فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد


فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد


فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد


فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد


تقديم وتمهيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمّد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .

وبعد : إذا فتح الإنسان العاقل عين بصيرته على صفحات كتاب هذا الكون الفسيح والتفت إلى ما يحمل في طيه من الأسرار العميقة وتدبر أيضاً آيات كتاب التشريع الفصيح وتنبه لما يحفل به ويشتمل عليه من الحِكَم البالغة والتعاليم السامية .

يُدرك بهذا وذاك أن خالق هذا الكون ومنزل ذلك الكتاب إلهٌ عليم حكيم واحد أحد فرد صمد لا شريك له ولا ولد . وأن ما صدر عنه من خلق وتشريع كان لغاية سامية تتناسب مع كماله المطلق وحكمته البالغة .

وقد صرح بالغاية التي أوجد الكون من أجلها في العديد من الآيات الكريمة :


منها قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) (١) .

وقوله تعالى :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (٢) .

وقوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) (٣) .

كما صرح بالغاية التي خلق الجن والإنس من أجلها وهي عبادته وحده لا شريك له بقوله تعالى :

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٤) .

والمراد بالعبادة التي جعلها الله تعالى غايةً لخلق الجن والإنس الخضوع المطلق والانقياد الكلّي لإرادته سبحانه بكل عمل اختياري يمارسه الإنسان بإرادته واختياره سواء كان عملاً باطنياً كالتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك من الآيات التكوينية من أجل التوصل بهذا التفكر إلى الإيمان بالعقائد الحقّة المتمثلة بأصول الدين المعهودة وما يتعلق بها .

أم كان هذا العمل الاختياري ظاهرياً يتمثل بكل التصرفات الخارجية التي تصدر من الإنسان المكلف بإرادته واختياره وفق إرادة الله تعالى بفعل ما أمر به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٩ .

(٢) سورة لقمان ، الآية : ٣١ .

(٣) سورة الجاثية ، الآية : ١٣ .

(٤) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦ .


وبعد التدبر في الأسرار والحِكَم التي كانت الباعثَ لخلق الله سبحانه الأكوان بما فيها الإنسان وإنزاله الشرائع والأديان .

ندرك بجلاء ووضوح ـ أنها كمال الإنسان وسعادتهُ في الدنيا والآخرة .

وذلك لأن ما أودعه الله تعالى في الكون من النظم التكوينية يساهم في إنعاش الجانب المادي منه وما يحفل به من التشريع السماوي وينطوي عليه من المصالح والحِكم يساهم في إنعاشه مادياً ومعنوياً .

وبانتعاشه وتطوره يرتقي إلى المستوى الرفيع الذي أراد الله سبحانه صعوده إليه ويصبح قادراً على النهوض بدور الخلافة الذي خلقه من أجله ونص عليه بقوله تعالى :

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١) .

وأراد تعالى أن يلفت نظرهم إلى كفاءته وقدرته على قيامه بهذا الدور من خلال أمرهم بالسجود له بقوله تعالى :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (٢) .

ويظهر أثر العبادة ودورها الإيجابي في بناء الشخصية الإسلامية السامية وصنع المجتمع الرسالي المتضامن المتكامل من خلال ملاحظة ما يترتب على الارتباط بالله سبحانه والانقياد لإرادته الحكيمة المتمثل بتطبيق شريعته القويمة من فوائد معنوية ومادية كثيرة ناشئة من فعل الواجبات

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٠ .

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٤ .


والمستحبات مع سلامته من الأضرار العديدة بسبب تركه المحرمات كما هو مقتضى حكمته البالغة ورحمته الواسعة الداعية للالتزام بمنهج الحكمة في التشريع بحيث لا يصدر منه أمر إلا بما فيه مصلحة تعود على المكلف ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة تحصل له وتحطمه مادياً ومعنوياً .

وبذلك يظهر أن فائدة التقيد بمنهج العبودية لا تنحصر بيوم الجزاء بل تحصل له معجلاً في هذه الدار قبل انتقاله إلى الدار الآخرة كما يفهم من صريح قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

وقوله تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (٢) .

ومن أجل توضيح هذه الحقيقة أكثر نقدم تشبيهاً لارتباط الإنسان بمنهج العبودية والخضوع الاختياري لإرادة الله سبحانه بتطبيقه شرعه العادل الكامل ـ بارتباط غيره من سائر الكائنات غير المختارة بالإرادة التكوينية للذات الإلهية المتمثل بالخضوع القسري لهذه الإرادة الحكيمة المسيرة لهذا الكون بما فيه الجانب المادي من الإنسان الخاضع لنظام الله التكويني والمسير له بمعزل عن إرادته واختياره .

فكما أن خضوع هذه الكائنات للنظام التكويني المسيطر عليها والمسير لها في إطار الحكمة والمصلحة التامة العامة يثمر الكثير والكبير من المنافع ويسلم الكون كله من الكوارث الكونية والأخطار المدمرة .

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ١٢ .


هكذا خضوع الإنسان الاختياري لنظام الإله التشريعي يعود عليه فرداً ومجتمعاً بالكثير من الفوائد ويجنبه العديد من المفاسد .

وقد أشارت الآية الأولى السابقة إلى كلا النوعين من الآثار الإيجابية البناءة والسلبية المدمرة أما الأولى فقد مر ذكرها في أولها أي أول الآية وأما الثانية فقد بينها سبحانه في آخرها حيث قال :

( وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

وتتجلى هذه الحقيقة الموضوعية بالمقارنة بين الوضع الجاهلي الذي كان سائداً في العالم بصورة عامة والجزيرة العربية بصورة خاصة قبل بزوغ فجر الرسالة الإسلامية . والوضع الرسالي الذي تطورت إليه الأمة العربية بعد بزوغ هذا الفجر الوضاء واستنارتها بأضوائه الزاهرة وتحولها من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد العلام ومن النظم الجاهلية المفرقة إلى القوانين الدينية الموحدة لتصبح بفضل هذا التحول والتبدل في المفاهيم والعقائد والممارسة .

خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه ويحب كل فرد من أبنائها لأخيه ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لها من أجل أن يحقق بذلك مصداقية إيمانه الذي لا يتم بدون ذلك .

وكذلك يُسلِّم الناس من يده ولسانه تجاوباً مع طبيعة إسلامه الأصيل بعد أن كان في ظل الجاهلية العمياء على عكس ذلك كله ، وبضدها تتميز الأشياء .

وقد شرحت ذلك مفصلاً في حديث ديني منشور في الجزء الأول من

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .


وحي الإسلام ، صفحة ٣٥ تحت عنوان ( الإسلام دين السعادة والسلام وارتباط الإنسان المكلف وتقيده بالنظام الإلهي التشريعي يعبر عنه بالعبادة بمعناها العام في مقابل العبادة بمعناه الخاص المتمثلة بالعبادات الخاصة المعهودة وهي الصلاة وبعض مقدماتها التي لا تصح بدون قصد القربة ـ والحج والصوم والزكاة والخمس ونحوها مما اعتبر في صحته وفراغ الذمة منه قصد التقرب به لله تعالى .

والحكمة في تشريع هذه العبادات على هذا الوجه هو تأثيرها الإيجابي في تقوية الرابطة الإيمانية وترسيخها في حقل النفس لتشد المكلف وباستمرار بسلك العبودية إلى الذات الإلهية المقدسة فلا يتجاوز حد الإطاعة لها والاستقامة في خط عبادتها والخضوع المطلق لإرادتها مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المقتضية بطبعها للإنحراف عن نهج العبودية القويم وصراطها المستقيم .

وذلك لأن الإتيان بالعمل تقرباً لله سبحانه وانقياداً لإرادته ، إذا استمر المكلف عليه فهو يقوي ارتباطه به فكرياً وروحياً ونفسياً ويؤدي ذلك بطبعه إلى انحصار تصرفاته في إطار إطاعته لله تعالى وعدم تجاوزه حد عبوديته له في كل الأوضاع والأحوال وإذا اتفق تجاوزه له بتأثير بعض العوامل الضاغطة فسرعان ما يعود إلى نهج الإطاعة والاستقامة ـ من باب التوبة ليطهر نفسه بها من أدران المعصية كما أمره الله تعالى ورغبه فيها بقوله سبحانه :

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (١) .

وبذلك ندرك أن فلسفة تشريع العبادات بمعناها الخاص وكيفيتها

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢ .


المحددة هي ترسيخ الرابطة الإيمانية وتقوية ملكة العبودية والخضوع لله سبحانه ليبقى الإنسان المكلف على حالة صلة به وصلاة له بكل عمل يمارسه قربة لله تعالى .

وهذه النتيجة الإيجابية وهي الاتصال بالله دائماً هي المعبر عنها بالتقوى التي هي روح العبادة وقلبها النابض المحرك لشخص العابد في طريق الكمال والسعادة كما أراد الله سبحانه .

ولذلك اعتبر نبي الإسلام الصلاة المجردة عن روح التقوى الناهية عن الفحشاء والمنكر شبحاً بلا روح لا يترتب عليه سوى التعب والسهر كما اعتبر الصوم المجرد عنها بحكم العدم حيث لا يترتب عليه سوى الجوع والعطش وكذلك فريضة الحج التي لا تثمر لمؤديها صفة التقوى كما أراد الله سبحانه لا يترتب عليها سوى التعب وخسارة المال والوقت اللذين يُبذلان في سبيل تأديتها .

وقد بين الله سبحانه أن التجمل بصفة التقوى هي الغاية الأساسية المقصودة من تأدية فريضة الحج بعدة آيات من كتابه المجيد .

منها قوله تعالى : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) (١) .

لأن هذه الآية واردة في سياق الحديث عن فريضة الحج .

ومنها قوله تعالى في معرض الحديث عن بعض شعائر الحج وهو الهدي : ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) (٢) .

وإذا نظرنا إلى العبادات الخاصة من خلال جوهر الغاية المقصودة منها نجدها مشتركة في هذا الجوهر ومتحدة في الروح وإن اختلفت

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .


بالخصوصيات المميزة وقد مرت الإشارة إلى القاسم المشترك بينها وهو التقوى المستفادة من نصوص الكتاب والسنة الواردة في مقام بيان الحكمة والغاية المستهدفة من تشريعها .

ونتيجة اشتراكها في الغاية الأساسيةِ العامة هي حصول التفاعل والتكامل فيما بينها لتشبه بذلك أعضاء الجسم الواحد حيث يؤدي كل واحد منها دوره الخاص به ويساعد غيره على القيام بدوره فهي مضافاً إلى مساهمتها في تحقيق الهدف المشترك وهو التقوى والخضوع المطلق بكل الممارسات الاختيارية لإرادة الله التشريعية ـ نرى لكل واحدة منها فائدتها الخاصة بها .

فالصلاة لها فوائدها الروحية والمادية الكثيرة والصوم كذلك له فوائده الجسمية والروحية العديدة وهكذا الزكاة والخمس والحج وتمتاز الفريضة الأخيرة ـ أي الحج ـ بكونها ملتقى ومجمعاً لغيرها من العبادات الأخرى لأن البعض منها فريضة بدنية كالصوم والصلاة وبعضها مالية فقط كالخمس والزكاة وبعضها الثالث مشترك بين النوعين الأولين وهو فريضة الحج ـ موضوع الحديث وتندرج فيه فريضة الجهاد أيضاً لما يقتضيه بطبعه من تجشم المشاق الشديدة والتعرض للأخطار العديدة وذلك بسبب ما يحصل لمؤدي فريضة الحج غالباً في هذه الرحلة من أنواع العناء وألوان المشقة التي يتعرض لها المجاهد في أغلب الأحوال كما هو معلوم .

ولعل هذا هو السر في إيجاب الله له مرة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً وقد تحصل من مجموع ما تقدم بيانه في هذه المقدمة التمهيدية أن النظر بعين العقل إلى هذا الكون الفسيح وما يشتمل عليه من قوانين مادية تحكم مسيرته التكوينية وتساهم في تحقيق الغاية الكبرى المقصودة من إيجاده وهي خدمة الإنسان ـ مع النظر بعين البصيرة والتدبر في آيات
الكتاب الكريم وما تشتمل عليه من نظم وقوانين تشريعية تنظم سير الإنسان وتضبط تصرفاته في إطار الحكمة والمصلحة والفضيلة وتنأى به من مسالك الفوضى والمفسدة والرذيلة ليصل إلى ما أراد الله وصوله إليه من الكمال والسعادة .

أجل : إن التفكر في هذا الكون وآياته التكوينية وقوانينه المادية المسيرة له وفق المصلحة والحكمة والتدبر في آيات كتاب الله وما يشتمل عليه من قوانين وتعاليم تنظم سير الإنسان وتنتهي به إذا تقيد بها وعبد الله بتطبيقها ـ إلى السعادة والتقدم في جميع الحالات .

يوحي للإنسان العاقل المتفكر في تلك الآيات أن مبدع هذا الكون وقوانينه التكوينية ومنزل ذلك الكتاب ومشرع قوانينه التشريعية ـ هو إلهٌ واحدٌ عليم قادر على كل شيء وحكيم خلق وشرع لحكمة بالغة وهي خدمة الإنسان وانتعاشه مادياً ببركة القوانين المادية المسيطرة على الكون وعلى الجانب المادي من كيان الإنسان مع انتعاشه مادياً وروحياً فردياً واجتماعياً بتطبيقه للنظم الشرعية وخضوعه للإرادة الإلهية التشريعية في كل تصرفاته الاختيارية .

وتطبيق القوانين الشرعية هو العبادة العامة الداعية لخلق الله الأكوان بما فيها الإنسان وحيث أن تحقق هذه الغاية باستمرار واستقرار ـ يتوقف على قوة إرادية وبطولة روحية تثبت أقدام الإنسان على نهج العبودية لله تعالى وكانت هذه القوة والبطولة متوقفة على ممارسة رياضة تساهم في حصولها لمن يمارسها شرعت العبادات الخاصة بكيفيتها المحددة لتحقق تلك الرياضة وتنتج هذه القوة .

وقد وضح الله هذه الحكمة وبين تلك الغاية المنشودة والفائدة


المقصودة من تشريع العبادات ـ وهي تحصيل ملكة التقوى التي تُغرس أولاً بيد الفطرة السليمة في حقل النفس الواعية ثم تنمو وتسمو في آفاق الفضيلة والكمال ببركة ممارسة هذه العبادات بوعي وتدبر حتى تصبح تلك الملكة ـ شجرةً طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وهو الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة التي تثمر للإنسان فرداً ومجتمعاً السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة وحيث أن فريضة الحج تنطوي بطبيعتها على سائر العبادات كما تدم كان لها أهميتها في ميزان التشريع الديني عبر التاريخ .

ويُستوحي ذلك بجلاء من التصريح بأهميتها وعظيم فائدتها في العديد من الآيات الحكيمة والروايات المباركة .

من الآيات قوله تعالى :

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (١) .

ومن الروايات ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته لعلي عليه‌السلام وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا علي كفر بالله العظيم عشرة وعد منهم من وجد سعة فمات ولم يحج .

يا علي تارك الحج وهو مستطيع كافر يقول الله تعالى :

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٧ .


يا علي من سوَّف الحج حتى يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً (١) وسيظهر السر في أهمية هذه الفريضة المقدسة ودورها التربوي في بناء كيان الإنسان المسلم الملتزم بها عقيدة وعملا ـ من خلال هذه الدراسة التي استهدفتُ بها الكشفَ عن سر هذه الأهمية ولفتَ النظر إلى الوجه والسبب في حصول تلك المنافع الكثيرة التي أشار الله تعالى إلى ترتبها على تأدية هذه الفريضة ـ أي فريضة الحج المباركة بقوله سبحانه مخاطباً نبيه ابراهيم الخليل عليه‌السلام :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) (٢) .

والله سبحانه هو المسؤول والمعتمد لنيل الغاية المنشودة من هذه الدراسة الهادفة إنه نعم المولى ونعم النصير وهو حسبنا ونعم الوكيل .

٢٥ ـ ٧ ـ ١٩٩٧ م

٢١ ـ ٣ ـ ١٤١٨ هـ

__________________

(١) الوسائل ج ٥ ، صفحة ٢٠ و ٢١ ح ٣ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٢٧ و ٢٨ .


أهداف الحج الرسالية وفوائده التربوية

من أجل استجلاء هذه الأهداف واجتناء تلك الفوائد لا بد لنا من الوقوف بتدبر عند كل شعيرة من شعائر هذه الفريضة المقدسة .

وقبل ذلك نحتاج إلى وقفة تبصر أمام أول واجب من واجبات الحج وأهم ركن من أركانه وهو النية الخالصة المعتبرة في صحته وتحقق الغاية المقصودة منه شأن سائر العبادات .

ولا أريد بالحديث حول هذا الركن الأساس بيان اعتباره في صحة الحج لكون ذلك من أوضح الواضحات بعد تسليم كون هذه الفريضة من الواجبات العبادية التي لا تصح بدون قصد التقرب بها لله تعالى وإنما أردت التنبيه على ما يخالط هذه النية من شوائب الشرك الخفي وهو الرياء الذي لا يسلم منه إلا من رحمه الله تعالى وتحذر من الإصابة بهذا المرض الخطير الذي يُودي بحياة عباداتنا لتقع باطلةً بسبب فقدها أهم شروط صحتها كما يؤدي إلى خسران الثواب الذي لا يحصل للإنسان إلا إذا توفق للعمل الصالح الصادر عن النية الخالصة والقصد السليم من كل الشوائب المؤثرة سلبياً على تحقق الإخلاص المصحح للعبادة والمقرب للعابد من ساحة القبول منه تعالى ونيل رضوانه .


دور الإخلاص في صحة العمل العبادي والنجاح في غيره :

لذلك يتعين الوقوف أمام هذا الركن لالتفت شخصياً وألفتَ نظر الآخرين إلى أهمية وضرورة المحافظة على تحققه تمهيداً لنيل الغاية المقصودة المتوقفة عليه وهي صحة العمل العبادي وترتب الأجر عليه ونيل الثواب بفعل غير العبادي من الأعمال الصالحة الواجبة أو المستحبة .

وتحصيل المحافظة والإهتمام بتحقق الركن المذكور يكون بالتفكر والالتفات التفصيلي لدوره الحيوي في صحة العبادة ونيل ثوابها وثواب غيرها من الأعمال الراجحة غير العبادية .

ويتعين توفير ذلك أي التفكر والالتفات التفصيلي المذكور قبل الشروع بأي عمل وذلك بمحاسبة النفس والتدقيق في الباعث الباطني الداعي للإتيان بالعمل الراجح في نفسه فإذا أحرز المكلف تحققه وتجرده من البواعث الأخرى غير المقربة من الله تعالى حمد الله على ذلك وانطلق في درب عمله محافظاً على إخلاصه في نيته إلى نهاية الشوط . وإذا وجده مقترناً ببعض البواعث الأخرى المنافية للإخلاص فليبذل جهده في سبيل تنقيته وتجريده منها كما يطهر ثوبه وبدنه من النجاسة المانعة من صحة صلاته .

وبعد إحرازه صفاء الباعث وتخلصه من الشوائب المانعة من صحة العمل أو ثوابه وكماله يشرع به تعبداً لله تعالى ورغبةً في نيل رضاه وتوفيقه .

وحيث كان للنية الخالصة دورها الطليعي في قبول عبادات المكلف وترتب آثارها الإيجابية عليها في حاضر دنياه ومستقبل آخرته كما أن لها


دورها في نجاح مساعيه المشروعة وإدراك غاياته المنشودة في جميع المجالات .

أجل : حيث كان للنية الخالصة هذا الدور الكبير فقد ورد الحث على الإخلاص لله فيها كتاباً وسنةً في أي عمل يمارسه المكلف على صعيد هذه الحياة وذلك بأن يأتي به بقصد التقرب لله سبحانه ونيل رضاه بعد أن يكون العمل راجحاً في نفسه وقابلاً لأن يقصد به التقرب لله تعالى قال سبحانه :

( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١) .

وقال سبحانه : ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٢) .

وروى عن الرسول الأكرم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه (٣) .

وروي عنه أيضاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن مسعود إذا عملت عملاً فاعمله لله خالصاً لأنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان لله خالصاً عليه‌السلام (٤) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن مسعود إذا عملت من البر وأنت تريد بذلك غير

__________________

(١) سورة البينة ، الآية : ٥ .

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٤٦ .

(٣) الحقائق للفيض الكاشاني ( قده ) ، ص : ٢٠٢ .

(٤) عن نزهة الأفكار ، ص : ٥٥٦ .


الله فلا ترجُ منه ثواباً (١) فإنه يقول :

( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) (٢) .

هذا وتختلف درجة الإخلاص في النية قوةً وضعفاً باختلافِ درجة إيمان العامل المخلص فهناك قسم من العاملين يُريد بعبادة الله وإطاعته نيل التوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة وعبر عن هذا النوع من العبادة بأنه عبادة التجار . وهناك قسم منهم يعبد الله سبحانه ويُطيعه بقصد السلامة من الفشل وعدم التوفيق في حاضر الدنيا ومن عذاب النار في الآخرة وعُبر عن هذا النوع بأنه عبادة العبيد وأُضيف إلى النوعين المذكورين نوع ثالث وهو الذي يصدر من العبد المؤمن الواعي لا بدافع الرغبة ولا بعامل الرهبة بل بدافع المحبة لذات الله سبحانه والإيمان بكونه أهلاً للعبادة ويتجلى هذا النوع السامي الواعي في عبادة العارفين بالله تعالى الذين ذابوا في ذاته المقدسة حبا فازدادوا منه قرباً .

وفي طليعة العارفين بمقام الربوبية وحقها العظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام وخصوصاً الإمام علي عليه‌السلام القائل في مناجاته لله سبحانه :

إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (٣) .

وقد عبر عن هذا النوع الثالث من العبادة ـ بعبادة الأحرار كما ورد في حديث مروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حقائق الكاشاني قده ،

__________________

(١) نفس المصدر السابق والصفحة .

(٢) سورة الكهف ، الآية : ١٠٥ .

(٣) الحقائق للكاشاني ( قده ) صفحة ٢٠٢ ، طبعة طهران .


حيث ورد فيه ما نقل عنه من قوله عليه‌السلام :

العُبادُ ثلاثة قوم عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله عز وجل طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء وقوم عبدوا الله حباً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة (١) .

ويفهم من قوله عليه‌السلام وهي أفضل العبادة أن القسمين الأولين من العبادة لهما درجة من الفضل والقبول وليسا محكومين بالبطلان والسقوط في ميزان الاعتبار الإلهي .

والوجه في ذلك أن الميزان في صحة العبادة هو الإتيان بها مضافةً لله تعالى بوجه من وجوه الإضافة التي تربطها به وتقرب صاحبها منه بمقدار من القرب وهذا ينسجم مع الرحمة الإلهية وطبيعة الشريعة السماوية المتجاوبة مع الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية العامة التي تتحرك وتُحرك الكائن البشري في إطار حبه لذاته ورغبته في النعيم وسلامته من الشقاء الأليم حتى في حال ممارسته الطقوس الدينية التعبدية .

وأما الأشخاص الذين يذوبون في حب الله تعالى فينسون أنفسهم وتطلعاتهم الذاتية بحيث لا يصدر منهم سوى ما ينسجم مع ذلك الحب المقدس .

أما هؤلاء فأقلاء جداً ومثالهم الواضح الأنبياء المقربون وخصوصاً سيدهم الرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار عليه وعليهم أفضل التحية وأزكى التسليم ويُلحق بهم السائرون على ضوء هداهم من المؤمنين الأبرار ويشهد بهذه الحقيقة الإيمانية الرائعة ما ورد في مناجاة علي عليه‌السلام السابقة التي يقول فيها :

__________________

(١) نفس المصدر السابق ، صفحة ٢٠٤ .


( إلهي ما عبدتُكَ خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ) .

هذا ومن المناسب لجو هذا الحديث التنبيه على الوسيلة التي تساعد الإنسان المؤمن على تصفية نيته وتحصيله الإخلاص في عبادته وبعد هذا يترجح ذكر بعض القصص التاريخية المعبرة عن مدى تأثير النية ودورها الإيجابي أو السلبي في نتيجة العمل أو في بعض الحوادث الطارئة بمعزل عن العمل والتصرف الخارجي بحيث تكون النية بوجودها النفسي سبباً لحصول بعض النتائج الإيجابية أو السلبية بالتقدير الإلهي والعدل السماوي فأقول :

إن الوسيلة المساعدة على تصفية النية من الشوائب المنافية للإخلاص فيها هو التفكر في النتائج السلبية المترتبة عليها أي على الشوائب وخصوصاً الرياء منها فهو يسبب خسارة ثواب الإخلاص في العمل مضافاً إلى العقاب الشديد الذي يتعرض له المرائي على ضوء الآيات والروايات الواردة في ذمه واستحقاق العقوبة عليه .

قال سبحانه : ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾ ) (١) .

وقال تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) (٢) .

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

إن النار وأهلها يضجون من أهل الرياء فقيل : يا رسول الله فكيف

__________________

(١) سورة الماعون ، الآيات : ٤ و ٥ و ٦ و ٧ .

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٤٢ .


تضج النار ؟ قال : من حر النار التي يعذبون بها (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المرائي يوم القيامة يُنادى بأربعة أسماء يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ضل سعيُك وبطل أجرُك ولا خلاقَ لك التمس الأجرَ ممن كنتَ تعملُ له يا مخادع (٢) .

إن المؤمن الواعي إذا تفكر في هذه النتيجة السلبية الخطيرة المترتبة على الرياء ونحوه مما يؤثر سلبياً على صحة العمل أو على ثوابه والتقرب به مع التفاته إلى أن كل ما يريد المرائي من مدح الناس وإعجابهم بعمله يحصل له إذا أخلص في نيته وأتى بعمله تقرباً لله تعالى لا للمدح ونيل الجاه ونحو ذلك من الدوافع المادية والمنافع الدنيوية الزائلة والذي يؤكد الاهتمام بتحصيل الإخلاص لله في نية العمل هو التفات العامل إلى حقيقة إيمانيةٍ موضوعية لا يشك فيها مؤمن ناضج العقل قوي الإيمان وهي توقف النجاح والتوفيق في أي عمل يمارسه الإنسان على صعيد هذه الحياة ـ على إرادة الله تعالى وتوفيقه بعد اختياره الهدف المشروع وإعداده المقدمات الطبيعية الجائزة التي يتوقف حصوله عليها لأنه من المعلوم على ضوء المنطق الديني أن الله سبحانه لا يرعى بعنايته ولا يوفق العامل لنيل غايته في الغالب ـ إلا إذا أخلص لله في نيته وللعمل بإعداد ما يتوقف عليه من المقدمات الطبيعية العادية قال سبحانه على لسان نبيه شعيب عليه‌السلام :

( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٣) .

وبذلك يُعرف أن المؤمن المخلص لله في نيته والمتوكل عليه في إدراك غايته بعد إعداد مقدماتها اللازمة لها يكون مضمونَ النجاح والربح

__________________

(١) الحديقة الناشرية ، ص : ١٢٥ .

(٢) نفس المصدر والصفحة .

(٣) سورة هود ، الآية : ٨٨ .


غالباً في كلتا الدارين . وإذا قدر له عدم حصول أمنيته المشروعة المعجلة لحكمةٍ اقتضت ذلك فهو لا يخسر ربح العمل وثوابه في الآخرة لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (١) .

وذلك هو الربح الحقيقي الخالد المنعش لكيان الإنسان مادياً ومعنوياً قال تعالى : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) (٢) .

وقال سبحانه : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) (٣) .

وعلى العكس من ذلك العامل غير المخلص في نيته فهو محكوم بالفشل والخسران إمَّا في كلتا الدارين أو في الدار الآخرة لو قدر له النجاح المادي أو المعنوي في هذه الحياة لحكمةٍ إلهية اقتضت ذلك ولكن لا قيمة لهذا الربح الزائل أمام خسارة الربح الحقيقي الدائم في دار السعادة والخلود قال سبحانه :

( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) (٤) .

وإذا دققنا النظر في مصدر تلك الشوائب التي تسبب للإنسان الفشل والخسران في كلتا الدارين أو في الآخرة فقط ـ ندرك أنه الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء نتيجة تأثرها بوسوسته .

ولذلك حذر الله من الأول ـ أي الشيطان ـ في العديد من الآيات منها قوله تعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .

(٢) سورة الأعلى ، الآية : ١٧ .

(٣) سورة الضحى ، الآية : ٤ .

(٤) سورة الشورى ، الآية : ٢٠ .


أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (١) .

وقوله تعالى : ( * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (٢) .

كما نبهنا الله تعالى لخطورة النفس الأمارة بالسوء المنطلقة في ركاب العدو الأول أي الشيطان والمتعاونة معه على تحقيق هدفه الجهنمي وهو إغواء وإغراء الإنسان ليوقعه في الشقاوة الدائمة ويحرمه من السعادة الخالدة .

ويبرز التنبيه الإلهي والتحذير من التأثر بإغواء النفس ـ جلياً بقوله تعالى : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (٣) .

ومن أجل بيان الأساليب الخادعة التي ينفذ الشيطان من خلالها إلى داخل كيان الإنسان ليزهده فيما ينفعه ويرفعه ويرغبه فيما يضره ويحطمه أذكر طرفاً منها لنكون دائماً وأبداً على حالة حذر وتنبه لهذه الأساليب اللئيمة فلا نقع في شباكها ونسلم من أخطارها فأقول :

إن المكائد التي يعتمد عليها هذا العدو اللئيم كثيرة أبرزها النفوذ إلى الركائز الأساسية التي يقوم عليها الإيمان الصحيح الكامل من أجل أن يزيله أو يحوله إلى الشك والتردد وكلا الأمرين يؤثران على نفسية الإنسان ويمنعانه من العمل لله تعالى وعبادته وحده لا شريك له كما أمره سبحانه ـ فهو يشككه في أصل وجود الخالق كما صنع مع المشككين أو يدفعه لأن ينكر أصل وجوده وأنَّ الكونَ وجد وحده صدفةً واتفاقاً أو أوجدته المادة

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٦ .

(٢) سورة ياسين ، الآيتان : ٦٠ و ٦١ .

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٥٣ .


والطبيعة كما صنع مع الملحدين أو يشككه في توحيد الخالق ذاتاً أو في توحيده عبادة كما يشككه في عدالته سبحانه بإثارة بعض الشبهات أو يشككه في النبوة العامة أو الخاصة كما صنع مع البراهمة الذين ادعوا إمكانية اكتفاء الله سبحانه بالعقل ليرشد الإنسان إلى ما يريده منه بدون حاجة إلى الرسول الظاهري الخارجي أو يشككه في الإمامة وكونها منصباً إلهياً يختاره الله لمن يشاء من عباده المتقين الذين تتوفر فيها مؤهلات حمل أمانة الرسالة وقيادة الأمة على النهج القويم والصراط المستقيم كما كان تعيين النبي راجعاً إليه ومقصوراً عليه تعالى لأنه أعلم حيث يجعل رسالته .

وقد يشككه في المعاد ليقع في حيرة وشك فيه كما صنع مع أولئك الذين ترددوا في ذلك وأخبر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى :

( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) .

وقد يقوى تأثيره السلبي على فكر هذا الإنسان الضعيف فينتهي به إلى إنكار المعاد بصراحة وقد حكى الله سبحانه ذلك عن لسان جماعة من هذه الفئة الضالة المضلة بقوله تعالى :

( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (٢) .

وإذا فشلت محاولة هذا العدو الخادع ولم ينجح في إزالة العقيدة أو إضعافها فهو يلجأ إلى التشكيك في قيمة التشريع الإسلامي وخصوصاً في هذه الأيام التي أثيرت فيها الشبهات الكثيرة والخطيرة حول الإسلام وأنه أفيون الشعوب لأنه يخدرها بما يعدها من نيل الثواب الجزيل والأجر العظيم غداً يوم القيامة إذا رضيت بالأمر الواقع وصبرت على ظلم

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية : ٤٧ .

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٧ .


الظالمين وتحكم الحاكمين ولم تثر ضدهم لتنال حقوقها منهم .

وكذلك أثيرت شبهة أخرى حول الرسالة الإسلامية الخالدة وهي أنها غير قادرة على تلبية حاجات العصر ولا مستعدة لمواكبة التطور نظراً لانتهاء دورها وانحصاره بالجيل السابق وعصره المنصرم .

لذلك يكون الأخذ بتعاليمها ومحاولة تطبيق قوانينها على الجيل الجديد وفي عصره الراهن رجوعاً إلى الوراء يمثل الرجعية والتخلف وهكذا أثيرت شُبهاتٌ أخرى عديدة حول بعض التشريعات الإسلامية المجيدة ـ ولكنها كلها أوهام عابرة وشبهات واهية لا تقوم على أساس وطيد من المنطق والموضوعية ولذلك تبخرت ولم يبق لها وجود في أذهان الكثيرين من أبناء جيلنا المعاصر ببركة الصحوة الإسلامية التي فتحت العيون وأنارت القلوب بأضواء الحقيقة والعقيدة الراسخة التي توحي لصاحبها أن رسالة السماء التي أنزلها الله سبحانه على خير الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي المنطلق الوحيد لسعادة الإنسانية عبر التاريخ لأنها مشرعة من قبل خالق الإنسان العالم بطبيعته وبما يُصلحه ويصلحُ له من القوانين المنسجمة مع فطرته والقادرة على تحقيق أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية من جميع الجهات وفي مختلف المجالات في الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن ما عليها لأنها الرسالة الخاتمة الكاملة الصادرة من قبل المشرع الكامل بالكمال المطلق وهو الله سبحانه وهذا هو السر في اقتناع المجتمع العربي ودخوله فيها أفواجاً بمجرد وضوح الحقيقة له وإدراكه أن هذه الشريعة السمحاء المباركة هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذه مما كان فيه وعليه من ألوان البؤس والشاء والتعب والعناء .

وهذا هو السبب في انتماء سائر الشعوب إليها والتزامهم بتعاليمها


واتساع دائرة هذا الانتماء خلال فترة قصيرة ـ وبذلك تندفع شبهة الرجعية بعد ظهور أن الشريعة الإسلامية المباركة جاءت لجميع العصور ولكل الأجيال ولذلك كانت رحمة للعالمين حيث قال سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (١) .

وكذلك تندفع الشبهة الثانية وهي كون الدين أَفيون الشعوب ـ بعد الاطلاع التفصيلي على جوهر الدين وحقيقته بصورة عامة والدين الإسلامي الخاتم العادل الكامل بصورة خاصة لأنه جاء ليخرج الناس من ظلمات الشرك والجهالة والتخلف إلى نور التوحيد عقيدةً وعبادة وضوء العلم والهدى والتقدم في مختلف المجالات وشتى الميادين وقد تحقق ذلك كله خلال فترة قصيرة كما يشهد الواقع التاريخي حيث أصبحت الأمة العربية ببركة هذا الدين العظيم ـ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .

ومن أراد الاطلاع التفصيلي على هذا الموضوع لمعرفة دور الدين الإيجابي في تقدم الأمة وسعادتها فليطلع على الجزء الأول من وحي الإسلام لأني بحثت فيه هذه النقطة الجوهرية في عدة أبحاث دينية تربوية وخصوصاً البحث الأول الذي تحدثت فيه حول موقف الإسلام من أعداء الإنسانية الثلاثة ( الجهل والفقر والمرض ) .

وختمت الحديث حول هذا الموضوع بالمقطوعة الشعرية التالية :

الدينُ أفضل ما يرقى به البشرُ

إلى الكمال وما يُجنى به الوطرُ

أوحى به اللهُ منهاجاً تشع به

مقاصدُ الخير والآمال تزدهر

تزهو الحقيقة في ميزان شرعته

ويخلد الجوهر الوضاء لا الصور

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٧ .


فالمنهجُ الحقُّ لا أهواءُ مبتدعٍ

والحاكمُ اللهُ لا زيدٌ ولا عمرُ

والمقصدُ الخيرُ خيرُ الناس كلهم

لا نفعُ بعض وإن أودى بنا الضرر

نالت بـه الفتح أقوامٌ به اعتصمت

وسار في ركبها التأييدُ والظفر

واليوم ضـل بها الحادي فأوردها

مناهلَ الغي حيثُ الجبنُ والخَوَرُ

فعاد عاراً لها نصرُ الـجدود وما

كانت تتيهُ به عزاً وتفتخر

وتلك حكمةُ وحـي الله ناطقةٌ

عبر القرون لمن يُصغي ويعتبر

من ينصُر الله يُنصر في مواقفه

ومن يُخالفُ مخذولٌ ومنكسرُ

وإذا فرض عدم نجاح الشيطان في تشكيكه الإنسان في أصول دينه وما يقوم عليها من نظم وقوانين بسبب قوة إيمانه واعتقاده بعظمة شريعته الإسلامية وقدرتها على تحقيق جميع أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية فهو يلتف عليه من جهة أخرى ليُحرق حسناته التي حصلها بالإيمان الصادق والعمل الصالح وذلك بدفعه للقيام ببعض المحرمات التي يُسجل عليه بها الكثير من الذنوب والسيئات مع تأثيرها سلباً على ما كسبه من الحسنات ليقع بهذا وذاك في العناء والشقاء نفسياً ومادياً فردياً واجتماعياً في حاضر هذه الدنيا مضافاً إلى خسارته السعادة والاستقرار في كلتا الدارين وذلك هو الخسران المبين الذي أوقعه فيه عدوه اللئيم وشيطانه الرجيم .

وإن من أكبر المحرمات وأخطر المنكرات التي انتشرت واشتهرت بين أفراد المجتمع حتى أصبحت معروفاً لا يستنكره الكثيرون .

الغيبةُ والنميمةُ ونحوهما من المنكرات الكبيرة والخطيرة التي تُحرق الحسناتِ كما تُحرق النارُ الحطب .

