيقة ؛ إذ لا معنى للمجازيّة بعد وضع اللفظ لكلّ
واحد منها ، وحينئذ يلزم التناقض ، أو عدم إرادة الأفراد.
بيان الملازمة :
أنّ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه واريد المجموع من حيث هو مجموع ، فإمّا أن
يراد الأفراد أيضا ، أو لا.
فعلى الأوّل يلزم
التناقض ؛ لأنّ إرادة المجموع تستلزم عدم الاكتفاء ببعض الأفراد ، وإرادة الأفراد
تقتضي الاكتفاء به ، وهو التناقض.
وعلى الثاني يلزم
عدم إرادة الأفراد ، وهو يقتضي عدم استعمال اللفظ فيما وضع له ؛ لأنّ المفروض أنّه
موضوع لكلّ واحد من الأفراد .
__________________
والجواب : أنّ
إرادة الأفراد تقتضي الاكتفاء ببعضها إذا لم يكن باقيها مرادا ، وليس الأمر كذلك ؛
فإنّ معنى إرادة المجموع أنّه يقصد المجموع من حيث هو أوّلا ، ويقصد كلّ واحد من
الأفراد ثانيا ، وإرادة الأفراد إن كان المراد كلّ واحد منها
بحيث لم يشذّ منها شيء ، فمعناه أنّه يقصد كلّ واحد منها أوّلا ، ويقصد المجموع من
حيث هو ثانيا ، وإن كان المراد بعضها ، فمعناه أنّه يقصد هذا البعض دون بعض آخر.
واستدلّ من قال بالجواز
مع كون الاستعمال مجازيّا بأنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من المعاني مع قيد
الوحدة ، فالموضوع له مركّب من شيئين : المعنى ، وقيد الوحدة ، فإذا استعمل في
المجموع يلزم إلغاء قيد الوحدة التي هي أحد الجزءين ، وإرادة الجزء الثاني فقط ،
وهذا إطلاق للكلّ وإرادة الجزء ، فيكون مجازا .
والجواب : منع كون
الوحدة جزءا للموضوع له ، بل هي من عوارض الاستعمال ، فإنّ الواضع لم يضع لفظ «
زيد » لهذا الشخص مع قيد الوحدة بأن يعتبره في الموضوع له ، بل عرض هذا بعد الوضع.
هذا ، مع أنّ
العلاقة التي اعتبرها هذا القائل للمجازيّة ليست من العلاقات المعتبرة ؛ لأنّ
علاقة الجزء والكلّ أن يطلق الكلّ على الجزء فقط ، أو بالعكس ، كأن يطلق الإنسان ـ
مثلا ـ على رقبته فقط ، لا عليها وعلى شيء آخر كابنه مثلا ، وهنا اطلق الكلّ على
الجزء وشيء آخر ؛ لأنّ الموضوع له المعنى وقيد الوحدة ، وبعد إلغاء قيد الوحدة
يستعمل اللفظ في الكثرة ، فيتحقّق المعنى ـ الذي هو جزء الموضوع له ـ مع الكثرة
التي هي شيء خارجي ، فكأنّه اطلق اللفظ على جزئه وعلى شيء آخر.
واستدلّ المانع في
المفرد دون التثنية والجمع : بأنّهما في حكم تكرير المفرد ، فيتعدّد مدلولهما ،
بخلاف المفرد.
وقد عرفت جوابه .
__________________
واحتجّ المانع في
الإثبات دون النفي : بأنّ النفي يفيد العموم ، فيتعدّد ، بخلاف الإثبات .
وجوابه : أنّ
المثبت أيضا يمكن أن يتعدّد مدلوله كما بيّنّاه ، ولو لا ذلك لم يمكن التعدّد في النفي أيضا.
واحتجّ القائل
بأنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرينة : بظواهر بعض الآيات ، كقوله تعالى :
( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ) إلى آخره ، وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ ) إلى آخره.
والجواب : أنّ
الصلاة في الجميع بمعنى واحد وهو التعظيم ، وكذا السجود ، وهو غاية الخضوع.
وحقيقة الجواب :
أنّ القرينة في الآيتين موجودة ، فليستا ممّا نحن فيه.
إذا عرفت الحقّ في
هذه القاعدة تعلم أنّ كلّ لفظ مشترك ـ مفردا كان أو غيره ـ إذا وقع في كلام الشارع
أو غيره ، فإن دلّت القرينة على المراد ، يحمل عليه وإن كان جميع معانيه ، ومع فقد
القرينة يلزم التوقّف.
اللهمّ إلاّ إذا وقع في كلام الشارع ، فيمكن الحمل على جميع معانيه ، بناء على ما
أشرنا إليه ، ولذا حمل « الخير » في قوله تعالى : (
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) على معنييه معا ، أعني المال والعمل الصالح ، أي الأمانة
والديانة.
وإذا أوصى رجل
شيئا لمواليه وكان له موال من أعلى وموال من أسفل ، فمع وجود القرينة يعمل بها ،
ومع فقدها يجب التوقّف.
__________________
ولا يخفى أنّ
تعبير اللفظ بنحو يفيد العموم من القرائن الدالّة على أنّ المراد المجموع.
والفروع لهذه
القاعدة كثيرة. وبعد ما ذكرنا يعرف حقيقة الحال في جميع ما يرد عليك.
فصل [٨]
الحقيقة : اللفظ
المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب ، وهي لغوية ، كالأسد للحيوان المفترس ،
وشرعيّة ، كالصلاة للأركان المخصوصة ، وعرفيّة ، وهي إمّا أن تختصّ بقوم مخصوص من
أهل علم خاصّ ، أو صناعة معيّنة ، فتسمّى بالعرفيّة الخاصّة ، وقد تسمّى
بالاصطلاحيّة أيضا ؛ ومثالها ظاهر. أو لا تختصّ بقوم مخصوص من أهل علم خاصّ ،
فتسمّى بالعرفيّة العامّة ، وتنصرف العرفيّة عند الإطلاق إليها ، وهي كالدابّة لذوات
الأربع بعد أن كانت في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض.
ثمّ إنّ الحقيقة
الشرعيّة تسمّى بالمنقول الشرعي أيضا ، والعرفيّة بالمنقول العرفي أيضا ، والخاصّة
منها بالمنقول اللغوي إن اختصّت بطائفة مخصوصة من أهل اللغة كالفاعل.
والمجاز : اللفظ
المستعمل في غير ما وضع له لأجل مناسبة بينهما ، وتسمّى بالعلاقة.
ومن المجاز ما
يسمّى بالمجاز الراجح ، وهو أن يغلب استعماله على الاستعمال الحقيقي ، ويسمّى
حقيقته بالحقيقة المرجوحة.
والمشهور في الفرق
بين المجاز الراجح والحقيقة مطلقا ـ أي سواء كانت أصليّة ، أو منقولة ـ عدم اعتبار
الوضع فيه ، واعتباره فيها.
والحقّ : أنّ
اعتبار الوضع في المنقولات ليس لازما ، بل يمكن أن يستعمل الشرع أو العرف أو اللغة
لفظا في معنى غير الموضوع له بحيث يتبادر منه عند الإطلاق ، ويصير الاستعمال فيه
غالبا على استعماله فيما وضع له ، وحينئذ يصير حقيقة فيه ؛ لأنّ التبادر علامة
الحقيقة وإن لم يتحقّق وضع وتصريح بالنقل. صرّح به بعض المحقّقين .
وحينئذ فالفرق بين
المجاز الراجح والمنقولات أنّ المعنى المنقول إليه فيها يجب أن
__________________
يصير غالبا بحيث
يهجر المعنى الأوّل بالكلّيّة حتّى لا يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق ، والمعنى
المجازيّ في المجاز الراجح لا يصير غالبا كذلك ، بل استعماله غالب على الاستعمال
الحقيقي ، إلاّ أنّ المعنى الحقيقيّ يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق بالاحتمال
المرجوح.
وبالجملة ، إرادة
المعنى المنقول إليه يقينيّة ، وإرادة المجاز الراجح ظنّيّة.
فائدة
يعرف كلّ واحد من
الحقيقة والمجاز بامور :
منها : تصريح
الواضع باسمه ، أو حدّه ، أو خاصّته ، كأن يقول : إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ
غير مشروطة بالقرينة ، أو مشروطة بها .
ومنها : التقدّم
في الذكر والتأخّر فيه ؛ فإنّه إذا ذكر أهل اللغة معاني متعدّدة للّفظ ولم يعلم
الاشتراك ـ سواء علم أنّ بعضها حقيقة وبعضها مجاز من دون التعيين ، أو وقع الشكّ
في الاشتراك والحقيقة والمجاز ، وكونها جميعا مجازات ـ فإنّه يحكم حينئذ بالحقيقة
والمجاز ؛ لأنّه خير من الاشتراك ، كما سيجيء ، ومن كون جميعها
مجازات ؛ لبعده. ويحكم بأنّ المقدّم في الذكر حقيقة ، والمؤخّر فيه مجاز ؛ لبعد
ذكر المجاز مقدّما على الحقيقة.
ومنها : التبادر
وعدمه ، فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز. والتبادر الذي من علامة الحقيقة
أعمّ من أن يكون مطلقا ، أو من حيث الإرادة. فعلى الأوّل يكون جميع معاني المشترك
متبادرة على الاجتماع ، وعلى الثاني يكون جميعها متبادرة على البدليّة.
وبعض الاصوليّين
جعل علامة الحقيقة عدم تبادر الغير ، وعلامة المجاز تبادره .
__________________
واورد عليه
المشترك نقضا. أمّا على علامة الحقيقة ، فإذا استعمل في أحد معانيه
؛ فإنّه يتبادر حينئذ غيره ، أعني المعاني الأخر.
وأمّا على علامة
المجاز ، فإذا استعمل في معناه المجازي ؛ إذ لا يتبادر غيره ؛ للتردّد بين معانيه.
وغير خفيّ أنّ
النقضين نقيضان فلا يجتمعان ؛ لأنّ معاني المشترك جميعا إن كانت متبادرة على
الاجتماع أو البدليّة ، فيكون النقض الأوّل واردا والثاني مندفعا ، وإن لم يكن
كذلك ، فبالعكس.
والحقّ : أنّ جميع
معاني المشترك متبادرة على الاجتماع إن أخذ التبادر في الدلالة ، وعلى البدليّة إن
أخذ التبادر في المراد ؛ فإنّا نعلم أنّ المراد منها أحدها بعينه ، إلاّ أنّا لا
نعلمه . وحينئذ يظهر أنّ النقض الأوّل وارد ، والثاني مندفع.
فالحقّ أن لا يجعل
عدم تبادر الغير علامة للحقيقة ؛ لأنّ المشترك حقيقة بالنسبة إلى كلّ واحد بعينه
من معانيه ، مع أنّه يتبادر المعاني الأخر أيضا إمّا مطلقا ، أو من حيث الإرادة ،
بل اللازم أن يجعل علامتها التبادر فقط. والمجاز يمكن أن يجعل كلّ واحد من عدم
التبادر وتبادر الغير من علائمه.
ثمّ اعلم أنّ
تبادر كلّ قوم يدلّ على حقيقتهم فقط ، فإذا تبادر معنى من لفظ في عرفنا ، دلّ على أنّ هذا المعنى حقيقة عرفيّة بالنسبة إلى هذا اللفظ ، ولا يدلّ على
أنّه حقيقة لغويّة أيضا.
نعم ، إذا لم نجد
له في اللغة معنى حقيقيّا سواه ، فيمكن الحكم بكونه حقيقة لغويّة أيضا ؛ لأصالة
عدم التعدّد. وكذا الحكم إذا حصل تبادر معنى من لفظ عند أهل اللغة ؛ فإنّه لا يثبت
سوى الحقيقة اللغويّة.
__________________
ومنها : صحّة سلب
المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المستعمل فيه ، وعدمها.
فالأوّل علامة
المجاز ، والثاني علامة الحقيقة. مثلا إذا قلنا للبليد : إنّه ليس بحمار ، سلب فيه
المعنى الحقيقي للحمار عمّا استعمل فيه الحمار أعني البليد ، وهو جائز ، فيعلم منه
أنّ استعمال الحمار في البليد مجازيّ.
وإذا قلنا للبليد
: إنّه ليس بإنسان ، يكون فيه المعنى الحقيقيّ للإنسان مسلوبا عمّا استعمل فيه لفظ
الإنسان أعني البليد ، هذا غير جائز. فيعلم منه أنّ استعمال الإنسان في البليد على
سبيل الحقيقة.
واورد عليه : بأنّ
صحّة السلب لا يجوز أن يراد بها صحّة سلب بعض المعاني الحقيقيّة ؛ لأنّه غير مفيد
؛ لجواز كون المعنى المستعمل فيه من البعض الذي لا يجوز سلبه ، فيجب أن يراد بها
صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة ، والعلم به موقوف على العلم بأنّ المعنى
المستعمل فيه ليس من المعاني الحقيقيّة ، وهو موقوف على العلم بأنّه من المعاني
المجازيّة للّفظ ، وهو موقوف على صحّة السلب ، وهو دور مضمر .
وفي علامة الحقيقة
يلزم دور مصرّح ؛ لأنّ العلم بعدم صحّة سلب المعاني الحقيقيّة عن المعنى المستعمل
فيه موقوف على العلم بأنّه بعض المعاني الحقيقيّة للّفظ ، وهو موقوف على عدم صحّة
السلب.
والجواب : أنّا
نجزم بأنّه يصحّ العلم بأنّ الإنسان ليس شيئا من المعاني الحقيقيّة للأسد وإن لم
يحصل العلم بالمجازيّة ، فيمكن العلم بصحّة سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن
الحيوان المفترس مع عدم العلم بالمجازيّة. وكذا نجزم بأنّه يصحّ العلم بعدم صحّة
سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن البليد وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه. نعم ،
يستلزمه ، فغاية الأمر الاستلزام لا التوقّف. وهذا العلم إنّما يحصل لنا عرفا ؛
فإنّ الفهم العرفي حاصل بصحّة السلب وعدمها وإن لم يعلم الحقيقة والمجاز ؛ وهو
ظاهر.
ثمّ لا يخفى أنّ الشرط
المذكور في التبادر آت هنا أيضا ؛ فإنّ صحّة السلب وعدمها عند كلّ قوم أمارتان
للمجاز والحقيقة في اصطلاحهم.
__________________
ومنها : الاطّراد
وعدمه. فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز.
والمراد من
الاطّراد أن يستعمل اللفظ في محلّ لوجود معنى ، ثمّ جوّز استعماله في كلّ محلّ وجد
فيه ذلك المعنى ؛ فإنّ هذا علامة لكون اللفظ المذكور حقيقة في هذه المحالّ ، وهذا
كاستعمال المشتقّات فيمن قامت به. والظاهر أنّ الاطّراد لا يدلّ على الحقيقة كلّيا ؛
لأنّ المجاز قد يطّرد ، كالأسد للشجاع.
والمراد بعدم
الاطّراد أن يستعمل اللفظ المجازي في محلّ لوجود علاقة ، ثمّ لم يجوّز استعماله في
كلّ محلّ مع وجود تلك العلاقة ، كالنخلة تطلق على الإنسان لطوله ، ولا تطلق على
طويل آخر.
واورد عليه : بأنّ
« السخيّ » و « الفاضل » يطلقان على غير الله ؛ للجود والعلم ، ولا يطلقان على
الله مع وجودهما فيه تعالى ، وكذا القارورة تطلق على الزجاجة ؛ لاستقرار الشيء
فيها ، ولا تطلق على الدّنّ والكوز مع كونهما ممّا يستقرّ فيه الشيء ، فيلزم كونها
مجازات .
والجواب : أنّ عدم
إطلاق « السخيّ » و « الفاضل » على الله تعالى لكون أسمائه تعالى توقيفيّة ، أو
أنّهما موضوعان لمن كان من شأنه البخل والجهل. والقارورة موضوعة لما يستقرّ فيه
الشيء بشرط كونه من الزجاج.
إذا عرفت هذا ،
تعلم أنّه يمكن إثبات كون اللفظ حقيقة أو مجازا من العلامات المذكورة.
ومنه يستنبط الأحكام
الشرعيّة ، كما نذكر في الفصل الآتي.
فصل [٩]
لا خلاف في وجود
الحقيقة العرفيّة واللغويّة. وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها بعد
اتّفاقهم على ثبوت الحقيقة المتشرّعة ؛ فإنّه لا خلاف
في أنّ الألفاظ المخصوصة
__________________
ـ كالصلاة والزكاة
والحجّ ـ إذا وقعت مطلقة في كلام المتشرّعة ، تحمل على المعاني الحادثة ، فتكون
حقائق عرفيّة خاصّة. إنّما الخلاف في أنّها إذا وقعت مجرّدة عن القرينة في كلام
الشارع ، فهل تحمل على المعاني الشرعيّة حتّى تكون حقائق
شرعيّة ، أو على المعاني اللغويّة؟ وأدلّة الطرفين مدخولة.
ولكنّ الحقّ
وجودها ؛ لما نذكره ، وهو أنّه لا ريب في أنّ ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ ـ مثلا
ـ كانت في اللغة موضوعة لمعان غير المعاني المتداولة عند أهل الشرع. ولا ريب أيضا
في أنّ نقل الشارع هذه الألفاظ من معانيها اللغويّة إلى معانيها الشرعيّة غير
معلوم لأحد ؛ لعدم ما يدلّ عليه عقلا أو نقلا ، مع أنّ الأصل عدم النقل.
فالمتيقّن عندنا
أنّ الشارع استعمل هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة ، وهي صارت متبادرة عند
المتشرّعة بحيث لا يفهمون عند الإطلاق غيرها ، ولكنّهم لم يتصدّوا للنقل ، بل
التبادر عندهم ؛ لأجل أنّ الشارع استعملها فيها استعمالا لا ندري أنّه على سبيل
النقل أو المجاز ، ولكنّه كان استعمالا شائعا بحيث صار غالبا حتّى صارت المعاني
الشرعيّة متبادرة ، وهجر المعاني اللغويّة عند الإطلاق. فثبوت الحقيقة عند
المتشرّعة ليس إلاّ لأجل استعمال الشارع وغلبته بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب
عندهم ، فكلّ زمان حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب ، حصل الحقيقة أيضا بالنسبة
إلى أهله ، سواء كان شارعا أو غيره ، بل حصوله بالنسبة إلى الشارع أولى ؛ لأنّ أصل
الاستعمال منه ، فينبغي التفحّص عن الزمان الذي حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب.
فنقول : غير خفيّ
أنّ العلامتين لم تحصلا في ابتداء الزمان الذي أطلق الشارع هذه الألفاظ على
المعاني الشرعيّة ؛ لأنّهما موقوفتان على غلبة الاستعمال ولم تحصل فيه ، ففيه لم
يحصل حقيقة مطلقا لا الشرعيّة ولا العرفيّة ، فهذه الألفاظ إذا صدرت من الشارع أو
من غيره في الزمان المذكور لا يمكن لنا حملها على المعاني الشرعيّة ؛ لعدم ثبوت الحقيقة
الشرعيّة فيه وإن كانت متبادرة عندنا الآن ؛ لأنّه لأجل الغلبة بعد الزمان
المذكور.
فظهر أنّ الألفاظ
المذكورة إذا صدرت في ابتداء عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يمكن لنا حملها على
__________________
المعاني الشرعيّة
؛ لعدم حصول التبادر فيه ، وأمّا حصوله في عصر الصادقين عليهماالسلام فلا شبهة فيه ، بل الحكم كذلك قبل عصرهما ، بل أواخر عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضا بالنسبة إلى الألفاظ التي استعملت في المعاني الشرعيّة في أوائل ظهوره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا سيّما إذا كانت كثيرة الدوران في المحاورات ، كالصلاة والزكاة والحجّ ؛
لأنّ العقل حاكم بأنّه إذا استعمل لفظ في معنى في سنين ، وكان الاستعمال أكثريا
غالبا ، يصير بعد ذلك هذا المعنى متبادرا منه بحيث يضمحلّ المعنى الأوّل عند
المستعملين وإن كان الاستعمال بمعونة القرائن ، فثبت الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة من أواخر عصر النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى ما بعده أيّ وقت كان.
ثمّ هذا في
الألفاظ التي علم يقينا أنّ الشارع استعملها في معانيها الشرعيّة ، وصار الاستعمال
غالبا بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب. وأمّا الألفاظ التي لم يعلم فيها أصل
الاستعمال ، أو علم ولكن لم تصر كثيرة الدوران بحيث يحصل منها التبادر ، فليس
حكمها كذلك.
ثمّ إن كان أصل
الاستعمال من واحد من أئمّتنا ـ صلوات الله عليهم ـ فينبغي أن يراعى فيه ما روعي
في صورة كون الاستعمال من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من ثبوت الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة عند حصول
التبادر ـ لا عند أوائل الاستعمال ـ والعلم بأصل الاستعمال وغلبته يقينا. ولا يثبت
التبادر والحقيقة حينئذ بالنسبة إلى زمان قبل زمانه عليهالسلام.
فإن قلت : لمّا لم
يكن فهم المعاني الشرعيّة من الألفاظ المذكورة بنقل الشارع ، بل بسبب الاستعمال
وغلبته والترديد بالقرائن حتّى صارت متبادرة عند الإطلاق ، فلا يلزم منه الحقيقة
الشرعيّة ، بل يمكن أن يكون هذا من باب المجاز الراجح.
قلت : قد تقدّم أنّ الحقّ أنّ الاستعمال في المعنى الثاني إذا صار غالبا بحيث ترك المعنى
الأوّل ، لا يكون من المجاز مطلقا لا الراجح ولا غيره ، بل يكون من باب الحقيقة ،
وذكر أنّ المجاز الراجح ما ذا ، مع أنّه إن قيل : إنّ المراد من المجاز الراجح هذا
المعنى يثبت
__________________
منه المطلوب ؛ لأنّه يجب حينئذ حمل
الألفاظ المذكورة عند الإطلاق على معانيها المجازيّة الراجحة ، ولا يبقى نزاع في
التفريع.
ثمّ لا يخفى أنّ
فروع هذه القاعدة كثيرة ظاهرة ، وكيفيّة التفريع ظاهرة عليك بعد ما عرفت الحقّ
فيها.
مسألة : النقل
خلاف الأصل ؛ عملا باستصحاب الحال ، وهو حجّة ، كما سيجيء ، فلا بدّ في ثبوته من الدليل . وقد وقع الخلاف
في أنّ صيغ العقود والفسوخ والالتزامات ، كقول القاضي : « حكمت » هل نقلها الشارع
من مدلولاتها اللغويّة ـ أعني الإخبار إلى إحداث حكم ، أعني الإنشاء ـ أم لا؟ فقيل
بالأوّل ، وإلاّ لزم الكذب أو التسلسل. وقيل بالثاني ؛
للأصل واستعمالها في بعض الأحيان في كلام الشارع في الإخبار.
فعلى الأوّل يجب
حمل جميع هذه الصيغ عند الإطلاق والشكّ على الإنشاء ، ولا يعتبر القصد أيضا.
وعلى الثاني على
الإخبار ، ولا بدّ في حملها على الإنشاء من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ،
ويعتبر القصد حينئذ ، وإلاّ لم يحصل التميّز.
والحقّ : أنّ ما
استدلّ به على القول الأوّل لا يفيد المطلوب ؛ لأنّه يمكن أن يكون استعمال الشارع
بمعونة القرائن والقصد ، وكذا الحكم عندنا ، فلا يلزم كذب ولا تسلسل.
نعم ، يمكن أن
يقال : قد حصل تبادر الإنشاء منها عند المتشرّعة ، فيجب أن يحمل في كلامهم عليه ،
وحينئذ نحن لا نحتاج إلى القصد. ويمكن أن يطّرد حكمها بالنسبة إلى الشارع أيضا
حتّى يكون حكمها كحكم الصلاة وأمثالها ، فتأمّل.
__________________
فصل [١٠]
لا خلاف في اشتراط
العلاقة في المجاز ، وهي التي اعتبر أهل اللغة نوعها ، وسيجيء ذكر بعضها. وإنّما الخلاف في أنّه يشترط مع ذلك في آحاد المجازات أن ينقلها
أهل اللغة بأعيانها ، أم يكفي وجود العلاقة؟
ذهب فخر الدين
الرازي إلى الأوّل ، والأكثرون إلى الثاني. وهو الحقّ ؛ لأنّ آحاد المجازات
لو كانت نقليّة لما اكتفى أهل العربيّة في التجوّز بمجرّد العلاقات المعتبرة ، بل
كان اللازم عليهم أن يتوقّفوا حتّى يظفروا بالنقل ، والتصفّح يعطي خلاف ذلك ؛ فإنّ
من تتبّع كلماتهم المنظومة والمنثورة يعرف أنّهم لا يتوقّفون على النقل ، بل كانوا
يعدّون اختراع آحاد المجازات من البلاغة ، ولذلك لم يدوّنوا المجازات كما دوّنوا
الحقائق.
وأيضا الحقائق
الشرعيّة والعرفيّة مجازات لغويّة ، مع أنّ أهل اللغة لم يعرفوا المعاني الشرعيّة
والعرفيّة فضلا عن أن ينقلوها ويستعملوها.
واستدلّ المخالف :
بأنّه لو كانت العلاقة كافية لجاز إطلاق الأب على الابن
وبالعكس ؛ للسببيّة والمسبّبية ، والنخلة على الحبل الطويل ؛ للمشابهة ، والشبكة
للصيد وبالعكس ؛ للمجاورة ، وليس كذلك.
والجواب : أنّ عدم
الجواز فيها منصوص من أهل اللغة ، فالمقتضي فيها موجود ، والعدم باعتبار وجود
المانع ، والكلام فيما لم يوجد فيه مانع.
وبما ذكرنا ظهر
أنّ نقل الآحاد ليس شرطا ، ولكن يشترط وجود أحد أنواع العلاقات المعتبرة التي صرّح
بها أهل اللغة ، ولا يكتفى بمطلق العلاقة. ويظهر منه أنّ المجاز موضوع بالوضع
النوعي دون الشخصي.
__________________
ويتفرّع على هذا
الأصل : جواز وجود المجازات المعتبرة في كلام الشارع وإن لم ينقل آحادها من أهل
اللغة ، وجواز تكلّمنا بها في الأقارير والنذور والعهود والتعليقات ، وعدم جواز
التكلّم بالمجاز الذي لم يوجد فيه أحد أنواع العلاقات المعتبرة ، بل وجد فيه علاقة
غيرها ، لا من الشارع ولا منّا.
فصل [١١]
لمّا عرفت أنّ الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما
وضع له ، تعلم أنّ اللفظ قبل الاستعمال فيهما لا يكون حقيقة ولا مجازا.
ثمّ لا شبهة في
أنّ الحقيقة لا تستلزم المجاز ، يعني إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ، لا يلزم كونه
مجازا في معنى آخر ، وهذا ظاهر متّفق عليه ؛ لأنّ استعمال اللفظ في موضوعه لا
يستلزم استعماله في غيره بوجه من الوجوه ، والحقائق التي ليست لها مجازات كثيرة.
وأمّا العكس ،
أعني استلزام المجاز للحقيقة ـ بمعنى استعمال اللفظ في
غير ما وضع له وعدم استعماله فيما وضع له ـ ففيه خلاف. والحقّ عدم الاستلزام هنا
أيضا ؛ لأنّ المجاز لمّا كان لفظا مستعملا في غير ما وضع له ، فيستلزم تقدّم
الوضع. وأمّا تقدّم الاستعمال فيما وضع له ، فلا يستلزمه بوجه ، ولذا استعمل لفظ «
الرحمن » في معناه المجازي أعني ذا الرحمة القديمة ، ولا يجوز استعماله فيما وضع
له وهو ذو الرحمة مطلقا ، فثبت له المجاز دون الحقيقة.
واستدلّ المخالف :
بأنّه لو لم يستلزم المجاز الحقيقة ، لعرى الوضع عن الفائدة ؛ لأنّ المطلوب من
الوضع استفادة الموضوع له من اللفظ ، فإذا لم يستعمل فيه يكون عبثا .
__________________
واجيب بوجهين :
أحدهما : أنّ كلّ ما أريد به فائدة لا يوجب ترتّبها عليه.
وثانيهما : أنّ الفائدة لا تنحصر فيما ذكر ، بل قد تكون الفائدة في
الوضع صحّة التجوّز ؛ لأنّه موقوف على معنى يناسب الموضوع له .
فائدة
المجاز على ثلاثة
أقسام :
الأوّل : الوضعي ، وهو أن يقع التجوّز في مفردات الألفاظ ، كإطلاق
الأسد على الشجاع.
الثاني : العقلي ، وهو أن يقع التجوّز في الإسناد ، نحو : طلعت
الشمس ، وأخرجت الأرض أثقالها ؛ فإنّه لم يقع تجوّز في مفردات الألفاظ ؛ لأنّ
المراد من الطلوع والشمس ، والإخراج والأرض والأثقال معانيها الحقيقيّة ، وإنّما
وقع التجوّز في الإسناد ؛ لأنّه اسند الطلوع والإخراج إلى الشمس والأرض ، مع
أنّهما مسندان حقيقة إلى الله ، فوقع التجوّز في التركيب. وإنّما سمّي بالمجاز
العقلي ؛ لأنّ إسناد الأثر إلى مؤثّره حكم عقلي لا دخل له بالوضع والاصطلاح ، فإذا
اسند الأثر إلى مؤثّره الحقيقي فيكون حكما عقليّا حقيقة ، وإذا اسند إلى غيره
فيكون نقلا للحكم العقلي حقيقة إلى غيره ، فيكون مجازا عقليّا.
الثالث : الوضعي والعقلي معا ، وهو أن يقع التجوّز في المفردات
والإسناد معا ، نحو : إحيائي اكتحالي بطلعتك ؛ إذ المراد من الإحياء السرور ، ومن
الاكتحال الرؤية ، ومن الطلعة الصورة ، واسند الإحياء إلى الرؤية مع أنّه مسند
حقيقة إلى الله.
أصل
إذا كانت للّفظ
حقيقة واحدة يجب حمله عليها عند الإطلاق ، وإن كانت له الحقائق الثلاث قدّمت
الشرعيّة ، ومع عدمها أو تعذّر الحمل عليها ، قدّمت العرفيّة ، ومع العدم أو
التعذّر ، يحمل على اللغويّة.
__________________
ثمّ إنّ العرفيّة
العامّة تقدّم على الخاصّة ، كما أنّ الخاصّة تقدّم على اللغويّة. وهذا التفصيل هو
المشهور بين القوم ، بل لم نعثر على مخالف سوى بعض المتأخّرين من الأخباريين ، حيث
قال :
|
إنّ المستفاد من
أخبارهم عليهمالسلام أنّه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي ، يجب
الفحص والتفتيش والسؤال ، ومع العجز عن الظفر بالمراد ، يجب رعاية الاحتياط ،
على أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لاختلاف عرف الناس وعاداتهم ، والعرف الخاصّ
مختلف ، فيلزم اختلاف الأحكام الشرعيّة باختلافه .
|
أقول : تحقيق
الحقّ في هذا الأصل يتوقّف على بيان امور :
[
الأمر ] الأوّل : لا شبهة في تقدّم العرف العامّ على اللغة بشرط تحقّقه ؛ لأنّه أعرف عند
الناس ، وهم عند الإطلاق لا يفهمون غيره ، والحكيم لا يتكلّم الناس إلاّ بما
يفهمونه.
ويدلّ عليه قوله
تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ
قَوْمِهِ ) ، وما ورد عن بعض الصادقين عليهماالسلام : « أنّ الله أجلّ من أن يخاطب مع قوم ، ويريد منهم خلاف
ما هو بلسانهم وما يفهمونه » .
وبما ذكرنا اندفع
ما ذكر هذا البعض من أنّ العرف العامّ غير منضبط ؛ لأنّ كلامنا في العرف الذي كان
منضبطا وثابتا.
ويتفرّع عليه :
حمل الألفاظ التي لها معان عرفيّة ولغويّة على معانيها العرفيّة ، سواء وقعت في
كلام الشارع ، أو في كلامنا في الأيمان والنذور والتعليقات وغيرها ، كحمل الدابّة
على الفرس لا على ما يدبّ على الأرض ، وحمل الراوية على المزادة لا على الجمل الذي يحمل عليه الماء ، وحمل الغائط على الحدث المخصوص لا على
المطمئنّ من الأرض.
ويتفرّع عليه أيضا
: أنّه إذا حلف أن لا يشرب ماء زيد عن عطش أن يحنث بشرب الماء
__________________
مطلقا وإن لم يكن
عطشانا ، وبالأكل من أمواله أيضا ؛ لأنّ المفهوم منه عرفا اجتناب مائه مطلقا ،
وأمواله كذلك. وذكر الماء ، والتقييد بالعطش للمبالغة وإن كان معناه لغة الاجتناب
عن الماء عند العطش.
[
الأمر ] الثاني : لا شبهة أيضا في تقدّم العرف العامّ على الخاصّ ؛ لأنّه أعرف وأغلب. وهذا
في صورة كون اللفظ صادرا عن الشارع ، وكون المخاطب جميع الناس ، أو غير من له
العرف الخاصّ ، ظاهر. وأمّا في صورة كون المخاطب من له العرف الخاصّ ، أو صدور
اللفظ منه في الأيمان وأمثالها ، فالحقّ وجوب الحمل على العرف العامّ أيضا ؛ لأنّه
إن لم يكن أعرف عنده ، فلا شبهة في كونه أغلب وأشهر ، ويجب حمل اللفظ على ما هو
أغلب. والظاهر أنّه أعرف عنده أيضا.
[
الأمر ] الثالث : وجه تقدّم العرف الخاصّ على اللغة ظاهر إذا كان المخاطب أهل العرف المذكور
، أو صدر اللفظ منه ؛ لأنّه أعرف عنده من اللغة. وأمّا إذا كان غيره ، أو جميع
الناس ، فالحقّ وجوب الحمل حينئذ على اللغة ؛ لكونها أعرف.
[
الأمر ] الرابع : قيل في وجه تقدّم الحقيقة الشرعيّة على سائر الحقائق بأنّها طارئة وناسخة
لها ، فيجب حمل اللفظ عليها دونها .
أقول : الأمر كذلك
؛ لأنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة موقوف على أن يستعمل الشارع اللفظ في معناه الشرعي
استعمالا يغلب على استعماله في معانيه العرفيّة واللغويّة ، فبعد ذلك يلزم تبادر
المعنى الشرعي عند الإطلاق ، وقبل ذلك لم يثبت حقيقة شرعيّة.
وإذا عرفت ذلك ،
تعلم أنّ كلّ لفظ له الحقائق الثلاث أو الحقيقة الشرعيّة مع إحداهما ، يجب حمله
عند الإطلاق على حقيقته الشرعيّة ، سواء وقع في كلام الشارع أو غيره ،
__________________
كحمل الدينار على
الدينار من الذهب ؛ لأنّه مقتضاه شرعا ولغة ، دون غيره من الفضّة والفلوس ، كما هو
مقتضاه العرفي في بعض البلاد.
نعم ، إن علم
بالقرائن والأمارات أنّ المراد معناه العرفي ، يحمل عليه ، وكذا الحكم في الطهارة
والصلاة والزكاة وغيرها.
وفروع هذا الأصل
كثيرة ؛ وكيفيّة التفريع عليك ظاهرة.
وقد وقع الخلاف في
أنّه إذا وقع التغاير بين اصطلاح المعصوم والراوي ، فهل يقدّم الأوّل ، أو الثاني؟
وذلك كالرطل ، فهل يحمل على المدني الذي هو اصطلاح المعصوم ، أو العراقي الذي هو
اصطلاح الراوي ، أعني ابن أبي عمير؟ والترجيح لا يخلو عن إشكال ، ولا بدّ من
الرجوع إلى القرائن ، إلاّ أنّ الحمل على الأوّل عند فقدها لا يخلو عن رجحان ما ،
وغير خفيّ أنّ هذا لا ينافي القطع بتقدّم الحقيقة الشرعيّة على العرفيّة ؛ لأنّ
المراد من اصطلاح المعصوم عرف بلده لا ما صار من استعمال الشارع حقيقة ، فتقدّم
الثاني قطعا لا ينافي الشكّ في تقدّم الأوّل.
فصل [١٢]
إذا تعذّر حمل
الألفاظ على الحقيقة ، فلا بدّ من حملها على المجاز بشرط عدم المانع شرعا ، وكون
المجاز ممّا وجد فيه إحدى العلاقات المعتبرة ، كتسمية السبب باسم المسبّب وعكسه ،
وتسمية الكلّ باسم الجزء وعكسه ، وتسمية الحالّ باسم المحلّ وعكسه ، والمجاورة
والمشارفة والحذف والمشابهة في الشكل والصفة. وقد ذكر بعض آخر ، والعمدة ما
ذكرناه.
إذا عرفت هذا ،
فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك ، مثلا : الاشتراك لمّا كان مرجوحا بالنسبة إلى
الحقيقة والمجاز ـ كما سيجيء ـ فقيل : النكاح ليس مشتركا بين العقد والوطء ، بل هو
حقيقة في الأوّل ، مجاز في الثاني . وقيل بالعكس .
__________________
فعلى الأوّل يكون
النكاح في قوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) من باب تسمية المسبّب باسم السبب ؛ لأنّ النكاح حقيقة في
العقد وهو سبب للوطء ، وهو المراد هاهنا ، فاطلق عليه إطلاقا للسبب على المسبّب.
وعلى الثاني يكون
النكاح في قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ ) بالعكس ؛ لأنّ المراد به العقد.
وعلى أيّ تقدير ،
لو حلف أحد على النكاح ونوى المعنى المجازي ، يلزم عليه ما نواه ؛ لأنّ اليمين
يقبل المجاز.
ولو حلف أن يصوم
نصف يوم ونوى جميعه ، أو قال : على رقبتي أن أفعل كذا ، يكون من باب تسمية الكلّ
باسم الجزء ، ومثال العكس ظاهر.
وإذا قال المصلّي
على الميّت : اصلّي على هذه الجنازة ـ بكسر الجيم ـ ونوى منها الميّت ، يكون من
باب تسمية الحالّ باسم المحلّ ؛ لأنّ الجنازة بالكسر اسم للنعش ، وبالفتح اسم
للميّت. ولذا قيل : الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل .
والتفريع في باقي
أقسام المجاز ظاهر عليك بعد الإحاطة بما ذكر.
تذنيبان
[
التذنيب ] الأوّل : إذا أطلق الشارع شيئا على شيء آخر بعنوان المجاز ، أو أوقع التشبيه بينهما
، وظهر أنّ المراد المشاركة في حكم شرعي ، فهل المراد المشاركة في جميع الأحكام
إلاّ ما أخرجه الدليل ، أو مجمل؟
والحقّ : أنّه إن
وجد فرد شائع من الأحكام أو أفراد شائعة منها ، يحمل عليهما ، وإلاّ
__________________
يكون المراد
المشاركة في الجميع ؛ لأنّ بناء الاستعارة والتشبيه على ذلك ، كما لا يخفى.
وكيفيّة التفريع
أنّ قوله عليهالسلام : « الطواف بالبيت صلاة » يدلّ على أنّ الأحكام الجارية في الصلاة جارية في الطواف ، فإن لم يوجد أفراد
شائعة ، لكان اللازم الحمل على المشاركة في جميع الأحكام ، لكن لمّا كانت الأفراد
الشائعة هنا ـ كالطهارة والنيّة ـ موجودة ، يحمل عليها دون الأفراد التي ليست
بشائعة.
ثمّ الحقّ أنّ لفظ
« المنزلة » يفيد العموم ؛ ( لدلالة العرف على ذلك ) ، ويعبّر عنه بعموم المنزلة ، كأن يقول الشارع : هذا بمنزلة ذاك. نعم ، إن
كان هناك فرد شائع ، أو أفراد شائعة تتبادر إلى الذهن ، يكتفى بها.
[
التذنيب ] الثاني : إذا تعيّن حمل اللفظ على المجاز ، يجب حمله على أقرب المجازات إلى الحقيقة
؛ لأنّ الأصل حمل اللفظ على الحقيقة ، والمجاز خلاف الأصل ، وكلّما كان أبعد من
الحقيقة ، يلزم ارتكاب خلاف الأصل أكثر ، وكلّما كان أقرب إليها ، يلزم ارتكابه
أقلّ ، ولا شبهة في مراعاة الثاني إذا أمكن ؛ فإنّ مراعاة الأصل والاجتناب عن
خلافه لازم بقدر ما يمكن.
وكيفيّة التفريع
أنّ قوله عليهالسلام : « لا قول إلاّ بعمل ، ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا نيّة
إلاّ بإصابة السنّة » ، وقوله صلىاللهعليهوآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ، و « لا نكاح
إلاّ بوليّ » ، و « لا صيام لمن لم يبيّت الصيام » ، و « لا يمين لولد مع والده » وأمثال ذلك ،
__________________
لا يمكن حملها على
نفي الحقيقة ؛ لجواز وجودها مع عدم ما ذكر ، فلا بدّ من حملها على المجاز ، وهو
متعدّد ، كنفي الصحّة ، ونفي الثواب ، ونفي الكمال ، ولا شبهة في أنّ الأوّل أقرب
إلى نفي الحقيقة من الآخرين ؛ لأنّه يقتضي انتفاء جميع الأحكام واللوازم التي
للحقيقة ، فلا يبقى منها سوى اسم فقط ، بخلافهما ؛ فإنّهما يقتضيان انتفاء لازم
واحد فقط ، فهما بعيدان عن نفي الحقيقة ، فيجب الحمل على الأوّل.
فصل [١٣]
اشتهر أنّ الأصل
في الكلام الحقيقة ، وقد اشتبه على كثير منهم حقيقة الأمر ، ولذا يوردونه في غير
موضعه ، ونحن نشير إلى الصور الآتية في المسألة ، ونقول : غرض القوم أيّ صورة منها
، فنقول : الصور المتصوّرة أربع :
الأولى : أن يكون اللفظ مع القرينة الدالّة على المعنى الحقيقي ،
أو المجازي ، ولا شبهة حينئذ في لزوم العمل بمقتضاها.
الثانية : أن يكون الاستعمال معلوما ، ولم يعلم أنّ هذا الاستعمال
على سبيل الحقيقة أو المجاز ، ولم يعلم في الخارج لهذا اللفظ معنى حقيقي أو مجازي
، بل كانت المعلوميّة منحصرة بأنّ هذا اللفظ مستعمل في هذا المعنى الذي لا يعلم
أنّه حقيقة له أو مجاز. وحينئذ فالمشهور بين القوم أنّ
هذا الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، ولا يجزم بأحدهما إلاّ بالقرائن.
والسيّد المرتضى
رضى الله عنه على أنّ الأصل في الاستعمال في هذه الصورة الحقيقة .
وبعض المتأخّرين
على أنّ الأصل فيه المجاز ؛ نظرا إلى كثرة وروده في المحاورات الشرعيّة واللغويّة
والعرفيّة.
والحقّ مع المشهور
؛ لأنّ الحمل على أحدهما بدون قرينة يستلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لفقد الرجحان من
الطرفين.
__________________
الثالثة : أن يعلم للّفظ معنى حقيقي واستعمل في معنى آخر ، ولا
يعلم أنّ المعنى الثاني حقيقي حتّى يكون اللفظ مشتركا ، أو مجازي ؛ لعدم أماراتهما
، وحينئذ فالمشهور أنّ الاستعمال في المعنى الثاني بعنوان المجاز ؛ لأنّ الأصل عدم
تعدّد الحقيقة وعدم الاشتراك.
والسيّد هنا أيضا
مخالف للمشهور وقائل بالاشتراك .
والحقّ مع المشهور
؛ لما ذكر.
الرابعة : أن يكون للّفظ معنى حقيقي ومجازي ، وكان المعنيان
معلومين بعنوان أنّ أحدهما حقيقة والآخر مجاز ، وأطلق الشارع أو غيره هذا اللفظ
بدون القرينة ، وحينئذ يجب حمله على معناه الحقيقي بالاتّفاق ؛ لأنّه المتبادر عند
الإطلاق. وما قال القوم من أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، فمرادهم منه في هذه الصورة لا الصور الأخر ، ومن لم يحصّل مراد الأقوام زلّ
قدمه في هذا المقام.
إذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع في الصورة الاولى والرابعة لا تخفى عليك. وكيفيّة التفريع في
الصورة الثانية ، أنّه إذا استعمل الشارع ، أو غيره لفظا في معنى ولم نعلم أنّ هذا
الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولم نعلم من الخارج أيضا أنّ المعنى الحقيقي له ما ذا
، فحينئذ لا يحكم بكون هذا الاستعمال حقيقيّا حتّى يثبت جميع اللوازم التي للمعنى
المستعمل فيه لهذا اللفظ. وإذا ورد في كلام غيره أيضا ، حكمنا بأنّه موضوع للمعنى
المذكور ، ولا نحكم بكونه مجازا أيضا ، بل نتوقّف. مثلا : في بعض الأخبار استعملت
الصلاة الوسطى في صلاة الظهر ، ونحن لا نعلم أنّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي ، ولا
نعلم من الخارج يقينا حقيقة الصلاة الوسطى ؛ لتعارض الأخبار والأقوال فيها ، فبمجرّد استعمالها في بعض الأخبار في صلاة الظهر ، لا يحكم بأنّ هذا
الاستعمال حقيقي بحيث يثبت جميع اللوازم الثابتة لصلاة الظهر لها ، وبالعكس ، وإذا
وردت مطلقة في خبر آخر نحكم بأنّ المراد منها
__________________
صلاة الظهر ، بل
لا نحكم بذلك ولا بكونه مجازا أيضا ؛ لاحتمال أن يكون حقيقتها صلاة الظهر ، فحينئذ
نتوقّف.
والفروع للصورة
الثالثة كثيرة جدّا. مثلا : استعمل خطاب المشافهة في المعدومين ، ونعلم له معنى
حقيقيّا وهو مخاطبة الموجودين الحاضرين ؛ لأنّ خطاب المشافهة يستعمل حقيقة فيهم ،
فيحكم بأنّ استعماله في المعدومين على سبيل المجاز.
وقيل : هذه
الخطابات لا تتناول المعدومين لا حقيقة ولا مجازا ، واشتراكهم للموجودين في
أحكامها إنّما علم بالإجماع . وعلى هذا ، يكون التكليف الذي تعلّق بهم على النحو الذي
كان للموجودين الحاضرين ، فينبغي التفحّص عن كيفيّته ، وعلى القول بتناولها لهم
حقيقة أو مجازا ، لا يكون تكليفهم على نحو تكليف الحاضرين ، بل على نحو يفهمونه
منها.
وكذا استعمل لفظ «
المسجد » في مكّة ، ونحن نعلم له حقيقة مخصوصة ، فنحكم بأنّ هذا الاستعمال مجازي ،
فلا نثبت جميع اللوازم التي للمسجد لمكّة.
فصل [١٤]
ذهب المحقّقون إلى
أنّه لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا ، وذهب بعض إلى الجواز ، وأكثر المجوّزين على أنّ هذا الاستعمال على
سبيل المجاز. وربما قيل : إنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين .
والظاهر أنّ
الخلاف في جواز هذا الاستعمال للمتكلّم مع نصب القرينة ، وجواز إرادة المخاطب كلا
المعنيين بعد نصب القرينة أيضا ، لا جواز إرادتهما معا عند عدم القرينة ؛ فإنّ ذلك لا
يجوز بالاتّفاق ؛ لأنّ اللفظ عند الإطلاق يجب حمله على الحقيقة ، كما عرفت .
__________________
والحقّ عدم الجواز
مطلقا ؛ لأنّ إرادة المجاز موقوفة على القرينة المانعة من إرادة الحقيقة ،
وإرادتها موقوفة على عدم القرينة المذكورة ، فالإرادتان لا تجتمعان .
وبهذا يندفع ما
احتجّ به المجوّزون من أنّه ليس بين إرادة الحقيقة و [ إرادة ] المجاز منافاة ، فلا
يمتنع اجتماعهما .
ثمّ لا يخفى أنّه
لم يقل أحد بجواز استعمال اللفظ فيهما على الحقيقة ؛ لظهور بطلانه ؛ فإنّه لم يوضع
لهما معا حتّى يكون استعماله فيهما على الحقيقة.
وقال بعض القائلين
بمجازيّة الاستعمال : لمّا لم يكن المعنى المجازي داخلا في الموضوع له واريد في
الاستعمال ، فيكون مجازا ؛ لأنّه من باب إطلاق الجزء على الكلّ و .
والجواب : أنّ
المتنازع فيه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي على أن يكون كلّ منهما
مناطا للحكم ، ومتعلّقا للإثبات والنفي ، لا استعماله في المجموع المركّب الذي أحد
المعنيين جزء منه وينتفي المجموع بانتفائه ، كما ينتفي الإنسان بانتفاء الرقبة ،
على ما هو شأن الكلّ المعتبر في باب المجاز ، فهما ليسا كلاّ بالنسبة إلى المعنى
الحقيقي.
وبعضهم عكس الأمر
وقال : العلاقة إطلاق الكلّ على الجزء ؛ لأنّ الموضوع له هو المعنى الحقيقي مع قيد
الوحدة ، فبعد تعريته عنه يصير اللفظ مستعملا في جزء الموضوع له .
والجواب ما عرفت من أنّ الوحدة والانفراد من عوارض الاستعمال ، مع أنّ العلاقة المعتبرة إطلاق
اللفظ الموضوع للكلّ على الجزء فقط ، لا عليه مع شيء آخر ، وهنا اطلق [ على ]
الجزء ـ أعني المعنى الحقيقي ـ مع شيء آخر أعني المعنى المجازي.
واستدلّ من قال
بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ إذا كان مستعملا في معنيين ، وكان في
__________________
أحدهما حقيقة وفي
الآخر مجازا ، فيجب أن يكون لكلّ واحد من الاستعمالين حكمه .
والجواب : أنّ هذا
موقوف على جواز الاستعمال المذكور ، وقد ذكرنا أنّه غير جائز ؛ للزوم التنافي ،
فظهر أنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي لا يجوز في إطلاق واحد على جميع
التقادير.
ويتفرّع عليه فروع
كثيرة :
منها : إذا حلف أن
لا ينظر إلى الأسد مثلا ، وأراد منه الحيوان المفترس والرجل الشجاع معا ، لزم
الحكم ببطلان هذا الحلف ؛ لعدم جواز ذلك. وكذا الحكم في جميع الألفاظ التي لها
المعاني الحقيقيّة والمجازيّة في الأيمان ، والنذور ، والأوقاف ، والوصايا ،
والتعليقات.
ومنها : قد ورد
أنّ الطفل تابع لأبويه في الإسلام ، والأب حقيقة في
معناه المعروف ومجاز في الجدّ ، فهل يباع الطفل المملوك للكافر بإسلام جدّه ، بناء
على حمل الأب على معناه الحقيقي والمجازي ، أو لا ، بناء على عدم جواز ذلك؟ وقد
عرفت الحقّ. هذا. مع أنّه ليس فيما ورد قرينة ، فتعيّن حمله على معناه الحقيقي
وفاقا.
فصل [١٥]
إذا دار اللفظ بين
الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح ، فقيل بترجيحها ؛ مراعاة للأصل .
وقيل بترجيحه ؛
مراعاة للغلبة والظهور . وقيل بالتوقّف ؛ للتعارض .
ومحلّ الخلاف ما
إذا لم يهجر الحقيقة بالكلّيّة بحيث كان اللفظ في دلالته عليها مفتقرا إلى القرينة
، وبدونها كانت مماتة لا تراد مطلقا ، بل كانت بحيث تراد في بعض الأوقات ، إلاّ
أنّ المجاز أرجح عند العقل ، وقد أشرنا فيما تقدّم أنّ التسمية بالحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح في هذه الصورة دون الصورة
الأولى ؛ لأنّ المجاز فيها يصير حقيقة شرعيّة أو عرفيّة.
__________________
ثمّ خير الأقوال
عندي أوسطها ؛ نظرا إلى حصول غلبة الظنّ.
وكيفيّة التفريع
أنّ « الشرب من النهر » حقيقة في الشرب منه بالفم ، ومجاز في الاغتراف منه بالكوز
ونحوه والشرب منه إلاّ أنّه مجاز راجح ، فيجب أن يحمل في الأيمان والنذور
والتعليقات على معناه المجازي على ما اخترناه. و « السبيل » حقيقة في مطلق الطريق
ومجاز في الجادّة ولكنّه مجاز راجح ، فيلزم أن يحمل عليها عند الإطلاق.
فصل [١٦]
إذا دار اللفظ بين
الحقيقة وواحد من المجاز أو النقل أو الاشتراك أو التخصيص أو الإضمار ، رجّح
الحقيقة وفاقا ، إلاّ أن يثبت أحدها بالقرينة ، أو دليل خارجي. والدليل مع كيفيّة
التفريع ظاهر.
وإذا دار اللفظ
بين واحد من الخمسة المذكورة مع آخر منها ، فالحكم على ما نذكره ، وهو أنّ معارضات
هذه الخمسة تتصاعد إلى عشرة صور :
[
الصورة ] الاولى : معارضة المجاز والنقل. والحقّ حينئذ أولويّة المجاز ؛ لأنّ المجاز لا
يتوقّف على أمر سوى العلاقة ، وثبوت العلاقة والعلم بها في غاية السهولة.
وأمّا النقل ،
فموقوف على اتّفاق أرباب المحاورات عليه ، والعلم به في غاية الصعوبة. وبعد فرض
حصول العلم به لا كلام في وجوب الأخذ به ؛ لأنّ الخلاف في صورة الشكّ.
وأيضا هو موقوف
على نسخ الوضع الأوّل ، وهو خلاف الأصل.
وكيفيّة التفريع :
أنّ كلّ لفظ ورد في كلام الشارع واحتمل أن يكون مجازا وأن يكون منقولا ، فيجب أن
يحمل على معناه المجازي. مثلا : أطلق الشارع « السبيل » على الدين والمذهب ،
فيحتمل أن يكون على سبيل النقل ، ويحتمل أن يكون على سبيل المجاز. والحقّ الثاني ؛
لما عرفت ، فعند الإطلاق يحمل على معناه الحقيقي.
__________________
[
الصورة ] الثانية : معارضة المجاز للاشتراك. والحقّ أنّ المجاز أولى ؛ لأغلبيّته في المحاورات
، والمظنون إلحاق الشيء بالشائع الأغلب ؛ ولأنّ الاشتراك مخلّ بالتفاهم ، فيلزم
الاحتراز عنه مهما أمكن. وقد ذكر وجوه أخر لترجيح المجاز. والاعتماد على ما
ذكرناه. وذكر وجوه لترجيح الاشتراك على المجاز لا يفيد شيئا ، ولا يقاوم وجها
واحدا ممّا ذكر.
وكيفيّة التفريع :
أنّ النكاح استعمل في العقد والوطء كليهما ، فيمكن أن يكون من باب الاشتراك ، وأن
يكون من باب الحقيقة والمجاز ، فالثاني أولى ؛ لما عرفت.
ثمّ قيل : هو
حقيقة في العقد ، مجاز في الوطء . وقيل بالعكس .
والحقّ الأوّل ؛
لحصول التبادر في العقد دون الوطء. فعلى هذا يحمل النكاح في قوله تعالى : ( وَلا
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) على العقد ، فيحكم بتحريم معقودة الأب على الابن. وعلى الاشتراك يلزم التوقّف
، كما أشرنا إليه . وعلى القول بكونه حقيقة في الوطء ، مجازا في العقد ، يلزم
الحكم بتحريم موطوءة الأب دون معقودته.
[
الصورة ] الثالثة : معارضة المجاز والتخصيص ، كقوله تعالى : ( وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) فيمكن أن يكون المراد بالمشركين ما عدا أهل الذمّة ، فيكون مجازا من باب
تسمية الجزء باسم الكلّ. ويمكن أن يكون المراد الحقيقة ـ أعني جميع المشركين ـ لكن
خصّ عنه أهل الذمّة بدليل من خارج.
ثمّ قيل في
أولويّة التخصيص : إنّ الحمل عليه يستلزم حصول المقصود عند وجود القرينة وعدمها.
__________________
أمّا الأوّل
فظاهر.
وأمّا الثاني ؛
فلأنّه يلزم حينئذ حمل اللفظ على عمومه والعمل به ، ولا شكّ أنّ المقصود ـ أعني
غير المخصّص ـ في ضمنه. وأمّا الحمل على المجاز ، فلا يستلزم حصول المقصود عند فقد
القرينة ؛ لأنّ اللفظ عند فقدها يحمل على الحقيقة ، ويمكن أن يكون المجاز مقصودا
مع عدم كونه في ضمنها .
أقول : هذا الدليل
لا يفيد شيئا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّ اللفظ العامّ الذي لم يوجد له مخصّص
ولا قرينة على أنّ المراد منه بعض أفراده ، يلزم أن يحمل على عمومه الذي هو حقيقة
، لكن أمكن في نفس الأمر أن لا يكون بعمومه مقصودا ، بل يكون مخصّصا أو مجازا ،
فإن كان مخصّصا في الواقع ، فإنّا عملنا بالمقصود ـ أعني غير المخصّص ـ وإن عمل
بالزائد أيضا ، وإن كان مجازا ، لم نعمل بالمقصود ؛ لأنّا عملنا بالحقيقة التي
ليست مقصودة ، دون المجاز الذي هو المقصود.
وغير خفيّ أنّ
الحقيقة فيما نحن فيه هو العامّ ، والمجاز بعض أفراده ، فإذا عمل بالحقيقة عمل
بالمجاز أيضا ؛ لأنّ الخاصّ في ضمن العامّ ، والمجاز الذي ليس في ضمن حقيقته هو
الذي لم يكن جزءا من الحقيقة ، ولا دخل له بما نحن فيه ، فلا فرق بين الحملين.
هذا ، مع أنّ ثبوت
الفرق عند عدم المخصّص والقرينة لا يدلّ على ثبوته عند وجودهما ، كما هو الفرض.
والتحقيق أن يقال
: إنّه إذا وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة دون القرينة المانعة سوى التخصيص ،
يتعيّن الحمل على التخصيص ، وهو ظاهر. وإن وجد المخصّص والعلاقة المجوّزة والقرينة
المانعة غيره ، فيمكن الحمل على التخصيص والمجاز كليهما ، ولا منافاة بينهما ؛
فإنّ العامّ يكون حينئذ مخصّصا ومجازا بالاعتبارين ، ولا يظهر حينئذ فائدة في هذا
الخلاف.
نعم ، يظهر فائدة
في أولويّة التخصيص ، أو المجاز من طريق آخر ، وهو أنّه إذا تعارض الأدلّة
الشرعيّة في حكم ، وارتكب التخصيص في طرف ، والتجوّز في طرف آخر ، فعلى
__________________
أولويّة التخصيص
يلزم وجود مرجّح في طرفه ، وعلى العكس العكس ، ويمكن أن يرجّح التخصيص بأغلبيّته
في الأحكام الشرعيّة ، فتأمّل.
[
الصورة ] الرابعة : معارضة المجاز والإضمار ، كقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
) فإنّه يمكن إضمار
لفظ « أهل » ، ويمكن أن يكون المراد من « القرية » أهلها تسمية للحالّ باسم
المحلّ.
قيل : الظاهر كون
الإضمار أقرب ؛ لأنّه لا يفتقر إلاّ إلى قرينة ، والمجاز مع افتقاره إليها يفتقر
إلى الوضع اللاحق أيضا . ولا يخفى ما فيه ، ولذا حكم الأكثر بتساويهما .
ثمّ إنّ فائدة هذا
الخلاف في الأحكام ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة .
[
الصورة ] الخامسة : معارضة النقل والاشتراك. وقد اختلف في ترجيحهما. والحقّ رجحان النقل ؛ لأنّ
الاشتراك يخلّ بالفهم بخلاف النقل.
والقول بأنّ الاشتراك
أكثر من النقل لم يثبت. وكيفيّة التفريع ظاهرة .
[
الصورة ] السادسة : معارضة النقل والتخصيص ، كما في لفظ البيع ؛ فإنّه موضوع لمطلق المعاوضة
والمبادلة ، واستعمل في لسان الشارع والمتشرّعة في المبادلة المخصوصة الجامعة
للشرائط المعيّنة ، فيمكن أن يكون هذا على سبيل النقل ، ويمكن أن يكون على سبيل
التخصيص. والثاني أولى ؛ لأنّ التخصيص إمّا مساو للمجاز ، أو أولى منه كما عرفت . والمجاز أولى من النقل ، فالتخصيص كذلك. والفائدة ما أشرنا إليه في الصورة
الثالثة .
__________________
[
الصورة ] السابعة : معارضة النقل والإضمار ، والثاني أولى ؛ لأنّه إمّا مساو للمجاز ، أو أولى
منه ، والمجاز أولى من النقل ؛ فالإضمار كذلك.
وكيفيّة التفريع :
أنّ الربا في قوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) يمكن أن يراد به المعنى اللغوي ـ أي الزيادة ـ بشرط إضمار
مضاف ، أي حرّم أخذ الربا ، فيكون دالاّ على حرمة أخذ الزيادة ، لا على حرمة نفس
العقد المتضمّن لمعاوضة الجنس الربوي به متفاضلا ؛ لأنّه لم يثبت نقل الربا إلى
العقد المذكور. ويمكن أن يراد به نفس العقد المذكور بناء على تحقّق النقل ، فيدلّ
الآية على حرمة نفس العقد المذكور. وقد عرفت الحقّ.
[
الصورة ] الثامنة : معارضة الاشتراك والتخصيص. والثاني أولى ؛ والسرّ ظاهر.
وكيفيّة التفريع :
أنّ قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) يدلّ على تحريم معقودة الأب على الابن ، سواء كان العقد
صحيحا أو فاسدا ؛ بناء على كون النكاح حقيقة في العقد ، وكونه شاملا للصحيح
والفاسد ، إلاّ أنّ الفاسد منه مخصّص بالنصّ. وعلى كون النكاح مشتركا بين العقد
والوطء لا افتقار إلى التخصيص ؛ لأنّ الآية حينئذ لا تدلّ على تحريم مطلق المعقودة
حتّى يحتاج إلى إخراج العقد الفاسد ؛ لاحتمال أن يكون المراد من النكاح الوطء.
[
الصورة ] التاسعة : معارضة الاشتراك والإضمار ، والثاني أولى ؛ لعدم الإجمال فيه ، إلاّ إذا
وجد امور متعدّدة يصلح كلّ واحد منها أن يكون مضمرا ، ولم يوجد قرينة دالّة على
رجحان أحدها. وهذا الفرض نادر ، بخلاف الاشتراك ؛ فإنّه لا ينفكّ عن الإجمال.
والمثال ـ على ما ذكره بعض ـ : أنّ لفظة « في » في قوله عليهالسلام : « في خمس من الإبل شاة » تحتمل أن تكون مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة ، وتحتمل أن تكون للظرفيّة
خاصّة.
__________________
فعلى الأوّل لا
حاجة إلى الإضمار ؛ لاحتمال كونها للسببيّة ، وعلى الثاني لا بدّ من إضمار لفظ «
مقدار » حتّى يكون التقدير في خمس من الإبل مقدار شاة.
ثمّ من فوائد
الخلاف هنا ما أشرنا إليه في الصورة الثالثة .
[
الصورة ] العاشرة : معارضة التخصيص والإضمار. والترجيح للتخصيص ؛ ووجهه ظاهر ممّا سبق.
وكيفيّة التفريع :
أنّ قوله عليهالسلام : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » يحتمل أن يكون عامّا في الواجب والمستحبّ ، إلاّ أنّ المستحبّ مخصّص بجواز
تأخير النيّة إلى الزوال. ويحتمل أن يكون فيه إضمار لفظ « كامل » أو شبهه ، ويكون
التقدير « لا صيام كامل » إلى آخره. وحينئذ لا افتقار إلى التخصيص المذكور ؛ لعدم
دلالته حينئذ على وجوب التبييت مطلقا.
ثمّ اعلم أنّ
القوم صرّحوا بأنّه إذا تعارض النسخ مع واحد من الامور الخمسة ، يلزم الحكم
بمرجوحيّة النسخ ؛ لأنّه عبارة عن بطلان الحكم الثابت ، وهو خلاف الأصل. والحكم
به مع عدم القطع يؤدّي إلى الفساد. وفي شيء من الامور الخمسة لا يلزم ذلك ، مع أنّ كلّ واحد منها أكثر وجودا من النسخ.
فصل [١٧]
المشتقّ فرع وافق
الأصل في حروفه الاصول ومعناه ، ويعلم من كون المشتقّ فرعا لزوم تحقّق تغيّر ما في
اللفظ بينه وبين أصله ؛ إذ الفرعيّة والأصالة لا تتحقّقان بدونه.
والتغيير إمّا
بزيادة حرف ، أو حركة ، أو كليهما. وإمّا بنقصان إحدى الثلاث. وإمّا بالزيادة
والنقصان معا فيهما معا ، أو في أحدهما فقط ، أو مع كون أحدهما في الآخر. وإمّا
بأحدهما
__________________
في أحدهما ،
والآخر في الآخر أيضا. فيصير أقسام المشتقّ خمسة عشر ، أربعة منها احاديّ ، وستّة
منها ثنائيّ ، وأربعة منها ثلاثيّ ، وواحد منها رباعيّ. والأمثلة ظاهرة.
ثمّ المراد من
الموافقة المأخوذة في التعريف الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب ، فيخرج عنه
المشتقّ بالاشتقاق الصغير ، وهو ما يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول بدون
الترتيب ، نحو : كنى ونكى. وكذا يخرج عنه المشتقّ بالاشتقاق الأكبر ، وهو ما يعتبر
فيه المناسبة فيها دون الموافقة ، نحو : ثلب وثلم ، وفي كليهما يعتبر المناسبة في
المعنى دون الموافقة فيه .
ويبقى التعريف
خاصّا بما هو المشهور المعتبر عند القوم ، وهو المشتقّ بالاشتقاق الأصغر ، وهو ما
يعتبر فيه الموافقة في الحروف الاصول مع الترتيب والمعنى ، نحو :
ضرب وضارب.
وعلى هذا التعريف
يدخل المعدول في تعريف المشتقّ. فإن قلنا باشتقاقه ، فلا إشكال. وإن لم
نقل به ، فلا يكون التعريف مانعا ، ولذا زيد في التعريف « بتغيّر ما في المعنى » ،
وحينئذ يخرج المعدول ، لكن يخرج المصدر الميمي أيضا.
وقد يوجّه الحدّ
بدون الزيادة : بأنّ المراد من الأصل المصدر ، وحينئذ يصير الحدّ مطّردا منعكسا.
واعلم أنّ المشتقّ
قد يطّرد ، وهو الذي اعتبر وجود معنى الأصل فيه من حيث إنّه داخل في مفهومه ،
ويكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتصحيح حتّى يكون المراد من المشتقّ ذاتا مبهمة
باعتبار انتساب ذلك المعنى إليها ، كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة
وأمثالها.
وقد لا يطّرد ،
وهو الذي اعتبر فيه معنى الأصل ، لا من حيث إنّه داخل في مفهومه ، بل من حيث إنّه
مرجّح للتسمية بهذا الاسم من بين الأسماء ، فيكون اعتبار ذلك المعنى فيه للتوضيح
دون التصحيح ، كالقارورة ، والدبران ، والعيوق ، وأمثالها ؛ فإنّ تسمية الزجاجة
__________________
بالقارورة باعتبار
استقرار الشيء فيها ، إلاّ أنّ اعتبار ذلك فيها ليس من حيث إنّه داخل في مفهومها ،
بل من حيث إنّه مرجّح لتعيّن هذا الاسم من بين سائر الأسماء.
وإذا عرفت هذا ،
تعلم أنّ تسمية كلّ شيء باسم المشتقّ المطّرد باعتبار وجود
مبدأ الاشتقاق فيه تكون على سبيل الحقيقة ، وتسمية غير الزجاجة مثلا بالقارورة
باعتبار استقرار الشيء فيه ـ كالدنّ وأمثاله ـ تكون على سبيل المجاز.
ويظهر الفائدة في
الأحكام في الأيمان ، والتعليقات ، والأوقاف ، وأمثالها.
فصل [١٨]
إطلاق المشتقّ على
ذات باعتبار الحال ـ يعني عند اتّصافها بالمبدإ ، كالضارب لمباشر الضرب ـ حقيقة
وفاقا ، وباعتبار المستقبل ـ أي قبل اتصافها به ، كالميّت لمن لم يمت وسيموت ـ مجاز
قطعا ، وباعتبار الماضي ـ أي بعد وجوده وزواله عنه ، كالضارب لمن ضرب وزال عنه
الضرب ـ ففيه خلاف. فأصحابنا ، والمعتزلة ، وابن سينا على أنّه حقيقة. والأشاعرة على أنّه مجاز.
وذهب بعض إلى أنّه إن لم يمكن بقاؤه فحقيقة ، كالكلام ؛ فإنّ كلّ جزء منه أتى لا يمكن
أن يبقى في زمان ، ولا يقارن الماضي ولا المستقبل ، وإن أمكن ولم يبق فمجاز ،
كالضرب وأمثاله.
وتوقّف جماعة
كالآمدي ، وابن الحاجب .
وذكر جماعة أنّ
محلّ النزاع ما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجودي ينافي الأوّل ،
__________________
كإطلاق الضارب على
من انقضى عنه الضرب من دون طريان وصف ينافي الضرب. ومع الطريان ـ كإطلاق الأبيض
على من زال عنه البياض وهو الآن أسود ـ فمجاز اتّفاقا.
وفي كلام بعض
أصحابنا أنّ الخلاف فيما كان المشتقّ محكوما به ، كقولنا : زيد ضارب ، أو متكلّم
ونحوه ، وأمّا إذا كان محكوما عليه ، كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي ) ، و ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) و ( فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ ) فحقيقة بلا كلام .
وذكر بعض آخر أنّ النزاع في المشتقّ الذي بمعنى الحدوث ، كالضارب وأمثاله ، دون الذي
بمعنى الثبوت ، كالمؤمن والكافر والحلو والحامض.
وقال بعض
المتأخّرين : إنّ الإطلاق المذكور حقيقة إذا كان اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريّا
بحيث يكون عدم الاتّصاف مضمحلاّ في جنب الاتّصاف ، سواء كان المشتقّ محكوما عليه
أو به ، وسواء طرأ الضدّ أو لا ، كالكاتب ، والخيّاط ، والقارئ ، والمعلّم ،
والمتعلّم وأمثالها .
والحقّ المذهب
الأوّل ؛ لأنّ الضارب ـ مثلا ـ وضع في اللغة لمن ثبت له الضرب
، وهذا المفهوم شامل لمباشر الضرب ، ولمن ضرب وزال عنه الضرب ، فإخراج أحد الفردين
منه تحكّم.
واستدلّ عليه أيضا
، بأنّ الإطلاق المذكور لو لم يكن حقيقة ، لما صدق مثل المتكلّم والمخبر على أحد
حقيقة ؛ لأنّ الكلام مركّب من حروف متتالية ينقضي السابق منها بطريان اللاحق ، ولا
شبهة في أنّ ماهيّة الكلام لا تتحقّق بحرف واحد ، بل بعدّة حروف ، وتحقّقها في آن
واحد ممتنع ، فلا يتحقّق كلام أصلا ؛ لأنّه قبل حصولها لم يتحقّق ، وبعده قد انقضى
.
__________________
ولا يخفى أنّ هذا
يرد على أكثر الأفعال.
والحقّ : أنّ
المعتبر في اتّصاف ذات بالمبدإ في الحال هو أن يقال في العرف : إنّها متّصفة به ،
وهذا متحقّق ما دام الفاعل مباشرا للفعل بالمباشرة العرفيّة ، أي ما دام لم يحصل
فصل بين أجزاء الفعل بحيث يقول العرف : زالت المباشرة.
واستدلّ عليه أيضا
: بأنّه لو لم يكن الإطلاق المذكور حقيقة ، لما صدق المؤمن على النائم والغافل
حقيقة ؛ لأنّ الإيمان بأيّ معنى اخذ غير موجود لهما .
وهذا الدليل أيضا
غير تامّ ؛ لأنّه يمكن أن يقال : هذا الإطلاق مجازي ، أو مبدأ الإيمان موجود في
خزانة النفس عند النوم والغفلة.
وقد استدلّ عليه
بأدلّة أخر أيضا إلاّ أنّها غير تامّة ، كما قالوا : قد يطلق الضارب ـ مثلا ـ على
من انقضى عنه الضرب ، ويقال : زيد ضارب أمس ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .
وقد عرفت أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة في أمثال هذه الصور ، فالمعتمد ما قدّمناه .
هذا ، واستدلّ على
المذهب الثاني بوجوه كلّها مندفعة ، وعمدة أدلّتهم : أنّه لو كان إطلاق الضارب ـ مثلا
ـ على من انقضى عنه الضرب حقيقة ، لما صدق قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » مع أنّه
صادق بالاتّفاق.
والجواب : أنّ في « الآن » ليس ظرفا للنفي حتّى يكون المراد أنّه يصدق في الآن أنّه ليس بضارب مطلقا ؛ لأنّه عين النزاع ، بل هو ظرف للمنفيّ ، أعني
ضاربا ، كما هو المتبادر من هذا التركيب ، فيكون المراد أنّه يصدق أنّه ليس بضارب
بضرب موجود في الحال ، ولا ينافي ذلك قولنا : إنّه يصدق في الحال أنّه ضارب مطلقا.
واورد عليه : بأنّ
قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » وقتيّة ، وهي مستلزمة للمطلقة العامّة بشرط اتّحاد
موضوعهما ، فيصدق قولنا : « زيد ليس بضارب في الجملة » ؛ لأنّ المطلقة أعمّ
__________________
القضايا الفعليّة
، وصدق الخاصّ يستلزم صدق العامّ ، وهو ينافي قولنا : زيد ضارب مطلقا .
واجيب : بمنع
التنافي بين المطلقتين المختلفتين كيفا. هذا. مع أنّا لا نسلّم كون « زيد ليس
بضارب الآن » وقتيّة ، بل هي أيضا مطلقة ؛ لأنّ « الآن » ليس ظرفا لسلب مطلق الضرب
، بل قيد للمحمول ، والمراد أنّه ليس بضارب بضرب موجود في الحال ، فكأنّه قيل : «
زيد ليس بضارب بالضرب الفلاني ». ويشترط في الوقتيّة أن يكون الوقت وقتا للنفي ،
وإذا كانت مطلقة فيكفي للمورد الإشارة إلى ثبوت التنافي بينها وبين المطلقة
الموجبة ، ولم يكن له حاجة إلى تجشّم بيان الاستلزام .
وعلى التقديرين
فإيراده ساقط ؛ لأنّه ـ كما اشير إليه ـ لا تنافي بينها وبين المطلقة الاولى ؛ إذ
لا تنافي بين المطلقتين ؛ لأنّ النفي في الجملة لا ينافي الثبوت في الجملة.
وغير خفيّ أنّ هذا
الجواب غير صحيح ؛ لتحقّق التكاذب بين المطلقتين المختلفتين كيفا عرفا ، فإنّه
يقال في الردّ على من قال « زيد قائم » : « هو ليس بقائم » والتكاذب العرفي مستلزم
للتنافي اللغوي ، مع أنّ صحّة النفي من خواصّ المجاز ، فينافي الحقيقة.
والحقّ في الجواب
أن يقال : صدق النفي المطلق لغة ممنوع ، بل هو عين النزاع كما عرفت ، فلا يجوز لغة
أن يقال : « زيد ليس بضارب ». نعم ، يجوز ذلك عقلا ؛ بناء على أنّ صدق نفي الضرب
الحالي مستلزم عقلا لصدق نفي الضرب في الجملة.
مثاله : أنّه لا
يجوز لغة أن يقال : « ليس الإنسان بحيوان » ويجوز عقلا أن يقال ذلك ؛ بناء على أنّ
حيوانا ما كالحيوان الصاهل منفيّ عنه ، ولكنّ جواز السلب في الجملة عقلا لا ينافي
الثبوت حقيقة ، فإنّ الحيوان حقيقة في الإنسان ؛ لكونه من أفراد مفهومه مع جواز
سلبه عنه في الجملة عقلا. وسرّ ذلك أنّ بناء الحقيقة على اللغة لا على العقل.
واستدلّوا أيضا
بأنّه لا يطلق الكافر على المؤمن الذي أسلم بعد الكفر ، وإلاّ لصدق على أكثر
الصحابة في حال إسلامهم أنّهم كفّار ، وكذا لا يصدق على العنب الحلو أنّه حامض ،
__________________
وعلى التمر اليابس
الأسود أنّه رطب أخضر .
واجيب عن الأوّل :
بأنّ المنع فيه شرعي. وعن أخويه : بأنّ المنع فيهما عرفي ، واللغة لا تأبى عن
الإطلاق المذكور وإن كان مستبعدا عند العقل .
وإن خصّص الدعوى
بما إذا لم يطرأ على المحلّ ضدّ أو نقيض ـ كما ذكره بعض ـ فيندفع هذا الدليل ؛ لأنّ عدم الإطلاق في الامور المذكورة يكون حينئذ
اتّفاقيّا ؛ لأجل طريان الضدّ ، ويكون خارجا عن الدعوى ، إلاّ أنّ الاتّفاق
المذكور لم يثبت ، بل خلافه ثابت. فالحقّ في الجواب ما ذكر أوّلا.
إذا عرفت هذا ،
تعلم حقيقة الحال في المذاهب الأخر ، والتخصيصات المذكورة ، ووجه فسادها.
ثمّ إنّ فروع هذا
الأصل كثيرة :
منها : إذا وقف
أحد شيئا على سكّان موضع مخصوص ، فعلى ما اخترناه لا يبطل حقّ بعض السكّان بالخروج
، وإن كان مدّة كثيرة.
ومنها : بقاء
كراهية الطهارة بالماء المسخّن بالشمس بعد برده.
ومنها : كراهية
الحدث تحت الأشجار التي أثمرت في الماضي ولم تكن مثمرة بالفعل.
وأمثال هذه الفروع
كثيرة. وكيفيّة التفريع في جميعها ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه.
فصل [١٩]
كلّ واحد من
المشتقّات يدلّ على ذات ما مع صفة معيّنة ، ولا يدلّ على خصوصيّة الذات من كونه
جسما أو إنسانا أو حجرا أو غيرها ؛ فإنّ الأبيض لو دلّ على خصوصيّة الذات مثل
كونها جسما ، لكان حمل الجسم عليه غير مفيد مع أنّه مفيد قطعا.
__________________
ويظهر الفائدة في
الأحكام في التعليقات والأيمان وأمثالهما ، وفيما صدر مشتقّ من كلام الشارع ولم
يكن قرينة تدلّ على تعيين الذات.
فصل [٢٠]
الحقّ أنّ الواو
العاطفة لمطلق الجمع ، ولا تدلّ على ترتيب أو معيّة. صرّح بذلك رؤساء اللغة حتّى أنّ أبا عليّ الفارسي نقل إجماع الادباء على ذلك .
وذكره سيبويه في
خمسة عشر موضعا من كتابه ؛ واستدلّ أيضا بأمثلة يتعيّن في بعضها الحمل على المعيّة
، وفي بعضها الحمل على تقدّم ما بعد الواو على ما قبلها.
والحقّ أنّ الحمل
على المجازيّة فيها ممكن ، فالمناط ما ذكر أوّلا.
والفرّاء ومن تبعه
على أنّها للترتيب . واحتجّ بأمثلة لا بدّ فيها من حمل الواو على الترتيب ،
وهو لا يفيد مطلوبهم ؛ لأنّه مستفاد من القرائن الخارجيّة ، فلا يدلّ على تعيّن
كونها حقيقة فيه فقط.
إذا علمت ذلك تعرف
أنّه يجب حمل الواو عند الإطلاق على الجمع مطلقا.
وكيفيّة التفريع
أنّه إذا قال رجل لزوجته : « إن كلّمت زيدا وعمرا فأنت عليّ كظهر أمّي » فتحرم
بمطلق تكلّمهما ، ولا يتوقّف على تقدّم تكلّم الأوّل على الثاني ، وكذا إذا قال رجل
لآخر : « وكّلتك في بيع أرضي ومتاعي » يتخيّر الوكيل في بيعهما بأيّ نحو شاء ، ولا
يلزم عليه بيع الأرض أوّلا.
ثمّ الحقّ أنّ
الواو العاطفة يجوز حذفها مطلقا إذا دلّت عليه قرينة ، كما ذهب إليه الأكثر ، وإن
منعه ابن جنيّ في غير الشعر . فمن أورد جملا متعاطفة بتقدير العاطف في المعاملات ،
__________________
أو الإيقاعات ، أو
التعليقات وادّعى ذلك يقبل قوله.
وذكر بعض
النحويّين أنّ هذا الواو مع الاثنين بمنزلة ألف التثنية ، ومع الثلاثة
فصاعدا بمنزلة واو الجمع ، فيلزم على ذلك أن لا يكون فرق بين إيراد الكلام في
العقود والإيقاعات وغيرهما بلفظ التثنية والجمع ، أو بالواو مع الاثنين والأكثر ،
إلاّ أنّ الفقهاء ذكروا أنّه إذا أوصى رجل في مرض موته بعتق سالم وغانم مثلا
، ولم يف الثلث بهما ، يعتق الأوّل خاصّة ، وعلى القاعدة يلزم أن يعتق جزء من كلّ
منهما أو يقرع بينهما ؛ لأنّ الحكم فيما إذا قال : « أعتقوا هذين العبدين » كذلك .
وهنا فرق آخر ،
وهو أنّه إذا قال رجل : « لزيد عليّ ثلاثة دراهم إلاّ درهما » يلزمه درهمان قولا
واحدا. وإذا قال : « له عليّ درهم ودرهم ودرهم إلاّ درهما » فعلى القاعدة الحكم
كذلك ، إلاّ أنّ بعضهم على أنّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة ، فيبطل
الاستثناء ؛ لكونه مستغرقا.
قاعدة
الفاء العاطفة
موضوعة لمعان :
منها الترتيب ،
وهو إمّا ذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو « توضّأ ، فغسل وجهه ويديه ، ومسح
رأسه ورجليه ». وإمّا معنوي ، نحو « جاء زيد فعمرو ».
ومنها التعقيب ،
وهو في كلّ شيء بحسبه ، نحو « تزوّجت فولدت » و « دخل المدينة فمكّة » ، فهو يشتمل
التراخي أيضا.
ومنها السببيّة ،
نحو ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
فَتابَ عَلَيْهِ ) ، فتقدّم الأوّل في المعاني الثلاثة معتبر إلاّ في الترتيب الذكري.
__________________
وذهب الفرّاء إلى
أنّها لا تفيد الترتيب مطلقا ، واحتجّ بقوله تعالى : ( أَهْلَكْناها
فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ).
والجواب أنّ
الترتيب فيه ذكري ، أو التقدير : « أردنا إهلاكها » كما في كثير من نظائره.
وكيفيّة التفريع :
أنّه إذا حلف رجل إن دخل الدار فتكلّم فعليه كذا ، فيشترط تقدّم الدخول على
التكلّم ، وإذا قال : « بعتك بدرهم فدرهم » فعلى القاعدة يلزم بطلان البيع ؛ لأنّ
الفاء تقتضي أن يثبت الأوّل قبل الثاني ، والثمن يثبت جميعه دفعة. ويمكن الحمل على
التعقيب الذكري ، فينعقد البيع بدرهمين.
ثمّ إنّ بعض
النحاة مصرّحون بأنّ الفاء الداخلة على خبر المبتدأ ـ نحو : الذي يأتيني فله كذا ـ
تدلّ على الاستحقاق ، وحذفها لا يدلّ عليه .
ويتفرّع عليه
استحقاق الجعل وعدمه في حالتي اشتمال كلام المالك على الفاء وعدمها ، كما صرّح به
بعض الأصحاب .
وبعضهم قال
بالاستحقاق في صورة عدم الفاء أيضا ؛ لدلالة العرف عليه مع قطع النظر عنها ؛ لأنّ
الجعالة من العقود الجائزة التي يكتفى في ثبوتها بما دلّ عليها . وهو حسن.
ووقع الخلاف بين
النحاة في أنّ الفاء الجزائيّة ، نحو « من يأتيني فأكرمه » هل تدلّ على التعقيب ، أم لا؟
وفرّع عليه
العامّة استتابة المرتدّ وعدمه ؛ نظرا إلى قوله صلىاللهعليهوآله : « من بدّل دينه فاقتلوه » فإنّه لو كانت للتعقيب دلّت على قبول توبته ؛ لأنّه لا يتصوّر هنا فائدة
للتعقيب إلاّ الأمر
__________________
بالتوبة ، فإن تاب
لم يقتل ، وإلاّ قتل ، ومجرّد تأخير القتل من الارتداد يعلم من الفاء إذا كانت
لمجرّد الترتيب ، ففائدة التعقيب منحصرة فيما ذكر ، ولا يصحّ هذا التفريع عندنا ؛
لأنّ المسألة عندنا منصوصة بقبول توبة المرتدّ الملّي دون الفطري .
ضابطة
الحقّ أنّ « ثمّ »
يفيد ثلاثة امور : التشريك في الحكم ، والترتيب ، والمهلة. وقد يفيد مجرّد الترتيب
دون المهلة ، كالفاء.
وخلاف جماعة في
كلّ واحد منها لا اعتداد به. والأمثلة التي استدلّوا بها مأوّلة ، فلو قال رجل
لوكيله : « بع هذا ثمّ اشتر الشيء الفلاني » يلزم عليه أن يراعي الترتيب مع المهلة
المتعارفة هنا ، ولو قال : « عليّ أن أصوم يوما ثمّ يوما » فعليه الفصل بيوم ؛
لأنّ المهلة لا تتحقّق إلاّ بذلك ؛ لعدم مدخليّة الليل في الصوم. واحتمل بعض
الاكتفاء به ، ومع تعيين النيّة يلزم
العمل بها.
فائدة
لفظة « أو » تقع
لمعان :
منها التخيير ،
وهي الواقعة بين شيئين يمتنع الجمع بينهما ، نحو « اجعل هذا الثوب أسود أو أحمر ».
ومنها الإباحة ، وهي
الواقعة بين شيئين يجوز الجمع بينهما ، نحو « جالس العلماء أو الحكماء ».
ثمّ إن دخلت « لا
» الناهية ، أفادت لزوم الاجتناب عن الجميع ، نحو ( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ، فعلى هذا لو قال رجل بعنوان النذر أو الحلف : لا آكل هذا أو هذا ، يلزم
__________________
عليه الاجتناب عن كليهما
، وإذا قال : آكل هذا أو هذا ، يبرأ بأكل أحدهما.
وهكذا الحكم في التعليقات ، والأقارير ، والشهادات.
ومنها التقسيم ، نحو « الموجود إمّا واجب ، أو ممكن ».
ومنها الجمع ،
كالواو ، نحو قوله تعالى : ( وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ).
ثمّ معرفتها في
كلّ موضع بأنّها من أيّ قسم تظهر من المقام والقرائن.
قاعدة
« الباء » موضوعة لمعان معروفة ، وقد وقع الخلاف في كونها للتبعيض ، وأنكره سيبويه في
سبعة عشر موضعا من كتابه .
وقد ورد به النصّ
الصحيح عن الصادق عليهالسلام في تفسير قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ ). وعليه بعض المحقّقين من النحاة ، فلا اعتداد بكلام سيبويه. ويظهر منه جواز
المسح ببعض الرأس كما هو مذهبنا.
ثمّ كيفيّة
التفريع في الأحكام ـ بعد تشخيص معناها في كلّ مقام ـ ظاهرة عليك.
ضابطة
« في » تقع لمعان
:
منها الظرفيّة ،
إمّا حقيقيّة كزيد في الدار ، أو مجازيّة ، كقولنا : « في العلم حياة ».
__________________
ومنها السببيّة ،
نحو قوله تعالى : ( فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ).
ومنها المصاحبة ،
نحو ( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ).
وأنكر فخر الدين
الرازي كونها للسببيّة ؛ مستدلاّ بعدم النقل من أهل اللغة .
وردّ عليه بجواز
نقل أهل اللغة وعدم الوصول إلينا .
وفيه ما فيه ، مع
أنّ أصالة عدم الاشتراك تؤيّد قوله. وعلى هذا يجب حملها في قوله عليهالسلام : « في خمسة أوسق زكاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي أربعين شاة شاة » ، وأمثالها على الظرفيّة حقيقة أو مجازا. وحينئذ يجب الزكاة من عين النصاب
وتكون داخلة فيه ، حتّى لو تلف بعض النصاب بعد الحول وقبل تمكّنه من أداء الزكاة
يسقط من الزكاة بحسبه. وإن حملت على السببيّة ، لا يجب الزكاة من عين النصاب ، بل
تكون خارجة عنه ، ولا يسقط شيء منها في الفرض المذكور.
ثمّ نظر من حملها على السببيّة إلى أنّ الشاة ـ مثلا ـ ليست داخلة في حقيقة الإبل حتّى
يتحقّق الظرفيّة ، فالمراد أنّه بسبب خمس من الإبل يجب شاة.
والجواب : أنّ الظرفيّة
المجازيّة ممكنة ؛ نظرا إلى القيمة ؛ فيكون المراد في خمس من الإبل مقدار شاة.
وبهذا يظهر ضعف
قول من استدلّ على مجيئها لغة للسببيّة بقوله عليهالسلام : « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » مع أنّه إن تعيّن
حملها في مثال على السببيّة لأجل قرينة ، لا يلزم منه الوضع حتّى يكون حقيقة ، بل
يكون من باب المجاز.
ثمّ إذا وقعت
مطلقة في الكلام ، فالظاهر حملها على الظرفيّة ؛ لأنّها الغالب ، فإذا قال
__________________
أحد : « لزيد في
هذا العبد مائة درهم » فيحتمل أن تكون للظرفيّة الحقيقيّة ، بأن يكون عند العبد
مائة من مال زيد. وأن تكون للظرفيّة المجازيّة ، بأن يكون زيد شريكا في قيمته بهذا
القدر ، أو يكون ذلك من القائل بعنوان الوصيّة أو الهبة. وأن تكون للسببيّة ، بأن
يكون العبد جانيا على زيد جناية توجب ذلك. وأن تكون للمصاحبة ، والمثال كما ذكر في
الظرفيّة الحقيقيّة. وأن تكون بمعنى « من » على ما ذكر بعض من أنّ « في » قد تكون
مرادفة « من » أيضا ، والمثال كما ذكر في الظرفيّة المجازيّة. فحينئذ يلزم أن
يكلّف البيان ، ومع عدم الإمكان ، فالظاهر الحمل على الظرفيّة المجازيّة ، فتأمّل.
ثمّ إنّ لفظة « في
» للظرفيّة المطلقة. ولا يستفاد منها لزوم كون المظروف في أوّل الظرف ، أو وسطه ،
أو آخره. فإذا باع شيئا مؤجّلا على أن يؤدّي الثمن في شهر كذا أو يوم كذا ، فيشمل
جميع الشهر واليوم ، ولا يختصّ بجزء معيّن منهما. وحينئذ يتوجّه بطلان البيع ؛
للزوم تعيين الأجل بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان. وكذا الحكم في السلم ،
والإجارة ، وغيرهما ممّا يلزم فيه تعيين الزمان. وإذا وكّل رجلا في اشتراء دار في
بلدة ، لا يلزم على الوكيل أن يشتري دارا في وسط البلد ، أو موضع مخصوص منه ، بل
يصحّ اشتراء كلّ دار فيها وإن كان من الدور الخارجة المتّصلة بها.
فصل [٢١]
اللام موضوعة
لمعان. وأكثرها دورانا :
الاستحقاق ، نحو «
الحمد لله » ، و « العظمة له ».
والملك ، نحو «
المال لزيد ».
والاختصاص ، نحو «
الجنّة للمؤمنين ».
والتعليل ، نحو ( وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) أي لأجل حبّ المال لبخيل.
والتمليك ، نحو «
وهبت هذا المال لزيد ».
__________________
ثمّ لا يخفى أنّ الفرق
بين الاستحقاق والملك ظاهر ، وهما لا يستلزمان الاختصاص ، فيمكن تحقّقهما بدونه ،
ولكنّ الاختصاص يستلزم الملك ، أو الاستحقاق ، أو كليهما.
والحقّ ـ كما صرّح
به بعض المحقّقين ـ أنّ اللام عند الإطلاق تفيد الاختصاص عرفا ، وإن لم تفد
لغة.
وكيفيّة التفريع :
إذا قال رجل : « هذا لزيد » يكون إقرارا بالملك ، فإن قال : أردت أنّه في إجارته
أو عارية عنده ، لا يسمع. ولو قال بعنوان اليمين أو التعليق وأمثالهما : « لا أركب
الدابّة التي للعبد » لا يتحقّق له الحنث ؛ لأنّ العبد لا يملك شيئا ، ويمكن أن
يتحقّق بإرادة المجاز بأن يقصد بها ما عرف به. ولو حلف أن
لا يدخل الدار التي لزيد ، يجب أن يراد بها المملوكة.
وفي حكم اللام
الإضافة ، كأن يقول : « دابّة العبد » أو « دار زيد ».
ويتفرّع على ما
حقّقنا أنّ اللام في قوله عليهالسلام في الصحيفة : « اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك » إلى آخره تفيد الاختصاص عرفا ، فيدلّ على كون المقام مختصّا بخلفاء الله ،
ولكن لا يدلّ على نفي وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ؛ لعدم لزوم حمل « المقام »
على صلاة الجمعة والعيدين ، كما بيّنّا في الرسالة التي ألّفناها في هذه المسألة .
فصل [٢٢]
« من » يستعمل
لمعان :
منها ابتداء الغاية.
ومنها التبيين.
ومنها التعليل ،
كقوله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » .
__________________
ومنها التبعيض.
ويظهر المطلوب
منها في كلّ مقام بمعونة القرائن ، فلو قال : « بع من أموالي ما شئت » ، و « أعط
منها ما شئت » وأمثالهما ، يجب حملها على التبعيض ، ولا يمكن للوكيل بيع الجميع. ولو قال : « خذ مالي من فلان » ، يجب حملها على الابتداء ، فيكون
مبدؤها الفلان ، ولا يتعدّى إلى غيره ، فلو مات ليس له الأخذ من ورثته.
ثمّ إنّ لفظة « من
» تزاد في النفي ، والنهي ، والاستفهام وفاقا ، بشرط كون مدخولها نكرة ، نحو ( ما لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ).
وأمّا في الإثبات
، فذهب سيبويه وأكثر البصريّين إلى عدم الجواز.
وذهب الأخفش إلى الجواز مطلقا ؛ لقوله تعالى : ( يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) ، وبعض إلى الجواز بالشرط المذكور ، نحو (
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ ) ، وحملها في الآيتين على التبعيض ممكن ، فالظاهر الأوّل.
ومن فروعه : أنّه
إذا قال وليّ الزوجة أو وكيلها : « زوّجت من زينب » أو « من موكّلتي » يكون العقد
باطلا ، بناء على الأوّل والثالث ؛ لكونه لحنا ، وعلى الثاني يكون صحيحا. وكذا
الحكم إذا قال البائع أو الموجر مخاطبا للمشتري أو المستأجر : « بعت منك » أو «
آجرت منك ».
فصل [٢٣]
« إلى » موضوعة
لانتهاء الغاية. واختلف في دخولها في ذي الغاية. فقيل به مطلقا. وقيل بالعدم كذلك.
__________________
وقيل بالدخول إن
كان الغاية من جنس ذي الغاية ، نحو « أكلت السمكة إلى رأسها » ، وبعدمه إن لم تكن
من جنسه ، كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ ) ؛ فإنّ الليل ليس من جنس النهار الذي يقع فيه الصوم.
وقيل بالدخول إن
لم يتميّز الغاية حسّا ، كالمرفق في آية الغسل ، وبعدمه إن
تميّزت حسّا ، كالليل في آية الصوم .
وقيل في المسألة
وجوه أخر .
والحقّ عدم الدخول
مطلقا ، كما ذهب إليه أكثر المحقّقين ؛ لأنّ غاية الشيء آخره ، وما ينتهي الشيء
عنده ، فلا يدخل فيه أصلا ؛ ولدلالة العرف على ذلك. ودخول بعض الغايات في ذويها
لأجل القرائن الخارجيّة ، مثلا دخول المرفق في آية الغسل من باب المقدّمة لا لكونه
غاية.
وكيفيّة التفريع :
أنّه إذا باع شيئا إلى شهر كذا ، أو يوم كذا ، يحلّ الأجل بأوّل جزء منهما.
وهكذا في باقي
العقود المؤجّلة إلى وقت كذا.
ثمّ كما أنّ حدّ
الانتهاء لا يلزم أن يكون داخلا في المحدود ـ أعني ذا الغاية ـ فكذلك حدّ الابتداء
، فكما أنّ ما بعد « إلى » لا يدخل في المحدود ، فكذلك ما بعد « من » ، فإذا قال :
« بعتك من السرداب إلى الحجرة » لا يدخل السرداب والحجرة في المبيع ، وإذا قال : «
آجرتك من شهر رمضان إلى شهر كذا » يكون مبدأ الإجارة آخر رمضان.
نعم ، إذا دلّت
القرينة على أنّ حدّ الابتداء داخل في المحدود ، يعمل بها ، كما إذا قال : « آجرتك
من رمضان إلى شوّال » فإنّه إن لم يكن مراده أوّل رمضان ، لكان لغوا.
__________________
تنبيه
الضمير إذا صلح
لأن يعود إلى مضاف ومضاف إليه ، فالظاهر إرجاعه إلى المضاف ؛ لأنّه المخبر عنه ،
والمضاف إليه إنّما ذكر لأجل تعريفه ، أو تخصيصه ، فإذا قال أحد : « لزيد عليّ ألف
درهم ونصفه » ، يلزم عليه ألف وخمسمائة. وقس عليه نظائره.
واعلم أنّ المجاز
لا يقع في نفس الحروف مطلقا ، بل في متعلّقات معانيها ، فيقع المجاز فيها أوّلا
ثمّ يسري فيها تبعا ، وهو الذي يسمّى في البيان بالاستعارة التبعيّة ، مثلا يقول : « في » للظرفيّة ، و « على » للاستعلاء ، فإذا شبّه أحدهما بالآخر ، ثمّ
ذكر الحرف الموضوع للمشبّه به ، فهو الاستعارة التبعيّة ؛ لوقوع المجاز أوّلا في
الاستعلاء أو الظرفيّة اللتين من متعلّقات معنى الحرفين لا معناهما ، وإلاّ لكانتا اسمين ، فلو حلف أو نذر أن لا يكون على الظلم مثلا ، يكون مبنى كلامه على
المجاز ، ويكون صحيحا ، ويلزم عليه الكفّارة بارتكاب الظلم.
__________________
الباب
الثالث
في
المبادئ الأحكاميّة
فصل [١]
اعلم أنّ الشائع
عند القوم تقسيم الحكم إلى الشرعي والوضعي ، وهو يشعر بعدم دخول الثاني تحت الأوّل
، كما صرّح به جماعة .
والحقّ أنّ أحكام
الوضع كلّها داخلة في أحكام الشرع ؛ لأنّ كون الشيء سببا ـ ككون الوقت سببا لوجوب
الصلاة ـ أو شرطا ـ ككون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة ـ أو مانعا ـ ككون النجاسة
مانعة من صحّتها ـ إنّما هو بجعل الشارع ووضعه.
ولا نعني بالحكم
الشرعي إلاّ ما استفيد منه ، فيجب أن يعرّف الحكم الشرعي بحدّ يدخل فيه الحكم
الوضعي ، وقد عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو عن شيء ، وأصحّها ما ذكره بعض
المحقّقين وهو أنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء ، أو
التخيير ، أو الوضع .
ويمكن تصحيح الحدّ
بدون القيد الأخير ؛ نظرا إلى دخول الحكم الوضعي في الاقتضاء ؛ لأنّه لا معنى لكون
الزنى مثلا سببا للجلد إلاّ وجوبه عنده ، ولا معنى لكون الطهارة شرطا للصلاة إلاّ
جواز الدخول فيها عندها وحرمته دونها ، وكذا لا معنى لكون نجاسة المبيع مانعة من
بيعه إلاّ حرمة الانتفاع عندها. وقس عليه أمثاله.
__________________
ثمّ على ما ذكرنا
ينقسم الحكم الشرعي إلى الوضعي بأقسامها الآتية ، والخمسة المعروفة ، أعني :
الوجوب ، وهو
الحكم الذي يقتضي الفعل اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل
ذمّا أو عقابا.
وقولنا : « لا إلى
بدل » لإدخال الكفائي وكلّ واحد من أفراد المخيّر ، فلا ينتقض الحدّ بالركعتين
الأخيرتين من الصلوات الرباعيّة في المواضع الأربعة ، والزائد على الإصبع الواحدة في المسح ، وأمثالهما ؛ فإنّ المكلّف إن أتى
بها اتّصفت بالوجوب مع كون الفعل حينئذ متّصفا بالأفضليّة ،
وإن تركها وأتى بالركعتين والإصبع الواحدة مثلا ، يكون الركعتان والإصبع الواحدة
متّصفتين بالوجوب مع عدم الأفضليّة ، وتكونان بدلين عن الركعات الأربع والمسح
بالثلاث ، فما ترك لم يترك من غير بدل ، بل أتى به.
وقد عرّف الوجوب
بتعريفات أخر لا تخلو عن بعض النقوض ، أو المناقشات.
والصحيح ما ذكرناه
، وما في معناه.
والفرض مرادف
للوجوب عندنا ، خلافا للحنفيّة ؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الفرض ما ثبت بالقطعيّات ،
كالآيات القطعيّة ، والسنّة المتواترة. والوجوب ما ثبت بالظنّيات ، كأخبار الآحاد
وأمثالها .
ويظهر الفائدة
عندهم لو نذر أحد أن يؤدّي فريضة ، أو واجبا. وأمّا عندنا فلا يظهر فائدة ،
ويرادفهما الحتم ، واللزوم.
والحرمة ، وهو ما
يقتضي الترك اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله ذمّا أو عقابا ،
ويرادفها الحظر ، والزجر ، والعصيان ، والقبح.
والندب ، وهو ما
يقتضي الفعل اقتضاء غير مانع من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله مدحا
__________________
أو ثوابا ، ولا
يستحقّ تاركه ذمّا أو عقابا ، ويرادفه التطوّع ، والاستحباب ، والنفل ، والسنّة.
والكراهة ،
وتعريفها ظاهر بعد العلم بأنّه مقابل الندب.
والإباحة ، وهو
الحكم الذي لا يقتضي شيئا من الفعل والترك ، بل هما متساويان ، أو لا يستحقّ فاعله
وتاركه شيئا من المدح أو الثواب ، والذمّ أو العقاب ، ويرادفها الجائز ، والحلال.
اعلم أنّه ظهر من
التقسيم انحصار أقسام الحكم في الفعل دون الترك ، وقد صرّح به القوم أيضا.
واستدلّوا عليه :
بأنّ الترك أمر عدمي ، والتكليف لا يتعلّق بالمعدوم ؛ لأنّ المكلّف به لا بدّ أن
يكون شيئا يمكن إحداثه وتركه ، والمعدوم لا يقدر على إيجاده ؛ لاستلزامه تحصيل
الحاصل .
واورد عليه بأنّ
الفقهاء كثيرا ما يستعملون أقسام الحكم في الترك ، فيقولون : يستحبّ في الصلاة ترك
السود وترك الثوب الرقيق ، ويكره ترك الرداء للإمام .
واجيب : بأنّ
المراد من الترك في كلامهم إيجاد الضدّ ، أو توطين النفس عليه ، أو جعله مستمرّا.
فالمراد من استحباب ترك السود استحباب فعل يشتمل على ترك السود ، أعني لبس البيض
مثلا ، أو توطين النفس على الترك المذكور والعزم عليه بعد ما كان فارغ القلب عنه ،
أو الاستمرار على الترك المذكور والبقاء عليه. وحينئذ يكون متعلّق الحكم الفعل دون
الترك .
أقول : الحقّ أنّه
لا فرق في ورود الإيراد المذكور وجوابه بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو تركه ؛
لأنّه إن اخذ متعلّق الحكم الترك ، فلا بدّ في فعل الترك ـ أعني إيجاد نفس الترك ـ
إلى الجواب بأحد الوجوه المذكورة ، وفي تركه لا يحتاج إليه ؛ لأنّ ترك الترك هو
الفعل.
__________________
وإن أخذ متعلّق
الحكم الفعل ، فلا بدّ في تركه إلى الجواب بأحد الوجوه ؛ لأنّه أمر عدمي غير مقدور
عليه ، وفي إيجاده لا يحتاج إليه ، غاية ما في الباب أنّ إضافة الفعل والإيجاد
وأمثالهما إلى الترك ، وإطلاق ترك الترك على الفعل تجوّز ، وأمّا في ورود الإيراد
المذكور. فلا فرق في الواقع بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو الترك.
ثمّ إن اعتبر كون
[ متعلّق ] الحكم فعلا ـ على ما فعله القوم ـ لا يكون نقيض كلّ واجب
حراما وبالعكس ، ولا يكون نقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ؛ لأنّ كلّ واحد منها
أمر وجوديّ ونقيضه عدميّ ، فلا يدخل في الأحكام ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل عمّم [
متعلّق ] الحكم بحيث يشمل الفعل والترك ، يلزم أن يكون نقيض كلّ
واجب حراما وبالعكس ، ونقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ، كما يظهر من تعريفاتها
بعد عدم اعتبار كونها امورا وجوديّة.
وكلام القوم في
هذا المقام غير منقّح ؛ فإنّهم ذكروا أنّ كلّ فعل كان مستحبّا لا يكون تركه مكروها
، بل قد يكون وقد لا يكون. مثلا قالوا : الرداء مستحبّ لغير الإمام من المصلّين
وتركه ليس مكروها له ، ويستحبّ للإمام وتركه مكروه له ، مع أنّه إن اعتبر كون [
متعلّق ] الحكم فعلا وجوديا يجب أن لا يكون ترك حكم حكما مطلقا ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل كان شاملا للترك أيضا ـ وإن كان بأحد
التوجيهات المذكورة ـ يلزم أن يكون ترك كلّ واجب حراما وبالعكس ، وترك كلّ مستحبّ
مكروها وبالعكس ، كما يظهر من حدودها بعد حذف قيد الفعليّة.
هذا ، مع أنّه قيل
: المكروه مشترك بين ثلاثة معان : الحرام ، والمنهيّ بنهي تنزيه ـ وهو ما كان تركه
خيرا من فعله وإن لم يكن فيه عقاب ـ وترك الأولى كترك النافلة. وهذا الترك لا
يسمّى مكروها لكونه منهيّا عنه ، بل لكثرة الثواب في فعله .
__________________
ويظهر من كلام بعض
أنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، كما قال في تمهيد الاصول عند ذكر جواز كون الترك حكما : إنّ الفقهاء يقولون : يستحبّ ترك كذا وكذا ، إذا
كان فعله مكروها .
وهذا الكلام كما
ترى يشعر بأنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، فتأمّل.
وتلخيص إيرادنا
على القوم : أنّهم ذكروا أنّ ترك المستحبّ قد يكون مكروها ، وقد لا يكون ،
وبالعكس. وكذا في الواجب والحرام ، مع أنّه إن بني معرفة الأحكام على حدودها يلزم
كلّية الحكم إمّا إيجابا ؛ بناء على عدم الاعتبار المذكور ، أو سلبا ؛ بناء على
وجوده. وإن لم يبن معرفتها عليها ، بل على الأدلّة والقرائن الخارجيّتين ، يلزم
كون الحدود مختلّة.
وإن كان بناء
القوم على كلّيّة الحكم في البعض دون البعض ، مثل أن يقولوا : يكون ترك كلّ واجب
حراما ، وبالعكس ، ولا يقولوا بكون ترك كلّ مستحبّ مكروها ، وبالعكس ، يكون الأمر
أشنع ، والاختلال في كلامهم أظهر ، كما لا يخفى.
فصل [٢]
اعلم أنّه لمّا
كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن نفس الحكم ، والحاكم ، والمحكوم فيه ،
والمحكوم عليه. ومعرفة الحاكم كانت موقوفة على تحقيق الحسن والقبح حتّى يظهر
أنّهما بأيّ معنى شرعيّان حتّى يكون الحاكم فيهما هو الشارع ، وبأيّ معنى عقليّان
حتّى يكون الحاكم فيهما هو العقل. وهل التلازم بين الشرعيّين والعقليّين ، حتّى
كان الحاكم الشرع والعقل معا؟ جرت عادة القوم هنا بالبحث عن الحسن والقبح ،
وكونهما عقليّين أو شرعيّين.
وتنقيح هذا البحث
موقوف على بيان امور :
[
الأمر ] الأوّل : الحسن والقبح يطلقان على أربعة معان :
الأوّل : استحقاق
المدح والذمّ.
__________________
الثاني : صفة
الكمال والنقص.
الثالث : ملاءمة
الطبع ومنافرته.
الرابع : ما لا
حرج في فعله ، وما حرج فيه.
ولا خلاف في كون
المعاني الثلاثة الأخيرة عقليّة ، وإنّما وقع الخلاف في المعنى الأوّل.
فذهب الأشاعرة إلى
أنّهما بهذا المعنى شرعيّان ، ولا سبيل للعقل إلى إدراكهما ، بل موقوفان على أمر
الشارع ونهيه ، ولو أمر بالقبيح ينقلب حسنا ، ولو نهى عن الحسن ينقلب قبيحا .
وذهب المعتزلة إلى
أنّهما بهذا المعنى عقليّان ، إلاّ أنّ العقل يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها بهذا
المعنى بالضرورة ، وفي بعضها يدركه بالنظر ، وفي بعضها لا يدركه ؛ لقصوره وإن كان
عقليّا ، وهذا كالعبادات وكيفيّاتها وكمّيّاتها .
وهذا مذهب أصحابنا
، وهو الحقّ لوجوه :
منها : أنّ
استحقاق المدح على بعض الأفعال ـ كالإحسان وإغاثة المظلومين ـ والذمّ على بعضها ـ كالظلم
وإعانة الظالمين ـ بديهي ، وإنكاره سفسطة ، ولذا قال بهما وبأمثالهما منكر
والشرائع والنبوّات.
والظاهر أنّ إنكار
الأشاعرة في مقام الجدال وهم في حين الغفلة يعترفون به ، سيّما في مقام الموعظة
والنصيحة ، كما يظهر من كتاب إحياء العلوم وغيره من كتبهم .
وأيضا إنّهم
يقولون بالقياس والاستحسان ولا يتمّان بدون القول به.
ومنها : لو لم يكن
الحسن والقبح عقليّين ، لم يقبح من الله شيء. ويلزم منه ثلاثة محالات :
عدم قبح كذبه
تعالى ، فيرتفع الوثوق بوعده ووعيده ، ولا يمكن إثبات صدقه تعالى بالسمع ؛ لأنّ
ثبوته موقوف على صدقه تعالى.
وجواز أن يظهر
الله المعجزة على يد الكاذب ، فلا يعرف النبيّ من المتنبّئ.
وجواز نسبة
التثليث ، والكفو ، والولد ، وأمثالها إليه تعالى.
__________________
والقول بجريان
عادة الله بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، واه بعد ما ذهبوا
إليه.
ومنها : أنّه يلزم
حينئذ إفحام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد رؤية معجزته بتجويز تمكين الكاذب ، أو قبل رؤيتها إذا
طلب من المكلّفين الرؤية ولم يريدوها ؛ ووجه اللزوم ظاهر.
[
الأمر ] الثاني : استدلّ الأشاعرة على مذهبهم بأنّ أفعال العباد اضطراريّة ، وحينئذ ينتفي
الحسن والقبح العقليّان .
والجواب : منع
كونها اضطراريّة ، كما ثبت في محلّه.
وبقوله تعالى : ( وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ؛ حيث دلّ على أنّ التعذيب لا يكون قبل البعثة مع لزومه
قبلها على القول بالحسن والقبح العقليّين.
والجواب : أنّ نفي
فعليّة العذاب لا ينافي الاستحقاق ؛ لجواز العفو بدون البعثة. أو المراد نفي
التعذيب بالأوامر الشرعيّة بدون البعث دون ما يقتضيه العقل. أو المراد التعذيب
الدنيوي. أو المراد من الرسول العقل كما قيل . وبعض هذه الوجوه
وإن كان مخالفا للظاهر إلاّ أنّه يمكن إجراؤه في النقل الذي كان في الظاهر مخالفا
للقطعيّات العقليّة.
ويمكن أن يقال :
التعذيب على الوجوب والحرمة الشرعيّين دون العقليّين ، فالحسن والقبح العقليّان
يوجبان المدح والذمّ ، لا الثواب والعقاب ، وهما من مقتضيات الحسن والقبح
الشرعيّين ، إلاّ أنّ في هذا كلاما ستعرف إن شاء الله.
هذا ، مع أنّ
الشيعة يقولون : لا يخلو زمان عن حجّة ، فكلّ عصر يكون مسبوقا بالحجّة ، فالتعذيب
بسبب إدراك العقول يكون بعد البعثة البتّة ، ويتأتّى هذا القول على مذهب غير
الشيعة أيضا ؛ لأنّ آدم عليهالسلام رسول وهو سابق الأعصار كلّها .
__________________
واستدلّوا أيضا
بأنّ الحسن والقبح العقليّين ينفيان اختيار الله تعالى .
وجوابه بديهي.
[
الأمر ] الثالث : اختلف القائلون بالحسن والقبح العقليّين بأنّ الحسن والقبح هل هما ذاتيّان
للفعل ـ أي من مقتضيات ذات الفعل من حيث هي هي ـ أو يقتضيهما الأوصاف اللازمة
للفعل ، أو الوجوه والاعتبارات الإضافيّة العارضة له ، أو المقتضي لهما القدر
المشترك بينها وأعمّ من كلّ منها أي يختلف الأفعال في مقتضي حسنها وقبحها ، ففي
بعضها الذات ، وفي بعضها الأوصاف اللازمة ، وفي بعضها الاعتبارات الإضافيّة ؟
ويدلّ على بطلان
القولين الأوّلين : جواز النسخ. وصيرورة القبيح حسنا بالاعتبارات ، كالكذب إذا كان
فيه مصلحة ، وقد يجب إذا كان فيه إنقاذ نبيّ من القتل ، وكذا العكس. ولزوم اجتماع
النقيضين على القول بهما إذا قال : « لأكذبنّ غدا » ؛ لأنّه لو صدق أحد كلاميه ـ اليوميّ
، أو الغديّ ـ كان حسنا ؛ لصدقه ، وقبيحا ؛ لكذبه.
والمذهب الثالث
أيضا باطل ؛ لأنّا نعلم جزما أنّ بعض الأفعال حسن لذاته ، كمعرفة الله ، ولا يصير
قبيحا بوجه من الوجوه. وبعضها قبيح لذاته ، كالشرك والجهل وقتل الأنبياء ، ولا
يصير حسنا مطلقا.
فالحقّ : المذهب
الأخير.
[
الأمر ] الرابع : قد أشرنا إلى أنّ الحسن والقبح العقليّين غير الحسن والقبح
الشرعيّين ، فإنّ الواجب العقلي ما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والحرام
العقلي ما يستحقّ فاعله الذمّ. وقس عليهما المستحبّ والمكروه العقليّين.
والواجب الشرعي ما
يستحقّ تاركه العقاب وفاعله الثواب ، والحرام الشرعي ما يستحقّ فاعله العذاب.
__________________
والمطلوب هنا بيان
أنّ الوجوب والحرمة العقليّين هل يستلزمان الشرعيّين ، أم لا؟
وجه الاستلزام :
أنّ الحرام العقلي لا بدّ أن يكون مذموما عند كلّ عاقل وحكيم ، والواجب العقلي لا
بدّ أن يكون ممدوحا كذلك ، فالحرام العقلي لا بدّ أن يكون مكروها ممقوتا عند الله
، وهذا معنى استحقاق عذابه . وقس عليه الواجب العقلي.
وأيضا القطع بعدم
العقاب على المحرّمات العقليّة مستلزم لإغراء المكلّفين على القبائح ، وهو قبيح من
الله تعالى.
ووجه عدم
الاستلزام : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ ) إلى آخره ، والأخبار الدالّة على أنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البعث ، وما ورد من قولهم عليهمالسلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » .
وقد عرفت الجواب
عن الآية . ومنه يظهر الجواب عن الأخبار. فالحقّ الاستلزام.
ولو لا ذلك لم يكن
للعقل مدخليّة في إدراك أحكام الله تعالى مطلقا ، مع أنّه يمتنع الإدراك بدونه ،
كما لا يخفى.
نعم ، قد يغلط بعض
العقول ، والمناط العقل الصحيح ، فجميع الأحكام الشرعيّة موافقة لمقتضيات العقول
الصحيحة ، إلاّ أنّ عقول أمثالنا قاصرة عن إدراك جميعها ، وأحدهما مستلزم للآخر
وإن خفي في البعض على بعض العقول.
تقسيم
كلّ واحد من
الواجب والمستحبّ قد يوصف بكونه أداء ، أو إعادة ، أو قضاء ، أو تقديما.
فالأداء ما فعل في
وقته المقدّر له شرعا أوّلا ، ولم يسبق بآخر مشتمل على نوع من الخلل.
__________________
والإعادة ما فعل
ثانيا لخلل في الأوّل. وقيل : لعذر.
وفائدة هذا الخلاف
أنّ من صلّى منفردا ثمّ صلّى ثانية جماعة ، يصدق على صلاته الثانية أنّها إعادة
على الثاني ؛ لأنّ طلب الفضيلة عذر ، ولا يصدق عليها الإعادة على الأوّل ؛ إذ لم
يكن في صلاته الاولى خلل.
والقضاء ما فعل
بعد الوقت المذكور بأمر جديد ؛ استدراكا لما وجب سابقا على المستدرك أو مطلقا ،
فعبادة النائم والحائض بعد التيقّظ والطهارة قضاء على الثاني ؛ لسبق الوجوب في
الجملة ، وليست بقضاء على الأوّل ؛ لعدم وجوب شيء عليهما في حال النوم والحيض.
والحقّ الشقّ
الثاني ؛ لأنّ بعض أفراد القضاء سبق له وجوب على المستدرك ، وبعضها لم يسبق له
وجوب عليه ، والمناط ورود الأمر الجديد.
والتقديم ما فعل
قبله بإذن.
وفائدة قولنا : «
شرعا » في تعريف الأداء ظاهرة. وفائدة قولنا : « أوّلا » إخراج ما فعل في وقته
الثاني ، كقضاء رمضان ؛ فإنّ الوقت مقدّر له ـ أعني ما قبل رمضان الذي بعده ـ إلاّ
أنّه وقت ثان ، فلا يكون أداء بل قضاء ، وقيد الأخير لإخراج الإعادة ، وهذا بناء على أن يكون قولنا : « أوّلا » متعلّقا بالمقدّر ، وإن كان متعلّقا بقولنا :
« فعل » لا يحتاج التعريف إلى القيد الأخير ؛ لخروج الإعادة حينئذ من قولنا : « أوّلا ».
ثمّ بناء هذه التعريفات
على أنّ الأداء يجب أن يفعل في الوقت ابتداء ، والإعادة يجب أن يفعل في الوقت
ثانيا باعتبار وقوع الخلل في الأوّل ، فيتحقّق المباينة الكلّيّة بين المفهومات
الأربعة ؛ لعدم التصادق بينها.
وبعضهم اكتفى في
الأداء بوقوعه في الوقت مطلقا ، أي سواء فعل ابتداء أو ثانيا لخلل في الأوّل. وعلى هذا
يكون الإعادة قسما من الأداء ، ويتحقّق بينهما عموم وخصوص مطلقا.
__________________
وبعضهم لم يعتبر في الإعادة وقوعها في الوقت ، بل قال : هي ما يفعل ثانيا لخلل في
الأوّل ، سواء وقع في الوقت أو خارجه. وعلى هذا يكون بينها وبين كلّ من الأداء
والقضاء عموم وخصوص من وجه.
والحقّ أنّ بين
المفهومات الأربعة مباينة كلّيّة ، وكلّ واحد منها قسيم للبواقي ، كما ذهب إليه
الأكثرون .
وما قال بعضهم :
إنّ الإعادة قسم من الأداء في مصطلح القوم ، خطأ.
ويتفرّع على هذا
التقسيم فروع :
منها : أنّه إذا
أحرم رجل بالحجّ في عام ، ثمّ أفسده وحجّ في عام آخر ، يكون حجّه قضاء ويجب عليه
أن ينوي القضاء ؛ لأنّه بمجرّد إحرامه في العام الأوّل وجب عليه الحجّ مضيّقا في
هذا العام ، فيكون وقته المقدّر له ، فبعده ليس وقته.
واحتمل بعضهم كون
حجّه في العام الآخر أداء ؛ لأنّ المضايقة المذكورة ليست توقيتا حقيقيّا.
والحقّ الأوّل ،
كما ذهب إليه أصحابنا .
ومنها : إذا أحرم
بالصلاة في الوقت ثمّ أفسدها وأحرم بها ثانيا في الوقت وأتمّها ؛ فإنّها ـ على ما
ذكر ـ تكون قضاء ؛ لأنّه إذا أحرم بها ابتداء يتضيّق وقتها ، ولذا لا يجوز قطعها.
والحقّ أنّ
الإتيان بها ثانيا ليس قضاء ، كما ذكره بعض المحقّقين . وقس عليهما نظائرهما.
فصل [٣]
الحكم الوضعي
ينقسم إلى خمسة أقسام : السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحّة ، والبطلان.
__________________
والعلّة والعلامة
مردودتان إلى الأوّل ، والإجزاء وعدمه إلى الأخيرين.
والسبب لغة : ما
يتوصّل به إلى أمر ما . وعرفا قد عرّف بتعريفات أشهرها : ما يلزم من وجوده الوجود
، ومن عدمه العدم ، لذاته . فبالتلازم في الوجود يخرج الشرط ، وبالتلازم في العدم
يخرج المانع ، واحترز بالقيد الأخير عن مقارنة السبب لعدم الشرط ، أو وجود المانع
؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من وجوده الوجود ، لكن من حيث الذات مستلزم لذلك ، وعن قيام
سبب آخر مقامه ؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من عدمه العدم ، إلاّ أنّه من حيث الذات أيضا
مستلزم لذلك.
وتعريف السبب
بأنّه كلّ وصف ظاهر منضبط يكون معرّفا لإثبات حكم شرعي ، أو مناطا لوجوده ، يخصّ السبب الشرعي دون العقلي والعادي.
هذا ، والسببيّة
إمّا وقتيّة ، كزوال الشمس لوجوب الصلاة ؛ فإنّ لله عند الزوال حكمين : وجوب
الصلاة ، وسببيّة الوقت له.
أو معنوية ،
كالزنى لوجوب الجلد ، والإسكار للتحريم ، وجميع أسباب العقوبات والضمان والملك.
ثمّ الحقّ : ـ على
ما هو المشهور ـ أنّ عدم الشرط إذا قارن السبب لا يمنع السببيّة ، بل يمنع تنجيز
حكمه ؛ فإنّ المظاهر إذا علّق الظهار على دخول بلد مثلا ، فلا شكّ في أنّه يصدق
على الظهار عند عدم الدخول أنّه سبب للحرمة إلاّ أنّه لم يؤثّر بعد ؛ لعدم تحقّق
الشرط.
والشيخ على أنّ
المقارنة المذكورة تمنع السبب عن السببيّة .
وهو تكلّف ؛ فإنّ
تحقّق التأثير ليس معتبرا في مفهوم السبب ، بل هو معتبر في مفهوم الموجب. وبهذا
يفرّق بينهما.
__________________
وفائدة هذا الخلاف
أنّ البيع بشرط الخيار يصير سببا لنقل الملك في الحال ، والخيار إنّما أثّر في
تأثير حكم السبب ، أعني اللزوم.
وعلى قول الشيخ
يلزم أن لا يكون البيع بشرط الخيار سببا للنقل ؛ لأنّ البيع سبب له ، ولكن قارنه
عدم الشرط ، فيخرج عن السببيّة.
وقس عليه ما
يناسبه.
والشرط ما يلزم من
عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، لذاته ، ولا يشتمل على شيء من
المناسبة. فخرج بالأوّل المانع ، وبالثاني السبب ، وبالثالث يدخل الشرط إذا قارن
وجوده وجود السبب ، أو المانع ؛ فإنّه يلزم حينئذ الوجود أو العدم لكن لا لذات
الشرط ، بل لأجل السبب والمانع ، وبالرابع يخرج جزء العلّة.
والمانع ما يلزم
من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والقيد الأخير احتراز عن
مقارنة عدمه لوجود السبب ، أو عدم الشرط.
وتعريفه بـ « أنّه
كلّ وصف منضبط رافع لحكم شرعي » ، يخصّ المانع الشرعي.
ثمّ المانع إمّا
مانع للسبب ، كالابوّة بالنسبة إلى اشتراء الأب ، الذي هو سبب للتملّك ودوامه ، أو
مانع للحكم ، كالابوّة أيضا بالنسبة إلى قصاص الأب إذا كان قاتلا لابنه.
وأمّا الصحّة
والبطلان ، فإمّا أن يستعملا في المعاملات ، أو في العبادات.
ووقع الوفاق على
أنّ الصحّة في المعاملات ترتّب الأثر الشرعي ، ( والبطلان ما قابله. وهذا القسم من
الصحّة والبطلان ) هو الذي عدّ من أحكام الوضع ؛ فإنّ ترتّب الملكيّة ، وجواز
التصرّف على البيع ، واستيفاء المنافع على الإجارة إنّما هو بوضع الشارع وحكمه ،
ففي البيع الصحيح مثلا حكمان من أحكام الوضع : أحدهما : سببيّة البيع للملك.
وثانيهما : ترتّب الملك على ( البيع. وهما متغايران ؛ فإنّه يصدق على ) البيع أنّه سبب للنقل والملك وإن لم يترتّبا عليه ، فيظهر منه أنّ الصحّة
والبطلان خارجان عن حقيقة البيع.
__________________
وأمّا الصحّة في
العبادات ، فالمتكلّمون على أنّها موافقة أمر الشارع ، والبطلان ما قابله.
والفقهاء على أنّها ما أسقط القضاء ، والبطلان ما قابله.
وفائدة الخلاف في
الصلاة بظنّ الطهارة إذا ظهر خلافه ؛ فإنّها توصف بالصحّة على الأوّل دون الثاني.
والظاهر أنّ
التعريف الأوّل أقرب إلى الصواب ؛ لأنّ المراد ممّا أسقط القضاء في التعريف الثاني
إن كان أنّ له قضاء إلاّ أنّه أسقطه ، فينقض بصلاة العيد إذا كانت صحيحة ؛ فإنّه
ليس لها قضاء أصلا ، وبالنذر المطلق والقضاء نفسه ؛ وإن كان المراد منه أنّه لا
يوجب القضاء ـ سواء كان له قضاء وأسقطه ، أو لم يكن له في الواقع قضاء ـ فينتقض
بصلاة العيد إذا كانت فاسدة ؛ فإنّه ليس لها قضاء ، مع أنّه على التعريف يلزم أن يكون لها قضاء.
واورد على التعريف
الأوّل بأنّ الختان ـ مثلا ـ يوصف بكونه موافقا للشريعة مع عدم اتّصافه بالصحّة .
وفيه منع عدم
الاتّصاف.
والحقّ : أنّ
الصحّة والبطلان في العبادات بالمعنيين ليسا من أحكام الوضع ؛ لأنّ كون الفعل
موافقا لأمر الشارع ، أو غير موافق له ، أو تمام ما أمر به الشارع حتّى يكون مسقطا
للقضاء ، أو غيره ممّا يدركه العقل ، ولا يحتاج إلى وضع الشارع ، فلا يكون من
أحكام الوضع ، بل هو عقليّ محض.
نعم ، إن فسّر
الصحّة في العبادات أيضا بترتّب الأثر الشرعي ، والبطلان بما قابله ـ كما احتمله
بعض المحقّقين ـ أمكن القول بكونهما من أحكام الوضع.
ثمّ الحقّ ـ كما
ذهب إليه أصحابنا وأكثر العامّة ـ أنّ الفاسد
يرادف الباطل ، وخالف
__________________
الحنفيّة وقالوا :
الباطل هو غير المشروع من أصله ، كبيع الملاقيح. والفاسد هو غير المشروع في وصفه
دون أصله ، كالربا ، ولذلك قالوا : لو أسقط الزيادة صحّ البيع ، ولا يحتاج إلى
تجديد عقد .
فائدة
السبب قد يتقدّم
المسبّب تقدّما ذاتيّا ، ويقارنه زمانا ، كالزنى والشرب وأمثالهما.
وقد يتأخّر عن
المسبّب زمانا ، كيوم الجمعة بالنسبة إلى غسله في يوم الخميس ، والفجر بالنسبة إلى
أذانه ليلا ، ويوم الفطر بالنسبة إلى فطرته في شهر رمضان على قول ، والإحرام بالنسبة إلى غسله قبل الميقات إذا ظنّ فقد الماء.
قيل : وبعض
الأسباب ما فيه شكّ في المقارنة ووقوع المسبّب عقيبه ، كصيغ العقود والإيقاعات ؛ فإنّه يمكن أن يقال بمقارنة الحكم للجزء الأخير من الصيغة ، أو بوقوعه
عقيبه بغير فصل .
ويظهر الفائدة في
مواضع :
منها : لو زوّج
الكافر ابنه الصغير امرأة بالغة ، ثمّ أسلم الأب والمرأة معا ، فعلى مقارنة الحكم
للجزء الأخير فالنكاح يكون باقيا ؛ لتقارن إسلام الزوجين ، ومقارنة المسبّب ـ أعني
إسلام الصغير ـ للجزء الأخير من السبب ، أعني إسلام أبيه. وعلى الوقوع عقيبه ينفسخ
؛ لتقارن إسلام الأب والزوجة ، ووقوع إسلام الصغير عقيب إسلام الأب ، فيتحقّق
إسلام الزوجة قبل إسلام الصغير .
أقول : المراد
بوقوع المسبّب عقيب السبب إن كان التأخّر الذاتيّ ، فيرجع إلى الأوّل ،
__________________
أعني المقارنة.
وإن كان المراد منه التأخّر الزماني ، فغير مسلّم ؛ لترتّب الحكم على العقود ،
والإيقاعات ، والالتزامات بدون فصل زماني ، فالحقّ أنّ هذا البعض الذي ظنّ من المشكوك فيه ، يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه.
فصل [٤]
لا كلام في أنّ
الأحكام الخمسة لا تتعلّق بأفعال غير المكلّفين. وأمّا غيرها من الأحكام الوضعيّة
، فقد يتعلّق بأفعال غير المكلّفين ، كضمان الصبيّ ما يتلفه وما يجنيه على
الحيوانات. فعلى مغايرة الأحكام الوضعيّة للشرعيّة فلا إشكال ، وعلى ما اخترناه من دخول الحكم الوضعي تحت الشرعي ، يجب ارتكاب أحد من الأمرين :
إمّا القول بتعلّق
الحكم الشرعي بأفعال غير المكلّفين أيضا ، وإبدال « المكلّفين » في تعريفه بـ «
العباد » وأمثاله.
وإمّا القول بأنّ
الأحكام الوضعيّة المذكورة التي تعلّقت بأفعال غير المكلّفين خارجة عن القاعدة
باعتبار الدليل الخارجي ، ولا يتعدّى إلى غيرها.
وهذا هو الحقّ ؛
لأنّه لا شكّ في أنّ جميع الأحكام ـ وإن كانت وضعيّة ـ من باب التكليف ، وشرطه
الفهم وفاقا ، فلا يتعلّق بالصبيان والمجانين ، وأمثالهما من الغافل والساهي إلاّ
ما أخرجه الدليل ، فالصبيّ والمجنون إذا أتلفا مال غيرهما ، يتعلّق بهما الضمان
إلاّ أنّه لا يجب عليهما الأداء ؛ لأنّ الوجوب لا يتعلّق بهما اتّفاقا ، بل الوجوب
يتعلّق بوليّهما وبهما بعد الكمال.
ويعرف ممّا ذكر
أنّ وطء الشبهة لا يوصف بالحلّ والحرمة ؛ لأنّ فاعله الساهي ، وهو ليس بمكلّف ،
وهما يتعلّقان بأفعال المكلّفين.
__________________
تذنيب
قد يتداخل بعض
الأسباب ، كأسباب الوضوء أو الغسل. فإن نوى رفع واحد منها يرتفع الجميع ، ولا
يحتاج إلى نيّة رفع غيره. نعم ، إن نوى عدم رفع غيره يبطل.
والحقّ أنّ هذا
الحكم يعمّ أسباب الأغسال الواجبة والمسنونة.
ومنه موجبات
الإفطار في يوم واحد بالنسبة إلى التكفير ، والسرقات المتكرّرة مع عدم الظفر
بالسارق ، ومرّات الزنى بالنسبة إلى وجوب الحدّ ، وأسباب سجود السهو على رأي بعض
الأصحاب ، ومرّات وطء الشبهة بالنسبة إلى وجوب مهر واحد .
ثمّ الأصل عدم
تداخل الأسباب ؛ لأنّ العقل حاكم بأنّ كلّ سبب يجب أن يترتّب عليه منفردا مسبّبه ،
وكلّ علّة يجب أن يوجد معلوله وحدها إذا كانت مستقلّة في العلّيّة ، وإلاّ يلزم توارد العلل
على المعلول الواحد.
والقول بأنّ علل
الشرع معرّفات يجوز تواردها على معلول واحد ، كلام خال عن
التحقيق ؛ فإنّ الشارع إذا جعل أشياء أسبابا لأمر ، كلّ واحد منها مستقلّ في
سببيّته له ، فبعد حصول كلّ واحد منها يجب صدور مسبّبه على حدة وإن حصلت جميعا
دفعة ؛ لأنّ ذلك حكم السببيّة والمسبّبيّة ، ولا جهة للاكتفاء بواحد للجميع .
نعم ، يجوز
التخلّف في العلل الشرعيّة بدليل خارجيّ ، بخلاف العلل العقليّة ، فالأسباب
المذكورة التي وقع فيها التداخل لأجل الدليل الخارجي ، مثلا علّة تداخل أسباب
الوضوء أو الغسل أنّه لا معنى لارتفاع نفس الأحداث التي هي أسباب ، بل المرتفع
القدر المشترك
__________________
بين جميعها ، وهو
المنع من العبادة المشروطة بهما ، وارتفاع القدر المشترك يحصل بواحد مع نيّة
التقرّب من دون نيّة الرفع ، أو مع نيّة رفع واحد منها ، وقس عليهما غيرهما من
الأسباب المذكورة.
ثمّ وجد بالتصفّح
أنّ الأسباب بالنسبة إلى المسبّبات من حيث الوحدة والتعدّد على أربعة أقسام :
الأوّل : أن يتّحد كلّ واحد منهما ، كالقذف والحدّ.
الثاني : أن يتعدّد كلّ واحد منهما ، كعمّ هو خال ؛ فإنّه يرث نصيب العمّ والخال معا. ومنه ما إذا قتل واحد جماعة .
الثالث : أن يتّحد السبب ويتعدّد المسبّب ، إمّا مع اندراج بعض في
بعض كالزنى ؛ فإنّه باعتبار اشتماله على الملامسة ، كان اللازم أن يوجب التعزير
والحدّ معا ، إلاّ أنّ الأضعف يندرج تحت الأقوى ؛ وإمّا مع عدم الاندراج ، كالحيض
والنفاس والاستحاضة الكثيرة ؛ فإنّها توجب الغسل والوضوء ، وكتعمّد الإفطار في
رمضان ؛ فإنّه يوجب القضاء والكفّارة.
الرابع : أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب باعتبار التداخل ،
كالأسباب التي أشرنا إليها أوّلا. ولا يمكن أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب من دون
التداخل ؛ لأنّ السبب ما كان مستقلاّ في التأثير ، وفي الفرض المذكور لا يمكن أن
يتحقّق ذلك.
إذا عرفت هذا
التفصيل ، يلزم عليك أن تتفحّص في كلّ سبب ومسبّب يردان عليك حتّى تعلم أنّهما من
أيّ قسم من الأقسام الأربعة ، ولا إشكال إلاّ في معرفة تداخل الأسباب عند تعدّدها.
وقد عرفت أنّه
ينبغي أن يكون الأصل عندك عدم التداخل حتّى يظهر عليك خلافه بدليل خارجي ، مثلا
قيل : إذا نوى داخل المسجد صلاة فريضة أو نافلة راتبة ، تجزي عن
__________________
صلاة التحيّة . وقيل بإجزاء تكبيرة الإحرام عنها وعن تكبيرة الركوع إذا نواهما ، فنحن إذا تتبّعنا ولم نجد دليلا على الإجزاء ، نقول بعدمه في الصورتين ،
لكنّ الإجزاء في الثاني مرويّ ، ولذا حكم به الشيخ .
فائدة
قد حكم بعض
الأصحاب بأنّه إذا اجتمع أسباب الوجوب في مادّة واحدة يجزي نيّة الوجوب ، ولا يجب
التعرّض للخصوصيّات ، كما إذا نذر الصلاة اليوميّة ، أو الصوم الواجب عليه ،
أو الحجّ كذلك وإن اشتمل نذره على هيئة زائدة ، كما إذا نذر إيقاع الصلاة في أوّل
وقتها ، أو في مكان خاصّ له رجحان ، أو قراءة سورة معيّنة في صلاته ؛ لأنّ الوجوب الأصلي صار بسبب النذر متشخّصا بهذا التشخّص الزماني ، أو المكاني ،
أو الكيفي.
وهذا القائل قد
حكم بأنّه يجب أن نتعرّض في النيّة لمشخّصات الفعل عن غيره كجنسه ، وفصله ،
وخواصّه المميّزة. ففي صلاة الظهر ـ مثلا ـ يجب التعرّض للصلاة ، والظهر ، والوجوب
.
وعلى هذا يشكل
الاكتفاء في الفرض المذكور بنيّة الوجوب فقط من غير التعرّض للخصوصيّات.
والحقّ : أنّ
التعرّض للوجه في النيّة ليس بلازم ، إنّما اللازم أن يتعرّض في النيّة لما يشخّص
الفعل ، ويمتاز به عن غيره.
وغير خفيّ أنّ
الجنس ـ أعني كونها صلاة مثلا ـ والفصل ـ أعني كونها صلاة نذر أو ظهر
__________________
مثلا ـ من
المشخّصات ، فينبغي التعرّض لهما في النيّة. اللهمّ إلاّ إذا وقعت في وقت لم يشرك فيه غيرها على ما حكم به بعض المتأخّرين .
وإذا كان التعرّض
للفصل لازما ، فكيف يحكم بالاكتفاء بنيّة الوجوب فقط في الفرض المذكور من دون
التعرّض للظهر والنذر؟!
نعم ، الحقّ أنّ التعرّض للظهر كاف فيه ، ولا يحتاج إلى التعرّض لكونه نذرا ؛
لأنّ السبب الثاني ـ أعني النذر ـ لم يوجب شيئا لم يجب بالسبب الأوّل ، بل الواجب
بالنذر ما كان واجبا أوّلا ، ولم يكن غرض الناذر في نذره إلاّ إيقاعه البتّة.
ويمكن أن يقال :
غرض القائل المذكور من نيّة الوجوب نيّة الظهر مع الوجوب ، فتأمّل.
ضابطة
السبب إمّا قولي ،
أو فعلي. والثاني إمّا منصوص من الشارع بالسببيّة ، كالزنى وأمثاله. وإمّا غير
منصوص منه بالسببيّة ولكن يكون قائما مقام أحد الأوّلين إذا دلّ عليها القرائن الحاليّة ، أو المقاليّة ، كتقديم الطعام إلى الضيف ،
فلا يحتاج إلى الإذن الصريح ، وتسليم الصدقة إلى الفقير ، والهديّة إلى المهدى
إليه. ومنه جوائز الملوك واولي الخطر ، والتقبيل ، والوطء ، واللمس بالشهوة في
عدّة الطلاق الرجعي ، وقس عليها أمثالها.
ومن الأسباب
الفعليّة غير المنصوصة الإرادة ، والمشيّة ، والمحبّة ، والكراهة ، والحسد ،
وأمثالها من الامور القلبيّة. فلو علّق ظهار زوجته على إضمارها بغضه وأمثاله
فادّعته ، صدّقت ؛ لأنّ قولها مقبول في أمثال ذلك. نعم ، إن ادّعى عليها التهمة
يحلفها.
وقس عليه أمثاله
من التعليقات والأيمان.
__________________
فصل [٥]
لو علّق حكم على
سبب أو شرط متوقّعين ، وكان الحكم بحيث يختلف وقت التعليق ووقت وقوعهما ،
فالحقّ اعتبار الحكم في وقت الوقوع ؛ لأنّ غرض المعلّق أن يقع الحكم في وقت الوقوع
لا قبله ، فيجب كون الحكم ممّا يقتضيه ذلك الوقت لا الوقت الذي قبله.
والفروع لهذه
القاعدة كثيرة :
منها : أنّه إذا
أوصى بثلث ماله ، فالاعتبار بثلث ماله يوم الوفاة دون وقت الوصيّة.
ومنها : إذا نذر
بثلث ماله مثلا ، فإن كان نذره مطلقا ، فالمعتبر وقت النذر ، وإن كان معلّقا على
شرط ، فالمعتبر على ما اخترناه وقت وقوع الشرط.
ومنها : لو نذر
عتق عبده عند شرط ، فوقع الشرط في وقت المرض ، فيلزم اعتباره من الثلث.
وأمثال هذه الفروع
كثيرة. وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة.
تتميم
قد يترتّب بعض
الأحكام على أسباب يمكن اعتبارها في الحال وفي المآل. والحكم المترتّب على أحد
الاعتبارين يخالف الحكم المترتّب على الآخر ؛ لأنّ مقتضى السبب الموجود في الحال
يخالف مقتضى السبب الموجود في المآل. ولم نعثر على مرجّح لهذا الأصل في كتب
الاصول.
وله فروع منتشرة
في الكتب الفقهيّة ، وفي بعضها رجّح الاعتبار الحالي ، وفي بعضها المآلي.
ولا يخفى أنّ ما
يقتضيه ( النظر اعتبار الحال ؛ لأنّ كلّ ما يفعل في وقت يجب أن يكون ممّا يقتضيه
السبب الموجود فيه ، والإعراض عنه والأخذ بما يقتضيه ) السبب الكائن بعد
__________________
ذلك غير معقول ،
إلاّ أنّ بعض الأحكام نظر فيها إلى المآل ، إمّا لنصّ ، أو لأدلّة أخر ، أو لكون
المآل معتبرا في نظر المرجّح.
وكيفيّة التفريع :
أنّ الدهن النجس إذا قلنا بقبوله الطهارة ، لا يجوز بيعه ؛ لكونه من مقتضيات السبب
الموجود في الحال ، ومن اعتبر السبب الموجود في المآل يجب أن يقول بجواز بيعه.
وكذا الحكم في الماء النجس ، وقد اعتبر فيه المآل بعض الأصحاب . وحكم الأصحاب بجواز بيع السباع ؛ نظرا إلى جواز الانتفاع بجلودها ، وهو
من اعتبار المآل ، إلاّ أنّ له أدلّة خارجيّة . ولا يجوز بيع
الآبق والضالّ بدون الضميمة ؛ نظرا إلى الحال.
ولو ظهر فقدان
المسلم فيه قبل حلول الأجل ، ففي تنجيز الخيار وتأخيره خلاف ؛ نظرا إلى الاعتبارين.
ولو عيّن المسلم
موضعا لقبض المسلم فيه فيه ، فخرب أو خرب موضع العقد عند الإطلاق ، فهل يتعيّن
الحمل إليهما ؛ نظرا إلى الحال ، أو لا ؛ نظرا إلى المآل؟ ولو كان دين الغارم
مؤجّلا ، فهل يجوز له أخذ الزكاة قبل حلوله؟ ففيه الوجهان. وأنت تعرف الحقّ فيها
وفي أمثالها ممّا يرد عليك بعد ما علمت حقيقة الحال.
فصل [٦]
زاد بعض الاصوليّين في الحكم الوضعي الرخصة ، ومقابلها العزيمة.
والرخصة لغة : التسهيل. وعرفا : الحكم الثابت مع قيام ما يقتضي المنع ، لعذر المشقّة
والحرج.
__________________
والعزيمة لغة : القصد المؤكّد. وعرفا : الحكم الثابت لا لعذر المشقّة والحرج.
فمباح الأصل ليس
رخصة ؛ لأنّ جواز فعله ليس لأجل المشقّة والحرج.
وما قيل في تعريف
العزيمة : بأنّها الحكم الثابت لا مع قيام المقتضي للمنع ، يرد عليه : أنّ مطلق التكليف عزيمة مع قيام المقتضي للمنع ، وهو الأصل ؛ فإنّ الأصل عدم التكاليف. ويمكن التوجيه بعناية ، فتأمّل.
وقيد الأخير في
تعريف الرخصة لإخراج التكاليف كلّها ؛ فإنّها أحكام ثابتة ، وفي بعضها ـ بل في
كلّها ـ قام ما يقتضي المنع ؛ لأنّ جميع التكاليف على خلاف الأصل ، لكنّ ثبوتها
ليس لأجل المشقّة والحرج.
ثمّ إنّ الرخصة
إمّا واجبة ، كوجوب أكل الميتة للمضطرّ. أو مندوبة ، كتقديم غسل الجمعة لخائف فقد
الماء ، أو مكروهة ، كالتقيّة في المندوبات مع خوف الالتباس على العوامّ ، وعدم
ظنّ الضرر. أو مباحة ، كاستعمال الأحجار في الاستنجاء مع وجود الماء بالشروط
المعلومة ، وما ورد فيه الرخصة من المعاملات المخالفة للأصل ، كبيع العرايا وأمثاله.
وقد يقع الاشتباه
في بعض المواضع. وبعد ما عرفت الفرق لا يلتبس حقيقة الحال عليك.
وممّا وقع فيه
الإشكال القصر في السفر ؛ فإنّه عزيمة عند أصحابنا مع أنّ تعريف الرخصة يصدق عليه ، والآية الشريفة أيضا تدلّ على ذلك. وبيّن الأصحاب عذرهم في ذلك في كتبهم الاصوليّة
والفروعيّة .
وزاد بعض آخر في
خطاب الوضع التقدير ، وهو أن يقدّر المعدوم كالموجود أو
__________________
بالعكس لتصحيح
الحكم الشرعي ؛ فإنّه لو لم يرتكب ذلك في بعض الموارد يلزم الإشكال. مثلا : ورثة
المقتول يورّثون الدية عنه ، وشرط التوريث دخول ما يورّث في ملك المورّث ، مع أنّ
الدية لم تدخل في ملكه في حياته ؛ لعدم جواز تقدّم المسبّب على السبب ، ولا معنى
لدخولها في ملكه بعد موته ، فيقدّر دخولها في ملكه قبل موته في آن لتمكّن التوريث
، فقدّر المعدوم موجودا.
ومن هذا القبيل
جميع ما يسمّى بالملك الضمني ، كما إذا اشترى رجل أباه ، فإنّه يقدّر دخوله في
ملكه في آن ، ثمّ يعتق عليه.
ومنه ما إذا قال
لغيره : « أعتق عبدك عنّي » أو « أدّ من مالك ديني ». وليس هذه الامور من باب الكشف
بمعنى أنّه يتبيّن بعد تقدّم الملكيّة ؛ إذ ذلك مستلزم لتقدّم سبب الملكيّة ، وهنا
لم يتحقّق سبب أصلا.
فصل [٧]
لا شبهة في أنّ
المندوب ليس بتكليف ؛ لأنّه من الكلفة ، أي المشقّة ، وما ليس فعله لازما ليس فيه
مشقّة. واشتماله على المشقّة إذا فعل لتحصيل الثواب ، لا يستلزم كونه شاقّا مطلقا.
ويظهر الفائدة إذا قال بعنوان النذر أو اليمين وأمثالهما : « عليّ أن أؤدّي تكليفا
».
قد اختلف في كونه
مأمورا به ، والحقّ أنّه ليس بمأمور به حقيقة ؛ لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فما
ليس واجبا ليس بمأمور به ، ولأنّ خلاف الأمر معصية ، كما يدلّ عليه الآية والأخبار ، ومخالفة الندب ليست كذلك ؛ ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ، لأمرتهم بالسواك » . وحمل القول بأنّ المعصية في مخالفة الأمر الإيجابي ؛ وحمل الأمر في قوله عليهالسلام عليه أيضا ، تخصيص من غير
دليل.
__________________
واستدلّ المخالف :
بأنّه طاعة ، وهي فعل الأمور به. وبأنّ أهل اللغة مصرّحون بأنّ الأمر ينقسم إلى
الإيجاب والندب ، والمقسم مشترك بين الأقسام .
والجواب : منع كون
كلّ طاعة مأمورا بها حقيقة ، وكذا كون كلّ مقسم حقيقة في أقسامه ، بدليل كون
الإباحة والتهديد من أقسامه مع كون الأمر فيهما مجازا بالاتّفاق.
ويظهر فائدة
الخلاف فيما إذا نذر أو حلف أن يأتي بصلاة مأمور بها ، فهل يبرأ ذمّته بالنوافل ،
أم لا؟ وقد عرفت الحقّ .
ثمّ الكلام في كون
المكروه تكليفا ومنهيّا عنه كالكلام في كون المندوب تكليفا ومأمورا به ، والأدلّة
التي تجري في عدم كون المندوب تكليفا ومأمورا به تجري في عدم كون المكروه تكليفا
ومنهيّا عنه.
ثمّ إنّك قد عرفت
فيما سبق أنّ المكروه يطلق على ثلاثة معان : من جملتها الحرام ،
فهذان الحكمان للمعنيين الأخيرين له ؛ لكون الحرام تكليفا ومنهيّا عنه جزما.
وكيفيّة التفريع
كما عرفت في المندوب.
فصل [٨]
اعلم أنّ المباح
يطلق على معان :
منها المأذون فيه شرعا ، مباحا كان ، أو واجبا ، أو مندوبا ، أو
مكروها.
ومنها ما لا يمتنع عقلا ، لازما كان ، أو راجحا ، أو متساوي
الطرفين.
ومنها ما استوى فيه الطرفان شرعا ـ وهو الذي عدّ من الأحكام
الخمسة ، وقسيما للواجب ـ أو عقلا ، كأفعال غير العقلاء.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّه نقل عن بعض الاصوليّين القول بكون المباح جنسا للواجب ؛
__________________
مستدلاّ بأنّ
حقيقة المباح المأذون فيه في الفعل ، وهو حاصل في
الواجب.
وأورد عليه ابن
الحاجب : بأنّ حقيقته ليس ما ذكر فقط ، بل هو جنسه ، وفصله « مساوي الطرفين » وهو
لم يوجد في الواجب .
وغير خفيّ أنّ
العاقل لا يقول : إنّ المباح الذي هو من أقسام الحكم وقسيم للواجب جنس له ،
فالظاهر بل الجزم أنّ غرض القائل من المباح الذي جعله جنسا للواجب ، هو المباح
بالمعنى الأوّل الذي ذكرناه ، والمورد حمل المباح في كلامه على المعنى الثالث. وليت
شعري ما الداعي له مع أنّه عدّ المعنى الأوّل من جملة معاني المباح؟
إذا عرفت ذلك تعلم
أنّه إذا اطلق المباح في كلام الشارع وغيره يكون مشتركا بين المعاني المذكورة ،
إلاّ أنّ المتبادر والفرد الأظهر منها المعنى الثالث منها ، فيجب الحمل عليه. وكذا
الأمر في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.
ثمّ الحقّ أنّ
الإباحة حكم شرعي ، كما ذهب إليه القوم أجمعون .
وخالف بعض
المعتزلة وقال : الإباحة ما لا منع في فعله وتركه ، وهذا ثابت في الأفعال قبل بعثة
الشرع ، فلا معنى لكونه حكما شرعيّا .
والجواب : أنّ
الإباحة قسمان : أحدهما شرعيّة ، وهو ما تعلّق خطاب الشرع بكونه مباحا. وثانيهما غير
شرعيّة ، وهو الذي كان ثابتا للأفعال قبل بعثة الرسل ، والإباحة
التي من الأحكام الشرعيّة هو القسم الأوّل دون الثاني ؛ فإنّه ليس إباحة شرعيّة.
تذنيب
أجمع القوم على
أنّ المباح أي ما استوى فيه الطرفان موجود وليس بمأمور به ؛ لأنّ الأمر طلب وهو
يستلزم الترجيح ، وما استوى فعله وتركه ليس فيه ترجيح.
__________________
وأنكر الكعبي
المباح بالمعنى المذكور وقال : كلّ مباح إمّا واجب بعينه ، أو مقدّمة له ، وهي
أيضا واجبة.
واستدلّ على وجوبه
: بأنّه إمّا عين ترك الحرام ، كإطباق الفم ، فإنّه ترك القذف. أو مقدّمة لتركه ،
كالكلام وإطباق الفم لترك شرب الخمر ؛ فإنّه لا يتمّ إلاّ بهما أو بأمثالهما من
الامور المباحة ، وترك الحرام وما لا يتمّ ترك الحرام إلاّ به واجب .
وقد ذكر القوم
لإبطال استدلاله وجوها :
منها : أنّه يلزم
أن يكون واجب ـ كالصلاة مثلا ـ حراما ، إذا صار فعلها سببا لترك واجب ؛ لأنّ سبب
الحرام حرام ، فيكون الشيء الواحد حراما واجبا .
ولا يخفى ما فيه ؛
لإمكان أن يلتزمه بالاعتبارين.
ومنها : أنّ
المسلّم وجوب المقدّمة الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة .
ولا يخفى ما فيه
أيضا ؛ لما سيجيء .
ومنها : أنّ قوله
: « المباح [ ما ] لا يتمّ الواجب إلاّ به » غير
مسلّم ؛ لأنّه غير معيّن ؛ لإمكان الحصول بغيره .
وفيه : أنّ هذا
ينفي الوجوب العيني ، ويثبت التخييري ، وهو كاف.
ويمكن أن يحرّر
هذا الجواب بوجه لا يرد على القوم شيء ، بأن يقال : إذا بني الأمر على وجوب
المقدّمات الشرعيّة والعقليّة ، فلا بدّ أن يقال : إذا كان شيء حراما وكان واجب
الترك ، لا يتحقّق هذا الترك إلاّ في ضمن واحد من الامور المباحة ، وليس واحد منها
معيّنا له ، بل كلّ واحد منها يصلح له ، فالمقدّمة للترك أمر كلّي مشتمل على أفراد
كثيرة ، وكلّ واحد منها مباح عينا ، وإن كان فردا لمفهوم كلّيّ هو واجب يمكن أن
يتحقّق في ضمنه ،
__________________
وبذلك يكون من
أفراد الواجب التخييري. وغرض القوم ليس إلاّ إثبات المباح عينا ، ولا يضرّهم
اتّصافه بالوجوب من جهة اخرى ، سيّما وقد بلغت كثرة الأفراد لأكثر المقدّمات
الواجبة إلى حدّ اضمحلّ الوجوب بالنسبة إلى كلّ فرد منها.
هذا ، وفوق ذلك
كلام ، وهو إنّ كلّ واحد من الامور المباحة ليس في كلّ وقت من أفراد الواجب التخييري
، بل إذا حصل به ترك الحرام. فكلّ واحد منها مباح عينا ، وقد يتّصف بالوجوب
باعتبار عارض ، وهذا جائز ؛ فإنّ القبيح قد يصير حسنا وبالعكس بسبب خارج ، فالمباح
الذي حصل به ترك الحرام يكون واجبا من هذه الجهة ، فإذا تعرّض بعده لمباح آخر ـ لم
يحصل به ترك الحرام ، ولكن كان بحيث لو لم يعمل المباح الأوّل لحصل ترك الحرام به
ـ لا يكون واجبا ، مثلا إذا أطبق الفم لترك شرب الخمر ، يكون واجبا من باب
المقدّمة. ثمّ إذا وضع اليد على الفم لا يكون واجبا ؛ لعدم كونه من المقدّمة.
ويعلم من هذا أنّ
هذه المباحات لا تتّصف بالوجوب إذا لم يكن فعلها لأجل ترك الحرام ، بل فعلت في وقت
لم يسبق بإرادة الحرام ، بل لم يخطر بباله أيضا. كيف؟ وفي هذه الحالة ليست مقدّمات للواجب الحقيقي ؛ لأنّ عدم الحرام ـ من دون كفّ النفس عنه وقصد
استمراره مع خطوره بالبال ـ لا يتّصف بالوجوب ، وإلاّ لزم أن يثاب كلّ إنسان في
كلّ وقت بعدم صدور كلّ محرّم عنه ، وهو باطل ، فجميع المباحات مباحة عينا في كلّ
وقت ، ومن شأنها أن تتّصف بالوجوب باعتبار عارض ، وقد تتّصف بالفعل إذا حصل العارض
، كما أنّ من شأن جميع القبائح أن تتّصف بالحسن في بعض الأوقات بسبب عارض ، وقد تصير
حسنة بالفعل وبالعكس ، وليس حال أفراد الواجب التخييري كذلك ، بل هي متّصفة
بالوجوب مع قطع النظر عن عارض وسبب خارجي ، فتأمّل.
ثمّ فوق هذا أيضا
كلام ، وهو أنّ شيئا من المباحات ليس مقدّمة لترك الحرام ، ولا فردا منه ؛ لأنّ
الترك هو الكفّ ، ولا دخل له بالامور المباحة. نعم ، هي مقارنة له كباقي الأحكام. مثلا
ترك الحرام هو الكفّ عن شرب الخمر ، ولا دخل له بإطباق الفم أو الكلام أو
أمثالهما.
__________________
فإذا حصل منع
النفس عن الشرب حصل ترك الحرام ، ولا يتوقّف على شيء من حالات الفم. نعم ، يقارن
الترك بعض هذه المباحات ، إلاّ أنّه لا يتوقّف عليها ، فأحسن التدبّر.
فصل [٩]
قد أشرنا فيما
تقدّم أنّ من معاني الحسن والقبح ما لا حرج في فعله ، ومقابله.
وعلى هذا يكون كلّ من المباح والمكروه حسنا.
ويتفرّع عليه
براءة ذمّة من حلف على فعله بإيقاعهما.
والإحسان لا يشمل
فعل المباح والمكروه ، بل يختصّ فعل الواجب والمستحبّ.
والحقّ ، أنّ
المحسن فاعل الإحسان ، ولا يشمل فاعل الحسن كما قيل . فمن قال : « عليّ أن أفعل فعل المحسنين » لا يبرأ ذمّته بفعل المباح
والمكروه. ولا يرتفع الضمان على قاطع يد الجاني قصاصا إذا مات ؛ نظرا إلى أنّه فاعل الحسن
، أي المباح ، وقد قال الله : ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ).
نعم ، يتسلّط
المنفق على الحيوان إذا كان ملتقطا أو مستودعا على الرجوع إلى
المالك ؛ لكونه محسنا. ويقبل قول الوكيل في الردّ إذا لم يكن وكالته بجعل ؛ لأنّه
محسن أيضا.
وقس عليهما
أمثالهما.
فصل [١٠]
الواجب العيني ما
طلب من كلّ واحد من المكلّفين بخصوصه ، ولا يسقط عن بعضهم بفعل بعض آخر.
والكفائي ما وجب
على الجميع ولكن يسقط عنهم بفعل البعض.
__________________
وأنكره بعض
الشافعيّة وقالوا : إنّه لا يجب على الكلّ ، بل على بعض مبهم .
ويدفعه الإجماع
على تأثيم الجميع بالترك.
واستدلّوا عليه
بوجوه ثلاثة :
أوّلها : لو وجب على الجميع ، لم يسقط بفعل البعض.
والجواب : أنّ هذا
مجرّد استبعاد.
وثانيها : أنّ آية النفر تدلّ على وجوبه
على بعض مبهم.
والجواب : أنّ
الآية مأوّلة بأنّ فعل بعض يسقط عن الكلّ ؛ ودليل التأويل الإجماع.
وثالثها : أنّه كما يجوز الأمر ببعض غير معيّن ، يجوز أمر بعض غير
معيّن.
والجواب : أنّ
الفرق بينهما واضح ؛ فإنّ التأثيم بغير المعيّن معقول ، وتأثيم غير المعيّن غير
معقول.
ثمّ السقوط عن
الجميع موقوف على العلم بفعل البعض ، أو على الظنّ الشرعي به ، ولو حصل أحدهما
لطائفة دون اخرى سقط عن الاولى دون الثانية. فإذا أخبرنا بموت أحد ، فسقوط صلاته
عنّا موقوف على القطع بوقوع الصلاة عليه ، أو على شهادة العدلين عليه ، أو على خبر
واحد محفوف بالقرائن ، فلو أخبر واحد به لا تسقط عنّا بمجرّده.
ويتفرّع عليه أيضا
: عدم السقوط عنّا إذا صلّى فاسق على الميّت بحضرتنا ؛ لأنّه لا بدّ من الظنّ
الشرعي بإيقاع أفعال الصلاة صحيحة ، وإخبار الفاسق في ذلك غير مقبول. وقس عليه
صلاة ما فوق الواحد مع فقد العدالة.
ومن التفريعات :
أنّه إذا شرع بعض في صلاة الميّت ، وفي الأثناء شرع بعض آخر فلا بدّ له من نيّة
الوجوب ؛ لعدم السقوط بعد. ولو تمّ صلاة البعض الأوّل ثمّ شرع بعض آخر ، فالظاهر
لزوم نيّة الندب ؛ لعدم تعقّل الوجوب مع السقوط.
وقيل : إنّ وظيفته
أيضا الوجوب ؛ لأنّه متعلّق بالجميع ، والسقوط بفعل البعض
__________________
للتخفيف ، وهو لمن
لم يفعل مطلقا .
وفيه ما فيه.
ويجري هذا الخلاف
في باقي الفروض الكفائيّة ، كجواب السلام ، والأمر بالمعروف ، وغيرهما.
وممّا يتفرّع على
الوجوب الكفائي كونه أفضل من فرض العين ، على ما ذكره بعض المحقّقين ؛ لأنّ صيانة
جماعة كثيرة أفضل من صيانة نفس واحدة .
ولا يخفى أنّ هذا
صحيح إذا استند الأفضليّة إلى إسقاط الذمّ ، وأمّا إذا اسند إلى زيادة الثواب فلا
يتمّ ؛ لأنّ كلّ من تعلّق به الوجوب الكفائي لا يثاب بفعل البعض ، بل يسقط منه
الحرج ؛ والثواب مخصوص بالفاعل. وغير خفيّ أنّ إسقاط الذمّ أيضا من الكثير يكفي ؛
لكونه أفضل وأكثر ثوابا.
ثمّ المستحبّات
أيضا قد تكون كفائيّة ، كالأذان والإقامة للجماعة الواحدة ، وابتداء السلام ،
وتسميت العاطس لها . وبعض التفريعات جارية هنا أيضا.
فصل [١١]
الواجب المعيّن ما
تعلّق الوجوب به بخصوصه ، كالصلاة ، والصوم ، وأمثالهما.
والواجب المخيّر
ما عيّن له الشارع بدلا من غير نوعه اختيارا.
وبالقيدين
الأخيرين يخرج الموسّع والكفائي ، والغسل والوضوء إذا لم يمكنا.
وتحقيق المقام :
أنّ المأمور به في الواجب التخييري أمر كلّي له أفراد متعدّدة ، أيّها حصلت في الخارج ، يكون الكلّي في ضمنها ؛ فالمأمور به في
الكفّارة إحدى الخصال
__________________
الذي هو قدر مشترك
بين جميعها ، وأيّتها وجدت يتحقّق القدر المشترك فيها ، فلا يجب فعل كلّ واحد من
الأفراد ؛ لتحقّق المأمور به بدونه ، ولا فعل واحد معيّن منها ؛ لعدم تعلّق الوجوب
به بخصوصه ، ولا يجوز الإخلال بكلّ واحد منها لا إلى بدل ؛ لعدم تحقّق المأمور به
حينئذ ؛ فالواجب حينئذ واحد منها لا على التعيين. فالتخيير حينئذ بين الأفراد ،
بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين كلّ واحد منها وبين الأفراد الأخر ، وأيّها فعل كان
واجبا بالأصالة ، ولا يتخيّر بين المأمور به الذي هو القدر المشترك والمفهوم
الكلّي ؛ لأنّه أمر واحد لا تعدّد فيه حتّى يعقل التخيير فيه. وهذا هو الذي اختاره
أصحابنا ورؤساء المعتزلة .
والدليل عليه
الإجماع ، والتنصيص عليه في موارد مخصوصة ، وهي لا تحتمل سوى التخيير ؛ لأنّه إذا
قال رجل لغيره : « افعل أحد هذين ، واختر أيّهما شئت ، ولا يجوز لك تركهما معا ،
ولا يجب عليك فعلهما معا » لا يفهم منه سوى التخيير بالمعنى الذي ذكرناه.
وذهب الأشاعرة إلى
أنّ الواجب واحد غير معيّن يتعيّن بفعل المكلّف . والظاهر ـ كما قال الإمام الرازي ـ إنّ هذا راجع
إلى مذهب التخيير ، فلا نزاع معنى. ولو أرادوا غيره ، فلا ريب في بطلانه.
وقال بعض المعتزلة
: الواجب هو الجميع ، ولكن يسقط بواحد .
ويدلّ على فساده
أنّه لو وجب الجميع ، لكان اللازم الإتيان به ، ولم يبق للتخيير حينئذ معنى. ولا
أدري من أين يفهم من موارد التخيير وجوب الجميع وإسقاطه بواحد ؛ فإنّه لا دلالة
عليه بواحدة من الثلاث.
وقال بعض : إنّ
الواجب واحد معيّن ، لكن يسقط به وبكلّ واحد من الأفراد الأخر .
__________________
وظهر بطلانه ممّا
ذكرنا.
وهنا مذهب آخر
ينسبه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة إلى الآخر ، واتّفقا على بطلانه ، وهو أنّ الواجب
واحد معيّن عند الله ، مبهم عندنا .
ووجه ظهور سخافته
: أنّ الواجب إذا كان معيّنا عند الله ، فلا معنى لأن يخيّر عباده بينه وبين غيره.
ثمّ اورد على مذهب التخيير بأنّه لا معنى لتعلّق التكليف بالمبهم ؛ لاستحالة إيقاعه.
والجواب ـ كما
أشرنا إليه ـ : أنّ التكليف إنّما تعلّق بالمعيّن ، وهو الأمر الكلّي
الصادق على كلّ واحد من الأفراد ، وكون الواحد المبهم واجبا إنّما هو لأجل اشتماله
على هذا الأمر الكلّي.
واورد شبه آخر
واهية ، وأجوبتها ظاهرة .
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّه يتفرّع عليه أنّ المكلّف إذا أتى بجميع أفراد الواجب المخيّر معا دفعة
، فهل يوصف المجموع بالوجوب ؛ نظرا إلى عدم رجحان بعضها ، فيكون المسقط للفرض
جميعها ؛ لأنّه أيضا من أحد الأفراد ، فيثاب المكلّف على الجميع ثواب واجب. أو
يكون كلّ واحد منها مسقطا للفرض ، ويوصف كلّ واحد منها بالوجوب ، فيثاب على كلّ
واحد ثواب واجب. أو يكون الواجب أحد الأفراد إذا تساوت ، وأدناها أو أعلاها إذا
تفاوتت ، فيثاب عليه ثواب الواجب ، وعلى البواقي ثواب التطوّع ؟
قيل : الموصوف
بالوجوب ليس إلاّ واحدا منها ، وهو الذي يتحقّق به مسمّاه ؛ لأنّ الشارع لم يطلب
منّا سواه ، فيثاب عليه ثواب الواجب ، وعلى البواقي ثواب المستحبّ .
__________________
وفيه تأمّل ؛ لأنّ
الشارع وإن لم يطلب منّا سوى ما يتحقّق به مسمّى الوجوب ، إلاّ أنّه تحقّق في
الفرض المذكور في جميع الأفراد ، فيجب أن يكون ثوابه ثواب الواجب. وإن أتى
بالأفراد على التعاقب ، فلا تأمّل في كون ما أتى به أوّلا واجبا ، فثواب البواقي
ليس إلاّ مستحبّا.
ثمّ إنّ بعض
الأفراد إذا كان داخلا في بعض آخر ، كمسح الرأس في الوضوء ـ حيث إنّ بعض أفراده
المسح بإصبع واحدة ، وهو داخل في المسح بثلاث مثلا وأتى المكلّف بالفرد الأكمل ـ فالحقّ
هنا أنّه يوصف بالوجوب ؛ لأنّ الواجب هو الماهيّة الكلّيّة التي يمكن أن تتحقّق في
الفرد الناقص والكامل ، وهنا تحقّقت في الكامل ، فيتّصف بالوجوب ، ويثاب عليه ثواب
الواجب.
ومن قال : إنّ
القدر الزائد مستحبّ ، فنظره إلى أنّه ليس بواجب. وجوابه معلوم.
وإذا ترك جميع
الأفراد ، فلا شبهة في أنّه لا يعاقب إلاّ على أقلّها ؛ لأنّه لم يطلب سواه.
وممّا يتفرّع عليه
: أنّه إذا أوصى رجل بفرد معيّن من أفراد الكفّارة ، وكان أعلى الأفراد ، فهل يحسب
من الأصل ؛ نظرا إلى أنّه لو أتى به اتّصف بالوجوب ، أو يحسب الزيادة من الثلث ؛
نظرا إلى أنّ الواجب أقلّ منه؟ والظاهر ، الثاني.
تذنيب
يصحّ التخيير بين
الواجب والندب ، وهذا ما يقال : إنّ أحد الفردين أفضل ، كالتخيير بين صلاة الجمعة
وصلاة الظهر على القول به ، والتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة ، وتخيير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في قيام الليل بين الثلث والنصف والثلثين ، وتخيير المدين بين الإنظار والصدقة ، وغير ذلك.
ويجوز التخيير بين
المندوبين ، كما إذا نذر بأن يفعل أحد الأمرين ، ولم يجر الصيغة ؛ فإنّه يستحبّ
الوفاء به ، ويتخيّر بينهما.
__________________
ولا يجوز التخيير
بين المباح والحرام وفاقا.
وما روي من تخيير
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلة الإسراء بين اللبن والخمر فاختار اللبن ، فقال له
جبرئيل : اخترت الفطرة ، ولو اخترت الخمر لغوت أمّتك ، ليس تخييرا بين المباح والحرام ؛ لعدم كون الخمر حراما لو اختار. نعم ، كان
له سوء عاقبة ، وهذا غير الحرمة.
تتميم
الحقّ أنّه يصحّ
النهي تخييرا ، بمعنى أن يحرّم واحد لا بعينه ، وذلك كتحريم إحدى الاختين جمعا ،
وتحريم البنت أو الأمّ ، وتحريم وطء إحدى الأمتين. وهذه المسألة كمسألة الوجوب التخييري
اختلافا ، وتحقيقا ، ودليلا ، وردّا ، وإيرادا ، وجوابا ، وتفريعا ؛ فلا نطيل
الكلام بذكرها.
فصل [١٢]
الواجب المضيّق ما
ساواه وقته. والموسّع ما فضل وقته عليه.
ولا يجوز أن ينقص
الوقت من الفعل ؛ للزوم التكليف بما لا يطاق. وما ورد من وجوب الصلاة على الصبيّ
إذا بلغ وقد بقي من الوقت مقدار ركعة ، وعلى الحائض
إذا طهرت كذلك فالمراد منه القضاء.
ثمّ إنّه قد وقع
الخلاف في الموسّع في موضعين ، فلا بدّ من ذكره وبيان الحقّ :
[
الموضع ] الأوّل : في ثبوته. فذهب أصحابنا ومحقّقو العامّة إلى أنّه جائز وواقع ، بمعنى أنّه يجوز أن يأمر الشارع بفعل في وقت يفضل عنه ، ويكون جميعه وقتا
لأدائه ،
__________________
بمعنى أنّه يجوز
إيقاعه في أيّ جزء من أجزائه ، وفي أيّ جزء اتّفق يكون أداء وواجبا بالأصالة ،
فمرجعه حقيقة إلى الواجب التخييري. والفرق أنّ التخيير في التخييري بين الجزئيّات
المتخالفة بالحقيقة ، وهنا في الجزئيّات المتماثلة بالحقيقة ، المتمايزة
بالشخصيّة.
وبعبارة اخرى :
التخيير هناك بين جزئيّات الفعل ، وهنا بين أجزاء الوقت.
قالوا : وقد وقع ؛
قال الله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى
غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، ولا شكّ في تطبيقه على ما ذكر. وكذا الواجبات التي أوقاتها جميع العمر ،
كالنذر المطلق وقضاء الواجبات.
والدليل على
الجواز : أنّ السيّد إذا أمر عبده بفعل في وقت يفضل عنه ، وخيّره في إيقاعه بين
أوّله ووسطه وآخره ، لم يعدّه العرف محالا ، بل يجوّزه ويحكم بالامتثال إذا أوقعه في أيّ جزء منه.
وعلى الوقوع : ما
ورد من الأوامر المطلقة التي تدلّ على إيقاع الفعل في وقت يفضل عنه من غير تقييد
بأوّله ، أو وسطه ، أو آخره ، أو بجزء معيّن من أجزائه. وليس المراد منها تطبيق
أجزاء الفعل على أجزاء الوقت ، ولا تكريره مرّة بعد اخرى حتّى ينقضي الوقت إجماعا
، فتعيّن القول بكونه واجبا على التخيير في أجزاء الوقت.
ثمّ المانعون بين
قائل بأنّ الوجوب مختصّ بأوّل الوقت وبعده قضاء ، وهم ثلّة من الشافعيّة . وقائل بأنّه مختصّ بآخره وقبله نفل مسقط للوجوب ، كتقديم الزكاة ، وهم قليل
من الحنفيّة . وقائل بأنّه مختصّ بآخره ويقع الفعل قبله مراعى ، فإن بقي
المكلّف في آخره على صفة التكليف يظهر أنّ ما أتى به كان واجبا ، وإلاّ كان نفلا ،
وهو الكرخي .
واحتجّوا بأنّه لا
يجوز الزيادة في الوقت ؛ لأدائها إلى جواز ترك الواجب ، فلا بدّ من
__________________
صرف الأمر إلى جزء
معيّن منه ، وهو إمّا أوّله أو آخره ؛ لعدم القول بالواسطة. فمن خصّ الوجوب بأوّله
قال : لأنّه لو لم يكن هو لما برئ ذمّته بأدائه فيه. ومن خصّه بالأخير قال : لو لم
يكن هو لعصى المكلّف بتأخيره.
ودليل كلّ منهما
جواب عن الآخر ، فيفسخ القولان ، ويثبت منه الوجوب التخييري في أجزاء الوقت.
وممّا ذكرنا في
إثبات الوجوب الموسّع يظهر الجواب عمّا ذكروا من أدائه إلى جواز ترك الواجب.
[
الموضع ] الثاني : في وجوب البدل ـ وهو العزم على الفعل في الجزء الثاني من الوقت إذا أخّره
عن جزئه الأوّل ، وفي الجزء الثالث إذا أخّره عن الثاني ، وهكذا ـ وعدمه.
فبعض أصحابنا
كالسيّد والشيخ على وجوبه ، أي تخيير المكلّف بين
الفعل والعزم عليه إلى الضيق ، ومعه يتعيّن الفعل ، ولا يجوز تركهما معا في وقت.
والأكثر على عدم
وجوبه ، أي يجوز تركهما معا قبل الضيق ، ومعه يجب الفعل ، ولا يجب العزم في وقت.
وهو الحقّ ؛ لأنّ الأوامر مطلقة ، ولا تدلّ على وجوب بدليّة العزم بإحدى الثلاث ، بل لا
يفهم منها سوى وجوب الفعل على التخيير في أجزاء الوقت. ولا يدلّ عليه أيضا غيرها
من الأدلّة الخارجيّة.
والاستدلال عليه :
بأنّ العزم لو كان بدلا لجاز الاكتفاء به من دون أداء الفعل مطلقا ؛ لأنّ هذا شأن
البدل ، غير صحيح ؛ لأنّهم لم يقولوا : إنّه بدل عن الفعل مطلقا ، بل عنه إذا وقع
فيه التأخير إلى وقت الضيق ، ومعه يتعيّن الفعل.
احتجّ الخصم :
بأنّه لو جاز ترك الفعل قبل ضيق الوقت من غير بدل ، لزم خروجه عن الوجوب ؛ لأنّه
يلزم حينئذ عدم تعلّق الإثم بالمكلّف إذا مات فجأة في أثناء الوقت من دون
__________________
الإتيان به وببدله
، فلا يكون الفعل واجبا ؛ لأنّ الواجب ما يكون تاركه لا إلى بدل آثما. ويلزم منه
تساوي الفعل بالنسبة إلى قبل دخول الوقت وبعده ، وعدم انفصاله عن المندوب .
والجواب : أنّ هذا
الوجوب لمّا كان وجوبا على التخيير في أجزاء الوقت ، فما لم يتحقّق الترك في جميع
أجزائه ، لم يتعلّق به الإثم ؛ لأنّه في المخيّر يتعلّق بترك جميع أفراد الفعل ،
والمدرك لبعض الوقت إذا مات فجأة ، لم يترك جميع أفراد الفعل ؛ لأنّه موقوف على
إدراك جميعها وهو لم يدركه ، بل بعضها وهو لم يكن متعيّنا عليه ؛ لأنّ الواجب عليه
أحد الأفراد لا على التعيين من المجموع ، فما تركه لم يكن واجبا عليه ، وما هو
الواجب لم يدركه حتّى يتحقّق الترك.
وممّا ذكر يظهر
الفرق بينه وبين الإتيان به قبل الوقت ؛ لأنّه لمّا كان من أحد أفراد الواجب
المخيّر ، يسقط به الفرض ، بخلاف الإتيان به قبل الوقت.
وكذا يظهر الفرق
بينه وبين المندوب وهو ظاهر.
هذا ، وقيل :
العزم على فعل كلّ واجب قبل الإتيان به إجمالا وتفصيلا عند تذكّره من أحكام
الإيمان ، فلزوم الإثم على تركه لذلك ، لا لكونه من أحد أفراد الواجب المخيّر .
واورد عليه : بأنّ
معنى العزم على الفعل قصد الإتيان به ، فإن اريد به القصد المقارن له أعني النيّة
، فوجوبه مسلّم ، لكنّه غير محلّ النزاع ، وإن اريد به القصد غير المقارن ، فلا
نسلّم وجوبه ، ولا دليل عليه .
أقول : ليس محلّ
النزاع حالة الغفلة ؛ لعدم تعلّق التكليف حينئذ ، بل عند التذكّر الإجمالي أو
التفصيلي ، ولا شكّ في أنّه إذا لم يتحقّق حينئذ قصد الإتيان بالواجب ، يتحقّق قصد
تركه ؛ لعدم خلوّ المكلّف عن أحد هذين القصدين عند التذكّر ، فالمراد من العزم عدم
إرادة الترك ؛ لتلازمهما. ولا شبهة في ترتّب الإثم عليه ؛ لأنّه من أحكام الإيمان
أي من
__________________
توابعه ومكمّلاته
، لا من لوازمه غير المنفكّة ، وإلاّ لزم خروج المكلّف عن الإيمان عند قصد ترك
الواجب ، وهو باطل.
والقول بعدم ترتّب
الإثم على إرادة ترك الواجب مناف لأخبار النيّة ، وإن دلّ عليه بعض الظواهر ، فتأمّل.
وقال بعضهم : وجوب
العزم على الفعل لأجل توقّف تحقّق التصديق الذي هو الإذعان عليه ، وهو من لوازم
الإيمان .
وهو كما ترى ؛
لأنّ التصديق لا يتوقّف على إرادة الفعل مطلقا ؛ فإنّ فسّاق المسلمين يذعنون بوجوب
الواجبات ، ويصدّقون به ، ولا يريدون فعلها. ولو ثبت التوقّف ، لزم خروج من لم يعزم
على فعل واجب ـ إذا كان وجوبه بديهيّا ـ عن الإيمان ، وهو باطل.
إذا عرفت ذلك تعلم
أنّه لا يجب العزم في الواجبات الموسّعة إذا لم يؤدّها في أوائل الأوقات وأواسطها ، على أنّه من أحد أفراد الواجب المخيّر ، بل إن وجب يكون وجوبه لأجل ما ذكر.
فلا فرق في وجوبه حينئذ قبل دخول الوقت وبعده ، ولا بين الواجب الموسّع والمضيّق ،
فلا يجب بعد دخول وقت الموسّع عزم لم يجب قبله ، كما هو
مذهب القائلين بالعزم .
ويتفرّع على وجوب
عدم إرادة ترك الواجب ترتّب الإثم على من وطئ زوجته ظانّا أنّها أجنبيّة ، وعلى من
قتل قاتل أبيه ظانّا أنّه بريء.
تذنيب
من أدرك وقت
الواجب الموسّع وظنّ الموت في أثنائه ، يجب أن يؤدّي الفعل قبل الجزء الذي ظنّ
موته فيه ، فلو تركه قبله ومات عصى ؛ لأنّه متعبّد بظنّه وخالف.
__________________
وإن كذب ظنّه ،
وبقي وأتى بالفعل بعد الجزء المذكور ، فالحقّ ترتّب العصيان عليه أيضا ؛ لما ذكر.
وهل فعله حينئذ
أداء أو قضاء؟ الصواب أنّه أداء ؛ لصدق تعريفه عليه وعدم اعتبار الظنّ بعد ظهور
فساده. وقيل : قضاء ؛ لتعيّن وقته باعتبار الظنّ .
وجوابه : أنّ هذا
مشروط باستمراره ، ومع ظهور فساده لا عبرة به.
ويجري الأحكام
المذكورة في الواجب الذي وقته العمر.
ومن ظنّ السلامة ،
أو شكّ بينها وبين الموت ، وأخّر الفعل عن أوّل الوقت فمات فجأة ، لم
يكن عاصيا ؛ لأنّ التأخير جائز له ، ولم يحدث مناف له ، وكذا ما وقته العمر.
والفرق بينهما
بأنّه لو أخّر الأخير مع ظنّ السلامة فمات فجأة عصى وإن لم يتحقّق الوجوب ، تحكّم.
وكيفيّة التفريع :
أنّ من عليه نذر مطلق إذا ظنّ موته في زمان يجب أداؤه قبله ، ومع التأخير يأثم ،
وإن أتى به بعده يكون أداء ، ويلزم نيّة الأداء. وإن ظنّ السلامة فمات فجأة ، لم
يكن آثما. وقس عليه باقي الواجبات التي وقتها مدّة العمر ، والواجبات الموسّعة.
فصل [١٣]
اختلف القوم في
وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به إذا كان مقدورا ـ ويعبّر عنه بمقدّمة الواجب ـ على
أربعة أقوال :
الأوّل : الوجوب
مطلقا ، ذهب إليه الأكثر.
الثاني : عدمه
مطلقا.
الثالث : وجوب
السبب دون باقي المقدّمات ، ونسبه الأكثر إلى المرتضى رحمهالله ، وستعلم ما فيه.
__________________
الرابع : وجوب
الشرط الشرعي دون غيره ، ذهب إليه ابن الحاجب .
والحقّ الأوّل.
وقبل الخوض في
الاستدلال لا بدّ من بيان امور :
[
الأمر ] الأوّل : ما يتوقّف عليه الواجب إمّا سبب ، أو شرط. وكلّ منهما إمّا عقلي ، أو شرعي
، أو عادي.
فالسبب العقلي
كالصعود للكون على السطح ، والضرب بالسيف للقتل. والشرعي غير المقدور عليه كالدلوك
لوجوب الظهر ، والمقدور عليه كالصيغة الشرعيّة بالنسبة إلى حصول الملك وإباحة
الوطء. والعادي كالإطعام للإشباع.
والشرط العقلي
كقطع المسافة للحجّ. والشرعي كالوضوء للصلاة والملك للعتق. والعادي كغسل جزء من
الرأس لغسل الوجه.
ولم يتعرّض القوم
للعلل الناقصة والمعدّ ورفع المانع وباقي أجزاء العلّة التامّة ، وكأنّهم أدرجوها
في الشرط.
وينقسم مقدّمة
الواجب باعتبار آخر إلى ما يتوقّف وجود الواجب عليه ، كبعض الأمثلة السابقة من
السبب والشرط. وإلى ما يتوقّف صحّته عليه ، كالوضوء للصلاة. وإلى ما يتوقّف العلم
بصحّته عليه ، كالصلاة إلى أربع جهات ؛ للعلم بإتيان الصلاة إلى القبلة ، وكالصلاة
في كلّ واحد من الثوبين ، الطاهر والنجس ؛ للعلم بإتيان الصلاة في الثوب الطاهر.
وهذا القسم من
المقدّمة إمّا أن يكون فعلا ، كما ذكر أو تركا ، كما إذا طلّق واحدة من زوجاته على
التعيين ثمّ نسيها ؛ فإنّه يحتمل وجوب ترك الجميع عليه من باب المقدّمة. فلو طلّق
واحدة منهنّ من غير تعيين ، فقد اختلف في وقوعه ، فإن قلنا به ، احتمل حينئذ أيضا
وجوب ترك الجميع من باب المقدّمة.
[
الأمر ] الثاني : قدماء القوم أطلقوا القول بأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وقيّد
__________________
المتأخّرون الواجب
بالمطلق ؛ لأنّ مطلق الواجب على قسمين :
أحدهما : المقيّد
، وهو ما كان وجوبه مقيّدا بمقدّمة زائدة على الامور المعتبرة في التكليف ،
كالزكاة المتوقّف وجوبها على ملك النصاب ، والحجّ المتوقّف وجوبه على الاستطاعة.
ولا خلاف في عدم
وجوب هذه المقدّمة ؛ لأنّه قال الشارع : من ملك النصاب يجب عليه الزكاة ، ومن
استطاع يجب عليه الحجّ ، وليس هذا أمرا بتحصيل النصاب والاستطاعة ، بل المراد إن
اتّفق ذلك يجب الزكاة والحجّ ، وإن لم يتّفق فلا وجوب ، ولذا قيل : ما ارتكبه
القدماء ـ من عدم التقييد ـ صحيح ؛ لأنّ غرضهم من
الواجب ما هو واجب بالفعل والحقيقة ، والواجب المقيّد قبل اتّفاق مقدّمته ليس كذلك
.
وثانيهما : الواجب
المطلق ، وهو ما أمر به الشارع مطلقا من غير تقييد وجوبه بمقدّمة زائدة ، كالصلاة
التي أمر بها في حالة الطهارة والحدث ، ولكنّها تتوقّف على الطهارة ، إلاّ أنّ
الطهارة ليست قيدا لوجوبها ، بل هي واجبة وإن لم يتّفق الطهارة. وهذه المقدّمة هي
التي وقع فيها الخلاف.
وقد يكون واجب
بالنسبة إلى مقدّمة مقيّدا ، وبالنسبة إلى اخرى مطلقا ، كالصلاة بالنسبة إلى
البلوغ والطهارة ، فلا يجري الخلاف في الاولى ، ويجري في الثانية.
[
الأمر ] الثالث : وجوب الشيء إمّا عقلي ، وهو لا بدّيّة فعله ، أي العقل يحكم بأنّه لا بدّ
من فعله ولا مفرّ منه. وإمّا شرعي ، وهو أن يتعلّق خطاب الشارع به أصالة أو تبعا
حتّى لو ترك ترتّب عليه العصيان.
ثمّ الظاهر من
كلام الأكثر أنّه لا خلاف في ثبوت الوجوب العقلي لجميع مقدّمات
__________________
الواجب ، سواء
كانت عقليّة ، أو شرعيّة ، أو عاديّة ؛ بمعنى أنّه لا بدّ من فعلها عقلا في تحصيل
الواجب وإن قيل : لم يتعلّق بها خطاب الشارع أصلا وتبعا ، بل تعلّق بذي المقدّمة
فقط ، وكان تارك الواجب عاصيا من جهة تركه فقط لا من جهة ترك المقدّمة أيضا . فالخلاف إنّما هو في الوجوب الشرعي للمقدّمات ، بمعنى أنّه هل تعلّق بها
خطاب الشارع تبعا لخطابه بذي المقدّمة حتّى يكون الخطاب بالعتق خطابا لتحصيل الملك
والعتق ، ويكون تاركه تاركا للواجبين ، ويترتّب على كلّ منهما إثم على حدة؟
هذا ، والظاهر من
كلام المرتضى ـ كما نذكره ـ عدم الوجوب العقلي أيضا للمقدّمات سوى السبب .
والحقّ أنّ ثبوت
الوجوب العقلي بديهي عقلي ، ويدلّ عليه جميع الأدلّة الآتية ، وما ذكره رحمهالله ستعلم ما فيه.
[
الأمر ] الرابع : المشهور عند القوم عدم الخلاف في بقاء الواجب المطلق على إطلاقه في كلّ حال
وإن لم يتّفق مقدّمته ، يعني إذا لم يتّفق الطهارة لا يرتفع وجوب الصلاة ، كما
يرتفع وجوب الزكاة عند عدم اتّفاق النصاب.
ويظهر من كلام
المرتضى رحمهالله اختصاص وجوبه بحال وجود مقدّمته ، وأمّا في حال عدمها فلا
يبقى على وجوبه ، بل يكون حينئذ بالنسبة إلى مقدّمته واجبا مقيّدا ، فلا يجب تحصيل
مقدّمته ؛ لأنّها من مقدّمات الواجب المقيّد .
وحاصل كلامه : أنّ
جميع مقدّمات الواجب ليست واجبة ؛ لاحتمال كونها من مقدّمات الواجب المقيّد ، لا
أنّها ليست بواجبة مع كونها من مقدّمات الواجب المطلق.
ثمّ لمّا ذهب إلى
ذلك ، لزمه الفرق بين السبب والشرط ؛ لأنّه يمكن أن يقيّد وجوب الشيء باتّفاق وجود
شرطه ، ولا يمكن تقييد وجوب الشيء بوجود سببه ؛ لأنّ السبب
__________________
مستلزم للمسبّب ،
فتقييد وجوبه بوجوده يؤدّي إلى تقييد وجوب الشيء بوجوده وهو محال ؛ فلا يجوز أن
يقال ـ مثلا ـ : « إذا اتّفق الصعود إلى السطح يجب الكون عليه » ، فلذا حكم بأنّ
الأمر بشيء أمر بسببه دون شرطه ، وتفريقه بينهما في هذه الصورة ، لا أنّهما إذا
كانا من مقدّمات الواجب المطلق يجب السبب دون الشرط ، كما نسب إليه الأكثر.
واحتجّ السيّد على
ما ذهب إليه بأنّ الواجب على قسمين : مطلق ومقيّد ، والثابت بالأوامر مطلق الوجوب
وهو غير الوجوب المطلق ؛ لأنّ الأوّل أعمّ من الثاني ، ولا دلالة للعامّ على
الخاصّ ، فيحتمله والمقيّد ، فالمتيقّن وجوبه عند وجود المقدّمة ، وأمّا عند عدمها
فموضع شكّ .
وجوابه : أنّ
الأمر إذا ورد بشيء مطلقا ، فالظاهر كونه مطلوبا في جميع الحالات ، إلاّ إذا علم
التقييد ، فالأوامر المطلقة تدلّ على الوجوب المطلق ، لا مطلق الوجوب ، ولذا إذا
أمر السيّد عبده بالصعود إلى السطح ، لا يصحّ منه الاعتذار بأنّه لم يكلّفني نصب
السلّم ، ولم يتّفق وجوده لي ، بل إن لم يصعد واعتذر بذلك مع القدرة على نصب
السلّم ، يذمّه العقلاء. فكلّ واجب ورد به أمر وله مقدّمات ، فإن علم بالدليل
تقييد وجوبه بمقدّمة منها ، يحكم بأنّه واجب مقيّد بالنسبة إليها ، وإن لم يعلم
ذلك ، يحكم بكونه مطلقا بالنسبة إليها ، وهذا هو المعيار في ذلك.
إذا عرفت ذلك ظهر
عليك أنّه لا خلاف يعتدّ به في ثبوت الوجوب العقلي لجميع مقدّمات الواجب المطلق في
جميع الحالات ، إنّما الخلاف في الوجوب الشرعي لها. والحقّ ثبوته بأجمعها ؛ لوجوه
:
منها : أنّا قد
بيّنّا في بحث الحسن والقبح أنّ الوجوب والحرمة العقليّين يستلزمان الوجوب والحرمة
الشرعيّين.
ومنها : أنّ
الأحكام الشرعيّة منوطة بالمصالح ، فكلّ واجب يشتمل على مصلحة ،
__________________
ومقدّمته لكونها
وسيلة إليه تشتمل على تلك المصلحة بعينها ، فتكون واجبة. ولمّا فهم هذا الاشتمال
من الأمر بذي المقدّمة ، فيكون الأمر بها تابعا له.
ومنها : أنّه قد
ورد في بعض الآيات والأخبار المدح على فعل مقدّمة الواجب ، وفي بعضها الذمّ على تركها ، وهذا مستلزم لوجوبها.
ومنها : أنّ
السيّد إذا أمر عبده بفعل ، وكان قادرا على تحصيل مقدّمته ، فتركه واعتذر في ذلك
بفقدها أو عدم وجوبها ، يذمّه العرف. ولا يخفى أنّ ذمّ العرف حقيقة على اعتذاره
وإن توجّه على ترك أصل الفعل أيضا.
فاندفع ما قيل في
الجواب : إنّ الذمّ يتوجّه على ترك الفعل ، لا على ترك مقدّمته .
هذا ، واستدلّ
عليه أيضا ؛ بأنّه لو لم يجب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة ، يلزم التكليف بما لا
يطاق ، ومع عدمه يلزم خروج الواجب المطلق عن وجوبه ، واللازمان باطلان .
واجيب : بتسليم
وجوبه ، وعدم لزوم التكليف بما لا يطاق ؛ فإنّ المحال وجوب الفعل عند عدم وجود
مقدّمته ، لا عند عدم وجوبها ؛ فإنّ الإتيان بذي المقدّمة مع عدم وجودها محال ،
فيلزم اللازم المذكور. وأمّا مع وجودها ، فيمكن الإتيان به وإن لم تكن واجبة. والمطلوب
أنّ وجوبها حينئذ عقلي ، أي لا بدّ من فعلها ، وليس لها وجوب شرعي ، أي تعلّق خطاب
الشرع بها بحيث لو تركت ترتّب عليها إثم على حدة.
فهذا الدليل ممّا يثبت به الوجوب العقلي لا الشرعي .
وقيل عليه أيضا :
إنّه لو ورد ما ذكر ، يلزم وروده في صورة وجوب المقدّمة أيضا ؛ لأنّ وجوبها شرعا
لا يستلزم وجودها عقلا. فإن عدمت ، فإمّا أن يبقى الفعل واجبا ، أو لا ، فعلى
__________________
الأوّل يلزم
التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني خروج الواجب عن وجوبه ، والغرض أنّ وجوب
المقدّمة شرعا إنّما هو في صورة كونها مقدورة ، ومع عدم كونها مقدورة لا يتعلّق
بها وجوب ، فيلزم أحد الأمرين .
فإن قيل في الجواب
هنا : قد يتحقّق وجوب الفعل عند عدم مقدّمته ، وليس وجوبه بأن يؤدّى في هذه الحال
، بل عند وجود مقدّمته.
نقول هناك : إذا
لم يناف وجوب الفعل عدم وجود ما يتوقّف عليه ، فلا ينافي وجوبه عدم وجوب ما يتوقّف
عليه أيضا بطريق أولى.
والحقّ أنّ هذا
النقض غير لازم ؛ لأنّه في حال عدم المقدّمة يمكن أن يقال : يسقط الوجوب عن الفعل
؛ لأنّ عدم ما يتوقّف عليه الشيء مستلزم لعدم هذا الشيء ، ووجوب الفعل عند عدم
مقدّمته غير مسلّم ، بل هو في هذه الحال يصدق عليه أنّه بحيث يصير واجبا عند وجود
مقدّمته ، فليس وجوبه حاليّا ، بل استقباليّا.
واحتجّ المانع
مطلقا بوجوه ضعيفة :
منها : أنّه لو
وجب مقدّمة الواجب لزم صحّة شبهة الكعبي .
وقد عرفت جوابها من غير احتياج إلى منع وجوب مقدّمة الواجب.
ومنها : أنّه قد
يأمر أحد غيره بفعل مع غفلة الآمر عمّا يتوقّف عليه هذا الفعل ، فالأمر بفعل إذا
لم يستلزم تصوّر ما يتوقّف عليه ، فكيف يدلّ على إيجابه؟!
والجواب : أنّ
العلم بلوازم الأفعال غير لازم ، فيمكن أن يكون شيء لازما لأفعالنا مع عدم علمنا
به ، مع أنّ هذا يجري فيمن يجوز عليه الغفلة ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ
الآمر هو الشارع للأحكام ، ولا يجوز عليه الغفلة .
__________________
ومنها : لو وجب ما
لا يتمّ الواجب إلاّ به لافتقر إلى نيّة على حدة .
والجواب : أنّ
نيّة الواجب تكفي عن نيّة لازمه.
ومنها : أنّه لو
وجب لزم ترتّب الإثم على تركه وليس كذلك .
والجواب : أنّه لا
خلاف في وجوب كلّ واحد من أجزاء الواجب المركّب كالصلاة ؛ فإنّ كلّ واحد من
أجزائها واجب وفاقا ، فإذا تركت الصلاة يلزم أن يترتّب على كلّ واحد منها إثم على
حدة ، فما تقولون هنا نحن نقول هناك ، فإن التزمتم ترتّب الإثم على ترك كلّ واحد
منها ، فإنّا أيضا نلتزم ترتّب الإثم على تركه.
ومنها : أنّه لو
وجب لاستحال التصريح بعدم وجوبه ؛ للزوم التناقض .
والجواب : أنّ هذا
في حكم الاستثناء.
ومنها : أنّ الطلب
صريحا لم يتعلّق به ، بل تعلّق بالواجب نفسه .
والجواب : أنّ
الطلب لا ينحصر في الصريح ، بل يكفي الضمني أيضا. والقول بأنّه لم يوجد هنا واحدة
من الدلالات الثلاث واه ؛ فإنّ الالتزاميّة موجودة ، كما لا يخفى على من يعرفها.
فإن قيل : لا بدّ
في الالتزاميّة من اللزوم العقلي أو العرفي.
قلت : اللزوم
العقلي موجود وإن لم يكن مقصودا للمتكلّم ؛ فإنّ الدلالة التي ليست بصريحة إمّا
دلالة اقتضاء ، أو إيماء ، أو إشارة. ودلالة الإشارة هي الالتزاميّة مع عدم كون
المعنى الالتزامي في قصد المتكلّم ، كدلالة قوله تعالى : (
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) مع قوله : ( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، وما نحن فيه من هذا
القبيل.
واستدلّ من خصّ
الوجوب بالسبب :
أمّا على نفي وجوب
ما عداه ، فبما مرّ ، وبأصالة عدم الوجوب ، وأصالة اتّحاد متعلّق الخطاب.
__________________
وأمّا على وجوبه ،
فبأنّ القدرة تتعلّق حقيقة بالسبب دون المسبّب ؛ لأنّ إيجاد السبب مستلزم لإيجاده
، وبدون إيجاده لا يمكن إيجاده ، فالأمر بالمسبّب أمر حقيقة بالسبب وإن تعلّق
ظاهرا به .
والجواب عن الجزء
الأوّل :
أمّا عمّا مرّ من
أدلّة المنع ، فلما عرفت جوابها .
وأمّا عن الأصل ،
فبأنّ حجّيّته عند عدم الدليل.
وعن الجزء الثاني
: فنحن نقول به. ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ما ذكره وذكرنا قبل ذلك ـ نقل الإجماع ؛
فإنّه نقل جماعة الإجماع على وجوب السبب .
واحتجّ ابن الحاجب
على عدم وجوب غير الشرط الشرعي بما مرّ .
وقد عرفت الحال.
وعلى وجوبه : بأنّه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ،
فيلزم خروجه عن كونه شرطا شرعيّا .
واجيب بمنع الشرطيّة ، أي ليس الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، لأنّ
الإتيان بالمشروط بدون الشرط غير صحيح. وليس هذا لكونه واجبا شرعيّا ، بل لكونه
ممّا لا بدّ منه شرعا ، كما أنّ الشرط العقلي ممّا لا بدّ منه عقلا. فالفرق بينهما
أنّ اللابدّيّة في العقلي عقليّة ، وفي الشرعي شرعيّة ، واللابدّيّة الشرعيّة غير
الوجوب ، بناء على مغايرة الحكم الوضعي للشرعي.
وقد عرفت أنّ الحقّ عدم المغايرة بينهما ؛ فاللابدّيّة الشرعيّة مستلزمة للوجوب
__________________
الشرعي إذا كانت في شرط الواجب لا في شرط المندوب أيضا ؛ فإنّ مجرّد الشرطيّة لا
يستلزم الوجوب الشرعي ، كما أنّ الوضوء شرط للنافلة وليس بواجب شرعي ، بل الشرطيّة
ـ مع كون الشرط من مقدّمات الواجب ـ تستلزم الوجوب الشرعي. وقد عرفت أيضا أنّ الوجوب العقلي مستلزم للوجوب الشرعي ، فالفرق تحكّم.
هذا ، واعلم أنّ
الشرط الشرعي إمّا أن يتعلّق به صريح أمر آخر سوى ما يفهم من الأمر بالمشروط ، وهو
الغالب كالوضوء ، أو لا. ولا خلاف في وجوب الأوّل ؛ لأنّه قسم من الواجب الأصلي ـ وهو
ما تعلّق به الأمر أصالة وصريحا ـ إلاّ أنّه واجب لغيره ، وقسمه الآخر ما هو واجب
لنفسه ، كالصلاة وأمثالها. ولا خلاف في أصل الوجوب الشرعي للواجب الأصلي بقسميه ،
وإنّما الخلاف في وجوب مقابله وهو الواجب التبعي ، أي ما فهم إيجابه من إيجاب شيء
آخر ، سواء كان له وجوب أصلي أيضا ، أو لا.
فالخلاف في مقدّمة
الواجب إن كان في أصل وجوبها ، لم يجز وقوعه في الشرط الشرعي الذي دلّ عليه صريح
الأمر ؛ لكونه واجبا وفاقا ، وإن كان في وجوبها التبعي ـ أي كون إيجاب ذي المقدّمة
مستلزما لإيجاب المقدّمة ـ جاز وقوعه فيه أيضا ، إلاّ أنّ هذا الخلاف فيه عديم
الفائدة ؛ لأنّه إذا كان له وجوب أصلي بلا خلاف ، فما الفائدة للخلاف في أنّه هل له وجوب تبعي ، أم لا؟ ولذا قيل : الظاهر من
كلام القوم أنّ الخلاف فيما لم يتعلّق به أمر آخر غير ما تعلّق بمشروطه ـ سواء كان
شرطا شرعيّا أو غيره ـ بأنّه هل يجب تبعا ، أم لا؟
فإن قلت : الشرط
الشرعي لا بدّ من أن يتعلّق به أمر الشارع ؛ لأنّه لا معنى لشرطيّته إلاّ حكم
الشارع بأنّه يجب الإتيان به عند الإتيان بمشروطه ، فالشرط الذي لم يتعلّق به هذا
الحكم لا يكون شرطا شرعيّا ، فلا يتحقّق الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح
الأمر.
__________________
قلت : الشرطيّة من
خطاب الوضع ، وهو غير الأمر والإيجاب ، فيمكن أن يجعل الشارع أمرا شرطا لغيره من
غير أن يأمر به.
فالشرط إمّا أن
يأمر به الشارع ويصرّح بالشرطيّة ، وهو الشرط الشرعي الذي تعلّق به صريح الأمر.
أو يصرّح
بالشرطيّة من دون الأمر ، وهو الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح الأمر.
وهذا القسم إن وجب
ليس وجوبه من الأمر ، بل من الشرطيّة الشرعيّة ، مع كون الشرط من مقدّمات الواجب.
أو لا يأمر به ولا
يصرّح بالشرطيّة أيضا ، ولكن يعلم عقلا أنّ الفعل موقوف عليه وهو الشرط العقلي ،
ووجوبه من الشرطيّة العقليّة مع كونه من مقدّمات الواجب.
إذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك. والفروع لهذا الأصل كثيرة ، وقد سبق جملة منها.
ومنها : أنّه إذا
مات رجل وعليه حجّة واجبة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يجب أن يحجّ عنه عن بلده ،
وعلى القول الآخر يجوز أن يحجّ عنه من أيّ موضع اتّفق. وهو المشهور عند أصحابنا ؛ لأدلّة خارجيّة .
ثمّ إنّ مقدّمة
الواجب إمّا أن لا يكون لها معارض من العقل والنقل ، أو يكون لها ذلك.
فالأوّل لا تأمّل
في وجوبه على ما اخترناه ، كدخول جزء من الليل في الصوم ، والإتيان بالصلوات الخمس
أو ثلاث ـ على اختلاف القولين ـ لمن ترك واحدة ولم يدر بعينها .
والثاني يجب فيه
الفحص والتفتيش حتّى يظهر الترجيح ، وذلك كالشبهة في موضوع الحكم ، مثل أن يسقط تمرة نجسة بين تمر كثير ولم تتميّز ، أو اشتبه لحم
الميّت بالمذبوح ، وأمثال ذلك ، فإنّه يجب حينئذ ترك الجميع من باب المقدّمة ،
إلاّ أنّ له معارضا ، وهو أصالة
__________________
الحلّيّة والطهارة
حتّى يعرف الحرام والنجس بعينه ، كما دلّ عليه بعض الأخبار .
والمشهور بين
الفقهاء وجوب الاجتناب عن الجميع لو وقع الشبهة في المحصور عادة ، وعدمه لو وقع في غيره . وتأمّل بعضهم في الفرق. ولعلّك تعرف حقيقة الحال بعد ذلك.
وقد يكون وجوب
مقدّمة الواجب معتضدا بدليل آخر ، وحينئذ لا شبهة في وجوبها.
وقد يستدلّ بعدم
وجوب مقدّمة شيء على عدم وجوبه ، كما يقال : الصلاة في الدار المغصوبة ليست بواجبة
؛ لأنّ الكون فيها من مقدّمات الصلاة فيها وهو ليس بواجب ؛ للنهي عنه ؛ فالصلاة
فيها ليست بواجبة ، وإذا لم تكن واجبة تكون باطلة ، وقد يعتضد ذلك بأنّها منهيّ
عنها ؛ لكونها مضادّة للخروج المأمور به ، والأمر بالشيء نهي عن ضدّه.
وبالجملة ، في
أمثال هذه المواضع يجب الفحص حتّى يظهر الترجيح.
وإذا عرفت حقيقة
الحال في مقدّمة الواجب مع كيفيّة التفريع ، تعرف ذلك في مقدّمة الحرام والمستحبّ
والمكروه ، ولا يحتاج إلى بيان.
فصل [١٤]
هل يجوز اتّصاف
شيء واحد بحكمين من الأحكام الخمسة ، مثل أن يكون واجبا حراما ، أو واجبا مكروها ،
وهكذا؟
والحقّ عدم الجواز
مطلقا ، إلاّ أنّ له صورا وقع في بعضها الخلاف ، فلا بدّ من ذكرها وبيان ما هو
الحقّ :
[
الصورة ] الأولى : لا خلاف في جواز ذلك في الواحد بالجنس ، بأن يكون شيء جائز
__________________
الاتّصاف بوصفين
مفارقين ، فيجب بأحد الاعتبارين ، ويحرم بالاعتبار الآخر مع بقاء وحدته الجنسيّة
في الحالين ، كضرب اليتيم تأديبا وظلما ، والسجود لله وللشمس ، ويكون حينئذ بين
المأمور به والمنهيّ عنه تباين.
والدليل على جواز
ذلك أنّ الفردين من الواحد بالجنس في حكم المتباينين ، وجواز تعلّق الأمر بأحدهما
، والنهي بالآخر في غاية البداهة.
[
الصورة ] الثانية : أن يتعلّق الوجوب والحرمة بالواحد الشخصي في زمان واحد من جهة واحدة ، سواء
كان هذه الجهة ذات هذا الشيء أو غيرها ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه
مساواة. ولا يجوز ذلك ؛ لامتناع التكليف بالمحال.
[
الصورة ] الثالثة : أن يتعلّقا به من جهتين متلازمتين ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ
عنه مساواة أيضا ؛ لعدم تصوّر انفكاك إحدى الجهتين عن الاخرى. وهذا أيضا غير جائز
؛ للزوم التكليف بالمحال. وفي هاتين الصورتين إن تعارضت الأدلّة بالأمر والنهي يجب
الجمع أو الطرح.
[
الصورة ] الرابعة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص مطلقا ، فيتصوّر الانفكاك من
إحدى الجهتين دون الاخرى ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه أيضا عموم
وخصوص مطلقا. ولا يجوز ذلك أيضا لما ذكر ؛ لأنّ فعل العامّ مثلا يستلزم فعل الخاصّ
مع أنّه لازم الترك ، فالأدلّة إذا تعارضت بالعموم والخصوص ، يجب حمل العامّ على
الخاصّ.
وقد ادّعي الوفاق
على عدم الجواز في هذه الصورة ، إلاّ أنّ الأدلّة التي ذكروا على الجواز في الصورة
الخامسة تجري فيها أيضا ، ولكنّها مدفوعة عنهما معا ، كما ستعرف .
__________________
[
الصورة ] الخامسة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص من وجه ، ويكون النسبة بين
المأمور به والمنهيّ عنه ذلك ، فيتحقّق الانفكاك من كلّ واحد من الجهتين من وجه ،
ويجتمعان أيضا في بعض الموادّ. وحينئذ يتحقّق الوجوب والحرمة في مادّة واحدة
باعتبار هاتين الجهتين ، كالصلاة في المكان الغصبي ؛ فإنّ الصلاة مأمور بها ،
والغصب منهيّ عنه ، والصلاة في المكان الغصبي فرد لكلّ منهما.
وقد وقع الخلاف في
صحّة ذلك ، فالأشاعرة على الصحّة ، وقالوا : إذا أتى المكلّف بما فيه التصادق ،
يكون مطيعا عاصيا من جهة الأمر والنهي .
والقاضي على أنّه
لا يصحّ ذلك ، وإن فعل ذلك كان حراما صرفا ، إلاّ أنّه مسقط
للفرض ؛ فإنّه يمكن أن يصير معصية مسقطة للفرض ، كما أنّ من شرب مجنّنا حتّى جنّ
يسقط عنه الفرض .
وأصحابنا وأكثر
المتكلّمين على عدم الصحّة ، وعدم سقوط الفرض به. ولم نجد من أصحابنا مخالفا في
ذلك سوى الفضل بن شاذان على ما نقل عنه الكليني في كتاب الطلاق من الكافي بأنّه
حكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة .
ويظهر من كلام
المرتضى في الذريعة أيضا صحّة الصلاة فيها . وربما دلّ كلامه
فيها على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد . ونقل عنه الشهيد بأنّه حكم بصحّة الصلاة التي وقعت رياء ، بمعنى سقوط الفرض بها وإن لم يترتّب عليها الثواب. وهذا يدلّ
__________________
على جواز اجتماع
الوجوب والحرمة في شيء باعتبار جهتين.
ثمّ القائلون بعدم
الصحّة قالوا : ما تصادق فيه العمومان يتحقّق فيه بينهما التعارض من وجه ، فيجب أن
يخصّص الأضعف بالأقوى.
واحتجّوا على ذلك
: بأنّه لا يمكن أن يكون شيء مطلوبا ومبغوضا لأحد ، سيّما للعالم بجميع الجزئيّات
، فكيف يأمر بشيء هو فرد لما نهى عنه؟!
والقول بأنّ جهة
المطلوبيّة غير جهة المبغوضيّة ، لا ينفع ؛ لأنّ متعلّق الجهتين واحد ، فيكون شيء
واحد مطلوبا ومبغوضا.
وبأنّ العرف كما
يفهم التخصيص من الأمر بالخاصّ المطلق بعد النهي عن العامّ المطلق أو بالعكس ،
كذلك يفهمه من الأمر بالعامّ من وجه بعد النهي عن عامّ من وجه آخر أو بالعكس ،
فالشارع إذا أمر بالصلاة مطلقا ، ونهى عن التصرّف في المكان المغصوب كذلك ، يفهم
العرف أنّ المأمور به الصلاة التي وقعت في غير المكان الغصبي ، أو المنهيّ عنه التصرّف الذي [ هو ] غير الصلاة ،
وتعيّن أحدهما من جهة قوّته بالمؤيّدات الخارجيّة من الأدلّة وعمل
الفقهاء.
وهنا رجّح طرف النهي ؛ لكونه أقوى ؛ لاعتضاده بعمل الأصحاب إلاّ ما شذّ ؛ ولأنّ العبادة إذا كانت محتملة للوجوب والحرمة ، يرجّح
جانب التحريم ؛ لما ورد من التثبّت والكفّ عند تعارض الأمر والنهي ، وللاستقراء ؛ فإنّه يدلّ على أنّ دأب الشارع في أمثال المقام ترجيح الكفّ ،
كصلاة الحائض في أيّام الاستظهار وأمثالها.
__________________
وقيل أيضا : لأنّ
دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة .
وهذا إنّما يتمّ
فيما يحتمل الندب والحرمة لا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ ترك الوجوب أيضا يشتمل على
المفسدة.
فإن قيل : لم لا يجوز
أن يبقى كلّ واحد من الأمر والنهي على إطلاقه من غير تخصيص أحدهما بالآخر حتّى إذا
أتى المكلّف بما اجتمعا فيه ، استحقّ العقوبة بالنهي وإن كان ممتثلا للأمر ؛ فإنّه
لا مانع ـ لغة وعقلا ـ أن يقول أحد لغيره : « اكتب ، ولا تكتب في الموضع الفلاني ،
ولو كتبت فيه لعاقبتك ولكن حصّلت مطلوبي »؟ ولذا قيل : النهي لا يدلّ على الفساد .
قلت : هذا جائز
عند التصريح ، وأمّا عند التعارض ـ كما نحن فيه ـ فلا يفهم منه إلاّ
التخصيص كما ذكر.
احتجّ الخصم
بوجهين :
أحدهما : أنّ
السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه فيه ،
فإنّا نجزم بأنّه مطيع عاص معا من جهتي الأمر والنهي .
قيل في الجواب :
بالفرق في الموضعين بأنّ الكون في المكان المغصوب جزء من الصلاة ؛ لأنّه عبارة عن
شغل الحيّز ، وهو جنس للحركة والسكون ، ولا شكّ في أنّهما جزءان للصلاة ؛ لأنّ من
أجزائها القيام والركوع وملاصقة الأرض للسجود وغير ذلك ، فالكون هنا جزء من ماهيّة
الصلاة في المكان الغصبي ، وهو منهيّ عنه ، فلو كان الصلاة في المكان الغصبي
مأمورا بها ، لكان هو أيضا كذلك ؛ لأنّ الأمر بشيء أمر بأجزائه وفاقا كما علمت.
وأمّا الكون في
المكان المخصوص فليس جزءا من الخياطة ؛ لأنّها أمر حاصل من الحركة والسكون ، فهما معدّان لها وليسا جزءين من ماهيّتها ، فالكون المذكور ليس جزءا
__________________
من الخياطة ،
فالأمر بها لا ينافي النهي عنه .
والحقّ أنّ هذا
الفرق غير مفيد ؛ لأنّ الكون في المكان المخصوص من لوازم الخياطة وإن لم يكن من
أجزائها ، ولا معنى للأمر بشيء والنهي عن لوازمه ؛ لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا
يتمّ الشيء إلاّ به ، كما عرفت .
والجواب : بأنّ ما هو من لوازم الخياطة مطلق الكون ، لا الكون في المكان المخصوص ؛
لأنّ أشخاص الخياطة لا تتبدّل بتبدّل الأمكنة ، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة ؛
فإنّ هذا الكون المخصوص من أجزائها ؛ لأنّ أشخاصها تتبدّل بتبدّل الأمكنة. غير
صحيح ؛ لعدم تعقّل الفرق بينهما ، مع أنّه يمكن إيراد مثال كان مساويا لما نحن فيه ضرورة ، وهو أن يأمر السيّد عبده بمقدار معيّن
من المشي في كلّ يوم ، ونهاه عن الدخول في موضع خاصّ ، فمشى فيه.
فالحقّ في الجواب
أن نمنع حصول الإطاعة مع النهي المذكور ؛ فإنّه يدلّ على أنّ الكون
المطلوب في الصلاة غير الكون في المكان المغصوب.
وثانيهما : أنّه
لو اتّحد متعلّق الأمر والنهي ، لكان القول بالمنع موجّها ، وأمّا إذا لم يكن كذلك
، فلا يتصوّر منع ، وهنا كذلك ؛ فإنّ متعلّق الأمر مطلق الصلاة ، ومتعلّق النهي
مطلق الغصب ، وهما مفهومان متغايران يتعقّل انفكاك كلّ منهما من الآخر ، إلاّ أنّ
المكلّف جمعهما في مادّة واحدة مع إمكان عدمه ، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ،
فهما باقيان على اختلافهما الذاتي ، فيكون متعلّق الأمر طبيعة كلّيّة ، ومتعلّق
النهي طبيعة اخرى ، إلاّ أنّهما اجتمعتا في ضمن شخص واحد هو الصلاة في الدار
المغصوبة .
__________________
والجواب : أنّ
التكليف وإن تعلّق ظاهرا بالطبائع ، إلاّ أنّ تعلّقه حقيقة بالجزئيّات ، فمتعلّق
التكليف في الصلاة أفراد الصلاة التي يختارها المكلّف ، وكذا في الغصب. ولا شكّ
أنّ كلّ واحد من الأفراد التي يختارها المكلّف شخص بسيط ليس فيه تركيب خارجي ، فالصلاة في الدار المغصوبة شخص بسيط متعلّق الأمر
والنهي معا ؛ فإنّ الكون الذي هو جزء الصلاة ومأمور به هو بعينه الغصب الذي تعلّق
به النهي ، وليست هذه الصلاة مركّبة من طبيعتين تركّبا خارجيّا يكون أحدهما متعلّق
الأمر ، والاخرى متعلّق النهي ، بل التركيب بمجرّد تحليل العقل ،
وهو غير مفيد في المقام .
ثمّ لا يخفى أنّ
ما قال الأشعري هنا يمكن أن يقال بعينه في الصورة الرابعة ، بأن يقال : إذا قال : « أكرم
العلماء ولا تكرم زيدا » وكان عالما ، فأكرم زيدا ، يكون مطيعا وعاصيا بالدليلين
المذكورين .
والجواب الجواب ،
إلاّ أنّه قيل : عدم الجواز فيها متّفق عليه كما أشرنا إليه . ولعلّ بناء الفرق على أنّ هذه الصورة على قسمين :
أحدهما : ما ينفكّ
المنهيّ عنه عن المأمور به دون العكس ، كما إذا نهى عن إكرام العلماء ، وأمر
بإكرام زيد وكان عالما.
وثانيهما : ما
ينفكّ المأمور به عن المنهيّ عنه دون العكس ، كالمثال الذي ذكر أوّلا من الأمر
بإكرام العلماء والنهي عن إكرام زيد ، وكمطلق الصوم وصوم يوم النحر. وفي كلّ منهما
متعلّق الأمر والنهي فيه واحد ، أي ماهيّة واحدة ، ولا فرق بين المتعلّقين إلاّ
بالإطلاق والتقييد. فيعلم أنّ الغرض حمل المطلق على المقيّد ؛ إذ النهي عن فرد
خاصّ ـ مثلا ـ دليل
__________________
على أنّ المأمور
به ليس هو الماهيّة الكلّيّة ، بل بعض الأفراد ، بخلاف الصورة الخامسة ؛ فإنّ
المأمور به فيها ماهيّة ، والمنهيّ عنه ماهيّة اخرى.
والحقّ : عدم
الفرق في نفس الأمر بين الصورة الرابعة والخامسة ؛ لأنّه كما يمكن أن يقال في
الخامسة : لا امتناع في تعلّق الأمر بالطبيعة الكلّيّة وهي مطلوبة ، والغرض من
النهي عدم حصول المنهيّ مقارنا لها ، وإن حصل مقارنا لها كان ممتثلا للأمر ، فلا
حاجة إلى تقييد الأمر بغير المنهيّ عنه ، يمكن أن يقال ذلك في الرابعة أيضا بعينه.
وكما يمكن أن يقال
في الرابعة بأنّ النهي عن الفرد الخاصّ يدلّ على أنّ المراد بالمأمور به بعض أفراد
الطبيعة ، يمكن أن يقال ذلك في الخامسة أيضا بعينه ، إلاّ أنّه يبدّل النهي عن
الفرد الخاصّ بالنهي عمّا يتحقّق المأمور به في ضمنه بعض الأوقات. وهذا هو الحقّ.
فلا فرق بين ما ينفكّ فيه الجهتان ، وبين ما ينفكّ فيه إحدى الجهتين في عدم جواز
الاجتماع.
هذا ؛ واعلم ، أنّ
قول القاضي فيما وافقنا ـ من عدم الصحّة ـ فلا كلام فيه.
وأمّا ما تفرّد به من كونه مسقطا للفرض ، ففساده في غاية
الظهور ، غير محتاج إلى البيان.
[
الصورة ] السادسة : أن يتعلّق الوجوب والكراهة بالواحد الشخصي ، كالصلاة في الحمّام وغيره من
المواضع المعروفة ، وقد ثبت في الشرع كراهة الصلاة فيها ، وكذا كراهة الصوم في بعض الأزمنة ، ولذا استدلّ
الأشعري بثبوتهما على ما ذهب إليه من جواز اجتماع الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام
متضادّة ، فإذا جاز اجتماع الوجوب والكراهة ، يجوز اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.
وقد اضطرب القوم
في تصحيح ذلك ، فقال بعضهم : الكراهة لا تتعلّق بنفس الفعل ، بل بوصفه ، فمتعلّق
الكراهة في الصلاة في الحمّام التعرّض للنجاسة ، أو لكشف العورة ، وفي
__________________
جوف الوادي
التعرّض للسيل ، وفي جادّة الطريق منع المارّة. وقس عليها أمثالها.
والحقّ : أنّ هذا
التوجيه غير صحيح ؛ لأنّه على هذا يرجع الكراهة إلى وصف خارج عن الصلاة ، مع أنّ
الظواهر تدلّ على كراهية نفس الصلاة ، كقوله عليهالسلام : « يكره الصلاة في الحمّام » .
وقيل : المراد من
الكراهة كون الفعل أقلّ ثوابا .
اورد عليه : بأنّه
يلزم على ذلك كون جميع الصلوات مكروهة سوى الصلاة في المسجد الحرام ؛ لأنّ الصلاة في أيّ
موضع ومسجد اتّفقت تكون أقلّ ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام .
واجيب : بأنّ كلّ
صلاة لا يشتمل على مرجوحيّة ولا راجحيّة سوى الراجحيّة التي يشتمل عليها أصل
الصلاة يتّصف بالإباحة ، كما يقال : الصلاة في البيت مباحة ، بمعنى أنّ الصلاة فيه
لا تشتمل على مرجوحيّة ، ولا على مزيّة خارجة عن أصل الصلاة ، وكلّ صلاة يشتمل على
مزيّة خارجة ـ كالصلاة في المساجد ـ يتّصف بالاستحباب ، بل قد يصل حدّ الوجوب إذا
نذر أن يصلّي في مسجد ، وحينئذ يجتمع وجوبان. وكلّ صلاة يشتمل على مرجوحيّة ـ كالصلاة
في الحمّام وأمثاله ـ يتّصف بالكراهة. والمراد أنّ الصلاة فيه مرجوحة بالنسبة إلى
الصلوات المباحة أي أقلّ ثوابا منها ، فالاتّصاف بالاستحباب
والكراهة بالنسبة إلى الفرد المباح ، فلا يلزم ما ذكر .
أقول : هذا توجيه
ليس به كثير بأس ، إلاّ أنّ الأصوب أن يقال : إنّ المراد من كراهة الصلاة في
الحمّام وأمثاله أنّ الفعل في نفسه راجح ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى الأفراد
الأخر ، وهي أولى منه ، ولا مانع في كون أحد أفراد الواجب المخيّر مرجوحا بالنسبة
إلى
__________________
الأفراد الأخر ،
كالقصر في المواطن الأربعة ، وصلاة الظهر في يوم الجمعة على المشهور. ويمكن أن يصل
المرجوحيّة إلى حدّ يستحقّ اسم الكراهة إلاّ أنّ ذلك بالنسبة إلى غيره ، ولا منع
في اتّصاف الفرد المرجوح بأصل الرجحان ؛ لأنّ مرجوحيّته بالنسبة إلى الفرد الذي هو
أولى منه ، فراجحيّته حقيقيّة ، ومرجوحيّته إضافيّة ، ولذا سمّاه بعض الاصوليّين
خلاف الأولى دون المكروه ؛ لأنّ المكروه أن يكون الفعل في نفسه مرجوحا ، وهذا ليس
كذلك ، بل مرجوحيّته بالقياس إلى الغير. فظهر أنّ الوجوب والكراهة لم يتعلّقا
بشخص واحد ، فلا يقوم حجّة للأشعري.
وإذا عرفت كيفيّة
الحال في الصورة المذكورة ، تعلم كيفيّتها في بواقيها من اجتماع الوجوب مع
الاستحباب والإباحة ، واجتماعهما مع الحرمة والكراهة. وبالجملة ، اجتماع كلّ واحد
من الخمسة مع كلّ واحد منها. و يتكثّر الأقسام ، سيّما مع إمكان كون الوجوب عينيّا
وتخييريّا ، وكذا الحرمة.
والضابط : أنّه لا
يجوز اجتماع اثنين منها في الواحد الشخصي مطلقا ، وإلاّ لزم توارد الأضداد على محلّ
واحد. مثلا : في صورة توارد الوجوب والكراهة على عبادة نقول : فعل العبادة المكروهة راجح ، بل مانع من النقيض مع اتّصافه بالكراهة المقتضية
لرجحان الترك ، ورجحان الفعل لا يجتمع مع رجحان الترك. فكلّ واجب أو مستحبّ تعلّق
به نهي تحريمي ، أو تنزيهي في وقت خاصّ أو موضع خاصّ وثبت هذا النهي ، يجب الحكم ببطلانه. وإن ثبت صحّته من جانب الشرع ـ كالصلاة
في الحمّام وأمثاله ، والصيام المكروهة ـ يجب أن يصحّح
بمثل ما ذكرنا.
وكلّ واجب تعلّق
به الاستحباب ظاهرا يجب أن يحكم بتغاير محلّهما ، مثلا : قد يكون
__________________
بعض أفراد الواجب
المخيّر مستحبّا ، كالإتمام في المواطن الأربعة . ولا شكّ أنّ الاستحباب مقصور على هذا الفرد ، والوجوب شامل له وللقصر تخييرا
، فالوجوب تخييري والاستحباب عيني ، فاختلف محلّهما ؛ لأنّ محلّ الوجوب أمر كلّي ،
ومحلّ الاستحباب فرد شخصي.
إذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع أنّ الآيات والأخبار إذا تعارضت بالأمر والنهي في شيء واحد حتّى
يتحقّق التساوي بين المأمور به والمنهيّ عنه ، يجب الجمع أو الطرح.
وإذا تعارضت
بالعموم والخصوص مطلقا يجب حمل العامّ على الخاصّ مع تقاوم الخاصّ للعامّ ، وإن لم
يقاومه يعمل بالعامّ وينطرح الخاصّ.
وإذا تعارضت
بالعموم والخصوص من وجه يخصّص الأضعف بالأقوى. مثلا : قوله تعالى : ( إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) الآية يدلّ على عدم قبول خبر الفاسق في الواجبات والمستحبّات والمكروهات ،
وقبول خبر غير الفاسق فيها جميعا. وقوله عليهالسلام : « من بلغه شيء من الثواب » إلى آخره وأمثاله يدلّ على قبول خبر الفاسق والعادل في المستحبّات والمكروهات
دون الواجبات. فيتحقّق بينهما التعارض بالعموم والخصوص من وجه. فنقول : إنّ الخبر
معاضد بأخبار أخر ، وبالشهرة ، وبامور أخر ، فيخصّص الآية به.
وممّا يمكن أن
يتفرّع عليه الذبح بآلة مغصوبة في الأضحية والهدي ، والطهارة في المكان المغصوب أو
من الإناء المغصوب.
وتأمّل بعضهم في ذلك ؛ نظرا إلى أنّ متعلّق النهي فيها ليس عين متعلّق الأمر ولا جزءا
__________________
منه ، بخلاف الكون
في الصلاة والماء المغصوب للطهارة ؛ لأنّهما من أركان الفعل ، وليس هذا ببعيد.
نعم ، تتفرّع عليه
الفروع المذكورة بالواسطة ؛ لأنّها تتفرّع على أصل أنّ النهي هل يدلّ على الفساد ،
أو لا؟ وهو يتفرّع على هذا. وهذا بناء على أنّ الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فيكون الطهارة التي هي ضدّ للمأمور به ـ أعني
ردّ الإناء إلى مالكه مثلا ـ منهيّا عنها ، فتتفرّع على الأصل المذكور المتفرّع
على ما نحن فيه.
وإذا عثرت على اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة في شيء واحد ، فيجب أن تصحّح بما ذكر ، ولا
تحكم بأنّه موصوف بهما معا حتّى يرد الإشكال ، مثلا : إذا نهى الشارع عن الصوم في
يوم كذا ، فإن لم يكن صحّته ثابتة يحكم بفساده ، وإن كانت ثابتة نقول :
الفعل راجح في نفسه ، ويترتّب عليه الثواب ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى أفراد
أخر.
فصل [١٥]
الواجب إمّا أن
يكون قدره معيّنا ، كالصلاة وأمثالها. وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل يكون معلّقا
على اسم يتفاوت بالزيادة والنقصان ، كمسح مقدّم الرأس في الوضوء ، وقراءة التسبيح
في الركوع والسجود ، والتسبيحات الأربع في الركعتين الأخيرتين ، والحلق والتقصير
والهدي ؛ فإنّ جميع ذلك معلّق على اسم يتفاوت بالقلّة والكثرة ، فالقدر المتيقّن
وجوبه ما يحصل به المسمّى.
وإن زيد عليه ،
فهل يقع هذه الزيادة واجبة أو مستحبّة؟ فيه ثلاثة أقوال . ثالثها : التفصيل بأنّ الفعل لو وقع دفعة يكون المجموع واجبا ، وإلاّ
ما يقع أوّلا ممّا يحصل به المسمّى يكون واجبا ، والزائد يكون نفلا.
__________________
وهو الحقّ ؛ لأنّ
الواجب ـ في أمثال ذلك ـ المفهوم الكلّي الذي يمكن حصوله في ضمن جزئيّات كثيرة ،
فأيّ جزئي حصّله يكون هذا المفهوم في ضمنه ، فيكون واجبا ، سواء كان زائدا أو ناقصا
، فإذا أوقع الفرد الزائد عن المسمّى دفعة يكون واجبا ، وإذا أوقع ما يحصل به
المسمّى أوّلا ثمّ أوقع الزائد على التعاقب ، يقع الزائد مستحبّا ؛ لأنّ ما يحصل
به المسمّى كان من جملة الأفراد التي كان المفهوم الكلّي في ضمنها ، وبمجرّد حصوله
حصل الواجب ، فالزائد لا يتّصف بالوجوب ؛ للأصل.
وما احتجّ به
النافي مطلقا ـ بأنّ الزيادة يجوز تركه لا إلى بدل ، فلا يكون واجبا وإن
وقع دفعة ـ فمردود ؛ لأنّه يجوز أن يكون الواجب التخييري ماهيّة كلّيّة في ضمن
أفراد متعدّدة بعضها جزء بعضها ، كالتخيير بين القصر والإتمام. وحينئذ يكون
المجموع ـ الذي هو من جملة الأفراد الزائدة ـ بدلا عن الأفراد الناقصة ، ويتّصف
بالوجوب. وهو ظاهر.
وإذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع أنّه إذا وقع الزيادة عن المسمّى في الامور المذكورة دفعة ، يكون
المجموع واجبا. وإن وقع ذلك على التعاقب ، يقع المسمّى واجبا والباقي نفلا ، ويكون
الثواب في الأوّل أكثر منه في الثاني ؛ نظرا إلى أنّ ثواب الواجب أكثر من [ ثواب ]
المستحبّ.
ثمّ لا يخفى أنّ
المستحبّ أيضا إذا كان معلّقا على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، يكون حكمه كما ذكر
، فإذا وقع ما يحصل به المسمّى ثمّ وقع الزيادة على التعاقب ، لا يتّصف هذه
الزيادة بالاستحباب ؛ لأنّه حصل بالجزء ، والأصل عدم استحباب الزائد.
نعم ، قد ثبت استحباب الزائد بالدليل ، كاستحباب الزائد عن زوجة واحدة مع تعليق الاستحباب
على التزوّج . وكذا كلّ حكم علّق على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، فإن
حصل الزيادة مع ما يحصل به المسمّى دفعة ، يحصل الحكم بالمجموع. وإن حصلت بعده ،
يحصل
__________________
به ، ولا يكون
للزيادة مدخليّة في الحكم ، وذلك كتعليق إحراز نصف الدين وأفضليّة الركعتين على سبعين ركعة على التزوّج.
فائدة
كلّ واحد من
الواجب والمستحبّ لا يجزئ عن الآخر ؛
لتغايرهما ، والأصل عدم قيام المغاير للشيء مقامه.
نعم ، قد ثبت بالدليل إجزاء كلّ منهما عن صاحبه في مواضع :
أمّا إجزاء الوجوب
عن الندب ، فكإجزاء صلاة الاحتياط عن النافلة لو ظهر عدم الاحتياج إليه ، وإجزاء
صوم وقع بنيّة القضاء من رمضان عن الصوم المستحبّ لو ظهر بعده عدم وجوب القضاء
عليه.
وأمّا إجزاء الندب
عن الوجوب ، فكإجزاء صوم يوم الشكّ عن رمضان ، وإجزاء الوضوء المجدّد لو ظهر أنّه
كان محدثا على الأقوى. وقد ذكر مواضع كثيرة وقع في بعضها الخلاف. ويجب أن يكون
الأصل عندك عدم الإجزاء حتّى يثبت بالدليل القطعي .
ضابطة
ثواب الواجب أعظم
من ثواب المستحبّ ؛ لما ورد من « أنّ القدر الذي يمتاز به الواجب هو سبعون درجة » . وللخبر القدسي « وما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم » ؛ ولاشتماله على مصلحة زائدة ، وهذا جار في كلّ واجب ومستحبّ ، إلاّ في مواضع
:
__________________
منها : إبراء
الدين ، المستحبّ بالنسبة إلى إنظار المعسر ، الواجب .
ومنها ـ على ما
ذكر ـ : ابتداء السلام بالنسبة إلى ردّه .
ومنها : الصلاة
التي يعيدها المنفرد جماعة ، فإنّها مستحبّة ، ولكنّها أفضل من الصلاة الواجبة
التي سبقت .
وقد ذكر بعض
الأصحاب مواضع أخر . ويمكن أن يستخرج مواضع كثيرة على ما يستنبط من الأخبار ؛
فإنّ ردّ السلام من الواجبات ، وزيارة النبيّ والأئمّة من المستحبّات ، ولا شبهة
في كون الثاني أعظم ثوابا من الأوّل . فتأمّل.
فصل [١٦]
قد عرفت فيما سبق معنى الصحّة في العبادات وهو موافقة الأمر وامتثاله على
المشهور ، ويرادفها الإجزاء.
وأكثر الأصحاب على
أنّ الإجزاء والقبول متلازمان ، بمعنى أنّ كلّ عبادة تكون مجزئة تكون مقبولة ، أي
يترتّب عليها الثواب. وخالف المرتضى رحمهالله وقال بعدم تلازمهما . فيمكن أن يوجد
الإجزاء من دون القبول ، دون العكس ؛ فإنّه يمكن أن يقع العبادة على الوجه المأمور
به بحيث تبرأ ذمّة فاعله ، ويكون مطيعا ، ولكن لم يترتّب عليها الثواب.
__________________
وأيّد ذلك بكثير من الظواهر : كقوله تعالى : ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) ، مع أنّ عبادة غيرهم أيضا مجزئة إجماعا. وقوله تعالى : ( لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) ، مع أنّ الصدقات الواجبة المتبوعة بهما ليست بباطلة.
وما ورد من أنّ
صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا ، مع أنّ صلاته
ليست بفاسدة في هذه المدّة.
وما ورد من أنّ
الصلاة لا يقبل منها إلاّ ما أقبل عليه ، فربّما قبل نصفها ، وربّما قبل ثلثها ، مع أنّها بدون الإقبال مجزئة.
وسؤال إبراهيم
وإسماعيل التقبّل ، مع أنّ فعلهما كان مجزئا صحيحا.
والجواب عن الجميع
: أنّ المراد بالقبول القبول الكامل المشتمل على زيادة الثواب الموعود به ، مع
أنّه فسّر « المتّقين » في الآية بالمؤمنين ، وفي بعض
الأخبار أنّ المراد منهم الشيعة .
وسؤال إبراهيم
وإسماعيل يمكن أن يكون للواقع ، يدلّ عليه بعده ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) مع أنّهما كانا مسلمين.
ثمّ الظاهر أنّ
السيّد لمّا ذهب إلى أنّ الإجزاء في العبادة ما يوجب سقوط القضاء دون موافقة أمر الشارع ، قال بالفرق بينه وبين القبول ؛
لأنّ سقوط القضاء غير مستلزم للقبول ؛ لما سبق ، فيكون مراده من الإجزاء ـ المنفكّ
عن القبول في الآيات والأخبار المذكورة ـ ما يلزمه سقوط القضاء.
__________________
وقد عرفت الجواب.
ويظهر من كلام
الشهيد أنّ القبول عنده غير الإجزاء وإن فسّر بموافقة الأمر وامتثاله ، حيث قال ـ بعد
ذكر أنّ القبول عنده غير الإجزاء ـ : لأنّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به
شرعا ، وبه يخرج عن العهدة ، وتبرأ الذمّة ، ويسمّى فاعله مطيعا ، والقبول ما
يترتّب عليه الثواب .
والإتيان بالفعل
على الوجه المأمور به شرعا هو موافقة الأمر وامتثاله.
وغير خفيّ أنّه لا
فرق في الاستدلال بالظواهر المذكورة على مغايرة الإجزاء للقبول والجواب عنه بين
تفسير الإجزاء بما يوجب سقوط القضاء ، أو موافقة الأمر ، إلاّ أنّ الحكم بالمغايرة
في الصورة الثانية أفحش ؛ لأنّ السيّد إذا أمر عبده بشيء ووعد عليه الإحسان ، ففعل
العبد ما أمره به على النحو المأمور به ، وكان موافقا لأمره ، فلم يقبله السيّد
وردّه ولم يحسن إليه ، يذمّه العقلاء ، وينسبونه إلى خلاف العدل ، بخلاف ما إذا لم
يأت بالفعل على النحو المأمور به وإن أسقط عنه القضاء.
ويرد عليهما : أنّ العبادة التي لم يترتّب عليها الثواب كيف يخرج بها المكلّف عن التكليف؟!
بل تكون لاغية عبثا ؛ لأنّ كلّ تكليف يترتّب عليه الثواب والعقاب.
وبعض العرفاء وافق
السيّد وقال :
|
لكلّ عبادة قالب
وصورة ، وروح وحقيقة ، فروح الصلاة ـ مثلا ـ وحقيقتها هو الإقبال والإخلاص
والخشوع والحضور ، فإذا أتى بأفعال الصلاة التي هي قالبها من دون الإتيان بما هو
روحها ، يكون ممتثلا لأمر الله ، خارجا عن عهدة التكليف ؛ لأنّ تكليفه كان هذا ،
ولكن لا يثاب ثواب الصلاة ؛ لأنّه موقوف على إيجاد حقيقة الصلاة وروحها دون
قالبها ، فهذه الصلاة من حيث الصورة مجزئة ، فيخرج المكلّف بها عن عهدة التكليف
، ومن حيث الحقيقة غير مجزئة ، فلا يثاب عليها ، فتأمّل فيه .
|
__________________
ثمّ الحقّ أنّ
الإجزاء في العبادة هو موافقة الأمر دون ما يوجب سقوط القضاء ؛ لأنّ القضاء فرض
مستأنف يحتاج إلى أمر جديد كما تعلم ، ولو كان
الإجزاء ما يوجب سقوط القضاء ، لكان مستلزما لترتّب القضاء على الأداء.
ثمّ إنّ السيّد
لمّا فرّق بين الإجزاء والقبول بالنحو المذكور فرّع عليه الحكم بأنّ كلّ عبادة حكم
عليها الشارع بعدم القبول لا تكون مقبولة ، ولكن تكون مجزئة ولا تحتاج إلى القضاء
؛ ولذا ذهب إلى أنّ العبادة بنيّة الرياء مجزئة وإن لم يترتّب عليها الثواب ؛ لأنّ
الأخبار الواردة في النهي عن الرياء إنّما تدلّ على
عدم القبول الموجب للثواب .
وأنت تعلم كيفيّة
الحال بعد الإحاطة بما حقّقناه.
فصل [١٧]
الحقّ أنّ
العبادات ـ كالصلاة والصوم وأمثالهما ـ والعقود ـ كالبيع والصلح ونحوهما ـ والإيقاعات
ـ كالنكاح والطلاق وشبههما ـ لا تطلق حقيقة على الفاسد منها ؛ لأنّ هذه ماهيّات
جعليّة موضوعة بإزاء ما بيّنه الواضع ، أعني الفعل الخاصّ المشتمل على الأركان
والشرائط المخصوصة ، فلو اختلّ أحدها لا يكون من الموضوع له. ويتفرّع عليه عدم
الامتثال والخروج عن العهدة إذا فسدت العبادة ، وعدم ترتّب الأثر على العقود
الفاسدة.
وتظهر الفائدة في
الأيمان ، والنذور ، وأمثالهما أيضا.
فصل [١٨]
إذا رفع الوجوب
بسبب النسخ أو انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فهل يبقى الجواز أم لا؟ قولان. وقبل الخوض
في الاستدلال لا بدّ من تقديم مقدّمة يعلم بها تحرير محلّ النزاع ، وهي أنّ الجواز
على قسمين :
__________________
أحدهما : الجواز
بالمعنى الأعمّ الذي هو بمعنى مطلق الإذن ، وهو قدر مشترك بين الواجب ، والسنّة ،
والإباحة ، والكراهة.
وثانيهما : الجواز
بالمعنى الأخصّ وهو استواء الطرفين ، وهذا إمّا أن يكون ثبوته بحكم الشارع وبيانه ، فهو الإباحة الشرعيّة التي هي من الأحكام الخمسة ، أو من
العقل فهو الإباحة العقليّة الأصليّة التي تكون هي الأصل في الأشياء والأفعال قبل
بيان الشارع.
والوجوب ماهيّة
مركّبة من الجواز بالمعنى الأعمّ والمنع من الترك ، والأوّل جنسه ، والثاني فصله ،
فالأمر الدالّ على الوجوب يدلّ على جنسه تضمّنا ، وليس الجواز بالمعنى الأخصّ جزءا
للوجوب ؛ لأنّه قسيمه ، ولا مدخليّة للإباحة العقليّة للوجوب ؛ لأنّها ليست من
أحكام الشرع ، فلا كلام في أنّ كلّ فعل رفع وجوبه يجوز الإقدام عليه ؛ نظرا إلى
الإباحة الأصليّة إن كان حكمه قبل الوجوب ذلك. فالخلاف في أنّه إذا رفع الوجوب هل
يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ الذي هو جزؤه ، أم لا؟
والتحقيق عدم
بقائه ؛ لأنّه جنسه ، والمنع من الترك فصله ، والجنس متقوّم بفصله ، فإذا رفع
الفصل يرفع الجنس أيضا.
فإن قيل : الجنس
محتاج إلى فصل ما ، لا إلى فصل معيّن ، فرفع هذا الفصل ـ أعني المنع من الترك ـ مستلزم
لرفع الجنس إذا لم يخلفه فصل آخر ، مع أنّ رفع المنع من الترك يقتضي ثبوت الإذن
فيه ، فيكون هذا فصلا للجنس المذكور ، فكان أوّلا في ضمن الوجوب ، وثانيا في ضمن
الجواز بالمعنى الأخصّ.
قلنا : أمّا أوّلا
: فحدوث الفصل الآخر إمّا أن يكون قبل ارتفاع الجنس ، أو معه ، أو بعده. والأوّل
غير ممكن ؛ لأنّه متأخّر عن ارتفاع الفصل الأوّل الذي يقارنه ارتفاع الجنس. وعلى
الأخيرين يتحقّق ارتفاع الجنس. فإن حدث بعد ذلك ، لا يكون الجواز الذي كان في ضمن
الواجب ، ولا يصدق حينئذ أنّه رفع الوجوب وبقي الجواز ، مع أنّه بعد ارتفاع الجنس
والفصل لا مقتضي لحدوث هذا الجنس وفصل آخر ، فرجع الأمر حينئذ إلى ما كان
__________________
قبل الوجوب من
الإباحة العقليّة أو التحريم.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ الجواز الذي كان في ضمن الوجوب لا يمكن أن يتحقّق بعينه في ضمن الإباحة ؛
لأنّ حصص الجنس متفاوتة ، والحصّة الموجودة منه في ضمن نوع غير الحصّة التي في ضمن
نوع آخر ، وكلّ فصل علّة للحصّة التي معه ، فتزول بزواله ؛ لأنّ المعلول يزول
بزوال علّته ، فإذا ارتفع المنع من الترك ، يرتفع الجواز الذي كان معه
، والجواز الذي يتحقّق مع الإذن فيه غير الجواز المرتفع.
فإن قيل : إذا كان
الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج ـ كما هو التحقيق ـ يلزم أن يكون الجنس الموجود
في ضمن أنواعه واحدا ، بمعنى أنّ الجنس الموجود في ضمن هذا النوع هو بعينه الجنس
الموجود في ضمن نوع آخر.
قلت : يلزم منه أن
يكون واحدا بالمعنى لا بالعدد ، وإلاّ لم يمكن أن يكون الفصول المختلفة عللا له ،
والوحدة المعنويّة لا تنافي الاختلاف العدديّ ، فيلزم ما ذكر.
واحتجّ بعض من
أنكر البقاء : بأنّ زوال الوجوب الذي هو معلول للأمر مستلزم لزوال
الأمر ؛ لاستلزام رفع المعلول لرفع علّته ، فإذا زال الأمر
يزول الجواز أيضا ؛ لعدم وجود المقتضي له حينئذ.
واجيب : بأنّ
الاستلزام ممنوع ، لأنّ ثبوته مسلّم فيما لو كان الأمر علّة للوجوب مطلقا ، أي من
دون شرط عدم طريان الرافع ، وأمّا إذا كان مشروطا به ، فيمكن أن يرتفع الوجوب بدون
ارتفاع الأمر ؛ لجواز ارتفاعه بارتفاع شرط تحقّقه .
ولا يخفى ما فيه.
فتأمّل.
واحتجّ القائل
بالبقاء : بأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة من الجزءين ، ورفع المركّب قد يتحقّق برفع
جميع أجزائه ، وقد يتحقّق برفع بعض أجزائه ، فالرفع أعمّ منهما ، ولا دلالة للعامّ على
__________________
الخاصّ ، ففي رفع
الوجوب يكفي رفع المنع من الترك الذي هو أحد جزءيه ، ولا يلزم رفع الجواز أيضا .
وردّ : بأنّ [
بقاء ] الجواز حينئذ لا يكون محقّق الوقوع ، فلا يثبت مطلوبكم .
واجيب : بأنّ
الظاهر بقاؤه ؛ لأنّه كان ثابتا أوّلا ؛ لوجود مقتضيه ، والأصل استمراره حتّى يثبت
خلافه .
وأنت بعد ما علمت
من عدم إمكان بقاء الجواز ، تعلم سقوط هذا الجواب مع أصل الاحتجاج.
وإذا علمت ذلك
تعلم أنّ الحقّ أنّه إذا ارتفع الوجوب ، يرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل ورود
الأمر من إباحة ، أو تحريم ، أو غيرهما. ورجوعه إلى الإباحة العقليّة إذا كان قبله
عليها لا سترة به. ورجوعه إلى التحريم إنّما يكون في العبادة ؛ لأنّها لمّا كانت
توقيفيّة فهي موقوفة على بيان الشارع وأمره ، فإذا أمر بها تكون إمّا واجبة أو
مستحبّة ، وإذا رفع الأمر لا يجوز فعلها ؛ لأنّ العبادة لا تكون مباحة ، ولذا لمّا
نسخ وجوب التوجّه إلى بيت المقدس ، صار التوجّه إليه حراما. فالعبادة إذا رفع
وجوبها لا يمكن أن يرجع إلى الإباحة.
وأمّا غير العبادة
، فيرجع إلى ما كان عليه قبل حكم الشرع من حكم العقل من إباحة ، أو حرمة ، أو
غيرهما ؛ فإنّ للعقل في كلّ فعل حكما.
وإن كان قبل
الوجوب على حكم من أحكام الشرع ، فهل يرجع بعد رفع الوجوب إلى هذا الحكم الشرعي ،
أو إلى الحكم العقلي الذي كان قبله؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي كان
قبل الوجوب رفع به ، وبعد رفعه لا يعود ؛ لعدم المقتضي ، فيرجع إلى الحكم
العقلي.
ومن التفريعات
لهذا الأصل : أنّه إذا كان الإمام عليهالسلام ، أو نائبه شرطا لوجوب الجمعة ، ففي
__________________
زمان الغيبة لا
يجوز فعلها على ما اخترناه ، فيبطل التخيير. وقس عليه نظائره.
ثمّ اعلم أنّ بعض
القائلين ببقاء الجواز ذهب إلى أنّ الباقي هو المعنى الظاهر من الجواز ، أي
الإباحة . وقال بعضهم : إنّ الباقي هو الاستحباب . وقال بعضهم : الباقي ما يعمّهما والمكروه .
ولا يخفى أنّه لو
تمّ قولهم كان خير أقوالهم أوسطها ؛ لأنّ الوجوب مركّب من الإذن في الفعل ورجحانه
والمنع من الترك ، فإذا رفع الأخير بقي الأوّلان.
[ البحث
في أفعال المكلّفين والمكلّف ]
واعلم أنّه لمّا
كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن الحكم والحاكم والمحكوم فيه ـ وهو أفعال
المكلّفين ـ والمحكوم عليه ـ وهو المكلّف ـ وقد ذكرنا الأبحاث المتعلّقة بالأوّلين
، فلا بدّ من ذكر الأبحاث المتعلّقة بالأخيرين ، فنذكرها في فصول :
فصل [١٩]
امتناع التكليف
بالمحال ظاهر ؛ لقبحه ، فلا يصدر من الحكيم. ولم يخالف أحد سوى الأشاعرة ، ولهم شبه واهية. ولمّا كان ثبوت المطلوب وضعف شبه المخالفين. وكيفيّة
التفريع في غاية الوضوح ، فلا نطيل الكلام بذكرها.
مسألة : لا يشترط في التكليف بفعل حصول الشرط الشرعي له ، ولذا
يجب الصلاة على
__________________
المحدث والجنب مع
عدم تحقّق شرطها فيهما ، وهو الطهارة. ويجب الصلاة على من لم يتلبّس بالنيّة مع
أنّها شرطها. والاستقراء يفيد القطع في ذلك. والسرّ في ذلك ما تقدّم من وجوب تحصيل
الشرط للواجب المطلق ، فيجب على المحدث أن يتطهّر ويصلّي.
وقد وقع الخلاف في
تكليف الكفّار بفروع الشريعة على أقوال : ثالثها : أنّهم
مكلّفون بالنواهي دون الأوامر. ورابعها : أنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصلي.
وخامسها : أنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد.
ثمّ بعض المنكرين
قال بعدم الجواز ، وبعضهم قال بعدم الوقوع .
والحقّ الجواز
والوقوع.
والدليل على
الأوّل ، ما ذكرنا أوّلا ؛ فإنّ انتفاء الشرط الشرعي للتكليف ـ وهو الإيمان ـ لا
ينافي وجوبه كما علمت . ولا يتصوّر مانع سواه.
احتجّ الخصم :
بأنّه لو صحّ تكليف الكافر ، لأمكن له الامتثال مع أنّه لا يمكن ، أمّا في حالة
الكفر ، فظاهر. وأمّا بعده ، فلأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، فيسقط عنه التكليف ، والامتثال فرعه.
والجواب : أنّه
ممكن في حال الكفر بأن يسلم ، ثمّ يمتثل التكليف كالمحدث والجنب.
وعلى الثاني ، ما
ورد من الأوامر العامّة بالعبادات الشاملة لهم ، كقوله تعالى : ( يا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) ، و ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ، و ( وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) الآية.
__________________
وما ورد من ذمّهم
على ترك العبادة ، كقوله تعالى : ( وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ).
وما دلّ من أنّ
الله يعاقبهم على ترك العبادات ، كقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) الآية.
احتجّ الخصم :
بأنّه لو وقع التكليف لوجب عليهم القضاء .
والجواب : أنّ
الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء ، بل هو بأمر جديد ، فلا ملازمة بينهما.
وكيفيّة التفريع :
أنّه يحرم علينا إعانة الكفّار بالمحرّم عندنا ، كالخمر ، والخنزير ، والأكل
والشرب في نهار رمضان. وعلى القول بعدم تكليفهم لا تحرم. وإذا زنى ذمّيّ ، فيجب
عليه الحدّ بمقتضى شرعنا ، أو شرعهم ، والحاكم مخيّر في ذلك. ويتأتّى عدم الوجوب
على القول بعدم تكليفهم ، كما ذهب إليه بعض العامّة .
فصل [٢٠]
قيل : كلّ مكلّف
به لا بدّ أن يكون فعلا ، فالمكلّف به في النهي فعل ضدّ المنهيّ [ عنه ] ؛ فإذا
قيل : لا تتحرّك ، فمعناه اسكن ، وليس المراد منه التكليف بترك الحركة ؛ لأنّه عدم
، وكلّ عدم غير مقدور عليه .
والأكثر على أنّ
المكلّف به في النهي الترك ، إلاّ أنّهم اختلفوا في أنّ المراد منه الكفّ وتوطين
النفس عليه حتّى يكون فعلا أيضا ، أو نفي الفعل؟ ذهب إلى كلّ منهما طائفة ؛ فالمذاهب ثلاثة.
وحجّة الأوّل ما
ذكر.
__________________
وجوابها : منع عدم
القدرة على العدم إذا كان مضافا. وتعرف له زيادة بيان.
هذا ، مع أنّ هذه
الحجّة إن تمّت لا تدفع القول الثاني.
وحجّة الثاني
وجهان :
أوّلهما : أنّ حمل النهي على أنّ المراد منه إيجاد الضدّ خلاف
اللغة والعرف ، فاندفع القول الأوّل. وليس المراد منه نفي الفعل ؛ لأنّه غير مقدور
عليه ، والمكلّف به يجب أن يكون ممكن الوقوع من المكلّف .
وجوابه : أنّ نفي
الفعل لو لم يكن مقدورا عليه ، لم يكن الفعل أيضا كذلك ؛ لأنّ نسبة القدرة إلى
الطرفين على السواء.
وردّ : بأنّه عدم
كان ثابتا قبل واستمرّ ، ولا يمكن أن يكون أثرا للقدرة ؛ لأنّه لا بدّ لها عقلا من
أثر حادث متجدّد .
ولا يخفى ما فيه ؛
فإنّ إبقاء الاستمرار وعدم رفعه ممّا يصلح أن يكون متعلّقا للقدرة ، بل هو المكلّف
به في النهي ليس إلاّ.
وثانيهما : أنّ المكلّف به في النهي لو كان نفي الفعل ، لزم أن
يترتّب عليه الثواب وإن لم يتحقّق الكفّ ؛ لأنّ المكلّف به في الحرام ما يترتّب
عليه الثواب ، فيلزم أن يكون تارك الزنى ـ مثلا ـ مثابا وإن لم يكفّ نفسه عنه ،
كما في صورة عدم القدرة ، أو الشوق ، أو الشعور .
وجوابه : أنّ
الثواب يترتّب على نفي الفعل ، إلاّ أنّه مشروط بأن يكون مقارنا للشعور والقدرة.
وإذا عرفت عدم
تماميّة القولين الأوّلين ـ بل عدم صحّة القول الأوّل ؛ لما ذكر في حجّة الثاني ـ تعلم
أنّه لا بأس بالقول الثالث ، بل هو الحقّ ؛ لأنّه قد يتحقّق ترك الحرام مع إرادة
الفعل عند القدرة ، ولا شكّ أنّه لا يمكن تحقّق الكفّ حينئذ ، فثبت القدرة على نفي
الفعل من دون الكفّ.
__________________
وأيضا لو كان
المكلّف به في النهي الكفّ ، يلزم أن لا يترتّب الإثم على ترك الواجب بدون الكفّ ، فمن ترك الصلاة مثلا من دون أن يكفّ نفسه ويوطّنه على الترك ، لا يكون معاقبا وهو باطل.
وأيضا إذا كان
المطلوب بالنهي هو الكفّ ، فيكون فعلا واجبا ، فتركه إنّما يتحقّق بالكفّ عنه على
ما هو الفرض ، فيترتّب الإثم في الحرام على الكفّ عن الكفّ ، مع أنّ فاعل الحرام
لا يجد من نفسه الكفّ عن الكفّ.
وأيضا على تفسير
القدرة يدخل عدم الفعل في المقدور ، كما لا يخفى .
وكيفيّة التفريع
على الخلاف الأوّل : أنّه إذا قال : « إن خالفت أمري ، فأنت عليّ كظهر أمّي » فقال
لها : « لا تكلّمي زيدا » فكلّمته ، فعلى القول الأوّل يقع الظهار ؛ لأنّ المراد
من قوله : « لا تكلّمي » اسكتي ، فوقع مخالفة الأمر. وعلى القول الثاني لا يقع ؛
لأنّه لم يقع مخالفة الأمر ، بل النهي.
وعلى القول الأوّل
يلزم أن يكون النهي عن كلّ شيء أمرا بضدّه ، فإذا كان له ضدّ واحد يتعيّن ، وإن
كان له أضداد فيكفي واحد منها. ولا يخفى أنّ ثبوت هذا لا ينافي ما ذهبنا إليه ؛ لأنّ هذا إنّما يكون على سبيل الاستلزام لا العينيّة .
ويتفرّع على
الثاني أنّه لو حصلت نخامة في فم الصائم ، فتركها حتّى نزلت
بنفسها إلى جوفه ، فعلى القول الثاني لا يبطل صومه ، بل إنّما هو في صورة ابتلعها
قصدا. وعلى القول الثالث يبطل.
__________________
ولو قال : « لو
فعلت ما ليس فيه رضى فعليّ كذا » فترك إحدى الواجبات ، ففيه الوجهان ، وقد عرفت
الحقّ.
فصل [٢١]
الفهم شرط التكليف
، وبه قال أصحابنا وكلّ من أحال تكليف المحال ؛ للزومه لولاه ،
ولو لم يكن شرطا له لصحّ تكليف البهائم.
وقد ورد أخبار
كثيرة بأنّ التكليف يتوقّف على فهم المكلّف وعلمه . ويدلّ عليه بعض الآيات أيضا.
واحتجّ المخالف :
بأنّه تعلّق بالصبي والمجنون ضمان ما أتلفاه ، ومع اشتراط
التكليف بالفهم لا معنى لضمانهما.
واجيب : بأنّه ليس
بتكليف ، بل من الأسباب ، والمكلّف بها الوليّ ، وعلى تقدير تعلّق التكليف بهما ـ نظرا
إلى دخول الحكم الوضعي في الشرعي ـ لا منع أيضا ؛ لأنّه يجوز التخلّف عن الأصل
باعتبار النصّ. ومن ذلك صحّة جميع ما تعلّق بغير المكلّفين من الأحكام الوضعيّة
على فرض الثبوت ، كضمان النائم والسكران ما أتلفاه. وقد تقدّم أيضا ما ينفع في
المقام .
واحتجّ أيضا :
بأنّه تعالى خاطب السكران بقوله : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ ) ، ومخاطبة السكران من باب التكليف بمن لا يعلم .
__________________
واجيب بوجهين :
أحدهما : أنّ المراد من السكران الثمل ، وهو من ظهر منه مبادئ
الطرب وعقله ثابت بعد ، وكثيرا ما يسمّى الثمل سكرا من باب المجاز ؛ لأنّه يؤدّي
إليه غالبا ، ولفظة « حتّى » على هذا بمعنى الغاية ، ويكون ما بعدها مؤوّلا ، أي
يتكامل فيكم العلم والفهم.
وثانيهما : أنّ المراد منه لا تسكروا وقت الصلاة ، نحو « لا تموتنّ
وأنتم كافرون » أي لا تكفروا ، فتموتوا وأنتم كافرون. وعلى هذا لفظة « حتّى »
بمعنى كي.
وكيفيّة التفريع :
أنّه يحكم بنفي تعلّق الحكم بغير المكلّفين ، كالحكم بنفي الحدّ عن المجنون إذا
زنى ، ونفي صحّة تزويج السكرى نفسها ، ونفي صحّة طلاق السكران ؛ وتعلّق الحكم بغير
المكلّفين في بعض الموادّ لدليل خارجي ، كوجوب قضاء الصلاة على النائم والسكران.
ثمّ الحقّ اشتراط
الفهم في ابتداء الفعل وأثنائه ، فلو زال الفهم في وسط الفعل سقط التكليف ؛ لأنّ
الأدلّة تشمل بعمومها أثناء الفعل أيضا ، ولذا لم يفرّق القوم بينهما.
وذكر بعض
المتأخّرين : أنّه يظهر من الأدلّة اشتراط الفهم في ابتداء الفعل فقط ، حتّى لو
نوى الفعل المتوقّف على النيّة مع الفهم ثمّ زال في أثنائه ، صحّ هذا الفعل .
وفرّع عليه صحّة
صلاة الساهي عن بعض الأفعال ، وصوم النائم وصوم من أكل سهوا إذا وقع النيّة منهم
مع التذكّر .
ولا يخفى أنّ
إخراج هذه الأشياء من القاعدة لدليل خارجي ، وفي غيرها ـ ممّا لم يثبت التخلّف
بدليل خارجي ـ يكون الحكم كما ذكرناه. ويتفرّع عليه عدم صحّة صوم المغمى عليه في
أثناء اليوم ، وعدم وجوب القضاء عليه.
فصل [٢٢]
اتّفق أكثر
العقلاء على امتناع تعلّق التكليف بالمعدوم ، وخالف الأشاعرة وصرّحوا بأنّ
__________________
المعدوم مكلّف . ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، والإشارة إلى ما هو الحقّ.
فنقول : يتصوّر
هاهنا صور :
الأولى : أن يكون المراد من تكليف المعدوم تكليفه تنجيزا ، بأن
يطلب منه الفعل في حالة العدم ، ولا ريب في بطلانه ؛ فإنّ الفهم لو كان شرطا
للتكليف ، فالوجود أولى بذلك.
والظاهر أنّ
الأشعري أيضا لم يقل به.
الثانية : أن يكون المراد منه تكليفه في حالة الوجود ، بأن لا يكون
التكاليف الشرعيّة متعلّقة بالمعدوم في حالة عدمه ، بل إذا صار موجودا وحصل فيه
شرائط التكليف حدث تعلّقها به ، وعلى هذا لم يتوجّه على المعدوم شيء ، لا تنجيز
التكليف ، ولا التعلّق العقلي. وإطلاق تكليف المعدوم على ذلك بناء على أنّه لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده وصار بعد الوجود داخلا
تحته ، فكان للأمر المذكور علاقة ما به في حال عدمه أيضا.
وغير خفيّ أنّ هذا
لا ضير فيه ؛ لأنّ بناءه على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر الموجودين الحاضرين بأنّ كلّ معدوم يوجد ، فيكلّفه
الله بما كلّفكم ، فالأوامر الإلهيّة لم تتعلّق بالمعدومين مطلقا ، ولكن لمّا علم
الله أنّه يوجد المعدومين ، فأخبر الأنبياء بأن يخبروا الموجودين بأنّ من يوجد
يكون مكلّفا بما يتضمّن هذه الأوامر ، فيحدث تعلّق الأمر بكلّ أحد بعد وجوده بخبر
النبيّ. وهذا ممّا نقول به ، ولكنّ الإطلاق المذكور على ذلك غير مناسب ، والتعليل
المذكور غير صالح لتصحيحه ، ومراد الأشاعرة أيضا ليس هذا.
الثالثة : أن يكون المراد منه التعلّق العقليّ ، وهو أنّ المعدوم
الذي علم الله في الأزل أنّه يوجد فيما لا يزال قد تعلّق به التكليف الذي يفعله
إذا وجد وحصل فيه شرائط التكليف ، وعلى هذا يتعلّق التكليف بالمعدوم ، إلاّ أنّه
ليس تعلّقا تنجيزيّا.
واورد عليه : بأنّ
مطلق التعلّق يتوقّف على متعلّق موجود ؛ لأنّ الإضافة تتوقّف على المضاف إليه .
__________________
واجيب : بأنّ
المتعلّق هو الموجود العلمي ؛ فإنّ ما تعلّق به التكليف وإن كان معدوما في الخارج
، إلاّ أنّه موجود في علم الله ، فتعلّق به التكليف تعلّقا علميّا ، وإذا وجد في
الخارج يتعلّق به تعلّقا تنجيزيّا. وهذا هو مراد الأشاعرة .
واحتجّوا أمّا
أوّلا : فبأنّ كلامه أزلي ، وإلاّ لزم قيام الحوادث بذاتها ، ومن جملة كلامه الأمر والنهي ، وكلّ منهما تكليف ، فيكون التكليف
أزليّا. ومن اللوازم الذاتيّة للتكليف التعلّق ؛ لعدم تحقّقه بدونه ، فيكون
التعلّق أيضا أزليّا ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يتعلّق التكليف بالمعدوم .
وغير خفيّ أنّ كون
الكلام عندهم أزليّا بناء على ما ذهبوا إليه من إثبات الكلام النفسي ، وهو باطل
عندنا ، بل الكلام مؤلّف من الحروف وهو حادث ، وليس قائما بذاته حتّى يلزم ما ذكر.
وقد حقّق ذلك في محلّه.
وأمّا ثانيا :
فبأنّا مكلّفون بأوامر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع كوننا معدومين في حالة أمره .
واجيب : بأنّه
يحدث تعلّقها بنا بخبر النبيّ إذا وجدنا كما تقدّم. فكلّ موجود وإن دخل تحت
الأوامر الصادرة عند عدمه ، إلاّ أنّ تعلّقها به لم يكن عند عدمه ، بل بعد وجوده ؛
فإنّ الآمر إذا علم وجود شخص فيما بعد ، وأراد في وقت عدمه أن يأمره بشيء عند
وجوده ، ولم يكن في غرضه تعلّق الأمر به في حالة عدمه ، يجوز أن يأمره به مطلقا من
غير تقييد ، كأمر الرجل ولده الذي أيقن من طريق بأنّه سيولد بتعلّم إحدى الصناعات .
هذا ، مع أنّ
تعلّق التكليف بالمعدوم لا يترتّب عليه فائدة وإن كان له وجود علمي ، وصدور أمر لم
يكن فيه فائدة قبيح من الحكيم.
والقول بأنّه
يترتّب عليه الفائدة بعد زمان ، أي حالة وجوده ، وهو كاف لخروجه عن
__________________
القبح مع إمكان
ترتّب فائدة على التعلّق في حالة العدم أيضا وإن لم نعلمها ، ضعيف جدّا ، كما لا يخفى.
ثمّ لمّا عرفت أنّ
كلامه تعالى ليس أزليّا ، فلا يكون فرق بين أوامره تعالى وخطابات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في شمولها للمعدومين وعدمه. وكيفيّة التفريع أيضا في الجميع واحدة.
وقد وقع الخلاف في
شمول خطاب الله ورسوله صلىاللهعليهوآله للمعدومين. وللمجوّزين حجج يمكن إجراؤها فيما نحن فيه.
وسيجيء تحقيقه مع كيفيّة التفريع.
فصل [٢٣]
الإكراه إذا بلغ
حدّ الإلجاء لا يصحّ معه التكليف بأحد الطرفين ؛ لأنّ أحدهما حينئذ واجب الوقوع ،
والآخر ممتنع الوقوع ، فلا يبقى معه قدرة على أحدهما ، والتكليف مشروط بها.
ولم يخالف فيه سوى
المجوّزين للتكليف بما لا يطاق .
وإذا لم يبلغ حدّ
الإلجاء ، فالمشهور جواز التكليف بأحد الطرفين ؛ لبقاء القدرة.
وقال المعتزلة :
لا يجوز ؛ نظرا إلى أنّ المكلّف به يترتّب عليه الثواب ، أو العقاب ، وفعل المكره
لا يترتّب عليه شيء منهما ؛ لأنّه أتى به لأجل الإكراه ، لا لأجل أمر الشارع .
والجواب : أنّه
إذا اختار نقيض ما اكره عليه ، فلا شبهة في كونه أبلغ في إطاعة أمر الشارع إذا كان
مأمورا به منه ، وأبلغ في مخالفة أمره إذا كان منهيّا عنه منه.
وإذا اختار ما
اكره عليه ، فيقدر أن يأتي به لأجل أمر الشارع أو نهيه ، فيترتّب عليه الثواب أو
العقاب. وهذا كاف للمطلوب .
__________________
أقول : وممّا يدلّ
على قول المعتزلة قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » ، فيجب حمل الإكراه فيه على الإلجاء ، أو القول بأنّ الموارد التي بقي فيها
التكليف مع الإكراه مخصّصة من القاعدة. وهذا أقوى.
وكيفيّة التفريع :
أنّه إذا ألجئ الصائم على الإفطار بأن وجر شيء في حلقه ، أو حبس رجل من الصلاة أو
غيرها من الطاعات ، يسقط عنه التكليف ؛ نظرا إلى عدم بقاء القدرة.
وكذا الإلجاء على
الزنى ، وإمكانه في حقّ المرأة ظاهر. وأمّا في حقّ الرجل ، فالظاهر كذلك أيضا ،
كما لا يخفى.
ولا يباح القتل
بالإكراه إذا لم يبلغ حدّ الإلجاء. وإن علم أنّه إذا لم يقتل قتل ، فإذا قتل يجب
به القصاص إجماعا ، فهذا مخصّص.
وإذا اكره على
إتلاف المال ، لم يتعلّق به شيء ، ويتعلّق الضمان بالآمر.
وفروع هذه القاعدة
كثيرة. وحقيقة الحال ظاهرة عليك في جميعها بعد تحقيق الأصل.
والضابط : أنّه لا
يترتّب على فعل المكره شيء إلاّ في مواضع مخصوصة : منها ما ذكر.
ومنها : الإكراه
على الحدث في الصلاة والطواف ، فإنّه يبطلهما . ووقع الخلاف في
أنّ الإكراه على فعل المنافي غير الحدث هل يبطل الصلاة ، أم لا؟
ومنها : الإكراه
على إعطاء الخمس والزكاة ؛ فإنّه يبرئ الذمّة.
ومنها : الإكراه
على الإرضاع ؛ فإنّه ينشر الحرمة.
ومنها : إكراه
الحربيّ والمرتدّ عن ملّة ، والمرتدّة مطلقا على الإسلام ؛ فإنّ إسلامهم مقبول
حينئذ ، بخلاف الذمّيّ.
ومنها : الإكراه
على تولّي الحدّ والقصاص.
وقد ذكر بعض مواضع
أخر أيضا .
__________________
فصل [٢٤]
الفعل المكلّف به
إذا كان مشروطا بشرط ، فإن جهل الآمر انتفاء شرطه ، يصحّ التكليف به إجماعا ، كتكليف السيّد عبده بفعل في غد مع جهله
بموته قبله.
وإن علم انتفاءه
لم يصحّ التكليف به على الأقوى ، وفاقا لمحقّقي أصحابنا والمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة . فكلّ فعل مكلّف به في زمان لا بدّ أن يدرك المكلّف مقدارا
منه يتمكّن فيه من أدائه ، فإن علم عدم الإدراك سقط الوجوب ، كتكليف زيد بصوم غد
مع العلم بموته أو جنونه فيه أو قبله. وإن لم يعلم يجب الشروع فيه ، فإن أدرك جميع
الوقت استقرّ الوجوب ، وإلاّ تبيّن سقوطه.
لنا : أنّ الإتيان
بالفعل مع عدم شرطه غير ممكن ، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق.
وأيضا لو صحّ التكليف
مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، لصحّ مع علم المأمور به أيضا ، واللازم باطل
بالإجماع. وبيان الملازمة ظاهر.
واجيب : بأنّ
الأمر كما يحسن لمصلحة في المأمور به ، كذلك قد يحسن في نفس
الأمر ، كما إذا أمر السيّد عبده ، أو غيره غيره بفعل للامتحان مع علمه بأنّه
يمنعه عن الفعل ، وحينئذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه يلزم إذا كان المراد
من الأمر فعل المأمور به بانتفاء الشرط ؛ لأنّه لا معنى حينئذ للامتحان .
ولا يخفى أنّه لو
حسن الأمر لنفسه لا للمأمور به ، لما دلّ مطلق الأمر بشيء على حسن المأمور
به ، ولا على وجوب مقدّمته ، ولا على النهي عن ضدّه ، بل توقّف ذلك على ثبوت أنّ
__________________
المراد من الأمر
فعل المأمور به ، فكان الواجب الفحص عن كلّ أمر حتّى يعلم أنّه من الفرد الذي
يستلزم الامور المذكورة أم لا ، مع أنّ القوم يحكمون باستلزام مطلق الأمر للامور
المذكورة من غير فحص.
هذا ، مع أنّ صحّة
التكليف المذكور مستلزمة للإغراء بالجهل ؛ لأنّ المأمور معتقد حينئذ إرادة الآمر
منه الفعل مع أنّه ليس كذلك. والمثال الذي ذكر ـ لو سلّم حسنه ـ تمّ في حقّ غير
الله ؛ لأنّ المطلوب منه تحصيل العلم بحال الغير ، والله غنيّ عن ذلك.
احتجّ الخصم :
بأنّه لو لم يصحّ التكليف بفعل علم عدم شرطه ، لم يكن تارك كلّ مكلّف به عاصيا ؛
لأنّ من شروطه إرادة المكلّف ، والله علم عدم الإرادة منه .
والجواب : أنّ
المراد من الشرط شرط الواجب المقيّد الذي ليس تحصيله واجبا على المكلّف ، أو شرط
الواجب المطلق الذي لم يقدر المكلّف على تحصيله ؛ فإنّه لو علم انتفاء هذين
الشرطين في الواقع ، لم يصحّ التكليف.
وأمّا شرط الواجب
المطلق الذي كان المكلّف قادرا على تحصيله ، فيصحّ التكليف بمشروطه. والإرادة من
هذا القبيل ؛ فإنّ المكلّف يقدر على تحصيلها ، فعدمها من سوء اختياره ، فلا يسقط
به التكليف.
ولو كان المراد من
الشرط شرط الواجب المطلق الذي أمكن تحصيله ، لم يكن فرق بين هذه المسألة وما تقدّم
من أنّ التكليف بالواجب المطلق لا يتوقّف على حصول شرطه.
ولهم بعض أدلّة
ضعيفة أخر . وجوابها في غاية الظهور ، ولذا لم نتعرّض لها.
وفروع هذه القاعدة
كثيرة : كعدم وجوب الكفّارة على من أفطر في نهار رمضان عمدا ثمّ مات ، أو جنّ ، أو
مرض ، أو سافر ؛ لأنّ كلاّ منها كاشف عن عدم وجوب الصوم ؛ لانتفاء شرطه.
وكعدم وجوب قضاء
الحجّ عمّن أيسر ومات في سنة اليسر قبل التمكّن من الحجّ.
__________________
وعدم نقض تيمّم من
وجد الماء ولم يتمكّن من الطهارة.
وعدم وجوب قضاء
الصلاة على من أدرك الوقت ومات ، أو جنّ ، أو حاضت ، أو نفست قبل مضيّ وقت يسع فعل
الصلاة.
فائدة
قد تقدّم أنّ الفهم والعلم شرط التكليف ، ولذا لا يتعلّق بالساهي والغافل وغير العاقل
وأمثالهم. وربما يتراءى تنافيه لما ذكر القوم من تعلّق التكليف بالجاهل وعدم
معذوريّته إلاّ في مواضع مخصوصة ؛ لأنّ العلم إن كان شرطا في التكليف لزم عدم
تعلّقه بالجاهل أيضا ، وإن لم يكن شرطا له لزم تعلّقه بالساهي وغير العاقل
وأمثالهما أيضا .
والحقّ عدم
المنافاة ؛ لأنّ سقوط التكليف عنهم بناء على فقدانهم
العلم ، وعدم تمكّنهم من تحصيله أيضا. فلو كلّفوا مع ذلك يلزم التكليف بما لا يطاق
، ولذا حكموا بسقوط التكليف فيما لا نصّ فيه ، وصرّحوا فيه بالإباحة ؛ لأنّ
التكليف به مع عدم إمكان تحصيل العلم به من الأدلّة تكليف بما لا يطاق.
وأمّا تكليف
الجاهل فليس تكليفا بما لا يطاق ؛ لأنّ عدم علمه باعتبار تقصيره ؛ فإنّه كان
متمكّنا من تحصيله فقصّر ولم يحصّله ؛ فإنّ كلّ مكلّف يعلم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أتى بواجبات ومحرّمات كلّف بها كلّ مكلّف ، ومكّنه الله من العلم بها ، فلو
سامح ولم يحصّلها يكون عاصيا باعتبار التقصير.
فمثله مثل عبد
أعطاه سيّده طومارا مطويّا فيه بعض الأوامر ، وقال له : يلزم عليك أن تفتحه وتقرأه
وتعمل بجميع ما فيه ، وكان العبد متمكّنا من قراءته إمّا بنفسه أو بإعانة الغير ،
فلو لم يعمل به متعذّرا بعدم العلم به عدّ عاصيا.
ومثل غير العاقل
والساهي ومن لم يصل إليه دليل الحكم بعد الفحص التامّ ، مثل عبد
__________________
أعطاه سيّده
الطومار المطويّ في موضع لم يقدر على قراءته بوجه ، أو كتب الطومار ولم يعطه ، فلا
يتوجّه عليه ذمّ باعتبار عدم العمل.
وما ذكر إنّما
يجري في الجاهل في نفس الحكم الشرعي ، كالجاهل ببطلان الصلاة في المكان المغصوب.
وأمّا الجاهل في موضوعه ـ كالجاهل بأنّ هذا المكان مغصوب ـ فلا يجري فيه ما ذكر ؛
لأنّ الأوّل علم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جاء ببعض الأحكام وعلمها إجمالا ، ويتمكّن من تعلّمها
تفصيلا ، وذمّته مشغولة بالعمل بها يقينا ، فيجب عليه تعلّمها والعمل بها ؛ لأنّ
شغل الذمّة اليقينيّ محتاج إلى البراءة اليقينيّة.
وأمّا الثاني ،
فلا يجب عليه الفحص عن كلّ مكان مثلا بأنّه مغصوب أم لا ، ولا عن كلّ طعام بأنّه
نجس أم لا ؛ لأنّ الأصل عدم الغصب والنجاسة. وكذا الحكم في جميع موضوعات الأحكام.
ولذا ترى العلماء يفرّقون في الأكثر بين الجهل في نفس الحكم وموضوعه.
وممّا ذكر علم
أنّه يجب على كلّ مكلّف تعلّم ما يجب عليه وما يحرم عليه من الأحكام المتعلّقة
بالعبادات والمعاملات بشرط التمكّن ، فلو لم يتمكّن ـ كالمستضعف وأمثاله ممّن
يستحيل عادة أن يفهمها ومع ذلك بذل جهده ـ فهو معذور ، وكذا الحكم فيمن لم يتمكّن
من الوصول إلى العلماء بعد بذل جهده ، ولو تمكّن من أخذ بعضها ، يجب عليه أخذه دون
البعض الآخر.
ثمّ إنّ كيفيّة
أخذ الأحكام تظهر فيما بعد. وكيفيّة التفريع واضحة.
المبحث
الثاني
في
الأدلّة الشرعيّة
ـ أعني الكتاب ،
والسنّة ، والإجماع ـ
والأدلّة العقليّة
وأمّا
القياس ، فله أقسام ،
بعضها ليس حجّة عندنا وفاقا ، وبعضها حجّة
عند بعض أصحابنا.
فلا بدّ لنا من بيانه ، وإبطال الباطل وإحقاق الحقّ.
فهنا أبواب :
الباب
الأوّل
في الكتاب
وفيه فصول :
فصل [١]
الكتاب لغة يتناول كلّ مكتوب ، وخصّ شرعا بالقرآن. وقد عرّف القرآن بتعريفات لا يتمّ
واحد منها :
منها : أنّه كلام منزل للإعجاز بسورة منه .
والإيراد عليه
بوجوه :
الأوّل : أنّه دوريّ ؛ لأنّ القرآن مأخوذ في تعريف السورة ، كما
يجيء .
الثاني : أنّه ليس تعريفا بالحدّ ولا بالرسم ؛ لأنّ الأوّل يكون
بالأجزاء ، والثاني باللوازم البيّنة ، وكونه للإعجاز ليس كذلك.
الثالث : أنّه لا يتناول البعض ؛ لأنّ لفظة « من » للتبعيض ،
والضمير عائد إلى الكلام ، و « منه » في موضع الحال ، وقوله : « بسورة » يفيد
العموم ، كما هو شأن كلّ نكرة مقارنة للوحدة وإن كانت في سياق الإثبات ، كقولهم :
« تمرة خير من جرادة » فيصير المعنى أنّه كلام منزل للإعجاز
بكلّ سورة حال كون كلّ سورة جزءا من هذا الكلام » والكلام الذي كلّ
__________________
سورة جزء منه هو
مجموع القرآن دون أبعاضه. فعلى هذا لا يكون القرآن صادقا على بعضه ، وهو لا يلائم
غرض الاصولي ؛ لأنّه إذا قال : دليل هذا الحكم القرآن ، إنّما يريد منه بعضه.
ويمكن أن يدفع ذلك
بتقدير مضاف ، بأن اريد « بسورة من جنسه » في العلوّ والبلاغة ، وحينئذ
يصير المعنى أنّ كلّ سورة من جنس هذا الكلام.
ولا يخفى أنّه
يصدق على كلّ بعض « أنّ كلّ سورة من جنسه في البلاغة والعلوّ » فيكون القرآن اسما
لمفهوم كلّي صادق على المجموع ، وعلى كلّ بعض منه ، إلاّ أنّ هذا خلاف الظاهر ،
والاجتناب عن أمثاله في الحدود لازم.
ومنها : أنّه ما
نقل بين دفّتي المصحف تواترا .
وهو أيضا دوريّ ؛
لأنّ معرفة المصحف تتوقّف على معرفة القرآن ؛ لأنّه ما كتب فيه القرآن ، ولو لم
يتميّز المصحف عن سائر الكتب بكتابة القرآن فيه ، لصدق التعريف على سائر الصحف
أيضا.
ويرد عليه الإيراد
الثاني أيضا ؛ لأنّ النقل المذكور ليس من أجزاء القرآن ، ولا من
لوازمه البيّنة.
ومنها : أنّه كلام
لا يصحّ الصلاة بدون تلاوة بعضه .
ويرد عليه الإيراد
الثالث ، وينتقض طردا بمثل التشهّد.
ومنها : أنّه كلام
يحرم مسّ خطّه محدثا .
ومنها : أنّه كلام
بعض نوعه معجز ، أو كلام الله المنزل للإعجاز .
ويرد على هذه
الثلاثة الإيراد الثاني ، مع أنّه يرد على الأوّل ، أنّ حرمة المسّ ممّا وقع فيه
الخلاف.
قيل : الحقّ أنّ
هذه التعريفات لفظيّة ، والمراد منها تصوير مفهوم اسم القرآن بذكر
__________________
بعض أحكامه
العارضة ، وليس المراد منها التحديد ولا التمييز ، وحينئذ تكون التعريفات بأجمعها
صحيحة ؛ لعدم اعتبار الانعكاس والاطّراد ، وكونه بالجزء أو اللازم البيّن في
التعريف اللفظي .
أقول : يمكن تصحيح
التعريف الآخر بأن يقال : الإنزال للإعجاز لا يصدق على غير القرآن ، فلا يصدق على
سائر المعجزات حقيقة بأنّها معجزات منزلة ، فالإنزال للإعجاز بيّن الثبوت للقرآن ،
بيّن الانتفاء عن غيره ، فلا ينتقض التعريف.
ولو لا وقوع
الخلاف في حرمة مسّ القرآن ومسّ غيره من أسماء الله وأنبيائه ، لأمكن تصحيح
التعريف الرابع أيضا بنحو ما ذكر ، فالصواب هو التعريف الأخير ، ويدخل فيه كلّ بعض
من القرآن وإن كان نحو « قل » و « افعل » ؛ فإنّه من حيث الجزئيّة ، واعتباره مع
السابق واللاحق يكون منزلا للإعجاز ، ويصدق عليه القرآن ، ولذا يحرم مسّه على
القول بحرمة مسّ القرآن.
ويتفرّع عليه أيضا
ثبوت جميع الأحكام اللازمة للقرآن لكلّ بعض منه.
ويظهر الفائدة
أيضا في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.