وبذلك كله يُعرف السر في إيجاب الله سبحانه تحصيلَ الإيمان الجازم بالعقائد الحقة عن طريق الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي لا


يبقى معها مجال لتشكيك الشيطان بكلا نوعيه من الجنة والناس .

كما أوجب سبحانه التفقه في الدين وجعل طلب العلم فريضةً على كل مسلم ومسلمة بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الواقعة محل ابتلاء المكلف في عباداته ومعاملاته ـ كل ذلك من أجل أن يكون الإنسان المسلم ثابت الموقف على نهج رسالته بالإيمان الراسخ الذي يثمر التقوى والعمل الصالح ، والسلوك المستقيم في نهج الدين القويم بحيث لا ينحرف عنه عقيدةً وسلوكاً مهما كانت الإغراءات المغرية بالانحراف أو الضغوطات المقتضية له ـ كما لا يتسرب الشك إلى قلبه ولا تؤثر الشبهات المثارة من هنا وهناك على صلابة إيمانه وقوة يقينه ـ ولذلك لا تزيده الإغراءاتُ ولا الضغوطاتُ إلا ثباتاً على المبدأ الحق كما لا تزيده إثارة الشبهات إلا إيماناً برسالته وتمسكاً بنهجها العادل ودفاعاً عن مبدئها الأصيل الخالد .

وانطلاقاً من شعوري بالمسؤولية نحو إنساننا المعاصر وجيلنا الصاعد عقدت العزم على بذل أقصى الجهد المستطاع في سبيل ترسيخ العقيدة الصحيحة وتقوية الثقة بقيمة الشريعة الإسلامية المجيدة وقدرتها على مواكبة التطور والانطلاق بالجيل الجديد نحو الأهداف السامية والغايات الرفيعة المستهدفة لله سبحانه من وراء إنزاله الشرائع وإرساله الأنبياء مبشرين ومنذرين عبر التاريخ .

وكان إصدار الجزء الأول من وحي الإسلام وبعده الجزء الثاني منه حول فلسفة الصيام في الإسلام ـ خطوتين عمليتين في طريق الهدف المذكور ويأتي هذا الكتاب ( فلسفة الحج في الإسلام ) ليكون الخطوة الثالثة في هذا الطريق على أمل التوفيق لمتابعة السير في هذا السبيل القويم المؤدي إلى خدمة الإسلام والمسلمين ونيل رضا الرحمن الرحيم .


وبعد الفراغ من هذا الحديث الذي ركزتُ فيه على الإخلاص لله في نية العمل وبيان دوره الفعال في صحة العبادة بمعناها الخاص وفي ترتب الأجر والثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقربُ لله تعالى :

أجل : بعد الفراغ من الحديث المذكور يترجح ذكر بعض القصص المؤكدة لدور النية والإخلاص فيها ـ في ترتب الآثار الإيجابية الراجعة إلى العامل المخلص لله في نيته ـ بالنفع العظيم في كلتا الدارين .

مع ذكر بعض القصص المتضمنة لبيان دور النية السيئة وتأثيرها السلبي على وضع صاحبها في كلتا الدارين .

وحيث أن قصة أصحاب الجنة مقطوعة التحقق لورودها في القرآن الكريم يترجح تقديم ذكرها على غيرها من القصص التي تُلقي الضوء على دور النية وتأثيرها الإيجابي أو السلبي ـ على وضع صاحبها في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة .

والقصة المذكورة ورد الحديث عنها في أكثر التفاسير ومنها مجمع البيان في تفسير سورة القلم حيث ورد فيه ما يلي :

وهذه الجنة حديقة كانت في اليمن في قرية يقال لها صروان بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلاً كانت لشيخ وكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ويتصدق بالباقي فلما مات قال بنوه نحن أحق بها لكثرة عيالنا ولا يسعنا أن نفعل ما فعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه وهو قوله تعالى :

( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ ) (١) .

__________________

(١) سورة القلم ، الآيتان ١٧ و ١٨ ، قد ورد ذكر هذه القصة مفصلاً في وسط سورة القلم ابتداء من آية ١٧ وانتهاء بآية ٣٣ ونقلت تفسير هذه الآيات وتفصيل قصتها =


وخلاصة هذه القصة أن أبناء هذا الشيخ المؤمن عقدوا العزم على مخالفة طريقة والدهم وذلك بأن يستأثروا بثمر هذه الجنة ولا يقدموا للفقراء ما كان والدهم يقدمه لهم من ثمرها ولذلك رجحوا الذهاب إليها مبكرين قبل وصول الفقراء حتى لا يحصل لهم حرج نفسي بسبب منعهم مما كانوا يأخذونه من والدهم باستمرار حتى أصبح بمنزلة الحصة المملوكة لهم .

وحيث أن هذه النية سيئة أراد الله سبحانه أن يعاقبهم على ما أرادوا تنفيذه بها تأديباً لهم وتحذيراً لكل من تسول له نفسه الأمارة بالبخل والحرص الدافع إلى حرمان الفقراء من حقوقهم الشرعية أو مساعدتهم الإنسانية وذلك بإشعال النار بها حتى احترقت ليلاً وهم غارقون في سبات الجسم والقلب معاً وعندما وصلوا مبكرين إلى مكان جنتهم هذه ولم يجدوها كما كانت من قبل توهموا أول الأمر أنهم تائهون ضالون عنها ومنتهون إلى غيرها وبعد التأمل عرفوا أن هذا المكان هو مكانها وأن الله عاقبهم بإحراقها وكان لهم أخ عاقل رشيد لم يوافقهم في البداية على تنفيذ ما أرادوا القيام به من مخالفة عادة والدهم بمنع الفقراء وحرمانهم مما كانوا يأخذونه من ثمرة جنته حال حياته لذلك نبههم على خطأهم وعدم عملهم بنصيحته فقال : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ) (١) .

أي هلا تذكرون نعمة الله وإحسانه إليكم فتؤدوا شكرها بإخراج حق الفقراء منها .

وبعد حصول العقوبة لهم وتنبههم لخطأهم وظلمهم أنفسهم :

__________________

= عن شرح مجمع البيان ج ١٠ صفحة ٥٠٥ و ٥٠٦ طبعة طهران .

(١) سورة القلم ، الآية : ٢٨ .


( قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) .

والقصة المذكورة حادثة واقعية ورد الحديث عنها في كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد .

وقد ذكرها الله سبحانه لنستفيد منها درساً تربوياً يبين لنا دور النية السيئة وتأثيرها السلبي في خسارة الإنسان وتعرضه للنتيجة السيئة المنسجمة مع تلك النية وعلى العكس من ذلك النية الصالحة المنطلقة من الإيمان الصادق الواثق بأن الله سبحانه هو مصدر الخير والعطاء والتوفيق في جميع المجالات .

ولهذا وذاك نرى المؤمن الواعي لهذه الحقيقة يحرص كل الحرص على توفير مقدمات نجاحه في أي هدف في هذه الحياة فيختار الهدف المشروع المحبوب لله سبحانه ويسعى لتحصيله بالنية الحسنة والقصد السليم المقرب منه تعالى وبواسطة المقدمات العادية الطبيعية اللازمة لتحقق ذلك الهدف ويختار المشروع من هذه المقدمات ويتوكل على الله بعد توفير ذلك كله في حصول الهدف المنشود فإن تحقق له كما يحب حمد الله تعالى وشكره على توفيقه له قائلاً بلسان المقال أو الحال ما قاله النبي سليمان عليه‌السلام :

( قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (٢) .

__________________

(١) سورة القلم ، الآيات : ٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ و ٣٣ .

(٢) سورة النمل ، الآية : ٤٠ .


وإذا لم يحصل له مطلوبه صبر ورضي بالقضاء والقدر مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام عليه‌السلام : ( ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور ) (١) .

هذا حاصل ما يستفاد من تلك القصة القرآنية المربية ـ وفيما يلي ثلاث قصص تلتقي معها بالمضمون والدلالة الواضحة على مدى تأثير النية في نوعية النتيجة المترتبة عليها والمصبوغة بلونها فإذا كانت نية صالحة حسنةً كانت النتيجة المترتبة عليها كذلك وإذا كانت على العكس كانت النتيجة مثلها .

الأولى من هذه القصص هي قصة ذلك العابد الذي سمع بوجود شجرة تعبد من دون الله سبحانه فأخذه الحماس الديني وانطلق ليقطعها فاعترض إبليس طريقه وقال له : إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال له العابد : لا بد من قطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه العابد فقال له إبليس :

أنت رجل فقير فارجع إلى عبادتك وأجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وماذا عليك إذا لم تعبدها أنت قال نعم فلما أصبح وجد دينارين كما وعده إبليس وفي اليوم الثاني لم يجد شيئاً فخرج لقطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه إبليس فقال له العابد :

كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانياً فقال له : لأن غضبك .

أولاً : كان لله .

__________________

(١) من دعاء الافتتاح المنسوب إلى الإمام المهدي ( عج ) .


وثانياً كان للدينارين .

ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإخلاص في النية في حصول النصر والتغلب على العدو ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان .

الثانية : قصة الأمير شروان وحاصلها أنه خرج ذات يوم للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماءً فقال له : ليس عندنا ماء قال : إدفع لي رمانة فدفعها له فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال له : ادفع لي رمانة أخرى فدفعها له فوجدها حامضة فقال له : أليست هذه الرمانة من نفس الشجرة التي قدمت لي الرمانة الأولى منها ؟ قال : نعم قال له : كيف تغير طعمها ؟ فقال له : لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال له : ادفع لي رمانة أخرى فدفع له ما طلب منه فوجد الرمانة الأخيرة أحسن وأطيب من الأولى فقال الأمير له : كيف صلحت ؟

قال له الصبي : إنما صلحت بصلاح نية الأمير .

القصة الثالثة : قريبة من الثانية ـ وحاصلها أنه خرج بعض الملوك بنزهة في مملكته فوجد رجلاً ومعه بقرة فحلب له مقداراً كثيراً من الحليب فتعجب الملك ثم نوى أخذها فلما كان الغد حلب منها نصف ما حلبه في اليوم الأول فقال الملك :

كيف نقص حليبها ألم ترع في مكانها بالأمس ؟ قال : بلى ولكن لعل الملك نوى الظلم فرجع عن نيته فرجع حليبها الأول .

وهكذا شاءت الإرادة الإلهية والحكمة السماوية أن تترتب على النية ـ وهي حالة نفسية داخلية الآثار المناسبة لها سلباً أو إيجاباً نفعاً أو ضرراً كما تترتب على الأفعال الخارجية التي يمارسها الإنسان بإرادته وذلك من


أجل أن يستفيد منها درساً تربوياً يدعوه لأن يصفي نيته ويحسن سريرته تمهيداً لأن يحسن سيرته ويعدل مسيرته كما أراد الله له أن يكون صافي النية سليم القلب يحب لغيره ما يحبه لنفسه من الخير ويسعى في سبيل حصوله له ويكره له ما يكره لنفسه من الشر ويمنعها من تسبيبها له .

وقصة أصحاب الجنة التي مر ذكرها تبين بوضوح مدى ارتباط وتأثر النتائج الخارجية بالعامل النفسي والنية الداخلية ويأتي قوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (١) .

مؤكداً لهذه الحقيقة الإيمانية حيث ربط الله سبحانه تغييره أوضاع الإنسان فرداً ومجتمعاً وتبديلها من حال إلى أخرى مقابلة لها ـ بتغيير الحالة النفسية التي يعيشها حالاً وما ورد في القصص الثلاث التي مر ذكرها .

يؤكد ذلك ويقتضي أن نستفيد منها عظة وعبرة ونكون دائماً وأبداً على حالة نفسية نبيلة وحسنة لتثمر لنا ما ينفعنا ويرفعنا في دنيانا وآخرتنا من جميع الجهات وفي مختلف المجالات .

ويسرني أن أختم الحديث حول موضوع الإخلاص بالأبيات التالية التي نظمتها مؤخراً من وحي هذا الموضوع الحيوي وهي كما يلي :

إن رمتَ أن ترقى لأفق علاء

وتنال يوم الحشر خير جزاء

فاسلك سبيل الصالـحات بنيةٍ

فضلى مجردةٍ عن الأهواء

فالله أوجدنا لنعبده بلا

شرك خفي ماحق ورياء

فإذا تحقق ما يريد ننال ما

نبغيه من فضل وَمِنْ نعماء

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١١ .


وإذا انحرفنا عن هُدَاه تحطمت

آمالنا بضلالة الجهلاء

دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج :

بعد تطهير النفس وتزكيتها بتصفيتها وتجريدها من شوائب الرياء ونحوه من المؤثرات السلبية على صحة العبادة وترتب الثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقرب لله سبحانه .

يأتي دور تطهير المال الذي يريد المكلف أن يحج به من الحق الشرعي ونحوه لأنه بدون ذلك يكون ثوب الإحرام والهدي اللذان يشتريهما بالمال المشتمل على ذلك الحق ـ محكومين بالغصبية وعدم الإباحة وذلك يقتضي بطلان صلاة الطواف وعدم ترتب الأثر الشرعي المطلوب على تقديم الهدي فيكون حجه محكوماً بالبطلان بهذا الاعتبار .

وبوحي من هذه المناسبة أحب أن أقدم لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والمستطيعين للحج العازمين على القيام به على الوجه الصحيح بصورة خاصة ـ النصيحة التالية ( والدين النصيحة ) وذلك بأن يقف كل واحد منهم وقفة تدبر وتفكر سائلاً نفسه لماذا أؤدي الصلاة وأصوم وأقوم بسائر الواجبات وأريد الذهاب إلى الحج رغم ما يقتضيه من صرف مال كثير مع تحمل المزيد من المشقة والعناء والتعرض لبعض الأخطار التي تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان كما حصل للكثيرين ممن حجوا سابقاً ويتوقع عروضه لمن يحجون لاحقاً ؟

ولماذا أنا ملتزم بترك المحرمات الشرعية التي نهاني الله سبحانه عن ارتكابها وخصوصاً الكبائر منها ؟


وإذا كان تاركاً للأولى ـ أي للواجبات ـ كلا أو بعضاً وفاعلاً للثانية أي المحرمات كلا أو بعضاً وتاب لله سبحانه من ذلك كله وانطلق في سبيل الاستقامة على نهج التقوى فعليه أن يسأل نفسه ويحاسبها بأسلوب آخر قائلاً :

لماذا أنا رجعت إلى النهج القويم بعد الانحراف عنه ؟

فسيكون الجواب على كلا السؤالين بأن ذلك هو العبادة التي خلقني الله من أجلها وأنا مأمور بها لكونها سبيل الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة فإذا أتيت بها كما أمرني الله تعالى ظفرت بذلك وإذا أهملتها خسرت ثواب الطاعة في الآخرة ومصلحتها المعجلة في الدنيا وعرضت نفسي للعقاب الشديد في الدار الأخرى وسببت لها الكثير من المتاعب والمصائب في هذه الدار وذلك هو الخسران المبين .

هذا هو الجواب المتوقع حصوله من المسلم الواعي الذي يُفرض في حقه أن يكون حاملاً في ذهنه صورة هذه المحاسبة لنفسه وطرح تلك الأسئلة عليها لتجيبه بلسان الفطرة السليمة والعقيدة الصحيحة بالأجوبة المذكورة .

وعلى ضوء ذلك نقول للمسلم الذي عقد العزم على السفر لحج بيت الله الحرام وهو يحمل في ذهنه صورة الحوار والمحاسبة المذكورة وفي قلبه العقيدة والإيمان بمضمونها ومحتواها :

إذا كنت مؤمناً بهذه الحقيقة فعليك أن تعمل بمقتضاها باستقامتك في منهج التقوى التي تتحقق بفعل ما أمرك الله به من الواجبات وترك ما نهاك عنه من المحرمات ـ وحيث أن إخراج الحق الشرعي من مالك بعد تعلقه به واجب شرعي لنفسه كالصلاة والصيام والحج وسائر الواجبات


الشرعية النفسية كما أنه واجب لغيره لتوقف صحة الحج عليه نظراً لاشتراط صحة صلاة الطواف كغيرها من الصلوات ـ بإباحة ثوب الإحرام الذي يأتي الحاج بهذه الصلاة فيه كما أن ترتّب الأثر الشرعي على تقديم الهدي متوقف على شرائه بمال مطهر من حق الغير ومن المعلوم أن كلا الأمرين ـ صحة الصلاة المذكورة وصحة الإهداء ـ أي تقديم الهدي ـ متوقفان على تطهير المال الذي يُشترى به ذلك الثوب وهذا الهدي .

أجل : حيث أن إخراج الحق الشرعي واجب شرعي لنفسه ولصحة الحج يكون المطلوب منك أيها الأخ المسلم العزيز أن تؤدي هذا الواجب معجلاً ، وقبل سفرك إلى بيت الله الحرام إذا كنت مُعيناً لنفسك رأس سنة لتأدية فريضة الخمس في نهايتها وكان متعلقاً فعلاً بما تملكه من النقود أو الأعيان المالية وكان ذلك ميسوراً لك بحيث لا يترتب عليه ضرر أو حرج ـ ومع فرض ترتب ذلك ترجع إلى مُقلَّدك أو وكيله ليُجريَ معك مصالحة على المقدار الذي وجب في مالك من الخمس وينتقل بهذه المصالحة من عين المال إلى ذمتك وتدفعه له أقساطاً حسبما تساعدك ظروفك وبعد انتقال الحق الشرعي من عين المال إلى الذمة يتمكن المكلف حينئذ من التصرف بهذا المال بيعاً وشراء ويتحقق بذلك شرط صحة صلاة الطواف ولا يبقى إشكال بالنسبة إلى الهدي .

ويُطلب منك يا أخي العزيز أن تحتاط لهذا الحق الذي ثبت ديناً في ذمتك وذلك بأن تسجله في وصيتك كسائر الديون والواجبات وقد يصبح الإيصاء بتأديتها واجباً إذا توقفت عليه .

وإذا كنت غير محاسب نفسك فيما مضى بالنسبة إلى فريضة الخمس ونحوها من الفرائض المالية ـ يصبح السعي في هذا السبيل واجباً ويتحقق ذلك غالباً بمراجعة وكيل المرجع الذي تقلده لتخبره بمجموع ما تملكه من


الأموال النقدية والعينية ونحوها مما له قيمة مالية وهو بدوره يبين لك النوع الذي هو متعلق للحق الشرعي والنوع الذي لا يكون كذلك وتكون النتيجة معرفة المقدار الواجب من الخمس ووجوب دفعه كله مع التمكن بدون ضرر أو حرج كما تقدم ومع فرض ذلك يأتي دور المصالحة على الحق الشرعي ليصبح ديناً في ذمتك وتدفعه أقساطاً بعد تحديد رأس السنة .

والنصيحة التي أحب تقديمها لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والعازمين على التشرف بزيارة بيت الله الحرام وجوباً أو استحباباً أو زيارة سائر المقامات المقدسة ـ بصورة خاصة .

هي طلب الاحتياط والحذر الشديد من التسويف والتسامح في تأدية الواجبات الشرعية ـ بصورة عامة والواجبات المالية بصورة خاصة لأهمية الثانية باعتبار كونها حقوقاً للناس ولا تبرأ ذمة من وجبت عليه إلا بدفعها لمستحقها أو للحاكم الشرعي الذي يقلده أو لوكيل هذا الحاكم وإذا أراد دفعها للمستحق مباشرة فالأحوط مراجعة مرجعه أو وكيله ليأخذ الرخصة منه في ذلك ـ على تفصيل محرر في الرسائل العملية وإذا قصر المكلف في تأدية الواجبات المالية المتمثلة بالحقوق الشرعية ونحوها فإنه يتعرض بذلك لأشد العقوبات التي لا تترتب على ترك الواجبات البدنية كالصلاة والصوم رغم أهميتها وذلك لأن الواجب المالي فيه حقان أحدهما يرجع إلى الله المشرع والثاني يرجع إلى مستحق هذا الحق .

ولو أن المكلفين أدركوا ما يترتب على تأدية الفريضة المالية والتصدق بصورة عامة ـ من الفوائد المادية والمعنوية المعجلة في هذه الحياة مضافاً إلى ما ينالونه من النعم الخالدة والسعادة الحقيقية الدائمة في الآخرة لتسابقوا إلى ذلك ولم يتأخروا عنه وذلك لأن الإنفاق الواجب أو المستحب يُصبح في واقعه تجارةً مع الله سبحانه تترتب عليها الأرباح


الكثيرة والفوائد العديدة .

منها زيادة النعمة بسبب الشكر العملي الذي قام به المنفق في سبيل الله تعالى لقوله سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (١) .

ومنها دوام النعمة لأن جميع النعم والألاء التي يمن بها الله سبحانه على الإنسان هي في الواقع أمانة له عند من أنعم بها عليه فإذا صرفها وتصرف بها كما أمره الله المالك الحقيقي ـ وجوباً أو استحباباً ـ عبر بذلك عن كونه أميناً محافظاً على الأمانة وذلك يقتضي بطبعه إبقاء صاحبها لها عنده وعدم أخذها منه .

وهذا بخلاف ما إذا صدر منه عكس ذلك فإن النتيجة تكون منسجمة مع مقدمتها وهي عروض النقص بدل الزيادة أو الخسارة والفقدان للنعمة بالكلية بعد وجودها والتمتع بها .

وإلى ذلك أشار الله سبحانه في آخر الآية السابقة بقوله تعالى :

( وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٢) .

لأن المراد بالكفر على ضوء ما يوحي به جو الآية ـ هو الكفر العملي المقابل للشكر العملي ـ وبقرينة المقابلة بينهما يُفهم أن المراد بالعذاب الذي أنذر به الله سبحانه أعم من العقاب الأخروي بحيث يشمل العقوبة المعجلة الحاصلة بسبب الكفر بنعمة الله تعالى ومن أبرز مصاديقها العقوبة المتحققة بسلب النعمة من الكافر بها قلبياً وعملياً كما حصل من قارون وحصلت له العقوبة المناسبة لذلك ـ أو عملياً كما هو شأن الكثيرين ممن آمنوا بمؤدى قوله تعالى :

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .

(٢) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .


( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) (١) .

ولكنهم كفروا بنعم الله عملياً بعدم صرفها فيما أوجب عليهم صرفها فيه أو بصرفها في سبيل معصيته ليكونوا مصداقاً لقول الشاعر :

أعارك مالَه لتقومَ فيه

بطاعته وتقضي بعضَ حقه

فلم تقصد لطاعته ولكن

قويت على معاصيه برزقه

ويُضاف إلى الفائدتين السابقتين وهما زيادة النعمة ودوامها فوائد أخرى عديدة مادية ومعنوية تترتب على الإنفاق في سبيل الله سبحانه ـ منها دفع البلاء وقد أُبرم إبراماً وطول العمل ومحبة الله وخلقه لمن ينفق في سبيل الله ومعاملته بالاحترام والتقدير ومقابلته بالمثل عندما يصبح محلاً للمساعدة .

تجاوباً مع قوله تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (٢) .

وقول الشاعر :

أحس إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

هذا مضافاً إلى الجزاء الأوفى الذي وعد به رب العالمين المؤمنين المحسنين بقوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (٣) .

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٥٣ .

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠ .

(٣) سورة البينة ، الآيتان ٧ و ٨ .


ومن أراد الاطلاع بصورة تفصيلية على أهمية الإنفاق في سبيل الله تعالى ودور البر والإحسان في سعادة الإنسان في كلتا الدارين .

فليطلع على ما نشر في الجزء الأول من وحي الإسلام تحت العناوين التالية ـ وهي ( حول صفة الكرم والسخاء ) ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان ) ( التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة ) .

ومن المناسب لموضوع هذا الحديث ذكر القصة التالية التي ذكرها صاحب كتاب ( جزاء الأعمال ) صفحة ١٤ .

وذلك لأنها تبين مدى تأثير الإحسان على نفسية من يُقدم له ليندفع إلى احترام المحسن ومكافأته بالمثل وتقديمه على غيره وخصوصاً إذا كان ذلك الغير مسيئاً له كما هو مضمون هذه القصة وهي كما يلي بلسان المؤلف (١) نفسه حيث يقول فيها :

كنتُ في سفينة مع جماعة من الكبراء فغرق زورقٌ من خلفنا ووقع منه أخوان في دوران التيار فقال أحدهم للملاح خلص هذين الأخوين ولك مني مائة دينار فما أنقذ أحدهما الملاحُ حتى هلك الآخر فقلتُ له : حيث نفد عمره حصل التواني بإنقاذه فتبسم الملاح وقال : إن ما قلته صحيح غير أن ميل خاطري لخلاص هذا كان أكثر .

والسبب في ذلك أني كنت مرة منقطعاً في الصحراء فحملني هذا على جمله وأما ذاك فذقت منه سوطاً لا أنساه ضربني به في عهد صباه فقلتُ صدق الله العظيم حيث قال :

( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (٢) .

__________________

(١) هو مجتبى بلوجيان .

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٤٦ .


وختم المؤلف القصة بالبيتين التاليين :

إياك أن تخدشَ قلبَ امرىءٍ

فذا طريقٌ شوكُهُ مُتلفُ

وأسعفِ البائس إن تلقَهُ

فربما احتجتَ لمن يُسعف

الرفيق الصالح ودوره الإيجابي في نجاح الرحلة :

بعد أن يحرز العازم على القيام برحلة الحج المباركة ، التوفيق والنجاح في الخطوتين الأوليين وهما الخطوة الأولى التي طواها في طريق تخليص النية من الشوائب والثانية هي التي طواها في سبيل تطهير ماله من الحقوق .

يحتاج بعد ذلك إلى خطوات أخرى متممة لهاتين الخطوتين وتأتي خطوة اختيار الرفيق الصالح الذي ينطلق في سبيل تأدية فريضة الحج المقدسة لتكون في الطليعة بين الخطوات الإيجابية التي يطويها في هذا السبيل المبارك .

ونقصد بالرفيق الصالح في محل الحديث ـ المعرّف الذي يضع المسافر في طريق الحج نفسه وماله وفريضة حجه أمانةً في يده من أجل أن يحفظها له ويحافظ على راحته وصحة حجه وبراءة ذمته منه . لذلك يُطلب منه بذل الجهد المستطاع في سبيل الظفر بهذا الرفيق الذي يُطلب توفر شروط أساسية فيه ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف وهي كثيرة أبرزها ما يلي :

الأول : التفقه في الدين بالاطلاع على المسائل الشرعية التي تقع محل ابتلائه وابتلاء الآخرين الذين يخالطهم وخصوصاً الأحكام الشرعية


المتعلقة بفريضة الحج ويتأكد ذلك بالنسبة إلى الأشخاص الذين تحمل مسؤولية تعريفهم وتعليمهم أحكام هذه الفريضة لتصبح رحلة الحج بذلك مدرسة سيارة يتلقى المنطلقون فيها لتأدية الفريضة المذكورة ، دروساً متنوعة وأهمها الأحكام المتعلقة بفريضتهم التي سافروا من أجلها وبذلك يصبحون طلاباً للعلم والمعرفة الصحيحة التي تضيء لهم درب الإيمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل . كما تعرفهم أحكام حجهم ليأتوا به على الوجه المطلوب .

الثاني : شرط الوثاقة بمعنى كون المعرف ثقة معروفاً بالصدق والأمانة ليصح الأخذ بقوله عند ما يخبر بوقوع أي عمل من أعمال الحج صحيحاً واجداً لشروط الصحة المعتبرة وفاقداً لما يؤدي إلى البطلان .

ولذلك اشترط الفقهاء فيمن يُراد استنابته للعبادة النيابية عن الميت أو عن الحي حيث تشرع النيابة عنه كما في الحج وبعض واجباته ، كونَه ثقة ليصح الأخذ بقوله إذا أخبر بأصل وقوع العمل النيابي أو بوقوعه على الوجه الشرعي المبرىء لذمة المنوب عنه .

الثالث : أن يكون معروفاً برحابة الصدر وقوة الصبر ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف والمحافظة على راحة الحجاج وسلامتهم من أخطار ومَضار عديدة يتعرضون لها بسبب شدة الازدحام وتغير الجو كما يتعرض بعضهم للضياع ، وقد حصل للكثيرين سابقاً . وهنا يأتي دور قوة صبر المعرف وشدة اهتمامه ومحافظته التي تسلم أفراد قافلته وتقيهم من التعرض للأخطار والأضرار وإذا تعرض أحدهم لشيء من ذلك بذل أقصى الجهد في سبيل إزالته عنه مهما كلفه ذلك من تضحيات .

فإن كان العارض الطارىء هو الضياع والابتعاد بسببه عن جماعته


ومحل إقامته ـ بذل المعرفُ المسؤول مع من يتعاون معه على البر والتقوى ـ أقصى الجهد في سبيل الوصول إليه وإنقاذه من خطر ضياعه ، وإذا كان الطارىء هو المرض سعى جهده في سبيل علاجه ولم يقصر في حقه وإذا فقد ما هو مضطر له من المال ونحوه ، سعى في سبيل الظفر بما فقده أو التعويض عنه بكل وسيلة ممكنة ولو بالاستعانة بمن يثق بإيمانه واهتمامه ورغبته في قضاء حاجة إخوانه المؤمنين والتفريج عنهم وهكذا .

ومما تقدم بيانه حول أهمية اختيار الرفيق الصالح والمعرّف الناجح ـ نعرف وجه الرجحان والأهمية فيما جرت عليه العادة المباركة مؤخراً ـ من مرافقة عالم ديني فاضل للحملة المنطلقة في طريق تأدية فريضة الحج لأنه يتكامل مع المعرف الرسمي ويتعاونان على إفادة الحجاج ومساعدتهم على إدراك غايتهم المنشودة من رحلتهم المباركة وهي تأدية فريضة الحج على الوجه الصحيح مضافاً إلى ما يقوم به العالم الديني من إرشادات دينية وتوجيهات تربوية تفيدهم في قضاياهم الشرعية والاجتماعية وسائر الشؤون والأوضاع الحياتية مع قيامه بدور إمامة الجماعة التي يترتب عليها الثواب العظيم والأجر الجسيم على ضوء بعض الروايات الدالة على ذلك منها الرواية القائلة :

إذا زاد عدد المأمومين على العشرة فلا يحصي ثوابها الا الله سبحانه (١) .

هذا كله بالنسبة إلى الرفيق العادي الذي يحتاج إليه البعض من المسافرين من بلد إلى آخر ليعينه على إدراك غايته التي سافر من أجلها سواء كانت دينية أو دنيوية .

__________________

(١) هذا الرواية منقولة بالمعنى والمضمون من حديث طويل ذكره مع روايات عديدة في كتاب ( الحديقة الناشرية صفحة ٢٣٧) مطبعة الغري في النجف الأشرف .


وهناك رفيق لا يستغني عنه أحدٌ وهو الإله الواحد الأحد الذي يحتاج إليه كل إنسان في كل مطلب من مطالبه وإن كان ذلك المطلب سهلاً وميسوراً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى معين ومساعد من قبل أحد من البشر ، وذلك لأن أي هدف من الأهداف وإن كان سهل الحصول والتحقيق لا بد من قدرة تمكن صاحبه من تحقيقه ولو كانت قدرة متواضعة مناسبة للمطلوب ومساعدة على تحصيله .

ومن المعلوم أن الإنسان خلق ضعيفاً ويبقى ضعيفاً في ذاته وطاقاته ولذلك يظل بحاجة إلى من يزوده بالقدرة ويبقيها له ويتمكن بعد ذلك من استثمارها واستعمالها في سبيل تحصيل الهدف المقصود .

وقد عبر الله سبحانه عن هذا الضعف بالفقر الذاتي الذي يُولد مع الإنسان ويبقى ملازماً له حتى نهاية حياته وذلك بقوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (١) .

وبذلك يظهر جلياً أمام المنطق الديني المنطلق من الواقع التكويني أن كل خطوة يخطوها الإنسان في سبيل أي هدف من الأهداف ـ لا تنجح إلا إذا لاحظتها العناية الإلهية والتوفيق السماوي وقد اعترف بذلك النبي شعيب عليه السلام وعبر عنه بقوله :

( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٢) .

وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية يتعين في حق كل إنسان عاقل ـ أن يسير على نور عقله وينسجم مع فطرته التي فطره الله عليها وأودعها فيه

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ١٥ .

(٢) سورة هود ، الآية : ٨٨ .


لتجذبه تكوينياً وفطرياً إلى مصدر وجوده بسلك الإيمان بوحدانيته وعدله واتصافه بجميع الصفات الكمالية ومنها إرساله الأنبياء ليرشدوا الناس إلى غاية خلقهم وسبيل تحقيق هذه الغاية مع تعيينه الأوصياء لأنبيائه لينوبوا عنهم ويمثلوا دورهم بعد انتقالهم إلى جوار الله سبحانه مع الإيمان بضرورة البعث وإعادة الخلق إلى الحياة من جديد من أجل مجازاة المحسن على إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وذلك من لوازم عدله وكماله المطلق كما ذُكر مفصلاً في محله من كتب العقيدة الإسلامية .

ومرافقة الله سبحانه للإنسان نوعان :

الأول : المرافقة الذاتية ومعناها كون الله سبحانه مع الإنسان وجميع مخلوقاته بعلمه وقدرته وتدبيره وهذه حاصلة تكوينياً وقسراً بلا حاجة إلى أي سبب خارجي يوجده الإنسان بإرادته واختياره كما هو واضح في نظر المؤمن العالم بعلم الله الشامل وقدرته المطلقة وتدبيره المستوعب لكل ما في هذا الكون من مخلوقات .

الثاني : المرافقة والمعوية بالعناية الإلهية والرعاية السماوية التي تتمثل بالتوفيق والتأييد لمن تحصل له هذه المرافقة عندما يريد هدفاً مشروعاً ويوجد له مقدماته الطبيعية المشروعة أيضاً ويتوكل على الله سبحانه في نجاح سعيه وإدراك هدفه .

فإذا تحقق مطلوبه اعترف بأن ذلك حصل بعون الله سبحانه وتوفيقه وشكره قولاً وعملاً وظفر بثواب الشكر وإذا لم يحصل له مراده رضي بما قدره الله له وصبر على حرمانه من نيل مرامه مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام المهدي عليه‌السلام في دعاء الافتتاح :


( ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور ) .

والمؤمن الواعي يكون موفقاً لمرافقة الله له واعتنائه به في كلتا الحالتين إذا قابل توفيق الله له بالشكر حيث ينال ثوابه كما ينال أجر الصبر والرضا بما قدره الله له من عدم تحقق غايته المنشودة .

وبذلك يكون الله معه بمرافقة العناية والرعاية ما دام رضاه بالحرمان وصبره عليه مثمراً له ما هو أنفع مما فاته في هذه الحياة الزائلة .

قال سبحانه : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) (١) .

وقال تعالى : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) (٢) .

وإنما تعرضت لهذا الحديث في المقام بمناسبة الكلام حول المرافقة الإلهية بمعناها الثاني من أجل دفع الشبهة التي تعرض لبعض المؤمنين عندما يقع في محنة ويصاب بصدمة لحدوث مفاجأة سلبية مثيرة كسقوطه في الامتحان رغم بذله الجهد المستطاع في سبيل تحصيل المعدل المناسب أو الخسارة في التجارة رغم التحفظ والاحتياط لعدم الإصابة بها أو الهزيمة في المعركة رغم الأخذ بأسباب النصر وإعداد ما استطاع له المؤمنون من قوة مادية ومعنوية وهكذا .

وعلى ضوء البيان الأخير لمعنى المرافقة الإلهية والرعاية السماوية للإنسان المؤمن بالله المتوكل عليه الواثق بعدله وحكمته .

تندفع الشبهة بعد ملاحظة أن المرافقة الإلهية للإنسان بمعناها الثاني الذي يحمل في طيه معنى الرفق واللطف ـ لا تنحصر بالإعانة على تحصيل

__________________

(١) سورة الأعلى ، الآية : ١٧ .

(٢) سورة الضحى ، الآية : ٤ .


المطلوب المعجل في هذه الحياة بل تشمل فرض تأخير الإعانة على إدراكه في حاضر الدنيا المعجل من أجل أن يجازيه على صبره ورضاه بقدر الله وقضائه بما هو أفضل وأنفع له في دار الجزاء الأوفى .

وعلى هذا الوجه يُحمل تأجيل استجابة الله سبحانه دعاء عبده المؤمن ولجوئه إليه من أجل أن يدفع عنه مكروهاً أو يجلب له محبوباً .

وبملاحظة مجموع ما تقدم ندرك أن مرافقة الله سبحانه للإنسان المؤمن بالرعاية والتوفيق تترتب غالباً إن لم يكن دائماً على مرافقة هذا الإنسان له واتصاله به بالتقوى والتوكل بمعناه الواعي الايجابي .

وإلى هذا المعنى من المرافقة والمعية المشتركة بين العبد وربه يشار بالكلام المشهور ( من كان مع الله كان الله معه ) .

ويدل على ذلك ببيان أوضح وأصرح قوله تعالى :

( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (١) .

وقوله تعالى :

( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٢) .

والمرافقة بمعناها الأول وإن كانت مشتركة بين المؤمن وغيره من سائر الكائنات كما هو واضح إلا أن الذي يُحس بها ويرتب الأثر عليها هو المؤمن بالله سبحانه بالإيمان الواعي المنفتح على الحقيقة الموضوعية المستلهمة بوضوح من قوله تعالى :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٤٠ .


إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

والأثر البارز المترتب على إحسان المؤمن بهذه المرافقة هو انفعاله بها وتجاوبه معها بالاستقامة في خط التقوى المستقيم وذلك يثمر له حصول المرافقة الإلهية بالمعنى الثاني على ضوء البيان التفصيلي المتقدم ـ وعلى العكس من ذلك الإنسان المجرد من رابطة الإيمان أو كانت ضعيفة وهابطة إلى درجة تُلحق وجودها بالعدم . الأمر الذي يفقده الإحساس بالمرافقة التكوينية الإلهية الشاملة لكل الكائنات بلا استثناء وهذا هو السبب في انحراف هذا النوع من البشر عن منهج الفضيلة وانجرافه بتيار الرذيلة ليكون مصداقاً لقوله تعالى :

( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (٢) .

وبالمناسبة أحب أن أذكر بعض القصص في ختام الحديث عن موضوع المرافقة لتكون الشاهد الصادق المؤكد لحقيقة التفاعل بين المرافقة بالمعنى الثاني عند المؤمن والمرافقة بمعناها التكويني العام .

والذي خطر في ذهني من هذه القصص ثلاث وهي متشابهة بالمضمون وحاصل الأولى منها : أن عبداً مملوكاً لشخصٍ كان مكلفاً من قبل سيده برعي قطيع غنم له ، واتفق أن التقى به شخص في المرعى وطلب منه أن يبيعه رأساً من الغنم فأبى هذا العبد ذلك واعتذر له بأن سيده

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ٧ .

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩ .


مالك الغنم لم يأذن له بذلك وحينئذٍ أراد ذلك الشخص أن يدبر له عذراً كاذباً ليعتذر به لسيده إذا لبى طلبه وباعه ما أراد شراءه منه وهو أن يخبره بأن الذئب سطا على القطيع وأخذ رأساً منه وأراد إغراءه بالمادة ليوافقه على إجابة طلبه وذلك بإعطائه الثمن ليصرفه في سبيل مصلحته الخاصة ، وهنا يأتي دور الإيمان الصادق ليرفض العذر الكاذب وأن يبيعه دينه وجنة عرضها السموات والأرض بدنيا زائلة ومنفعةٍ مؤقتة ذاهبة ودفعه ذلك لأن يعتذر منه بقوله :

إذا كان صاحب الغنم لا يعلم بكذب العذر وخيانة الأمانة فأين علم الله وحضوره المراقب والمعاقب .

وأدى هذا الاعتذار بهذا الأسلوب الواعي ـ إلى أن يعدل ذلك الشخص عما كان عازماً عليه خوفاً من الله سبحانه ، وهزّ هذا الموقف الإيماني الثابت من هذا العبد المملوك جسماً والمتحرر عقلاً وإرادة ـ كلَّ كيانه واُعجب بقوة إيمانه وأراد أن يقدم له جائزة تكريميةً على نجاحه في هذا الامتحان الصعب وذلك بشرائه من سيده ليحرره مع شرائه قطيع الغنم من مالك العبد ليقدمه لهذا المؤمن الواعي الذي كان حرّ الضمير وراسخ الإيمان وأدى به ذلك لأن ينال التحرر المادي من أسر المملوكية للبشر ويصبح متحرراً من كل القيود المادية وعبداً لخالقه ومالكه الحقيقي سبحانه وتعالى .

وهكذا تحقق ذلك ليكون مصداقاً لقوله تعالى :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (١) .

ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الراسخ في إحساس

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .


صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة والاطلاع السماوي الدقيق وإنتاج هذا الإحساس المرافقة الثانية بمعناها المتقدم وهي التي حولت هذا الإنسان المؤمن من عبد إلى حر ومن فقير مملوك إلى غني مالك . وفي ذلك عبرة لأولي الألباب .

أجل : إن دلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الثابت الواعي في إحساس صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان وهذا الإحساس هو الذي أدى إلى ترك مخالفة الله سبحانه والسير في خط التقوى المؤدي إلى النتيجة الايجابية الرائعة والجائزة التكريمية المعجلة مضافاً إلى ما سيناله هذا المؤمن المتقي من النعيم الخالد والسعادة الدائمة في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . وفي ذلك عبرة للمعتبرين .

القصة الثانية : وهي شبيهة بالأولى وقد ذكرها المرحوم المقدس السيد محسن الأمين في الجزء الأول من المجالس السنية صفحة ٢٦ وفيما يلي حاصلها :

مما جاء في كرم الإمام الحسين عليه‌السلام ، عن الحسن البصري أن الحسين عليه‌السلام ذهب ذات يوم مع جماعة من أصحابه إلى بستان وكان في ذلك البستان غلام للحسين اسمه صافي فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز فجلس الحسين عليه‌السلام عند بعض النخل بحيث لا يراه الغلام فنظر إليه الحسين عليه‌السلام وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه فتعجب من فعل الغلام فلما فرغ من الأكل قال : الحمد لله رب العالمين اللهم اغفر لي واغفر لسيدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين ، فقام الحسين عليه‌السلام وقال : يا صافي فقام الغلام فزعاً وقال يا سيدي وسيد المؤمنين إلى يوم القيامة إني ما رأيتك


فاعف عني فقال الحسين عليه‌السلام اجعلني في حل يا صافي لأني دخلت بستانك بغير إذنك فقال صافي : بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا فقال الحسين عليه‌السلام : إني رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه فما معنى ذلك ؟

فقال الغلام : إن هذا الكلب نظر إليّ وأنا آكل فاستحييت منه وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك نأكل رزقك معاً فبكى الحسين عليه‌السلام وقال : إن كان كذلك فأنت عتيق لله تعالى ووهبت لك ألفي دينار فقال الغلام : إن أعتقتني فأنا أريد القيام في بستانك فقال الحسين عليه‌السلام :

إن الكريم ينبغي أن يصدق قوله بالفعل أوَما قلت لك : اجعلني في حل فقد دخلت بستانك بغير إذنك فصدقتُ قولي ووهبتك البستان وما فيه لك فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة وبارك الله لك في حسن خلقك وأدبك فقال الغلام : إن وهبتني بستانك فإني قد سبلته لأصحابك وشيعتك .

ووجه الشبه بين هذه القصة والسابقة عليها هو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده فنتج من ذلك خوفه منه وعدم إقدامه على ما يسخطه ويسبب غضبه وأراد الله مكافأته على ذلك معجلاً بأن بعث الإعجاب في نفس ذلك الشخص الذي طلب إعطاءه رأساً من الغنم بطريق غير شرعي وأدى إعجابه بتقواه إلى أن يشتريه ويعتقه ويشتري القطيع ويقدمه هدية له ـ ونفس هذا التحول الذي حصل لهذا الشخص من الإقدام على الحرام إلى القيام بأفضل الأعمال المقرّبة من الله تعالى يعتبر توفيقاً لهذا الغلام وفضلاً آخر منَّ الله به عليه حيث كان السبب لتحوله من التصرف المبعد له عن الله سبحانه ورضوانه إلى تصرف آخر مضاد له يثمر له التوفيق وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة .


والسبب الذي منع الغلام المذكور في القصة الأولى ـ من الإقدام على الحرام ـ وأنتج له قربه من الله سبحانه وتفضله عليه بما حصل له من التحرر بعد الرق والغنى بعد الفقر .

أجل : نفس هذا السبب وهو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده بعلمه واطلاعه الشامل هو الذي دعا الغلام الثاني لأن يعامل ذلك الحيوان بمعاملة العطف والإحسان نتيجة إحساسه بمراقبة الله له واطلاعه على جميع تصرفاته وأنه يحب المحسنين حتى للحيوان ويُكافيء على الحسنة بعشر أمثالها كما وعد في كتابه الكريم ـ وقد تحققت له هذه المكافأة معجلاً في حاضر الدنيا كما رأيت مضافاً إلى ما سيناله هناك يوم الجزاء العادل ـ من جنة عرضها السموات والأرض ورضوان من الله أكبر .

وصدق الله سبحانه حيث قال :

( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (١) .

القصة الثالثة : نقلتها عن كتاب جزاء الأعمال صفحة ١٨ وسبق ذكر اسم مؤلفه وهي كما يلي :

نقلوا أن ملكاً ظالماً أراد أن يبني له قصراً فاستدعى المهندسين لكي يخططوا له خارطة ذلك القصر على الأرض بحسب ما خطر في ذهنه وكان بجانب هذه الخارطة بيت صغير لامرأة عجوز وكانت خارطة قصر الملك مصمّمة على أن يكون بيت العجوز ضمن مخطط القصر لكي يظهر بشكل مربع فطلب من العجوز أن تبيعه بيتها فرفضت طلبه بسبب كون البيت ملجأً لأطفالها يأوون إليه . ويوماً كانت هذه المرأة في سفر فلما عادت وجدت

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠ .


بيتها قد هدم فتأثرت تأثراً شديداً من العمل ونظرت إلى السماء وقالت :

إلهي إن كنتُ غائبة فقد كنت حاضراً ، وبعد إتمامها لهذه المناجاة حدث زلزالٌ شديد تهدم على أثره قصر الملك وكان حينها يجلس في أعاليه فدمّر الملك تحت أنقاض القصر وأصبح من الهالكين .

وقال المؤلف معلقاً على هذه القصة :

وهذه عبرة للعقلاء كي يعلموا أن الظلم لا يدوم ، إن الذي فعلته العجوز في مناجاتها لا تستطيع فعله آلاف القذائف والمعاول ، ومحل الشاهد في هذه القصة هو أن هذه العجوز حيث كانت مؤمنة بالمرافقة الإلهية والحضور المطلق في كل مكان وزمان ومع كل إنسان وأنه لا يرضى بحصول الظلم ولا يهمل معاقبة من يتجاوز حدوده ويتمرد عليه ويتجرأ بظلم خلقه ـ لذلك لجأت إليه واعتمدت في معاقبة ظالمها عليه وكان سبحانه حسبها ونعم النصير حيث انتقم لها منه وعجل عقوبته .

وبعد التأمل في سبب إقدامه على هذا الظلم الفاحش ـ ندرك أن غياب الله سبحانه عن شعوره وإحساسه بحضوره ومرافقته لكل كائن ومطلع على كل ما يصدر منه سراً وجهراً الأمر الذي أدى إلى عدم تحقق المرافقة بالمعنى الثاني عند هذا الظالم وهو مرافقة الدعم والتوفيق لأنه مرتبط بحصول سببه المؤدي له وهو التقوى والتوكل الواعي الواثق وفي مورد القصة حيث حصل عكس ذلك فقد جاءت النتيجة مناسبة لمقدمتها لقوله تعالى :

( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ) (١) .

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ٤٠ .


وقوله سبحانه : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (١) .

وبعد نقل القصص الثلاث المذكورة والتعليق عليها بما يناسب موضوع الحديث تذكرت قصة رابعةً مختصرة سمعتها من بعض الخطباء الأجلاء وأحببت ذكرها في المقام لمناسبتها له والتقائها بالمضمون مع تلك القصص المذكورة وحاصلها أنه حصل في مجلس ضم عدداً كثيراً من المنتمين إلى الإسلام على ضوء خط أهل البيت (ع) صراع كلامي ونقاش حاد حول بعض الموضوعات وكان بين الحاضرين في هذا المجلس ـ شيخ جليل القدر متقدم في العمر ومعروف بالتقوى والورع وذكر الله سبحانه فأثاره هذا النقاش وكان بيده عصا يتوكأ عليها فضرب الأرض بها وصاح بصوت جهوري : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟

وحيث أن صوته هذا انطلق من أعماق قلبه المليء بالخوف من الله سبحانه فقد هزّ كيان الحاضرين ليسيطر عليهم الهدوء والخشية من الله سبحانه .

ومما تقدم بيانه مفصلاً حول تأثير الإحساس والشعور بحضور الله سبحانه ومرافقته لكل الكائنات بالعلم والإشراف والقدرة والتدبير وللمكلفين على وجه الخصوص بالمرافقة وتسجيل ما يصدر منهم من حسنات وسيئات تمهيداً للحساب والجزاء العادل في وقته المناسب .

أجل : بعد معرفة تأثير الإحساس بالحضور الإلهي ومرافقته سبحانه بالمعنى الأول ـ في سلوك الإنسان واستقامته في خط التقوى ـ ندرك بوضوح سبب تحول الحاضرين في ذلك المجلس من حالة ووضع مبعد عن الله سبحانه إلى وضع آخر مقرب منه .

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٤٠ .


ويفهم ذلك من قول ذلك الشيخ الجليل لهم : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟

لأنه يقصد بوجوده تعالى بينهم ـ الحضور الذهني والوجود المعنوي القلبي في عالم الشعور والالتفات التفصيلي لحضوره الدائم في مقابل حاله الغفلة والذهول عن هذا الحضور ـ الأمر الذي أدى إلى وضعهم الأول البعيد عن جو الإيمان الخاشع والمبعد عن ذكر الله النافع .

وإلى هذا المعنى أشار الله سبحانه بقوله :

( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١) .

ومن المناسب للحديث حول موضوع المرافقة والرفق الإلهي بخلقه سبحانه ختامُه بالأبيات التالية التي جالت في ذهني بعد الفراغ منه وهي كما يلي :

الله دوماً راحمٌ ورفيقُ

ولنا بدرب الصالحات رفيقُ

خَلَقَ الورى لفضيلةٍ وسعادةٍ

وهُداه للهدفِ الكبيرِ طريقُ

فمن اسـتقامَ عليه يجني خيره

وعلى الملائك بالصلاح يَفوقُ

ومن ارعوى يجني الشقاوة عاجلاً

وجزاؤه يوم الحساب حريقُ

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٢٨ .


بعض ما يستحب لمن عزم على السفر أن يقوم به

ذكروا للسفر آداباً ومستحبات يترجح مراعاتها والقيامُ بها كلاً أو بعضاً لكونها مستحبة في ذاتها ولكونها منطلقاً لتحصيل العناية الإلهية والرحمة السماوية التي تمهد سبيل النجاح في نيل الغاية التي سافر من أجلها وتزيل الحواجز والعقبات التي قد تعترض سبيل نجاحه ونيل أمنيته .

وهذه المستحبات كثيرة سأقتصر على ذكر بعضها وهو الأهم وهي كما يلي :

على ضوء ما ورد في الجزء الأول من مفتاح الجنات للمرحوم السيد الأمين ( قده ) وما ورد في مفاتيح الجنان للمرحوم القمي ( قده ) والأكثر منقول من الأول .

١ ـ منها : استحباب قراءة الدعاء التالي عند إرادة السفر :

اللهم بك يصول الصائل وبقدرتك يطول الطائل ولا حول لكل ذي حول إلا بك ولا قوة يمتارها ذو قوة إلا منك بصفوتك من خلقك وخيرتك من بريتك محمد نبيك وعترته وسلالته عليه وعليهم السلام صل عليهم واكفني شر هذا اليوم وضره وارزقني خيرَه ويُمنه واقضِ لي في مُتصرفاتي بحسن العاقبة ونيل المحبة والظفر بالأمنية وكفاية الطاغية وكل ذي قدرة على أذية حتى أكون في جُنة وعِصمة من كل بلاء ونقمة وأبدلني فيه من


المخاوف أمناً ومن العوائق يُسراً حتى لا يصدني صادّ عن المراد ولا يحلّ بي طارق من أذى العباد إنك على كل شيء قدير والأمور إليك تصير يا من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

٢ ـ ومنها : استحباب أن يختار الرفقة الملائمة من الثلاثة فصاعداً ويكره أن يسافر وحده ، فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شر الناس من سافر وحده ومنع رفده وضرب عبده .

وإذا اضطر للسفر وحده فليقل :

ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم آنس وحشتي وأعني على وحدتي وأد غيبتي .

٣ ـ ومنها : استحباب أن يُوصي والوصية بصورة عامة قسمان :

الأول الوصية الواجبة : وهي التي يتوقف عليها تأدية واجب مالي كديون الناس ومنها الحقوق الشرعية المتعلقة بماله أو الثابتة في ذمته ويُلحق بها الحج إذا كان وجوبه مستقراً في ذمته بسبب استطاعته سابقاً مع تسامحه في تأديته في سنة الاستطاعة .

ومثل الواجب المالي ـ الواجب البدني كالصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات البدنية إذا توقفت تأديتها على الإيصاء بها .

والقسم الثاني من الوصية : هو المستحب بالنسبة إلى الأمور المستحبة .

٤ ـ ومن مستحبات السفر التقاط خمس حصيات بعدد أولي العزم وذلك من أجل أن تكون معه في سفره وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليهم أجمعين .


٥ ـ ومنها : صلاة ركعتين عند إرادة السفر ويقول بعدهما :

اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي .

٦ ـ ومنها : أن يجمع عياله عند إرادة السفر في بيت ثم يقول :

اللهم إني أستودعك الساعة نفسي وأهلي ومالي وديني وذريتي ودنياي وآخرتي اللهم احفظ الشاهد منا والغائب اللهم احفظنا واحفظ علينا اللهم اجعلنا في جوارك اللهم لا تسلبنا نعمتك ولا تغير ما بنا من عافيتك وفضلك .

ثم يقول : مولاي انقطع الرجاء إلا منك وخابت الآمال إلا فيك أسألك إلهي بحق من حقه واجب عليك ممن جعلتَ له الحق عندك ـ أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تقضي حاجتي .

ثم يقال : محمد أمامي وعلي ورائي وفاطمة فوق رأسي والحسن عن يميني والحسين عن يساري وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن والحجة عليهم السلام حولي .

إلهي ما خلقت خلقاً خيراً منهم فاجعل صلاتي بهم مقبولة ودعواتي بهم مستجابة وحوائجي بهم مقضية وذنوبي بهم مغفورة وآفاتي بهم مدفوعة وأعدائي بهم مقهورة ورزقي بهم مبسوطاً .

ثم يقول : اللهم صل على محمد وآل محمد ثلاث مرات وبعدها يقول : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أريد سفراً فخر لي وأوضح لي فيه سبيل الرأي وفهمنيه وافتح لي عزمي بالاستقامة واشملني في سفري بالسلامة وأوفد لي جزيل الحظ والكرامة وأكلأني فيه بحريز


الحفظ والحراسة برحمتك يا أرحم الراحمين بحق محمد وآله الطاهرين (١) .

٧ ـ ومنها : استحباب أن يفتتح سفره بالصدقة قائلاً :

اللهم إني اشتريت بهذه الصدقة سلامتي وسلامة ما معي اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل .

٨ ـ ومنها : استحباب إعلام اخوانه وجيرانه بسفره فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق على المسلم إذا أراد سفراً أن يعلم إخوانه وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه (٢) .

وبمناسبة ذكر هذا المستحب أحب أن أذكر نصيحة وتنبيهاً يتعلق بما جرت العادة عليه لدى الكثيرين عندما يعزمون على السفر ـ من طلب أحدهم المسامحة ممن كان قد ذكره بسوء أو صدر منه عمل مضر به وهو غير مطلع عليه .

والنصيحة الأخوية التي أحب تقديمها في هذا المجال هي ترجيح ترك طلب المسامحة من ذلك إذا لم يكن الشخص الآخر مسبوقاً به بل يكفيه الاقتصار على الاستغفار له ولنفسه والتوبة لله سبحانه من تلك الخطيئة وذلك لأن إخباره بما صدر منه ضده من قول مثير أو عمل مضر يبعث في نفس الطرف المقابل الانفعال منه وقد يؤدي إلى العداوة

__________________

(١) هذا الدعاء وما تقدمه من الأدعية مأخوذ من الجزء الأول من مفتاح الجنات للمرحوم الأمين ( رحمه‌الله ) .

(٢) من كتاب تحفة الحاج للشيخ هادي الساعدي صفحة ٣٣ والمنقول عنه هو المستحبان ٧ و ٨ .


والبغضاء والله سبحانه لم يحرم نقل الكلام المثير من شخص إلى مَن قيل في حقه ـ وهو المسمى بالنميمة إلا لأنه يؤدي إلى الخصومة والشحناء مع أن الملحوظ في الغالب عدم حصول المسامحة المطلوبة وإن حصلت فباللسان فقط خجلاً لا من القلب سماحاً وتسامحاً ـ وقد يصرح بعضهم بعدم المسامحة مع إعلان الموقف السلبي ضد من ذكره بسوء أو سبب له ضرراً مادياً أو معنوياً وغفلة الكثيرين عن هذه النتيجة السلبية واعتقادهم بلزوم طلب المسامحة هو الذي يوقعهم في المحذور المذكور ولذلك اقتضت المصلحة التنبيه على مرجوحية العادة المذكورة ورجحان تبديلها بالاستغفار فهي كفارة للذاكر بالسوء أو مسبب الضرر لغيره كما أنها دعاء لذلك الغير بالمغفرة والرضوان .

٩ ـ ويستحب للمسافر أن يدعو بما يلي :

اللهم افتح لي في وجهي بخير واختم لي بخير وأعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ ومن شر ما برأ ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ـ اللهم خل سبيلنا وأحسن سيرنا وأعظم غايتنا . فإذا وضع رجله في الركاب أو في العربة أو نحوها فليقل :

بسم الله الرحمن الرحيم : بسم الله وبالله والله أكبر ثم يقول : سبحان الله سبعاً ولا إله إلا الله سبعاً الحمد لله سبعاً فإذا علا الدابة أو نحوها فليقل :

الحمد لله الذي كرمنا وحملنا في البر والبحر ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون والحمد لله رب العالمين .


الحمد لله الذي هدانا للإسلام وعلمنا القرآن ومنَّ علينا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٠ ـ ويستحب للمسافر أن يقول وهو سائر : اللهم خل سبيلنا وأحسن مسيرنا وأحسن عاقبتنا ـ وأن يكثر من التكبير والتحميد والاستغفار .

١١ ـ ويستحب تشييع المسافر وتوديعه والدعاء له وأن يُقرأ في أذنه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) (١) إن شاء الله ، ثم يقول : سر على بركة الله (٢) .

١٢ ـ ويُستحب أيضاً الدعاء التالي للمسافر وغيره ويتأكد في حق الأول وهو المروي عن الإمام زين العابدين حيث رُوي عنه قوله عليه‌السلام :

لا أبالي إذا قلتُ هذه الكلمات أن لو اجتمع علي الجن والإنس وهي بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله اللهم إني إليك أسلمتُ نفسي وإليك وجهت وجهي وإليك فوضت أمري فاحفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي ومن تحتي وادفع عني بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

١٣ ـ وذكر في المفاتيح أنه يستحب للمسافر في طريق الحج أن يساعد أصحابه في السفر ولا يُحجم عن السعي في حوائجهم كي ينفس الله عنه ثلاثاً وسبعين كربة ويجيره في الدنيا من الهم والغم ويُنفس كربه العظيم يوم القيامة .

وروي أن الإمام زين العابدين كان لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ليخدمهم في الطريق لأنهم لو عرفوه لمنعوه من ذلك .

__________________

(١) سورة القصص : الآية : ٨٥ .

(٢) هذا الدعاء والسابق عليه منقول عن مفتاح الجنات ، ج ١ ص ٢٤٧ .


ومن الأخلاق الكريمة للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان مع صحابته في بعض الأسفار فأرادوا ذبح شاة يقتاتون بها فقال أحدهم علي ذبحها وقال آخر علي سلخ جلدها وقال ثالث علي طبخها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا علي الاحتطاب فقالوا يا رسول الله نحن نعمل ذلك فأجاب أنا أعلم أنكم تعملونه ولكن لا يسرني أن أمتاز عليكم إن الله يكره أن يرى عبده قد فضل نفسه على أصحابه .

١٤ ـ ومن المستحبات المطلقة للمسافر وخصوصاً مع رفاقه في طريق سفره وعلى الأخص إذا كان لزيارة بيت الله الحرام ـ أن يحسن أخلاقه وأن يتزين بالحلم .

١٥ ـ ويستحب للمسافر إذا أشرف على قرية يريد دخولها أن يدعو بما يلي :

اللهم ربَّ السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت ورب الرياح وما ذرت ورب البحار وما جرت : إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ـ اللهم يسر لي ما كان فيها من خير ووفق لي ما كان فيها من يسر وأعني على حاجتي يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً .

وإذا خاف سبُعاً أو هامة من هوام الأرض أو غير ذلك فليقل في ذلك المكان :

يا ذاريء ما في الأرض كلها بعلمه بعلمك يكون ما يكون مما ذرأت ـ لك السلطان على ما ذرأت ولك السلطان القاهر على كل شيء من كل شيء يضر من سبع أو هامة أو عارض من سائر الدواب بفطرته إدرأها عني


واحجزها ولا تسلطها علي واحفظني من شرها وبأسها يا ألله يا ذا العلم العظيم حُطني واحفظني بحفظك من مخاوفي يا رحيم . فإذا قال ذلك لا تضره دواب الأرض التي تُرى والتي لا تُرى إنشاء الله تعالى .

ومن خاف كيد الأعداء واللصوص فليقل في ذلك المكان الذي خاف ذلك فيه : يا أَخذاً بنواصي خلقه والشافع بها إلى قدرته والمنفذ فيها حكمه وخالقها وجاعل قضائه لها غالباً وكلهم ضعيف عند غلبته وثقتُ بك سيدي عند قوتهم إني مكيد لضعفي ولقوتك على من كادني تعرضتُ فسلمني منهم .

اللهم إن حلتَ بيني وبينهم فذلك أرجوه منك وإن أسلمتني إليهم غيروا ما بي من نعمك يا خير المنعمين صلى على محمد وآل محمد ولا تجعل تغيير نعمك على يد أحد سواك ولا تغير أنتَ ما بي فقد ترى الذي يُراد بي فحُل بيني وبين شرهم بحق من تستجيب الدعاء به يا الله رب العالمين .

فإذا قال ذلك نصره الله على أعدائه . ومن كان غائباً وأراد أن يؤديه الله سالماً مع قضاء حاجته فليقل في غربته : يا جامعاً بين أهل الجنة على تأۤلف وشدة تواجد في المحبة ويا جامعاً بين طاعته وبين من خلقه لها ويا مفرجاً عن كل محزون ويا موئل كل غريب ويا راحمي في غربتي بحسن الحفظ والكلاءة والمعونة لي ويا مفرج ما بي من الضيق والحزن بالجمع بيني وبين أحبتي ويا مؤلفاً بين الأحباء لا تفجعني بانقطاع أوبة أهلي وولدي عني ولا تفجع أهلي بانقطاع أوبتي عنهم بكل مسائلك أدعوك فاستجب لي فذلك دعائي فارحمني يا أرحم الراحمين .

وإذا نزل في منزل فليقل :


رب أنزلني منزلاً مُباركاً وأنت خير المنزلين ثم يصلي ركعتين ويقول : اللهم احفظني واكلأني وليودع الموضع وأهله فإن لكل موضع أهلاً من الملائكة فيقول :

السلام على ملائكة الله الحافظين السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته (١) .

والمستحب الأهم الذي يتمم غيره من مستحبات المسافر وغيره من المنطلقين في درب الرسالة هو ما روي عن الإمام الصادق من قوله عليه‌السلام : ما يُعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم تكن فيه ثلاث خصال خُلُقٌ يخالق به من صحبه وحلم يملك به غضبه وورع يحجزه عن معاصي الله تعالى .

وهذه الخصال الثلاث وإن كانت ثوباً معنوياً يحتاج المؤمن لأن يتجمل به في كل زمان ومكان ومع أي إنسان كما يحتاج لأن يتجمل بالثوب المادي في أغلب الأحوال ـ إلا أن الحاجة إلى التجمل بها تكون أشد وأمسَّ بالنسبة إلى من يسافر في طريق زيارة بيت الله الحرام وذلك بسبب بعد المسافة وزيادة المشقة التي يعاني منها أكثر المسافرين مع الصعوبة الذاتية الحاصلة لمن يؤدي مناسك الحج وخصوصاً في حالي الرمي والطواف نتيجة الازدحام الشديد .

كل هذه الخصوصيات تجعل المسافر في هذا السبيل على حالة استثنائية صعبة جداً تسبب له ضيقاً في صدره وسرعة انفعال لأي حادث يحصل على خلاف طبعه . وهنا يأتي دور حسن الخلق الذي يدفع صاحبه لأن يعاشرَ من صحبه في طريق الحج أو غيره بالمجاملة والمعروف فلا

__________________

(١) مفتاح الجنات للسيد الأمين ( رحمه‌الله ) ج ١ ص ٢٥٠ .


يصدر منه تصرف بالقول أو بالفعل يكون مثيراً لعاطفة غيره ـ وإذا صدرت من الغير ما يثير بطبعه فهو يقابله برحابه صدر وقوة صبر انطلاقاً من قوله تعالى :

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وحيث أن المسافر في طريق الحج يُعتبر في واقعه مسافراً إلى دار رحمة الله ومغفرته ليكفر سيئاته ويضاعف حسناته . والمتوقع ممن يكون سفره لهذه الغاية ـ أن يكون على حالة انقطاع لله سبحانه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه بالاستقامة في خط التقوى والبعد عن كل ما يبعده عن رحمة الله ومغفرته وذلك يتمثل بالتجمل بالخصال الثلاث المذكورة .

فحسن الخلق يدعوه لأن يجامل الآخرين فلا يصدر منه ما يثيرهم وإذا صدر منهم ما يثيره عالجه بالحلم والصبر الجميل وإذا دفعته نفسه لأن يميل مع الهوى يميناً أو شمالاً تأتي صفة الورع لتمنعه من الانحراف وتثبت قدميه على صراط الحق القويم ونهجه المستقيم .

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤ .


الحج رحلة فكرية وروحية من عالم المادة إلى عالم العبودية الخالصة

إن التدبر الواعي والتأمل الموضوعي في الغاية السامية التي شرعت العبادات من أجلها يوحي للمتدبر فيها بأنّها عبارة عن التجرد من القيم المادية الوضيعة تمهيداً للانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة الرفيعة .

وذلك لأن الإنسان بحكم تركبه من عنصر المادة الثقيلة وعنصر الروح الخفيفة الشفافة وبحكم تأثره بالماديات المحسوسة وانشداده إليها وانجذابه نحوها بدافع الغريزة البشرية ـ تشده جاذبية المادة إلى الأسفل وربما تهبط به إلى سفح الحيوانية ليعيش مع فصائلها بغرائزه الضاغطة ويصبح شبيهاً بها بتصرفاته المادية وحركاته الغريزية بل قد يمسي أضل منها سبيلاً وأحط شأناً كما صرح الله سبحانه بقوله تعالى :

( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (١) .

لهذا وذاك شاءت الحكمة الإلهية والعناية السماوية أن ترسم لهذا

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩ .


الإنسان مناهج عبادية وتعاليم أخلاقية تساهم في التخفيف من ثقل المادة وضغط الطين على روحه لتستطيع التحليق في آفاق الكمال الإنساني وتحقق الغاية التي خلق الله الكون من أجلها وأوجد الإنسان بصورة خاصة ليحققها وهي استقامته في خط العبودية الخالصة المخلصة التي تثمر له السعادة في الدنيا والآخرة .

وبذلك يظهر السر في اشتراط صحة تلك العبادات بقصد التقرب بها لله وحده حين الاتيان بها لأنها بذلك تشد الروح إلى مصدرها والنفس إلى بارئها بسلك التقوى فتصفو وتعلو وتتحلل من قيود المادة التي تشدها إلى الأرض وتمنعها من الانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة والكمال كما أراد الله تعالى .

ويتجلى ذلك بوضوح في تأدية فريضة الصلاة بتجرد وإخلاص وجوباً خمس مرات في اليوم واستحباباً بلا تحديد وبذلك كانت عموداً للدين ومعراجاً لروح المؤمن وشبيهة بالحوض الذي يكون في دار الإنسان ويغتسل به خمس مرات في اليوم فلا يبقى على بدنه شيء من الأدران المادية والأوساخ الجسمية كذلك إذا أدى الصلاة خمس مرات في اليوم فلا يبقى على روحه ونفسه شيء من أوساخ الذنوب والخطايا .

وتأتي فريضة الحج لتقوم بنفس الدور الذي تؤديه الصلاة رغم وجوبها مرة واحدة في العمر كما تؤدي دور الصيام بما اشتملت عليه من تروك الإحرام ـ ودور الفريضة المالية كالخمس والزكاة لما تقتضيه من صرف المال في سبيل تأديتها ـ أي تأدية فريضة الحج ـ .

وذلك لأن عامل الكيف الذي تميزت به فريضة الحج عن غيرها من العبادات بسبب تعرض مؤديها للمشقة الشديدة الناشئة من طي المسافة


البعيدة كما هو الحاصل للكثيرين من الحجاج ـ ومن الازدحام المجهد وخصوصاً في حالي الطواف والرمي ، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة بعضهم بعارض صحي أو لضياع وغرق في بحر الجموع المحتشدة في أماكن تأدية المناسك المقدسة .

أجل : إن عامل الكيف المتميز بالصعوبة والخطورة في فريضة الحج يقوم مقام الكثرة والزيادة في الكم الموجودة في الصلاة والصيام بلحاظ ترتب الأثر التربوي والتعبدي عليها بالدرجة المقاربة لما يترتب عليهما من ذلك . وهذا ما يسبب صعوبة فراق المسافر في هذا الطريق وتوديعه أقاربه وأصدقاءه بدموع سائلة وعواطف ملتهبة بحرارة الحذر والخوف من المصير المؤلم المظلم الذي يترقبه كل واحد من المسافرين في طريق هذه الفريضة المباركة .

أجل : إن هذا العامل الكيفي يمثل دور العامل الكمي الذي تميزت به فريضة الصلاة عن غيرها من الفرائض ولذلك تترتب على تأدية فريضة الحج آثار ومعطيات إيجابية بالنسبة إلى أكثر الحجاج قلما تترتب على تأدية سائر الفرائض العبادية وأبرز تلك الآثار حصول الخوف الشديد من الوفاة بسبب ما يتعرض له المسافر في سبيل هذه الفريضة من الأخطار الكثيرة والكبيرة حتى كأنه مسافر إلى ساحة الحرب والجهاد وهذا يكون سبباً قوياً لتوبته إلى ربه وتراجعه عما كان عليه من أخطاء وانحراف عن جادة التقوى .

وينتج من هذا وذاك محاسبته لنفسه وإيصاؤه بتأدية ما فاته من صلاة وصوم ونحوهما وما ثبت في ذمته من حقوق مالية للآخرين كما يتنبه لوجوب تعيين رأس سنة له مقدمة لتأدية ما يجب عليه من الخمس في المستقبل مع عزمه على تأدية ما وجب عليه سابقاً من هذا الحق بعد


تسجيله ديناً عليه في الوصية ـ والبعض يتوفق لتطهير نفسه وتخليص ماله مما تعلق به من الحق الشرعي فعلاً وقبل سفره خوفاً من عدم تحقق ذلك في المستقبل بسبب وفاته وتقصير ورثته في إبراء ذمته بتنفيذ وصيته كما حصل للكثيرين ممن انخدعوا بسراب الأمل وتركوا أمر تخليصهم إلى غيرهم واتفق حصول التقصير في حقهم كما قصروا هم في حق أنفسهم ولم يعملوا بالنصيحة التي قدمها الشاعر الحكيم بقوله :

ما حك جسمك غيرُ ظفرك

فتول أنت جميع أمرك

كما لم يتنبهوا لقول الشاعر الآخر :

إذا أنت لم تعرف لنفـسك حقها

هواناً بها كانت على الناس أهونا

أجل : إن الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المربية يعتبر في واقعه رحلةً فكريةً وروحيةً قبل أن يكون رحلة مادية جسمية تتمثل بتحرك الشخص جسمياً في سبيل تأدية هذا الواجب المقدس والرحلة الأولى هي المتممة للثانية حيث يشترك في تأدية الواجب الإلهي كل كيان الإنسان بكلا عنصريه المادي والمعنوي كما يشترك ذلك منه في مقام تأدية الصلاة والصيام والجهاد ونحوهما من الواجبات الإلهية .

وبذلك يتحقق الهدف المنشود من تشريعها وهو تحليق النفس البشرية بكلا جناحيها المادي والمعنوي في سماء الفضيلة والكمال لوضوح أن هذا التحليق والصعود إلى سماء الرفعة والسمو لا يكون بجناح المادة وحده كما أن الطير لا يتمكن من الطيران بجناح واحد ومن أجل توضيح كيفية حصول الرحلة الفكرية والروحية من الإنسان المسلم عندما ينطلق في طريق تأدية فريضة الحج مضافاً إلى رحلته الجسمية المادية أقول :


إن رحلته الفكرية تتمثل بتحرك الفكر وانتقاله من حالٍ بعيدةٍ عن هدف إيجاده وغاية خلقه كتفكيره في المصالح والمنافع المادية الدنيوية وسعيه في سبيل تحصيلها بأية وسيلة كانت ولو كانت محرمة تحطم كيانه معنوياً وتسبب له البؤس والشقاء في الدنيا والآخرة .

إلى حالة أخرى معاكسة تتمثل بتفكيره الجاد الحالي بمصيره الأخروي وأنه السعادة الخالدة الكاملة في جوار الله سبحانه بعد مفارقته هذه الحياة ـ إن سلك طريق التقوى وفعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه ـ أو الشقاء الدائم والعذاب المستمر في الدار الأخرى إن انحرف عن نهج الاستقامة وترك واجباً وفعل حراماً .

أجل : إن رحلة الإنسان المسلم وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج أو عزمه على الانطلاق بجسمه يؤدي إلى رحلته الفكرية وتحوله من التفكير والاهتمام بما يضره ويحطمه مادياً ومعنوياً إلى حالة التفكير فيما ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة .

ثم يترتب على هذا التحول والحركة الفكرية والروحية المعنوية الداخلية ـ تحرك الجسم والروح معاً في طريق تحقيق غاية إيجاده في هذه الحياة وهي إطاعة الله وعبادته وحده لا شريك له لتثمر له هذه العبادة السعادة في الدنيا والآخرة كما يُستوحى ذلك من قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .


وقوله تعالى : ( وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ) (١) .

وقوله سبحانه :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٢) .

وبما ذكرنا ندرك أن حركة الإنسان الجسمية في طريق تأدية فريضة الحج لا بد أن تكون مسبوقة بحركته الفكرية ومن حالة التحلل وعدم التقيد نفسياً بالشعائر الدينية ـ إلى حالة العزم والإقدام على الالتزام النفسي المثمر للتحرك العملي بالروح والجسم معاً . وبذلك تكون حركته العبادية كاملة ومشيةً مستقيمة في طريق العبودية تساعده على إدراك الغاية المقصودة من تشريع هذه الفريضة كما تساعده على تحقيق الغاية المنشودة من تشريع سائر العبادات .