ثمّ إنّه قيل
لتأييد أنّ هذه التعريفات لفظيّة : إنّ القرآن اسم علم شخصي ، فلا يعرّف ؛ لأنّ
التعريف إنّما يكون للحقائق الكلّيّة دون الأعلام الشخصيّة .
أقول : بناء هذا
القائل على أنّ القرآن اسم لهذا المؤلّف الحادث القائم بأوّل محلّ أوجده الله فيه
، والقائم بالمحالّ الآخر ليس عينه ، بل مثله ، فيكون القرآن شخصا واحدا. وهذا
مذهب ضعيف.
والتحقيق : أنّه
اسم لهذا المؤلّف من دون تعيين المحلّ ، فيكون مفهوما كلّيّا صادقا على ما ثبت في
أيّ محلّ كان ، سواء كان ذوات الملائكة ، أو صدور الحفّاظ ، أو متون الصحف ، أو
غير ذلك. ولو لا ذلك لم يصدق القرآن حقيقة على ما يقرأه القرّاء وما ثبت في الصحف
،
__________________
ويلزم منه عدم
ترتّب الأحكام الثابتة للقرآن عليه ، وهو واه.
تتمّة
عرّف السورة
بأنّها البعض المترجم أوّله وآخره توقيفا .
واورد عليه : بأنّه
يدخل فيه الآية ؛ إذ لا معنى للمترجم إلاّ المبيّن ، وبيان أوّل الآية وآخرها
بالتوقيف .
وقيل : هي طائفة
من القرآن مصدّرة بالبسملة ، أو البراءة .
ونقض طرده بالآية
التي بعد البسملة والبراءة. فاضيف إليه « متّصل آخرها بالبسملة ، أو البراءة »
فنقض عكسه بالسورة الأخيرة. فاضيف إليه « أو غير متّصل بشيء منهما » فنقض طرده بسورتين وببعض سورة النمل.
وقيل : هي الطائفة
المترجمة ، أي المسمّاة باسم خاصّ .
ونقض طرده بآية
الكرسيّ ، وآية المباهلة ، والمداينة .
واجيب : بأنّ
المراد من التسمية تسمية الشارع ، ولم يثبت تسمية الآيات المذكورة من الشارع ، بل
يجوز أن تكون من النبيّ أو غيره ، بخلاف تسمية السور ؛ فإنّها من الله تعالى.
والأولى أن يراد
من الترجمة ما يكتب في عنوان السور بالحمرة ؛ فإنّ الترجمة قد تطلق
__________________
على ما يكتب في
عنوان المكاتيب من اسم المرسل إليه وأمثاله.
ولو أريد التخلّص
عن هذا التوجيه أيضا ، فيجب أن تعرّف بـ « أنّها طائفة من القرآن يكتب ترجمتها في
عنوانها بالحمرة » وحينئذ لا يرد عليه نقض ، ولا يحتاج إلى تكلّف التوجيه.
ووحدة سورة «
والضحى » و « ألم نشرح » وكذا « الفيل » و « لإيلاف » ـ على ما ذهب إليه جماعة من
الأصحاب ـ لم تثبت. والأخبار التي استدلّوا
بها عليها غير دالّة على مطلوبهم ، وبعض الأخبار يدلّ صريحا على التعدّد.
فصل [٢]
القرآن متواتر ؛
لتوفّر الدواعي على نقله ؛ لكونه من اصول الأحكام ، ومتحدّى به للإعجاز ، وما هو شأنه ذلك يجب أن يتكثّر فيه النقل إلى أن
يتواتر ، فما لم يتواتر ليس بقرآن.
والبسملة في كلّ
سورة جزء منها عندنا ؛ للإجماع ، والأخبار المتظافرة ، وكونها مكتوبة بلون خطّ القرآن ، كسائر الآيات المتكرّرة نحو ( فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) و ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) و ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) مع مبالغة الصدر الأوّل بتجريد القرآن عمّا سواه.
وخالف أكثر
العامّة ، وحكموا بأنّها ليست من القرآن في أوّل سورة ، مع أنّه روي في
__________________
طرقهم أنّه ذكر
عند ابن عبّاس أنّه ترك بعض الناس قراءة البسملة في أوائل السور ، فقال : سرق
الشيطان من الناس آية .
وروي أيضا أنّه
قال : من تركها ، فقد ترك مائة وأربع عشرة آية .
والظاهر أنّ تحقّق
ترك العدد المذكور مبنيّ على اعتبار البسملة في وسط النمل مع البسملة في أوائل
السور ؛ لأنّها مائة وثلاث عشرة. ويمكن أن يقال : بناء ذلك على المبالغة وإن لم
يكن للبراءة بسملة.
وقد أجاب العامّة
عن الروايتين بأجوبة واهية.
وأقوى احتجاجاتهم على
عدم الجزئيّة : أنّ القرآن يجب أن يتواتر ، ولم يتواتر أنّ البسملة من القرآن في
أوائل السور ، وإلاّ لم يختلف فيه الطوائف .
والجواب : أنّ
العلّة في توفّر الدواعي على النقل تعطي تواتر المكرّر في محلّ ما ، وليس تواتره
في كلّ محلّ لازما ، ولا كلام في تواتر البسملة في وسط النمل ، مع أنّ تواتر جميع
آيات القرآن عند جميع الطوائف محلّ كلام ، خصوصا إذا حدث سبب خارجي.
وقد ذكر بعض علماء
العامّة أنّه لمّا تواتر كون البسملة من القرآن في أوائل السور من
مذهب عليّ عليهالسلام ، فوضع أنس بن مالك بأمر المعاندين أحاديث دالّة على عدم
الجزئيّة عنادا.
وكيفيّة التفريع
على كون القرآن متواترا : أنّه لا يقع التعارض بينه وبين أخبار الآحاد وما في
قوّتها من الأدلّة ؛ لعدم تقاومها مع المتواتر ، فيجب العمل به بشرط عدم مانع آخر
من جهته ، كالإجمال ، وأمثاله.
والتفريع على
جزئيّة البسملة ـ على ما ذهب إليه أصحابنا ـ أنّه يجب تعيين
السورة عند قراءة البسملة ، كما قال به الأصحاب .
__________________
تتميم
المشهور أنّ
القراءات السبع متواترة ، وبعضهم أضاف إليها الثلاث الباقية .
والحقّ أنّ
تواترها لم يثبت ؛ لأنّ خلافه كاد أن يكون إجماعا.
ثمّ المشهور بين
قول بتواتر السبع مطلقا ، وبين قول بتواتر ما هو من قبيل جوهر اللفظ كـ « ملك » و
« مالك » دون ما هو من قبيل الهيئة ، كالمدّ ، والإمالة ، وأمثالهما. وهو الذي ذهب
إليه الأكثر . وهو لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ القرآن عبارة عن اللفظ ، وهو
مركّب من الجزء المادّي الذي هو من قبيل الجوهر ، ومن الجزء الصوري الذي هو الهيئة
، وتواتره إنّما يتمّ بتواتر كلا جزءيه ، اللهمّ إلاّ أن يلتزم بأنّ القرآن
بالإطلاق ليس متواترا في القراءات السبع ، بل
المتواتر جوهره فيها.
ثمّ الحجّة على
تواتر السبع والعمل بها ، أنّه وصل إلينا من السلف هذه القراءات السبع على نحو
يفيد العلم ، وقولهم حجّة ؛ لإدراكهم النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه. وقد أمر أئمّتنا بقراءة القرآن كما يقرأ الناس
إلى قيام القائم .
ويؤيّده تقريرهم
أيضا. وورد بعض الأخبار عنهم بأنّ القرآن نزل على سبعة أحرف .
ويرد عليه : أنّه
لا شكّ أنّ القرآن النازل من الله واحد لا اختلاف فيه ، فكيف يكون السبع حجّة ،
ولم يثبت أنّ المراد من سبعة أحرف القراءات السبع؟! بل قال الصادق عليهالسلام لحمّاد ـ حين قال له : قد ورد منكم أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ـ : « أدنى
ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه » .
وبعض أهل اللغة
فسّر سبعة أحرف بسبعة لغات ، كلغة اليمن ، وهوازن ، وأهل مصر ،
__________________
وأمثالها ، مع أنّه قد ورد بعض النصوص عن أئمّتنا عليهمالسلام بأنّ القرآن نزل على حرف واحد ، وكذب من زعم أنّه نزل على
سبعة أحرف ، والاختلاف إنّما جاء من قبل الرواة .
ويمكن الجواب :
بأنّه لمّا ثبت تواتر القرآن ، ووصل إلينا باعتبار اختلاف الرواة القراءات السبع
على نهج واحد من حيث الشهرة ، ولا يمكن تخصيص واحدة منها بالتواتر والحجّيّة ،
وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، فحكم بتواتر السبع وحجّيّتها وإن لم يكن النازل من
عند الله إلاّ قراءة واحدة ، وتقرير الأئمّة وأمرهم بها لأجل هذا ، وعدم إظهارهم
ما هو الحقّ للتقيّة ، والغرض أنّه ثبت تواتر القرآن وحجّيّته ، ويعلم أنّه نزل
بقراءة واحدة ، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في نقله لأسباب نذكرها ، فنقلوه لنا على
النحو المذكور ، فيمكن أن يكون واحدة منها حجّة ، ويمكن أن يكون بعض من كلّ واحدة
منها حجّة ، إلاّ أنّ ذلك ليس بمعلوم لنا. فيلزم إمّا القول بعدم التواتر
والحجّيّة مطلقا ، أو بالترجيح بلا مرجّح ، أو حجّيّة القراءات السبع وتواترها.
والأوّلان باطلان ضرورة ؛ فالأخير حقّ.
ثمّ المخالف
للمشهور صاحب الكشّاف من العامّة ، وابن طاوس ، ونجم الأئمّة من أصحابنا ؛ فإنّهم حكموا بعدم تواتر القراءات السبع
وحجّيّتها.
ويمكن أن يحتجّ له
بمنع تواترها ؛ لأنّ القوم صرّحوا بأنّ لكلّ قار من القرّاء السبعة راويين ،
وقولهما لا يفيد العلم ، مع أنّ شرط ثبوت التواتر استواء الطرفين والوسط في إفادة
العلم ، فحصول التواتر ـ لو سلّم ـ إنّما هو في الطبقة اللاحقة لا الاولى ، وهو
غير كاف.
ولو سلّم تواترها
عن القرّاء السبعة ، فلا نسلّم حجّيّتها وجواز العمل بها ؛ لأنّهم كانوا من أهل
الخلاف استبدّوا بآرائهم ، وتصرّفوا في القرآن بمجرّد الاستحسان من غير استناد إلى
__________________
حجّة وبرهان ،
ولذا وقع بينهم اختلافات كثيرة ، وقد نقل أنّ المصاحف التي
وقعت إلى القرّاء في عصر القراءة كانت خالية عن الإعراب والنقط ، ولم تكن معربة
ممّن كان قبلهم من الذين أدركوا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ورووا عنه.
نعم ، ذكر بعض
الادباء أنّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في زمان خلافة معاوية ، فلمّا
رأوا المصاحف خالية عن الإعراب والنقط ، تصرّفوا فيها على ما اقتضته آراؤهم
ووافقته مذاهبهم في اللغة والعربيّة ، كما تصرّفوا في سائر العلوم من النحو
والتصريف ، فحصل اختلاف كثير بينهم في الإعراب والنقط والإدغام والإمالة وأمثالها
، وكان أصحاب الآراء في القراءة كثيرة ، وكان دأب الناس أنّه إذا جاء قار جديد
صاحب رأي ، أخذوا بقوله وتركوا قراءة من تقدّمه ، سواء كان من السبعة ، أو لا ؛
نظرا إلى أنّ كلّ قار متأخّر كان منكرا لقول من تقدّم عليه ، ثمّ بعد زمان رجعوا
عن هذه الطريقة ، وبعضهم يأخذ قول بعض المتقدّمين ، وبعضهم يأخذ قول بعض آخر منهم
، فحصل بين الناس في ذلك اختلاف ، ثمّ اتّفقوا على الأخذ بقول السبعة من غير بيّنة
وحجّة ؛ لأنّ الأرجح منهم في أصحاب الآراء كان كثيرا ، فإذا كان قولهم بمجرّد
الرأي من غير استناد إلى قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن قوله حجّة لنا ، كيف يبقى الوثوق بقولهم؟! بل كثيرا ما
ينقل قولهم مقابلا لقول المعصوم ، كما يقال : قراءة عاصم أو حفص كذا ، وقراءة عليّ
عليهالسلام كذا ، وربما يجعل قولهم قسيما لقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يظهر في الاختلاف الواقع في قراءة ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ).
ثمّ لو سلّم أنّ
بناء قراءتهم على الرواية من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا نسلّم حجّيّتها لنا كرواية الحديث ، لكونهم مخالفين.
ولا يخفى أنّ ما
ذكر لا يخلو عن قوّة ، إلاّ أنّ الأمر فيه سهل ؛ لأنّ أمر الإعراب والنقط والإمالة
وأمثالها لمّا كان ظاهرا من اللغة ، صار موكولا إلى أهل اللسان ، ولم يتعرّضه
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه ، ولذا لم يعرب المصاحف التي في خزانة مولانا الرضا عليهالسلام ، وشاع أنّها بخطّه وخطّ آبائه عليهمالسلام ، والقرّاء السبعة كانوا من أهل اللسان ، عارفين بكيفيّة
الإعراب والنقط ، فقولهم حجّة ، إلاّ فيما ظهر أنّه خلاف القواعد العربيّة.
وجواز كون كلمة
واحدة في لغة العرب ذات وجوه من الإعراب ، يدفع استبعاد كون كلام الله مختلفا ؛
لأنّ القرآن نزل على لغة العرب باسلوب خاصّ.
وقد ذكر جواب آخر
لهذا الاستبعاد ، فلا شبهة في جواز القراءات السبع في الصلاة وغيرها.
نعم ، يشكل الأمر
في اختلاف القراءات الذي يختلف به الأحكام ، وهذا قليل. وإذا وقع ، كقوله تعالى : (
يَطْهُرْنَ ) ـ بالتخفيف والتشديد ـ يجب الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ومع فقدها
فالمشهور التخيير في العمل بأيّها شاء.
وذهب بعض أصحابنا
إلى رجحان قراءة عاصم بطريق أبي بكر ، فتأمّل.
ثمّ إنّه لا عمل
على القراءة الشاذّة وليست بحجّة .
وقيل : إنّها
كأخبار آحاد والعمل على المشهور وإن أمكن فيه المناقشة على ما ذكرناه.
ثمّ على المشهور
لو لم يثبت من الأخبار وجوب التتابع في صوم كفّارة رمضان ، لكان اللازم أن يحكم
بعدم وجوبه ؛ نظرا إلى القراءة المشهورة في كفّارة اليمين ، وهي : ( فَصِيامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) من دون « متتابعات ». وعلى القول الآخر يلزم الحكم
بوجوبه ، نظرا إلى هذه الضميمة ، إلاّ أنّ وجوب التتابع ثابت عندنا من النصوص .
__________________
فصل [٣]
أجمع المسلمون على
وجوب العمل بالقرآن الموجود الآن واتّباعه. وقد وقع الخلاف بين أصحابنا في تغييره
، وتحريفه. فمعظم الأخباريّين على أنّه وقع فيه التحريف ، والزيادة ، والنقصان . والصدوق والسيّد والطبرسي وأكثر المجتهدين على أنّه لم يقع فيه ذلك ، بل القرآن الذي نزل به جبرئيل هو ما بين دفّتي المصحف من غير زيادة ونقصان.
احتجّ الأوّلون
بوجوه :
منها : استفاضة
الأخبار بالسقوط في بعض المواضع المعيّنة من القرآن ، والتحريف في بعضها ، كآية
الغدير ، وآية ( وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) ، وآية ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) ، وغيرها .
ومنها : الأخبار الدالّة على وقوع تحريف وزيادة في القرآن من غير تعيين موضعهما .
ومنها : أنّ كتّاب
الوحي كانوا أربعة عشر رجلا ، والقرآن نزل منجّما بحسب المصالح ، وكانوا في الأغلب
لا يكتبون إلاّ آيات الأحكام وما ينزل في المجامع ، ولم يكونوا متمكّنين من كتابة
ما ينزل في خلوات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل كتابة الجميع كان منحصرا بعليّ عليهالسلام ، فكان
__________________
قرآنه جامعا ، فلمّا مضى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ووقع التنازع بين الأمّة ، جمعه كما انزل ، وشدّ بردائه
وأتى به إلى المسجد وخاطب الصحابة ، وقال : « هذا كتاب ربّكم على ما انزل » ، فقال
له عمر : لا حاجة لنا فيه ، حسبنا كتاب عثمان ، فقال عليهالسلام : « لن تروه ولن يراه أحد أبدا حتّى يظهر قائمنا » .
ومنها : حكاية إبقاء
مصحف عثمان وطبخ غيره من مصاحف كتّاب الوحي ، ولو لم يختلف ، لما ارتكبوا هذا
القبيح .
ومنها : أنّ عثمان
أرسل سبعة مصاحف إلى أهل الأمصار وكلّها بخطّه ، فوجد فيها
اختلاف كثير ، فإذا اختلف المصاحف التي بخطّه ، فكيف حال غيرها من مصاحف كتّاب
الوحي؟
واحتجّ الآخرون :
بقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحافِظُونَ ) ، وبقوله عليهالسلام : « القرآن واحد ، نزل من عند واحد على نبيّ واحد ، وإنّما
الاختلاف من جهة الرواة » ، وبأنّ القول بوقوع التبديل في القرآن الذي بين أيدينا فتح
لباب الكلام على إعجاز القرآن وعدم مقدرة البشر على الإتيان بمثله ، وعلى استنباط
الأحكام منه .
واجيب عن الأوّل : بأنّ المراد من الحفظ حفظ نوعه ، وهو كما نزل محفوظ عند أهل
البيت ، فلا يمحى عن العالم.
وعن الثاني :
بأنّه يدلّ على خلاف المطلوب.
وعن الثالث :
بأنّه لم يقع فيه تغيير يخرج به عن اسلوبه الخاصّ الذي هو مناط الإعجاز ،
__________________
وكذا لم يقع تحريف
في آيات الأحكام ، وإن فرض وقوعه بيّنه الأئمّة عليهمالسلام على وجه لا يقدح في استنباط الأحكام منه.
وغير خفيّ أنّ
أخبار القائلين بوقوع التغيير وسائر أدلّتهم لا تدلّ على وقوع الزيادة ، وما يقدح
في الإعجاز هو وقوع الزيادة. فالقول بوقوع النقصان وعدم وقوع الزيادة لا يخلو عن
قوّة. ووقوع بعض التحريفات أيضا لا يخرجه عن الاسلوب الخاصّ ، فلا يقدح في
الإعجاز.
تحديد
في القرآن محكم
ومتشابه ، ونصّ وظاهر ، ومأوّل ومجمل.
وقد عرّف المحكم
بتعريفات كثيرة وأصحّها : أنّه ما اتّضح معناه. والمتشابه خلافه .
والنصّ : ما لم يحتمل
غير ما يفهم منه لغة.
والظاهر : ما دلّ
على أحد محتملاته دلالة راجحة. والمأوّل خلافه.
والمجمل : ما دلّ
على أحد محتملاته دلالة مساوية. فالمحكم أعمّ من النصّ مطلقا ، وأخصّ من الظاهر
كذلك. والنصّ مباين للظاهر. وقد فسّر بعض أهل اللغة النصّ بالمضبوط المتقن . وعلى هذا يكون المحكم مساويا له. ونسبة الثلاثة مع البواقي ونسبة بعضها مع
بعض ظاهرة.
فصل [٤]
ذهب الأخباريّون
إلى أنّه لا يجوز تفسير القرآن بدون نصّ من النبيّ صلىاللهعليهوآله أو الأئمّة عليهمالسلام
فكلّ آية منه لم يرد في
تفسيرها أثر منهم عليهمالسلام لا يجوز العمل بها
، سواء كانت من النصوص ، أو المحكمات ، أو الظواهر ، أو المتشابهات ، وقالوا : كلّ
القرآن متشابه بالنسبة إلينا .
ويؤول قولهم إلى
عدم حجّيّة القرآن مطلقا ؛ لأنّ الآيات التي لم يرد في تفسيرها الآثار
__________________
المعصوميّة لا
يجوز تفسيرها حينئذ ، والعمل بها ، والتي وردت في تفسيرها الآثار يكون الحجّة هي
دونها.
وذهب بعض إلى جواز
العمل بالمحكمات دون الظواهر .
وأجمع أهل
الاجتهاد على أنّ كلّ آية كانت واحدة من الثلاث الاول يجوز تفسيرها والعمل بها من
دون الافتقار إلى ورود نصّ في تفسيرها ، بل كلّ من كان عارفا بلغة العرب ، وحصل له
من العلم ما تمكّن من فهمها ، يجوز أن يفسّرها ويعمل بها ، وتكون حجّة له وعليه.
وإن كانت من الأخيرة ـ أي المتشابهات ـ فلا يجوز أن يعمل بأحد محتملاتها بمجرّد
إخطاره بالبال من دون شاهد من العقل أو النقل ، كما يظهر من كلام المبتدعين ، بل
حجّيّته موقوفة على الدليل.
وهذا هو الحقّ ؛
لوجوه :
منها : أنّ الله
تعالى أنزل قرآنا بلسان عربيّ مبين ، وجعله قطعا لعذر المكلّفين وحجّة على
العالمين ، ووصفه بكونه نورا وهدى وبيانا وشفاء ، وأودع فيه دلائل التوحيد ،
ومعرفة صفاته الكماليّة ، واصول الأحكام ، وما يتعلّق بالحلال والحرام ، وأمر
عباده بالتفكّر فيه ، وندبهم على الاستنباط منه ، وذمّ على ترك تدبّره ، وذكر فيه
المواعظ والنصائح ، وأمر الناس بأخذها والعمل بها ، وقصّ فيه قصص الماضين ، وأمر
عباده بالعبرة عنها.
وعلى قول
الأخباريّين لم يتصوّر منه هذه الفوائد ، بل لم يجز لنا الانتفاع منه مطلقا.
ومنها : أنّه
يمتنع أن يخاطب الله بما يدلّ ظاهره على غير مراده ؛ لإجماع الأمّة سوى المرجئة ،
وللزوم التكليف بما لا يطاق ، أو الإغراء بالجهل. ولا شكّ أنّ ما عدا المتشابهات
صريح أو ظاهر فيما فهم القوم منه.
ومنها : استفاضة
الأخبار بعرض الحديث ـ مطلقا ، أو عند التعارض ـ على القرآن ، وأخذ ما وافقه ،
وطرح ما خالفه ، والعرض عليه يتوقّف على كونه مفهوم المعنى.
__________________
ومنها : الخبر
المتواتر عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين ... » .
وعلى مذهب
الأخباريّين ما ترك إلاّ الثقل الواحد ؛ لعدم كون الثقل الأكبر حجّة.
ومنها : ما روي عن
ابن عبّاس أنّه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام : قسم لا يعذر أحد بجهالته ،
وقسم يعرفه العرب بكلامها ، وقسم يعرفه العلماء ، وقسم لا يعلمه إلاّ الله .
فالأوّل : ما فيه
من اصول الشرائع والأحكام وجمل دلائل التوحيد.
والثاني : حقائق
اللغة وموضوع كلام العرب.
والثالث : تأويل
المتشابه وفروع الأحكام.
والرابع : ما يجري
مجرى الغيوب وقيام الساعة.
ومنها : ما روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله : « أنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه » و « أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ... » .
ومنها : أمرهم عليهمالسلام في عدّة أخبار بالتمسّك بالقرآن عند ظهور الفتن واختلاف الآراء .
ومنها : أمرهم عليهمالسلام بتدبّر القرآن وفهم آياته ، والنظر في محكماته ، والإضراب عن متشابهاته .
ومنها : ما ورد في
تفسير قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) أنّ الرادّ إلى الله الآخذ بمحكم كتابه ، والرادّ إلى
الرسول الآخذ بسنّته الجامعة .
ومنها : ما ورد
منهم عليهمالسلام من التوبيخ على ترك العمل به .
__________________
ومنها : ما ورد
منهم عليهمالسلام من تعليم الاستدلال به .
ومنها : وقوع
الاحتجاج به من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام وتقريرهم عليه .
ومنها : بعض
الآيات ، كقوله تعالى : ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ ) ؛ حيث أثبت استنباطا للعلماء ، والتخصيص خلاف الأصل ، وقوله تعالى : ( فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ... ) الآية ؛ حيث دلّ على جواز اتّباع غير المتشابه ، وقوله
تعالى : ( هُدىً وَنُورٌ ) و ( نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِينٌ ) وغيرها من الآيات.
وهذه الآيات لمّا
كانت محكمة ، تقوم حجّة على من قال بجواز العمل بالمحكم دون الظواهر.
وأمّا على
الأخباريّين الذين قالوا : إنّ جميع القرآن متشابه بالنسبة إلينا ، فلا تنهض حجّة
؛ لأنّ الاستدلال بها على إبطال مذهبهم يصير دوريّا.
وقد اجيب عن بعض
الوجوه المذكورة بأجوبة ظاهرة الاندفاع ، فلا نطيل الكلام بذكرها ودفعها.
احتجّ الأخباريّون
بأربعة وجوه :
[
الوجه ] الأوّل : أنّه يجوز أن يكون ما نفهم من الظواهر غير مقصود ، ولا يلزم منه التخاطب
بما يدلّ ظاهره على غير المقصود ؛ لجواز ظهور المقصود منها للمخاطبين بمعونة القرائن
المنضمّة معها عند النزول .
والجواب عنه
بالنقض والحلّ :
أمّا النقض :
فبأنّه يرد على ظواهر السنّة أيضا.
وأمّا الحلّ :
فبأنّ المتكلّم إذا أراد خلاف ظاهر اللفظ ، يلزم عليه نصب قرينة تدلّ عليه ،
__________________
فإذا لم ينصب
قرينة يعلم أنّه أراد ظاهره ، فإذا حان حين العمل ولم يعثر على قرينة بعد الفحص
يجب حمل اللفظ على ظاهره. ولا فرق في ذلك بين المخاطبين والغائبين ؛ لأنّ تكليف
الجميع على السواء ، فإن ظهر لنا أنّ تكليف المخاطبين من خطاب كان على خلاف ما
يفهم من ظاهره لقرينة كانت ظاهرة لهم ، لزم علينا حمل اللفظ على خلاف ظاهره. وإن
لم يظهر يلزم علينا حمله على ظاهره.
[
الوجه ] الثاني : أكثر تفاسير أهل العصمة بل كلّها ممّا يخالف الظواهر ، كما يظهر من الأخبار
. فالآيات التي فسّرها المعصوم ووصل إلينا تفسيره لا يمكن
حملها على الظاهر ؛ لأجل تفسير المعصوم ، وكذا التي لم يفسّرها ؛ لتأتّي هذا
الاحتمال فيها .
والجواب : أنّ التفاسير
التي وردت منهم عليهمالسلام بعضها من ظواهر القرآن ، وبعضها من بواطنه ؛ فإنّ للقرآن
ظاهرا وباطنا ، كما ورد عنهم عليهمالسلام ، ولا منع في جمعهما ، فكلّ ما ورد منهم في تفسير القرآن
ممّا يخالف الظاهر فهو من بطونه. ولا يقدح هذا في جواز إرادة ما يفهم من الظاهر.
[
الوجه ] الثالث : استفاضة الأخبار بالمنع عن تفسير القرآن بالرأي ، وفي بعضها وعيد عليه .
والجواب عنه أمّا
أوّلا : فبأنّ المراد من التفسير بالرأي الممنوع منه هو أن يكون للإنسان ميل إلى
شيء فأخذ آية من القرآن وحملها عليه ، ولولاه لم يفعل كذلك ، كما يوجد في كلام
المبتدعين.
وأمّا ثانيا :
فبأنّ المراد منه ما نشأ عمّن لم يظفر بدقائق القرآن وغرائبها ممّا يتوقّف على
النقل والسماع ، أو بعض العلوم ، بل فسّر بمجرّد وقوفه على ظاهر العربيّة.
__________________
وأمّا ثالثا :
فبأنّ المراد منه حمل المجمل والمتشابه ، أو أمثالهما من الألفاظ المشكلة على أحد
المحتملات ، والجزم به من غير دليل عقلي أو نقليّ.
ويدلّ عليه أنّ
المراد من التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل أو كشف المغطّى ، فالمراد من
التفسير بالرأي القطع بالمراد من اللفظ المشكل من غير دليل.
ويدلّ عليه أيضا
أنّ الشيخ الطبرسي قال :
|
قد صحّ عن
النبيّ وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح
والنصّ الصحيح. وروت العامّة أيضا عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ
» .
|
مع أنّا نرى أنّه
يفسّر القرآن من غير استناد إلى نصّ وأثر.
[
الوجه ] الرابع : استفاضة الأخبار بأنّ علم القرآن منحصر في النبيّ
والأئمّة عليهمالسلام .
والجواب : أنّ
المراد أنّ علم الكتاب كلّه ـ أي ظاهره وباطنه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه
، وبالجملة ، الإحاطة التامّة الواقعيّة لجميع ما أودع الله في القرآن ـ منحصر بهم
عليهمالسلام ، وقد نطق بذلك أخبار كثيرة ، كقول الصادق عليهالسلام : « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير
الأوصياء » ، وقوله عليهالسلام : « ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل
إلاّ كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام والأئمّة من بعده » .
ولا بعد في ادّعاء
دلالة جميع الأخبار التي تدلّ على انحصار علم القرآن فيهم على ذلك إمّا تصريحا ،
أو تلويحا.
وغير خفيّ أنّه
بعد ملاحظة أدلّتنا المتقدّمة يظهر أنّه لو لم يحمل الأخبار المذكورة على ما ذكر ،
لزم طرحها.
__________________
فإن قيل : الأصل
الثابت عند الشيعة عدم العمل بالظنّ إلاّ بدليل ، كالعمل بأخبار الآحاد ، والعمل بظواهر الكتاب من باب الظنون.
قلنا : هذا الظنّ
أيضا خارج بالأدلّة المتقدّمة ؛ فإنّها تفيد القطع بجواز العمل.
ولا يخفى أنّ
الكتاب والسنّة مشتركان في اشتمالهما على المحكم والمتشابه ، والنصّ والمجمل
وغيرها ، فما يرد على العمل بأحدهما يرد على العمل بالآخر.
والأخباريّون
فرّقوا بينهما بمجرّد الأخبار المذكورة . وقد عرفت جوابها
.
فإن قيل : نحن نسلّم
أنّ المحكم والظاهر يجوز العمل بهما ولكنّ تمييزهما عن المتشابه غير ممكن لنا ،
فكلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا.
قلت : هذا مكابرة
صريحة ، وتمييز كلّ واحد من المحكم والنصّ والظاهر والمتشابه عن الآخر واضح لمن له
أدنى فطانة في علم القرآن.
ثمّ كيفيّة
التفريع على هذا الاختلاف ظاهرة ؛ فإنّه يلزم على مذهب الأخباريّين عدم جواز
الاستدلال بالآيات التي لم يرد في تفسيرها نصّ ، بل لا يجوز الاستدلال بها مطلقا .
وأمّا على المذهب الحقّ ، فيجوز بغير المتشابه مطلقا ، وبه بمرجّح خارجي.
__________________
الباب
الثاني
في السنّة
وهي لغة : السيرة
والطبيعة . وقد عرفت إطلاقها عرفا على
المستحبّ. والتي من الأدلّة هي ما ظهر من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غير قرآن من قول ، أو فعل ، أو تقرير غير عاديّ ، فدخل
الحديث القدسي ؛ لكونه ظاهرا منه ، وخرج الثلاثة العاديّة.
والتحديد بـ «
أنّها ما صدر من النبيّ » ، انتهى. يرد عليه : أنّ الحديث القدسي ما صدر عنه ، إلاّ
أن يراد بالصدور الظهور.
ومن قال : « هي
قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو فعله ، أو تقريره ، غير قرآن ولا عاديّ » يرد عليه : أنّ القرآن والحديث القدسيّ كلاهما يخرجان بالأوّل ؛ لعدم كونهما قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل قول الله ، والنبيّ حكاه. فيكون الحدّ مشتملا على ما
لا حاجة إليه ـ أعني قوله : « غير قرآن » ـ ومنتقض العكس.
وبعضهم لم يذكر القيد الأخير .
والإيراد عليه
ظاهر ، فصحيح الحدود ما ذكرناه.
__________________
فصل [١]
الخبر حقيقة في
القول المخصوص ، ويطلق مجازا على بعض الدلائل والإشارات ، كما يقال : « النجم
الفلاني يخبر أنّ الليل قد انتصف » و « يخبرني عينه ما في قلبه ». وقد يطلق على
حكم الذهن بأمر على آخر ، ويقال له : الخبر العقلي ، كما يقال للأوّل : اللفظي.
وهذا الإطلاق ليس حقيقيّا ؛ لأنّ الخبر حقيقة في اللفظ المركّب الخاصّ ، بل بعضهم لم يجوّزه مجازا أيضا.
ثمّ من الناس من قال : إنّ الخبر لا يحدّ ؛ لبداهته ؛ لأنّ كلّ أحد يعرف أنّ معنى قوله : «
أنا موجود » نسبة الوجود إليه ، وإذا كان هذا الخبر الخاصّ بديهيّا ، فمطلق الخبر
أيضا يكون كذلك ؛ لكونه جزءا له.
ولأنّ التمايز بين الخبر والإنشاء يعرفه كلّ أحد بالضرورة ، ولذا يورد كلاّ منهما
في موضعه ، ولا يورد أحدهما في موضع الآخر ، وهو يتوقّف على العلم بالمتمايزين.
والجواب عن الأوّل
: أنّ المسلّم أنّه علم نسبة الوجود إليه ، أي حصل في نفسه هذه النسبة مع باقي ما
يتمّ به الخبر ، وهو غير تصوّر ماهيّة الخبر.
وبيان ذلك : أنّه
قد يحصل بعض الأشياء بنفسه في النفس من دون تصوّر ماهيّته ؛ فإنّ
أكثر النفوس لم يتصوّر ماهيّات بعض الصفات الحاصلة فيه ، كما يتّفق أنّ العالم
بعلم لم يتصوّر حقيقة العلم ، والشجاع لم يتصوّر ماهيّة الشجاعة ، وصاحب المروءة
لم يتصوّر ماهيّة المروءة ، وهكذا ؛ فيظهر منه أنّ حصول الشيء بنفسه ـ أي العلم
الحضوريّ ـ غير
__________________
تصوّره ، أي العلم
الحصولي ، وكلّ منهما ينفكّ عن الآخر ؛ لأنّه كما يمكن حصول الشيء بنفسه في الذهن
من غير حصول صورته كما ذكر ، كذلك يمكن حصول صورته فيه من غير حصول نفسه فيه ، كما
يرتسم الذهن بصورة زيد من دون حصول نفسه فيه. وكيف لا يفترقان مع أنّ الأوّل جزئي ، والثاني كلّيّ؟! لأنّ نفس الشيء وعينه لا تصدق على غيره.
وأمّا صورته
المطابقة له ، فتصدق على كثيرين ، فالذهن ما لم يتصوّر بصورة شيء ، لم يتصوّره
بماهيّته ، ولم يحصل له حدّه وإن حصل بنفسه فيه ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إنّ
المسلّم [ هو ] حصول ماهيّة الخبر بنفسها في الذهن ، وأمّا تصوّرها ، فلا
، وهو ظاهر.
والجواب عن الثاني
: أنّ التمايز بين الشيئين لا يتوقّف على تصوّرهما بالكنه ، غاية الأمر أنّه
يتوقّف على تصوّرهما بوجه ما ، وهو يحصل بعد حصولهما بنفسهما في الذهن وإن لم
يتصوّرا بالماهيّة.
وإذا عرفت أنّ
الخبر يمكن تحديده ، فاعلم أنّه قيل في حدّه : إنّه كلام يحتمل الصدق أو الكذب . وقيل : التصديق أو التكذيب .
واورد عليهما :
بأنّ الصدق : الخبر المطابق ، والكذب : الخبر الذي ليس بمطابق ، والتصديق والتكذيب
: الإعلام بالصدق والكذب ؛ فهما مأخوذان في التعريفين مع أنّهما من أنواع الخبر ،
ولذا يؤخذ في تعريفهما ؛ فتعريفه بهما يستلزم الدور .
__________________
والجواب : أنّ
الصدق والكذب من الأعراض الذاتيّة للخبر لا من أنواعه ؛ فإنّ الصدق هو المطابقة ،
والكذب اللامطابقة ، أي مطابقة الخبر وعدم مطابقته ؛ لأنّهما لمّا كانا من الأعراض
الذاتيّة له فلا يعرضان لغيره ، وتعريف الشيء بالعوارض الذاتيّة صحيح غير مستلزم
للدور ؛ لأنّ معرفة العرض الذاتي لا تتوقّف على معروضه ، ومجرّد ذكر المعروض في
تعريف العرض الذاتي لما ذكر ـ بعد القطع بخروجه عن حقيقته وذاتيّاته ـ لا يصحّح
التوقّف. وهذا كما يقال : الأبيض جسم له الكيفيّة الخاصّة ، مع أنّ الجسم ليس من
ذاتيّات الأبيض ، فذكره لأجل أنّ البياض من عوارضه اللازمة.
هذا ، وربما قيل :
إنّ الصدق المأخوذ في تعريف الخبر هو المعنى المصدري ، وما عرّف بالخبر هو المشتقّ
ـ أي الصادق ـ فلا دور .
وفيه تأمّل ؛ لأنّ
تعريف الصادق بالخبر المطابق مستلزم لتعريف الصدق بموافقة الخبر للمخبر به ، أو
بالإخبار عن الشيء على ما هو عليه.
ثمّ المراد من
كونه محتملا للصدق والكذب أن يكون محتملا لهما من حيث هو ، أي نظرا إلى مفهومه
الظاهر مع قطع النظر عن الامور الخارجة ، فلا يرد النقض بكلام يكون صادقا أو كاذبا
قطعا. وبمثل قولنا : « الإنسان حيوان ناطق » إذا قصد به التحديد ؛ لأنّ المطلوب
منه التصوّر لا التصديق بثبوت الحدّ للمحدود ، فلا يجري فيه الصدق والكذب.
ومن هذا القبيل ما
لو قيل : كلامي كاذب في هذه الساعة ، وأراد منه هذا الكلام ؛ فإنّه لا يحتمل الصدق
أو الكذب ؛ لأنّ صدقه مستلزم لكذبه ، وبالعكس ، فلا يكون خبرا ، بل إنشاء. والسرّ
أنّ الصدق والكذب إنّما يعرضان لما كان له خارج يتصوّر بينهما المطابقة وعدمها ،
وهنا لم يتحقّق ذلك.
نعم ، لو ابقي هذا
الكلام على ظاهره واريد غيره كان خبرا.
واورد عليهما أيضا : بأنّه إن عطف بين الصدق والكذب بالواو ، لزم أن يكون كلّ
__________________
خبر صادقا وكاذبا
وهو محال ، وإن عطف بينهما بـ « أو » لزم الترديد في الحدّ ، وهو غير جائز .
والجواب : اختيار
الشقّ الثاني كما ذكرناه ، والترديد إنّما هو في أفراد المحدود لا في الحدّ ،
والمراد أنّ الخبر قابل لأحدهما.
وقيل : الخبر كلام
لنسبته خارج .
وقيل : كلام يفيد
بنفسه نسبة أمر إلى آخر .
وأضاف بعضهم «
إثباتا أو نفيا » .
قيل : يرد عليهما
نحو « اضرب » وغيره ممّا يدلّ على الطلب بناء على تحقّق النسبة فيه ، إمّا لأجل أنّ الحدث المطلوب منه منسوب إلى المخاطب ، فيكون المطلوب من «
اضرب » الضرب المنسوب إلى زيد مثلا. وإمّا لأجل أنّ الطلب فيه منسوب إلى المتكلّم
عقلا ، فقولنا : « اضرب » يدلّ التزاما على قولنا : « أطلب منك الضرب ».
واجيب : بأنّا
سلّمنا تحقّق النسبة ـ على ما ذكر ـ فيه إلاّ أنّه لا يرد نقضا على التعريفين.
أمّا على الأوّل ،
فظاهر ؛ لأنّه ليس لهذه النسبة متعلّق خارجي ، بخلاف « ضرب زيد » ؛ فإنّ لنسبته
العقليّة متعلّقا خارجيّا هو الضرب الخارجي المنسوب إلى زيد.
وأمّا على الثاني
، فلأنّ المراد من إفادته النسبة أن يعلم منه وقوعها. هذا على تقدير عدم الإضافة
المذكورة ، ومعها لا يحتاج إلى هذا ، بل نقول : المراد من الإثبات
إيقاع النسبة ، أي
__________________
التصديق بها. ومن
السلب انتزاعها. وعلى التقديرين لا يرد نحو « اضرب » باعتبار نسبة الحدث إلى
المخاطب ؛ إذ لم يعلم وقوعها ، ولم يحصل التصديق بها.
وأيضا المراد من
قوله : « بنفسه » أن يكون الإفادة المذكورة منه باعتبار الوضع ، ودلالة « اضرب »
على إثبات الطلب للمتكلّم باعتبار العقل لا الوضع .
ولا يخفى أنّه
يخرج حينئذ الخبر الذي تركّب من الألفاظ المستعملة في معانيها المجازيّة ؛ لأنّ
دلالتها ليست باعتبار الوضع ، وتعميم الوضع بحيث يتناول المجاز يستلزم دخول « اضرب
» ونحوه باعتبار الدلالة على نسبة الطلب إلى المتكلّم ؛ لأنّ الأمر بالضرب سبب
لها.
وما قيل : إنّه لو
اريد [ من ] « بنفسه » كونه مستعملا بذاته ، خرج نحو « اضرب » ودخل
الخبر المركّب من الألفاظ المجازيّة ، لا يخفى ضعفه ؛ لعدم تحقّق الاستعمال
باعتبار الذات في كليهما. وإن أمكن أن يقال بتحقّقه في الألفاظ المجازيّة ، يمكن أن يقال في نحو « اضرب » ؛ لعدم التفاوت بينهما ، ولأجل ذلك لا يخلو هذا
التعريف عن فساد.
ويرد عليه أيضا : أنّ تحقّق العلم بوقوع النسبة والتصديق بها إنّما هو في صورة صدق
الخبر دون كذبه ، فيخرج الخبر الكاذب عن هذا التعريف.
ومثل هذا الإيراد
يرد على سابقه أيضا ؛ لأنّ الخبر الذي لنسبته خارج هو الصادق دون الكاذب.
وأجاب بعضهم عنه :
بأنّ مدلول كلّ خبر هو الصدق فقط ، أي وقوع النسبة
، والكذب احتمال عقلي يجوّزه العقل ؛ نظرا إلى أنّ مدلول اللفظ لا يجب أن يكون
ثابتا في
__________________
الخارج ، فيصحّ
تخصيص التعريف بالخبر الصادق ؛ نظرا إلى أنّ كلّ خبر من حيث الوضع يجب أن يكون
صادقا ، ويصحّ تعميمه أيضا ؛ نظرا إلى الاحتمال العقلي ، كما في التعريفين
الأوّلين .
وفي هذا الجواب
تأمّل لا يخفى.
ثمّ الحقّ ، أنّه
لا ينتقض بالمركّبات الناقصة المشتملة على نسبة ثبوتيّة ، أو سلبيّة ، كالمركّب
الإضافي ، أو التوصيفي ؛ لأنّك عرفت أنّ المراد من
إفادة النسبة العلم بوقوعها ، ومن الإثبات التصديق بها ، فمع الزيادة المذكورة في
التعريف وبدونها لا ترد نقضا عليه ؛ لأنّها لا تفيد العلم بوقوع النسبة والتصديق
بها ، بل تفيد تصوّرها.
وإنّما أطنبنا
الكلام في تعريف الخبر ، مع عدم كونه من الامور المهمّة ؛ لوقوع الاختلاف الشديد
فيه بين القوم ، ولا بدّيّة بيان ما هو الحقّ وقد عرفته.
على أنّه يختلف
بعض الأحكام باختلافه ، مثلا إذا قال رجل : « من أخبرني بمجيء زيد فله ألف درهم »
فقال رجل : « جاء زيد » وكان كاذبا ، يمكن أن يقال بلزوم الألف عليه ؛ لصدق الخبر
عليه على ما هو الحقّ. وعلى القول بأنّ الخبر يختصّ بالصادق ، فلا يلزمه شيء.
والحقّ أنّه لا يلزم عليه شيء ، لا لذلك ، بل لأنّ العرف يحكم بأنّ المراد من
الإخبار في قوله هو الإخبار الصادق.
ويتفرّع عليه أيضا لزوم الألف عليه بالإخبار ثانيا وثالثا ؛ لصدق الخبر عليه ، بخلاف ما لو
قال : « من بشّرني بمجيء زيد » فإنّه لا يلزم عليه شيء بالإخبار ثانيا وثالثا ؛
لأنّ البشارة هو الخبر السارّ ، وهو يختصّ بالخبر الأوّل.
__________________
تتمّة
الخبر يطلق تارة
على ما يقابل الإنشاء ، وهو الذي ذكرناه . واخرى على ما
يرادف الحديث وهو قول المعصوم ، أو حكاية قوله ، أو فعله ، أو تقريره.
وتحديده بأنّه «
ما يحكي قوله » إلخ. منتقض العكس بما سمع منه من غير أن يحكيه عن معصوم
آخر ، والطرد بعبارات غيره المتضمّنة لنقل الحديث بالمعنى.
وتحديده بـ « ما
جاء عن المعصوم » لا يخفى فساده ؛ فالأصحّ ما ذكر أوّلا .
وقد يجعل الحديث
أعمّ مطلقا من الخبر .
وقد يخصّ الحديث
بما جاء عن المعصوم ، فيقال للعالم بما جاء عن النبيّ والأئمّة : المحدّث ، والخبر
بما جاء عن غيره ، فيقال للعالم بالتواريخ وأمثالها : الأخباريّ .
ولا يخفى أنّ هذه
اصطلاحات ، ولا مشاحّة فيها ، لكنّ أشهر استعمالات الحديث عندنا ما ذكر أوّلا . وأمّا عند العامّة ، فيطلق على قول الصحابي أو التابعي ، وعلى حكاية قولهما
أو فعلهما أو تقريرهما.
فائدة
ذهب المرتضى رحمهالله من أصحابنا وبعض العامّة إلى أنّه لا بدّ في كون صيغة الخبر خبرا واستعمالها في فائدتها من قصد المخبر
كونها خبرا ، وبدونه لا تكون خبرا.
__________________
واحتجّوا عليه :
بأنّ هذه الصيغة قد تصدر عن الساهي والمجنون والنائم وأمثالهم ممّن لا قصد له إلى
شيء أصلا ، وقد تصدر عمّن يقصد بها غير الخبر مجازا ، كقوله تعالى : (
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) ، وقوله : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي
الْحَجِ ) ، ولا شكّ أنّ الصيغة في الصورتين ليست خبرا ، وليس ذلك إلاّ لعدم القصد إلى
الخبريّة ، فصيغة الخبر لا تحمل عليه ما لم يتحقّق مرجّح القصد .
وذهب الأكثر إلى
عدم الاحتياج إلى القصد ، وهو الحقّ ؛ لأنّ ما وضع للخبر هو الصيغة فقط من دون
اعتبار القصد ، فالوضع مرجّح لا يفتقر إلى غيره ، فعند الإطلاق يجب حملها عليه.
وصدورها عن الساهي
وأمثاله لا يخرجها عن الخبريّة لغة ، إلاّ أنّه لا يترتّب عليها فائدة الخبر ؛
لأنّها موقوفة على صدورها عن عاقل. وليس هذا خاصّا بالخبر ، بل كلّ كلام حكمه
كذلك.
واستعمالها في بعض
الأحيان في غير الخبر مجازا لا يدلّ على اعتبار القصد ، بل كون الاستعمال مجازيّا
حينئذ دليل على عدم اعتباره.
وبالجملة ، صيغة
الخبر وحدها حقيقة فيه ، وصيغة الإنشاء حقيقة فيه. وعند الإطلاق يجب حمل كلّ واحد
منهما على معناه الحقيقي.
ولمّا كان بين
الخبر والإنشاء مناسبة ، يصحّ أن يطلق ما وضع لأحدهما على الآخر مجازا.
ومن هذا القبيل
استعمال صيغ العقود ، كـ « بعت » و « أنكحت » و « طلّقت » وأمثالها في الإنشاء ؛
فإنّها في اللغة أخبار ، إلاّ أنّ الشرع استعملها إنشاء ؛ لأنّه يقصد منها حدوث
الحكم وهي موجدة له عند التّلفظ ، وهذا معنى الإنشاء.
والحقّ : أنّ هذا
الاستعمال من الشرع في أوّل الأمر إنّما كان مجازا لأجل المناسبة ؛ لعدم ثبوت
النقل ، وهل صار هذا الاستعمال غالبا بحيث يتبادر عنها معنى الإنشاء حتّى تكون
حقيقة فيه؟
__________________
الحقّ : عدم ثبوت
ذلك ، فكلّ موضع وجد فيه قرينة الإنشاء ـ أعني القصد إلى حدوث الحكم ـ يحمل عليه ،
وإن لم توجد يحمل على الخبر.
ويتفرّع عليه :
لزوم القصد التفصيلي أو الإجمالي في صيغ العقود ، فلا عبرة بصيغة الغافل والساهي ،
ومن لم يتصوّر معنى الإنشاء فأجرى الصيغة غير قاصد إلى معنى الإنشاء والخبر ، أو
قاصدا للخبر ، ولكن يكفي مجرّد العلم بأنّ المراد منها حدوث الحكم.
والقول بأنّ هذه
الصيغ مفيدة لحدوث الحكم من الشرع وإن لم يتحقّق قصد ، مشكل ؛ لأنّ هذا موقوف على
كونها حقائق شرعيّة في الإنشاء ولم يثبت.
ثمّ لا بدّ لنا
هنا من الإشارة إلى امور :
الأوّل : إن قيل : المراد بالإنشاء إن كان إحداث الحكم عند
التلفّظ بالصيغة ، يلزم في التعليقات تعليق الواقع على ما لم يقع ؛ فإنّ الجملة
الجزائيّة في قول الرجل لزوجته : « إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو كظهر أمّي »
إنشاء ، فعند التكلّم يجب حدوث الطلاق أو الظهار ، مع تعليقهما على دخول الدار
الذي لم يقع بعد ، وهو محال.
قلنا : حدوث الحكم
عند التلفّظ بالصيغة إنّما هو عند عدم التعليق ، وأمّا عنده ، فحدوثه عند تحقّق ما
علّق عليه ، وانعدام الصيغة عند تحقّقه ـ بناء على كونها غير قارّة الذات ـ لا
يمنع تحقّق الحكم ؛ لأنّها ليست سببا حقيقيّا له ، بل من الأسباب المعرّفة ، فيجوز
حدوث مسبّبها بعد انعدامها.
الثاني : إن قيل : إنّ صيغ العقود إن اوقعت بعنوان الاستقبال ،
كأن يقول : « أبيعك » أو « انكحك » ، فلا تخلو من أن تكون خبرا ـ على ما يشعر به
بعض تعريفاته ـ أو إنشاء ـ على ما يشعر به بعض آخر منها ـ وعلى التقديرين يلزم أن
يقع العقد بها.
أمّا على التقدير
الأوّل ، فلأنّه كما يصحّ أن يراد الإنشاء من الجملة الخبريّة إذا كانت ماضية ،
فكذا يصحّ إذا كانت مستقبلة ؛ لعدم الفرق.
وأمّا على [
التقدير ] الثاني ، فظاهر.
قلت : أمّا على
التقدير الأوّل ، فإنّا لا نسلّم أنّ كلّ خبر يصحّ أن يراد منه الإنشاء. سلّمناه
ولكن لا نسلّم جوازه في صيغ العقود ؛ لأنّها متلقّاة من الشرع.
وأمّا على [
التقدير ] الثاني ، فإنّ المراد من الإنشاء غير الخبر ـ أي ما ليس لنسبته خارج ـ ،
وهذا مفهوم كلّي له أفراد مختلفة بعضها إحداث الفعل في الحال ، وبعضها إحداثه في
الاستقبال ، وبعضها طلب الفعل ، وبعضها معان أخر ، ووقوع العقد بواحد منها
للمناسبة لا يستلزم وقوعه بغيره ممّا ينافيه.
الثالث : الحقّ ـ كما أشرنا إليه ـ أنّ صيغ العقود إذا قصد بها حدوث الحكم تكون إنشاء ؛ لصدق حدّ الإنشاء
عليها ، وعدم صدق الخبر عليها ؛ ولأنّها لمّا كانت صيغ الماضي ، فلو كانت أخبارا لبقيت على ما كانت عليه من كونها ماضية ؛ لعدم ورود مغيّر حينئذ ، بخلاف ما
لو كانت إنشاء. وحينئذ لم تقبل التعليق ؛ لأنّه يتصوّر فيما لم يقع بعد ، مع أنّها
قابلة له إجماعا.
وخالف بعض الناس
وقال : إنّها أخبار ؛ محتجّا بأنّ الخبر إمّا أن يخبر عمّا في الخارج ، أو
عمّا في الذهن ، والصيغ المذكورة من الثاني. وحينئذ يصدق عليها حدّ الخبر دون
الإنشاء ، وتبقى على ما كانت عليه من كونها ماضية ، ولم تقبل التعليق ، بل القابل
له حقيقة ما في الذهن ، واللفظ إخبار عنه ، فكأنّه قال : ثبت في ذهني تعليق الطلاق
.
ولا يخفى أنّه لو
بني الأمر على تعميم الخبر واكتفي فيه بالإخبار عمّا في الذهن ، فات المطابقة
وعدمها ، ولم يتحقّق فيه صدق وكذب ؛ لأنّ المطابقة هي موافقة النسبة العقليّة
للخارجيّة ، وما في الذهن ليس إلاّ النسبة العقليّة ، فإذا لم يكن له خارج ، لا معنى
للمطابقة حينئذ.
__________________
ثمّ لو سلّم
تعميمه واندفاع الوجهين الأوّلين به ، فلا نسلّم
اندفاع الوجه الثالث به. وما ذكره في بيانه واه ؛ لأنّ
التعليق إنّما وقع حقيقة في الماضي الذي يتلفّظ به وهو غير جائز ، ولو سلّم عدم
وقوع التعليق فيه حقيقة ، فنقول : إنّ الثابت في الذهن ليس تعليق الطلاق الواقع
فيه ، بل تعليق الماضي الواقع فيه ، ومطلق الماضي ـ سواء كان في اللفظ ، أو في
الذهن ـ لا يقبل التعليق ، فلا مفرّ إلاّ القول بكونها إنشاء.
فصل [٢]
المشهور أنّ الصدق
مطابقة الخبر للواقع ، والكذب عدم مطابقته له.
والنظّام على أنّ
الصدق مطابقة الخبر لاعتقاد المتكلّم ، والكذب عدمها ، ولا عبرة فيهما بمطابقته
للواقع وعدمها .
والجاحظ على أنّ
الصدق مطابقته للواقع ، والاعتقاد بها معا ، والكذب عدم
مطابقته له مع الاعتقاد بعدمها ، وما لم يحمل عليه الوصفان لا يكون صدقا ولا كذبا
، بل واسطة بينهما ، وهي أربعة أقسام : مطابقته للواقع مع الاعتقاد بعدمها ، أو
بدون اعتقاد أصلا ـ كخبر من لا شعور له كالمجنون وأمثاله ، أو له شعور بدون اعتقاد
كالشاكّ ـ وعدم مطابقته له مع اعتقادها ، أو بدونه أصلا .
والحقّ القول
المشهور كما أشرنا إليه سابقا . والذي يدلّ على حقّيّته وإبطال القولين الأخيرين أنّ
الكافر إذا قال : « الإسلام حقّ » يحكم بصدقه ، وإذا قال خلافه ، يحكم بكذبه
إجماعا.
__________________
احتجّ النظّام
بقوله تعالى : ( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ ) حيث كذّبهم في قولهم : ( نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللهِ ) مع أنّ خبرهم كان مطابقا للواقع ، فكذبه لعدم اعتقادهم .
والجواب : أنّ
التكذيب إنّما هو في شهادتهم ؛ لأنّها تكون عن علم ، ولم تكن شهادتهم هذه عن علم.
أو في استمرارها ؛ لأنّهم زعموا أنّها تستمرّ منهم ، فكذّبهم بانقطاعها بعد ذلك.
وقد ذكر وجوه أخر . وما ذكرنا كاف للمطلوب.
واحتجّ الجاحظ
بقوله تعالى : ( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ
جِنَّةٌ ) ، حيث حصروا خبر النبيّ بنبوّته في كونه افتراء ، أو كلام مجنون. ولم يقصدوا
بالأخير الصدق ؛ لعدم اعتقادهم ذلك ، ولا الكذب ؛ لأنّهم جعلوه قسيمه ، فأثبتوا
واسطة بينهما وهم أهل اللسان .
والظاهر أنّ قصد
الجاحظ أنّه يثبت واسطتان من الأربع من الآية ؛ لأنّهم جعلوا خبره صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بزعمهم الفاسد ـ إمّا الكذب ، وعبّر عنه بالافتراء ، الذي هو عدم المطابقة
مع اعتقاد عدمها. ويظهر منه أنّ عدم المطابقة مع اعتقادها أو بدونه أصلا من
الوسائط ، فثبت هنا واسطتان. وإمّا كلام مجنون ، وكونه واسطة بناء على عدم كونه عن اعتقاد عدم المطابقة ، وإلاّ فهو بزعمهم لم يكن مطابقا
للواقع ، فهذا القسم يثبت من كلا شقّي الترديد ، ويبقى الصدق وكونه مطابقتهما معا.
والواسطتان الاخريان غير معلومة من الآية ، ويعلم حالها بالمقايسة
وعدم القائل بالفصل.
والجواب : أنّ
الكذب أعمّ من الافتراء ؛ لكون القصد معتبرا في الثاني دون الأوّل ، فترديدهم خبره
إنّما كان بين الافتراء وعدمه ، فكأنّهم قالوا : أكذب من قصد ، فيكون مفتريا ، أو
من غير قصد ، فيكون مجنونا؟ فإنّ الكاذب من غير قصد يكون مجنونا. ففي الشقّ الثاني
تحقّق الكذب الذي ليس بافتراء.
__________________
ويتفرّع على هذا
الخلاف أنّه إذا قال المنكر : « إن شهد لك زيد فهو صادق » يكون إقرارا على المذهب
المختار ومذهب الجاحظ ؛ لامتناع الصدق مع البراءة.
وفيه : أنّه يمكن
أن يكون اعتقاد المخبر استحالة شهادة زيد ، والمحال قد يستلزم محالا آخر.
ولا كلام في عدم
كونه إقرارا على مذهب النظّام.
ولو قال المدّعي
بعد إقامة البيّنة : « كذب شهودي » يسقط دعواه على المذهبين الأوّلين دون الآخر.
ولو قال : « لم يصدق شهودي » يسقط على المذهب الحقّ دون الآخرين. وفي حكم السقوط
ثبوت الإقرار لو قال له المنكر : « صدق شهودك » أو « لم يكذبوا ».
تقسيم
الخبر باعتبار
ينقسم إلى ما يعلم صدقه إمّا بالضرورة ، كالمتواتر ، أو بالنظر ، كخبر الله ، وخبر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمحتفّ بالقرائن. ووقوع المتشابهات التي اريد خلاف
ظاهرها ، والعمومات المخصّصة ، والمطلقات المقيّدة في كلامهما لا ينافي الصدق ؛
لأنّه من لوازم المحاورات ، وقد نصب القرينة الدالّة على المراد للمخاطبين.
وإلى ما يعلم كذبه
بالضرورة ، أو النظر . والمثال ظاهر.
وإلى ما لا يعلم
صدقه ولا كذبه ، وهو على ثلاثة أقسام : ما يظنّ صدقه ، كخبر العدل ، وما يظنّ كذبه
، كخبر الكاذب ، وما يشكّ فيهما ، كخبر مجهول الحال.
وقال بعض الناس : كلّ خبر لا يعلم صدقه فهو كذب.
وهذا فاسد ؛
لبداهة كون الجهل واسطة بين العلم بشيء والعلم بنقيضه ؛ وللزوم ارتفاع النقيضين لو
أخبر رجل بقيام زيد مثلا في وقت ، وأخبر آخر بعدم قيامه فيه.
ويظهر فائدة هذا
الخلاف في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.
__________________
فصل [٣]
ينقسم الخبر
باعتبار آخر إلى متواتر وآحاد.
والمتواتر : خبر
جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه. وقيل : أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب .
والحقّ ـ كما ذهب
إليه أكثر العقلاء ـ : أنّه يجوز تحقّق خبر يفيد بنفسه العلم ؛ لكثرة المخبرين ،
وقد وقع ، كالخبر بوجود البلاد النائية والامم الماضية ، كمكّة وسائر المدن المعروفة
، والأنبياء وباقي الأقوام المشهورة. فإنّا نجد من أنفسنا العلم بها كما نجد منها
العلم بالمحسوسات ، ولا ريب في استناد علمنا إلى الخبر.
وخالف السمنيّة والبراهمة في ذلك ، فقال قوم منهم : لا يمكن تحقّق خبر يفيد العلم ،
بل الممكن تحقّق ما يفيد الظنّ . وقال آخرون بإمكانه فيما يوجد في زمان الخبر ، لا فيما
سلف.
واحتجّوا بوجوه
ضعيفة :
منها : أنّه كما
يجوز الكذب على كلّ واحد منهم حالة الانفراد ، فكذا يجوز عليه في حالة الاجتماع ؛
فإنّ الجملة هي الأفراد بشرط الاجتماع .
والجواب : أنّ حكم
الجملة قد يخالف حكم الآحاد ، وهذا بديهيّ.
ومنها : لو حصل
القطع من الخبر المتواتر لما فرّقنا بين ما مثّل ، وبين علمنا بأنّه لا واسطة بين
النفي والإثبات ، وبأنّ الأربعة زوج ، مع أنّ الفرق ظاهر .
وجوابه : أمّا على
القول بكون العلم الحاصل من المتواتر نظريّا : فظاهر ؛ لأنّ
الفرق باعتبار النظريّة والضرورة.
__________________
وأمّا على القول
بكونه ضروريّا ، فبأنّ الضروريّات قد تختلف لا في حصول القطع وعدمه ؛
فإنّه متحقّق في جميعها ، بل في سرعة الانتقال وأمثاله ، والفرق هنا لذلك.
ومنها : أنّه يجوز
أن يجتمع جمع كثير يتحقّق به التواتر على خبر كاذب ؛ لاعتيادهم الكذب ، كما نشاهد
من كثير الناس ، أو لخوف من سلطان وأمثاله ، أو لدفع فساد عن أنفسهم ، أو لطمع
دنيويّ أو دينيّ ، كما وضع كثير من الزهّاد أحاديث دالّة على فضائل الأوقات ؛ لحمل
الناس على العبادة. أو للالتباس عليه إمّا لغلط البصر ، أو لعروض بعض الحالات ،
كالفكر والخوف الشديدين ؛ فإنّ الإنسان قد يرى في مثل هذين الحالين صورا لا تحقّق
لها في الخارج. أو لاشتباه حالة باخرى ، كالسكتة بالموت ، أو ذات باخرى. وهذا جائز
عقلا ؛ لأنّ الله يقدر على خلق مثل زيد في جميع مشخّصاته ، ونقلا ؛ لأنّ المسيح
شبّه بغيره ، وجبرئيل تصوّر بصورة دحية الكلبي ، وتشكّلت الملائكة يوم بدر بأشكال بني آدم ، وأمثال ما ذكر كثيرة.
والجواب : أنّ هذه
احتمالات نادرة لا يلتفت إليها العقول السليمة ، مع أنّ موضع النزاع اجتماع عدد
التواتر على إحداها ، وهذا أمر لا يكون.
على أنّا نقول :
حصول العلم عقيب الخبر المتواتر ضروري ، فهذا تشكيك في مقابله ، فإن كانت صالحة للإيراد ، فإنّما ترد على من رام إثبات حصول العلم عن المتواتر
بالدليل.
ومنها : أنّه لو
حصل العلم من الخبر المتواتر لزم حصوله ممّا ادّعى اليهود والنصارى من تواتر النقل
من موسى وعيسى بأنّه لا نبيّ بعده .
__________________
وجوابه : أنّ نقل
اليهود والنصارى لم يحصل بشرائط المتواتر ؛ لانقراض اليهود
في قضيّة بخت نصّر بحيث لم يبق منهم عدد يفيد قولهم العلم ، وقلّة النصارى في المبدأ.
لا يقال : يلزم
حينئذ عدم تواتر ما يدلّ على نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلاّ حصل العلم لجميع الطوائف ، ولو حصل لم يخالف أحد
نبوّته ؛ لأنّ العاقل لا يخالف مقتضى علمه.
والجواب : أنّ ما
يدلّ على نبوّته صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا عقلي ولا تواتر فيه ؛ لاشتراط كون المتواتر محسوسا ،
وإمّا حسّي متواتر بالتواتر اللفظي أو المعنوي. وعدم
حصول العلم منه لبعض الطوائف باعتبار الالتباس عليهم ، وجمودهم على الشّبه الواهية
، كما هو حال السوفسطائيّة ، مع أنّه يمكن حصول التواتر لطائفة دون اخرى إذا لم
يقع عنها البحث والفحص.
لا يقال : يمكن أن
يكون نقل اليهود والنصارى من هذا القبيل.
لأنّا نقول : قد
وقع منّا الفحص عن نقلهم ، وعثرنا على ما يكذب تواتره كما ذكرنا. وأيضا لنا براهين
قاطعة منافية له ، كما لا يخفى.
وقد أوردوا بعضا
آخر من الشكوك . والحقّ : أنّ جميعها تشكيك في الضروري ، فلا يستحقّ الجواب.
ويتفرّع عليه :
عدم معارضة شيء من الأدلّة للمتواتر ؛ لأنّ تواتر المتعارضين غير واقع ، بل غير
جائز ، وغيره ممّا لا يفيد العلم لا يقاوم ما يفيده.
ثمّ الحقّ ـ كما
ذهب إليه الأكثر ـ : أنّ العلم الحاصل منه ضروريّ ؛ إذ لو كان نظريّا لتوقّف على ترتيب
المقدّمتين ، واللازم منتف ؛ فإنّه حاصل لمن ليس من أهل البحث والنظر ، كالبله
والصبيان ، وكلّ أحد يحصل له العلم بوجود بلد تواتر الإخبار عليه من غير سابقة فكر
ونظر ، فكذا الملزوم. والملازمة ظاهرة.
__________________
وقيل : لو كان
نظريّا لساغ الخلاف فيه ، وليس كذلك .
وفيه ما فيه ؛
فإنّ كثيرا من النظريّات القطعيّة موضع وفاق.
وذهب بعض الناس
إلى أنّه نظريّ . واحتجّ : بأنّه متوقّف على أنّ المخبر عنه محسوس ، وأنّ
المخبرين جماعة لا يجوز تواطؤهم على الكذب ، فيكون نظريّا ؛ لتوقّفه على الوسط.
والجواب : أنّ
العلم لا يتوقّف عليه ، بل هو حاصل ضرورة. ومثل هذا الوسط يمكن فرضه لكلّ ضروريّ ، كالانقسام إلى المتساويين لزوجيّة الأربعة ، واشتمال الكلّ على جزء آخر
لأعظميّة الكلّ من الجزء.
نعم ، كثيرا ما
يشتبه بالنظريّ ؛ لخفاء الشروط الآتية المعتبرة فيه ، فيحتاج إلى التأمّل ليظهر
تحقّقها أو عدمه. ونظيره بعض التصديقات الضروريّة حيث يتوقّف العقل فيه ؛ لعدم
تصوّر الطرفين ؛ فإنّه يجوز كون التصديق ضروريّا ، وتصوّر طرفيه نظريّا.
وتوقّف المرتضى ؛ لعدم دليل صالح على أحد الطرفين ، وقد عرفته .
وذهب الغزالي إلى
أنّه ليس ضروريّا لا يحتاج إلى ملاحظة الوسط مطلقا ، ولا نظريّا
يحتاج إلى الحركة الفكريّة والشعور بتوسّط الوسط ، بل الواسطة حاضرة في الذهن ،
إلاّ أنّها لا تحتاج إلى الحركة والشعور بتوسّطها .
ومراده من الواسطة
ما ذكر في حجّة القول بكونه نظريّا.
ولا يخفى أنّ قوله
راجع إلى ثبوت الواسطة بين الضروريّ والنظريّ ، وفساده ظاهر.
__________________
فصل [٤]
يشترط في صحّة
التواتر شروط ، بعضها في المخبرين ، وبعضها في
السامعين :
والأوّل أربعة :
الأوّل : أن يبلغ
عددهم في الكثرة حدّا يمتنع معه عادة تواطؤهم على الكذب. ووجه اشتراطه ظاهر.
والحقّ أنّه لا
يشترط فيه عدد خاصّ ، بل الضابط فيه ما يفيد العلم ، وهو يختلف باختلاف القرائن
والوقائع ، وأحوال المخبرين والسامعين. وتفاوت كلّ منها يوجب اختلاف العدد بحيث لا
يمكن حصره ، فكيف إذا تركّب بعضها مع بعض. ولو كان العدد المخصوص معتبرا لما وقع
الاختلاف؟
وأيضا يحصل لنا
العلم من الأخبار المتواترة من غير تنبّه لعدد مخصوص ، ولو
كان شرطا ، لتوقّف حصوله على حصوله.
واجيب عنه : بأنّ
التوقّف على حصوله في الواقع ، لا على العلم به .
وفيه : أنّ حصول
العلم لو كان مسبّبا عن عدد خاصّ ، لعلم حصوله عند حصوله ، مع أنّه يحصل لنا العلم
من الأخبار المتواترة ولا ننتقل منه إليه.
ثمّ لمّا كان حصول
العلم من الخبر المتواتر تدريجيّا ـ لأنّه إذا سمع من واحد أفاد ظنّا ، وكلّما
تكرّر قوي ، وهكذا يتقوّى بتدريج إلى أن يصير علما ـ فحصول العلم بعدد التواتر
يتوقّف على ضبطه تدريجا ، وهذا مع صعوبته موجب لاختلافه للأسباب المذكورة.
هذا ، ولكن يجب في
المتواتر أن يكون للتعدّد والكثرة دخل في إفادة العلم وإن اختلف بالامور المذكورة
، فيخرج الخبر المحفوف بالقرينة.
ثمّ القائلون
باشتراط العدد الخاصّ اختلفوا فيه على أقوال شتّى . ولكلّ قول شبهة
__________________
واهية. ولا فائدة
في ذكرها بعد العلم ببطلانها.
الثاني : أن
يخبروا عن محسوس ، فلا تواتر في المعقول ، كحدوث العالم وأمثاله ؛ لتأتّي الاشتباه
في العقليّات ، ومعارضة الوهم للعقل فيها ، فلا يفيد قولهم العلم.
الثالث : أن يكون
إخبارهم عن علم لا عن ظنّ.
وقيل : إنّ هذا
الشرط لا يعمّ جميع المخبرين ، بل يكفي ثبوته لبعضهم .
الرابع : استواء
الطرفين والواسطة في إفادة العلم بأن يبلغ كلّ واحدة من الطبقة الاولى المشاهدين
لمدلول الخبر ، والطبقة الواسطة الناقلين عن الاولى ـ متّحدة كانت أو متعدّدة ـ والأخيرة
الناقلين عن الواسطة ، عدد التواتر ، ويكون خبر كلّ منها عن علم.
فلو ذكر واحد خبرا
لجماعة وكلّ منهم لجماعة اخرى ، وهكذا إلى أن يبلغ في طبقة إلى عدد كثير يفيد
قولهم العلم لو لا المانع ، لم يكن متواترا. ومن هذا الطريق يحصل الأراجيف بين
الناس وتشتهر إذا لم يسند كلّ مخبر خبره إلى القائل الأوّل ، ولذا إذا اشتهر
الأراجيف يذكرها كلّ أحد ولا يعرف القائل الأوّل.
وغير خفيّ أنّ هذا
الشرط في كلّ تواتر تحقّق فيه الطبقات الثلاث ، وإذا تحقّق فيه طبقتان من دون
تحقّق واسطة ، فيشترط استواؤهما في إفادة العلم ولا حاجة إلى ذكر الواسطة ، وإن
كان المخبرون هم المشاهدين ، فينتفي هذا الشرط رأسا.
الثاني اثنان :
الأوّل : أن لا
يسبق الخبر المتواتر تقليد ، أو شبهة للسامع. وهذا الشرط قد تفرّد بذكره المرتضى رحمهالله ، وتبعه أعيان المتأخّرين عنه . وهو حقّ.
ويدلّ على اعتباره
نقلا : قوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ). وعقلا : كون كلّ واحد من الشبهة والتقليد في القلب بمنزلة
معارض قويّ لما
__________________
يفيده العلم ،
فيمنعه من أن يؤثّر أثره فيه.
وبه يندفع ما
يحتجّ به مخالفونا من أنّه لو تواتر معجزات النبيّ أو النصوص على خلافة عليّ عليهالسلام لحصل لنا العلم .
الثاني : أن لا
يكون السامع عالما بمدلول الخبر ضرورة ، بأن يكون مشاهدا له ؛ لاستلزامه تحصيل
الحاصل.
وفيه نظر ، أمّا
على التعريف الأخير المذكور للمتواتر ، فظاهر ؛ لعدم اعتبار إفادة العلم فيه.
وأمّا على التعريف الأوّل له ؛ فلأنّ العلم الحاصل من الخبر مخالف بالنوع للعلم
الحاصل من المشاهدة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.
وهنا شروط فاسدة
اعتبرها بعض الناس أعرضنا عن ذكرها لعدم الفائدة فيه.
تتمّة
قيل : كلّ عدد
أفاد خبرهم علما بقضيّة لشخص فمثله يفيد العلم بها لشخص آخر ، وبغيرها لكلّ منهما .
وغير خفيّ أنّ هذا
يتوقّف على تساوي المخبرين والقضيّة والسامع من كلّ وجه ؛ لما عرفت من أنّ الخبر يختلف في إفادة العلم باختلافها ؛ وتساويها من كلّ وجه نادر.
نعم ، مع فرض تحقّقه يفيد العلم.
ويتفرّع عليه :
جواز عمل الحاكم ـ بناء على القول بجواز العمل بعلمه كما هو الحقّ ـ
__________________
بإخبار جماعة في واقعة ، وعدم العمل بإخبارهم في واقعة اخرى ،
وبإخبار مثلهم في الاولى والاخرى. وكذا يجوز حصول العلم من إخبار جماعة لحاكم دون آخر.
فصل [٥]
المتواتر إمّا
لفظي ، وقد عرفته . وإمّا معنوي ، وهو المعنى الكلّي الذي كان قدرا مشتركا
بين أخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب في وقائع مختلفة. فكلّ واحد من هذه
الأخبار وإن لم يبلغ حدّ التواتر إلاّ أنّ هذا المعنى الكلّي المشترك بين جميعها
متواتر ؛ لأنّ كلّ واحد منها يدلّ عليه بجهة التضمّن ، أو الالتزام. وذلك كشجاعة
عليّ عليهالسلام ؛ فإنّه قد نقل منه عليهالسلام وقائع مختلفة من الغزوات يدلّ كلّ واحدة منها على شجاعته ،
كغزوة خيبر ، واحد ، وبدر ، وغيرها ، فكلّ واحدة منها إن لم يكن متواترا ، فلا شكّ
في تواتر القدر المشترك بينها وهو الشجاعة. وكذا الحكم في سخاوته عليهالسلام ، وسخاوة حاتم. ويمكن فتح هذا الباب في معجزات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مماشاة للخصم ؛ لأنّه كاف للمطلوب.
فصل [٦]
خبر الواحد : ما
لم يبلغ حدّ التواتر ، قلّت رواته أو كثرت.
وقيل : ما أفاد
الظنّ .
والصواب الأوّل ؛
لجواز وجود خبر واحد لا يفيد الظنّ. وهو بنفسه لا يفيد القطع ، كما سيجيء . نعم ، قد يفيده بانضمام القرائن إليه.
والحقّ : أنّ هذا
جائز بل واقع ، والمنكر مكابر ؛ فإنّا إذا علمنا أنّ زيدا مريض ، واتّفق حذّاق الأطبّاء على عدم برئه ، ثمّ أخبرنا عدل ورع بموته ، وسمعنا من داره صراخا
__________________
وواعية ، وخرجت
المخدّرات كاشفات الرءوس ولاطمات الخدود ومازقات الجيوب ، وانضمّ إليه بعض آخر من
القرائن ، فإنّا نقطع بموته ويحصل لنا العلم به.
لا يقال : حصول
العلم هنا من القرائن ، ولا دخل للخبر فيه ، كما يحصل العلم بخجل الخجل ووجل الوجل
من القرائن من دون خبر.
لأنّا نقول :
للخبر دخل في إفادة العلم ؛ إذ لولاه لجوّزنا موت شخص آخر.
احتجّ الخصم بوجوه
ضعيفة :
منها : أنّه لو
أفاد القطع لوجب الحكم بتخطئة المخالف له بالاجتهاد ، وهو خلاف الإجماع.
وجوابه : التزام
التخطئة على فرض المخالفة مع اعتقاده بأنّه مفيد للعلم
، إلاّ أنّ هذا غير واقع ؛ لأنّ أحدا لا يخالف مقتضى علمه ، بل من خالف فمخالفته
لأجل عدم تحقّق شرائط العلم عنده ، وحينئذ يجوز له المخالفة بشرط كون المقام قابلا
للاشتباه ، وإن لم يكن كذلك ، فيكون مخالفته بمجرّد المكابرة ، أو العناد ، وحينئذ يجوز تخطئته.
ومنها : أنّ حصول
القطع منه يؤدّي إلى حصول القطعين المتناقضين إذا اخبرنا بخبرين متناقضين محفوفين
بالقرائن ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ لأنّ المقطوع به واقع في الخارج ، وهو
محال.
وجوابه : أنّ
الفرض المذكور محال عادة.
ومنها : أنّ الخبر
المحفوف بالقرائن كثيرا ما يظهر كذبه للاشتباه وأمثاله ، كما إذا أخبر عدل بموت
زيد ، وقارن خبره بالصراخ وإحضار الجنازة ، ثمّ ظهر أنّه لحقت به سكتة.
وقد ظهر جوابه
ممّا ذكرنا في جواب بعض شبه من قال : التواتر لا يفيد العلم .
ومنها : أنّه لو
حصل العلم منه ، لاطّرد في كلّ خبر واحد ، واللازم باطل.
__________________
وجوابه : أنّه إن
اريد الاطّراد في كلّ خبر انضمّ إليه القرائن المعتبرة في حصول العلم ، فنمنع
بطلان اللازم. وإن اريد الأعمّ ، فالملازمة ممنوعة. والفرق ظاهر.
وقد احتجّوا بوجوه
ضعيفة أخر لا فائدة في نقلها ؛ لظهور فسادها.
ثمّ الحقّ : أنّ
التصفّح يعطي وجود الأخبار المحفوفة بالقرائن في ضمن الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهمالسلام ، وهي الأخبار التي انضمّت بالقرائن المفيدة للعلم ، وهي عندنا آية محكمة ـ خصوصها
، أو عمومها ، أو فحواها ـ أو سنّة قطعيّة كذلك ، أو دلالة العقل ، أو الإجماع.
فإن عثرت على خبر واحد وافق إحدى الأربع ، فاحكم بكونه محتفّا بالقرينة ، مفيدا
للعلم لا يعارضه شيء من الأدلّة الظنّيّة ، ولا يجوز تعارضه لما يفيد العلم ، كما
عرفت .
وقد وقع الخلاف في
أنّ إفادة العلم من القرائن فقط ، أو منها ومن الخبر؟
ويظهر الفائدة
فيما دلّ عليه القرائن من دون خبر ، كالشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع وأمثاله
في الخلوة ، والتصرّف في الهديّة من غير لفظ ، وقبول بعض الامور من الصبيّ المميّز
، وأكل طعام الأصدقاء ، وبعض التصرّفات في امورهم ، وأمثالها.
والتحقيق أنّ
كثيرا من المواضع لا يحصل العلم [ فيها ] من القرائن فقط ، بل يحصل بانضمام الخبر
إليها.
نعم ، يمكن أن
يتظاهر القرائن في بعض الموارد بحيث تفيد العلم ، وحينئذ يجب العمل بها.
تذنيب
ذهب بعض الناس إلى
أنّ كلّ خبر يفيد العلم ، سواء اقترن بالقرينة أم لا .
والحقّ : أنّه
ظاهر البطلان ؛ لأنّ كلّ أحد يجد من نفسه تزايد اعتقاده الحاصل من خبر الواحد عند
ازدياد الأخبار حتّى يصير يقينا ، ولو حصل العلم من الخبر الأوّل
__________________
امتنعت الزيادة.
والتفاوت في العلم وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الجميع مشترك في كونه مانعا من النقيض ،
وهنا ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ كلّ واحد من الأخبار لا يمنع النقيض حتّى ينتهي إلى
حدّ التواتر.
وأيضا لو كان
الخبر الواحد مفيدا للعلم ، وجب تخطئة المخالف له في الاجتهاد ، وهو باطل.
واحتجّ من قال
بإفادته العلم : بأنّ العمل به واجب إجماعا ، ولو لم يفد العلم لم يجز العمل به ؛
لظواهر الآيات الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ ، كقوله تعالى : ( وَلا
تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، وقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَ ) في معرض الذمّ .
وقد عرفت جوابه
فيما تقدّم ، وأشرنا هناك أنّ هذا مذهب الأخباريين من أصحابنا في
الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهمالسلام ، وأجبنا عن شبههم ، وبيّنّا فساد رأيهم بطرق قطعيّة.
فصل [٧]
الحقّ أنّه إذا
أخبر واحد بحضرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم ينكر عليه لم يدلّ على صدقه ، إلاّ أن يستشهده به
وادّعى عليه علمه.
أمّا الثاني ،
فظاهر.
وأمّا الأوّل ، فلإمكان عدم سماعه ، أو فهمه ، أو تأخيره إلى وقت بيان الحاجة ، أو عدم
علمه به ؛ لكونه دنيويّا.
ويظهر منه عدم
حجّيّة مثل هذا الخبر ؛ وهو أظهر لو أخبر بحضرة واحد من الأئمّة عليهمالسلام ؛ لإمكان التقيّة وغيرها من المصالح.
__________________
فصل [٨]
قيل : التواتر
السكوتي ـ وهو إخبار واحد بحضرة جماعة بلغوا عدد التواتر مع سكوتهم ـ يفيد صدق
الخبر .
وقيل : يلزم
تقييده بما إذا استشهدوا به ، وعلم كونهم عالمين به ؛ لكون الخبر ممّا امتنع عادة عدم علمهم به ، أو لأمر آخر ، ولم يعلم داع لهم على السكوت من رغبة ، أو رهبة
.
وغير خفيّ أنّ
الخبر مع الشروط الثلاثة يفيد العلم بصدقه عادة ؛ لأنّ سكوتهم وعدم تكذيبهم مع
علمهم بكذبه يستحيل عادة.
والوجه في اعتبار
الشرط الثاني ظاهر ؛ لأنّ الخبر إذا كان غريبا لا يمكن أن يطّلع عليه
إلاّ الأفراد ، فيمكن عدم اطّلاع واحد منهم ، فسكوتهم لهذا.
وأمّا اعتبار
الشرط الأوّل ، فالظاهر عدم لزومه ؛ لأنّه يبعد سكوت هذا الجمع الكثير
عن التكذيب مع علمهم بكذبه وإن لم يستشهدوا. نعم ، هو يفيد التقوية والتأكيد.
وكذا الشرط الثالث
أيضا ؛ لأنّ اجتماع الجمّ الغفير على كتمان ما علموه بحيث
لم يشذّ منهم واحد ، يستحيل عادة وإن فرض وجود داع لهم ، ولذا لم يسمع اتّفاق أهل
بلد على كتمان الرخص ، أو الغلاء مع وجود داع لهم.
فصل [٩]
العامّة على أنّ
ما توفّر الدواعي على نقله ـ كاصول الأديان ، وفروعها الضروريّة ، والمعجزات
العظيمة ، والحوادث الغريبة ، كقتل السلطان وأمثاله ـ إذا تفرّد بالخبر عنه
__________________
واحد ـ مع مشاركة
غيره له فيما صار سبب علمه به كالمشاهدة ، أو السماع ، أو غيرهما ـ يكون كاذبا . ونسبوا خلافه على الإطلاق إلى الشيعة ، وهو فرية ؛
لأنّهم قالوا : إنّ الكذب مشروط بعدم حامل لهم على الكتمان ، فمع وجوده ـ كالتقيّة
والرغبة وأمثالهما ـ لا يحكم به. فإذا أخبر واحد بأنّ فيما بين الحرمين بلدة أوسع
منهما ، يحكم بكذبه ؛ لعدم تصوّر حامل على الكتمان لمن شاركه في سبب العلم. وإذا
أخبر واحد بأنّ زيدا قتل عمرا ، وكان المشاركون له في سبب العلم أقرباءه ، فلا يحكم بكذبه باعتبار كتمانهم ؛ لوجود الداعي.
ومن هذا القبيل
عدم تواتر النصوص الجليّة والخفيّة على خلافة عليّ عليهالسلام عند المخالفين لو كانوا صادقين ؛ لفتور الدواعي عن نقلها
رهبة ، أو رغبة.
ومن هذا القبيل
عدم اشتهار بعض الأحكام عن أئمّتنا عليهمالسلام مع كونها ممّا يعمّ به البلوى.
واعلم أنّه ربما
يتوهّم أنّ كثيرا من معجزات الأنبياء لم يتواتر ، مع كونه ممّا
يتوفّر الدواعي على نقله ، كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكلّم
عيسى في المهد ؛ فإنّ النصارى لم ينقلوا كلامه فضلا عن أن يتواتر بينهم ، وكذا لم
يتواتر كثير من الأحكام الضروريّة مع مسّ الحاجة إليه ؛ والمثال ظاهر.
وتحقيق المقام على
وجه يندفع عنه أمثال هذه التوهّمات : أنّ توفّر الدواعي على النقل ممّا يقع فيه
الاختلاف والتشكيك بالنسبة إلى الامور ، فهو في بعضها فوق التمام ، وفي بعضها أقلّ
، وهكذا نتنزّل بالتدريج إلى العدم.
وكذا عدد
المطّلعين على مدلول الخبر ممّا يقع فيه التفاوت ؛ ففي مدلول بعض الأخبار يبلغ
عددهم حدّ التواتر ، وفي بعض آخر يكون أقلّ ، وهكذا يتنزّل إلى أن يصل إلى الواحد.
__________________
وكذا أهواء كلّ
واحد منهم في النقل وعدمه ممّا يقع فيه التفاوت ؛ فبعضهم يعتني بالإظهار ، وبعض
آخر بالكتمان ، وآخر لا يبالي بشيء منهما ؛ فتفاوت النقل في كلّ قضيّة اشتهارا
وخفاء بقدر تفاوت الامور الثلاثة زيادة ونقصانا ، فاشتهار كلّ معجزة بقدر ما
يقتضيه توفّر الدواعي على نقله ، وعدد المطّلعين عليه ، وسعيهم في إظهاره. فإن فرض
شيء توفّر الدواعي على نقله ، ولو وجد لكان المطّلعون عليه كثيرا ، ومع ذلك لم
يشتهر ، فإن تفرّد بنقله واحد يحكم بكذبه ؛ لأنّ مقتضى توفّر الدواعي وكثرة
المطّلعين أكثر من ادّعاء واحد ، فلو ادّعى واحد بأنّ القرآن عورض بمثله ولكن لم
ينقل ، يكون كاذبا.
فصل [١٠]
التعبّد بخبر
الواحد عقلا جائز وفاقا ، وخلاف ابن قبة من أصحابنا وجماعة من أهل الخلاف لا اعتداد به ؛ لأنّه لا يلزم منه محال في العقل ، ولا
نعني منه سواه. وحجّتهم واهية ، فالأولى
عدم الالتفات إليها.
والحقّ وقوعه
بالشروط الآتية ـ أي حجّيّته ووجوب العمل به ـ وفاقا لأعلام المتأخّرين ، وخلافا لأعيان
القدماء .
لنا وجوه من
الأدلّة :
منها : أنّ باب
العلم القطعي في أمثال زماننا مسدود إلاّ فيما علم ضرورة وهو قليل ، لما
__________________
ذكرنا فيما تقدّم ، فيجب العمل بالظنّ ، وإلاّ يلزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال
والحرام. ولا شكّ أنّ الظنّ الحاصل من أكثر أخبار الآحاد أقوى من الظنّ الحاصل من
سائر الأدلّة ، مع أنّ أكثر الأحكام ممّا لا يمكن استنباطه إلاّ من الأخبار دون
غيرها من الأدلّة ، فالعمل بها متعيّن.
ومنها : اشتهار
العمل به بين أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والتابعين من غير نكير ، وقد عملوا به في الوقائع الكثيرة
، كما ذكر في كتب السير والاصول ، ولم ينكر عليهم أحد ، وإلاّ لنقل .
ومنها : ما تواتر
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يرسل الآحاد إلى القبائل لتبليغ الأحكام ، وكان العمل
بقولهم لازما عليهم ، ولا يتمّ هذا بدون حجّيّة أخبار الآحاد .
ومنها : اشتهار
العمل به بين أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ؛ فإنّه شاع وذاع منهم وممّن يليهم غاية الاهتمام بروايته
والعمل به ، والاعتناء في تدوينه وضبطه ، والسعي في ترويجه ونشره ، والبحث عن حال
رواته ، والفحص عن الثقة وغيره ، وقد كانت هذه طريقة مستمرّة بين أصحاب جميع
الأئمّة عليهمالسلام ومقاربيهم ، والتتبّع الصادق يشهد بأنّ إنكار الحجّيّة
إنّما نشأ من المرتضى رضى الله عنه وأتباعه ، ولذا قال العلاّمة :
|
أمّا الإماميّة
، فالأخباريّون منهم ... لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد
المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام. والاصوليّون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي وغيره ـ وافقوا
على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ؛ لشبهة حصلت لهم . انتهى.
|
ويدلّ عليه وجود
الاختلاف بين الأصحاب بحسب اختلاف الأخبار ، ولو لم تكن حجّة
__________________
عندهم لكان اللازم
عدم الاختلاف لو كان مستندهم قاطعا ، أو الاختلاف بنحو آخر لو كان مستندهم غير
قاطع دون الأخبار.
وقد بالغ الشيخ في
حجّيّة أخبار الآحاد ، وادّعى إجماع الأصحاب على العمل بالأخبار المرويّة عن
الأئمّة عليهمالسلام حتّى قال :
|
لو رواها غير
الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض ، واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين
الأصحاب ، عمل به.
ـ وذكر ـ أنّ
قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحّة ما أفتى به المفتي منهم ، عوّل على المنقول في أصولهم المعتمدة ، وكتبهم المدوّنة ، فيسلّم له خصمه منهم الدعوى في ذلك ، وهذه سجيّتهم من زمن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى زمن الأئمّة عليهمالسلام .
|
وغير خفيّ أنّ
اللازم من الطرق الثلاث تواتر العمل بأخبار الآحاد من عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عصر المرتضى رضى الله عنه ، وكونه طريقة مستمرّة من غير نكير ، فيظهر منه
أنّه كان إجماعيّا ، لا سكوتيّا مفيدا للظنّ ، بل قطعيّا ، كما لا يخفى. وهذا يفيد
القطع بحجّيّتها ووجوب العمل بها ؛ لأنّ عملهم حجّة لنا ، ولو وقع الخلاف بينهم
لنقل ؛ لأنّه ممّا يتوفّر الدواعي عليه.
لا يقال : ثبوت
كلّ واحد من الطرق المذكورة لنا بأخبار الآحاد ، فيلزم الدور.
لأنّا نقول : كلّ
واحد منها وإن ثبت بأخبار كلّ واحد منها من الآحاد إلاّ أنّ القدر المشترك بينها
متواتر ، فيثبت عندنا كلّ واحد من الطرق الثلاث بالتواتر المعنوي ، ولها قدر مشترك
هو المطلوب ، وهو أجلى من كلّ متواتر ؛ لكونه قدرا مشتركا بين المتواترات الثلاثة.
وقد اعترض عليها
بوجوه كلّها بالإعراض عنه حقيق.
ثمّ هنا أخبار
خاصّة تدلّ على الحجّيّة كالأخبار التي وردت في حكم اختلاف الأحاديث ؛ فإنّها تدلّ على الحجّيّة بأحد الشروط المثبتة فيها. والأخبار الواردة
بالأمر
__________________
بإبلاغ الأحاديث
إلى الناس . والأخبار الواردة بضبط كتب الأحاديث . فهذه الأخبار وإن لم تكن مستقلّة في إفادة الحجّيّة ؛ نظرا إلى أنّها لم
تبلغ حدّ التواتر ، فلا شكّ في كونها مقوّية لها.
ومنها : قوله
تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ).
وجه الاستدلال به
: أنّه يدلّ على وجوب الحذر عند إنذار الطائفة من كلّ فرقة ، وهو بعمومه يشمل الكثير والقليل ، فيصدق على الثلاثة قطعا إن لم يصدق على الاثنين
، فإذا لم يعتبر فيه عدد التواتر ، فبعضه أولى بذلك ، وهذا
يدلّ على وجوب العمل بخبر الواحد.
ثمّ الضمير في
الأفعال الثلاثة وإن رجع إلى مجموع الطوائف ، والمراد من القوم وإن كان جميع من
يصل إليه الإنذار منهم ، إلاّ أنّ المراد التوزّع ـ بأن يختصّ بإنذار كلّ بعض من
القوم بعض من الطوائف ، قلّ أو كثر ـ لا الاجتماع ، وإلاّ بطل الفائدة. وهذا كما
يقال : أمر السلطان بإرسال واحد من كلّ مائة ليقاتلوا أعداءه ؛ فإنّ الضمير في
الفعل المذكور فيه وإن رجع إلى جميع الذاهبين ، إلاّ أنّ المقاتلة تحصل بكلّ واحد
منهم. ولو كان عدد التواتر شرطا ، لوجب أن يقال : ولينذر كلّ واحد من الطوائف ، أو
ما يحصل به التواتر كلّ واحد من القوم.
وغير خفيّ أنّ فهم
وجوب الحذر من الآية لدلالتها على ذمّ عدم النفر والإنذار ، وهو موجب لوجوب الحذر
؛ ولامتناع الترجّي على الله ، فحمل على الطلب ؛ لكونه لازما للترجّي
؛ فإنّ المترجّى طالب ، وعدم وجود مجاز أرجح منه.
والإيراد عليه : بأنّه إذا امتنع يجب الحمل على أقرب المجازات وهو مطلق الطلب
__________________
دون الوجوب ، فاسد
؛ لأنّه لا معنى لجواز الحذر وندبه ، بل إن حصل موجبه وجب ، وإلاّ انتفى رأسا.
فإن قيل : الإنذار
إن كان المراد منه الإخبار فلا يثبت منه وجوب الحذر مطلقا ؛ لأنّ الإخبار عن
المباح والندب والمكروه لا يوجب وجوب الحذر ، وإن كان المراد منه التخويف ـ كما هو
الظاهر منه ـ فلا يثبت منه إلاّ حجّيّة الخبر عن الواجب والحرام دون غيرهما من
الأحكام ، فالمدّعى ـ وهو حجّيّة مطلق الخبر ـ أعمّ ممّا ثبت.
قلنا : نختار
الثاني ، ونثبت حجّيّة الخبر عن غيرهما بالأولويّة ، وعدم القول بالفصل.
نعم ، قيل بالعكس
في بعض الأخبار كما يجيء .
والقول بأنّه يمكن أن يكون المراد من الإنذار التخويف على ترك أو فعل ثبتا بطريق القطع ، فإنّه يحصل للنفس منه خوف وإن كان من خبر واحد ، لا يلائم
التفقّه ، كما لا يخفى.
فإن قيل : المراد
من التفقّه معرفة الاصول ، أو الاجتهاد في الفروع ، فيكون المراد من الإنذار
الفتوى ، ومن الحذر التقليد.
قلت : الأوّل خلاف
المتبادر ؛ لأنّ العرف ما يفهم من التفقّه إلاّ معرفة الفروع ، وإن حمل على معناه
اللغوي ـ أعني مطلق التفهّم ـ يثبت منه المطلوب.
والثاني غير صحيح
؛ لأنّ الاجتهاد والتقليد بالمعنى المصطلح إنّما حدثا بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة ؛ لسدّ أبواب الفقه وعدم الظفر بمطلوبهم كما ينبغي. وأمّا في زمانهم
وأمثاله ، فكان التمكّن حاصلا ، فلم يكن الاحتياج إليهما ، فيجب أن يكون المراد من
التفقّه إمّا المعنى اللغويّ ، أو ما كان متعارف أصحاب النبيّ والأئمّة عليهمالسلام ومن يليهم ، فيكون المراد من الإنذار إلقاء كلامهم ، ومن الحذر وجوب الاستماع
له.
__________________
وما قيل ـ بعد
تسليم ما ذكر ـ : تكون الآية ظاهرة في حجّيّة خبر الواحد ، وهو لا يكفي ؛ لأنّ
الظاهر لا يجري في الاصول ، مدفوع بأنّ الظاهر يجب العمل به ، وإرادة خلافه قبيحة ،
كما عرفت سابقا .
ثمّ ذهب بعض
المفسّرين إلى أنّ الضمير في الفعلين يعود إلى المتخلّفين من المؤمنين بعد نفور
الطوائف منهم إلى الجهاد ، والضمير في « رجعوا » يعود إلى الطوائف . فالمراد أنّه يجب نفر طائفة من كلّ فرقة إلى الجهاد ، وتخلّف الباقي لأجل
التفقّه في الدين بسماعهم ما يتجدّد من النصوص ، واستنباط الأحكام منها حتّى إذا
رجع النافرون إليهم من السفر ، أو في الأحكام والحوادث ، أنذروهم.
واحتجّ : بأنّ صدر
الآية دالّ على هذا ، وهو قوله تعالى : ( وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) أي إلى الجهاد .
وهذا خلاف الظاهر
، فيجب الحمل على ما ذهب إليه الأكثر. ولا ينافيه صدر الآية ، كما لا يخفى.
ومنها : قوله
تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) أمر بالتبيّن عند مجيء الفاسق ، فيدلّ على أنّ العدل بخلافه ؛ عملا بمفهوم
الشرط وهو منحصر في القبول ـ وهو المطلوب ـ والردّ ، فيلزم كونه أسوأ حالا من
الفاسق وهو باطل. والمفهوم وإن كان أعمّ من مجيء العدل ؛ لكونه عدم مجيء الفاسق ،
لكنّه فرد منه وهو كاف للمطلوب.
والإيراد عليه
بمنع حجّيّة مفهوم الشرط ، ضعيف كما ستعلم .
واورد عليه :
بأنّه نزل في وليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى
__________________
بني المصطلق ،
فلمّا دنا ديارهم ، ركبوا مستقبلين له ، فظنّ أنّ ركوبهم لمقاتلته ، فرجع وأخبر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّهم ارتدّوا ، فالأمر بالتبيّن إنّما هو في هذا الخبر
لا في مطلقه. وأيّده بأنّ التعليل الواقع فيه يجري فيه وفي أمثاله .
وجوابه : أنّ
تخصّص السبب لا يدلّ على تخصّص الحكم ؛ فإنّ مدار الاستدلال على اللفظ ، واللفظ
هنا للعموم ؛ لأنّ التنكير في « فاسق » و « نبأ » للعموم ، وحمله على التعظيم ـ مع
بعده ـ يرد عليه ما سنذكره . وليس المراد من التعليل الوقوع في الفساد المذكور ، بل
عرضته. فالمطلوب أنّ قبول خبر الفاسق في عرضة هذا الفساد وشرفه ، كما يقال : لا
تسافر وحدك ؛ فيضلّ عنك الطريق.
وأيضا إن حمل
الآية على المورد بأن يكون المراد منه إن جاءكم مثل الوليد بمثل هذا النبأ الذي
يستلزم قبوله قتل النفوس وأمثاله ، فتبيّنوا خوف أن تصيبوا ... ، فيدلّ بالمفهوم
على عدم التثبّت في نبأ لا يكون الجائي به مثل الوليد ، أولا يشتمل على مثل هذا الفساد ، فإمّا يجب ردّه وهو ظاهر البطلان ؛ للزوم ردّ خبر
عادل يستلزم ردّه قتل النفوس وأمثاله ، فيلزم كون العدل أسوأ حالا من مثل الوليد ،
أو قبوله. فمع عدم القول به يندرج فيه المطلوب .
واعترض عليه أيضا
: بأنّ العمل بالمفهوم لا يصحّ في المورد ؛ لعدم قبول خبر العدل في الردّة ، فغيره أولى بذلك ، فيلزم أن يكون المراد بـ « فاسق » أحدا أو رجلا حتّى
ينتظم معنى الآية. والتعبير عنه بالفاسق للإشعار بكون المخبر فاسقا .
والجواب : أنّه
مخصّص من عموم المفهوم بدليل من خارج ، والقول به أولى من صرف
__________________
الكلام عن حقيقته ، فاللازم إبقاء اللفظ على الوصفيّة وإرادة العموم منه ، ومن نبأ ، ومن
المفهوم ، إلاّ فيما ثبت المخصّص. والتأمّل في جواز التخصيص في المورد دون غيره
مجرّد استبعاد ؛ فإنّه كما يجوز تخصيص العامّ ببعض أفراد المورد أو كلّها ، وإخراج
ما عداه عنه ، فكذا يجوز تخصيصه ببعض أفراد غيره أو كلّها ، وإخراج ما
عداه عنه ، ولا بدّ لنفيه من دليل.
ثمّ الاستدلال على
المطلوب بهذه الآية من مفهوم الشرط لا الصفة ـ كما توهّم ـ لأنّه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالخبر. فهذا المجيء الخاصّ هو
الشرط والعلّة ، فبانتفاء كلّ جزء منه ينتفي الجزاء. وليس الشرط هو مطلق المجيء ،
أو مطلق المجيء بالخبر حتّى يقال : فهم انتفاء الجزاء عند انتفائهما من باب مفهوم
الشرط ، وفهم انتفائه عند انتفاء مجيء الفاسق بالخبر ، ومجيء العدل به من باب
مفهوم الصفة ، ولذا لو قيل : « إن جاءك العلماء فأكرمهم » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الشرط ، ولو قيل : « أكرم
العلماء » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الصفة.
هذا ، مع أنّا نعلم
أنّ الصالح للعلّيّة فيما نحن فيه ليس إلاّ إخبار الفاسق ؛ لمناسبته للتثبّت ،
واقترانه معه.
ومنها : قوله
تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا
مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) الآية. أوعد على كتمان ما أنزل من البيّنات والهدى ؛ فيجب الإظهار ، والمسموع
من النبيّ والأئمّة عليهمالسلام من الهدى ؛ فيجب إظهاره ؛ فيجب العمل به ، وإلاّ لم يكن للإظهار فائدة .
والإيراد عليه : بأنّ المتبادر من « ما أنزل » القرآن ، ومع التسليم أين وجوب العمل؟ لا
يخلو عن تأمّل.
__________________
وهنا وجوه أخر من
الأدلّة تركناها ؛ لعدم تماميّتها.
واحتجّ الخصم :
بوجوه ضعيفة عمدتها وجهان :
أوّلهما : قوله
تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، ونحو ذلك من الآيات الدالّة على ذمّ
اتّباع الظنّ. ولا ريب أنّ خبر الواحد لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلا يجوز اتّباعه .
وجوابه : أنّ ظنّ
المجتهد من أخبار الآحاد وسائر الأدلّة مخصّص بالإجماع ، كما عرفت مرارا. على أنّ الظاهر من الظنّ في آيات الذمّ اختصاصه بالظنّ في الاصول ؛
لأنّها وردت ذمّا للكفّار ، وهذا يتأتّى في آية النهي أيضا.
وأجاب بعضهم : بالانتقاض بوجوب العمل بالظنّ في تفاصيل المجملات التي علم وجوبها عقلا من الامور الدنيويّة ، كخبر العدل في كون أسد على
الطريق ، أو مضرّة شيء معيّن ، أو انكسار جدار مشرف على الانهدام ؛ فإنّه لمّا وجب
عقلا اجتناب المضارّ إجمالا ، وجب عقلا اجتناب تفاصيله كالامور المذكورة ، ويجب
العمل بالظنّ فيها ، ولذا لو لم يحترز عنها بخبر واحد يذمّه العقلاء.
أقول : بعض من قال
بوجوب العمل بخبر الواحد عقلا احتجّ به عليه ، وقال : قد بعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لجلب المنافع ودفع المضارّ ، ومضامين أخبار الآحاد تفاصيل لهما ، وهي تفيد
الظنّ ؛ فيجب العمل بها ، كما يجب به في الامور المذكورة .
__________________
والمدّعى وإن كان
حقّا عندنا ـ فإنّه يجب العمل بخبر الواحد عقلا ، كما ثبت من الدليل الأوّل ، ونقلا كما ثبت من باقي الأدلّة ـ إلاّ أنّ هذا الدليل لا يخلو عن تأمّل ؛ لإمكان منع وجوب العمل بالظنّ في تفاصيل ما يجب قطعا ، بل
العمل به فيها أولى ؛ للاحتياط. على أنّه ربما يكون الاحتياط ترك العمل
به ، كما إذا احتمل العمل به مضرّة. فهذا النقض غير وارد ، كما أنّ النقض بالشهادة
والفتوى أيضا كذلك ؛ لإمكان أن يقال : إنّهما مخصّصان بدليل من
خارج.
وثانيهما : إصرار
المرتضى رحمهالله في نفي حجّيّته ، وادّعاؤه الإجماع عليه. وذكر أنّ شيوخ
الطائفة ورؤساءهم قد ملئوا الطوامير ، وسطّروا الأساطير في الاحتجاج عليه والنقض
على من خالفهم ، وصرّح بأنّهم يعلمونه بديهة ، كما يعلمون بطلان القياس . وقد كرّر أمثال هذه العبارات في كتبه ، ولو لم يتّضح له لما أصرّ بهذه
المثابة.
وجوابه : أنّ
كلامه معارض بما ذكره الشيخ من المبالغة ، ودعوى الإجماع على خلافه . وكيف يسمع دعوى الضرورة في أنّ الإماميّة ينكرون العمل بخبر الواحد ، مع
أنّا نعلم قطعا أنّ معظمهم يعملون به؟!
وأيضا لا شبهة في
بقاء التكليف ، فإن اكتفي فيه بالظنّ ، فهو حاصل من خبر الواحد ، وإلاّ يلزم
التكليف بالمحال ؛ لعدم إمكان تحصيل القطع في شيء من مضامين أخبار الآحاد.
والقول بأنّ معظم
الفقه يعلم بالضرورة ، والتواتر ، و الإجماع ـ كما
قال المرتضى رضى الله عنه ـ ضعيف ؛ لضرورة العلم بخلافه.
__________________
هذا ، مع أنّ دعوى
الإجماع من السيّد خبر واحد ، والعمل به مناف لغرضه .
وإذا عرفت ذلك
تعلم أنّ الحقّ وجوب العمل بخبر الواحد بالشروط الآتية ، وإن لم ينضمّ إليه
القرائن المفيدة للعلم.
وكيفيّة التفريع
ظاهرة.
فائدة
الحقّ أنّ الشيخ
ما اعتبر في حجّيّة خبر الواحد انضمام القرينة ، بل يعمل بالخبر العاري عنها أيضا
، كما قال في العدّة :
|
فأمّا ما اخترته
من المذهب ـ يعني العمل بخبر الواحد ـ : فهو أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من
طريق أصحابنا ، وكان مرويّا عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو عن الأئمّة عليهمالسلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ،
ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ـ لأنّه إذا كان هناك قرينة
تدلّ على صحّة ذلك ، كان ذلك باعتبار القرينة ، وكان موجبا للعلم كما يذكر فيما
بعد ـ جاز العمل به.
والذي يدلّ على
ذلك إجماع الفرقة المحقّة ؛ فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي
رووها في تصانيفهم ، ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه . انتهى.
|
ولكلامه هذا ذيل ،
في مواضع منه أيضا دلالة على المطلوب ، وكذا في كلماته الأخر أيضا في العدّة ، وفي ديباجة الاستبصار ؛ حيث قال ـ بعد ذكر القرائن الأربع
__________________
المفيدة للعلم على
ما ذكرنا ـ :
|
كلّ خبر لا يكون
متواترا ويتعرّى من واحد من هذه القرائن ، فإنّ ذلك خبر واحد ، ويجوز العمل به
على شروط ، فإذا كان خبر لا يعارضه خبر آخر ، فإنّ ذلك يجب العمل به ؛ لأنّه من
الباب الذي عليه الإجماع في النقل ، إلاّ أن يعرف فتاويهم بخلافه ، فيترك لأجلها
العمل به . انتهى.
|
ولا ينافيه ما في
ديباجة التهذيب حيث اشترط فيها انضمام القرائن إليه في صحّة العمل ؛ لأنّ مراده بها فيها صحّة الأسانيد ، أو وجود الخبر في اصول الأصحاب ، لا
القرائن المفيدة للعلم ، وإلاّ لزم التناقض في كلامه.
ومنه يعلم أنّه لا
ينافي ما ذكرنا ما يقول الشيخ كثيرا في التهذيب والاستبصار في مقام ردّ الأخبار :
أنّها أخبار آحاد لا توجب علما وعملا ؛ لأنّ المراد
أنّها لم يوجد معها الشروط التي يجب مراعاتها ، كصحّة الأسانيد ، أو وجودها في
الاصول ، أو عدم مخالفتها لعمل الطائفة وأمثالها.
وإذا عرفت أنّ
الشيخ لم يعتبر في حجّيّة خبر الواحد اقترانه بالقرائن المفيدة للعلم ، تعلم أنّ
المخالفة بينه وبين المرتضى رحمهالله معنويّة ؛ لأنّه اعتبره فيها.
وبهذا يظهر ضعف ما
ذكره بعض المتأخّرين من أنّ الإنصاف أنّه لم يتّضح عن حال الشيخ وأمثاله المخالفة
للمرتضى ؛ إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين ،
واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن العاضدة لها ميسّرة ، كما أشار إليه السيّد
، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد لتظهر
مخالفتهم له .
ثمّ أيّد كلامه
بما ذكره المحقّق من أنّ الشيخ وإن قال بوجوب العمل بخبر العدل ، إلاّ أنّه
يتبيّن عند التحقيق أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن
الأئمّة عليهمالسلام
__________________
ودوّنها الأصحاب ،
لا أنّ كلّ خبر يرويه الإمامي يجب العمل به ، وذلك لما عرفت
من تصريح الشيخ بعدم اعتبار القرائن المفيدة للعلم.
والتأييد الذي
ذكره لا يدلّ على مطلوبه أصلا ؛ لأنّ وجوده في اصول الأصحاب لا يوجب إفادة العلم ،
وإلاّ لم يحصل هذا الاختلاف بينهم حتّى أنّ كثيرا ما يناقض واحد منهم نفسه في
كتابين ، بل في كتاب واحد. فالحقّ أنّهم أيضا كانوا مثلنا في عدم تمكّنهم لتحصيل
القرائن المفيدة للعلم إلاّ في قليل.
نعم ، هذا التمكّن
كان حاصلا لأصحاب الأئمّة عليهمالسلام.
فصل [١١]
للعمل بخبر الواحد
شرائط أكثرها يتعلّق بالراوي ، وبعضها يتعلّق بغيره.
والثاني ثلاثة
أمور :
الأوّل : وجوده في أحد الكتب المعتبرة للشيعة ، كالكتب الأربعة ،
أو غيرها ممّا ثبت حجّيّته عندنا.
والثاني : عدم وجود معارض أقوى منه من الآيات ، أو الأخبار ، أو
الأدلّة العقليّة ، أو الإجماعات المنقولة. ولعلّك تعرف تفصيل ذلك في موضعه .
والثالث : عدم مخالفته لعمل الأصحاب ، فلو لم يعمل به أحد من الأصحاب
لا يجوز العمل به ، كما ورد أنّ المستحاضة إذا أخلّت بالأغسال تقضي صومها دون
صلاتها .
ولو كان مخالفا
للشهرة يجوز العمل به بشرط أن يكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل منها ،
ولو عكس لا يجوز ؛ لعدم جواز ترجيح المرجوح ، وهو يختلف باختلاف المرجّحين
، وملاحظة القرائن الخارجيّة.
__________________
وأمّا الأوّل ،
فامور :
منها : العقل ،
فلا يقبل رواية المجنون إجماعا ؛ ووجهه ظاهر.
ومنها : البلوغ ،
فلا يقبل رواية الصبيّ وإن كان مميّزا ؛ لأنّه عرف عدم حرمة الكذب عليه ؛ لعلمه
بأنّه غير مكلّف ؛ فلا يبالي به مطلقا ، فلا يحصل ظنّ بصدقه. ولو قبل روايته لزم
قبول رواية الفاسق بطريق أولى ؛ لأنّه يعلم أنّه لو كذب أثم فربّما منعه ذلك ،
بخلاف الصبيّ ؛ فلا داعي له إلى الصدق ، وربّما وجد له المانع عنه.
والقول بقبول
رواية المميّز ـ على ما ذهب إليه بعض العامّة قياسا على جواز الاقتداء به ـ لا يخفى ضعفه.
هذا إذا كان
السماع والرواية قبل البلوغ. أمّا لو وقعت بعده وإن كان قبله ، فيقبل قطعا ؛ لأنّ
المقتضي له موجود ـ وهو كونه عدلا ضابطا لما يرويه ـ والمانع الذي اشير إليه مفقود ، ولذا قبل الصحابة رواية ابن عبّاس وغيره ممّن وقع له التحمّل قبل البلوغ والرواية بعده ، ولم يسأل أحد منهم في رواية
منه بأنّ التحمّل بها كان قبل البلوغ ، أو بعده؟
وقد ورد به
الأخبار من طريق الشيعة ، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام ، ورواية السكوني عن الصادق عليهالسلام ، وغيرهما .
وكيفيّة التفريع :
أنّه لا يقبل رواية الصبيّ مطلقا . والقول بقبول
شهادته في الجراح والقتل بالشروط المعروفة ـ كما ذهب إليه أكثر أصحابنا ، وأجمع
عليه أهل المدينة ـ
__________________
خارج ؛ للنصوص . ولعلّ السرّ فيه الاحتياط في الدم ، على أنّ منصب الرواية أعظم ؛ إذ الثابت
منها شرع عامّ في بني آدم ، ومضمونها يستمرّ إلى انقراض العالم.
ويقبل قول من روى
أو شهد حين البلوغ وإن كان وقت التحمّل غير بالغ.
فعلى هذا ما ذكره
الصدوق من عدم الاعتماد على رواية محمّد بن عيسى اليقطيني عن يونس بن عبد الرحمن ـ لو كان السرّ فيه أنّه أخذ الروايات عنه قبل البلوغ كما فهمه بعض
المتأخّرين ـ لا يكون له وجه ؛ لأنّه كان حين الأداء بالغا.
ومنها : الرشد ،
فلا يقبل رواية السفيه ؛ ووجه اعتباره ظاهر.
وهل الأصل الرشد
حتّى يقبل رواية من جهل رشده ، أو السفاهة حتّى تردّ؟ ويمكن ترجيح الأوّل ؛ نظرا
إلى أنّ الرشد أكثر ؛ فإنّ أكثر الناس إذا بلغ يكون رشيدا. وربما رجّح الثاني ؛ نظرا إلى أنّه طار ، فلا بدّ من العلم به ، وهذا الحكم جار في كلّ حكم
يشترط فيه الرشد ، فتأمّل.
ومنها : الإسلام ،
فلا يقبل رواية الكافر وإن كان من أهل القبلة ، كالغلاة ، والمجسّمة ، والخوارج.
ويدلّ عليه ـ مضافا
إلى الإجماع ـ كون قبول الرواية تنفيذ حكم على المسلمين ، فيمنع آية التثبّت ؛ فإنّ الكافر فاسق بالعرف المتقدّم . يدلّ عليه
الاستقراء ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ، مع أنّه لو حمل على ما يراد في
__________________
العرف المتأخّر ـ وهو
المسلم المرتكب لإحدى الكبائر ، أو المصرّ على الصغائر ـ يثبت المطلوب بمفهوم
الآية.
ويدلّ عليه أيضا
أنّ قبول الرواية يوجب التعظيم ، والكافر يستحقّ الإهانة ، والرواية من المناصب
الجليلة ، فلا يليق الكافر بها.
وفيهما تأمّل لا
يخفى.
ويتفرّع عليه :
عدم قبول رواية من كان من إحدى الفرق المذكورة ، كسهل بن زياد ، وأبي الخطّاب ، وابن أبي العزاقر ؛ لكونهم من
الغلاة ، وغيرهم كما هو مذكور في كتب الرجال.
ومنها : الإيمان ،
وقد اعتبره أكثر المتأخّرين ؛ لآية التثبّت . وهو ينافي عمل
الطائفة بما رواه الطاطريّون ، وبنو فضّال ، وابن بكير ، وسماعة ، وعثمان بن عيسى
، وأضرابهم ، كما قال الشيخ .
والقول بأنّه لم
يعلم عمل الطائفة بأخبار هؤلاء ، ممّا ينادي كتبهم بخلافه. والظاهر أنّ المنكر له إنّما
ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان.
يرشدك إلى هذا أنّ
العلاّمة اعتبر الإيمان في التهذيب . ونقل عنه أنّه
ردّ رواية أبان بن عثمان ؛ لكونه ناووسيّا محتجّا بآية التثبّت ، وقال : لا فسق أعظم من عدم الإيمان ، مع أنّه رجّح
في الخلاصة قبول روايات جماعة كثيرة من أرباب المذاهب الفاسدة .
__________________
وبالجملة ، الحقّ
عدم اشتراط الإيمان ، والآية لنا لا علينا ؛ لأنّه تعالى أمر بالتثبّت عند خبر
الفاسق ، وهو الفحص والتفتيش حتّى يظهر الصدق أو الكذب ، وهو كما يكون عن حال
الخبر ـ بأن يستعلم كيفيّته عن مخبر آخر ، أو القرائن الخارجيّة ـ فكذا يكون عن
حال المخبر بأن يستعلم حاله في الصدق والكذب ، فإن ظهر أنّه ثقة ، متحرّز عن الكذب
، يظنّ صدق الخبر بدلالة التبيّن ، وهو المطلوب.
وتخصيص التبيّن
بالأوّل لا دليل عليه.
فإن قلت : على هذا
يلزم قبول رواية الكافر إذا كان متحرّزا عن الكذب بعين ما ذكرت.
قلت : نعم ، إلاّ
أنّه مخصّص بالإجماع ، وعمل الطائفة.
فإن قلت : على ما
ذكرت يلزم جواز جمع التوثيق والتفسيق ، وهو يوجب عدم الوثوق بعدالة أكثر الموثّقين
من أصحابنا.
قلت : توثيق أرباب
الرجال مساوق للتعديل ، مع أنّ الفائدة في معرفتهم ليست إلاّ العلم بصدقهم أو
كذبهم ، فإذا علم صدقهم من الإيمان والتوثيق ، فلا يهمّنا معرفة حالهم في باقي
صفاتهم ، ولا يثمر لنا فائدة أصلا.
ويمكن الجواب عن
الآية بمنع صدق الفاسق على المخطئ في بعض الاصول بعد بذل جهده ؛ نظرا إلى العرف
المتأخّر ، وحينئذ يثبت من المفهوم قبول رواية المخطئ في بعض الاصول
إذا كان مسلما ، وردّ روايته إذا كان كافرا ، والفارق هو الإجماع.
ومنها : العدالة ،
وهي في الأصل تعديل القوى النفسانيّة وتقويم أفعالها بحيث لا يغلب بعضها ؛ فإنّها لمّا كانت كالمتناقضة كانت الفضيلة في تعديلها ، فيحصل من تعديل
القوّة العاقلة فضيلة الحكمة ، ومن تعديل القوّة الشهويّة فضيلة العفّة ، ومن
تعديل القوّة الغضبيّة فضيلة الحلم والشجاعة ، وإذا
حصلت هذه الفضائل ، تحصل منها ملكة هي تمام
__________________
الفضائل الخلقيّة
، وهي العدالة في عرف العقلاء ، أي الملكة المقتضية لاستواء الأفعال واستقامتها.
وعرّفت شرعا في
المشهور بأنّها ملكة في النفس تمنعها عن الكبائر ، والإصرار على الصغائر ومنافيات
المروءة .
وقيل : كيفيّة
راسخة تبعث على ملازمة التقوى والمروءة .
والظاهر أنّ
المراد من التقوى الاجتناب عن الكبائر ، والإصرار على الصغائر ، فلا فرق بين
التعريفين. وإن كان المراد منه ما هو فوق ذلك ، فغير مسلّم ، وليس عليه دلالة
شرعيّة ، ولا عرفيّة ، ولا لغويّة.
والغرض أنّ للتقوى
مراتب ، واحدة منها الاجتناب المذكور. والعدالة ليست إلاّ الهيئة النفسانيّة
الملازمة له ، صرّح به الأكثر ، ودلّ عليه خبر ابن أبي يعفور عن الصادق عليهالسلام ، حيث قال : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار » ، ولا ينافيه صدره ، وهو قوله : « أن يعرفوه بالستر والعفاف ، والكفّ عن
الفرج ، والبطن واليد ، واللسان » ؛ لثبوت التلازم بين الاجتناب المذكور والعفاف ،
والكفّ.
وقيل : محافظة
دينيّة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، ليس معها بدعة. وتتحقّق باجتناب الكبائر
، وترك الإصرار على الصغائر ، وبعض الصغائر ، وبعض المباح .
وقوله : « دينيّة
» لإخراج الكافر.
وقوله : « ليس
معها بدعة » لإخراج المبتدع.
والحقّ عدم
الاحتياج إليهما ؛ لخروجهما من « ملازمة التقوى ».
__________________
ويعلم من هذا أنّ
ذكر العدالة يغني عن ذكر الإسلام والإيمان ، إلاّ أنّه لمّا كان لكلّ واحد منها
دلائل خاصّة وفوائد مختصّة ، ذكر بعنوان على حدة. فالصحيح من الحدود ما ذكر أوّلا
وثانيا بالعناية المذكورة.
ثمّ لا يخفى أنّ
معرفة نفس الملكة غير ممكنة لأحد غير صاحبها ؛ لكونها نفسيّة
خفيّة ، فمعرفتها لا تتحقّق إلاّ بمعرفة ما يدلّ عليها ، وهو الاجتناب المذكور.
ومعرفته إنّما تتحقّق بالمعاشرة الباطنيّة ، أو التواتر ، أو شهادة عدلين.
والاكتفاء في معرفتها بظاهر الإسلام ـ كما قيل ـ ضعيف ؛ لأمر
الشارع بمعرفة العدالة ، كما دلّ عليه الخبر المذكور ؛ ولأنّ المقصود من اعتبارها معرفتها ، وإلاّ لم تكن له فائدة. وظاهر الإسلام
ليس نفس العدالة ، ولا لازما لها حتّى يكتفى بمعرفته عن معرفتها ، ومع التغاير لا يدلّ
عليها.
والاكتفاء بحسن
الظاهر ـ أي كون الظاهر مأمونا بستر العيوب ، كما قال به جماعة ، ودلّ عليه بعض الأخبار ـ إن أمكن إرجاعه إلى ما اخترناه ، فلا كلام ، وإلاّ فالقول به مشكل ؛ لما ذكرناه .
__________________
ثمّ إنّه قد اضطرب
عبارات القوم في تعريف الكبيرة. والصحيح أنّها ما توعّد عليه الشرع بخصوصه ، وقد
دلّ عليه الخبر المذكور . ولها تعريفات أخر أيضا صحيحة ، إلاّ أنّها ترجع إلى ما ذكر.
وهي كثيرة كلّها يتعلّق بالضروريّات الخمس ، أعني : مصلحة الأديان ، والنفوس ،
والعقول ، والأنساب ، والأموال.
والإصرار على
الصغائر إمّا فعليّ ، وهو المواظبة على نوع أو أنواع من الصغائر. وإمّا حكميّ ،
وهو العزم على فعله ثانيا وإن لم يفعل. ومعرفة الإصرار موكولة إلى العرف.
ثمّ صاحب المروءة
هو الذي يسير سيرة أمثاله في زمانه ومكانه.
وقيل : الذي
يتحرّز عمّا يسخر عنه .
وقيل : الذي يصون
نفسه عن الأدناس ، ولا يشينها عند الناس .
ووجه اعتبارها
ظاهر ؛ لأنّ تركها إمّا لأجل خبل ونقصان ، أو لقلّة مبالاة وحياء ، وعلى التقديرين
يرفع عنه الاعتماد والثقة.
وإذا علم العدالة
بإحدى الطرق ، تستمرّ إلى أن يعلم المزيل. ولا شبهة في زوالها بمجرّد ارتكاب إحدى
الكبائر ، أو الإصرار على الصغائر ، أو ترك المروءة ، وتعود بالتوبة ، وتثبت بإحدى الطرق .
__________________
ثمّ اشتراطها في
قبول الرواية هو المشهور بين الأصحاب . ويدلّ عليه آية
التثبّت .
واكتفى الشيخ بكون
الراوي ثقة متحرّزا عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه ، وادّعى عمل الطائفة بأخبار
جماعة هذه صفتهم .
وهو حقّ ؛ نظرا
إلى حصول التبيّن وظهور الصدق كما تقدّم ، إلاّ أنّ ثبوت
الصدق مع ظهور الفسق بعيد ؛ لأنّ المجاهر بالفسوق لا يوثق بما يظهر من تحرّجه عن الكذب. فإن فرض الثبوت ، يكون قول الشيخ صحيحا ، ويكون تخصيصا
لعموم اشتراط العدالة لا نفيا له. فالنافي له من ذهب إلى قبول خبر مجهول الحال ، كما هو ظاهر جماعة من أصحابنا وطائفة من
العامّة . وفساده ظاهر ؛ لأنّ القبول مشروط بمعرفة العدالة وهو ينافيه ؛ ولأنّ الفسق مانع ، فيلزم العلم بعدمه ، كالكفر والصبا.
وليس الأصل
العدالة ، بل الفسق ؛ لكونها طارئة ، وكونه أكثر ؛ ولأنّ العمل بالظنّ ممنوع ؛
للظواهر ، خرج ما خرج وبقي الباقي ، على أنّه لا يفيد الظنّ ؛ لاستواء صدقه وكذبه ما
لم يعلم عدالته.
وبهذا يظهر ضعف
الاحتجاج بقوله عليهالسلام : « نحن نحكم بالظاهر » ، وهذا ظاهر ؛ إذ يوجب ظنّا.
__________________
احتجّ الخصم : بآية التثبّت ؛ حيث جعل وجوبه مشروطا بالفسق ، فإذا انتفى الشرط انتفى
المشروط .
وجوابه : منع
انتفاء الشرط ، بل انتفى العلم به. وانتفاء العلم بالشيء لا يستلزم انتفاءه في
الواقع ، وهو الشرط.
فإن قيل : الظاهر
أنّ الشرط هو معلوميّة الفسق وظهوره ، ومجهول الحال ليس فسقه معلوما.
قلت : الحقّ أنّ
المراد بالفاسق هو الفاسق بحسب الواقع ونفس الأمر ، لا من سبق علم المخاطب بفسقه ؛
فإنّ الشروط والصفات التي تعتبر في مواضع الحاجة هي الواقعيّة والنفس الأمريّة ،
لا المعلومة عند المخاطب. مثلا إذا قال أحد : « فلان عالم فاضل » ، يكون مراده
أنّه كذلك في الواقع لا بحسب اعتقاد المخاطب. وإذا قال : « أكرم كلّ عالم » يكون
أمرا بالمخاطب بإكرام من كان كذلك في الواقع ، لا من تعلّق علمه السابق
بأنّه كذلك ، فيجب على المخاطب الفحص في مجهول الحال حتّى يظهر حاله. ولا يقدح عدم
تطابق ما علم بالفحص مع الواقع في بعض الأحيان ؛ لأنّ المراد بواقعيّة كلّ شيء ما
اقتضاه الدليل الذي بإزائه.
وأيضا لو لم يكن
كذلك ، لما صحّ أن يطلب المخاطب الدليل على شيء ممّا يخبره المتكلّم ؛ لأنّ ما
يخبره على وفق اعتقاده ، ولا يجوز لأحد طلب الدليل على شيء يلقى إليه على أنّه معتقده. فالشرط في الآية هو الفسق الواقعي ،
وانتفاء العدالة الواقعيّة ، ولا يتحقّق واسطة بينهما ؛ فإنّ كلّ فرد من الإنسان
في الواقع إمّا عادل أو فاسق ، وتوسّط مجهول الحال بين من يعلم فسقه و [ من يعلم ] عدالته.
__________________
فعلى هذا يلزم
الفحص في مجهول الحال حتّى يظهر فسقه ، أو عدالته .
هذا ، مع أنّ
التعليل في الآية يدلّ على ما ذكر ؛ لأنّ الوقوع في
الندم بظهور كذب المخبر إنّما يحصل من قبول خبر من لا يبالي بالكذب ، ويكون له هذه الصفة في الواقع ، ولا مدخليّة لسبق العلم في ذلك.
لا يقال : ما ذكرت
من عدم الواسطة إنّما هو فيمن بعد عهده عن ابتداء زمان التكليف ، وأمّا قريب العهد
به فيمكن أن لا يكون في الواقع فاسقا ؛ لعدم صدور معصية عنه ، ولا عادلا ؛ لعدم حصول
الملكة له بعد ، فلا يجب التثبّت عند خبره ، فلا تدلّ الآية بالإطلاق على اشتراط
العدالة.
لأنّا نمنع وجود
مثله في الواقع ، ومع التسليم لا يمكن العلم به ؛ لأنّه موقوف على العلم بانتفاء
جميع المعاصي ، ومنها الصفات الباطنة ، والعلم
بانتفائها لا يمكن إلاّ من علامات الملكة ، والفرض أنّها لم توجد ، على أنّ
التعليل المذكور يدلّ على عدم قبول خبر مثله ، كما لا يخفى.
وقبول شهادة
الأعرابي ـ لمّا أسلم وشهد بالهلال من دون فصل مع
عدم الملكة له ـ لم يثبت عندنا ، وإن صحّ ، كان خاصّا بموضعه ؛ لدليل من خارج.
واحتجّ الخصم أيضا
: بقبول شهادة المجهول في تذكية الحيوان ، وطهارة المحلّ والماء وإباحة المال ،
ورقّ جاريته وأمثالها .
وجوابه : أنّ هذا
لموافقتها للأصل. فلو قطع النظر عنها لكان الحكم فيها أيضا التذكية ، والطهارة ، والإباحة بالشروط التي اعتبرها
الفقهاء. ولذا لا يسمع شهادته في نجاسة الماء ،
__________________
وحرمة المال ،
وأمثالهما. ولو سمع في بعضها ، يكون خارجا بالنصّ.
وكيفيّة التفريع :
أنّه يجب ردّ خبر كلّ فاسق ومجهول ، وشهادتهما إلاّ إذا انضمّ إليهما قرائن خارجة تدلّ على الصدق ، فيقبل لذلك. أو بلغ عدد المخبرين حدّا يحصل معه العلم.
ويتفرّع على أنّ
الأصل الفسق : إلحاق مجهول الحال بالفسّاق في الوصايا ، والأوقاف ، والنذور ،
والأيمان ،
والتعليقات ،
وغيرها. فإذا قال : « لعدول المسلمين » أو « للمسلمين غير الفسّاق كذا » بعنوان
الوصيّة أو غيرها ، لا يكون شيء لمن لم يظهر حاله بعد الفحص.
والقول بأنّ الأصل
أنّ الصبيّ إذا بلغ ، بلغ عدلا حتّى يظهر خلافه ، واه ؛ لما عرفت من توقّف العدالة على وجود الملكة الراسخة ، وهو موقوف على
مضيّ زمان حتّى يصير ملابسة التقوى والمروءة ملكة ، مع أنّ وجودها يتوقّف على امور
كثيرة من فعل واجبات وترك المحرّمات. فوجود الفسق لا يتوقّف
إلاّ على أمر واحد ، فعلا كان أو تركا . ولا شبهة حينئذ
في كونه أصلا وراجحا ؛ لكونه أسهل وجودا ، وأقرب وقوعا.
وأيضا : الفسق
يتحقّق بأمر عدمي ، والعدالة تتوقّف على الوجودي ، فكما أنّ الأصل في الحادث العدم
، فكذا فيما كان ثبوته متوقّفا على العدم بالنسبة إلى ما يتوقّف ثبوته على الوجود.
وأيضا : مقتضي
الفسق القوّة الشهويّة والغضبيّة ، وهما طبيعيّتان ، ومقتضي العدالة
__________________
التزام التكاليف
الشرعيّة ، وهي ليست بطبيعيّة ، والأصل ما يقتضيه الطبع. ولا يعارضه ما روي أنّ
كلّ مولود يولد على الفطرة ؛ لأنّ المراد منه معرفة التوحيد.
ومنها : الضبط ،
وليس المراد منه عدم السهو أصلا ؛ لأنّه لا يوجد في غير المعصوم ، بل رجحان الذكر
على السهو ، ولا خلاف في اشتراطه ؛ إذ مع التساوي أو المرجوحيّة لا يحصل الظنّ
بصحّة ما رواه ؛ إذ ربما يسهو فيزيد ، أو ينقص بحيث يضطرب به معنى الحديث ، أو
يبدّل لفظا بآخر إلى غير ذلك ممّا يختلف به الحكم.
ويعرف ضبطه بأن
يذكر أشياء كثيرة مرّة بعد اخرى من غير تغيّر يختلف به المعنى ، وأن يعتبر رواياته
بروايات الثقات المشهورين بالضبط والإتقان ، فإن وافقهم غالبا ولو في المعنى ، عرف أنّه ضابط ، وإلاّ علم اختلاله.
والحكم بصحّة
الحديث بمجرّد توثيق علماء الرجال رواية من غير نصّ على
ضبطهم لاندراجه في لفظ « ثقة » فإنّهم يريدون به العدل الضابط ؛ لأنّه من
الوثوق ولا وثوق بمن لا ضبط له. وهذا هو السرّ في اختيار هذا اللفظ من سائر ألفاظ
التعديل.
ولقائل أن يمنع
ذلك ؛ فإنّ التصفّح يعطي عدم ضبط طائفة صرّحوا بتوثيقهم ؛ فإنّهم ذكروا أنّ حبيب
بن معلّى الخثعمي ثقة ثقة ، مع أنّه روي في الفقيه أنّه سأل حبيب بن المعلّى أبا عبد
الله عليهالسلام ، فقال : « إنّي رجل كثير السهو ، فما أحفظ عليّ صلاتي » . انتهى. والظاهر أنّه الخثعمي لا السجستاني ؛ لعدم رواية الصدوق عنه كما يظهر
عن مشيخته ، فعلى هذا لا منافاة بين الاعتماد بقول رجل يكون سهوه أكثر من ذكره ،
أو مساويا له. والسرّ فيه : أنّ من هذا شأنه يكون كثير المراجعة والمذاكرة ، وشأنه
الإثبات في أصل جامع عند السماع ، فلا يفوت منه شيء.
__________________
ولا يخفى أنّ هذا
الكلام لا يخلو عن قوّة ، إلاّ أنّه لا ينفي اشتراط الضبط ، بل المراد منه أنّ
معنى الضبط أعمّ ممّا ذكر .
وربّما قيل : إنّ المراد من كثرة السهو في الصلاة لا ينافي كثرة الذكر في الرواية ،
فتأمّل.
ثمّ الحرّيّة ،
والذكورة ، والعدد ، والبصر ، والإكثار من رواية الحديث ، والعلم بالفقه ، أو
العربية ، أو معنى الحديث ، وكون الراوي معروف النسب ، وعدم القرابة والعداوة ليست
من الشروط. فيقبل رواية العبد ، والانثى ، ورجل واحد ، والأعمى ، ومن روى حديثا
واحدا فقط ، وغير العالم ، ومجهول النسب ، ويقبل من الوالد ما للولد ، ومن العدوّ
ما على العدوّ. كلّ ذلك للأصل ، وعمل الصحابة ومن بعدهم.
وربما دلّ على
بعضها نصّ بخصوصه ، كما دلّ على قبول رواية غير العالم قوله عليهالسلام : « نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فأدّاها كما سمعها ، فربّ حامل فقه
ليس بفقيه » .
وبعضهم اشترط
[معرفة] العربيّة
؛ نظرا إلى أنّ غير
العالم بها يلحن ويصحّف كثيرا ، فيدخل في جملة قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من كذب [عليّ] معتمّدا فليتبوّأ
مقعده من النار» فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن يلحن قطّ ، وكذا الأئمّة عليهمالسلام وقد قالوا : «أعربوا كلامنا؛ فنحن قوم فصحاء» .
وقد اعتبر بعض
الشروط المذكورة في الشهادة مختلفة في الخلاف ، والوفاق ،
__________________
والتقييد ،
والإطلاق ، كما ذكرت في كتب الفروع ، والفارق النصّ.
تنبيه
بحث الاصولي في
الخبر إمّا في متنه ، أو في سنده.
والمتن : ألفاظه
التي يتقوّم بها المعاني. وبهذا الاعتبار ينقسم إلى نصّ ، وظاهر ، ومجمل وغيرها ،
كما تعلم .
والسند : طريق
المتن ، أي مجموع الرجال الذين رووه واحدا بعد واحد حتّى يصل إلى صاحبه ، وسمّي
طريقه سندا ؛ لاعتماد العلماء عليه في معرفة صحّته وضعفه. مأخوذ من قولهم : « فلان
سند » ، أي معتمد عليه.
والإسناد : هو ذكر
طريقه حتّى يصل إلى صاحبه ، وكثيرا ما يطلق الإسناد على السند ، والسرّ أنّ الطريق
باعتبار كونه معتمدا للعلماء يسمّى سندا ، وباعتبار تضمّنه رفع الخبر إلى قائله
يسمّى إسنادا.
ويختلف اسم الخبر
باعتبار سنده في القوّة والضعف ، والاتّصال والقطع ، ونحوها كما يأتي . ويترتّب عليها جواز العمل وعدمه ، والتراجيح المقرّرة.
فصل [١٢]
الخبر إن كان
رواته إماميّين ممدوحين بالتوثيق فصحيح. وبدونه كلاّ أو بعضا مع توثيق الباقي
فحسن. وإن لم يكونوا إماميّين كلاّ أو بعضا مع توثيق الكلّ فموثّق. وما سوى
الثلاثة ، فضعيف.
فيشمل ما في طريقه غير إماميّ مجروح بالكذب أو فسق آخر ، أو ممدوح بغير التوثيق ،
أو مسكوت عنه ؛ وإماميّ مجروح بالكذب أو فسق آخر ، أو مسكوت عنه ؛
__________________
والمسكوت عنه
مذهبا مع كونه مذموما بالكذب أو فسق آخر ، أو ممدوحا بغير التوثيق ؛ و المسكوت عنه مطلقا.
وربّما خصّ الأخير
باسم المجهول. والأمر فيه هيّن ؛ لكونه قسما من الضعيف ، مخصوصا بهذا الاسم
لمناسبة له ، بل لا نمنع إطلاق المجهول على بعض آخر من أقسام الضعيف ، وهو ما في
طريقه المجهول من جهة واحدة.
وقد يسمّى الموثّق
، ومرويّ الإماميّ غير الممدوح ولا المذموم ـ كنوح بن درّاج ، وأحمد بن عبد الله
بن جعفر الحميري ، وأمثالهما ـ قويّا.
وقد يطلق الصحيح
على جملة من الأسناد جامعة للشرائط وإن اعتراه بعد ذلك إرسال أو قطع ، فيضاف إلى
راو معيّن جمع السند إليه الشرائط ، سواء كان هو بصفة رجال الصحيح ـ وهو الأكثر ـ كما
يقال : صحيحة ابن أبي عمير عن رجل ، أم لا ، كما يقال : صحيحة أبان بن عثمان.
ومن هذا القبيل ما
في كتب الرجال أنّ طريق الفقيه إلى خالد بن نجيح ، ومعاوية بن ميسرة ، وعائذ
الأحمسي وغيرهم ممّن لم يوثّق ، صحيح.
وقد لا يضاف ، بل
هكذا يقال : روى الشيخ في الصحيح عن ابن أبي عمير ، عن رجل. والمقصود أنّ لفظ «
الصحيح » كما يطلق على جميع السند الجامع للشرائط ـ كما يقال : صحيحة زرارة عن
الباقر عليهالسلام ، وروى زرارة في الصحيح عنه ـ يطلق على بعض منه يكون جامعا لشرائط الصحّة وإن حدث بعده ما ينافيها ، كما
ذكر . وهذا الحكم آت في كلّ من الموثّق والحسن.
واعلم أنّ لكلّ
واحد من الأنواع الأربعة درجات مختلفة :
فالصحيح الذي رواه
الفقيه الورع الضابط ـ كابن أبي عمير وزرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهم ـ أصحّ ممّا
رواه غيرهم.
__________________
والحسن الذي رواه
الممدوح كثيرا ـ كإبراهيم بن هاشم ـ أحسن من غيره.
والموثّق الذي
رواه من له توثيق متين ـ كعليّ بن فضّال وأبان بن عثمان ـ أقوى من غيره.
والضعيف إذا كان
جميع رواته فاسدي المذهب ، مجروحين بالكذب أيضا ، أضعف ممّا بعض رواته كذلك ، وهو
أضعف ممّا كان بعض رواته فاسد العقيدة وإن لم يكن مجروحا بالكذب ، وهو أضعف ممّا
كان بعض من في طريقه مجهولا مطلقا. وقس عليها أمثالها.
ويظهر الفائدة في
مقام التعارض والترجيح.
تتمّة
لا كلام في حجّيّة
الخبر الصحيح وكونه مؤسّسا للحكم الشرعي بالشروط المتقدّمة ، وقد ظهر حجّيّة الموثّق أيضا.
وأمّا الحسن ،
فالتحقيق فيه أنّ سبب الحسن إن كان ممّا يظهر منه التثبّت وحصول الظنّ المعتبر
بالعدالة أو الوثاقة ، فمقبول ، وإلاّ فلا. مثلا : إذا كان أسباب الحسن قولهم : «
صدوق » أو « حجّة » أو « حديثه ممّا يحتجّ به » أو « صالح الحديث » أو « المسكون
إلى روايته » يفيد التثبّت وظنّ الوثاقة. وكذا « مشكور » و « خيّر » أو « ديّن » أو « متقن » أو « ثبت » أو « ضابط » أو « حافظ » أو « صالح »
أو « زاهد » ظاهرا. وللمنع فيها مجال خصوصا في الأخيرين.
وأمّا « شيخ » أو
« عالم » أو « فاضل » أو « جليل » ، فلا يفيد المطلوب ، وإن أمكن القول به في الأخيرين.
قيل : وفي الأوّل
أيضا إن اريد به المتقدّم في رئاسة الحديث .
وفيه تأمّل.
__________________
وقولهم : « عين » و
« وجه » ، قيل : يفيد الوثاقة في عرفهم . وأقوى منهما
قولهم : « وجه من وجوه أصحابنا ».
وأمّا « شيخ
الإجازة » فالمشهور عدم إفادته الوثاقة. وقال بعضهم : إنّ مشايخ الإجازة ـ لظهور
وثاقتهم ـ لا يحتاجون إلى النصّ على توثيقهم .
وهو محلّ نظر.
وقولهم : « لا بأس
به » إن أريد به نفي البأس عن جميع الوجوه ـ كما هو الظاهر ـ أو عن رواياته ،
فيفيد المطلوب ؛ ولذا نقل عن بعض المحدّثين أنّه قال : إذا قلت : « ليس به بأس »
فهو ثقة . وإن اريد نفي البأس عن مذهبه ، فلا. وربما قيل : نفي
البأس يوهم البأس .
وقولهم : « اسند
عنه » ـ أي سمع منه الحديث على وجه الاستناد ـ مدح لا يفيد الوثاقة.
وكذا قولهم : «
خاصّيّ » و « قريب الأمر ». وربما يفيد الثاني عدم دخوله في المذهب بعد. وكذا
قولهم : « يكتب حديثه » و « ينظر فيه » أي لا يطرح حتّى ينظر فيه ليعرف حاله.
وقولهم : « سليم الجنبة
» إن اريد به سليم الأحاديث ، فيفيد المطلوب. وإن اريد به سليم الطريقة ، فلا.
وقولهم : « مضطلع
بالرواية » ـ أي قويّ عليها ـ ربما أفاد وثاقة ما. وأقوى منه قولهم : « بصير
بالرواية ». وكذا قولهم : « فقيه من فقهائنا ». وقول النجاشي في ترجمة إسماعيل بن
عبد الخالق ربما دلّ على ذلك.
ولا يخفى أنّ هذا
اللفظ لغة لا يفيد المطلوب ، إلاّ أن يقال بإفادته في عرفهم. وأدون منه قولهم : «
فقيه ».
__________________
وقولهم : « أوجه
من فلان » أو « أصدق منه » يفيد الوثاقة إذا كان المفضّل عليه وجيها ، أو صادقا.
وأقوى منهما : « أوثق منه ».
وقولهم : « معتمد
الكتاب » أو « الأصل » يفيد الوثاقة ظاهرا.
وأمّا قولهم : «
له كتاب » أو « أصل » لا يفيد سوى المدح. والفرق بين الكتاب والأصل :
أنّ الثاني مجمع
عبارات الحجج عليهمالسلام فقط من غير استنباط واستدلال من صاحبه ، والأوّل جامع
للأمرين ، فالمدح بأنّ له كتابا أزيد منه بأنّ له أصلا ؛ لاستلزامه علوّ رتبته في
الفهم.
وهنا امور أخر
جعلها بعض الأصحاب أسباب الوثاقة :
منها : كون الراوي
وكيلا لواحد من الأئمّة عليهمالسلام ؛ لما قيل إنّهم لا يجعلون الفاسق وكيلا .
ومنها : كونه كثير
الرواية ؛ للخبر المشهور .
ومنها : كونه ممّن
ترك مشاهير القدماء رواية ثقة محتجّين بروايته و مرجّحين لها عليها ، أو أكثروا الرواية عنه وأفتوا بمضمونها.
ومنها : روايته عن
المعتبر ، ورواية المعتبر عنه ، سيّما إذا كان ممّن يطعن في رواية الضعفاء
والمجاهيل ، كأحمد بن محمّد بن عيسى ، أو كان ممّن ذكر الشيخ أنّه لا يروي إلاّ عن
ثقة ، كابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، أو كان ممّن
ذكر في ترجمته أنّه لا يروي إلاّ عن الثقات ، أو قلّ ما يروي عن الضعفاء ، كجعفر
بن بشير ، وعليّ بن الحسن بن فضّال ، ومحمّد بن إسماعيل بن ميمون ، ونظرائهم.
ومنها : اعتماد
القمّيين عليه ؛ فإنّهم يخرجون من قم من يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل.
ومنها : رواية
محمّد بن أحمد بن يحيى عنه ، ولم يكن ممّا استثناه القمّيون ، وروايته عن
__________________
يونس بن عبد
الرحمن ، وكان غير العبيدي ؛ فإنّ تنصيصهم على اختلال فيما يرويه عنه يشعر
باعتمادهم على رواية غيره عنه ، كإسماعيل بن مرّار ، وصالح بن السندي.
والضابط أنّ الحكم
باختلال في بعض من يروي عنه معيّن ، والسكوت عمّن سواه ، أو في بعض
من يروي عن معيّن ، والسكوت عمّن عداه يشعر بوثاقة من سكت عنه.
وفيه نظر ظاهر.
ومنها : أن يروي
عنه ثقة مترحّما ، أو مترضّيا عليه.
ومنها : كونه في
طريق خبر حكم بعض المشايخ بصحّته ، ولذا وثّق بعضهم ابن الغضائري ؛ نظرا إلى أنّ العلاّمة رحمهالله صحّح خبرا هو في طريقه .
ومنها : أن يجعله
المشايخ معرّفا للثقة.
ومنها : أن يكون
أكثر رواياته سديدة.
ومنها : اعتماد
بعض المشايخ عليه ، كعليّ بن محمّد بن قتيبة ، فإنّ الكشّي اعتمد عليه .
ومنها : وقوعه في
طريق خبر وقع الطعن على سنده من غير جهته.
ولا يخفى أنّ بعض
هذه الوجوه ربما أفاد وثاقة ما ، وبعضها يفيد مدحا فقط ، وربما أفاد بعضها قوّة.
ولا يخفى كيفيّة الحال على الماهر.
وإذا عرفت أنّ
أسباب الحسن مختلفة في إفادة الوثاقة وعدمها ، فالحكم بحجّيّة الحسن مطلقا ـ كما
ذهب إليه جماعة ـ أو بعدم حجّيّته كذلك ـ كما ذهب إليه آخرون ـ لا وجه له.
أمّا الأوّل ؛
فلأنّ السبب إذا كان مدحا لم يفد الوثاقة ، لا يثبت منه العدالة ولا التثبّت الظنّي
، فلا وجه لكونه مقبولا.
__________________
وأمّا الثاني ؛
فلأنّ السبب إذا كان مدحا أفاد الوثاقة ، يوجب التثبّت وحصول الظنّ بالصدق ، فيجب
قبوله وإن لم يثبت منه العدالة. والبصير يعلم أنّ المعتبر في قبول الخبر صدق مخبره
، ولا مدخليّة لسائر أفعال الجوارح والاعتقاد ، كما صرّح به الشيخ في العدّة . فإذا عرف صدقه ، كان خبره مقبولا وإن كان فاسد العقيدة ، ومذموما في بعض
الأفعال. وإن لم يعرف صدقه ، لم يكن خبره مقبولا وإن كان صحيح الاعتقاد وممدوحا في
بعض الأفعال. والسرّ في اشتراط العدالة هو استلزامها الصدق ، واستبعاد اجتماع
الفسق بالجوارح مع الصدق.
ثمّ الحجّيّة
والقبول إذا لم يكن شاذّا ولا معارضا بغيره ، ومع الشذوذ والمعارضة يجب الطرح وطلب
المرجّح.
وعمل طائفة من
الأخباريين بالأخبار الشاذّة ؛ بناء على عدم حجّيّة الإجماع عندهم ، وستعلم الحال .
هذا ، وأمّا
الضعيف بأقسامه ، فلا ريب في عدم كونه مقبولا وإن كان قويّا ؛ والسرّ ظاهر.
نعم ، الحقّ أنّه
إذا انجبر بعمل الأصحاب سيّما القدماء منهم ، يكون مقبولا ؛ لحصول التثبّت والعثور
على كونه معتمدا عليه ، وليس الحجّة حينئذ هو عمل القوم ؛ لأنّه ليس حجّة إذا لم
يكن إجماعا ، بل الخبر المنجبر ؛ لما ذكر . ولا استبعاد بعد
الدليل في عدم حجّيّة أمر ، وصيرورته حجّة بعد اقترانه بأمر آخر وإن لم يكن هو
حجّة مستقلّة.
فائدة
المشهور بين
العامّة والخاصّة التسامح في أدلّة السنن ، فيقبلون الخبر الضعيف في المستحبّ
والمكروه ، ونحو المواعظ والقصص إذا لم يبلغ الضعف حدّ الوضع. وهو حقّ.
لنا : ما رواه
الفريقان عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « من بلغه عن الله فضيلة فأخذها وعمل بما
__________________
فيها إيمانا بالله
ورجاء ثوابه ، أعطاه الله تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك » .
وما روي في الكافي
بسند حسن ، وفي المحاسن بسند صحيح عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه ، كان
له أجره وإن لم يكن على ما بلغه » . وفي معناهما
أخبار أخر ، فالعمل بالأدلّة الضعيفة في السنن ليس حقيقة بها ، بل
بما ذكر مع اعتضاده بالشهرة القويّة.
والإيراد عليه
بوجوه :
منها : أنّه إثبات
أصل بظاهر.
وقد عرفت جوازه ، سيّما إذا كان الظاهر معتضدا بعمل المعظم.
ومنها : أنّ
المفهوم من الأخبار أنّه إذا روي ثواب لعمل ففعل رجاء له ، يثاب وإن كان ما روي
خلاف الواقع ، لا إذا روي أصل العمل من دون رواية ثوابه ، فلا يلزم منها جواز
العمل بالسنن التي لم يرو ثوابها ، كما هو شأن أكثرها.
وجوابه : أنّها لا
تنفكّ عن أمر الشارع بها ، وهو يستلزم الثواب ، فمن امتثل الأمر رجاء للثواب يؤتى
به.
ومنها : أنّ
الثواب كما يترتّب على المستحبّ يترتّب على الواجب أيضا ، فلا وجه لتخصيصها
بالأوّل.
وجوابه : أنّ
الثواب إنّما يستلزم رجحان الفعل فقط ، ولا دلالة له بإحدى الثلاث على فساد في
تركه ، فإن عمّم الثواب بحيث يشمل الواجب يلزم اعتبار هذا القيد في بعض الأفراد مع
أنّ الأصل عدمه. فالمفهوم من الأخبار حينئذ جواز العمل في المستحبّ برواية العدل ،
والفاسق ، والمجهول ؛ نظرا إلى تعميم البلوغ والسماع ، والأوّل روايته مسموعة في
الوجوب والتحريم أيضا ، فبقي روايتهما مقصورة في المستحبّ. فإذا ورد أمر بطريق
__________________
ضعيف كان فعله
مستحبّا لنا ، بمعنى أنّ الحكم بالنسبة إلينا الاستحباب ؛ للأخبار المذكورة لا أنّ
الأمر يقتضيه. وهذا هو السرّ في حمل الفقهاء الأوامر الواردة بطرق ضعيفة على الاستحباب.
وربما يقال : إنّ
الأوامر الواردة بطرق ضعيفة والمعارضة بغيرها ، لمّا احتملت الوجوب ـ وإن لم يكن
ثابتا ـ ينبغي فيها الاحتياط ، وهو مستحبّ عند الأكثر ، فلذا يحملها الفقهاء على
الاستحباب. وهذا في الحقيقة دليل على حدة على جواز التسامح في أدلّة السنن.
ثمّ فهم العمل
بالمكروه من الأخبار المذكورة ؛ بناء على أنّ سماع شيء من الثواب يشمل الفعل
والترك.
هذا ، واحتجّ
الخصم بآية التثبّت .
والجواب : أنّ
بينها وبين الأخبار المذكورة عموما وخصوصا من وجه ، فيجب تخصيص أضعفهما بالأقوى ،
ولا ريب في أنّ القوّة للأخبار ؛ ولاستفاضتها واعتضادها بالشهرة القويّة ، وبما
ذكرنا أخيرا ، مع أنّ المفهوم من الآية عدم العمل بقول الفاسق بدون
التثبّت ، والعمل به فيما نحن فيه ليس عملا بلا تثبّت ، بل به للأخبار المعاضدة
بعمل المعظم ، فلا تعارض.
ثمّ بعض الأصحاب جوّز الرجوع إلى أخبار العامّة في السنن ؛ نظرا إلى ما ذكر.
وهو مشكل ؛ لما
ورد من المنع عن الرجوع إليهم ، والعمل بأخبارهم .
وكيفيّة التفريع
ظاهرة ؛ فإنّه يحكم باستحباب الوضوء لتلاوة القرآن ؛ لبعض الأخبار الضعيفة ، وحمل المصحف ؛ للشهرة والتعظيم ، وزيارة القبور ؛ للشهرة.
__________________
وقيل : ورد به
رواية أيضا . وقس عليها أمثالها.
تذنيب
قيل : تنويع الخبر
إلى الأنواع المذكورة لم يكن في عرف القدماء ، بل كان دأبهم العمل بالصحيح فقط.
وهو في اصطلاحهم ما اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، واعتضد بما يقتضي
الاعتماد عليه. إمّا بوجوده في كثير من الاصول المعروفة ، أو بتكرّره في أصل أو
أصلين بطرق مختلفة.
وإمّا باندراجه في
أحد الكتب التي عرضت على الأئمّة عليهمالسلام ، وأثنوا على مؤلّفها ، ككتاب عبيد
الله بن علي الحلبي المعروض على الصادق عليهالسلام ، وكتابي يونس بن عبد
الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريّ عليهالسلام .
أو بوروده عن أحد
الجماعة التي أجمعوا على تصديقهم ، أو تصحيح ما يصحّ عنهم ، أو العمل
بروايتهم ، كزرارة ، وصفوان بن يحيى ، وعمّار الساباطي وأضرابهم.
أو بأخذه من الكتب
التي اعتمد السلف عليها سواء كان مؤلّفها من الإماميّة ـ ككتاب
الصلاة لحريز ، وكتب ابني سعيد وعليّ بن مهزيار ـ أو غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن
غياث القاضي وأمثاله.
وعلى هذا جرى
المحمّدون الثلاثة ، حتّى أنّ الشيخ في العدّة جعل من علامة صحّة الأخبار موافقتها
لأدلّة العقل ، أو لنصّ الكتاب ـ إمّا خصوصه ، أو عمومه ، أو دليله ، أو معناه ،
أو صريحه ، أو فحواه ـ أو للسنّة المقطوع بها ، أو لما أجمعت الفرقة
__________________
عليه. إلى أن قال
: فهذه القرائن تدلّ على صحّة متضمّن أخبار الآحاد لا على صحّتها في نفسها .
والتنويع المذكور
إنّما حدث من المتأخّرين ؛ لما خفي عليهم أكثر الامور المذكورة ، ولم يمكنهم تحصيل
القرائن الميسّرة للقدماء. وأوّل من قرّره العلاّمة ، أو ابن طاوس على اختلاف
النقلين .
ثمّ ربما طعن بعض
الناس على هذا الاصطلاح .
ولا ريب أنّه نشأ
عن قلّة التدبّر ؛ فإنّ الفرق بين الأقسام الأربعة والحكم بحجّيّة بعضها دون بعض
ممّا يدلّ عليه الكتاب ، كما عرفت . وفي أخبارنا
أيضا ما يدلّ عليه . ولا مجال للكلام على التسمية ، سيّما مع المناسبة.
والحقّ : أنّه كان
متعارفا عند القدماء أيضا ؛ فإنّ الكشّي ، وابن الغضائري ، والنجاشي ، والشيخ منهم
، مع أنّهم يقولون في كتبهم : فلان « ثقة » أو « عدل » أو « صالح » أو « صحيح
الحديث » أو « ضعيفة » وأمثالها. وهذا بعينه مراد المتأخّرين من الأنواع الأربعة.
والامور المذكورة
المتعارفة عند القدماء إنّما هي من القرائن المفيدة للعلم أو الظنّ ، وهي أيضا
ممّا يصحّ الاعتماد عليه لمن تمكّن من تحصيله . فالقدماء لمّا
تمكّنوا من تحصيلها ، يعتمدون عليها في تمييز الحديث وعلى التنويع المذكور أيضا ؛
لعدم المنافاة. والمتأخّرون لمّا لم يتمكّنوا من تحصيلها ، قصروا تميّزه على
الثاني.
__________________
فصل [١٣]
الأقسام الأربعة
تسمّى اصول الحديث ، وله أقسام أخر باعتبارات مختلفة ، وكلّها يرجع إليها ، وهي
كثيرة ، ونذكر منها ما هو أكثرها دورانا وفائدة.
المسند : وهو ما
اتّصل سنده بالمعصوم ، بأن يكون كلّ واحد من الرواة أخذه ممّن هو فوقه حتّى يصل
إلى المعصوم من غير سقوط واحد منهم. فخرج باتّصال السند المنقطع بأقسامه ، كما
يأتي . وباتّصاله إلى المعصوم الموقوف على غيره إذا جاء بسند
متّصل ؛ فإنّه لا يسمّى مسندا في العرف.
وبعضهم يطلق المسند على المتّصل مطلقا.
وهذا القسم ممّا
تشترك فيه الأنواع الأربعة ، فهو بالإطلاق ليس حجّة.
والمتّصل ـ ويقال
له الموصول أيضا ـ : وهو ما اتّصل سنده بالمعصوم أو غيره ، فهو أعمّ من الأوّل
مطلقا ؛ لصدقه على الموقوف على غيره ، بخلافه.
وربما خصّ عند
الإطلاق بما اتّصل سنده إلى المعصوم أو الصحابي دون غيرهما. وأمّا عند التقييد
، فلا كلام في جواز إطلاقه على ما اتّصل بغيرهما ، كقولهم : هذا متّصل الإسناد
بفلان.
وهذا القسم إذا
كان متّصلا بالمعصوم ، فكالأوّل ، وإذا كان موقوفا على غيره ، فليس حجّة مطلقا.
والمرفوع : وهو ما
اضيف إلى المعصوم بالإسناد المتّصل أو المنقطع ، سواء كان قولا صريحا ، كقول
الراوي : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو الصادق عليهالسلام أنّه قال كذا.
أو فعلا صريحا ،
نحو : رأيته عليهالسلام يفعل كذا.
__________________
أو تقريرا صريحا ،
نحو : فعلت بحضرته عليهالسلام كذا ، ولم يذكر إنكارا منه مع عدم تصوّر تقيّة.
أو قولا في حكم
الصريح ، كأقوال أصحاب المعصومين فيما لا مدخليّة للاجتهاد فيه ، كإخبارهم عن
الثواب والعقاب على فعل مخصوص ، وعن كيفيّة الجنّة والنار وأمثالها ؛ فإنّ هذا في
حكم قولهم : قال المعصوم كذا ، وكذا قولهم : أمرنا بكذا ، أو نهانا عن كذا ، أو
السنّة كذا.
أو فعلا كذلك ،
كأفعالهم التي لا مدخليّة للاجتهاد فيها ، كالصلاة بالهيئة الخاصّة ؛ فإنّ هذا
كإخبارهم بأنّ المعصوم فعل كذا.
أو تقريرا كذلك ،
نحو إخبارهم بأنّهم كانوا يفعلون في زمن المعصوم كذا ممّا يبعد خفاؤه عنه ، فإنّه
في حكم أن يقولوا : فعلنا بحضرته كذا ؛ لأنّه يبعد مداومتهم على فعل من عند أنفسهم
من غير علم المعصوم به ؛ فإنّ توفّر دواعيهم على السؤال ينافيه.
ومن المرفوع قول
الراوي : فلان رفعه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو إلى واحد من الأئمّة عليهمالسلام ؛ فإنّه لاتّصاله بالمعصوم يسمّى مرفوعا وإن كان منقطعا
بالنسبة إلينا.
ثمّ المرفوع أعمّ
من المسند مطلقا ؛ لأنّ كلّ مسند مرفوع ولا عكس كلّيا ؛ لافتراقه عنه في حالة
انقطاعه.
وبينه وبين
المتّصل عموم وخصوص من وجه ؛ لاجتماعهما في المسند ، وافتراق المتّصل عن المرفوع
فيما اتّصل إسناده بغير المعصوم ، وعكسه فيما اضيف إلى المعصوم بإسناد منقطع.
ويظهر منه حال
المرفوع في الحجّيّة وعدمها ؛ لأنّه إذا كان إسناده منقطعا لا يكون حجّة كما يأتي . والمادّتان الأخيرتان قد عرفت حالهما.
والموقوف : وهو ما
روي عن أصحاب المعصومين عليهمالسلام قولا أو فعلا ، متّصلا أو منقطعا ،
__________________
صحيحا أو غيره.
هذا إذا أخذ مطلقا. وأمّا عند التقييد : فيطلق على غيرهم أيضا ، فيقال : وقفه على
فلان ، إذا لم يكن من أصحابهم. ومنه قول الراوي : كنّا نفعل كذا ، أو : لا يرون
بذلك بأسا ، إذا لم يضف ذلك إلى زمان المعصوم ، وإذا علم وقوعه فيه ، فهو من
المرفوع الحكمي ، كما عرفت . وهو مباين للأوّل والثالث .
وبينه وبين الثاني
عموم وخصوص من وجه ؛ ووجهه ظاهر. وهو ليس بحجّة. نعم ،
يصلح للتأييد.
والمنقطع : ويقال
له المقطوع أيضا. وله في عرفهم إطلاقان :
أحدهما : أنّه ما روي عن التابعي ـ أي مصاحب أصحاب المعصومين ـ من
أفعالهم وأقوالهم ، موقوفا
عليهم ، متّصلا
كان أو منقطعا. فهو مغاير للأقسام المتقدّمة سوى المتّصل والموقوف المقيّد ؛ فإنّ بينه وبين المتّصل عموما وخصوصا من وجه ؛ ووجهه ظاهر. وأخصّ من الموقوف
المقيّد ؛ لأنّه يشمل غير التابعي أيضا ، والمقطوع يختصّ به.
هذا ، والظاهر من
طريقة أصحابنا أنّهم لم يفرّقوا بينه وبين الموقوف.
وثانيهما : ما لم يتّصل إسناده إلى المعصوم على أيّ وجه كان ، ويقال
له : المنقطع بالمعنى الأعمّ.
فإن حذف واحد أو
أكثر من أوّل إسناده ، سمّي معلّقا ، كقول الشيخ : روى محمّد بن يعقوب ... ، أو
روى زرارة عن الباقر عليهالسلام. ومنه ما حذف كلّ أسناده ، كقولهم : قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو قال الصادق عليهالسلام ونحو ذلك.
أو من وسطه ، سمّي
منقطعا بالمعنى الأخصّ.
أو من آخره ، سمّي
مرسلا. ومنه ما روى عن المعصوم من لم يدركه بواسطة نسيها ، أو تركها عمدا ، أو
سهوا ، كقولهم : عن رجل ، أو عن بعض أصحابنا.
__________________
وما حذف من أسناده
أكثر من واحد اختصّ باسم المعضل ـ بالضاد المفتوحة المعجمة ـ فهو أخصّ من المنقطع
بالمعنى الأعمّ مطلقا.
وبينه وبين كلّ
واحد من الأقسام الثلاثة عموم وخصوص من وجه.
وكلّ واحد من
الثلاثة مباين للأخيرين والمنقطع العامّ.
وكلّ واحد من
أقسامه مباين للمسند ، والمتّصل ، والموقوف ، والمنقطع بالإطلاق الأوّل. وأخصّ من
المرفوع مطلقا.
والنسبة بهذا
الوجه إذا اعتبر إضافته إلى المعصوم ، كما هو الظاهر من عرفهم ، وإن لم تعتبر ،
فتختلف في بعض الموادّ. وكيفيّته ظاهرة.
ثمّ القطع في
الإسناد إن كان معلوما بسهولة ، سمّي واضحا. وإن كان خفيّا لا يدركه إلاّ الماهر ،
سمّي مدلّسا.
واعلم أنّ المنقطع
بأقسامه لا يخرج عن الصحّة والقبول إذا عرف المحذوف وكونه ثقة ، كقول الشيخ
والصدوق : محمّد بن يعقوب ، أو أحمد بن محمّد وغيرهما ممّن لم يدركاه ، ولكنّهما
ذكرا في آخر كتبهما طريقهما إليه ؛ فإنّه في قوّة المذكور. وإن لم يعرف فليس
مقبولا ، معلّقا كان ، أو منقطعا بالمعنى الأخصّ ، أو مرسلا.
وقد وقع الخلاف في
الأخير على أقوال : ثالثها : القبول إذا كان معاضدا بدليل آخر وإن كان عمل
الأكثر ، أو علم أنّ المرسل لا يروي إلاّ عن ثقة.
وبعد ما علم
اشتراط عدالة الراوي في قبول روايته ، يظهر فساد القول بالقبول مطلقا ، وهو ظاهر.
ويرد على أوّل
جزءي القول الثالث : أنّ العمل حينئذ بالمعاضد الذي هو الحجّة دون المرسل ؛ لأنّ
الشرط المذكور يدلّ على عدم حجّيّته مطلقا.
نعم ، يمكن أن
يقال بحجّيّته حينئذ ؛ نظرا إلى حصول التبيّن والعثور على ما يدلّ على كونه مقبولا
، كما تقدّم في الخبر الضعيف .
__________________
ويظهر الفائدة في صيرورتهما دليلين عند المعارضة لدليل واحد ، فيرجّح بهما.
وهذا الإيراد
والتوجيه والفائدة آتية فيما إذا قيل بحجّيّة المرسل إذا وجد مسندا من وجه آخر.
وعلى ثاني جزءيه :
أنّ حصول العلم المذكور إن كان من الاستقراء لمراسيله ، والاطّلاع من خارج على أنّ
المحذوف فيها ثقة ، فهو في معنى الإسناد. وإن كان من إخبار الراوي بأنّه لا يرسل
إلاّ عن الثقة ، فمرجعه إلى الشهادة بعدالة المجهول. وسيجيء ما فيه . وإن كان من وجدانها مسانيد من وجوه أخر ، فقد عرفت ما فيه.
هذا ، مع أنّ
القطع بتحقّق أحد الامور الثلاثة في جميع مراسيل راو واحد مشكل ، فالحكم بحجّيّة
مراسيل ابن أبي عمير ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، وصفوان بن يحيى من
أصحابنا ؛ نظرا إلى الأمر الأوّل غير ثابت ؛ لأنّا لم نتفحّص عن جميع الوسائط
المحذوفة عن مراسيلهم حتّى نعلم أنّها ثقات ، بل لسنا متمكّنين من هذا الفحص ،
وكذا حال المتقدّمين علينا.
وحجّة من قال
بحجّيّة مراسيلهم قول الشيخ في العدّة :
|
وإذا كان أحد
الراويين مسندا والآخر مرسلا ، نظر في حال المرسل ، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا
يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به ، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت
الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن
أبي نصر ، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن
يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم .
|
__________________
واستدلالهم من هذا
الكلام في موضعين :
أحدهما : أنّه شهد
بأنّ هؤلاء لا يروون إلاّ عن ثقة.
وفيه : أنّ مرجعه
إلى شهادة عدل على عدالة المجهول ، وفيه ما سيجيء ، مع أنّا نرى أنّهم كثيرا ما يروون عن الضعفاء.
وثانيهما : أنّه
ظهر منه أنّ الطائفة عملت بمراسيلهم.
وفيه : أنّ عملهم
لم يبلغ حدّا يكون حجّة. كيف؟ وليس حال من تقدّم على الشيخ في هذا معلومة لنا ،
ومن تأخّر عنه بين تابع له كالعلاّمة في بعض كتبه ،
ومتوقّف فيه كالمحقّق ، ومخالف له كصاحب البشرى وجلّ من تأخّر عنه.
هذا ، مع أنّا نرى
أنّ بعض مراسيلهم ممّا لم يعمل به ، أو عمل به الأقلّ.
نعم ، يمكن القول
بحجّيّة مراسيلهم التي عمل به المعظم ؛ نظرا إلى ما قلنا في الخبر الضعيف ، وحينئذ لا فرق بين مراسيلهم ومراسيل غيرهم.
وذهب الشافعي إلى
قبول رواية سعيد بن المسيّب ؛ نظرا إلى الأمر الثالث ، وقال : إنّي اعتبرتها ،
فوجدتها مسانيد من وجوه أخر .
وقد عرفت ما فيه ، مع أنّ اعتباره لا ينتهض حجّة لأحد.
فظهر ممّا ذكر أنّ
الحقّ عدم القبول مطلقا.
واحتجّ القائلون
بالقبول مطلقا ـ وهم الحنفيّة ، والمالكيّة ، ورؤساء
المعتزلة ، ومحمّد بن خالد البرقي من قدماء أصحابنا ـ بوجوه :
__________________
منها : إجماع
الصحابة والتابعين على قبول المراسيل. واحتجّوا على ثبوته بقول بعض الصحابة : كلّ
ما نسنده إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما سمعنا منه ، ولكنّا لا نكذب عليه .
وبأنّ كثيرا ما
يسند صحابي خبرا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ يصرّح بأنّه لم يسمعه من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل من صحابي آخر.
وبأنّ روايات ابن
عبّاس عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مقبولة مع أنّه لم يرو عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ أربعة أحاديث ؛ لصغر سنّه .
وبأنّ بعض
التابعين أسند خبرا إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلمّا سئل عنه قال : أخبرني به سبعون بدريّا .
والجواب : أنّ هذه
القضايا ـ على فرض ثبوتها ـ لا تدلّ على تحقّق الإجماع.
ومنها : أنّ رواية
العدل عمّن سكت عنه تعديل له ؛ لأنّه لو روى عن غير عدل ولم يبيّن حاله ، لكان
ملبّسا وهو ينافي العدالة .
وجوابه : منع
التلبيس ؛ لأنّه يعلم أنّ حكم المرسل عند السامعين حكم الضعيف ، مع أنّه يمكن أن
ينساه ولم يعلمه بعينه فأرسل عنه ؛ لعدم خلوّه عن فائدة ، فإنّه يعلم أنّ المرسل
يصلح للتأييد ، غاية الأمر أنّ روايته عنه تعديل له ، ومرجعه إلى شهادة العدل على
عدالة مجهول العين.
ويعلم ما فيه.
ومنها : أنّ إسناد
الحديث إلى المعصوم يستلزم اعتقاد صدقه ؛ لأنّ إسناد ما هو الكذب عنده إليه ينافي
العدالة ، ولا ريب أنّ حديث غير العدل كاذب عند العدل ، فيجب أن يكون المحذوف عدلا
حتّى يعتقد صدقه ، وحينئذ يجب قبوله .
وقد ظهر جوابه
ممّا ذكر.
ولهم وجوه ضعيفة
أخر تركناها لظهور فسادها.
__________________
تتميمات
الأوّل : ليس من
المرسل عندنا ما يقال فيه : عن الصادق عليهالسلام قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كذا ؛ ووجهه ظاهر.
الثاني : قطع
الحديث بالإرسال ونحوه عمدا حرام أو مكروه ؛ لقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا حدّثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم » . وقول الصادق عليهالسلام : « إيّاكم والكذب المفترع » ، قيل له : وما الكذب المفترع؟
قال : « أن يحدّثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدّثك » .
وعلى هذا فالظاهر
أنّ استعمال القطع في كلام قدمائنا المحدّثين وقع سهوا أو نسيانا.
الثالث : قيل : لو
أسند راو حديثا إلى النبيّ مرّة وأوقفه غيره على الصحابي ، فهو متّصل ؛ لجواز أن يكون الصحابي رواه عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تارة وذكره عن نفسه على سبيل الفتوى اخرى ، فرواه كلّ
منهما بحسب سماعه أو سمعه ، يرويه عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فنسي وظنّ أنّه ذكره عن نفسه.
وكذا لو أسنده إلى
النبيّ تارة وأوقفه هو على الصحابي اخرى ؛ لما ذكر .
نعم ، لو أرسله أو
أوقفه مدّة طويلة ثمّ أسنده إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد تلك المدّة ، فهو يقدح في اتّصاله ؛ لأنّ نسيانه في تلك المدّة بعيد. اللهمّ إلاّ أن يكون له كتاب يرجع إليه
فيذكر ما نسيه .
ولا يخفى أنّ
الوقف على الصحابي في الصورتين وإن احتمل ما ذكر ، إلاّ أنّه ليس على سبيل القطع ،
فالحكم بكونه متّصلا مشكل.
__________________
ومن أقسام الحديث : المعنعن
وهو ما يقال في
سنده : فلان عن فلان إلى آخره من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع.
قيل : وقد كثر
استعمال « عن » في الإجازة .
والصحيح أنّها
تستعمل في الأعمّ منها ومن القراءة والسماع.
والمعنعن متّصل
إذا أمكن اللقاء وأمن التدليس بأن لا يكون معروفا به.
وقد وقع الخلاف في
اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ، وكونه معروفا بالرواية عنه. والحقّ عدمه ؛ نظرا
إلى حمل فعل المسلم العدل على الصحّة.
ويشترط في قبوله
أن لا يكون ضعيفا ؛ فإنّه يعمّ الأنواع الأربعة.
والمقبول : وهو ما
تلقّوه بالقبول والعمل بمضمونه من أيّ أقسام كان ، كحديث عمر بن حنظلة في حال المتخاصمين . وربما جعل من
أقسام الضعيف ؛ لكون الصحيح مقبولا مطلقا.
والمستفيض : وهو
ما زاد نقلته على ثلاثة ، أو اثنين عند بعض . ويسمّى المشهور
أيضا. وقد يطلق المشهور على ما شاع العمل به عند أهل الحديث. وهو يعمّ الأنواع
الأربعة ، فيشترط في قبوله أن لا يكون ضعيفا.
وعالي السند : وهو
ما قلّت واسطته مع اتّصاله. سمّي عاليا لبعده عن الخلل بقلّة الوسائط ، ولذا عدّ
من المرجّحات. والمراتب متفاوتة في ذلك ، فما قرب إلى المعصوم أعلى ممّا بعد عنه.
والغالب أنّ ما يروى عن معصوم متأخّر أعلى من متقدّم.
وأشرف العلوّ قرب
الإسناد من المعصوم ، ثمّ من أئمّة الحديث كالكليني وأمثاله. ويسمّى الأوّل علوّا
مطلقا ، والثاني علوّا نسبيّا. وقد كان طلب العلوّ سنّة عند السلف ، ولذلك يسافرون
إلى البلاد البعيدة عند المشايخ لطلبه.
والمسلسل : وهو ما
تتابع رجال إسناده كلاّ أو بعضا على أمر كالاسم ، نحو المسلسل
__________________
بالمحمّدين ، أو
الأحمدين ، والمسلسل بالآباء بأن يروي كلّ واحد من الرواة عن أبيه.
وكالصفة ، نحو
المسلسل بالتشبيك بالأصابع والمصافحة.
وقد يكون التسلسل
بقول كلّ واحد منهم : « سمعت » أو « سمعت والله ». وأسبابه كثيرة ، ولا فائدة
يعتدّ بها في ذكرها.
والشاذّ والنادر :
وهو ما رواه الثقة وكان مخالفا لما رواه الأكثر ، وربما عمل به بعضهم.
والراوي للشاذّ
ربما كان أعدل أو أضبط من راوي المشهور ، وحينئذ لا يلزم ردّه ؛ لأنّ في كلّ منهما
رجحانا من وجه فيتعارضان ، فيلزم الفحص لاستنباط الترجيح ، وربما حصل للشاذّ عند
مرجّح ، وإن انعكس ، فمردود ؛ ووجهه ظاهر.
وإن رواه غير
الثقة فيسمّى منكرا ، ويجب ردّه. وقد يطلق الشاذّ عندنا على
ما لم يعمل به أصلا.
والغريب : وهو
إمّا غريب إسنادا ومتنا معا ، وهو ما تفرّد برواية متنه واحد.
أو إسنادا فقط ،
وهو ما عرف متنه من جماعة من الصحابة ومن في حكمهم ، وانفرد واحد بروايته عن
غيرهم.
أو متنا فقط ،
كالحديث المفرد إذا اشتهر ، فرواه عمّن تفرّد به جماعة كثيرة ، ويصير حينئذ غريبا
مشهورا.
قيل : ومنه حديث :
« إنّما الأعمال بالنيّات » ، فإنّه غريب في طرفه الأوّل ؛ لما قيل : إنّه رواه عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واحد من الصحابة. ومشهور في طرفه الآخر ؛ لتكثّر الرواة
فيه .
وقيل : ليس منه ؛
لأنّه رواه عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جماعة من الصحابة .
ويدخل في الغريب
ما اشتمل على لفظ غامض مشتبه بعيد عن الفهم ؛ لقلّة استعماله في
__________________
الشائع من اللغة ،
ويسمّى بالغريب لفظا. وهو يعمّ الأنواع الأربعة. فلا يخفى القسم المقبول منه عن
غيره.
والمضطرب : وهو ما
اختلف راويه فيه إسنادا ، كأن يروي تارة عن رجل ، وتارة عن آخر.
أو متنا بأن يروي
مرّة هكذا واخرى بخلافه ، كما جاء في حديث الدم المشتبه بالقرحة .
وقد يكون الاضطراب
من راو واحد ، كهذا الحديث ، فإنّه مرفوع إلى أبان في الجهتين. وقد يكون من متعدّد
فيروي كلّ واحد بخلاف ما رواه الآخر.
وتحقّق الاضطراب
إنّما إذا تساوى الروايتان من حيث ضبط راويهما وحفظهما وعدالتهما ، أمّا لو رجّحت إحداهما على الاخرى بوجه من الوجوه ، فلا اضطراب. فعلى الأوّل لا يمكن العمل
بإحداهما ، فيجب الرجوع إلى الأدلّة الخارجيّة ، وعلى الثاني يلزم العمل بالأرجح.
والمقلوب : وهو
حديث ورد عن راو فيروى عن غيره ليرغب فيه ، كما إذا رواه محمّد بن قيس ، أو محمّد
بن عيسى ، فيروى عن محمّد بن مسلم ، أو أحمد بن محمّد بن عيسى. وقد يتّفق ذلك في
أسانيد التهذيب .
وقد يقع القلب في
كلّ الطريق وهو حرام ، ومن عرف به سقطت عدالته. وقد يقع القلب من بعض العلماء
لامتحان بعض آخر ، كما اتّفق من بعض العلماء في بغداد لامتحان البخاري ، وكيفيّته
معروفة . وقد يقع القلب في المتن ، والماهر يعرفه.
والمدرج : وهو
الذي ادرج فيه كلام بعض الرواة ، فيظنّ أنّه منه. ويقال للزائد : المدرج ، وللحديث
: المدرج فيه ، وحكمه ظاهر.
والمزيد : وهو ما
زاد على غيره من الأحاديث المرويّة في معناه.
والزيادة إمّا تقع
في المتن ، فهو مقبول إذا وقعت من الثقة ولم يكن لها معارض ؛ لجواز
__________________
أن يطّلع على شيء
لم يطّلع عليه الآخرون ، وعدالته تمنعه من الكذب ، فهو في حكم الحديث المستقلّ.
أو في الإسناد ،
مثل أن يسنده وأرسلوه ، أو يوصله وأوقفوه. وهو أيضا مقبول بالشرط المذكور ؛ لما
ذكروا.
والمصحّف ، ويقال
له المحرّف أيضا : والتصحيف إمّا يقع في الإسناد ، كتصحيف بريد بالباء الموحّدة
المضمومة ، بيزيد بالياء المثنّاة ، أو في المتن ، وهو ظاهر. أو في المعنى ومثّل
له بما روي أنّه صلّى إلى عنزة ـ وهي حربة نصبها بين يديه سترة ـ فتوهّم رجل من
بني عنزة أنّ المراد منها قبيلته ، وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صلّى إليهم ، وهو تصحيف معنوي. والتنبّه للتصحيف فعل الحذّاق المهرة ؛ وبعد
التفطّن به يلزم تصحيحه.
والمعلّل : وهو ما
فيه سبب خفيّ قادح فيه ، ولا يستخرجه إلاّ اولو الأفهام الثاقبة ؛ وبعد التفطّن به
يلزم ردّه.
والناسخ والمنسوخ
: وهذا فنّ يصعب معرفته ، ولذلك ربما ادخل فيه ما ليس منه ، وجعلوا من طرق معرفته
النصّ ، أو الإجماع ، أو التأريخ. والظاهر عدم وجوده في أخبار أئمّتنا عليهمالسلام ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين .
والموضوع والمختلق
: وهو شرّ أقسام الضعيف ، ولا يحلّ روايته إلاّ لتبيّن حاله ، ويعرف الوضع بإقرار
واضعه ، أو بشهادة من يوثق به ، أو بركاكة لفظه أو معناه ، أو بغير ذلك من أسباب
يعرفها المؤيّدون.
وقد كثر الوضع
للأخبار حتّى أنّ قوما جوّزوه للترغيب والترهيب ، وكم من فساد واختلال حدث في الإسلام
لأجل ذلك ، ومن وفّق بمعرفته لا يزلّ ، ولكنّها ليست شريعة لكلّ وارد ، بل لا
يطّلع عليها إلاّ واحد بعد واحد.
__________________
والمضمر : وهو ما
طوي فيه ذكر المعصوم ، كأن يقول الراوي عن المعصوم : « سألته » ولم يسمّه. وهذا
القسم غير معروف عند العامّة ، وإنّما يفعله أصحابنا للتقيّة. وهو يعمّ الأنواع
الأربعة إلاّ أنّه قيل : هو مضعّف للحديث مطلقا ؛ لاحتمال أن يكون المسئول عنه غير الإمام.
والحقّ : أنّ مضمرات
كلّ واحد من الأجلاّء المخصوصين بواحد من الأئمّة عليهمالسلام ـ كزرارة ، وفضيل بن يسار ، ومحمّد بن مسلم ، وعليّ بن
مهزيار وأضرابهم ـ في قوّة المصرّحات ؛ لأنّا نعلم من حالهم أنّهم لا يعتمدون في
الأحكام إلاّ على الحجّة القائم في عصرهم ، ولا يسألون غيره ، فيتعيّن المسئول
عنه.
وربما قيل : مطلق
الإضمار غير قادح ؛ لأنّ القرينة قائمة بأنّ المراد الإمام ؛ لأنّ جميع الرواة لا
يعتمدون على أحد سوى المعصوم .
والوجه في الإضمار
إمّا التقيّة ، أو قطع الأحاديث بعضها من بعض ؛ فإنّ الراوي كان يصرّح باسم
المعصوم في أوّل الرواية ثمّ يقول في أثنائها : وسألته ، فلمّا حصل القطع توهّم
الإضمار.
وهنا اصطلاحات أخر
ذكرها بعض :
كرواية الأقران :
وهي رواية راو يساوي المرويّ عنه في السنّ. أو اللقاء وهو الأخذ عن المشايخ ،
كرواية الشيخ عن المرتضى مع أنّهما أخذا عن المفيد.
والمدبّج : وهي
رواية راو عمّن يروي هو عنه أيضا ، كرواية الصحابة بعضهم عن بعض ، وهي أخصّ من
الاولى.
ورواية الأكابر عن
الأصاغر ، كرواية الصحابي عن التابعي.
ومنها : رواية
الآباء عن الأبناء ، كرواية العبّاس عن الفضل أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع بين الصلاتين بالمزدلفة .
__________________
وإنّما تعرّضنا
لذكر هذه الأقسام مع عدم جريان العادة بذكرها في كتب الاصول ؛ لكثرة فائدتها
للباحث عن الأخبار.
فصل [١٤]
يعرف عدالة الراوي
إمّا بالاختبار بالصحبة المتأكّدة والمعاشرة الباطنيّة ، أو باشتهارها بين أهل
العلم والحديث ، وبشهادة القرائن المتكثّرة المتظاهرة ، أو بالتزكية.
ومعرفة عدالة
الرواة لنا منحصرة بالأخير وإن أمكن في بعضها بالثاني أيضا ، كأكثر مشايخنا
وفقهائنا المشهورين.
ولا خلاف في ثبوت
العدالة بالعدلين ، وقد وقع الخلاف في ثبوتها بالواحد. والحقّ عدم ثبوتها به وفاقا
لجماعة من المحقّقين ، وخلافا للأكثر.
لنا وجوه :
منها : أنّه شهادة
، فيجب التعدّد كسائر الشهادات.
والمعارضة بأنّه
خبر فيكفي الواحد كسائر الأخبار ، مندفعة بمعرفة الفرق بين الخبر والشهادة ؛
فإنّهما يشتركان في أمر وهو الإخبار عن العلم. وينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان
عامّا غير مختصّ بمعيّن ، فهو الرواية ، كقوله عليهالسلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، فإنّه شامل لجميع الخلق في كلّ زمان. وإن كان لمعيّن فهو الشهادة ، كقوله :
أشهد بكذا لفلان. ولا ريب أنّ ما نحن فيه من قبيل الثاني ، وستعلم لهذا الفرق مزيد توضيح.
ومنع كلّيّة
الكبرى ـ نظرا إلى الاكتفاء بالواحد في بعض الشهادات ـ مدفوع بأنّه للنصّ ، مع أنّه في غاية القلّة ، مع وقوع الخلاف فيه.
ومنها : أنّ مقتضى
اعتبار العدالة حصول العلم بها ، وهو إمّا بالصحبة المتأكّدة ، أو بالاشتهار ،
__________________
وإنّما اكتفي
بالبيّنة ؛ لأنّها تقوم مقامه شرعا ، فغير ذلك ساقط عن الاعتبار إلاّ بدليل.
ومنها : أنّ
التعديل من شروط ثبوت الأحكام الشرعيّة ، والتصفّح يعطي بأنّ العلم بحصول أكثر
شروطها يتوقّف على شهادة العدلين وإن اكتفي في المشروط بالواحد.
احتجّ الخصم
بوجهين :
أحدهما : أنّه لو
لم يكتف به في التعديل يلزم مزيّة الفرع على الأصل ؛ لأنّه فرع الرواية ويكتفى
فيها بالواحد .
واجيب بالتزامه ،
ولا منع فيه ، ولا بدّ لنفيه من دليل ، مع أنّ مزيّة الفرع على الأصل ثابتة في
تعديل الشاهد ، فإنّ بعض الحقوق يثبت بشهادة الواحد ، بل بالمرأة الواحدة في بعض
الموادّ ، كربع ميراث المستهلّ ، وربع الوصيّة ، مع أنّ تعديل كلّ منهما يتوقّف
على عدلين .
واورد عليه بأنّ
البديهة حاكمة بأنّ الاحتياط في الشرط لا يزيد على مشروطه ، ومواضع التخلّف في
الشهادة للنصّ .
والجواب عن هذا
الإيراد وأصل الحجّة يظهر من الدليل الأوّل والثالث.
ومنه يظهر أنّ
مرجع حجّتهم إلى القياس الذي يكون الحكم في الأصل أقوى منه في الفرع دون العكس
حتّى يثبت الحكم من باب الأولويّة ، ومثل هذا القياس لم يقل بحجّيّته أحد من
العامّة فضلا عن الخاصّة ؛ لأنّهم يشترطون في حجّيّته المساواة بين الفرع والأصل
في الحكم ، وهنا ليس كذلك.
ثمّ الأكثر على
أنّ الفرع كما لا يزيد على أصله ، فكذلك لا ينقص عنه أيضا ، بل يلزم المساواة
بينهما ، فيثبت كلّ واحد من الجرح والتعديل بقول العدل الواحد في الرواية
؛ للاكتفاء به فيها ، وبقول العدلين في الشهادة ؛ للزومهما فيها ، فتعديل كلّ واحد
كأصله من غير نقصان ، ولا الافتقار إلى زيادة.
__________________
ووجهه عندهم : أنّ
المتيقّن ثبوت الفرع بما يثبت به الأصل ؛ نظرا إلى ما ذكروه ، وبأنقص منه مشكوك
فيه فلا يصار إليه إلاّ بدليل ، والاكتفاء بتعديل شهود الزنى بالعدلين للنصّ ، وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.
وثانيهما : أنّ
مفهوم آية التثبّت يدلّ على عموم قبول خبر الواحد العدل إلاّ ما خرج بدليل
كالشهادة.
وجوابه : أنّ
المراد بالفاسق في الآية من له صفة الفسق في الواقع ، فيتوقّف قبول الخبر على
العلم بانتفائها ، وهو يتوقّف على العلم بالعدالة ، كما تقدّم مفصّلا. فمنطوق الآية يدلّ على توقّف قبول الخبر على العلم بالعدالة ، وحصوله
موقوف على أحد الامور الثلاثة ، وواحد منها ـ أعني البيّنة ـ وإن لم يفد العلم
إلاّ أنّه قائم مقامه شرعا ، وخبر الواحد لا يفيد العلم لا عقلا ولا شرعا. فلو دلّ
مفهوم الآية على عموم قبول خبر الواحد وإن كان في معرفة العدالة ، يلزم التناقض
بين المفهوم والمنطوق ؛ لأنّ مقتضى المفهوم ـ وهو قبول خبر الواحد في معرفة
العدالة ـ عدم اشتراط العلم بالعدالة ؛ لأنّه لا شبهة في أنّ خبر الواحد لا يفيد
العلم ، ومقتضى المنطوق خلافه ، كما عرفت ، فلا بدّ من حمل
المفهوم على إرادة الإخبار بما سوى العدالة حتّى يندفع التناقض.
فإن قيل : المفهوم
يدلّ على عموم قبول خبر الواحد ، والمنطوق يدلّ على عموم عدم قبوله ، فكما يمكن أن
يخصّص المفهوم بالمنطوق ويقال : المراد من المفهوم الإخبار بما سوى العدالة ،
فيمكن العكس أيضا بأن يقال : المراد من عدم قبوله فيما سوى البيّنة وخبر الواحد عن
العدالة ، وليس تخصيص أحد العمومين بالآخر أولى من العكس.
قلت : تخصيص
المفهوم بالمنطوق أولى ؛ لكونه أقوى وأرجح ، وتخصيص المنطوق بالمفهوم في باب
البيّنة للدليل الخارجي لا بالنظر إلى خصوص العمومين ، وخبر الواحد في التعديل
لمّا لم يثبت بدليل من خارج ، ووقع فيه التعارض بين العمومين ، يلزم أن يخصّص
__________________
فيه الأضعف
بالأقوى ، فيثبت المطلوب.
وإذا عرفت كيفيّة
معرفة التعديل ، والخلاف الواقع فيه ، والمذهب المختار ، فاعلم أنّ الجرح أيضا
مثله من غير تفاوت.
وإذا عرفت الحقّ
فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.
فصل [١٥]
قيل : يكفي
الإطلاق في التعديل والجرح من غير حاجة إلى ذكر السبب فيهما .
وقيل باحتياجهما
إلى ذكره ، وبدونه لا يسمعان .
وقيل باحتياجه في
الجرح دون التعديل .
وقيل بالعكس .
وقيل : إن صدرا عن
العالم بأسبابهما ، كفى الإطلاق فيهما من غير حاجة إلى السبب. وإن صدرا عن غير
العالم بها ، فلا بدّ من ذكر السبب .
وقيل : لو علم
اتّفاق مذهب المعدّل أو الجارح والمعتبر فيما يتحقّق به
العدالة والجرح ، كفى الإطلاق ، وإلاّ فلا بدّ من ذكر السبب .
وتحقيق الحقّ في
هذه المسألة يتوقّف على بيان أمرين :
[
الأمر ] الأوّل : أنّه لا ريب في اختلاف العلماء فيما يوجب الجرح والتعديل ؛ لاختلافهم في
العدالة ـ كما تقدّم ـ فربّ رجل كان عدلا عند بعضهم وفاسقا عند آخر. وكذا
اختلفوا في الكبائر ، فربّ فعل كان كبيرة موجبة للجرح عند بعضهم ولم يكن كبيرة
__________________
عند آخر. فقول كلّ
واحد من المعدّل والجارح في حقّ من ارتكب هذا الفعل ليس حجّة لمن يريد العمل حتّى
يعلم أنّه ما هو؟ ليظهر له هل هو موجب للجرح عنده ، أم لا؟
والحقّ : عدم
الفرق في ذلك بين التعديل والجرح ؛ لأنّه كما لا يكفي الإطلاق في الجرح باعتبار
الاختلاف في أسبابه ، فكذا الحكم في التعديل ؛ لأنّه يتبعه في ذلك ؛ لأنّ العدالة
تتوقّف على اجتناب الكبائر مثلا ، فربما لم يكن بعض الذنوب كبائر عند المعدّل ولم
يقدح فعلها عنده في العدالة ، فيعدّل مرتكبها وهو فاسق عند الآخر ؛ لكونها كبائر
عنده.
والفرق بأنّ التعديل
بذكر السبب يتوقّف على ذكر جميع أسبابه وهي كثيرة يصعب ذكرها بخلاف الجرح ؛ فإنّه
يثبت بسبب واحد ، لا يدفع ما ذكر.
[
الأمر ] الثاني : الثقة العالم الورع المطّلع على سرّ اشتراط العدالة واختلاف الناس فيها وفي
أسبابها وأسباب الجرح إذا صنّف كتابا في تعديل الرجال وجرحهم لأن يكون مرجعا
للعلماء وهداية لهم ، وعرف التعديل ، أو الجرح من سبب لم يكن سببا عند كثير ممّن
يرجع إلى كتابه ، وكان عالما بذلك ، ومع ذلك اكتفى فيهما بالإطلاق ، كان مدلّسا ،
وهو قادح في عدالته.
والجواب : بأنّه
قد يبنى الجرح والتعديل على اعتقاده فيما يراه جرحا وتعديلا ، أو بأنّه ربما لم
يعرف الخلاف ولم يخطر بباله أصلا ، فلا تدليس ، لا يجري فيما نحن فيه.
لأنّ الأوّل إنّما
يجوز في مقام الاجتهاد والفتوى لمن يستفتيه ويقلّده ، أو في مقام الشهادة لمن يريد
العمل بقوله مع علمه باتّفاقهما فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، لا في مقام
الشهادة لجمّ غفير من الناس مختلفين فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، كما هو شأن
علماء الرجال ؛ فإنّ تعديلهم وجرحهم من باب الشهادة ، ويعتقدون أنّ ما ذكروه حجّة
لمن يأتي بعدهم من العلماء والمحدّثين ، ويعلمون أنّهم يلتزمون العمل بقولهم مع
اختلاف آرائهم في أسباب الجرح والتعديل ، وعدم جواز التقليد لهم ؛ لكونهم من أهل
الاجتهاد مكلّفين بما اقتضت آراؤهم في باب التعديل والجرح. فلو زكّوا رجلا أو
جرحوه بسبب وقع الخلاف في سببيّته ولم يذكروه ، بل اكتفوا فيهما بالإطلاق ، لزم
التدليس إن اعتقدوا حجّيّة قولهم لأهل العلم بالإطلاق ، أو عدم الفائدة في أقوالهم
وتصانيفهم إن اعتقدوا عدم حجّيّته ، ولزوم الفحص
لهم عن أسباب
الجرح والتعديل ؛ لأنّ قولهم ـ لإطلاقه ـ لا يعلم منه أسبابهما.
والثاني أيضا لا
يجري في أمثال فحول علماء الرجال ؛ لأنّهم عالمون بالخلاف في الأسباب ، وعارفون
بحقيقة الحال ، بل هو يجري في حقّ العامّي ، فيجب أن يكون مرادهم من العدالة في
مقام الإطلاق ما يثبت الوثاقة ، ولزوم العمل بقول صاحبها باعتقادهم على جميع
التقادير والمذاهب ، ويتوقّاه عمّا يوجب الاختلال في المقال البتّة ، ومن الجرح ما
يقابلها.
وإذا عرفت هذين
الأمرين ، تعرف فساد المذاهب المذكورة جميعا ؛ ووجهه ظاهر ، وتعلم أنّ الحقّ في
هذه المسألة أنّه يكفي الإطلاق من الثقة العالم إذا علم اتّفاقه مع من يريد العمل
بقوله فيما يتحقّق به العدالة و
الجرح ، أو كان في
مقام الشهادة لجماعة كثيرة مكلّفين بعقولهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل ، وعلم
اختلاف أسبابهما ومع ذلك اعتقد حجّيّة قوله لهم ، كما هو شأن علماء الرجال ، وبدون
ذلك لا يكفي الإطلاق ، بل لا بدّ من بيان السبب.
ومن الأمر الثاني
يندفع إشكال مشهور ، وهو أنّ اعتماد الناس في أمثال زماننا في الجرح والتعديل
إنّما هو على أقوال علماء الرجال كالشيخ ، والنجاشي ، والكشّي ، وابن الغضائري ،
ولا نعلم مذهبهم في العدالة ، وقلّما يتعرّضون في كتبهم لبيان السبب ومع ذلك يقبل
قولهم في الجرح والتعديل.
ووجه الاندفاع
ممّا ذكر ظاهر. والتفريع غير خفيّ عليك بعد ما عرفت الحقّ.
فصل [١٦]
إذا تعارض الجارح
والمعدّل وأطلقا ، فالوجه تقديم قول الجارح ؛ لأنّ المعدّل يخبر عمّا ظهر من حاله
، أي يشهد بأنّه لم يعلم منه فسقا ، والجارح يخبر عن باطن خفيّ عنه ، فتقديم قوله
جمع للجرح والتعديل ؛ لأنّه يوجب صدقهما ، وتقديم قول المعدّل يوجب كذب الجارح.
والجمع أولى مهما أمكن ؛ لأنّ تكذيب العدل خلاف الظاهر.
ويظهر ممّا ذكر
أنّه لم يقع بينهما حينئذ تعارض. هذا إذا لم يزد عدد المعدّل على عدد
الجارح ، وإن زاد
فالحكم أيضا كذلك ، إلاّ إذا صار بحيث حصل الظنّ الأقوى بالعدالة. وحينئذ يجب
تقديم التعديل ، ووجهه ظاهر.
وإن لم يطلقا ، بل
عيّن الجارح السبب وأنكره المعدّل بعنوان القطع ، بأن يقول الجارح : قذف فلانا في
وقت كذا ، وقال المعدّل : إنّه كان فيه نائما أو ساكتا ، فيجب أن يصار حينئذ إلى
الترجيح بالأكثريّة ، والأورعيّة ، والأضبطيّة.
والقول بتقديم قول
الجارح حينئذ أيضا ضعيف ؛ ووجهه ظاهر. وكيفيّة التفريع في الجميع
ظاهرة.
فصل [١٧]
حكم الحاكم العدل
بمقتضى شهادة رجل تعديل له إذا رأى العدالة شرطا في قبول الشهادة ؛ ووجهه ظاهر.
وأمّا رواية العدل
عنه ، فالأقوى أنّها ليست تعديلا له ؛ ووجهه أيضا ظاهر.
وترك عمل العدل
بشهادته وروايته ليس جرحا له وفاقا ؛ لجواز الترك لوجود المعارض ، أو فقد شرط غير
العدالة.
وإذا قال العدل :
« حدّثني عدل » قيل : لا يكفي ذلك في تعديله ـ وإن قبل تعديل الواحد ـ من غير ذكر
السبب ، بل لا بدّ من تسميته وتعيينه حتّى ينظر هل له جارح ، أم
لا؟ فإنّه يجوز أن يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطّلع على جرحه بما لم يطّلع هو عليه.
ولا بدّ للمجتهد
من الفحص عن جميع ما يحتمل أن يكون له معارض حتّى يغلب على ظنّه عدمه ، وعلى هذا
لم يكف ذلك في العمل بروايته على القول بالاكتفاء بتعديل الواحد. وعلى اعتبار
العدلين لا يكتفى به وبأحدهما.
وقيل : يكتفى به
في تعديله ، نظرا إلى أنّ الأصل عدم الجارح .
__________________
وهو ضعيف ؛ لما
ذكر. فالحقّ الأوّل.
لا يقال : لو قال
العدل : « حدّثني عدل » ولم يكن عدلا في الواقع لما ذكر ، يلزم تدليس العدل.
قلت : مثل هذه
العبارة لا يكون في مقام الشهادة لعموم الناس ، كما هو شأن تعديل علماء الرجال ،
بل هو في مقام الاجتهاد أو الرواية ، ويعتقد أنّ قوله ليس حجّة لأهل العلم والحديث
، ويعلم أنّهم لا يعتقدون حجّيّة قوله ، فيبني التعديل على اعتقاده ، فلا تدليس.
وكيفيّة التفريع :
أنّه إذا وصف بعض الفقهاء رواية بالصحّة ، لم يكف ذلك في العمل بها ؛ لأنّه في
الحقيقة تعديل لرواتها ، بل لا بدّ من المراجعة إلى سندها حتّى يظهر حقيقة الحال ،
وقد رجعنا مرارا بأسانيد بعض الروايات التي وصفها بعض الأصحاب بالصحّة فوجدناها
مخالفة لما ذكروه.
فصل [١٨]
الاعتبار بحال
الراوي وقت أداء الرواية ، لا وقت تحمّلها ، ووجهه ظاهر. فلو تحمّلها متّصفا
بالشرائط المعتبرة ـ من الإسلام ، والإيمان ، والعدالة ، وغيرها ـ وأدّاها وقت عدم
اتّصافه بها كلاّ أو بعضا ، لم تقبل منه ، ولو عكس قبلت منه.
فمن روى عن
أئمّتنا عليهمالسلام أو رواتهم ؛ إذا زال اتّصافه بالشروط المعتبرة بعد اتّصافه
بها ـ كمحمّد بن عليّ بن رباح ، وعليّ بن أبي حمزة ، وإسحاق بن جرير
وأمثالهم من الواقفة ؛ حيث خلطوا في زمن الكاظم عليهالسلام بعد استقامتهم ، والفطحيّة ، حيث خلطوا في زمن الصادق عليهالسلام ، وكمحمّد بن عبد الله أبي المفضّل ، ومحمّد بن عليّ
الشلمغاني وغيرهم ممّن اتّصف بعد الاستقامة بإحدى القوادح ـ يقبل منه
ما روى قبل الاختلاط ، ويردّ ما روى بعده.
__________________
ويعكس الأمر فيمن
عكس حاله ، كعليّ بن أسباط ، والحسين بن يسار ، ونظرائهما ممّن
تاب ورجع بعد الإنكار ، أو اتّصف بالعدالة بعد كونه فاسقا.
ثمّ ما رواه أحد
هؤلاء إن عرف أنّه في أيّ الوقتين رواه ، فيتّصف بما يقتضيه هذا الوقت. ومعرفة ذلك
إمّا بالتأريخ ، أو بقول الراوي : « حدّثني قبل اختلاطه » أو « بعده » أو ببعض
القرائن. ومع الإطلاق والجهل بالتأريخ وعدم مائز آخر ، يقع الشكّ فيلزم ردّه.
وهنا إشكال مشهور
، وهو أنّ كثيرا من الرجال كانوا على الحقّ ثمّ رجعوا إلى خلافه ، أو بالعكس ،
والقوم يعتمدون على رواياتهم ويقبلونها مع الشكّ في وقت أداء الرواية.
والجواب : أنّ
الاعتماد والقبول إن كان من الأقلّين ، فلا إشكال ؛ لعدم حجّيّة في قولهم ، فلا
يعبأ به ، وإن كان من الأكثرين أو الجميع وكان مرادهم من الاعتماد الوثاقة ، بمعنى
كونها موثّقات دون الصحاح ، فلا إشكال أيضا ؛ لأنّ أكثر هؤلاء رواياتهم من
الموثّقات ؛ لكونهم موثّقين في القول وإن لم يكونوا إماميّين.
وإن كان مرادهم
منه عدّ رواياتهم من الصحاح ، فنقول : إنّ قدماء القوم لمّا كانوا مطّلعين على
حقيقة الأمر لقرب عهدهم إلى هؤلاء ، فيمكن أن يقال : إنّهم اطّلعوا على أنّ السماع
من هؤلاء ، أو النقل من اصولهم كان قبل اختلاطهم ، أو بعد استقامتهم ، أو أخذ
هؤلاء كان من شيوخ أصحابنا الموثوق بهم ، كما قيل في عليّ بن الحسين الطاطري : إنّه روى كتبه عن رجال موثوق بهم من أصحابنا .
فائدة
قد أشرنا فيما
تقدّم أنّ الشهادة والرواية تشتركان في كونهما إخبارا عن الجزم ،
وتفترقان في أنّ المخبر عنه إن كان خاصّا بمعيّن فهو الشهادة ، وإن كان عامّا فهو
الرواية.
__________________
وهذا هو المعيار
في تمييزهما ، إلاّ أنّه في كثير من الموارد يكون للمخبر عنه متعلّقات متعدّدة ،
ومن حيث تعلّقه ببعضها يكون عامّا ، ومن حيث تعلّقه ببعض آخر يكون خاصّا ، ولذلك
وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد وعدمه ، وحينئذ لا بدّ من التأمّل في
متعلّقاته حتّى يظهر أيّ الحيثيّتين أقوى ، ومع تكافئهما يرجع إلى الأدلّة
الخارجيّة.
ونحن نشير إلى
جملة من هذه الموارد حتّى تعلم كيفيّة الحال :
منها : الإخبار عن
رؤية الهلال. فقيل : رواية ؛ لأنّ الصوم أو الإفطار لا يشخّص بمعيّن .
وقيل : شهادة ؛
لاختصاصه بشهر معيّن .
والمطلوب أنّ
المخبر عنه هنا ـ وهو رؤية الهلال ـ يتعلّق بأمرين :
أحدهما : فاعل
الصوم أو الإفطار ، وهو جماعة غير محصورين ، فمن حيث تعلّقه بهم يكون عامّا.
وثانيهما : زمان
الصوم أو الإفطار ، وهو شهر خاصّ في عام خاصّ ، فمن حيث تعلّقه به يكون خاصّا.
والأوّل يفيد كونه رواية ، والثاني يعطي كونه شهادة. ولتعارضهما وقع فيه الخلاف ؛
ورجّح الثاني بالأمارات الخارجيّة .
والقول بأنّ
الإخبار عن رؤية الهلال في موضع خاصّ لا يشمل جميع الناس ، بل لطائفة خاصّة ؛ لأنّ
رؤية الهلال في بلد لا تثبت الحكم لجميع البلاد ، بل لبلاد مخصوصة ، كما ذكر في
كتب الفروع ، ضعيف ؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من العموم في أمثال المقام هو العموم
العرفي ، ولا يخفى صدق العامّ العرفي على المتناول لأهل بلاد كثيرة وإن لم يتناول
لجميع الناس. ولو كان المراد منه الحقيقيّ الصادق على جميع الناس من غير أن يشذّ
منهم فرد في زمان ، لما وجد رواية.
ونظير ذلك في كلام
الفقهاء « المحصور » و « غير المحصور » ، فإنّ مرادهم من غير المحصور ما هو كذلك
عرفا ، لا غير المتناهي.
__________________
ومنها : الترجمة
عند الحاكم ، وتقويم المقوّم ، وقسمة القاسم. وعلى القاعدة يلزم كونها شهادة ؛
لأنّها إخبار عن معيّن لمعيّن ، فيلزم فيها التعدّد.
والقول : بكونها
عامّة من حيث إنّ كلّ واحد من المترجم ، والمقوّم ، والقاسم منصوب لكلّ ترجمة
وتقويم وقسمة ، ضعيف ؛ لأنّ ذلك لا يصير سببا لعمومها في كلّ قضيّة
معيّنة ، وهو ظاهر. فإن لم يعتبر في واحد منها التعدّد واعتبر فيه حكم الرواية ،
فذلك لدليل خارجي ، وهو كلام آخر.
ومنها : الإخبار
عن دخول الوقت ، والقبلة ، والطهارة ، والنجاسة ، وأمثالها. ولا يخفى كونه خاصّا
بمعيّن ، فيكون شهادة ، فيشترط فيه التعدّد ، سيّما في الأوّل والأخير ؛ لكونهما
خلاف الأصل .
نعم ، يكتفى
بالواحد في الإخبار عن الطهارة ؛ لاستناده إلى الأصل .
وقيل : إنّه عامّ
بالنسبة إلى كلّ المكلّفين ، فيكون رواية .
وأيضا هو إخبار عن
التزام حكم الله وهو من لوازم الرواية .
ولا يخفى ضعف
الوجهين.
إلاّ أنّ أكثر الأصحاب رجّح عدم اشتراط التعدّد في بعضها ، كالإخبار عن القبلة
والوقت. والظاهر أنّه لأجل الأمارات الخارجيّة كالإخبار عن الطهارة.
ومنها : الإخبار
عن عدد الركعات والأشواط ، وكونه من الشهادة أظهر ممّا تقدّم ؛ لأنّه إخبار خاصّ
لبعض خاصّ.
والقول : بأنّه إخبار عن التزام حكم لله فيكون رواية ، غير جيّد ؛ لأنّ الفرق بين الشهادة
والرواية بما ذكر أوّلا ، لا بكون المخبر عنه حقّ المخلوق أو الخالق.
__________________
ومنها : الإخبار
بأنّ هذا هديّة ، والإخبار عن الإذن في دخول دار الغير. ولا تأمّل في كونهما شهادة
، لكن اكتفي فيهما وفي أمثالهما بالواحد ؛ للقرائن المفيدة للقطع. وربما قيل : إنّ
أمثالهما قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية ، كإخبار ذي عمل أمين عن عمله بأن
يقول : هذا ميتة ، أو مذكّى ، أو طاهر ، أو نجس ، أو بأنّه طهّر الثوب الذي امر
بتطهيره. ومثله إخبار المسلم بوكالته في بيع وأمثاله ، وغير ذلك ؛ فإنّه لا يسمّى
شهادة ولا رواية .
ومنها : الإخبار
عن توقيت الصلوات بأوقاتها المخصوصة ، فإنّه رواية وفاقا ، وإن تضمّن حكما خاصّا ؛ لأنّ التوقيت المذكور شرع عامّ لجميع الناس.
ومنها : الإخبار
عن الوقف العامّ ، والنسب ، وكون الأرض عنوة أو صلحا ، وهو
شهادة وفاقا ، وإن تضمّن العموم من جهة إلاّ أنّه طار. والمقصود بالذات
فيه التعيين ؛ فإنّ الإخبار عن الوقف شهادة على معيّن بفعل معيّن ، وعن النسب
شهادة بإلحاق معيّن بمعيّن ، ثمّ يعرض العموم.
فائدة
لا بدّ لكلّ واحد
من البيّنة والأمين في فعله من ذكر السبب إذا أخبرا بحكم اختلف أسبابه ، كالإخبار
عن نجاسة الماء ، واستحقاق الشفعة ، أو بأنّ بينهما رضاعا محرّما ، أو بارتداد زيد
، أو بكونه وارث عمرو ، وغير ذلك ؛ فإنّه يمكن أن يتوهّم فيها ما ليس بسبب سببا.
وربما قيل بالقبول
إذا كان المخبر فقيها وعلم توافق اعتقاده مع اعتقاد المخبر و .
__________________
تذنيب
لا خلاف في أنّ
الفتوى والحكم ليسا من الشهادة ، بل هما كالرواية ؛ لأنّ المفتي والحاكم ناقلان عن
الله إلى الخلق ؛ لأنّهما وارثا المعصوم ، فلا يشترط فيهما التعدّد.
والفرق بينهما ـ كما
قيل ـ : أنّ الفتوى مجرّد إخبار عن حكم الله في القضيّة ، والحكم إنشاء إطلاق ، أو
إلزام في المسائل الاجتهاديّة وغيرها مع تقارب المدارك فيها ممّا ينازع فيه
الخصمان لمصالح المعايش. والإطلاق والإلزام نوعا الحكم. فالأوّل كالحكم بإطلاق
المسجون ونحوه. والثاني كإلزام أحد الخصمين بإعطاء ما يدّعي عليه الآخر .
ويخرج من قوله : «
مع تقارب المدارك » ما ضعف مدركه كالعول والتعصيب ، فلو حكم به حاكم وجب نقضه.
ومن قوله : «
لمصالح المعايش » العبادة ؛ فإنّه لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم حاكم ببطلان عبادة
زيد لم يلزم منه بطلانها ، بل إن كانت باطلة في نفس الأمر فذاك ، وإلاّ فهي صحيحة.
ثمّ الحكم لمّا
كان إلزاما لقطع النزاع ، فلا يجوز نقضه لحاكم آخر وإن كان مخالف رأيه ، بخلاف
الفتوى ؛ فإنّه مجرّد إخبار بحسب اعتقاد المفتي ، فلو كان مخالفا لاعتقاد مفت آخر
يجوز نقضه. فمسائل العبادة يجوز نقضها مطلقا إذا علم المخالفة ؛ لأنّ الإخبار عنها
لا يكون إلاّ بعنوان الفتوى دون الحكم. وغيرها إن كان بعنوان الفتوى يجوز لمفت آخر
نقضها ، وإن كان بعنوان الحكم فلا يجوز.
ولو اشتمل قضيّة
على أمرين : أحدهما من مصالح العبادة ، وثانيهما من مصالح المعاش ، فيلحق كلاّ
منهما حكمه ، كما لو حكم بصحّة حجّ من أدرك اضطراريّ المشعر وكان نائبا ؛ فإنّه لا
يؤثّر في براءة ذمّة النائب في نفس الأمر ، ولكنّه يؤثّر في عدم رجوعهم عليه
بالاجرة. وقس عليه أمثالها.
__________________
فصل [١٩]
أجمع الأصحاب على
جواز نقل الحديث بالمعنى مطلقا للعارف بمواقع الألفاظ مع عدم قصور الترجمة عن
إفادة ما يفيده الأصل ، وتساويهما في الجلاء والخفاء ؛ لأنّ الخطاب قد يقع بالمحكم
أو المتشابه لحكمة خفيّة ، فلا يجوز تغييره. وأمّا لغيره ، فلا يجوز وفاقا.
والدليل عليه ـ بعد
الإجماع ـ كون المقصود من التخاطب إفادة أصل المعنى من غير اعتبار باللفظ ؛
والأخبار المستفيضة من طرقنا ؛ والقطع بنقل الأحاديث عن النبيّ والأئمّة ـ صلوات الله
عليهم ـ في وقائع متّحدة بألفاظ مختلفة ، ولا ريب في أنّ قولهم واحد ، والباقية
نقل بالمعنى ؛ وما روي عن جمع من الرواة أنّهم قالوا : « قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم » أو « واحد من الأئمّة عليهمالسلام كذا ، أو نحوه » ؛ والقطع بتفسير الحديث بالعجميّة ،
فبالعربيّة أولى ؛ وما ورد في القرآن من القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة مع أنّها إمّا وقعت بغير العربيّة ، أو بعبارة واحدة منها ، بل نعلم أنّ جميع
القصص القرآنيّة لم تقع بهذه الألفاظ والنظم ، فإن وقعت بالعربيّة ، وقعت بعبارة
اخرى ؛ للقطع بكون القرآن معجزة ، فلا يقدر البشر أن يأتي بهذه الألفاظ بهذا النظم
والتأليف.
هذا ، وذهب بعض
العامّة إلى عدم جوازه مطلقا . وذهب بعض آخر إلى جوازه بلفظ مترادف ـ أي تبديل ألفاظ
الحديث بألفاظ ترادفها ـ وعدم جوازه بغيره .
والأدلّة المذكورة
تدفع القولين.
__________________
وممّا يدفع الأوّل
ما تقدّم من جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في إفادة أصل
المعنى بلا شبهة.
واحتجّ القائل
بعدم الجواز مطلقا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « نضّر الله من سمع مقالتي » إلى آخره ، وبأنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى الإخلال بمقصود الحديث ؛ لاختلاف
العلماء في معاني الألفاظ ، والتنبيه في الاستنباط ، فالنقل في كلّ مرّة يوجب
تغييرا ما حتّى يحصل تغيير كثير ، فيتغيّر المقصود بالكلّيّة .
والجواب عن الأوّل
: أنّ النقل بالمعنى بشرطه تأدية على نحو السماع.
و [ الجواب ] عن
الثاني : أنّه خروج عن المتنازع فيه ؛ لأنّ النقل المجوّز ما لا يستلزم تغييرا ،
وإلاّ لم يجز وفاقا.
واحتجّ المفصّل
على الجزء الإثباتي بما أشرنا إليه أخيرا ، وعلى الجزء السلبي بمثل ما احتجّ به
المانع مطلقا.
وقد عرفت جوابه.
فصل [٢٠]
إذا روى ثقة خبرا
مجملا عن المعصوم وحمله على أحد محامله ، فالأكثر على لزوم حمله عليه ؛ لأنّ
الظاهر أنّه لم يحمله عليه إلاّ لقرينة.
وإن كان ظاهرا في
معنى وحمله على غيره ، فالأكثر على لزوم العمل بالظاهر ؛ لأنّه لازم العمل ، كما
تقدّم . وقول الراوي ليس حجّة حتّى يعارض ما هو حجّة ، بل هو كقول
غيره ، ولذا قال الشافعي : كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحاجته؟!
ولا يخفى أنّ ما
ذكر في الصورة الاولى يتأتّى هاهنا أيضا ، فإن قبل قوله
هناك لما ذكر ،
__________________
يلزم قبوله هنا
أيضا. وإن لم يقبل هنا لعدم حجّيّته فيه ، يلزم عدم قبوله هناك أيضا ، والتوقّف
فيه كما في سائر المجملات.
والظاهر عدم
حجّيّة قوله في الصورتين ؛ لإمكان أن يكون حمله عن رأيه ، إلاّ أنّه يصلح تأييدا ،
ففي الصورة الاولى لمّا لم يكن له معارض ، يكون لحمله رجحان ، بخلاف الصورة
الثانية ؛ لوجود معارض أقوى.
فصل [٢١]
إذا كذّب الأصل
الفرع فلا ريب في سقوط روايته ؛ لأنّ أحدهما كاذب قطعا ، ولكن لا يقدح هذا في
عدالتهما ؛ لأنّ الكاذب لم يعرف بعينه ، واليقين لا يرتفع بالشكّ ، فإذا انفرد كلّ
منهما برواية حديث آخر ، يلزم قبوله ، وكذا إذا انفرد كلّ منهما بشهادة في واقعة
يلزم على الحاكم قبوله.
نعم ، لو اجتمعا
في سند رواية واحدة ، فلا ريب في سقوطها ؛ للقطع بكون واحد منهما فاسقا وإن لم
يعرف بعينه. وكذا لو شهدا معا في قضيّة واحدة ، فلا شكّ في عدم جواز قبول شهادتهما
معا ؛ لما ذكر ، بل على الحاكم أن يقبل شهادة واحد منهما لا على التعيين ، ويردّ
الآخر.
فإن قيل : كما
يلزم القطع بكذب أحدهما في صورة الاجتماع ـ ولذا يترك روايتهما وشهادة واحد منهما
ـ فكذا في صورة الانفراد إذا انفرد كلّ منهما بنقل رواية معيّنة ، أو أداء شهادة
في واقعة خاصّة ؛ فإنّ المجتهد علم أنّ أحدهما كاذب ، فإذا عمل بالروايتين معا لزم
عمله برواية الكاذب قطعا ، وهو باطل. وكذا الحاكم إذا اعتبر شهادتهما في
الواقعتين.
قلنا : لا نسلّم
بطلان اللازم فيما نحن فيه ؛ لأنّه إذا تعبّدنا في
الاجتهاد ، والحكم بتحصيل العلم بعدالة رواة جميع الأخبار التي يعمل بها معا ، وشهود
جميع الوقائع كذلك. وليس كذلك ـ ومن ادّعى ذلك فعليه البيان ـ بل لا نتعبّد فيهما
إلاّ أن نعمل في كلّ رواية معيّنة ، وواقعة خاصّة بقول من علم عدالته ولم يزل عنه
ذلك ، ولا ريب في صدق ذلك على
__________________
كلّ واحد من
الروايتين والواقعتين ؛ نظرا إلى أنّ الشكّ لا يزيل اليقين.
نعم ، لو اعتبر
العلم بصدق رواتهما ، أو بيّنتهما معا ـ أي من حيث الاجتماع ـ فلا يجوز العمل ؛
ولا دليل عليه.
هذا ، وأمّا إذا
لم يكذّب الأصل الفرع ، بل كان شاكّا ـ بأن يقول : لا أدري رويته أم لا ـ فالأكثر
على قبولها ؛ لأنّ العدل روى رواية ولم يكذّبه الأصل ؛ فيجب قبولها. وسكوت الأصل
لا ينافيه ، كما إذا مات أو جنّ.
احتجّ الخصم بأنّه
لو جاز ذلك في الرواية لجاز في الشهادة أيضا ، واللازم منتف قطعا .
والجواب : أنّ باب
الشهادة أضيق ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم .
وبأنّه لو جاز ذلك
لجاز للحاكم العمل بحكمه إذا نسيه وشهد به شاهدان.
واجيب بالتزامه.
هذا ، والظاهر أنّ
الأصل لو قال : ظنّي أنّه ما رويته ، لكان حكمه كذلك إذا جزم الفرع بروايته عنه ؛
لتأتّي ما ذكر فيه أيضا.
نعم ، إن كان
الفرع أيضا ظانّا في روايته عنه ، أو شاكّا ، أو كان كلاهما شاكّين ، سقطت روايته
؛ لتعارض كلّ واحد من الظنّ والشكّ بمثله ، ويبقى أصل العدم سالما.
والضابط : أنّه إن
تعادل قولهما أو ترجّح قول الأصل ، وجب الردّ ، وإلاّ القبول. ووجهه ظهر ممّا ذكر
سابقا ولا حقا.
فصل [٢٢]
قد يوجد في الرواة
من لم يذكر في كتب الرجال بجرح ولا تعديل ، ولكنّ مشايخنا المتقدّمين قد أكثروا
الرواية عنهم ، واعتنوا بشأنهم ، وفقهاؤنا المتأخّرون حكموا بصحّة أخبارهم في
أسانيدها ، نحو أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن
__________________
أبان ، وأحمد بن
محمّد بن الحسن بن الوليد وأمثالهم.
ومن هذا شأنه تعدّ
أخباره من الصحاح ويعمل بها ؛ لأنّ الظاهر أنّ عدم تعرّضهم لتعديلهم ؛ لعدم
افتقارهم إليه ؛ لاشتهار حالهم بينهم في العدالة والجلالة. وهذا إنّما هو فيمن كثر
الرواية عنه والاعتناء بشأنه بحيث صار معروفا مشهورا كالجماعة المذكورين.
وأمّا من لم
يتحقّق فيه ذلك ولكنّه روى عنه بعض مشايخنا الثقات في بعض الأحيان ، كجعفر بن
محمّد بن إبراهيم بن عبد الله الموسوي ـ الذي يروي عنه ابن قولويه وبعض مشايخ
الكليني والصدوق ـ ، فليس بهذه المثابة ، بل يدلّ ذلك على مجرّد كونه من مشايخ
الإجازة ، وهو لا يفيد سوى الحسن ، كما تقدّم .
وقد يوجد فيهم من
لم ينصّ عليه بالتوثيق ، ولكنّه كثر عليه الثناء والمدح ، كاويس القرني ، وثعلبة
بن ميمون ، ومعلّى بن خنيس ، وعبد الله بن يحيى الكاهلي ونظرائهم ، والظاهر حصول
الظنّ بصحّة أخبارهم.
وفيهم جماعة أجمع
الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وهم معروفون . وهذه العبارة
تحتمل معنيين :
أحدهما : أنّ كلّ
خبر اتّصل سنده بأحد هؤلاء وكان السند إليه صحيحا ، فهو صحيح يجوز إسناده إلى المعصوم وإن لم يعلم عدالة من يروي هو عنه ، حتّى لو كان فاسقا أو
مجهولا ، كان ما نقله صحيحا منسوبا إلى المعصوم. وعلى هذا تكون مراسيلهم مقبولة.
وثانيهما : أنّ
كلّ خبر اتّصل سنده إلى أحدهم وهو أسنده إلى غيره ، فهو صحيح إن لم يعرض بعد ذلك
مانع. والمطلوب أنّه في إسناده الحديث إلى الغير صادق ، فإن قال : « عن فلان » أو
« سمعت عنه » أو « رويته عنه » فهو في ذلك صادق ، فهي كناية عن تحقّق الإجماع على عدالة
هؤلاء ووثاقتهم ، بمعنى أنّه لو كان أحد هؤلاء في طريق رواية
__________________
ولم يوجد مانع من
غير جهته ـ قبل وبعد ـ كانت الرواية صحيحة. وهذا لا يوجب تصحيح الحديث مع الإرسال.
ولا يخفى أنّ
المعنى الأوّل أظهر من هذه العبارة ، إلاّ أنّ الثاني لمّا كان محتملا ، لا يمكن
الحكم بصحّة مراسيلهم وما في معناها.
فصل [٢٣]
راوي الحديث لا
بدّ له من مستند يصحّ لأجله الرواية. فإن روى عن المعصوم نفسه ، فمستنده السماع
بأن يقول : « سمعته » أو « حدّثني » أو « أخبرني » ، ونحوه ، وحينئذ يجب قبوله
وفاقا.
وإن قال : « سمعته
أمر بكذا » أو « نهى عن كذا » فيجب قبوله أيضا عند الأكثر ؛ لأنّه ظاهر في سماع ما
هو الأمر في نفس الأمر.
والقول : بأنّه
يحتمل أن يكون استمع صيغة فاعتقد أنّها أمر أو نهي مع عدم اعتقاد غيره ذلك ،
كما إذا كان معتقدا بأنّ الأمر يدلّ على النهي عن ضدّه مطلقا ، أو بالعكس ، فربما
سمع من المعصوم صيغة فأخبر بأنّه أمر أو نهى مع أنّ الأكثر لا يراه أمرا ونهيا ،
فهو بالإطلاق ليس بحجّة ، ضعيف ؛ لأنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بدليل.
وإن قال : « قال
المعصوم كذا » ، فالحقّ أن يحمل على أنّه سمعه منه بلا واسطة ، فيكون حجّة ،
وإمكان حمله على أنّه سمعه منه بواسطة ـ كما قيل ـ خلاف الظاهر.
وإذا قال : « امرنا
بكذا » أو « نهينا عن كذا » أو « اوجب كذا » أو « حرّم كذا » أو « ابيح كذا » ـ وبالجملة
، بيّن الأحكام بصيغة ما لم يسمّ فاعله ـ فالحقّ كونه حجّة ؛ لأنّ الظاهر أنّ
المعصوم هو الآمر ، والناهي ، والموجب ، والمحرّم ، والمبيح. واحتمال كونه غيره
بعيد.
__________________
وإذا قال : « من
السنّة كذا » أو « كنّا نفعل كذا » أو « كانوا يفعلون كذا » فقد ظهر حكمه فيما
تقدّم .
[ طرق تحمّل الحديث ]
وإن روى عن غير
المعصوم ، فلمستنده وجوه ثمانية ، وهي طرق التحمّل للحديث في أمثال هذا الزمان :
أوّلها
: السماع من الشيخ ، سواء
كان بإملائه من حفظه ، أو بقراءته في كتابه. وهو أعلى الطرق على الأقوى ؛ لأنّ
الشيخ أعرف بوجوه تأدية الحديث وضبطه ، ولأنّه خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وسفيره ، والآخذ منه كالآخذ منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ ولأنّ السامع أوعى قلبا وأجمع فكرا ، وتوزّعه للقارئ.
والدالّ عليه قول
الراوي : « سمعته » أو « حدّثنا » أو « أخبرنا » إن قصد سماعه ، ولو لم يقصد ذلك يقول : « حدّث » أو « أخبر » ، ولا يضيفه إلى نفسه ؛ لأنّه
يدلّ على القصد.
وقد شاع بين
المتأخّرين تخصيص الأخير بالقراءة على الشيخ ، كما شاع بينهم تخصيص « أنبأنا » و «
نبّأنا » بالإجازة .
ويدلّ عليه أيضا «
قال » مطلقا ، أو بزيادة لفظة « لي » أو « لنا ». واحتمال دلالته على السماع
بالواسطة قد عرفت ضعفه .
وثانيها
: القراءة على الشيخ ، بشرط
أن لا ينكر عليه ، وعلم منه الاعتراف بمضمونه إمّا بتصريحه والإقرار به ، أو من
سكوته وانضمام القرائن المفيدة ، ولم يوجد أمر يوجب السكوت ، كالغفلة ، والإكراه ،
أو غيرهما ، وتسمّى عرضا.
__________________
والحقّ أنّه حجّة
معمول به ؛ لأنّه يفهم منه اعتراف العدل به ، فهو في حكم قراءته ، إلاّ أنّ نفسه أرجح لما ذكر ، ولصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام .
ويقول الراوي حينئذ
: « قرأت على فلان وقد أقرّ به » ، أو « أخبرنا » أو « حدّثنا قراءة عليه » وبدون القيد أيضا على رأي جماعة ، سيّما الأوّل.
ومنعه آخرون ؛ لأنّ المتبادر منهما عند الإطلاق تحديث الشيخ بلفظه ،
وسماعه منه .
والحقّ جوازه ؛
لأنّا سلّمنا أنّ المعنى الحقيقيّ لهذين اللفظين ما ذكر ، إلاّ أنّه يمكن إرادة
المعنى المجازي أيضا وهو الاعتراف بما قرأه عليه ، فإنّه يشابه الحقيقي في المعنى.
ونظيره جواز
الشهادة بالبيع في صورة سماع لفظة « بعت » من البائع ، وفي صورة قراءة كتاب البيع
عليه والاعتراف بمضمونه ، وإن لم يسمع منه هذه اللفظة.
ثمّ جواز
استعمالهما فيه مقيّدين بقوله : « قراءة عليه » ممّا اتّفق عليه أهل
الحديث ، إلاّ المرتضى ، فإنّه منعه في الذريعة ؛ حيث قال فيها :
|
وأمّا قول بعضهم
: يجب أن يقول : حدّثني قراءة عليه حتّى يزول الإبهام ، ويعلم أنّ لفظة « حدّثني
» ليست على ظاهرها ، فمناقضة ؛ لأنّ قوله : « حدّثني » يقتضي أنّه سمعه من لفظه
وأدرك نطقه به ، وقوله « قراءة عليه » يقتضي نقيض ذلك ، فكأنّه نفى ما أثبت .
|
ولا يخفى ما فيه ؛
فإنّ انضمام لفظ إلى آخر يعيّن إرادة المعنى المجازي أمر شائع ، ولو
__________________
لم يجز ذلك لزم
سدّ أبواب المجاز. فالحقّ ما ذهب إليه الأكثر.
وإن قرأه غيره على
الشيخ بحضوره ، فهو كقراءته ، والعبارة عنه « قرئ عليه وأنا أسمع فأقرّ به ».
وكلّ واحد من
السماع والقراءة على الشيخ إمّا أن يكون مجرّدا عن الإجازة ، أو مقرونا بها ، وإذا
صار مقرونا بها يصير أقوى في الحجّيّة. وكما يجوز التعبير عنه بما ذكر ، يجوز بما
يفيد الإجازة أيضا ، كقوله : « أجازني » أو « أخبرني » أو « حدّثني إجازة ».
وثالثها
: الإجازة ، وحقيقتها عرفا
إخبار إجمالي بامور معلومة ، مضبوطة ، مأمون عليها من الغلط والتصحيف ، ولها صور :
الاولى : أن يقول
الشيخ لمعيّن : « أجزت لك أن تروي ما قرأت عليك » ، وهذه إجازة اقترنت السماع.
الثانية : أن يقول
له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما قرأت عليّ » أو « ما قرأ غيرك عليّ بحضورك » ، وقد
عرفت حالهما ، وهي إجازة اقترنت للقراءة على الشيخ.
الثالثة : أن يقول
له : « أجزت لك أن تروي عنّي الكتاب الفلاني » ، وهذه إجازة معيّن لمعيّن.
الرابعة : أن يقول
له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما صحّ عندك أنّه من مسموعاتي » ، وهذه إجازة غير
معيّن لمعيّن.
وهاتان الصورتان
من الإجازة المجرّدة ؛ لعدم اقترانهما للمراتب الأخر.
وقد تقترن
المناولة والكتابة ، وستعرفها بصورها وحكمها عند ذكرهما .
ولا يختلف الحكم
إذا ضمّ الشيخ إلى المجاز له المخاطب في الصورة المذكورة واحدا أو متعدّدا متعيّنين ، كأن يقول : « أجزت لك ولغيرك فلان
وفلان وفلان » من الموجودين المعيّنين .
__________________
ثمّ الظاهر عدم
الخلاف بيننا في جواز الرواية بالإجازة إذا تحقّقت في إحدى الصور المذكورة ، ووجوب
قبولها والعمل بها إذا نقل المجاز له إلى غيره.
والقول بنفيه
مطلقا ممّا نسب إلى بعض العامّة ، وهو ضعيف ؛ لأنّك عرفت أنّ الإجازة إخبار إجماليّ ـ إلى آخره ـ وما هذا شأنه لا مجال للتوقّف في قبوله.
وربما نسب القول
بالنفي إلى المرتضى أيضا ؛ لما يوهمه كلامه في الذريعة .
وهو لا يدلّ على
ذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.
الخامسة : أن يقول
: « أجزت الكتاب الفلاني » أو « مسموعاتي لجميع الامّة الموجودين » ، وهذه إجازة
معيّن أو غير معيّن لغير معيّن ، وقد وقع فيها الخلاف.
والحقّ ـ كما ذهب
إليه أعاظم علمائنا ـ قبولها وكونها كالصور المتقدّمة ؛ لأنّها مثل الإجازة للموجودين
المعيّنين ؛ إذ العامّ في حكم الأفراد ، ولا فرق بينهما إلاّ بالاختصار
والتطويل. فلو أجازه لغير العامّ المبهم كأن يقول : « أجزت لرجل » أو « رجلين » أو
« لزيد » وكان مشتركا بين جماعة لم يصحّ. ولو كان المجاز له واحدا يعرفه المجيز
باسم أو وجه ، أو جماعة كذلك ، صحّ وإن لم يعرفهم بأعيانهم.
والتعليق في
الإجازة مبطل ؛ لاستلزام الإبهام ، كأن يقول : « أجزت لمن يشاء فلان ».
ولو كانت الإجازة
في قوّة المطلقة ، فالظاهر صحّتها ، نحو : « أجزت لفلان إن شاء الإجازة » أو « لمن
شاء الإجازة » ؛ لأنّ ذلك ليس تعليقا حقيقيّا ، بل حكاية حال.
وتصحّ لغير
المميّز من المجانين والأطفال. وقد أجاز بعض مشايخنا لأولاده الصغار ،
__________________
وبعضهم استجاز من
مشايخه لأطفاله .
والظاهر صحّتها
للحمل أيضا وإن لم ينفصل ، وإن وقع فيه الخلاف. وكذا للفاسق والكافر.
والدليل على
الجميع : أنّ الغرض من الإجازة ترتّب فائدة عليها ، وهي صحّة الرواية. وهو مشروط بالشرائط المعيّنة من الإيمان ، والبلوغ ، والتكليف ، فالإجازة لهؤلاء ليست مطلقة ـ أي بلا اشتراط ـ بل بشرط اتّصافهم في وقت الرواية بالشرائط ؛
لعلم المجيز بأنّه لا يقبل الرواية من الراوي بدونه ، فكلّ واحد من هؤلاء إذا
اتّصف في وقت الرواية بالشرائط ، لا يروي إلاّ إذا علم الإذن له في الرواية ، وبعد
علمه بأنّ الشيخ الفلاني قد أذن له ، فيصحّ روايته كغيره.
ومن هذا يعلم أنّه
يصحّ الإجازة للمعدومين أيضا ، كأن يقول : « أجزت لنسل فلان » أو « لمن يولد من
فلان » إلاّ أنّ المعظم لم يجوّزوها ؛ نظرا إلى أنّ
الإجازة لا تخرج عن الإخبار في الجملة ، وهو لا يعقل للمعدوم ابتداء. وبعضهم أجازها في صورة العطف على الموجود ، كأن يقول : « أجزت لفلان ولمن يولد له »
كالوقف.
وممّا ذكر يظهر
كيفيّة الحال إذا قال : « أجزت لمن أدرك جزءا من حياتي ».
ثمّ إنّه لا خلاف
في جواز التعبير عن الإجازة بقوله : « أنبأني » و « نبّأني » وأمّا التعبير عنها
بقوله : « حدّثني » و « أخبرني » مطلقين أو مقيّدين بقوله : « إجازة » ، فحكمه كما
ذكر في القراءة على الشيخ من غير فرق.
ورابعها
: المناولة ، وهي إمّا
مجرّدة عن الإجازة ، وهي أن يناوله كتابا ، وقال : « هذا سماعي » واقتصر عليه.
والمعظم على عدم
جواز الرواية بها ؛ لعدم إذنه فيها .
__________________
وقيل بجوازها بها
؛ لحصول العلم بكونه مرويّا له ، والإشعار بالإذن .
ولا يخفى أنّه لو
علم منه الإذن جزما في الرواية ، فلا تأمّل في جواز الرواية ؛ لأنّها في حكم
السماع حينئذ ، ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عنه لا حقيقة ، بل مجازا ؛ ووجهه
ظاهر ممّا تقدّم.
وإن لم يعلم منه
الإذن جزما ، فالظاهر عدم اختلاف حكمها فيما ذكر ؛ لأنّا نمنع اشتراط العلم القطعي
بإذنه في صحّة الرواية ، كما في القراءة عليه ؛ لأنّ المناط حصول العلم بكونه
مرويّا له.
وإن لم يكتف بذلك وقيل هناك : القراءة عليه ، والسكوت في معرض النقل عنه
يدلّ على إذنه فيه.
قلنا : يتأتّى هذا
هنا أيضا ؛ لأنّ رفع الكتاب ، والتصريح بأنّه سماعي في معرض النقل عنه يدلّ هنا
على إذنه فيه.
هذا ، ويدلّ على
جواز الرواية بمطلق المناولة رواية أحمد بن عمر الحلاّل عن الرضا عليهالسلام .
وإمّا مقرونة بها ولها صور :
منها : أن يناوله
كتابا وقال : « هذا سماعي » أو « روايتي عن فلان فاروه عنّي » أو « أجزت لك روايته
».
ومنها : أن يقرأ
الشيخ على الطالب حديثا من أوّل المناول وحديثا من وسطه وحديثا من آخره ، ثمّ
يجيزه المجموع ، وهذه أعلى من الاولى. وقد ورد بها الرخصة عن الصادق عليهالسلام في صحيحة عبد الله بن سنان .
ومنها : أن يدفع
الطالب إليه سماعه ، فتأمّله وأعاده إليه ، وقال : « هذا سماعي » أو
__________________
« روايتي فاروه
عنّي » ، وبعضهم سمّى ذلك عرضا ، وقد تقدّم أنّ القراءة عليه
تسمّى عرضا. فالأولى أن يسمّى ذلك عرض المناولة.
والحقّ حجّيّة
جميعها وجواز الرواية بها ، وكلّ واحد منها أعلى وأقوى من الإجازة المجرّدة ؛
ووجهه ظاهر. ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن الإجازة.
وخامسها
: الكتابة ، وهي أن يكتب
مسموعه لغائب أو حاضر بخطّه. أو يأذن لثقة أن يكتبه ، أو كتب : « أنّ الكتاب
الفلانيّ سماعي ». فإن اقتصر على ذلك ، كان كتابة مجرّدة عن الإجازة. وإن زاد عليه
« اروه عنّي » أو « أجزت لك روايته » أو كتب : « أجزت لك أن تروي ما صحّ عندك أنّه
من مسموعاتي » كان كتابة مقرونة بها.
والثانية
كالمناولة المقرونة بها قوّة وصحّة ، بشرط معرفة الخطّ والأمن من التزوير ، وإن
اقيم البيّنة عليه صارت أقوى.
والاولى قد اختلف
في جواز الرواية بها. والحقّ الجواز بشرط معرفة الخطّ ، وأمن التزوير ؛ لما تقدّم ، ولفعل النبيّ والأئمّة عليهمالسلام وأصحابهم . والتعبير عنها
بقوله : « كتب إليّ فلان » أو « أخبرنا » أو « حدّثنا مكاتبة ».
فائدة : الكتابة ـ وإن صحّت ـ لا تساوي السماع ، بل هو أرجح منها
، ووجهه ظاهر ، فيرجّح ما روي به على ما روي بها مع تساويهما في الصحّة وغيرها من
المرجّحات.
وسادسها
: الإعلام ، وهو أن يعلم
الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب أو الحديث سماعه مقتصرا عليه. وجليّة الحال فيه ظاهرة
عليك بعد الإحاطة بما تقدّم.
وسابعها
: الوصيّة ، وهي أن يوصي
لرجل عند موته ، أو سفره بكتاب يرويه. والظاهر
__________________
عدم حجّيّتها ،
وعدم جواز الرواية بها ؛ لبعدها عن الإذن.
وثامنها
: الوجادة ، وهي أن يجد شخص
روايات بخطّ راويها ، سواء كان معاصرا له أو لا. فله حينئذ أن يقول : « وجدت » أو
« قرأت بخطّ فلان » أو « في كتابه عن فلان » ويسوق باقي الأسناد والمتن بشرط أن
يثق بأنّه خطّه. وإن لم يثق يقول : « وجدت في كتاب ظننت » أو « ذكر كاتبه أنّه
بخطّ فلان » وأمثال ذلك.
ولا يجوز التعبير
عنها بقوله : « عن فلان » أو « قال فلان » أو « حدّثني » أو « أخبرني فلان » مطلقا
ـ أي في صورة الوثوق وعدمه ـ لأنّ ذلك تدليس محرّم.
ثمّ إن اقترنت
بالإجازة وعلم كونه من خطّه ومرويّا له ، فلا إشكال في صحّة الرواية والعمل بها ،
ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن مطلق الإجازة.
وإن لم تقترن بها
ولم يثق بكونه من خطّه ، فلا خلاف في منع الرواية بها ، وعدم جواز العمل بها. وإن
وثق بذلك ، ففيه خلاف. ولعلّك تعرف حقيقة الحال فيها ممّا تقدّم. وقد دلّ على
الجواز رواية شينولة عن الجواد عليهالسلام .
اعلم أنّ جميع
الطرق المذكورة مشتركة في إفادة بقاء اتّصال الإسناد إلى المعصوم عليهالسلام ـ وهو أمر مطلوب للتيمّن ـ وصحّة العمل فيما لم يكن متعلّقها متواترا ، كبعض
الكتب غير المتواترة عن مصنّفيها. وأمّا إذا كان متعلّقها متواترا ، نحو كتبنا
الأربعة ، فلا يظهر لها فائدة بالنسبة إلى العمل.
نعم ، يترتّب على
السماع والقراءة فائدة التصحيح ، والأمن من الغلط والتصحيف ، ومعرفة بعض
اصطلاحاتهم عليهمالسلام ، وغيرها ، فهي تزيد وجه الحاجة إليهما.
فصل [٢٤]
قد تقدّم أنّ فعل المعصوم عليهالسلام من السنّة ، فهو حجّة تشترك الامّة معه فيه ، وهو معنى
التأسّي به. ثمّ كلّ فعله ليس ممّا يشترك فيه الامّة معه ، وما اشتركت فيه معه ليس
كلّه ممّا يجب
__________________
عليهم التأسّي به
فيه ، بل التأسّي في بعضه يكون واجبا ، وفي بعضه ندبا ، وفي بعضه مباحا ، كما
سيجيء تفصيله .
وقبل الخوض فيه لا
بدّ من بيان مقدّمة. وهي أنّ التأسّي في الفعل هو أن يفعل صورة ما فعل الغير على
الوجه الذي فعله لأجل أنّه فعل. وفي الترك هو أن يترك مثل الذي ترك لأجل أنّه ترك.
والاتّباع قد يكون
في الفعل والترك وهو مثل التأسّي. وقد يكون في القول وهو امتثال ما يقتضيه من
الفعل والترك.
وقد وقع الخلاف في
أنّ الحكم بثبوت التأسّي به هل هو شرعي فقط ، أو شرعي وعقلي معا؟ والظاهر الأوّل ،
وفاقا للشيخ وجماعة ؛ لأنّه يجوز اختلاف مصالح العباد في الشرعيّات ، كاختلاف
حكم الفقير والغنيّ ، والحائض والطاهر ، والحاضر والمسافر ، والصحيح والعليل ،
وغير ذلك ممّا لا يحصى. وإذا جاز ذلك ، فلا يمتنع أن يكون مصالح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصيائه عليهمالسلام مخالفة لمصالح الرعيّة ، فلا يحكم العقل بثبوت التأسّي.
واحتجاج الخصم
بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث ليبيّن الشرائع للامّة قولا أو فعلا ، فكلّ ما صدر منه
يشترك فيه جميع الناس ، يظهر فساده ممّا ذكر. فظهر أنّ إثبات كون الامّة مثله
فيما يجري فيه التأسّي موكول إلى السمع.
وإذا عرفت ذلك ،
فلا بدّ من بيان الصور المتصوّرة في أفعاله ، والإشارة إلى أنّ أيّ صورة يجري فيها التأسّي سمعا وجوبا أو ندبا ، وأيّها لا يجري فيها.
فنقول : أفعاله عليهالسلام لا تخلو عن ثمانية صور :
[
الصورة ] الاولى : ما ظهر كونه من الأفعال الطبيعيّة ، كالأكل والشرب ، والنوم
__________________
واليقظة ، والحركة
والسكون ، والقيام والقعود وأمثالها ، ولا ريب في إباحته له عليهالسلام ولجميع الامّة ولا خلاف فيه.
[
الصورة ] الثانية : ما علم اختصاص النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم به ، سواء كان عبادة ، كوجوب التهجّد ، والوتر ، وجواز
الوصال في الصوم ، أو غيرها ، كالمشاورة ، والزيادة على الأربع ، وتخيير نسائه فيه
، وغير ذلك من خواصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولا خلاف فيه أيضا بأنّه لا يشاركه غيره.
[
الصورة ] الثالثة : ما علم جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة. والحقّ ثبوت التأسّي فيه. فإن
علم وجوبه عليه ، يكون التأسّي به واجبا. وإن علم استحبابه عليه ، يكون ندبا. وإن
علم إباحته له ، يكون مباحا.
وبالجملة ، تكون
الأمّة مثله فيه ، وفاقا لأكثر المحقّقين ، وخلافا لمن ذهب إلى أنّه مطلقا ، أو إذا كان غير عبادة ، كما لم يعلم جهته . وقد جنح المحقّق إلى الشقّ الأوّل وتوقّف فيه ؛
لتوقّفه فيما لم يعلم جهته.
لنا : قوله تعالى
: ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) أي يؤمن بالله واليوم الآخر ، فيعلم من أصله أنّ التأسّي لازم للإيمان بالله ، ولازم الواجب واجب ، كما يعلم من عكس نقيضه
أنّ عدم الإيمان به لازم لعدم التأسّي ، وملزوم الحرام
حرام.
وأيضا إيقاع الخبر
في مقام الإنشاء للمبالغة في التهديد على ترك التأسّي ، فيكون واجبا.
وقد عرفت أنّه الإتيان بالفعل أو الترك على الوجه الذي فعل أو ترك. فإذا علم وجه
__________________
الفعل أو الترك
يجب الإتيان بمثله.
فإن قيل : على ما
ذكرت تدلّ الآية على عموم وجوب التأسّي ، بمعنى وجوب كلّ ما فعله وعلم وجهه علينا
، ومنه المندوب والمباح ، فيلزم وجوبهما علينا .
قلت : مقتضى الآية
ذلك ، ولكن دلّ الدليل الخارجي على عدم وجوب التأسّي فيهما ، فيخرجان عن عمومها ،
ويكون التأسّي في الندب ندبا ، وفي المباح مباحا.
أو نقول : المفهوم
من الآية مطلق طلب الاسوة الشامل للواجب والمستحبّ ، والذمّ والتهديد باعتبار أحد
جزءيه ، ولا يشمل الاسوة فيها الاسوة في المباح ؛ لأنّ المراد من
الاسوة فيها الاسوة فيما قصد فيه القربة ، كما يدلّ عليه سياقها.
والإيراد المذكور
يرد ظاهرا على جميع ما نذكر ممّا يدلّ على عموم وجوب الاتّباع والتأسّي. وينبغي
الجواب عنه بأحد الوجهين.
وقد أجاب المحقّق عن أصل الاحتجاج بأنّ « الاسوة » ليست من ألفاظ العموم ، فتصدق بالمرّة
الواحدة ، وقد توافقنا على وجوب التأسّي به في بعض الأشياء ، فلعلّ ذلك هو المراد.
ولا يخفى أنّ
العرف يفهم منه وجوب التأسّي به في جميع الامور ؛ فإنّه لا يقال عرفا :
« لفلان اسوة في
فلان » إذا كان تابعا له في أمر واحد.
ولنا أيضا : قوله
تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ ) ، وقوله تعالى : ( فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) ، والأمر للوجوب ، والاتّباع يشمل الاتّباع في القول والفعل. والثاني الإتيان
بالفعل بالوجه الذي فعله ، وهو ما نحن بصدد إثباته ، فثبت منه المطلوب.
والإيراد عليه
بمثل ما اورد على آية الاسوة قد عرفت جوابه بأحد الوجهين.
__________________
والجواب عن
الاستدلال بمثل ما أجاب به المحقّق عن آية الاسوة قد عرفت فساده.
ولنا أيضا : القطع
برجوع الصحابة إلى أفعاله المعلومة جهتها ؛ فإنّهم خلعوا في الصلاة لمّا خلع فيها
، وحلقوا لمّا حلق ، وذبحوا لمّا ذبح ، ولم يتمتّعوا بالعمرة إلى الحجّ لمّا لم
يتمتّع ، مع أنّه أمرهم بذلك ، فأقرّهم عليها ، ولم ينكر عليهم. ومتابعتهم له فيها
لم تكن لمطلق فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل إمّا لأنّها كانت من هيئات الصلاة والحجّ ، واستفادوا
وجوبها من قوله : « صلّوا كما رأيتموني » وقوله : « خذوا
عنّي مناسككم » . أو لأنّهم فهموا القربة فيها فرأوها مندوبة لا واجبة.
وسيجيء أنّ الفعل إذا كان بيانا للمجمل الواجب واجب ، وكلّ فعل
ظهر فيه قصد القربة يكون ندبا على الأصحّ.
وقبّل عمر الحجر ،
وقال : أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول الله قبّلك ما
قبّلتك .
ورجعوا في وجوب
الغسل وعدمه بالتقاء الختانين إلى عائشة ، فقالت : فعلت أنا ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاغتسلنا ، فأوجبوا الغسل بمجرّد فعله. وفهم الوجوب لم يكن من مجرّد
الفعل ، بل إمّا لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل » .
أو لأنّه كان
بيانا لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ، والأمر للوجوب ، فيكون بيانا للواجب.
أو لأنّه من شروط
الصلاة ، فيكون بيانا لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « صلّوا كما رأيتموني » .
وسألت أمّ سلمة عن
جواز قبلة الصائم ، فقالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يفعل. فقال السائل :
__________________
إنّ الله غفر
لنبيّه ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وليس سبيله سبيل غيره؟ فأخبرت رسول الله صلىاللهعليهوآله فأنكر ذلك ، وقال : « إنّي أرجو أن أكون أخشاكم » .
ولا ريب أنّ جهة
الفعل هنا كانت ظاهرة ؛ لأنّه لا يتحمّل سوى الإباحة.
ولنا أيضا : قوله
تعالى : ( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ ) ، ولو لا تشريك الامّة معه ، لما أدّى تزويجه إلى ذلك.
لا يقال :
الاحتجاج به يتوقّف على العلم بوجه تزويجه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الوجوب والندب والإباحة ، ولا يعلم ذلك منه ؛ لأنّ نفي الحرج عن فعل يحتمل الأحكام الثلاثة ـ مع عدم التعرّض لإثبات الوجوب
والندب ـ يقتضي إباحته ، فوجه تزويجه يكون معلوما ، وهو الإباحة.
وأيضا لا ريب أنّه
يفهم منه التشريك ، وهو يقتضي أن يفعل الامّة مثل فعله ؛ إذ لا معنى لتشريك الله
العباد لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في فعل إلاّ أن يطلب منهم الفعل على الوجه الذي طلب منه ،
وبه يثبت المطلوب.
وقد احتجّ بعض من
وافقنا بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ، والأمر يطلق بالاشتراك على الفعل والقول.
وبقوله : ( أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، والإطاعة كما تتحقّق بامتثال القول ، فكذا تتحقّق بالتأسّي في فعله ،
والأمر للوجوب.
وبقوله : ( وَما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، وما فعله فقد آتانا ، والأمر للوجوب.
والحقّ : أنّ
الاحتجاج بها لا يتمّ ؛ لأنّه يمكن الجواب عن الأوّل بعدم تسليم الاشتراك ،
__________________
بل هو حقيقة في
القول ، مجاز في الفعل ، كما ثبت في محلّه.
والقول بأنّه وإن
سلّم الاشتراك لكنّ المشترك لا يحمل على كلا معنييه ، ضعيف عندنا ؛ لما تقدّم في موضعه .
وعن الثاني : بأنّ
الإطاعة لا تكون إلاّ بفعل ما أمر به ، وليس للفعل مدخليّة في ذلك إلاّ أن يقترن
به قول يقتضي التأسّي به.
و [ الجواب ] عن
الثالث : بأنّ المتبادر من ( ما آتاكُمُ ) ما أمركم به
بقرينة قوله : ( وَما نَهاكُمْ ).
هذا ، واحتجّ
الخصم ، بأنّه لمّا جاز اختلاف تكليف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والامّة ، وعلم اختصاصه صلىاللهعليهوآلهوسلم بخصائص لا يشترك فيها غيره ، فكلّ ما فعله يحتمل أن يكون
منها وإن علم جهته بالنسبة إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيكون حكمه بالنسبة إلينا كما لم يعلم جهته.
وجوابه : أنّ هذا
الجواز بالنظر إلى العقل. وأمّا السمع ، فقد دلّ على عموم ثبوت التأسّي به ،
واشتراك الامّة معه فيما يفعله إذا علم وجهه ـ كما ذكر ـ خرج ما صرّح باختصاصه صلىاللهعليهوآلهوسلم به ، ويبقى الباقي داخلا فيه ، ولو لا ذلك لزم طرح جميع النصوص المذكورة ،
وهو باطل.
ثمّ إنّ النصوص
المذكورة كما تدلّ على ثبوت التأسّي واشتراك الامّة معه في الفعل المعلوم جهته من
الوجوب والاستحباب ، تدلّ عليه في ترك الفعل [ المعلوم ] صفته من الحرمة والكراهة ، فكلّ ترك صدر منه وعلم أنّ فعله حرام أو مكروه ،
فالامّة مثله في ذلك.
وإذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ الفروع لهذه الصورة كثيرة ، كالحكم باستحباب التباعد عن الناس بحيث لا
يرى عند التخلّي ؛ تأسّيا بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ير قطّ على بول ولا غائط ، وقد علم بالقرائن أنّ التباعد بهذا النحو لم يكن واجبا عليه صلىاللهعليهوآله.
وبكراهة استصحاب
ما عليه اسم الله ، كخاتم ومصحف عنده ؛ لوضع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتمه
__________________
عند التخلّي ، وقد علم بالقرائن أنّ الاستصحاب المذكور لم يكن حراما عليه. وقس عليهما
أمثالهما.
[
الصورة ] الرابعة : ما كان بيانا لمجمل ، وعلم جهته من الوجوب والندب ، وحكمه في الجهة حكم
المبيّن. فإنّه إذا علم وجوب شيء بالإجمال ، أو استحبابه ، ولم يعلم الكيفيّة ،
يلزم التوقّف حتّى يعلم بيانها من الشارع. وبعد بيانها منه قولا أو فعلا يلزم أن
يكون حكمه حكم المبيّن ، إن عامّا فعامّا وإن خاصّا فخاصّا ، وإلاّ خرج المجمل عن
جهته.
[ الصورة
] الخامسة : أن يكون بيانا
لمجمل مركّب علم أنّ بعض أجزائه واجب وبعضها مستحبّ. وحينئذ فكلّ جزء علم وجوبه أو
استحبابه ، فيحكم به. وإن تردّد فيهما ، فيكون حكمه حكم ما لم يعلم جهته ، كما
يأتي .
ثمّ الأفعال التي
تقع في مقام البيان ، فما كان منها مستحدثا لم يكن المعصوم عليه قبل ذلك يحكم
بأنّه من هيئات المبيّن ، وربما حكم على بعضه بأنّه خارج عنها ، كسرعة ما ، أو بطء
ما في بعض الأفعال ؛ فإنّ العرف يحكم بأنّ السرعة والبطء بهذا النحو الخاصّ ليسا
من الكيفيّة. وربما تردّد في بعضها بأنّه منها أم لا ، كالموالاة في الوضوء.
والظاهر عدّه منها إن لم يحكم العرف صريحا بخروجه ؛ لما عرفت . ثمّ معرفة كونه واجبا أو مستحبّا تظهر ممّا يأتي .
وما لم يكن
مستحدثا ، بل كان المعصوم عليه قبل ذلك ، فلا يحكم بدخوله في الكيفيّة إلاّ بدليل
، كالستر في الصلاة.
والفروع لها كثيرة
في أفعال الطهارة ، والصلاة ، والصوم ، والحجّ وغيرها من الواجبات المجملة. وقد
تقدّمت الإشارة إلى بعضها.
__________________
وكيفيّة التفريع
في الجميع ظاهرة عليك.
[
الصورة ] السادسة : أن يكون بيانا لمجمل لم يعلم كونه عادة أو عبادة. أو علم كونه عبادة ولم
يعلم جهته من الوجوب وغيره ، فيكون داخلا تحت ما لم يعلم كونه عبادة أو عادة. أو
ما علم كونه عبادة ولم يعلم جهته ، كما يأتي .
ثمّ معرفة كونه
بيانا إمّا بالقول ، كقوله عليهالسلام : « صلّوا كما رأيتموني » و « خذوا عنّي مناسككم » . أو بالقرينة ، كغسل الوجه واليد على النحو الخاصّ بعد ما
نزل قوله تعالى :
( فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ، وقطع يد السارق من الكوع دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ).
[
الصورة ] السابعة : ما تردّد فيه بين كونه من الجبلّة والعادة ، أو من الشرع والعبادة. فقيل
بالأوّل ؛ لأصالة عدم التشريع. وقيل بالثاني ؛ لأنّه بعث لبيان الشرعيّات ؛ ولعموم أدلّة التأسّي.
والحقّ : أنّه
لمّا كان مردّدا بين العبادة وغيرها ، فيجري فيه الاحتياط ، وهو مستحبّ على الأقوى
في موضع يمكن فيه إجراء أصل البراءة ، كما نحن فيه ، فيلزم أن يكون عبادة مستحبّة.
وما دلّ على عموم ثبوت الاتّباع قد عرفت أنّه يجري في فعل
علم فيه وجهه ، وإن كان الوجوب يكون واجبا ، وإن كان الندب يكون ندبا. وإن سلّم
دلالته على ما نحن فيه ، فلا يفيد أزيد من الاستحباب ، وهو ظاهر. ويتفرّع عليها
امور ذكرها الشهيد :
منها : جلسة
الاستراحة ، وهي ثابتة من فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم . وعلى ما اخترناه يلزم كونها عبادة
__________________
مستحبّة ، مع أنّه
ثبت عندنا بدليل آخر أنّها عبادة. وزعم بعض العامّة أنّها للجبلّة ؛ لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما فعلها بعد ما بدن وحمل اللحم ، ورووا عنه أنّه قال :
« لا تبادروني بالركوع والسجود ... إنّي قد بدّنت » وهذا ينافي ما روي أنّه صلىاللهعليهوآله لم يكن سمينا .
ومنها : دخوله
مكّة من ثنيّة كداء ـ بفتح أوّله مع المدّ ـ وهي الثنيّة العليا ممّا يلي المقابر
، وخروجه من ثنيّة كدى ـ بالضمّ والقصر ـ وهي السفلى ممّا يلي باب العمرة ، فهل
ذلك لأنّه صادف طريقه ، أو لأنّه سنّة؟ وتظهر الفائدة في استحبابه لكلّ داخل. وعلى
ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.
ومنها : نزوله
بالمحصب لمّا نفر في الأخير ، وتعريسه لمّا
بلغ ذا الحليفة ، وذهابه بطريق في العيد ، ورجوعه بآخر .
وبعد ما أحطت بما
ذكر تعرف الحقّ فيها وفي أمثالها.
[
الصورة ] الثامنة : أن يعلم كونه عبادة ـ أي ظهر فيه قصد القربة ـ ولم يعلم جهته ، ففي وجوبه
واستحبابه والتوقّف فيه أقوال ، أوسطها وسطها ؛ لأنّه لمّا ظهر قصد القربة يثبت
الرجحان. والمنع من الترك زيادة لا يثبت إلاّ بدليل ، والأصل عدمها ، والرجحان
بدون المنع من الترك هو الندب ؛ وما ذكر من حكاية الاحتياط يدلّ على ذلك أيضا.
احتجّ الموجب
بالأدلّة الدالّة على عموم وجوب التأسّي ، كما تقدّم .
وقد عرفت أنّ معنى التأسّي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وغاية ما دلّت عليه
__________________
ثبوته وكون الامّة
مثله ، ومجرّد ذلك لا يدلّ على أنّ كلّ فعله واجب علينا ، بل إثبات الوجوب علينا
يتوقّف على العلم بوجوبه عليه ، والمفروض هاهنا خلافه.
واحتجّ أيضا بأنّ
الاحتياط يقتضي حمله على الوجوب ؛ ليأمن الإثم قطعا ، كما في صلاة نسيها ولم
يعلمها بعينها.
وجوابه : أنّ كلّ
احتياط ليس واجبا ، بل موارده مختلفة ، والواجب منه إنّما هو فيما ثبت وجوبه ،
وعلم اشتغال الذمّة به يقينا ، كالصلاة المنسيّة ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم
الثلاثين من رمضان إذا شكّ فيه ؛ إذ الأصل بقاؤه حتّى يعلم المزيل. وأمّا فيما لم
يثبت وجوبه ولم يكن ثبوته هو الأصل ، فليس الاحتياط فيه واجبا ، سيّما إذا كان
ثبوت خلافه هو الأصل كما نحن فيه ، بل الاحتياط حينئذ مستحبّ على الأقوى ، كما
يجيء تحقيقه مفصّلا .
هذا ، ويرد عليه :
أنّه إذا كان اتّباعه في جميع ما فعله ولم يعلم جهته واجبا علينا ، يلزم كون فعل
واحد واجبا وندبا أو مباحا علينا ؛ للقطع بأنّ بعض ما فعله ولم يعلم جهته ندب ، أو
مباح.
والتزام أنّ جميع
ما فعله ممّا لم يعلم جهته فعلى وجه الوجوب ، بعيد عن الحقّ.
واحتجّ المتوقّف
بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يفعل العبادة الواجبة والمستحبّة ، والمفروض عدم
الإشعار للفعل بوجهه الذي وقع عليه ، فيتساوى فيه الاحتمالان ، ومعه يلزم التوقّف .
وقد ظهر جوابه
ممّا ذكر .
وكيفيّة التفريع :
أنّه كان اللازم ـ على ما اخترناه ـ الحكم باستحباب الموالاة في الطهارات الثلاث ،
وفي الطواف والسعي ، وخطبة الجمعة والعيد ، والقيام في الخطبة ، والمبيت بمزدلفة ،
إلاّ أنّ كلّ ذلك ثبت وجوبه عندنا بدليل من خارج ، سوى الموالاة في الغسل ؛ فإنّ
الحكم فيها موافق القاعدة. وقس عليها أمثالها.
__________________
فائدة
طريق معرفة فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه واجب أو ندب أو مباح إمّا نصّه عليهالسلام ، أو أمارة دالّة ، أو كونه بيانا ، أو بدلا لواحد منها.
ويعرف الندب خاصّة
بوجود صفة حسنة فيه مع عدم ما يدلّ على وجوبه.
والمباح خاصّة
بعدم ما يدلّ على مرجوحيّته مع عدم الدلالة على وجوبه وندبه.
والواجب خاصّة
بكون الفعل قبيحا وممنوعا لو لم يكن واجبا ، كالركوع والقيام الزائدين في ركعة
واحدة ؛ فإنّ الزيادة عمدا في الصلاة مبطلة ، فحيث شرعت ـ كما في الكسوف ـ تكون
واجبة.
ويتفرّع عليه وجوب
الختان ؛ لأنّ قطع العضو قبيح ، فمشروعيّته دليل على وجوبه ، وهذا بإطلاقه في
الذكر دون الانثى والخنثى ؛ لأنّه فيها سنّة ، فهو مخالف
للقاعدة بدليل من خارج ، وفيه إن كان واضحا فالحكم واضح ، وإن كان مشكلا فهو مشكل ؛ لتعارض احتمال وجوب ختانه حملا على غيره مع مراعاة القاعدة ، وحرمة
قطع العضو بدون الدلالة الناقلة ، وهي هنا مفقودة.
وممّا يتفرّع عليه
وجوب سجود السهو في الصلاة على قول من أثبته فيها في بعض المواضع .
فصل [٢٥]
لا تعارض بين
فعليه صلىاللهعليهوآله وإن تناقض حكمهما ، كالصوم في يوم ، والإفطار في آخر ؛
لإمكان الوجوب في وقت ، والجواز في آخر.
نعم ، إن دلّ دليل
على وجوب تكرير حكم فعل واستمراره ثمّ فعل ما يناقض حكمه
__________________
حكمه ، كان نسخا
لحكم الدليل إن كان دلالته بالنصوصيّة ، أو تخصيصا له إن كان دلالته بالعموم ، لا
لحكم الفعل ، أمّا بالنظر إلى الماضي ، فلأنّ رفع ما وجد محال ، وأمّا بالنظر إلى
الاستقبال ؛ فلأنّه لا يقتضي التكرير.
ثمّ وجوب التكرير
إن كان له صلىاللهعليهوآله وللامّة معا أو للامّة فقط ، فتحقّق النسخ أو التخصيص
يتوقّف على وجود الدلالة على وجوب التأسّي به في الفعل الثاني ، وإلاّ لم يتحقّق
التعارض في حقّ الامّة. وإن كان له فقط ، فيكون الفعل الثاني ناسخا ، أو مخصّصا
مطلقا .
ولو وقع التعارض
بين فعله وقوله ، فله ستّ وثلاثون صورة ـ لم يقع في بعضها التعارض حقيقة كما تعلم ـ لأنّه إمّا يتقدّم الفعل ، أو يتأخّر ، أو يجهل الحال ، وهذه ثلاثة أنواع ،
وفي كلّ منها إمّا أن يدلّ دليل على تكرير الفعل واستمراره ، وعلى وجوب تأسّي
الأمّة به ، أو لا يدلّ عليهما ، أو يدلّ على أحدهما فقط ، فيشتمل كلّ منها على أربعة أصناف ؛ فيحصل اثنا عشر صنفا ، وفي كلّ منها إمّا يختصّ القول به ،
أو بالامّة ، أو يعمّهما ، فيشتمل كلّ منها على ثلاث صور
شخصيّة ؛ فيحصل ستّ وثلاثون صورة شخصيّة ، هو مضروب الاثني عشر في الثلاث.
وبملاحظة كلّ نوع مع أصنافه الأربعة ـ الملحوظ كلّ واحد منها مع صوره الثلاث
الشخصيّة ـ يحصل اثنتا عشرة صورة شخصيّة ، وها هي كما نذكره :
النوع
الأوّل : أن يتقدّم
الفعل ، وأصنافه أربعة :
[
الصنف ] الأوّل : أن لا يوجد دليل على التكرير ، ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة ثلاث
:
أن يكون القول
مختصّا به صلىاللهعليهوآله ، كأن يفعل فعلا ثمّ يقول : « لا يجوز لي هذا الفعل ». وحينئذ
لا تعارض ؛ لأنّ القول في هذا الوقت لا تعلّق له بالفعل في الزمان الماضي ؛ إذ
حكمه يختصّ بما بعده ، ولا في المستقبل ؛ إذ لا حكم للفعل بالنظر إليه ؛ لأنّ
المفروض عدم التكرير.
__________________
وأن يكون مختصّا
بالامّة ، ولا تعارض أيضا ؛ لأنّ القول يختصّ بالامّة ، والفعل به عليهالسلام بفرض عدم وجوب التأسّي ، فلم يتواردا على محلّ واحد.
وأن يعمّهما ،
وحكمه كما تقدّم من عدم التعارض في حقّه وفي حقّهم.
[
الصنف ] الثاني : أن يدلّ دليل على تكرار الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة أيضا
ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به ، فلا يتحقّق تعارض في حقّ الامّة أصلا ، وفي حقّه فالقول ناسخ لحكم
الدليل حقيقة ـ لا لحكم الفعل كما عرفت ـ إن كان دلالته
بالنصوصيّة ، ومخصّص له إن كان دلالته بالعموم.
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون ناسخا أو مخصّصا ، كما ذكر.
وأن يكون عامّا
لهما ، فيكون ناسخا أو مخصّصا في حقّهما. ووجهه ظاهر.
[
الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه ، ولا مدخليّة للامّة فيه ؛ لعدم ثبوت
حكم الفعل في حقّهم.
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، فلا تعارض حينئذ أصلا. ووجهه ظاهر.
وأن يكون عامّا
لهما ، ولا تعارض في حقّ الامّة ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه.
[
الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به ؛ وأن يكون خاصّا بالامّة ؛ وأن يتناولهما.
ولا تعارض في هذه
الصور أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّ الامّة ؛ لما تقدّم في الصورة الاولى من الصنف
الأوّل. هذا إذا تقدّم التأسّي على القول ، وإن تأخّر عنه فيتحقّق في حقّ
__________________
الامّة التعارض
عند تناول القول لهم خصوصا أو عموما ، فيكون القول ناسخا.
النوع
الثاني : أن يتأخّر
الفعل ، وأصنافه أيضا أربعة :
[
الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار والدوام والفعل ، ولا على وجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة ثلاث :
[ الاولى : ] أن
يكون القول مختصّا به ، مثل أن يقول : « يجب عليّ الكفّ عن هذا الفعل في وقت كذا »
ثمّ يفعله فيه ، كان فعله ناسخا لحكم القول. وهو مبنيّ على جواز النسخ قبل التمكّن
من الفعل. ويمكن أن يفرض لهذه الصورة فيما لا يكون جواز النسخ مبنيّا على هذا القول
، وذلك فيما دلّ القول المتقدّم على وجوب الدوام والتكرار
بالنصوصيّة ، مثل أن يقول : « صوم يوم كذا واجب عليّ دائما » ثمّ يفطر فيه بعد
مضيّ سنين ، فيكون نسخا بعد التمكّن من الفعل. وبعد التنصيص على الدوام والتكرار
لا مجال لتوهّم كونه تخصيصا لا نسخا.
نعم ، إن دلّ
القول المتقدّم على التكرير والدوام بالعموم ثمّ فعل ما ينافي حكمه ، كان تخصيصا ،
ولو لم يدلّ القول على الدوام أصلا ، لا بالنصوصيّة ولا بالعموم ، ولا على الوجوب
في وقت معيّن بأن يقول : « يجب عليّ فعل كذا » وفعله في وقت ما ، ثمّ تركه بعد ذلك
، لم يكن ذلك من باب التعارض أصلا. وكذا لو دلّ على الوجوب في وقت معيّن وفعله فيه
ثمّ ترك بعد ذلك.
[ الثانية : ] وأن
يكون مختصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ ؛ لما تقدّم في الصورة الثانية من الصنف الأوّل من النوع الأوّل.
[ الثالثة : ] وأن
يعمّهما ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما ذكر
في الصورة الاولى من هذا الصنف. وتحقّق النسخ في حقّه إنّما إذا كان تناول القول
__________________
له على سبيل
النصوصيّة بأن يقول : « لا يجب عليّ ولا عليكم » ، وأمّا إذا تناوله بالعموم بأن
يقول : « لا يجب على أحد » ، فلا يكون الفعل ناسخا ، بل مخصّصا.
[
الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار في الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره
الشخصيّة أيضا ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به ، ولا معارضة حينئذ في حقّ الامّة بوجه ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا أو
مخصّصا ، كما تقدّم مثله في الصورة الاولى من الصنف الثاني من النوع الأوّل.
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون الفعل ناسخا أو مخصّصا.
وأن يكون عامّا
لهما ، فيكون الفعل ناسخا في حقّهما. ووجهه ظاهر.
[
الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث ،
وهي الاحتمالات الثلاثة للقول ، وحكم كلّ واحد من هذه الثلاثة حكم نظيره من الصور
الثلاث الشخصيّة من الصنف الثالث من النوع الأوّل. ولا فرق إلاّ في أنّ الناسخ
هناك فيما يثبت فيه النسخ كان قولا ، وهنا يكون فعلا.
[
الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة. وفي حقّه يكون الفعل ناسخا على نحو ما
تقدّم في الصورة الاولى من الصنف الأوّل من هذا النوع.
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، ولا تعارض حينئذ في حقّه وهو ظاهر. وفي حقّهم يتحقّق التعارض ، ويكون
الفعل ناسخا.
وأن يكون عامّا
لهما ، ففي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما تقدّم . وكذا في حقّهم.
__________________
النوع
الثالث : أن يجهل الحال
في تقدّم الفعل وتأخّره ، وأصنافه أيضا أربعة :
[
الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا
ثلاث :
أن يكون القول
خاصّا به صلىاللهعليهوآله ، كما إذا علم أنّه صام يوم الخميس ـ مثلا ـ ولم يعلم
بالدليل التكرار ولا وجوب التأسّي به ، وعلم أنّه قال : « لا يجوز لي صوم يوم
الخميس » ولم يعلم أنّ الفعل متقدّم أو القول ، ولا ريب أنّه لا يلزم على الأمّة
العمل بشيء منهما ؛ لفرض عدم وجوب التأسّي عليهم وعدم تعلّق القول بهم.
وأمّا الحكم في
حقّه بكون الفعل ناسخا للقول أو بالعكس ، فتحكّم ؛ لاستواء الاحتمالين عندنا ؛
فالحقّ التوقّف ، مع أنّه لا يتصوّر لهذا البحث فائدة لنا.
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، ولا تعارض حينئذ أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّهم ؛ لاختصاص الفعل به
والقول بهم.
وأن يعمّهما ، ولا
تعارض في حقّ الامّة. وفي حقّه الحقّ التوقّف ، كما ذكر.
[
الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار ووجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :
أن يكون خاصّا به
، والمثال كما ذكر ، إلاّ أنّه علم بالدليل التكرار ووجوب التأسّي ، ولا تعارض في
حقّ الامّة ؛ لوجوب العمل بالفعل عليهم ، وعدم تعلّق القول بهم. وفي حقّه الحقّ
التوقّف ، كما تقدّم .
وأن يكون خاصّا
بالامّة ، والمثال ظاهر ، ولا تعارض حينئذ في حقّه. وأمّا في حقّ الامّة ، ففي
العمل بالفعل ـ أي وجوب الصوم مثلا ـ أو القول ـ أي تركه ـ أو التوقّف ، وعدم
القطع بأحد الطرفين أقوال.
احتجّ العامل
بالفعل بأنّه أقوى في الدلالة على مدلوله من القول ؛ لأنّه يصير بيانا له ، كما
__________________
صار صلاته بيانا
لآية الصلاة ، وحجّه بيانا لآية الحجّ . وكخطوط الهندسة وغيرها من الإشارة تصير بيانا للقول في مقام التعليم إذا لم
يف القول به ، فيستعان بالتخطيط والتشكيل والإشارات والحركات .
ولا يخفى أنّ
القول أيضا يصير بيانا ، بل البيان بالقول أكثر ، مع أنّ رجحان دلالة الفعل لا
يدلّ على تأخّره عن القول.
والقول : بأنّ
دلالته إذا كانت أقوى ينبغي الحكم بكونه متأخّرا ناسخا للقول حتّى يكون الأقوى
رافعا للأضعف دون العكس على ما هو شأن الحكيم ، لا يخفى ضعفه ؛
لأنّ المفروض أنّ كلاّ منهما إن كان متأخّرا يصلح لكونه ناسخا وإن كان أضعف ،
واحتمال التقدّم والتأخّر على السواء ، وكون أحدهما أقوى لا مدخليّة له بالتأخّر.
واحتجّ العامل
بالقول بأنّ دلالته على مدلوله أقوى بوجوه :
منها : أنّ القول
وضع لمدلوله ، فلا يتخلّف عنه. وأمّا الفعل ، فله محامل ، وإنّما يفهم منه في بعض
الأحوال ذلك بقرينة ، فيقع فيه الخطأ كثيرا.
وردّ بأنّ الأفعال
التي هي آثار السخاوة تدلّ عليها دلالة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف ، بخلاف
الأقوال ؛ فإنّ دلالتها وضعيّة قد يتخلّف عنها مدلولها.
ومنها : أنّ القول
يدلّ على الموجود والمعدوم ، والمعقول والمحسوس ، بخلاف الفعل ؛ فإنّه يختصّ
بالموجود المحسوس.
وفيه : أنّ
السخاوة ليست من المحسوسات مع دلالة الأفعال عليها ، بل لا يبعد القول بأنّها تدلّ
على المعدوم أيضا ، كدلالة آثار السخاوة على عدم البخل.
ومنها : أنّ دلالة
القول متّفق عليها ، ودلالة الفعل مختلف فيها ، والمتّفق عليه أولى بالاعتبار.
وضعفه ظاهر.
__________________
والتحقيق : أنّه
لا ريب في تخلّف المدلول عن الدالّ الوضعي في كلام النبيّ وغيره ، كتخلّفه عن
الدالّ الفعلي أيضا. والحكم برجحان دلالة أحدهما بالوجوه المذكورة قد عرفت حاله .
والقول بأنّ فهم
المقصود من دلالة اللفظ أظهر ، وإن جاز فيها تخلّف المدلول عن الدالّ في الخارج
فيكون أقوى ، غير مسلّم ، ومع التسليم لا يصلح مرجّحا للعمل به دون الفعل ، فثبت
أنّ الحكم برجحان دلالة أحدهما لا يخلو عن تعسّف ، مع أنّ ذلك لا يكفي للعمل به
دون الآخر ، كما عرفت .
فالحقّ حينئذ أن
يتوقّف في كلّ موضع جهل التأريخ وحصل فيه التعارض بين الفعل والقول ، سواء كان في
حقّه أو حقّ الامّة ، وكلّ موضع لم يحصل فيه التعارض في حقّ أحدهما أو كليهما ،
فلا اشتباه ؛ لتعيّن العمل بأحدهما دون الآخر ، أو عدم لزوم العمل بشيء منهما.
وهذا هو المعيار في معرفة أحكام الصور المندرجة تحت هذا النوع.
والفرق بين ما وقع
فيه التعارض في حقّه وفي حقّ الامّة ـ بالحكم بالتوقّف في الأوّل ، والعمل بالقول
في الثاني ؛ نظرا إلى أنّا متعبّدون بالعمل ، والتوقّف فيه إبطال للعمل ، ونفي
للتعبّد به بخلاف الأوّل ؛ لعدم تعبّدنا بالعمل فيما هو حقّه عليهالسلام ـ لا يخفى ضعفه.
وبما ذكر يعرف حكم
الصورة الثالثة من هذا الصنف ، وهي أن يكون القول عامّا لهما ؛ فإنّه يتحقّق في
حقّهما التعارض ، ويكون الحكم التوقّف.
[
الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي. وصوره الثلاث الشخصيّة مع
أحكامها ظاهرة.
[
الصنف ] الرابع : عكس الثالث. وحكم صورة الثلاث أيضا ظاهر ممّا تقدّم ، فلا نطيل الكلام
بذكرها.
إذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع لا تخفى عليك. مثلا : نقل أنّه عليهالسلام قام للجنازة وأمر به
__________________
ثمّ قعد . فنقول : هذا من الصورة الثالثة من الصنف الأوّل من النوع الثاني ، فيلزمه
حكمها كما تقدّم .
وروي أنّه عليهالسلام نهى عن استقبال القبلة واستدبارها للبول والغائط ، وجلس لقضاء الحاجة في
البيوت مستقبل بيت المقدس .
وهذا يحتمل أن
يكون كسابقه ؛ نظرا إلى كون النهي متناولا له ولامّته ، وعدم دليل على ثبوت
التأسّي في فعله هذا.
ويحتمل اختصاص
النهي بالامّة ؛ فيتغيّر الصورة ، وفهم ثبوت التأسّي من فعله ؛ فيتغيّر الصنف.
ثمّ الظاهر أنّ
فعله هذا مخصّص لا ناسخ ؛ لأنّ دلالة قوله على حرمة الاستدبار له ولامّته في
البيوت والصحاري ، أو لامّته فقط فيهما بالعموم ، وفعله يدلّ على إباحته في البيوت
لكلّ أحد ، أو له خاصّة فيكون تخصيصا. وإن فرض أنّ فعله يدلّ على إباحته في البيوت
والصحاري معا ، يكون تخصيصا أيضا ؛ نظرا إلى أنّ قوله يدلّ على الدوام بالعموم لا
بالنصوصيّة.
ثمّ اللبيب يتفطّن
ممّا ذكرنا أنّه في كلّ واحد من الصور المذكورة التي يتحقّق فيها التعارض بين
القول والفعل ، يمكن أن يتحقّق التعارض من كلّ وجه بينهما حتّى يكون المتأخّر
ناسخا ، ويمكن أن يتحقّق التعارض من وجه بالعموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه حتّى
يكون أحدهما مخصّصا للآخر ، فتصير الصور أكثر. وفي كلّ صورة من صور النوعين
الأوّلين يمكن أن يتعقّب المتأخّر المتقدّم ، كما إذا قال : « الفعل الفلاني واجب
عليّ في وقت كذا » وتلبّس بضدّه في ذلك الوقت ، وأن يتراخى عنه ، كما إذا قال : «
الفعل الفلاني واجب عليّ أبدا » وبعد مضيّ زمان تركه ، ففي الأوّل لا يتحقّق النسخ
على مذهب من لم يجوّزه قبل الفعل ، وفي الثاني يتحقّق مطلقا. وحينئذ تتضاعف صور
النوعين الأوّلين.
__________________
فائدة
تصرّف المعصوم
تارة بالإمامة ، كالجهاد والتصرّف في بيت المال.
وتارة بالقضاء ،
كفصل الخصومة بين المتخاصمين بالبيّنة ، أو اليمين ، أو الإقرار.
وتارة بالتبليغ ،
وهو الفتوى.
والإمامة رئاسة
عامّة في امور الدين والدنيا.
والقضاء ولاية في
الحكم شرعا لمن له أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنة من
البريّة ، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحقّ. فالإمامة مبدأ القضاء وأعمّ منه ؛
لأنّه بعض أفرادها ، ولها أفراد أخر ، كما اشير إلى بعضها .