وهي تحصيل ملكة العبودية التي تضبط تصرفات المكلف وتحصرها في إطار الشرع وخط التقوى والاستقامة .

وعدم تحرك الروح الطاهرة والنفس المطمئنة مع الجسم حين ممارسة الشعائر الدينية هو الذي سبب نقصها وعدم ترتب غايتها عليها وهي التقوى كما تقدم على ضوء بعض الآيات الكريمة المنبهة لذلك .

منها قوله تعالى بالنسبة إلى فريضة الصوم :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى بالنسبة إلى فريضة الصلاة :

__________________

(١) سورة الجن ، الآية : ١٦ .

(٢) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .


( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (١) .

وقوله سبحانه بالنسبة إلى بعض شعائر الحج وهو الهدي الذي يجب على من كانت فريضته حج التمتع :

( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) (٢) .

وحيث أن الشريعة الإسلامية بصورة عامة والعبادات منها بصورة خاصة لا تترتب عليها آثارها في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً إلا بعد الإيمان بأصول موضوعية وصفات واقعية لازمة لها ـ اقتضت المصلحة الإشارة إليها والتنبيه عليها باختصار فأقول :

المراد بالأصول الموضوعية أصول الدين المعهودة كما أن المراد بالصفات الواقعية الصفات الثبوتية اللازمة لذات الله تعالى وهي مستلزمة للصفات السلبية المنافية لكماله المطلق فاتصافه سبحانه بالعلم مستلزم لانتفاء اتصافه بالجهل كما أن اتصافه بالعدل مستلزم لانتفاء اتصافه بالظلم وهكذا وسيظهر من خلال الحديث أن المراد بالصفات المذكورة ما يشمل بعض أصول الدين كصفتي الوحدانية والعدل وهي كثيرة .

منها كونه مصدر التشريع كما أنه مصدر الخلق والإيجاد وحده لا شريك له وقد صرح الله سبحانه بذلك بقوله :

( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (٣) .

باعتبار أن المراد بالأمر التشريع في مقابل الخلق ـ وتقديم الخبر في هذه الآية وهو الجار والمجرور ـ على المبتدأ وهو الخلق وما عطف عليه

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٥٤ .


يفيد الحصر وانحصار الخالقية والتشريع بذاته تعالى .

ومنها كونه عادلاً لأن ذلك من لوازم كماله المطلق ويؤكد اتصافه به لزوم اتصافه بالظلم لو تجرد عنه ـ أي عن العدل وذلك أبعد ما يكون عن ساحة كماله وجلاله تعالى وخصوصاً بعد ملاحظة نفيه عنه بصريح أكثر من آية .

منها قوله تعالى : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وقوله تعالى : ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) (٢) .

وقوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) (٣) .

وينتج عن الإيمان بعدالته سبحانه واستحالة اتصافه بالظلم الإيمان بعدم تكليفه الإنسان فوق طاقته وقد صرح سبحانه بهذه الحقيقة الإيمانية بقوله تعالى ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) (٤) .

ومن صفاته الكمالية كونه عليماً بكل شيء وقادراً على كل شيء وغنياً عن كل شيء ويحتاج إليه كل شيء وقد صرح الله سبحانه باتصافه بهذه الصفات الحميدة في العديد من آيات كتابه المجيد .

ومنها كونه حكيماً لا يخلق شيئاً بدون غاية وهدف ولا يشرع حكماً إلا لمصلحة وفائدة كما في موارد الواجبات والمستحبات أو لدفع مفسدة ومضرة كما في موارد المحرمات والمكروهات .

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١١٨ .

(٢) سورة غافر ، الآية : ٣١ .

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٢ .

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦ .


وتختلف حكمة الخلق والتشريع بالوضوح والخفاء باختلاف نوع المخلوقات والتشريعات فهناك مخلوقات واضحة الحكمة وجلية الفائدة مثل خلق الشمس والقمر والماء والهواء والأرض والسماء ونحو هذا من المخلوقات الكونية التي يتوقف عليها نظام الحياة والأحياء وهناك مخلوقات خفية الحكمة وغير واضحة الغاية مثل الحيات والعقارب والذباب والنمل وكل الحشرات التي يحصل منها الضرر الواضح ولا يظهر للكثير من الناس نفع ظاهر من وجودها .

ومثلها الحوادث الكونية كالزلازل والبراكين والطوفان ونحوها من الحوادث الطبيعية معلومة الضرر ومجهولة النفع .

وفي مقابل هذه المخلوقات والحوادث الطبيعية التشريعات الدينية فهي كالأولى من حيث صدورها من الإله الحكيم ومن حيث ظهور الحكمة وخفائها فمن التشريعات واضحة الحكمة والمصلحة وجوب طلب العلم عيناً أو كفاية بالنسبة إلى الكثير من الأحكام الشرعية التي يحصل بها الإنسان الفرد والمجتمع ـ الكثير من المنافع ويسلم من الكثير من المضار في الدنيا والآخرة .

وكذلك بالنسبة إلى العلوم الحياتية التي يتوقف عليها نظام الحياة واستقرار وضع المجتمع مثل علم الطب والهندسة والكثير من الحرف والمهن .

وأما التفقه في الدين بالنسبة إلى الكثير من الأحكام الشرعية التي يتم بها ويتوقف عليها نظام الدين والدنيا فالحكمة فيه أوضح من أن توضح ويدخل فيه وخصوصاً في هذه الأيام تعلم فنون الحرب وكيفية استعمال الأسلحة المتطورة من أجل الدفاع عن الوطن والدين والمجتمع وكرامة


الإنسان وعزته . لذلك أمر الله به بصريح قوله تعالى :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١) .

ويدخل في إطار التشريعات واضحة الحكمة ـ وجوب الخمس والزكاة ووجوب العدل واستحباب التصدق وإغاثة الملهوف ومساعدة الفقير وحرمة الظلم وأما فريضتا الصوم والصلاة فقد أصبحتا واضحتي الحكمة والمنفعة على ضوء ما كتب حولهما من المؤلفات والأبحاث التي شرحت أسرار العبادات وفوائدها وقد بينت الكثير من فوائد الصوم ومنافعه المادية والروحية في الجزء الثاني من وحي الإسلام حول فلسفة الصيام .

وكذلك فريضة الحج فقد أصبحت الحكمة المقصودة من تشريع وجوبها جلية بصورة عامة وبلحاظ أصل التشريع نظراً لما يترتب على تأديتها من فوائد كثيرة ومنافع عديدة أشار الله سبحانه إليها بقوله :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) .

إلا أن الكثير من شعائر هذه الفريضة المقدسة لا يزال محاطاً بالغموض الأمر الذي قد يسبب التقليل من أهميتها في نظر الكثيرين من المكلفين الذين لم يتعمق في قلوبهم الإيمان بحكمة الله سبحانه وأنه لا يشرع حكماً ولا يخلق شيئاً إلا لحكمة ومصلحة ـ وعدم معرفتنا بها واطلاعنا عليها لا يكشف عن انتفائها وعدم وجودها في لوح الواقع .

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٠ .

(٢) سورة الحج ، الآيتان : ٢٧ و ٢٨ .


والشعائر الواجبة في الحج التي كانت ولا تزال محاطة بشيء من الغموض كثيرة .

منها : الإحرام وتقييده بكونه من ميقات معين بالنسبة إلى كل شخص أو جماعة تأتي من مصرها إلى مكة المكرمة حيث قيد إحرامها بالميقات الواقع في طريقها إلى بيت الله الحرام ولا يسمح لأي فرد منهم بعقد الإحرام من مكان آخر سابق عليه أو متأخر عنه إلا للضرورة على تفصيل مذكور في محله من مناسك الحج .

ومنها : التجرد من الثوب المخيط بالنسبة إلى الرجل وارتداء ثوبي الاحرام المشروطين بنوعية معينة مع اشتراط ارتدائهما بكيفية خاصة وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطواف وقيوده من حيث كمية أشواطه ومكان ابتدائه وانتهائه وكيفية الإتيان به .

ونفس الشيء يقال في السعي وعدد أشواطه وقيود أمتثاله من حيث البداية والنهاية وتزداد الغرابة والحيرة في استحباب الهرولة التي يخرج بها الحاج عن وقاره وهيبته ويقرب منها في الغرابة والاستغراب الرمي والذبح في هذه الأيام التي تحرق فيها الذبائح أو تدفن ولا يترتب على ذبحها أي أثر إيجابي في حق الحاج نفسه أو في حق غيره .

وحيث أن خفاء الحكمة وعدم ظهورها في تشريع الأحكام قد يسبب التشكيك في الحكمة الإلهية والتسامح في تأدية الوظيفة الشرعية من قبل الكثيرين الذين لم يتوفقوا لتحصيل العقيدة الراسخة والإيمان الجازم بعدالة الله وحكمته .

فقد مست الحاجة واقتضت المصلحة القوية أن يُكشف النقاب عن وجه الحكمة والسر في تشريع الأحكام قدر الإمكان ولو على وجه


الإيجاز ، وتقوى الحاجة لذلك بقدر ما يكون الغموض شديداً والخفاء عميقاً كما هو الملحوظ بالنسبة إلى الكثير من شعائر الحج .

وسأحاول جاهداً كشف الحيرة وترسيخ الثقة بعدالة الله سبحانه وحكمته وبيان أن عدم وضوح الحكمة في بعض الموارد لا يقتضي التشكيك في واقعيتها وربما كانت هناك حكمة اقتضت إخفاء السر والحكمة الداعية للتشريع من أجل تقوية روح العبودية عند المكلف ليكون انطلاقه في طريق الامتثال والقيام بوظيفة العبودية لمجرد صدور التكليف الإلهي بذلك بقطع النظر عن حكمة هذا التشريع التي كانت السبب الداعي لصدوره من المولى الحكيم سبحانه وتعالى وخلاصة هذا البيان الذي قدمته تمهيداً للدخول في الحديث حول السر والحكمة التي انطلق التشريع منها .

هي أن المطلوب من المكلف الذي عزم على الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المباركة ـ هو أن يكون مؤمناً عن وعي واقتناع بأصول الدين المعهودة وما يتفرع عنها ويلزمها من الصفات الكمالية والجلالية اللازمة لكماله المطلق .

ومن أبرزها علمه بحقيقة الإنسان من حيث الخلق والطبيعة لأنه خالقه ومبدعُه ولذلك يعلم ما ينفعه ويصلحه ويصلح له من النظام والشريعة وعلى هذا الأساس يكون كل تشريع يضعه الله للإنسان ـ منطلقاً من حكمة ترتبط به وتعود إليه بمقتضى كونه حكيماً لا يشرع بدون هدف وغاية حكيمة وحيث أنه غني بالغنى المطلق الذي يقتضي استغناءه عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه ـ يتعين رجوع الحكمة المتمثلة بحصول المصلحة ودفع المفسدة إلى الإنسان الذي وضعت الشريعة من أجله .


وقد مرت الإشارة إلى أن هذه الحكمة تختلف بالوضوح والخفاء باختلاف الموارد والتشريعات فقد تكون واضحة جلية في بعضها وخفيةً في بعضها الآخر .

كما أن محل ترتبها مرة يكون عمل المكلف وامتثاله الحكم الشرعي بالفعل أو الترك كما هو الغالب في الأحكام المجعولة .

وقد يكون نفس الجعل وأصل صدور التشريع من المولى بحيث يترتب الغرض المقصود منه بمجرد صدوره عنه سبحانه وإن لم يحصل عمل وامتثال من المكلف خارجاً وذلك هو دور الأحكام الامتحانية التي صدرت من المولى بقصد امتحان المكلف وإظهار واقع إيمانه ودرجة التزامه بالوظيفة الشرعية .

وإنما عبرت بكلمة الإظهار بدل كلمة الظهور بلحاظ أن الامتحان الصادر من المولى لعبيده لا يكون بقصد ظهور حالهم له بعد خفائه عنه لما هو المعلوم بالوجدان الإيماني من كونه سبحانه عالماً بكل شيء وإنما يكون امتحانه لهم بقصد إظهار واقعهم وكشفه للآخرين وربما يكون بقصد كشفه لأنفسهم أيضاً بالنسبة إلى البعض الذين يعتقدون بإدراكهم الدرجة الرفيعة من الإيمان والالتزام في الظروف الطبيعية ويترجمون هذا بإبداء الاهتمام بالشعائر الدينية حتى إذا تغيرت الأوضاع وتبدل الرخاء بالشدة والهدوء والسلام بالحرب والآلام .

ظهروا على واقعهم وتبين أن التزامهم بخط الدين كان التزام تجارة وتعامل كسب وربح مادي دنيوي ـ بدليل تبدل موقفهم وتغير تصرفهم من الاستقامة إلى الانحراف عن منهج التقوى بالسلوك والممارسة ليكونوا بهذا وذاك مصداقاً لقوله تعالى :


( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١) .

وعلى العكس التام من ذلك المؤمنون الواعون الذين يدركون بوعي وعمق أن الله سبحانه هو مصدر الخير المطلق وعنوان الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء وعلى هذا يؤمنون بأن الخير إذا حصل لهم فهو بفضله وتوفيقه ويقابلون تفضله هذا بالشكر العملي وذلك بصرف نعمته في سبيل إطاعته الواجبة أو المستحبة وإذا ضموا إلى الشكر العملي الشكر القولي فهو نور إلى نور .

وإذا طرأت عليهم مصيبة بسبب مخالفتهم النظام التشريعي ـ عرفوا مصدرها وأنهم السبب في حصولها لهم ولذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله ويعودون إليه سبحانه من باب التوبة ويدركون بوعيهم الإيماني عدم صدورها لهم من قبله تعالى لا بالتشريع ولا بالتقدير والتخطيط الإلهي كما يفهم ذلك بوضوح من صريح قوله تعالى مخاطباً الأشخاص الذين انحرفوا عن منهج التقوى فأصيبوا نتيجة انحرافهم ببعض الابتلاءات :

( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد ) (٢) .

وإن كان حصول المصيبة لهم بقدر وقضاء من السماء ولم يكن حاصلاً من الأرض وأهلها ـ فسروا ذلك بأنه امتحان إلهي يريد الله به إظهار مقامهم وأنهم من المؤمنين الصابرين على البلاء والراضين بالقدر والقضاء ـ كما يريد به تعريضهم وإعدادهم لنيل الدرجات الرفيعة والمراتب العالية التي لا ينالها في دار الخلود والسعادة الأبدية إلا المؤمنون الصابرون .

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ١١ .

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٢ .


وإذا كان المؤمنون الممتحنون بالابتلاء غير معصومين وواقعين بسبب ذلك ببعض الأخطاء والانحراف عن منهج الاستقامة يكون ابتلاؤهم بالمصائب من أجل تمهيد السبيل أمامهم لنيل فائدة الصبر التي تتمثل بتكفير السيئات ومضاعفة الحسنات وعلى هذا الأساس لا يكون الابتلاء السماوي والامتحان الإلهي مصيبةً في نظر المؤمنين بعد ملاحظة النتائج الإيجابية التي يصلون إليها ويحصلون عليها ببركة رضاهم بالقضاء وصبرهم على البلاء .

وقد تحدث الله سبحانه عنهم وبين مصيرهم المشرق وعاقبتهم الحسنة التي توفقوا لها نتيجة صبرهم الجميل وذلك بقوله تعالى :

( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .

والحاصل من مجموع ما تقدم أن المؤمن الواعي قوي الإيمان يبقى مع الله سبحانه باستقامته في خط عبادته والانقياد لإرادته والرضا بمشيئته في كل الظروف والأحوال .

فإذا كان في حالة نعمة عرف واعترف بأنها من الله تعالى وفضله وذلك لقوله تعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) (٢) .

وأن الله تعالى إنما مَنَّ بها عليه ليستعين بها على عبادته وإطاعته كما أمره وذلك بإنفاقها وصرفها في سبيل الواجب أو المستحب وبذلك ينال

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٧ .

(٢) سورة النحل ، الآية : ٥٣ .


ثواب صرفها في إطاعته تعالى كما ينال ثواب تقواه وعدم صرفها في سبيل معصيته مضافاً إلى ما يناله من الجزاء المعجل المتمثل بزيادة النعمة نتيجة شكره له تعالى بالشكر العملي وذلك هو صريح قوله تعالى :

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (١) .

ومن نتائج صرف نعمة الله سبحانه في سبيل إطاعته بالإنفاق الواجب أو المستحب ـ دفع البلاء عن المؤمن المنفق في هذا السبيل لما هو المشهور المأثور في الكثير من الروايات من أن الصدقة تدفع البلاء وقد أُبرم إبراما ) .

وقد تحدثت حول هذا الموضوع مفصلاً في عدة محاضرات منشورة في الجزء الأول من كتاب ( من وحي الإسلام ) .

منها : محاضرة حول ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان ومنها محاضرة أخرى تحت عنوان ( التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة ) وبعد أن يحمل المؤمن الواعي عقيدته الراسخة بعدل الله سبحانه وأنه لا يظلم أحداً ولا يكلفه فوق طاقته وأنه حكيم لا يخلق شيئاً بلا حكمه ولا يشرع حكماً بلا غاية وفائدة ترجع إلى المكلف بحصول مصلحة أو دفع مفسدة أجل : بعد أن يحمل المؤمن الواعي عقيدته الثابتة ـ نوراً مشرقاً في عقله وإيماناً ثابتاً في قلبه يقوى التزامه النفسي بأحكام الشريعة وينظر إليها بعين الاعتبار والتقديس لصدورها من لدن حكيم عليم لم يشرعها إلا رحمة للعالمين .

وعدم ظهور الحكمة له في بعض التشريعات لا يقلل من أهميتها في نظره ولا يضعف التزامه بها إيماناً وعملاً .

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .


ولذلك فهو لا يسأل ولا يهتم إلا بإحراز أصل صدور التشريع من الله سبحانه ـ باجتهاده أو بتقليده ـ ليبادر إلى امتثاله وإن لم يعرف وجه الحكمة في تشريعه بعد اعتقاده بالأصل الموضوعي العام وهو أن الله سبحانه لا يشرع بلا حكمة كما لا يخلق بلا هدف وغاية .

وحيث أن النفس البشرية مطبوعة على حب الاطلاع ومعرفة أسرار الخلق والتشريع ولو إجمالاً وبحسب الظاهر . فقد أُلفت عدة كتب تناولت بيان السر والحكمة في خلق العديد من المخلوقات وتشريع الكثير من الأحكام والقوانين من قبل الله سبحانه الخالق المبدع والمنظم المشرع .

ويأتي كتاب توحيد ( المفضل الذي أملاه الإمام الصادق عليه‌السلام على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي ) ـ في الطليعة بين الكتب التي ألفت بقصد الإشارة إلى الحكمة والسر في اصل الخلق والإيجاد لهذا العالم مع بيان الحكمة في كيفية وخصوصية كل مخلوق من المخلوقات فيه ـ ليبرهن بذلك على وجود الخالق العظيم الحكيم لهذا الكون والمدبر المسير لنظامه التكويني ليسير دائماً وفق قانون تكويني يضبط تحركاته ويسيرها في طريق الهدف الذي أوجدها من أجله وهو خدمة الإنسان ومساعدته على تحقيق الغاية السامية التي أوجده الله من أجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ) .

وكذلك كتاب علل الشرائع للصدوق ( قده ) قد ألف للغاية المذكورة ويفترق عن الأول بكشفه عن الكثير من أسرار التشريع مع العديد من أسرار الخلق في الكثير من المخلوقات على اختلاف أنواعها مع بيان السر والحكمة في الكثير من الحوادث والقضايا المتنوعة بينما يقتصر كتاب التوحيد على بيان سر الخلق وحكمته في مجموع أنواع المخلوقات ابتداءً بخلق الإنسان ومروراً بالحيوان والنبات والجمادات السماوية والأرضية


وانتهاءً ببعض الحوادث التكوينية كالموت والفناء والآفات ونحو ذلك وقد أُلفت مُؤخراً كتب عديدة للغاية المشار إليها إما في التشريع العام الشامل للعبادات والمعاملات بمعناها العام كما في كتاب ( حكمة التشريع وفلسفته ) لفضيلة الشيخ علي أحمد الجرجاوي أحد علماء الأزهر ـ أو في إطار العبادات وحدها كما في كتاب ( العبادة في الإسلام ) لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي .

وهناك كتب جديدة عديدة تناولت الحديث عن العبادات وفلسفة تشريعها في الإسلام ضمن أبحاث إسلامية متنوعة من جملتها كتاب ( الإسلام عقيدة وشريعة ) لفضيلة الشيخ محمود شلتوت .

وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية نحو شرعنا المجيد وجيلنا الجديد أحببت المساهمة مع إخواني الإسلاميين الذين كتبوا حول الإسلام وتشريعاته الكاملة العادلة بقصد بيان مرونته وقدرته على مواكبة التطور والإنطلاق في ركاب الحضارة الجديدة ليحقق للسائرين على نهجه والمستقيمين في خطه كل ما يرغبون فيه ويصبون إليه من تطلعات مشروعة وأهداف سامية تلتقي مع هدفه الكبير .

كما حقق للأمة ذلك في مطلع فجر الدعوة المحمدية حتى أصبحت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه كما وصفها الله سبحانه في كتابه المجيد بقوله تعالى :

( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (١) .

ومن المعلوم أن إعطاء الصورة المشرقة عن الإسلام التي تنير العقول

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠ .


وتهذب النفوس يتمثل بمجموع أمرين .

الأول كشف ما أثير حوله من شبهات والثاني بيان ما يترتب على تطبيقه فعلاً ويمكن أن يترتب عليه في المستقبل من إيجابيات مع تأكيد ذلك ببيان ما حصل من هجره وتطبيق غيره من القوانين الوضعية ـ من السلبيات في مختلف المجالات .

وقد أشار الله سبحانه إلى كلا الأثرين الإيجابي المترتب على تطبيقه والسلبي الناشىء من عدمه ـ وذلك بصريح قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

وتأتي سورة العصر لتكون مؤكدة لهذه الحقيقة الموضوعية حيث قال سبحانه :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٢) .

وقد أشرت إلى مضمون هذه السورة المباركة بالأبيات التالية :

والعصر إن المرء في خسـران

وشقاوة ومذلة وهوان

إلا الألى عـرفـوا الإله وطبقوا

نهج الهدى وشريعة القرآن

وغدا يُوصي بعضُهم بعضا هنا

بالحق والصبر الجميل الباني

وقد ألفت كتب عديدة ومفيدة للقيام بدور كشف الشبهات التي أثيرت حول الدين الإسلامي ـ منها كتاب شبهات حول الإسلام للأستاذ

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .

(٢) سورة العصر ، الآيات : ١ ـ ٣ .


محمد قطب .

وبعد التأمل الواعي ندرك أن مصدر تلك الشبهات هو ضعف العقيدة الإيمانية والمعرفة الواعية لأهمية الرسالة الإسلامية ودورها الرائد في سعادة الإنسان وإسعاده فرداً ومجتمعاً مادياً ومعنوياً دنيوياً وأخروياً .

ولذلك ركزت على بيان هذا الدور في كتاب ـ من وحي الإسلام بجزئيه الأول والثاني وفي هذا الكتاب أيضاً لأن دفع الشبهة بإزالة مصدرها يكون علاجاً جذرياً لها ورافعاً لها من الأساس والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل .


بيان الحكمة في أصل وجوب الإحرام وتقييده بمكان الميقات مع بيان الحكمة في وجوب التلبية

إن الإحرام للحج أو العمرة من الميقات هو أول واجب يقوم به الحاج أو المعتمر وحيث أننا عزمنا على بيان الحكمة والسر في أصل تشريع وجوب الحج بصورة عامة وتشريع كل واحد من مناسكه المعهودة بصورة خاصة فلا بد لنا من الإشارة إلى الحكمة في ذلك إجمالاً بالنسبة إلى أصل التشريع وتفصيلاً بالنسبة إلى كل واحد من مناسكه .

وقبل الشروع ببيان ذلك بالنسبة إلى مناسك الحج ـ موضوع البحث أحب أن أمهد بمقدمة مختصره أبين فيها الحكمة في أصل تشريع العبادات بصورة عامة والسر في إلزام المكلف وتعبده بها بكيفيتها الخاصة فأقول :

إن المتأمل في الجانب التعبدي البارز في تشريع هذه الفريضة المباركة أي فريضة الحج ـ يدرك أن الحكمة في تشريع وجوبها هو نفس الحكمة الداعية لتشريع سائر العبادات وهي تقوية روح العبودية في حياة الإنسان المؤمن ليبقى على حالة عبادة لله سبحانه وانقياد إليه في جميع تصرفاته الاختيارية .

فالله لم يأمر المكلف بالتعبد له بالصلاة بكيفيتها الخاصة إلا من أجل


أن ينتقل من ممارستها والمحافظة عليها ـ شكلاً ومضموناً ـ إلى الصلاة بمعناها الواسع الشامل المتمثل بالخضوع الكلي والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً بالتفكر والتدبر فيما يرضي الله تعالى وروحياً بالتعلق والمحبة ونفسياً بالتقرب إليه بكل الممارسات المحبوبة له سبحانه مع ترك كل ما ينافي ذلك التقرب إليه ويحجب عنه وهذا معنى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .

وهكذا الصوم لم يوجبه الله تعالى على المكلف شهراً في السنة إلا من أجل التحول من معناه المحدود المتمثل بالإمساك عن تلك المفطرات المحدودة ضمن الأيام المعدودة ـ إلى الصوم بمعناه العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في جميع الشهور والأيام وهذا هو المقصود بالتقوى التي جعلها الله سبحانه غاية لوجوبه حيث قال تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى تشريع وجوب الزكاة والخمس ونحوهما من الفرائض المالية فالله سبحانه قد أوجب مقداراً من المال في الفريضتين المذكورتين ـ الخمس والزكاة ـ ليتعود المكلف على البذل والعطاء من كل ما يملك من الثروة المالية أو المعنوية كالعلم والجاه والمنصب كما يستفاد من قوله تعالى في أول سورة البقرة :

( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .

(٢) سورة البقرة ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .


وذلك لأن الله كريم يريد من عبده المؤمن أن يتخلق بأخلاقه بصورة عامة وصفة الكرم بصورة خاصة باعتبار أنها أرفع وأنفع صفة يتجمل بها الإنسان الرسالي المثالي في هذه الحياة نظراً لما يترتب عليها من الفوائد الهامة العامة للكريم الباذل ولسائر أفراد المجتمع .

وخصوصاً في الوقت الذي تشتد فيه الأزمة الاقتصادية وتشمل سلبياتها الكثيرين من المستضعفين كما في هذه الأيام .

وقد بينتُ تلك الفوائد المترتبة على دفع الزكاة ونحوها من أنواع البر والإحسان في الجزء الأول من وحي الإسلام ( تحت عنوان دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان ) صفحة ٦٠ .

وذكرت فيه أن الفوائد الراجعة إلى الباذل المحسن أكثر من المنافع العائدة إلى الآخذ .

وعلى ضوء إدراك الحكمة من تشريع وجوب الزكاة والخمس ونحوهما من الفرائض المالية ـ وهي التجمل بصفة الكرم دائماً ببذل ما يتيسر وخصوصاً عندما يطلب السائل المحتاج ذلك ـ نعرف أن تأدية الفريضة المالية إذا تجردت عن صفة الكرم التي يتجاوز بها المؤمن الكريم البذل الواجب إلى المستحب ولو بالقليل الأفضل من الحرمان ـ تكون ناقصة بتراء ما دامت لم تؤثر أثرها المنشود ولم تحقق غايتها المقصودة فهي تكون كالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والصوم الذي لا يؤدي إلى صفة التقوى .

وهكذا الحج إذا تجرد عن هدفه الأصيل ولم يحقق صفة التقوى المقصودة منه كما يفهم من سياق بعض الآيات الواردة في مقام الحديث عن فريضة الحج مثل قوله تعالى :


( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

ومثل هذه الآية آية أخرى واردة في مقام بيان الحكمة من تشريع وجوب الهدي على من كانت فريضته حج التمتع وهي قوله تعالى :

( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) (٢) .

وخلاصة القول في المقام أن الله سبحانه لم يشرع العبادات الخاصة إلا من أجل أن تكون فروضاً تمرينية طُلبت من المكلف من أجل أن يتوصل بها إلى تقوية العقيدة والإيمان بالله سبحانه ليبقى على حالة خضوع دائم وعبادة مستمرة بفعل ما اُمر به وترك ما نُهي عنه وهذا ما يعبر عنه بالتقوى والعبادة بمعناها العام الشامل لكل تصرف اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره وفق إرادة الله تعالى .

وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية ندرك أن الحج لم يشرع وجوبه بصفته الخاصة إلا من أجل التوصل به إلى الحج العام الذي يتمثل بالإحرام العام الذي يقتضي كل التروك الواجبة ولا ينحصر بتروك الإحرام الخاصة المعهودة .

كما يتمثل بالطواف العام والسعي الدائم والوقوف المستمر في عرفات التقوى ومشعر الاستقامة مع رمي كل الشياطين بكل الممارسات المستقيمة في خط الهدى والمنحرفة عن درب الهوى ـ ومع ذبح هوى النفس الأمارة بالسوء والمحرك لها في طريق المعصية ـ من شياطين الإنس والجن .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .


هذا ما اقتضت المصلحة الإشارة إليه إجمالاً وإليك التفصيل فيما يلي بالحديث عن الحكمة في تشريع كل منسك من مناسك الحج وشعائره المقدسة وبالاختصار قدر الإمكان فأقول :

إن الإحرام من الميقات هو أول خطوة يخطوها الحاج أو المعتمر على درب التعبد لله سبحانه بهذه الفريضة المقدسة .

وهنا يقع السؤال أولاً عن السر في أصل تشريع وجوب الإحرام وثانياً عن الحكمة في تقييده بكونه من مكان معين وهو الميقات الذي يقع في طريق الحاج أو المعتمر بحيث لا يجوز له الإحرام من مكان آخر كما لا يجوز له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه بدون مبرر شرعي وجواب السؤال الأول يظهر من معرفة الحكمة العامة في أصل التعبد بالشعائر الدينية وهي استفادة المكلف درساً تربوياً في العبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة لله سبحانه في محراب الحياة لذلك يصدر التكليف من المولى في أغلب الأحيان ـ بأمر من الأمور ويحيطه ببعض القيود والحدود التعبدية ليتمرن العبد على الخضوع والتعبد بامتثاله مع التقيد والتعبد بقيوده حتى وإن لم يعرف السر في أصل التكليف والإلزام بتلك القيود مع لزوم إيمان المكلف بحكمة الله سبحانه كما سبق وأنه لذلك لا يشرع حكماً بلا غاية وحكمة كما لا يخلق شيئاً بدون غرض وهدف .

ولذلك لا يتوقف المؤمن عن الامتثال لمجرد عدم الاطلاع التفصيلي على الحكمة الخاصة في تشريع هذا الحكم أو ذاك .

وإذا كان المعروف والمشهور في النظام العسكري للبشر أن يقال للجندي : نفذ ثم اعترض ـ فالمناسب للنظام السماوي المشرع من قبل المولى الحقيقي والقائد الواقعي وهو الله تعالى : أن يقال للعبد المؤمن :


نفذ ولا تعترض لأن اعتراض العبد المخلوق على خالقه يتضمن اتهامه بفقد الحكمة والغرض العقلائي فيما أمره بفعله أو نهاه عنه وهذا يتنافى مع ما يجب أن يكون الإنسان المؤمن متصفاً به من الإيمان بالحكمة البالغة والكمال المطلق لله تعالى .

لذلك نفى الله سبحانه صفة الإيمان عمن لا يحكمون الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما شجر بينهم وحصل له من الخلاف والاختلاف ليحسمه بالحكم السماوي الكامل والقضاء العادل الذي يجب عليهم التسليم له والرضا به بحيث لا يكون هناك أي حرج وانفعال عاطفي من حكم الله وقضائه .

وقد تمثل نفي صفة الإيمان عمن لا يقفون الموقف الإيجابي المسلِّم لله تعالى وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حسم نزاعهم وحل مشكلاتهم بصريح قوله تعالى :

( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١) .

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الحكيم السيد أحمد الصافي النجفي رحمه الله بقوله :

يعترض العقل على خالقِ

من بعض مخلوقاته العقل ؟

وقد أكد الله سبحانه مضمون الآية المذكورة بقوله تعالى :

( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٦٥ .

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٣ .


والحكمة التي يمكن أن تكون المصدر لتشريع وجوب الإحرام من الميقات المحدد للحاج او المعتمر على ضوء بعض الروايات والتوجيهات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام .

هي التعبد لله سبحانه ولفت نظر الزائر لبيت الله الحرام أنه عندما يصل إلى الميقات يُطلبُ منه أن يُحضر في ذهنه صورة الإقدام على دخول حرم الله وأمنه الذي جعل الله له أحكامه الخاصة وقدسيته المميزة ليستشعر بذلك عظمة الله تعالى وجلالته ويصحب معه هذه الحالة عند قيامه بأي منسك من مناسك الحج باعتبار أن الإحرام هو بداية أعمال هذه الفريضة المباركة نظير تكبيرة الإحرام في الصلاة .

وحتى يتعمق هذا الشعور في نفس الوافد إلى بيت الله سبحانه ـ طُلب منه أن يغير وضعه الخارجي من الحالة التي هي من شؤون الدنيا وأهلها مثل ارتداء الملابس المخيطة وتغطية الرأس بالنسبة إلى الرجل مع ارتداء ثوبين غير مخيطين للإحرام بالنسبة له أيضاً .

وذلك من أجل أن يتذكر يوم وفاته حيث يُجرد من ملابسه الحياتية العادية ويُلف بقطع الكفن الثلاث المعهودة غير المخيطة وذلك يزيده خضوعاً لله سبحانه وخشوعاً بين يديه وزهداً في زخارف هذه الحياة الزائلة وزينتها الفانية ليبدل ذلك بالرغبة فيما ينفعه ويرفعه في كلتا الدارين .

ويأتي النطق بصيغة التلبية ليكون تعبيراً عن الاستعداد النفسي لتلبية كل نداء يوجه إليه ويتضمن طلب فعل أو ترك عمل وتتمثل هذه التلبية والإجابة العملية بامتثاله التكاليف الشرعية الموجهة إليه حال إحرامه وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج وهي قسمان :

الأول : التكاليف الإلزامية المتمثلة بمحرمات الإحرام وواجبات


الحج الثاني التكاليف الترخيصية المتمثلة بمستحبات الحج والعمرة ومكروهاتهما ويُطلب من المكلف عندما يقوم بهذين العملين المباركين ( وهما الحج والعمرة ) أن يلتفت إلى أن كل واحد منهما يعتبر دورة تدريبية رياضية يراد بها تقوية روح العبودية في نفس المسلم ليبقى على حالة تلبية دائمة وإجابة مستمرة لكل نداء شرعي وتكليف إلهي في كل الأوقات بتركه المحرمات العامة كما ترك محرمات الإحرام حال تلبسه به مع فعله كل واجب مطلوب منه كما فَعَلَ واجبات الحج .

وبذلك يُعرف أن فريضة الحج تحمل في طيها فريضة الصوم والصلاة والخمس والزكاة والجهاد في سبيل الله تعالى .

وذلك لأن تروك الإحرام نوع من الصوم والإمساك طُلِبَ من المكلفين في وقت معين وهو وقت تلبسه بالإحرام كما يُطلبُ منه الإمساك عن المفطرات المحدودة ضمن الأيام المعدودة من أجل أن يتوصل الحاج والصائم ويتحول من الإمساك الخاص عن المحرمات والمفطرات الخاصة إلى الإمساك العام عن كل حرام في كل الشهور والأيام ويعبر عن ذلك بالتقوى التي جعلت الغاية الباعثة لتشريع فريضتي الحج والصيام كما تقدم بيانه مفصلاً .

وكذلك يوجد في الحج صلاة الطواف مضافاً إلى أنه في نفسه صلاة وعبادة لله تعالى بالمعنى العام للعبادة والخضوع لإرادة الله سبحانه وهو ـ أي الحج ـ يقتضي بطبعه بذل المال ثمناً للهدي مع سائر المصارف التي تقتضيها طبيعة الحج قبل السفر إلى مكان مناسكه وأثناءه وبعده كما هو معلوم .

وبذلك كان شبيهاً بفريضتي الخمس والزكاة كما أنه شبيه بالجهاد بسبب ما يقتضيه بذاته من المشقة والعناء مع تعرض الحاج للكثير من


الأضرار والأخطار التي تؤدي إلى الوفاة ومفارقة هذه الحياة كما يتعرض المجاهد لذلك في الغالب وبالنسبة إلى الكثيرين من الحجاج ولذلك يُودع المسافر في هذا السبيل بالدموع والتهيب من حدوث حالة الموت أو الضياع والفقدان ونحو ذلك من الأخطار المثيرة للخوف والقلق لدى أكثر الناس .

ثم إن تجرد المحرم من الثوب المخيط بالنسبة إلى الرجل ـ لا يترتب عليه أثره المنشود إلا إذا اقترن بتجرد فكره من الشبهات التي تحجب عنه رؤية الحقيقة في العقيدة والشريعة والممارسة مع تجرد قلبه من الميل والرغبة في ممارسة المحرمات التي تدفعه للخروج من حرم العبودية والانطلاق في ميدان الأهواء المنحرفة والرغبات المتطرفة .

وذلك لأن الإنسان ليس بجسمه المادي وإنما هو بروحه الطاهرة ونفسه المطمئنة وقلبه السليم وطُلب منه التجرد من الملابس المادية المخيطة ليكون ذلك رمز التجرد من كل الصفات الذميمة والمعاني الوضيعة فيكون باطنه مطابقاً لظاهره .

وبذلك تثبت مصداقية صدقه في إيمانه وواقعيته في تعبده .