والحكم إلزام أحد
المتداعيين فيما ينازعان بما يقتضيه المسائل الاجتهاديّة وغيرها. وعلى هذا فالقضاء
مبدأ الحكم وهو مسبوق بالقضاء ، ولا يمكن تحقّقه بدونه ؛ لاستلزامه الولاية
المذكورة ، ويمكن تحقّقها بدونه ؛ فإنّ من حصل له شرائط الاجتهاد حصل له الولاية
المذكورة ، مع أنّه يمكن أن لا يصدر منه الإلزام المذكور أصلا.
وبالجملة ، القضاء
هو الصفة النفسيّة. والحكم الفعل الخارجي المترتّب عليه. فالصادر من القاضي
والواقع منه في الخارج ليس إلاّ الحكم.
وقد يطلق الحكم
على الولاية المذكورة ، كما يقال : « فلان صاحب الحكم ».
وقد يطلق القضاء
على نفس الإلزام ، وهذا هو المراد في جميع ما ينسب إليه من القضاء بعنوان الصدور.
هذا ، والفتوى ـ كما
عرفت سابقا ـ مجرّد إخبار عن حكم الله في قضيّة خاصّة ، ومنه
جميع تصرّفات المعصوم ، أو نائبه في العبادة.
والفرق بين الحكم
والفتوى إمّا بالحقيقة ، أو بالخواصّ.
أمّا الأوّل فظاهر
؛ لأنّ الحكم إنشاء خاصّ ، والفتوى إخبار.
__________________
وأمّا الثاني
فبوجهين :
أحدهما : أنّ
الحكم لمّا كان غايته قطع المنازعة لا يجوز نقضه لحاكم آخر ، بل يصير أصلا يجب أن
ينفّذه غيره من الحكّام ما لم يخالف دليلا قطعيّا ، والفتوى يجوز نقضه لمفت آخر
إذا خالف ما أدّى إليه اجتهاده ، وللمستفتين إذا لم يقلّدوه.
وثانيهما : أنّ
حجّيّة كلّ حكم إنّما هي لمورده ، فلا تتعدّى إلى مثله وإن لم يتبدّل المتداعيان
فيه ، بل لا بدّ فيه من حكم جديد من هذا الحاكم ، أو غيره.
والفتوى في مورد
يعمّ حجّيّته لمثله وإن تبدّل المستفتي ، فكلّ فتوى يجوز أن يعمل به كلّ من بلغه
إذا كان معتقدا للمفتي وإن لم يكن مستفتيا ، بل سمعه بواسطة أو بدونها ، ولا
يتوقّف على فتوى جديد من هذا المفتي ، أو غيره.
والفرق الأخير
يعمّ مطلق الحكم والفتوى ، سواء كانا من الإمام أو المجتهد. وأمّا الفرق الثاني ، فيختصّ بالحكم والفتوى الصادرين عن المجتهد ؛ لأنّ فتوى الإمام لا يجوز
نقضه كحكمه.
ويلخّص ممّا ذكر
أنّ الحكم لا يجوز نقضه مطلقا . ويشترط وجود حاكم لكلّ متداعيين في كلّ مورد ، ولا يكفي
حكمه في مورد لمثله. والفتوى من الإمام في مورد لا يجوز نقضه ويجب العمل به على
كلّ أحد في مثله ، ومن غيره في مورد يجوز نقضه والعمل به لمن سمعه في مثله بالشرط
المذكور.
ثمّ إنّك قد عرفت أنّهما من مناصب الإمام ، إلاّ أنّ المجتهد لمّا كان نائبا عامّا من قبله
فيتمكّن من التصرّف فيهما وفي كثير آخر من مناصبه ، كالتصرّف في أموال الأيتام
والغائبين ، وغيره ممّا ضبط في كتب الفروع. وقد بقي بعض مناصبه مختصّا به لم يدخل
تحت الإذن العامّ ، كالجهاد وغيره ، ويشترط فيه وجود الإمام ، أو إذنه الخاصّ ،
ولا يجوز لنائبه العامّ التصرّف فيه.
__________________
وإذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ كلّ مورد علم كونه فتوى أو حكما أو منصبا خاصّا بالإمام فيلحقه خواصّه.
وقد وقع الاشتباه في موارد ، فلا بدّ من الإشارة إلى بعضها ؛ ليقاس عليه أمثاله :
منها : قوله صلىاللهعليهوآله لامرأة أبي سفيان حين قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما
يكفيني : « خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف » .
فقيل : هو فتوى
وتبليغ ، فيجوز التقاصّ لكلّ مسلّط بإذن الحاكم وبدون إذنه .
وقيل : حكم ، فلا
يجوز له إلاّ بإذن الحاكم وحكمه .
وقد رجّح الأوّل
بأغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، والمظنون إلحاق المشكوك فيه بالغالب .
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله : « من قتل قتيلا فله سلبه » .
فقيل : تبليغ
فيعمّ .
وقيل : تصرّف
بالإمامة ، فيتوقّف على إذن الإمام .
وهو الأقوى ؛
لظاهر قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) الآية ؛ فإنّه ظاهر في أنّ كلّ ما يصدق عليه الغنيمة [ فهو ] للغانمين ؛ ولأنّ كون السلب للقاتل ربما أدّى إلى اهتمامهم على قتل ذي السلب
دون غيره ، فيختلّ نظام المجاهدة ؛ ولأنّه ربما أفسد القربة المقصودة من الجهاد.
وكونه له باشتراط الإمام لا ينافيه ؛ لأنّه لأجل مصلحة. ولما ذكر ذهب الأكثر
__________________
إلى أنّ ما ذكر من
قوله صلىاللهعليهوآله قضيّة خاصّة ببعض الحروب ، فيكون تصرّفا خاصّا بالإمام.
ومنها : قوله عليهالسلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » .
فقيل : تبليغ
وإفتاء ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء ، ومن أحياه بقصد التملّك يتملّكه ، ولا يتوقّف
على إذن الإمام .
وقيل : تصرّف
بالإمامة ، فلا يجوز الإحياء إلاّ بإذنه .
والأوّل أقوى ؛
لما ذكر من أغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء في زمان الغيبة ،
ولا يتوقّف على إذن الإمام ، ولا على إذن نائبه العامّ. واشتراط إذنه عليهالسلام في زمان حضوره ـ كما ذهب إليه الأكثر ـ لدليل من خارج.
ومنها : لو زوّج
مجتهد امرأة بالمخالف المسلم مثلا ، أو بدون إذن الوليّ ، أو أذن لغيره في تزويجها
كذلك ، فهو حكم ولا يجوز لمجتهد آخر نقضه.
وأمّا إذا قال
بالإطلاق : « يجوز عندي التزويج بالمخالف المسلم » أو « بغير إذن الوليّ » من غير
إلزام ، فهو فتوى يجوز نقضه ، وإذا سمعه مقلّده ففعله فهل يصير لازما ؛ نظرا إلى
أنّه يجوز للمقلّد العمل بفتوى مجتهده ، أو لا ؛ لعدم صدور حكم ، وبدونه يجوز
النقض لمجتهد آخر؟ والظاهر الثاني. وجواز عمل المقلّد بمجرّد التبليغ إنّما هو في
أمر لا يكون للحكم مدخل فيه كالعبادات ، وما نحن فيه ليس كذلك.
ونظيره ما لو قال
مجتهد : « في مال التجارة زكاة » أو « في الميراث خمس » ومجرّد قوله هذا لا يرفع
الخلاف ، بل لغيره من المجتهدين أن يخالفه ؛ ولو سمعه مقلّده فأخذه عنفا ، لا يصير
لازما.
نعم ، لو اتّصل به
أخذ الحاكم ممّن حكم عليه بالوجوب ، يصير لازما ولا يجوز نقضه ؛ لأنّ أخذه للفقراء
حكم باستحقاقهم فلا ينقض.
__________________
فصل [٢٦]
الحقّ أنّه قبل
البعثة لم يكن متعبّدا بشرع أحد ممّن تقدّمه من الأنبياء ، بل كلّ ما تعبّد به
حينئذ كان شرعا له ؛ لأنّه كان يوحى إليه حينئذ بأشياء تخصّه. وكذا بعد البعثة لم
يكن متعبّدا بما لم ينسخ من شرع من تقدّمه.
ولم نعثر على
مخالف من أصحابنا في المقامين إلاّ المرتضى والعلاّمة في
النهاية في المقام الأوّل ، فإنّهما توقّفا فيه.
وقد وقع الخلاف في
المقامين بين الجمهور ، فبعضهم وافقنا فيهما ، وبعضهم خالفنا
فيهما ، وبعضهم وافقنا في أحدهما دون الآخر ، وبعضهم توقّف .
لنا : قوله تعالى
: ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ).
وأنّه لو كان
متعبّدا بشرع غيره للزم أفضليّته عليه صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّ المتبوع أفضل من التابع ، وهو باطل إجماعا. ولقضت
العادة بوقوع مخالطته لأهله ولو وقع لنقل. ولزم وجوب الفحص عليه عن ذلك الشرع ؛
ولو وجب عليه لفعله ، ولو فعله لاشتهر ؛ ولزم وجوب الفحص على الصحابة والتابعين
والمجتهدين ، ووجب علينا تعلّم أحكام ذلك الشرع ، وكلّ ذلك باطل. ولافتخر أهله
بذلك ، ولو افتخر وصل إلينا ولم يصل.
والقول بأنّ هذا
يتمّ لو كان متعبّدا بشرع معيّن ، أمّا إذا كان متعبّدا بما ثبت أنّه شرع فلا يرد ، ضعيف جدّا ؛ لأنّ هذا لا يلائم طريقة أحد من الطوائف.
ولنا أيضا : ما
روي أنّ عمر طالع ورقة من التوراة فغضب عليهالسلام وقال : « لو كان أخي
__________________
موسى حيّا لما
وسعه إلاّ اتّباعي » .
وما روى الجمهور
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا بعث معاذا قال له : « بم تحكم؟ » قال : بكتاب الله ،
قال : « فإن لم تجد؟ » قال : بسنّة رسوله ، قال : « فإن لم تجد؟ » ، قال : أجتهد
رأيي . ولم يذكر رجوعه إلى كتب الأنبياء ، فأقرّه النبيّ صلىاللهعليهوآله على ذلك ودعا له.
وأيضا لو كان
متعبّدا بشريعة غيره لما توقّف في قضيّة ظهار ، والميراث ، والإفك وغيرها على نزول الوحي ؛ لأنّ لها أحكاما ظاهرة في الشرائع
المتقدّمة.
وأكثر هذه الوجوه
يجري في المقامين ، وبعضها يجري في المقام الثاني فقط.
هذا ، وقد أجاب
بعض من خالفنا عن هذه الأدلّة بوجوه ضعيفة فسادها ظاهر لمن له أدنى تأمّل ، ولذلك
لم نذكرها.
واحتجّوا على صحّة
ما ذهبوا إليه بوجوه فاسدة هي بالإعراض عنها حقيق . وما يمكن منها أن يدوّن في الكتاب ما احتجّوا به من رجوعه صلىاللهعليهوآله في معرفة الرجم في الزنى إلى التوراة .
والجواب : أنّ
رجوعه إليه لإقامة الحجّة على من أنكر وجوده فيه.
وقوله تعالى : (
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) ، وشرعهم من هداهم ، فوجب عليه اتّباعه.
وجوابه : أنّه
يتضمّن الأمر بالهدى المضاف إلى كلّهم ، فيجب أن يكون المراد منه ما اتّفقوا
عليه من اصول العقائد دون شرعهم ؛ لأنّه مختلف ووقع فيه النسخ.
وقوله تعالى : ( ثُمَّ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ).
__________________
وجوابه : أنّ «
الملّة » محمولة على اصول العقائد دون الشرعيّات. ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) ، فلو أراد الشرعيّات ، لما جاز نسخ شيء منها.
وقوله : ( شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ).
وجوابه : أنّ
المراد من الدين العقائد الحقّة ، ولو كان المراد منه الشرعيّات ، لبحث عن شريعة
نوح ، ولا خلاف في أنّه لم يبحث عنها أصلا. ويحتمل أن يكون وصايته به أمرا منه
يقوله عند انتهاء أعقابهم إلى زمانه عليهالسلام ، أو يكون معنى وصّى به اطّلعه عليه وأمره بحفظه.
وقوله : ( إِنَّا
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ).
وجوابه : أنّ
التشبيه في الوحي لا يستلزم التشبيه في الشرع.
وقوله : ( إِنَّا
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ ).
وجوابه : كما ذكر.
وقوله : ( إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ).
وجوابه : أنّ
ظاهره غير مراد ؛ لأنّ جميع النبيّين لم يحكموا بها ؛ لتقدّم أكثرهم عليها ،
فالمراد أنّهم يحكمون بصحّة ورودها عن الله ، وأنّ فيها نورا وهدى ، ولا يلزم منه
أن يكونوا متعبّدين بالعمل بها.
وأنّه قبل البعثة
كان يعتزل للعبادة ـ أي الصلاة ، والحجّ ، والعمرة ، والطواف بالبيت ـ وكان يذكّي
اللحم ، ويجتنب الميتة.
وجوابه : أنّه
يوحى إليه قبل البعثة أو يلهم بأشياء تخصّه ، وكان متعبّدا بما يوحى إليه ويلهم.
وبعد البعثة أيضا يوحى إليه ببعض الأحكام الثابتة في الشرائع المتقدّمة. ولم يكن
__________________
ذلك لأجل تعبّده
بشرع غيره ، بل كان أصلا في شرعه ؛ فإنّه يمكن أن يتّفق الشرعان في بعض الأحكام
بطريق الوحي ، ولا يكون المتأخّر حينئذ تابعا للمتقدّم.
واتّفاق العلماء
على الاستدلال بقوله تعالى : ( وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) على وجوب القصاص في ديننا ، ولو لا أنّه متعبّد بشرع من
تقدّمه ، لما صحّ هذا الاستدلال.
وجوابه : أنّه لما
علموا بدليل من خارج ؛ إذ ما تضمّنه ممّا اوحي إلى نبيّنا صلىاللهعليهوآله وصار من شرعه وإن كان شرع غيره أيضا ، ولا يدلّ على تبعيّته أصلا ، كما عرفت .
وقوله صلىاللهعليهوآله : « من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها » ثمّ تلاوته قوله تعالى :
( وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي ) ، وهو مقول لموسى ، وسياق كلامه يدلّ على الاستدلال ، وإلاّ لم يكن لتلاوته
فائدة ، ولو لم يكن متعبّدا بشريعة موسى لما صحّ الاستدلال.
وجوابه كما علمت
في سابقه. وأكثر الوجوه المذكورة يعمّ المقامين ، وبعضها يخصّ المقام الأوّل ،
وبعضها الثاني.
وإذا عرفت ذلك
فتعلم أنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ـ وإن لم يرد عليه ناسخ ـ ما لم يعلم ثبوته
في ديننا ، وعلى قول من خالفنا يكون ما ثبت من شرعهم شرعا لنا وإن لم يعلم ثبوته
من خارج في ديننا. ويتفرّع عليه فروع كثيرة :
منها : الاستدلال
على أرجحيّة العبادة على التزويج إذا لم تتق النفس إليه ؛ نظرا إلى مدح الله يحيى
بكونه ( سَيِّداً وَحَصُوراً ).
وعلى ما اخترناه
لا يخفى حقيقة الحال.
ومنها : الاحتجاج
على صحّة كون عوض الجعالة مجهولا ، وعلى مشروعيّة أصل
__________________
الجعالة ؛ استنادا
إلى قوله تعالى : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) مع أنّ حمل البعير مجهول ؛ لاختلافه بالزيادة والنقصان.
والاحتجاج على
صحّة ضمان مال الجعالة قبل العمل بقوله تعالى : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ
) أي ضامن للحمل.
وقد وقع هذا الضمان قبل العمل.
وعلى ما اخترناه
لا يصحّ هذا الاحتجاج.
ومنها : ما لو حلف
ليضربنّ زيدا ـ مثلا ـ مائة خشبة ، يبرأ ذمّته بضربه العثكال ـ وهو الشماريخ
القائمة على الساق الواحد ـ استنادا إلى قوله تعالى لأيّوب لمّا حلف ليضربنّ زوجته
: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا
تَحْنَثْ ) ، والضغث هو العثكال.
وعندنا لا يصحّ
هذا الاحتجاج ؛ لما عرفت .
نعم ، ما علم
ثبوته في ديننا بدليل من خارج فهو طريق آخر ، ولا مدخليّة له بهذا الطريق ، كثبوت
الحكم المذكور في بعض الموارد بشروط خاصّة ؛ فإنّه مرويّ عندنا ، وقس عليها أمثالها.
فصل [٢٧]
تقرير المعصوم
حجّة ، فإذا فعل فعل بحضرته أو في عصره وعلم به فأقرّه عليه ولم ينكره ، دلّ على
الجواز لفاعله ولغيره ؛ لأنّ حكمه على الواحد حكمه على الجماعة.
وكذا إذا ظهر له
من مكلّف اعتقاده بوجوب شيء أو حرمته أو غيرهما من الأحكام الشرعيّة ، فأقرّه عليه
ولم يمنعه منه ، دلّ على ثبوته في حقّه وفي حقّ غيره.
والدليل في
الموضعين : أنّ التقرير على المحرّم محرّم عليه ، فالظاهر رضاه فيهما ، وإن
__________________
ضمّ بالتقرير
الاستبشار ، صار حجّيّته أوضح.
ثمّ إنّ حجّيّته
مشروطة بعدم تقيّة ، أو مصلحة اخرى ، وبعدم تقدّم الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، أو
يتقدّمه لكن علم من شأن الفاعل أنّ إنكاره عليهالسلام ينفعه ، فمع ذلك إذا لم ينكر دلّ على صحّة ما فعل ، وكان
ناسخا لما سبق.
وأمّا إذا تقدّم
الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، وعلم أنّ الفاعل يعلمه وينكره وإنكاره عليهالسلام لفعله لا ينفعه ، بل هو مصرّ عليه ، لم يكن تقريره وعدم
إنكاره حجّة ، كما إذا مضى كافر إلى كنيسة فرآه فلم ينكر عليه.
هذا ، والأصل عدم
المانع من حجّيّته حتّى يعلم خلافه.
وإذا عرفت ذلك ،
فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.
وقد فرّع عليه
الشافعي اعتبار القيافة في إثبات النسب ؛ لما نقل عنه صلىاللهعليهوآله من الاستبشار وترك الإنكار بعد حكم مجزّز المدلجيّ بالقيافة في قضيّة زيد
واسامة ؛ حيث قال ـ حين نظر إلى أقدامهما ـ : هذه الأقدام بعضها من بعض. وإنّما
كان ذلك بعد ما طعن المنافقون في نسب زيد بسواد أحدهما وبياض الآخر ، وحكم الشرع
بثبوته .
واجيب عنه بأنّ
ترك الإنكار إنّما هو لأجل أنّ المطلوب كان حقّا في الواقع ، موافقا لقول الشارع ،
والطريق كان حقّا عندهم ؛ لأنّهم يعتقدون القيافة ، فكان ذلك إلزاما عليهم ،
والإلزام لا يلزم أن يكون بمقدّمة حقّة .
وفيه : أنّ موافقة
الحقّ لا تمنع الإنكار إذا كان الطريق منكرا.
والحقّ أن يقال :
إنّ عدم الإنكار لما سبق منه مكرّرا ولم يقبلوا منه ، وكانوا مصرّين على حقّيّة
القيافة ، تعرف أنّهم لا يقبلون منه.
فائدة
ربما ظهر من بعض
الأصحاب حجّيّة حكم المعصوم عليهالسلام في الرؤيا قولا كان أو فعلا ؛ لما
__________________
روي أنّ الشيطان
لا يتمثّل به ، وأنّ من رآه في الرؤيا فقد رآه .
وفيه : أنّ تحقّق
تالي الشرطيّة يتوقّف على تحقّق مقدّمتها ، وهو يتوقّف على أن يعرف صورته في
اليقظة حتّى تعرف في المنام أنّه هو.
وأيضا كثيرا ما
يرى واحد منهم عليهمالسلام في المنام بصورة عالم ، أو صالح ، ومعلوم أنّه ليس هو.
وربما قيل : الأخبار دلّت على أنّ من رآه في المنام ، فقد رآه وإن لم يعرف بصورته ، أو
ظهر بصورة غيره ، كما ورد أنّ رجلا قال للرضا عليهالسلام : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله في المنام ، فقال : « هو رسول الله ، من رآه فقد رآه » ولا ريب في أنّه لم يدرك زمانه صلىاللهعليهوآله حتّى يعرفه بصورته ، وظهوره بصورة غيره من أهل العلم
والورع لاشتماله على فائدة هي إظهار جلالته مع عدم فساد فيه.
والحقّ : أنّ
أمثال هذه الأخبار المتشابهة لا تنتهض حجّة لإثبات أصل ، مع أنّ ما يرى في المنام
قد يكون مخالفا للأحكام الثابتة ؛ فالحقّ عدم الحجّيّة.
__________________
الباب
الثالث
في
الإجماع
وتنقيح الكلام هنا
يتوقّف على تحديده ، والكلام فيه من حيث إنّه إجماع ، وهو المعتبر عند العامّة ،
وبيان أحكامه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، ومدرك حجّيّته عندنا ، وسائر ما يتعلّق
به. وها هي نذكرها في فصول :
فصل [١]
الإجماع لغة :
العزم والاتّفاق ، واصطلاحا : هو اتّفاق خاصّ. والصحيح على قواعد العامّة
أن يقال : هو اتّفاق المجتهدين ، أو أهل الحلّ والعقد من هذه الأمّة في عصر على
أمر ديني.
فبالإضافة يخرج
العامّي موافقته ومخالفته ؛ فإنّه لا يعتبر وفاقا.
والتقييد « بهذه
الامّة » لإخراج إجماع سائر الامم ؛ فإنّه ليس حجّة على قواعد العامّة ؛ لتجويزهم
خلوّ الزمان عن المعصوم عليهالسلام ، فالعصمة عن الخطأ تختصّ عندهم بجميع هذه الامّة ؛
للأدلّة السمعيّة ، ويجوّزون طروّ الخطأ على جميع كلّ من سائر الامم ؛ لفقد
الدلالة على عصمتهم من الخطأ.
وأمّا على قواعد
الإماميّة فليس كذلك ، كما ستعلم .
والمراد بقولنا :
« في عصر » في زمان قلّ أو كثر. والافتقار إليه ظاهر ؛ فإنّه لو لم يكن ،
__________________
أفاد اشتراط الاتّفاق من لدن بعثته إلى يوم القيامة ، فيلزم أن لا يوجد إجماع
أصلا.
وتقييد الأمر
بالديني ؛ لإخراج الإجماع على ما ليس بديني ، كالإجماع على جوهريّة الجسم مثلا ،
أو عرضيّة الألوان والطعوم ؛ فإنّه ليس من الإجماع المعرّف في كتب الاصول ؛ لأنّه
من الأدلّة الشرعيّة ، وممّا يكفّر منكره ، ولا يخرج منه الإجماع على أمر عقلي يجب
أن يعتقد ، كالإجماع على حدوث العالم ؛ لأنّ الديني يتناول الاعتقادي ، فتدخل
الإجماعات الثابتة في علم الكلام المتعلّقة بالاعتقاد.
والمراد من
المجتهد ما يتناول المجتهد في الاصول الكلاميّة أيضا.
وهذا على قواعد
العامّة ظاهر ؛ لأنّ ما تمسّكوا به في إثبات حجّيّة الإجماع لا مدخل له بإثبات
حجّيّة غير الأمر الديني. وأمّا على قواعد الإماميّة ، فتعرف كيفيّة الحال.
ثمّ إنّي لم أجد
من علماء العامّة من يحدّه بمثل ما حدّ حتّى يتمّ ، بل كلّ منهم حدّه بما لا يخلو
عن فساد.
فحدّه الغزالي
بأنّه اتّفاق أمّة محمّد صلىاللهعليهوآله على أمر من الامور الدينية .
ويلزم منه أن لا
يوجد إجماع أصلا ، كما أشير إليه. وينتقض عكسه بالإجماع الذي خالف فيه العوامّ ، وبما
انعقد بعد زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله. وطرده بتقدير اتّفاق الامّة مع عدم المجتهدين فيهم .
وأورد عليه
الحاجبي ، بأنّه لا ينعكس بتقدير اتّفاقهم على أمر عقلي أو عرفي.
وفيه : أنّ العقلي
أو العرفي إن كان اعتقاديّا فيدخل في الديني ، وإن لم يكن اعتقاديّا فلا بدّ من
إخراجه ؛ لما عرفت .
__________________
وحدّه بعضهم
بزيادة أهل الحلّ والعقد عليه .
ويرد عليه الإيراد
الأوّل .
وحدّه الحاجبي
بأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر .
وبعضهم بأنّه
اتّفاق أهل الحلّ والعقد على أمر .
وآخرون بأنّه
اتّفاق المجتهدين على أمر .
وينتقض الأوّل
طردا بالإجماع على أمر ليس من الأحكام الشرعيّة ولا ممّا يجب أن يعتقد ،
كالإجماعات الثابتة في علم الصرف ، والنحو ، والعروض ، والحكمة وغيرها. وقد علمت وجوب إخراجه من الحدّ.
والأخيران به ،
وبإجماع غير هذه الامّة. وقد عرفت وجوب إخراجه على
قواعدهم.
ثمّ إضافة ما يتمّ
كلّ واحد من الحدود المذكورة ويصحّحه إليه ـ كما
ارتكبه بعض ـ تخرجه عنه وتجعله حدّا آخر ؛ فإنّ تفاوت الحدود بزيادة
شيء ونقصانه ، فلم يصحّح هذا الحدّ ، مع أنّ إضافة « ديني » على حدّ الحاجبي لا
تلائم إيراده على الغزالي .
وحدّه النظّام
بأنّه كلّ قول قامت حجّيّته .
وينتقض طردا بكلام
الله وكلام رسوله.
وأيضا التحديد
إنّما يكون للماهيّة ، ولفظ « كلّ » موضوع للأفراد.
وأيضا الإجماع ليس
بقول ، كما لا يخفى.
__________________
فثبت أنّ الصحيح
من الحدود على قواعد العامّة ما ذكر أوّلا .
وأمّا على قواعد
الإماميّة ، فلمّا كان الإجماع المعتبر عندهم ما دخل فيه المعصوم ، فيلزم أن يحدّ
عندهم بما يدلّ على ذلك ، ولا يفتقر إلى قيد « هذه الامّة » وما يساوقه ؛ لأنّ كلّ
زمان لا يخلو عندهم عن معصوم عليهالسلام ، وكلّ إجماع دخل فيه المعصوم فهو حجّة عندهم ، سواء كان
من هذه الامّة أو غيرها.
فالصحيح من حدوده
عندهم أن يقال :
إنّه اتّفاق رؤساء
الدين ، أو أهل الحلّ والعقد في عصر على أمر ديني. وهذا إن اريد بأهل الحلّ والعقد
من له دخل في الحكم إماما كان أو مجتهدا ، ولو اريد منهم المجتهدون أو ما هو أعمّ
منهم ومن أهل الحلّ والعقد الدنيوي كأكابر العسكر ، لم يصحّ.
أو اتّفاق من
يعتبر قوله في الأحكام الشرعيّة على أمر ديني.
أو اتّفاق جمع
يعلم به أنّ المتّفق عليه صدر عن رئيس الامّة. وقس عليها ما شابهها.
والأخير وما شابهه
أصحّ الحدود ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع عندنا لكشفه عن قول المعصوم. فحقيقته اتّفاق
يكشف عن دخول قول المعصوم ، لا اتّفاق المعصوم وغيره حتّى يكون موافقة المعصوم
جزءا من الإجماع ، كما يلزم ذلك من غير الأخير ، إلاّ أنّه يمكن تصحيحه بأدنى عناية.
ثمّ إنّ تقييد
الأمر بالدينيّ في بعض الحدود المذكورة بناء على أنّ بحث
الاصوليّين عن الإجماع المتعلّق بالحكم الشرعي ، أو ما يجب أن يعتقد في نفسه ،
وعدم تقييده به في بعضها لأجل أنّ كلّ ما صار مجمعا عليه فهو حقّ ، سواء كان من
العقائد الدينيّة ، أو الفروع الشرعيّة ، أو غير ذلك ؛ لأنّه ممّا قال به المعصوم
، وكلّ ما قال به المعصوم يجب أن يعتقد ، ويصحّ الاحتجاج به على كلّ شيء إلاّ على
ما يتوقّف العلم بوجوب وجود المعصوم عليه ؛ لاستلزامه الدور وهو الأصوب.
__________________
فصل [٢]
لا خلاف بين
الخاصّة والعامّة في حجّيّة أصل الإجماع إلاّ ممّن شذّ . وإنّما اختلف الفريقان في مدرك حجّيّته ، فالخاصّة على أنّه دخول المعصوم ،
والعامّة على أنّه الأدلّة السمعيّة والعقليّة . ومن العامّة من
لم يتنبّه لموضع الخلاف ، ونسب إلينا القول بعدم الحجّيّة ، وهو فرية.
ثمّ صدق حجّيّة
الإجماع عندنا ـ مع أنّ العبرة بقول المعصوم ـ وفائدة الخلاف في الحيثيّة يعلم بعد
ذلك . وكلامنا هنا مقصور على أنّ ما احتجّ به العامّة على
حجّيّة الإجماع من حيث هو هل يثبت مطلوبهم أم لا؟
فنقول : إنّهم
ذكروا لذلك وجوها :
منها : قوله تعالى
: ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ) الآية. أوعد على اتّباع غير سبيل المؤمنين ، فيكون حراما ؛
فيجب اتّباع سبيلهم ؛ إذ لا واسطة بينهما ، والإجماع سبيلهم .
واعترض عليه بوجوه
كثيرة محرّرة في الاصول ، أكثرها ممّا يمكن دفعه بسهولة ، وذكره لا يجدي طائلا.
وما يصعب دفعه بل
لا يمكن : أنّ المتبادر من « سبيل المؤمنين » ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان ،
وغيره هو الكفر ؛ فإنّ المفهوم من قول القائل : « لا تتّبع غير سبيل الصالحين » هو
المنع من متابعة غير سبيلهم فيما صاروا به صالحين ، لا في كلّ شيء حتّى الأكل
__________________
والشرب وأمثالهما
، وإذا قال السلطان : « ومن يشاقق وزيري ويتّبع غير سبيل المطيعين له لعاقبته »
لفهم سبيلهم في طاعة الوزير لا سائر السبل.
ويدلّ على ذلك ، أنّ الآية نزلت في رجل ارتدّ .
ومنها : قوله
تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) الآية. والوسط : العدول والخيار. والاجتماع على الخطأ ينافي الوصفين.
واعترض عليه بوجوه ، وأظهرها ورودا : أنّ ظاهره يقتضي اتّصاف كلّ
واحد من الامّة بالعدالة في الأشياء كلّها ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّه خلاف الواقع
، مع اقتضائه حجّيّة اتّفاق كلّ بعض وإن كان اثنين ، بل حجّيّة قول واحد منهم.
فيجب إمّا تخصيص العدالة بالشهادة على الناس في الآخرة خاصّة كما نقله المفسّرون ، أو تخصيص الخطاب بمن ثبت عصمته ، كما روي عن أئمّتنا عليهمالسلام . وإن لم يحمل على ظاهره واريد منه اتّصاف مجموع الامّة من
حيث المجموع بها ، لم يتحقّق إجماع إلاّ بعد اتّفاق كلّ من كان ويكون منهم ، فلا
يفيد.
ومنها : قوله : ( كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ ) ، أخبر أنّهم ينهون عن كلّ منكر ؛ لأنّ لام الجنس يفيد الاستغراق وهو ينافي
الإجماع عليه .
وجوابه يعلم ممّا
سبق.
ومنها : قوله : ( فَإِنْ
تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ) إلى آخره ، شرط في [ وجوب ] الردّ
__________________
إلى الكتاب والسنّة
وجود التنازع ، فإذا عدم وحصل الاتّفاق لم يجب الردّ إليهما ؛ قضيّة للشرط ، وكفى
الاتّفاق وهو معنى كونه حجّة .
واجيب عنه بأنّ سقوط وجوب الردّ إليهما إمّا عند حصول الاتّفاق باعتبار الردّ
إليهما ، أو عند حصوله لا باعتبار الردّ إليهما. فعلى الثاني يلزم تجويز وقوع
الإجماع من غير دليل ، وعلى الأوّل يلزم أن يكفينا من غير حاجة إلى الإجماع .
وفيه : أنّا نختار
الثاني أوّلا ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّ حصوله من دلالة العقل ممكن .
ونختار الأوّل
ثانيا ، ونقول : لزوم الكفاية لا يستلزم عدم حجّيّة الإجماع ، ولا عدم فائدة فيه ،
كما يعلم بعد ذلك.
وقيل : على الثاني
يلزم ما ذكر ، وعلى الأوّل يلزم الحكم بسقوط طلب المحال ، وهو باطل.
وجه الملازمة :
أنّ طلب الحكم من الكتاب والسنّة بعد ما وجد فيهما محال ، فالحكم بسقوطه يستلزم ما
ذكر.
ووجه بطلان اللازم
: أنّه عبث ، فلا يصدر عن الحكيم ، فالمراد من الآية الحثّ على طاعة اولي الأمر ،
وهو كما ترى.
وقد احتجّوا ببعض
آيات أخر تركناها ؛ لبداهة عدم دلالتها على مطلوبهم.
ومنها : قوله عليهالسلام : « لا تجتمع امّتي على الخطأ » وهو متواتر معنى
؛ لورود هذا المعنى في أخبار لا تحصى كثرة من طرق الفريقين. ودلالته على المطلب
ظاهرة.
واعترض عليه بأنّ التواتر المعنوي شرطه استواء الطرفين والوسط ، ووجوده هنا ممنوع.
__________________
ولو سلّم ذلك ،
فلا نسلّم لزوم تواتر القدر المشترك ؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان دلالة تلك الروايات
على القدر المشترك بطريق القطع ، وهو ممنوع ؛ لأنّ القدر المسلّم ظهور دلالتها
عليه ، فلا يلزم القطع بمعناها ، وذلك كالتواتر اللفظي الظاهر المعنى ؛ فإنّه وإن
كان قطعيّ السند لكن لظنّيّة دلالته لا يقطع بمدلوله.
والجواب عن الأوّل
: أنّ بعض هذه الأخبار وردت من طريق العامّة ، وبعضها من طريق الخاصّة ، ولا يمكن
اتّحاد رواتهما حينئذ في طبقة من الطبقات. وما ورد في كلّ من الطريقين رواته
مختلفة في جميع الطبقات إلاّ فيما شذّ ، كما لا يخفى على المتتبّع.
و [ الجواب ] عن
الثاني : لا نسلّم ظنّيّة دلالة كلّ واحد منها ، ومع التسليم نقول : يحصل القطع
بالقدر المشترك من المجموع ، وهو كاف للمطلوب.
ثمّ لو قطع النظر
عن ذلك كلّه ، وقلنا : إنّها أخبار آحاد ، فما يخرجها عن الحجّيّة وإثبات أصل بها
، سيّما مع تلقّي الامّة لها بالقبول؟
واورد على دلالتها
بأنّه إن اريد بالامّة جميع امّته ممّن كان ويكون إلى يوم القيامة ، لم يوجد إجماع
، وإن اريد به البعض ، دخل في حيّز المجمل فلا يفيد.
وجوابه : أنّ
المراد من الامّة أهل كلّ عصر ، كما هو المتبادر. ويدلّ عليه أخبار أخر ، كقوله عليهالسلام : « لا تزال طائفة من امّتي متظاهرين على الحقّ » . وقوله عليهالسلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » . وقوله عليهالسلام : « من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه
» .
ثمّ تسليم دلالة
هذه الأخبار على حجّيّة الإجماع لا ينافي ما قلنا به ؛ لأنّا موافقون للعامّة في
حجّيّته ، إلاّ أنّهم يقولون : حجّيّته لأجل نفس اتّفاق جميع المجتهدين ، فلو خالف
واحد منهم خرج عن الحجّيّة على ما يقتضيه قواعدهم ، إلاّ أنّهم اتّفقوا على أنّه
يقدح فيه
__________________
مخالفة غير النادر
واختلفوا فيه كما يأتي ، ونحن نقول : حجّيّته لاشتماله على قول الحجّة ، فلو لم
يعلم دخوله فيه ، لم يكن حجّة وإن حصل الوفاق من جميع من سواه ، ولو علم دخوله فيه
كان حجّة وإن خالف جماعة. وهذا هو فائدة الخلاف بين الفريقين. وصدق الحجّيّة حينئذ
في الإجماع ـ مع أنّ المناط قول الحجّة ـ يعلم بعد ذلك. ومن تأمّل في الآيات والأخبار المذكورة ، يجد أنّ دلالتها على حجّيّة الإجماع باعتبار
اشتماله على قول بعض خاصّ.
وقد عرفت ذلك في
أكثر الآيات المذكورة ، وهو الظاهر من قوله عليهالسلام : « لا تزال طائفة » إلى آخره.
وأمثاله ، ويدلّ عليه قوله عليهالسلام : « لا تجتمع امّتي » إلى آخره ، نظرا
إلى أنّ اللام في « الخطأ » للجنسيّة كما اعترف به أكثر العامّة ، فالمفهوم منه
أنّ الامّة لا يجتمعون على جنس الخطأ ، ولا ريب في أنّه إذا أخطأ كلّ منهم في
مسألة غير ما أخطأ فيه الآخر ، صدق اجتماعهم على جنس الخطأ. وهذا جائز وفاقا لو
قطع النظر عن المعصوم ، فلا بدّ من القول بعدم جواز خلوّ العصر عن معصوم مصيب في
كلّ أحكامه ؛ لئلاّ يمكن اجتماع الامّة على جنس الخطأ.
ومنها : أنّه
يمتنع اجتماع الخلق العظيم على حكم بدون قاطع .
واعترض عليه بأنّه
يمكن أن يكون ذلك لشبهة ، كما اتّفق لليهود والنصارى والفلاسفة في قدم العالم ،
وغيرهم من الفرق المجتمعين على كثير من الأباطيل مع انتشارهم في شرق الأرض وغربها .
ومنها : أنّهم
أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع ، ولا ريب في أنّهم ـ مع كثرتهم العظيمة
وتحقيقهم ـ لا يجتمعون على شيء بدون قاطع ، ومعه يكون خطأ المخالف
__________________
له حقّا ، ومنه
يثبت حجّيّة الإجماع .
واعترض عليه بمثل ما اعترض على سابقه.
وربما يدفع عنهما
بعدم صدق الإجماع على اتّفاقهم ، كما عرفت من تحديده.
وفيه : أنّ ما
احتجّوا به على حجّيّته يجري في اتّفاقهم أيضا من دون تفاوت ، وإن لم يصدق الإجماع
المعرّف عليه.
وقد اجيب عن النقض باتّفاق اليهود والنصارى : بأنّهم تبعوا الآحاد من متقدّميهم ؛ لعدم
تحقيقهم ، ولذا لم يصل إجماع منهم حدّ الضرورة ، كما اتّفق ذلك في إجماعات
المسلمين. فالإجماعات القطعيّة لا يمكن أن تحصل عن شبهة ، وما لم يبلغ حدّ القطع
يمكن حصوله منها ، كإجماع اليهود والنصارى وبعض إجماعاتنا.
وعن النقض باتّفاق
الفلاسفة بإمكان الاتّفاق على الغلط في العقلي دون الشرعي ؛ فإنّ اشتباه الصحيح
بالفاسد في الأوّل كثير والتمييز صعب ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ الغلط فيه من جهة
اشتباه القاطع بالظنّي ، والتمييز بينهما سهل.
ويرد عليه : أنّ
الشرعي قد يكون عقليّا ، كأكثر المقاصد الكلاميّة ، فيلزم عدم حجّيّة الإجماع فيه.
والصحيح أن يجاب
عنه بأنّ اتّفاق الفلاسفة إنّما يحصل في المسائل الغامضة بسبب الأدلّة العقليّة ،
وامتياز الصحيح عن الفاسد فيها بها صعب جدّا ، بخلاف اتّفاق المجتهدين في
الشرعيّات ، فإنّه يحصل فيها بمجرّد قول الشارع وإن كان مفيدا للظنّ ؛ وفهمه سهل.
ثمّ إنّه اورد
عليهما بأنّا لا نسلّم لزوم كون إجماعهم عن قاطع ؛ لأنّه كما
ينعقد عن القطعي ، يحصل عن الظنّي أيضا. ووجهه ظاهر. وحينئذ لا يفيد القطع.
والقول بأنّ
مستنده وإن كان ظنّيّا لكن بعد انعقاده يفيد القطع ، ضعيف ، كما لا يخفى.
__________________
نعم ، هو حجّة
لحجّيّة الظنّ في الشرعيّات. ويمكن أن يقال : حصوله عن الظنّ ينافي قطعهم به مع
كونهم من أهل التحقيق.
واورد عليهما بأنّكم أثبتّم الإجماع بنصّ يتوقّف عليه ، فيلزم الدور .
وجوابه : أنّا
أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بنصّ دلّ عليه وجود كلّ واحد من الإجماعات أو صورة
منها ، وثبوت هذا النصّ ووجود ما دلّ عليه لا يتوقّف على حجّيّة الإجماع ؛ لأنّ
وجود الدالّ ودلالته على النصّ ـ نظرا إلى امتناع انفكاكه عنه عادة ـ ممّا لا ريب
فيه وإن لم نقل بحجّيّة إجماع أصلا ، فما اخذ دليلا للحجّيّة لا يتوقّف عليها بوجه
؛ فاندفع الدور.
ثمّ إنّ إيراد
الدور على الدليل الأخير بنحو ما ذكر مبنيّ على ما هو الظاهر منه من إثبات حجّيّة
الإجماع بقاطع دلّ عليه صورة الإجماع. ولو حمل على أنّ المراد منه إثبات حجّيّة
الإجماع بإجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل ، فبيان الدور حينئذ أنّكم أثبتّم الإجماع
بالإجماع.
ووجه دفعه : أنّا
أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بوجود إجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل عادة ، وهو لا
يتوقّف على حجّيّة إجماع أصلا.
ومنها : أنّهم
أجمعوا على أنّ الإجماع يقدّم على القاطع ، وأجمعوا أيضا على أنّ غير القاطع لا
يقدّم على القاطع ، فلو لم يكن الإجماع قاطعا ، لزم تعارض الإجماعين وهو باطل .
واورد عليه :
بإمكان كون غير قاطع في نفس الأمر قاطعا باعتقادهم ، فلا يلزم ما ذكر .
وفيه : أنّ ذلك
يقتضي حصوله عن شبهة ؛ إذ لو كان عن قاطع كان قاطعا في نفس الأمر أيضا. والحاصل عن
شبهة لا يقطع الجمّ الغفير من المحقّقين بتقدّمه على القاطع ، فيلزم أن يكون عن
قاطع ، فيكون قاطعا في نفس الأمر.
__________________
والإيراد عليه بإمكان
حصوله عن الظنّ ، وجوابه كما سبق .
ثمّ إنّه يرد عليه
وعلى الدليلين السابقين عليه : أنّ غاية ما لزم منها حجّيّة الإجماع إذا بلغ عدد
المجمعين حدّ التواتر وأفاد القطع ؛ لأنّ غيره ( لا يمتنع اجتماع جماعة على مدلوله
بدون ) قاطع ، ولا يقطع بتخطئة مخالفه ، ولا تقدّم على قاطع ،
فالمقصود منها إثبات حجّيّة الإجماع في الجملة .
وما قيل : إنّ
الدليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد ولا اشتراط ؛ فإنّهم خطّئوا المخالف ،
وقدّموه على القاطع مطلقا من غير تعرّض لعدد التواتر ، ضعيف ؛ لأنّه لا ريب في اختلاف الإجماعات بإفادة بعضها القطع ، وبعضها
الظنّ ، وتفاوت درجات العلم والظنّ كما يجيء مفصّلا ، والمفيد للظنّ كيف يقدّم على القاطع ويقطع بتخطئة مخالفه؟! بل هذه الأحكام
خاصّة بما يفيد القطع.
ثمّ لا يخفى أنّه
يحصل من تعاضد هذه الأدلّة وتراكمها العلم بحجّيّة الإجماع في الجملة. وهو إمّا
الإجماع القطعي ، أو ما يشتمل على قول الحجّة ؛ لأنّك عرفت أنّ بعضها يدلّ على الأوّل وبعضها على الثاني ، وهما متلازمان ؛ لأنّ كلّ ما
يفيد القطع يعلم اشتماله على قول الحجّة عندنا وعند العامّة أيضا ؛ لأنّ ما خالف
فيه واحد من المجتهدين لا يكون قاطعا عندهم ، فكيف بالمعصوم؟ وكلّ ما علم اشتماله
عليه يفيد القطع عندنا وإن لم يفد عند العامّة ، فهذه الأدلّة تشيّد أركان ما ذهب
إليه أصحابنا .
وممّا يثبت ما
ذهبنا إليه أنّ معظم العامّة ذهبوا إلى أنّه لا يمكن أن ينعقد إجماع من غير مستند .
__________________
ولا ريب في أنّه
في الشرعيّات ليس إلاّ قول الشارع ؛ ودليل العقل إن أمكن أن يكون مستندا له فإنّما
هو إذا علم أنّه ممّا لا يتخلّف الشارع عن مدلوله.
هذا ، وقد أورد
بعض الشكوك على حجّيّة الإجماع ترد عليك مع جوابها في موضعها .
فصل [٣]
لا ريب في إمكان
وقوعه ؛ لإمكان اطّلاع كلّ مجتهد على دليل حكم فيعتقده ، ويتّفق الآراء على ذلك
فينعقد الإجماع ؛ وأيضا يأتي بيان إمكان العلم به ، بل وقوعه ، والوقوع العقلي يستلزم الوقوع
الإمكاني.
واحتجّ المنكر
بأنّ الاتّفاق لا بدّ له من مستند ، والظنّي لا يصلح مستندا له ؛ لأنّ العادة تحيل
اتّفاق الأنظار المتباينة على أمر لأجله ، فتعيّن القاطع ، والعادة تحيل عدم نقله
واشتهاره ، فإن لم ينقل علم عدمه ، وإن نقل استغني به عن الإجماع .
وجوابه : أنّ
الاتّفاق عن كليهما جائز.
أمّا عن الظنّي ،
فلأنّ العمل به لازم على كلّ مجتهد إذا لم يوجد معارض أقوى منه ، سيّما إذا كان
جليّا ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح. وبعد لزومه عليه لا بدّ من اتّفاق الآراء عليه ،
وإنّما يمتنع اتّفاق القرائح المختلفة فيما لم يوجد له دليل يتعيّن العمل به.
وأمّا عن القطعي
فظاهر. وعدم نقله لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّه لمّا وجد ما هو أقوى منه استغني به عن
نقله. ونقله لا يغني عن الإجماع ، ولا يجعله غير مفيد ؛ لأنّ تكثير الأدلّة فائدة
يعتنى بها ، مع أنّ للعلم مراتب ، فربّما كان العلم الحاصل من الإجماع أقوى من
الحاصل من دليله.
__________________
فصل [٤]
الحقّ إمكان العلم
بالإجماع ، بل وقوعه وثبوته في الجملة ؛ فإنّا نعلم
قطعا اتّفاق الامّة على بعض الأحكام ، كوجوب الصلاة ومثلها ، واتّفاق الإماميّة
على بعضها كحلّيّة المتعتين وشبهها ، واتّفاق
الحنفيّة على انعقاد البيع الفاسد ، والشافعيّة على
عدمه . وما ذلك إلاّ لحصوله وثبوته عنهم.
وحصول هذا العلم
إمّا بالتسامع وتطابق الأخبار عليه ، سواء كان الطريق متواترا أو آحادا. أو تتبّع
أقوال خواصّ الامّة أو المذهب ، وربّما حصل من مشاهدة أعيان المجمعين وسماع
أقوالهم إن اكتفي بالقول ، ومع القرائن الدالّة على مطابقة آرائهم لأقوالهم إن
اشترط الرأي ، وهذا يمكن في أزمنة أصحاب الحجج فقط ، ولا يتناول غيرها.
ثمّ كلّ إجماع ليس
ممّا يعلم ثبوته ، بل له مراتب مختلفة ؛ لأنّه إمّا قطعي أو ظنّي.
والأوّل إمّا
بديهيّ للخواصّ والعوامّ من الامّة أو المذهب ، أو لخواصّ أحدهما ، كالاتّفاق على
مسح الرّجلين ؛ فإنّ ثبوته بديهيّ عند خواصّ الإماميّة وإن لم يكن كذلك عند عوامّهم.
أو نظريّ ، وهو أن
يحصل للمجتهد العلم به بعد بذل جهده واستفراغ وسعه : إمّا بأن لا يظفر على مخالف
وادّعاه عدد التواتر أيضا ، وله اتّصال بالبديهيّ.
والقول بأنّه لا
يثبت بالتواتر إلاّ ما كان محسوسا ، والإجماع تطابق آراء المجتهدين
__________________
وهو غير محسوس ، ضعيف ؛ لأنّ المتواتر قول كلّ واحد منهم ، وهو محسوس ودالّ على الرأي ،
فالقطع بأقوالهم يستلزم القطع بآرائهم ؛ ومنع الاستلزام ـ لاحتمال وجود مانع
كتقيّة ونحوها ـ مشترك الورود بينه وبين الخبر ، مع أنّ الأصل عدمه.
وإمّا بأن لا يظفر
على مخالف وادّعاه أيضا جماعة لم يبلغوا عدد التواتر ، وكانوا من أهل التدقيق
والفحص الشديد.
وإمّا بمجرّد أن
لا يظفر بالمخالف وإن لم يضمّ إليه الادّعاء. فإنّ الحقّ ـ كما يأتي ـ أنّ حصول العلم حينئذ ممكن له إذا بالغ في الفحص وبذل الجهد ولم يعثر على
مخالف ، وحصل له بعض القرائن والأحوال أيضا. وليسمّ هذا بالإجماع الاستنباطي ، أو
التتبّعي.
والثاني إمّا أن
يحصل به الظنّ القويّ ، بأن لا يعثر على مخالف بعد فحص لم يبلغ حدّا يفيد العلم ،
سواء نقله أيضا جماعة لم يبلغوا حدّ التواتر ولم يكونوا من أهل الدقّة والفحص ، أم
لا. ويختلف درجات هذا الظنّ في الموارد باختلاف القرائن والخصوصيّات.
وإمّا أن يحصل به
الظنّ المتوسّط أو الضعيف. وموارد كلّ منهما ظاهرة.
وكلّ واحد من هذه
الإجماعات إذا لم يكن له معارض من الأدلّة الأخر ، يتعيّن العمل به للمجتهد ، كما
يأتي ؛ لأنّ الظنّ الحاصل منه ليس أضعف من الظنّ الحاصل من
أخبار الآحاد. وإن ضمّت إليه أدلّة أخر صار وجوب العمل به أوضح.
نعم ، العمل في
بعض موارد الأخير إذا لم يضمّ إليه دلالة اخرى محلّ تأمّل. وما يصحّ أن يوجد
له معارض إذا وجد له ، ينبغي الترجيح على ما يقتضيه نظر المجتهد. هذا إذا لم يوجد
لكلّ منها مخالف .
__________________
وأمّا إذا وجد
مخالف ، فربّما حصل القطع بعدم وجود مخالف سوى مخالف نادر ، كالقطع بأنّه لم يخالف
في حرمة القياس سوى ابن الجنيد ، وفي استحباب دعاء رؤية هلال رمضان سوى ابن أبي عقيل . وحينئذ لا يضرّ هذا المخالف ، ولا يخرجه عن الحجّيّة ، كما يأتي .
وربّما حصل الظنّ
القويّ أو الضعيف بعدم مخالف غيره.
و ربّما لا يحصل به ظنّ أصلا ، كما إذا ادّعى بعضهم الإجماع على حكم مع ظهور
مخالف غير نادر ، بل قد يكون الشهرة على خلافه.
وربّما ادّعى هذا
البعض أو بعض آخر الإجماع على خلافه ، كما اتّفق ذلك في كثير من المسائل ، وقد
ضبطنا كثيرا من الإجماعات المتناقضة في بعض رسائلنا .
ثمّ لكلّ من هذه
الأقسام أيضا إمّا أن يوجد معارض أو لا. وعلى التقديرين إمّا أن يكون له معاضد أو
لا. وعلى جميع الأقسام والتقادير يلزم الترجيح والعمل بحسب ما يقتضيه نظر المجتهد.
ثمّ الإجماع
المنقول إمّا يفيد القطع أو الظنّ بعدم مخالف بحيث يتعيّن العمل بمضمونه ـ كما
تقدّم ـ فحكمه ظاهر. وإن لم يكن كذلك فيجيء حكمه .
وبما ذكرنا ظهر
أنّه لا بدّ للمجتهد من التتبّع والتفحّص في كلّ إجماع ليعلم أنّه من أيّ قسم ،
ثمّ يحكم بما يقتضيه ، وليس له أن يقلّد غيره من المدّعين للإجماع ، بل لا بدّ له
من التتبّع ؛ لأنّ الظاهر أنّ كلّ من يدّعي إجماعا على حكم حصل له العلم ، أو
الظنّ به من تتبّع الأقوال والقرائن. ومثل هذا ربّما أفاد لبعض علما ولآخر ظنّا ،
وربّما لم يفد لآخر شيئا.
__________________
هذا ، والحقّ أنّ
العلم بالإجماع بكلّ من النقل والتتبّع وكليهما ممكن في الجملة في كلّ عصر ؛ لأنّ
فتاوى أعيان القدماء والمتأخّرين محفوظة في الكتب المصنّفة ، فإذا ظهر في حكم من
الأحكام المهمّة اتّفاقهم ولم نظفر بالتتبّع التامّ على مخالف له ، علم أنّه مذهب
كلّ الإماميّة ؛ إذ العادة لم تجر بأنّ ما لا يكون كذلك لم يقع فيه خلاف ، مع
مخالفة أذهانهم ومباينة سلقهم.
واحتمال أن يكون
مخالف من المتقدّمين لم يصل خلافه إلى المتتبّع ؛ لخروج قوله عن الكتب المصنّفة ،
ينافي اهتمامهم في تتبّع الأقوال وضبطها حتّى الأقوال الشاذّة في المسائل النادرة.
فيتمكّن المجتهد
بتتبّع أقوالهم ـ وإن كان بوجدان بعضها في كتب غير قائله ـ أن يظفر باتّفاقهم على
حكم وإن لم يعثر على نقل إجماع منهم.
ومن الأصحاب من
قصر إمكان الاطّلاع عليه بكلّ من النقل والتتبّع على العصر المقارب لظهور الأئمّة
؛ نظرا إلى إمكان حصول العلم حينئذ بأقوالهم بالتتبّع ؛ لقلّتهم ووجود فتاويهم فيه
؛ لأنّ كتب أصحاب الأئمّة كانت حينئذ موجودة ، وخصّص أمثال زماننا بإمكان الاطّلاع
عليه من جهة النقل فقط ؛ لعدم إمكان حصول العلم بأقوالهم حينئذ بالتتبّع ؛ لكثرتهم
وانتشار أقوالهم ، وعدم وجود مصنّف من كلّ منهم ، واضمحلال كتب أصحاب الأئمّة ،
ولم يضبط أصحاب التصانيف أقوال جميعهم في كلّ حكم ، وإلاّ صارت بحيث لا تعدّ كثرة
، فلا يمكن الاطّلاع على جميعها بالتتبّع ولو باستعانة نقل الخلف عن السلف ؛ لأنّ
غاية ما يمكن حينئذ الاطّلاع على مذاهب أرباب التصنيف ومعظمهم من المتأخّرين ،
ويبقى مذاهب القدماء وأصحاب الأئمّة في حيّز الجهل.
فكلّ إجماع يدّعى
من زمان انتشار الأقوال ، كزمان المفيد وما قاربه إلى زماننا هذا ، إمّا أن يكون
مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد ، أي يكون حدوث ادّعائه من الزمان السابق عليه ، أو
لا ، أي يكون حدوث ادّعائه من عصر المفيد وما تأخّر عنه. والثاني ليس حجّة ؛ لما
ذكر ، والأوّل حجّة ؛ لاستناده إلى ادّعاء العصر السابق ؛ فإنّ
نقلهم حجّة ؛ لتمكّنهم من
__________________
الاطّلاع على
الاتّفاق ؛ لقلّة المجمعين ووجود فتاويهم. فإذا اطّلع بعض من في عصر المعصوم ـ مثلا
ـ بالتتبّع على اتّفاق الأصحاب على حكم ، فنقله يكون حجّة لمن تعقّبهم ، ونقلهم ـ إذا
اطّلعوا عليه أيضا بالتتبّع ، أو من نقل من تقدّم ـ حجّة لمن بعدهم ، وهلمّ جرّا
إلى زمان انتشار الأقوال ؛ فإنّ نقل أهله حينئذ حجّة لمن تعقّبهم إذا كان مستندا
إلى نقل السابقين. وإذا كان مستندا إلى تتبّعهم ، لم يكن حجّة لمن بعدهم ؛ لعدم
تمكّنهم من العلم بأقوال السابقين ، بل المعاصرين أيضا ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم .
وفيه : ما عرفت من
أنّ أرباب التصانيف بذلوا جهدهم في ضبط الأقوال ، ونقل كلّ متأخّر قول من تقدّمه ،
فلم يخرج قول من ضبطهم ، فيتمكّن أهل كلّ عصر عن العلم بها ، وأصحاب الأئمّة لم
يكن من عادتهم أن يصنّفوا كتبا يذكرون فيها فتاويهم ، بل دأبهم أنّ كلّ ما يسمعونه
من المعصوم يسندونه إليه ، ولا يقتصرون على مجرّد الفتوى ، كما لا يخفى على
المتتبّع لأقوالهم. وأكثر ما أسندوه نقله حفّاظ الأخبار ، كالمحمّدين الثلاثة ،
فإن أمكن استنباط مذاهبهم من كتبهم يمكن استنباطها من كتب نقلة الحديث ، مع أنّهم
ـ لشدّة اهتمامهم في ضبط الأقاويل ـ نقلوا ما اشتهر من فتاويهم ، ولذا نقل فتاوى
جعفر والحسن ابني سماعة ، وعليّ بن أسباط ، وعليّ بن الحسين ، وابن حذيفة في باب
الخلع من التهذيب ، وفتاوى الحسين بن سماعة ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم ،
ومعاوية بن حكيم وغيرهم في باب عدّة النساء منه ، وفتوى جميل بن درّاج في باب المرتدّ والمرتدّة منه ، وفتاوى فضل بن شاذان ، ويونس بن عبد الرحمن في كتاب الميراث من الفقيه . وقس عليها غيرها ممّا تطّلع عليه بعد التتبّع. وقد أكثر عنهم النقل في
الكافي .
__________________
ولو سلّم أنّه لم
يقع التصريح بخصوص قول كلّ واحد من السابقين ، نقول ـ كما قال بعض أهل التحقيق ـ : إنّ أقوالهم لا تخرج عن أقوال اللاحقين ؛ لأنّ نقلة الأخبار وحفظة الآثار
ـ على كثرتهم وانتشارهم في أقطار الأرض ـ لطول مساعيهم وتوفّر دواعيهم ، أخذوا
العلم والرواية عن أصحاب الأئمّة ، ولحقهم آخرون وأخذوا عنهم ، وكذلك تعقّب الخلف
السلف ، والآتي الماضي ، وهلمّ جرّا إلى زمن المشايخ المتأخّرين الذين دوّنوا
الفقه ، وضبطوا الأقوال ، وميّزوا بين الخلاف والوفاق ، فلا يكون قول من أقوال
المتقدّمين خارجا من قولهم وإن لم يقع التصريح به بخصوصه ، فالأقوال في كلّ حكم
منحصرة بالأقوال المضبوطة في الكتب الموجودة عندنا الآن ، فإذا تفحّصنا فيها
ووجدنا اتّفاق ما فيها من الأقوال على حكم ، علمنا اتّفاق جميع الأصحاب عليه وعدم
مخالف له.
ومع قطع النظر عن
ذلك كلّه نقول : هنا مقدّمة مسلّمة عند المحقّقين من أهل الكلام والاصول والميزان
تسمّى بالقطعيّات العاديّة يستعملونها في المطالب العظيمة يثبت بها مطلوبنا ، وهي
أنّه قد يمكن بنحو من التتبّع حصول الاطّلاع على اتّفاق جميع خواصّ طائفة على حكم
وهو أن يتتبّع أحد أقوال بعض مشاهيرهم ، فوجدها متطابقة على حكم ، ولم يجد منهم
مخالفا ، وانضمّ إليه بعض القرائن الدالّة على الاتّفاق ، فإنّه يجد من نفسه حينئذ
العلم به وإن لم يحط بأقوال الكلّ خبرا ؛ لأنّ العادة تحكم بأنّه لو كان فيه مخالف
، لظهر منه أثر فيما بينهم ، فلو وجدنا بالتتبّع تطابق أقوال جماعة من مشاهير
القدماء والمتأخّرين على حكم ، فيمكن أن يحصل لنا العلم بالاتّفاق عليه بالمقدّمة
المذكورة وإن لم يتتبّع أقوال جميعهم.
ثمّ إنّه ليس
المراد أنّه يمكن لكلّ مجتهد تحصيل العلم بالتتبّع بالوفاق في جميع الأحكام
الوفاقيّة ؛ فإنّه محال عادة ، بل المراد إمكان ذلك في الجملة.
هذا ، مع أنّه
لمّا كان العبرة عندنا في ثبوت الإجماع بدخول قول المعصوم ، فكلّ
__________________
اتّفاق حصل منه
العلم به يكون حجّة وإن لم يكن اتّفاق الكلّ ، بل وإن علم مخالفة البعض ، كما يأتي
.
ولا يخفى أنّه على
اعتبار النقل في زمان انتشر فيه الأقوال ، يلزم عدم العلم بشيء من الإجماعات.
بيان ذلك : أنّه
لا ريب في انتشار الأقوال في عصر المفيد وما قاربه ، وفي أنّ ابتداء حدوث نقل
الإجماع إنّما كان فيه ؛ لعدم نقل الإجماع على حكم ممّن تقدّمه إلاّ ممّن شذّ فيما
شذّ ، وفي هذا العصر وبعده لا يمكن العلم بالإجماع ، لا بالتتبّع على ما هو الفرض
، ولا بالنقل ؛ لعدم ثبوته ممّن تقدّمهم ، مع أنّه إن وصل نقل إجماع ممّن تقدّمهم
إلى طبقة منهم ، لا يمكن أن يفيد العلم أو الظنّ لهم وإن كان متواترا ؛ لأنّه
يتوقّف على تتبّع أقوال المعاصرين ومن تقدّمهم من طبقاتهم ، وهو غير ممكن.
هذا ، واحتجّ من
أنكر إمكان العلم به مطلقا بأنّه يتوقّف على المشافهة ، أو التواتر ، وهما متعذّران ؛ لانتشارهم شرقا وغربا ، مع احتمال خفاء بعضهم عمدا لئلاّ
يتّفق أو يخالف ، أو كذبه في قوله : رأيي كذا ، أو رجوعه قبل قول الآخر به ، أو
كونه في مطمورة لا يعرف له أثر إمّا لخموله ، أو أسره ، أو طول غيبته .
والجواب : أنّه
تشكيك في مقابلة الضرورة ؛ فإنّ اتّفاق كلّ أمّة على ضروريّات دينهم ، واجتماع كلّ
فرقة على بديهيّات مذهبهم ممّا يعرفه خواصّهم وعوامّهم بالضرورة ، ولا ريب في أنّه
لم يحصل من تفحّص أعيانهم وسماع أقوالهم منهم مشافهة ، بل حصوله من
التسامع وتواتر الأخبار عليه كما سبق . وكما يجوز ذلك
في الضروريّات للخواصّ والعوامّ ، يجوز
__________________
في القطعيّات
النظريّة للخواصّ فقط ، وأيّ استبعاد في حصول القطع في بعض الموارد للخواصّ ، أو
بعضهم فقط بعد تجويز حصوله في بعضها لهم وللعوامّ أيضا؟. ولو صحّ المنع في الثاني
، لصحّ في الأوّل أيضا من دون فرق ، مع أنّ منكره كافر. ثمّ طريق حصول العلم
للعوامّ منحصر بما ذكر ، وللخواصّ به وبالتتبّع ، كما تقدّم .
والإيراد عليه
بأنّ العلم بالإجماع على الضروريّات والقطعيّات النظريّة ـ كتقديم القاطع على
المظنون ـ وإن كان ممكن الحصول ؛ لأنّ حصوله ليس من جهة النقل والفحص ، بل من طريق
العقل ؛ لأنّ حقيقة الحكم لمّا كانت ظاهرة للعقل يحكم بعدم مخالفة أحد من العقلاء
، والإجماع فيها لا يفيد شيئا ؛ لظهور الحكم عند العقل مع قطع النظر عنه ، ولذا
يحكم به على ثبوت الإجماع دون العكس ، فهي لا تنتهض نقضا على الدليل المذكور ،
ومحلّ البحث ما ليس للعقل سبيل إليه ، كأكثر المطالب الفقهيّة التي يستدلّ عليها
بالإجماع ويحصل العلم بها منه ، ولا يمكن الاطّلاع على الإجماع عليها ؛ لما ذكر في
الدليل .
فساده ظاهر ؛ لأنّ أكثر الضروريّات ، كوجوب الصلاة والصوم وغيرهما لا سبيل للعقل إليها ،
فلا يحكم بثبوتها فضلا عن الحكم بثبوت الإجماع عليها. وفيما له إليه سبيل لا يمكن
له أيضا الحكم بالإجماع عليه ؛ لأنّ أكثر القطعيّات النظريّة التي يجزم بها العقل
ممّا وقع فيه الخلاف ؛ فإنّ أجلى القطعيّات عندهم ثبوت الصور الذهنيّة ، وعدم جواز
الترجيح بلا مرجّح ، وتخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، مع أنّه خالف في كلّ منها
جماعة كثيرة . والعلم بالإجماع لا يتوقّف على تفحّص أشخاص المجمعين
وسماع أقوالهم منهم مشافهة حتّى يرد ما ذكر في دليل الخصم ، بل الطريق إليه أحد
الوجوه التي أشرنا إليها ، وهي تجري في القطعيّات وغيرها.
__________________
فصل [٥]
مدرك حجّيّة
الإجماع عندنا اشتماله على قول المعصوم عليهالسلام ، فمجرّد العلم به لا يكفي عندنا في حجّيّته ، بل لا بدّ فيها
من العلم بدخول قوله عليهالسلام ، إلاّ أنّ أصحابنا ذكروا أنّ الأوّل ملزوم للثاني .
ولهم في بيان ذلك
ثلاث طرق :
[
الطريق ] الأوّل : ما ذهب إليه جماعة منهم المرتضى رحمهالله ، وهو أنّه إذا علم اتّفاق جميع فقهاء الإسلام أو الشيعة
على حكم ، علم دخول رئيسهم فيه وإن لم يتميّز شخصه ولا قوله. ويثبت ذلك من قياس
واضح المقدّمات ، هو أنّ هذا الحكم ممّا أجمع عليه ـ مثلا ـ جميع خواصّ الدين أو
المذهب ، وكلّ ما أجمع عليه جميع هؤلاء يكون رئيسهم من جملة المجمعين عليه ، فينتج
المطلوب ؛ والصغرى ظاهرة بعد ما دريت من إمكان حصول القطع باتّفاق جميع خواصّ
الدين أو المذهب على حكم ، والكبرى ضروريّة ؛ لبداهة اندراج المعصوم في جميع من
يصدق عليهم لفظ « الخواصّ » وأمثاله.
وهذا الطريق يجري
في كلّ إجماع كان في جملة المجمعين من يجهل أصله ونسبه ، وعلم عدم مخالف له أصلا ،
أو عدم مخالف مجهول النسب ، ولا يضرّ مخالفة معلوم النسب ما لم تبلغ حدّا يقدح في
العلم بعدم مخالفة مجهول النسب ؛ فإنّه إذا صار من خالف ممّن يعرف نسبه كثيرا ،
شكّ في مخالفة مجهول النسب ، بل قد يظنّ أو يعلم ذلك ، فلا يقطع حينئذ بدخول
المعصوم. ومنه يثبت استلزام مثل هذا الإجماع للاطّلاع على دخوله عليهالسلام فيه كلّيا ، ويكون حجّة لكشفه عنه.
والقول بأنّه لا
يكاد يتحقّق إجماع علم دخوله في جملة المجمعين ولم يتميّز شخصه ؛ لامتناع حصول
مثله في زمان الغيبة وهو ظاهر ، وفي زمان الحضور أيضا ؛ لأنّ المعصوم فيه
__________________
كان ظاهرا يعرفه
كلّ أحد ، وكان شخصه وقوله متميّزين ، فإذا صدر منه حكم فيه يكون الحجّة فيه ،
ويكون الإجماع لغوا ؛ لأنّ حجّيّته وفائدته لكشفه عنه وهو حينئذ لظهوره في نفسه لا
يحتاج إلى كاشف .
ضعيف ؛ لأنّه ليس
المراد من دخول المعصوم في جملة المجمعين أن يكون شخصه داخلا في جملة أشخاصهم ، بل
المراد منه أنّه يكون قوله موافقا لأقوالهم ، وحينئذ يمكن انعقاد مثل هذا الإجماع
في زمان الغيبة والحضور مع وجود شاهد له من النصوص وبدونه.
أمّا في زمان
الغيبة ، فبأن يظفروا فيه على نصّ فيجمعوا على مدلوله ، ويكون إجماعا مفيدا لمن
بعدهم ، سواء فقد عنهم ما كان شاهدا له من النصّ ولم يصل إليهم ، أو عثروا عليه.
أمّا الأوّل :
فظاهر ؛ لكشفه عن رأي المعصوم وانحصار الكاشف به.
وأمّا الثاني :
فلكشفه عنه أيضا. ووجود النصّ لا يجعله لغوا ؛ لأنّ النصّ من حيث هو ليس حجّة ، بل
حجّيّته أيضا لكشفه عن رأي المعصوم ، فهما متساويان في الدلالة على رأيه ، فاعتبار
أحدهما وإلغاء الآخر تحكّم . وكون النصّ كاشفا عنه بلا واسطة دون الإجماع لكشفه عنه
بواسطته ، ممّا لا يصلح حجّة لتعيّن اعتبار الأوّل وإلغاء الثاني.
نعم ، يمكن العكس
؛ لتساويهما في الفائدة المذكورة مع زيادة فائدة في الإجماع ، وهو كونه قاطعا كما
هو المفروض ، وجواز كون الإجماع قاطعا مع ظنّيّة مستنده ممّا لا ريب فيه ، بل هو
واقع ؛ فإنّ كثيرا من الأحكام البديهيّة ممّا يحكم بكفر منكره وقتله مع أنّ مستنده
إمّا الآية ، أو خبر الواحد ، وكلّ منهما ظنّي ، فالتكفير والقتل إنّما ترتّبا على
الإجماع لا على مستنده. وربّما يكون الحكم قطعيّا مع أنّه لم يرد به شيء من آية
ولا خبر ، كانفعال المياه المضافة والمائعات ، ونجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه.
وربما دلّ العمومات مع ذلك على خلافه ، كمحرميّة أمّ الزوجة.
والحقّ أنّ ذلك لا يخرج النصّ عن كونه مفيدا ، بل له فائدة أيضا وإن كان الإجماع أولى
__________________
بالاعتبار منه
وكافيا في الحجّيّة ؛ لأنّ تكثير الأدلّة من الفوائد المهمّة وإن كان واحد منها
قاطعا ؛ فإنّ للقطع مراتب كما سبق.
ثمّ النصّ الذي
ينعقد الإجماع على مدلوله في زمان الغيبة لا يلزم أن يكون من إمام عصرهم ؛ لأنّ
انعقاد الإجماع في زمان الغيبة غير موقوف على دخول خصوص قول إمام العصر في أقوالهم
، بل يصحّ انعقاده على طبق قول غيره من الأئمّة ؛ لأنّ قول كلّ منهم حجّة حيّا
وميّتا.
وأمّا في زمان
الحضور ، فبأن يسمعوا منه حكما مشافهة أو بواسطة النقل فيجمعوا عليه ، ويكون حجّة
مفيدة لمن يعقبهم على التقديرين ، كما سبق . ويزيد هنا على سابقه بإمكان اطّلاعهم على رأيه في حكم شرعي من غير أن يصرّح به وينقل
لهم خبر خاصّ عنه ؛ لأنّه يمكن حصول العلم لخواصّ رئيس برأيه وإن لم يصرّح به ،
ولم ينقل عنه نصّ بخصوصه ، ويمكن حصوله لغيرهم أيضا من تتبّع أفعالهم وأقوالهم ،
فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كثيرا ما يقع في الوجود أن يعلم أو يظنّ أنّ رجلا معتقده
وطريقته كذا من غير أن ينقل عنه خبر خاصّ فيه. ومنه علمنا بوجوب المسح على الرجلين
؛ فإذا أجمعوا حينئذ على ما اطّلعوا عليه من رأيه ، فلا ريب في كون إجماعهم هذا
مفيدا ؛ لانحصار الكاشف عن رأيه به.
واعلم أنّه ـ على
ما ذكر ـ لا كلام في استلزام كلّ إجماع قطعي علم عدم مخالف له
أصلا ، أو عدم مخالف مجهول النسب له ؛ للعلم بدخول قوله عليهالسلام ، ولا يتخلّف ذلك عن صورة منه ، فثبت الاستلزام الكلّي.
نعم ، يختلف
الملزوم بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع قطع بعضهم بعدم مخالف له ولم يقطع به
آخر ، فعند الأوّل يحصل العلم بدخول قوله ، وعند الثاني لا يحصل به. وهذا لا ينافي
الاستلزام الكلّي ؛ لأنّه على تقدير تحقّق الملزوم ، وهو أن يعلم اتّفاق جميع العلماء
بحيث لم يخالف منهم أحد ، أو خالف معروف النسب مع وجود مجهول النسب فيهم ،
__________________
سواء تعارضت فيما
اتّفقوا عليه أدلّة أخر أو لا ، وسواء وجد له شاهد أو معارض منها أو لا.
ثمّ إنّك قد عرفت
فيما سبق اختلاف مراتب الإجماعات في العلم بها ، فمنها : قطعيّ
بديهيّ ، ومنها : قطعيّ نظريّ ، ومنها : ظنّيّ ؛ فيتبعها العلم بدخول قوله أيضا في
ذلك ، ويختلف مراتبها فيه أيضا. ففي الأوّل يكون العلم بدخول قوله بديهيّا ، وفي
الثاني قطعيّا نظريّا ، وهكذا.
[
الطريق ] الثاني : ما ذهب إليه معظم المحقّقين ، وهو أنّه إذا
علم اتّفاق جمع من الفقهاء على حكم علم أنّهم أخذوه من قدوتهم ؛ لأنّه يمتنع عادة
اتّفاق طائفة من خواصّ رئيس على حكم من غير أن يصدر عنه ، سواء كانوا جميع خواصّه
أو بعضهم ، بعد أن علم أنّهم لا يرون الحجّة إلاّ في قوله ، ولا يقولون إلاّ عن
رأيه.
وهذا يجري فيما
يجري فيه الطريق الأوّل ، وفي غيره ممّا شكّ فيه في وجود مخالف مجهول النسب له ،
بل فيما ظنّ أو علم له ذلك أيضا ، إلاّ أنّ هذا ليس كلّيّا بحيث كلّما علم اتّفاق
جمع حصل منه العلم بدخول قوله عليهالسلام ، بل يختلف ذلك باختلافهم في الفتوى والورع ، فربّما حصل
من اتّفاق ثلاثة أو اثنين ، وربّما لم يحصل من اتّفاق خمسين ، ويختلف ذلك بالنسبة
إلى العاملين أيضا.
فالمناط على هذا
الطريق اتّفاق يعلم أنّ المتّفقين لا يجزمون بحكم من غير أخذه عن قدوتهم ، ولذا لا
يقدح فيه مخالفة معروف النسب ومجهوله ، ولا يشترط وجود مجهول النسب فيهم.
ويمكن انعقاد مثله
في زمان الحضور ؛ لأنّه إذا اتّفق فضلاء أصحاب الصادق عليهالسلام ـ مثلا ـ على حكم يمكن حصول العلم لبعض بأنّهم أخذوه منه عليهالسلام وإن خالفهم بعض ، وفي زمان الغيبة أيضا ؛ لأنّه إذا أجمع جماعة من متقدّمي
أصحابنا ومتأخّريهم على حكم مع تطابق أقوالهم على أنّ الإجماع من حيث هو ليس حجّة
، بل حجّيّته لكشفه عن الحجّة ـ كما
__________________
لا يخفى على
الناظر في كتبهم الاصوليّة والفروعيّة ـ يمكن حصول
القطع حينئذ باشتماله على دخول قول المعصوم.
فظهر ممّا ذكر
صحّة كلّ من الطريقين ، وأنّ كلّ ما يصحّ إثبات حجّيّته بالطريق الأوّل يصحّ بالثاني
أيضا ، إلاّ أنّه لا بدّ لكلّ مجتهد من الفحص عن كلّ إجماع ليعلم أنّه ممّا يمكن
إثبات حجّيّته بكلّ منهما ، أو بالثاني فقط.
فعلى الأوّل : إن
حصل له العلم بنفس الإجماع يحصل له العلم بدخول قوله عليهالسلام أيضا كما سبق ، ولا ريب حينئذ
في حجّيّته وتعيّن العمل به. وإن حصل له الظنّ به يحصل له الظنّ به أيضا ، ويتعيّن
العمل به إن لم يكن له معارض ، سواء كان له معاضد أو لا. وإن كان له معارض ، وجب
عليه النظر في كلّ منهما وما يعاضدهما ، واعتبار القواعد المقرّرة في الترجيح ،
فيأخذ بأقوى الظنّين الحاصلين منهما.
وعلى الثاني :
يلزم عليه أن ينظر بأنّه هل هو ممّا يحصل به القطع على اشتماله على قول المعصوم
فيجب عليه العمل به ، أو يحصل به الظنّ على اشتماله عليه ، أو لا يحصل به شيء
منهما؟ وعلى الأخيرين : هل يوجد له مخالف أو لا؟ وعلى التقادير : هل يوجد له معاضد
أو معارض من الأدلّة الأخر أو لا؟ وعلى جميع الصور : هل يدّعى إجماع على خلافه أو
لا؟ فتصير الصور كثيرة. ولا بدّ له في كلّ منها من النظر ، واعتبار الضوابط
الممهّدة للترجيح ، والأخذ بما يقتضيه.
[
الطريق ] الثالث : ما ذهب إليه الشيخ ، وهو أنّه تواتر الأخبار بأنّه إذا
وقع إجماع على باطل يجب على الإمام أن يظهر القول بخلافه ، فإذا لم يظهر ظهر أنّه
حقّ ، وايّد ذلك بحجّيّة تقريره عليهالسلام.
قيل : هذا يجري في
إجماع لم يكن له مخالف أصلا ، ولم يوجد خبر على خلافه ؛ لأنّ
__________________
القائل به لم يقل
بأنّه يجب على الإمام أن يعرّفهم نفسه ويردّهم ، بل اكتفى بمجرّد ظهور قول منه
بخلاف ما أجمعوا عليه ، وهو يتحقّق بنصّ منه ، وبمخالفة فقيه جهل أو عرف .
لا يقال : الأخبار
الواردة في هذا الباب تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو في كلّ زمان عن حجّة لئلاّ يقع
الناس في باطل وضلالة ، فيلزم منه حقّيّة ما استمرّ بينهم ، ونحن نرى أحكاما
إجماعيّة خالف فيها فقيه ، أو ورد خبر على خلافها ، ومع ذلك استمرّت من الصدر
الأوّل إلى زماننا هذا ، ولو لم تكن صحيحة وكان مخالفة الفقيه ، أو ورود الخبر
إلقاء الخلاف منه عليهالسلام ، لكان اللازم رجوعهم منها.
لأنّا نقول : وإن
دلّ بعضها في بادئ النظر على ذلك ، إلاّ أنّه يخالف ما هو الظاهر من عدم وجوب
الردّ القهريّ عليه ؛ لأنّ شأنه إراءة الطريق ، فيجب حملها على أنّ المراد منها
أنّ الأرض لا تخلو عنه ليعرف الناس الحقّ والباطل ، كما يدلّ عليه بعض آخر منها.
نعم ، يمكن أن
يقال حينئذ : إنّ إلقاء الخلاف على النحو المذكور لا يكفي في إراءة الطريق ؛ لأنّ دأب الفقهاء عدم الاعتناء بمخالفة واحد سيّما
إذا كان معروف النسب ، والحكم بشذوذ خبر خالف الإجماع ولزوم طرحه. وعلى هذا لا
يضرّ شيء منهما بهذا الطريق.
ولكنّ أصل الطريق
لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّه يفهم من هذه الأخبار وجوب وجود الإمام في كلّ عصر
لهداية الناس إلى جميع الأحكام على ما هي عليه في الواقع ، بحيث لا يزاد شيء فيها
ولا ينقص شيء عنها ، ولا يهمل شيء عنها ، وهذا كما يدلّ على أنّه لا يتركهم أن
يجتمعوا على الخطأ ، يدلّ على أنّه يدفع عنهم الخلاف بحيث لا يرتابوا في شيء منها
، ويقيم كلّ واحد من حدود الله وأحكامه بحيث لا يعطّل شيء منها ، مع أنّا نرى أنّ
جلّ الأحكام الإلهيّة معطّلة ، كالحدود ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،
والمسائل الخلافيّة المشكلة كثيرة ، والإشكال في بعضها بلغ حدّا حارت فيه الأنظار
، ولا يكاد يهتدي
__________________
إليه الأفكار ،
ولا ريب أنّ المصيب فيها واحد وغيره على الخطأ ، فكان اللازم على الإمام أن يبيّن
لهم وجه التفصّي ، ويقيم الأحكام كما هي بمقتضى هذه الأخبار.
وبيان وجه التفصّي
على النحو المتعارف بين القوم لا يكفي لبيان إراءة الطريق ، ولو كفى لم يحتج إلى
إمام في كلّ عصر ، وهو خلاف ما دلّ عليه الأخبار. فالصحيح أنّ المراد من الأخبار
أنّه يجب وجود إمام في كلّ عصر ؛ ليفعل ما ذكر إلاّ أنّ فعله ذلك مشروط بعدم تقيّة
، أو مصلحة اخرى في عدم إظهاره ، وبدونه ـ كما في زمان
الغيبة ـ لا يجب عليه ذلك ، وحينئذ كما لا يجب عليه إقامة الحدود وبيان المسائل
الخلافيّة ، لا يجب عليه ردّ الناس إلى الحقّ لو اجتمعوا على الخطأ.
هذا ، والمنكر
لحجّيّته إمّا منكر لحجّيّة الإجماع المعتبر عند الخاصّة ، أو عند العامّة.
واحتجّ الأوّل
بوجوه ضعيفة عمدتها : أنّ كلّ إجماع يدّعى أو يستنبط إمّا يعلم اشتماله على قول
المعصوم ، فيكون الحجّة قوله والإجماع لغوا ؛ أو لا ، فلا يكون حجّة .
وقد عرفت جوابه .
والثاني بقوله
تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً
لِكُلِّ شَيْءٍ ) ، وقوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ونحوهما ، دالاّ على أنّ مرجع الأحكام الكتاب والسنّة لا غير.
وبما ورد نهيا
عامّا لكلّ الامّة عن خطأ ما نحو : ( وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) وأمثاله ، ومنه قوله عليهالسلام : « لا ترجعوا بعدي كفّارا » ولو لا جواز اجتماعهم عليه ما أفاد.
وبخبر معاذ ، حيث
سأله النبيّ صلىاللهعليهوآله عن أدلّة الأحكام فعدّ ما عدّ ـ كما سبق ـ ولم يعدّ
__________________
منها الإجماع ،
وأقرّه النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وبقوله صلىاللهعليهوآله : « بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ » وكذا « تعلّموا
الفرائض وعلّموها ، فإنّها أوّل ما تنسى » .
وقوله عليهالسلام : « خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه ، ثمّ الذي يليه حتّى
يبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم » . دلّت هذه الأخبار على خلوّ الزمان من جمع تقوم الحجّة بقولهم .
والجواب عن الأوّل
: أنّ كون الكتاب تبيانا لكلّ شيء لا ينافي كون غيره أيضا تبيانا.
وعن الثاني : أنّه
يختصّ بالمنازع فيه ، والمجمع عليه لا يفتقر إلى الردّ ، ولذا عدّ من أدلّة حجّيّة الإجماع ، كما سبق .
وعن الثالث : أنّه
منع لكلّ واحد لا للكلّ. وعلى فرض التسليم نقول : النهي لا يستلزم الوقوع.
وعن الرابع : أنّه
لم يذكر الإجماع لعدم تقرّر مأخذ حجّيّته بعد.
وعن الأخبار
الأخيرة : أنّها تدلّ على انقراض علماء الإسلام ، وحينئذ لا يتحقّق إجماع حتّى
يكون حجّة.
والخبر الأوّل
منها يدلّ ظاهرا على أنّ أهل الإسلام هم الأقلّون في ابتدائه
وانتهائه ، وحينئذ لا يدلّ على المطلوب أصلا.
وإذا عرفت ذلك فلا
يخفى عليك ما يتفرّع عليه من المسائل الوفاقيّة والخلافيّة ، وموارد
__________________
التفريع فيه
متعدّدة ، وكيفيّته في الجميع ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكر. مثلا : لو عثرت على
إجماع وعلمت أنّه لم يخالف فيه سوى معروف النسب ، تعلم أنّه لا عبرة به ، سواء كان
واحدا أو ألفا. وكذا لو خالف مجهول النسب إن حصل لك العلم بدخوله عليهالسلام. وهذا ما يقتضيه اصولنا ، كما عرفت مفصّلا .
وأمّا العامّة ،
فاتّفقوا على عدم انعقاد الإجماع بمخالفة غير نادر ، واختلفوا في انعقاده بمخالفة
النادر وعدمه على أقوال : ثالثها : عدم انعقاده وكونه إجماعا قطعيّا ، إلاّ أنّه
يكون حجّة .
أمّا الأوّل :
فلأنّ الأدلّة لم تنهض إلاّ في اتّفاق كلّ الامّة.
وأمّا الثاني :
فلأنّه يدلّ ظاهرا على وجود راجح ، وإلاّ لم يذهب إليه الأكثر.
والحقّ أنّه لا
يقدح مخالفة النادر في تحقّق إجماع كلّ الامّة ؛ لاضمحلاله كاضمحلال شعرات بيض في
حيوان أسود ، ولذا لا يمنع صدق الأسود عليه. فالحقّ أنّ النادر يلحق بجنسه لا بنفسه .
ويتفرّع عليه فروع
كثيرة ، كبقاء الخيار لو طال مجلس المتعاقدين بحيث يخرج عن العادة ؛ إلحاقا له
بجنسه ، وإلحاق الولد به لو أتت به لستّة أشهر أو سنة ؛ لما ذكر. وقس عليها
أمثالها.
فصل [٦]
الإجماع المنقول
قد يفيد القطع ، وهو المنقول بالتواتر.
واستبعاد تحقّق
التواتر في النقل ـ لتوقّفه على وجود عدد التواتر في جميع طبقات
__________________
الناقلين ، وسماع
الطبقة الاولى مشافهة عن جميع أهل الإجماع المنتشرين في المشارق والمغارب ، ونقلهم
للثانية وهم للثالثة وهكذا إلى الأخيرة وهو بعيد ـ تشكيك في مقابلة الضرورة ، كما
تقدّم .
وقد يفيد الظنّ ،
وهو المنقول بخبر الواحد. وهو مثله في الحجّيّة ؛ لكون كلّ منهما إخبارا عن رأي
المعصوم فيشتركان في الدليل. ويجري فيه ما يجري في الخبر صحّة وضعفا ، وإسنادا
وإرسالا إذا نقله من لم يكن من أهل الإجماع ، ولم يدركهم وأسنده إلى واحد منهم ،
ووقفا إذا لم يسنده. وإذا لو نقله ثقة ولم يكن له معارض ، يجب العمل به ، وإن كان
له معارض ، يجب أن يفرض خبرا إن نقله واحد فقط ، وخبرين إن نقله اثنان وهكذا. وينظر
في معارضه وفي القواعد المصحّحة للترجيح ، ويحكم بما يقتضيه.
وربّما قيل
بأولويّته لقطعيّة دلالته دون الخبر .
وفيه : أنّ الخبر
إن كان مجملا فليس بحجّة ، وإن كان نصّا فدلالته قطعيّة. واحتمال كونه ظاهرا وكون
خلافه مرادا يأتي فيه أيضا ؛ لأنّ ناقل الإجماع إمّا أن يطّلع عليه بالسماع من
المجمعين ، أو بما نظر من عباراتهم الدالّة على آرائهم. واحتمال خلاف الظاهر ـ كالتجوّز
والتخصيص وغيرهما ـ في كلّ منهما قائم.
وقيل بأولويّته
باعتبار احتياج الخبر الآن إلى تعدّد الوسائط في النقل ، وانتفاء ذلك في الإجماع ،
وقلّة الوسائط من وجوه الترجيح ، كما يأتي .
واورد عليه بأنّه
معارض في الغالب بقلّة الضبط في نقل الإجماع من المتصدّين له بالنسبة إلى نقل
الخبر ، والنظر في باب التراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما يساويه. أو
يزيد عليه في الجانب الآخر .
واحتجّ بعضهم على
حجّيّته بقوله صلىاللهعليهوآله : « نحن نحكم بالظاهر » أي بما يفيد الظنّ.
__________________
وهو خلاف الظاهر ؛
لأنّ الظاهر منه هنا ظاهر .
هذا ، واحتجّ
المنكر لحجّيّته بأنّه إثبات أصل بظاهر .
وفيه : أنّ
المختار جوازه ـ كما اشير إليه ـ ولذا اثبتت السنّة به ، وهي أعظم الاصول.
واعلم أنّه كما
يفيد خبر الواحد العلم بانضمام القرائن المفيدة إليه ، فكذا الإجماع المنقول به ؛
لاشتراك الدليل بينهما. وكيفيّة التفريع بعد ما ذكر ظاهرة.
تتمّة
قد ظهر ممّا ذكر
أنّ حكم الإجماع حكم الخبر بعينه ، فيشترط في قبوله ما يشترط هناك ، ويثبت له
الأحكام الثابتة له من التعادل والترجيح وغيرهما ، فمن نقله لا بدّ له من بيان
الطريق التي وصل بها إليه حتّى ينظر إليها في مقام الترجيح ، فربّما علمه بإحدى
الطرق المفيدة للعلم ، كالتواتر والخبر المحفوف بالقرائن ، وربما اطّلع عليه
بإخبار واحد ولا يكون مفيدا للعلم ولا بدّ له من بيانه ؛ لأنّ النقل بالإطلاق يشعر
الاستناد إلى العلم ، فلو لم يكن مستندا إليه يلزم التدليس.
فصل [٧]
خرق الإجماع المركّب
باطل عندنا ، وله صورتان :
إحداهما : أن يختلف أهل العصر على قولين لا يتجاوزونهما ، كأن يطأ
المشتري البكر ثمّ يجد بها عيبا ، فقيل : الوطء يمنع الردّ ، وقيل بجوازه مع الأرش . وخرقه بأن يحدث قول ثالث ويقال بجوازه مجّانا. وكذا لو
اختلفوا على ثلاثة أقوال أو أكثر ، وخرقه بأن يحدث قول رابع أو خامس.
وثانيتهما : أن لا يفصل الامّة بين مسألتين ، كما في زوج وأبوين ،
وزوجة وأبوين ، فمن
__________________
قال : للامّ ثلث
التركة قال في الموضعين ، ومن قال : [ لها ] ثلث الباقي قال فيهما. وخرقه بأن يفصل
بينهما ويقال : لها ثلث الأصل في أحدهما وثلث الباقي في
الأخر ، كما قال به ابن سيرين .
ومنه وجوب الغسل
وعدمه بالوطء في دبر المرأة والغلام عند الشيعة ، فمن قال منهم بالوجوب قال في الموضعين ، ومن قال بعدمه قال فيهما ، وخرقه
أن يفصل بينهما ، ويقال بوجوبه في أحدهما دون الآخر.
والدليل على
بطلانه في الصورتين : أنّ المعصوم مع إحدى الطائفتين قطعا ، فخرقه يستلزم مخالفته
جزما.
وقال بعض أصحابنا
وطائفة من العامّة : إن نصّت الامّة في الصورة الأخيرة على المنع من الفصل ، فلا
يجوز ؛ وإن عدم النصّ ، فإن علم اتّحاد طريق الحكم فيهما فكذلك ، كالمثال الأوّل ،
واتّحاد الطريق بين المسألتين فيه ظاهر ، وكتوريث العمّة والخالة ؛ فإنّ من ورّث
العمّة ورّث الخالة ، ومن لم يورّثها لم يورّثها ، واتّحاد الطريق هنا مساواة حكم ذوي
الأرحام في التوريث في الجملة وإن لم يعلم اتّحاد الطريق بينهما ، فالحقّ جواز
الفرق عملا بالأصل السالم عن مخالفة الإجماع .
ولا يخفى أنّه بعد
العلم بعدم الفصل فلا وجه لهذا التفصيل ، أمّا عندنا ، فلما ذكر . وأمّا عند العامّة ؛ فلأنّ العلم بعدم قائل منهم بالفصل يدلّ التزاما على
حكمهم بالمنع عن القول بالفصل ؛ فإنّه إذا علم أنّ الامّة اختلفت في مسألة على
قولين لا يتجاوزونهما ، فلا ريب أنّ كلّ طائفة أوجب القول بقولها أو بقول الاخرى
، ومنعت من غيرهما ، فاتّفقوا على أنّه لا فصل بينهما ، فالقول به خرق لاتّفاقهم.
فالمناط حصول العلم بعدم القول بالفصل ، ومعه
__________________
لا يجوز القول
بالفصل ، سواء نصّوا على عدم جوازه أو لا ، وإن لم يحصل يجوز ، كما يأتي . ويمكن حمل كلام هذا القائل على ما ذكرنا بتكلّف.
هذا ، ولهذه
الصورة ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يحكم
بعض الامّة في المسألتين بحكم والبعض الآخر فيهما بحكم آخر ، كما سبق مثاله . وصدق الحكمين حينئذ فيهما على سبيل الانفصال الحقيقي.
وثانيها : أن يحكم
جميع الامّة فيهما بحكم واحد. وصدقه فيهما حينئذ على سبيل منع الخلوّ ، فباعتبار
يتحقّق إجماعان بسيطان ، وباعتبار آخر يتحقّق إجماع مركّب.
وثالثها : أن لا
ينقل منهم إلينا حكم فيهما ، وحينئذ إذا ثبت حكم لإحداهما ثبت للاخرى ، وإلاّ لزم
رفع ما علم اجتماعهم عليه من عدم الفصل.
[ الإجماعات المركّبة ]
ثمّ الإجماعات
المركّبة كالبسيطة تختلف مراتبها في الاطّلاع على تحقّقها.
فمنها يقينيّ
الحصول ، إمّا للنصّ من جماعة يفيد قولهم العلم بتحقّقه ، أو لفحص تامّ انضمّ إليه
القرائن المفيدة.
ومنها ظنّيّ
الحصول ، إمّا بتصريح بعض لا يفيد قولهم إلاّ الظنّ ، أو بتتبّع ناقص لا يحصل منه
سواه.
ولكلّ من العلم
والظنّ مراتب ، ويختلف ذلك بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع مركّب كان قطعيّا عند
شخص ، ظنّيّا عند آخر.
وما تقدّم من عدم العبرة بمخالفة المعروف مطلقا ، والمجهول إذا
علم دخول قول المعصوم ، يأتي هنا أيضا. وعلى هذا يمكن القول بتحقّق الإجماع
المركّب في مسألة القصر والإتمام ، وعدم الاعتبار بمخالفة ابن أبي عقيل .
__________________
ثمّ الإجماع
المركّب إن كان قطعيّا لا يجوز مخالفته ، وكذلك إن كان ظنّيّا ولم يوجد له معارض ،
وإلاّ فيجب الرجوع إليهما وإلى القواعد الترجيحيّة والعمل بما تقتضيه ، فربّما وجب
العمل بالمعارض إذا كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل منه ، بل ربّما حصل
من المعارض ظنّ ولم يحصل منه شيء أصلا ؛ إذ لا يبعد أن يكون على حكم أدلّة متنافية
واحد منها قويّ والبواقي ضعيفة فاطّلع أهل عصر ـ كلاّ أو بعضا ـ على الضعيفة منها
دون القويّ ، فعمل بعضهم ببعضها والآخرون بالآخر ، فإذا جاء المتأخّر عنهم ووجد
القويّ منها ، يجوز له العمل به وترك الضعيفة ، والأقوال المحدثة من الفقهاء من
هذا القبيل. هذا كلّه ما يقتضيه اصولنا .
وأمّا العامّة
فأكثرهم على عدم جواز الفصل مطلقا ، وبعضهم على
جوازه كذلك. [ و ] فصّل الحاجبي
بأنّه إن رفع مجمعا عليه فممنوع ، وإلاّ فلا . والأوّل كمسألة
البكر ؛ للإجماع على أنّها لا تردّ مجّانا. والثاني كمسألة الامّ ، ومسألة فسخ
النكاح بالعيوب الخمسة ، قيل : يفسخ بها كلّها ، وقيل : لا يفسخ
بشيء منها . فالقول بالفسخ في البعض دون البعض إحداث قول ثالث ، إلاّ
أنّه يجوز ؛ لأنّ القائل به وافق في كلّ مسألة مذهبا فلم يخالف الإجماع.
وما يوضحه : أنّه
لو قال بعضهم : لا يقتل مسلم بذمّيّ ، ولا يصحّ بيع الغائب ، وقال الآخرون : يقتل
، ويصحّ ، فجاء ثالث وقال : يقتل ، ولا يصحّ ، أو لا يقتل ، ويصحّ لم يخالف
الإجماع ؛ لأنّهما مسألتان خالف في إحداهما بعضا ، وفي الاخرى بعضا ، والممنوع
مخالفة الجميع فيما أجمعوا عليه.
والضابط في معرفة
ذلك : أنّ كلّ مسألة اشتملت على موضوع كلّي ، فالحكم فيها إمّا
__________________
بالإيجاب الكلّي
أو السلب الكلّي ، أو الإيجاب والسلب الجزئيّين. فإن اختلف أهل العصر على
الاحتمالين الأوّلين بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي والباقون بالسلب الكلّي يجوز
إحداث القول بالتفصيل ، لأنّ القائل به وافق في كلّ قسم منه مذهبا. وإن اختلفوا
على غيرهما بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، والباقون بالتفصيل ؛
أو يقول بعضهم بتفصيل خاصّ والباقون بتفصيل آخر ، فلا يجوز إحداث قول ثالث ؛ لأنّه
يرفع حكما مجمعا عليه.
وغير خفيّ أنّ
القول بالتفصيل في صورة اختلاف الامّة على الاحتمالين الأوّلين يرفع
المجمع عليه ؛ لأنّ كلاّ من الإيجاب والسلب الكلّيين في قوّة المنع عن نقيضه ، أي
السلب والإيجاب الجزئيّين ؛ ضرورة أنّ من يقطع بثبوت شيء يقطع ببطلان نقيضه ،
فالموجب للفسخ بالعيوب الخمسة يمنع عدم الفسخ ببعضها ، والقائل بعدم الفسخ بها
يمنع الفسخ ببعضها ، فاتّفق الكلّ على بطلان القول بالتفصيل ، أي الإيجاب في البعض
والسلب في البعض.
وبهذا ظهر ضعف ما
قيل : إنّ المفصّل خالف الموجب في قوله بالإيجاب الكلّي ، والنافي في قوله له
بالسلب الكلّي ، وكلّ منهما خالف الآخر في قوله ، فهو لم يخالف المجمع عليه . وإنّ القول بالتفصيل ليس حكما واحدا مخالفا لما اتّفق عليه الكلّ ، بل في
الحقيقة حكمان مختلفان خالف القائل به في كلّ منهما جماعة. وإنّ عدم القول
بالتفصيل ليس قولا بعدمه ، وإنّما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا
بثبوته.
لما عرفت أنّ نفي
التفصيل حكم واحد مجمع عليه بين الكلّ ، كيف لا؟ وكلّيّة الحكم ـ سواء كان إيجابا
أو سلبا ـ كانت ممّا اتّفق عليه الكلّ وهي مسألة واحدة ، والقول بالتفصيل يخالفها
؛ والقياس على مسألتي الذمّيّ والغائب باطل ؛ لأنّ عدم جواز إحداث القول الثالث
مخصوص بقولين تعلّقا بمسألة واحدة حقيقة ، كمسألة البكر ، أو حكما كمسألة الفسخ
بالعيوب الخمسة ؛ لتحقّق قدر مشترك بينهما حينئذ ، وكونه مسألة واحدة ،
__________________
وكون الثالث
تفصيلا لها ، ومسألتا الذمّيّ والغائب متغايرتان حقيقة وحكما ، ولا
يخطر بالبال قدر مشترك بينهما ، واعتباره تفصيلا ، وجعله مسألة واحدة تعسّف.
هذا ، ولقائل أن
يقول : ما ذهب إليه الحاجبي إحداث المذهب الثالث ؛ لأنّ الامّة اختلفوا على قولين
: جواز إحداث المذهب الثالث مطلقا ، ومنعه مطلقا ، فالقول بجوازه في البعض والمنع
في البعض إحداث مذهب ثالث ، فتأمّل.
هذا ، واحتجّ
المجوّز مطلقا بوجوه ضعيفة أعرضنا عن ذكرها ؛ لظهور فسادها ، فثبت أنّ الحقّ على اصول
العامّة أيضا عدم القول بالفصل ، كما ذهب إليه أكثرهم.
والفروع له كثيرة
وقد تقدّم بعضها .
ومنها : اجتماع
الجدّ مع الأخ. قيل : يرث المال كلّه ويحجب الأخ . وقيل : يقاسم الأخ . فالقول بحرمانه قول ثالث .
ومنها : اشتراط
النيّة في الطهارات ، قيل به في كلّها . وقيل به في
بعضها . والقول بعدمه في الكلّ قول ثالث .
وهذان الفرعان
ممّا فرّعهما عليه العامّة .
ومنها : انفعال
الماء القليل بالنجاسة ، فقيل بانفعاله من جميع النجاسات . وقيل بعدم انفعاله من شيء منها . فالقول بانفعاله
من البعض دون البعض قول ثالث. وهذا ممّا فرّع عليه أصحابنا.
__________________
تتمّة
إذا افترقت
الإماميّة في مسألة فرقتين ، فإن كان كلّ منهما ـ كلاّ أو بعضا ـ مجهول النسب ،
فإن كان مع إحداهما دلالة قطعيّة تعيّن العمل بقولها ؛ لأنّ الإمام معها قطعا ،
وإلاّ فالذي يقتضيه النظر الاحتياط بالجمع إن أمكن ، وإلاّ فالتوقّف. والظاهر
إمكان القول بالتخيير في العمل حينئذ ، كما ذهب إليه الشيخ .
والإيراد عليه : بأنّه يقتضي استباحة ما حظّره الإمام ، يبطل التخيير عند تعارض الأخبار
وانسداد باب الترجيح وهو باطل ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا.
والقول باطّراح
القولين حينئذ والرجوع إلى دليل آخر ـ كما ذهب إليه بعض ـ يقتضي اطّراح قول الإمام ؛ لأنّ الإمام مع إحداهما قطعا.
وإن كان إحداهما
معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم ، قيل : كان الحقّ حينئذ في الطائفة الاخرى .
وهذا صحيح على
الطريق الأوّل ، إلاّ أنّه لا يكون إجماعا مركّبا ؛ لتوقّفه على صلاحية كلّ من
القولين لدخول قول المعصوم فيه ، والمفروض حينئذ تعيّن دخوله في إحداهما ، فهو
إجماع بسيط. وعلى هذا الطريق لو كان كلّ منهما معلوم النسب ، لم يتحقّق إجماع
مركّب ولا بسيط. وعلى الطريق الثاني يكون حكمهما ما ذكر في الشقّ الأوّل .
تذنيبات
[
التذنيب ] الأوّل : موت إحدى الطائفتين المختلفتين أو تكفيرها كاشف عن خطئها وإصابة الاخرى ،
أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلصيرورة الباقين كلّ الامّة ، فيتناولهم أدلّة
الإجماع .
__________________
وما يناسب فروعه :
ما إذا مات رجل وخلّف وارثين ، فأقرّ أحدهما بثالث ، وأنكره الآخر ، ثمّ مات
المنكر ولم يكن له وارث سوى المقرّ ، فيشاركه المقرّ به ؛ لانحصار الإرث فيه.
[
التذنيب ] الثاني : لا يجوز عندنا تعاكسهما في القولين. ووجهه ظاهر. ووافقنا بعض العامّة ، وأكثرهم على جوازه . ومبنيّ على خلافهم في أنّه هل يجوز خطأ كلّ الامّة في
مسألة واحدة على البدل ، أم لا؟
[
التذنيب ] الثالث : الحقّ جواز تحقّق الإجماع بعد الخلاف ، وله صور كلّها جائزة :
الاولى : أن يتّفق
أهل عصر في مسألة على قول بعد اختلافهم فيها على قولين من غير أن يستقرّ خلافهم.
والظاهر الوفاق على جوازه ، وكونه إجماعا وحجّة ، ووجهه ظاهر.
الثانية : أن
يتّفقوا عليه بعد استقرار خلافهم. وجوازه عندنا ظاهر ؛ لأنّه يمكن أن يطّلعوا بعد
الخلاف على أنّ المعصوم قائل بأحد القولين فيجب اتّفاقهم عليه ، ويكون حجّة. وأمّا
العامّة ، فأنكره بعضهم ، وجوّزه آخرون .
ثمّ اختلف
المجوّزون ، فقال بعضهم : حجّة . وقال آخرون : ليس بحجّة . وكلّ من اعتبر منهم انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه وحجّيّته. وما
يقتضيه قواعدهم جوازه وحجّيّته مطلقا.
أمّا الأوّل ؛
فلأنّه لا إجماع عندهم إلاّ عن مستند ، كما يأتي فيمكن أن يظفروا على ما يصلح
مستندا لأحد القولين بعد خلافهم ؛ لعدم عثورهم عليه ، وحينئذ يجب اتّفاقهم عليه.
وأمّا الثاني ؛
فلأنّه اتّفاق كلّ الأمّة ؛ لأنّه لا قول حينئذ لغيرهم ، وقول بعضهم بعد ظهور خطئه
والرجوع عنه لم يبق معتبرا ، فيتناوله أدلّة الإجماع.
__________________
هذا ، مع أنّه ورد
في طرقهم وقوعه ، كما رووا أنّ الصحابة اختلفوا في موضع دفن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ اتّفقوا على قول عليّ عليهالسلام . وفي وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، ثمّ اتّفقوا على وجوبه
به .
الثالثة : أن
يتّفق أهل العصر الثاني على إحدى القولين اللذين اختلف أهل العصر الأوّل عليهما ،
وهي كالتي قبلها جوازا وحجّة واستدلالا من دون تفاوت.
ويدلّ على وقوعه
أيضا ما روي أنّ الصحابة اختلفوا في بيع امّهات الأولاد ، وأجمع من بعدهم على
المنع منه ، ومنع عمر عن متعة العمرة إلى الحجّ ، ثمّ صار جوازه
مجمعا عليه ، كما قال البغوي .
واحتجّ المنكرون
بوجوه لا يخفى فسادها على أحد ، ولذلك أعرضنا عنها.
وكيفيّة التفريع :
أنّ المسائل التي كان أهل عصر فيها على قولين أو أكثر ، كمسألة القياس ، ومسألة
القصر والإتمام ، وأمثالهما ، ثمّ اتّفق أهل العصر الثاني على أحد القولين أو
الاثنين يكون اتّفاقهم حجّة لأهل العصر الثالث ، ولا يجوز لهم مخالفته.
فصل [٨]
الحقّ أنّ انقراض
عصر المجمعين غير مشترط لانعقاد إجماعهم.
أمّا عندنا ؛
فلأنّ الحجّة قول المعصوم ، وهو في جملة أقوالهم انقرضوا أم لا.
وأمّا عند العامّة
؛ فلعموم الأدلّة.
ولعدم الخلاف في
حجّيّة الإجماع بعد انقراض العصر ، فهي إمّا للاتّفاق ، أو للانقراض ، أو كليهما.
والأخيران باطلان ، وإلاّ كان الموت مؤثّرا في حجّيّة القول ، فالحقّ الأوّل.
ولعدم تحقّق إجماع
عادة لو كان الانقراض شرطا ؛ لتلاحق المجتهدين بعضهم بعضا ؛
__________________
فإنّ الصحابة لم
ينقرضوا حتّى حدث في عصرهم من التابعين مجتهدون ، وهم لم ينقرضوا حتّى لحقهم من
تابعيهم آخرون ، وهلمّ جرّا ، فيجوز مخالفة كلّ طبقة من اللاحقين لطبقة سابقة عليه
؛ لعدم انقراضها ، وحينئذ لا ينعقد إجماع ؛ لأنّه يتوقّف على انقراض عصر كلّ من
يجوز له المخالفة ، وهو محال عادة.
والقول بأنّه لا
مدخليّة للاّحقين ؛ لأنّ المجمعين هم الأوّلون الموجودون عند حدوث الواقعة ،
فالشرط انقراض عصرهم فقط ، فاسد ؛ إذ لا شبهة في جواز مخالفة اللاحقين ؛ لأنّه لم
يسبقهم إجماع يكون حجّة عليهم ؛ لعدم انعقاده بعد ، وهو لإمكان أن يكون قول المجمعين على الخطأ بوجود معارض ، وهو لا يرتفع بموتهم.
هذا ، واحتجّ
المشترط ـ وهو أحمد بن حنبل وابن فورك ـ : بأنّه يمكن أن يوجد معارض ذهل عنه
المجمعون ، وهم ـ ما داموا أحياء ـ لمّا كانوا مشتغلين بالبحث والنظر في أدلّة
الأحكام ، فربّما عثروا عليه وتغيّر اجتهادهم الأوّل ، فلا يستقرّ الإجماع إلاّ
بعد وفاتهم .
وفيه : أنّ هذا
بعيد ، ولو قدّر لا يعمل به ؛ لأنّ الإجماع قاطع ، ولا يرجع عنه بالاجتهاد. وهذا
كما لو اطّلع عليه بعد الانقراض.
والقول بأنّه
ربّما كان إجماعهم عن ظنّ ، ثمّ اطّلعوا على القاطع ، أو ظنّ أقوى منه ، ينتقض بإمكان الاطّلاع عليه بعد الانقراض أيضا.
والحلّ : أنّ
تحقّق اتّفاق عن ظنّيّ مع وجود قاطع على خلافه محال عادة ، ومع وجود ظنّيّ أقوى
منه بعيد جدّا ، مع أنّ الإجماع عند العامّة قاطع وإن حصل عن اجتهاد ودليل ظنّيّ ،
فالحكم المجمع عليه يصير بعد الاتّفاق عليه قطعيّا وإن كان مستنده ظنّيّا ، فلا
يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد.
__________________
فصل [٩]
اتّفق الناس ـ إلاّ
من شذّ ـ على أنّه لا إجماع إلاّ عن مستند ، وهو بديهيّ الصحّة
عند الفريقين.
أمّا عندنا ،
فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلأنّه يمتنع عادة اجتماع الجمّ الغفير على أمر من دون داع ،
كالاجتماع على أكل طعام واحد ؛ ولأنّ بيان الحكم الشرعي من دون مستند خطأ ، فلو
اجمع عليه من دونه لزم الإجماع على الخطأ.
وفيه نظر لا يخفى.
ثمّ الحقّ ، أنّ
كلّ ما علم حجّيّته وصلاحيّته لتأسيس الحكم الشرعي ، يصحّ أن يكون مستندا له ،
سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا.
وما قيل : إنّه
لمّا كان دخول قول المعصوم شرطا في الإجماع عند الإماميّة وهو لا يقول إلاّ عن
دليل قطعيّ ، فإجماعهم لا يصدر عن مستند ظنّيّ وإن كان أقوال من عداه عليهالسلام من المجمعين مستندة إلى الحجّة الظنّيّة ، كخبر الواحد ومثله ، منظور فيه ؛ لأنّ قوله وإن لم يكن إلاّ عن قاطع ، إلاّ أنّه لا يصحّح كون
إجماعهم مطلقا عن مستند قطعي ؛ لأنّ هذا يتوقّف على قطعيّة الطريق إلى قوله ، وإن
كان الطريق إليه ظنّيّا لا يصدق عليه أنّه وقع عن قاطع.
هذا ، واحتجّ من
لم يشترط المستند فيه بأنّه لو كان عنه ، لاستغني به عنه ، فلم يكن للإجماع فائدة .
والجواب : فائدته
سقوط البحث ، وحرمة المخالفة ، والتقوية والتأييد ، كما سبق .
ثمّ العامّة على
أنّ كلّ إجماع قطعيّ ؛ نظرا إلى الأدلّة وإن كان مستنده ظنّيّا . وأصحابنا على أنّ ما علم دخول قوله عليهالسلام فيه يكون قطعيّا ، وإن ظنّ دخوله فيه يكون ظنّيّا ، كما تقدّم .
__________________
فصل [١٠]
إذا استدلّ أهل
العصر بدليل أو أوّلوا تأويلا ، فالأكثر على أنّه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو
تأويل آخر. وهو حقّ ؛ لأنّه لم يزل العلماء في الأعصار يستخرجون الأدلّة
والتأويلات من غير نكير .
نعم ، إن كان
التأويل الثاني مبطلا للأوّل ، فالظاهر عدم جوازه ؛ للزوم مخالفة الإجماع ، فلو
أوّل الأوّلون المشترك بأحد معنييه لم يجز لمن بعدهم حمله على
المعنى الآخر إن تنافيا ، وإن لم يتنافيا ، فإن جوّز استعمال المشترك في إطلاق
واحد في معنييه حقيقة ـ بأن يكون من عموم الاشتراك ـ أو حقيقة ومجازا ـ بأن يكون
من عموم المجاز ـ فجاز ، وإلاّ لم يجز.
فصل [١١]
اتّفق أصحابنا ـ إلاّ من شذّ ـ على أنّ الإجماع السكوتيّ ـ وهو قول البعض وسكوت الباقين
مع معرفتهم به ـ ليس إجماعا ولا حجّة ؛ لأنّ السكوت أعمّ من الرضاء ، ويمكن أن
يكون للتوقّف ، أو التعظيم ، أو للتقيّة ، أو التصويب ، أو غيرها.
ولذا قيل : لا
ينسب إلى ساكت قول . وربّما أفاد ظنّا لا يصلح
مثله لتأسيس الحكم الشرعي. وقد يعلم بالقرائن موافقة الساكتين للمصرّحين ، وحينئذ
كان حجّة وإجماعا ؛ لأنّ العبرة بالرأي دون القول ، وهو نادر.
وعلى الطريق
الثاني في الإجماع : ربّما علم بقول البعض ـ وإن سكت الباقون ـ دخول
__________________
قول المعصوم في
أقوالهم إذا كانوا جماعة علم من حالهم أنّهم لا يقتحمون على الإفتاء بغير علم ،
وهو أيضا نادر.
هذا ، وذهب بعضهم
إلى أنّه حجّة وإجماع ، محتجّا بأنّ سكوتهم دليل ظاهر في موافقتهم. وقد عرفت جوابه
.
وقيل : إنّه حجّة
لا إجماع ؛ لأنّ سكوتهم ظاهر في موافقتهم ؛ لما علم من عادة الصحابة
والتابعين ومن تأخّر عنهم من المجتهدين أنّهم مع المخالفة يظهرون الإنكار ، كما لا
يخفى على من تتبّع آثارهم ، فيحصل منه ظنّ بالوفاق وهو كاف للحجّيّة.
وفيه : أنّه مع
قيام الاحتمالات المذكورة لا يحصل ظنّ ينتهض حجّة لتأسيس الأحكام ، ونفيه رأسا
تعسّف ؛ لما نقل عن عادتهم ، كما نقل عن ابن عبّاس أنّه سكت في مسألة العول أوّلا
، ثمّ أظهر الإنكار ، فقيل له في ذلك ، فقال : « إنّ عمر كان رجلا مهيبا » .
نعم ، إن علم
موافقتهم بالقرائن ، فلا كلام في حجّيّته ، كما ذكرناه.
وقال بعضهم : إنّه
إجماع بشرط انقراض العصر ؛ لأنّ استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف قيام
الاحتمالات المذكورة ، فيكون ظاهرا في الموافقة.
وظهر ممّا ذكر
جوابه.
وقيل : إن كان
القول فتوى فإجماع ، وإلاّ فلا ؛ لأنّ الحاكم يهاب دون المفتي ؛ ولأنّ الفتيا ممّا يخالف
ويبحث عنه دون الحكم.
وفساده ظاهر.
وقيل : إنّه إجماع
إن كان في عصر الصحابة ، وكان فيما يفوت استدراكه ، كإراقة
__________________
الدم واستباحة
الفرج. وإن كان فيما لا يفوت ـ كأخذ الأعيان ـ كان حجّة. وفي كونه إجماعا وجهان .
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وهي نوعان :
أحدهما : الأحكام
التي صرّح بها بعض المجتهدين وسكت عنها الباقون ، كوجوب الخروج من الماء للمرتمس.
وثانيهما : ما
يحدث من الأقوال والأفعال ، كالعقود ، والدعاوي ، وغيرهما من بعض الناس ، ويكون
القطع فيها على طرف مشروطا بتصريح بعض آخر وسكت ، كما إذا عقد رجل فضولا وحضر
المالك وسكت ، فإنّه لا يكون إجازة على ما اخترناه. وإذا قال : « هذا ولدي » فسكت
، فإنّه يلحقه ، خلافا للشيخ . وإذا أتلف شيئا ومالكه ساكت ، يلزمه الضمان. وإذا ادّعى
رقّ شخص في يده وباعه وكان الشخص ساكتا ، لم يلزم منه الاعتراف بالرقّيّة. وقس
عليها أمثالها وهي كثيرة.
ومخالفة بعض
الموارد للقاعدة ـ كالاكتفاء بسكوت البكر عن إذنها إذا استؤذنت ـ للأدلّة
الخارجيّة.
فصل [١٢]
الحقّ أنّ الشهرة
ليست حجّة بأن تصلح بمجرّدها دليلا للحكم ، ولكنّها تكون مؤيّدة ومرجّحة.
أمّا الأوّل ؛
فلعدم الدلالة على حجّيّتها ، ولاستلزامها عدمها ؛ لأنّ المشهور أنّ الشهرة ليست بحجّة.
وقرّب بعض أصحابنا
حجّيّتها ، محتجّا بأنّه يمتنع عادة إفتاء كثير من العدول بغير علم .
__________________
ولا يخفى أنّه لا
يجري في كلّ شهرة ؛ لأنّ مراتبها مختلفة ، فربّ شهرة ضعيفة لا يحصل منها ظنّ أصلا
، ولا تصلح للتأييد فضلا عن أن يحصل منها العلم ، أو ظنّ يكون حجّة.
نعم ، قد تكون
الشهرة قويّة ، بحيث يحصل معها قوّة الظنّ وتصلح للترجيح ، بل ربّما بلغت حدّا
يكون حجّة.
نعم ، إذا كان
المخالف قليلا ، فإنّه يمكن أن يحصل الظنّ القويّ بدخول قول المعصوم في مثل هذه
الشهرة ، إلاّ أنّها تكون عندنا إجماعا ؛ لعدم مخالفة النادر فيه ، كما عرفت .
وأمّا الثاني ؛
فلتبادر الظنّ إلى أنّ الخطأ من القليل أظهر منه من الكثير ؛ ولما ورد من قولهم عليهمالسلام : « خذ المجمع عليه بين أصحابك » ؛ فإنّ الظاهر منه المشهور بقرينة قوله عليهالسلام : « واترك الشاذّ النادر » .
ثمّ الحقّ ، أنّ
الشهرة مطلقا تصلح للتأييد والترجيح ، سواء كانت من المتقدّمين أو المتأخّرين ،
وشهرة المتقدّمين وإن كانت أقوى نظرا إلى قرب عهدهم بالحجج عليهمالسلام وتمكّنهم من تحصيل القرائن ، ولكنّ الشهرة بين المتأخّرين أقوى ؛ نظرا إلى أنّ
دقّتهم أكثر.
وما قيل : إنّ كلّ
شهرة حصلت بعد زمن الشيخ لا عبرة بها ولا يحصل منها ظنّ ؛ لأنّ المتأخّرين عنه
قلّدوه في الأحكام التي عمل بها ، في غاية الضعف ؛ لأنّ مخالفتهم له أكثر من مخالفة
القدماء بعضهم لبعض ، كما لا يخفى على المتتبّع.
وإذا عرفت الحقّ ،
فكيفيّة التفريع ظاهرة.
فصل [١٣]
لا يشترط في
حجّيّة الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين عدد التواتر.
أمّا عندنا ؛
فلأنّ المعتبر كلّ عدد حصل منه العلم بدخول قول الإمام عليهالسلام كائنا ما كان.
__________________
وأمّا عندهم ؛
فلأنّ المعتبر عدد كلّ الامّة ، وإن كان أقلّ من عدد التواتر ، كما دلّ عليه الأدلّة السمعيّة .
فصل [١٤]
الإجماع إمّا ظنّي
ـ وإنكار حكمه ليس بكفر وفاقا ـ أو قطعيّ ، وهو على ثلاثة أقسام :
[ الأوّل : ] ما
كان لحكمه مدخل في الدين ، وقد علم بالضرورة ، كاعتقاد التوحيد والرسالة والعبادات
الخمس .
و [ الثاني : ] ما
كان لحكمه مدخل فيه وقد علم بالنظر.
و [ الثالث : ] ما
ليس لحكمه مدخل فيه.
ولا خلاف في أنّ
إنكار حكم الأوّل كفر. وأمّا الأخيران ، فقد اختلف فيهما .
والحقّ : أنّ حكم
الثاني كحكم الأوّل ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الدين.
والإيراد عليه :
بأنّ أصل أدلّة الإجماع لا يفيد العلم ، فما يتفرّع عليه أولى بذلك ، قد ظهر جوابه ممّا سبق .
وأمّا الثالث :
فالقطع بأحد الطرفين لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الشرع
؛ ولعدم تحقّق الكفر ما لم يتحقّق إنكار ما كان له مدخل في الدين.
فصل [١٥]
لا يجوز عندنا أن
ينقسم الامّة إلى قسمين أو أكثر ، ويخطئ كلّ قسم في مسألة ؛ لأنّ المعصوم عليهالسلام من جملتهم ، وهو لا يخطئ.
__________________
وأمّا العامّة ،
فأكثرهم على ذلك أيضا. وجوّزه بعضهم .
واحتجّ الأكثر
بأنّ خطأهم في مسائل لا يخرجهم عن الاجتماع على الخطأ ، وهو منفيّ عنهم. وهذا بناء
على أخذهم اللام في « الخطأ » للجنسيّة. وهذا اعتراف منهم
بعدم خلوّ عصر من مصيب في كلّ الأحكام من حيث لا يشعرون ؛ لضرورة جواز أن يكون كلّ
واحد منهم مخطئا في مسألة ، والآخر في اخرى لولاه.
وحجّة المجوّزين :
أنّ المتبادر من الخبر المشهور نفي اجتماعهم على خطأ واحد ، وهو مبنيّ على أخذهم
اللام في « الخطأ » للعهد.
فصل [١٦]
لا يجوز الاحتجاج
بالإجماع فيما يتوقّف صحّته عليه ؛ لأنّه دور ، ويجوز في غيره إذا كان دينيّا
وفاقا ، سواء كان من الأحكام الشرعيّة ، أو العقليّة كالوحدة وحدوث الأجسام. وإن
كان دنيويّا ، كتدبير الجيوش وترتيب امور الرعيّة وأمثالهما ، فالظاهر جواز
التمسّك به فيه ، وحرمة المخالفة ، وفاقا للمرتضى وبعض العامّة . أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ، فلعموم الأدلّة.
وذهب الإماميّة
إلى حجّيّة إجماع الأديان السابقة وجواز التمسّك به لأهلها ، ووافقهم من العامّة من أثبت حجّيّته بالعقل ، وخالفهم من أثبتها بالسمع ؛
للتخصيص المفهوم من قوله : « امّتي » ومن ظواهر أخر. وهو على ما اخترناه يحتاج إلى
نكتة ، فتأمّل.
__________________
وقد يطلق الإجماع
على الاتّفاق الذي ليس اتّفاق الكلّ ، ولا كاشفا عن قول المعصوم ، كاتّفاق أهل اللغة ، أو الصرف ، أو العروض على أمر. ومنه اتّفاق العصابة
على تصحيح ما يصحّ عن فلان ، أو العمل برواية فلان. ومثله وإن لم يكن قاطعا ولا
حجّة ، ولكنّه يكون مؤيّدا ومرجّحا ؛ لإفادته الظنّ بصحّة ما اتّفقوا عليه. وربما
أفاد ظنّا قويّا جاز التمسّك به.
فصل [١٧]
قد صحّ لديك من
حدّ الإجماع أنّه لا عبرة فيه بالكفّار ومن لم يوجد ، وقد اتّفق عليه الفريقان ،
ووجهه عندنا ظاهر ، وعندهم الأدلّة المتقدّمة ، وعدم تحقّق
إجماع قطّ لولاه.
ومنه يظهر عدم
العبرة بالعامّيّ موافقته ومخالفته عندهم ، وبه يقيّدون إطلاقات الأدلّة. وأمّا
عندنا : فالحكم فيه ظاهر.
ولا عبرة عندنا
بالمخطئ من أهل القبلة ، سواء تضمّن خطؤه كفرا كالمجسّمة ، أو فسقا فاحشا ، ووجهه
ظاهر.
ووافقنا أكثر
العامّة في الأوّل ؛ لأنّه كالكافر.
واختلفوا في
الثاني على أقوال : ثالثها : أنّه يعتبر في حقّ نفسه دون غيره ، ويكون الإجماع
الذي خالفه فيه حجّة على غيره لا عليه .
والحقّ على اصولهم
اعتباره مطلقا ؛ لأنّه بالفسق لم يخرج عن الامّة ، فاتّفاق من سواه ليس اتّفاق كلّ
الامّة ، فلا تدلّ الأدلّة المتقدّمة على حجّيّته.
قيل : ولا عبرة
بقول المجتهد في فنّ في إجماع ثبت في فنّ آخر ، فلا يعتبر قول
الفقيه في الكلام ، وبالعكس ، ويعتبر قول الاصوليّ المتمكّن من الاجتهاد في الفقه.
والضابط : أنّ
__________________
المجتهد في فنّ إن
لم يتمكّن من الاجتهاد في فنّ آخر ، يكون حكمه فيه حكم العامّيّ ، فلا يعتبر
موافقته ولا مخالفته ، كما سبق ، وإن تمكّن منه ، يعتبر قوله عند العامّة ، وعندنا لا يخفى جليّة الحال.
هذا ، وبقيت مسائل
ذكرها العامّة في اصولهم بعضها متّفق عليه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل البيت
عليهمالسلام. وبعضها مختلف فيه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل
المدينة ، وإجماع الخلفاء الأربعة ، والشيخين ، وعدم اختصاص الإجماع المحتجّ به
بالصحابة . تركناها ؛ لظهور الحال فيها على اصول الفريقين ، والتعرّض
لها لا يثمر إلاّ تكثير السواد.
__________________
الباب
الرابع
في
الأدلّة العقليّة
وهي ثلاثة أنواع :
[ الأوّل : ] ما
يعتمد عليه وينتهض دليلا لنفي الحكم الشرعي لا لإثباته.
و [ الثاني : ] ما
يعتمد عليه وينتهض دليلا لإثباته.
و [ الثالث : ] ما
لا يعتمد عليه.
وها هي نذكرها في
فصول :
فصل [١]
ممّا عدّ من النوع
الأوّل : أصل البراءة عن الشواغل الشرعيّة حتّى يدلّ دليل على خلافه ، وهو على
صنفين :
[
الصنف ] الأوّل : أصالة براءة الذمّة عن حقوق الله حتّى يثبت خلافه ، وهو على قسمين :
أوّلهما : أصالة
نفي فعل وجوديّ هو الحرمة أو الكراهة ، حتّى يثبت خلافه. وبه يثبت الحلّ في
الأعيان ، والإباحة في الأفعال قبل بعثة الرسل وبعد بعثتهم فيما لا نصّ فيه.
وثانيهما : أصالة
نفي فعل وجوديّ هو الوجوب أو الاستحباب ، حتّى يثبت خلافه.
و
[ الصنف ] الثاني : أصالة براءتها عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها .
__________________
فهنا ثلاث مقامات :
[
المقام ] الأوّل : في أنّ الأصل في الأشياء الإباحة قبل ورود الشرع. وإليه ذهب المعظم . وقيل بالتوقّف مطلقا . وقيل به فيما احتمل الحرمة ولم يكن من الشبهة في طريق
الحكم ، وفي غيره الحكم فيه الإباحة . وقيل بوجوب
الاحتياط .
والأكثر على أنّ
القائل بالاحتياط هو القائل بالتوقّف ؛ فإنّه يتوقّف في الفتوى والحكم ، ويحتاط في
العمل. وليس القول به مذهبا على حدة ، ويأتي حقيقة الحال فيه.
وقيل بالحرمة
ظاهرا . وقيل به واقعا . ومحلّ الخلاف
الأفعال الاختياريّة. وأمّا الاضطراريّة : فالأصل فيها الإباحة وفاقا.
لنا : استفاضة
الأخبار بإطلاق كلّ شيء حتّى يرد فيه نهي ، وبعدم المؤاخذة
قبل البيان ، وبأنّه لن يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها ، وبعدم قيام الحجّة قبل المعرفة ، وبعدم تعلّق
التكليف بمن لا يعقل ، كالمجانين والصبيان وأمثالهما ، وتعلّقه بهم يوم القيامة.
ولنا : قوله تعالى
: ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) دلّ على إباحة جميع أفراد
__________________
الانتفاع في جميع
ما في الأرض إلاّ ما ثبت من خارج ؛ لأنّ المقام مقام امتنان ، واللام يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ، ولفظة « ما » ظاهرة في العموم.
وقوله : ( إِنَّما
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) إلخ دلّ بمفهوم الحصر على إباحة غير ما ذكر.
وقوله : ( يا
أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ). وحمل « من » على التبعيضيّة ، وإرادة بعض معيّن أو مبهم
لا يناسب مقام الامتنان ، وإرادة بعض لم يثبت حرمته يثبت المطلوب.
وقوله تعالى : ( أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ ). والمراد بـ « الطيّب » ما يستطاب طبعا لا الحلال ، وإلاّ لزم التكرار ، وهو
يقتضي حلّ المنافع بأسرها.
وقوله : ( قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
) إنكار على من
حرّم الزينة والرزق الطيّب ، فيثبت الإباحة في كلّ ما يصدق عليه الزينة والطيّب.
وقوله : ( لا أَجِدُ
فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) إلخ. وجه الاستدلال به ظاهر. وفيه إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل
قبل الشرع ؛ لأنّه في صورة الاحتجاج على الحلّ بعدم وجدان التحريم إلاّ للأشياء
الخاصّة.
وقوله : ( قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ) الآية دلّ باعتبار إفادة « ما » للعموم على إباحة ما سوى المتلوّ عليهم.
وقوله تعالى : ( إِنَّما
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ). ووجه الاحتجاج به ظاهر.
وقوله تعالى : ( وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ).
__________________
وقوله : ( لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ).
وقوله : (
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ).
وقوله : ( وَما كانَ
اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما
يَتَّقُونَ ) ، ووجه الاحتجاج بها ظاهر.
ولنا : حكم العقل
بقبح التكليف من غير بيان ؛ لاستلزامه تكليف ما لا يطاق ، والإجماع المعلوم
بالتتبّع ، ونقل غير واحد من أجلّة الأصحاب . قال المحقّق :
|
إنّ أهل الشرائع
كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الإذن فيها من
الشرع أو لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المآكل أن يعلم التنصيص
على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت
محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن .
|
فإن قلت : مقتضى
هذه الأدلّة أنّه لا سبيل للعقل إلى إدراك الأحكام الشرعيّة ، وهذا ينافي ما اخترت
فيما سبق من استقلال العقل في إدراك الوجوب والحرمة العقليّين ،
واستلزامهما للوجوب والحرمة الشرعيّين.
قلت : قد سبق منّا أنّ أمثال هذه الأدلّة لا تفيد أكثر من أنّه لا حكم للعقل فيما لا يقتضي
فيه بحسن وقبح ، وهو محلّ الخلاف.
احتجّ المتوقّف
بالأخبار الحاصرة بين أقسام ثلاثة :
[ الاولى : ]
الدالّة على التثليث ولزوم الكفّ والتثبّت عند الشبهة .
و [ الثانية : ]
الدالّة على المنع عن القول بغير علم .
__________________
ويدلّ عليه بعض
الآيات أيضا كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ ) إلخ. وقوله : ( وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللهِ ) إلخ. وما لم يرد
به الشرع شبهة ، والحكم فيه بالإباحة قول بغير علم.
و [ الثالثة : ]
الدالّة على أنّ لله في كلّ واقعة حكما مخزونا عند أهله ، والقول بالإباحة فيما لا نعلمه ينافيه .
والجواب عن الأوّل
: منع كون ما لا نصّ فيه شبهة ؛ لأنّ المراد من الشبهة في أخبار التثليث ما تعارض
[ فيه ] النصّان ؛ لأنّها وردت فيه ، ولو كانت الأخبار الدالّة على الوقف فيما
تعارض فيه النصّان دالّة على الوقف فيما لا نصّ فيه ، لكانت الأخبار الدالّة على
التوسعة في الأوّل دالّة على الإباحة في الثاني ؛ لأنّ التوسعة في معنى الإباحة.
ومع التسليم نقول
: إنّ هذه الأخبار كالصريحة في أنّ الشبهة ليست من المحرّمات ، فلا يكون اجتنابها
واجبا ، بل المفهوم منها أنّها لمّا كانت ممّا يفضي إلى ارتكاب المحرّم يكون
اجتنابها مستحبّا وارتكابها مكروها.
وما ورد في بعضها
من أنّه من ارتكبها ارتكب الحرام أو هلك ومثله ، فالمراد
منه الإشراف على الارتكاب والهلاك ، ومثله متعارف في المحاورات ، كما يقال : من
سافر وحده ضلّ عن الطريق ، أو أكله السبع.
والجواب عن الثاني
: أنّ القول بالإباحة ليس قولا بغير علم بعد دلالة الأدلّة المتقدّمة .
و [ الجواب ] عن
الثالث : أنّ ثبوت حكم لكلّ واقعة في الواقع لا ينافي براءة ذمّتنا ، وعدم تكليفنا
به إذا لم يبلغنا ؛ لأنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البيان.
ولو قطع النظر عن
ذلك كلّه وقلنا بدلالتها على مطلوبهم ، نقول : الترجيح لأخبار
__________________
الإباحة ؛
لأكثريّتها ، واعتضادها بالكتاب والعقل والإجماع.
واحتجّ القائل
بالاحتياط باستفاضة الأخبار بالأخذ به ، وبأنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى
البراءة اليقينيّة .
والجواب عن
الأخبار : أنّها محمولة على الاستحباب ؛ جمعا بين الأدلّة ، وبعضها صريح فيه.
و [ الجواب ] عن
الثاني : منع ثبوت شغل الذمّة اليقيني فيما نحن فيه. وسيأتي تحقيق القول في
الاحتياط .
ثمّ الحقّ ـ على
ما يستفاد من موارد الاحتياط والتوقّف ـ : أنّ الاحتياط يختلف في الموارد كما يأتي
، فربّ مورد يكون الاحتياط فيه الترك ، وربّ مورد يكون
الاحتياط فيه ارتكاب فعل واحد أو أفعال متعدّدة ، وليس هو مجرّد ارتكاب أمر محتمل
للوجوب وحكم آخر ما عدا التحريم ، كما فهمه بعض المتأخّرين .
والتوقّف إمّا في
القول ، وهو الكفّ عن الفتوى والحكم. وإمّا في العمل ، وهو ترك الأمر المحتمل
للحرمة وحكم آخر من الأحكام الخمسة ، فهو أخصّ مطلقا من الاحتياط. والظاهر أنّ
المتوقّف يرتكب الفعل فيما يحتمل الوجوب وغيره من الأحكام سوى الحرمة وإن لم يكن
هو معنى التوقّف. والمحتاط يكفّ عن الفتوى والحكم ، فيتّحد القول بالتوقّف
والاحتياط عند التحقيق. وحينئذ يصير أدلّة كلّ من الاحتياط والتوقّف معاضدة لأدلّة
الآخر ، إلاّ أنّ الجميع لا يقاوم أدلّة القول بالإباحة ، كما عرفت وجهه.
واحتجّ المحرّم
بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو قبيح .
وجوابه : أنّ
الإذن معلوم ، أمّا عقلا ؛ فلأنّه لا ضرر على المالك ، كالاستظلال بحائط الغير ،
وأخذ أحبّ مملوك قطرة من بحر لا ينزف لمولاه المتّصف بغاية الجود. والتقريب واضح.
__________________
وأمّا شرعا ؛ فلما
عرفت. ولو كانت الأشياء على الحصر وفرض ضدّان لا ثالث لهما ، لزم التكليف بالمحال.
إذا تقرّر ذلك
فالفروع له كثيرة :
منها : إباحة شرب
التتن.
ومنها : إذا وقعت واقعة
ولم يوجد من يفتي فيها ، فعلى القاعدة يلزم الرجوع إلى ما يقتضيه أصل الإباحة ،
والحكم بعدم التكليف ، وقس عليهما أمثالهما.
تتمّة
الشبهة على قسمين
:
أحدهما : الشبهة
في نفس الحكم الشرعي ، وهو ما اشتبه حكمه الشرعي ، أعني الإباحة والتحريم ، وعدّ
منها ما لا نصّ فيه.
وثانيهما : الشبهة
في طريقه ، وهو ما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي ، كما في اشتباه اللحم بأنّه
مذكّى أو ميتة مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام ، والاشتباه في صوت خاصّ
بأنّه غناء أم لا مع القطع بأنّ الغناء حرام.
وتوقّف
الأخباريّون في الأوّل ؛ محتجّين بأخبار التثليث ، كما تقدّم . ووافقوا الاصوليين في الثاني في أنّ الأصل فيه الإباحة ،
محتجّين بعموم بعض الأدلّة المتقدّمة ، وباستفاضة الأخبار بحلّيّة كلّ شيء فيه
الحلال والحرام حتّى يعرف الحرام بعينه .
وغير خفيّ أنّ
أخبار التثليث تدلّ على وجوب التوقّف في كلّ ما يصدق عليه الشبهة. ولا ريب في
أنّها كما تصدق على ما اشتبه فيه نفس الحكم الشرعي تصدق على ما اشتبه فيه موضوعه
أيضا ؛ لأنّه ليس لها حقيقة شرعيّة ، فيجب الرجوع إلى العرف واللغة وهما
__________________
يطلقان عليه ، وقد
اطلقت عليه في كثير من الأخبار أيضا ، فإدراج الأوّل فيها والحكم فيه بالوقف وإخراج
الثاني منها والحكم فيه بالإباحة تحكّم ، مع أنّ صدقها عليه أظهر من صدقها على ما
لا نصّ فيه ، كما لا يخفى على العارف بالعرف واللغة.
وتسليم صدق الشبهة
عليه وتخصيص الشبهة في أخبار التثليث بالشبهة في نفس الحكم الشرعي لا دليل عليه.
ومجرّد دلالة بعض الأخبار على الإباحة في أحدهما دون الآخر لا يصحّح الفرق ؛
لانعكاس دلالة بعض آخر من الأخبار والأدلّة ، مع أنّه لا يلائم ما ذهبوا إليه من
القول بالتثليث ؛ لبداهة أنّ الشبهة في موضوع الحكم الشرعي ليس حلالا
بيّنا.
فالحقّ ، ما ذهب
إليه الاصوليّون من اتّحاد حكم الشبهتين ، وهو الإباحة فيهما ، واستحباب الاجتناب
عنهما .
وكيفيّة التفريع :
الحكم بإباحة ماء النهر الذي وقع فيه الشكّ بأنّه مباح أو مملوك. وجواز النظر إلى
من شكّ فيه بأنّه ذكر أو أنثى ، أو محرم أو أجنبيّة ، أو حرّة أو أمة. وجواز لبس
الثوب المخلوط من الحرير وغيره إذا شكّ في استهلاك الحرير.
وبعضهم رجّح هنا
المنع ؛ لوجود الحرير المانع ، والشكّ في المبيح وهو الاستهلاك ، والأصل عدمه.
ولا يخفى أنّ ما
اشتبه فيه موضوع الحكم إمّا أن يكون الأصل فيه الإباحة ويشكّ في سبب الحرمة ،
فاللازم فيه العمل بالأصل بلا كلام ، كالمثال الأوّل ، والطائر المقصوص ، وكتعليق
أحد رجلين ظهار زوجته بكون الطائر غرابا والآخر بكونه غير غراب ، ولم يمكن استعلام
حاله ، فيحكم بعدم وقوع الظهارين ؛ عملا بالأصل . ولو غلب على الظنّ تأثير السبب ، ربّما حكم بالتحريم ، كما لو بال كلب في
الماء فوجده متغيّرا.
__________________
وإمّا أن يكون
الأصل فيه الحرمة ويشكّ في سبب الإباحة ، كمثال الثوب المخلوط من الحرير وغيره ،
والجلد المطروح مع عدم قيام قرينة معيّنة ، فالظاهر من كلام جماعة البناء على
التحريم . هذا ، إلاّ أن يغلب على الظنّ تأثير السبب.
وإمّا أن يتساوى
فيه الاحتمالان ، كطين الطريق ، وثياب مدمن الخمر ، والحكم فيه أيضا الإباحة كالأوّل
، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم .
ثمّ أكثر
الاصوليّين قسّموا الشبهة في الموضوع إلى الشبهة في المحصور والشبهة في غيره ،
وأوجبوا الاجتناب في الاولى دون الثانية . ومرادهم من غير
المحصور ما كان كذلك عادة ـ بمعنى ـ تعسّر حصره ـ لا ما امتنع حصره ؛ لأنّ كلّ ما
يوجد من الأعداد قابل للعدّ.
واحتجّوا عليه
بأنّ القطع حاصل بوجود الحرام أو النجس بين الامور المحصورة ، فالحكم بحلّيّة
الجميع مستلزم للحكم بحلّيّة الحرام القطعيّ ، والحكم بحلّيّة واحد منها دون غيره
ترجيح بلا مرجّح. وهذا وإن كان جاريا في غير المحصور أيضا إلاّ أنّ التنزّه فيه عن
الجميع يوجب الحرج المنفيّ بخلاف المحصور .