ومن النتائج الإيجابية المترتبة على تجرد الناسك من الملابس العادية المخيطة المتعارفة ـ عودته إلى حالته الأولية التي يلتقي بها مع سائر أفراد البشر عندما تسقط كل الامتيازات وتزول كل الحواجز الجغرافية والقومية والعنصرية والمذهبية والمميزات الاجتماعية التي تصنف الناس إلى فئات وطبقات متمثلة بطبقة الأغنياء والفقراء وطبقة الرؤساء والمرؤوسين وطبقة البيض والسود كما هو السائد في بلاد الغرب وحكوماتها العنصرية .

وبنزع الملابس العادية المميزة لهذه الطبقات بعضها عن بعض يبرز


المجتمع أمام الخالق المعبود الواحد ـ بثوب واحد على صعيد واحد مرددين شعاراً واحداً .

( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ) .

الدروس التربوية التي تمليها مدرسة الحج الإسلامية :

وحيث أن الغاية المقصودة من ممارسة شعائر الحج هي استلهام الدروس التربوية التي تصهر أفراد المجتمع الإسلامي في بوتقة الرسالة الإسلامية المجيدة لتجعل منهم خير أمة أخرجت للناس كما صنعت في التاريخ .

فقد أحببت أن أقف من كل واحدة من هذه الشعائر وقفة تدبر وتفكر من أجل استلهام ما يمكن استلهامه منها من الدروس التربوية على ضوء بعض النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام أو على ضوء المناسبة التاريخية التي شرع المنسك في ظلها ليكون مذكراً بها وباعثاً لاستلهام العبرة والدرس منها مثل منسك ذبح الهدي ورمي الحجرات والسعي بين الصفا والمروة كما سيأتي خلال البحث إنشاء الله تعالى والدروس التي تمليها مدرسة الحج المباركة كثيرة سأذكر أهمها فيما يلي .

دور الحج في حدوث صفة التواضع أو تأكيدها :

من جملة هذه الدروس درس رائع في التواضع وانفتاح ذوي الامتيازات الاجتماعية المادية أو المعنوية ـ على إخوانهم في المبدأ والرسالة الذين شاءت لهم الحكمة الإلهية أن يكونوا بمستوى أدنى في الميزان المادي الدنيوي من أجل أن يتم نظام الحياة وتنتظم أمور الأحياء


ـ وقد أشار الله سبحانه إلى الحكمة في تفاوت الطبقات وتنوع الرغبات بقوله عز وجل :

( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (١) .

واستلهام الناسك بالحج أو العمرة ـ درس التواضع ـ يكون من خلال شعوره وإحساسه ـ حال تجرده من ملابسه المخيطة وسائر الخصوصيات المميزة ـ بأنه في هذه الحال لا يوجد له أي فارق مميز سوى ما يحمله في قلبه من المبدأ الحق وما تتجمل به نفسه من الخلق الرفيع وما يُجسده سلوكه الخارجي من التقوى والعمل الصالح باعتبار أن هذه المعاني الكبيرة والمثل الرفيعة هي التي اعتبرها الإسلام ميزاناً للتفاضل بين أفراد المجتمع على ضوء قوله تعالى :

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

وقوله تعالى :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٣) .

وعلى ضوء قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونه : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم حيث يُفهم

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية : ٣٢ .

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٣ .

(٣) سورة العصر ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .


من الحديث الأول أن الرسالات السماويةَ تُمثل بجوهرها وروحها مكارم الأخلاق وحيث أن الرسالة المحمدية جاءت خاتمة لها ومتممة لتشريعها بإضافة ما تقتضيه العصور الجديدة والأوضاع الطارئة ـ فلا تكون متممةً للشرائع السابقة إلا إذا كانت مكارم الأخلاق عنوانها العام وقلبها النابض بالمثل السامية والقيم الرفيعة وكذلك الفرد المسلم لا يكون انتماؤه إليها واقعياً ومستمداً بهذا الانتماء الرفعة الحقيقية إلا إذا تجمل بعنوانها المشرق وحمل في قلبه قلبها الخافق الذي يعطيه الحياة الإنسانية السامية والحركة المستقيمة في طريق الهدى والنور .

وإلى هذا المعنى المشرق أشار الشاعر الحكيم بقوله :

وإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبـوا

وذلك لأن إنسانية الإنسان لا تكون إلا بالالتزام بمنهج السماء عقيدة وسلوكاً فإذا كانت عقيدته صحيحةً وأعماله صالحة وأخلاقه فاضلة كانت إنسانيته كاملة صورة ومعنى .

وإذا تجرد من ذلك يفقد جوهر إنسانيته ولم يبق له منها سوى الشكل والصورة التي تعكس الجانب المادي الحيواني من كَيانه .

ومن المعلوم أن الإنسان إنما كان له وجوده المعنوي ووزنه المعتبر في ميزان القيم بالجانب المعنوي السامي المتمثل بقلبه السليم وروحه الطاهرة ونفسه المطمئنة التي استحقت التكريم الإلهي بتقديم دعوى تكريمية سماوية لها لترجع إلى مصدر وجودها ومنبع خيرها وهو الله سبحانه ـ لتنال في جواره ما وعدها به من النعيم الخالد والسعادة الأبدية إذا قدمت له ثمن ذلك وهو التقوى والعمل الصالح .

وقد تمثلت تلك الدعوة التكريمية بقوله تعالى :


( يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) .

وإلى ما ذكرناه أشار الشاعر بقوله :

أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفـس لا بالجسم إنسـان

وحيث أن التواضع من أبرز الصفات النبيلة التي تعطي لصاحبها الرفعة الحقيقية والمنزلة السامية عند الخالق والمخلوق فقد ورد مدحه ومدح المتجملين به في العديد من الآيات الكريمة والروايات المشهورة من الأولى قوله تعالى مخاطباً رسوله الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

وقوله سبحانه :

( وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) (٣) .

ومن الثانية أي من الروايات ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله :

إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً وأشدكم تواضعاً ـ وإن أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون وهم المتكبرون (٤) .

وما روي عن الإمام علي عليه‌السلام من قوله :

ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله وأحسنُ منه تيه

__________________

(١) سورة الفجر ، الآيات : ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ و ٣٠ .

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ٢١٥ .

(٣) سورة الفرقان ، الآية : ٦٣ .

(٤) عن كتاب أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ص ٤٤ .


الفقراء اتكالاً على الله ) (١) .

وما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام من قوله : إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه (٢) .

وقال أبو العلاء المعري في مدح التواضع والمتواضعين :

يا واليَ الـمصر لا تظلمنْ

فكم جاء مثلك ثم انصرف

تواضع إذا ما رُزقت العلى

فذلك مما يزيد الشرف

وكما ورد مدح الله سبحانه في كتابه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنته وأهل البيت عليهم‌السلام في توجيهاتهم ـ التواضع والمتواضعين ـ فقد ورد ذم التكبر والمتكبرين في ذلك كله .

فمن الكتاب الكريم قوله تعالى :

( لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى :

( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (٤) .

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ما حاصله :

مر رسول الله على جماعة فقال على مَ اجتمعتم ؟ فقالوا يا رسول الله هذا مجنون يُصرع فاجتمعنا عليه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ليس بمجنون ولكنه

__________________

(١) من نفس المصدر السابق ص ٤٤ .

(٢) عن كتاب أخلاق أهل البيت ص ٤٤ .

(٣) سورة النحل ، الآية : ٢٣ .

(٤) سورة لقمان ، الآية : ١٨ .


المبتلى ثم قال : ألا أخبركم بالمجنون حق الجنون ؟

قالوا : بلى يا رسول الله قال : المتبختر في مشيه الناظر في عطفيه المحرك جنبيه بمنكبيه يتمنى على الله جنته وهو يعصيه الذي لا يُؤمن شرُّه ولا يُرجى خيرُه فذاك هو المجنون وهذا المبتلى ) (١) .

وقال الشاعر في مدح التواضع وذم التكبر :

تواضع تكن كالنجم لاح الناظر

على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

إلى طبقات الجو وهو وضيع

وقال آخر في مدح الأول وذم الثاني :

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤسهن شوامخ

وقال الإمام علي عليه‌السلام من خطبة له في نهج البلاغة : فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يُدرى أمِن سني الدنيا أم من سني الآخرة .

وحيث أن سيرة أهل البيت عليهم‌السلام ابتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتهاء بالإمام المهدي ( عج ) كانت تجسيداً حياً لكل ما في الإسلام من القيم الرفيعة وفي طليعتها التواضع فقد حدثنا التاريخ عن بلوغ كل واحد منهم الذروة في التجمل بمكارم الأخلاق وخصوصاً التواضع ولذلك كان لدعوتهم الناس للاتصاف بها الأثر البليغ بسبب اقترانها بالعمل والممارسة فكانوا داعين إلى ذلك بالسيرة والتطبيق العملي .

وحيث أن كل فضيلة هي حد وسط بين رذيلتي الإفراط والتفريط فلا بد من لفت النظر والتنبيه على سلوك نهج الاعتدال في مقام الاتصاف

__________________

(١) عن كتاب أخلاق أهل البيت للسيد مهدي الصدر ، ص ٤٤ .


بفضيلة التواضع حتى لا يتجاوز المتواضع الحد الوسط المناسب الذي يحفظ له عزته وكرامته ولا يؤدي به الإفراط في التواضع إلى درجة إذلال النفس وتحطيم عزتها .

ولذلك وردت روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام تنهى عن إذلال المؤمن نفسه كما وردت روايات عديدة ناهية عن الكبر .

من جملة ما ورد للنهي عن الأول ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام من قوله : ما حاصله : أن الله فوض لعبده المؤمن كل شيء ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ) .


دور الحج في ثبوت صفة الزهد أو تقويتها

ومن جملة الدروس التربوية التي يمكن استفادتها من مدرسة فريضة الحج

( الزهد في الدنيا المحرمة )

والوجه في استلهام هذا الدرس من هذه المدرسة المباركة هو أن الإنسان المؤمن عندما يعقد العزم على الانطلاق في طريق تأدية هذه الفريضة المقدسة ـ أي فريضة الحج يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يتعرض له ويصاب به من التعب والمشقة المرهقة خصوصاً وقت تأدية واجب الطواف والرمي نتيجة الازدحام الشديد الذي يحصل في بيت الله الحرام حول الكعبة الشريفة وقت الطواف وفي وادي منى وقت الرمي وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إغماء بعضهم وربما إلى الوفاة .

وخوف الشخص من ذلك يُظهر له بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف عند أهله وأصدقائه يقيم معهم فترةً ثم يرحل عنهم إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وخلقت من أجله وفيها يتقرر مصيره النهائي على ضوء أعماله التي قام بها في هذه الحياة الزائلة .

فإن كانت خيراً منسجمةً مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قبل الله سبحانه كانت النتيجة خيراً وجنة عرضها السموات والأرض .


وإن كانت شراً ومخالفةً لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات المحرمة وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .

ومما ذكرناه يظهر أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو معلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا .

وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه‌السلام بقوله : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء . وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي للزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج منها ما تعلق بها من الحق الشرعي المعلوم ـ للسائل والمحروم ـ وأن يصرفها ويتصرف بها فيما أحل الله له ـ فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله تعالى والمؤمنين الواعين (٢) .

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ و ٨ .

(٢) ما حرر تحت عنوان الزهد وسبب حصوله منقول من كتاب من وحي الإسلام =


دور الإحرام في إثارة الشعور وتغذية الإحساس بالمراقبة الإلهية :

من جملة الدروس التي يستفيدها الحاج من مدرسة الحج التربوية درس في الانضباط وقوة الشعور بالمسؤولية والإحساس بالمراقبة الإلهية الفعلية حال تلبسه بالإحرام الذي يُحس المكلف معه بنفس الإحساس والشعور الذي يهز وجدان المصلي حينما ينطق بتكبيرة الإحرام مستشعراً حينها بعظمة الإله الأكبر الذي وقف بين يديه ولجأ إليه ليستمد منه الحول والقوة من خلال قيامه بواجب العبودية تجاهه سبحانه .

ويؤكد استلهام الدرس المذكور من الإحرام وإتمامه بالتلبية المحققة له أي للإحرام ـ ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام من سيطرة العظمة الإلهية والهيبة السماوية على مشاعره وتسبيب ذلك لعجزه عن النطق بعبارة التلبية وبعد أن ضبط أعصابه ونطق بها وقع مغشياً عليه وبعد أن أفاق من غشيته بين السبب الذي حبس لسانه ومنعه من النطق بها بسهولة كغيره من الحجاج والمعتمرين وأنه الخوف القوي من عدم قبول الله ذلك منه ورده عليه بقوله تعالى :

( لا لبيك ولا سعديك ) .

وإذا كان المحرم العادي من أفراد الحجاج لا يستطيع أن يرقى إلى المستوى الإيماني الرفيع الذي بلغه الإمام عليه‌السلام وأدى به إلى هذه الحالة فلا أقل من أن تحصل له مرتبة قريبة من هذه الحالة التي تجعله في حالة مراقبة دقيقة لوظيفته الشرعية من أجل أن يقوم بها على الوجه المطلوب

__________________

= الجزء الأول للمؤلف مع قليل من التغيير والتصرف .


ولا يحصل منه خروج عن إطارها يؤدي إلى انحرافه عن خط العبودية وحرمانه من الألطاف الإلهية .

وتقوي حالة المراقبة عند الحاج ـ كثرة محرمات الإحرام وإحاطتها به بسبب هذه الكثرة وصعوبة الاحتراز من بعضها وخصوصاً ما يكون معتاداً عليه منها حال تجرده من الإحرام مثل قتل القمل والبرغوث ونحوهما من المؤذيات ومثل شم الطيب والنظر إلى المرآة ولمس المرأة بشهوة وتقبيلها ولو بدونها والتزين باللباس وغيره وهكذا وإذا استمر المحرم على هذه الحالة فترة من الوقت ثبتت في نفسه وأصبحت مرافقةً له لتعطي أثرها المنشود حتى بعد التحلل من الإحرام والانطلاق من قيود محرماته المحدودة المعهودة .

والمقصود من الأثر المنشود المتوقع ترتبه على الإحرام والالتزام بامتثال أحكامه هو تأكيد الالتزام العام بالأحكام الشرعية العامة وامتثالها كما أراد الله سبحانه ونتيجة ذلك تركه المحرمات الشرعية الذاتية على حد تركه لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به .

وبذلك يظهر وجه الشبه بين شعيرة الإحرام وفريضة الصيام التي تمنع الصائم من المفطرات وأكثرها مباح في نفسه ـ من أجل أن تقوى في نفسه ملكة الالتزام بترك كل حرام في جميع الشهور والأيام وهكذا شرعت وظيفة الإحرام في حق الحاج والمعتمر من أجل أن يستفيد من الالتزام بأحكامه وترك محرماته ـ درساً تربوياً يبقى معه ويُلزمه بترك المحرمات الذاتية العامة كما كان تاركاً لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به .

دور الحج في تقوية الإرادة والصبر وقت الشدة :

من جملة الدروس التربوية التي يمكن استفادتها من مدرسة الحج درس في قوة الإرادة والصبر وقت الشدة وذلك لنفس الوجه الذي علل به


حصول هذه الصفة للصائم لما ذكرناه آنفاً من قوة وجه الشبه بين شعيرة الحج وفريضة الصوم .

دور الحج في التزام خط السلام وإشاعة جو الأمان :

حتى مع الأشخاص الذين يختلف الحاج معهم في العقيدة أو الاتجاه السياسي أو السلوك الاجتماعي أو لأي سبب آخر .

وذلك لأن التزامه بتروك الإحرام وعدم حصول الموقف السلبي منه حتى مع الحيوان البري بل وحتى مع الحيوان المضايق له مما يتعلق ببدنه أو بثوبه كالقمل والبراغيث ونحوهما ومع نبات الحرم وشجره رغم عدم شعوره وإحساسه بالألم لو قطع أو قلع .

أجل : إن التزام الحاج بالموقف السلمي حتى مع هذه المضايقات له نفسياً أو جسمياً ـ واستمراره على ذلك مدة أيام إحرامه .

يزرع في نفسه صفة الحلم والالتزام بخط السلم وعدم مد يد الإيذاء لأي كائن ولو كان مضايقاً له وذلك عندما يكون ملتفتاً لهذه الحكمة البالغة والغاية النبيلة ويحرص على انطلاقها معه في إطار حياته الاجتماعية فلا يصدر منه إلا ما يكون منسجماً مع هذه الروح السلمية في إطار الأسرة ـ المجتمع الصغير ـ وفي إطار المجتمع الكبير أيضاً ويكون بذلك مصداقاً للمؤمن الرسالي الذي قيل في وصفه بأن خيره مضمون وشره مأمون .

كما يكون بهذا وذاك مورداً للحديث القائل ما مضمونه :

ـ إن المؤمن إذا أدى فريضة الحج بوعي وتدبر لأهدافها وحققها على الصعيد العملي ـ يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

وحدثنا التاريخ أن الالتزام بخط هذه الفريضة المربية من قبل


المؤدي لها بوعي وبصيرة كان يؤدي إلى أن يقف أحدهم مع السلم والمسالمة حتى مع قاتل أبيه ـ وإذا قويت هذه الروح السلمية لدى الحاج الواعي لفلسفة الحج والحكمة المقصودة من تشريع محرمات إحرامه ـ ترقت من مستوى المسالمة والعفو عن المسيء إلى مرتبة أعلى ومستوى أرفع وأقرب لرضا الله تعالى وهو مستوى مقابلة الإساءة بالإحسان وذلك هو خلق المؤمنين الصلحاء والمتقين النبلاء الذين مدحهم الله سبحانه بقوله :

( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وقد صرح سبحانه بأهمية الإحسان وخصوصاً إذا كان للمسيء بقوله تعالى : ( وَلاَ تَسْتَوى الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ ) (٢) .

وإلى هذا المعنى الجميل النبيل المستوحى من الآية الكريمة أشار الشاعر بقوله :

جاز الإساءة بالإحسان إن بدرت

من امرىء زلةٌ تدعو إلى الغضب

سجية النخل من يرميه في حجر

جازاه عن رميه بالبُسر والرطب

ويتأكد العفو عندما يعتذر المسيء لما صدر منه ويطلب العفو عنه وقبول العذر منه وقال بشار بن بُرد حول هذا الموضوع .

إذا اعتذر الجاني إليك عذرتَه

ولا سيما إن لم يكن قد تعمدا

فمن عاقب الجُـهال أتعب نفسه

ومن لام من لا يعرف اللوم أفسدا

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية : ١٣٤ .

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٣٤ .


وقال آخر :

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف

وتاب عما قد جناه واقـترف

وقد يتأكد العفو في بعض الموارد حتى يصبح واجباً أخلاقياً بالعنوان الثانوي بحيث إذا لم يحصل ممن طلب منه انعكست الآية وأصبح المظلوم ظالماً ومذنباً بهذا الاعتبار كما قال الشاعر :

إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً

إليك فلم تغفر له فلك الذنب

وحيث أن الله سبحانه هو السلام كما وصف نفسه وشرعه شرع السعادة والسلام فقد وسع دائرة السلام وفرض الأمان بين أفراد المجتمع في أربعة أشهر وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وذلك من أجل أن يشمل السلام كل مكان ولا ينحصر بمكان الحرم ولا بحال الإحرام من أجل أن يفرض بذلك الهدنة على الأشخاص المتقاتلين حتى إذا عملوا بهذه الفريضة وتركوا التحارب خلال هذه المدة أمكن لهم أن يعودوا إلى صوابهم ويرجعوا عن موقفهم العدائي الذي يؤدي بطبعه إلى استمرار الحرب وحصول أضرار كثيرة وأخطار كبيرة كما كان يحصل في أيام الجاهلية حيث كانت الحرب تستمر أعواماً عديدة وتستوعب مدة طويلة بلغت أربعين عاماً في بعض الحروب الجاهلية .

وذلك بسبب عدم وجود تشريع سماوي يطفىء نار الحرب بماء الحكمة والوعي .

وأضاف الإسلام إلى ذلك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تؤدي بطبعها إلى التقليل من حصول التصادم بين أفراد المجتمع وفئاته .

ولأهمية هذه الفريضة فقد اعتبرها الإسلام واجبة على الأمة


بالوجوب الكفائي وكذلك حث على الإصلاح وبين أهمية دوره الفعال في القضاء على الخصومة وزرع المودة مكان العداوة .

وقد تحدثتُ حول موضوع الإصلاح وبينت أهميته ودوره الإيجابي في إزالة الفتنة والعداوة وزرع التفاهم والمودة وذكرت الآيات المباركة والروايات المشهورة التي تحث عليه وتدعو إليه وذلك في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة ١٨٣ كما تحدثت حول هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب عندما ذكرت فيه أسباب علاج مرض العداوة ووسائل القضاء عليه .

دور تأدية فريضة الحج في الالتزام بآداب الإسلام :

ومن جملة الدروس التي تقدمها مدرسة هذه الفريضة المقدسة ـ فريضة الحج ـ درس في الالتزام بآداب الإسلام وأخلاق القرآن قولاً وعملاً وسلوكاً مع الآخرين .

فالقول : يكون منسجماً مع روح الأدب الإسلامي فلا يكون مشتملاً على الكذب والسباب والسخرية والتنابز بالألقاب ونحو ذلك من المحرمات الإسلامية اللسانية التي يتأكد تحريمها وقت الإحرام باعتبار أنه شرع من أجل أن يبعد المكلف عما يضره من قول مثير وعمل منحرف عن منهج التقوى والفضيلة وليقربه بذلك من ساحة الرحمة الإلهية والأخلاق السماوية التي تنفعه وترفعه في كلتا الدارين ولنفس السبب حرم الإسلام الجدال في الحج وهو قول الشخص لغيره في مقام النقاش والمجادلة : لا والله وبلى والله .

قال سبحانه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ


وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

والمراد بالرفث النطق بكلام الفحش الذي يقبح التحدث به ـ والمراد بالفسوق الخروج عن جادة الإطاعة الإلهية وقد تقدم بيان المراد من كلمة الجدال .

وبإلقاء نظرة عامة على محرمات الإحرام يُعرف أن الهدف المقصود من تشريعها فيه أو تأكيد حرمتها الذاتية العامة الثابتة حتى في غير حال الإحرام ـ هو صهر المكلف في بوتقة الأدب الإسلامي والخلق القرآني ليخرج من إطار الإحرام وليتخرج من مدرسة فريضة الحج المقدسة وهو حامل بيد تقواه وكف هداه الشهادة العالية التي تصعد به إلى المرتبة العالية والمنزلة السامية التي يتفوق بها على الملائكة بروحه الطاهرة وقلبه السليم وخلقه الكريم .

وبذلك يحقق الغاية المقصودة من تشريع وجوب فريضة الحج وهي تلتقي بجوهرها مع روح الغاية العامة التي أوجب الله سبحانه العبادة بمعناها العام على المكلفين من أجل أن يتوصلوا بها إليها ويحصلوا عليها وهي الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة ـ وقد صرح الله سبحانه بنتيجة الالتزام بعبادته والاستقامة في خط تقواه في قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧ .

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .


حكمة تشريع الطواف

وهو أول واجب يقوم به الحاج أو المعتمر لحج التمتع ـ والدروس التربوية التي يمكن استفادتها منه كثيرة .

(١) منها : إظهار رعاية التقيد والتعبد لله تعالى بتأدية هذا الواجب المقدس بكيفيته الخاصة من حيث اشتراط الابتداء به من الحجر الأسود وختامه به مع جعل الكعبة على جهة يسار الطائف وإدخال حِجْر إسماعيل في الطواف بمعنى جعله على اليسار أيضاً وتحديد العدد بسبعة أشواط فإذا التزم المكلف بإتيان هذا الواجب بهذه الكيفية وتلك الكمية من دون أن يعرف السر في ذلك كله على وجه التفصيل وإنما يأتي به كذلك لأن الله سبحانه تعبده به وما عليه إلا أن يقوم بواجب العبودية والتسليم للإرادة الإلهية مع الاقتناع التام بالحكمة السماوية وأن كل ما يأمر به الله سبحانه لا بد أن يكون لحكمة ومصلحة تعود إلى المكلف كما هو الشأن العام في كل ما يتعبد به المكلفين من الواجبات .

وكذلك كل ما ينهى عنه سبحانه لا بد أن يكون ذلك لحكمة ومفسدة تعود على المكلف .

وهذا المقدار من المعرفة الكاشفة عن وجود الحكمة في أصل تشريع وجوب الحج بصورة عامة ووجوب كل جزء من أجزائه وشعيرة من شعائره .


كافٍ لأن يسير المؤمن على ضوئه في مقام العمل والتطبيق .

وإذا ورد في بعض الروايات تحليل وتعليل لوجوب فريضة الحج أو وجوب أية شعيرة من شعائره فهو يكون مؤكداً لما أمن به المكلف واقتنع بصدوره عن حكمة إلهية وإن لم يعرفها تفصيلاً .

وهذا هو روح العبادة وجوهر التعبد وكلما كان التشريع محاطاً بشيء من الغموض وعدم معرفة فلسفة تشريعه بصورة تفصيلية كان ذلك أقرب للغاية الأساسية المقصودة من تشريع العبادة وهي تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة المولى ـ عند المكلف .

وإذا ذكر تعليل في بعض الآيات أو الروايات أو بعض التوجيهات كما هو المقصود من هذا الكتاب فإنما يأتي من أجل تأكيد الإيمان بحكمة الله تعالى وذلك هو السبب في الإشارة إلى حكمة التشريع في الكثير من الآيات المباركة والروايات المشهورة .

من الأولى ـ الآياتُ الواردة لبيان حكمة تشريع وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد وغيرها من الواجبات الشرعية .

قال سبحانه منبهاً إلى غاية تشريع وجوب الصوم وهي صفة التقوى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وقال بالنسبة إلى الصلاة :

( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (٢) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .

(٢) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥ .


وقال في الزكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) (١) .

كما قال في الجهاد : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٢) .

وقال في الحج : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) (٣) .

وهكذا أشارت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وهي المعصومة التي لا تنطق عن الهوى كأبيها وبعلها وبنيها عليهم جميعاً أفضل التحية وأزكى التسليم في خطبتها البليغة إلى أسرار التشريع في الكثير من الأحكام الشرعية من ذلك قولها عليها‌السلام :

فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً من الكبر والزكاة تزكيةً للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص والحج تشييداً للدين والعدلَ تنسيقاً للقلوب وإمامتنا نظاماً للملة وإطاعتنا أَماناً من الفُرقة والجهاد عزاً للدين والصبر معونة على استيجاب الأجر والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة وبر الوالدين وقايةً من السخط وصلة الرحم منسأةً في العمر ومنماةً للعدد والقصاصَ حقناً للدماء والوفاء تعريضاً للمغفرة وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة وتركَ السرقة إيجاباً للعفة وحرَّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٠٣ .

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٥١ .

(٣) سورة الحج ، الآيتان : ٢٧ و ٢٨ .


إلا وأنتم مسلمون وأطيعوا فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه :

( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١) .

ثم قالت : ( أيها الناس إعلموا أني فاطمة وأبي محمد أقول عوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً ) .

وهناك رواية مروية عن الإمام الرضا عليه‌السلام متضمنة لبيان الحكمة والسبب الذي اقتضى وجوب الطواف وهي أن الله سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) (٢) . فردوا على الله سبحانه فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يُسمى الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فتاب عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة (٣) .

ولا يخفى أن هذه الرواية ونحوها من النصوص الشرعية الواردة لبيان سبب تشريع وجوب الطواف ـ تقف على صورته وشكله وما يترتب على هذا الشكل من أثر مباشر وهو التعبد لله سبحانه وتحصيل الأجر بفعله وتفريغ الذمة من مسؤوليته ولكن إذا دققنا النظر وعمقنا الفكر لينفذ إلى روحه الطاهرة وقلبه النابض بالحيوية والحياة التي تنطلق به من حدود زمانه ومكانه وشكله وعنوانه .

إلى مكان أوسع وزمان أشمل وهدف أكمل .

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٢٨ .

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٠ .

(٣) الوسائل ج ٩ ، ص ٣٨٨ ( ح ) ١٢ .


أجل : إذا دققنا النظر في الهدف الأوسع والأنفع من تشريع وجوب الطواف بصورته التقليدية المعهودة ندرك أنه عبارة عن الالتزام العام والانضباط التام الذي يجب على المكلف أن يلتزم به في هذه الحياة بكل عمل اختياري يمارسه بإرادته واختياره ليأتي منسجماً مع إرادة الله وتشريعه المترجم لها والمعبر عنها كما كان منضبطاً ومتقيداً حال الطواف بفعله على الوجه المطلوب .

وبعبارة أوضح وأشمل إن المتأمل في تشريع الواجبات التعبدية كالحج والصلاة والصوم والزكاة ونحوها من الواجبات التعبدية يدرك أن تشريعها كان لفائدةٍ تترتب عليها بعنوانها الخاص ولفائدة أعم وأشمل وهي ترسيخ صفة العبودية والخضوع لله تعالى بكل ما يصدر منه من تصرفات اختيارية على صعيد هذه الحياة ـ فالطواف الخاص إنما طلب من المكلف ليبقى على حالة طواف دائم وعام حول إرادة الله سبحانه وفي مطاف شريعته فلا يتجاوز حدودها ولا ينحرف عنها بل يبقى محافظاً عليها ومتحركاً في إطارها كماً وكيفاً .

وكذلك الصيام الخاص لم يشرع إلا من أجل أن يتوصل به المكلف إلى الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في كل الشهور والأيام وهو المعبر عنه بالتقوى التي صرح الله سبحانه بكونها الغاية المقصودة من تشريع وجوب هذه الفريضة بقوله :

في آخر آية الصيام المتقدمة : لعلكم تتقون .

ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى الصلاة حيث يفهم من صريح قوله تعالى :

( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ


وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) (١) .

أن الغاية المقصودة من تشريع الصلاة هي التوصل بها إلى الصلاة العامة والصلة التامة والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً ونفسياً وعملياً لتصبح كل حركة في خط مرضاته تعالى صلاة يتقرب بها إلى الله زلفى وتصبح الأرض بذلك على سعتها وامتدادها مسجداً عاماً يعبد المكلف فيه الله سبحانه بصلاة التقوى والعمل الصالح كما تصبح كل جهة يتوجه إليها بقلبه السليم ونيته الخالصة المخلصة قبلةً يتوجه إليها بهذه الصلاة العامة .

وهكذا أوجب الله الخمس والزكاة بمقدار محدد ضمن شروط معينة من أجل أن يستفيد المكلف بدفعه ـ درساً تربوياً في الكرم والسخاء ليتحول من البذل المحدود زماناً ومقداراً وحكماً وهو الوجوب إلى كل زمان يتمكن فيه من القيام بالبذل استحباباً أو وجوباً بالعنوان الثانوي ولو بالقدر المتواضع من العطاء انطلاقاً من الحكمة القائلة : القليل خير من الحرمان وذلك لأن الله كريم يحب الكرم والخلق عياله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .

ويؤكد ما ذكرته من أن الغرض المقصود من تشريع فريضة الطواف الخاص المعهود هو التوصل إلى صفة وملكة الاستمرار على التحرك والطواف العام حول مركز إرادة الله تعالى ومطاف شريعته كما كان يطوف حول كعبته بانضباط وتقيد بقيود الطواف وشروط صحته .

أجل : يؤكد ذلك ما رواه في جامع السعادات عن الإمام الصادق عليه‌السلام من قوله : لقضاء حاجة امرىء مؤمن أحب إلى الله من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مائة ألف .

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥ .


وقوله عليه‌السلام : من طاف في البيت طوافاً واحداً كتب الله له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة ورفع له ستة آلاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله سبعة أبواب الجنة .

وقال له أحد أصحابه : جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف ؟ قال : نعم وأخبرك بأفضل من ذلك ؟

قضاء حاجة المؤمن المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتى بلغ عشراً (١) .

وروي عن الصادق عليه‌السلام في كتاب الحديقة الناشرية قوله عليه‌السلام :

من مشى في حاجة أخيه المؤمن أظله الله عز وجل بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدماً إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه سيئة ورفع له بها درجة فإذا فرغ من حاجته كتب الله بكل ما قضاه أجر حاج ومعتمر .

وقوله عليه‌السلام : من مشى في حاجة أخيه المؤمن كان أحب إلى الله تعالى من عتق ألف نسمة وحمل ألف بعير في سبيل الله مُسرجةٍ مُلجمة .

وقوله عليه‌السلام : من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله تعالى كتب الله له ألف ألف حسنة يغفر الله له فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه .

وقوله عليه‌السلام ؛ والذي بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق بشيراً ونذيراً لقضاء حاجة امرىء مسلم وتنفيس كربته أفضل عند الله من حجة وطواف وعمرة حتى عد عشراً .

__________________

(١) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٢٩ .


وروي عن ابن عباس عليه‌السلام أنه قال : كنتُ مع الحسن بن علي عليه‌السلام في المسجد الحرام وهو معتكف وهو يطوف حول الكعبة فعرض له رجل من شيعته وقال يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن علي دينا لفلان فإن رأيت أن تقضيه عني فقد تهددني بالحبس فقال ابن عباس فقطع الإمام الطواف وسعى معه فقلت يا ابن رسول الله :

ألست إنك معتكف ؟ فقال : بلى ولكن سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله يقول : من قضى أخاه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله تعالى : تسعة آلاف سنة صائماً نهاره وقائماً ليله (١) .

وبالمناسبة يترجح ذكر قصة يلتقى مضمونها مع مضمون الروايات التي مر ذكرها وكنت قد سمعتها من عالم فاضل قبل فترة قصيرة من تاريخ نقلها في هذا الكتاب وحاصلها .

أن هذا العالم الفاضل كان حاضراً ليلة القدر في بعض المجالس الرمضانية أيام إقامته في حوزة قم المقدسة للدراسة العلمية فسمع من العالم الجليل الذي كان مشرفاً على مهمة الإحياء ما ينبغي أن يقوم به المكلف في هذه الليلة من أجل إحيائها بالنحو المتعارف من الإحياء وبعد بيانه ذلك مرغباً في القيام به ومبيناً ما يترتب عليه من الثواب العظيم قال : إن هذه الأعمال مطلوبة من غير الأغنياء وأما هم أي الأغنياء فإن المطلوب منهم قيامهم به وخصوصاً في هذه الليلة هو أن يتفقدوا الفقراء والمساكين ويقدموا لهم المساعدات المالية لأن ذلك أفضل بكثير من الأعمال المتعارفة للإحياء لأنها لا تنفع إلا صاحبها .

__________________

(١) ما روي عن الصادق عليه‌السلام في الحديقة الناشرية موجود في صفحة ٦٥ و ٦٦ و ٦٧ .


وأما أعمال البر والإحسان وخصوصاً إغاثة الملهوفين وكشف كرب المكروبين المعوزين فهي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة كما تنفع الفقراء والمستضعفين ومن المعلوم أن قيمة كل عمل بقدر ما يترتب عليه من النفع للآخرين .

ويأتي الحديث المشهور أو الحكمة المأثورة لتكون مؤكدة لذلك وهي كما يلي : الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .

وقد تناولتُ الحديث حول هذا الموضوع بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام ، تحت عنوان ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان صفحة ٦٠ كما شرحت ذلك مفصلاً في الجزء المذكور بحديث كتبته حول صفة الكرم والسخاء ) صفحة ١٣٥ .

ثم إن كل ما تحدثت به عن الطواف إلى هنا كان من خلال النظر إليه من زاوية كونه حركة اختيارية يمارسها المكلف انقياداً للتكليف الشرعي الموجه إليه من قبل المولى سبحانه بغض النظر عن الحركة التكوينية العامة التي تسود الكون المادي كله وتسيطر عليه عبر نظام تكويني أودعه الله سبحانه فيه ليسيره بانتظام دقيق مستمر ومستقر لا يختلف ولا يتخلف .

وأما إذا نظرنا إليه من خلال هذا النظام التكويني الشامل المسيطر على كل أجزاء هذا الكون من أكبر كائن إلى أصغره الذي لا يُرى بالعين المجردة كالذرة .

فإنا نرى أن حركة الطواف الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته حول بيت الله سبحانه منسجمةٌ تمام الانسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن مهما كان حجمه ويُعرف ذلك على ضوء العلم الحديث الذي كشف هذه الحقيقة التكوينية وهي أن كل جزء من أجزاء


الكائن في هذا العالم ـ مؤلف من ثلاثة أجزاء أولية .

وهي البروتون والالكترون والنيوترون وهذه الأجزاء في منتهى الدقة والضاۤلة والبروتون هو نواة الذرة ومحورها الذي تطوف حوله وتدور في فلكه كما يدور القمر حول الأرض والأرض حول الشمس وكذلك سائر المجموعة الشمسية والالكترون يدور حول البروتون ( أي النواة والمحور ) دورتين في آن واحد الأولى يدور بها حول نفسه دوران الأرض حول نفسها والثانية يدور بها حول النواة دوران الأرض حول الشمس ويقطع بدورته هذه أقصى سرعة عرفها الإنسان (١) .

وحيث أن الإنسان جزء من هذا الكون وجسمه مؤلف من ذرات مادية متحركة بحركة طواف تكويني قهري يطوف به الالكترون حول محوره ـ البروتون ـ يمكن على ضوء هذه الملاحظة العلمية الدقيقة استلهام الحكمة الإلهية الداعية إلى تشريع وجوب الطواف حول الكعبة المشرفة وهي أن تكون حركة الإنسان الاختيارية حول الكعبة المشرفة ـ منسجمةً مع حركة ذرة الالكترون حول محورها ومع حركة الملائكة حول البيت المعمور الذي بناه الله لها في السماء الرابعة ليكون مطافاً لها بعد أن كانت تطوف أول الأمر حول العرش .

وبذلك ندرك أن الكون كله مع جميع ما فيه ومن فيه من كائنات على اختلاف أنواعها متحرك بحركة طواف تكوينية حول المحور المحدد له وتأتي حركة الطواف التشريعية الاختيارية التي يُمارسها المكلف بإرادته واختياره منسجمةً مع حركة الكون التكوينية ونتيجة ذلك أن الإنسان

__________________

(١) ما ذكرته حول الذرة وأقسامها وحصول حركة الطواف التكويني داخلها منقول عن كتاب أصول العقيدة في التوحيد والعدل للعلامة الجليل حجة الإسلام السيد مهدي الصدر دام ظله ، ص ١٤٦ و ١٤٧ طبعة بيروت .


المؤمن عندما يقوم بوظيفته الشرعية خاضعاً وعابداً لله سبحانه بكل كيانه المادي والمعنوي ومنطلقاً بذلك مع الكون كله في اتجاه واحد نحو هدف واحد وهو هدف العبودية والخضوع للإرادة الإلهية تكويناً وقسراً كما هو الحاصل من الجانب المادي من الإنسان مع الكائنات المسيرة بحركتها التكوينية .

وتشريعاً واختياراً وهو الحاصل من الجانب الإرادي الاختياري من كيان الإنسان .

وبقدر ما يحصل من التناغم والانسجام بين الحركة التكوينية القهرية الخاضعة للنظام التكويني المسير والمنظم لحركة الكون وما ومن فيه وبين الحركة الاختيارية الصادرة من الإنسان المكلف وفق النظام التشريعي المنظم لسيره في درب الحياة ـ تحصل له الراحة والاستقرار والسعادة الروحية والمادية .

وذلك لأن الكون بكل ما فيه خُلق وسُخر لخدمة الإنسان والنظام التشريعي وضع من أجل كماله وسعادته فإذا انسجم الثاني مع الأول في حياة الإنسان تحقق له ما أراد الله له من السعادة والكمال في مختلف المجالات ومن جميع الجهات .

ومن أجل تقديم المزيد من التوضيح لدور الواجبات التعبدية في سعادة الإنسان وتقدمه أكرر ما ذكرته أكثر من مرة في هذا الكتاب وشرحته مفصلاً في بعض موضوعات كتاب ( من وحي الإسلام ) الجزء الأول وحاصله .

أن العبادات المعهودة إنما شرعت بكيفيتها الخاصة من أجل ترتب أثرين وتحقق غرضين الأول خاص بها ومترتب عليها بصفتها الخاصة مثل


الكثير من الآثار الإيجابية المترتبة على كل واحدة من الفرائض الإسلامية التعبدية المعهودة وأبرزها الصلاة والصيام والحج والزكاة .

والثاني غرض عام مترتب على مجموع هذه الفرائض وهو سعادة الإنسان وانتعاشه مادياً ومعنوياً دنيوياً وأخروياً .

ومن أجل التوضيح أشبه الواجبات الشرعية التعبدية بأعضاء جسم الإنسان فإن لكل واحد منها وظيفته الخاصة به فالعين للنظر والأذن للسمع واللسان للنطق والأنف للشم واليد للعمل والقدم للمشي والسعي في درب الحياة والرئتان للتنفس والمعدة للهضم والعقل للتفكير وإدراك الحق ليتبع والباطل ليجتنب والقلب من أجل أن يعطي كل واحد من هذه الأعضاء الحياة والحركة في طريق الهدف الذي خلقت من أجله .

وذلك بقيامه بتوزيع الدم عبر شبكة الأوعية الدموية على كل ما تحله الحياة من أعضاء البدن وهناك أعضاء أخرى لها وظائف أخرى تقوم بها في نطاق خدمة الإنسان .

وهذه الأعضاء كما يقوم كل واحد منها بوظيفته الخاصة به ـ يتعاون مع سائر الأعضاء على تحقيق الخدمة العامة للإنسان من خلال تكاملها فيما بينها وتعاونها على بره والإحسان إليه بتقدير الإله الخالق الرحيم الحكيم .

وتظهر فائدة تعاون هذه الأعضاء وتكاملها وتعرف قيمة هذا التكامل عند توقف بعضها عن وظيفته لعارض صحي طارىء من باب لا تعرف النعمة إلا عند فقدها حيث ينعكس ذلك سلبياً على بقية الأعضاء كلا أو بعضاً ويختلف ذلك الأثر السلبي قوة وضعفاً باختلاف دور ذلك العضو المتوقف .


فإذا كان دوره حفظ الحياة واستمرارها كالقلب أدى توقفه إلى فقد الحياة لتتوقف بقية الأعضاء عن العمل تبعاً لتوقفه .

وإذا كان دوره التفكير والتخطيط والإدراك من أجل حصول العمل المناسب من العضو المعد لَه وفي الوقت المناسب ـ كالعقل فإذا فقد زال أثره وخسر الإنسان وجوده المعنوي الإنساني حيث يصبح فاقداً للتوازن في تصرفاته وشبيهاً بالأنعام في حركاته .

لأن بقية الأعضاء وإن كانت لا تزال عاملة ومتحركة وغير فاقدة للحياة ولكنها أصبحت فاقدةً للتوازن والحركة الهادفة التي تنطلق في سبيل الهدف العقلائي الذي يرفع وينفع الإنسان فرداً ومجتمعاً مادياً ومعنوياً .

وإذا أردنا أن نشبه بعض العبادات ببعض أعضاء البدن بلحاظ الفاعلية وقوة التأثير الإيجابي على سير ومسير الإنسان في هذه الحياة تأتي الصلاة لتكون شبيهةً بالقلب والحج ليكون شبيهاً بالعقل لأن الصلاة عمود الدين وعماده فإذا فقد عمود البناء انهار وسقط على الأرض وكذلك هي تمثل أداة الوصل بين المخلوق الذليل الفقير الجاهل المفتقر إلى مصدر الكمال المطلق ليزيل ضعفه بقوته وفقره بغناه ومعونته وذله بعزته الذاتية وجهله بعلمه الواسع المطلع على كل شيء ـ فإذا اتصل بهذه الذات الكاملة أمكنه أن يستمد منها كل ما ينفعه ويرفعه ويعطيه وجوده الإنساني المعنوي بعد أن ظفر بأصل وجوده الجسمي المادي ويصبح بذلك بشراً سوياً ومؤمناً ولياً له وزنه واعتباره في ميزان السمو والرفعة الحقيقية .

وإذا قطع صلته بهذه الذات العظيمة فقد بذلك مصدر إنسانيته ومنبع كماله وسعادته وأصبح كالسفينة التي انقطع حبلها الذي كان يشدها إلى المرفأة الأمين ليصونها من الغرق والتحطم بفعل الأمواج المتلاطمة


والرياح العاتية أو أصبح كما قال الشاعر :

كريشةٍ في مهب الريح طائرة

لا تستقر على حال من القلق

وقد صور الله سبحانه هذه الحالة القلقة التي يعيشها المشرك بالله تعالى الذي قطع صلة التوحيد به وأصبح على وضع مؤلم ومظلم بالصورة الموضحة لها عبر عدة آيات أبرزها الآيتان التاليتان الأولى منهما قوله تعالى :

( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (١) .

والثانية قوله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

وبما ذكرنا من أهمية دور الصلاة في بناء الشخصية الإسلامية للإنسان وتأثيرها الإيجابي البليغ ـ أوجبها الشارع المقدس على المكلف ولم يسقط وجوبها عنه بحال من الأحوال حتى ولو كان غريقاً مشرفاً على الوفاة فإن صلاته الواجبة عليه في هذه الحالة هي تذكره لوجوبها واستحضاره لصورتها وعظمة الخالق الموجب لها والمصر على طلب تحققها على صعيد العبودية ولو بالخطور الذهني والوجود المعنوي .

وبهذا الاعتبار عُبر عنها بأنها ( جنسية المسلم ) .

وهذا المعنى مأخوذ من كلام للإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٣١ .

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢٩ .


وقوله : ما مضمونه : ما بين إسلام المسلم وكفره إلا أن يترك هذه الصلاة وكما شبهنا الصلاة بالقلب بالاعتبار المذكور يصح تشبيه الحج بالعقل ـ من جهة مساعدته على حفظ توازن الإنسان المؤمن واستقامته في إيمانه وأعماله التي يمارسها على صعيد هذه الحياة وذلك ببركة المنافع الكثيرة والكبيرة التي يجنيها الحاج من شجرة هذه الفريضة المباركة وقد مرت الإشارة إلى بعضها وسيأتي التنبيه على بعضها الآخر عند الكلام حول الحكمة والفائدة المترتبة على بقية الشعائر الراجعة إلى فريضة الحج المباركة .

وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية ندرك واقعية ما تقدم ذكره من أن لكل واحدة من العبادات الخاصة ـ أثرين أحدهما يترتب عليها وينحصر في إطارها .

والثاني أوسع منها لامتداده وانطلاقه مع المكلف في درب الحياة ليؤثر في كل تصرف يصدر عنه بإرادته واختياره .

وذلك الأثر الأوسع هو التقوى وأوضح مثال لذلك هو الصوم الذي شرع الله فريضته لترسيخ ملكة التقوى في نفس المكلف كما هو المفهوم من صريح قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وذلك لأن هذا الأثر الإيجابي المبارك إذا ترتب على الصوم فهو يلازم المكلف ويصاحبه ليجعل كل شهر عنده شهر رمضان من أجل أن يؤدي الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في جميع الشهور

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .


والأيام ـ فيترك كل المحرمات في شهر رمضان وغيره كما كان يترك المفطرات وأكثرها مباحات في داخله أي داخل شهر رمضان المبارك وهكذا شعائر الحج فهي تبتدىء وتبدو محدودة الأثر وهو فراغ الذمة من وجوبها وسقوط أمرها بفعلها عندما يأتي بواجباته ويترك محرماته ولكن الأثر المطلوب للمولى من تأدية فريضة الحج هو أن يبقى في إطار شريعته دائماً وأبداً وذلك بتحقيق ما ترمز إليه شعائر هذه الفريضة المقدسة فكما طُلب منه أن يبقى على حالة صيام دائم بعد انتهاء شهر رمضان المبارك من خلال التزامه بمنهج التقوى .

هكذا يُطلب ممن مارس شعائر الحج ـ أن يبقى على حالة إحرام دائم بترك كل المحرمات الشرعية كما كان تاركاً لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به وقبل إحلاله منه .

وبعد أن ينتهي من الطواف الخاص تبتدىء رحلة الطواف العام بالطواف المعنوي بقلبه حول مركز شريعة ربه فلا يتجاوز حدودها ابتداء ووسطا وانتهاء كما كان لا يتجاوز حدود محل الطواف الخاص المحدود .

وذلك لأن الشارع المقدس لم يطلب من المكلف الطواف الخاص بجسمه حركةً وبقلبه قصداً ونيةً إلا من أجل أن يظل على حالة طوافه القلبي العام في نطاق الشريعة الغراء فلا يتجاوز حدوده ولا يخالف أحكامه المعهودة .

وبذلك ندرك أن الطواف المعنوي العام الذي يستفاد من الطواف الجسمي الخاص يتسع ويمتد مع حركة المكلف العبادية ليشمل كل مكان فلا يختص بمكان الكعبة المشرفة كما يشمل كل زمان ولا يختص بأشهر الحج المعهودة وكل حركة عبادية يقوم بها المكلف انقياداً لإرادة الله


التشريعية وتعبداً له بها بتحقيق كل ما طلب منه فعله فيها وترك كل ما يمنع من صحتها وترتب الأثر عليها .

أجل : إن كل حركة عبادية يأتي بها المكلف ضمن حدودها وقيودها الشرعية ـ تعتبر طوافاً يقوم به المكلف في إطار الشريعة الإسلامية ومطافها المحدد ليحقق الغاية المقصودة من تشريع الطواف الخاص وهو ترسيخ صفة العبودية وملكة الانقياد المطلق لإرادة الله الكامل بالكمال المطلق في كل التصرفات الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته على صعيد هذه الحياة .

وذلك لأن هذا هو مقتضى وجود روح العبودية والتعبد لله سبحانه بكل عمل يمارسه بإرادته واختياره وفق إرادة الله سبحانه ـ وعلى ضوء ملاحظة هذا المفهوم العام للعبادة الذي جعله الله تعالى العلة الغائية والسبب الباعث لخلقه الجن والإنس يظهر لنا اشتراك جميع الوظائف الشرعية التي يأتي بها المكلف وفق إرادة الله تعالى ـ في هذه الروح العبادية لتصبح متفقة روحاً وجوهراً وإن اختلفت شكلاً وصورة ونوعية .


الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية

لا أريد تناول الحديث حول هذا الموضوع من زاوية ذاتية تتعلق بحقيقة الحجر ونوعيته وهل هو درة نزلت من السماء أو من نوع آخر حصل من الأرض ؟

وذلك لأن معرفة هذه الخصوصية لا ترتبط بالهدف الأصيل العام المقصود من فرض الله سبحانه بدء الطواف بالحجر وختامه به ولذلك اقتصرت على ذكر ما يكون قابلاً للانسجام مع روح التعبد بفريضة الطواف وقيوده الخاصة وهو ما يستفاد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام لبيان الحكمة في ذلك التعبد وهي أن الله سبحانه أراد جعل الحجر الأسود رمزاً لما تتحقق به المصافحة في مقام إعطاء العهد والميثاق لله سبحانه بالالتزام بخط العبودية والوفاء بميثاق الفطرة وعهد الاعتراف لله بالوحدانية وحق العبادة والإطاعة ولنبيه محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ـ عندما يُقبّل الطائف هذا الحجر أو يصافحه ويستلمه .

وحيث أن الذي جرت العادة بين أفراد المجتمع على المصافحة به هو يمين الإنسان الذي يُعطى العهد له ـ فقد عبر عن هذا الحجر بهذا الإعتبار بأنه يمين الله سبحانه تجوزاً وتسامحاً في التعبير كما في التعبير


بكلمة اليد وإرادة القدرة الإلهية الشاملة وإطلاق كلمة عرش الله وإرادة سلطانه الواسع .

وقد روي هذا التعبير في مقام الرمز والإشارة الى اليمين المعنوية لله سبحانه ـ عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام حيث روي عنه قوله ما مضمونه :

إن الحجر بمنزلة يمين الله سبحانه في أرضه فمن لمسه يكون كأنه صافح الله سبحانه وروي عنه أيضاً ما حاصله :

أن الله سبحانه جعل في الحجر ميثاق الأنبياء وأخذ على العباد أن يؤدوا الأمانة لله سبحانه ( وهي أمانة التكليف والمسؤولية ) .

ولذلك ورد في الدعاء عندما يطوف المكلف حول البيت الشريف ويحاذي الحجر الأسود : إلهي أمانتي أديتُها وميثاقي تعهدتُه ليشهد لي بالموافاة عندك يوم القيامة .

وحيث أن هذه الكتابة محررة لغاية استيحاء الدروس التربوية من مناسك الحج وشعائره رأيت من المناسب لذلك أن أذكر بعض الأدعية التي كان الإمام زين العابدين عليه‌السلام يدعو بها ويناجي ربه إذا خلا له المطاف مع ذكر قصة هشام بن عبد الملك عندما أراد أن يطوف حول الكعبة ويستلم الحجر فلم يتمكن بسبب زيادة عدد الحجاج وشدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الازدحام وحوله أصحابه من وجوه أهل الشام بينما تمكن الإمام زين العابدين من ذلك بكل يُسر وسهولة كما سيأتي ذكر قصته بعد ذكر بعض أدعية الإمام المناسبة للمقام .

منها قوله عليه‌السلام : اللهم أنت وهبتنا أجلَّ الأشياء عندك وهو


الإيمان من غير سؤال فهل تحرمنا ما دونه من الغفران بعد المسألة والابتهال ؟ يا من وعد فوفى وتوعد فعفا صل على محمد وآله الطاهرين واغفر لمن ظلم وأسا .

يا سيدي لا أهلك وأنت الرجا . وكان يقول بعد دعائه المذكور :

يا من إذا وقف الوفودُ ببابه

ألهى غريبَهم عن الأوطان

أنا عبدُ نعمتك التي ملكت يدي

وربيب مغناك الذي أغناني

جرت الملـوكُ ومن يُؤمل رفدُه

وبقيتُ حيث أرى الندى ويراني

ومن كلماته الحكيمة المتعلقة بموضوع الحديث ( الطواف ) قوله عليه‌السلام : إذا وقفتَ في المطاف فلينطق قلبك بذكر رب البيت قبل أن يطوف جسمك بالبيت .

فقد لفت الإمام عليه‌السلام بهذا البيان نظر المكلفين إلى حقيقة العبادة وجوهرها وهي التي يشترك فيها كل كيان الإنسان باطنه وظاهره جوانحه وجوارحه وبذلك تكون عبادة كاملة يرضى بها الإله الكامل وذلك لأنها إذا حصلت من الجوارح وحدها ولم تشترك معها الجوانح والباطن بأن صدرت حركةً من الجسم ولم تقترن بنية القلب وإخلاصه فهي تكون جسماً بلا روح لا قيمة لها ولا اعتبار بها .

وكذلك إذا آمن بقلبه بقيمة العبادة وكون الله سبحانه أهلاً لها ومستحقاً لقيام العبد بها ـ من دون أن يُخرج هذا الإيمانَ من حيز القلب إلى صعيد الخارج ويجسمه بعمل خارجي ، فإن هذا الإيمان يكون أبتر ناقصاً لا يجلب لصاحبه نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً .

وقد بيّن الله سبحانه حقيقة العبادة الكاملة التي تسلم الإنسان العابد من الخسران وتساعده على نيل نعيم الجنة والسلامة من عذاب النيران


بقوله سبحانه :

( والْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (١) .

وقد أشرتُ إلى مضمون هذه السورة بالأبيات التالية :

والعصر إن المرءَ في خسـران

وشقاوة ومذَلةٍ وهوانِ

إلا الألى عرفوا الإله وطبقوا

نهج الهدى وشريعة القرآن

وغداً يُوصي بعضهم بعضاً هنا

بالحق والصبر الجميل الباني

أما قصة الإمام عليه‌السلام مع هشام فحاصلها :

أن هشاماً بن عبد الملك بن مروان أراد أن يطوفَ حول الكعبة ويستلم الحجر فعجز عن ذلك بسبب شدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الإزدحام فيتم طوافه ، وبينما كان جالساً وحوله جماعة من أصحابه الشاميين فإذا الإمام زين العابدين يُقبل بقصد الطواف فوسع الناس له ومهدوا السبيل لطوافه ولمسه الحجر بيسر وسهولة . وهذا ما لفت نظر أصحاب هشام فسأل أحدهم عن هذا الشخص الذي هابه الناس وقابلوه بإجلال واحترام ، فقال هشام للسائل : لا أعرفه ـ من باب التجاهل ـ حتى لا ينجذب جماعته الشاميون إلى الإمام عليه‌السلام ويؤمنوا بأولويته منه بمنصب الخلافة وكان الفرزدق حاضراً يسمع السؤال والجواب فتحركت فيه الغيرة الإيمانية والولاء الطاهر لأهل البيت الطاهر وقال لهشام : إذا كنت لا تعرفه فأنا أعرفه فقال له : ومن هو ؟

فأجابه هذا الشاعر البطل والموالي المخلص للحق والولاية بالقصيدة المشهورة التي تعتبر من كرامات الإمام زين العابدين المعبرة عن مدى

__________________

(١) سورة العصر ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .


اهتمام الله تعالى ببيان فضل أهل البيت وأحقيتهم من غيرهم .

وذلك لأن ارتجال مثل هذه القصيدة الرائعة على الفور مع تميزها بفصاحتها وبلاغتها وجزالة ألفاظها وقوة وسمو معانيها يدل دلالة واضحة على مدى اهتمام واحترام الله سبحانه لكل واحد من أهل البيت عليهم السلام ومن يتمسك بعروة ولائهم الوثقى . وفيما يلي مقطوعة رائعة من هذه القصيدة الغراء وهي كما يلي :

هذا الذي تعرف البـطحاءُ وطأتَه

والبيت يعرفُه والحل والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنتَ جاهله

بجده أنبياء الله قد خُتموا

هذا عليٌ رسول الله والده

أضحت بنور هداه تهتدي الأمم

وليس قولك مَنْ هذا بضائره

العربُ تعرف مَنْ أنكرتَ والعجم

يكاد يُمسكه عرفانَ راحته

ركنُ الحطيم إذا ما جاء يَستلم

من معشر حبهم دينٌ وبغضُهُم

كفرٌ وقربهم مَنجىً ومُعتصمُ

إن عُد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

ويستفاد من قصة الإمام عليه‌السلام مع هشام عدة دروس تربوية :

١ ـ منها درس يفيدنا مدى تأثير قوة العلاقة بالله سبحانه والذوبان في ذاته المقدسة حباً وعبادة وقرباً حيث ينعكس ذلك إيجاباً على شخص المؤمن بالله تعالى المحب له والذائب في محبته وعبادته .

وقد تمثل الأثر الايجابي لمحبة الإمام عليه‌السلام ربه وإخلاصه له في عبادته بزرع المحبة والمهابة له في قلوب تلك الجماهير المحتشدة حول بيت الله تعالى الأمر الذي دفعها لأن تفسح له في طريق الوصول إلى الكعبة المشرفة ليطوف حولها ويلمس حجرها بيسر وسهولة بدون وجود أي


ضغط خارجي يدفعها لذلك وهذا يُعتبر نتيجة طبيعية بالنسبة إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام وأمثاله من الأولياء المحبين لله تعالى المخلصين في محبته وعبادته لأنه سبحانه وعد بالمجازاة بالإحسان على فعل الإحسان حيث قال تعالى :

( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (١) .

كما وعد بالخير معجلاً لفعل الخير بقوله سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٢) .

ووعد أيضاً بالنصر والتأييد من نصره أي نصر دينه بتعلم أحكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكرياً وعسكرياً إذا تعرض للخطر من قِبَل الأعداء وذلك بصريح قوله تعالى :

( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (٣) .

ومن المعلوم أن الله سبحانه أوفى الواعدين وأصدق القائلين . وحيث أن الإمام جاء زائراً بيت الله تعالى بكل حب وصدق وإخلاص فلا بد أن يمهد له سبيل الوصول إلى غرضه الأخروي السامي ليظهر الفرق بين المؤمن المخلص لله سبحانه وغيره ، وذلك بتأييد الأول وخذلان الثاني تطبيقاً لقوله تعالى :

( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) (٤) .

وحيث أن ما حصل للإمام عليه‌السلام من الجماهير لم يكن عادياً بل

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠ .

(٢) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .

(٣) سورة محمد ، الآية : ٧ .

(٤) سورة السجدة ، الآية : ١٨ .


هو فوق العادة ـ يصح أن نعتبره كرامة سماوية كرَّم الله بها الإمام عليه‌السلام بهذا النحو من العناية والتكريم ـ ويأتي ارتجال الفرزدق قصيدته العصماء التي هي من عيون الشعر العربي ـ ليكون كرامةً أخرى كرّم الله بها الإمام عليه‌السلام وأبرز فضله وفضل آبائه وأجداده وأبنائه حيث قال في حقه وحقهم ما هو الثابت لهم واقعاً يتحدى ونصاً يتحدث عن كون مودتهم فرضاً وبغضهم كفراً وذلك بقوله :

من معشر حبهم فرض وبـغضهم

كفر وقربهم مَنجىً ومُعتَصَمُ

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم

٢ ـ ومنها درس في التضحية والجهاد المقدس بالكلمة الجريئة والموقف الأبي الذي وقفه ذلك الشاعر البطل في سبيل نصر المبدأ ودعم الفضيلة وإظهار الحقيقة ليكون محققاً بذلك أفضل الجهاد الذي عناه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر .

والذي رفع هذا الجهاد بمقياس القيم هو تجرده من العوامل المادية والدوافع الدنيوية . وتجلى ذلك بوضوح عندما اعتذر وأبى قبول الهدية التي قدمها له الإمام عليه‌السلام مكافأة له على موقفه المشرف . ويأبى الكرمُ الإيماني الهاشمي إلا أن يقابل إرجاع الهدية بالرفض معللاً ذلك بقوله عليه‌السلام ما مضمونه :

إنا أهلَ البيت لا نرضى بإرجاع ما قدمناه هدية ثم أعادها إليه ـ أي إلى الفرزدق .

٣ ـ ومنها درس في التوعية والتنبيه على واقعية العزة الإيمانية التي نبه الله عليها في أكثر من مورد وبأكثر من آية .


منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

وقول الرسول الأعظم المشهور : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، متحدٌ مع الآية المذكورة .

وورد في وصية الإمام الحسن عليه‌السلام إلى جنادة ما يشير إلى ذلك وهي قوله عليه‌السلام : وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته .

والحقيقة الموضوعية التي كشفت عنها هذه النصوص الكريمة بعدما أثبتها الواقع وشهد بواقعيتها الوجدان السليم والذوق المستقيم هي أن الميزان في رفعة الشأن وسمو المنزلة هو التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل ـ لا السلطة المادية الدنيوية القائمة على أساس الظلم والجور ولا كثرة الأعوان والجنود المتعاونين مع صاحب هذه السلطة ـ على الإثم والعدوان ـ ولا كثرة الأموال وإقبال الدنيا بزينتها الفانية وفتنتها الساحرة فإن ذلك كله وهم وخيال لا قيمة له ولا اعتبار به بمقياس الحقيقة لأنها كلها تفنى وتزول كما يزول صاحبها معها أو قبلها ولا يبقى له منها إلا تبعتها ومسؤوليتها الخطيرة غداً :

( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٣) .

وبذلك ندرك أن تلك المظاهر الجوفاء مصداق للزبد الذي تحدث الله عنه بصريح قوله تعالى :

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ٨ .

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٣ .

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٨٨ و ٨٩ .


( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) (١) .

وتأتي الحوادث التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة وتزيدها وضوحاً وجلاء فيعتبر بها المعتبرون ويستفيد منها المتفكرون .

فهارون العباسي أقبلت عليه الدنيا وخدعته بزينتها الخادعة وفتنتها الساحرة حتى كان يخاطب السحابة قائلاً :

( أينما أمطرتِ فإن خراجك سيأتي إلى ) معبراً بذلك عن سعة سلطانه وقوة نفوذه .

وفي المقابل كان الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام غارقاً في ظلمات السجون بحيث لا يستطيع تمييز الليل عن النهار ولم يصدر منه ما يقتضي ذلك سوى رفضه لأن يسير في ركاب الحاكم الظالم ساكتاً عن ظلمه وداعماً لسلطانه .

وقد بعث هذا الإمام العظيم لذلك الحاكم الجائر رسالة يقول له فيها :

إنه لن ينقضيَ عني يوم من البلاء إلا انقضى معه عنك يوم من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء هناك يخسر المبطلون . وفي المقابل :

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١٧ .

(٢) سورة المؤمنون ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ و٤ .


وقال سبحانه مشيراً إلى العاقبة الحسنة التي ينتهي إليها المتقون بتقواهم :

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

وأشار إلى مصير المؤمنين العاملين بإيمانهم الصادق بالتقوى والعمل الصالح بقوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (٢) .

كما أشار إلى مصير الكافرين بقوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) (٣) .

وقد أشار إلى هاتين العاقبتين المتقابلتين أحد الشعراء المبدعين بقوله :

هيا بنا لرُبى الزوراء نسألها

عن ثلتين هما موتى وأحياء

فقد مشت وبنو العبـاس سامرةٌ

بألف ليلةَ حيث العيش سراء

دار الرقيق وقصر الخلد طافحة

بما يلذ فأنغام وصهباء

تجبك أن ديار الظلم خاوية

وأن للمتقين الخلدَ ما شاؤا

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨٣ .

(٢) سورة البينة ، الآيتان : ٧ و ٨ .

(٣) سورة البينة ، الآية : ٦ .


ومِل إلى الكرخ وارمُق قُبة سمَقَت

تجاذبتها الثريا فهي شماء

وحي فيها إماماً من أنامله

سحابة الفضل والإنعام وطفاء

وهذه المقطوعة الشعرية الرائعة وإن جعلت المقابلة بين الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام وحاكم عصره والمتعاونين معه على الإثم والعدوان إلا أن مضمونها ومحتواها ينسحب بشكل عام ليشمل كل فرد أو جماعة سائرة في خط السماء بالإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح كما يشمل الطرف المقابل لهذه الفئة الهادية المهتدية إلى درب العبادة والكمال ( وبضدها تتميز الأشياء ) .

ولذلك ينطلق المضمون المذكور في رحاب التاريخ ليصل إلى عصر الإمام الهادي عليه‌السلام ومعاصره المتوكل العباسي والقصة التالية تُظهر لنا تحقق المقابلة بين خط الهدى والاستقامة في العقيدة والسلوك والخط المقابل المنحرف عن هذا الخط القويم والصراط المستقيم وحاصل القصة المشار إليها :

أن المتوكل أحضر الإمام الهادي عليه‌السلام إلى قصر حكمه وهو جالس على مائدة الخمر وطلب من الإمام أن يشاركه في شربه فقال له الإمام عليه‌السلام اعفني يا أمير فوالله ما خالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فقال له المتوكل إذن أنشدني الشعر فقال له إني لقليل الرواية فألحّ عليه المتوكل وقال له لا بد من أن تنشدني شعراً فأنشده الأبيات التالية لينبهه من غفلته وهي كما يلي :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسُهم

غلبُ الرجالِ فلم تنفعهم القُلَلُ

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم

وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعدما قُبروا

أين الأسرةُ والتيجانُ والحُلَلُ


أين الوجوهُ التي كانت منعمةً

من دونها تُضربُ الأستارُ والكُلَلُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوهُ عليها الدود ينتقل

وطالما أكلوا دهراً وما شربـوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

وطالما كنزوا الأموال وادخروا

فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

وطالما عمروا دُوراً لتحصنهـم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

أضـحت منازلهم قفراً معطلـة

وساكنوها إلى الأجداث قد رَحلوا

ذكر المؤرخون أن المتوكل بكى عندما سمع هذه الأبيات من الإمام عليه‌السلام وأمر برده الى منزله لساعته .

وانطلاقاً من جو العبرة والاعتبار بحياة العظماء الذين باعوا كل كيانهم لله سبحانه وتلك الشخصيات التي مشت في خط معاكس لنهج الحق والعدالة فجرفهم تيار الواقع وأغرقهم في بحر الفناء معنوياً ومادياً كما أغرق فرعون من قبل وأنجاه ببدنه ليكون عبرة للمعتبرين .

أجل : انسجاماً مع هذا الجو التاريخي الذي تصارعت فيه المبادىء وكان الانتصار في النهاية لمبادىء الحق والعدالة على مبادىء الباطل والضلالة ـ آثرت ذكر بعضٍ من قصيدة الشاعر السوري المبدع المنصف الأستاذ محمد مجذوب التي قارن فيها بين مصير الإمام علي عليه‌السلام رمز الحق والعدالة ونهاية خصمه المبدئي معاوية بن أبي سفيان وذلك من أجل أن نقتدي بتلك الشخصية الإسلامية الفذة التي كانت مع الحق وكان الحق معها بشهادة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه . ونستفيد عبرة وعظةً من سيرة الذين حاربوا الحق ومن سار على نهجه فانتصر عليهم وبقي صامداً في وجه التحديات لا تزيده إلا صلابة وثباتاً وتألقاً وخلوداً .

ومن أجل تحصيل المزيد من الفائدة ونيل العديد من أنواع العبرة


آثرت نقل نص الرسالة التي بعثها الشاعر مع القصيدة الى لجنة الاحتفال الذي أقيم في النجف الأشرف بمناسبة جليلة تتعلق بشخصية الإمام علي عليه‌السلام وهي كما يلي :

حضرة الاخوان لجنة الشباب النجفي المحترمين

وبعد : لقد كنت أود لو يُتاح لي الحضور شخصياً للمساهمة في الذكرى الخالدة لولا ما يحول دون ذلك من عقبات لا قِبَل لي باجتيازها وفكرت ملياً في الكلمة التي تصلح لمثل ذلك المقام العظيم فلم أجد أفضل من قصيدة كنت قد نظمتها عقيب زيارتي لضريح معاوية بدمشق إذ تفتحت في خيالي أبواب التاريخ فأشرفت من خلالها على تلك المآسي الفاجعة التي مُني بها الإسلام منذ خروج أبي يزيد على أمير المؤمنين إلى كارثة كربلاء وإلى ما لا نهاية له من النوازل التي استغرقت أمة محمد ولا تزال تستغرقها حتى يشاء الله تداركها برحمته .

وها هي ذي القصيدة وفيها كل ما اختلجت به مشاعري واقتنع به عقلي من الشؤون التي تتصل بهذه الذكرى ويسرني جداً أن تنال رضاكم فتكون أحدَ موضوعات الحفلة ولا شك أن ذلك سيتيح لي سعادة الاتصال بنفوس زكية ربطني بها رحم الولاء الخالص لذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً .

هذا وختاماً أرفع إليكم أحر التمنيات وأصدق التحيات .

وفيما يلي بعض من قصيدته الجليلة الطويلة :

أين الـقصورُ أبا يزيدَ ولهوُها

والصافناتُ وزهوُها والسؤددُ

أين الـدهاءُ نحرتَ عِزتَه على

أعتاب دنياً سحرها لا ينفدُ

آثرتَ فـانيها على الحق الذي

هو لو علمتَ على الزمان مخلد


تلك البهارجُ قد مضت لسبـيلها

وبقيتَ وحدك عِبرةً تتردد

هذا ضـريحك لو بصُرتَ ببؤسه

لأسال مدمعَك المصيرُ الأسودُ

كتَلٌ من الترب المهين بخِرْبةٍ

سكر الذبابُ بها فراح يُعربد

خفيت معالمها على زوارها

فكأنها في مجهل لا يُقصد

ومشى بها ركبُ البلى فجدارها

عار يكاد من الضراعة يسجد

والـقُبة الشماء نكس طرفها

فبكل جزء للفناء بها يد

تهمي السحائبُ من خلال شقوقها

والريح من جنابتها تتردد

حتى المصـلى مظلمٌ فكأنه

مذ كان لم يجتز به متعبد

*       *      *

أأبا يزيدَ لتلك حكمةُ خالقٍ

تُجلى على قلب الحكيم فيُرشَدُ

أرأيتَ عاقبة الجموح ونزوه

أودى بلبك غيها المترصد

أغرتك بالدنيا فرُحت تشنها

حرباً على الحق الصراح وتُوقد

تعدو بها ظلماً على من حبه

دين وبغضته الشقاء السرمد

علَمُ الهدى وإمام كل مطهَّر

ومثابةُ العلم الذي لا يُجحد

ورثت شمائله بَراءةَ أحمدٍ

فيكاد من بُرديه يشرق أحمد

وغلوتَ حتى قد جعلت زمامها

إرثاً لكل مُذمَّمٍ لا يُحمد

هتك المحـارمَ واستباح خدورها

ومضى بغير هواه لا يتقيد

فأعادهـا بعد الهدى ـ عصبيةً

جهلاءَ تلتهم النفوس وتُفسد

فكأنما الإسلام سلعةُ تاجر

وكأن أمته لأَلكَ أعْبُدُ

*       *      *

أأبا يزيد وساءَ ذلك عِترةً

ماذا أقول وبابُ سمعك مُوصد

قم وارمق النجف الشريف بنظرةٍ

يرتدَّ طرفُك وهو باكٍ أرمد


تلك العظامُ أعز ربك شأنها

فتكادُ لولا خوفُ ربك تُعبد

أبداً تباكرها الوفودُ يحثها

من كل صوب شوقها المتوقد

نازعتَها الدنيا ففزت بوردها

ثم انطوى كالحُلم ذاك الموردُ

وسعت إلى الأخرى فأصبح ذكرها

في الخالدين وعطف ربك أخلد

وفي ختام الحديث عن الطواف وحكمته يترجح ذكر حوار جرى بين عبد الله بن مبارك والإمام زين العابدين عليه‌السلام عندما التقى به وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج المباركة . قال عبد الله هذا للإمام عندما رآه منفصلاً عن الحجاج : يا بُني مع من قطعت هذا البر وليس معك زاد ولا راحلة ؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام قائلاً :

يا شيخ قطعتُ هذا البرَّ مع البار ، ثم سأله ثانياً : وأين زادك وراحلتك ؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام قائلاً :

راحلتي رجلاي وزادي تقواي وقصدي مولاي .

الحكمة من تشريع وجوب صلاة الطواف بعده وفي مقام ابراهيم (ع) :

بعد الجولة الواسعة في ميدان الطواف الفسيح واستلهام الكثير من العبر والدروس من مدرسته المباركة ، لا بد من الوقوف أمام تشريع وجوب صلاته المترتبة عليه من أجل النظر بعين الفكر إلى عمق هذه الصلاة وفي مقام إبراهيم بالذات دون غيره من الأماكن لقوله تعالى :

( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) (١) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٢٥ .


وذلك من أجل استيحاء الحكم البالغة والعبر النافعة وهي كثيرة :

١ ـ منها : أن الصلاة بصورة عامة تعتبر من أبرز مظاهر العبودية والخضوع التام أمام عظمة الله تعالى لتأدية واجب العبودية وفريضة الشكر له . والحاج بعد أن يتوفق بعناية الله تعالى ومعونته للوصول إلى أماكن تأدية فريضة الحج ويقوم بأول واجب من واجباته وهو الإحرام بشروطه المعتبرة ويتوفق بعد ذلك لزيارة بيت الله تعالى ويقوم بالواجب الثاني وهو الطواف بشروطه المعهودة يُطلب منه أن يقدم لله الشكر الجزيل والثناء الجميل لإحسانه إليه وتفضله عليه بالتوفيق لقيامه بما وجب عليه من الاحرام وزيارة بيت الله الحرام والطواف فيه ـ وبذلك ينال التوفيق لإكمال حجه ونيل المزيد من العناية الإلهية والتمكن من إكمال الوظيفة الشرعية .

قال سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (١) .