وفيه : أنّ هذا
ممنوع ؛ لأنّه كما يمكن الاجتناب عن الإناءين ، يمكن الاجتناب عن الأواني الكثيرة
والرجوع إلى ماء آخر ، أو التيمّم من غير حرج. والاحتجاج على وجوب الاجتناب في
المحصور بأنّه من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، يجري في غيره أيضا.
والجواب بأنّ
الواجب مقدّمة واجب قطعيّ متعيّن وهنا ليس كذلك. ولو سلّم نقول : التخصيص جائز ؛
للأدلّة.
والحقّ ـ كما ذهب
إليه بعض المحقّقين ـ : أنّ الحكم فيهما واحد وهو الإباحة ؛ لعموم
__________________
الأدلّة المتقدّمة
ما لم يحصل القطع باستعمال الحرام أو النجس ، وهو إنّما يتحقّق باستعمال جميع
الامور التي حصل فيها الاشتباه ، وحينئذ لا يحكم بحلّيّة الجميع ، ولا يجوز
استعماله محصورا كان أو غيره ، ويحكم بحلّيّة كلّ واحد وكلّ جملة منها إذا خرج
منها واحد ، ويجوز استعماله.
وإذا علمت ذلك ،
فاعلم أنّ الفروع له كثيرة وفي بعضها حكم معظم الأصحاب بالفرق :
منها : ما قالوا :
إنّ النجاسة إذا كانت في موضع وجهل موضعها ، لم يسجد على شيء منه إن كان محصورا ،
كالبيت وشبهه ، وإلاّ جاز على كلّ جزء منه ما لم يتحقّق السجود على مجموع ما وقع
فيه الاشتباه.
ومنها : حكمهم
بوجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين والثوبين كذلك. ومن هذا القبيل ما قال بعضهم
: إنّه لو علّق رجل ظهار إحدى زوجتيه على كون الطائر غرابا ، والاخرى منهما على
كونه غير غراب ، وامتنع استعلام حاله يلزم عليه الاجتناب عنهما.
وغير خفي أنّه إذا
ثبت الفرق بنصّ أو إجماع فلا كلام ، وإلاّ فالحكم ما قدّمناه .
المقام
الثاني : في أصالة نفي الوجوب والاستحباب حتّى يثبت خلافه. وقد اتّفق عليه الجميع
إلاّ بعض الأخباريّين ؛ حيث قالوا بوجوب الاحتياط بالفعل .
لنا : أكثر
الأدلّة المذكورة في المقام الأوّل.
احتجّ الخصم بما
دلّ على الأخذ بالاحتياط . وقد عرفت جوابه .
وكيفيّة التفريع
هنا ظاهرة. وممّا يتفرّع عليه طهارة كلّ شيء حتّى يعلم أنّه قذر ؛ لأنّ النجاسة
ممّا يجب الاجتناب عنه ، فثبوتها يستلزم التكليف والأصل عدمه. ويمكن إثباته
__________________
بأصل الإباحة أيضا
، ووجهه ظاهر. وقد ورد به بعض الأخبار من طرقنا أيضا.
المقام
الثالث : في أصالة براءة
الذمّة عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها. وقد أجمع عليه المسلمون ، ودلّ عليه أكثر
الأدلّة المتقدّمة .
ثمّ إجراء أصل
البراءة في نفي الحكم الشرعي مشروط بأمرين :
أحدهما : أن يكون
بعد ضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وعدم الظفر بما يدلّ على ثبوته.
قيل : ويتفرّع على
هذا اشتراط حجّيّة أصل البراءة عن حقوق الناس بعدم عروض ما يناسب شغل الذمّة ،
وأمّا إذا عرض ذلك ، فلا يقطع بحجّيّته ، كما إذا حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك
رجلا فهربت دابّته وهلكت ، أو فتح قفصا لطائر فطار. ولا يمكن في هذه الصور إجراء
الأصل في نفي شغل الذمّة عن ولد الشاة والدابّة والطائر ، بل لا بدّ للمفتي
التوقّف عن الإفتاء ، ولصاحب الواقعة الصلح .
أقول : ما يناسب
شغل الذمّة إن انتهض حجّة له ، فلا يجوز التمسّك حينئذ بالأصل ، وإلاّ جاز ، فلا
وجه للتوقّف ، فمن يدرج الصور المذكورة في قوله عليهالسلام : « لا ضرر ولا ضرار » لا يتمسّك فيها
بالأصل ، ومن لا يدرجها فيه يتمسّك به فيها.
وثانيهما : أن لا
يكون مستلزما لإثبات حكم شرعي من جهة اخرى ؛ لما عرفت من أنّه ينتهض دليلا لنفي
الحكم الشرعي لا لإثباته ، فإذا علم نجاسة أحد الإناءين واشتبه بالآخر ، فلا يصحّ
التمسّك في جواز الطهارة من أحدهما بالأصل ؛ لأنّه مستلزم لوجوب الاجتناب من الآخر
، وكذا الحكم في الزوجة المشتبهة بالأجنبيّة ، والثوب الطاهر المشتبه بالنجس ،
والحلال المشتبه بالحرام المحصور وغير ذلك.
وقال بعض
المتأخّرين : ويشترط أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة
__________________
مركّبة ؛ لأنّها
توقيفيّة ، ويعلم نفي ما شكّ في جزئيّته من النصّ الذي بيّن فيه أجزاؤها إذا لم
يذكر فيه ، لا من الأصل .
وهو ظاهر الفساد ؛
لأنّ النصّ الذي لم يذكر فيه جزء نفيا ولا إثباتا ، كيف يدلّ على نفيه إذا شكّ في
جزئيّته لإجمال دلالته عليه ، أو لأمر آخر بدون ضميمة الأصل؟!
ولو صحّ ذلك ،
لتأتّى في غير العبادات أيضا إذا ورد في بيانه نصّ ، وكون العبادة توقيفيّة دون
غيرها لا مدخليّة له في هذا الفرق ، مع أنّه غير ممكن ؛ فإنّ شروط العبادات
والمعاملات وغيرهما تتوقّف على بيان الشارع ، فالحقّ عدم الفرق ، كما ذهب إليه
المعظم ؛ لعموم الأدلّة ، وعدم نهوض ما ذكره فارقا.
فصل [٢]
ومن النوع الأوّل
أيضا : استصحاب حال العقل ، وهو إبقاء الحالة السابقة ـ أي
العدم الأزلي لكلّ شيء ، سواء كان تكليفا أو غيره ـ إلى أن يثبت المزيل.
والفرق بينه وبين
أصل البراءة أنّه يلاحظ فيه العدم السابق ويجري إلى اللاحق ، وفي أصل البراءة يحكم
بانتفاء الحكم في الحال ، سواء وجد في السابق أم لا ، ولا يلتفت فيه إلى السابق
أصلا. وعدم الفرق بينهما ـ كما قيل ـ ضعيف.
ووجه حجّيّته
استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا يزول بالشكّ ، وأنّ التكليف
بالشيء من غير الإعلام به محال. وهذا إنّما ينتهض دليلا لأصالة نفي الحكم الشرعي
وموضوعه ومتعلّقه كالنقل ، دون غيرها ممّا لا مدخليّة له بالحكم الشرعي أصلا ،
كحدوث واقعة كذا في بلدة كذا ، فلا يمكن نفيها بالاستصحاب ؛ لعدم دليل على أصالة
مثله. وعدم مقاومة الشكّ لليقين إنّما يثبت شرعا في الأحكام الشرعيّة ، ولا يدلّ
عليه العقل في غيرها ؛ لأنّه إذا شكّ في وجود الشيء في زمان يقع الشكّ في عدمه فيه
أيضا ، فلا يصحّ الحكم بتحقّقه.
__________________
نعم ، يمكن ادّعاء
الظنّ على بقاء ما كان على ما كان ـ وجودا كان أو عدما ـ إلى أن يعلم المزيل ، كما
يأتي في استصحاب حال الشرع .
وربّما استدلّ
عليه بأنّ الله تعالى صوّب الكفّار في مطالبتهم البرهان من الرسل على نبوّتهم حتّى
قال : ( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ
يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) ، والتصويب لأجل تمسّكهم بالنفي الأصلي وهو عدم النبوّة.
ثمّ أصل العدم
أعمّ من كلّ من أصل البراءة والاستصحاب المذكور ، وهو ظاهر. ووجه حجّيّته يعلم
ممّا ذكر فيهما.
وما ذكر في أصل
البراءة من أنّه لا يجوز التمسّك به فيما يلزم منه ثبوت شغل الذمّة
من جهة اخرى يأتي في أصل العدم أيضا ، فلا يصحّ أن يقال في الماء الملاقي للنجاسة
المشكوك كرّيّته : الأصل عدم بلوغه كرّا ؛ للزوم الاجتناب عنه حينئذ.
وكيفيّة التفريع
ظاهرة. مثلا إذا شكّ في كون المذي ناقضا للوضوء نقول : عدم نقضه كان ثابتا في
السابق ، فكذا الآن. ومنه عدم وجوب الزكاة لو شكّ في بلوغ النصاب ، وعدم قتل
الصبيّ الذي شكّ في بلوغه.
واعلم أنّ كلّ
واحد من الاصول التي تنتهض حجّة لنفي الحكم إنّما يدلّ على سقوط التكليف به عنها ،
لا على نفيه في الواقع ؛ لما عرفت من عدم دلالتها عليه ، ولاستفاضة الأخبار بأنّ لله في كلّ واقعة حكما مودعا عند الأئمّة عليهمالسلام إلاّ أنّهم لم يتمكّنوا من إظهار الجميع .
نعم ، إن كان
الحكم ممّا يعمّ به البلوى ولم يوجد دليل على ثبوته ، يمكن ادّعاء نفيه في الواقع
؛ لما يأتي .
__________________
فصل [٣]
ومن النوع الأوّل
أيضا : أصالة عدم تقدّم الحادث ، كأن يقال في الماء الذي وجد فيه
نجاسة بعد الاستعمال ولم يعلم أنّ وقوعها فيه بعده أو قبله : الأصل عدم تقدّم النجاسة
، فلا يكون ما لاقاه هذا الماء قبل رؤية النجاسة نجسا ، وهو من أقسام أصل العدم ،
فيترتّب حجّيّته على حجّيّتها .
ويشترط في جواز
التمسّك به أن لا يستلزم شغل الذمّة من جهة اخرى ، فإذا استعمل ماء ثمّ ظهر أنّه
كان قبل ذلك في وقت نجسا ، ثمّ طهر بما يقع به التطهير وشكّ في تقدّم الاستعمال
على التطهير وتأخّره عنه ، فلا يجوز أن يقال : الأصل عدم تقدّم التطهير ؛ للزوم
نجاسة ما لاقاه حينئذ.
وممّا يتفرّع عليه
قبول قول البائع دون المشتري لو تنازعا في تقدّم العيب على العقد وتأخّره عنه.
فصل [٤]
ومن النوع الأوّل
أيضا : الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر ، وهو إنّما يكون فيما اختلف
العلماء فيه على أقوال ، وكان يدخل بعضها في بعض ، وكان الأقلّ ثابتا بنصّ أو
إجماع وشكّ في الزائد ، ولم يكن ثبوته راجحا ، فيلزم أن يؤخذ بالأقلّ ، وينفى الزائد بالأصل. مثاله : قيل في عين الدابّة ربع قيمتها . وقيل نصف قيمتها . وليس للقول الثاني دليل يرجّحه على الأوّل ، فنقول :
الربع ثبت إجماعا ، فينفى الزائد للأصل ، فهو من أقسام أصل البراءة ، فوجه حجّيّته
ظاهر.
لا يقال : الذمّة
مشغولة بشيء يقينا ، وقد اختلف فيما تبرأ ، واشتغال الذمّة
اليقينيّ
__________________
يحتاج إلى البراءة
اليقينيّة وهي إنّما تتحقّق بالأخذ بالأكثر.
لأنّا نقول :
المحتاج إلى البراءة القدر المتيقّن من اشتغال الذمّة وهو الأقلّ ، والقدر المشكوك
فيه لا يحتاج إلى البراءة ؛ للأصل.
وقد ظهرت كيفيّة
التفريع.
وممّا يتفرّع عليه
: قول الفقهاء : الأصل عدم بلوغ الماء كرّا. وهذا إذا شكّ في كرّيته ابتداء من غير
سبق العلم بالقلّة اليقينيّة ، ومع سبقه والشكّ في كرّيته في أثناء دخول ماء آخر
فيه ، يكون من الاستصحاب.
فصل [٥]
وممّا عدّ منه
أيضا : عدم الدليل على حكم ؛ فإنّه يدلّ على عدمه ، وهذا ما يعبّر عنه العامّة بأنّ عدم المدرك مدرك العدم .
واستدلّ عليه بأنّ
الحكم الشرعي لا بدّ له من دليل ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، فإذا شكّ في حكم
ولم يظفر بدليل عليه ، غلب على الظنّ عدمه .
وغير خفيّ أنّ هذا
الدليل يفيد عدم تعلّق التكليف بمثل هذا الحكم لا عدمه في
الواقع ، فيرجع إلى أصل البراءة ولا يكون مسلكا على حدة ، مع أنّ الظاهر من كلام
القوم أنّه غير أصل البراءة ، بل غرضهم أنّ عدم الدليل دليل عدم الحكم في الواقع ،
وحينئذ لا يكاد أن يصحّ هذا بإطلاقه.
أمّا أوّلا ؛ فلما
دريت من أنّه لا يوجد واقعة إلاّ ولها مدرك شرعي وحكم واقعي عند أهله وإن لم يصل
إلينا.
وأمّا ثانيا ؛
فلأنّ عدم الدليل لو كان دليل العدم ، لكان عدم دليل العدم دليلا على عدم
__________________
العدم ، فيجتمع
النقيضان في الحكم المشكوك فيه وهو باطل.
فالحقّ ، كما قال
بعض المحقّقين : إنّ هذا يجري فيما علم أنّه لو كان هناك دليل ، لظفر به فيما يعمّ
به البلوى ؛ لأنّه يمتنع عادة ثبوت حكم لقضيّة ترد على الناس في أكثر الأوقات ولم ينقل إليهم مع توفّر الدواعي على نقل
مثله. مثاله : عدم الدليل على نقض الوضوء بالمذي دليل على عدمه ؛ لأنّه ممّا يعمّ
به البلوى ؛ لحصوله لأكثر الناس في أكثر الأوقات ، فلو ثبت لعلم من الشرع كما علم
نقض الوضوء بالبول ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
تذنيب
النافي للحكم إذا
قال : لا أدري ، فلا دليل عليه وفاقا ؛ لأنّ قوله لا يعدّ مذهبا. وإن نفاه على
البتّ ، فقيل : لا دليل عليه أيضا ؛ لأنّ النفي عدم وهو لا يفتقر إلى الدلالة .
وضعفه ظاهر ؛ لأنّ
الجازم بالنفي يدّعي العلم به ، وهو إمّا أن يستند إلى الضرورة أو النظر. والأوّل
باطل ؛ فتعيّن الثاني ، فالمحتاج إلى الدليل هو الجزم بالنفي ، ولو لم يفتقر إليه
، لزم التفصّي عنه في كلّ دعوى ؛ لإمكان إرجاعه إلى النفي وهو باطل.
ويمكن أن يقال :
إنّ مراد القائل أنّه لمّا كان المتيقّن هو العدم للاستصحاب أو لأصل البراءة حتّى
يعلم خلافه ، فالمدّعي له لا يخلو قوله عن دليل ، ولا يفتقر إلى دليل آخر. وهو لا
يلائم حكمه بعدم افتقاره إلى الدليل أصلا.
فصل [٦]
ومن النوع الثاني
: استصحاب حال الشرع ، وهو إبقاء حكم ثبت على ما كان. وتنقيحه يتوقّف على بيان
امور :
[
الأمر ] الأوّل : الاستصحاب إمّا أن يكون في نفس الحكم الشرعي ، بأن يحكم بعدم
__________________
كون شيء مزيلا إذا
شكّ في كونه كذلك مع القطع بوجوده ، أو في موضوعه بأن يحكم بعدم وجود المزيل
القطعيّ مع الشكّ في وجوده ، أو في متعلّقه ، كالحكم ببقاء المعنى اللغوي على حاله
إذا شكّ في النقل ، أو فيما لا علاقة له بالأمر الشرعي أصلا ، كالحكم ببقاء رطوبة
ثوب إذا شكّ فيها مع سبق العلم بها.
[
الأمر ] الثاني : الأكثر على حجّيّة الاستصحاب مطلقا. والمرتضى والبصري وأكثر الحنفيّة على نفي حجّيّته كذلك . وبعض المتأخّرين من أصحابنا على حجّيّته إذا كان في موضوع الحكم الشرعي دون
نفسه . وبعض آخر منهم على حجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية
مخصوصة من زمان أو حالة وشكّ في حصولها ، فيحكم باستمراره إلى أن يقطع بحصولها ،
ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في حدوثها . وبعض آخر منهم
على حجّيّته في الأحكام الوضعيّة دون الشرعيّة ؛ لجريانه أصالة في الأوّل دون
الثاني .
نعم ، يجري فيه
بتبعيّة الأوّل ، فالجريان والحجّيّة في الأوّل بالذات ، وفي الثاني بالعرض.
والحقّ عندي
الحجّيّة مطلقا ، إلاّ أنّ حجّيّة في بعض المواضع قطعيّة ينتهض فيها مؤسّسا للحكم
ودليلا ، وفي بعضها ظنّيّة يصلح فيها تأييدا وترجيحا. وسيظهر لك بعد ذكر هذه
المواضع وأدلّته.
[
الأمر ] الثالث : الموارد بالنسبة إلى جواز جريان الاستصحاب فيها وعدمه ثلاثة أصناف :
الصنف
الأوّل : ما لا شكّ في
إمكان جريانه فيه ، وهو أقسام :
منها : أن يعلم
ثبوت حكم شرعي أو وضعي إلى غاية أو حالة معيّنتين وشكّ في حصول ما جعل مزيلا له.
__________________
ومنها : أن يعلم
وجوب أمر معيّن في الواقع مردّد عندنا بين امور ، أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في
الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، وعلم عدم اشتراطهما بالعلم ، فإذا اتي بواحد من
الامور أو الأشياء يمكن إجراء الاستصحاب في عدم كفايته لارتفاع التكليف ، ووجوب
الحكم ببقائه إلى أن يؤتى بجميع الامور ، ويحصل جميع الأشياء المردّدة فيها في
نظرنا.
ومنها : أن يعلم
ثبوت حكم في جميع الأزمنة بالإجماع أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، وشكّ في ثبوته
في جزء منها غير ابتدائها لأجل معارض ، فيمكن دفعه بالاستصحاب. وإمكان دفعه
بالإجماع أو النصّ أو عمومه أو إطلاقه لا ينافي إمكان جريانه فيه ودفعه به أيضا ؛
فإذا شكّ في وقوع الطلاق ببعض الألفاظ كقوله : « أنت خليّة وبريّة » فيصحّ
للمستدلّ أن يقول : حلّ الوطء كان ثابتا قبل النطق بهذه ، فكذا بعده للاستصحاب ،
كما يصحّ له أن يقول : إنّ الدليل المقتضي له ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا من دون
التقييد بوقت ، فيلزم دوامه.
وإلى ما ذكرنا
أشار جماعة من المحقّقين حيث صرّحوا بأنّ الاستصحاب على أربعة أقسام :
أحدها : استصحاب
حكم العموم إلى ورود مخصّص ، وحكم النصّ إلى ورود ناسخ ، وهو إنّما يتمّ بعد
استقصاء البحث عن المخصّص والناسخ.
وثانيها : استصحاب
حكم الإجماع في موضع النزاع ، كما يقال : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ؛
للإجماع على أنّه متطهّر قبله ، فيستصحب ؛ إذ الأصل في كلّ متحقّق دوامه حتّى يثبت
معارض ، والأصل عدمه. وكما يقال في التيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة لا
ينقض تيمّمه ؛ للإجماع على صحّة صلاته قبل وجوده ، فتستصحب حتّى يثبت دليل.
وثالثها : استصحاب
حكم ثبت شرعا ، كالملك عند وجود سببه ، وشغل الذمّة عند إتلاف مال ، أو التزام إلى
أن يثبت رافع.
__________________
ورابعها : استصحاب
النفي في الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.
والحقّ أنّه لا
ريب في إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته في كلّ من الأقسام الأربعة ، كما يأتي ، فما ذكره بعض المتأخّرين من أنّه لا استصحاب في القسمين الأوّلين ، ولا
يمكن إثبات الحكم فيهما به ، بل بالعموم والنصّ والإجماع ، غير صحيح. ووجهه ما ذكرناه.
وكذا الحال في حكم علم ثبوته في قطعة مستمرّة من الزمان بإحدى الطرق المذكورة ،
وشكّ في ثبوته في جزء منها غير جزئها الأوّل.
الصنف
الثاني : ما شكّ في
جريانه فيه ، ووقع فيه الخلاف ، وهو على قسمين :
أوّلهما : أن يعلم
ثبوت حكم في الجملة من غير العلم بثبوت استمرار ما له وعدمه.
وثانيهما : أن
يعلم استمراره في الجملة ، ثمّ حصل الشكّ فيهما بعد مضيّ ما يصلح ظرفا لهما.
والمشهور بين
القوم إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته فيهما ، ونفاه جماعة ؛ لأنّه في موضع لو لم يعرض الشكّ في ثبوت الحكم ، لحصل اليقين بالبقاء ،
وهنا ليس كذلك ، ويأتي تحقيق الحال فيهما .
ثمّ ثبوت الحكم في
المواضع المذكورة إمّا باعتبار يعلم من خارج أنّ زواله لا يستلزم زواله ، كثبوت
نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول مثلا ، ولا ريب أنّ زوال الملاقاة لا يستلزم زوال
النجاسة.
أو باعتبار لا
يعلم ذلك فيه ، كوجوب الاجتناب عن إناء مخصوص باعتبار وقوع النجاسة فيه بعينه ،
فإذا اشتبه بغيره وزالت المعلوميّة بعينه ، يقع الشكّ في زوال الحكم ،
__________________
ولا يعلم أنّ زوال
هذا الاعتبار يستلزم زواله أم لا؟
والحقّ : أنّ
الاستصحاب يجري في كليهما ، فما لم يعلم طهارة الثوب على الوجه المعتبر شرعا يستصحب
حكم النجاسة فيه ، وكذا يستصحب وجوب الاجتناب عن الإناءين.
هذا ، ولا فرق بين
المواضع التي يجري فيها الاستصحاب بين أن يكون الحكم الثابت فيها أوّلا حكما
شرعيّا أو وضعيّا ، وأن يكون المشكوك فيه وجود المزيل القطعي ، أو كون الحاصل قطعا
مزيلا ، أم لا.
الصنف
الثالث : ما لا شكّ في
عدم إمكان جريان الاستصحاب فيه ، وهو أيضا على قسمين :
أوّلهما : أن يعلم
ثبوت حكم شرعي أو وضعي في وقت خاصّ ، أو حالة خاصّة ، بحيث يكون للزمان والحالة
مدخل فيه ، فلا يجري الاستصحاب فيما بعدهما.
وهذا القسم إمّا
أن يتجدّد الحكم فيه بتجدّدهما ، كالصلاة ومثلها ، فيمكن إجراؤه فيه من جهة دون
اخرى ، أو لا ، كوجوب الحجّ عند الاستطاعة.
وثانيهما : أن
يعلم ثبوت حكم في وقت لم يسبقه وقت آخر يثبت فيه هذا الحكم.
[
الأمر ] الرابع : احتجّ الأكثر بوجوه أربعة :
[
الوجه ] الأوّل : استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ . وأكثرها يدلّ على عدم نقض مطلق اليقين بالشكّ ، فيثبت منها حجّيّة الاستصحاب
في الصنف الأوّل من الموارد ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ، وفي نفسه ، أو
موضوعه ، أو متعلّقه.
[
الوجه ] الثاني : أنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وفاقا ، وهو أيضا
يدلّ على حجّيّته فيما ذكر.
والحقّ ، أنّهما
لا يدلاّن على حجّيّته في الصنف الثاني.
أمّا الأوّل ؛
فلأنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به.
__________________
والمراد بالتعارض
أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وما ذكروه ليس كذلك ؛ لأنّ اليقين في زمان
لا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ.
وأمّا الثاني ؛
فلأنّ شغل الذمّة في الزمان الذي وقع فيه الشكّ ليس يقينيّا ؛ لعدم دليل يتناوله
بنصّه ، أو عمومه ، أو إطلاقه.
وما يوضحه : أنّه
لو امرنا بفعل وقلنا : إنّ الأمر لا يفيد التكرار بل الماهيّة المطلقة ، وفعلنا ما
يتحقّق [ به ] الماهيّة في ضمنه وشككنا بعده في وجوب المأمور [ به ] ، لا يمكن إثباته فيه بهذين الدليلين ؛ لعدم ثبوت يقين بوجوب الفعل علينا فيه
حتّى يدفع الشكّ به.
وما قيل : إنّه
بعد ملاحظة الوجود المتقدّم يحصل رجحان البقاء في الزمان الثاني ؛ لأنّه لو فرض
ارتفاع هذا الشكّ يحصل اليقين بالبقاء ؛ لأنّ عدم عروض الشكّ إنّما يتحقّق عند
تحقّق جميع أجزاء علّة الوجود ، ومعه يحصل الجزم ببقاء المعلول ؛ لأنّ بقاءه ببقاء
العلّة التامّة ، وزواله بزوالها .
يرد عليه : أنّ
معنى قولنا : « إنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » وقولنا : « شغل الذمّة اليقينيّ لا
يدفع بالبراءة المشكوك فيها » أنّه إذا ثبت بالدلالة أنّ هنا يقينا ، ثمّ ورد عليه
الشكّ ، لا يترك اليقين به ؛ لأنّه في قوّة قولنا : « اليقين باق مع الشكّ » وهو
قضيّة موجبة تقتضي وجود الموضوع ، ولم يتحقّق ذلك في زمان ثان حصل فيه الشكّ ؛ إذ
لم يحصل فيه يقين أوّلا وإن حصل في زمان سابق عليه.
واستلزام ثبوت حكم
في زمان لثبوته في زمان آخر من غير دلالة ممنوع ، واستلزام فرض ارتفاع الشكّ لوجود
اليقين كلّيا مسلّم ، إلاّ أنّ فرض ارتفاعه في بعض المواضع يكشف عن بقاء اليقين ،
وهذا إذا ثبت يقين أوّلا بدليل ثمّ ورد عليه الشكّ.
والدليلان يدلاّن
على عدم مقاومة مثل هذا الشكّ لمثل هذا اليقين. وفي بعضها يتوقّف على تجدّد يقين
باعتبار دليل ، وهذا إذا لم يحصل يقين أوّلا ، وهما لا يجريان فيه ؛ لعدم
__________________
ثبوت يقين فيه
حتّى يقع التعارض بينه وبين الشكّ ، ولا معنى لتحقّق الاستصحاب فيه.
نعم ، إن بني
الدليل الثاني على وجوب حصول اليقين بالامتثال مطلقا ، سواء علم شغل الذمّة أم لا
ـ كما يستفاد من كلام جماعة ـ دلّ على جريان الاستصحاب وحجّيّته فيما ذكره القوم أيضا
، إلاّ أنّه حينئذ يكون ممنوعا ، ووجهه ظاهر.
[
الوجه ] الثالث : أنّ ما يثبت أوّلا ولم يتحقّق ما يزيله يظنّ بقاؤه ، ولولاه لعدّ إرسال
الودائع والهدايا والمكاتيب من البعيد سفها ، وسفّه من اشتغل بما يقتضي زمانا من
حراثة وتجارة وغيرهما ، ولزم أن يكون نسبة الوجود والعدم إلى قرية سبق العلم
بوجودها ، وقرية سبق العلم بعدمها على السواء ، وهو ظاهر البطلان. والسرّ فيه
أغلبيّة استمرار تحقّق مطلق الجواهر والأعراض القارّة المتحقّقة والانتزاعيّة بعد
تحقّق ما ينزع منه. وما ينقض سريعا هو غير القارّ من الأعراض ، ولا يقطع بكون
الأحكام الشرعيّة منها ، فإمّا أن يجزم أو يظنّ بكونها من الانتزاعيّة على ما هو
الظاهر ، فثبت المطلوب ، أو يشكّ ولا يعلم أنّه من أيّ الأقسام؟ ولا ريب أنّ ما
فيه أغلبيّة الاستمرار أغلب من غيره ، والمشكوك يلحق بالأعمّ الأغلب. وهذا الدليل
يدلّ على حجّيّته في الصنف الأوّل والثاني ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ،
وفي نفسه ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو فيما لا تعلّق به أيضا .
[
الوجه ] الرابع : الاستقراء ؛ فإنّ تصفّح جزئيات الأحكام الصادرة من الشارع يعطي الظنّ بأنّ
الأصل عنده في كلّ متحقّق دوامه ، كحكمه بعدم جواز قسمة مال الغائب ، وبقاء أنكحته
، وعزل نصيبه في المواريث وإن طال غيبته وبقاء الملك ، وجواز الشهادة عليه ما لم
يعلم الرافع ، وبقاء الليل والنهار حتّى يجزم بانقضائهما ، وجواز إعتاق الآبق في
الكفّارة ، وعمل الشاكّ في الطهارة ، والمتيقّن في الحدث ، وعكسه على يقينه ، وجواز الاستمتاع لو شكّ في الزوجيّة إذا تقدّم عليه العلم بثبوتها ،
وحرمته لو شكّ فيها ابتداء ، ولا فارق بين
__________________
الصورتين إلاّ
استصحاب الزوجية في الاولى وعدمها في الثانية.
وهذا الدليل أيضا
يدلّ على جريانه وحجّيّته في كلّ ما دلّ سابقه على جريانه وحجّيّته فيه ، سوى ما
لا تعلّق له بالحكم الشرعي ؛ وربّما منع دلالته على جريانه في الصنف الثاني أيضا ؛
لأنّ الجزئيّات الصادرة من الشارع ليست منه ، كما يفصح عنه التتبّع.
وقد استدلّ للأكثر
بوجوه أخر ، أعرضنا عنها ؛ لظهور ضعفها.
وبما ذكر ظهر أنّ
الوجوه الأربعة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في الصنف الأوّل مطلقا ، سواء كان في
نفس الحكم الشرعي ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو في الحكم الوضعي ، فيكون حجّيّته
فيه قطعيّة ؛ لتعاضدها ، وإفادة بعضها القطع كالثاني ، بل الأوّل أيضا عند
التحقيق. والثالث يدلّ على حجّيّته في الصنف الثاني أيضا.
ولعدم إفادته أكثر
من ظنّ لا ينتهض مؤسّسا لحكم شرعي يكون حجّيّته فيه ظنّيّة تصلح للتأييد لا غير ،
فثبت ما اخترناه وانفسخ باقي المذاهب.
ثمّ بعض من قال
بحجّيّته في الصنف الأوّل استثنى منه استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع وقال بعدم
حجّيّته ؛ محتجّا بأنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه معه ،
والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ؛ إذ المخالف لا يسلّم شمول
الإجماع محلّ الخلاف ، بخلاف النصّ والعموم ودليل العقل ؛ لأنّ الخلاف لا يضادّه ؛ فإنّ المخالف قائل بأنّ العموم مثلا يتناول موضع الخلاف لكن يقول : أخصّه
بدليل ، فإن لم يأت بالدليل يستصحب العموم .
والجواب : أنّ هذا
يدلّ على عدم بقاء نفس الإجماع ، ونحن لا نستدلّ به ، بل باستصحاب حكمه ، وقد ثبت
حجّيّته من عموم الأدلّة.
وهو الجواب عمّا
قيل إنّ استصحاب حكمه إن كان بنصّ أو عموم فهو الدليل لا
__________________
الاستصحاب ، أو
بالإجماع ، فلم يجز المخالفة ، وهو خلاف الإجماع .
وعمّا يستدلّ في
بعض المسائل بأنّ هذا الحكم ثابت بالإجماع ، والإجماع إنّما هو إلى هذا الوقت
الخاصّ ، ولا دليل عليه فيما بعده ، فلا يكون الحكم فيما بعده ثابتا.
ثمّ إنّ هذا
الدليل إنّما يتمّ إذا كان ثبوت الحكم المجمع عليه محدودا إلى وقت خاصّ ، وإذا كان
مطلقا غير محدود ، فكيف يجدي تحقّق الخلاف لنفيه؟! بل للخصم أن يقول : الإجماع
حينئذ يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف؟!
والحقّ : أنّ
ثبوته إن كان مطلقا ولم يطرأ ما يوقع الشكّ في شموله لموضع النزاع ، حرم الخلاف ،
وإن طرأ ذلك لم يحرم الخلاف للوفاق ، ولكن لا ريب حينئذ في جواز التمسّك
بالاستصحاب وحجّيّته ؛ لما أشرنا إليه.
هذا ، وما لا
تعلّق له بالحكم الشرعي كرطوبة الثوب ونحوها إن أمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي
بالعرض ، فلا ريب في جريان الاستصحاب وحجّيّته فيه ؛ لدلالة الأدلّة المذكورة عليه
، وإلاّ فلا يجري فيه ؛ لعدم دلالة غير الثالث حينئذ على جريانه فيه.
أمّا الثاني
والرابع ، فظاهر. وأمّا الأوّل ؛ فلأنّه يبعد أن يكون مرادهم بيان ما لا مدخليّة
له بالحكم الشرعي أصلا. والثالث وإن دلّ على ذلك إلاّ أنّك قد عرفت حاله ، مع أنّه
لا فائدة في بيان حجّيّة مثله ؛ لعدم تعلّق غرض علميّ به. وهذا ما يقال إنّ
الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به ، ولا فائدة فيه.
احتجّ من أنكر
حجّيّته مطلقا بأنّ دليل الحكم إمّا أن يدلّ على ثبوته في الوقتين ، فلا استصحاب.
أو على ثبوته في الوقت الأوّل فقط ، فالتسوية بينهما فيه تؤدّي إلى إثبات الحكم بغير دليل ؛ لأنّ ثبوت الحكم في وقت أو حال لا يتناول ما عداه ، وهو باطل.
وبأنّ حجّيّته
تقتضي أولويّة بيّنة النفي على بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها به ، مع أنّها لا تسمع.
__________________
وبتسفيه من حكم
ببقاء زيد في الدار إذا غاب عنه.
وبأنّ أدلّة
الأحكام معروفة وليس الاستصحاب واحدا منها .
والجواب عن الأوّل
: اختيار الشقّ الأوّل أوّلا ، ولا يلزم انتفاء الاستصحاب حينئذ ؛ لما تقدّم. ثمّ
الثاني ثانيا ، ولا يلزم إثبات الحكم بغير دليل ؛ لدلالة بعض الأدلّة المتقدّمة
على أنّ الثابت في زمان لا يرتفع إلاّ بدليل.
وعن الثاني : أنّا
لا نمنع اعتضاد بيّنة النفي بالاستصحاب ، لكن لبيّنة الإثبات وجوه أخر من
الأولويّة تترجّح عليه وتغلبه :
منها : إمكان
اطّلاع المثبت على ما يخالف الأصل ، وعدم اطّلاع النافي عليه ؛ لجواز حدوثه عند
غيبته.
ومنها : أنّ غلط
المثبت ـ بأن يظنّ المعدوم موجودا ـ أبعد من غلط النافي ، بأن يعكس ؛ بناء على عدم
علمه.
ومنها : أنّ
المثبت لمّا كان مدّعيا للعلم بالوجود ، يكون له طريق قطعيّ بخلاف النافي ؛ فإنّ
طريقه ـ وهو عدم العلم ـ ظنّي.
ومنها : أنّ إنكار
الحقّ أكثر من دعوى الباطل ؛ لأنّ دفع غير الملائم أهمّ من جلب الملائم عند المحقّ
والمبطل ، ولذا يدفع كلّ منهما عن نفسه كلّ الأوّل ، ولا يجلب كلّ منهما إلى نفسه
كلّ الثاني ، وغير خفيّ أنّه إذا عارض الأصل واحد منها وتساقط ، بقي الباقي سالما.
و [ الجواب ] عن
الثالث : أنّ التسفيه هنا لوجود ما يدفع الأصل ، وهو قضاء العادة بالخروج ، ولولاه
لكان الحكم بالبقاء صحيحا.
و [ الجواب ] عن
الرابع : أنّ الأدلّة العقليّة من أدلّة الأحكام ، والاستصحاب منها ؛ لثبوت
حجّيّته من العقل. وعلى ما ذكرنا من دلالة الأخبار على حجّيّته ، يمكن عدّه من
السنّة ، إلاّ
__________________
أنّ القوم لمّا
أثبتوا حجّيّته بالعقل ، عدّوه من الأدلّة العقليّة .
واحتجّ من قال
بحجّيّته في موضوع الحكم دون نفسه : بأنّ الاعتماد في حجّيّته إنّما هو على
الأخبار ؛ لضعف سائر الأدلّة. وهي تدلّ على حجّيّة ما في موضوعه دون نفسه ؛ لأنّها
وردت في قضايا خاصّة من أفعال الإنسان وأحواله ، ويشترك كلّها في الدلالة على
بنائه في هذه القضايا على يقينه السابق ، وعدم التفاته إلى شكّ في حدوث ما يعلم
أنّه مزيل ، لا إلى العلم في حدوث ما يشكّ أنّه مزيل أيضا ، كما ورد : « أنّ
اليقين بالطهارة لا ينقض بالشكّ في الحدث ، واليقين بطهارة البدن والثوب لا ينتقض
بالشكّ في إصابة البول أو المنيّ إليهما » .
وجوابه : أنّ أكثر
أخبار الباب يدلّ على عدم انتقاض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، كما ورد في صحيحة
زرارة : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه يقين آخر » .
وفي صحيحته الاخرى
: « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » .
وفي صحيحته الاخرى
: « ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ،
ولكنّه ينتقض الشكّ باليقين » .
وفي مكاتبة
القاساني : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ » .
وفي موثّقة ابن
صدقة : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » . وقس عليها أمثالها. وإطلاق اليقين والشكّ يعمّ عدم نقض مطلق اليقين بمطلق
الشكّ ، سواء كان في موضوع الحكم أو نفسه.
__________________
وفي موثّقة عمّار
عن الصادق عليهالسلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » . وهي بإطلاقها تدلّ على عدم الالتفات إلى الشكّ في حدوث ما يعلم أنّه قذر ،
وفي قذارة ما علم حدوثه .
هذا ، مع أنّ
الشكّ في موضوع الحكم يستلزم الشكّ في نفسه ؛ فإنّه إذا شكّ في نجاسة ثوب باعتبار
ما ، يقع الشكّ في وجوب التنزّه عنه في الصلاة ، فإذا اقتضى الجهل بالموضوع الجهل
بنفس الحكم ، اقتضى جريان الاستصحاب وحجّيّته في الأوّل جريانه وحجّيّته في
الثاني. وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في جامعة الاصول .
واحتجّ من قال
بحجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية مخصوصة وشكّ في وجودها دون غيره بأنّ
الاعتماد في حجّيّته إنما هو على الأخبار والدليل الثاني ، وهما يدلاّن على حجّيّة
هذا القسم دون غيره .
وجوابه : ما عرفت
من دلالتهما على حجّيّة أقسام أخر منه.
والإيراد : بأنّه
لا فائدة في إجراء الاستصحاب فيها ؛ لثبوت حجّيّتها من النصّ أو الإجماع أو العموم
أو الإطلاق ، مشترك ؛ لأنّ القسم الذي ذكره أيضا ممّا يلزم فيه أن يدلّ أحد
الأدلّة المذكورة على ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة ، كما اعترف به هذا القائل ،
فإذا شكّ في زمان في وجودها ، يمكن دفعه بالدليل الذي دلّ على ثبوت الحكم إلى
الغاية المعيّنة.
نعم ، يمكن أن
يقال : لا يثبت من الدليل استمرار الحكم إلى العلم بوجود الغاية ، بل الثابت منه
استمراره إلى وجودها ، وهو أعمّ من العلم بوجودها أو الشكّ فيه ، فربّما قيل :
يكفي الشكّ فيه في زوال الحكم ، فلا بدّ لدفعه من ضميمة الاستصحاب ، وهذا لا يأتي
في الأقسام التي أجرينا فيها الاستصحاب ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ عدم الفائدة لا ينافي الوجود والحجّيّة.
__________________
واحتجّ من قال
بحجّيّته بالذات في الأحكام الوضعيّة لا غير :
|
بأنّ الأحكام
الشرعيّة لا يجري فيها الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّه إذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو :
إمّا أن يكون موقّتا أم لا ، فعلى الأوّل ، يكون وجوب هذا الشيء وندبه في كلّ
جزء من هذا الوقت ثابتا بالأمر ، ففي الزمان الثاني يثبت الحكم
بالأمر ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب. وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة
الأمر التكرار ، وإلاّ فيكفي الإتيان بفرد يتحقّق في ضمنه الماهيّة وليس فيه
استصحاب. وكذا الحكم في النهي.
وأمّا الأحكام
الوضعيّة كالأسباب وغيرها : فإمّا أن يكون سببيّتها ـ مثلا ـ على الإطلاق ،
كسببيّة الإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات ، فإنّ سببيّتهما على
الدوام إلاّ أن يتحقّق مزيل ، أو في وقت معيّن ، كالدلوك والكسوف والحيض ، سواء
كان السبب وقتا للحكم أو لا ؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة لا دائما.
وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ؛ لأنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان
الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء
الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب في الحكم الذي يقتضيه
السبب من حيث إنّه حكم.
نعم ، إذا شكّ
في تحقّق السبب في جزء من الزمان يمكن إجراء الاستصحاب فيه.
وكذا الكلام في
الشرط والمانع وغيرهما ، فالاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام
الوضعيّة من حيث هي ، ووقوعها في الشرعيّة بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ
المتغيّر بالنجاسة : إذا زال تغيّره من قبل نفسه يجب الاجتناب عنه ؛ لوجوبه قبل
الزوال. فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذا بعده.
وقس عليه مثال المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة وغيره.
ثمّ لو لم تكن
الأخبار لم يكن الاستصحاب في مطلق الأحكام الوضعيّة أيضا حجّة ، وإن أمكن جريانه
فيها ؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بوجوده
في غير ذلك الوقت ، فإذا زال العلم بوجوده في
|
__________________
|
زمان بطروّ شكّ
لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا فيه ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه
إذا علم وجود شيء ، يحكم به حتّى يعلم زواله .
|
وأنت بعد الإحاطة
بما تقدّم تعلم أنّ هذا التطويل لا طائل تحته ؛ فإنّك عرفت إمكان جريان الاستصحاب
وحجّيّته فيما ذكره أوّلا من الحكم الذي ورد بطلبه أمر من الشارع ، وفي غيره أيضا.
وإرجاعه الاستصحاب في الحكم الشرعي إلى الوضعي ، وجعله تابعا له مقلوب عليه.
وما ذكره من عدم
تابعيّة ثبوت حكم في جزء من الزمان لثبوته في جزء آخر مع كون نسبة السبب في اقتضاء
الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، يتأتّى في نفس السبب أيضا ؛ فإنّ ثبوت السبب في جزء
من الزمان ليس تابعا لثبوته في جزء آخر بعد ما جعله الشارع سببا في كلّ جزء.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّ هذا الأصل أهمّ الاصول التي تبتني عليها الأحكام. والفروع له لا تحصى
كثرة : كطهارة الكرّ إذا وجد متغيّرا وشكّ في تغيّره بالنجاسة ، أو بالأجون ، وإعادة الصلاة بالشكّ في الركعتين الاوليين أو في الثنائيّة أو الثلاثيّة ،
والتحريم بالشكّ في انقضاء العدّة ، ووجوب أداء الزكاة والخمس بالشكّ في أدائهما ،
وصحّة الصوم لو شكّ في عروض المفطر ، وصحّة الاعتكاف لو شكّ في عروض المبطل ، وكذا
الشكّ في أفعال الوضوء والصلاة والحجّ بعد الفراغ عنها ، وجواز تصرّف الولي في مال
الطفل إذا شكّ في بلوغه ، وحرمة الأكل بالشكّ في الغروب ، وجوازه بالشكّ في طلوع
الفجر. وقس عليها أمثالها.
وقد أشرنا إلى شطر
آخر منها أيضا فيما سبق . ومن أحاط بها يجد أنّ جلّها من الصنف الأوّل ، فيجزم
بحجّيّة الاستصحاب فيها ، والصنف الثاني منها نادر ، وإن عثر عليه لا يخفى عليه
حقيقة الحال فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه.
__________________
تذنيب
للعمل بالاستصحاب
شروط محرّرة في كتب الاصول ، ويجمعها أربعة أصناف :
[
الصنف ] الأوّل : أن لا يتغيّر الموضوع بحيث يصير حقيقة اخرى في الواقع أو عند العرف ، فلا
يستصحب الأحكام الثابتة لبعض الأعيان بعد طروّ الاستحالة ، أو الانقلاب ، أو
الانتقال له. وغير خفيّ أنّ هذا شرط تحقّقه لا شرط العمل به.
[
الصنف ] الثاني : أن يكون الحكم المستصحب ثابتا في الوقت الأوّل ، فلا يمكن الحكم بوجود زيد
في الدار لوجود ضاحك فيه ؛ لإمكان أن يكون الضاحك عمرا.
ولا يخفى أنّ هذا
أيضا شرط وجوده لا العمل به ؛ لعدمه لولاه ؛ فإنّ وجوده يتوقّف على العلم ببقاء
الموضوع ، وهنا لا يعلم بقاؤه ، أو يعلم انتفاؤه. ومنه يعلم عدم جواز الحكم بثبوت
حكم في الزمن الثاني لوجود لازمه الأعمّ ، أو لازم مقتضيه الأعمّ في الزمن الأوّل.
والأوّل قد علم مثاله. والثاني على أربعة أقسام :
الأوّل : أن يمكن
ثبوت مقتضى الحكم وغيره ممّا هو ملزوم للازم المذكور في الزمن الثاني ، ولأجله
أمكن ثبوت لازم كلّ منهما. ومثاله وعدم جواز جريان الاستصحاب فيه ظاهر .
الثاني : أن
يتعيّن ثبوت مقتضى الحكم فيه ، فيتعيّن ثبوت لازمه أيضا فيه دون غيره من ملزومات
اللازم المذكور ، فلا يوجد لازمه فيه. وهنا يجوز القول بثبوت الحكم فيه ، ووجهه
ظاهر ، فيأتي فيه الاستصحاب وجواز العمل به.
الثالث : عكس
الثاني. وعدم تأتّي الاستصحاب فيه أظهر من الأوّل.
الرابع : أن يمتنع
وجود غير المقتضي للحكم ممّا هو ملزوم للازم المذكور فيه ، إلاّ أنّ
__________________
وجود المقتضي أيضا
لم يكن معلوما ؛ لإمكان ثبوت ما لا يجتمع معه من غير الملزومات. وهذا أيضا لا يجري فيه الاستصحاب ، كما إذا قيل بنجاسة
الجلد المطروح لاستصحاب عدم المذبوحيّة ، فيردّ بأنّ عدم المذبوحيّة لازم للحياة
والموت حتف نفسه ، والمقتضي للنجاسة هو الثاني دون الأوّل ، مع أنّه غير باق في
الزمن الثاني ، فلازمه معلوم الانتفاء فيه ، ولازم الثاني غير معلوم الثبوت في
الزمن الأوّل حتّى يستصحب ؛ لما يأتي من تعارض الاستصحابين فيه .
[
الصنف ] الثالث : أن لا يحدث في الزمن الثاني ما يوجب زوال الحكم الأوّل ، فالمرأة المطلّقة
المرضعة إذا تزوّجت بعد العدّة بزوج آخر وحملت منه ولم ينقطع لبنها ، فيمكن منع
الحكم بكون اللبن من زوجها الأوّل ؛ لحدوث التزوّج والحمل من غيره.
[
الصنف ] الرابع : أن لا يوجد معارض له ، فلو وجد لا يجوز العمل به على الإطلاق ، وهو على
أقسام :
منها : أن يعارضه
استصحاب آخر ، سواء كان استصحاب حال الشرع ، كسقوط ذبابة على نجاسة رطبة ثمّ على
الثوب أو البدن وشكّ في جفافها ، وكدخول المأموم في صلاة فشكّ كون الإمام راكعا أو
رافعا.
أو استصحاب حال
العقل ، كمسألة الجلد المطروح ؛ فإنّ استصحاب الطهارة أو عدم الموت معارض باستصحاب
عدم الذبح. وقد يعارضه أصل البراءة ، كالشكّ في بقاء العبد الآبق فيجب فطرته
أوّلا.
ويعبّر عن كلّ من
المواضع الثلاثة بما تعارض فيه الأصلان ، ويجب الرجوع في الترجيح إلى المؤيّدات
الخارجيّة. وربما تعارض أصل واحد أصلين أو أكثر. وفي الجميع يصار إلى ما ينجرّ
إليه النظر في الشواهد الترجيحيّة.
ومنها : أن يعارضه
الظاهر. ويعبّر عن كلّ موضع تعارض فيه أحد الاستصحابين ، أو أصل البراءة الظاهر
بما تعارض فيه الأصل والظاهر.
__________________
ولمّا كان مستند
الظاهر العرف أو العرف أو العادة أو القرائن أو الأغلبيّة والأكثريّة ، وبالجملة
ما يفيد ظنّا معتبرا في الشرع ، وهو يختلف في الموارد قلّة وكثرة وضعفا وشدّة ،
فاختلف الموارد في ترجيح أحدهما ، فإن بلغ الظنّ الحاصل من الظاهر
بحيث يقاوم الأصل ويغلبه فيؤخذ به ويترك الأصل ، وإلاّ فيعكس ، وإن تكافئا في
النظر يتوقّف حتّى يعثر على مرجّح من خارج.
ولمّا كان دخول
بعض الموارد في الأوّل ودخول بعض آخر منها في الثاني ظاهرا ، بحيث لا يشتبه على
أحد ، أجمع الأصحاب في الأوّل على تقديم الظاهر على الأصل ، وفي الثاني على العكس .
وفي بعض آخر منها
لمّا لم يكن الدخول في أحدهما معلوما ، إمّا لكونه من الثالث ، أو لعدم بلوغ
الظهور حدّا لا يشتبه على أحد ، فاختلف فيه. فهنا ثلاثة موارد :
الأوّل : كالشكّ
في فعل من أفعال إحدى العبادات بعد الفراغ عنها ، أو في أداء الصلاة بعد خروج
وقتها ، ونجاسة البلل الخارج بعد البول إذا لم يستبرأ ، والمسلم الذي غاب بعد
نجاسة بقدر مضيّ زمان يمكنه فيه الطهارة ، وغير ذلك ممّا حرّر في تصانيف الفقه .
وقد يعلم تقديم
الظاهر على الأصل شرعا ، بحيث يصير حجّة شرعيّة ، كتقديم البيّنة على أصل براءة
الذمّة ، ومنه الرواية والأخبار فيما يقبل فيه.
الثاني : كدعوى من
هو في غاية العدالة على من يعرف بالظلم والتقلّب ، ومنه ثياب من لا يتوقّى النجاسة
من مدمني الخمر والكفّار والقصّابين والأطفال. وقس عليهما أمثالهما.
الثالث : كغسالة
الحمّام وطين الطريق. ورجّح الأكثر الظاهر في الأوّل ، والأصل في الثاني .
__________________
وغير خفيّ أنّ ما
وقع فيه التعارض إن كان أحد الموردين الأوّلين ، فلا إشكال فيه. فإن كان من الثالث
فإمّا أن يرجّح أحدهما في نظر المجتهد ـ إمّا لقوّته في نفسه ، أو لاعتضاده بدليل
من خارج ـ فيجب عليه أن يأخذ به ويترك الآخر ، أو لا ، ويقوى في نفسي حينئذ لزوم
الأخذ بالأصل ؛ لأنّ الغالب فيما تعارض فيه الأصل والظاهر تقديم الأصل ، كما لا
يخفى على من تصفّح أمثلة الموارد الثلاثة ، فيكون الأصل معتضدا بظاهر آخر ،
والظاهر الواحد لا يقاومهما.
نعم ، لو كان له
قوّة بحيث يعادلهما معا من غير ترجيح لأحدهما ، فيكون من باب تعادل الأمارتين ،
ويأتي حكمه إن شاء الله.
ومنها : أن يعارضه
دليل شرعي آخر ، كالإجماع ، أو الكتاب ، أو السنّة. فإذا قاومه وغلبه يؤخذ به
ويترك الأصل ، ولذا غلب الشكّ على اليقين في مسائل : كوجوب غسل جميع الثوب والبدن
لو علم إصابة موضع وجهل تعيينها مع أصالة الطهارة في غير ذلك الموضع ، ووجوب ثلاث
صلوات على من فاته واحدة مع أصالة البراءة ، وغير ذلك .
فائدة
إذا دلّ دليل على
الانتقال عن مقتضى أصل عدم ، أو استصحاب ، أو قاعدة ، أو غيرها إلى غيره كائنا ما
كان.
فإن دلّ على لزومه
، فلا يجوز العدول عن الأصل المنتقل إليه إلى الأصل المهجور ، وإن دلّ على مجرّد
الرخصة والجواز ، فيجوز. وإن وقع الاشتباه في الدلالة على اللزوم والرخصة ، وقع
الاشتباه في الجواز وعدمه أيضا.
وربّما عدّ منه
بناء كثير السهو على عدم الفعل ، مع أنّ حكمه عدم الالتفات ؛ فإنّه لو شكّ في سجدة
أو تسبيحة أو قراءة وهو في محلّها ، فإنّه لا يلتفت ؛ لأنّ كثرة السهو جوّزت
البناء على الفعل ، مع أنّ الأصل عدمه. فلو فعل ذلك ، فهل يبطل صلاته؟
ثالثها الفرق بين
الترك وغيره. والظاهر البطلان مطلقا. ومنه المسح على موضعه بعد ما علم صحّة غسله
في موضع التقيّة.
__________________
فصل [٧]
وممّا عدّ من
النوع الثاني التلازم. ويقال له : الملازمة ، واللزوم ، والاستلزام أيضا.
وتنقيح البحث عنه
يتوقّف على بيان امور :
[
الأمر ] الأوّل : التلازم نسبة بين شيئين مصحّحة للحكم باستصحاب أحدهما الآخر في الصدق
الواقعي أو التقديري ، فصدقها لا يستلزم صدقهما ، بل قد تصدق بين كاذبين نحو « إن
كان زيد حمارا ، كان ناهقا » ، أو بين كاذب وصادق على أن يكون الملزوم كاذبا نحو «
إن كان زيد حمارا ، كان حيوانا » دون العكس ، وإلاّ لزم صدق الكاذب وكذب الصادق ؛
لاستلزام كذب اللازم كذب الملزوم ، وصدق الملزوم صدق اللازم. وهذا في الملازمة
الكلّيّة الدائمة ، وهي أن يكون تقدير صدق الملزوم فيه مستلزما لصدق اللازم في
جميع الأزمان على جميع الأوضاع. دون الجزئيّة ، وهي أن يكون ذلك في بعض الأزمان ،
أو بعض الأوضاع ؛ فإنّه يجوز صدقها بين صادق وكاذب ؛ لجواز أن يكون صدق الملزوم
على بعض الأوضاع ، وصدق الملازمة الجزئيّة على بعض الأوضاع الأخر ، فلا يلزم
المحذوران.
فإنّا إذا قلنا :
« إذا كان الشيء حيوانا كان ناطقا » ، يصدق الملزوم ، وهو كون الشيء حيوانا على
بعض الأوضاع وهو وضع الفرسيّة مثلا ، ويكذب اللازم وهو كونه ناطقا ، وحينئذ يكذب
الملازمة ، إلاّ أنّها صادقة على بعض الأوضاع الأخر ، وهو وضع الإنسانيّة ، وإن لم
يكن الملزوم حينئذ صادقا ، ولذا لا ينتج الجزئيّة في القياس الاستثنائي ، وليس
فيها كثير فائدة في المقاصد العلميّة.
[
الأمر ] الثاني : التلازم إمّا شرعي ، كتلازم القصر والإفطار في الصلاة والصوم المستفاد من
قوله عليهالسلام : « إذا أفطرت قصّرت ، وإذا قصّرت أفطرت » . وإمّا عقلي ، كتلازم الأمر بشيء والنهي عن ضدّه ، والأمر بالشيء والأمر
بمقدّمته ، وغير ذلك من الملازمات العقليّة الثابتة
__________________
في الاصول ،
وربّما كان بعضها منصوصا من الشرع أيضا.
[
الأمر ] الثالث : التلازم إمّا أن يكون طردا وعكسا ، أي من الطرفين. أو طردا فقط ، أي من طرف
واحد. فهذا شقّان.
وأيضا إمّا أن
يكون نسبة بين حكمين ، أو مفردين. والغالب أنّ التلازم بين الأخيرين لا ينفكّ عن
التلازم بين الأوّلين.
والحكمان إمّا
وجوديّان ـ أي مثبتان ـ وإن كان مفرداته عدميّة ، أو
عدميّان ، أو وجودي وعدميّ ، أو بالعكس. فهذه أربعة أصناف.
وأيضا لمّا لم
يمكن أن يوجد بين الخاصّ والعامّ من وجه ، فهو إمّا أن يكون بين
المتساويين ، أو بين الخاصّ والعامّ مطلقا ، أو بين المتنافيين طردا وعكسا ، أي
إثباتا ونفيا ، أو المتنافيين طردا فقط ، أي إثباتا ، أو عكسا فقط ، أي نفيا. فهذه
خمسة أنواع ، فلينظر أيّ الشقّين والأصناف في أيّ الأنواع يجري.
النوع
الأوّل : المتساويان ،
كالإنسان والناطق. ويجري فيه الصنفان الأوّلان بالشقّ الأوّل ، أي التلازم بين
الوجوديّين والعدميّين كليهما طردا وعكسا ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان ناطقا ،
وبالعكس ، و: كلّ ما لم يكن إنسانا لم يكن ناطقا ، وبالعكس. ففيه يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم وبالعكس ، واستثناء نقيض الملزوم
نقيض اللازم وبالعكس ، فيلزم أربع نتائج ، فيثبت التلازم في أحد الصنفين بطرده ، ويتقوّى
بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا ، وإنّما يحصل التقوّي بما ذكر إذا تناوله أيضا
دليل التلازم ، وإلاّ فلا. وكذا الحال في باقي الأصناف الآتية. ولا يجري في هذا
النوع الصنفان الآخران مطلقا ؛ بمنافاتهما للتساوي.
__________________
النوع
الثاني : الخاصّ والعامّ
مطلقا ، كالإنسان والحيوان. ويجري فيه الصنف الأوّل بالشقّ الثاني ، أي التلازم
بين الوجوديّين طردا فقط ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان حيوانا ، دون العكس.
ويجري فيه الصنف الثاني عكسا ، فيصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا ، ففيه
يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم ، ونقيض اللازم نقيض الملزوم ، فيلزمه
نتيجتان ، فالتلازم في الصنف الأوّل يثبت بطرده ، ويتقوّى بعكس الصنف الثاني. ولا
يجري فيه الصنفان الآخران ؛ لمنافاتهما للعموم والخصوص.
النوع
الثالث : المتنافيان
طردا وعكسا ، أي إثباتا ونفيا ، كالزوجيّة والفرديّة ؛ فإنّهما لا تجتمعان ولا
ترتفعان. ويجري فيه الصنفان الآخران بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم الوجوديّ والعدميّ
وبالعكس ـ طردا وعكسا ، فيصدق : لو كان زوجا لم يكن فردا ، ولو كان فردا لم يكن
زوجا ، ولو لم يكن زوجا كان فردا ، ولو لم يكن فردا كان زوجا ، وفيه تنافيان ، وفي
كلّ منهما لازمان ، فيلزم باعتبار التنافي إثباتا أن يكون وجود كلّ منهما مستلزما
لعدم الآخر ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر. وباعتبار التنافي نفيا
أن يكون عدم كلّ منهما مستلزما لوجود الآخر ، فيلزم من استثناء نقيض كلّ منهما عين
الآخر ، فيلزمه أربع نتائج ، فالتلازم في أحد الصنفين فيه يثبت بطرده ، ويتقوّى
بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا. ولا يجري فيه الصنفان الأوّلان ، ووجهه ظاهر.
النوع
الرابع : المتنافيان
طردا فقط ، أي إثباتا ، كالحيوان والجماد ؛ فإنّهما لا يجتمعان وقد يرتفعان ، كما
في الشجر. ويجري فيه الصنف الثاني بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم الوجوديّ والعدميّ ـ طردا
وعكسا ، فيصدق : كلّما كان حيوانا لم يكن جمادا ، وكلّما كان جمادا لم يكن حيوانا.
ولا يجري فيه الصنف الرابع ، فلا يصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا كان جمادا ، وكلّ ما
لم يكن جمادا كان حيوانا ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر لا غير ،
فيلزم نتيجتان ، فيثبت التلازم فيه بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين
فيه مطلقا ظاهر.
__________________
النوع
الخامس : المتنافيان
عكسا فقط ، أي نفيا ، كاللارجل واللاامرأة ؛ فإنّهما لا يرتفعان وقد يجتمعان ، كما
في الشجر مثلا. ويجري فيه الصنف الرابع بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم العدميّ
والوجوديّ ـ طردا وعكسا ، فيصدق : كلّما لم يكن بلا رجل فهو لا امرأة ، وكلّما لم
يكن بلا امرأة فهو لا رجل. ولا يجري فيه الصنف الثالث ، فلا يصدق : كلّ ما كان بلا
رجل لم يكن بلا امرأة ، وكلّ ما كان بلا امرأة لم يكن بلا رجل ، فيلزم من استثناء
نقيض كلّ منهما عين الآخر لا غير ، فيلزمه أيضا نتيجتان ، ويثبت التلازم فيه
بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين فيه أيضا ظاهر.
[
الأمر ] الرابع : لا يخفى في حجّيّة التلازم إذا علم ثبوته شرعا أو عقلا ، وعلم تحقّق
الملزوم من نفي أو إثبات أيضا ، فمن ادّعى التلازم في حكمين ، وأثبت تحقّقه وتحقّق
الملزوم بالشرع أو العقل ، فلا كلام معه ، وإلاّ فللمانع منعهما.
وفي التلازم شبهة
مشهورة ، وهي أنّه إمّا معدوم في الخارج ، أو موجود فيه. والأوّل باطل ؛ لأنّه لا
فرق بين التلازم العدميّ وعدم التلازم ؛ لعدم التمايز بين المعدومات. والثاني أيضا
باطل ؛ لأنّه مغاير للطرفين ؛ لإمكان تعقّلهما بدونه ، ولكونه نسبة ، والنسبة
مغايرة للطرفين ، وحينئذ لا يخلو إمّا أن يلزم ذلك التلازم لأحدهما ، أو كليهما ،
أم لا.
فعلى الأوّل ينقل
الكلام إلى التلازم الثاني ، ويلزم التسلسل في الملازمات الموجودة في الخارج.
وعلى الثاني يمكن
ارتفاعه عن المتلازمين ، فيلزم جواز الانفكاك بينهما ، فيلزم انهدام اللزوم على
فرض وجوده ، هذا خلف.
والجواب : اختيار
كونه معدوما ، ومنع كون التمايز من خواصّ الموجودات الخارجيّة ؛ لأنّه يوجد في
غيرها أيضا ، كما بين عدمي العلّة ومعلولها ، وبين عدمي الشرط والمشروط به.
فإن قيل من رأس :
لو لم يكن التلازم موجودا في الخارج ، فإمّا أن يمتنع الانفكاك بين المتلازمين فيه
، أم لا ، فعلى الأوّل يلزم تحقّق وجود التلازم في الخارج على تقدير انتفائه فيه.
وعلى الثاني ينهدم التلازم.
قلنا : نختار
امتناع الانفكاك بينهما في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ،
وحينئذ لا يلزم وجود التلازم في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لوجوده ، ولا نفيه فيه بالكلّية ؛ إذ لا يلزم من انتفاء مبدأ المحمول انتفاء الحمل الخارجي
؛ فإنّ العمى معدوم في الخارج ، مع أنّ الأعمى يحمل على موضوعه حملا خارجيّا.
ولا يخفى أنّ هذه
الشبهة إمّا أن تستلزم رفع التلازم ، أو لا. فعلى الأوّل يثبت التلازم ، وعلى
الثاني لا يعتدّ بها.
إذا عرفت ذلك ،
فلنذكر من كلّ صنف مثالا من الأحكام الشرعيّة ليظهر كيفيّة التفريع :
فالأوّل كما يقال
: من سافر أربعة فراسخ ناويا للرجوع في يومه يجب عليه الإفطار ؛ لوجوب القصر عليه.
وثبوت الملازمة بينهما بالنصّ والاستقراء.
والنصّ قوله عليهالسلام : « إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت » . فبالنصّ يثبت الملازمة بالطرد ، ويتقوّى بالعكس ، ويعكس إذا عكست. ولا
يتقوّى بالتلازم بين عدميهما طردا وعكسا ؛ لعدم تناول النصّ له.
والاستقراء هو
أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ] كلّ موضع يجب فيه القصر يجب فيه الإفطار وبالعكس ، ووجدنا
[ أنّ ] كلّ موضع لا يجب فيه القصر ، لا يجب فيه الإفطار وبالعكس ،
فبالاستقراء يثبت التلازم بالطرد ، ويتقوّى بالعكس وبالتلازم بين عدميهما طردا
وعكسا.
وحاصله ثبوت الحكم
بدوران وجوب القصر مع وجوب الإفطار وجودا وعدما.
وقد تقرّر بوجه
آخر : وهو أنّه يثبت أحد الأثرين فيثبت المؤثّر ، وبثبوته يثبت الأثر الآخر. أو
يقال : قد ثبت أحد الأمرين ، فيلزم ثبوت الآخر ؛ للزوم ثبوت المؤثّر للثابت
واستلزامه للآخر ، ولمّا لم يغيّر المؤثّر لا ينتقل
إلى قياس العلّة.
[
المثال ] الثاني : كما يقال : لا يصحّ هذا التيمّم لعدم اشتماله على النيّة ؛ لعدم صحّة الوضوء
بدونها ، وثبوت الملازمة بينهما في الأحكام. أمّا الأوّل فظاهر. وأمّا الثاني
__________________
فبالاستقراء ، وهو
أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ] كلّ ما لا يصحّ الوضوء بدونه ، لا يصحّ التيمّم بدونه
وبالعكس. وكذا وجدنا التلازم بين صحّة الوضوء وصحّة التيمّم طردا وعكسا ، فيثبت
المطلوب بالطرد ، ويتقوّى بعكسه وبالتلازم بين الصحّتين طردا وعكسا. ويرجع أيضا
إلى الدوران. وقد تقرّر بأنّ انتفاء أحد الأثرين يوجب انتفاء المؤثّر فينتفي الأثر
الآخر. أو يقال : قد انتفى أحد الأثرين ، فيلزم انتفاء الأثر الآخر ؛ للزوم انتفاء
المؤثّر. وربّما يمنع التلازم هنا ؛ لعدم حجّيّة الاستقراء ، أو لعدم تماميّته
هنا.
[
المثال ] الثالث : كالمباح وعدم الحرمة.
[
المثال ] الرابع : بالعكس. ويقرّر التلازم فيهما بثبوت التنافي بين المباح والحرمة.
وقد ظهر ممّا
تقدّم أنّ ثبوته فيهما بما ذا ، وتقوّيه بما ذا.
تذنيب
الدوران هو ترتّب
الشيء على الشيء الذي له صلوح العلّيّة وجودا ، كترتّب الملك على الهبة ، أو عدما ، كجواز الصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، أو معا ، كوجوب الرجم على الزنا. ويسمّى الأوّل دائرا ، والثاني مدارا.
وهو أخصّ مطلقا من
الملازمة المطلقة ، أي الشاملة للكلّية والجزئيّة ، والواقعة بين الحكمين
والمفردين ؛ لعدم انفكاك الدوران عن مطلق اللزوم ؛ لأنّ بين كلّ شيئين حتّى
النقيضين ملازمة جزئيّة ، فضلا عن المتداورين ، وصدقها بدونه في استلزام وجود
المعلول وجود علّته .
وقد حكم جماعة
بأنّ بينهما عموما وخصوصا من وجه ، وهم بين من خصّ الملازمة بالكلّيّة الحكميّة ، ومن خصّها بالكلّيّة حكميّة كانت أو لا ، ومن خصّها
بالحكميّة كلّيّة
__________________
كانت أو جزئيّة ، فافتراقه عنها عند الأوّل في صورتين :
الاولى : أن يكون
الدائر والمدار فيها مفردين.
والثانية : أن
يكون ترتّب الدائر على المدار فيها أكثريّا لا كلّيّا دائميّا ، كالإسهال بالنسبة
إلى شرب السقمونيا. وعند الثاني في الثانية. وعند الثالث في الاولى.
ومواضع اجتماعهما
وافتراقها عنه على كلّ من التقادير الثلاثة ظاهرة.
وقد يأتي للدوران
زيادة بيان في بحث القياس .
فصل [٨]
وممّا عدّه بعضهم
من النوع الثاني الاستقراء ،
وهو الحكم على الطبيعة الكلّيّة بما وجد في جزئيّاتها . وحاصله الاحتجاج بالجزئي على الكلّي.
وهو إمّا تامّ إن
كان ما ثبت للكلّي حاصلا لجميع الجزئيّات ، وهو القياس المقسّم ، كقولنا : كلّ جسم
إمّا حيوان أو نبات أو جماد ، وكلّ منها متحيّز ، فكلّ جسم متحيّز ، وهو يفيد
اليقين.
أو غير تامّ إن لم
يكن حاصلا لجميعها ، وهو لا يفيد اليقين ، بل إمّا يفيد الظنّ إن كان حاصلا لأكثرها
، كالحكم على كلّ زنجيّ بأنّه أسود ، وهذا الظنّ يتفاوت بتفاوت الأكثريّة ، فيتّصل
أحد طرفيه باليقين والآخر بالشكّ ، أو لا يفيد الظنّ أيضا إن لم يكن حاصلا
لأكثرها.
وإذا عرفت ذلك
تعلم أنّ القسم الأوّل ينتهض حجّة ودليلا في الشرعيّات وغيرها ، إلاّ أنّ وجود مثله
فيها نادر. والثالث لا يصلح للتأييد فضلا عن الحجّيّة فيهما ، وهو ظاهر. والثاني
لا ينتهض دليلا قاطعا ؛ لجواز أن يخالف حال ما لم يوجد حال ما وجد ؛ إذ لا تعلّق
بينهما ؛ ولاختلاف موارد الأحكام ، فلا يلزم من ثبوتها لبعض الأعيان ثبوتها في
الباقي ، ولكن بعض موارده الذي يفيد غلبة الظنّ يصلح للحجّيّة ، وغيره يصلح
للتأييد والتقوية.
__________________
أمّا الأوّل ؛
فلأنّ غلبة الظنّ في ذهن المجتهد ترجّح إرادة الشارع لتعميم الحكم ، فالمخالفة
تؤدّي إلى ترجيح المرجوح ؛ على أنّ الإجماع منعقد على جواز عمل المجتهد بظنّه ،
وقد سبق أنّه لو لم يعمل به لزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال
والحرام ، فالعمل به من باب الرخصة الناشئة عن الضرورة في زمن الغيبة ، وإلاّ فدين
الله أجلّ من أن لا ينصب عليه قاطع يعرفه إمام عادل.
لا يقال : الظنّ
الذي يجوز العمل به إنّما هو الحاصل عن أمارة شرعيّة دون غيره.
لأنّا نقول : لو
سلّم هذا ، فما نحن فيه أيضا منه ، وهو ظاهر.
وأمّا الثاني
فواضح بعد ما ذكر.
وكيفيّة التفريع :
أنّه لو اختلف في الوتر فنقول : إنّه مندوب ؛ لأنّ ما وجدنا من أفراد الصلوات
الواجبة لا يجوز أن يؤدّى على الراحلة ، فثبت منه أنّ كلّ صلاة واجبة كذلك ،
والوتر يجوز أن يصلّى على الراحلة بالإجماع ، فلا يكون واجبا.
فصل [٩]
ومن النوع الثالث الاحتياط. وقد عرفت معناه والفرق بينه وبين التوقّف.
وقد اختلفوا في
وجوب العمل به ، فالأخباريّون على وجوبه فيما لا نصّ فيه ، وفيما تعارض فيه
النصّان بعد عدم الظفر بمرجّح . والمجتهدون ـ لمّا قالوا بحجّيّة البراءة الأصليّة مع عدم
الدلالة الناقلة ، وبالتخيير فيما تعارض فيه النصّان مع عدم المرجّح ـ ذهبوا إلى
استحبابه فيهما ، وهو الحقّ.
وقيل بعدم
مشروعيّته أصلا .
وقيل بالوجوب مع
العلم باشتغال الذمّة ، أي فيما يثبت وجوبه ، كالصلاة المنسيّة
__________________
فيجب الخمس
احتياطا ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم ثلاثين إذا غمّ الهلال ؛ إذ الأصل بقاء
رمضان.
وغير خفيّ أنّه
راجع إلى الاستصحاب الذي لا ريب في حجّيّته. والمجتهدون أيضا قالوا بالوجوب فيه ،
لكنّهم لا يطلقون عليه اسم الاحتياط .
لنا : أمّا على
عدم الوجوب ، فجميع الأدلّة المتقدّمة الدالّة على
البراءة الأصليّة ، وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ ) ، وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ ) ، و ( وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ). وفتح باب الاحتياط ينافي اليسر والتخفيف ويؤدّي إلى الحرج.
وأمّا على
استحبابه ، فاستفاضة الأخبار الواردة في موارد مختلفة بالأخذ به ، وهي دائرة بين دالّة
على الأخذ بمطلقه ، ودالّة على الأخذ به فيما لا نصّ فيه ، ودالّة على الأخذ به فيما تعارض فيه النصّان ، ودالّة على الأخذ به عند الشبهة في الموضوع ، وقوله تعالى :
( فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ) ، و ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) ، و ( جاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ ) ، و ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ).
وقد تقدّم أنّ أخبار الاحتياط لم تبلغ حدّا يقاوم أدلّة البراءة وتغلبها ـ وإن كانت
__________________
معاضدة بأخبار
التوقّف ـ فيجب حملها على الاستحباب ؛ لئلاّ يلزم طرحها. وفي بعضها دلالة عليه . ومنه يظهر فساد القول الثالث.
ثمّ الاحتياط إمّا
أن يكون فيما لا نصّ فيه ، أو فيما تعارض فيه النصّان. وكلّ منهما إمّا في نفس
الحكم أو موضوعه. والحاصل أربعة. وكلّ منها إمّا أن يتحقّق بفعل واحد ، أو أفعال
متعدّدة ، أو بالترك. فالأقسام اثنا عشر. وتعيين مواقع كلّ من الثلاثة الأخيرة مع
أمثلة الكلّ واضح.
وممّا ينبغي أن
ينبّه عليه أنّ الحكم إذا كان دائرا بين الحرمة وغيرها من الأحكام وإن كان وجوبا
فالاحتياط فيه بالترك ؛ لدلالة بعض الأخبار عليه ، كرواية ابن حنظلة ، وموثّقة سماعة .
والاستدلال عليه
بأنّ دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع ، يرد عليه أنّ
الضرر يترتّب على ترك الواجب أيضا ، فالمناط ما ذكرناه.
هذا ، والذي يقوى
في نفسي أنّ الاحتياط يستحبّ في مطلق ما لم يقطع به وإن صار راجحا بحسب الظنون
الاجتهاديّة ، سواء كان في نفس الحكم ، أو موضوعه. وفيما تعارض فيه النصّان أو
غيره ؛ لدلالة بعض العمومات والإطلاقات عليه ؛ ولأنّ وضع الأحكام الإلهيّة لأجل
ترتّب المصالح والتأثيرات الواقعيّة عليها ، كما ذهب إليه العدليّة ، وهي إنّما تترتّب على الحكم الواقعي ، ولا ريب في حسن السعي في تحصيلها
بتحصيل ما ترتّب عليه ، والقطع بتحصيله فيما لا طريق للعلم إليه إنّما هو
بالاحتياط.
وإذا أحطت بما
قصصنا عليك خبرا ، سهل عليك التفريع.
__________________
فصل [١٠]
ومن النوع الثالث الاستحسان. وقد اختلف الباحثون عنه في حقيقته.
فقيل : دليل ينقدح
في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه .
وقيل : العدول من
حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس .
وقيل : تخصيص قياس
بدليل أقوى منه .
وقيل : العدول عن
قياس إلى قياس أقوى منه .
وقيل : العدول إلى
خلاف حكم النظير بدليل أقوى منه .
قيل : على هذه
التفاسير لا يتحقّق استحسان مختلف فيه ، لأنّ بعضها مقبولة وفاقا ، وبعضها مردّدة
بين ما هو مقبول وفاقا وبين ما هو مردود كذلك.
والأوّلان من
الثاني .
أمّا الأوّل ؛
فلأنّ الدليل المنقدح إن كان من الأدلّة المعتبرة في الشرع وكان المجتهد متحقّقا
بثبوته ، فيجب عليه العمل به وفاقا ، وإلاّ فيجب عليه ردّه وفاقا.
وأمّا الثاني ؛
فلأنّ العادة إن كانت من العادات الجارية في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله أو عصر الصحابة مع عدم إنكارهم ، فهي من السنّة ويجب قبولها وفاقا ، ومنها
العدول عن مقتضى الإجارات في دخول الحمّام من غير تعيين مدّة المكث ومقدار الماء
المسكوب والاجرة ، وشرب الماء من السقاء من غير تعيين الماء وعوضه.
وإن كانت من غيرها
، فإن دلّ على قبولها دليل ثبت حجّيّته ، فثبتت به ولا ريب حينئذ في قبولها ،
وإلاّ فيجب ردّها اتّفاقا.
والبواقي من
الأوّل.
__________________
أمّا الثاني ، فظاهر. وكذا الثالث عند من يعمل بالقياس.
وأمّا الرابع ؛
فلأنّ العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لدليل أقوى ممّا لا
ريب فيه ، ولذا اتّفق عليه الكلّ ، ومنه العدول عن حكم العموم والإطلاق للمخصّص
والمقيّد.
فظهر أنّ
الاستحسان بكلّ من هذه المعاني لا يقبل النزاع ، فإن أظهر الخصم استحسانا يصلح أن
يكون محلاّ للنزاع ، يردّ بأنّه لا دليل عليه ، فليس بحجّة.
أقول : الاستحسان
: استفعال من الحسن ، أي عدّ الشيء حسنا. ويطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه
من الصور والمعاني والأفعال.
والظاهر أنّ من
قال بحجّيّته ـ وهم الحنفيّة والحنابلة ـ أرادوا منه
إثبات الحكم بمجرّد كونه مستحسنا عند المجتهدين من غير دليل من قبل الشارع ، ولذا
أنكره غيرهم من الخاصّة والعامّة ، حتّى قال الشافعي : « من استحسن فقد شرّع » . وحينئذ يكون تعريفه الصحيح عندهم أحد الأوّلين ، ويكون مرادهم من الدليل
المنقدح ما يختلج ببال المجتهد ويستحسنه وإن لم يكن من الأدلّة المعتبرة المعروفة
، ومن العادة ما لم يثبت من سنّة ، ولا من دليل آخر واستحسنه المجتهد بوجه آخر.
والتعريف الأوّل
ناظر إلى ثاني المعنيين اللذين ذكرناهما ، ويعمّ جميع أفراد الاستحسان.
والثاني ناظر إلى
أوّلهما ويخصّ بعض أفراده. والتعريفات الباقية صدرت هفوة ممّن لم يحصّل مرامهم.
وحمل النزاع على
اللفظي ينافي طول التشاجر بينهم وبين سائر المسلمين في إثباته وتزييفه ، وإفراد
الفريقين مبحثا خاصّا له في كتبهم ؛ مع أنّ إطلاق الاستحسان على ما هو مقبول شرعا
لا يقبل النزاع ؛ لإطلاقه عليه في قوله تعالى : ( فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ ) ، وقوله
__________________
تعالى : ( وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) ؛ فالنزاع معنوي ، وتحريره ما حرّرناه. ولا استبعاد في صدور مثله عن مثلهم ؛
لأنّه ليس أوّل قارورة كسرت في الإسلام.
وما أوقعهم في ذلك
الآيات الدالّة على لزوم الأخذ بالأحسن ، كالآيتين المذكورتين ، وقوله تعالى : (
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) ، حيث دلّت على ترك بعض واتّباع بعض بمجرّد كونه أحسن ،
وهو معنى الاستحسان.
والجواب : أنّ
المراد من الأحسن الأظهر والأولى ، أو الراجح عند التعارض.
وبقوله عليهالسلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » دلّ على أنّ ما يراه الناس بعقولهم وعاداتهم مستحسنا ، فهو حسن في الواقع.
والجواب :
المسلمون صفة عموم ، فيدلّ على حسن ما يراه جميع المسلمين حسنا.
فصل [١١]
ومن النوع الثالث المصالح المرسلة.
اعلم أنّ المصلحة
هي ما يوافق الإنسان لدنياه أو لآخرته أو لهما ، وحاصله جلب نفع أو دفع
ضرّ.
ولها تقسيمات
باعتبارات ربّما تأتي في بحث القياس ، وباعتبار شهادة الشرع لها بالاعتبار وعدمه
ثلاثة أقسام : معتبرة ، وملغاة ، ومرسلة.
فالاولى : ما شهد
الشرع باعتباره ، كحفظ الخمسة الضروريّة ، أي الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ،
والمال ، وهو من المصالح المعتبرة في كلّ الشرائع والأديان ، ولذا حرّم في جميعها
ما يؤدّي إلى فسادها ، واوجب ما يفضي إلى بقائها.
والثانية : ما شهد
الشرع بإلغائه ، كما إذا قيل : الغنيّ يكفّر عن الوطء في نهار رمضان
__________________
عمدا بصوم شهرين
تحتّما ؛ لأنّ ذلك أزجر له عن المعاودة.
الثالثة : ما لم
يشهد له الشرع بالاعتبار ولا الإلغاء. وهذه إن كانت لها مفسدة راجحة أو مساوية ،
كانت ملغاة. وإن خلت عنها أو كانت راجحة ، فقد اختلف في حجّيّتها وصلاحيتها لإثبات
حكم شرعي بها ، فذهب أصحابنا والحنفيّة والشافعيّة إلى عدم حجّيّتها ، ونقل عن مالك القول بحجّيّتها حتّى قال : يضرب المتّهم بالسرقة محافظة على
المال . وأنكر أصحابه ذلك عنه .
لنا : أنّا نرى
أنّ الشرع ألغى بعض المصالح واعتبر بعضها ، والمرسلة متردّدة بينهما ، وإلحاقها
بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيجب الوقف عنها ، ولا يصحّ الاحتجاج بها.
احتجّ الخصم بأنّ
الشرعيّات مبنيّة على المصالح ؛ لأنّ الحكمة باعثة على رعايتها ، فإذا وجد في شيء
مصلحة صافية أو راجحة ، يجب أن يكون مشروعا ؛ لتعلّق داعي الحكمة به.
وبأنّ عدم
اعتبارها يؤدّي إلى خلق قضايا كثيرة عن الحكم ؛ لعدم مساعدة الأدلّة المعروفة في
الكلّ .
والجواب عن الأوّل
: أنّ الحكمة باعثة على رعاية المصالح إذا قطع بخلوّها عن جميع المفاسد ، والمقدّر
عدم القطع ؛ لما مرّ . وظنّ الخلوّ لا يكفي ؛ لأنّه ليس من الظنّ المعتبر في
الأحكام ، وهو الحاصل عن أمارة شرعيّة.
وعن الثاني ظاهر.
ثمّ اعلم أنّ
الفعل إمّا أن يشتمل على مصلحة صافية ، أو مفسدة صافية ، أو عليهما معا ، وهذه إمّا أن تكون مصلحة راجحة على مفسدته ، أو بالعكس ، أو مساوية
لها. أو لا يشتمل
__________________
على شيء منهما.
فالأقسام ستّة ، وكلّ منها يمكن أن يشتمل تركه بالترديد على الأقسام المذكورة ،
فيصير الحاصل ستّة وثلاثين.
ثمّ المتحقّق في
كلّ واحد منها ـ من المصلحة والمفسدة وجودا وعدما ـ إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، وعلى
التقديرين إمّا كلّيّ أو جزئيّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون المصلحة ضروريّة ـ أي
ليس لها بدل ـ أو لا ، فيرتقي الأقسام إلى حدّ لا يحصى كثرة. ولا ريب في حجّيّة
مصلحة صافية قطعيّة ضروريّة ، كلّيّة كانت أو جزئيّة إذا لم يشتمل تركها قطعا على
مصلحة مطلقا ، سواء اشتمل على مفسدة أو لا ؛ لأنّها تكون معتبرة ؛ لأنّ كلّ مصلحة
صافية قطعيّة معتبرة عند الشرع والعقل. والمرسلة ما كانت متردّدة بين المعتبرة
والملغاة إمّا لعدم القطع بكونها مصلحة في نفسها ، أو لأدائها إلى مفسدة. وغيرها
من الأقسام ليس بحجّة. ووجهه ما تقدّم .
ولنذكر مسألة
فرعيّة ليعرف كيفيّة التفريع ، مثلا إذا مرضت حامل وقطع بكون إخراج الدم ـ لا غير
ـ شفاء لها ، وعلم عدم أدائه إلى فساد الحمل يجب فعله. وإن لم يقطع به أو قطع به
وعلم بدله أو فساد الحمل ، لم يجب.
وقال بعضهم
بحجّيّتها إذا كانت ضروريّة قطعيّة كلّيّة وإن أدّت إلى مفسدة اخرى ، قالوا : إذا
تترّس الكفّار من أهل الحرب بالاسارى من المسلمين ، يجوز رميهم وإن أدّى إلى تلف
الاسارى ؛ إذا علم أنّه إن لم يرموا ظهروا على الإسلام ، وهذه ضروريّة ؛ لأنّ دفعهم
لا يمكن بدون الرمي ، وقطعيّة ؛ لأنّ الرمي بدفعهم قطعيّ ، وكلّية ؛ لأنّ الضرر
يعمّ المسلمين .
وهذا القول ظاهر
الفساد ؛ لأنّ الشارع قد نهى عن المفسدة المترتّبة مطلقا ، فكيف يكلّف بما يؤدّي
إليها؟! وجواز الرمي عند التترّس لو صحّ ـ كما قال به أصحابنا ـ فإنّما هو بدليل من خارج ، ولذا لم يجوّزوا قتل من قطع بأنّه لو لم يقتل
صار سببا لقتل جماعة بالسعاية عند ظالم ، وعلى القول المذكور يلزم وجوب قتله.
__________________
الباب
الخامس
في القياس
وفيه فصول :
فصل [١]
القياس لمّا كان
عند من يعمل به من الأدلّة العقليّة ، فكان الأليق أن يذكر فيها ، إلاّ أنّ
الاصوليّين يطلقون الاستدلال تارة على إقامة الدليل مطلقا ، سواء كان نصّا ، أو
إجماعا ، أو قياسا أو غيرها ؛ وتارة يخصّونه بإقامة نوع خاصّ من الأدلّة ، وهي
الأدلّة العقليّة المتقدّمة. وبهذا الاصطلاح وضعوا بابا خاصّا للاستدلال وذكروها فيه ،
ووضعوا لكلّ واحد من الأدلّة الأخر عقليّا كان أو غيره بابا خاصّا آخر ، فنحن أيضا تأسّينا بهم.
فصل [٢]
القياس لغة :
التقدير والمساواة . يقال : « قست الثوب بالذراع » أي قدّرته. و « زيد لا يقاس
بعمرو » أي لا يساوى به.
وفي عرف أهل النظر
: الاحتجاج بالكلّي على الجزئي وهو يفيد القطع . وفي عرف الفقهاء
: الاحتجاج بالجزئي على الجزئي ، وهو التمثيل عند أهل النظر .
__________________
وقيل : هو في
الحقيقة مركّب من القياس المنطقي والاستقراء ؛ لأنّا إذا أثبتنا علّيّة وصف معيّن
لحكم ، كالإسكار للتحريم باعتبار وجوده في الأصل ، كالخمر ، لزم منه صدق قولنا : « كلّ مسكر حرام » فيتألّف قياس اقتراني ، هكذا : «
النبيذ مسكر » ، و « كلّ مسكر حرام » فينتج : « النبيذ حرام ». والصغرى يقينيّة ،
والكبرى معلومة بالاستقراء .
وفيه : أنّه يجب
أن يكون الأوسط في الكبرى علّة لوجود الأكبر ، ولا يكفي مجرّد كونه معه في كونه
علّة له ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على العلّيّة ، كنصّ ، أو مناسبة ، أو غير ذلك. والمعلوم من
الاستقراء ليس إلاّ مجرّد اقتران الوصف بالحكم من غير دلالته على العلّيّة ، فلا
يستفاد الكبرى من الاستقراء.
وحاصل القياس
الفقهي مساواة فرع لأصل لعلّة حكمه ، أو إجراء الأصل في الفرع بجامع ، أو تعدية
الحكم من الأصل إلى الفرع لعلّة متّحدة فيهما ، أو حمل معلوم على معلوم في إثبات
حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما.
فعلى الأوّل يكون
القياس شيئا ثابتا في نفسه. وعلى البواقي يكون فعلا من أفعال المجتهد. فإذا قلنا :
الأرز ربوي ؛ لاشتراكه مع البرّ في علّة ربوبيّته وهو الكيل والوزن ، يكون القياس
على الأوّل نفس الاشتراك في الواقع ، أو في نظر المجتهد ، وعلى البواقي الفعل
المذكور.
والحقّ ، صحّة كلّ
واحد من هذه الحدود من غير اختلال فيه طردا وعكسا.
وما اورد عليه ظاهر الاندفاع ، ولذا أعرضنا عنه. وله حدود أخر مزيّفة تركناها ؛ لعدم فائدة في ذكرها.
فصل [٣]
قد علمت من حدّ
القياس أنّ أركانه أربعة : الأصل ، والفرع ، والعلّة ، والحكم. ولا كلام في أنّ العلّة
هو الوصف الجامع ، والحكم هو حكم الأصل.
__________________
وأمّا الأصل ، فهو
عند الفقهاء المحلّ المشبّه به الذي ثبت به الحكم ، كالخمر . وعند جماعة حكمه ، كحرمته . وعند المتكلّمين دليل الحكم ، كقوله صلىاللهعليهوآله : « حرّمت الخمر » .
وضعّف الأوّل :
بأنّه لو انتفى الحكم من المحلّ ، لم يتأتّ القياس عليه ، فلا يكون أصلا.
و [ ضعّف ] الثالث
: بأنّه لو علم الحكم بالضرورة ، أمكن القياس عليه وإن لم يكن عليه دليل ، فبقي
الأصل إمّا حكم محلّ الوفاق ، أو علّته .
وفيه : أنّ الكلام
على فرض ثبوت الحكم في المحلّ ووجود دليل عليه ، وحينئذ لا مانع في تسمية كلّ واحد
منهما أصلا ؛ لأنّ الأصل ما يبتنى عليه الشيء ، والحكم في الفرع وإن ابتنى ابتداء
على الحكم في الأصل إلاّ أنّه يبتنى على دليله ومحلّه وعلّته أيضا بالواسطة ؛
لابتنائه عليهما.
فالحقّ أنّه لا
بأس بتسمية كلّ من الأربعة أصلا.
وأمّا الفرع ، فهو
عند الفقهاء المحلّ المشبّه الذي يراد إثبات الحكم فيه ، وعند الاصوليّين حكمه .
وربّما قيل
بأولويّة الثاني ؛ لأنّ الأوّل ليس متفرّعا على الأصل ، بل هو أصل الحكم الذي هو
فرع القياس ، فهو أصل فرع. ويقابل بأنّ الثاني ثمرة القياس وفائدته ، فيتأخّر عنه
، فلا يكون من أركانه .
فالحقّ أنّ لكلّ
واحد من الأقوال في الأصل والفرع وجها صحيحا.
وقيل : الحكم
والعلّة يتعاكسان أصالة وفرعيّة في محلّ الوفاق والخلاف ، فالحكم أصل للعلّة وهي
فرع له في الأوّل ؛ إذ تستنبط بعد ثبوته ، والعلّة أصل للحكم وهو فرع لها في
الثاني ؛ إذ يعلم ثبوته بثبوتها . وله أيضا وجه صحيح.
__________________
ثمّ لا يخفى أنّ
تحديد القياس على ما تقدّم ، وعدّ أركانه أربعة بناء على ما استقرّ عليه آراء الاصوليّين من ابتناء بحثهم في كتبهم على اصطلاح
الفقهاء في الأصل والفرع ، ولو بنينا على اصطلاح غيرهم ، تغيّرت الحدود وتناقضت
الأركان ، فعلى اصطلاحهم أيضا يدور رحى البحث في كتابنا هذا.
فصل [٤]
اعلم أنّ للقياس
تقسيمات باعتبارات في كتب القوم ،
وبعضها يرد على أقسام بعض آخر ، فيدخل بعض الأقسام تحت بعض الأقسام الأخر. وربّما
بقي تقسيم لم يرد على أقسام باقي التقسيمات ، فيبقى بعض الأقسام غير داخل تحت بعض
الأقسام الأخر ، ولا مدخول عليه. وربّما اشتبه بعض الأقسام بغيره ولم يكن هو. وربّما كان
بعضها عين بعض آخر عند التأمّل. وقد يرى المخالفة بينهم في تفسير بعضها ولا يعلم الصواب.
وربما سمّوا بعض
الأقسام المختلفة باسم واحد ولم يتعرّضوا للتبيين والتمييز . وقد يصرّحون بأنّ هذا القسم ممّا أثبت حجّيّته العامّة والخاصّة كلاّ أو
بعضا ، وذاك القسم ممّا تفرّد بإثبات حجّيّته العامّة ، فربّما اشتبه حينئذ على
غير الماهر أنّ غيرهما من الأقسام ـ كلاّ أو بعضا ـ هل يدخل في هذا أو ذاك ، أو لا
يدخل في شيء منهما؟
وربّما كان ترتيب
بحثهم على ما لا ينبغي ، واستدلالهم غير معلوم المحلّ ، فجاء بحث القياس في
مصنّفاتهم مختلّ النظام ، غير مضبوطة الأقسام .
فلتفصيل ما أجملوه
وتبيين ما أهملوه لا بدّ لنا أوّلا من ضبط التقاسيم ، وحصر الأقسام وتعريفها ،
والإشارة الإجماليّة إلى أنّ أيّا من الأقسام يدخل تحت أيّ منها ، وأيّا منها يبقى
غير داخل ، ولا مدخول عليه.
__________________
ثمّ تفصيل البحث
عن كلّ واحد وما يتبعه. ثمّ الإشارة إلى أنّ الأقسام المعتبرة منها عند الفريقين
في الجملة ما هي؟ وما تفرّد باعتباره المخالفون ما ذا؟ وتحقيق الحقّ فيه.
ثمّ التذييل بما
ينبغي من الشروط والافتراضات ، وغيرها على ما يقتضيه النظم الطبيعيّ في البحث.
فنقول : ينقسم
القياس أوّلا إلى قياس طرد ، وهو ما يثبت فيه للفرع مثل حكم الأصل.
وإلى قياس عكس ،
وهو ما يثبت فيه للفرع نقيض حكم الأصل. وهذا شقّان :
والشقّ
الأوّل ينقسم إلى قياس
علّة ، وقياس دلالة ، وقياس في معنى الأصل. وهذه ثلاثة أجناس :
[ الجنس ] الأوّل
: ما صرّح فيه بجامع يكون هو العلّة للحكم ، كقياس النبيذ على الخمر بجامع
الإسكار.
و [ الجنس ]
الثاني : ما صرّح فيه بجامع لم يكن هو العلّة ، بل كان دليلها ، كقياس المكره على
القتل على المكره عليه في وجوب القصاص بجامع الإثم ، وهو ليس علّة لوجوب القصاص ،
بل يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ النفس الذي هو العلّة.
وكقياس النبيذ على
الخمر في التحريم بجامع الرائحة الفائحة اللازمة للإسكار الذي هو العلّة.
وكقياس المسروق
على المغصوب في وجوب الضمان بالتلف بجامع وجوب ردّه إذا كان باقيا ؛ فإنّ وجوب
الردّ ليس علّة للضمان في صورة الغصب ، ولكنّه يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ المال
الذي هو العلّة للضمان.
وكالجمع بين قطع
أيدي جماعة بيد الواحد ، وقتل نفوس بالنفس الواحدة قصاصا بجامع الاشتراك في وجوب
الدية عليهم على تقدير إيجابها. ووجوب الدية ليس علّة لوجوب القصاص ، بل هو أحد
موجبي العلّة التي هي الجناية ، إلاّ أنّ وجوده يدلّ على وجود الموجب الآخر ، وهو
وجوب القصاص ؛ لأنّهما متلازمان ؛ نظرا إلى اتّحاد علّتهما ـ وهي الجناية ـ وحكمتهما
وهو الزجر.
وغير خفيّ أنّ
حاصل جميع أمثلة قياس الدلالة يرجع إلى إثبات حكم في الفرع ، وهو
وحكم آخر يوجبهما
علّة واحدة ، والآخر متحقّق الوقوع في الفرع. فيقال : يثبت هذا الحكم في الفرع
لثبوت الآخر فيه ، وهو ملازم له ، فيجمع بين الأصل والفرع في أحد موجبي العلّة ؛
لاجتماعهما في الموجب الآخر الملازم له ، ويؤول إلى الاستدلال بأحد الموجبين على
العلّة ، وبها على الموجب الآخر ، ولكن يكتفى بذكر موجب العلّة عن التصريح بها.
و [ الجنس ]
الثالث : ما لم يصرّح فيه بجامع أصلا ، وعلم الجمع بين الأصل والفرع في الحكم بنفي
الفارق.
ثمّ
الشقّ الثاني ـ وهو قياس العكس
ـ : ينقسم أيضا إلى هذه الأجناس الثلاثة ؛ فإنّ إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع قد
يكون لوجود نقيض علّته فيه ، كما يقول الحنفيّة : لمّا وجب الصوم في الاعتكاف
بالنذر ، وجب بغير نذر ، كالصلاة ، فإنّها لمّا لم تجب بالنذر ، لم تجب بغير النذر
، فالحكم في الأصل عدم الوجوب بغير نذر ، وفي الفرع الوجوب
بغير نذر ، والعلّة في الأصل عدم الوجوب بالنذر ، وفي الفرع الوجوب بالنذر ، فلمّا
كانت العلّتان متناقضتين ، فالحكمان أيضا كذلك .
وقد يكون لوجود
لازم نقيضها فيه.
وقد يكون
لتناقضهما المستلزم لتناقض حكمهما وإن لم يصرّح بعلّة للحكم أصلا. ومثالهما ظاهر.
هذا ، والظاهر أنّ
المراد من التصريح بالعلّة في الجنس الأوّل أن يعلّل ثبوت الحكم بعلّة مطلقا ، أي
سواء عرفت بنصّ ، أو إيماء ، أو استنباط ، أو غيرها ؛ وليس المراد منه أن تكون
العلّة مصرّحة في الأصل حتّى يختصّ بمنصوص العلّة.
وعلى هذا ، يكون
المراد من الجنس الثالث ما لم يعلّل الحكم فيه بعلّة أصلا ، بل لتساوي الأصل
والفرع في جميع ما يصلح أن يكون سببا لاختلاف الحكم يحكم بثبوت الحكم في
__________________
الفرع وإن لم
يستند إلى علّة أصلا ، مثلا قوله صلىاللهعليهوآله : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد » إذا قيس عليه البول في الكوز وصبّه في الراكد ، لم يكن الجمع بينهما بعلّة
أصلا ؛ لعدم وجودها نصّا وإيماء ، بل للعلم بعدم الفرق بينهما بشيء يصلح لاختلاف
الأحكام. وعلى هذا يلحق قياس العلّة قسمة باعتبار معرفة العلّة ، وذلك لأنّ معرفة كون الوصف الجامع علّة ليست ضروريّة ، فلا
بدّ لها من طرق ، وتنحصر أوّلا في طريقين : الدلالة ، والاستنباط. ونحن نسمّي ـ لسهولة
التفهّم ـ كلّ قياس مدلول العلّة براجح التأثير ، وكلّ قياس مستنبط
العلّة بمرجوح التأثير.
ثمّ الطريق الأوّل
إمّا النصّ ، ويسمّى القياس حينئذ منصوص العلّة ومثاله ظاهر.
وإمّا الإجماع ،
ككون الصغر علّة لولاية المال ؛ فإنّه علّة لها بالإجماع ، ويقاس عليها النكاح.
وإمّا التنبيه
والإيماء ، مثاله : ما قال الأعرابي : هلكت وأهلكت ، فقال صلىاللهعليهوآله : « ما ذا صنعت؟ » فقال : واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال : « أعتق رقبة » . وهذا يدلّ على أنّ الوقاع علّة للإعتاق. ويأتي تفصيل مراتب التنبيه والإيماء
.
وهذه ثلاثة أنواع
، كلّ واحد منها : إمّا أن يكون اقتضاء الجامع فيه للحكم في الأصل أولى منه في
الفرع ، كاقتضاء الإسكار للتحريم في النبيذ ؛ لاقتضائه له في الخمر ، ولا خلاف في
كونه قياسا. أو بالعكس ، ويسمّى القياس بالطريق الأولى ، كاقتضاء وجوب كفّ الأذى
لتحريم الضرب ؛ لاقتضائه لتحريم التأفيف.
أو مساويا ،
كاقتضاء عتق الشقص في الأمة لتقويم نصب الشريك على المعتق ؛ لاقتضائه له في العبد.
__________________
وقد وقع الخلاف في
كون الأخيرين قياسا . والحقّ أنّهما هو كما يأتي.
والحاصل تسعة
أصناف. وكلّ واحد منها إمّا جليّ ، وهو ما يعلم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع ،
كقياس الأمة على العبد في تقويم النصب ، فإنّا نعلم أنّ الفارق بينهما ـ وهو
الذكورة والانوثة ـ لا يصلح للتأثير في اختلاف أحكام العتق وإن صلح للاختلاف
في أحكام غيره.
أو خفيّ ، وهو ما
كان نفي الفارق فيه مظنونا ، كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدّد. والحاصل ثمانية
عشر قسما.
وربما ظهر من كلام
جماعة أنّ الجليّ اسم للقياس بالطريق الأولى لا غير ، فيتّحد القياس بالطريق الأولى معه ولا ينقسم إليه وإلى غيره.
ولا يخفى أنّ كلّ
قياس بطريق أولى ليس جليّا بالمعنى الذي ذكرناه ؛ فإنّ كون اقتضاء الجامع للحكم في
الفرع أولى منه في الأصل ، لا يستلزم العلم بنفي الفارق بينهما ؛ لجواز أن يكون
الاقتضاء المذكور ظنّيّا ؛ فإنّه لا يشترط في القياس بالطريق الأولى أن يكون
الاقتضاء قطعيّا ، وحينئذ يكون تعليل الحكم بالجامع ظنّيّا ، فربما كان لخصوص
مادّة الأصل مدخليّة في الحكم ، فلا يقطع بنفي الفارق بينهما فيه ، فيصحّ انقسام
القياس بالطريق الأولى إلى الجليّ والخفيّ ، كما يصحّ انقسام عكسه إليهما.
ولا يرد أنّ
اقتضاء الجامع للحكم في الأصل إذا كان أقوى منه في الفرع ،
لا يمكن القطع بنفي الفارق ، فينحصر في الخفيّ ؛ لجواز أن يقطع باقتضائه له فيهما
وإن كان في الأصل أشدّ.
نعم ، إن اريد
بالجليّ معنى يرادف القياس بالطريق الأولى وبالخفيّ ما يقابله ، فلا كلام ، إلاّ
أنّ العرف المشهور بين القوم ما ذكرناه ؛ لأنّ الظاهر
أنّ الجليّ عندهم ما يعلم فيه نفي
__________________
الفارق مطلقا ، أي
سواء وجد معه علّة للحكم أم لا.
والذي ينقسم إليه
الأصناف التسعة هو الأوّل. والثاني هو القياس في معنى الأصل بالمعنى المذكور ، فإن
اريد بالجليّ الثاني وبالقياس بالطريق الأولى ما يرادف القياس في معنى الأصل ،
فيتّحدان.
ثمّ كلّ واحد من
الأقسام الثمانية عشر إمّا قطعيّ ، وهو ما يقطع فيه بكون الحكم في الأصل معلّلا
بالجامع وبثبوته في الفرع. أو ظنّيّ ، وهو ما يظنّ فيه بهما أو بأحدهما. والحاصل ستّ
وثلاثون صورة.
وانقسام كلّ من
الأقسام المذكورة إليهما مبنيّ على أنّ العلم بنفي الفارق لا يستلزم قطعيّة القياس
بالمعنى المذكور.
وربّما ايّد ذلك
بأنّا نعلم نفي الفارق بين الهندي والأعرابي في تعلّق الكفّارة بهما إذا وجد
مقتضيها ، مع أنّا لا نقطع بكون الوقاع علّة للكفّارة في قضيّة الأعرابي ، بل هو
مظنون لنا.
وغير خفيّ أنّه
إذا جوّز أن يكون لخصوص الواقعة مدخليّة ، فلا يقطع بنفي الفارق ، وإن لم يجوّز ،
يكون حكم الفرع في ثبوت الحكم له حكم الأصل بعينه ، وثبوت الحكم في الأصل إذا كان
قطعيّا ومستندا إلى العلّة لا غير ـ كما هو الفرض ـ يستلزم قطعيّة العلّيّة.
نعم ، إذا لم يكن
الحكم في الأصل قطعيّا بأن ينحصر ثبوته بعلّة عقليّة تكون علّيّتها له ظنّية ، أو
بعلّة شرعيّة ظنّية الطريق وعلم ثبوتها في الفرع ، يمكن حصول العلم بنفي الفارق
بينهما من غير قطعيّة القياس بالمعنى المذكور ، وحينئذ يرد القسمة الأخيرة على
الأقسام المتقدّمة. وعلى أيّ تقدير ، لا شبهة في استلزام القطعيّة بالمعنى المذكور
للعلم بنفي الفارق ، وهو ظاهر.
ثمّ لا يخفى أنّ
الجنس الثاني ـ وهو قياس الدلالة ـ وإن لم ينقسم إلى الأنواع المذكورة إلاّ أنّه
يمكن انقسامه إلى الأصناف والأقسام والصور المذكورة ، ووجهه ظاهر.
وأمّا الجنس
الثالث ـ وهو القياس في معنى الأصل ـ فعلى التفسير الذي ذكرناه
__________________
لا ينقسم إليها.
ولو اريد منه ما لم ينصّ على علّة في أصله ـ وإن اثبت الحكم في الفرع بعلّة
إيمائيّة أو استنباطيّة أو معلومة بالإجماع ـ واريد من الجنس الأوّل ـ وهو قياس
العلّة ـ ما كانت العلّة في الأصل منصوصة ، لا يشمل النوع الأوّل ، وينقسم إلى باقي الأنواع وجميع الأصناف والأقسام والصور
المذكورة.
ولا يشمل الجنس
الأوّل ما سوى النوع الأوّل ، أي منصوص العلّة ، بل يتّحد معه ، ولكنّه ينقسم إلى
الأصناف والأقسام والصور المذكورة.
واعلم أنّ الظاهر
من كلام جماعة أنّ تنقيح المناط ـ وهو الاستدلال في عرف الحنفيّة ـ هو الجمع بين الأصل والفرع بمجرّد إلغاء الفارق ، أي القياس في معنى الأصل .
وقال بعضهم : هو
الجمع بينهما بنفي الفارق مع كون العلّة مستخرجة في الأصل بالإيماء ، ففي قضيّة
الأعرابي إذا قيل : كونه أعرابيّا لا مدخل له في العلّيّة ، فالهندي مثله ، كان
تنقيح المناط .
والظاهر أنّه مطلق
الجمع بينهما بنفي الفارق ، سواء وجد معه علّة إيمائيّة أو استنباطيّة ، أو لا.
بل يظهر من كلام
جماعة أنّ كلّ ما جاز أن يحذف عنه بعض الأوصاف ويعلّل بالباقي ، يسمّى تنقيح
المناط ؛ لأنّهم عدّوا منه قوله عليهالسلام وقد سألوا عن جواز بيع الرطب بالتمر : « أينقص إذا جفّ » قالوا : نعم ، فقال : « فلا إذن » ، إذا قيل : لا اعتبار بما عدا تلك العلّة من أوصاف الأصل ، ولا ريب في أنّ «
إذن » نصّ في علّيّة النقصان عند الجفاف للتحريم. فإذا
__________________
قيل : كلّ ما نقص
بعد الجفاف من الربويّات لا يجوز بيعه بيابسه ، يكون تنقيح المناط ، مع أنّ
التعليل فهم نصّا.
هذه هي الأقسام
والصور المندرجة تحت قياس راجح التأثير.
وأمّا مرجوح
التأثير ، فله أيضا أقسام ؛ لأنّك عرفت أنّه ما عرف
الجامع فيه بالاستنباط ، وله طرق :
منها : المناسبة ،
ويسمّى إخالة ؛ لأنّه بالنظر إليه يخال أنّه علّة ، وتخريج المناط ؛ لأنّه إبداء
مناط الحكم. وحاصله تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم
من ذات الأصل ، لا بنصّ ولا بغيره.
والظاهر أنّ تعيين
العلّة في الأصل بمطلق الاستنباط ـ سواء كان بالمناسبة أو غيرها ـ وإثبات الحكم
فيه لأجلها يسمّى تخريج المناط. وإثبات العلّة في الفرع ، يسمّى تحقيق المناط.
والقياس بهذا الاعتبار يسمّى « قياس إخالة » ، مثاله ما يقال : علّة تحريم الخمر
الإسكار ؛ لأنّه مناسب له ، فالنبيذ حرام ؛ لوجود العلّة المناسبة فيه أيضا.
ومنها : الشبه.
وله تفسيرات ، أشهرها أنّه ما يوهم المناسبة وليس بمناسب ، ويسمّى القياس بهذا
الاعتبار « قياس الشبه » ، وما لا يوهم المناسبة أصلا يسمّى بالطرد ، ويسمّى
القياس بهذا الاعتبار « قياس طرد ». ويمتاز الوصف الطرديّ عن الوصف الشبهيّ بأنّ
الطرديّ وجوده كالعدم عند الكلّ.
مثال الشبه : كما
يقال في إزالة الخبث : هي طهارة تراد للعبادة ، فتعيّن الماء كالحدث ؛ فإنّ
المناسبة بين الجامع وهو طهارة تراد للعبادة ، وبين الحكم وهو تعيّن الماء غير
ظاهرة ، إلاّ أنّ اعتبار الشارع للطهارة المائيّة في بعض الأحكام ـ كمسّ المصحف
والصلاة والطواف ـ يوهم المناسبة ، فيكون الجامع وصفا شبهيّا.
ومثال الطرد :
الخلّ لا يبنى عليه القنطرة ، ولا يصاد منه السمك ، فلا يزيل الخبث كالمرق ؛ فإنّه
لا يتوهّم أحد وجود المناسبة بين الوصف الجامع والحكم هنا ؛ لأنّه ممّا ألغاه
الشارع قطعا.
__________________
ومنها : السبر
والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل ـ الصالحة في بادئ الرأي للعلّيّة ـ في
عدد ، ثمّ إبطال ما عدا الذي يدّعى أنّه العلّة واحدة كانت أو أكثر ، ويسمّى
القياس حينئذ قياس السبر.
مثاله : كما يقال
في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : بحثنا عن أوصاف البرّ فما وجدنا ما يصلح أن
يكون علّة للربويّة إلاّ الطعم والقوت والوزن ، لكنّ الطعم والقوت لا يصلحان لذلك
عند دقيق النظر ، فتعيّن الوزن ، وهو موجود في الأرز ، فيكون ربويّا.
ومنها : الدوران ،
وقد عرفت أنّه الاستلزام في الوجود والعدم ، ويسمّى الأوّل الطرد ،
والثاني العكس ، ولذا سمّي الدوران بالطرد والعكس ، ويسمّى القياس حينئذ « قياس
الطرد ».
مثاله : كما يقال
في قياس النبيذ على الخمر في الحرمة : العصير أوّلا لمّا لم يتّصف بالإسكار ، لم
يكن حراما ، ولمّا حدث فيه وصف الإسكار حدثت فيه الحرمة ، وإذا صار خلاّ وزال عنه
الإسكار ثانيا ، يزول عنه الحرمة أيضا. فيظهر أنّ الإسكار علّة للتحريم ، فيكون
النبيذ حراما لوجوده فيه.
هذا ، وقد ظهر
ممّا ذكرنا من أقسام القياس أنّ ثلاثة أقسام منه يسمّى قياس الطرد ، ونحن ـ للتمييز
ـ نسمّي المقابل لقياس العكس قياس الطرد الأعمّ ، وقياس الدوران قياس الطرد
المركّب ، والمقابل لقياس الشبيه قياس الطرد البسيط. ولمّا كان الصور المتقدّمة
مندرجة تحت الأوّل ، وبعضها حجّة عندنا ، والباقي ليس بحجّة ، كما يأتي ، فبعض
أقسامه مقبول والباقي ليس بمقبول ، ومن أقسامه التي ليست مقبولة قياس الطرد
المركّب والبسيط.
واعلم أنّ كثيرا
ما يستدلّ أصحابنا في كتبهم الفروعيّة على حكم بأنّه من باب اتّحاد طريق المسألتين
لا القياس ، كما قالوا : يجب اليمين استظهارا مع البيّنة في الدعوى على الغائب
والطفل والمجنون ؛ لمشاركتهم للميّت في العلّة المومى
__________________
إليها في النصّ ، وهو أنّه لا لسان له للجواب.
والمراد منه كلّ قياس علم أو ظنّ فيه ظنّا شرعيّا تعليل الحكم في الأصل بعلّة واشتراك
الفرع له في علّة حكمه ، فيرادف قياس راجح التأثير
ويشمل جميع أقسامه ، ويحتمل أن يكون أعمّ منه وممّا علم ، أو ظنّ فيه كذلك نفي الفارق بين الأصل والفرع ، فيشمل تنقيح المناط أيضا.
فصل [٥]
يتحقّق النصّ على
التعليل بذكر ما يدلّ عليه صريحا بوضعه ، وهو قسمان ، يتقدّم السابق على اللاحق في قوّة الدلالة
عليه.
الأوّل : ما صرّح
فيه بالعلّيّة ، نحو لعلّة كذا ، أو لسبب كذا ، أو لموجب كذا ، أو مؤثّر كذا ، أو
من أجل كذا ، أو كي يكون كذا ، أو إذن كذا.
الثاني : ما ورد
فيه أحد الحروف الظاهرة فيها ، كـ « اللام » و « الباء » و « من » ، و « إنّ » ، و « إن
» مثل إن كان كذا ، وليست صريحة فيه ؛ لأنّها قد تجيء لغيره.
ويظهر دلالتها على التعليل عند اقترانها بوصف صالح له ، ويزداد قوّة التعليل
بالإجماع.
فصل [٦]
الأقسام المتقدّمة
في مطلق الإجماع تتأتّى في الإجماع على كون الوصف الجامع علّة ، فيكون قطعيّا
وظنّيّا ، كالسكوتي والثابت بالآحاد ، ولأجله يختلف
معرفة التعليل الثابت منه بالقطعيّة والظنّيّة.
__________________
فصل [٧]
التنبيه والإيماء
ما لزم مدلول اللفظ. فكلّ لفظ كان التعليل لازما من مدلوله ، كان دالاّ على
العلّيّة بالتنبيه والإيماء. وله مراتب :
منها : ما دخل فيه
« الفاء » في لفظ الشارع أو الراوي.
وفي الأوّل إمّا
أن يدخل على الحكم وتكون العلّة متقدّمة ، كقوله تعالى : (
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) ، و ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) ، وقوله عليهالسلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » ، و « ملكت نفسك فاختاري » .
أو على العلّة
ويكون الحكم متقدّما ، كقوله عليهالسلام : « زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون وأوداجهم
تشخب دما » .
والثاني مثل : «
سها فسجد » و « زنا ماعز فرجم » . وهو يختلف في
الدلالة على التعليل بحسب اختلاف حال الراوي فقها وورعا. وهو دون الأوّل ؛ لاحتمال
الغلط.
وقيل : الشقّ
الأوّل من الأوّل أقوى من الثاني منه ؛ لأنّ إشعار العلّة بالمعلول أقوى من العكس
؛ للزومه دونه .
وفيه نظر يطلب من
محلّه ، مع أنّه ما قيل في بيانه لا يجري في العلل الشرعيّة.
ثمّ دلالة « الفاء
» على التعليل لمّا لم تكن وضعيّة بل استدلاليّة ؛ لأنّها لمّا كانت للتعقيب فيلزم
منه العلّيّة ؛ إذ معنى كون الوصف علّة أن يثبت الحكم عقيبه ، فيكون التعليل لازم
مدلوله ، فدلالتها عليه إيمائيّة. وبذلك يظهر غفلة من عدّها من مراتب النصّ على
التعليل .
__________________
ومنها : الاقتران
بوصف لو لم يكن للتعليل ، لكان بعيدا ، كواقعة الأعرابي المتقدّمة ؛ فإنّه عرض واقعته على النبيّ صلىاللهعليهوآله لبيان حكمها ، والحكم الذي ذكره صلىاللهعليهوآله جواب له ؛ إذ لو كان مبتدئا ، لزم إخلاء السؤال عن الجواب ، وتأخير البيان عن
وقت الحاجة ، فيكون السؤال حينئذ مقدّرا في الجواب ، فكأنّه قال : « واقعت فكفّر »
فيرجع إلى سابقه ، إلاّ أنّه دونه ؛ لأنّ « الفاء » هنا مقدّرة وثمّة محقّقة ؛
ولاحتمال عدم قصد الجواب ، كما لو قال العبد : « طلعت الشمس » فقال السيّد : « اسقني الماء ». ولا يلزم تأخير البيان حينئذ عن وقت
الحاجة في كلام الشارع ؛ لاحتمال معرفته بانتفاء حاجة المكلّف. وهذا وإن كان بعيدا
إلاّ أنّه لإمكانه يصلح وجها للمرجوحيّة.
ويتفرّع عليه :
أنّه لو قالت لرجل زوجته ـ واسمها فاطمة ـ : « طلّقني » ، فقال : « فاطمة طالق » ،
ثمّ قال : نويت فاطمة اخرى ، طلّقت ، ولم يسمع ادّعاؤه ؛ لأنّ قوله جواب عن سؤالها
؛ فلا يطابق ادّعاءه ، بخلاف ما لو قال ابتداء : « طلّقت فاطمة » ، ثمّ قال : نويت
فاطمة اخرى.
ويتفرّع عليه أيضا
: أنّه إذا قالت له زوجته : إذا قلت لك طلّقني ما تقول؟ فقال : أقول : « أنت طالق » لا يقع عليه الطلاق ؛ لأنّه إخبار عن فعله
في المستقبل ؛ عملا بالجواب المطابق للسؤال. نعم ، لو قصد التنجيز يطلّق. وقس
عليهما أمثالهما.
ومنها : الاقتران
بوصف لو لم يكن نظيره للتعليل ، لم يكن في ذكره فائدة ، كقوله عليهالسلام وقد سألته الخثعميّة : إنّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحجّ ، فإن حججت
عنه أينفعه؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، كان ينفعه ذلك؟ »
قالت : نعم ، فقال : « فدين الله أحقّ بأن يقضى » .
نبّه صلىاللهعليهوآله بذكر نظير ما سألته السائلة على التعليل به ، أي كونه علّة للنفع ، وإلاّ كان
ذكره عبثا. ويحصل منه التنبيه على أنّ نظيره ـ وهو دين الله المسئول عنه ـ كذلك ،
ففي مثل هذا تنبيه على أصل القياس ، وعلى علّة حكمه ، وعلى صحّة إلحاق الفرع به. والاصوليّون
يسمّونه تنبيها على أصل القياس .
__________________
ومنها : ذكر وصف
عقيب سؤال لو لم يحمل على التعليل كان عبثا ، كما روي أنّه صلىاللهعليهوآله امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ، فقيل له صلىاللهعليهوآله : إنّك تدخل على بيت فلان وعندهم هرّة؟ فقال : « إنّها
ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم » أو « الطوّافات »
، فلو لم يكن للطواف أثر في التطهير ، كان ذكره بعد الحكم بطهارتها عبثا. وكون
التعليل هنا منصوصا من « إنّ » لا ينافي ذلك ؛ إذ لو قدّر انتفاؤها ، لبقي فهم
التعليل من الوصف.
ومنها : ذكر وصف
ابتداء كذلك ، كقوله عليهالسلام ـ وقد توضّأ بماء نبذت فيه تمرات ـ : « تمرة طيّبة وماء
طهور » . فلو لم يقدّر كون بقاء اسم الماء عليه علّة لجواز الوضوء
به ، كان ذكره لغوا.
ومنها : التقرير
على وصف الشيء المسئول عنه ، كقوله عليهالسلام ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر ـ : « أينقص الرطب إذا جفّ؟
» فقيل : نعم ، فقال : « فلا إذن » .
نبّه بمنع البيع
إذا نقص على التعليل به. وكونه منصوصا من « إذن » ، ومفهوما من « الفاء » لا ينافي ذلك ؛ لأنّه لو قدّر انتفاؤهما ، لبقي فهم التعليل.
ومنها : الفرق بين
شيئين في الحكم بوصف صالح للتعليل. إمّا بصيغة صفة مع ذكر الشيئين بوصفهما وحكمهما
، مثل « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » .
أو مع ذكر أحدهما
، مثل : « القاتل لا يرث » ؛ فإنّه لم يتعرّض لغير القاتل وإرثه ، إلاّ أنّه يعلم منه
ـ بعد تقدّم بيان إرث الورثة ـ أنّ القتل علّة لنفي الإرث.
أو بغاية ، مثل : ( وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ). نبّه بالغاية ، على التفرّق بين الحائض وغيرها ، وعلى أنّ الحيض علّة عدم
جواز القرب.
__________________
أو بالاستثناء ،
مثل : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ
). نبّه بالاستثناء
على أنّ العفو علّة لسقوط المهر.
أو بالشرط ، مثل :
« إذا اختلف الجنسان ، فبيعوا كيف شئتم » . يعلم منه ـ بعد
النهي عن بيع الجنس بالجنس متفاضلا ـ أنّ الاختلاف علّة جواز البيع.
أو بالاستدراك ،
نحو : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ). نبّه بالاستدراك على أنّ العقد علّة المؤاخذة.
ومنها : النهي عن
فعل يمنع ما أمر به قبله ، كقوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ). نبّه به على أنّ علّة النهي منعه عن الواجب.
ومنها : ذكر وصف
مناسب مع الحكم ، مثل : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » ؛ فإنّ فيه تنبيها على أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم ؛ لأنّه مشوّش الفكر. ومنه « أكرم العلماء وأهن الجهّال » فإنّه يتبادر منه أنّ العلم
علّة الإكرام ، والجهل علّة الإهانة ؛ لما عرف أنّ عادة الشرع اعتبار المناسبات.
تذنيبات :
[
التذنيب ] الأوّل : إذا ذكر كلّ من الوصف والحكم صريحا ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ فلا خلاف في
كونه إيماء ، ووجوب تقديمه على المستنبطة ـ عند من يعمل بها ـ عند تعارضهما. وأمّا
إذا ذكر الوصف صريحا والحكم مستنبط ، مثل : ( وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ ) ؛ فإنّ حلّ البيع وصف له وقد ذكر ، واستنبط منه حكمه وهو الصحّة ؛ نظرا إلى
أنّه لو لم يصحّ انتفت فائدته ، وحينئذ كان عبثا ، والعبث لكونه مكروها لا يحلّ.
__________________
أو بالعكس ، مثل :
« حرّمت الخمر » ؛ فإنّ حرمة الخمر حكم له قد ذكر ، واستنبط وصفه ، وهو الشدّة
المطربة . فقد اختلف في كونه إيماء على أقوال ، ثالثها التفصيل بأنّ
الأوّل إيماء دون الثاني .
قيل : إن اكتفي في
تفسير الإيماء بأنّه مجرّد الدلالة على الشيء بالالتزام ، يكون أجود الأقوال
أوّلها ؛ لأنّها تتحقّق من مطلق اقتران الحكم بالوصف ، سواء كانا مذكورين ، أو
أحدهما مذكورا والآخر مقدّرا ؛ فإنّ حلّ البيع لمّا ذكر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ
الصحّة لازمة له ، تحقّقت الدلالة الالتزاميّة على علّيّته لها ، وكذا لمّا ذكر
حرمة الخمر صريحا وعلم بالاستنباط أنّ الإسكار ملزوم لها ، تحقّقت الدلالة
الالتزاميّة على علّيّته لها.
وإن لم يكتف به
وقيل : هو الدلالة المذكورة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين ، فخير الأقوال أوسطها. ووجهه ظاهر.
أقول : لا ريب في
تحقّق الدلالة الالتزاميّة على التعليل من مطلق الاقتران ، إلاّ أنّ الوصف والحكم
إن كانا مذكورين في كلام الشارع ، يحصل الدلالة المذكورة من كلامه ، ويتحقّق
الإيماء منه. وإن كان أحدهما في كلامه مذكورا والآخر مقدّرا ، فهي ليست حاصلة من
كلامه ؛ لأنّ المذكور إن كان هو الحكم فقط ، فمن أين يعلم أنّ علّته عنده هو الوصف
الذي استنبط؟! وإن كان الوصف فقط ، فمن أين يعلم أنّه علّة عنده للحكم المستنبط؟!
فلا يحصل الإيماء منه على التعليل ، مع أنّ الإيماء المعتبر هو الذي حصل منه ،
فإنّ مجرّد الدلالة الالتزاميّة يتحقّق من وصف وحكم لم يكن واحد منهما مذكورا في
كلام الشارع ، واستخرجهما المجتهد ابتداء من عند نفسه ، مع أنّها ليست من الإيماء
المعتبر وفاقا.
فالحقّ أنّ
الإيماء هو الدلالة الحاصلة من اقتران الحكم بالوصف بشرط كونهما مذكورين ، ولولاه لم
يتميّز طريق الاستنباط من الإيماء ؛ لأنّه يدخل حينئذ جميع العلل والأحكام
المستنبطة في الإيماء ، ولا يتحقّق استنباط ليس بإيماء.
__________________
هذا ، ودليل
التفصيل بعد تسليم اشتراط ذكرهما ـ أنّ إثبات ملزوم الشيء يقتضي إثباته ؛ إذ
العلّة تستلزم المعلول فيكون بمثابة المذكور ، فيتحقّق الاقتران الخاصّ ، وإثبات
اللازم لا يقتضي إثبات ملزومه ؛ إذ المعلول لا يستلزم العلّة ـ لا يخفى ضعفه من
وجوه.
[
التذنيب ] الثاني : الوصف المومى إليه قد لا يكون بنفسه علّة بل بلازمه ، مثلا قوله عليهالسلام : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » وإن دلّ بظاهره
على أنّ العلّة هي الغضب ، إلاّ أنّ التأمّل يعطي أنّ المانع عن القضاء حقيقة هو
تشويش الفكر اللازم للغضب ، ولذا جعل الجوع والألم المفرطان المشوّشان للفكر مثله.
وعلى هذا ، فالغضب اليسير الذي لا يوجب الاضطراب لا يكون مانعا من القضاء. ولو جعل
العلّة نفسه ، لكان اليسير أيضا مانعا منه.
[
التذنيب ] الثالث : لا ريب في اشتراط نفس مناسبة الوصف المومى إليه للحكم في صحّة علل الإيماء.
وأمّا ظهورها ، فقد اختلف فيه على أقوال ، ثالثها الاشتراط فيما فهم التعليل فيه
من المناسبة ، كقوله : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » وعدمه في غيره .
والحقّ أنّ ترتّب
الحكم على الوصف يفيد العلّيّة ، وتكون علل الإيماء صحيحة وإن لم يكن مناسبتها
للحكم ظاهرة عندنا ؛ فإنّ القدر المسلّم أنّ بين الوصف والحكم مناسبة.
وأمّا كونها بحيث
كانت ظاهرة عندنا ، فلا دليل عليه ، وما يؤكّده أنّ قول القائل « أهن العالم وأكرم
الجاهل » مستقبح ، مع أنّ ذلك قد يحسن لمعنى آخر ، فدلّ على أنّه لفهم التعليل.
وممّا يتفرّع عليه
أنّه إذا سمع مؤذّنا بعد مؤذّن ، يستحبّ له حكاية الجميع ؛ لقوله : « إذا سمعتم
المؤذّن » وهو متحقّق فيهما. نعم ، ربّما كان الاستحباب في الأوّل
آكد .
__________________
فصل [٨]
أجمع أصحابنا إلاّ
من شذّ منهم على المنع عن العمل بقياس مرجوح التأثير ، ويأتي دليلهم عليه .
وأمّا راجح
التأثير ، فبعض أقسامه ممّا اتّفقوا على حجّيّته ، وبعضها ممّا اختلفوا في حجّيّته
، وبعضها ممّا قالوا بحجّيّته باعتبار ، ومنعوا عن العمل به باعتبار آخر ، فهنا ثلاث
مقامات :
المقام
الأوّل : فيما لا خلاف
في حجّيّته.
وهو على ثلاثة
أقسام :
[
القسم ] الأوّل : القطعي ، وهو ـ كما عرفته ـ ما علم فيه
قطعا أنّ الحكم في الأصل معلّل بالوصف ، والوصف موجود في الفرع. ويدخل فيه ما علم
فيه كون الوصف حجّة بالإجماع القطعي.
وحجّيّة مثله لا
يحتاج إلى تأمّل ؛ فإنّا إذا قطعنا أنّ الثوب النجس لا يجوز فيه الصلاة لنجاسته ،
لا لشيء آخر ممّا يختصّ به من لوازمه وأوصافه ، فإجراء حكمه في البدن إذا قطع
بنجاسته في حيّز البداهة.
[
القسم ] الثاني : الجليّ ، وهو ـ كما عرفته ـ ما تعلم فيه
نفي الفارق بين الأصل والفرع.
ووجه حجّيّته أيضا
ظاهر ؛ فإنّ الحكم إذا كان ثابتا في الأصل وعلم عدم الفرق بينه وبين الفرع في ثبوت
هذا الحكم لهما ، صحّ إجراؤه في الفرع قطعا.
وكيفيّة التفريع
قد ظهرت ممّا تقدّم.
[
القسم ] الثالث : القياس بالطريق الأولى ، وهو إن كان عين الجليّ ـ كما تقدّم أنّه
__________________
الظاهر من كلام
جماعة ـ فوجه حجّيّته قد ظهر ، وإن كان أعمّ منه من وجه ؛ نظرا
إلى أنّه ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل. وهذا قد
يعلم فيه نفي الفارق إذا كان الاقتضاء المذكور في الأصل قطعيّا ، وقد لا يعلم فيه
ذلك إذا كان ظنّيّا ، وحينئذ يمكن أن يكون في الفرع أيضا ظنّيّا ، وإن كان الظنّ
الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل من الاقتضاء المذكور في الأصل ؛ فإنّ مجرّد ذلك
لا يخرجه إلى القطع. وما يعلم فيه نفي الفارق أيضا قد يكون اقتضاء الجامع فيه
للحكم في الفرع أقوى منه في الأصل ، وقد لا يكون.
فالمتّفق على
حجّيّته هو المادّة التي يكون اقتضاء الجامع فيها للحكم قطعيّا ، وإن أمكن أن يقال
بحجّيّة المادّة الظنّية أيضا ؛ نظرا إلى أنّ اقتضاء الجامع للحكم في الأصل وإن
كان ظنّيّا ، إلاّ أنّ الظنّ لمّا كان بحيث صار سببا لاستناد الحكم إلى الجامع ،
وحصل ظنّ أقوى منه باقتضائه للحكم في الفرع ، فيعلم ثبوت الحكم فيه. إلاّ أنّ ما
فهمت من قواعد الإماميّة ـ كما يأتي ـ أنّ كلّ ما
يصدق عليه القياس ليس حجّة إلاّ ما يقطع فيه بثبوت الحكم في الفرع ، كالقطعي والجليّ وأمثالهما ، فإنّ ذلك لقطعيّته يستثنى من مطلق القياس الذي
ثبت عندهم بالتواتر عن أئمّتهم عليهمالسلام منع العمل به ، واستثناء
الظنّي لا يكاد يصحّ من العمومات القطعيّة ، إلاّ أن يثبت بظنّ كان حجّة شرعا.
ثمّ القياس
بالطريق الأولى إذا علم في أصله تعليل الحكم بالوصف وكان أقوى في الفرع ، فلا خلاف
في صحّة تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ، وإنّما وقع الخلاف في كونه قياسا.
والحقّ أنّه هو ؛
لصدق القياس عليه لغة واصطلاحا ؛ ولأنّه لو قطع النظر عن المعنى المناسب المشترك
المقصود من الحكم كالإكرام في منع التأفيف ، وعن كونه أقوى في الفرع لما حكم به ،
ولا معنى للقياس إلاّ ذلك.
__________________
وقيل : إنّه ليس
بقياس. ووجه التعدية فيه إمّا دلالة مفهومه وفحواه عليه ، ولذلك سمّي مفهوم
الموافقة ؛ لكون الحكم غير المذكور موافقا للحكم المذكور ، وفحوى الخطاب ولحن
الخطاب أيضا ، ويقابله مفهوم المخالفة ، كمفهوم الشرط وأمثاله ، ويسمّى دليل
الخطاب.
وإمّا الفهم
العرفي ، فإنّ العرف نقل ( فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ ) ـ مثلا ـ عن
موضوعه اللغوي وهو المنع عن التأفيف ، إلى المنع عن أنواع الأذى .
واستدلّ عليه
بأنّه لو كان قياسا لما قال به النافي له ، وبأنّه يقطع بإفادة الصيغة في مثله
للمعنى المذكور من غير توقّف على استحضار القياس .
والجواب عن الأوّل
: أنّ النافي للقياس استثنى عنه ما يعرف الحكم فيه بالطريق الأولى.
وعن الثاني : أنّ
التوقّف على استحضاره إنّما هو في الأقيسة الخفيّة ، لا في مثله ؛ فإنّه ممّا
يعرفه كلّ من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد.
وكيفيّة التفريع :
أنّ آية التأفيف حجّة على تحريم ضرب الأبوين ؛ إذ يعلم من فحواها أنّ علّة النهي
عن التأفيف حصول الأذى ، وهو أقوى في الضرب. وآية الذرّتين حجّة على الجزاء بما فوق المثقال ؛ لفهم العلّة ـ أعني عدم تضييع الإحسان
والإساءة ـ من الفحوى ، وكونها أقوى في الفرع. وآية تأدية القنطار ، وعدم تأدية
الدينار حجّة على تأدية ما دون القنطار ، وعدم تأدية ما فوق الدينار ؛ لفهم العلّة
ـ أعني الأمانة في أداء القنطار وعدمها في عدم أداء الدينار ـ من الفحوى ،
وأشدّيّتها في الفرع.
المقام
الثاني : فيما اختلف في
حجّيّته ، وهو المنصوص العلّة.
وقد اختلف في
حجّيّته على أقوال ، ثالثها : الحجّيّة في علّة التحريم دون غيرها .
__________________
ورابعها :
الحجّيّة إذا كان هناك شاهد حال يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة .
احتجّ المثبت
مطلقا بوجوه :
منها : أنّ
الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح الخفيّة والشرع كاشف عنها ، فإذا نصّ على العلّة
عرف أنّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأينما وجدت وجب وجود المعلول .
وجوابه : أنّ
العلّة المنصوصة إنّما تكون موجبة ، إذا علم من نصّ أو تبادر أو غيرهما عدم
مدخليّة خصوصيّة المحلّ ؛ فإنّ العلّة في قول الشارع : « حرّمت الخمر لإسكارها » يحتمل أن يكون الإسكار ، وأن يكون إسكار الخمر بحيث
يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلّة.
والإيراد عليه
بأنّ تجويز ذلك يقتضي تجويز مثله في العلل العقليّة ـ بأن يقال : الحركة إنّما
اقتضت المتحرّكيّة ؛ لقيامها بمحلّ خاصّ ، فالحركة القائمة بغيره لا تقتضي
المتحرّكيّة ـ باطل ؛ لأنّ العلل العقليّة يترتّب عليها معلولاتها بالذات ، ولا
يختلف اقتضاؤها لها بالوجوه والاعتبارات ، وأمّا العلل الشرعيّة ، فلكونها مبنيّة
على الدواعي ، ووجوه المصالح يختلف بها اقتضاؤها لها ، فيمكن أن تكون موجبة لحكم
في محلّ دون غيره. ومع قطع النظر عنه نقول : لا يجوز التعدّي عنه عندنا ؛ لصدق
القياس عليه ، وثبوت الإنكار عن العمل به عن أئمّتنا عليهمالسلام بحيث لا يقبل المنع.
ومنها : أنّ قول
الأب لابنه : « لا تأكل هذا الطعام ؛ لأنّه مسموم » يقتضي منعه عن أكل كلّ مسموم ،
والسرّ فيه أنّ العلّة تفيد التعميم عرفا.
وجوابه : أنّ ذلك
قد عرف بالقرينة ، وهي شفقة الأب المانعة عن تناول كلّ مضرّ ؛ فإنّها تقتضي عادة
النهي عن كلّ ما يضرّ ؛ بخلاف أحكام الله ؛ فإنّها قد تختصّ ببعض
__________________
المحالّ دون بعض
لأمر لا ندركه.
نعم ، إن علم
بشاهد الحال أو القرائن أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، إلغاء قيد الإضافة إلى
المحلّ ، فلا ريب في التعدّي.
وبهذا يظهر الجواب
عمّا قالوا : إنّ هذا الاحتمال إنّما يتأتّى فيما إذا قال الشارع : « حرّمت الخمر
لإسكارها » ، أمّا لو قال : « علّة الخمر هي الإسكار » انتفى ذلك الاحتمال ؛ لأنّ التعميم هنا لمّا كان مستفادا من اللام في الإسكار ، فنحن نقول به ،
مع أنّه يمكن أن يقال : اللام فيه للعهد ، فيكون المراد من الإسكار ، الإسكار
المعهود.
نعم ، مع التصريح
بالإطلاق ينتفي هذا الاحتمال بأن يقول : « حرّمت كلّ مسكر ».
ومنها : أنّ
العلّة لو لم تفد تعميم الحكم ـ أي ثبوته أينما ثبت ـ لعري ذكرها عن الفائدة ؛ إذ
ثبوته في الأصل قد علم بنيانه مع قطع النظر عن ذكر العلّة .
والجواب : أنّ
فائدة ذكرها لا تنحصر في التعميم ؛ إذ بيان المقصود من شرع الحكم من الفوائد.
واحتجّ النافي
مطلقا بأنّ من قال : « أعتقت غانما ، لحسن خلقه » لا يقتضي عتق غيره من حسني الخلق .
وقد اجيب عنه
بوجوه ظاهرة الضعف ، ولذا أعرضنا عنها.
واحتجّ المفصّل
الأوّل بأنّ من ترك أكل شيء لأذاه ، دلّ على تركه كلّ ما يؤذي ،
بخلاف من تصدّق على فقير لفقره ، أو للمثوبة ؛ فإنّه لا يدلّ على تصدّقه على كلّ
فقير ، أو تحصيله لكلّ مثوبة .
__________________
وجوابه : أنّ ذلك
معلوم من القرينة وشاهد الحال ؛ فإنّ ترك ما يؤذي ممّا هو مركوز في الطباع ،
والعقل حاكم بإلغاء خصوصيّة ذلك المؤذي دون غيره ، بخلاف الأحكام ؛ فإنّها قد
تختصّ بمحالّ لامور خفيّة.
واحتجّ المفصّل
الثاني : أمّا على عدم حجّيّته عند عدم وجود شاهد حال يدلّ على
سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم : فبما مرّ في جواب الحجّة الاولى للمثبت مطلقا.
وأمّا على حجّيّته
عند وجوده ، فبأنّ تعدية الحكم حينئذ يصير برهانيّا ؛ إذ يحصل قضيّة كلّيّة يجعل كبرى القياس ، كقوله : « كلّ مسكر حرام » ويضمّ
إليه صغرى سهلة الحصول ، كقولنا : « هذا مسكر » ويتمّ الدليل .
أقول : الحقّ عندي
هو المذهب الأخير ، إلاّ أنّه يجب تقييده بكون الدالّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك
العلّة مفيدا للقطع ، أو ما ثبت حجّيّته شرعا ، كنصّ ، أو عموم ، وأمثالهما. والسرّ
فيه دلالة الطرق القطعيّة على بطلان مطلق القياس ، فإخراج بعض أفراده يفتقر إلى
دلالة صالحة لنقل مثله ، ولا ينتهض مجرّد النصّ على العلّة حجّة للخروج عن القياس.
ولذا صرّح محقّقو الفريقين بأنّ النصّ على العلّة لا يكفي في التعدّي دون التعبّد
بالقياس .
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وقد تقدّم بعضها. وقس عليه أمثاله.
وعلى ما اخترناه
لا يخفى جليّة الحال في الجميع.
فائدة : النصّ على علّة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت
الحكم أينما ثبتت
__________________
العلّة ، كقوله :
« الزنى يوجب الحدّ » و « السرقة توجب القطع » وهو ليس من
القياس أصلا ، بل العمل به عمل بإطلاق النصّ.
المقام
الثالث : فيما أثبتوا
حجّيّته باعتبار ، ونفوا حجّيّته باعتبار آخر .
وهو ما فهم فيه
التعليل بالإيماء ، أو كان الجمع بين الأصل والفرع بعدم الفارق ، فإنّ مجرّد ذلك
لا يصحّح التعدّي ، بل إن علمت المساواة بين الأصل والفرع من كلّ وجه ، جاز
التعدية ، وإن علم الامتياز ، أو جوّز لم يجز إلاّ مع النصّ على ذلك. ولا ريب أنّ
مجرّد الجمع لا يفيد العلم بالمساواة من كلّ وجه ، وكذا مجرّد الإيماء على
العلّيّة لا يفيد القطع بكون الوصف علّة وعدم مدخليّة ما عدا تلك العلّة ، فالجمع
بين الأصل والفرع بعدم الفارق إن كان مع العلم بالمساواة جاز التعدّي ، كما روي
أنّ عليّا عليهالسلام قضى في دابّة تنازعها اثنان وأقاما البيّنة « أنّها لمن شهد
له بالنتاج » ، فإنّا نعلم عدم قصر الحكم على الدابّة ، بل تعدّى إلى
كلّ ما حصل فيه هذا المعنى. وإن لم يكن معه لم يجز ، كالجمع بين القتل بالمثقل ،
والقتل بالمحدّد.