وأما ربط هذه الصلاة ـ أي صلاة الطواف ، بمقام إبراهيم حيث قال سبحانه : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) كما سبق ، فلا يبعد أن يكون وجه الحكمة فيه هو لفت نظر الأجيال الصاعدة الوافدة إلى هذا المقام ، إلى الدور البارز الذي نهض به بالنسبة إلى فريضة الحج بالتعاون مع ولده إسماعيل فهو :

أولاً : كان المجدد لبناء الكعبة مع ولده هذا برفع قواعدها والبناء فوقها بعد أنت كان مغطاة مستورة بسبب طوفان نوح عليه‌السلام وهبوب الرياح العاتية . وعندما أراد إبراهيم وابنه المذكور تجديد بناء البيت بأمر من الله تعالى ـ سخر له الريح فكشفت له عن مكانه وظهرت القواعد الأساسية التي كان قائماً عليها في الزمن القديم وساعد ذلك على تجديد

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .


البناء وإعادته إلى الوجود من جديد ، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك بقوله :

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) (١) .

وثانياً : أن الاطلاع على سيرة هذا النبي العظيم وعبادته الخالصة المخلصة لله سبحانه يبرز شخصيته الرسالية المثالية على واقعها وأنها بلغت القمة في الإخلاص والتوحيد العبادي بعد أن بلغت ذلك في التوحيد العقيدي وتجلى ذلك بوضوح بعد تعرضه لامتحانات عديدةٍ وصعبة فقابلها بقوة إيمان وصلابة موقف وغاية في التسليم والخضوع لإرادة الله سبحانه وذلك هو روح العبودية وقلب العبادة الحقة التي خلق الله الإنسانَ من أجلها وكلفه بالعبادات الخاصة المعهودة لتكون وسيلةً لتحقق تلك العبادة بمعناها العام وهي صفة الخضوع المطلق لإرادة الله تعالى بكل عمل اختياري يمارسُه المكلف على صعيد هذه الحياة بإرادته واختياره .

وسأذكر المواقف التي تعرض فيها هذا النبي العظيم لأصعب الامتحانات وأشقها على النفس البشرية واستطاع بعناية الله سبحانه وقوة إيمانه أن يجتازها بقوة إرادة وصلابة عقيدة وأراد الله سبحانه أن يذكره ضمن حديثه عن مناسك الحج المتميزة عن غيرها من العبادات بصعوبة التأدية كما هو معلوم من أجل أن يقتدي المكلفُ به في مقام امتثاله التكاليف الشرعية وخصوصاً الصعبة منها .

والاقتداء بمثل هذه الشخصية المثالية غير مقصور على الموارد التي تحدث القرآن عنها وأشار التاريخ إليها مثل قصة الذبح الذي رأى في منامه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٢٧ .


أنه مأمور به بالنسبة إلى ولده اسماعيل وكذلك شعار الرمي الذي تحدث عنه التاريخ أن الله أمره به بواسطة جبرائيل من أجل أن يطرد الشيطان الذي تعرض له ليمنعه من ذبح ولده وامتثال أمر ربه على تفصيل مذكور في قصص الأنبياء .

أجل : إن الاقتداء ببطل التوحيد خليل الله العظيم ليس مقصوراً على تلك الموارد بل يشمل كل مجالات التعبد والعبادة الخالصة لله تعالى بالمعنى العام الذي مرت الإشارة إليه .

من تلك المواقف الصعبة التي تعرض فيها النبي إبراهيم للامتحان الصعب ـ أمر الله له بأن يهاجر مع زوجته هاجر وطفله الوحيد اسماعيل ـ من فلسطين إلى الحجاز ليتركهما هناك في واد غير ذي زرع كما تحدث القرآن الكريم وفي جوار الكعبة التي رفع قواعدها بعد ذلك مع ولده اسماعيل هذا .

وكما كانت هذه الوادي مجردة من الزرع الذي يستفيد منه الإنسان طعامه الضروري كانت خالية من الماء أيضاً الذي هو مصدر الحياة وحفظها من التلف بعد الوجود قال سبحانه :

( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (١) .

وخاليةً من الإنسان أيضاً بسبب خلوها من ذلك أي من الزرع مصدر الطعام والماء مصدر الشراب والحياة وذلك هو سر الصعوبة والشدة في هذا الامتحان وقد شاركته في تحمل الصعوبة والصبر على الشدة ـ زوجته المؤمنه المذكورة بالخير والثناء حيث رضيت بقضاء الله وسلمت أمرها له ليقضي أمراً كان مفعولاً مهما كلف قضاؤه من صعوبة ومعاناة ما دام ذلك

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠ .


حاصلاً في طريق مرضاة الله وحصول الغاية السامية التي أراد تحققها بعد ذلك .

والسر الكامن وراء هذا التسليم والرضا بقضاء الله العليم الحكيم هو الإيمان الراسخ والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته وأنه لا يترك من لجأ إليه وتوكل عليه ـ بدون رعاية وحماية .

وبعد أن قام النبي إبراهيم بما أمره الله به بتسليم وانقياد لإرادته تعالى رغم الصعوبة النفسية التي يعاني منها الإنسان الأب في مثل هذا الموقف وخصوصاً إذا كان شيخاً كبيراً وكان ولده طفلاً صغيراً ووحيداً وقد منَّ الله به عليه حال شيخوخته وكبره .

وشاءت الحكمة الإلهية أن يتعرض هذا النبي العظيم لهذا الامتحان الصعب ليكون قدوةً للمؤمنين الذين يتعرضون لمثل هذا الامتحان الشديد في طريق قيامهم بواجب العبودية لله تعالى .

كما تكون زوجته هذه قدوة للنساء المؤمنات اللاتي يتعرضن لمثل هذا الابتلاء عندما يتوقف قيامهن بواجب الإطاعة لله تعالى وتنفيذ إرادته على تحمل المزيد من المشقة الجسمية والنفسية أو الأولى وحدها .

وإذا لاحظنا مجموع الخصوصيات التي تجمعت لأم اسماعيل عليه السلام وسببت لها المزيد من الصعوبة والمعاناة ندرك أن امتحانها كان أصعب من امتحان زوجها الذي وقف هذه المرة عند حد السفر بولده الصغير وتركه مع والدته في صحراء جرداء لا كلأ فيها ولا ماء والخصوصيات التي سببت لها مضاعفة الانفعال العاطفي والجهد النفسي ـ كثيرة أبرزها رقة العاطفة المعهودة لدى الأم تجاه ولدها وخصوصاً إذا كان


صغيراً بعمر اسماعيل ويضاف إلى ذلك الغربة المؤلمة والبعد عن الوطن والأحباء .

واشتدّ هذا الابتلاء عندما احتاج طفلها إلى الماء ليزيل عطشه الشديد وكيف تحصل على مطلوبه ومطلوبها في تلك الصحراء القاحلة ولكن قوة أملها في أن يجعل الله لها ولطفلها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً ـ جعلتها تعيش حالة الترقب لبزوغ صبح الفرج واليسر وانجلاء ليل الشدة والعسر .

وحيث كانت ناضجة العقل وكاملة الرشد الديني والوعي الإيماني ومدركة ببركة هذا الوعي أن الإنسان المؤمن مكلف بالسعي في سبيل تحصيل الهدف المحبوب أو دفع الحادث المكروه تمشياً مع الحكمة الإلهية التي قضت واقتضت أن لا تدرك المسببات إلا بأسبابها ولا تدخل البيوت إلا من أبوابها ـ لذلك انطلقت ساعية في سبيل تحصيل الماء لنفسها ولطفلها وقاصدة مكان الصفا الذي يبتدىء سعي الحجاج منه ويختمونه بالمروة ـ في كل شوط من أشواطه السبعة وذلك حينما لاح لها بريق السراب في مكان ابتداء السعي ( الصفا ) وتخيلت أنه ماء وعندما وصلت إليه تبين لها الواقع وأنه سراب خادع ثم التفتت إلى جهة المروة فشاهدت بريقاً يُوهم أنه ماء فسعت إليه وتبين لها أنه من نوع البريق الأول .

ورغم ذلك بقيت تسعى بدافع الرجاء والأمل برحمة الله تعالى ولم يتسرب اليأس والقنوط إلى قلبها لأن ذلك لا مجال له عند النفوس الكبيرة المؤمنة قال سبحانه :

( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (١) .

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٥٦ .


وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (١) .

ولذلك بقيت هذه المرأة المؤمنة ـ مستمرة على السعي بين هذين المكانين ( الصفا والمروة ) رغم فشل التجربة وعدم حصول الأمنية لأن فشلها لا يعني عدم إمكانية حصول مطلوبها بقدرة الله تعالى وعنايته ـ وأخيراً تحقق لها ذلك بعد أن بذلت أقصى الجهد وقامت بما تتمكن منه ـ وكان ظفرها بالماء في مكان آخر وهو مكان وجود الطفل الذي شاءت الرحمة الإلهية أن تشمله مع أمه المؤمنة المتوكلة ـ بعطفها المعهود فتخرج لهما الماء من تحت قدمي طفلها الناعمتين وتبادر تلك الأم الظمأى الولهى لتزم هذا الماء وتمنعه من التدفق والجريان بوضع ما يحجزه في مكانه ـ من الرمل أو التراب ـ ولعل ذلك كان سبب تسميته بماء زمزم .

وبحصول هذا الماء للأم وطفلها بهذه الوسيلة المعجزة حصل لهما ارتواء جسمي بشربه كما حصل لها ارتواء روحي بماء الرعاية الإلهية التي أنعشت ثقتها بالرحمة السماوية وأنه سبحانه عند حسن ظن عبده المؤمن فمن حسَّن ظنه به ولجأ إليه وتوكل عليه كان حسبَه ونعم الوكيل .

قال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (٢) .

وقال تعالى :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٣) .

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٧ .

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣ .

(٣) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .


وهكذا تابعت الرعاية الإلهية هذه المرأة وطفلها فهيأ لهما ببركة هذا الماء ـ وجود جماعة تنفي عنها وحشة الغربة وحرارة الكربة التي كانت تعاني منها بسبب إقامتها في تلك الصحراء الجرداء بلا جار مريح وإنسان إنسان ترتاح بقربه وتتعاون معه على طي مسافة المدة المقدر لها أن تقيمها فيها ـ أي في تلك الصحراء .

وكانت تلك الجماعة التي جاءت لتجاورها هي قبيلة جرهم وذلك بعدما شاهدت الطيور تحوم فوق ذلك المكان وتهبط إليه لتشرب من مائه ـ فعرفت هذه القبيلة بوجود الماء فيه .

وكانت جُرهُم هذه قبيلة عربية معروفة بالنبل والكرم والأريحية فاندفعت بعامل هذه الصفات النبيلة للانفتاح على هذه المرأة الصالحة الغريبة النجيبة وطفلها الصغير البريء ـ بالعطف والحنان والبر والإحسان من أجل التعبير عن مشاعر الإنسانية من جهة ومن أجل تحصيل موافقتها على الاستفادة من ذلك الماء الواقع تحت إشرافها وحيازتها ـ من جهة أخرى .

وترعرع ذلك الطفل في ظل رعايتهم له ولأمه مع حضانتها وقيامها بواجب الأمومة تجاهه .

والذي زاد في عطفهم ورعايتهم لهما معرفتهم بأن هذا الطفل هو نجل النبي إبراهيم عليه السلام وأن أمه هذه هي زوجة ذلك النبي العظيم وهذا ما بعث السرور والاطمئنان في قلب هذا الأب الرحيم والزوج الكريم حيث استجيب دعاؤه وتضرعه إلى الله تعالى بقوله :

( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ


لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (١) .

والذي زاده سروراً هو حصول ما يمهد لتحقق الهدف الكبير المقصود لله سبحانه بأمره له بالهجرة مع زوجته وطفله إلى ذلك المكان والمراد بذلك الهدف هو تجديد بناء الكعبة وتعميرها مع ولده اسماعيل مادياً مقدمة لعمرانها معنوياً بقيام ذريته الحالية ومن سيولد منها في المستقبل مع من يؤمن بدعوته من الناس بإحياء شعائر الله والقيام بفريضة الحج لبيته الحرام في المستقبل القريب والبعيد إلى يوم القيامة تلبية للنداء الكريم الذي أمر الله نبيه هذا بتوجيهه إلى الأجيال عبر التاريخ وذلك بقوله تعالى :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) (٢) .

ومن مجموع ما تقدم ذكره حول هجرة النبي إبراهيم وزوجته هاجر من فلسطين إلى الحجاز وما تحقق منهما من التسليم لأمر الله تعالى والإقدام على تنفيذ إرادته تعالى رغم وجود الصعوبة والمعاناة النفسية والجسمية وما ترتب على ذلك وحصل بعده من اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة .

ندرك مدى النجاح الذي حققه هذان المؤمنان الموحدان المخلصان لله سبحانه ونعرف أن الفرج الذي منَّ الله به عليهما بعد صبرهما الجميل

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٧ .

(٢) سورة الحج ، الآيتان ٢٧ و ٢٨ .


وتسليمهما لأمر الله الجليل ـ كان جائزة كبرى معجلة ومكافأة معنوية ومادية على ذلك التسليم .

وشاءت الحكمة الإلهية أن تضيف جائزة أخرى لهاجر ومكافأة كبرى على صبرها واحتسابها وهي جعل السعي بين الصفا والمروة الذي قامت به وهي تبحث عن الماء ـ فريضة على كل من حج أو اعتمر من أجل أن يخلد ذكرها بذلك ويجعل منها قدوة مثلى وأسوة حسنة لكل من يسعى في سبيل الهدف الكبير والغاية السامية فيصبر كما صبرت ليظفر بما ظفرت به من نجاح السعي ونيل رضا الله تعالى .

وقبل متابعة الحديث حول شخصية النبي إبراهيم بذكر المواقف الأخرى التي تعرض فيها للامتحانات الأخرى الصعبة .

أحب أن أقف من قصة هجرته مع زوجته هذه وطفله ذاك وقفة تأمل وتدبر من أجل استيحاء العديد من الدروس التربوية التي تقوي إيماننا برحمة الله تعالى وحكمته وتدفعنا للاقتداء بهما بالصبر الجميل والتسليم لحكم الله تعالى وقضائه إذا تعرضنا لما تعرضا له من الامتحان الصعب فأقول :

١ ـ الدرس الأول : الذي نستلهمه من هذه القصة هو درس في التسليم والرضا بقضاء الله وقدره لأن ذلك هو مقتضى الإيمان الكامل الذي يوحي لصاحبه بأنه عبد مملوك لله سبحانه فيجب عليه أن يطيعه بكل ما يأمره به من فعل واجب أو ترك حرام وإنه حكيم رحيم لا يأمره إلا بما فيه المصلحة والفضيلة ولا ينهاه إلا عما فيه المفسدة والرذيلة لذلك تكون نتيجة امتثاله لأحكام ربه هي السعادة في الدنيا والآخرة وهذا وذاك يقوي عامل الانبعاث والتحرك في إطار العبودية والتعبد لله سبحانه مهما كلفه


ذلك من صعوبات وتضحيات لأن الفوائد التي يجنيها بامتثاله حاضراً في هذه الدنيا ومستقبلاً في الآخرة هي أكبر وأعظم من كل صعوبة تحصل في طريق الامتثال كما أن السلبيات المترتبة والصعوبات الناشئة من مخالفة تعاليم الله سبحانه هي أيضاً أكبر وأخطر من كل صعوبة تحدث للمكلف بسبب استقامته في خط التقوى كما أنها أكبر وأكثر من الفوائد المادية الدنيوية الزائلة .

ويؤكد عامل الاستقامة في خط العبودية والخضوع لإرادة الله تعالى الإلتفات إلى أن طبيعة هذه الحياة قائمة على أساس عام وقاعدة ثابتة لا يستطيع أي إنسان أن يتجاهلها ويتجاوز حدودها بقطع النظر عن القضايا التعبدية والالتزام بالأحكام الشرعية .

وهي أن الأهداف الحياتية وخصوصاً الكبيرة منها لا تدرك إلا بالتعب والتحمل فطالب العلم في مدرسته لا يحصل النجاح إلا بالسهر والصبر على المشقة وكذلك طالب المال والثراء لا يدرك الربح المنشود في تجارته إلا بالتعب الجسمي والفكري غالباً .

والمجاهد في ساحة النضال لا يحقق هدف الانتصار والتحرر إلا بالصبر على مضاعفات المعركة وصعوباتها المعهودة وإلى ذلك أشار النبي عيسى عليه السلام ـ بما روي عنه في وصيته للحواريين من قوله لهم : إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله :

ذريني أنلْ ما لا يُنال من الـعلى

فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل

تريدين إدراك المعالي رخيصة

ولا بد دون الشهد من إبر النحل


وقال آخر :

لا تحسب المجدَ تمراً أنت آكلُه

لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصبرا

وقال آخر :

لأستسهلن الصعبَ أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

وتفترق الأهداف الرسالية عن الأهداف الحياتية الخارجة عن نطاق الرسالة ونهج الشريعة بأن طالب الأولى مضمون النجاح والربح على كل حال لأنه إذا أدرك هدفه المنشود في هذه الحياة يكون قد ظفر بالنجاح المعجل مع الفوز المؤجل الذي يناله غداً يوم القيامه جزاء عمله في سبيله وإذا لم ينل هدفه الحالي فهو لا يخسر ثواب سعيه وعمله في الآخرة :

( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

وهذا بخلاف طالب الأهداف الحياتية المادية البعيدة عن منهج الدين وخط الاستقامة في طريق التقوى فهو مردد المصير بين النجاح الدنيوي المعجل المؤدي إلى الفشل والخسران الحقيقي يوم الجزاء والخسران المعجل الملزوم للفشل والخسارة الكبرى في الدار الأخرى وذلك هو الخسران المبين .

وإليه أشار الله سبحانه بقوله تعالى :

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيتان : ٨٨ و ٨٩ .

(٢) سورة الكهف ، الآيتان : ١٠٣ و ١٠٤ .


وقوله تعالى :

( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١) .

وقال سبحانه متحدثاً عن مصير المؤمنين بالله العاملين في سبيله .

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ) (٢) .

٢ ـ الدرس الثاني : هو درس في التوكل الواعي وهو الذي يهيء صاحبه الأسباب والمقدمات العادية التي يتوقف عليها حصول الهدف المشروع المطلوب للمؤمن المتوكل ويتوكل بعد ذلك على الله سبحانه في حصول هدفه فإن شاء لسعيه النجاح كان له ذلك وشكره على تفضله بتوفيقه له مردداً بلسان المقال أو الحال قوله تعالى ، على لسان نبيه سليمان عليه السلام :

( هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (٣) .

وإذا قدر سبحانه أن لا يترتب على سعيه هدفه المنشود رضي بما قدره الله له وصبر عليه مردداً ما ورد في دعاء الافتتاح المروي عن الإمام المهدي عليه السلام من قوله :

ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور .

وأما الهدف المؤجل وهو نعيم الآخرة ورضا الله سبحانه المترتب على توكل المؤمن على ربه وسعيه في سبيله .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٥ .

(٢) سورة الكهف ، الآيتان : ١٠٧ و ١٠٨ .

(٣) سورة النمل ، الآية : ٤٠ .


فهو مضمون الحصول يوم الجزاء العادل قال سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (١) .

والدرس المذكور مستفاد من سعي هاجر في سبيل تحصيل الماء رغم إيمانها بقدرة الله سبحانه وتمكنه من تحصيل الماء لها ولطفلها ولو بدون حصول البحث عنه وسعيها في سبيل تحصيله .

وذلك لأنها تعلم أن حكمة الله سبحانه قضت أن لا تنال المسببات إلا بأسبابها العادية وأن إعدادها من أجل التوصل بها إلى الهدف المطلوب المشروع مع الاعتماد على الله سبحانه في نجاح السعي وترتب الأثر المقصود عليها ـ هو التوكل المحمود المحبوب لله تعالى .

ولذلك سعت في سبيل تحصيل الماء ولم تجلس في مكانها معتمدة على إيمانها برحمة الله ودعائها وتضرعها له ليحقق لها مطلوبها من دون أن تتحرك في طريق تحصيله .

وذلك لأن طلب حصول الهدف بدون السعي في سبيل تحصيله بسببه العادي ـ هو من التواكل المذموم في مقابل التوكل المحبوب المحمود عند الله الذي يُباركه ويساعد على إنجاحه في الغالب إلا إذا اقتضت الحكمة الإلهية تأخير حصوله إلى الوقت المناسب أو عدم حصوله في حاضر الدنيا ليعطي الله سبحانه للساعي أجر سعيه يوم القيامة وقد تحدثت حول موضوع التوكل بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة ٢١٦ .

٣ ـ الدرس الثالث : المستفاد من قصة الهجرة المذكورة هو درس

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .


إيماني رائع ونور ساطع يبدد ظلمة اليأس بشعاع الأمل والثقة القوية برحمة الله سبحانه وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها بمقتضى عدالته وحكمته ولا يتركها وحدها في ساحة الصراع تصارع الأيام وتتجشم الآلام بدون أن يمد إليها يد الرحمة والمعونة ليجعل لها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً في الغالب .

ويفهم ذلك من صريح قوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (١) .

وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :

ولا تيأسنَّ وإن طالت محاولـة

إذا استعنت بصبر أن ترى الفرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحـاجته

ومُدمن القرع للأبواب أن يلجا

وقد رأينا بعين الحقيقة والواقع الملموس ـ كيف بدل الله سبحانه شدة هاجر وولدها بالفرج والرخاء وظمأها بالري والارتواء ووحشتهما المقيتة وغربتهما المؤلمة ـ بحسن الجوار لجماعة عرفوا قدرهما وقدموا كل أنواع الدعم والمعونة لهما .

وتأتي الحوادث التاريخية الواقعية لتؤكد هذه الحقيقة الإيمانية وأبرزها ما حصل للنبي أيوب من الشفاء بعد العارض الجسمي الذي أحاط ببدنه ومن إعادة الحياة لأولاده بعد موتهم بالحادث الذي حصل لهم مع عودة أمواله ومواشيه إلى سابق عهدها وعودة زوجته رحمة لتعيش معه في ظل الحياة الزوجية السعيدة بعد أن مرت عليها شدة شديدة وبلاء عظيم حصل لها تبعاً للابتلاء الشديد الذي أصيب به زوجها النبي الصابر الذي مدحه الله سبحانه لصبره بقوله تعالى :

__________________

(١) سورة الشرح ، الآيتان : ٥ و ٦ .


( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (١) .

وكذلك ما حصل للنبي يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام حيث تعرض الابن لامتحانات عديدة وصعبة ولأنه كان مع الله سبحانه حال ابتلائه بها بالصبر والاحتساب والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته فقد كان الله معه بالدعم والإعانة على التحمل والتجمل بالصبر الجميل .

كان معه حين إلقائه في البئر ليوفر له ما يضطر له من الغذاء والشراب الحافظ لحياته وبقي معه بعد خروجه منه على يد تلك القافلة التي سخرها الله له لتخرجه من ظلمة البئر إلى عزة القصر ونعيمه .

وبقيت العناية الإلهية معه لتنصره في معركة الجهاد الأكبر عندما رادوته التي هو في بيتها ودخلت معه هذه العناية إلى السجن لتشد على يديه فيرى أن السجن رغم صعوبته أحب إليه مما يدعونه إليه من مخالفة الله وانحرافه عن خط تقواه وكان ذلك سبب الإفراج عنه والإخراج له من ضيق السجن وذلته إلى سعة القصر وعزته كما كان السبب في ظهور براءته مما ألصق به ونسب إليه مما لا يليق بشأنه ويناسب مقامه كنبي معصوم ومؤمن تقي بلغ القمة في العفة والنزاهة .

وهكذا ارتفعت به العناية الإلهية إلى عرش الملك ليصبح حاكماً بالعدل بعد أن كان محكوماً بالظلم وهذا من أوضح مصاديق قوله تعالى :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٢) .

كما أنه تطبيق واضح وتجسيم حي لمضمون النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه‌السلام لجنادة يوم زاره في مرضه الذي توفي

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٤٤ .

(٢) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .


به وهي قوله له :

وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله تعالى إلى عز طاعته .

ويأتي قول زليخا التي راودت يوسف ـ عندما شاهدته على عزة السلطان وهيبة الإيمان : سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته والملوك عبيداً بمعصيته ، منسجماً مع روح النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه‌السلام لصاحبه المذكور .

وهكذا وصلت العناية الإلهية إلى النبي يعقوب والد النبي يوسف عليهما السلام لتشد على يده وتعينه على الصبر الجميل بدل الجزع والاعتراض على حكم الله وقضائه وأعادت له بصره بعد أن فقده وجمعت شمله بولديه يوسف وأخيه بعد الفراق الطويل .

وانطلقت هذه العناية الإلهية والرعاية السماوية في رحاب الزمن لترعى أولياء الله الذين باعوا أنفسهم وكل كيانهم وما يتصل بهم لله تعالى لينالوا بذلك رضاه ثمناً أعلى وأغلى مضافاً إلى النعيم الخالد والسعادة الأبدية في جواره تعالى .

وكان لنبينا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصيب الأوفر والقسط الأكبر من هذه الرعاية المباركة لتشد على يديه وتثبته في ساحة الصراع المرير الذي خاضه في مواجهة قومه الذين عارضوا دعوته وقابلوه مع من آمن به بكل قسوة وعنف حتى تحدث عما أصابه من الأذى العنيف بقوله ، وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت .

وقابل كل ذلك الأذى مع الحصار السياسي والاقتصادي والأمني مدة ثلاث سنوات في شعب عمه أبي طالب رحمه الله مردداً قوله في مناجاته :


إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . وأخيراً شاءت الرحمة الإلهية والعناية السماوية أن تهيأ له وسيلة خروجه من سجن الشعب وترد على مكر المشركين الذي دبروه ليلة الهجرة بمكر عادل مبطل لمكرهم الظالم وذلك بإخباره عما عزموا عليه وأمره بأن يأمر علياً بالمبيت في فراشه ليلة هجرته ليكون مبيته فيه مغطياً لانسحابه من بينهم فلا يشعروا به ، وامتثل علي عليه‌السلام أمر السماء ووقى بشخصه حياة سيد الأنبياء وكلل هجرته بالنجاح والتوفيق ليتحول من مرحلة الضعف والدعوة إلى مرحلة القوة والدولة ويفتح له مكة بعد ذلك سلماً ويفتح له بذلك القلوب بالإيمان ليدخل الناس في دين الله أفواجاً .

وقد سجل الله سبحانه ذلك كله على صفحات كتابه الكريم لتستلهم الأجيال منه دروساً تربوية تنير لها درب التضحية والجهاد والصبر والثبات على منهج الحق في مقام الدعوة إلى مبدئه والتمسك بخطه والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر من قبل أعداء الرسالة والفضيلة .

هذا حاصل ما يمكن استلهامه من الدروس التربوية من قصة هجرة النبي إبراهيم عليه‌السلام وسفره بزوجته هاجر وطفله اسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتحول بعد وجود أسرته فيه إلى حقل خصب مزدهر بالزرع المعنوي المبارك الذي تمثل بزرع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذور الإيمان والتوحيد وغرسه شتلات الرسالة الخالدة الخاتمة في حقل العقول وسقيها بماء التوعية والتربية الرسالية المثالية حتى أصبحت خلال فترة قصيرة ـ شجرة ميمونة مباركة أصلها ثابت في صعيد القلوب وفرعها ممتد إلى سماء الكمال والفضيلة لتؤتي أكلها الطيب وتعطي ثمرها اليانع كل حين بإذن ربها .

ويسرني أن أذكر في ختام هذا الحديث المنطلق في رحاب هجرة


الخليل المذكورة والمنتهي بوحي المناسبة إلى هجرة حفيده الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أكملت الهدف وحققت الغاية التي كانت هجرة الخليل الجد من أجلها .

أجل : يسرني أن أختم هذا الحديث المبارك بالأبيات التالية للشاعر القروي لمناسبتها لمضمون آخر الحديث عن شخصية الرسول الأكرم ورسالته الخالدة وهي منظومة من وحي المولد النبوي المبارك :

عيدُ البرية عيد المولد النبوي

في المشرقين له والمغربين دوي

عيد النبي بن عبد الله من طلعت

شمس الهداية من قرآنه العلوي

بدا من القفر نوراً للورى وهدى

يا للتمدن عم الكون من بدوي

والبيتان التاليان من وحي المبعث النبوي الشريف :

غمر الكون بأنوار النبوه

كوكب لم تدرك الدنيا علوه

بينما الكون ظلام دامس

فُتحت في مكة للنور كوه

وبعد هذه الرحلة المباركة في رحاب شخصية النبي ابراهيم بطل التوحيد الخالد وزوجته هاجر رمز التوحيد الخالص والتسليم الصامد والتحدث عن بعض الشخصيات الأخرى بوحي المناسبة من أجل استيحاء المزيد من الدروس والعبر .

أعود للحديث عن هذه الشخصية الفذة الخالدة في أعماق التاريخ أعني شخصية الخليل الجليل وهو يجتاز امتحاناً آخر أصعب من الأول وأشق على الطبيعة البشرية وخصوصاً مع الأب الشيخ الكبير وطفله الوحيد الصغير الذي منَّ الله به عليه حال الشيخوخة التي تقتضي مع جاذبية الأبوة الحانية المزيد من التعلق العاطفي بالبنوة الصغيرة الوحيدة .


امتحان إبراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد

وقد تمثل الامتحان الجديد الشديد بل الأشد من كل امتحان تعرض له في مسيرته الحياتية ـ بأمره من قبل الله في عالم الطيف ـ بذبح ولده إسماعيل وحيث أن رؤيا الأنبياء حق فقد اعتقد بسببها أنه مأمور بذبح ولده هذا واقعاً وأمره بذلك يتضمن أمر إسماعيل أيضاً بتقديم نفسه قربة وقرباناً لله تعالى .

وقد شارك هذا الولد المؤمن حقاً والموحد واقعاً ـ أباه في الاعتقاد بأنه مأمور بذلك أي بتقديم نفسه المطمئنة في سبيل مرضاة الله سبحانه . ولذلك أبدى الاستعداد لقبول تنفيذ أمره تعالى عندما أخبره والده الجليل بالتكليفين المذكورين المتوجه أحدهما إلى الأب مباشرة وبصراحة والآخر موجه إلى الابن ضمناً وبالتبع والإشارة ( والحر تكفيه الإشارة ) .

وقد ورد التكليفان المذكوران في قوله تعالى :

( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

فالمفهوم من هذه الآية المباركة أن النبي إبراهيم اعتقد بسبب هذه

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٠٢ .


الرؤيا بأنه مأمور بذبح ولده وتقديمه قرباناً لله تعالى .

كما اعتقد اسماعيل تبعاً لاعتقاد والده بأنه مأمور بتقديم نفسه قرباناً في سبيل مرضاة الله تعالى وأن والده مستعد لتنفيذ أمر ربه وتنفيذ إرادته وإن كان ذلك من أصعب التكاليف وأشدها وقعاً على شعوره وعاطفته الأبوية وأراد الاستفهام ومعرفة حال ولده هذا وهل هو مستعد لتقديم نفسه وتنفيذ أمر ربه بطواعية وانقياد لإرادة رب العباد فخاطبه قائلاً : ( فانظر ماذا ترى ؟ ) .

فأجابه على الفور وبدون تردد : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .

وحكى الله سبحانه قصة إقدام هذين النبيين العظيمين على امتثال أمر ربهما الأعظم بقوله تعالى :

( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فقد بيّن الله سبحانه بهذه الآيات البينات عدة نقاط حيوية جديرة بالتنبه لها والالتفات إليها من أجل استيحاء العبر الموجهة والدروس المربية .

النقطة الأولى : هي أن إقدام كل واحد من الوالد والولد على تنفيذ أمر الله سبحانه لم يكن عن ضغط خارجي مثل خوف العقوبة الصارمة المترتبة

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٠٣ ـ ١١١ .


على المخالفة العملية للوظيفة الشرعية وإنما كان عن تسليم لأمر الله سبحانه ورضا بقضائه وهذا هو روح العبودية الكاملة والعبادة المخلصة لله تعالى وهي القسم الثالث من أقسام العبادة الذي اختاره الإمام علي عليه‌السلام لأنه يمثل غاية الخضوع وقمة الخشوع أمام عظمة الخالق المعبود بحق وجدارة حيث قال عليه‌السلام : إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .

وقد عبر الله سبحانه عن تسليمهما الخاشع أمام قضائه الواقع بقوله سبحانه : فلما أسلما . . .

النقطة الثانية : أن إقدام النبي إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل الطفل الوحيد لم يكن مشوباً بشيء من الرقة والعطف الأبوي الذي يقتضي بطبعه التريث والبطء في مقام الامتثال كما هو واضح بمقياس العاطفة البشرية وخصوصاً العاطفة الأبوية وعلى الأخص مع الطفل الوحيد الوديع الذي بلغ من العمر مرحلة تساعده على العمل في سبيل خدمة أبويه ومساعدتهما على تحقيق بعض الخدمات ولا سيما إذا كان الوالد شيخاً كبيراً كما كان بالنسبة إلى موضوع الحديث وموضع الإعجاب والتقدير .

ويستفاد ما ذكرناه في هذه النقطة من قوله تعالى : ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) حيث يفهم من هذه الكلمة ـ معنى القوة على ضوء ما ورد في تفسيرها لغة وشرحاً في كتب التفسير . قال المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كاشفه مفسراً مفردات الآية المذكورة بقوله : أسلما ـ استسلما لأمر الله تعالى وتله ـ صرعه وألقى به على الأرض (١) .

وهذا يدل على أن حرارة الإيمان المتوهجة في قلبه غلبت على

__________________

(١) تفسير الكاشف ج ٦ ، ص ٣٤٩ الطبعة الأولى .


حرارة العاطفة الأبوية لتصبح بحكم العدم ، وهذا هو المتوقع من المؤمن الرسالي المثالي الذي باع نفسه وماله وأولاده وكل ما يتعلق به في هذه الحياة لله تعالى ، بأنّ له في مقابل ذلك جنةً عرضها السموات والارض أعدت للمتقين .

والسر في ذلك هو أن المؤمن الواعي الواقعي يرى بعين فطرته الصافية وبصيرته النافذة أن نفسه وماله وأولاده وكل ما هو تحت يده وتصرفه في هذه الحياة هو ملك لله تعالى المالك الحقيقي للكون كله بما فيه الإنسان ولذلك يجب عليه أن يصرفَه ويتصرف به وفق مرضاته وإذا طُلب منه تسليمه له وإعادته إليه وجبت عليه المبادرة إلى التسليم عملاً بقوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (١) .

وقد أدرك بعض المؤمنين هذه الحقيقة الإيمانية وتعامل مع حادثة وفاة ولده البالغ من العمر عشرين عاماً ـ على هذا الأساس وحاصل قصته أن هذا الوالد المؤمن الواعي كان مشغولاً بإلقاء محاضرة على طلابه في مدرستهم وفي الأثناء بلغه نبأ وفاة ولده هذا فقابل هذا النبأ بالصبر والتسليم وقوة الإرادة الإيمانية واستمر على إلقاء المحاضرة وبعد فراغه منها سأله أحد طلابه عن مضمون النبأ الذي بلغه أثناء المحاضرة فأخبره بكل هدوء واطمئنان وكأنه لم يحدث شيء يذكر .

وهذه ظاهرةٌ غريبة وعجيبة تلفت النظر وتثير الاستغراب والإعجاب في الوقت نفسه ، وعندما سألوه عن سبب ضبط أعصابه ومقابلته هذا النبأ

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٥٨ .


العظيم بصبر وتسليم أجابهم بلسان المؤمن الواثق بعدالة السماء الراضي بالقدر والقضاء :

أنا لم أُفاجأ بما حصل لأني كنت مؤمناً منذ البداية بأن ولدي كان أمانة عندي لله تعالى وأنا أحمد الله سبحانه وأشكره على أن أبقى أمانته عندي طيلة عشرين سنة ولم يأخذها قبل ذلك . وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :

وما الناس والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوماً أن ترد الودائع

والنتيجة الإيجابية المترتبة على الاعتراف بهذه الحقيقة الإيمانية والعمل بمقتضى هذا الاعتراف .

هي أولاً : حصول الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم لإرادته والصبر على حكمه ومشيئته القاضية بفراق المحبوب كالولد أو أي عزيز من الأقرباء أو الأصدقاء ومثله فراق الصحة أو المال ونحو ذلك من متاع الدنيا أو وقوع المكروه من مصائب الزمن ونوائب الدهر ـ ولا شك أن الرضا بقدر الله والتسليم لأمره يخفف من وقع المصيبة ويسهل على المؤمن تحملها .

وثانياً : ترتب الأجر العظيم والثواب الجسيم على الصبر والرضا بقضاء الله الرحيم الحكيم مضافاً إلى سقوط الحساب عنه ليدخل الجنة بغير حساب ولا عتاب وتلك فائدة جسيمة ومنفعة عظيمة يستفيدها المؤمن بتسليمه لقضاء ربه العادل وصبره على ما يقدره له من فراق محبوب أو وقوع مكروه ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٠ .


وقال سبحانه :

( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .

وقد تحدثتُ حول فوائد الصبر المعجلة في الدنيا والحاصلة في الآخرة بصورة تفصيلية في الجزء الأول من ( وحي الإسلام ) صفحة ١٢٦ ، والذي يهون المصيبة على المؤمن ويجعله في حالة تصبر وجلد هو إيمانه بالعوض الأكبر والجزاء الأوفر يوم القيامة .

فإذا فقد صحته وصبر على المرض نال بذلك الصحة التامة والسلامة الدائمة في دار الخلود .

وإذا فقد أحد أولاده عوضه الله عنه بالولدان المخلدين مع جمع شمله بمن فقده من ولد أو أي عزيز آخر إذا قدر للفقيد أن يكون من أهل النعيم بسبب من الأسباب .

وإذا فارق زوجته عوضه الله عنها بالحور العين وجمع شمله بها ـ أي بزوجته إذا قدر لها أن تكون من أهل الجنة .