وكذا ما فهم فيه
التعليل بالإيماء إن علم فيه عدم مدخليّة ما عدا العلّة الإيمائيّة في الحكم ،
ووجدت في الفرع جاز التعدّي ، كما إذا قال السائل : ملكت عشرين دينارا وحال عليها
الحول ، فقال : عليك الزكاة ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم متعلّق بملك الدنانير ، ولا
اعتبار بأوصاف السائل ، فيحكم بأنّ كلّما اتّفق له ذلك ، يثبت له ذلك الحكم ، ومنه
قوله عليهالسلام لتمييز دم الحيض عن العذرة « تستدخل القطنة ثمّ تخرجها ،
فإن كان مطوّقا في القطنة فهو من العذرة ، وإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض
» ؛ فإنّا نقطع بأنّ الحكم يترتّب على التطوّق والاستنقاع ،
ولا مدخليّة لأوصاف السائل.
__________________
وإن لم يعلم فيه
ذلك لم يجز ، مثاله : قوله تعالى : ( إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) رتّب النهي على النجاسة ، فإن لم يكن لخصوصيّة نجاسة
المشرك مدخليّة يكون تقريب مطلق النجاسة حراما ، وإلاّ كان الحكم مقصورا على مورده
، ولمّا لم يكن عدم مدخليّة الخصوصيّة معلوما لم يكن التعدية معلومة.
وبما ذكرنا ظهر
أنّ تنقيح المناط إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، والحجّة هو الأوّل دون الثاني.
وظهر أيضا أنّ
الحجّة على قواعد الأصحاب من أقسام قياس راجح التأثير بأيّ عنوان اطلق ـ كتنقيح
المناط ، أو اتّحاد الطريق ، أو القياس بالطريق الأولى ، أو المنصوص العلّة ، أو
القياس في معنى الأصل ، أو الجليّ ، أو القطعي ـ ما علم فيه العلّيّة وعدم مدخليّة
خصوص الواقعة ، أو المساواة من كلّ وجه إذا كان الجمع بمجرّد نفي الفارق ، إمّا بالقطع ، أو بما ثبت حجّيّته شرعا ، كالنصّ ومثله.
والسرّ فيه ما
يأتي من قطعيّة بطلان مطلق القياس على قواعدهم .
فإن قلت : كيف
يتصوّر حصول القطع بالعلّيّة؟
قلت : العلّة إن
كانت عقليّة ـ أي كان للعقل مدخليّة في فهم العلّيّة ـ فلا ريب في إمكان حصول
القطع بها ، إلاّ أنّ وجود مثله في الأحكام الشرعيّة نادر ، وإن كانت غير شرعيّة
فقط ، فإنّ النصّ أو الإيماء على العلّيّة يمكن أن يبلغ حدّا يحصل معه القطع
بالتعليل الشرعي ، وكما أنّ العلّة الواقعيّة يمتنع تخلّف معلولها عنها ، كذا
يمتنع تخلّف الأحكام الشرعيّة المعلولة للعلل الشرعيّة عنها ، فالقطع بالعلّة
الشرعيّة يستلزم القطع بالحكم الشرعيّ المعلّل بها ، فإن ورد التعليل من الشرع
بطريق قطعي كالتواتر ، كانت العلّيّة وطريقها كلتاهما قطعيّة ، فيحصل القطع
بالحكم. وإن ورد بطريق ظنّيّ ، كالآحاد ، أمكن القطع حينئذ بالعلّيّة إلاّ أنّ
طريقها يكون ظنّيّة ، ولذا يحصل الظنّ بالحكم لا القطع به إلاّ أنّ الحجّيّة ثابتة
؛ لأنّ الفرض أنّ الطريق حجّة شرعا.
__________________
فصل [٩]
لمّا لم يكن مطلق
القياس المستنبط العلّة ـ وهو الذي سمّيناه مرجوح التأثير ـ حجّة عندنا ، وكان
لاستنباط العلّة عند القائسين طرق ـ كما عرفت ـ فلا بدّ لنا
أوّلا من إبطاله بقول مطلق ، ثمّ تفصيل القول في كلّ واحد منها وتضعيفه.
فنقول : لنا على
بطلانه وجوه :
منها : إجماع
العترة عليهمالسلام على ردّه ؛ فقد تواتر عند الفريقين إنكارهم له ، ومنع
شيعتهم عن العمل به حتّى قال بعض العامّة : قد اشتهر عن أهل البيت إنكار القياس ،
كما اشتهر عن أبي حنيفة والشافعي العمل به .
ومنها : الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع مطلق الظنّ ، خرج ما خرج
بدليل فيبقى الباقي.
ومنها : اشتهار
إنكاره عن أكثر الصحابة ، منهم : الشيخان وابن عباس. وإنكار عليّ عليهالسلام وذمّه له أشهر من أن يخفى .
ومنها : شيوع ذمّ
العمل بالرأي عن الصحابة ، سيّما عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وابن مسعود ، والعمل
بالقياس منه .
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله : « ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم
» ، وقوله صلىاللهعليهوآله : « تعمل هذه برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة
بالقياس ،
__________________
وإذا فعلوا ذلك
فقد ضلّوا وأضلّوا » .
ومنها : أنّ بناء
شرعنا على الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات ، فلا يحكم من تشابه المحالّ
بتشابه الأحكام .
ومنها : أنّه لو
كان حجّة ، لورد التعبّد به ؛ لأنّ الاستدلال به ممّا يعمّ ، والوقائع التي يستدرك
به كثيرة ، وما يتفرّع عليه أكثر ممّا يتفرّع على سائر الأدلّة ، ويستحيل عادة أن
لا يرد التعبّد بمثله من الشرع لو كان حجّة ، ولو ورد التعبّد به ، لاشتهر بين أهل
الشرع ؛ لتوفّر الدواعي على ضبط مثله.
وقد اجيب عن هذه
الوجوه بأجوبة لا يخفى ضعفها على من له أدنى فطانة ، ولذا أعرضنا عن
إيرادها والتعرّض لردّها.
ثمّ إنّها
بإطلاقها كما تدلّ على بطلان مطلق قياس مرجوح التأثير تدلّ على بطلان مطلق القياس
وإن كان راجح التأثير ، إلاّ أنّ ما استثنيناه يخرج بقاطع ، كما أشرنا إليه فيبقى الباقي.
احتجّ الخصم بوجوه
:
منها : أنّه ظهر
عن كثير من الصحابة ـ شائعا ذائعا ـ ما يدلّ على حجّيّته ، ولم ينكرهم أحد ، فيكون
إجماعا .
أمّا ثبوت الملزوم
فبطرق :
الاولى : أنّهم عملوا به صريحا في وقائع من غير نكير ، كما روي أنّ عمر شكّ في قتل
الجماعة بالواحد ، فقال عليّ عليهالسلام : « أرأيت لو اشترك نفر في سرقة البيت تقطعهم؟ » فقال : نعم
، قال : « هكذا فيها » فرجع إلى قوله .
__________________
الثانية : أنّهم
اختلفوا في مسائل كثيرة ، وأحدثوا فيها أقوالا مختلفة ، ثمّ أخذوا بقول واحد ، ولم
يكن تمسّكهم فيها بالنصّ ، فتعيّن أن يكون تعويلهم على القياس ، كما روي أنّ عمر
قضى في زوج وأمّ وإخوة لامّ وإخوة لأب وأمّ ، أنّ للامّ السدس ، وللزوج النصف ،
وللإخوة من الامّ الثلث ، فقال الباقون : هب أنّ أبانا كان حمارا ، ألسنا من أمّ
واحدة؟ فشرّك بينهم .
وما روي أنّ أبا
بكر ورّث أمّ الامّ دون أمّ الأب ، فقال له بعض الأنصار : تركت التي لو كانت هي
الميّتة ورث جميع ما تركت ؛ لأنّ ابن الابن عصبة ، وابن البنت لا يرث. وحاصله أنّ
أمّ الأب أقرب ، فهي أحقّ بالإرث ، فرجع إلى التشريك بينهما. وأشباه ذلك كثيرة .
الثالثة : أنّهم
صرّحوا بالأخذ به وأشاروا إلى التشبيه في المسائل ، كقول عمر لأبي موسى : اعرف
الأشباه والنظائر ، وقس الامور برأيك .
وقول ابن عبّاس في
إنكار قول زيد : « الجدّ لا يحجب الإخوة : ألا يتّقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا
، ولا يجعل أبا الأب أبا . وليس غرضه التسمية ، بل أراد أنّ الجدّ بمنزلة الأب في
حجب الإخوة ، كما أنّ ابن الابن بمنزلة الابن فيه » .
الرابعة : أنّه قد
نقل عنهم في وقائع القول بالرأي وهو القياس ، كقول أبي بكر : أقول في الكلالة
برأيي . وقول عمر : أقضي في الجدّ برأيي .
وقول عثمان لعمر :
إن اتّبعت رأيك فرأيك سديد . وقول عليّ عليهالسلام : « اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر في أمّ الولد أن لاتباع
، وقد رأيت الآن بيعهنّ » .
وأمّا بيان
الملازمة ، فلأنّ عدم إنكارهم في مثل هذا الأصل ـ الذي يبتني عليه أكثر الأحكام
والقضايا ، ويدوم أثره إلى الأبد في البرايا ـ يدلّ على الموافقة ، ولو ظهر منهم
__________________
الإنكار لنقل ؛
لتوفّر الدواعي على نقل مثله .
والجواب : أمّا
أوّلا : فمنع ثبوت الملزوم ؛ لعدم ثبوت الطرق المذكورة ؛ لأنّ الأخبار المذكورة لم
يثبت صحّتها ، بل ثبت عندنا وضعها ؛ لمعارضتها بما هو أقوى ، بل قاطع.
وأيضا دلالتها على
المطلوب غير مسلّمة ؛ لاحتمال أن يكون الاستناد في الوقائع المذكورة إلى غير
القياس ، فإنّ كلّ واحد منها يحتمل محامل غير القياس من وجوه الاجتهادات وإن كان
معنى القياس موجودا فيها.
وأيضا نقول ـ بعد
القطع بأنّ طريقة عليّ عليهالسلام لم تكن العمل بالقياس ، فما نسب من خبر الشركة في السرقة
إمّا فرية ، أو تمثيل للتنوير ـ : لو سلّم أنّ بعض الصحابة عمل بالقياس ، فلا
نسلّم عدم إنكار الباقين ، بل حصل منهم الإنكار في مواضع كثيرة على ما ذكر في
المطوّلات وكتب السير ، مع أنّ عدم وصول إنكارهم لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّ وجوب
استمرار النقل بحيث يتّصل بنا غير ممكن.
وأمّا ثانيا :
فمنع الملازمة ؛ لأنّ سكوت الباقين لا يدلّ على الرضى ؛ فإنّه يحتمل الوجوه
المتقدّمة في الإجماع السكوتي.
ومنها : ما استفاض من ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآله العلل في الأحكام ؛ ليبتني عليها
الحكم في غير تلك المحالّ ، لا كالعلل الإيمائيّة المذكورة في الأخبار السابقة.
والجواب : أنّا نمنع
أنّ المقصود من ذكرها أن يقاس عليه ، بل يمكن أن يكون ذلك لبيان حكمة الحكم ، ولذا
جاز النصّ على العلل القاصرة ، ولذا قيل : إنّ هذا الدليل بالقياس إلى من يمنع
القياس المنصوص العلّة مصادرة على المطلوب ، وبالنسبة إلى غيره نصب الدليل في غير
محلّ النزاع. وأيضا يلزم منه جواز الاجتهاد للنبيّ ، وقد ثبت بطلانه عندنا ، كما
يأتي .
هذا ، مع أنّه
يمكن أن يجاب عن كلّ واحد من أمثال الأخبار المذكورة بوجه على حدة ،
__________________
مثل أن يقال في
خبر الخثعميّة : إنّ قوله صلىاللهعليهوآله فيه : « دين الله أحقّ بالقضاء » يعطي الأولويّة ، ويمكن أن يكون تمثيلا ذكر للتنوير ، وهو الجواب عن الاحتجاج
لقوله صلىاللهعليهوآله بعد ما سأله عمر عن قبلة الصائم : هل توجب الإفطار؟ : « أرأيت
لو تمضمضت بماء ، ثمّ مججته أكنت شاربه؟ » ، على أنّا
نطالبهم بصحّة هذه الأخبار.
ومنها : ما روي
أنّه صلىاللهعليهوآله قرّر معاذا على قوله : « أجتهد رأيي » .
والجواب : أنّه
ضعيف سندا ؛ لإرساله ، ودلالة ؛ لإمكان إرادة استنباط الحكم من الأدلّة المعتبرة
غير الكتاب والسنّة ، من الاجتهاد ، مع أنّه روي أنّه صلىاللهعليهوآله لم يقرّره على قوله ، بل أمره بالمكاتبة .
فإن قيل : فيه شيء
آخر أيضا ، وهو أنّ استلزام جواز القياس لمعاذ لجوازه لغيره في حيّز المنع إلاّ أن
يقاس عليه ، فيدور.
قلت : بعد ثبوت
الملزوم يعلم الاستلزام بمثل قوله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » .
ومنها : إلحاق كلّ
زان بما عزّ في وجوب الرجم بجامع الزنى .
والجواب : أنّه
بالإجماع ، أو بمثل قوله المذكور.
ومنها : أنّ
القياس يفيد الظنّ ، والعمل بالظنّ واجب . أمّا الصغرى
فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلأنّ بديهة العقل حاكمة
بلزوم دفع المضارّ وجلب المنافع المظنونتين.
والجواب : أنّه
لمّا كان في العمل به احتمال الضرر أيضا وجب التوقّف.
هذا ، مع أنّ
القاطع دلّ على عدم جواز العمل بالظنّ في الأحكام إلاّ ما استثني ـ كما
__________________
عرفت ـ فلا يقاومه أمثال هذه الوجوه الضعيفة.
وقد استدلّوا ببعض
الآيات تركناها ؛ لعدم دلالتها على مطلوبهم بوجه.
فصل [١٠]
قد عرفت أنّ إحدى
طرق الاستنباط المناسبة ، وأنّها تسمّى إخالة وتخريج المناط. وحاصله إبداء
المناسبة من ذات الأصل لا بنصّ ولا بغيره. وقد عرفت أيضا أنّ إثبات الحكم حينئذ في
الفرع يسمّى تحقيق المناط .
وهنا ينبغي أن
يعلم أنّ للمناسب في عرفهم تعريفات :
منها : أنّه وصف
ظاهر منضبط يحصل من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء .
والحكم إمّا
وجوديّ أو عدميّ ، والمقصود إمّا حصول مصلحة ، أي لذّة أو وسيلتها ؛ أو دفع مفسدة
، أي ألم أو وسيلته ، وكلّ من اللذّة والألم إمّا معلوم أو مظنون ، نفسيّ أو بدنيّ
، دنيوي أو اخروي ، مثلا : قتل العمد وصف مناسب لشرع القصاص نظرا إلى ذاته ، ومن
ترتّبه عليه يحصل حفظ النفوس ، وهو مقصود العقلاء. والإسكار ، فإنّه بالنظر إلى
ذاته ووصفه مناسب لشرع التحريم ، ومن ترتّبه عليه يحصل ما هو مقصودهم ، أي حفظ
العقول.
وقد علم من
التحديد أنّ الوصف لو كان خفيّا أو غير منضبط لم يعتبر ، وهو كذلك ؛ لأنّه لا يعلم
في نفسه ، فكيف يترتّب الحكم عليه؟! ولكنّ الطريق حينئذ أن يعتبر الملازمة ويقال
له المظنّة ، وهو أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يستلزم عقلا أو شرعا ذلك الوصف. مثلا في
المثال الأوّل وصف العمديّة خفيّ ؛ لأنّ القصد وعدمه أمر لا يدركه أحد بشيء إلاّ
القاتل ، فرتّب الحكم شرعا على ما يلازم العمديّة ، أي الأفعال المخصوصة وهي
معرّفة للحكم ، وفي ترتيب الترخّص على المشقّة لمقصود التخفيف لمّا كانت المشقّة
__________________
غير منضبطة ؛
لكونها ذوات مراتب تختلف بالأزمان والأشخاص فانيط الحكم على لازمها المنضبط وهو
السفر .
ومنها : أنّه ما
يفضي إلى موافقة الغرض تحصيلا أو إبقاء. ويعبّر عن التحصيل بجلب النفع ، وعن
الإبقاء بدفع الضرر .
ومنها : أنّه ما
لو عرض على العقول تلقّته بالقبول ، ولا يمكن إثبات
مثله في المناظرة ؛ إذ للخصم أن يقول : لا يتلقّاه عقلي بالقبول ، وليس لغيره
حينئذ إليه سبيل.
وهذه التعريفات
الثلاثة متقاربة ، وهي لمن قال بتعليل الأحكام بالمصالح.
ومنها : أنّه
الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، كما يقال :
الجمع بين هذا الثوب وهذه العمامة ملائم ، وهو لمن ينفي تعليلها بها.
فصل [١١]
للمناسب تقسيمات
باعتبارات عند القائسين ، ونحن نشير إليها أوّلا ثمّ نثبت أنّ مطلق المناسبة لا
يقتضي العلّيّة :
فمنها : تقسيمه
باعتبار ثبوت المناسبة في الواقع وعدمه. وبهذا الاعتبار إمّا حقيقيّ وهو ما علم
مناسبته من غير ظهور خلاف ، ومثاله ظاهر.
أو إقناعيّ وهو ما
يظهر مناسبته ، ثمّ يظهر الخلاف عند البحث ، كتعليل الشافعيّة تحريم بيع الخمر
والميتة والعذرة بالنجاسة ، وقياس الكلب عليها .
ووجه المناسبة أنّ
كونها نجسة يناسب إذلالها ، ومقابلتها بالمال في البيع إعزاز لها ، والجمع بينهما
باطل. وجليل النظر وإن أثبت هذه المناسبة إلاّ أنّ دقيقه ينفيها ؛ لأنّ معنى
__________________
نجاستها عدم جواز
الصلاة معها ، ولا مناسبة بينه وبين المنع من بيعه .
ومنها : تقسيمه
بحسب المقاصد ، أي المصالح ؛ فإنّ المصالح التي شرع لها الأحكام إمّا في محلّ
الضرورة ، أو الحاجة ، أو التكميل ، أو التحسين . وهذه أربعة أصناف :
الصنف
الأوّل : الضروري ، كحفظ
الخمسة الضروريّة بشرع الجهاد ، والقصاص ، والحدّ ، والضمان ، ومنه صون الأحكام ،
وحفظ دماء الناس وفروجهم وأموالهم وأوضاعهم بشرع عدالة المفتي ، والقاضي ، والشاهد
والراوي ، وأمين الحاكم ، والوصيّ ، وناظر الوقف .
الصنف
الثاني : الحاجيّ ، كانتقال الأعيان والمنافع من بعض الناس إلى بعض آخر ، وقضاء أوطارهم ، وحفظ
أوضاعهم بشرع البيع ، والإجارة ، والقراض ، والرهن وغيرها من العقود والمعاوضات ،
ومنه حفظ الصلوات والأوقات باشتراط عدالة الإمام ، والمؤذّن ؛ فإنّ أمثال هذه
المقاصد وإن كانت محتاجا إليها إلاّ أنّها ليست ضروريّة ، بحيث أدّى اختلالها إلى
فوات واحد من الضروريّات الخمس.
هذا ، ومراتب
الحاجة فيها مختلفة بالشدّة والضعف ، وربّما بلغ بعضها حدّ الضرورة ، كشرى المطعوم
والملبوس ، والإجارة في تربية الطفل الرضيع ، فإطلاق الحاجيّ على مثله بناء على
الغالب .
الصنف
الثالث : التكميلي وهو
على قسمين :
أحدهما : ما هو
تكميل للضروريّ ، كتكميل حفظ العقل بشرع الحدّ لقليل المسكر ، وهو لا يزيل العقل.
وحفظه قد حصل بشرع حدّ المسكر ، فهو مكمّل له ؛ لأنّ القليل ربّما يؤدّي إلى
الكثير .
وثانيهما : ما هو
تكميل للحاجّ ، كتكميل مقصود النكاح بوجوب رعاية الكفاءة ، ومهر
__________________
المثل على الوليّ
إذا زوّج الصغيرة ؛ فإنّ مصلحة النكاح حاصلة بدونه إلاّ أنّ كونه أفضى إلى دوام
النكاح أدرجه في مكمّلاته. ومنه تتميم المحافظة على امور الصغار باشتراط العدالة
في الأب ، والجدّ في الولاية على الولد ؛ فإنّ شفقته عليه تبعثه على الاحتياط في
أمره ، وتردعه عن الخيانة والتقصير في حقّه ، لكن لمّا كان بعض الفسّاق لا يبالي
بتضييع ماله وتزويجه من غير كفء ، جعلت العدالة من مكمّلاته .
الصنف
الرابع : التحسيني وهو ما لا حاجة إليه ، لكن فيه تحسين ، وهو أيضا
على قسمين :
الأوّل : ما عدم
فيه ظهور اعتبار الحاجة رأسا ، إلاّ أنّ اعتباره سلوك المنهج الأحسن ، كرعاية عدم
الجمع بين النازل والعالي بشرع سلب أهليّة العبد للمناصب الجليلة كالشهادة ومثلها
؛ فإنّه لو جعل للعبد أهليّة الشهادة ، لحصل المصلحة التي تحصل من شهادة الحرّ ،
ولم يكن له مفسدة أصلا ، إلاّ أنّه سلب ذلك عنه ؛ لأنّ اعتبار المناسبة في المناصب
من مكارم الآداب ومحاسن الشيم .
الثاني : ما لا
حاجة إليه ؛ لقيام غيره مقامه ، كرعاية حفظ المال في التوكيل والإيداع إذا صدرا من
المالك باشتراط العدالة في الوكيل والودعي ؛ فإنّه يجوز له توكيل الفاسق وإيداعه ؛
إذ طبع المالك يردعه عن إتلاف ماله ، فما لم يثق به لا يوكّله ولا يودعه .
تتمّة
اعلم أنّ كلّ واحد
من أفراد المصالح الضروريّة والحاجيّة والتكميليّة والتحسينية إمّا أن يكون
اندراجه تحت ذلك الصنف بيّنا بحيث لا يقع فيه اختلاف ، وإمّا أن يكون خفيّا يقع
فيه الخلاف. ويختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون ، فربما أدرج بعضها الحاجة العامّة تحت
الضرورة ، والأمر في مثله هيّن.
__________________
ومنها : تقسيمه
باعتبار إفضائه إلى المقصود وعدمه ، وبهذا الاعتبار قسّموه خمسة أقسام :
الأوّل : ما يكون
حصول المقصود منه مقطوعا ، كالبيع للحلّ ؛ فإنّ ترتّب الحلّ على كلّ من أفراد
البيع يقيني.
الثاني : ما يكون
حصوله عنه مظنونا ، كالقصاص للانزجار ؛ فإنّا نقطع بأنّ الانزجار بشرع القصاص لم
يحصل لجميع الناس ، بل لأكثرهم ، فلذا يكون ترتّبه عليه ظنّيّا.
الثالث : ما يكون
حصوله عنه مشكوكا ، كحدّ الخمر للزجر ؛ فإنّ حصوله ونفيه متساويان تقريبا ؛ ولذا
ترى عدد الممتنعين والمقدمين متقاربين.
الرابع : ما يكون
حصوله عنه مرجوحا ، كنكاح الآئسة لحصول النسل ؛ فإنّ ترتّبه عليه وإن أمكن عقلا
إلاّ أنّه بعيد عادة.
الخامس : ما لا
يحصل منه المقصود أصلا ، كنكاح مشرقيّ بمغربيّة قد علم عدم تلاقيهما ، وعدم حصول
نطفته في رحمها للحوق ولد تلده وهو في المشرق وهي في المغرب.
وقد اتّفق
القائسون على اعتبار الأوّلين وإلغاء الأخير ، واختلفوا في الباقيين ، وستعلم حقيقة الحال في الجميع.
ومنها : تقسيمه
بحسب شهادة الشرع له بالاعتبار وعدمها ، وبهذا الاعتبار قالوا : ينقسم أوّلا إلى ثلاثة أنواع : معتبر ، ومرسل ، وملغى.
و [ النوع ]
الأوّل : ينقسم إلى ثلاثة أصناف :
مؤثّر ، وهو الذي
ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع.
وملائم يشهد له
أصل ، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه ، أي وفق المناسب ، وهو ثبوت
الحكم معه في محلّ الوصف ، وثبت مع ذلك بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو
بالعكس ، أو جنسه في جنسه.
__________________
وغريب يشهد له أصل
، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه فقط ، أي ثبت اعتبار خصوصه في خصوص
الحكم ، أي شهد نوعه لنوعه فقط لا نوعه ولا جنسه لأحد الثلاثة.
والنوع الثاني
ينقسم إلى صنفين : ملائم لم يشهد له أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بنصّ ، ولا
إجماع ، ولا بترتّب الحكم على وفقه ، ولكنّه ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في
جنسه ، أو بالعكس.
وغريب لم يشهد له
أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بوجه.
وهذان الصنفان هما
المصالح المرسلة التي تقدّمت .
فظهر أنّ النوع
الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أصناف : مؤثّر ، وملائم يشهد له أصل ، وغريب كذلك.
والنوع الثاني
ينقسم إلى صنفين : ملائم لا يشهد له أصل ، وغريب كذلك.
والملائم بالمعنى
الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، وكذا الملائم بالمعنى الثاني.
ولا بدّ من زيادة
توضيح في بيان الفرق بين الأصناف المذكورة ، وذكر أمثلة الأقسام ؛ ليتّضح جليّة
الحال ، ويظهر ما في كتب القوم من الإجمال والاختلال.
فلنمهّد أوّلا
مقدّمة ، وهي أنّ اعتبار الوصف في الحكم لا يخلو عن تسع وأربعين صورة ؛ لأنّ الوصف
إمّا أن يكون معتبرا بعينه أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو الثلاثة.
وعلى كلّ من
التقادير إمّا أن يكون معتبرا في عين الحكم أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو
الثلاثة. ويحصل من ملاحظة السبعة مع السبعة تسع وأربعون.
والمراد بالعين من
الوصف كلّ وصف يحاول إثبات اعتباره وإن كان عريقا في العموم ، وبنوعه ما يشمله
وغيره ، وهكذا. فيتحقّق النوعيّة والجنسيّة هنا بالإضافة والاعتبار ، ومن الحكم
كلّ حكم كذلك. وعلى هذا ، لو لم يتغيّر حال الوصف في الأصل والفرع وتغيّر حال
الحكم فيهما ، يكون عين الوصف في الأصل موجودا في الفرع دون عين الحكم ، وإن عكس
عكس ، وإن تغيّر حالهما فيهما لا يكون عينهما في الأصل موجودا في الفرع ، بل
__________________
الموجود فيه إمّا
نوعهما ، أو جنسهما ، وكلّ ذلك يظهر لك من الأمثلة الآتية.
إذا عرفت ذلك
فنقول : المقصود من الصنف الأوّل من النوع الأوّل ـ وهو المؤثّر ـ كلّ وصف ثبت
اعتبار عينه في عين الحكم بالنصّ أو الإجماع ، كالمسّ بالنسبة إلى الحدث ؛ فإنّ
تعليله به منصوص ، والصغر بالنسبة إلى ولاية المال ؛ فإنّ تعليله به إجماعي.
فالمؤثّر من الصور المذكورة ما تحقّق فيه تأثير العين في العين ، سواء كان معه
تأثير غيره في غيره أيضا من النوع أو الجنس أو كليهما ، أم لا ، وهو ستّة عشر منها
.
والمقصود من الصنف
الثاني منه ـ وهو الملائم الذي يشهد له أصل ـ ما ثبت اعتبار عينه في عينه بمجرّد
ترتّب الحكم على وفقه ، ولكن ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ،
أو جنسه في جنسه ، ويترتّب الحكم على وفقه أعمّ ممّا اشتمل على الإيماء على
التعليل وما لم يشتمل عليه ، بل كان مجرّد الترتّب فقط من غير فهم العلّيّة بوجه ،
فكلّ ما لم يشتمل على النصّ عليه يكون من باب الملاءمة.
والظاهر أنّ ثبوت
اعتبار العين في العين بالعموم أو الإطلاق ، كاعتبار النبيذ في الحرمة إذا قال
الشارع : « كلّ مسكر حرام لإسكاره » من باب التأثير ؛ لأنّ فهم العلّيّة حينئذ
يقيني ، فالنصّ على علّيّة الوصف هنا أعمّ من النصّ على علّيّته بخصوصه ، أو على
علّيّة عام أو مطلق يشمله بعمومه أو إطلاقه ، فلنذكر أمثلة
الأقسام الثلاثة للملائم ؛ ليظهر حقيقة الحال.
فمثال القسم
الأوّل ما يقال : ثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة ، كما ثبت له
عليها ولاية المال بجامع الصغر . فالوصف ـ وهو الصغر ـ أمر واحد ، والحكم الولاية ، وهو
جنس يجمع ولاية المال وولاية النكاح ، وهما نوعان من التصرّف ، وقد ثبت اعتبار
العين في العين ـ أي الصغر في ولاية النكاح ـ بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث
ثبت معه في الجملة وإن وقع الاختلاف في أنّه للصغر ، أو للبكارة ، أو لهما جميعا ،
لكن عين الصغر معتبر
__________________
في جنس الولاية
بالإجماع ؛ لأنّ الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس
الولاية.
ومثال القسم
الثاني ـ وهو تأثّر جنسه في عينه ـ ما يقال : يجوز الجمع في الحضر مع المطر ، كما يجوز في السفر بجامع الحرج ، فالحكم جواز الجمع ،
وهو أمر واحد ، والوصف الحرج ، وهو جنس يشمل الحاصل بالمطر ، وهو التأذّي به ،
والحاصل بالسفر ، وهو خوف الانقطاع عن الرفقة والضلال عن السبيل ، وهما نوعان
مختلفان ، وقد ثبت اعتبار جنس الحرج في عين رخصة الجمع بالنصّ والإجماع ؛ لثبوت اعتبار حرج السفر ـ ولو في الحجّ ـ فيها ، وأمّا اعتبار عين حرج المطر فيها ، فقد ثبت بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه.
ومثال الثالث ما يقال : يجب القصاص بالقتل بالمثقل ، كما يجب بالقتل بالمحدّد بجامع كونهما
جناية عدوان ، فالوصف مطلق جناية العدوان ، وهو يجمع الجناية في النفس وفي الأطراف
وفي المال ، والحكم مطلق القصاص الشامل للقصاص في النفس وفي الأطراف
وغيرها من القوى ، وقد ثبت اعتبار جنس جناية العدوان في جنس القصاص بالنصّ والإجماع ؛ لثبوت اعتبار الجناية في القصاص بهما في الأيدي ، ولكن ثبوت
اعتبار قتل العمد بالمثقل في القصاص في النفس بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث
ترتّب القصاص على مطلق قتل العمد الذي هو نوع من جنس الجناية ، ويشرك فيه القتل
بالمحدّد والمثقل.
لا يقال : ثبوت
القصاص مع قتل العمد ليس بمجرّد الترتّب ، بل ثبت اعتباره فيه بالنصّ والإجماع.
لأنّا نقول : هذا
غير معلوم ؛ لتحقّق الاشتباه في أنّ العلّة في القصاص مطلق قتل العمد أو مع قيد
كونه بالمحدّد ، فما يقطع بكونه علّة إنّما هو قتل العمد مع القيد ، فمطلقه يبقى
في حيّز
__________________
الشكّ ، فيعلم
حينئذ بمجرّد ترتّب القصاص عليه.
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ ثبوت الاعتبار في الجنس في أقسام الملائم بالنصّ أو الإجماع إنّما هو لأجل
سرايته من بعض أنواعه إليه ، سواء كان هو المقيس عليه فقط ، كما في المثال الأوّل
، أو هو وغيره ، كما في المثال الثالث.
والسرّ فيه أنّ
النصّ أو الإجماع على تأثير نوع في نوع يستلزم النصّ أو الإجماع على تأثير جنسه في
جنسه ؛ لأنّ الدالّ على اتّصاف الخاصّ بصفة يدلّ على اتّصاف العامّ بها. غاية الأمر أنّ الدلالة على الثاني بالتضمّن ، وهو لا يقابل النصّ ، بل
المطابقة ؛ فالدلالة على الأوّل نصّ ومطابقة ، وعلى الثاني نصّ وتضمّن.
ثمّ إن ثبت
التأثير في جنس أوّلا وبالذات ـ أي بالنصّ عليه بعنوان يشمل ما تحته عموما أو
إطلاقا ـ يثبت منه التأثير في كلّ واحد من أنواعه بالنصّ. وإن ثبت على طريق
السراية من بعض الأنواع ـ كما ذكر ـ لا يثبت منه التأثير في باقي الأنواع ؛ لأنّ
معنى كونه مؤثّرا حينئذ أنّ بعض أنواعه مؤثّر ، وهو لا يستلزم تأثير غيره من
الأنواع.
نعم ، يفيد ظنّا
ما بتأثيره. وإذا ترتّب عليه الحكم أيضا يتقوّى الظنّ بتأثيره ، فيكون ملائما.
وقد ظهر من ذلك
أنّ ما يراد إثباته في الفرع في الأمثلة الثلاثة ـ أي اعتبار العين في العين وهو
اعتبار عين الصغر في ولاية النكاح ، وحرج المطر في رخصة الجمع ، والقتل بالمثقل في
قصاص النفس ـ من باب الملاءمة.
واعتبار المقيس
عليه ـ أعني الصغر في ولاية المال ، وحرج السفر في رخصة الجمع ، والقتل بالمحدّد
في القصاص ، وكذا اعتبار العين في الجنس ، وبالعكس ، والجنس في الجنس ـ من باب
التأثير.
والمقصود من الصنف
الثالث منه ـ وهو الغريب الذي يشهد له أصل ـ ما ثبت اعتباره بمجرّد ترتّب الحكم
على وفقه من دون ثبوت اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه
__________________
في جنسه ، أي لم
يثبت تأثير عين الوصف في أحد أنواع جنس الحكم ، ولا تأثير أحد أنواعه في عين الحكم
، ولا في أحد أنواعه بالنصّ أو الإجماع ، كما يقال فيمن يطلّق امرأته طلاقا بائنا في
مرض موته لئلاّ ترثه : يعارض بنقيض مقصوده ، ويحكم بإرثها ، كما يعارض القاتل
بنقيض مقصوده ، حيث قتل ليرث ، فحكم بعدم إرثه بجامع كونهما فعلا حراما
صادرا لغرض فاسد ، وهذا الوصف وإن كان مناسبا للحكم المذكور وفي ترتّبه عليه يحصل
مصلحة وهو نهيهما عن الفعل الحرام ، وقد ترتّب عليه الحكم على وفقه في القتل ؛
لثبوت الحكم معه بقوله : « القاتل لا يرث » ، فشهد نوعه
لنوعه ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن فيه نصّ على تأثير القتل في عدم الإرث ، لم يثبت
منه تأثير عينه في جنسه ، ولا بالعكس ، ولا تأثير جنسه في جنسه. ومنه ما يقال : «
يحرم النبيذ » قياسا على الخمر بجامع الإسكار ، وهو مناسب لتحريم التناول ؛ صيانة
للعقل إذا فرض ترتيب التحريم على الخمر من غير ثبوت تأثيره فيه بالنصّ.
والمقصود من الصنف
الأوّل من النوع الثاني ـ وهو الملائم الذي لم يشهد له أصل ـ ما لم يثبت اعتباره
بترتيب الحكم على وفقه ، أي لم يثبت اعتبار العين في العين بوجه ؛ لعدم شهادة أصل
على اعتبار نوعه في نوعه ، لكن ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في جنسه ، أو
بالعكس ، فهو أيضا على ثلاثة أقسام.
ومثال القسم
الأوّل منه ما يقال : « قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام » ؛ قياسا على قليل الخمر
بجامع كون القليل داعيا إلى الكثير ، وهذا المناسب وإن لم يعتبره الشرع ، ولم يثبت
الحكم على وفقه في المحلّ ـ إذا سلّم أنّ ترتّب الحرمة على قليل الخمر ليس على وفق
هذا المناسب ـ إلاّ أنّ الشرع اعتبر جنسه في جنس ذلك الحكم ؛ لأنّه حرّم الخلوة
لكونها داعية إلى الزنى. وقس عليه أمثال القسمين الأخيرين.
والمقصود من الصنف
الثاني منه ـ وهو الغريب الذي لم يشهد له أصل ـ ما لم يثبت اعتباره بوجه ، ومثاله
هو المثالان المذكوران للغريب غير المرسل إذا قدّر عدم شهادة القتل
__________________
والخمر بالاعتبار
، أي عدم ثبوت الحكم معهما ، بل اعتبر مجرّد المناسبة المستخرجة ، فيكونان من
الأمثلة التقديريّة ولا بأس به ؛ لأنّ المثال لا يراد لنفسه بل للتفهيم.
هذا ، وأمّا النوع
الثالث ـ وهو المناسب الملغى ـ فمثاله ما تقدّم من إيجاب صوم شهرين على الملك في
كفّارة الصوم.
تذنيب
إن قلت : قد خرّجت
من اعتبار الوصف في الحكم تسعا وأربعين صورة ، وجعلت المؤثّر منها ستّة عشرة ، وهي التي ثبت فيها تأثير العين في العين ، والملاءم منها ثلاثة ، ففي أيّ صنف يدخل البواقي؟
قلت : ما عدا
الستّة عشرة ـ وهو ثلاث وثلاثون صورة ـ من الملاءم المعتبر إن ثبت معها ترتيب
الحكم على وفقه ، ومن الملاءم المرسل إن لم يثبت معها ذلك ، فإنّ الثلاث التي عدّت
مع الترتيب المذكور من الملاءم المعتبر ، وبدونه من الملاءم المرسل تتناول أكثرها
، كما لا يخفى تفصيله. والخارج منها لا يخرج عن الصور الثلاث التي عدّها بعضهم
أيضا من الملاءم ، وهي اعتبار النوع في النوع ، واعتباره في الجنس ،
وبالعكس.
مثال الأوّل :
الإسكار المعتبر في التحريم ؛ فإنّ الإسكار نوع واحد يجمع إسكار الخمر وإسكار
النبيذ ، وهما صنفان ، والحكم التحريم ، وهو أيضا نوع واحد يجمع تحريم الخمر
وتحريم النبيذ ، ونوع الإسكار معتبر في نوع التحريم بالنصّ وإن اعتبره الشارع في
تحريم الخمر ؛ لأنّ اختلاف المحلّ لا يوجب اختلاف الحالّ.
ومثال الثاني : ما يقال : « الاخوّة من الأبوين مقتضية لتقدّم الولاية في النكاح » قياسا
على اقتضائها للتقدّم في الميراث ، فالوصف ـ وهو الاخوّة ـ نوع واحد في الموضعين. والحكم
الولاية وهو جنس يجمع ولاية الميراث وولاية النكاح ، وهما نوعان مختلفان ،
__________________
وقد اعتبر الشارع
نوع الوصف في ولاية الميراث ، فيكون معتبرا في جنس الولاية .
ومثال الثالث : ما يقال : « يسقط قضاء صلاة الحائض » قياسا على سقوط قضاء الركعتين
الساقطتين في السفر بجامع المشقّة. فالحكم ـ وهو قضاء الصلاة ـ نوع واحد يجمع قضاء
صلاة الحائض وقضاء صلاة المسافر ، واختلافهما بالعوارض. والوصف ـ وهو المشقّة ـ جنس
يجمع المشقّة اللازمة للحائض ، والمشقّة اللازمة للمسافر ، وهما نوعان مختلفان وقد
اعتبر الشارع مشقّة المسافر ـ وهو نوع من الجنس ـ في سقوط قضاء الصلاة فيكون الجنس
معتبرا فيه .
وهذه الثلاث إن
ثبت فيها الترتيب على وفق المناسب يكون من الملائم المعتبر ، وإن لم يثبت فيها ذلك
يكون من الملاءم المرسل ، وكان عدم تعرّض القوم لما لم يتعرّضوا لها من الصور ؛
لعدم وجودها في الأحكام الشرعيّة.
ثمّ لا يخفى أنّ
ملاحظة الصور المذكورة مع النظر في أنّ الجنس قريب أو متوسّط أو بعيد ، وأنّ ثبوت
ذلك بالنصّ أو الإجماع أو بهما ، وأنّها تثبت مع ترتّب الحكم على وفق المناسب
وبدونه ، وأنّ الترتّب يشتمل على الإيماء على العلّيّة أم لا ، وأنّ كلاّ منها
يكون من أحد الأقسام المتقدّمة : من الحقيقيّة ، والإقناعيّة ، والضروريّة ،
والحاجيّة ، والتكميليّة وغيرها ، تفضي إلى أقسام
متكثّرة. ولو لوحظ معها وجود معارض من المفسدة بنحو من الأنحاء المذكورة في
المصالح المرسلة ، يؤدّي إلى أقسام لا تحصى كثرة ، ويقع بينها تعارضات وترجيحات لا
يمكن ضبط القول فيها.
ثمّ إنّ قوّة
أقسام الملاءم وضعفها يختلف باختلاف مراتب خصوص الوصف والحكم وعمومهما ، فكلّما
كان الوصف والحكم أخصّ كان الظنّ بعلّيّة الوصف للحكم آكد ؛ لكثرة ما به الاشتراك
حينئذ بين وصفي الأصل والفرع وحكميهما ، فاعتبار النوع في النوع أقوى من اعتبار
الجنس في الجنس ؛ لكثرة المشتركات بين الوصفين والحكمين في الأوّل ؛
__________________
لاتّحادهما نوعا ،
فيشتركان في الحقيقة وفي مقوّماتهما من الجنس والفصل وفي لوازمهما ، واختلافهما بالامور الخارجة ، كالمحالّ وما يجري مجراها ، وقلّة المشتركات بينهما في الثاني. وهو ظاهر.
تتمّة
الحقّ أن طريق
المناسبة لا يفيد العلّيّة ، وليست مقبولة إلاّ المناسبة المعتبرة إجماعا أو نصّا
من الشرع ، وهو المؤثّر من الأقسام المذكورة ، فإذا علم بالإجماع أو النصّ كون وصف
مناسب لحكم مؤثّرا فيه وعلّة له ، يحكم بثبوت الحكم له وكونه علّة له في الأصل ،
وهذا هو العمل بنفس المناسبة ، وإذا وجد هذا الوصف في محلّ آخر ، واريد إثبات حكم الأصل
له فيه ، يرجع إلى القياس المنصوص العلّة ، وقد عرفت الحال فيه. فهذا القسم من
المناسبة ليس من طرق الاستنباط ، وأمّا غيره من الأقسام ، فلمّا لم يقطع بالعلّيّة
فيها بنصّ أو إجماع ، فيجوز أن تكون العلّة فيها غير ذلك الوصف ، وحينئذ يحكم في
الملائم والغريب المعتبرين بمجرّد ثبوت الحكم مع المناسب في الأصل ؛ نظرا إلى
ترتّبه عليه شرعا ، وهذا هو العمل بنفس المناسب المعتبر ، ولا يحكم بعلّيته له ،
فإن ثبت هذا المناسب في محلّ آخر ، لا يقاس على الأوّل حتّى يتحقّق العمل بالقياس
عليه.
وأمّا الملائم
والغريب المرسلان ـ وهما المصالح المرسلة ـ فلا يحكم بثبوت حكم يناسبهما معهما في
محلّ أصلا ؛ لعدم ترتّبه عليه في كلام الشارع ، فلا يتأتّى العمل بنفس المصالح
المرسلة ، ولا بالقياس عليها.
ثمّ المراد بأصل
الملائم هنا هو الفرع في الأمثلة المتقدّمة فلا تغفل ؛ فإنّ الأصل فيها كان من المؤثّر
، وفرعه كان ملائما ، فإذا قيس عليه غيره يصير أصلا ، وما يقاس عليه فرعا. ومن هنا
يعلم أنّ فرع المؤثّر أحد الملائمين. هذا.
واتّفق القائسون
على قبول المؤثّر والملائم المعتبر ، والقياس عليهما ، وردّ الغريب
__________________
المرسل وما علم
إلغاؤه. واختلفوا في الغريب المعتبر والملائم المرسل ، والأكثر على قبول الأوّل
وردّ الثاني.
واحتجّوا على كون
المناسب علّة للحكم بأنّ الأحكام معلّلة بالمصالح ، وهذا الحكم قد وجد فيه هذه
المصلحة ، فحصل الظنّ بأنّها الباعث على شرعه.
أمّا الثاني فظاهر
؛ لأنّ الفرض ذلك ، وأمّا الأوّل فلأنّ تخصّص واقعة معيّنة
بحكم معيّن لا بدّ له من مرجّح.
وجوابه ما ذكر من
جواز كون العلّة غير ذلك الوصف ، على أنّ هذا الدليل فاسد على اصول الأشاعرة ؛ لأنّهم منعوا من التعليل في أحكام الله بالأغراض ، والمعتزلة ؛ لتجويزهم
ترجيح أحد الطرفين من المريد لا لمرجّح .
وإذا أحطت بما ذكر
، فلا أظنّك أن يشتبه عليك كيفيّة التفريع.
فصل [١٢]
ومن طرق الاستنباط
ـ كما عرفت ـ الشبه. وهو لغة : الشباهة . وعرفا كما يطلق على كلّ قياس الحق الفرع فيه بالأصل بجامع يشبهه ، كذلك يطلق
على نفس هذا الجامع الذي هو الوصف الشبهي.
وحقيقته إجمالا :
أنّ الوصف كما يكون مناسبا فيظنّ بذلك كونه علّة ، فكذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنّا
ما بالعلّيّة ، فكما أنّ كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا مناسبا يكون استنباط علّيّة
الوصف للحكم فيه بالمناسبة ، فكذلك كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا شبهيّا يكون
استنباط علّيّته له فيه بالشبه.
__________________
وقد اختلف في
تفسير الوصف الشبهي حتّى قيل : لا يتحرّر في الشبه عبارة مستمرّة في صناعة الحدود .
فقيل : ما يوهم
المناسبة من حيث التفات الشرع إليه في بعض المحالّ وليس بمناسب ، والوصف الطردي ما لا يوهمها أيضا فيشبه الشبهيّ الطرديّ من حيث عدم
المناسبة ، ويتميّز عنه بأنّ الطردي وجوده كالعدم ، ويشبه المناسب من حيث التفات
الشرع ، ويتميّز عنه بأنّ للمناسب مناسبة عقليّة وإن لم يرد الشرع بها ، كالإسكار
للتحريم ، فإنّ كونه مزيلا للعقل وكونه مناسبا للمنع منه يحكم به العقل ولا يحتاج
إلى ورود الشرع به. وقد أشرنا إلى هذا التفسير ومثاله .
وقيل : ما ناسب
الحكم بالتبع كالطهارة لاشتراط النيّة ، والطرد ما لم يناسبه أصلا كبناء القنطرة ، وبعبارة اخرى كان مستلزما لمناسب ، كالرائحة الفائحة المستلزمة للإسكار
الذي هو المناسب بذاته للتحريم.
ولا يخفى أنّ
القياس حينئذ نوع من قياس الدلالة ، وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب
الحكم لكن يستلزم المناسب. والطردي حينئذ ما ليس بمناسب ، ولا بمستلزم له.
وقيل : ما لا
يناسب الحكم لكن عرف بالنصّ تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم ، فمن
حيث إنّه لا يناسب يظنّ عدم اعتباره في ذلك الحكم ، ومن حيث علم تأثير جنسه القريب
ـ مع أنّ سائر الأوصاف ليس كذلك ـ يظنّ استناد الحكم إليه .
وقيل : ما لا يثبت
مناسبته إلاّ بدليل منفصل .
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّ الشبه لا يدلّ على العلّيّة ، وليس بحجّة على كلّ واحد من التفسيرات.
أمّا على الأوّل
والثاني ، فلأنّ المناسبة نفسها لا تفيد العلّيّة ، وليست بحجّة فضلا عمّا يوهمها
أو يستلزمها.
__________________
وأمّا على الثالث
، فلما تقدّم .
وأمّا على الرابع
، فلأنّ المناسب بالذات إذا لم يكن حجّة ، فالمناسب بالواسطة أولى بذلك.
ثمّ لمّا أمكن أن
يثبت علّيّة الشبه بجميع الطرق من النصّ والإجماع والسير وغيرها سوى المناسبة ،
فإن ثبت علّيّته بإحدى الطرق المقبولة أفاد العلّيّة ، إلاّ أنّ ثبوت العلّيّة
حينئذ بهذا الطريق لا بالشبه ، فهو ليس طريقا مستقلاّ دالاّ على العلّيّة ، ولا
يثبت علّيّته بمجرّد المناسبة ، أي تخريج المناط ؛ إذ يخرجه حينئذ إلى المناسبة مع
أنّه غيرها ، ولذا عرّف بما عرّف.
ثمّ إن ترتّب حكم
على الشبه في محلّ أوّلا ، فهو العمل بنفس الشبه. وإن اثبت هذا الحكم في محلّ آخر
إذا وجد فيه ، فهو العمل بالقياس عليه. وحقيقة الحال في المحلّين لا تخفى عليك بعد
ما ذكر.
وقد عرّف بتعريفات
أخر لا يعدّ بواحد منها من مسالك العلّة.
منها : أنّه الوصف
المجامع لآخر إذا تردّد به الفرع بين أصلين ، أحدهما يشبهه في الصورة ، والآخر
يشبهه في المعنى أو الحكم . واعتبر الشافعي المشابهة المعنوية ، وابن عليّة الصوريّة . وعلى أيّ تقدير فالأشبه منهما هو الشبه ، كالنفسيّة
والماليّة في العبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحرّ ، فإنّه قد اجتمع
فيه الوصفان. وبالأوّل يشابه الحرّ ومقتضاه عدم الزيادة على الدية. وبالثاني
الدابّة ومقتضاه الزيادة ، إلاّ أنّه بالحرّ أشبه ؛ إذ مشاركته له في الأوصاف
والأحكام أكثر. وحاصله تعارض مناسبين رجّح أحدهما.
وهذا ليس من الشبه
المقصود في شيء ؛ لأنّ كلاّ من الوصفين مناسب ، وكثرة المشابهة
__________________
إن كانت مؤثّرة
فهي من باب الترجيح ، ولا تخرجه عن المناسبة ، ولذا قيل : هذا حجّة ؛ لتردّده بين
قياسين متناسبين ، ويسمّى قياس علّيّة الأشباه .
وممّا يتفرّع عليه
إلحاق السلت بالحنطة حتّى يكمل به نصابها ؛ إذ يشبهها صورة ؛ لأنّه على
لونها ونعومتها ، أو بالشعير ؛ إذ يشبهه في برودة الطبع ، هذا هو المعروف عند
الفقهاء وأهل اللغة ، وعكسه بعضهم . وقيل : جنس مستقلّ لتعارض المعنيين .
ومنها : أنّه ما
يعرف فيه المناط قطعا إلاّ أنّه يفتقر في آحاد الصور إلى الحقيقة ، كما في طلب
المثل في جزاء الصيد بعد العلم بوجوب المثل بالنصّ.
وهو أيضا ليس من
الشبه المقصود ؛ لأنّه العلّة الشبهيّة ، والنظر فيما ذكر إنّما هو في تحقيق
الأشبه ؛ لأنّه وجب المثل ، والصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان محمولا على
الأشبه ، لا في تحقيق المناط الذي هو العلّة ؛ لكونه معلوما من النصّ .
ومنها : أنّه ما
اجتمع فيه مناطان مختلفان لحكمين لا على سبيل الكمال لكن أحدهما أغلب ، فالحكم به
حكم بالأشبه ، كالحكم في اللعان بأنّه يمين لا شهادة وإن وجدا فيه لا على سبيل
الكمال ؛ لأنّ الملاعن مدّع ، فلا يقبل شهادته لنفسه ، ولا يمينه .
وهذا أيضا ليس من
الشبه المقصود وهو ظاهر. وكيفيّة التفريع قد ظهرت لك.
تذنيب
يشترط في تفسير
الطرد أن يضاف على ما ذكر قولنا : إذا ثبت معه الحكم فيما عدا المتنازع فيه ؛ لأنّ
هذا هو معنى الاطّراد ، وحاصله الاستلزام في الوجود لا في العدم. وبهذا يمتاز عن
الدوران ؛ لأنّه الاستلزام في الوجود والعدم.
__________________
مثاله ما يقال في
عدم إزالة النجاسة بالخلّ : مائع لا يبنى القنطرة على جنسه ، فلا يجوز إزالة
النجاسة به كالدهن .
والحقّ أنّه لا
يفيد العلّيّة وليس بحجّة ؛ لأنّ الدوران كذلك ، كما يأتي ، فهو أولى بذلك ، ولأنّ الاطّراد كون الوصف بحيث لا يوجد إلاّ وقد وجد معه
الحكم ، وهذا لا يثبت إلاّ إذا ثبت أنّ الحكم حاصل بنفسه في الفرع ، فلو توقّف
معرفة ثبوت الحكم في الفرع على كون الوصف علّة ، واستند علّيّته إلى كونه مطّردا ،
لزم الدور.
احتجّ الخصم ـ وهم
جماعة من العامّة ـ بأنّ عادة الشرع إلحاق الفرد النادر بالأعمّ الأغلب ولا دور ؛
لأنّا لا نحتجّ بالمقارنة في جميع الصور على العلّيّة ، بل فيما عدا الفرع .
وفيه : أنّ
المقارنة لو دلّت على العلّيّة لدلّت في صورة المقارنة ، والفرع لم يثبت فيه
المقارنة ، فإلحاقه بما ثبت فيه المقارنة يحتاج إلى دليل. غاية ما في الباب حصول
ظنّ بإلحاق الفرد بالأغلب ، ومثله لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي ، سيّما على
قواعدنا ؛ لما عرفت من قطعيّة بطلان
القياس. والعجب أنّ بعضهم بالغ وقال : يكفي مقارنته في صورة واحدة لإفادة العلّيّة
.
ولا يخفى أنّ
تجويزه يفتح باب الهذيان. فظهر أنّ قياس الطرد البسيط باطل مطلقا.
ثمّ إثبات الحكم
في صورة المقارنة ـ كإثبات عدم إزالة النجاسة بالدهن ـ عمل بنفس الطرد ، وإثبات
الحكم في صورة عدم المقارنة ـ كإثباته بالخلّ ـ عمل بقياس الطرد البسيط.
ولمّا ظهر عليك
كيفيّة التفريع مرارا ، فلا نطيل الكلام بإعادتها.
__________________
فصل [١٣]
ومن طرق الاستنباط
ـ كما تقدّم ـ السبر والتقسيم ، وهو ـ كما عرفت ـ حصر الأوصاف الصالحة للعلّيّة في الأصل ، وسلب العلّيّة عن كلّ واحد إلاّ
المدّعى ، والحصر راجع إلى التقسيم وهو ظاهر ، والسلب إلى السبر ؛ لأنّه في
الأصل اعتبار عمق الجراحة ، والمسبار حديدة معدّة لذلك. والمراد منه هاهنا اعتبار
كلّ وصف من الأوصاف المعدودة ، وإبطال علّيّتها حتّى ينتهي إلى المدّعى.
والسبر إمّا يقع
على التقسيم الحاصر أو المنتشر.
والأوّل ما يقطع
فيه بانحصار الأقسام في المعدودة وإبطال ما عدا المدّعى ، وهو يفيد العلم. وقد
عوّل عليه في معرفة العلل العقليّة ، كما يقال : هذا الأمر إمّا معلّل أو لا ، فإن
كان معلّلا فإمّا بهذا الشيء أو بغيره ، فإذا ابطل الثاني وأحد شقّي الأوّل يتعيّن شقّه الآخر للعلّيّة. وقد يوجد مثله فى الأحكام
الشرعيّة ويعوّل عليه ، كما يقال : ولاية الإجبار إمّا أن لا تعلّل ، أو تعلّل
بالبكارة أو الصغر أو غيرهما ، والكلّ باطل سوى الثاني ، فالأوّل والرابع للإجماع
، والثالث لقوله عليهالسلام : « الثيّب أحقّ بنفسها » .
والثاني ما لا
يقطع فيه بالانحصار ، بل يدّعى الانحصار فيه بالاستقراء ، ومثاله ما تقدّم من قياس
الأرز على البرّ في الربويّة.
والحقّ ، أنّه ليس
بحجّة وفاقا للأكثر ؛ لجواز الاستغناء عن العلّة ؛ فإنّه لو كان كلّ حكم
معلّلا لزم التسلسل في علّيّة العلّة. ومنع الحصر ؛ لجواز
كون العلّة غير الأوصاف المعدودة ،
__________________
أو ما تركّب من
بعضها أو جميعها ، أو الحكم مشروطا في الأصل بما ليس في الفرع ، أو ممنوعا في
الفرع لمانع.
والجواب بأنّ
الغالب في الأحكام تعليلها ، والأصل عدم عدّ الأوصاف المحصورة ، ضعيف. هذا.
وعدم جواز
الاستدلال بالسبر عندنا ظاهر ؛ لما عرفت من قطعيّة بطلان
مطلق القياس ، إلاّ ما ثبت استثناؤه بالقطع أيضا. فغاية الأمر أن يفيد ظنّ
العلّيّة ، وهو لا يقاوم القطع. وعلى هذا ، لو ثبت من الشرع حكم في أصل ـ كالربا
في البرّ ـ يحكم بثبوته فيه ، ولكن لا يستند ثبوته فيه إلى الوصف المدّعى حتّى
يثبت منه العمل بنفس السبر والتقسيم ، ويلزم منه بالطريق الأولى عدم جواز إثباته
في محلّ آخر إذا كان هذا الوصف موجودا فيه حتّى يلزم العمل بقياس السبر.
إن قلت : قد
اعترفت بحجّيّة تنقيح المناط في الجملة وهو راجع إلى السبر والتقسيم.
قلت : تنقيح
المناط القطعيّ يرجع إلى التقسيم الحاصر ، والظنّيّ إلى المنتشر ، والأوّلان مقبولان
، والأخيران مردودان ، فلا منافاة.
احتجّ الخصم بأنّ كلّ حكم لا بدّ له من علّة ؛ للإجماع ؛ ولقوله تعالى : ( وَما
أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) ، فإنّه يفيد أنّه ارسل بأحكام شرعت لمصالحهم ؛ إذ لو ارسل
بحكم لا مصلحة فيه ، لكان إرسالا لغير الرحمة ، فهو يفيد التعميم ، فثبت منه
المطلوب وهو تعليل كلّ حكم بعلّة. ولو سلّم انتفاء العموم فنقول : الغالب في
الأحكام التعليل ، والفرد يلحق بالأعمّ الأغلب.
وإذا ثبت ذلك
فنقول : القطع بتعيين العلّة غير ممكن ، فيكفي الظنّ به ، وهو يحصل بالسبر
والتقسيم وبغيره من الطرق كالمناسبة والشبه والدوران ، فإذا ثبت ظهور علّيّة وصف
لحكم شيء من هذه الطرق ، وجب اعتبارها والحكم بها ، إلاّ أنّ ذلك لا يتوقّف في
المناسبة على
__________________
سبق العلم بكون
الحكم معلّلا ، ثمّ تعيين العلّة بها ، بل مجرّد المناسبة كاف في ظنّ العلّيّة
بخلاف غيرها.
ثمّ إفادة كلّ
طريق للعلّيّة لمّا كانت فرع وجوده ، والسبر كان مركّبا من شقّين : الحصر ، وحذف بعض الأوصاف وإبطال كونه علّة ، فوجوده فرع وجودهما ، فقالوا : لثبوت الأوّل يكفي التصفّح
التامّ عن أوصاف الأصل وعدم الظفر على غير ما ظفر به ، لحصول الظنّ حينئذ بعدم
غيرها ؛ لأنّ الغالب أنّ الأوصاف العقليّة والشرعيّة لا تخفى بعد الاستقراء ، مع
أنّ الأصل عدم غيرها ، وإذا قال المجتهد في بيانه : بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف
والأصل عدم غيرها ، يصدّق ، بل يصدّق وإن لم يعلّل
بالأصل ؛ لعدالته وتديّنه.
وللثاني ثلاث طرق
:
الأوّل : الإلغاء
، وهو بيان أنّ الحكم قد ثبت في الصورة الفلانيّة بدون الوصف المحذوف ، فعلم أنّه
لا أثر له ، كما يقال في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : القوت ليس بعلّة ؛
لأنّ الملح ربوي وليس بقوت.
الثاني : أن يكون
الوصف طرديّا ـ أي من جنس ما علم من الشرع إلغاؤه في جميع الأحكام ـ كالطول والقصر
، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم ، كالذكورة والانوثة في أحكام العتق.
الثالث : أن لا
يظهر له مناسبة ، ولا يلزم على المناظر أن يبيّن عدم المناسبة بدليل ، بل يكفي له
أن يقول : بحثت فلم أجد له مناسبة. فإن عارض المعترض وقال : الوصف المتبقّي أيضا
كذلك ، فإن أوجبنا على المستدلّ بيان المناسبة ، انتقل من السبر إلى الإخالة ، وهو
قبيح عند أهل النظر ، فيلزم التعارض والمصير إلى الترجيح. وحينئذ نقول : إن سبق من
المعترض تسليم مناسبة كلّ من الوصفين لم يسمع منه منع مناسبة المستبقى بعد بيان
المستدلّ نفي مناسبة المحذوف ؛ لكونه مانعا لما سلّمه. وإن لم يسبق منه ذلك ،
فللمستدلّ
__________________
أن يرجّح سبره
بموافقته لتعدية الحكم ، وموافقة سبر المعترض للمقصود ، والتعدية أولى منه ؛ ليعمّ
الحكم ويكثر الفائدة. هذا ما ذكروه .
وأنت بعد الإحاطة
بما تقدّم تعلم فساد أصل دليلهم على السبر وغيره من الطرق ، وما ذكروه أيضا في
بيان شقّيه .
أمّا [ الشقّ ]
الأوّل : فلأنّا نمنع التعليل في جميع الأحكام ، وإلاّ لزم الدور ، كما تقدّم ، والإجماع عليه لم يثبت ، كيف؟! والأشاعرة منعوا منه ، والآية لا تفيد العموم ، والغلبة لا تفيد أزيد من ظنّ لا ينتهض
حجّة لتأسيس الأحكام. ومع تسليم ذلك كلّه يجوز أن يكون العلّة غير الأوصاف
المحصورة.
وأمّا [ الشقّ ]
الثاني : فلأنّ ما ذكر في بيان الشقّ الأوّل ـ وهو الحصر ـ لا يثبته ؛ لأنّ
الاستقراء على فرض تحقّقه ليس بحجّة ، والتمسّك بالأصل في أمثال المقام ليس بصحيح.
وما ذكر في بيان
الشقّ الثاني إن صحّ ، فلا يضرّنا ؛ لأنّا نقول أيضا بعدم علّيّة المحذوف. هذا.
والمناط عندنا في
إبطال هذه الطرق ما ذكرناه مرارا.
ثمّ إنّك بعد
الإحاطة بالأمثلة المذكورة هنا وفي تنقيح المناط لا يخفى عليك كيفيّة التفريع.
فصل [١٤]
ومن طرق الاستنباط
ـ كما اشير إليه ـ الطرد والعكس ، أي الدوران. وقد عرفت أنّه الاستلزام في الوجود والعدم ـ أي كون الوصف بحيث يحدث الحكم بحدوثه
وينعدم بعدمه ـ وهو قد يتحقّق في محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم في العصير
وقد يقع في
__________________
محلّين ، كما في
الكيل وتحريم التفاضل ؛ فإنّ أحد جزءيه ـ وهو الطرد ـ تحقّق في البرّ مثلا ،
والآخر ـ وهو العكس ـ يتحقّق في الثياب مثلا.
وقد اختلف في
إفادته للعلّيّة على أقوال ثالثها : أنّه يفيدها ظنّا لا قطعا . وهو الحقّ ، إلاّ أنّ مثل هذا الظنّ لا يصلح أن يكون مؤسّسا لحكم شرعي. فعلى
هذا يحكم بثبوت جميع الأحكام الدائرة مع الأوصاف في الموادّ المخصوصة التي ثبت
فيها الترتيب من الشرع ، ولا يقطع بعلّيتها لها حتّى أمكن القياس عليها ، فيبطل
قياس الطرد المركّب.
ثمّ لمّا كان
العمل في المحالّ التي ثبت فيها الدوران بقول الشارع لما به ، فلا يتحقّق العمل
بنفس الدوران ، كما لا يجوز العمل بالقياس على محالّه. هذا.
ولنا على ما
اخترناه أنّ الحادث لا بدّ له من علّة ولم يظفر بعلّة غير المدار ، فبضميمة أصالة
العدم يحصل الظنّ بعلّيّة المدار. وأيضا إذا وجد الدوران ولا مانع من العلّيّة من
معيّة ، كما في المتضايفين ، أو تأخّر كما في المعلول ، أو غيرهما ، كما في الشرط
المساوي حصل الظنّ بها ، وذلك ممّا يقضي به العادة ؛ ويؤكّده أنّه إذا دعي الإنسان
باسم مغضب فغضب ، ثمّ ترك فلم يغضب وتكرّر ذلك ، علم عادة أنّه سبب الغضب ، ولا
يفيد القطع بالعلّيّة ؛ لجواز عدم احتياج الحكم الدائر إلى العلّة ، أو كون العلّة
غير المدار ، أو قصر علّيّته على محلّ الدوران.
واحتجّ من قال
بإفادته للعلّيّة قطعا بأمثال ما ذكرناه ، وهو لا يفيد أزيد من الظنّ ، كما عرفت .
واحتجّ من أنكر
إفادته للعلّيّة مطلقا بوجهين :
أحدهما : أنّ
الطرد لا يؤثّر ، والعكس لا يعتبر .
أمّا الأوّل ،
فلأنّ الاطّراد أن لا يوجد الوصف بدون الحكم ، ووجوده بدونه هو النقض. فالاطّراد
هو السلامة عن النقض ، وهو أحد مفسدات العلّة. والسلامة عن مفسد واحد
__________________
لا توجب انتفاء
كلّ مفسد ، ولو سلّم ، فلا يصحّح علّيّته إلاّ بوجود مقتض للعلّيّة ؛ لأنّ رفع
المانع وحده لا ينتهض علّة مقتضية.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ الانعكاس ليس شرطا في العلّيّة ، كما يأتي ، فليس شرطا في صحّتها.
واجيب بأنّه قد
يكون للمجموع أثر ليس لكلّ واحد من أجزائه ؛ فإنّ كلّ واحد من أجزاء العلّة
المركّبة لا يصلح علّة ، ويحصل من اجتماعها مجموع هو العلّة .
وعلى ما اخترناه ،
فجوابه أنّ كلّ واحد من الاطّراد والانعكاس يفيد ظنّا ما ، ومن اجتماعهما يتقوّى
الظنّ.
وثانيهما : أنّ
الدوران قد وجد في محالّ متعدّدة لم يثبت فيها العلّيّة ، كما في المتضايفين ،
والعلّة والمعلول المتساويين ؛ لامتناع كون المعلول علّة لعلّته والمعلولين
المتساويين وأجزاء العلّة المساوية لها ؛ فإنّها دائرة معها مع انتفاء العلّيّة ،
وشرائط المعلول المساوية له ؛ فإنّها دائرة معه ومع علّته مع انتفاء العلّيّة ،
ولوازم المعلول ؛ فإنّها دائرة معه ، ولوازم العلّة ؛ فإنّها دائرة معها ومع
المعلول ، كالرائحة المخصوصة الملازمة للمسكر ؛ فإنّها توجد بوجوده وتعدم بعدمه
وليس بعلّة ، والحدّ والمحدود والجسم واللون والحركة والزمان وغير ذلك .
واجيب بأنّ ارتفاع
العلّيّة فيها لمانع ، والمبحث ما لم يوجد فيها المانع . هذا.
واعلم أنّ الدوران
بين الوصف والحكم قد يتحقّق في محالّ متعدّدة ، كالدوران في الكيل وتحريم التفاضل
؛ فإنّه قد تحقّق كلّ واحد من جزءيه ـ أي الطرد والعكس ـ في محالّ متعدّدة ،
فالأوّل قد وجد في البرّ والشعير والسمن والملح وغيرها ، والثاني قد وجد في الثياب
والحيوان والأسلحة وغيرها.
وقد يتحقّق في
محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم ؛ فإنّ الدوران بينهما قد وجد في محلّ واحد
وهو العصير. والمتحقّق في محلّ واحد إمّا أن يكون بالحدوث والزوال مرّة أو
__________________
أكثر ؛ ولذلك
يختلف مراتب الظنّ بعلّيّة المدارات ، فإنّه لو وجد في محلّ واحد بالحدوث والزوال
مرّة يحصل منه ظنّ ضعيف ، وربّما لم يحصل منه شيء.
استدراك
قد دريت ممّا ذكر
أنّ ما يقتضيه قواعد الإماميّة بطلان كلّ قياس طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة ـ وهو : قياس الإخالة ، وقياس الشبه ، وقياس السبر ، وقياس الطرد البسيط ،
وقياس الطرد المركّب ، ويجمعها قياس مرجوح التأثير ـ وعدم صلاحيته للتقوية
والتأييد ، ولكن له بعض هذه الطرق التي يمكن الاستدلال بها على حكم أوّلا ، وجعله
علّة له من غير أن يجعل طريقا للقياس ، كالمناسبة.
والشبه لا يمتنع
أن يجعل مؤيّدا ومرجّحا ؛ لأنّ ما يثبت بطلانه بالقاطع هو العمل بالقياس الذي كان
طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة ، لا بنفس هذه الطرق ، فإذا حصل من بعضها ظنّ
بثبوت حكم أوّلا ، فلا بأس بجعله مرجّحا وإن لم يصلح أن يكون مؤسّسا للحكم.
فصل [١٥]
لمّا عرفت أنّ
لطريق معرفة العلّة أقساما ، فيجب أن تعلم أنّ لنفسها أيضا أقساما ؛ لأنّها إمّا
متعدّية ، وهي التي تتجاوز عن الأصل ، فتوجد في غيره ، كتعليل حكمه بما يشارك به
غيره. أو قاصرة وهي التي لا تتجاوز عنه ، كتعليل حكمه به ، أو بما يختصّ به.
وأيضا علّة الحكم
إمّا محلّه ، كتعليل حرمة الخمر بكونه خمرا عند الحنفيّة . أو جزؤه ، كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة. أو خارج عنه.
والخارج إمّا وصف شرعي ، كتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه. أو عرفي كتعليل عدم
جواز
__________________
بيع الغائب
بالجهالة المجتنب عنها عرفا. أو لغويّ كتعليل حرمة النبيذ بكونه مسمّى بالخمر ،
كالمعتصر من العنب. أو عقليّ حقيقيّ كتعليل ربويّة البرّ بالطعم.
أو إضافيّ ،
كتعليل ولاية الإجبار بالابوّة. أو سلبيّ ، كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم
الرضى.
وعلى التقادير
إمّا بسيطة ، كالأمثلة المذكورة ، أو مركّبة ، ولها أقسام بحسب تركيبها المتصوّر
من الثنائي والثلاثي ، مثلا يمكن أن تكون مركّبة من الحقيقيّة والإضافيّة ، كتعليل
جواز بيع المفلس ؛ لكونه بيعا صدر من الأهل في المحلّ. ومن الحقيقيّة والسلبيّة ،
كتعليل وجوب القصاص على القاتل الذمّيّ بالقتل بغير حقّ. ومن الحقيقيّة والإضافيّة
والسلبيّة ، كتعليل وجوب القصاص بالقتل بالمثقل بكونه قتلا عمدا بغير حقّ. وقس
عليها غيرها.
وأيضا العلّة إمّا
أن تكون وجه الحكمة ، كحفظ أوضاع الناس بشرع عدالة المفتي ، وكون الصلاة ناهية عن
الفحشاء ، والخمر مورثة للبغضاء. أو غيره ، ومثاله ظاهر.
وأيضا العلّة
والحكم إمّا ثبوتيان ، أو سلبيّان ، أو الحكم ثبوتي والعلّة عدميّة ، أو بالعكس ،
ويسمّى التعليل بالمانع.
وأيضا العلّة قد
تدفع الحكم ولا ترفعه ، كالعدّة ، فإنّها تدفع النكاح اللاحق ، ولا ترفع السابق.
وقد تعكس ، كالطلاق. وقد تدفع وترفع ، كالرضاع.
وأيضا العلّة إمّا
أن لا يتوقّف تأثيرها على شرط ، أو يتوقّف ، كالزنى للرجم بشرط الإحصان ، وللجلد
بشرط عدمه. فهنا قد علّل بعلّة ضدّان ، لكن بشرطين متضادّين.
ولهما تقسيمات أخر
لا يتعلّق بها غرض علمي.
تمهيد : [ في شروط القياس ]
للقياس شروط عند
القائسين ، بعضها متّفق عليه عندهم ، وبعضها مختلف فيه بينهم. وكلّ عدّة منها
يتعلّق بركن من أركانه. وها هي نذكرها في فصول ، ونشير إلى ما هو الحقّ على قواعد
كلّ من الفريقين ، ونبدأ بشروط العلّة.
فصل [١٦]
قد ذكروا للعلّة
شروطا كثيرة .
فمنها : أن تكون
بمعنى الباعث ، أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من تحصيل مصلحة أو تكميلها ، أو
دفع مفسدة أو تقليلها ، فالأمارة المجرّدة ـ أي الوصف الطرديّ الذي لا يناسب ولا
يشابه ـ لا تصلح للعلّيّة.
واحتجّوا عليه
بأنّ العلّة لو كانت أمارة لم يكن لها فائدة سوى تعريف الحكم ، فيلزم أن يكون
الحكم متفرّعا عليها ، مع أنّ العلّة متفرّعة عن الحكم ؛ لكونها مستنبطة منه ؛ إذ
لو كانت منصوصة أو مجمعا عليها لعرف الحكم بالنصّ أو الإجماع لا بها ، فيلزم الدور
.
واجيب عنه ، بأنّ
العلّة تتفرّع على حكم الأصل ، والمتفرّع على العلّة إنّما هو الحكم في الفرع ،
فلا دور .
أقول : ما يقتضيه
النظر هو أنّ الأمارة ـ أي الوصف الطرديّ ـ لعدم ظهور مناسبته للحكم لا يكون
علّيّته معلومة لنا ، إلاّ أنّه لا يمتنع أن يكون علّة شرعا ؛ لأنّ ظهور المناسبة
لكلّ أحد لا يشترط في علّيّة الوصف ، كما اشير إليه. نعم ، يلزم ظهورها لمن يجعله
علّة ، فيمكن أن يكون وصف مشتملا على حكمة يكون ذلك معلوما للشرع غير معلوم لنا ،
وحينئذ إذا تحقّق الطرد ـ أي ثبوت الحكم في أكثر المحالّ التي وجد فيها الوصف ـ يحصل
الظنّ بعلّيّته له ، كما تقدّم ، فعلى ما ذهب إليه العامّة من العمل بالأقيسة الظنّيّة يتأتّى قياس غيرها ـ ممّا وجد فيه هذا الوصف ـ عليها وإن لم يثبت فيه ترتّب
الحكم على الوصف من الشرع. وأمّا على ما ذهبنا إليه ، فالمناط النصّ على العلّيّة ، سواء كانت المناسبة معلومة أو لا ؛ فالأمارة
__________________
لا تصلح للعلّيّة
، لا لعدم ظهور المناسبة ، بل لعدم النصّ من الشرع.
ومنها : أن تكون
وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه ، ضابطا للحكمة ، أي جلب المصالح ودفع المفاسد. ولا
يجوز أن تكون حكمة مجرّدة مطلقا. هذا ما ذهب إليه الأكثر . وقيل : يجوز مطلقا . وقيل : يجوز إذا كانت ظاهرة منضبطة ، ولا يجوز إذا كانت
خفيّة أو مضطربة .
احتجّ الأكثر بأنّ
الحكمة المجرّدة إمّا خفيّة ، كالرضى في التجارة. أو غير منضبطة ، كالمشقّة ؛
فإنّها ذات مراتب ؛ إذ تختلف بالأشخاص والأحوال ، وليس كلّ مرتبة منها مناطا ، ولا
يمكن تعيين ما هو المناط ، والوقوف على المناط في الامور الخفيّة وغير المنضبطة
ممّا يتعذّر ، والتكليف به من غير التعيين يؤدّي إلى عسر وحرج ، مع أنّ المألوف من
عادة الشرع ردّ الناس إلى المظانّ الجليّة ، ولذا نيط الرضى في التجارة بصيغ
العقود ؛ لكونها ظاهرة ضابطة له ، والمشقّة بما يلازمها ويضبطها وهو السفر.
وبأنّه لو جاز
التعليل بالحكمة المجرّدة ، لوقع من الشارع ؛ لأنّ ربط الحكم بما هو المقصود
الأصلي أحرى من ربطه بمظنّة ، واللازم منتف بالاستقراء.
وبأنّه لو جاز ،
لم يعتبر الشرع المظانّ إذا خلت عن الحكمة ، واعتبر الحكمة وإن لم يتحقّق معها
مظنّتها ؛ إذ تحقّق المباينة لا يضرّه عدم المظنّة ، واللازم منتف ؛ لأنّه اعتبر
السفر وإن خلا عن المشقّة ، كسفر الملك المرفّة ، ولم يعتبر المشقّة إذا لم تحصل
من السفر ، كحضر أولي الصنائع الشاقّة من الحمّالين والملاّحين .
والجواب عن الأوّل
: منع الحصر ؛ فإنّ بعض الحكم ظاهرة منضبطة. ولو سلّم فنقول ، تعيين المناط من
الحكمة غير المنضبطة ممكن للشارع ، ولو لم يمكن ، لم يمكن في
__________________
الأوصاف أيضا ؛
لأنّها أيضا ذوات مراتب مختلفة ، فكما أنّ المشقّة ذات مراتب ، فكذلك السفر ، وكما
يمكن تعيين ما هو المناط منه ، فكذلك يمكن تعيين ما هو المناط منها ، ولو جاز
التعليل بمطلق الوصف وإحالة المناط إلى الفهم العرفي ، لجاز ذلك في الحكمة أيضا.
وبالجملة ، لا فرق
بين الوصف والحكمة ، فلو لم يجز التعليل بالحكمة ، لم يجز بالوصف المشتمل.
وعن الثاني : منع
انتفاء اللازم ؛ لوجود التعليل بالحكمة في صور كثيرة ، كالتوسّط في إقامة الحدّ
بين المهلك وغير الزاجر ، وكالفرق بين العمل اليسير والكثير.
وعن الثالث : أنّا
لا نمنع اعتبار مظنّة الحكمة ، بل نقول : كما يجوز اعتبار المظنّة يجوز اعتبار
الحكمة أيضا. وحينئذ نقول في المحالّ التي اعتبر الشرع فيها مظنّة الحكمة : لا يجب
اطّرادها بمعنى إذا وجدت وجدت الحكمة ، ولا انعكاسها ، بمعنى إذا انتفت انتفت
الحكمة ، كما يأتي .
وبما ذكر ظهر أنّه
يجوز تعليل الحكم بالحكمة إذا كانت ظاهرة بنفسها ، منضبطة ؛ وبمرتبة معيّنة منها
إذا كانت غير منضبطة ؛ لأنّا نعلم أنّها هي المقصودة واعتبر المظنّة لأجلها لمانع
خفائها واضطرابها ، وبعد زوال المانع أو إزالتها يجوز اعتبارها قطعا ، فيجوز
التعليل بها بالنصّ على قواعدنا ، وبها وبالاستنباط على قواعد العامّة.
ومنها : أن لا تكون
مجرّد محلّ الحكم ولا جزءا منه. هذا ما ذهب إليه بإطلاقه بعضهم . وقيل بجواز التعليل بهما مطلقا .
والحقّ قول ثالث ،
وهو ـ بعد التذكّر بأنّ العلّة إمّا متعدّية تتعدّى الأصل فتوجد في غيره ، أو
قاصرة لا تتعدّاه ، وأنّ الجزء إمّا مختصّ أو محمول أعمّ وهو الذي يسمّيه
المتكلّمون صفة نعتيّة ـ عدم جواز التعليل بالمحلّ ، وبالجزء المختصّ في
المتعدّية. وجواز
__________________
التعليل بالمحمول
الأعمّ فيها ، سواء كانت منصوصة ، أو مستنبطة إن صحّ التعليل بها. وعكس ذلك في
القاصرة بناء على صحّة التعليل بها.
أمّا الأوّل ،
فلاستحالة وجود خصوصيّة المحلّ وجزئه المختصّ في الفرع ، فلا يتصوّر تعدّيهما ،
بخلاف جزئه الأعمّ ؛ فإنّ تعدية وجوده في الفرع جائزة.
وأمّا الثاني ،
فلعدم المانع ؛ فإنّه لا مانع أن يقول الشارع : حرّمت الخمر لكونه خمرا ، ولا أن
تعلّل حرمة الربا في النقدين بجوهريهما ، أي بكونهما ذهبا وفضّة ، وهو نفس المحلّ
، أو بجوهريّتهما ، أي كونهما جوهرين متعيّنين لثمنيّة الأشياء ، وهو لاختصاصه
بهما وصف قاصر ، والجزء الأعمّ للزوم تعديته ووجوده في الفرع لا يجوز أن يكون علّة
قاصرة.
لا يقال : لو كان
المحلّ علّة لزم أن يكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا.
لأنّا نقول :
العلّة هنا ليست بمعنى الفاعل المؤثّر ، بل بمعنى المعرّف والباعث.
ولو سلّم ، فنقول
: الحكم ليس حالاّ في المحلّ حقيقة بل متعلّق به.
تتمّة : اختلفوا في جواز التعليل بالقاصرة وعدمه بعد اتّفاقهم
على جوازه إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها .
والحقّ الجواز إذا
صحّ التعليل بالمستنبطة ؛ وفاقا للأكثر ، وخلافا للحنفيّة .
لنا : عدم المانع
ـ كما اشير إليه ـ ووجود المقتضي ، وهو حصول الظنّ بأنّ الحكم لأجلها ،
لأنّه المفروض ، وهو المعنيّ بالصحّة بدليل صحّة النصوص عليها ؛ لأنّه لا يفيد
أزيد من الظنّ.
واستدلّ عليه أيضا
بأنّ التعدية توقّفت على العلّيّة ، فلو توقّفت هي عليها لزم الدور .
__________________
واجيب عنه بأنّ
التعدية تطلق على وجود الوصف في غير الأصل ، ووجود الحكم به في غيره ، والموقوف
على العلّيّة هو الثاني ، وما يتوقّف العلّة عليه هو الأوّل ، فلا دور. ولو سلّم ،
فهو دور معيّة كما في المتضايفين ، لا دور تقدّم ؛ لأنّ حاصله أنّ العلّيّة
والتعدية متلازمتان ، ولا ينفكّ إحداهما عن الاخرى ، لا أنّ إحداهما تثبت أوّلا
ثمّ يترتّب عليها الاخرى.
احتجّ المانع بأنّ
العلّة القاصرة لا يترتّب عليها فائدة ؛ لأنّ فائدة التعليل إثبات الحكم ، وهو غير
متصوّر في القاصرة ؛ لأنّ ثبوت الحكم في الأصل بالنصّ أو الإجماع ؛ لأنّه الفرض ،
ولا فرع بالفرض أيضا ، لتمكّن القياس ، ويتأتّى إثبات الحكم فيه .
والجواب بالنقض
والحلّ. أمّا النقض ؛ فبالقاصرة إذا ثبت بنصّ أو إجماع ؛ فإنّ هذا الدليل يجري
فيها بعينه مع جوازه وفاقا. وأمّا الحلّ ، فهو أنّ الفائدة الاطّلاع على الحكمة
والباعث.
فظهر بما ذكر أنّ
التعليل بالقاصرة جائز على قواعد الفريقين ، إلاّ أنّه
يمتنع القياس حينئذ ، ولا يصحّ التعليل بها إذا كانت مستنبطة عندنا ، لا لكونها
قاصرة ، بل لكونها مستنبطة.
ومنها : أن لا تكون عدميّة في الحكم الثبوتي ، كما ذهب إليه بعضهم ، والأكثر على خلافه.
والتفصيل هنا :
أنّه لا خلاف في تعليل الحكم الوجودي بالوجودي ، كالتحريم بالإسكار ، والعدمي
بالعدمي ، كعدم نفاذ التصرّف بعدم العقل. وأمّا تعليل الوجودي بالعدمي ، ففيه
الخلاف ، والأكثر على جوازه . وقيل بالمنع .
وأمّا عكسه ـ أي
تعليل العدمي بالوجودي ـ وهو التعليل بالمانع ، كعدم نفاذ التصرّف بالإسراف ، وعدم
صحّة البيع بالجهل بالمبيع. ولا خلاف في جوازه أيضا إلاّ أنّه اختلف في
__________________
أنّه هل يتوقّف
على وجود المقتضي ، أم لا؟ وقد وقع هذا الخلاف في تعليل العدمي بانتفاء الشرط أيضا
، كتعليل عدم صحّة البيع بعدم رؤية المبيع. فهنا مقامان :
[
المقام ] الأوّل : في تعليل الوجودي بالعدمي.
والحقّ فيه ما ذهب
إليه الأكثر ؛ لأنّا نرى أنّ العدميّات تكون مؤثّرة في بعض الأفعال
الوجوديّة ؛ فإنّ عدم امتثال العبد أمر سيّده يكون باعثا على مؤاخذته.
والجواب بأنّ
الباعث هو الكفّ عن الامتثال وهو أمر ثبوتي محقّق ، ضعيف ؛ فإنّ تأويل جميع الأعدام المقيّدة بالامور الثبوتيّة ممكن ، ففتح
هذا الباب يؤدّي إلى رفع العدميّات رأسا.
احتجّ الخصم بأنّ
العلّة يجب أن تتميّز ، والأعدام لا تتميّز.
وبأنّه لا يجب على
المجتهد سبرها ، مع أنّه يجب عليه سبر كلّ وصف يصلح أن يكون علّة.
وبأنّ العلّيّة
وجوديّة ؛ لأنّها نقيض اللاعلّيّة المحمولة على العدم ، فيمتنع اتّصاف المعدوم بها.
وبأنّه لم يسمع
أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا.
وبأنّ العدم لو
كان علّة لحكم وجودي لكان مناسبا له ، أو مظنّة مناسب ؛ لأنّ العلّة بمعنى الباعث
، فهي إمّا نفس الباعث وهو المناسب ، أو ما يشتمل عليه وهو مظنّة. واللازم باطل ؛
لأنّ العدم المطلق لا يكون مناسبا ولا مظنّة ؛ لاستواء نسبته إلى الجميع ، والعدم
المخصّص بأمر يضاف إليه هو كذلك ؛ لأنّ ثبوت الحكم مع وجود ذلك الأمر إن كان منشأ
لمصلحة ، فعدمه لا يكون مناسبا له ولا مظنّة ؛ لاستلزامه فوات تلك المصلحة ، وإن
كان منشأ لمفسدة ، فيكون هذا الأمر مانعا وعدمه عدم المانع ، وهو لا يصلح لأن يكون
علّة بمعنى الباعث أو ما يشتمل عليه ، بل لا بدّ معه من مقتض .
__________________
هذا إذا كان وجود
هذا الأمر ـ إذا ترتّب عليه الحكم ـ منشأ لمصلحة أو لمفسدة حتّى يكون عدمه في بادئ
الرأي مناسبا ، فيحتاج نفيه إلى البيان المذكور.
وإن لم يكن كذلك ،
فإمّا أن يكون وجود هذا الأمر نقيضا للمناسب حتّى يلزم أن يكون عدمه مظنّة المناسب
، أي مستلزما لوجوده ، أو لا.
فعلى الأوّل لا
يصحّ تسليم تحقّق اللازم المذكور ، أي جعل عدم نقيض المناسب مظنّة المناسب ؛ لأنّ
المناسب إن كان ظاهرا تعيّن للعلّيّة بنفسه ، ولا يحتاج إلى مظنّة ، وإن كان خفيّا
فنقيضه خفيّ ، فعدم النقيض خفيّ أيضا ، فلا يصلح أن يكون مظنّة ؛ لأنّ الخفيّ لا
يعرّف الخفيّ.
وعلى الثاني كان
وجود ذلك الأمر كعدمه بالنسبة إلى الحكم ، فالمناسب يحصل عند وجوده ، كما يحصل عند
عدمه ، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة ؛ لأنّ المفروض أنّ وجوده ليس
منشأ لمصلحة ولا لمفسدة ، فلا يكون عدمه خاصّة مظنّة للمصلحة ،
فلا يصلح أن يكون علّة.
مثاله : إذا قيل
في المرتدّ : يقتل لعدم إسلامه ، فذلك إمّا لأنّ قتله مع الإسلام يشتمل على مصلحة
، فعدمه يستلزم فواتها ، فلا يكون مناسبا. أو على مفسدة ، فغايته أنّ الإسلام مانع
حينئذ للقتل ، فعدمه ليس باعثا له ، بل لا بدّ من وجود المقتضي له ، وإن لم يشتمل
على شيء منهما ، فإمّا أن يكون الإسلام منافيا لمناسب القتل وهو الكفر مثلا ، أو
لا.
فعلى الأوّل إن
كان الكفر ظاهرا ، فهو العلّة بالحقيقة دون عدم الإسلام. وإن كان خفيّا ، فالإسلام
كذلك فعدمه أيضا كذلك ، فلا يصلح أن يكون معرّفا للكفر.
وعلى الثاني لا
يكون الكفر مناسبا ، بل المناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام وعدمه ، فهما سواء في
تحصيل المصلحة ، فلا يكون عدمه علّة.
ولا يخفى أنّ هذا
الدليل مذكور في كتب القوم بتقريرات مختلفة ، وما ذكرناه أبعدها عن الفساد ، ومع
ذلك فاسد ؛ لأنّه ـ مع عدم تماميّة ورود ما يأتي عليه ـ مختلّ النظام ؛ لأنّه جعل
وجود الأمر المذكور فيه منشأ مصلحة أو مفسدة ، أو منافيا لمناسب أو لا ، وهذه
أربعة
__________________
تقادير ، وبيّن
استحالة كون عدمه مناسبا على الأوّلين ، ومظنّة للمناسب على الأخيرين من غير ظهور
علّة للتخصيص ، مع أنّه كان اللازم أن يبيّن استحالة كونه مناسبا ومظنّة على
التقادير الأربعة. وأيضا لا تقابل بين منشأ المفسدة والمنافي للمناسب ؛ فإنّه يمكن
أن يشتمل القتل مع الإسلام على مفسدة ، مع كون الإسلام منافيا للكفر الذي هو
المناسب. فلا يصحّ جعل أحدهما قسيما للآخر ، بل ربّما قيل : لا يظهر فائدة تقييد
التقسيم إلى كون وجوده منافيا لمناسب أو لا بما إذا لم يكن
وجوده منشأ لمصلحة أو لمفسدة ، وجعله مقابلا له. ويمكن أن يقال : الفائدة في ذلك
بيان استواء وجود ذلك الأمر وعدمه في تحصيل المصلحة على التقدير الآخر ، فتأمّل . هذا.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الأعدام المخصّصة متميّزة ؛ فإنّ عدم اللازم متميّز عن عدم الملزوم.
و [ الجواب ] عن
الثاني : منع عدم لزوم الفحص عن الأوصاف العدميّة على المجتهد. ولو سلّم ، فنقول :
سقط عنه سبرها لتعذّره ؛ نظرا إلى عدم تناهيها.
و [ الجواب ] عن
الثالث : النقض بالعدمي إذا علّل به عدميّ آخر ؛ فإنّه جائز وفاقا ، مع أنّه يقتضي
عدم جوازه ، والمعارضة بأنّ العلّيّة لو كانت ثبوتيّة لكانت من عوارض العلّة ،
فتكون ممكنة مفتقرة في ثبوتها للعلّة إلى علّة ، فعلّيّة العلّة لتلك العلّة أيضا
لا بدّ لها من علّة وهكذا ، فيتسلسل.
و [ الجواب ] عن
الرابع : أنّ التعبير عن العلل العدميّة بعبارات وجودية ، وعن العلل الوجوديّة
بعبارات عدميّة واقع ؛ فإنّه لا فرق بين أن يقال : علّة قتل المرتدّ كفره أو عدم
إسلامه ، وعلّة تصرّف الوليّ في مال مولاّه الجنون أو عدم العقل ، وعلّة الإجبار
البكارة أو عدم الإصابة ، فعدم السماع من أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا
ممنوع.
و [ الجواب ] عن
الخامس : أنّا نختار أنّ ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم ـ كالإسلام في
__________________
المثال ـ ينافي
المناسب ، ولا يلزم ما ذكر من كون عدم نقيض المناسب ـ كعدم الإسلام ـ مظنّة
المناسب ؛ لجواز كونه نفس المناسب بأن يتعلّق به القتل ، ويحصل بذلك المصلحة
المقصودة وهو التزام الإسلام ، ثمّ نختار أنّ ذلك الأمر لا ينافي المناسب الوجودي
بل يجامعه ، ولا يلزم ما ذكر من استواء وجوده وعدمه في تحصيل المصلحة ، بل ترتّب
الحكم ، كالقتل على عدمه ـ أي عدم الإسلام ـ يستلزم المصلحة أي التزام الإسلام ،
وعلى وجوده لا يستلزمها ، كما لا ينافيها.
وأيضا يجوز أن
يكون الوجود منشأ لمصلحة والعدم منشأ لمصلحة أرجح ، فيكون مناسبا أو مظنّة ، وأن
يكون أحد المتقابلين خفيّا دون الآخر. وإنّما يمتنع ذلك في التقابل ، وأن يشتمل
عدم المانع على مصلحة فيكون علّة. وأنّ ظهور المناسب لا ينافي أن يكون عدم المنافي
مظنّة ، غايته أنّه اجتماع العلّتين. هذا.
وعندنا لمّا كان
الحجّة العلّة المنصوصة ، فكلّ ما نصّ عليه يصحّ أن يكون علّة ، سواء كان وصفا
عدميّا أو ثبوتيّا.
تتمّة : الإضافات المخصوصة عدميّة ؛ لأنّها مركّبة من مطلق
الإضافة ومن قيد الخصوصيّة ، وكلاهما عدميّان.
أمّا الأوّل ؛
فلأنّه لو كان ثبوتيا ، لزم التسلسل في الإضافات.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه صفة للإضافة ، فلو كان ثبوتيّا ، لزم قيام الموجود بالمعدوم. وإذا ثبت ذلك
فمن منع التعليل بالامور العدميّة ، منع من التعليل بالامور الإضافيّة ، ومن سوّغ
هناك ، سوّغ هنا.
المقام
الثاني : في أنّ تعليل الحكم العدميّ بوجود المانع أو انتفاء الشرط ، هل يتوقّف على
وجود ما يقتضي ثبوت الحكم ، أم لا؟
__________________
الحقّ عدم التوقّف
؛ لأنّهما إذا أثّرا في عدم الحكم مع وجود المقتضي للحكم ، فتأثيرهما فيه بدونه
أولى ؛ لعدم المعارض.
احتجّ الخصم بأنّه
إذا لم يوجد مقتض ، فعدم الحكم لذلك ، لا لوجود المانع ، أو انتفاء الشرط ، وبأنّ
التعليل المذكور يتوقّف على وجود المقتضي عرفا ؛ فإنّ من قال : الطير لا يطير ؛
لأنّه في القفص ، كان تعليله موقوفا على العلم بحياة الطير وقدرته ؛ إذ بدونه لا
يصحّ التعليل بالقفص .
والجواب عن الأوّل
: أنّ إسناده إلى عدم المقتضي لا يمنع من إسناده إلى وجود المانع ، أو انتفاء
الشرط ؛ فإنّه يجوز أن يكون لحكم أدلّة متعدّدة.
و [ الجواب ] عن
الثاني : منع التوقّف عرفا ؛ فإنّ العرف يمنع الحضور إلى سبع مرئيّ في الطريق وإن
لم يخطر ببالهم سلامة أعضائه.
ومنها : أن لا تتأخّر عن حكم الأصل ، كتعليل إثبات الولاية للأب
على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون ؛ فإنّ الولاية ثابتة قبل عروض الجنون ،
وكتعليل نجاسة عرق الكلب باستقذاره ؛ فإنّ الاستقذار إنّما يحصل بعد الحكم
بنجاسته.
واحتجّوا عليه
بأنّ العلّة إمّا بمعنى الباعث ، ويلزم من تأخّرها ثبوت الحكم بغير باعث ، أو
بباعث غير العلّة المتأخّرة. أو بمعنى الأمارة ـ أي المعرّف ـ فيلزم تعريف المعرّف
؛ لأنّ المفروض معرفة الحكم قبل ثبوت العلّة .
وفيه نظر ؛ لجواز
أن تكون بمعنى الباعث ومتأخّرة في الوجود ، كما هو شأن الغاية ، وبمعنى الباعث
ومعرّفة في الفرع ، وما عرّف بالنصّ هو الحكم في الأصل. فالحقّ جواز كون العلّة
متأخّرة.
__________________
ومنها : أن لا تعود على الأصل بالإبطال ، أي لا يلزم منها إبطال
الحكم المعلّل بها. وإنّما يتصوّر ذلك في حكم ثبت من الشرع من غير نصّ على علّته ،
واستنبطت له علّة يلزم منها إبطال هذا الحكم ، فهذا الشرط يختصّ بالعلّة المستنبطة
، فهو يتأتّى عند العامّة لا عندنا. مثاله قال عليهالسلام : « في أربعين شاة شاة » . وعلّلوه بدفع حاجة الفقراء ، فجوّزوا قيمتها ، فيرجع هذا
التعليل إلى عدم وجوب الشاة وهو إبطال للحكم ، فهو باطل .
قيل : فيه نظر ؛
لأنّه يرجع إلى الوجوب التخييري ، فلا يلزم إبطال الوجوب مطلقا .
وهو كما ترى.
واحتجّوا عليه
بأنّ الحكم أصل التعليل ؛ لأنّه فرع ثبوته ، وبطلان الأصل يوجب بطلان الفرع ، فلا
يجتمع صحّته مع بطلانه ، فكلّ علّة استنبطت من حكم ولزم منه بطلان ذلك
الحكم فهو باطل .
وممّا يتفرّع عليه
عدم جواز الحطّ عن المكاتب عندهم بدلا عن الإيتاء بالمأمور به في قوله تعالى : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ ) ، مع أنّهم جعلوا
علّة الإيتاء بالاستنباط الرفق ، وهو في الحطّ أكثر من الإعطاء ، ثمّ الردّ ؛ لأنّ هذا التعليل أفضى إلى عدم وجوب إعطاء مال الله مع كونه مأمورا [ به ] ، وهو عندنا واجب مع حاجة المكاتب ، ووجوب حقّ كالزكاة على المولى ، وإلاّ
فمستحبّ.
__________________
ومنها : أن لا تخالف نصّا أو إجماعا أو دليلا آخر راجحا عليه . وهذا ظاهر.
ومنها : أن لا يعارض المستنبطة في الأصل مستنبطة اخرى تقتضي نقيض
حكمها ، وكانت راجحة عليها ، أو مساوية ممتنعة التخصيص. فمع رجحان الاخرى يصحّ
التعليل بها دون الاولى ، ومع التساوي لا يصحّ التعليل بشيء منهما .
وقيل : يشترط في
صحّة القياس أن لا يعارضها علّة اخرى في الفرع أيضا ؛ فإنّه لو استنبطت في الفرع
علّة اخرى راجحة أو مساوية تقتضي خلاف حكمها بالقياس إلى أصل آخر ، لأبطلت حكم
الاولى.
واجيب بأنّه غير
مستقيم ؛ لأنّه لا يبطل شهادتها.
وقيل : المعارضة
الراجحة تبطل حكمها دون المساوية ؛ لأنّها لا تبطل حكمها ، وإنّما يحوج إلى
الترجيح وهو دليل الصحّة ، فالشرط أن لا يعارضها في الفرع اخرى راجحة عليها.
والتأمّل يعطي عدم
الفرق في ذلك بين الأصل والفرع ، ثمّ تخصيص هذا الشرط
بالمستنبطة ، لأنّ العلّيّة في المنصوصة لا تنتقل إلى الاخرى ، ولا إلى المجموع
وفاقا ، بل المناط ما نصّ عليه.
ومنها : أن لا يكون دليلها متناولا لحكم الفرع بعمومه أو بخصوصه .
مثال الأوّل : ما
يقال : الذّرة ربويّة ؛ قياسا على البرّ بجامع الطعم ، فيبطل القياس بأنّ قوله عليهالسلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » دلّ على ربويّة
كلّ ما له طعم ؛ لأنّ ترتيب الحكم على
__________________
الوصف يفيد
علّيّته له ، فهو يتناول بعمومه الذّرة.
ومنه ما يقال :
النبّاش يقطع ؛ لأنّه سارق كالسارق من الحيّ ، فيبطل بأنّ الله تعالى رتّب القطع
على السرقة بفاء التعقيب في قوله : ( وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ ) ، فدلّ على أنّه المقتضي للقطع ، وهو يقتضي ثبوت الحكم في الفرع بالنصّ ؛
لأنّ ثبوت العلّة بعد ثبوت الحكم .
ومثال الثاني ما
يقال : القيء ينقض الوضوء ؛ قياسا على الخارج من السبيلين بجامع الخروج والنجاسة ،
فيبطل بأنّ قوله عليهالسلام : « من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضّأ » دلّ على أنّ خروج القيء بخصوصه علّة لنقض الوضوء .
واستدلّوا عليه
بأنّه إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بالنصّ ، كما يمكن إثباته به في الأصل ،
فالعدول إلى القياس المحوج إلى أعمال متعدّدة تطويل بلا فائدة.
والحقّ أنّ ذلك
مغالطة ؛ لأنّ إثبات الحكم في الفرع بالقياس طريق ، كما أنّ إثباته فيه بالنصّ
طريق آخر ، ووجود الطرق المتعدّدة غير عزيز ، مع أنّه يمكن أن يكون دلالة النصّ
على العلّيّة أظهر في نظر المستدلّ من دلالته على العموم ، وأن يكون العامّ في
نظره مخصّصا. وغير ذلك من الوجوه المرجّحة للاستدلال بالقياس. فما يتناوله الدليل
الدالّ على العلّيّة بعمومه أو خصوصه ، يصحّ الاستدلال عليه بمطلق القياس أيضا عند
القائسين ، وبالذي نراه حجّة عندنا.
اعلم أنّ هذا
الشرط يتصوّر في المنصوصة ، والإيمائيّة ، والمستنبطة. أمّا في الاوليين ، فظاهر.
وأمّا في الأخيرة ؛ فلأنّه إذا قدّر أنّ قوله عليهالسلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » لا يدلّ على العلّيّة واستنبطت علّيّة الطعم ، يكون حكمه في تناوله للذّرة
كما إذا دلّ على العلّيّة. وكون العلّة استنباطيّة لا يدفع مماثلته بالعامّ
المتناولة للفرع. وعلى هذا يلزم أن يكون من شروطها عندهم أن لا يتناول حكم الفرع
دليل بعمومه أو بخصوصه وإن لم يدلّ على العلّيّة. والتحقيق فيه أيضا ما ذكر.
__________________
ومنها : القطع بوجودها في الفرع.
والحقّ ، أنّه غير
لازم عند العامّة لا في المنصوصة في الأصل ، ولا في المستنبطة ؛ لأنّهم يكتفون
بالظنّ . وأمّا عندنا ، فلازم في المنصوصة التي نراها حجّة . وأمّا المستنبطة فهي باطلة عندنا من أصلها ، فلا معنى لتقييد صحّتها بشرط.
ومنها : أن يكون دليلها شرعيّا ، وإلاّ لم يكن القياس شرعيّا حيث لم يثبت بالشرع. وهذا ظاهر.
ومنها : أن لا يتضمّن المستنبطة زيادة على ما أثبته النصّ أي حكما في الأصل غير ما أثبته النصّ ؛ لأنّها إنّما تعلم من الحكم الذي اثبت
في الأصل ، فلو اثبت بها حكم في الأصل لزم الدور ، بخلاف المنصوصة ؛ فإنّها تعلم
بالنصّ. مثلا إذا علّل حرمة بيع الطعام بالطعام متفاضلا بأنّه ربا فيما يوزن ،
يلزم اشتراط التقابض ، وهو زيادة على النصّ ؛ لعدم تعرّضه له.
وبعضهم اشترط عدم
الزيادة المنافية لحكم الأصل دون غيرها .
والتحقيق على
قواعدهم اشتراط عدمها مطلقا.
ومنها : أن لا تكون وصفا مقدّرا ، كما ذهب إليه جماعة . والفقهاء على أنّ التعليل بالأوصاف المقدّرة جائز ، بل واقع ، كتعليل حدوث الملك بالصيغة ، وهي مركّبة من حروف متتالية لا يوجد
أحدها مع الآخر ، فليس لها وجود حقيقي ، مع أنّ وجود العلّة بأيّ
__________________
معنى كان واجب عند
حدوث المعلول ، ولها وجود تقديري ، بمعنى أنّ الشرع قدّر بقاءها إلى وقت حدوث
الملك ، وهو عند حدوث الحرف الأخير من الصيغة.
وغير خفيّ أنّ
تصفّح جزئيّات المسائل يقوّي مذهب الفقهاء ، وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة ما
يصلح مثالا له ، ولا ضير فيه ؛ لأنّ أصل الوجود غير لازم للعلل الشرعيّة ـ كما
عرفت ـ فضلا عن الوجود الحقيقي.
ومنها : عدم عروض بعض مبطلات العلّيّة لها ، وهي سبعة :
[
المبطل ] الأوّل : النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم ، ولا ريب في إبطاله لاطّرادها ـ أي كونها
بحيث كلّما وجدت وجد الحكم ـ فإن كان قادحا في العلّيّة ، فالاطّراد من شروطها ،
وإلاّ فلا.
وقد اختلف في قدحه
وعدم قدحه لها على أقوال ، ثالثها : أنّه يقدح في المستنبطة دون المنصوصة . رابعها : عكسه . وخامسها : أنّه لا يقدح حيث التخلّف لمانع أو انتفاء شرط
، ويقدح حيث التخلّف بدونهما .
والحقّ أنّه لا
يقدح في المنصوصة مطلقا ، ويقدح في المستنبطة إلاّ إذا كان التخلّف لمانع أو
انتفاء شرط.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ المنصوصة ليست بقاطعة لا في محلّ النقض ولا في غيره ، وإلاّ لم يثبت التخلّف
ولا التعارض ؛ لتغاير المحلّين ، أو عدم التعارض بين القطعيّين ، والقطعيّ
والظنّيّ ، فهي ظاهرة عامّة فيهما ، فيثبت العلّيّة
فيهما بظاهر عامّ ، فجاز تخصيصها بغير صورة
__________________
النقض ؛ لأنّ كلّ
دليل عامّ يجوز تخصيصه ، سواء كان المخصّص هو العلّة ، أو حكما آخر. وهذا لا يبطل
حجّيّته فيما سواه ، وأمثلته كثيرة ، كمسألة العرايا ، وعدم نقض الحجامة للوضوء ؛ مع أنّ كلّ خارج نجس علّة للنقض ، وضرب الدية
على العاقلة ؛ مع أنّ مباشرة الجناية علّة للغرامة على المباشر ، وعدم مباشرتها
علّة لعدمها ، وإيجاب صاع من التمر في لبن المصرّاة ؛ مع أنّ تماثل الأجزاء علّة لإيجاب المثل ، وعدم إخراب بعض من شاقّ الله
بيته ؛ مع أنّه تعالى جعل المشاقّة علّة لإخراب البيت في قوله : (
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ... ) ، وقس عليها أمثالها.
ويتفرّع على ما
ذكر عدم بطلان علّيّة الجميع فيما سوى مادّة النقض ، ولولاه
لبطل العامّ المخصوص مطلقا ؛ لعدم تعقّل المفرق بين الحكم المخصّص والعلّة المخصّصة ، وبطلت العلل القاطعة ، كعلّة القصاص
وهو القتل العدوان ، وعلّة الجلد وهو الزنى ، وعلّة القطع وهو السرقة ، وعلّة حرمة
الأكل وهو الميتة ؛ للتخلّف في الوالد ، والمحصن ، ومال الابن والغريم ، والمضطرّ.
ولزم إبطال أحد الدليلين : دليل الاعتبار ، ودليل الإهدار. والجمع بينهما أصوب.
ثمّ إنّا نعلم
إجمالا أنّ التخلّف في العامّ مطلقا لمانع ، أو انتفاء شرطه في الواقع إلاّ أنّا
لا نعلمه بعينه.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ التخلّف في المستنبطة ـ على فرض صحّتها ـ إذا لم يكن لمانع أو انتفاء شرط ،
فهو لعدم المقتضي ؛ لعدم تعقّل التخصيص فيها ، فهي ليست مقتضية ، فلا تكون علّة.
بخلاف ما لو كان بهما ؛ فإنّه لا يبطل علّيّتها ؛ لأنّها مقتضية حينئذ إلاّ أنّ
عدم تأثيرها
__________________
في صورة النقض
لعدم شرطه ـ أي رفع المانع ووجود الشرط ـ وهما ليسا جزءي العلّة ، فلا يبطل
العلّيّة بارتفاعهما.
ثمّ التخلّف في
المستنبطة إنّما يعلم بنصّ أو إجماع ، كما إذا قال الشافعي : الوضوء طهارة حكميّة
فيشترط فيه النيّة ، فينتقض بإزالة النجاسة ؛ لأنّها طهارة حكميّة ولا تعتبر فيه
النيّة إجماعا . هذا.
ولكلّ واحد من
أصحاب المذاهب الخمسة حجج ضعيفة تعلم اندفاعها بعد الاضطلاع بما تلوناه عليك من
الحقّ الصريح ، من غير حاجة إلى التصريح.
وعلى ما اخترناه
فالجواب عن النقض على نوعين :
أحدهما : ما يمنع
تحقّقه. وثانيهما : ما يبيّن عدم إفساده للعلّيّة بعد تسليم تحقّقه.
أمّا الأوّل ،
فعلى قسمين :
أوّلهما : منع
وجود الوصف في صورة النقض ، وهو وارد وفاقا ، كما لو قال : لا زكاة في الحليّ ؛
لأنّه مال غير نام ، كثياب البذلة. فيقول المعترض : ينتقض بالحليّ المحظور ؛ لوجوب
الزكاة فيه مع أنّه غير نام أيضا. فيقول المستدلّ : لا نسلّم أنّه غير نام.
ومنه ما لو قال
الشافعي في جواب الناقض في مسألة الطهارة : لا نسلّم أنّ إزالة النجاسة طهارة
حكمية. وهل للمعترض ـ حينئذ أو ابتداء ـ إقامة الدليل على وجوده؟
قيل : نعم ، إذ به
يتحقّق انتقاض العلّة ، وهو قد انتصب لذلك ، فيجوز له أن يبيّن ما يتمّ به إبطال
دليل الخصم .
وقيل : لا ، لأنّه
انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ، ومن مسألة إلى اخرى قبل أن يتمّ الاستدلال
عليها ؛ فإنّ المستدلّ كان بصدد إثبات الحكم في الفرع ، وحينئذ يكون بصدد إثبات
عدم وجود الوصف في صورة النقض .
وقيل : إن لم يكن
وجود الوصف في صورة النقض حكما شرعيّا ، فنعم ؛ لأنّه يكون
__________________
تتميما لدليله لا
انتقالا إلى مطلوب آخر ، وإلاّ فلا ؛ لكونه انتقالا .
وقيل : إن كان له
طريق أولى في القدح ، فلا ، وإلاّ فنعم ؛ لأنّ الانتقال وغصب المنصب إنّما ينفيان
الاستحسان ، فإذا وجد الأحسن لا يرتكبهما ، وإلاّ فلا منع .
والحقّ الأوّل ؛
لما ذكر. وما ذكر حجّة لباقي الأقوال لا يصلح لإثبات شيء.
وبهذا يظهر أنّ
المستدلّ لو كان قد دلّ على وجود العلّة في محلّ التعليل بدليل موجود في محلّ
النقض ، ونقض المعترض العلّة ، فمنع المستدلّ وجودها في محلّ النقض ، فقال المعترض
: ما دللت به على وجودها ثمّة دلّ عليه هنا ، فينتقض دليلك ؛ لوجوده في محلّ النقض
بدون مدلوله وهو وجود العلّة ، يسمع هذا من المعترض ؛
لأنّ النقض في دليل العلّة نقض في العلّة ، وهو مقصوده. وما اشتهر بين الجدليّين
من أنّه لا يسمع منه لأنّه انتقال من قدح العلّة إلى قدح دليلها ، غير صحيح ؛ لأنّ الانتقال إذا توقّف المطلوب عليه لا منع فيه.
مثاله : إذا قال :
من لم يبيّت صحّ صومه ؛ لأنّه أتى ما يسمّى صوما ، ودلّ على وجود الصوم بأنّه
الإمساك مع النيّة وهو موجود. فانتقض المعترض بما لو نوى بعد الزوال. فقال
المستدلّ : إنّه ليس بصوم. فقال المعترض : ما دللت به على وجود الصوم في محلّ
التعليل ـ وهو ثبوت الإمساك مع النيّة في جزء من النهار ـ موجود في مادّة النقض.
والخلاف إنّما إذا ادّعى انتقاض دليل العلّة بعينه. أمّا لو قال : يلزم إمّا
انتقاض العلّة أو دليلها ، وعلى التقديرين لا يثبت العلّيّة ، لسمع وفاقا ؛ لعدم
الانتقال حينئذ.
تذنيب
قد يمكن للمستدلّ
أن يذكر في استدلاله قيدا يخرج به محلّ النقض ، وهو قد يكون ظاهرا ، كما إذا قال :
الوضوء طهارة عن حدث ، فيفتقر إلى النيّة كالتيمّم ، فلا يرد النقض بإزالة
النجاسة.
__________________
وقد يكون خفيّا ،
كما إذا قال : السلم عقد معاوضة ، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع ، فلا ينتقض
بالكتابة ؛ لأنّها ليست معاوضة ، بل عقد إرفاق.
وقد يكون مقولا
على معان بالتواطؤ ، أو الاشتراك ، لا يرد النقض ببعضها ويرد ببعضها الآخر. فيمكن
للمستدلّ أن يقول : أردت ما لا يرد به النقض.
مثال الأوّل : كما
إذا قال : الوضوء عبادة متكرّرة فيفتقر إلى النيّة كالصلاة. فلو قال المعترض :
ينتقض بالحجّ ؛ فإنّه متكرّر على زيد وعمر . فللمستدلّ أن
يقول : أردت بالمتكرّر المتكرّر في الأزمان ، لا في الأشخاص.
ومثال الثاني : كما إذا قال : طلّقها ثلاثا في قرء واحد ، فلا يكون مبتدعا ، كما لو طلّقها
ثلاثا برجعتين في قرء واحد. فلو قال المعترض : ينتقض بما لو طلّقها في الحيض. فللمستدلّ
أن يقول : أردت بالقرء الطهر.
ثمّ القيد الذي
يندفع به النقض إنّما هو الذي كان وصفا مناسبا. وحينئذ يكون علّة مستقلّة للحكم.
ولو كان وصفا طرديّا فالحقّ أنّه لا يندفع به النقض ؛ لأنّ غاية ما في الباب أن
يكون جزء العلّة ، فإذا انتقض أحد أجزائها وبيّن عدم تأثيره ، فلا يكون المجموع
مؤثّرا. هذا.
والحقّ أنّ ذكر
القيد المذكور لا يلزم على المستدلّ في متن استدلاله ، خلافا لجماعة .
لنا : أنّه وفى
بما سئل عنه وهو دليل العلّيّة ، والنقض معارضة في الحقيقة ، ونفي المعارض ليس
جزءا للدليل.
وأيضا يمكن إيراده
ـ وإن ذكره ـ بأن يقول المعترض : هذا وصف طردي والباقي منتقض.
وثانيهما : منع عدم الحكم في صورة النقض ، كما إذا قال في الثيّب الصغيرة : ثيّب فلا
يجوز إجبارها ، كالثيّب البالغة ، فقال المعترض : ينتقض بالثيّب المجنونة ؛ فإنّه
يجوز
__________________
إجبارها ، فيمنع
المستدلّ جواز إجبارها ، وهو وارد وفاقا. وهل يجوز للمعترض أن يدلّ على عدم الحكم؟
البحث فيه كما تقدّم في القسم الأوّل خلافا ودليلا
واختيارا.
وأمّا النوع
الثاني ، فعلى ثلاثة أقسام :
الأوّل : إظهار
المانع ـ أي بيان وجود معارض يقتضي خلاف الحكم ـ كما إذا قيل :
الربا يثبت في الحديد لكونه موزونا ، فينتقض بالرصاص ، فقيل : المانع البياض.
الثاني : بيان انتفاء
الشرط ، كما قيل في المثال : الشرط السواد ، وهو منتف في محلّ النقض ، وهما في
المستنبطة.
الثالث : بيان
الاستثناء ـ أي تخصيصه بغير محلّ النقض ـ وهو في المنصوصة ، كما في مسألة العرايا
وباقي الأمثلة المتقدّمة .
وقد أشرنا إلى أنّ
التخصيص أيضا معلّل في الواقع بوجود مانع من مصلحة ، كما في العرايا وضرب الدية
على العاقلة. أو دفع مفسدة ، كما في حلّ الميتة للمضطرّ. أو بانتفاء شرط ، كما إذا
قيل : يحصل الملك في زمان الخيار لحصول سببه وهو البيع ، فينتقض ببيع الموقوف ، فيقال : هو مستثنى ؛ لانتفاء الشرط. ولمّا لم يكن المانع أو الشرط معلوما
لنا بعينه ، فيلزم أن يقدّر بأن يقال : المصلحة في العرايا ـ مثلا ـ عموم الحاجة
إلى الرطب والتمر وقد لا يكون عندهم ثمن آخر ، وفي ضرب الدية على العاقلة كون
أوليائه يغنمون بكونه مقتولا ؛ لأنّ شرع الدية لمصلحتهم ، فليغرموا بكونه قاتلا ،
ودفع المفسدة في أكل الميتة للمضطرّ هو رفع هلاك النفس ، والشرط المنفيّ في عدم
جواز بيع الموقوف كون البائع مالكا للمبيع.
فائدة : كلّ إثبات ونفي عامّين ينتقضان بدعوى النفي عن صورة
معيّنة أو مبهمة ، والإثبات فيهما ، وبالعكس.
__________________
والجواب : بيان
ثبوت التخصيص .
[
المبطل ] الثاني : عدم العكس وهو أن لا يكون العلّة منعكسة ـ أي كلّما عدمت عدم الحكم ـ بل يثبت الحكم في صورة أو أكثر بدون هذه العلّة ،
مثاله : الصبح لا يقصر ؛ فلا يقدّم أذانه كالمغرب ؛ فإنّ الحكم ـ وهو منع التقديم
ـ ثابت فيما يقصر.
وقد اختلف في قدحه
للعلّيّة وعدمه على أقوال ، ثالثها : أنّه يقدح في العلل
العقليّة دون الشرعيّة .
والحقّ أنّه إن
جاز تعليل الحكم بعلّتين مختلفتين أو أكثر لم يقدح فيها ؛ لأنّ انتفاء العلّة وعدم
انتفاء الحكم حينئذ لقيام علّة اخرى مقامها ، وإن لم يجز قدح فيها ؛ لأنّ ثبوت
الحكم دون هذه العلّة مع عدم جواز تعليله بعلّتين يدلّ على أنّها ليست علّة له ،
بل له علّة واحدة اخرى ؛ إذ لو كانت الاولى علّة له ، انتفى أصله بانتفاء علّته
عند المصوّبة ؛ إذ كلّ حكم لم يدلّ عليه الدليل ولم يتعلّق به رأي المجتهد ، فليس
له ثبوت في الواقع عندهم ، وانتفى العلم أو الظنّ به عند المخطّئة ؛ إذ لا يلزم
عندهم من انتفاء دليل الحكم انتفاء أصله ، كما لا يلزم من انتفاء الدلالة العقليّة
على الشيء انتفاؤه ، فيمكن عندهم أن لا يوجد الدلالة على حكم وكان ثابتا في الواقع
، إلاّ أنّه لا يقع به التكليف ؛ لاشتراطه بالعلم أو الظنّ والفرض انتفاؤهما
حينئذ.
والتحقيق أنّ
العلّة لمّا كانت الدليل الباعث على الحكم ، فتكون ملزومة له وهو لازما لها ، فلو
لم يجز تعليله بعلّتين وكانت العلّة واحدة ، يكون الحكم لازما مساويا لها ، فينتفي
نفسه بانتفائها وإن لم يلزم انتفاء المدلول بانتفاء العلّة على الإطلاق ، فوجوده
بدونها يكشف عن القدح في علّيّتها.
فإن قيل : لا قدح
؛ لجواز التخصيص حينئذ ، فإنّ كلّ واحد من العلّة في العلّيّة والحكم
__________________
في المعلوليّة
يكون حينئذ بظاهر عامّ ، فيتأتّى التخصيص من طرف كلّ منهما ، فكما يجوز تخصيص
العلّة بغير محلّ النقض ، فكذا يجوز تخصيص الحكم بغير محلّ عدم العكس.
قلت : هذا حقّ ،
ولكنّ معنى تخصيص الحكم العامّ أن يجعل العلّة علّة لبعض أفراده دون بعضها الآخر ،
وهذا البعض لا بدّ له من علّة اخرى ، فهو يتوقّف على جواز تعليله بعلّتين ، وبدونه
لا يجوز ؛ للزوم ثبوت الحكم بدون علّة.
وبما ذكر ظهر أنّ
الجواب عن عدم العكس إمّا بيان جواز تعليل الحكم بعلّتين وإسناد ما في محلّ عدم
العكس إلى علّة اخرى ، أو بيان التخصيص في الحكم وإن لم ينفكّ هذا عن الأوّل ، كما
أنّ تخصيص العلّة لا ينفكّ عن وجود مانع ، أو انتفاء شرط وهو إنّما يتأتّى في المنصوصة ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم في النقض.
وقد بان ممّا ذكر
أنّ استناد الحكم هنا إلى علّة اخرى قائم مقام وجود المانع ؛ أو انتفاء الشرط في
النقض.
بقي الكلام في جواز تعليل الحكم بعلّتين أو علل عقلا
وقد اختلف فيه على
أقوال : ثالثها الجواز في المنصوصة دون المستنبطة ، ورابعها عكسه .
ثمّ بعد الجواز قد
اختلف في الوقوع ، فالأكثر عليه أيضا. وقيل بعدمه .
ومحلّ الخلاف
تعليل الحكم الواحد بالشخص ـ أي متّحد المحلّ ـ بعلّتين أو علل
، كلّ
__________________
واحدة منهما أو
منها مستقلّة باقتضاء الحكم ، كإباحة وطء امرأة بعينها بالعقد والملك مع استقلال
كلّ منهما بالعلّيّة ، ووجوب قتل شخص بعينه بالردّة والقصاص كذلك.
دون تعليل الواحد
بالنوع ـ أي متغاير المحلّ ـ بهما كإباحة وطء امرأة بالعقد ، واخرى بالملك ؛ فإنّه
جائز وفاقا ، ولا تعليل واحد منهما بعلّتين ، أو علل
يتركّب عنهما أو عنها مجموع هو العلّة ، وكلّ واحدة منهما أو منها جزؤها ، فإنّه
بحث آخر يأتي ذكره .
والمختار عند أكثر
أصحابنا الجواز والوقوع في المنصوصة دون المستنبطة .
والحقّ عندي أنّه
يجوز فيهما ، إلاّ أنّه في المستنبطة على التسليم ، ولم يقع إلاّ في المنصوصة.
فهنا ثلاث مقامات
:
[ المقام ] الأوّل : في الجواز فيهما
ويدلّ عليه أنّ
العلّة إمّا معرّفة أو باعثة ، وعلى التقديرين لا مانع منه.
أمّا على الأوّل ،
فلأنّه يجوز أن ينصب الشرع أمارتين أو أمارات لحكم واحد لا يناسبه شيء منهما أو
منها ولا يؤثّره فيه ، ولكن كلّ منهما أو منها يصلح لتعريفه.
وأمّا على الثاني
، فلأنّ الباعث ليس إلاّ المؤثّر في الحكم باشتماله على جهة الحكم المناسبة له ،
ويجوز أن يشترك علل مختلفة في جهة واحدة مناسبة لحكم واحد ، فكلّ منها يناسبه
ويؤثّر فيه بهذه الجهة.
وبهذا يندفع ما
احتجّ به المانعون من أنّه يوجب مناسبة الأشياء المختلفة لشيء واحد ، وهو محال .
__________________
فإن قلت : على ما
ذكرت يلزم جواز توارد العلل المستقلّة العقليّة على معلول واحد شخصي ، وقد بيّن في
الحكمة بطلانه .
قلت : العلل
العقليّة علل بالذات ، بمعنى أنّ ذات كلّ واحدة منها من حيث هي ـ من غير مدخليّة
وجوه المصالح والاعتبارات ـ يستلزم معلولها استلزاما ذاتيّا ، فلا يكون علّيّتها
لجهة مصلحة حتّى أمكن أن يشترك فيها عدّة منها ، أو تختصّ بمحالّ دون اخرى لأمر لا
يدرك ، وتتغيّر بتغيّر المحالّ ، فيصحّ تعليل شيء واحد بها ، أو يجوز تخلّف
المعلول في بعض المحالّ عنها.
والعلل الشرعيّة
علل بالوضع ، فيصحّ أن يكون علّيّتها لوجه حكمة ، فيمكن أن يشترك فيه عدّة
منها ، ويختصّ بمحالّ دون اخرى ، فيجوز تعليل حكم واحد بها وتخلّف المعلول عنها في
بعضها.
نعم ، يمكن أن
يشترك عدّة من العلل العقليّة المركّبة في أمر ذاتي أو عرضي ، وهو علّة مستقلّة
لشيء ، فيصحّ تعليله بها وكون كلّ واحدة منها علّة له بهذه الجهة ، ولم يبيّن في
الحكمة بطلان هذا القسم.
فإن قلت : فالعلّة
حينئذ واحدة في الحقيقة ؛ لاستناد الحكم فيها بالحقيقة إلى ما به الاشتراك ، وهو
واحد.
قلت : الأمر وإن
كان كذلك إلاّ أنّ الشرع والعرف لمّا أطلقا العلّيّة عليها دون ما به الاشتراك ،
فجرينا على إطلاقهما ، فلا معنى لتعدّد العلل هنا إلاّ
ذلك ، وغيره لا يجوّزه ؛ ومنع التسمية يجعل النزاع لفظيّا.
[ المقام ] الثاني : في وقوعه في المنصوصة
ويدلّ عليه جعل
الشارع كلّ واحدة من الردّة والقصاص علّة مستقلّة لقتل شخص
__________________
واحد ، وكلّ واحد
من أسباب الوضوء علّة مستقلّة له ، وكلّ واحد من الإيلاء والظهار علّة مستقلّة
لتحريم امرأة واحدة ، وكلّ واحد من الصغر والجنون علّة كذلك لثبوت الولاية لشخص
واحد. وغير ذلك ، كتحريم امرأة واحدة بالاعتداد ، والحيض ، وبالإرضاع ، وكونها
والدة. ونظائرها كثيرة منتشرة في مصنّفات الفقه . ولا ريب أنّ الحكم فيها واحد بالشخص ؛ لاتّحاد محلّه ، وكلّ واحدة من العلل
علّة مستقلّة له ؛ لثبوت الحكم به ، وهو معنى
الاستقلال.
والإيراد بأنّا لا
نسلّم كون الحكم فيها واحدا بالشخص مع أنّه هو المبحث ؛ لأنّ القتل بالردّة ـ مثلا
ـ غير القتل بالقصاص ؛ فإنّ أحدهما قد يبقى وينتفي الآخر ، وبالعكس ، كما يبقى القتل بالردّة ، وينتفي القتل بالقصاص بالعفو ، وبالعكس بالتوبة ،
وتغاير علّة العدم يستلزم تغاير علّة الوجود ، واه ؛ لأنّ أمثال هذه الاعتبارات لا توجب تعدّد الحكم المتّحد المحلّ. كيف؟! ولو
تعدّد بها ، لتعدّد بإضافته إلى الأدلّة المختلفة ؛ لأنّ ما به الاختلاف فيما ذكر
ليس إلاّ ذلك ، مع أنّ إضافته إلى أحد الدليلين تارة وإلى الآخر اخرى لا توجب
التعدّد ، وإلاّ لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط ، وجاز أن ينتفي أحدهما ويبقى
الآخر.
وبالجملة ، فتح
هذا الباب يؤدّي إلى اختلاف الأحكام بصرير الباب ونعيق الغراب.
[ المقام ] الثالث : في عدم وقوعه في المستنبطة
وهو ظاهر ؛ لأنّ
المراد من الوقوع وقوعه من الشرع لا من أهل الاجتهاد ، وإذا وقع منه ، يكون من
التعليل في المنصوصة. هذا.
واحتجّ المانعون
بأنّ المبحث توارد العلل المستقلّة على محلّ واحد ، وهو لا يتصوّر
__________________
هنا ؛ لأنّها إمّا
تقع بالترتيب مع حدوث الثانية بعد حصول الحكم بالاولى وزواله عن المحلّ ، كأن يحدث
النوم بعد حدوث الحدث بالبول وزواله عن المحلّ ، فيتعدّد الحكم ؛ لأنّ الحادث غير
الزائل ، أو قبل زواله عنه ، فيحصل الحكم بالاولى.
أو تقع دفعة ،
فيحصل الحكم بالمجموع ، بأن يكون كلّ منها جزءا ، أو بواحد مبهم أو معيّن على سبيل التحكّم أو الترجيح ، بأن يكون بعض منها أولى بالعلّيّة ، كما يقال :
التعليل بالقصاص أولى من التعليل بالردّة عند اجتماعهما ؛ لتقدّم حقّ الآدميّ على
حقّ الله.
ولا يمكن أن يحصل
الحكم بكلّ واحدة منها على الاستقلال على التقديرين الأخيرين و .
أمّا أوّلا :
فللزوم التناقض من وجهين :
أحدهما : لزوم
الاستقلال وعدمه ؛ لأنّ معنى استقلال العلّة ثبوت الحكم بها دون غيرها ، والفرض أنّه يثبت بغيرها دونها ؛ لاستقلاله أيضا.
وثانيهما : لزوم
ثبوت الحكم بكلّ منها وعدمه ؛ إذ استقلال كلّ منها يوجب ثبوت الحكم به بدون الآخر
، فيثبت الحكم بكلّ ولا يثبت به.
وأمّا ثانيا :
فللزوم اجتماع الأمثال في محلّ واحد ، أو نقض العلّة ، أو اتّحاد الاثنين ؛ لأنّ
كلّ واحدة منها إن أوجب مثل ما يوجبه الآخر لزم الأوّل ، وإن أوجب خلافه أو لم
يوجب شيئا لزم الثاني ؛ لوجود العلّة دون الحكم ، وإن أوجب ما يوجبه الآخر بعينه
لزم الثالث ؛ لبداهة اثنينيّة ما يصدر عن الاثنين مع استقلال كلّ منهما فيما
يصدره. وفي صورة الترتيب يلزم تحصيل الحاصل أيضا.
واجيب عنه : بأنّ
كلّ واحدة منها علّة مستقلّة للحكم على جميع التقادير ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّه
إنّما يلزم إذا كانت العلّة المستقلّة عقليّة وهي ما يفيد وجود شيء ، وأمّا إذا
كانت شرعيّة ـ وهي ما يفيد العلم به ـ فلا ؛ لأنّها بمعنى الدليل ، ويجوز اجتماع
الأدلّة على مدلول
__________________
واحد بأن يكون كلّ
منها علّة مستقلّة للعلم به .
وفيه نظر ؛ لمنع
كون العلل الشرعيّة أدلّة محضة ؛ فإنّ الحقّ ـ كما عرفت ـ أنّها بواعث للحكم ، مؤثّرة فيه ، فيلزم ما ذكر ؛ على أنّه يلزم في اجتماع الأدلّة على مدلول واحد أيضا ؛ فإنّه لو أفاد كلّ
واحد منها بالاستقلال علما بمعلوم واحد في محلّ واحد دفعة ، أو بالترتيب ، لجرى
فيه ما ذكر من دون تفاوت.
فالجواب الحقّ :
أنّ معنى استقلالها ليس ثبوت الحكم بها في الواقع على جميع التقادير ، بل إنّها
إذا وجدت منفردة يثبت الحكم بها ، ففي حالة الانفراد وما في معناه ـ أي عند
الترتيب مع حصول الثانية بعد زوال معلول الاولى ـ يثبت الحكم بها بالاستقلال ، وفي
الترتيب مع حصول الثانية قبل زواله يثبت الحكم بالاولى ولا تأثير للثانية ، وعند
الاجتماع الدفعي يحصل الحكم بالمجموع ، ويكون كلّ منها جزءا ؛ لأنّ حصوله بكلّ
منها بالاستقلال يوجب ما ذكر ، وحصوله بواحد مبهم أو معيّن يوجب التحكّم ؛ وترجيح معيّن
بأمثال ما ذكر والتعليل به فاسد ؛ لأنّها لم تعتبر حجّة شرعا في أمثال
المقام.
فإن قيل : إطلاق
القول بأنّ كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ينافي ثبوت الحكم به وبغيره إذا وجدت غير منفردة ، وتخصيص ثبوته به بالاستقلال عند الانفراد.
قلت : لمّا كان
ثبوت الاستقلال على تقدير الانفراد أمرا ثابتا عند الاجتماع ، بل عند العدم
أيضا ، فسمّي بالاستقلال عندهما أيضا مجازا ، ولو منع هذه التسمية ،
لصار النزاع لفظيّا.
وممّا ذكر ظهر أنّ
خير الأقوال في الخلاف الذي وقع بين القائلين بتعدّد وقوع العلل
__________________
المستقلّة ـ بأنّها
إذا اجتمعت دفعة ، فهل كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ، أو كلّ واحدة جزء والعلّة
المجموع ، أو العلّة واحدة لا بعينها؟ ـ أوسطها.
واحتجّ المفصّل
الأوّل على الجواز في المنصوصة بما مرّ ، وهو لا ينافي ما ذهبنا إليه.
وعلى عدمه في
المستنبطة بأنّه إذا اجتمعت أوصاف صالحة للعلّيّة ، فظنّ ثبوت الحكم لأحدهما أو للمجموع يصرفه عن كلّ واحدة منها ، ولا نصّ يعيّن أحدها ، وإلاّ رجعت
منصوصة ؛ فالحكم بعلّيّة كلّ واحدة منها دون واحدة منها ، أو الجزئيّة تحكّم.
وجوابه : إمكان
استنباط استقلال علّيّة كلّ واحدة منها بالعقل عند الانفراد ، بأن يحكم بترتّب الحكم عليه وحده ، فلا تحكّم عنده ، وأمّا عند الاجتماع
الدفعيّ ، فيحكم بالجزئيّة دون العلّيّة ، كما ذكر .
واحتجّ المفصّل
الثاني على الجواز في المستنبطة بأنّها وهميّة ، فربّما وجدت أوصاف صالحة للعلّيّة
ولم يترجّح بعضها على بعض ؛ فيحصل الظنّ بعلّيّة كلّ منها ، وهو لا ينافي ما
ذكرناه.
وعلى عدمه في
المنصوصة بأنّها قطعيّة ـ أي عيّن الشرع ما هو الباعث ـ فلا يقع فيه التعارض
والاحتمال .
وجوابه : أنّه
يجوز أن يتعدّد البواعث ، فيعيّن الشرع كلاّ منها ، واجتماعها بتعيّنه لا يوجب
تعارضا ولا احتمالا.
واحتجّ القائل
بالجواز دون الوقوع بأنّه لو وقع لنقل ولم ينقل ، وادّعى تعدّد الأحكام في الصور
المذكورة .
ولا أدري ما دليله
على دعواه؟ والتجويز لا يكفيه ؛ لأنّه مستدلّ ، فهي حجّة عليه.
__________________
واعلم أنّ ما صرّح
به هذا القائل هو أنّه يجوز التعدّد عقلا ، ولا يجوز شرعا.
واستدلّ على عدم
الجواز الشرعيّ بأنّه لو جاز شرعا لوقع ، ولو وقع لنقل ... إلخ .
وهذا كما ترى ليس
عين ما نسبناه إليه اقتفاء للقوم ، بل ما يلزمه.
وإذا عرفت ذلك ،
فيتفرّع عليه أنّ عدم العكس لا يقدح في العلّيّة.
وممّا يتفرّع عليه
أنّه إذا صادف نذران زمانا واحدا ، كما لو نذر صوم سنة معيّنة ، ثمّ صادف بعض
أيّامها نذر آخر ، أن يجزئ صومه عنهما على ما اخترناه. وعلى القول بعدم اجتماع
العلل ، لصومه عن النذر الأوّل ويقضي الثاني.
ومثله ما لو قال :
« لو قدم زيد فعليّ صوم يوم قدومه » ثمّ قال : « لو قدم عمرو فكذا » فقدما معا في
يوم واحد.
ويتفرّع عليه أيضا
حصول الحنث بحدث البول ـ مثلا ـ لو حلف أن لا يقع عنه في زمان كذا حدث.
ومن فروعه : ما لو
حدث منه أحداث دفعة أو بالترتيب ، ثمّ نوى عند الوضوء رفع بعضها ، وفيه أقوال :
ثالثها : يكفي إن نوى الأوّل ، ورابعها : عكسه ، وخامسها : إن نفى غير المنويّ لم
يكف ، وإلاّ كفى .
وعلى ما اخترناه
لا يخفى حقيقة الحال ، إلاّ أنّ الأصحّ هنا أنّه يكفي مطلقا ؛ لأنّ المرتفع حكم
الحدث وهو واحد وإن تعدّدت أسبابه.
وممّا فرّع عليه
صدق المخبر الواطئ لامرأتين ، المغتسل عن الجنابة بأنّه لم يغتسل عن الوطء الثاني
بناء على القول بأنّ المؤثّر هو الأوّل. وقس عليها أمثالها.
تتميم
هل يجوز عكس ما
تقدّم ، وهو تعليل حكمين أو أحكام بعلّة واحدة؟
فيه تفصيل ، وهو
أنّ الأحكام إمّا متماثلة ، أو متضادّة ، أو مختلفة غير متضادّة.
__________________
والأوّل : لا يجوز
تعليله بها ، إن اعتبر في محلّ واحد ؛ لامتناع اجتماع الأمثال فيه ، ويجوز إن
اعتبر في محالّ متعدّدة ، كتعليل قصاص زيد وعمرو بقتل واحد صدر عنهما.
والثاني : يجوز
تعليله بها مطلقا ؛ لأنّ إيجاب علّة واحدة للأحكام المتضادّة لا يمكن أن لا يتوقّف
على شروط أصلا ، أو يتوقّف على شروط ممكنة الاجتماع ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع
النقيضين إن اقتضتها حينئذ جميعا ، أو التحكّم إن اقتضت واحدا منها ، أو بطلان
العلّيّة إن لم تقتض شيئا منها ، فهو يتوقّف على شروط ممتنعة الاجتماع ، فيجوز أن
تقتضي مع كلّ شرط حكما يضادّ حكما آخر نقيضه مع شرط آخر ، كاقتضاء الجسميّة للحركة
عند الخروج عن الحيّز ، وللسكون عند الحصول فيه. ومثاله من الأحكام الشرعيّة الكذب
؛ فإنّه يصير بشرط سببا لوجوبه ، وبشرط آخر سببا لحرمته.
والثالث كالثاني ،
سواء كانت العلّة بمعنى الأمارة ، كتعليل جواز الإفطار ووجوب المغرب بالغروب. أو
بمعنى الباعث ، كتعليل حرمة الصلاة والصوم ومسّ المصحف بالحيض.
لنا : لا بعد في
مناسبة وصف واحد لحكمين ، إمّا بتسميتين متماثلتين إذا كانا متماثلين كما في
الأوّل ؛ فإنّ القتل فيه منتسب إلى زيد وعمرو من حيث الصدور. أو بجهتين متضادّتين
إذا كانا متضادّين ، كما في الثاني ، أو بحيثيّتين
مختلفتين إذا كانا مختلفين ، كالسرقة تناسب القطع ؛ تحصيلا لمصلحة الزجر ،
والتغريم ؛ تحصيلا لمصلحة جبر بعض المال. أو بجهة واحدة لا تحصل إلاّ بهما ،
كالزنى الموجب للجلد والتغريب ؛ تحصيلا للزجر التامّ الذي لا يحصل إلاّ بهما.
احتجّ الخصم
بوجهين :
أحدهما : أنّ
الوصف الواحد لا يناسب الحكمين بجهة واحدة ؛ لامتناع مناسبة الواحد من حيث هو
للمتغايرين ، فيناسبهما بجهتين ، فيتعدّد العلّة .
وجوابه ما تقدّم .
__________________
وثانيهما : أنّ
معنى مناسبة الوصف للحكم أنّ مصلحة حاصلة عند الحكم
، والحكم الواحد يحصّل المصلحة المقصودة منه ، فإذا حصل الحكم الثاني فإن حصّلها
مرّة اخرى ، لزم تحصيل الحاصل ، وإلاّ لزم كونه عبثا .
وجوابه قد ظهر من
تقرّر الدليل.
وكيفيّة التفريع :
أنّه إذا حلف أن يفعل ما يحرّمه الحيض ، يجب عليه الصوم والصلاة ومسّ المصحف
وغيرها ممّا يحرم على الحائض ، وعلى القول بعدم جواز تعليل الأحكام بعلّة واحدة لم
يلزم وجوب الجميع.
ثمّ لا فرق فيه
بين العلّة المنصوصة والمستنبطة على فرض صحّتها ؛ لجريان دليل الصحّة فيهما ، فلمن
يعمل بها أن يعلّل أحكاما بواحدة منها ، كأن يعلّل كراهة استقبال الريح عند البول
، والجلوس جنب من يبول مستقبلا له ، والمرور تحت ميزاب يترشّح منه البول بإمكان
إصابته بالثوب أو البدن.
[
المبطل ] الثالث : الكسر وهو نقض يرد على الحكمة ؛ فإنّ العلّة إذا لم تكن
حكمة بل مظنّتها ، فشرط قوم أن يكون حكمتها مطّردة ـ أي كلّما وجدت وجد
الحكم ـ فوجودها بدون العلّة والحكم سمّوه كسرا ، وقالوا : إنّه يبطل العلّيّة.
مثاله : أن يقول
الحنفي في المسافر العاصي بسفره : مسافر مترخّص في سفره كغير العاصي ، وبيّن
مناسبة السفر للرخصة بما فيه من المشقّة ، فيعترض عليه
بأنّ ما ذكرته من الحكمة ـ وهي المشقّة ـ منتقضة ؛ لوجودها في الصنائع الشاقّة في
الحضر مع عدم الحكم ، أي الترخّص.
__________________
ثمّ الكسر إمّا أن
يكون لتخصيص ، أو مانع ، أو انتفاء شرط ، أو بدون شيء منها.
فعلى الأوّل لا
يقدح في العلّيّة ، كما في النقض. والتخصيص هنا إنّما يتصوّر في الحكمة المنصوصة ،
سواء كانت العلّة أيضا منصوصة أو لا ـ لو أمكن وجود حكمة منصوصة كانت مظنّتها
مستنبطة ـ بأن ينصّ الشرع على كون ما هو الحكمة للحكم حكمة له ، فثبت كونه حكمة له
بظاهر عامّ في محلّ الكسر وغيره ، ويكون دلالتها على وجود الحكم في محالّها ،
كدلالة اللفظ العامّ على أفراده ، فيجوز تخصيصه بغير محلّ الكسر.
وأمّا إذا لم يكن
الحكمة منصوصة ـ وإن كانت العلّة منصوصة ـ فلا معنى لكونها عامّة حتّى يجوز
تخصيصها ، بل يجوز تخلّف الحكم عن الحكمة حينئذ لمانع أو انتفاء شرط ، فهما في
الحكمة المستنبطة ، كما في النقض.
وعلى هذا يجوز أن
يكون الكسر في حكمة لوجود المانع أو انتفاء الشرط ، والنقض في مظنّتها للتخصيص إذا
كانت الحكمة مستنبطة والعلّة منصوصة ، وبالعكس إذا جاز العكس ، وأن يكونا معا للتخصيص إذا كانتا منصوصتين ، وللمانع أو انتفاء الشرط إذا كانتا مستنبطتين.
ثمّ ما تقدّم في
النقض ـ من أنّ التخصيص لا ينفكّ في الواقع عن وجود مانع أي
معارض وإن لم نعلمه بعينه فيقدّر ـ يأتي هنا أيضا.
وعلى الثاني فقيل : يقدح مطلقا . وقيل : لا يقدح مطلقا .
والحقّ أنّه لا
يقدح إن كان قدر الحكمة في محلّ النقض أقلّ من قدرها في محلّ التعليل ، كما إذا
اعترض على التعليل في المثال المذكور بصنعة الحياكة في الحضر بأنّ ما ذكرته من
الحكمة ـ وهي المشقّة ـ موجودة فيها مع عدم جواز الحكم وهو
__________________
الترخيص للحائك ؛
فإنّ البداهة حاكمة بأنّ قدر المشقّة في الحياكة في الحضر أقلّ من قدر المشقّة في
السفر.
وكذا لا يقدح إن
ثبت في محلّ النقض حكم آخر أولى وأليق بتحصيل تلك الحكمة ، كما لو قال المعلّل : إنّما
قطع اليد باليد للزجر ، فيعترض عليه بأنّ حكمة الزجر منتقضة ؛ لأنّ مقصود الزجر عن
القتل العمد العدوان أزيد ، ولم يشرع فيه الحكم ، أي القطع.
فيجيب بأنّ الحكمة
المقصودة وإن كانت في محلّ النقض أزيد ، لكن ثبت فيه حكم آخر أولى بالحكمة وأليق
بتحصيلها وهو القتل ؛ فإنّه أشدّ زجرا من القطع ؛ لأنّه يحصل به القطع ، وهو إبطال
اليد وزيادة ، أي إبطال ما عداها ، فيحصل فيه رعاية أصل الحكمة وزيادة ، فلا يلزم
عدم اعتبارها.
ويقدح إن كان
قدرها فيه مساويا لقدرها في محلّ التعليل أو أزيد منه ، ولم يثبت فيه حكم هو أولى
بالحكمة.
لنا : أنّ المفروض
الحكمة الخفيّة ، أو غير المنضبطة التي يعسر ضبطها لاختلاف مراتبها بوجوه شتّى ،
ولم يكن كلّ قدر منها موجبا للحكم ، ولم يمكن تعيين القدر المعتبر منها ، فضبطها
الشرع ؛ نظرا إلى إعادته من ردّ الناس إلى المظانّ الواضحة بوصف ضابط لها ، وجعله
أمارة لها ؛ لاشتماله على القدر المعتبر منها الذي هو مناط الحكم ، فهو ليس باعثا
حقيقيّا بشرع الحكم ، بل الباعث له بالذات هو قدر الحكمة الذي هو ضبطه ، فإن وجد
هذا القدر أو أزيد منه في محلّ النقض [ و ] لم يثبت فيه حكم
أولى به من الحكم الثابت فيما يراد نقضه ، قدح في العلّيّة ؛ لأنّ الحكمة لو لم
تعتبر لوجودها بدون الحكم ، فكيف يعتبر ما هو وسيلتها؟ فإنّه لو لم يعتبر المتبوع
المقصود بالذات ، فالتابع المقصود بالعرض أولى بذلك.
وأمّا إذا لم يوجد
هذا القدر فيه ، بل وجد فيه قدر أقلّ ، فلا يقدح في العلّيّة ؛ لأنّ عدم اعتبار
الأضعف لا يوجب عدم اعتبار الأقوى الذي هو مناط الحكم. وكذا لا يقدح لو ثبت
__________________
في محلّ النقض حكم
أولى بالحكمة وإن وجد فيه القدر المناط أو أزيد ؛ لما ذكر.
وبما ذكر ظهر أنّ
مساواة الفرع للأصل في الحكم وصحّة قياسه عليه ، تتوقّف على مساواته له في الحكمة
؛ إذ لا يلزم من الأقلّ ؛ لأنّه قد لا يعتبر ، ومن الأكثر ؛ إذ قد لا يحصل بذلك
الحكم ، بل يفتقر حصوله إلى حكم آخر فوقه.
فإن قلت : إذا شكّ
في المساواة والزيادة والنقصان ولم يعلم واحد منها بعينه ، فهل يقدح في العلّيّة؟
قلنا : الحقّ لا ؛
لأنّ وجود العلّة في الأصل قطعيّ ، ومساواة قدر الحكمة في محلّ النقض لقدرها في
محلّ التعليل أو زيادته عليه مشكوكة ، والشكّ لا يعارض القطع. فإن رجّح قول
المعترض بمعاضدته لأصالة عدم الحكم ، رجّح قول المعلّل بموافقته لما ظهر من دليل
العلّة من المناسبة والاعتبار ، فيتعارضان ، ويبقى ما ذكر أوّلا سالما عن المعارض.
ثمّ نظر من قال
إنّه يقدح مطلقا إلى أنّ المناط والباعث هو الحكمة ، فإذا انتقضت بطلت العلّيّة . وذهل عن احتمال كون قدرها في محلّ النقض أقلّ ، أو وجود حكم فيه هو أولى
بتحصيل تلك الحكمة.
ونظر من قال إنّه
لا يقدح مطلقا إلى أنّ الشرع لمّا ضبطها بوصف منضبط في نفسه ، ضابط لها ، فكأنّه أعرض عنها وجعله المناط والعلّة ، فإذا لم يرد عليه نقض ، لم يبطل
العلّيّة وإن انتقضت الحكمة ؛ لأنّها ليست بعلّة.
وغفل عمّا ذكرنا
من أنّه الوسيلة ، والمقصود بالعرض والباعث الحقيقي هو الحكمة ، فإذا انتقضت ،
بطلت العلّيّة. هذا.
وبما ذكرناه ظهر
أنّ جواب الكسر إمّا منع وجود القدر المناط من الحكمة ، وهو الموجود في الأصل
والفرع في محلّ النقض ، أو بيان إمكان ثبوت حكم فيه هو أولى بالحكمة ، أو أحد
الأجوبة المذكورة في النقض. والكلام عليها هنا خلافا ، وسؤالا ، وجوابا ، واختيارا
كالكلام عليها هناك من دون فرق.
__________________
تنبيه
اعلم أنّه إذا ثبت
حكم بحكمة ومظنّتها ، فالمتصوّر من الاطّراد والانعكاس ثلاثة :
الأوّل : اطّراد
المظنّة ـ أي العلّة ـ وانعكاسها بالنسبة إلى الحكم ، وقد تقدّم .
الثاني : اطّراد
الحكمة وانعكاسها بالنسبة إليه ، وقد تقدّم بيان اطّرادها . وأمّا انعكاسها ـ أي كونها بحيث كلّما عدمت عدم الحكم ـ وإن لم يستبق بيانه صريحا
، إلاّ أنّه ظهر ممّا تقدّم تلويحا عدم اشتراطه في صحّة العلّيّة ، وعدم قدح عدمه ـ وهو
ثبوت الحكم في محلّ بدونها ـ فيها ؛ لأنّ الباعث الحقيقي للحكم إمّا هي ، أو
مظنّتها.
وعلى التقديرين لا
يقدح.
أمّا على الأوّل ،
فلما عرفت من جواز تعليل حكم واحد بعلّتين ، أو أكثر.
وأمّا على الثاني
، فلعدم مدخليّتها في الحكم حينئذ حتّى يعتبر انعكاسها.
الثالث : اطّراد
المظنّة وانعكاسها بالنسبة إلى الحكمة ، أي كلّما وجدت المظنّة وجدت الحكمة ،
وكلّما عدمت عدمت. فعدم اطّرادها بالنسبة إليها أن يثبت المظنّة في محلّ بدون الحكمة
، كسفر الملك المرفّة ؛ حيث لم يوجد فيه الحكمة وهي المشقّة ووجدت مظنّتها وهو
السفر. وعدم انعكاسها بالنسبة إليها أن يثبت الحكمة في محلّ بدونها ، كحضر اولي
الصنائع الشاقّة ؛ حيث وجدت فيه المشقّة بدون السفر. وكلّ من هذا الطرد والعكس
بتداخل أحد الأقسام المتقدّمة .
فالتصريح بأنّ
عدمها هل يبطل العلّيّة أم لا؟ وإن لم يسبق ، إلاّ أنّه علم حكمه ضمنا.
بيانه : أنّ
المراد من عدم اطّرادها هنا إن كان عدم اطّرادها بالنسبة إلى الحكمة فقط دون الحكم
ـ أي وجودها مع الحكم بدون الحكمة ـ فهو عدم العكس الثاني ، أي المقابل للكسر ؛
لأنّ المراد منه وجود الحكم بدون الحكمة ، سواء تحقّق معه وجود العلّة أم لا.
__________________
وإن كان المراد
منه عدم اطّرادها بالنسبة إليهما ـ أي وجودها بدونهما ـ فهو النقض ؛ لأنّ المراد
منه وجود العلّة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم الحكمة أيضا أم لا.
والمراد من عدم
انعكاسها هنا إن كان عدم انعكاسها بالنسبة إلى الحكمة فقط ـ أي وجود الحكمة مع
الحكم بدون العلّة ـ فهو عدم العكس الأوّل ، أي المقابل للنقض ؛ لأنّ المراد منه وجود
الحكم بدون العلّة ، سواء تحقّق معه وجود الحكمة أيضا أم لا.
وإن كان المراد
منه عدم انعكاسها بالنسبة إليهما ـ أي وجود الحكمة بدون العلّة والحكم ـ فهو الكسر
؛ لأنّ المراد منه وجود الحكمة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم العلّة أيضا أم لا.
تذنيب
قيل : وممّا يبطل
العلّيّة النقض المكسور ، وهو نقض بعض الأوصاف ، سمّي به ؛
لأنّه بين النقض والكسر ، فكأنّ المعترض قال : الحكمة تحصل بهذا البعض وقد وجد في
المحلّ بدون الحكم ، فهو نقض لما ادّعاه علّة باعتبار الحكمة.
مثاله : إذا قيل :
صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها ، فيجب أداؤها كصلاة الأمن ، فيعترض عليه بأنّه منقوض
بصوم الحائض ، فإنّ بعض صفات الصلاة ـ وهو كونها عبادة ـ موجود فيه ولم يوجد معه
الحكم.
مثال آخر : ما
يقال في بيع الغائب : مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصحّ بيعه ، كما
لو قال : بعتك عبدا ، فيقول المعترض : ينتقض بما لو تزوّج بامرأة لم يرها.
والحقّ أنّ مجرّد
نقض بعض الأوصاف لا يبطل العلّيّة ؛ إذ العلّة هو المجموع ، ولا نقض عليه ؛ إذ عدم
علّيّة الجزء لا يوجب عدم علّيّة الكلّ.
نعم ، إن بيّن عدم
تأثير أحد الجزءين بكونه وصفا طرديّا ونقض الآخر ، بطلت العلّيّة ؛ لورود النقض
حينئذ على ما هو العلّة ، كما إذا قيل : خصوصيّة الصلاة ملغاة ؛ لأنّ الحجّ
__________________
كذلك ، فبقي كونها
عبادة ، وهو منقوض بصوم الحائض. هذا.
واعلم أنّ ما
ذكرناه ـ من تفسير الكسر والنقض المكسور ـ هو ما استقرّ عليه آراء جماعة من
المحقّقين ، والأكثرون لم يفرّقوا بينهما ، بل فسّروا الكسر بما
فسّرنا به النقض المكسور .
واعلم أنّ المناسب
لما ذكرناه أن نسمّي نقض بعض الحكم بالكسر المنقوض ؛ لأنّه بين الكسر والنقض ،
فكأنّ المعترض قال : إنّ الحكمة الباعثة لعلّيّة العلّة هو هذا البعض ، وقد وجد في
المحلّ بدون الحكم ، فهو كسر لما ادّعاه حكمة من حيث كونها باعثة لعلّيّة العلّة.
وحكمه ظاهر ممّا
تقدّم .
[
المبطل ] الرابع : عدم التأثير ، وهو أن يبقى الحكم بعد الوصف ، أي لا يكون
له تأثير في إثبات الحكم. وقد قسّم أربعة أقسام :
[ القسم ] الأوّل
: ما يظهر عدم تأثيره مطلقا. ويسمّى عدم التأثير في الوصف ، كما إذا قيل : الصبح
لا يقصر ، فلا يقدّم أذانه كالمغرب ، فيقال : عدم القصر لا يؤثّر في عدم تقديم
الأذان ، ولذا لا فرق في ذلك بين المغرب وغيره ممّا يقصر ، فهو وصف طرديّ لا
مناسبة فيه ولا شبه ، فلا نعتبره. وحاصله مطالبة كون الوصف علّة ، أو إثبات عدم
علّيّته.
[ القسم ] الثاني
: أن يظهر عدم تأثيره في ذلك الأصل ؛ للاستغناء عنه بوصف آخر. ويسمّى عدم التأثير
في الأصل ، كما إذا قيل في بيع الغائب : مبيع غير مرئيّ فلا يصحّ بيعه ، كالسمك في
الماء والطير في الهواء ، فيقال : كونه غير مرئيّ وإن ناسب نفي الصحّة إلاّ أنّه
لا يؤثّر في نفي صحّة بيع السمك والطير ؛ لأنّ عدم القدرة على التسليم فيهما كاف
في منع الصحّة ؛ لعدم الفرق بين المرئيّ وغير المرئيّ فيهما. ومرجعه إلى المعارضة
في العلّة بإبداء ما يحتمل أن يكون هي العلّة ، أو إثبات أنّ العلّة ذلك الغير.
[ القسم ] الثالث
: أن يظهر عدم تأثير قيد منه ، بأن يتحقّق في الأوصاف وصف لا يكون
__________________
مؤثّرا في الحكم
المعلّل. ويسمّى عدم التأثير في الحكم ، كما إذا قيل في المرتدّ إذا أتلف مالنا في
دار الحرب : مشرك أتلف مالنا في دار الحرب فلا ضمان عليه كالحربيّ ، فيقال : دار
الحرب وصف طرديّ لا تأثير له ؛ ضرورة استواء الدارين في إيجاب الإتلاف فيهما
للضمان. ومرجعه إلى مطالبة كون القيد مؤثّرا ، أو إثبات عدم تأثيره ، فهو كالأوّل.
[ القسم ] الرابع
: أن لا يطّرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا ، فلا يطّرد في محلّ النزاع ،
فيظهر عدم تأثيره فيه. ويسمّى عدم التأثير في الفرع ، كما إذا قيل في تزويج المرأة
نفسها : زوّجت نفسها بدون إذن وليّها من غير كفء فلا يصحّ ، كما لو تزوّجت من غير
كفء ، فيقال : التزويج من غير كفء وإن كان مناسبا لعدم الصحّة إلاّ أنّه لا يطّرد
في جميع صور النزاع ؛ لأنّ النزاع وقع في تزويجها نفسها من كفء وغيره ، وحكمهما
سواء ، فلا تأثير له في محلّ النزاع. وحاصله المعارضة في العلّة بإبداء وصف آخر
وهو مجرّد التزويج ، فهو كالثاني ، أو مطالبة تأثير القيد وهو عدم الكفاءة
فكالثالث.
واعلم أنّه على ما
ذكر من رجوع الثالث إلى الأوّل ، والرابع إلى الثاني أو الثالث ، يبقى النظر في
الأوّل والثاني في قبولهما وإبطالهما للعلّيّة ، وردّهما وعدم إبطالهما لها.
فنقول : مرجع
الأوّل إن كان إلى سؤال المطالبة ـ أي منع كون العلّة علّة ـ فهو هو حقيقة وحكما
وجوابا وسيجيء ، فليس هو سؤالا برأسه.
وإن كان إلى إثبات
عدم علّيّة ما ادّعي علّيّته ، فيقبل لو كان دليله قاطعا أو صالحا له.
وللمعلّل مع عدم
كونه قاطعا منعه.
ومرجع الثاني إن
كان إلى إبداء ما يوجب احتمال علّيّة الغير ، فهو المعارضة في الأصل بإبداء علّة
اخرى ، وسيأتي ، فليس هو سؤالا برأسه.
وإن كان [ إلى ]
إبداء ما يوجب الجزم بعلّيّة الغير ، فلا يبطل العلّيّة ؛ لوجود تعليل حكم واحد بعلّتين ، ويبطلها لو لم يجوّز ذلك. وقد عرفت الحقّ فيه .
__________________
[ المبطل ] الخامس
: القلب ، وهو تعليق خلاف الحكم المدّعى في الفرع ـ الذي هو مذهب المستدلّ ـ على
علّته ؛ إلحاقا بأصله. وهذا هو قلب العلّة. وهو إمّا قلب لتصحيح المعترض مذهبه ،
فيلزم منه بطلان مذهب المعلّل ؛ لتنافيهما. أو قلب لإبطال مذهب المستدلّ صريحا. أو
قلب لإبطال مذهبه إلزاما .
مثال الأوّل : كما
لو قيل : الاعتكاف يشترط فيه الصوم ؛ لأنّه لبث مخصوص ، فلا يكون بمجرّده قربة
كالوقوف بعرفة ، فيقول المعترض : لبث مخصوص ، فلا يشترط فيه الصوم ، كالوقوف بعرفة
، فكلّ من القائس والقالب يعرض في دليله لتصحيح مذهبه ، فالقائس أشار بعلّته ـ وهي
كونه لبثا مخصوصا ليس بمجرّده قربة ـ إلى اشتراط الصوم في الفرع ، والقالب أشار
بتلك العلّة إلى عدم اشتراطه فيه.
فإن قيل : إن كان
الحكمان هنا اشتراط الصوم وعدم اشتراطه ـ وهما متناقضان بالذات ـ فلا يجتمعان لا
في الأصل ولا في الفرع ، مع أنّ اللازم من تعريف القلب لزوم اجتماعهما في الأصل
دون الفرع.
قلنا : إنّ الأمر
وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ القائس أخذ مكان اشتراط الصوم عدم كونه قربة وجعله جزء
العلّة ، وأشار به إلى الحكم الذي هو مذهبه إلزاما ـ أي اشتراط الصوم ـ نظرا إلى أنّ الاعتكاف لو لم يكن قربة اشترط فيه الصوم ،
فكان الحكمان هنا عدم كونه قربة وعدم اشتراط الصوم ، وهما مجتمعان في الأصل ـ أي
الوقوف بعرفة ـ متنافيان في الفرع ؛ للإجماع على أنّ الاعتكاف لو لم يكن بنفسه
قربة ، كان مشروطا بالصوم.
والمثال الذي وقع
فيه التصريح من كلّ منهما لتصحيح مذهبه ، والحكمان فيه مجتمعان في الأصل دون الفرع
: ما يقال : طهارة الخبث طهارة تراد للصلاة ، فيجب بالماء ، كطهارة الحدث ، فيقول
المعترض : فيجب بغير الماء ، كطهارة الحدث ، فإنّ الوجوب بالماء والوجوب بغيره
يجتمعان في طهارة الحدث ، ويتنافيان في طهارة الخبث.
ومثال الثاني : ما
يقول الحنفي في مسألة أنّ مسح الرأس يقدّر بالربع : ركن من أركان
__________________
الوضوء ، فلا يكفي
أقلّ ما يطلق عليه الاسم ، فيقول الشافعي : إنّه ركن ، فلا يتقدّر بالربع كالوجه . والحكمان ـ أي عدم كفاية أقلّه وعدم التقدّر بالربع ـ لا يتنافيان لذاتيهما
؛ لاجتماعهما في الأصل ، وهو الوجه ، لكنّهما يتنافيان في الفرع ؛ لاتّفاق المعلّل
والقالب على نفي غيرهما من الأقسام ، فكلّ منهما يعرض في دليله لإبطال مذهب الخصم
صريحا.
ومثال الثالث ما
يقال في بيع الغائب : عقد معاوضة فيصحّ مع الجهل بأحد العوضين ، كالنكاح ، فيقول
المعترض : فلا يثبت فيه خيار الرؤية ، كالنكاح ، ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد
البيع عند المستدلّ. والحكمان ـ أي الصحّة وعدم خيار الرؤية ـ اجتمعا في الأصل ـ أي
النكاح ـ ولا يمكن أن يجتمعا في الفرع ، أي البيع. والمستدلّ لمّا أخذ الأوّل
مذهبا وقاس على الأصل ، فالقالب أشار بالثاني وقياسه عليه إلى بطلان مذهبه ضمنا.
ومن الثالث قلب
المساواة ، كما يقال : المكره مالك مكلّف فيقع طلاقه ، كالمختار ، فيقول المعترض :
فيسوّى بين إقراره وإيقاعه كالمختار ، والحكمان ـ وهما الإيقاع والإقرار ـ مجتمعان
في الأصل باعتقاد الخصمين ، وكلاهما مرتفع من الفرع باعتقاد القالب ، وأحدهما ـ وهو
الإيقاع ـ موجود فيه دون الآخر باعتقاد القائس ، ولمّا أثبته فيه قياسا على الأصل
، فقلب عليه القالب لزوم ثبوت الحكمين في الفرع من رأسه ، مع أنّه لم يقل به. هذا.
وقد اختلف في قبول
القلب ، فأنكره جماعة ؛ لأنّ الحكمين إن تنافيا امتنع اجتماعهما في الأصل ، مع
أنّه لازم لما شرطناه وهو اتّحاد الأصل. وإن لم يتنافيا ، فيجوز استنادهما إلى
علّة واحدة ، كما تقدّم ، فلا يبطل العلّيّة.
ويدفعه إمكان
تنافيهما في الفرع بعرض الاجتماع بدليل من خارج دون الأصل ، كما عرفت .
__________________
والحقّ ـ كما قال
بعض المحقّقين ـ أنّه في الحقيقة معارضة ؛ لأنّ المعارضة إقامة الدليل
على خلاف قول المستدلّ ، والقلب كذلك ، إلاّ أنّه نوع مخصوص من المعارضة ؛ لأنّ
كلاّ من الأصل والفرع والجامع مشترك بين قياسي المستدلّ والقالب ، ففيه لا يمكن
الزيادة في العلّة ، ولا منع وجود العلّة في الأصل والفرع ، بخلاف سائر المعارضات.
وعلى هذا ، فحكمه حكم المعارضة ، وجوابه جوابها. وللمستدلّ أن يقدح تأثير العلّة
فيه بالنقض أو عدم التأثير أو القول بالموجب ، وأن يمنع حكم القالب في الأصل ، وأن
يقلب قلبه إذا لم يناقض الحكم.
ثمّ لا يخفى عليك
أنّ القلب المذكور بأقسامه هو قلب العلّة.
وللقلب نوعان
آخران :
أحدهما : قلب
الدعوى ، بأن يدّعي المعترض دعوى تقابل دعوى المستدلّ ، سواء استند كلّ منهما إلى
الضرورة أو إلى دليل مضمر فيه.
فالأوّل ، كما إذا
قيل : النظر يفضي إلى العلم بالضرورة ، فيقول المعترض : النظر لا يفضي إلى العلم
بالضرورة.
والثاني ، كما إذا
قال الأشعري : كلّ موجود مرئيّ وهو في قوّة « لأنّه موجود » ؛ لأنّ الوجود هو
المصحّح للرؤية عنده ، فيقول المعتزلي : كلّ ما ليس في جهة لا يكون مرئيّا ،
وتقديره : لأنّ انتفاء الجهة مانع من الرؤية.
وثانيهما : قلب
الدليل بأن يبيّن أنّ دليل المستدلّ حجّة عليه لا له ، كما لو استدلّ على توريث
الخال بقوله عليهالسلام : « الخال وارث من لا وارث له » ، فيقول المعترض : المراد نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كما يقال : الجوع
زاد من لا زاد له ، والصبر حيلة من لا حيلة له.
[
المبطل ] السادس : القول بالموجب وهو تسليم ما لزم من الدليل مع بقاء الخلاف ، ومرجعه إلى
ادّعاء نصب الدليل في غير محلّ النزاع ، وهو لا يختصّ بالقياس ، بل يأتي في كلّ
دليل ، وأقسامه ثلاثة :
__________________
[ القسم ] الأوّل
: أن يستنتج المستدلّ من الدليل ما يتوهّم أنّه محلّ الخلاف أو ملزومه ولا يكون
كذلك ، كما إذا قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم : وجد فيه علّة القصاص ،
فيجوز قصاصه ، فيردّ القول بالموجب ، ويقال : محلّ الخلاف ليس جواز القصاص ، بل
جواز هتك حرمة الحرم ، وهو ليس عينه ، ولا ملزومه.
ومنه : إذا قال
الشافعي في القتل بالمثقل : قتل بما يقتل غالبا ، فلا ينافي وجوب القصاص ، كالقتل
بالحرق ، فيقول المعترض : أقول بموجب ما ذكرت ، ولكنّه ليس محلّ النزاع ؛ لأنّ
محلّ النزاع وجوب القصاص ، وليس عينه ، ولا لازما له.
ولمّا كان مرجع
هذا القسم إلى منع كون اللازم من الدليل محلّ الخلاف أو ملزوما له.
فجوابه أن يبيّن
المستدلّ أنّ المثبت مدّعاه وإن لم يكن محلّ النزاع في فرض المعترض ، أو محلّ النزاع والمعترض صرفه عنه وحمله على غيره ، فأورد القول بالموجب أو
ملزومه.
ومثال الأوّل
ظاهر.
و [ مثال ] الثاني
، كما إذا قال : الخيل يسابق عليه فيجب فيه الزكاة ، كالإبل ، فيقول : هذا مسلّم
في زكاة التجارة ، ومحلّ النزاع زكاة العين ، فيرجع ويقول : غرضي وجوب زكاة العين.
و [ مثال ] الثالث
، كما إذا قال : لا يجوز قتل المسلم بالذمّي قياسا على الحربي ، فيقول : هذا مسلّم
، ومحلّ النزاع عدم الوجوب ، فيقول : عدم الجواز ـ وهو الحرمة ـ يستلزم عدم
الوجوب.
[ القسم ] الثاني
: أن يستنتج من الدليل إبطال ما يتوهّم أنّه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه ، كما إذا قال
في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسّل إليه ، وهو
أنواع الجراحات القاتلة ، فيقول المعترض : [ هذا ] مسلّم ، ولكن لم لا يمنعه غيره من وجود الموانع ، وانتفاء الشرائط ، وعدم
قيام المقتضي؟ فإنّ انتفاء مانع لا يستلزم انتفاء جميع الموانع ووجود جميع الشرائط
والمقتضي.
__________________
وجوابه : بيان أنّ
المبطل هو المأخذ ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا أثبته باشتهاره بين النظّار ورؤساء
المذهب ، وإلاّ فمجرّد قوله بأنّه المأخذ لا يسمع بعد ما قال المعترض : ليس هذا
مأخذي ؛ لأنّه مصدّق في ذلك ؛ نظرا إلى أنّه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه.
وما قيل : أنّه لا
يصدّق إلاّ ببيان مأخذ آخر لكونه معاندا ، فضعيف جدّا.
واعلم أنّ ورود
هذا القسم من القول بالموجب ـ وهو ما يقع لاشتباه المأخذ ـ أغلب في المناظرات ؛
لخفاء مدارك الأحكام لكثرتها وتشعّبها ، وورود الأوّل ـ وهو اشتباه محلّ الخلاف ـ نادر
؛ لشهرته ، أو تقديم تحرير محلّ النزاع غالبا.
[ القسم ] الثالث
: أن يسكت عن صغرى غير مشهورة ، ويقتصر على إيراد الكبرى ، فيستعمل قياس الضمير ،
كما إذا قال في الوضوء : ما يثبت قربة فشرطه النيّة كالصلاة ، ويسكت عن الصغرى وهي
الوضوء يثبت قربة ، فيرد القول بالموجب ، ويقول المعترض :
هذا مسلّم وأمنع
من اشتراط النيّة في الوضوء ، فهذا إنّما يرد إذا أهمل الصغرى ، وأمّا إذا ذكرها
فلا يرد إلاّ منع الصغرى ، لا القول بالموجب بأن يقول : لا نمنع أنّ الوضوء يثبت
قربة.
وجوابه : أنّ حذف
إحدى المقدّمتين عند العلم بالمحذوف شائع ، والدليل هو المجموع دون المذكور وحده.
تنبيه
اعلم أنّ
الجدليّين قالوا : إنّ القول بالموجب بأقسامه يؤدّي إلى انقطاع أحد المتناظرين ؛
إذ لو بيّن المستدلّ مراده في كلّ قسم بجوابه انقطع المعترض ، وإلاّ انقطع
المستدلّ .
وقيل : هو بعيد في
الثالث ؛ لاختلاف مراد المتناظرين ؛ فإنّ مراد المستدلّ أنّ الصغرى محذوفة ، ومراد
المعترض أنّ المذكور وحده لا يفيد ، فإذا بيّن مراده فله منعه فيه ، فيستمرّ البحث
. نعم ، إن سلّمه فقد انقطع.
__________________
[
المبطل ] السابع : الفرق. قيل : هو المعارضة في الأصل أو الفرع .
وقيل : مجموعهما ،
حتّى لو اقتصر على أحدهما لم يكن فرقا ، ولذا ردّه
بعضهم بأنّه الجمع بين أسئلة مختلفة ، ومن قبله بين قائل بكونه جمعا بينهما ولا
منع فيه ؛ لكونه أدلّ على الفرق ، وقائل بأنّه سؤال واحد ؛ لاتّحاد المقصود منه .
وقيل : هو إبداء
تعيّن في الأصل أو الفرع هو شرط أو مانع .
وربّما قيل : هو
إبداء التعيّنين ، وهو كما يتحقّق بالتعرّض لوجود الشرط في الأصل ووجود المانع في
الفرع ، يتحقّق بالتعرّض لوجود أحدهما فيما يخصّه ، وعدمه في الآخر ؛ لأنّ كلاّ من
انتفاء الشرط وانتفاء المانع تعيّن . وهذا القول
بقسميه مرجعه إلى منع وجود علّة الأصل في الفرع.
والحقّ ، أنّه
أيضا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع ، فجوابه جوابها ؛ لأنّ المعارضة في
الأصل إبداء وصف آخر فيه يصلح أن يكون علّة ، ولا ريب في أنّ المتعيّن غير المبهم
والمقيّد غير المطلق ، والمعارضة في الفرع إبداء وصف يقتضي نقيض الحكم ، ولا ريب
في أنّ المانع لشيء في قوّة المقتضي لنقيضه ، فهو وصف يقتضي نقيض حكم المستدلّ.
ولو قيل :
المعارضة في الفرع إبداء ما يقتضي نقيض حكم المستدلّ من نصّ ، أو إجماع ، أو وجود مانع
، أو فوات شرط ، كما صرّح به جماعة ، فيصير المقصود
أوضح. وعلى أيّ
__________________
تقدير ، هو إنّما
يقدح في العلّيّة إذا لم يجز تعليل الحكم بعلّتين ، وإن جاز ـ كما هو المختار ـ فلا
يقدح فيها ، وهو ظاهر.
وهنا مسائل لا بدّ
من التنبيه عليها :
[
المسألة ] الاولى : الحقّ جواز كون العلّة مركّبة ، كالقتل العمد العدوان.
أمّا عندنا ،
فظاهر ؛ لأنّ المناط في إثبات العلّيّة عندنا هو النصّ ، ولا يمتنع النصّ على
علّيّة متعدّد ، وقد وقع ، كما ذكر.
وأمّا عندهم ،
فلأنّ المسالك التي يثبت بها علّيّة الواحد ـ من المناسبة والشبه والسبر وغيرها ـ يجوز
أن يثبت بها علّيّة المتعدّد ، بأن يتحقّق في ضمن الهيئة الاجتماعيّة من أوصاف
متعدّدة ، ويقرن ظنّ العلّيّة بها .
وذهب شرذمة قليلة
إلى أنّ العلّة يجب أن تكون وصفا واحدا.
واحتجّوا عليه
بأنّ العلّيّة صفة ، والصفة يجب قيامها بالموصوف ، وإلاّ لم تكن صفة له ، فالموصوف
إن كان ذا أجزاء ، فإمّا أن يقوم بكلّ جزء ، فكلّ جزء علّة ، وهو خلاف المفروض. أو
بواحد منها فهو العلّة. أو بجميع الأفراد ، فيلزم أن يقوم بكلّ جزء جزء منها ،
فينتقض الصفة العقليّة وهو باطل. أو بالمجموع من حيث هو مجموع ، بأن يتعلّق بها
جهة واحدة يتحقّق بها المجموع من حيث هو ، وهي أيضا صفة ، فينقل الكلام إليها
ويتسلسل.
وبأنّ عدم كلّ جزء
علّة لعدم العلّيّة ؛ لأنّ تحقّقها يتوقّف على تحقّق جميع الأجزاء ، فإذا انتفى
جزء ينتفي العلّيّة ، فإذا انتفى جزء آخر يلزم تحصيل الحاصل ، أو تخلّف معلوله وهو
انتفاء العلّيّة عنه .
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّ العلّيّة اعتباريّة ، فيجوز انتزاعها بالعقل ، أو وضع الشارع من عدّة امور.
وعن الثاني : أنّ
ما يتوقّف وجوده على وجود امور يعدم لعدم واحد منها ، وليس عدم كلّ واحد منها علّة
لعدمه.
وقد احتجّوا بوجوه
أخر أضعف ممّا ذكر ، تركناها ؛ لظهور ضعفها.
[
المسألة ] الثانية : لا ريب في جواز تعليل الحكم الشرعي بمثله إذا اخذ العلّة بمعنى الأمارة ؛
لبداهة جواز أن يجعل الشرع حكما معرّفا لآخر ، بأن يقول : إذا حرّمت كذا ، حرّمت
كذا. وكذا إذا اخذت بمعنى الباعث ، كتعليل بطلان بيع العذرة بالنجاسة ؛ لأنّ الوجه
الذي يثبت به علّيّة الأوصاف ـ من نصّ أو إيماء أو مناسبة أو غيرها ـ يثبت به
علّيّة الحكم ، والفرق تحكّم.
وما قيل : إنّ
العلّة تقارن المعلول ؛ لأنّ تأخّرها عنه باطل ـ كما تقدّم ـ وتقدّمها عليه يوجب النقض ، والمقارنة تبطل الحكم بعلّيّة أحدهما دون الآخر
؛ للزوم التحكّم ، ضعيف ؛ لعدم التحكّم بعد وجود مصحّح العلّيّة ، وهو
إحداث في أحدهما دون الآخر.
[
المسألة ] الثالثة : يجوز التعليل بالأوصاف العرفيّة ، كالشرف والخسّة والكمال والنقصان بشرط
الضبط والاطّراد وعدم اختلافها باختلاف الأزمنة ، ووجهه ظاهر.
[
المسألة ] الرابعة : قيل : يجوز أن يكون الحكم الشرعي معرّفا للحكم الحقيقي ، كإثبات الحياة في
الشعر بحرمته بالطلاق ، وحلّه بالنكاح ، كاليد . وهو كما ترى.
[
المسألة ] الخامسة : قد اختلف في مدرك حكم أصل القياس المنصوص عليه ، فالحنفيّة على أنّه النصّ
، والشافعيّة على أنّه العلّة .
__________________
والحقّ ، أنّه
العلّة إن كانت باعثة ؛ لأنّها مؤثّرة في الحكم ، والشرع أثبته لأجلها ، والنصّ إن
كانت معرّفة ؛ لأنّ معرّف حكم الأصل ليس إلاّ النصّ.
[
المسألة ] السادسة : يجب أن يستدلّ بوجود العلّة على الحكم ، بأن يقال : وجد القتل العمد
العدوان ، فيجب القصاص لا بعلّيّتها بأن يقال : علّيّته لوجوب القصاص ثابتة وقد
وجد ، فيجب القصاص ؛ لأنّها نسبة يتوقّف ثبوتها على وجود الحكم والعلّة ، فلو
توقّف الحكم عليها ، لزم الدور.
فصل [١٧]
لحكم الأصل أيضا
شرائط :
منها : أن يكون
ثابتا فيه ؛ لأنّ تشبيه الفرع به في ثبوته فرع ثبوته ، فالمنسوخ لا يعتبر. والنسخ
لمّا دلّ على زوال اعتبار الجامع رأسا ، فلا يجوز أن يثبت به الحكم أصلا وإن لم
يكن بالقياس على الحكم المنسوخ.
وفيه نظر ؛ لمنع
دلالة النسخ على زوال اعتبار الجامع في غير محلّه ، فلمن جوّز الاستنباط إثبات
الحكم فيه بأحد مسالكه ، ثمّ جعله أصلا ، وقياس غيره عليه إن شاء.
ومنها : أن يكون
مثبتا بدليل غير القياس على ما ذكره الأكثر ، وخالف فيه
الحنابلة .
ولا بدّ من تحرير
محلّ النزاع ، وهو بعد تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه إذا قيس حكم على حكم آخر قيس هو
أيضا على آخر ينعقد قياسان : أحدهما لإثبات المطلوب ، وهو القياس الأوّل ، ولنسمّ
العلّة الثابتة فيه بالعلّة الاولى. والآخر لإثبات أصله وهو الثاني ، ولنسمّ
العلّة الثابتة فيه بالعلّة الثانية ، والأصل في الأوّل فرع في الثاني ، فنسمّيه
الأصل القريب ، ونسمّي الأصل في الثاني الأصل البعيد ، والفرع هو المطلوب.
وإذا عرفت ذلك ،
فنقول : إن ثبت حكم القريب في القياس الأوّل بالعلّة الثابتة فيه ابتداء
__________________
بالنصّ أو
الاستنباط وقطع النظر عن اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل أو علّة اخرى لحكم
الفرع ، صحّ القياسان على قواعد العامّة مطلقا ، وعلى
قواعدنا إن ثبت الحكم فيهما بعلّة منصوصة ، أو إيمائيّة معتبرة ،
سواء اتّحدا في العلّة أم تغايرا فيها ؛ لأنّ حكم الأصل القريب قد ثبت في الأوّل
أصلا ، وفي الثاني فرعا بالنصّ ، أو أحد طرق الاستنباط بعلّة واحدة ، أو علّتين.
وتعليل الحكم بعلّتين جائز على الأقوى.
غاية الأمر أنّه
في صورة اتّحاد العلّة لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة وثبت حكم آخر في محلّ آخر
بها ، فتارة قيس غيره عليه ملاحظة لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس
على الآخر إغماضا عنه.
وفي صورة تغايرها
لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة ، وثبت حكم آخر بعلّة اخرى موجودة فيه ، فتارة
قيس غيره عليه لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس على الآخر لوجود علّته
فيه ، فهو ليس من المتنازع هنا ؛ لأنّ مرجعه إلى أنّه يمكن إثباته بالقياس باعتبار
، وبغيره باعتبار آخر ، وقد صار حكم الأصل في القياس الأوّل بالاعتبار الأخير.
نعم ، إن لوحظ
اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل ، أو علّة اخرى لحكم الفرع ، لم يصحّ القياس
الثاني. وأمّا الأوّل ، فيصحّ على كلّ حال. فالمتنازع هنا أن يثبت حكم الأصل
القريب في القياس الأوّل لا بالعلّة الاولى ، بل بالعلّة الثانية ، بأن يكون مرجعه
إلى ما لم يمكن إثباته إلاّ بالقياس ، سواء اتّحدت أم لا. وحينئذ نقول : الحقّ
أنّه لا يجوز كما ذهب إليه الأكثر .
لنا : أنّه لو
اتّحد القياسان في العلّة ، فالقياس على الأصل البعيد وذكر القريب عبث ، كما إذا
قال المستدلّ : السفرجل ربويّ كالتفّاح بجامع الطعم ، ثمّ يقيس التفّاح على البرّ
بهذا الجامع ؛ فإنّ إمكان قياس السفرجل على البرّ أوّلا جعل توسّط التفّاح لغوا.
ومنه قياس الوضوء على التيمّم ، والتيمّم على الصلاة في اشتراط النيّة بجامع
العبادة.
وإن تغايرا فيها
لم ينعقد القياس الأوّل ؛ لأنّ العلّة الاولى لم يثبت اعتبارها بوجه ؛ لأنّ
__________________
الفرض عدم
مدخليّتها في إثبات حكم الأصل القريب ؛ لأنّ معنى كونه مثبتا بالقياس لا غير أن لا
يثبت في الفرع بعلّة ابتداء من دون التوصّل إلى علّة اخرى ، والتي ثبت اعتبارها
فيه ـ وهي الثانية ـ لم يثبت في القياس الأوّل ، فلا مساواة في أصله وفرعه في
العلّة ، فلا تعدية ؛ لأنّها تتوقّف على أن يثبت حكم الفرع بما يثبت به حكم الأصل.
فهذا القياس باطل وإن جاز تعليل حكم واحد بعلّتين ؛ لأنّ الفرض عدم إمكان إثبات
حكم الأصل القريب إلاّ بالتوصّل إلى العلّة الثانية ، وبعد التوصّل بها إليه كانت
الاولى ملغاة عديمة الأثر ؛ لأنّها تعرف بعد ما عرف تعليله بالثانية.
مثاله : أن يقول
المستدلّ : الجذام ينفسخ به النكاح كالقرن والرتق بجامع كونه عيبا يفسخ به البيع ،
ثمّ يقيس القرن والرتق على الجبّ بجامع كونه مفوّتا للاستمتاع ، فالحكم في الفرع ـ
وهو الجذام ـ إنّما يثبت بكونه عيبا يفسخ به البيع ، وفي الأصل القريب ـ وهو القرن
والرتق ـ قد يثبت بفوات الاستمتاع ، فيمتنع التعدية.
ومنه قياس الوضوء
على التيمّم في اشتراط النيّة بجامع الطهارة ، وقياس التيمّم على الصلاة فيه بجامع
العبادة. هذا.
واحتجّ الخصم بمنع
وجوب المساواة بين الفرع والأصل في العلّة ، وجواز إثبات الحكم في الفرع بعلّة ، وفي
الأصل باخرى ، كما يجوز إثباته في الفرع بدليل هو القياس ، وفي الأصل بآخر هو
النصّ أو الإجماع ، وعدم مانع سواه .
وجوابه : الفرق
بين العلّة والدليل بأنّه يلزم من عدم المساواة في العلّة امتناع التعدية وبطلان
القياس كما عرفت بخلاف اختلاف الدليلين. هذا.
واعلم أنّ
المتنازع هو حكم الأصل الذي قبله المستدلّ ومنعه المعترض ، كما تقدّم. وأمّا إن
كان بالعكس ، فلا خلاف في فساد القياس ؛ لأنّه يتضمّن اعتراف المستدلّ بالخطإ في
الأصل ، والاعتراف بفساد إحدى مقدّمات الدليل يوجب الاعتراف بفساده ، ولا يسمع من
المدّعي ما اعترف بفساده.
__________________
مثاله : قول
الحنفي في الصوم الواجب بنيّة النفل : أتى بما امر به فيصحّ ، كالحجّ الواجب ، وهو
لا يقول بصحّة الحجّ الواجب بنيّة النفل ، بل الشافعي هو القائل به ، فقياسه فاسد ؛ لأنّه بنى فرعه على ما هو معترف ببطلانه ، ولا يصلح ذلك
إلزاما للخصم ؛ لجواز أن يقول : العلّة في الأصل عندي غير هذا الوصف ، أو لا بدّ
لي من التزام الخطأ في الأصل أو الفرع ، ولا يتعيّن الخطأ في الفرع حتّى يحصل
مطلوبك ، وربّما ألتزم الخطأ في الأصل ، ولا يضرّني ذلك في الفرع.
ومنها : أن يكون
حكما شرعيّا إذا كان حكم الفرع شرعيّا ؛ لأنّ المطلوب حينئذ إثبات حكم شرعي
للمساواة في علّته حتّى يكون القياس شرعيّا ، ولا يتصوّر ذلك إذا كان حكما عقليّا
أو لغويّا ، كما لو قال : شراب مشتدّ فيوجب الحدّ ، كما يوجب الإسكار ، أو كما
يسمّى خمرا. هذا ما ذكره الأكثر .
واعترض عليه بأنّ
ثبوت الحكم في الفرع يتوقّف على ثبوته في الأصل وعلى تعليله بوصف معيّن ووجوده في
الفرع ، فلو استند الأوّل فقط إلى العقل أو اللغة لم يخرج القياس عن الشرعي ، إذا
استند الأخيران إلى الشرع ؛ لأنّ إثبات حكم الفرع حينئذ بالشرع ؛ لأنّ المأخوذ من
المقدّمات الشرعيّة شرعي .
والتحقيق على
قواعد الفريقين أنّه إذا علم الأخيران يجوز أن يثبت به الحكم في الفرع وإن لم يعلم
ثبوت حكم الأصل أصلا ؛ فإنّه إذا علم أنّ الشدّة علّة الحدّ ، وأنّها وجدت في هذا
الشراب ، فشربه يوجب الحدّ وإن لم يعلم أنّها توجب الإسكار ، إلاّ أنّ إثبات الحكم
حينئذ ليس بالقياس ؛ لأنّه يتوقّف على مساواة الفرع للأصل في حكمه ، فلا بدّ من
وجود أصل وتشبيه الفرع به في حكمه حتّى يتحقّق القياس ، ويجب أن يكون حكم الفرع
مساويا لحكم الأصل إمّا في عينه أو في جنسه ـ كما يأتي ـ فحكم الأصل العقليّ إذا لم يكن
__________________
مساويا لحكم الفرع
الشرعيّ المطلوب إثباته ـ كما هو الغالب ـ لم ينعقد منه القياس ، وإن كان مساويا
له انعقد ، إلاّ أنّه يبقى النظر في موضعين :
أحدهما : هل هو
حينئذ قياس عقلي لكون أحد مقدّماته عقليّا ، أو شرعيّ لكون بواقيها شرعيّة؟
والظاهر فيه الإلحاق بالغالب.
وثانيهما : أنّه
إذا كان عقليّا فهل يكون حجّة كما إذا كان شرعيّا ، أم لا؟
وتحقيقه يتوقّف
على بيان ما بقي الكلام فيه ، وهو صحّة كون حكم الأصل لغويّا أو عقليّا ، إذا كان
المطلوب إثبات حكم لغوي أو عقلي حتّى يكون القياس لغويّا أو عقليّا. فنقول : قد
مرّ أنّ القياس لا يجري في اللغة ، وأمّا جريانه في العقليّات من الصفات والأفعال
فلم يجوّزه جماعة ؛ لأنّه لا يفيد أزيد من الظنّ ، وهو غير معتبر في المباحث
العقليّة. وجوّزه أكثر المتكلّمين ، وعدّوا منه إلحاق الغائب بالشاهد في بعض الصفات ، كقياس الواجب [ تعالى ] على غيره في كونه عالما بعلم. أو بعض
الأفعال ، كقياسه عليه في كون فعله بالاختيار ، وقالوا : لا بدّ فيه من جامع عقليّ
، وهو إمّا علّة ، كالوجود في قول الأشعري : الواجب موجود فيكون مرئيّا ، كما في
الشاهد ؛ فإنّ الجمع بينهما بالوجود وهو علّة الرؤية عندهم.
أو حدّ كما في
قولنا : الواجب من ثبت له العلم ، فيكون عالما كغيره ؛ فإنّ الجمع بينهما بثبوت
العلم له وهو حدّ لما يراد إثباته أي العالم.
أو شرط ، كقولنا :
الواجب حيّ فيكون مدركا ، كما في الشاهد ؛ فإنّ الجامع هنا هو الحياة التي هي شرط
الإدراك.
أو دليل ، كما في
قولنا : التخصيص والأحكام يدلاّن على الإرادة والعلم في الشاهد ، فكذا في الغائب ؛
فإنّ الجامع هنا ـ أي التخصيص والأحكام ـ دليل على إثبات الحكم المطلوب. هذا.
__________________
وما يقتضيه النظر أنّ
الأقيسة العقليّة تختلف كما تختلف الأقيسة الشرعيّة ، فيفيد بعضها اليقين بالمطلوب
، وبعضها الظنّ به. والتفصيل لا يخفى على من أحاط بمباحث القياس وشرائطه.
ومنها : أن لا يتناول دليله حكم الفرع ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، كما إذا قيل
: الذّرة ربويّة كالبرّ بجامع الطعم ، فيقال : قوله عليهالسلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام إلاّ يدا بيد سواء بسواء » يتناول ربويّة الذرة ، كما يتناول ربويّة البرّ ؛ لصدق الطعام عليها.
واعلم أنّ العلّة
إن كانت منصوصة ، فدليل الحكم في الأصل هو دليل العلّة أي النصّ. وقد تقدّم اشتراط عدم تناول دليل العلّة بعمومه أو خصوصه لحكم الفرع ، مع ما فيه.
وإن كانت مستنبطة
، فدليله غير دليلها ؛ لأنّه دليله حينئذ هو عموم النصّ أو خصوصه ، ودليلها أحد
مسالك الاستنباط. والمراد من دليله هنا ما يعمّ دليله في المنصوصة والمستنبطة.
هذا.
والحقّ ، أنّ هذا
الشرط غير لازم ؛ لما تقدّم من جواز إثبات حكم واحد بأدلّة متعدّدة ؛ لتقوية الظنّ من
تعاضدها ، وقد كثر ذلك في كتب الفقه ، مع أنّه يجوز
أن يكون دلالة الدليل على حكم الأصل الأقوى ، بأن يدلّ عليه بالمطابقة ، وعلى حكم
الفرع بالتضمّن أو الالتزام.
ومنها : أن لا
يكون معدولا به عن سنن القياس ، أي يكون بحيث يوجد مثل علّته في أصل آخر غير محلّه
، فلو علم انتفاء ذلك لم يصحّ القياس عليه ، ويقال له : إنّه معدول عن سنن القياس
، وهو إمّا أن لا يعقل معناه ، أو يعقل ولكن لا نظير له. والأوّل إمّا أن يكون مستثنى
عن قاعدة كلّيّة مقرّرة ، كقبول شهادة خزيمة وحده ؛ فإنّه لا يعقل معناه وقد اخرج
عن قاعدة الشهادة ، وعلم قطعا أنّه لم يخرج منها إلاّ هذا الفرد ، بل قطع بثبوت
حكم خلافه
__________________
فيما عداه ، فلم
يثبت مثل علّته المجهولة في أصل آخر ، ولذلك لا يصحّ القياس عليه وإن كان محلّ
الفرع أعلى رتبة في المعنى المناسب من الصدق والتديّن من محلّه. أو لا يكون مستثنى
عنها ، كأعداد الركعات ، ومقادير الحدود والكفّارات.
والثاني إمّا أن
يكون له معنى ظاهر ، كترخّص المسافر ؛ فإنّ علّته السفر ؛ لما فيه من المشقّة ،
ولكنّ هذا الوصف ـ وهو المعنى المقتضي للرخصة لما فيه من المشقّة ـ لم يوجد في
محلّ آخر ممّا يشتمل على المشقّة وإن كانت فوق مشقّة السفر.
أو لا يكون له
معنى ظاهر ، كالقسامة ؛ فإنّ علّتها التغليظ في حفظ الدماء ، لكنّه علم قطعا أنّه
لم يوجد مثله في محلّ آخر. هكذا قيل .
ولا يخفى عليك أنّه
إن كان المراد ـ على ما هو الظاهر من هذا الشرط ـ ثبوت مثل علّة حكم الأصل في محلّ
آخر هو الأصل ، ففيه أنّ العلم بانتفاء ذلك لا يمنع من صحّة القياس عليه بعد وجود
مثل علّته المنصوصة في محلّ الفرع ؛ لجواز انتفاء حكم وعلّته في سائر المحالّ
بعنوان الأصالة ، وإمكان إتيانه في بعضها بالقياس.
وإن كان المراد
ثبوت مثل علّته في محلّ آخر هو الفرع حتّى لو علم انتفاؤه في جميع ما عداه من
الموارد ، لم يصحّ القياس ، ففيه أنّ ذلك مسلّم إلاّ أنّه ظهر من اشتراك كون
العلّة وصفا جامعا مشتركا.
ومنها : أن لا يكون ذا قياس مركّب ، وهو أن يتّفق المتناظران على حكم الأصل من دون
أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه ، مع منع المعترض لعلّة الأصل ، أو لوجودها فيه.
والأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف.
مثال الأوّل : كما
لو قال الشافعي في مسألة قتل الحرّ بالعبد : عبد فلا يقتل به الحرّ ، كالمكاتب ؛
فإنّ حكم الأصل ـ وهو عدم الاقتصاص من المكاتب ـ غير متّفق عليه بين الامّة ،
وإنّما اتّفق عليه الشافعي والحنفي.
والحنفي يقول :
علّة حكم الأصل عندي جهالة المستحقّ للقصاص من السيّد والورثة لا
__________________
العبوديّة ، وهذه
العلّة لم توجد في العبد ، فإن صحّت بطل إلحاق العبد به في الحكم ؛ لعدم اشتراكه
له في العلّة ، وإن بطلت أمنع حكم الأصل وأقول : يقتل الحرّ بالمكاتب ؛ لعدم
المانع ، فهو لا ينفكّ عن عدم العلّة في الفرع إن كانت العلّة هي الجهالة ، أو منع
حكم الأصل إن كانت العبوديّة ؛ لعدم صحّتها عنده .
ومثال الثاني :
كما إذا قال الشافعي في تعليق الطلاق قبل النكاح : تعليق للطلاق فلا يصحّ قبل
النكاح ، كما لو قال : « هذه التي أتزوّجها طالق » فيمنع الحنفي وجود التعليق في
الأصل ويقول : إنّه تنجيز ، فإن صحّ منعه بطل الإلحاق ؛ لعدم الجامع ، وإلاّ منع
الحكم في الأصل ، فلا ينفكّ عن منع علّة الأصل ، أو منع حكمه . هذا.
وقيل : سمّي
مركّبا ؛ لاختلاف الخصمين في تركّب الحكم على العلّة ؛ فإنّ المستدلّ يزعم أنّ
العلّة مستنبطة من الحكم وفرع له ، والمعترض يزعم عكسه ، ولذا يمنع ثبوته عند
انتفائها .
وقيل : سمّي
مركّبا ؛ لاختلافهما في علّة الحكم .
واعترض عليه بأنّه
يلزم حينئذ أن يكون كلّ قياس اختلف في علّة أصله مركّبا وإن كان منصوصا أو مجمعا
عليه .
واجيب عنه بأنّه
لا يلزم اطّراد وجه التسمية .
وقيل : سمّي
مركّبا ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يثبت الحكم بقياس ، فيجتمع قياسهما . وهو أصحّ الوجوه ، إلاّ أنّه يرجع إلى سابقه ؛ لأنّ القياسين متّحدان في حكم
الأصل ، واختلافهما إنّما هو باختلاف علّته.
بقي النظر في وجه
تسمية الأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف ، وهو ـ على ما قيل ـ كون النظر
في الأوّل في علّة حكم الأصل ، وفي الثاني في وجود العلّة في الأصل ،
__________________
وهو نظر في نفس
الوصف. وهو كما ترى.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ عدم صحّة القياس المذكور عندنا ظاهر ؛ لكون علّته مستنبطة ، وكذا عند
العامّة ؛ لأنّه لمّا استدلّ فيه باتّفاق الطرفين ، وفي الأوّل
أظهر الخصم ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّ ذلك هو العلّة عنده ، وهو وارد ولا سبيل
للمستدلّ إلى دفعه ؛ لأنّه لا يمكنه إقامة الدليل على أنّ علّته هي العلّة عنده.
وفي الثاني منع وجود العلّة ، وهو أيضا وارد ، فإذا طريق ثبوت المطلوب في الأوّل
إنّما هو اعتراف الخصم بأنّها العلّة ، وفي الثاني اعترافه بأنّها موجودة ، أو
إثبات المستدلّ وجودها في الأصل بدليل ينتهض حجّة.
وبما ذكر يظهر أنّ
كلّ موضع يستدلّ فيه باتّفاق الخصمين يتأتّى فيه دعوى أنّه ذو قياس مركّب ؛ لأنّ
الخصم لا يعجز عن بيان ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّه هو العلّة عنده.
ثمّ ما ذكر كلّه
إنّما يتأتّى إذا ثبت حكم الأصل بمجرّد اتّفاق الخصمين ، والعلّة بأحد مسالك
الاستنباط ، وأمّا إذا ثبت كلاهما بالإجماع أو النصّ ، فالقياس صحيح عند الفريقين ، إلاّ أنّه ليس قياسا مركّبا. وكذا إن ثبت أحدهما بالإجماع والآخر بالنصّ ،
أو الإيماء المعتبر ، أو ثبت أحدهما بأحدهما والآخر باتّفاق الخصمين.
مثال ما ثبت الحكم
فيه بالنصّ ، والعلّة بالإيماء : ما يقال في اختلاف المتبايعين عند تلف المبيع :
متبايعان تخالفا فيتحالفان ويبرءان ، كما لو كانت باقية ؛ لقوله عليهالسلام : « إذا اختلف المتبايعان فليتحالفا وليبرآ » ؛ فإنّ الحكم فيه قد ثبت بالنصّ ، والعلّيّة بالإيماء. ولو ثبت الحكم بالنصّ
والعلّة بطريق من طرق الاستنباط ، فالحقّ أنّ القياس يصحّ حينئذ على قواعد العامّة
وإن لم يصحّ عندنا ؛ لصحّة إثبات الحكم بالنصّ والعلّيّة
بالاستنباط عندهم.
__________________
وقيل : لا بدّ في
حكم الأصل من إجماع إمّا مطلقا أو بين الخصمين ، وإلاّ أمكن منعه وهو يوجب انتشار
الكلام وتسلسل البحث ، فينتفي مقصود المناظرة .
وجوابه لو لم يقبل
، لم يقبل كلّ مقدّمة يقبل المنع وهو باطل.
ومنها : أن يكون معلّلا بجامع معيّن ؛ لأنّ ردّ الفرع إليه إنّما يصحّ بذلك ، وقد
علم مرارا أنّ طريق التعليل عند كلّ من الفريقين ما ذا.
ومنها : أن لا
يتأخّر عن حكم الفرع ، كقياس الوضوء على التيمّم في وجوب النيّة بجامع العبادة ،
والتيمّم متأخّر عن الوضوء ؛ لأنّه ثبت بعد الهجرة ، كذا قيل .
واستدلّ عليه بأنّ
حكم الفرع إمّا أن يكون ثابتا قبل ثبوت حكم الأصل ـ إمّا بدليل ، فهو المثبت له
دون القياس ؛ أو بدونه ؛ فيلزم ثبوت الحكم بدون دليل ، وهو باطل ـ أو لا ، فيكون
ذلك كالنسخ .
وفيه نظر ؛ لأنّ
تجدّد ثبوت حكم الفرع بشرع حكم الأصل إنّما يرفع عدم ثبوته ، وهو حكم عقلي ورفعه
ليس نسخا ؛ لأنّ النسخ رفع حكم ثابت شرعي بدليل شرعي. فالحقّ أنّ هذا الشرط غير
لازم.
فصل [١٨]
وللفرع أيضا شرائط
:
منها : أن يساوي
علّته علّة الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عينها ، كالشدّة المطربة في الخمر ،
الموجودة بعينها في النبيذ. أو جنسها ، كالجناية المشتركة بين القطع والقتل في
قياس الأطراف على النفس في القصاص. هذا.
__________________
والمراد بالمساواة
فيما يقصد فيه المساواة : المساواة في الحقيقة ، سواء كانت في تمام الحقيقة ، بحيث
لا يكون اختلاف إلاّ بالعدد كما في الأوّل ، أو بعضها كما في الثاني ، فلا يلزم
المساواة في القوّة والضعف ، والقطعيّة والظنّ ، فيجوز أن يكون الحكم في الفرع
أقوى أو أضعف.
ثمّ لزوم اعتبار
هذا الشرط على قواعد الفريقين ظاهر ؛ لأنّ المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع ؛
للاشتراك في العلّة ، ولا يتحقّق الاشتراك بدون وجود حقيقة علّة الأصل بخصوصها أو
عمومها في الفرع.
ومنها : أن يساوي
حكمه حكم الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عين الحكم ، كوجوب القصاص في النفس ،
المشترك بعينه بين القتل بالمثقل والمحدّد. أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في
نكاحها ؛ قياسا على إثبات الولاية عليها في مالها ؛ فإنّ ولاية النكاح ليست عين
ولاية المال ، ولكنّها تشاركها في الجنس ؛ لأنّ جنس الولاية يجمعهما ، ووجه اعتبار
هذا الشرط ظاهر عندنا وعند العامّة .
ومنها : أن لا
يكون منصوصا عليه عند جماعة ، والنصّ هنا أعمّ من نصّ حكم الأصل وغيره ، فلا تكرار ؛
لما سبق.
ووجه اعتباره أنّه
لولاه لثبت الحكم بالنصّ وضاع القياس.
وفيه نظر ، لما
عرفت من جواز توارد أدلّة متعدّدة على مدلول واحد. فالحقّ
خلافه. هذا.
وقد شرط قوم القطع
بوجود العلّة فيه ، والدليل على حكمه إجمالا ، كما يقال : قد
ثبت الحدّ في الخمر من دون تعيّن عدد الجلدات ، فتعيّن بالقياس على القذف.
__________________
وهما مردودان ؛
لأنّ الظنّ يحصل بدونهما ، وهو كاف.
فصل [١٩]
جوّز الشافعيّة
جريان القياس في الحدود ، والكفّارات ، والرخص ، والتقديرات .
ومنعه الإماميّة
والحنفيّة .
مثال الأوّل : كما
يقال : يجب قطع النبّاش ، كما يجب قطع السارق بجامع أخذ مال الغير خفية .
ومثال الثاني : ما
يقال : تجب الكفّارة على قاتل النفس عمدا ، كما يجب على قاتلها خطأ ؛ لأنّه هو المنصوص في الآية .
ومثال الثالث : ما
يقال : يجوز التداوي بغير بول الإبل من المحرّمات ؛ قياسا عليه بجامع حصول الصحّة .
ومثال الرابع : ما
يقال : يجزئ نزح دلو واحد تسع عشرين دلوا في الفأرة ؛ قياسا على العشرين .
احتجّ الأوّلون
بعموم أدلّة القياس. وبأنّ حجّيّة سائر الأقيسة لافادتها الظنّ ، وهو حاصل هاهنا.
وبعمل الصحابة ؛
حيث اتّفقوا على إقامة حدّ القاذف على شارب الخمر ؛ أخذا بقول عليّ عليهالسلام : « إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه حدّ المفتري »
__________________
وهو عمل بالقياس ؛
لأنّه عليهالسلام قاس السكر على القذف في وجوب ثمانين جلدة بجامع كونه مظنّة
الافتراء .
واحتجّ الآخرون
بأنّ فيها تقديرات لا يعقل معناها ، ولا يدركها العقل ، كأعداد الركعات ، ونصب
الزكوات ، وأعداد الجلدات ، وغير ذلك. وبأنّ في القياس شبهة ؛ لاحتمال الخطأ فيه ،
فيجب أن يدرأ به الحدود ، أي لا يثبت به ؛ لقوله عليهالسلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات » .
واجيب عن الأوّل
بأنّ المبحث ما يعقل معناه كالأمثلة المذكورة ؛ فإنّ العلّة والحكم فيها معلومتان ، وأمّا ما لا يعقل معناه ، فلا كلام في عدم جريان القياس فيه ، كغير الحدود
والكفّارات ، ولا مدخليّة لتخصيص المنع بها.
وعن الثاني بالنقض
بخبر الواحد والشهادة ؛ فإنّ احتمال الخطأ يجيء فيهما ، مع أنّ الحدود تثبت بهما .
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ الحقّ على اصول العامّة ما ذهب إليه الشافعيّة ؛ لقوّة أدلّتهم وضعف
أدلّة الحنفيّة ، كما عرفت ، ولأنّ الحنفيّة أثبتوا كثيرا من الحدود والكفّارات
والرخص والتقديرات بالقياس ، وكثرت أقيستهم فيها ، ولذا ناقضهم الشافعي بها ،
وأجابوا عنه بتأويلات بعيدة . وكذا على اصولنا لو لا الإجماع على خلافه ؛ لعدم تعقّل
الفرق بينها وبين غيرها من الأقيسة ؛ نظرا إلى عموم الأدلّة وإن كان باقي أدلّة
الشافعي غير صحيح عندنا إلاّ أنّ الظاهر وفاق الأصحاب على بطلان العمل به فيها
مطلقا.
وممّا يتفرّع على
جواز إثبات الرخص به عدم بطلان صلاة الخوف بضربات متوالية ، أو
__________________
ركوب في أثنائها
يحصل منهما فعل كثير ؛ قياسا على عدم بطلانها بالمشي في أثنائها ؛ لورود النصّ به
خاصّة ، وجواز النيابة في الصلاة والاعتكاف عن الميّت مع أنّ الأصل امتناعها في
الأفعال البدنيّة ؛ قياسا على جوازها في الصوم والحجّ والدعاء والصدقة.
فصل [٢٠]
الحقّ أنّه لا
يصحّ القياس في الأسباب والشروط ، بأن يجعل وصف سببا أو شرطا لحكم قياسا على وصف
آخر جعله الشارع سببا أو شرطا له ، خلافا لأكثر الشافعيّة . مثاله في الأسباب أن يقال : اللواط سبب للحدّ كالزنى ، والقتل بالمثقل سبب
للقصاص كالقتل بالمحدّد.
لنا أنّ معنى قياس
وصف الفرع على وصف الأصل في السببيّة أن يجعل سببا للحكم لتحصيل الحكمة المقصودة
في الفرع كوصف الأصل ، وهو ـ أي وصف الفرع ـ لمّا اثبت بمجرّد قياسه على وصف آخر
مغاير له ، اعتبره الشرع لتحصيل الحكمة ؛ إذ المفروض تغاير الوصفين من دون أن
يعتبره الشرع سببا في محلّ معلّلا باشتماله على الحكمة ، فلا يشهد له أصل
بالاعتبار ، فهو مناسب مرسل لا يعتبر.
ولنا أيضا : أنّه
لا بدّ في وصف الأصل من وجود علّة لسببيّة ، وهي الحكمة المقصودة ، وهي إمّا توجد
في وصف الفرع أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ القياس ؛ لأنّه لا بدّ فيه من علّة جامعة
، والفرض أنّه لا علّة في الفرع.
وعلى الأوّل إمّا
أن يكون قدر الحكمة الذي يتضمّنه المقيس مساويا للقدر الذي يتضمّنه المقيس عليه ،
أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ الجمع بينهما في الحكم ، أي السببيّة ؛ لأنّه يتوقّف
على الجمع بينهما في العلّة ، والفرض اختلاف العلّة فيهما.
وعلى الأوّل إمّا
أن يكون الحكمة المشتركة ظاهرة منضبطة ، أو لا.
فعلى الثاني إمّا
أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر منضبط يضبطها ، أو لا.
فإن كان ، فهو
يستقلّ بإثبات الحكم المرتّب على الوصف ، فيتّحد الحكم والسبب ، ولا
__________________
حاجة إلى وصفين
آخرين يكون أحدهما سببا في الأصل ، والآخر سببا في الفرع.
وإن لم يكن ،
فيكون قياسا خاليا عن الجامع ؛ لأنّ الحكمة المضطربة لا يصحّ أن تكون جامعة ؛
لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع ، واحتمال التساوي إن كان كافيا فيكفي هذه
الحكمة المضطربة ، ولا حاجة إلى الوصفين.
وعلى الأوّل إمّا
أن يقال بصحّة جعل الحكمة المنضبطة مناطا للحكم وجواز التعليل بها ، أو لا. فعلى
الثاني إمّا أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر يضبطها ، أو لا ، فإن كان ، فهو المناط
للحكم ، وإن لم يكن ، لم يصحّ التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها.
وعلى الأوّل تكون
الحكمة مستقلّة بإثبات الحكم ، وتكون هي الجامعة بينهما ، وصار القياس في الحكم
المرتّب على الحكمة ، ولا حاجة إلى الوصفين ، فيتّحد الحكم والسبب أيضا. مثلا :
إذا ثبت أنّ إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا يصلح سببا للحكم ، صار القياس
في وجوب الجلد في اللواط كما في الزنى بجامع هذا الوصف ، فيكون هناك حكم واحد هو
وجوب الجلد ، وسبب واحد هو الإيلاج المحرّم ، وكان المفروض أنّ هناك حكمين : الجلد
والسببيّة ، وسببين : الزنى واللواط.
احتجّ الخصم بأنّه
يثبت القياس في الأسباب كما في المثالين .
وجوابه : أنّ
النزاع فيما يختلف السبب والحكمة في الأصل والفرع ، وليس الأمر فيهما وفي أمثالهما كذلك ؛ لأنّ كلاّ من السبب والحكمة فيهما في الأصل والفرع واحد
؛ فإنّ السبب في مثال الزنى واللواط في الأصل والفرع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا
محرّم شرعا واحد ، لا نفس الزنى واللواط ، والحكمة الزجر لحفظ النسب ، والحكم وجوب
الحدّ. وفي مثال المثقل والمحدّد السبب القتل العدوان ، والحكمة الزجر لحفظ النفوس
، والحكم وجوب القصاص. هذا.
ويمكن جعل النزاع
لفظيّا بأن يقال : مراد القائل بصحّة القياس في الأسباب ثبوت الحكم بالوصفين ؛ لما
بينهما من الجامع ، ويرجع إلى ما ذكر من وحدة السبب والحكمة.
__________________
تذنيب يشتمل على
مسائل :
الاولى : قيل : لا
يجري القياس في العادات كأقلّ الحيض والنفاس والحمل وأكثرها ؛ لأنّ لها أسبابا خفيّة
لا بدّ في معرفتها من الرجوع إلى قول الشارع .
الثانية : الأكثر
على أنّه لا يجري القياس في اصول العبادات ، كإثبات صحّة الصلاة بإيماء الحاجب
بالقياس ؛ لأنّها توقيفيّة لا يصحّ إثباتها إلاّ بنصّ الشارع.
الثالثة : ذهب
شاذّ إلى أنّ القياس يجري في جميع الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّها متماثلة فيجب
تساويهما فيما يجوز عليها .
وفساده ظاهر ؛
لأنّها قد تختلف بخصوصيّات نوعيّة أو صنفيّة أو شخصيّة ، فيجوز على بعضها ما يمتنع
على الآخر.
وقد عرفت أنّه لا
يجري فيما لا يعقل معناه ، كضرب الدية على العاقلة ، وفي الأسباب والشروط.
فصل [٢١]
قد جرت عادة القوم
بذكر الاعتراضات الستّة والعشرين الواردة على القياس في آخر مباحثه ، بعضها يخصّه
، وبعضها يعمّه وغيره ، كما نشير إليه. سبعة منها هي مبطلات العلّة المتقدّمة ، فما يبقى منها تسعة عشر ، وكلّها ترجع إلى منع أو معارضة ، والمنع يعمّ
التفصيلي والإجمالي وهو النقض ، وقد يقيّد بالإجمالي ، ويقال حينئذ للأوّل : النقض
التفصيلي.
مثال الإجمالي :
كما يقال : لو صحّت مقدّمات دليلك لثبت ما يقتضيه من الحكم في صورة كذا ؛ لأنّها
جارية فيها مع أنّه لم يثبت فيها.
والمنع في مقدّمات
دليله على المطلوب ، وفي مقدّمات دليله على إثبات مقدّمة
__________________
ممنوعة ؛ فإنّ
المقدّمة إذا منعت وانتهض المستدلّ بإقامة الدليل فللمعترض منع مقدّمات هذا الدليل
، ومعارضته.
وكذا المعارضة ـ وهي
إقامة الدليل على نقيض المطلوب ـ تعمّ المعارضة لدليل المدّعى ودليل المقدّمة.
وما لا يرجع
إليهما من المناقشات الجدليّة غير مسموعة ؛ لأنّ مطلوب المستدلّ الإلزام بإثبات
مدّعاه بدليله ، وهو إنّما يكون بصحّة مقدّماته ليصلح للشهادة ، وسلامته عن
المعارض لينفذ شهادته ، فإذا ثبتا تمّ مطلوبه ، ولا
يضرّه غير ذلك من المؤاخذات اللفظيّة. ومطلوب المعترض دفعه ، وهو إنّما يكون بهدم
صلاحيته للشهادة ، أو نفوذ شهادته. والأوّل يكون بمنع مقدّمة من مقدّماته ،
والثاني بالمعارضة ، وغيرهما لا ينفعه ولا يتعلّق بمطلوبه.
ثمّ الستّة والعشرون
يضبطها سبعة أجناس ؛ لأنّ المستدلّ يلزمه في كلّ دليل يقيمه على مدّعاه ـ قياسا
كان أو غيره ـ تفهيمه للخصم. وإذا اندفع إلى القياس ، فلا بدّ أن يتمكّن منه بعدم
مانع من جريانه ، ثمّ يثبت مقدّماته ـ وهو حكم الأصل ،
وعلّته ، وثبوتها في الفرع ـ ويثبت وجود الحكم في الفرع ، ويبيّن أنّ ذلك الحكم هو
مطلوبه الذي ادّعاه أوّلا. فهذه سبعة مقامات يتوجّه على كلّ منها جنس من الاعتراض
، فيتحقّق سبعة أجناس يشتمل كلّ منها على أنواع إلاّ الجنس الأوّل والسابع ؛ فإنّ
كلّ واحد منهما ينحصر في نوع واحد.
فيتوجّه على مقام
التفهيم الجنس الأوّل ، وهو ينحصر في نوع واحد.
وعلى مقام التمكّن
الجنس الثاني ، ويشتمل على نوعين.
وعلى مقام إثبات
حكم الأصل الجنس الثالث ، ويندرج فيه نوعان.
وعلى مقام إثبات
علّيّته الجنس الرابع ، وأنواعه ثلاثة عشر.
وعلى مقام ثبوتها
في الفرع الجنس الخامس ، ويتضمّن خمسة أنواع.
وعلى مقام ثبوت
الحكم في الفرع الجنس السادس ، ويشتمل على نوعين.
وعلى مقام كون ما
ثبت هو المدّعى الجنس السابع ، وينحصر في نوع واحد.
__________________
فيرتقي أنواع
الاعتراضات على ستّة وعشرين. وسنشير في موضعه إلى أنّ السبعة المتقدّمة
تندرج تحت أيّ جنس من السبعة.
الجنس الأوّل ـ وهو ما يتعلّق بالتفهيم ـ : الاستفسار
وهو ينحصر في نوع
واحد ؛ إذ لا يتصوّر ثمّة إلاّ طلب الإفهام ، وهو يرد على جميع الأدلّة وجميع
المقدّمات ، وعلى المدّعى أيضا. وأصله طلب الفسر ، أي الوضوح. والمراد منه هنا
السؤال عن معنى اللفظ ، وإنّما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة ، ولذا قيل :
ما يمكن فيه الاستبهام حسن فيه الاستفهام ، وبدونه لا
يلتفت إليه وإلاّ تسلسل. وبيان الإجمال على المعترض بأن يبيّن صحّة إطلاقه على
معنيين أو أكثر ، ولا يكلّف بيان التساوي ـ وإن لم يحصل الإجمال إلاّ به ـ لعسره.
نعم ، لو بيّنه
تبرّعا ـ بأنّ التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدم المرجّح ـ كان حسنا. وإنّما
البيان عليه ؛ لأنّ المستدلّ يكفيه أنّه خلاف الأصل ، فإذا ادّعاه المعترض ، فهو
مدّع والتنبيه عليه.
وجوابه بيان ظهوره إمّا باشتهاره عند أهل اللغة ، أو الشرع ، أو بالنقل عنهما ، أو
بالعرف العامّ أو الخاصّ ، أو بالقرائن المنضمّة إليه ، أو يفسّره بما يحتمله
اللغة أو الشرع ، وإلاّ كان من جنس اللعب. أو بأن يقول على رأي يلزم ظهوره في
أحدهما ، وإلاّ لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل ، أو يلزم ظهوره فيما قصدت ؛ لعدم ظهوره في الآخر اتّفاقا ، فلو لم يكن ظاهرا فيما قصدت ، لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل. وأمثلة الجميع ظاهرة.
الجنس الثاني : ما يتعلّق بالتمكّن من القياس
وهو على نوعين :
[
النوع ] الأوّل : فساد الاعتبار ، وهو مخالفة القياس للنصّ ، بأن يدّعى أنّ القياس مطلقا
__________________
لا يعتبر في هذه
المسألة ، ولا يصحّ الاحتجاج به فيها ؛ لدلالة النصّ على خلافه ، والقياس فاسد
الاعتبار في مقابلة النصّ.
وجوابه : الطعن في
سند النصّ إن أمكن. أو منع ظهوره في مقصود المعترض. أو تسليم ظهوره وادّعاء
التأويل ، وعدم كون ظاهره مرادا لتخصيص ، أو إضمار ، أو مجاز بدليل يرجّحه ، كما
إذا قال الشافعي في ذبح تارك التسمية : ذبح من أهله في محلّه ، فيوجب الحلّ كذبح
ناسي التسمية. فإن اعترض عليه بفساد اعتباره لمخالفته لقوله تعالى : ( وَلا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ ) فنقول : هذا مأوّل بذبح عبدة الأوثان ؛ لقوله صلىاللهعليهوآله : « اسم الله على قلب المؤمن سمّى أو لم يسمّ » .
أو القول بالموجب ، بأن يسلّم النصّ ويدّعي أنّ مدلوله لا ينافي القياس.
أو المعارضة بنصّ
آخر حتّى يتساقط النصّان ، فيسلّم القياس.
أو بيان أنّ قياسه
ممّا يجب ترجيحه على النصّ ببعض الوجوه المرجّحة ، كما إذا رجّح الشافعي قياسه على
النصّ بعد الاعتراض المذكور ، بأنّ فرعه ـ وهو المتذكّر ـ مقيس على الناسي المخصّص
عن هذا النصّ بالإجماع. فإن أبدأ المعترض فارقا بين الأصل والفرع ، كان سؤالا آخر
؛ لأنّه من قبيل المعارضة.
واعلم أنّ الأقيسة
تختلف في القوّة والضعف. والنصوص أيضا تختلف فيهما لوجوه منها كثرة العدد وقلّته.
وكذا الأقيسة تختلف في الحجّيّة وعدمها على قواعد الفريقين. فاللازم في صورة
ادّعائه فساد الاعتبار ملاحظة القياس والنصّ ، والترجيح على ما يقتضيه مذهب
المتناظرين ، مثلا في صورة الجواب بالمعارضة لو عارضه المعترض بنصّ آخر حتّى يعارض
أحد نصّيه نصّه ، والآخر القياس ، يسمع منه ؛ لأنّ النصّ الواحد لا يكافئ النصّين
إذا لم يكن له ترجيح من وجوه أخر. والقول بعدم سماعه ضعيف. هذا.
وفساد الاعتبار قد
يرد في غير القياس أيضا ؛ لأنّه دعوى عدم اعتبار الدليل في مسألة ؛
__________________
فكلّ دليل لا
يتمكّن المستدلّ من الاحتجاج به في مسألة باعتبار ، فيرد فيه هذا السؤال ، فإذا
استدلّ على مسألة عقليّة بالإجماع ، فيمكن الاعتراض عليه بأنّه لا يعتبر في
العقليّات. وقس عليه غيره.
النوع
الثاني : فساد الوضع ،
وهو إبطال وضع القياس المخصوص ، وتركيب مقدّماته في إثبات الحكم المخصوص ، بأن
يدّعى أنّه وضع في هذه المسألة قياس لا يصحّ وضعه فيها ، فحاصله منع التمكّن من
القياس المخصوص. وحاصل فساد الاعتبار منع التمكّن من القياس مطلقا ، فكلّ فاسد
الوضع فاسد الاعتبار ، ولا عكس ؛ لأنّ القياس قد يكون صحيح الوضع وإن فسد اعتباره
بأمر من خارج وهو أيضا قد يرد في غير القياس من الأدلّة. والتفصيل لا يخفى على
المتدرّب.
ثمّ إبطال الوضع
في القياس إنّما يكون بأربعة وجوه :
الأوّل : دعوى
وقوعه فيما يمتنع فيه التعليل ، كالحدود ، والكفّارات ، وأمثالهما.
وجوابه : بيان
صحّة التعليل فيه.
الثاني : دعوى
وقوعه في مقابلة النصّ ، فيكون باطلا.
وجوابه : أحد
الأجوبة المذكورة في فساد الاعتبار.
الثالث : دعوى كون
الجامع مناسبا لنقيض الحكم ، كما لو قيل في مسألة النكاح بلفظ الهبة : ما ينعقد به
غير النكاح لا ينعقد به النكاح ، كالإجارة ، فيعترض عليه بأنّ انعقاد غير النكاح به
يناسب انعقاد النكاح به لا عدم انعقاده به.
وجوابه : القدح في
مناسبة المعترض ، أو ترجيح مناسبة على مناسبة ، وإنّما يعتبر القدح في مناسبة
الوصف إذا كان مناسبته للحكم ونقيضه من وجه واحد.
وأمّا إن اختلف
الوجهان ، فلا يقدح فيها ؛ إذ قد يكون للوصف جهتان يناسب بإحداهما الحكم ،
وبالاخرى نقيضه ، ككون المحلّ مشتهى يناسب إباحة النكاح لا راحة الخاطر ، والتحريم
لقطع الطمع.
الرابع : دعوى كون
الجامع قد ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع في نقيض الحكم ، كما إذا قيل في التيمّم :
مسح فيسنّ فيه التكرار ، كالاستطابة ، فيورد أنّ المسح قد ثبت اعتباره في
كراهة التكرار على
المسح على الخفّ إجماعا.
وجوابه : بيان
وجود المانع في أصل المعترض ، فيقول في المثال : مانع التكرار في الخفّ تعرّضه
للتلف.
واعلم أنّ فساد
الوضع بالوجهين الأوّلين لا يشتبه بشيء من باقي الأسئلة . وأمّا بالوجهين الآخرين ، فربما اشتبه بالنقض ؛ من حيث إنّ فيه ثبوت نقيض
الحكم مع الوصف ، أو بالقلب ؛ من حيث إنّه إثبات نقيض الحكم بوصف المستدلّ ، أو
بالقدح ؛ من حيث إنّه يبقى مناسبة الوصف للحكم.
وينحلّ الاشتباه
بأنّ حقيقة فساد الوضع بهذين الوجهين كون الوصف مثبتا للنقيض بأصل غير أصل
المستدلّ ، فلا يشتبه بالنقض ؛ لأنّه يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوصف من غير
اشتراط كون الوصف هو المثبت للنقيض. ولا بالقلب ؛ لأنّه يثبت فيه النقيض بأصل
المستدلّ ، ويثبت في فساد الوضع بأصل آخر. ولا بالقدح بالمناسبة ؛ لأنّه نفي
المناسبة بلا أصل ، وفيه ينتفي المناسبة بأصل. هذا.
وما يفترق فيه
الخاصّة عن العامّة في الوجوه المذكورة وأجوبتها وكيفيّة ذلك لا يخفى على من أحاط
بما قدّمناه.
الجنس الثالث : ما يتعلّق بالمقدّمة الاولى من القياس
وهو حكم الأصل ،
ويندرج فيه نوعان :
[
النوع ] الأوّل : منع ثبوت حكم الأصل ، كما إذا قيل : جلد الخنزير لا يقبل الدباغ ؛ للنجاسة
الغليظة كالكلب ، فيقال : لا نسلّم أنّ جلد الكلب لا يقبل الدباغ. والحقّ أنّ هذا
المنع يسمع ، والقول بعدم سماعه باطل ؛ إذ لا يقوم الحجّة على الخصم مع منع أصله.
وجوابه : إثباته
بالدليل.
وما قيل : إنّه
قطع للمستدلّ ، فلا يتمكّن من الدلالة على إثباته ؛ لكونه انتقالا ضعيف ؛
__________________
لأنّه إثبات
مقدّمة ممنوعة من مقدّمات المطلوب ، وليس مثله انتقالا ممنوعا ، وإلاّ كان منع
علّيّة العلّة ، أو وجودها في الأصل أو الفرع قطعا ، وليس به قطعا.
نعم ، لو رآه
المستدلّ قطعا فهو قطع ؛ إلزاما له بمذهبه. وبه يظهر ضعف ما قيل أيضا : إنّه قطع
لو كان ظاهرا ، وإلاّ فلا .
وقيل : يتبع في
ذلك عرف المكان ؛ لأنّه أمر وضعيّ يختلف عند الطوائف. وهو أيضا كما ترى.
ثمّ المختار أنّ
مجرّد الدلالة من المستدلّ على إثبات المقدّمة الممنوعة ليس قطعا للمعترض ، بل له
أن يعترض ، ووجهه ظاهر.
النوع
الثاني : التقسيم ، وهو
كون اللفظ متردّدا بين أمرين : أحدهما ممنوع فيمنعه. والآخر مسلّم فيصرّح بتسليمه
؛ لعدم الضرر ، أو سكت عنه ؛ لعدم الضرورة. وحاصله أنّه منع بعد تقسيم. وهو لا
يختصّ بحكم الأصل ، بل يجري في جميع المقدّمات القابلة للمنع. ولقبوله شرطان :
أحدهما : تساويهما
بالنسبة إلى اللفظ ، فلو كان ظاهرا في أحدهما دون الآخر لم يكن للتقسيم معنى.
وثانيهما : أن
يكون منعا لما يلزم المستدلّ بيانه. مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء : وجد
سبب التيمّم ـ وهو تعذّر الماء ـ فساغ التيمّم ، فيقول المعترض : السبب تعذّر
الماء مطلقا ، أو تعذّر الماء في السفر أو المرض ، والأوّل ممنوع. وله السكوت بعد
ذلك ، أو يضيف « وغيره مسلّم » ولكنّه لم يوجد في الفرع ، فلا يتمّ المطلوب.
ولو كان منعا لما
لا يلزمه بيانه لم يكن مقبولا ، كما لو قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم :
وجد سبب استيفاء القصاص ، فيجب استيفاؤه ، فيورد : متى هو سبب؟ مع مانع الالتجاء ،
أو عدمه؟ والأوّل ممنوع. وإنّما لم يقتل ؛ لأنّ حاصله طلب عدم كون الالتجاء مانعا.
والمستدلّ لا يلزمه بيانه ، بل يلزم على المعترض بيان كونه مانعا.
__________________
واعلم أنّ أحد
الاحتمالين لو كان ممنوعا والآخر مسلّما ، ولم يوجد المسلّم في الفرع ، كما في
المثالين ، فوروده ظاهر ، ولو وجد المسلّم فيه فقيل : لا يرد ؛ لأنّ إبطال أحد
احتمالي كلام المستدلّ ليس إبطالا له ؛ إذ لعلّ الآخر مراده. وقيل : يرد ؛ إذ به
يتعيّن مراده ، وله مدخل في هدم الدليل والتضيّق .
والحقّ : أنّه لو
لم يكن فرق بينهما بوجه في إثبات الحكم بهما في الفرع ، لم يرد ، ولو ورد كان
استفسارا ، ولو وجد بينهما فرق فيه بحيث لو منع أحدهما لم يمكنه تتميم الدليل
بالآخر كان واردا ، ولو كانا مشتركين في المنع أو التسليم لم يرد التقسيم ، سواء
كان الموجود في الفرع أحدهما ، أو كليهما ؛ لعدم الفائدة فيه.
والقول بوروده في
صورة اشتراكهما في التسليم إذا اختلفا فيما يرد عليهما من القوادح ضعيف ؛ لأنّه لو
ورد حينئذ لم يكن تقسيما.
واعلم أنّه على ما
ذكر من كون التقسيم منعا بعد ترديد فهو مركّب من الاستفسار والمنع ، فيأتي فيه
مجموع ما يأتي فيهما من الأبحاث وكيفيّة الجواب.
الجنس الرابع : ما يتعلّق بالمقدّمة الثانية من مقدّمات
القياس
وهي العلّة.
وأنواعه ثلاثة عشر :
[
النوع ] الأوّل : منع وجود العلّة في الأصل ، كما إذا قيل في الكلب : حيوان يغسل من ولوغه
سبعا ، فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير ، فمنع وجوب الغسل سبعا من ولوغ الخنزير.
وجوابه : إثباتها
فيه بما هو طريق إثباته من دليل شرعيّ إن كانت شرعيّة ، وعقليّ إن كانت عقليّة ،
وحسّيّ إن كانت حسّية. ففي المثال لمّا كانت شرعيّة ، يلزم أن يثبت وجودها بدليل
شرعيّ.
النوع
الثاني : منع علّيّتها ،
وهو سؤال المطالبة ؛ إذ حاصل المنع والمطالبة بالدليل واحد ؛ فإنّه لا فرق بين أن
يقال : لا نسلّم أنّ الوصف الفلاني علّة ، أو لم قلت : إنّه علّة؟ وهو
__________________
أعظم الأسئلة
والأنظار ؛ لعموم وروده ، وتشعّب مسالكه ، لأنّ العلّيّة في الغالب ظنّيّة ، وطرق
إثباتها متّسعة ، ومثاله ظاهر.
وقد اختلف في
قبوله. والمختار قبوله ، وإلاّ لزم صحّة التمسّك بكلّ طرد حتّى صرير الباب ، ونعيق
الغراب ، فيفتح باب الهذيان ، وينسدّ باب الدلالة والبرهان ، ويضيع القياس رأسا ؛
لعدم إفادته الظنّ حينئذ.
واحتجّ الخصم
بوجوه واهية لا يخفى جوابها على أحد.
وإذا ثبت قبول هذا
المنع ، فجوابه إثبات العلّيّة بأحد مسالكها المتقدّمة من الإجماع ، أو الكتاب أو
السنّة أو تخريج المناط عند من يعمل به.
ثمّ يرد على كلّ
منها أسئلة ، فيرد على الإجماع منع وجوده ؛ لإظهار وجود المخالف ، أو منع دلالة
السكوت على الموافقة ، والطعن في سنده إذا كان منقولا ، والمعارضة بمثله أو بدليل
آخر يقاومه من كتاب أو سنّة متواترة.
ويرد على الكتاب ،
الاستفسار ، ومنع ظهوره في الدلالة والإجمال والتأويل والمعارضة والقول بالموجب.
وعلى السنّة
السنّة. والطعن بالإرسال ، أو الوقف ، أو القدح في الرواية ؛ لخلل في عدالة الراوي
أو ضبطه ، أو لقول الشيخ : إنّه لم يرو عنّي وغير ذلك من الأسئلة الواردة على
أخبار الآحاد.
وعلى تخريج المناط
ما تقدّم من كون الوصف مناسبا مرسلا ، أو غريبا ، أو شبها. وما يأتي
من عدم الإفضاء ، أو المعارضة بإبداء معنى آخر يصلح للعلّيّة ، أو عدم الانضباط ، أو عدم الظهور ، أو إبداء مفسدة راجحة أو
مساوية.
النوع
الثالث : القدح في مناسبة
الوصف المعلّل به ، وهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية.
__________________
وجوابه : بيان
رجحان المصلحة على المفسدة تفصيلا ، أو إجمالا.
النوع
الرابع : كون الوصف غير
منضبط ، كالتعليل بالحكم والمصالح ، مثل المشقّة والحرج والزجر والردع وأمثالها.
وجوابه : إمّا
بيان انضباطه بنفسه ، كأن يقال في المشقّة : إنّها منضبطة عرفا. أو بوصف ضابط له ،
كالمشقّة بالسفر ، والزجر بالحدود.
النوع
الخامس : كونه خفيّا ،
كالرضى والقصد وأمثالهما.
والجواب : ضبطه
بما يدلّ عليه من الصنع والأفعال. وقد تقدّم بيان ذلك مفصّلا.
واعلم أنّ الأنواع
الثلاثة الأخيرة من شروط الوصف المناسب الذي هو أحد أنواع العلّة ، فصحّ تعلّقها
بالمقدّمة الثانية ، أي علّة حكم الأصل.
النوع
السادس : القدح في إفضاء
الحكم إلى المقصود ، كما لو علّل حرمة مصاهرة المحارم بالتأبيد بالحاجة إلى ارتفاع
الحجاب المفضي إلى الفجور المندفع بتأبيد التحريم ؛ إذ سدّ باب النكاح يقطع الطمع
المؤدّي إلى مقدّمات الهمّ والنظر ، المؤدّية إلى الفجور. فيقول المعترض : بل سدّ
باب النكاح أفضى إلى الفجور ؛ لأنّ الإنسان حريص على ما منع.
وجوابه : بيان
الإفضاء إليه ، كأن يقول في المثال : الحرمة المؤبّدة تمنع المقدّمات المفضية إلى
الفجور عادة ، ومرّ الزمان يصير كالطبيعي ، فلا يبقى المحلّ مشتهى كالامّهات.
واعلم أنّ الظاهر
من كلام القوم أنّ هذا النوع أيضا من شروط الوصف المناسب ، ولذا أدرجوه في أسئلة
العلّة . وأنت تعلم أنّ المفضي إلى المصلحة هو شرعيّة الحكم ،
كالتحريم مثلا ، لا الوصف المناسب ، فقد تسامحوا فيما فعلوه.
النوع
السابع : المعارضة في
الأصل ، وهو إبداء وصف آخر فيه يصلح للعلّيّة بالاستقلال ، فيمكن أن يكون علّة
مستقلّة وأن يكون جزء علّة ، كما إذا علّل حرمة الربا بالطعم ، فيعارض بالقوت أو
الكيل.
أو لا بالاستقلال
، فيكون جزء علّة لا غير ، كما إذا علّل القصاص في القتل بالمحدّد
__________________
بكونه قتلا عمدا ،
فيعارض بكونه بالجارح ، بأن يدّعى أنّ العلّة هي الأوصاف المذكورة ، مع قيد كونه
بالجارح.
وقد اختلف
الجدليّون في قبول هذه المعارضة. والمختار عند الأكثر قبولها .
واحتجّوا عليه
بأنّه إذا ظهر ما يصلح للعلّيّة وراء وصف المستدلّ ، فإمّا أن يستند الحكم إليهما
معا أو إلى واحد مبهم منهما ، فيبطل تعيّن الإلحاق بوصف المستدلّ ، فيصحّ المعارضة.
وإمّا إلى واحد
معيّن ، فيلزم التحكّم. أو إلى كلّ منهما ، فيلزم جواز تعدّد العلل المستقلّة ،
وهو باطل .
وعلى ما أصّلناه ـ
من صحّة تعدّد العلل ـ لا يخفى النظر في الشقّ الأخير. ومنه يظهر عدم صحّة هذا
الدليل ، و [ صحّة ] دليل الخصم ؛ لأنّه استدلّ بأنّ المفروض استقلال كلّ منهما
بالعلّيّة ، فيلزم صحّة تعدّد العلّة ، فيكون وصف التعليل علّة مستقلّة ، ولا يقدح
في ذلك علّيّة وصف المعارضة.
والحقّ ، ورود
النظر ، إلاّ أنّه لا يستلزم صحّة دليل الخصم وحقّيّة مذهبه ؛ لأنّ اللازم من
النظر إليه أنّه يحتمل استقلال كلّ منهما بالعلّيّة ، كما يحتمل جزئيّتهما ، أو
كون العلّة أحدهما فقط ، فالحكم بالأوّل تحكّم محض. فعلى هذا يتقابل الدليلان
ويندفعان ، فنرجع في إثبات قبول المعارضة إلى ما شاع وذاع من عمل الصحابة
والتابعين ومن لحقهم من العلماء والسلف الصالحين. وما يعلمه كلّ أحد أنّ المستدلّ
يدّعي خلاف الأصل ؛ لأنّ الأصل انتفاء الأحكام ، فيلزم عليه أن يثبت ما يدّعيه
بحيث لا يرد عليه شيء ، ويسدّ عنه أبواب الأنظار الدافعة لدليله قطعا ، والمشكّكة
في صحّته ، ولا ريب أنّ إبداء وصف صالح للعلّيّة يوقع الشكّ في علّيّة وصفه ، فيلزم عليه الجواب عنه.
__________________
وجميع ما ذكر
إنّما يتأتّى على أصول العامّة . وأمّا عندنا ، فلمّا كان طريق العلّيّة منحصرة بالنصّ أو
مثله ، فيتعيّن استقلال الوصفين بالعلّيّة ؛ لأنّ وصف المستدلّ لو كان علّيّة ثابتة بالنصّ ، لا مجال لتوهّم جزئيّته ، وكذا وصف المعترض ، فلا يقبل
المعارضة .
واعلم أنّه يتفرّع
على قبول المعارضة بحثان :
[ البحث ] الأوّل
: هل يشترط فيه أن يبيّن المعترض انتفاء وصفه عن الفرع ، كأن يقول في قياس
الزعفران على البرّ في الربوية بجامع الطعم : العلّة القوت وهو منتف في الزعفران.
[ البحث ] الثاني
: هل يشترط فيه أن يبيّن تأثير وصفه في أصل آخر ، كأن يقول في المثال : العلّة
القوت كما في الملح.
والحقّ ، عدم
اشتراطهما فيه ؛ لأنّ غرضه هدم استقلال وصف المستدلّ في العلّيّة ، وصدّه عن
التعليل به ، وهو يحصل بمجرّد إبداء وصف صالح لأن يكون علّة أو جزءها ؛ لأنّ
احتمال كونه جزءا للعلّة يكفي في عدم تماميّة دليله. ولا يدّعي القطع في إبطال
دليل المستدلّ ليحتاج إلى بيان عدمه في الفرع ، ولا علّيّة ما أبداه بالاستقلال
حتّى يحتاج إلى ردّه إلى أصل ، وشهادته له بالاعتبار.
نعم ، لو صرّح
بعدمه في الفرع وعلّيّته بالاستقلال ، لزمه بيان نفيه عنه ، وردّه إلى أصل ؛ لأنّه
التزم أمرا فلزمه بالتزامه ، فيجب عليه الوفاء بما التزمه وإن لم يجب عليه ابتداء
، وإذا ثبت أنّ المعارضة مقبولة ، فالجواب عنها من وجوه :
منها : منع وجود
الوصف المعارض به في الأصل.
ومنها : المطالبة
بتأثيره إذا أثبت المستدلّ علّيّة وصفه بالمناسبة أو الشبه ؛ فإنّ المعارضة حينئذ
تتمّ بوصف كان مناسبا ، ولو أثبتها بالسبر ، لم يكن له مطالبة التأثير ؛ لأنّ
المعارضة يتمّ بمثله وصفه ، والوصف يدخل في السبر بمجرّد احتمال كونه مناسبا وإن لم
يثبت مناسبته.
__________________
ومنها : بيان
خفائه ، أو عدم انضباطه ، أو منع ظهوره ، أو انضباطه.
ومنها : بيان أنّه
عدم معارض في الفرع ، كما إذا قيس المكره على المختار في القصاص بجامع القتل ،
فيعترض بالطواعية ، بأن يدّعى أنّ العلّة هي القتل مع الطواعية. فيجاب بأنّ
الطواعية عدم الإكراه المعارض في الفرع ، وهو يناسب نقيض الحكم ، أي عدم القصاص ،
فلا يصلح أن يكون علّة للحكم ؛ لأنّ علّة الحكم يجب أن تكون باعثة ، وعدم المعارض
طرد ليس من الباعث في شيء.
ومنها : ترجيح
وصفه عليه بوجه من وجوه الترجيح.
ومنها ـ كما قيل ـ
: كون وصفه متعدّيا ووصف المعترض قاصرا ؛ فإنّ المتعدّي راجح على القاصر ؛ لكونه
معتبرا بالوفاق ، وموجبا للاتّساع في الأحكام دونه.
لا يخفى أنّ
القاصر راجح عليه باعتبار أنّه موافق للأصل ؛ إذ الأصل عدم الأحكام. وأيضا في
اعتباره الجمع بين الدليلين ، وفي إلغائه طرح أحدهما ، والجمع أولى من الطرح .
ومنها : بيان كونه
ملغى في جنس الأحكام ، كالطول والقصر ونحوهما ، أو في جنس الحكم المعلّل به ،
كالذكورة والانوثة في باب العتق.
ومنها : بيان
استقلال وصفه بالعلّيّة في صورة بظاهر نصّ أو إجماع ، كما إذا عورض الطعم بالكيل
في الربا ، فيجاب بأنّ النصّ دلّ على اعتبار الطعم في صورة ما ، وهو قوله عليهالسلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » .
وكما إذا عورض
التبديل في قياس يهوديّ صار نصرانيّا على المرتدّ في القتل بجامع تبديل دينه
بالكفر بعد الإيمان ، فيجاب بأنّ النصّ دلّ على اعتبار التبديل في صورة وهو قوله عليهالسلام : « من بدّل دينه فاقتلوه » .
وبعد ثبوت استقلال
وصفه بالعلّيّة تبطل المعارضة ؛ لأنّ غاية الأمر أن يكون وصفها
__________________
أيضا مستقلاّ ،
ولا يضرّ ذلك بالمستدلّ ؛ لجواز تعدّد العلل ، بل له في الجواب بيان استقلال كلّ
من الوصفين. هذا إذا لم يتمسّك المستدلّ بعموم النصّ ، ولو تمسّك به وقال : دلّ
الخبر على ربويّة كلّ مطعوم واعتبار كلّ تبديل ، كان مثبتا للحكم بالنصّ لا متمّما
للقياس ، فيضيع قياسه. ولا يضرّه كون النصّ عامّا ما لم يتمسّك به.
واعلم أنّ الصحيح
من هذه الأجوبة ما لا يبقى معه احتمال الجزئيّة ، فما بقي معه احتمالها غير نافع للمستدلّ ؛ للزوم التحكّم. وكلّها إنّما يتأتّى على
قواعد العامّة ، وأمّا عندنا فقد عرفت حقيقة الحال.
واعلم أنّه لا
يكفي في جواب المعارضة إثبات الحكم في صورة دون وصف المعارضة ما لم يبيّن إلغاء
وصف المعارضة ، أو استقلال وصفه بالعلّيّة ؛ إذ لا يلزم منه أحد من الأمرين ؛ لصحّة تعدّد العلل وعدم وجوب العكس ؛ ولجواز أن يكون الحكم
بعلّة اخرى غير وصف المستدلّ ، سواء كان كلّ من الوصفين أو أحدهما جزءا لها أو لا.
ولعدم لزوم شيء من
الأمرين من الصورة المذكورة لو أبدى المعترض فيها وصفا آخر يخلف وصف المعارضة ـ الذي
ألغاه المستدلّ بزعمه بإثبات الحكم دونه ـ وبضمّه إلى وصف المستدلّ ، بطل
الاستقلال ، وفسد الإلغاء ، ويسمّى هذا الإفساد تعدّد الوضع ؛ لتعدّد أصلي العلّة
ووضعها ؛ فإنّ التعليل في أحد الأصلين بالباقي على وضع ـ أي مع قيد ـ وفي الآخر
بالباقي على وضع آخر.
مثاله : أن يقال
في أمان العبد للحربي : أمان من مسلم عاقل ، فيصحّ كالحرّ ؛ لأنّ الإسلام والعقل
مظنّتان لإظهار مصالح الإيمان ، أي بذل الأمان ، فيعترض بالحرّيّة ، أي يقال :
العلّة كونه مسلما ، عاقلا ، حرّا ؛ لأنّ الحرّيّة مظنّة الفراغ للنظر ، فيكون
مصلحة الإيمان معه أكمل ، فيلغيها المستدلّ بالعبد المأذون من قبل سيّده في القتال
؛ لاستقلال الإسلام والعقل
__________________
فيه بصحّة أمانه ،
فيقول المعترض : إذن العبد خلف عن الحرّيّة ، إمّا لأنّه مظنّة لبذل الوسع ، أو
لعلم السيّد بصلاحيته. ولا ريب أنّ التعليل في الأصل الأوّل للمستدلّ ـ وهو المسلم
العاقل الحرّ ـ بالباقي ـ أي الإسلام والعقل ـ على وضع ـ أي مع الحرّيّة ـ وفي الأصل الآخر له ـ وهو العبد المأذون من سيّده ـ به على وضع آخر ، أي مع إذن السيّد. هذا.
وجواب تعدّد الوضع
أن يلغي المستدلّ ما أبداه المعترض خلفا للملغى بإبداء صورة لا يوجد فيها الخلف
أيضا ، فإن أبدى خلفا آخر ، فجوابه إلغاؤه. وعلى هذا يدور رحى بحثهما إلى أن يقف
أحدهما. هذا.
وكما لا يثبت
الإلغاء بما ذكر ، فكذا لا يثبت بضعف المعنى ـ أي الحكمة التي يتضمّنها المظنّة ،
أو نفس المظنّة ـ إذا سلّم وجود هذه المظنّة ، وكونها مظنّة للحكمة. وحاصله أنّه
بعد وجود المظنّة وكونها مظنّة لحكمة الحكم لا يستلزم ضعفها في صورة ، أو ضعف
حكمتها الإلغاء.
مثاله أن يقال :
تقتل المرتدّة كما يقتل المرتدّ بجامع الارتداد ، فيعترض بالرجوليّة ؛ لأنّها
مظنّة الإقدام على القتال ، فيجيب المستدلّ بأنّ الرجوليّة وكونها مظنّة الإقدام
لا يعتبر ، وإلاّ لم يقتل مقطوع اليدين ؛ لضعفهما فيه ، بل ضعفهما فيه أشدّ من
ضعفهما في النساء. وإنّما لم يكف ذلك في الإلغاء ؛ لأنّه لمّا سلّم أنّ الرجوليّة
مظنّة ، فلا يقدح ضعفها في صورة ، ولا ضعف حكمتها ؛ إذ المعتبر المظنّة وقد وجدت ،
لا مقدار الحكمة ؛ لعدم انضباطها ، ولذا لا يمنع سفر الملك الترخّص في حقّه مع ضعف
الحكمة ـ وهي المشقّة ـ بالترفّه ؛ لأنّ المناط مظنّتها ـ أي السفر ـ وهو موجود.
ولا يخفى أنّ جميع
ما ذكر لمّا كان متفرّعا على المعارضة ، فهو يأتي على قواعد العامّة ، لا على قواعدنا.
__________________
تذنيب
اختلف في جواز
تعدّد أصل المستدلّ ، والصحيح جوازه ؛ لقوّة الظنّ به ، فتعليل المنع بحصول
المقصود بواحد فيلغو الباقي عليل. وهذا يتأتّى على قواعد الفريقين .
وإذا تعدّد أصله ،
اختلف في جواز اقتصار المعترض على معارضة أصل واحد وعدم التعرّض لسائر اصوله.
والحقّ عدمه ؛ لأنّه لو سلّم له أصل لم يعارض ، بقي قياسه صحيحا ، وتمّ مقصوده من
إثبات الحكم أو نفيه ، فتعليل الجواز بأنّ إبطال جزء من كلامه يبطل مقصوده ضعيف.
وعلى القول بوجوب
التعرّض لجميع الاصول اختلف في وجوب اتّحاد المعارضة في الجميع ، بأن يعارض بما يشترك
فيه الجميع ، فقيل به ؛ دفعا لانتشار الكلام ، وهو لا يصلح
حجّة للمنع.
والحقّ خلافه ؛
لعدم المانع ، فإذا لم يشترك الجميع في العلّة ، يجوز المعارضة في كلّ أصل بغير ما
في الأصل الآخر.
وعلى عدم وجوب
الاتّحاد اختلف في جواز اقتصار المستدلّ على دفع معارضة أصل واحد. والحقّ جوازه ،
ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.
وهذه الاختلافات
أيضا لمّا كانت متفرّعة على المعارضة ، فلا تتأتّى عندنا ، فالترجيحات المذكورة
إنّما هي على اصول العامّة .
النوع
الثامن ، والتاسع ، والعاشر ، والحادي عشر : القول بالموجب ، والنقض ، والكسر ، وعدم العكس وقد
تقدّمت مفصّلة ، مذيّلة بشرائطها وأجوبتها.
النوع
الثاني عشر : سؤال التركيب
وهو دعوى كون حكم الأصل ذا قياس مركّب. وقد عرفت معناه مع ما يتعلّق به ، وأنّ عدمه من شرائط حكم الأصل ، فليس بالحقيقة سؤالا
برأسه.
__________________
النوع
الثالث عشر : سؤال التعدية
وهو بيان وصف في الأصل عدّي إلى فرع مختلف فيه. وتوضيحه أن يعيّن المعترض في الأصل
معنى ، ويعارض به ، ثمّ يقول للمستدلّ : ما علّلت به وإن تعدّى إلى فرع مختلف فيه إلاّ أنّ ما علّلت به أيضا تعدّى إلى فرع آخر
مختلف فيه ، فلا أولويّة لأحدهما.
مثاله : أن يقول
الشافعي في إجبار البكر البالغة : بكر يجوز إجبارها كالبكر الصغيرة ، فيعترض
الحنفي بالصغر ويقول : ما ذكرته وإن تعدّى به الحكم إلى البكر البالغة ، فما ذكرته
قد تعدّى به الحكم إلى الثيّب الصغيرة.
والحقّ أنّه
معارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية ، فليس سؤالا برأسه ، فجوابه جوابها.
الجنس الخامس : ما يتعلّق بالمقدّمة الثالثة
وهي كون العلّة
موجودة في الفرع. وأنواعه خمسة :
[
النوع ] الأوّل : منع وجودها في الفرع. ومثاله مع جوابه ظاهر. وهو يتأتّى على قواعد الفريقين
، ووجهه ظاهر.
[
النوع ] الثاني : المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم فيه ، بأن يبدي وصفا آخر يقتضي
نقيض حكم المستدلّ في الفرع. وإذا اطلقت المعارضة في مباحث القياس ، فالمراد منها
هذه دون المعارضة في الأصل ؛ فإنّها تقيّد . ولا بدّ للمعترض
من بناء وصفه على أصل ، وإثبات علّيّته بطريق من طرقها ، فيصير المعترض مستدلاّ ،
وبالعكس ، فينقلب وظيفتاهما.
والحقّ ، قبول هذا
السؤال ؛ لأنّه لو لم يقبل ، اختلّ فائدة البحث ، وسدّ باب المناظرة ، ووجهه ظاهر.
__________________
واحتجاج الخصم
بأنّ فيه قلب التناظر وهو لا يصحّ ، ضعيف ؛ لعدم
لزومه منه إذا كان قصد المعترض منه هدم دليل المستدلّ ، وإنّما يلزم لو قصد به
إثبات مقتضى دليله ، وليس كذلك.
وجوابه : ما يعترض
به على المستدلّ ابتداء من الأسئلة ، والجواب الجواب ، أو ترجيح وصفه بوجه من
وجوهه على المختار.
والقول بعدم قبوله
فاسد ؛ لوجوب العمل بالراجح ؛ لئلاّ يلزم ترجيح المرجوح ، والإجماع على العمل
بالتراجيح.
والحقّ ، عدم وجوب
الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل ؛ لأنّه خارج عن الدليل ، وإنّما احتيج إليه
لدفع المعارضة لا لأنّه جزء منه.
ولا يخفى أنّ هذا
السؤال ممكن الإيراد على قواعدنا أيضا ؛ فإنّه لا يمتنع عندنا وجود محلّ أمكن
إلحاقه بكلّ واحد من أصلين علّل حكماهما بعلّتين منصوصتين كلّ منهما يقتضي نقيض
مقتضى الاخرى فيهما.
وجوابه الأسئلة
التي أشرنا إلى صحّة إيرادها عندنا ، وصحّة الجواب بالترجيح عندنا ظاهرة.
النوع
الثالث : الفرق ، وقد
تقدّم .
النوع
الرابع : اختلاف ضابطة الحكمة
في الأصل والفرع ، كأن يقال في شهود الزور على القتل : تسبّبوا بالشهادة للقتل ،
فيجب القصاص كالمكره ، فيورد اختلاف الضابط ؛ لأنّه في الأصل الإكراه ، وفي الفرع
الشهادة ، ولم يعتبر الشارع تساويهما في المصلحة. وهو ممكن الإيراد على اصولنا . مثلا لو نصّ الشارع على علّيّة التسبّب بالإكراه لقصاص المكره ، فقيس عليه
شاهد الزور فيه بالتسبّب بالشهادة ، فللمعترض أن يقول : التسبّب بالإكراه يخالف
التسبّب بالشهادة.
__________________
وجوابه : بيان أنّ
الجامع ما اشتركا فيه من الحكمة وهو التسبّب هنا ، وهو مضبوط عرفا.
أو بيان تساوي
الضابطين ، أو رجحان ضابط الفرع في الإفضاء إلى المقصود ، فيثبت التعدية ، كما لو
جعل الأصل في المثال هو المغري للحيوان على قتل الآدميّ ، فيورد اختلاف الضابط في
الأصل والفرع ، فيجاب بأنّ الشهادة في الإفضاء إلى قتل من شهد عليه بالقتل أقوى من
الإغراء ؛ لأنّ انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بالقتل طلبا للتشفّي
أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء على قتل من اغري عليه ؛ لنفرته عن الآدمي ، وعدم
علمه بالإغراء غالبا.
النوع
الخامس : اختلاف جنس
المصلحة في الأصل والفرع مع اتّحاد الضابط فيهما ، كقول الشافعيّة في اللواط :
إيلاج فرج في فرج محرّم شرعا مشتهى طبعا ، فيجب الحدّ كالزنا . فيقال : الضابط وإن اتّحد إلاّ أنّ المصلحة في تحريمهما مختلفة ؛ فإنّ
الحكمة في حرمة الزنا دفع محذور اختلاط الأنساب ، وفي حرمة اللواط دفع رذيلة [
اللياطة ] ، وقد يتفاوتان في نظر الشارع ، فينوط الحكم بأحدهما دون الآخر. وحاصله
معارضة في الأصل لإبداء خصوصيّة فيه ، كأنّه قيل : العلّة ما ذكرتم ، مع كونه
موجبا لاختلاط النسب فجوابه كجوابها.
الجنس السادس : ما يتعلّق بالمقدّمة الرابعة
وهي وجود الحكم في
الفرع. ويندرج فيه نوعان :
[
النوع ] الأوّل : مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل ، بأن يقال ـ بعد تسليم وجود علّة الأصل في
الفرع ـ : حكم الفرع يخالف حكم الأصل حقيقة وإن ساواه صورة ، والمطلوب المساواة
حقيقة ، كأن يقال في قياس البيع على النكاح أو عكسه في عدم الصحّة : الحكم ـ وهو
عدم الصحّة ـ مختلف فيهما ؛ فإنّه في النكاح حرمة المباشرة ، وفي البيع حرمة
الانتفاع. وإمكان إيراد هذا السؤال على قواعدنا ظاهر.
__________________
والجواب : بيان
اتّحاد الحكم إمّا عينا ، كما في المثال ؛ فإنّ البطلان بشيء واحد ، وهو عدم ترتّب
المقصود من العقد عليه ، والاختلاف إنّما يعود إلى المحلّ ، وهو لا يقدح في صحّة
القياس ؛ لكونه شرطا فيه.
أو جنسا ، كما إذا
قيس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قصاص الأنفس بالنفس الواحدة ، فيورد
المخالفة ، فيجاب بأنّ الحكم متّحد في الأصل والفرع جنسا وإن اختلف فيهما عينا.
[
النوع ] الثاني : القلب وقد تقدّم .
الجنس السابع : ما يتعلّق بالمقدّمة الخامسة
وهي كون الحكم
المثبت في الفرع مطلوبه الذي ادّعاه أوّلا. وهو ينحصر في نوع واحد هو القول
بالموجب ، وقد تقدّم مفصّلا .
فائدة
اعلم أنّ
الاعتراضات من نوع واحد ـ كالاستفسارات ، أو منوع ، أو
نقوض ، أو معارضات ـ يجوز تعدّدها وفاقا ؛ لعدم
لزوم تناقض وخبط والخروج من سؤال إلى غيره. ومن أنواع متعدّدة ـ كاستفسار ، ومنع ،
ونقض ، ومعارضة ـ إن كانت غير مرتّبة ـ كمنع العلّيّة ، ومنع حكم الأصل ؛ إذ
الترتّب أن يؤخّر الأوّل عن الثاني ؛ لأنّ تعليل الحكم بعد ثبوته طبعا ـ لا يجوز
جمعها عند أهل سمرقند ، بل يجب عندهم عدم إيراد سؤال آخر بعد سؤال حتّى يجيب عنه ؛
وإن عجز عن جوابه ، فقد انقطعت المناظرة ، وقالوا : هذا أقرب إلى الضبط ، وأبعد عن
الخبط. وجوّزه جمهور المناظرين ؛ لعدم صلاحية ما ذكروا للمنع صالحا له .
__________________
والحقّ ، عدم
جوازه لئلاّ يلزم المنع بعد التسليم ؛ فإنّ منع العلّيّة يستلزم ثبوت الحكم ضمنا ،
فإذا منع الحكم ثانيا ، كان مانعا لما سلّمه.
وإن كانت مرتّبة
طبعا ـ كمنع حكم الأصل ، ومنع العلّيّة ـ فمنع جمعها أكثر الجدليّين ؛ لأنّ الأخير فيه الإغماض عن الأوّل ، وتسليم ما منع فيه ؛ لأنّه ما لم
يسلّم ثبوت حكم لا يطلب علّة ثبوته ، فيتعيّن الأخير سؤالا ، ويلغو الأوّل ويضيع.
والحقّ ، جوازه
لأنّ التسليم على التقدير لا نفس الأمر ، فكأنّه قال : لو سلّم الأوّل فالثاني
وارد ، فظهر أنّ جمع المرتّبة جائز ، وجمع غيرها غير جائز ، فيجب مراعاة الترتيب
الطبيعي ، وهو تقديم الاستفسار ، ثمّ فساد الاعتبار ، ثمّ فساد الوضع ، ثمّ ما
يتعلّق بالأصل ، ويلزم فيه تقديم منع حكم الأصل على منع وجود العلّة فيه. ثمّ ما
يتعلّق بالعلّة ؛ لاستنباطها منه ، كالمطالبة ، وعدم التأثير ، والقدح في المناسبة
والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط ، وكونه غير مفض إلى المقصود والنقض
والكسر ومعارضة الأصل ، ويجب تأخّر النقض والكسر على ما قبلهما ، وتقديمهما على
معارضة الأصل ؛ لأنّهما يذكران لإبطال العلّة ، والمعارضة لإبطال تأثيرها
بالاستقلال. ثمّ ما يتعلّق بالفرع ؛ لابتنائه عليهما ، كمنع وجود العلّة فيه ،
ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، واختلاف الضابط والحكمة ، والمعارضة في الفرع ، والقول
بالموجب.
استدراك
قد يستعمل
المتأخّرون نوعا من القياس يسمّونه قياس الأصل على الفرع . وهو أن يقال : لو وجد الحكم الفلاني في الفرع يوجد في الأصل ، لكنّه لم يوجد
فيه فلا يوجد في الفرع. وبيّن الملازمة بأنّه لو وجد في الفرع لوجد بعلّة كذا ؛
لمناسبتها له ، واقترانه بها ، وهي موجودة في الأصل.
__________________
مثاله قول
الشافعيّة : لا يجوز إزالة النجاسة بالخلّ ، كما لا يجوز بالدهن ؛ لأنّه لو ثبت
جواز إزالتها بالخلّ لكان لأجل أنّه مائع ، وهذا الوصف موجود في الدهن ، مع عدم
جواز إزالتها به ، فلا يجوز بالخلّ أيضا .
ولا يخفى أنّه ليس
من الأقيسة الفقهيّة ، ولذا ما أدرجناه فيها ، بل هو نوع من التلازم ؛ لأنّه مركّب
من شرطيّة متّصلة استثني نقيض تاليها ؛ لإنتاج نقيض مقدّمها ، فعلّة التسمية بقياس
الأصل على الفرع كونه قياسا منطقيّا يثبت فيه علّة الحكم لما هو بمنزلة الفرع
أوّلا ، ولما هو بمنزلة الأصل ثانيا ، فكان الثاني مقيسا على الأوّل.
* * *
[ تمّ
الجزء الأوّل من كتاب أنيس المجتهدين ]
__________________
فهرس
الموضوعات
مقدّمة التحقيق.................................................................. ٧
ترجمة
المؤلّف ................................................................. ٧
مؤلّفاته
في أصول الفقه ....................................................... ١٤
أنيس
المجتهدين .............................................................. ١٥
عملنا
في الكتاب ............................................................ ١٧
كلمة
شكر ................................................................. ٢٠
مصوّرات
من النسخ الخطّيّة ................................................... ٢١
مقدّمة المؤلّف ................................................................. ٢٥
المبحث الأوّل : في المقدّمات
الباب الأوّل : في نبذ من أحواله
ف
١ : في تعريف علم الاصول ............................................... ٢٩
فائدة
: في جواز العمل بظنّ المجتهد في نفس الأحكام وموضوعاتها ............... ٣١
ف
٢ : في موضوع علم الاصول .............................................. ٣٤
ف
٣ : في مرتبته وفائدته ومعرفته ............................................. ٣٥
الباب الثاني : في المبادئ اللغويّة
ف
١ ـ في أنّ المبادئ على قسمين ............................................ ٣٦
ف
٢ ـ في اللغة ........................................................... ٣٧
ف
٣ ـ في أنّ اللغات هل هي توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟ ........................... ٣٧
ف
٤ ـ في طريق معرفة اللغات .............................................. ٤٠
فائدة
: في أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث هي .......................... ٤١
ف
٥ ـ في إطلاق الكلام والكلمة والقول والذكر .............................. ٤٢
قاعدة
: في عدم اشتراط صدور الكلام من متكلّم واحد ........................ ٤٢
ضابطة
: في وجوب حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة المتبادرة المعتادة ............ ٤٣
ف
٦ ـ في الخلاف في جواز وقوع كلّ من المترادفين مقام الآخر .................. ٤٣
ف
٧ ـ في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد .................... ٤٤
ف
٨ ـ في الحقيقة والمجاز وأقسامهما .......................................... ٥١
فائدة
: في بيان علامات كلّ من الحقيقة والمجاز ............................... ٥٢
ف
٩ ـ في الحقيقة الشرعيّة .................................................. ٥٥
مسألة
: في أنّ النقل خلاف الأصل .......................................... ٥٨
ف
١٠ ـ في أنّ وجود العلاقة كاف في المجاز أم لا؟ ............................. ٥٩
ف
١١ ـ في أنّ استعمال اللفظ في الحقيقة أو المجاز لا يستلزم الآخر ............... ٦٠
فائدة
: في أنّ المجاز على ثلاثة أقسام ......................................... ٦١
أصل
: في ملاك تقدّم الحقائق الثلاث للفظ الواحد ............................. ٦١
فيما
إذا دار الأمر بين الحمل على العرفيّة العامّة أو الخاصّة أو اللغويّة .............. ٦٢
ف
١٢ ـ في أنّه لا بدّ في الحمل على المجاز من علاقة معتبرة ...................... ٦٤
التذنيب
الأوّل : في أنّ المراد عند الإطلاق هو المشاركة في جميع الأحكام ......... ٦٥
التذنيب
الثاني : في وجوب حمل اللفظ على أقرب المجازات إلى الحقيقة ............ ٦٦
ف
١٣ ـ في بيان المراد من أنّ الأصل في الكلام الحقيقة ......................... ٦٧
ف
١٤ ـ في عدم جواز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معا ............. ٦٩
ف
١٥ ـ فيما إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح .................. ٧١
ف
١٦ ـ فيما إذا دار اللفظ بين الحقيقة وواحد آخر رجّح الحقيقة وفاقا ........... ٧٢
ف
١٧ ـ في تعريف المشتقّ .................................................. ٧٧
ف
١٨ ـ في أنّ إطلاق المشتقّ على الذات حقيقة أو مجازف ...................... ٧٩
ف
١٩ ـ في أنّ كلّ واحد من المشتقّات يدلّ على ذات ما ....................... ٨٣
ف
٢٠ ـ في « الواو » العاطفة ومعانيها ....................................... ٨٤
قاعدة
: في معاني « الفاء » العاطفة ......................................... ٨٥
ضابطة
: في معاني « ثمّ » ................................................. ٨٧
فائدة
: في معاني « أو » ................................................... ٨٧
قاعدة
: في معاني « الباء » ................................................. ٨٨
ضابطة
: في معاني « في » ................................................. ٨٨
ف
٢١ ـ في معاني « اللام » ................................................ ٩٠
ف
٢٢ ـ في معاني « من » ................................................. ٩١
ف
٢٣ ـ في معنى « إلى » .................................................. ٩٢
تنبيه
: في الضمير ......................................................... ٩٤
الباب الثالث : في المبادئ الأحكاميّة
ف
١ ـ في أقسام الحكم ..................................................... ٩٥
ف
٢ ـ في الحسن والقبح العقليّين ............................................ ٩٩
تقسيم
: في أقسام الواجب والمستحبّ ...................................... ١٠٣
ف
٣ ـ في أقسام الحكم الوصفي ........................................... ١٠٥
فائدة
: في السبب والمسبّب ............................................... ١٠٩
ف
٤ ـ في بيان متعلّق الأحكام الوضعيّة ..................................... ١١٠
تذنيب
: في تداخل بعض الأسباب عند تعدّدها ............................. ١١١
فائدة
: في إجزاء نيّة الوجوب عند اجتماع أسباب الوجوب في مادّة واحدة ..... ١١٣
ضابطة
: في تقسيم السبب إلى القولي والفعلي ............................... ١١٤
ف
٥ ـ فيما لو علّق حكم على سبب أو شرط متوقّعين ........................ ١١٥
تتميم
: في ترتّب حكم على أسباب يمكن اعتبارها في الحال وفي المآل .......... ١١٥
ف
٦ ـ في تقسيم الحكم الوضعي إلى الرخصة والعزيمة ......................... ١١٦
ف
٧ ـ في أنّ المندوب ليس مأمورا به حقيقة ، وكذلك المكروه ................ ١١٨
ف
٨ ـ في معاني المباح .................................................... ١١٩
تذنيب
: في أنّ المباح ليس بمأمور به ....................................... ١٢٠
ف
٩ ـ في أنّ كلّ من المباح والمكروه يكون حسنا ............................ ١٢٣
ف
١٠ ـ في الواجب الكفائي .............................................. ١٢٣
ف
١١ ـ في الواجب التخييري ............................................. ١٢٥
تذنيب
: في صحّة التخيير بين الواجب والندب .............................. ١٢٨
تتميم
: في صحّة النهي التخييري .......................................... ١٢٩
ف
١٢ ـ في الواجب الموسّع ............................................... ١٢٩
تذنيب
: في وجوب أداء الفعل قبل جزء الوقت الذي ظنّ موته فيه ............. ١٣٣
ف
١٣ ـ في مقدّمة الواجب ............................................... ١٣٤
ف
١٤ ـ هل يجوز اتّصاف شيء واحد بحكمين من الأحكام الخمسة؟ ........... ١٤٥
ف
١٥ ـ في الواجب المعلّق ................................................ ١٥٦
فائدة
: في عدم إجزاء كلّ واحد من الواجب والمستحبّ عن الآخر ............. ١٥٨
ضابطة
: في أنّ ثواب الواجب أعظم من ثواب المستحبّ إلاّ في مواضع ......... ١٥٨
ف
١٦ ـ في أنّ الإجزاء والقبول متلازمان ................................... ١٥٩
ف
١٧ ـ في عدم إطلاق العبادات والعقود والإيقاعات على الفاسد منها .......... ١٦٢
ف
١٨ ـ في أنّ الواجب إذا رفع بسبب النسخ ، فهل يبقى الجواز أم لا؟ ......... ١٦٢
البحث في أفعال المكلّفين والمكلّف ............................................ ١٦٦
ف
١٩ ـ في امتناع التكليف بالمحال ......................................... ١٦٦
مسألة
: في عدم اشتراط حصول الشرط الشرعي في التكليف بفعل ............. ١٦٦
ف
٢٠ ـ في بيان المكلّف به في النهي ....................................... ١٦٨
ف
٢١ ـ في أنّ الفهم شرط في التكليف أم لا؟ ............................... ١٧١
ف
٢٢ ـ في امتناع تعلّق التكليف بالمعدوم ................................... ١٧٢
ف
٢٣ ـ في عدم صحّة التكليف بأحد الطرفين إذا بلغ الإكراه حدّ الإلجاء ........ ١٧٥
ف
٢٤ ـ في عدم صحّة التكليف بالفعل المكلّف به إذا كان مشروطا بشرط ...... ١٧٧
فائدة
: في عدم تعلّق التكليف بالساهي والغافل وغير العاقل .................... ١٧٩
المبحث الثاني : في الأدلّة الشرعيّة
الباب الأوّل : في الكتاب
ف
١ ـ في معنى الكتاب لغة وشرعا ......................................... ١٨٣
تتمّة
: في تعريف السورة ................................................. ١٨٦
ف
٢ ـ في أنّ البسملة في كلّ سورة جزء منها ............................... ١٨٧
تتميم
: في تواتر القراءات السبع ، وأنّها ليست بحجّة ......................... ١٨٩
ف
٣ ـ في عدم تحريف القرآن ............................................. ١٩٣
تحديد
: تعريف المحكم والمتشابه والنصّ والظاهر والمجمل ...................... ١٩٥
ف
٤ ـ في جواز العمل بالنصوص والمحكمات والظواهر من القرآن .............. ١٩٥
الباب الثاني : في السنّة
معنى
السنّة لغة واصطلاحا ................................................... ٢٠٢
ف
١ ـ في بيان حقيقة الخبر وتعريفه ........................................ ٢٠٣
تتمّة
: في أنّ الخبر يطلق على ما يرادف الحديث وهو قول المعصوم ، أو ......... ٢٠٩
فائدة
: في أنّ صيغة الخبر لا تحتاج إلى القصد ................................ ٢٠٩
ف
٢ ـ في بيان معنى الصدق والكذب في الخبر ............................... ٢١٣
تقسيم
: في تقسيم الخبر باعتبار ما يعلم صدقه أو كذبه وما لا يعلم ............ ٢١٥
ف
٣ ـ في الخبر المتواتر .................................................... ٢١٦
ف
٤ ـ في شروط التواتر .................................................. ٢٢٠
تتمّة
: في تساوي المخبرين والقضيّة والسامع ................................ ٢٢٢
ف
٥ ـ في المتواتر المعنوي ................................................. ٢٢٣
ف
٦ ـ في الخبر الواحد ................................................... ٢٢٣
تذنيب
: بطلان القول بأنّ كلّ خبر يفيد العلم .............................. ٢٢٥
ف
٧ ـ إذا أخبر واحد بحضرة النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم ينكر عليه ، لم يدلّ على
صدقه ٢٢٦
ف
٨ ـ في التواتر السكوتي ................................................ ٢٢٧
ف
٩ ـ في ما إذا تفرّد واحد بالخبر رغم توفّر الدواعي على نقله ................. ٢٢٧
ف
١٠ ـ في حجّيّة خبر الواحد ............................................ ٢٢٩
فائدة
: في أنّه لا يعتبر في حجّيّة الخبر انضمام القرينة ......................... ٢٣٩
ف
١١ ـ في بيان شرائط العمل بالخبر الواحد ................................. ٢٤١
تنبيه
: في أنّ بحث الاصولي في الخبر إمّا في متنه أو في سنده ................... ٢٥٥
ف
١٢ ـ في أقسام الخبر باعتبار الراوي ...................................... ٢٥٥
تتمّة
: في بيان أسباب الحسن وحجّيّته ..................................... ٢٥٧
فائدة
: في التسامح في أدلّة السنن .......................................... ٢٦١
تذنيب
: في بيان حجّيّة الخبر في عرف القدماء .............................. ٢٦٤
ف
١٣ ـ في أقسام الخبر باعتبار الطريق ...................................... ٢٦٦
تتميمات
: في الخبر المرسل والمقطوع والمتّصل ............................... ٢٧٣
أقسام
الخبر باعتبار السند ................................................. ٢٧٤
ف
١٤ ـ في طرق معرفة عدالة الراوي ....................................... ٢٧٩
ف
١٥ ـ في الإطلاق في التعديل والجرح ، والاحتياج لذكر السبب .............. ٢٨٢
ف
١٦ ـ في تعارض قول الجارح والمعدّل .................................... ٢٨٤
ف
١٧ ـ في بيان بعض ما له دخل في تعديل الراوي .......................... ٢٨٥
ف
١٨ ـ في أنّ الاعتبار بحال الراوي وقت أداء الرواية ، لا وقت تحمّلها .......... ٢٨٦
فائدة
: في بيان وجوه التمييز بين الشهادة والرواية ........................... ٢٨٧
فائدة
: وجوب ذكر السبب على البيّنة والأمين إذا أخبر بحكم اختلف أسبابه ..... ٢٩٠
تذنيب
: في الفرق بين الفتوى والحكم ..................................... ٢٩١
ف
١٩ ـ في بيان جواز نقل الحديث بالمعنى مطلقا للعارف بمواقع الألفاظ ......... ٢٩٢
ف
٢٠ ـ في لزوم حمل الخبر المجمل على الظاهر ............................... ٢٩٣
ف
٢١ ـ في سقوط رواية الفرع إذا كذّبه الأصل ............................. ٢٩٤
ف
٢٢ ـ في رواة لم يذكروا بجرح ولا تعديل ، مع رواية المشايخ عنهم .......... ٢٩٥
ف
٢٣ ـ في أنّ راوي الحديث لا بدّ له من مستند يصحّ لأجله الرواية ........... ٢٩٧
طرق
تحمّل الحديث ...................................................... ٢٩٨
ف
٢٤ ـ في التأسّي بفعل المعصوم عليهالسلام ..................................... ٣٠٥
فائدة
: في طرق معرفة فعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم .................................... ٣١٦
ف
٢٥ ـ في عدم التعارض بين فعليه صلىاللهعليهوآله وإن تناقض حكمهما ................ ٣١٦
فائدة
: في بيان وجوه تصرّفات المعصوم عليهالسلام ............................... ٣٢٥
ف
٢٦ ـ في أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قبل البعثة لم يكن متعبّدا بشرع أحد من
الأنبياء....... ٣٢٩
ف
٢٧ ـ في أنّ تقرير المعصوم حجّة ........................................ ٣٣٣
فائدة
: في عدم حجّيّة حكم المعصوم عليهالسلام في الرؤيا قولا كان أو فعلا .......... ٣٣٤
الباب الثالث : في الإجماع
ف
١ ـ في تعريف الإجماع وبيان حدّه ...................................... ٣٣٦
ف
٢ ـ في حجّيّة الإجماع ................................................. ٣٤٠
ف
٣ ـ في إمكان وقوع الإجماع ............................................ ٣٤٨
ف
٤ ـ في إمكان العلم بالإجماع وأقسامه .................................... ٣٤٩
ف
٥ ـ في مدرك حجّيّة الإجماع عند الإماميّة ................................ ٣٥٧
ف
٦ ـ في الإجماع المنقول ................................................. ٣٦٥
تتمّة
: في أنّ حكم الإجماع المنقول حكم الخبر الواحد بعينه ................... ٣٦٧
ف
٧ ـ في بطلان خرق الإجماع المركّب ..................................... ٣٦٧
في
مراتب الإجماعات المركّبة .............................................. ٣٦٩
تتمّة
: في ما إذا افترقت الإماميّة في مسألة فرقتين ............................. ٣٧٣
تذنيبات
............................................................... ٣٧٣
ف
٨ ـ في عدم اشتراط انقراض عصر المجمعين لانعقاد إجماعهم ................. ٣٧٥
ف
٩ ـ في أنّه لا إجماع إلاّ عن مستند ....................................... ٣٧٧
ف
١٠ ـ في ما إذا استدلّ أهل العصر بدليل ، هل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل؟.. ٣٧٨
ف
١١ ـ في عدم حجّيّة الإجماع السكوتي ................................... ٣٧٨
ف
١٢ ـ في أنّ الشهرة ليست حجّة بأن تصلح بمجرّدها دليلا للحكم ............ ٣٨٠
ف
١٣ ـ لا يشترط في حجّيّة الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين عدد التواتر .......... ٣٨١
ف
١٤ ـ في أقسام الإجماع ................................................ ٣٨٢
ف
١٥ ـ في عدم جواز تقسيم الامّة إلى أقسام وخطأ كلّ قسم في مسألة ......... ٣٨٢
ف
١٦ ـ في عدم جواز الاحتجاج بالإجماع فيما يتوقّف صحّته عليه ............ ٣٨٣
ف
١٧ ـ في من لا عبرة به في الإجماع ....................................... ٣٨٤
الباب الرابع : في الأدلّة العقليّة
ف
١ ـ في أصل البراءة .................................................... ٣٨٦
تتمّة
: في حكم الشبهة في الحكم والموضوع ................................ ٣٩٢
ف
٢ ـ في استصحاب حال العقل ، أي أصل العدم الأزلي ..................... ٣٩٧
ف
٣ ـ في أصالة عدم تقدّم الحادث ......................................... ٣٩٩
ف
٤ ـ في الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر ........................... ٣٩٩
ف
٥ ـ في عدم الدليل على حكم .......................................... ٤٠٠
تذنيب
: في النافي للحكم ................................................ ٤٠١
ف
٦ ـ في استصحاب حال الشرع ......................................... ٤٠١
تذنيب
: في شروط العمل بالاستصحاب ................................... ٤١٥
فائدة
: في ما إذا دلّ دليل على الانتقال من مقتضى أصل إلى غيره .............. ٤١٨
ف
٧ ـ في معنى التلازم وأقسامه وأنواعه ..................................... ٤١٩
تذنيب
: في الدوران ..................................................... ٤٢٤
ف
٨ ـ في الاستقراء ...................................................... ٤٢٥
ف
٩ ـ في الاحتياط ...................................................... ٤٢٦
ف
١٠ ـ في الاستحسان .................................................. ٤٢٩
ف
١١ ـ في المصالح المرسلة ................................................ ٤٣١
الباب الخامس : في القياس
ف
١ ـ في التأسّي بالاصوليّين لذكر القياس في باب خاصّ ..................... ٤٣٤
ف
٢ ـ في تعريف القياس ................................................. ٤٣٤
ف
٣ ـ في أركان القياس .................................................. ٤٣٥
ف
٤ ـ في تقسيمات القياس ............................................... ٤٣٧
ف
٥ ـ في تحقّق النصّ على التعليل بذكر ما يدلّ عليه صريحا بوضعه ............ ٤٤٦
ف
٦ ـ في أنّ مطلق الإجماع يتأتّى في الإجماع على كون الوصف الجامع علّة ..... ٤٤٦
ف
٧ ـ في التنبيه والإيماء في التعليل وبيان مراتبه .............................. ٤٤٧
ف
٨ ـ في أقسام القياس الراجح التأثير وأحكامها ............................. ٤٥٣
ف
٩ ـ في إبطال حجّيّة القياس المرجوح التأثير ............................... ٤٦١
ف
١٠ ـ في المناسبة التي تسمّى إخالة وتخريج المناط ........................... ٤٦٦
ف
١١ ـ في تقسيمات المناسب عند القائسين ................................ ٤٦٧
تذنيب
: صور اعتبار الوصف في الحكم .................................... ٤٧٦
تتمّة
: في أنّ طريق المناسبة لا يفيد العلّيّة ................................... ٤٧٨
ف
١٢ ـ من طرق الاستنباط « الشبه » ..................................... ٤٧٩
تذنيب
: في معنى الطرد وأنّه لا يفيد العلّيّة وليس بحجّة ....................... ٤٨٢
ف
١٣ ـ في قياس السبر والتقسيم ........................................... ٤٨٤
ف
١٤ ـ في الطرد والعكس ، أي الدوران ................................... ٤٨٧
استدراك
: في إمكانيّة الاستدلال ببعض أقسام القياس الباطلة على حكم ........ ٤٩٠
ف
١٥ ـ في أقسام العلّة نفسها ............................................. ٤٩٠
تمهيد
: في شروط القياس ................................................. ٤٩١
ف
١٦ ـ في شروط العلّة .................................................. ٤٩٢
تذنيب
: الفرق بين القيد المذكور والظاهر .................................. ٥٠٩
في
جواز تعليل الحكم عقلا بعلّتين أو أكثر .................................. ٥١٣
تتميم
: في أنّه هل يجوز تعليل حكمين أو أكثر بعلّة واحدة؟ ................... ٥٢٠
تنبيه
: في الأقسام المتصوّرة من الاطّراد والانعكاس ........................... ٥٢٦
تذنيب
: ممّا يبطل العلّية النقض المكسور .................................... ٥٢٧
تنبيه
: في أنّ القول بالموجب بأقسامه يؤدّي إلى انقطاع أحد المتناظرين .......... ٥٣٤
ف
١٧ ـ في شرائط حكم الأصل ........................................... ٥٣٨
ف
١٨ ـ في شرائط الفرع ................................................. ٥٤٧
ف
١٩ ـ في عدم جواز جريان القياس في الحدود والكفّارات والرخص ........... ٥٤٩
ف
٢٠ ـ في عدم صحّة القياس في الأسباب والشروط ......................... ٥٥١
ف
٢١ ـ في الاعتراضات الواردة على القياس ................................. ٥٥٣
تذنيب
: في صحّة جواز تعدّد أصل المستدلّ ................................ ٥٦٨
فائدة
: في أنّ الاعتراضات من نوع واحد .................................. ٥٧٢
استدراك
: في قياس الأصل على الفرع ..................................... ٥٧٣
فهرس الموضوعات........................................................... ٥٧٥
|