ولو فقد مالاً أو نعمة من نعم الله في هذه الحياة نال عوضها الثراء الحقيقي الدائم والنعيم الواقعي الخالد عندما يقابل مصيبة ابتلائه بفقد ما يحب أو من يحب ـ بالصبر والتسليم لقضاء الله الرحمن الرحيم وذلك هو السر في الصبر العظيم الذي تجمل به الأنبياء والأوصياء والسائرون على

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧ .


نهجهم من الأولياء والصلحاء .

لأن إيمانهم الجازم بأن الله يجازيهم على صبرهم ورضاهم بتقديره لهم فقد ما يحبون أو حصول ما يكرهون ـ بتعويضه عليهم وتقديمه لهم ما هو المحبوب لهم من أنواع النعيم على وجه الدوام والخلود وكذلك يجازيهم على صبرهم ورضاهم بما قدره الله لهم من المكروه وذلك بتسليمهم من المكروه الأكبر والعذاب الأخطر يوم القيامة .

أجل : إن إيمانهم بذلك يُهون عليهم مصيبة فقد المحبوب وحصول المكروه فيقابلونها بالصبر الجميل والرضا بحكم الله الجليل .

ويستفاد ذلك من قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما قابله المشركون بكل أنواع الأذى والمكروه : « إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي » . وقول سبطه الحسين عليه‌السلام حينما ذبح طفله الرضيع على يده يوم عاشوراء : ( هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب ) .

وبذلك يعرف السر في اتصاف المؤمنين الواعين المخلصين بجميع الصفات الكمالية المحبوبة لله تعالى والمقربة منه والمسببة لنيل رضاه ومجازاتهم على الاتصاف بها والعمل بمقتضاها ـ بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية وتأتي صفتا الشجاعة والكرم في الطليعة بين الصفات المثالية التي يتجمل بها المؤمنون المخلصون وبذلك كانوا السباقين إلى ميادين التضحية والفداء في ساحة النضال والدفاع عن المبدأ الحق ولو اقتضى ذلك بذل النفس النفيسة وبالطريق الأولى أن يكونوا السباقين في ميدان البذل والجود بالمال في سبيل تحقيق الهدف المذكور والسبب في ذلك هو ما تقدم ذكره من أن المؤمن الواعي يؤمن بالخلف والثمن الثمين الذي يأخذه من الله سبحانه عوضاً عما يقدمه في سبيله من النفس العزيزة والأولاد الأحباء والأنصار الأوفياء فضلاً عما يقدمه مما هو أقل قيمة من ذلك وهو الأموال


ونحوها مما يترتب على تقديمه في ساحة الجهاد المقدس أثر إيجابي ونصر معنوي أو مادي للمبدأ الحق ونظامه العادل الكامل .

وقد أشار إلى ذلك سيد البلغاء والموحدين علي أمير المؤمنين بعد سيد المرسلين بقوله : من أيقن بالخلف جاد بالعطية . والمقصود بالخلف اليقين والثمن الثمين الذي يأخذه المؤمن من الله سبحانه بدلاً عما يقدمه في سبيله ـ هو الجنة الخالدة ونعيمها الدائم مع رضوانه الأكبر .

ويستفاد ذلك من قوله تعالى :

( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

كما يستفاد ذلك من آية أخرى مع التصريح بالعوضية التي وعد الله بها عباده المؤمنين العاملين وهي من نفس السورة التي وردت فيها الآية السابقة وهي قوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٢) .

وروي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أن المؤمن لا يكون بخيلاً ولا جباناً وحيث أنهم بلغوا القمة في الإيمان الصادق الراسخ فقد بلغوا الذروة في الكرم والسخاء والتضحية والفداء .

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٧٢ .

(٢) سورة التوبة ، الآية : ١١١ .


ويأتي كرم الحسين النادر وتضحيته بنفسه النفيسة وأبنائه الأحباء واخوانه الأعزاء وأنصاره الاوفياء الأصفياء ـ في سبيل نصرة الحق مردداً بلسان الحال :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

أجل : قد جاءت تضحية سيد الشهداء بذلك كله لتكون المثل الأعلى والنموذج الأكمل للمؤمن المسلم الذي سلم أمره لخالقه وسلمه كل ما طلب منه تسليمه له من أمانة النفس والأولاد والاخوان والأنصار والأعوان ونال بذلك عز الدنيا وسعادة الآخرة ورضواناً من الله أكبر .

وهذا وذاك هو الذي دفع بالكثيرين من أبناء الجيل المعاصر للاقتداء به والسير على نهجه في كربلاء جديدة وعاشوراء مجيدة وصدق الشاعر عندما قال في حقه :

ما كان للأحرار إلا قُـدوة

بطلٌ توسد في الطفوف قتيلا

بعثته أسفار الحقـائق آيةً

لا تقبل التفسير والتأويلا

لا زال يقرؤها الزمان معظماً

في شأنها ويزيدها ترتيلا

يدوي صداها في المسامع زاجراً

من علَّ ضيماً واستكان خمولا

النقطة الثالثة : التي تضمنتها الآيات المذكورة في سورة الصافات هي أن الله سبحانه أراد بإجراء الامتحان للنبي ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ـ بالنحو الذي طلبه منهما في الطيف وشاءت إرادته الحكيمة أن يحصل لهما العلم بأن التكليف الذي وُجه إليهما في المنام تكليف واقعي حقيقي يُراد امتثاله كالصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوهما من الواجبات الشرعية الإلهية .

أجل : أراد الله سبحانه بهذا الامتحان الصعب أن يُظهر مقام هذين


النبيين العظيمين وأنهما مستعدان لأن يقدم أحدهما نفسه والآخر ولده قرباناً لله تعالى وطلباً لمرضاته هذا من جهة .

ومن جهة أخرى أراد الله سبحانه أن يقدم منهما قدوةً مُثلى وأسوة فضلى للأجيال المؤمنة عبر التاريخ لتقتدي بهما في مجال الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر .

وقد شاء الله تعالى أن يخلد ذكرهما العاطر وذكراها الحافلة بكل أنواع التضحية والفداء ـ وذلك بجعل تقديم الهدي من الشعارات الواجبة في حج التمتع على من استطاع إليه سبيلاً . وفي اليوم العاشر من ذي الحجة وفي نفس المكان الذي أقدم النبي ابراهيم على تقديم ولده فيه قرباناً لله وامتثالاً لأمره باعتقاد أن ذلك كان هو الذي أوجبه الله عليه في المنام وحيث أن الواجب الذي كان مطلوباً منه في الواقع هو نفس الإقدام على ذبح ولده ، هذا لأن ذلك كافٍ لنجاحه في الامتحان وظهور أنه مستعدٌ للإقدام على تقديم ولده في سبيل الله فيُعرف مكانه الرفيع عند الله وتُرسم بذلك القدوة المثلى والأسوة الحسنة للآخرين كما أراد رب العالمين ـ وقد تحقّق منه ذلك الإقدامُ وترتب عليه الغرض المنشود ولذلك أخبره الله بالحقيقة بقوله تعالى :

( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٠٤ و ١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ .


الحكمة من تشريع وجوب الرمي والذبح والحلق أو التقصير يوم العاشر من ذي الحجة

وهناك حكمة أخرى وراء تشريع وجوب الذبح وتقديم الهدي على المتمتع في حجه ـ أي على من وجب عليه حج التمتع في اليوم العاشر من ذي الحجة وفي منى .

وهي أي حكمة وجوب تقديم الهدي ـ إطعام الفقراء من لحمه فيكون ذلك وسيلة من وسائل تفقدهم بالبر ومد يد الإحسان إليهم بتقديم ذلك لهم ـ وكان يستفاد سابقاً من تقديم هذا الشعار ـ أي الهدي بأكل الفقراء حالاً من لحمه ـ كما كانوا يجففونه ليستفيدوا منه في مستقبل أيامهم والملحوظ أن هذه الحكمة جمدت وتلك الفائدة فقدت بالنسبة إلى الفقراء من زاوية هذا الشعار ـ أي تقديم الهدي حيث لا يستفيد منه الفقراء معجلاً ولا مؤجلاً بل تحرق الذبائح أو تدفن ليذهب لحمها هدراً . وهنا ننبه إلى أمرين :

أحدهما : يتعلق بتشريع وجوب تقديم الهدي على كل متمتع في حجه ـ حتى وإن لم يترتب أي نفع للفقراء من لحمه ـ وعلى هذا فتاوى المشهور من علمائنا الأجلاء ـ وذلك لإطلاق دليل الوجوب وعدم تقييده بترتب تلك الفائدة عليه فعلاً ، مضافاً إلى أن العبادات وما يتعلق بها من أجزاء وشروط


يطغى على إيجابها الجانب التعبدي الذي لا يُربط بحكمة صريحة وفائدة محددة ـ من أجل تقوية روح العبودية والانقياد في نفس المكلف فيقدم على امتثال الأمر بالعمل لمجرد صدور الأمر به وإن لم يعرف وجه الحكمة في تشريع وجوبه .

الأمر الثاني : الجدير بالتنبيه عليه هو ضرورة اهتمام أولي الأمر في المملكة السعودية بحفظ هذه الثروة الطائلة عن طريق تعليبها وتوزيعها على الفقراء في البلد وخارجه وما أكثرهم في هذه الأيام ولا يوجد في ذلك أي إشكال وإنما الإشكال والاستشكال في إهماله لكونه من مصاديق التبذير المنهي عنه شرعاً .

ورمي جمرة العقبة صباح يوم عيد الأضحى في منى هو الواجب الأول على الحاج في هذا اليوم وبعده يجب عليه تقديم الهدي وبعده يقوم بالواجب الثالث (١) على الترتيب المذكور ويجب عليه رمي الجمرات الثلاث في يومي الحادي عشر والثالث عشر على التفصيل المذكور في محله من كتب المناسك .

وقد اختلفت الكلمات المبينة لسبب تشريع الرمي وجعله شعاراً واجباً في الحج فالمستفاد من بعضها أن الرمي في بدايته حصل من إسماعيل عندما تصدى الشيطان له ليمنعه ويصرفه عن امتثال أمر ربه بتقديم نفسه قرباناً لله تعالى وكان تصديه له في ثلاثة مواضع وفي كل واحد منها كان إسماعيل يطرده عنه ويرميه بسبع حصيات .

والمستفاد من كلام البعض الآخر أن الحادثة حصلت مع النبي ابراهيم من أجل أن يصده الشيطان عن امتثال أمر ربه بذبح ولده قربة

__________________

(١) وهو الحلق أو التقصير .


وقرباناً لله تعالى وكان ذلك منه في ثلاثة مواضع وكان إبراهيم يرميه في كل موضع منها بسبع حصيات .

كما يفهم من كلام ثالث أن الحادثة حصلت مع الثلاثة النبي إبراهيم وولده اسماعيل وزوجه أم إسماعيل هاجر من أجل أن يصد الوالد عن تقديم ولده والولد عن تقديم نفسه والأم عن الرضا وموافقة إبراهيم على ذبح ولدهما لتقف حائلاً بين الوالد وما أقدم عليه من ذبح الولد .

ولا يبعد أن يكون الكلام الثالث أقرب لأن عملية الذبح مرتبطة بالثلاثة بالولد مباشرة وبالوالدين بطريق غير مباشر .

وقد شاء الله تعالى أن يجعل من كل واحد من هؤلاء الثلاثة قدوة مثلى لكل المؤمنين في التاريخ في كل عمل مطلوب لله سبحانه ويكون القيام به صعباً وشاقاً .

فالأب هو الشيخ الكبير يكون قدوة لكل الأباء والأم المرأة العطوف تكون قدوة لكل الأمهات في التسليم لأمر الله والرضا بقضائه .

وكذلك الابن الغلام يكون قدوة حسنة لكل فتى مقارب له في العمر وتقتضي المصلحة أن يقتحم ميدان الجهاد الأكبر والأصغر في سبيل تحقيق ما يريد الله تحقيقه من الأهداف السامية والغايات الرفيعة التي يتوقف على تحقيقها رضا الله تعالى ونفع الأمة وتطبيق أحكام الرسالة .

ولا يخفى أن المتأمل المتدبر في حكمة تشريع وجوب مناسك الحج بصورة عامة وبعضها المنطلق من مناسبة اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون هذا المنسك إشارة له من أجل إحياء ذكرى الشخص الذي حصلت المناسبة معه وارتبطت الحادثة به من جهة تاريخية .

أجل : إن المتأمل في روح تشريع هذه المناسك والغاية المنشودة من


تشريعها ـ يُدرك أن هذه الغاية أوسع من نقطة الانطلاق ومناسبة التشريع التي كانت المنطلق في البداية .

فالسعي مثلاً وإن رُبط بتلك المرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة ـ هاجر ـ وجعل تشريعه إحياءً لذكرها وذكراها ولكن الغاية الكبرى لا تقف عند هذه النقطة بل تنطلق لتمثل كل سعي في سبيل إطاعة الله تعالى ويكون ابتداؤه من صفاء النية وسلامة القصد وانتهاؤه عند الغاية الشريفة المقصودة منه والمقربة من الله تعالى والنافعة لخلقه بما يعبر عن مروءة الساعي وشهامته .

وكذلك شعار الرمي وإن انطلق من المناسبة التاريخية المذكورة ولكن الهدف المقصود من تشريعه أكبر من حادثتها وأوسع من زمانها ومكانها وإنسانها حيث يمتد هدفه إلى ساحة الذات لتُرمى فيها النفس الأمارة بالسوء فلا تطاع بمعصية الله تعالى كما يُرمى الشيطان المعنوي بحجارة التقوى والاعتصام بحبل الله والجهاد في سبيله لتبقى كلمته هي العليا وكلمة كل شياطين الإنس والجن هي السفلى ويكون رمي الجمرات في منى وفي اليوم العاشر والحادي والثاني عشر ـ رمزاً لرمي هذه الشياطين على اختلاف أنواعها وأحجامها ـ بالموقف الحر الأبي الرافض لكل أنواع المساومة والمهادنة على حساب المبدأ الأصيل والوطن العزيز والكرامة الكريمة والعزة العزيزة .

وأما الحلق أو التقصير اللذان يجب أحدهما على الحاج بعد قيامه بواجبي الرمي والذبح فإنه يكون رمزاً لزوال درن الذنوب ودنس الخطايا عن روحه ونفسه كما زال الشعر كله أو بعضه عن رأسه كما يكون رمزاً للنظافة المعنوية والزينة الروحية التي يُتوقع ممن توفق لتأدية فريضة الحج أن يتجمل بها ليكون وضعه في يومه وبعد تأدية فريضة الحج المقدسة ـ


مغايراً لما كان عليه قبلها باعتبار أن الحج لم يوجبه الله تعالى لشكله وصورته فحسب وإنما أوجبه لغاية التقوى كما يفهم ذلك من سياق بعض الآيات المتحدثة عن الحج مثل قوله تعالى :

( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

وقوله تعالى :

( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) (٢) .

وإن كان وارداً في مقام الحديث عن بعض شعائر الحج وهو الهدي ولكن القطع بعدم الفرق بينه وبين سائر الشعائر الواجبة في الحج ـ ينتج لنا بوضوح أن الغاية الأساسية من فريضة الحج بمجموع شعائرها هي التقوى .

ويؤكد ذلك التصريح في آية الصوم بأن الغاية الأساسية المقصودة منه هي التقوى حيث قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣) .

كما يؤكد هذه الحقيقة الإيمانية الآية الأخرى التي تفيد أن التقوى هي الأثر المقصود من العبادة بمعناها العام الشامل لكل العبادات وهي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .


قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وعلى ضوء تحديد الهدف ومعرفة الغاية المقصودة من تشريع وجوب فريضة الحج المقدسة ـ يستطيع الحاج أن يعرف نفسه ويعرف غيره أيضاً نتيجة حجه وهل هي النجاح والفوز بنيل الغاية المقصودة أو الرسوب وبقاؤه على وضعه السابق كالطالب الذي يرسب في امتحانه ويبقى في صفه أو المريض الذي لا يستفيد من علاجه ويبقى على حاله بدون تحسن صحي أو دارس علم النحو ليصون لسانه عن الخطأ في المقال أو علم المنطق ليصون فكره عن الخطأ في البرهنة والاستدلال أو علم الفقه ليعرف الحرام فيتركه والحلال فيفعله ثم يبقى كل واحد من هؤلاء على حاله السابق لعدم صون الأول لسانه والثاني فكره والثالث نفسه من الانحراف عن جادة الشرع .

مع أن المقصود من التفقه في الدين معرفة نهج التقوى ليسير المتفقه فيه ولا ينحرف عنه فإذا لم يترتب هذا الأثر على تعلمه كان أضر عليه من جهله كما ذكر الإمام علي عليه‌السلام حيث قال ( على ما أتذكر ) : والعالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أتم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم .

ومن أجل التوضيح ومعرفة الإنسان الناجح في مدرسة التدين والالتزام نذكر المقياس العام الذي يُعرف به الناجح والراسب في الامتحان الذي يتعرض له الطالب في هذه المدرسة فنقول :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١ .


إن المقياس الصحيح والميزان السليم الذي يُعرف به واقع الانتماء إلى مدرسة الشرع والالتزام بأحكامه كما يُعرف النجاح ودرجته في امتحان المنتمي إلى هذه المدرسة وعدم النجاح أو ضعفه .

أجل : إن الميزان الصحيح الذي يُعرف به ذلك كله هو ترتب الغاية المقصودة من تأسيس هذه المدرسة وطلب الانتماء إليها وتلقي تعاليمها وهي التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وقد استفيد الجزء الأول من هذه الغاية وهو التقوى من صريح قوله تعالى في الآية المتقدمة :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

واستفيد الجزء الثاني منها من قرن العمل الصالح بالإيمان في الكثير من آيات الكتاب المجيد من ذلك ما ورد في سورة العصر وهي قوله تعالى :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٢) .

واستفيد الثالث من صريح قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهور : « إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق » .

والمراد بالتقوى فعل الواجبات وترك المحرمات وبعبارة أوضح المراد بها الاستقامة في خط الشريعة وعدم الانحراف عنه بتأثير الأهواء الجامحة والأطماع الطامحة .

وذلك لأن المؤمن الرسالي يقارن دائماً بين نعيم الدنيا الزائل ونعيم الآخرة الخالد فيضحي بالأول عندما يكون الميل إليه والسعي في سبيل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١ .

(٢) سورة العصر ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .


تحصيله مؤدياً إلى الحرمان من الثاني .

ويستفاد ذلك من صريح قول الإمام علي عليه‌السلام : لو كانت الدنيا من ذهب وهو يفنى والآخرة من خزف وهو يبقى لآثرت الخزف الباقي على الذهب الفاني .

وكذلك يقارن هذا المؤمن باستمرار بين المشقة والمعاناة وربما العذاب النفسي أو الجسدي أو هما معاً ـ الحاصلين له من قبل الظالمين الطغاة لعدم ركونه إليهم وتعاونه معهم أو لعدم سكوته عنهم ـ وعذاب الآخرة الحاصل له بسبب ركونه إليهم المنهي عنه بصريح قوله تعالى :

( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (١) .

فيؤثر تحمل عذاب الدنيا ويصبر عليه لزواله وخفته بالنسبة إلى عذاب الآخرة .

ويأتي تحمل بلال الحبشي العذاب الجسدي والنفسي الحاصل له من مالكه أمية بن خلف بسبب إيمانه برسالة الحق الخالدة المسعدة ليكونَ الشاهد الحي المعبر عن الحقيقة الإيمانية المذكورة حيث كان يقابل ذلك كله بإباء وجلَد مردداً ذلك الشعار الخالد الذي كان ولا يزال صداه يرن في مسامع الأجيال الواعية لتستلهم منه دروساً في التضحية والإباء والصبر على البلاء الشديد في سبيل نصرة المبدأ الحق والثبات عليه من أجل نيل الجزاء .

العاجل العادل وهو الذكر العاطر والتقدير الوافر ( والذكر للإنسان عمر ثاني ) .

مع الجزاء الخالد والسعادة الأبدية التي أعدها الله سبحانه للمؤمنين

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١٣ .


المجاهدين في سبيله الصابرين على الأذى من أجل نيل رضاه بنصرة مبدئه .

وعنيت بالشعار الذي كان يردده بلال وهو يئن تحت سياط التعذيب قوله لمالكه المذكور بالسوء : أحد أحد أحد .

ومن المناسب للمقام ذكر آسية بنت مزاحم زوجة فرعون التي تحملت أشد أنواع العذاب من زوجها الطاغي فرعون بسبب إيمانها بربها وبقائها على فطرة التوحيد بعبادة خالقها الواحد الأحد . وقد ضرب الله بها مثلاً للذين آمنوا ليحي ذكرها ولتكون قدوةً لكل مؤمن يتعرض لما تعرضت له بسبب إيمانه وثباته على مبدئه . قال سبحانه :

( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

كما ضرب الله مثلاً آخر للذين كفروا بامرأتين كافرتين وهما امرأة نوح وامرأة لوط حيث كفرت كل واحدة منهما برسالة زوجها النبي وكانت تتعاون مع أعدائه الكافرين ضده ، قال سبحانه :

( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (٢) .

وقد أراد الله بضرب هذين المثالين المذكورين أن ينبه على حقيقة ويكشف شبهة ربما طرأت وتطرأ على أذهان الكثيرين وهي أن انحراف

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية : ١١ .

(٢) سورة التحريم ، الآية : ١٠ .


الزوج قد يسبب انحراف زوجته معه وخصوصاً إذا مارس الضغط عليها كما صنع فرعون مع زوجته .

ويأتي صبر هذه المرأة المؤمنة البطلة على التعذيب وتحملها المزيد من الألم الجسمي والنفسي في سبيل ثباتها على مبدئها ، ليدفع تلك الشبهة ويبين أن المؤمن البطل المعتصم بحبل الله والمتوكل عليه والمستعين به لا تستطيع أيةُ قوة مادية أن تؤثر على عقيدته وتغير من مسيرته الرسالية إذا أراد أن يثبت عليها ويستمسك بعروتها الوثقى .

وأراد سبحانه أن يدفع شبهة أخرى بالمثل الآخر الذي ضربه للذين كفروا بالمرأتين المذكورتين وهي أن المرأة ربما تتأثر بصلاح زوجها إلى درجة تصبح معها الاستقامة في خطه شبيهاً بالأمر الواقع المفروض على سلوكها ومسيرتها الرسالية .

وإذا اتفق حصول انحراف من زوج النبي أو أي مؤمن آخر أو من ولده أو أي قريب منه وصديق له ـ عن خطه كان قربه من ذلك المؤمن المستقيم عقيدة وسلوكاً ـ وسيلة لنجاته من عذاب يوم القيامة .

وقد دفع الله هذه الشبهة بالمثل الآخر بقوله تعالى :

( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (١) .

وكذلك دفع الله سبحانه شبهة واحتمال انتفاع الولد بصلاح والده وخصوصاً إذا كان نبياً مرسلاً ـ عن طريق التوسل والشفاعة إذا كان هذا الولد منحرفاً عن خط الاستقامة .

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية : ١٠ .


دفع الله سبحانه ذلك بقوله :

( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) .

وكان هذا الخطاب الموجه إلى النبي نوح في شأن ولده بعد الآية السابقة عليه التي أبدى فيها نوح احتمال حصول النجاة لولده لكونه من أهله وقد وعد الله سبحانه بنجاتهم في آية أخرى والآية السابقة على هذه الآية هي قوله تعالى :

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (٢) .

وقد رد الله سبحانه على نبيه هذا بقوله :

( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (٣) .

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٤٦ .

(٢) سورة هود ، الآية : ٤٥ .

(٣) سورة هود ، الآية : ٤٦ .


بيان سبب صبر بلال على التعذيب وعدم رجوعه عن إسلامه

وبمناسبة ذكر بلال الحبشي كمثال للمؤمن الصابر على الأذى والتعذيب في سبيل الله يناسب ذلك الإتيان على ذكر من كان السبب في إسلامه والصبر على الأذى في سبيله أَلا وهو الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حيث استطاع أن يُدخل نور الإسلام في عقله وقلبه بالحكمة والموعظة الحسنة المؤيدة من قبل الله سبحانه بالمعاجز الخارقة وأهمها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ ورغم ذلك فإن الكثيرين من المشركين ظلوا مصرين على عنادهم ومواجهين له ولمن أمن به بكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وقد أخبر عن ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت ) ومع ذلك كله ظل مستمراً على دعوته صابراً على الأذى في سبيل انتشارها وانتصارها ومقدماً لغيره من المؤمنين القدوة المثلى والأسوة الحسنة الفُضلى في الصبر والاحتساب .

كما كان قدوةً رائدةً بالتجمل بكل الصفات الكمالية قال سبحانه مبيناً هذه الحقيقة ومادحاً له بالاستقامة في سبيل الحق ولأصحابه التابعين له بإحسان :

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ


الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (١) .

وقد ترجم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبره على الأذى في سبيل مرضاة الله تعالى وتبليغ رسالته بقوله عندما قوبل بالقوة والعنف من قبل أهل الطائف على أثر توجهه إليهم لاحتماله قبولهم الدعوة ومدهم له بالنصرة :

إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .

كما قابل الإمام علي عليه‌السلام الأذى الذي حصل له بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجلد والصبر قائلاً : لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ) .

واقتدى السبطان العظيمان بجدهما الأعظم ووالدهما الأكرم ـ بالصبر على الأذى في سبيل مصلحة الإسلام والمسلمين حيث تجرع الحسن سُم الصلح مع حصمه معاوية ـ في هذا السبيل وقدم الحسين كل أنواع التضحية والفداء وصبر على كل أنواع الظلم والبلاء من أجل الغاية نفسها مردداً بلسان المقال أو الحال مخاطباً الله تعالى :

تركتُ الخلقَ طراً في هواكا

وأَيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطعتَني في الحب إرْباً

لما مال الفؤادُ إلى سواكا

وقوله أيضاً بلسان الواقع والحقيقة الإيمانية :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

امتحان النبي ابراهيم بنفسه وماله :

مرة أخرى نعود للحديث عن شخصية النبي إبراهيم عليه‌السلام لنستلهم منها المزيد من الدروس التربوية التي ترسخ إيماننا وتساعدنا على مواجهة

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٢١ .


التحديات والامتحانات الصعبة التي يتعرض لها المؤمن وهو ينطلق في مسيرته الإيمانية ويقوم بواجب وظيفة العبودية كما أمر الله تعالى بصبر وتسليم مستسهلاً الصعب ومستعذباً المر في سبيل تأدية واجبه المقدس .

وقد شاءت الإرادة الإلهية لأبي الأنبياء بطل التوحيد النبي إبراهيم عليه‌السلام ( موضوع الحديث ) أن يتعرض لشتى أنواع الامتحان والابتلاء ويخرج منها كلها بنجاح وتفوق وقد مر الحديث حول ابتلائه أولاً بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله الصغير إسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتركهما هناك ويرجع من حيث انطلق وقلبه معهما وعين عاطفته مشدودة إليهما .

وقد نجح بهذا الامتحان الصعب عندما سلم أمره لأمر الله تعالى وصبر على قضائه ليقضي أمراً كان مفعولاً ويحقق بهذه الهجرة المباركة هدفاً كبيراً وغاية سامية وهي تشييد بيت الله الحرام وبناء الكعبة مادياً ومعنوياً بتوجه كل المسلمين من أقطار العالم إليها بصلواتهم وغيرها من الشعائر الدينية التي يُعتبر في صحتها التوجه إلى الكعبة المشرفة وقد مرت الإشارة إلى ذلك كما مر الحديث حول ابتلائه ثانياً وامتحانه بالابتلاء الآخر الأشد والأصعب وهو أمره بذبح طفله الصغير الوحيد اسماعيل ـ وتقديمه قرباناً وقربة لله تعالى وقد عرفنا كيف قابل هذا البطل العظيم وولده الكريم الصغير سِناً والكبير شأناً وإيماناً ـ ذلك الامتحان الصعب بتسليم وخضوع لإرادة الله تعالى ونالا بذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير وكافأهما الله عليه بما نالاه في هذه الحياة من التقدير والإكبار والمدح والإطراء الذي سجله الله بأحرف من نور على صفحات كتاب الخلود ورسالة العصور وهو كتابه الخالد ـ مضافاً إلى ما أعده لهما من الثواب الجزيل والمرتبة السامية في دار البقاء ومقر الجزاء وهي مرتبة المؤمنين الصابرين الراضين بالقدر


والقضاء المقصودين بقوله تعالى :

( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٢) .

وقد شاءت الإرادة الإلهية أن يُمتحن أبو الأنبياء بأقصى وأصعب أنواع الابتلاء وهو الامتحان بالنفس وبعده الامتحان بالمال وقد تقدم الحديث عن امتحانه بالولد ونجاحه العظيم الذي أحرزه بهذا الامتحان العظيم .

وكان امتحانه في نفسه يوم تعرض للإحراق الفظيع بتلك النار الكبيرة على يد طاغية عصره النمرود وزبانيته وكان إقدامهم على إحراقه بسبب تحطيمه أصنامهم وتسفيه أحلامهم الأمر الذي أشعل نار الحقد في قلوبهم وأرادوا أن يحولوه إلى نار مادية يحرقون بها خصمهم الثائر عليهم فأضرموا تلك النار الكبرى التي جُمع لها الكثير من الحطب خلال فترة طويلة على يد السائرين في طريق ذلك الطاغي المتعاونين معه على الإثم والعدوان .

وأرادوا أن ينفسوا عن حقدهم الدفين وبغضهم اللئيم فوضعوه في المنجنيق وقذفوه به إلى وسط تلك النار الجبارة .

وتتجلى حقيقة التوحيد الخالص عند هذا البطل التوحيدي العظيم ـ برفضه قبول كل أنواع المساعدة على إنقاذه مما تعرض له من الإحراق والاحتراق وكان الذين عرضوا عليه المساعدة ملك الهواء وملك المطر

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧ .

(٢) سورة الزمر ، الآية : ١٠ .


وجبرائيل ذي القوة المتين فاعتذر من قبول المساعدة منهم راغباً في ترك الأمر إلى إرادة الله سبحانه ليتم الامتحان وليقضي سبحانه أمراً كان مقدراً ومفعولاً .

وعندما اعتذر من قبول المساعدة على إنقاذه من قبل جبرائيل قال له جبرائيل هذا : إذن ادع الله سبحانه ليفرج عنك ويخلصك من هذا البلاء الكبير الخطير فرد عليه ( أي على جبرائيل ) قائلاً :

علمه بحالي يغنيه عن سؤالي .

وبعد أن نال النجاح العظيم في هذا الامتحان العسير ـ قدم الله له سبحانه الجائزة التكريمية الكبرى المعجلة في هذه الدنيا ـ بأن جعل عليه تلك النار برداً وسلاماً ـ وأخرج له الماء من قلب تلك النار وخلق له السمك في ذلك الماء ـ ليحصل بذلك ما هو مضطر إليه من الطعام والشراب خلال فترة وجوده في سجن تلك النار .

وقد تحقق له ما أراده الله سبحانه حيث أخذ يشوي السمك بتلك النار ويأكله ويشرب من ذلك الماء ـ وهكذا تصنع القدرة الإلهية فتحول ما جُعل سبباً لهلاك المؤمن ـ إلى سبب لحياته وذلك عندما يجاهد في سبيل الله ويتوكل عليه ويتقيه حق تقاته فإنه بذلك يستحق أن يفي الله له بما وعده به من النصر والفرج والكفاية والإغناء عن غيره من لئام خلقه .

قال سبحانه : ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (١) .

وقال تعالى : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (٢) .

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٧ .

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣ .


وقال عز وجل :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (١) .

والدرس الذي يمكن أن نستفيده من هذه الحادثة الكبيرة الخطيرة ومن ذلك الامتحان الأشد والأصعب ـ هو درس في توطين النفس وحملها على الجلد والصبر على أصعب وأشق أنواع الابتلاء ليكون ذلك سبباً لتحصيل الأجر العظيم والثواب الجسيم ونيله الدرجة الرفيعة عند الله سبحانه وأوليائه الصالحين مضافاً إلى السلامة من العذاب الأكبر والعقوبة الأشد بالإحراق والاحتراق بنار الآخرة التي أعدها الله تعالى للكافرين والمنافقين والفاسقين المنحرفين عن خط الاستقامة مع إصرارهم على الانحراف وعدم العودة إلى الاستقامة من باب التوبة قال سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) (٢) .

وعلى العكس من هؤلاء مصير أولئك المؤمنين المتقين قال سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (٣) .

وأما امتحان النبي ابراهيم بماله ونجاحه في هذا الامتحان على غرار نجاحه في الامتحانات الأخرى السابقة .

فيظهر من خلال الاطلاع على القصة التالية :

__________________

(١) سورة الطلاق : الآيتان : ٢ ، ٣ .

(٢) سورة البينة ، الآية : ٦ .

(٣) سورة البينة ، الآيتان : ٧ و ٨ .


وحاصلها أنه كان ذات يوم في المرعى ليرعى قطيعاً كثيراً من الغنم له فسمع ذاكراً لله يقول : سبوح قدوس سبوح قدوس .

فهز هذا الذكرُ الجميلُ كيانه واهتز به طرباً لمحبوبيته له في ذاته ولعدم وجود من يذكر الله سبحانه من أبناء قومه بسبب ضلالهم وعكوفهم على عبادة الأصنام ولذلك أراد أن يكافأ ذلك الشخص الذاكر لله تعالى ويشجعه على قيامه بهذه العبادة المقدسة فقال له :

أعد عليّ هذا الذكر ولك نصف هذا القطيع فلبى ذلك الشخص طلبه وأعاد الذكر ثانياً فزاد سروره وابتهاجه وطلب منه أن يعيده ثالثاً ليقدم له القطيع كله فلبى طلبه وقدم له الخليل والكريمُ الجليلُ القطيعَ كلَّه .

وبعد نجاحه بهذا الامتحان ونيله الثواب العظيم والأجر الجسيم والذكر الخالد الجميل ـ كشف الله له الستار عن الواقع وبين له أن الذاكر لله تعالى هو جبرائيل وقد كلفه الله تعالى لأن يقوم بهذا الدور كما كلف إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وكلف إسماعيل بتقديم نفسه ـ قرباناً وقربة لله تعالى ـ على وجه الامتحان وبيان مقام هذين النبيين العظيمين عند الله وقوة إيمانهما به وتسليمهما لأمره بحيث أصبحا لذلك مستعدين لأن يقوما بما أمرهما الله به مهما كان صعباً وشاقاً وبالقصة الأخيرة نعرف مدى نجاح خليل الله في كل الامتحانات التي عرضت عليه وتعرض لها ـ حيث نجح بالإقدام على الاحتراق بنار غضب النمرود وأتباعه في سبيل توحيده الصادق عقيدة وعملاً .

كما نجح بالإقدام على تقديم ولده الوحيد الصغير وبذل ماله الكثير في هذا السبيل .

وشاركه ولده إسماعيل في نيل أعلى درجات النجاح في الامتحان


الصعب ـ بالإقدام على تقديم نفسه فداء وقرباناً لله تعالى كما أقدم والده الخليل الجليل على تقديم نفسه للاحتراق وتحمل ألمه الشديد في سبيل الله تعالى .

وأما والدته هاجر فقد نجحت أولاً في امتحان الهجرة ومضاعفاتها الصعبة كما تقدم ونجحت ثانياً مع والده في إقدامهما معاً على تقديمه قرباناً وقربة لله سبحانه .

وهكذا شاء الله تعالى لأفراد هذه الأسرة المسلمة أن تتعرض لأقسى الإمتحانات وتنجح فيها كلها وأراد سبحانه أن تسجل ذكراهم في سجل الخلود كتابه الخالد وعلى صفحات التاريخ الصادق ليكون الوالد قدوة حسنةً لكل الأباء عبر التاريخ في الاستعداد لتقديم النفس النفيسة والولد العزيز في سبيل مرضاة الله سبحانه ونصر مبدئه ـ وليكون الولد قدوة مثلى لكل الأبناء في الانقياد لإرادة السماء وإطاعة الآباء في سبيل تحقيقها .

ولتكون الوالدة قدوة مثلى وأسوة فضلى للنساء في الإنقياد لإرادة الزوج عندما يطلب من زوجته تحقيق إرادة الله وامتثال أمره وشاءت الإرادة الإلهية أن تتكرر هذه النوعية في التاريخ لتبقى القدوة مشرقة والحجة على المتخلفين قائمة حتى بلغت الذروة في شخصية الحسين عليه‌السلام الذي اختصر تاريخ الأنبياء ومن سار على خطهم من الأوصياء والأولياء الصالحين وذلك بتقديمه فعلاً وممارسة كل أنواع التضحية والفداء في سبيل نصر كلمة السماء لتبقى هي العليا وكلمة أرض الهوى والشيطان هي السفلى .

وبذلك يظهر السر في وراثته عليه‌السلام لتلك الكوكبة من الأنبياء الذين سطعوا في سماء القيم نجوماً لامعة وكواكب متألقة .


وتفهم هذه الوراثة بوضوح من زيارة وارث التي يخاطب فيها الإمام الصادق جده الحسين عليه‌السلام قائلاً :

( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله السلام عليك يا وارث نوح نبي الله السلام عليه يا وارث إبراهيم خليل الله السلام عليك يا وارث موسى كليم الله السلام عليك يا وارث عيسى روح الله السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله .

السلام عليك يا وارث علي أمير المؤمنين ولي الله ) .

وكما تكررت القدرة المثالية والأسوة الحسنة عبر التاريخ لتكون منارة هادية تسير على ضوئها الأجيال الصاعدة في سبيل إدراك الأهداف السامية والغايات الرفيعة المنسجمة مع روح الغاية الكبرى والهدف الأعلى وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والانطلاق في رحاب شريعته السمحاء نحو هدف الفضيلة والعلاء والسعادة والهناء أجل : كما تكررت هذه القدوة الجليلة النبيلة في التاريخ .

تكررت في مقابلها النماذج المنحرفة عن خط السماء لتكون امتداداً لمن سبقها إلى الإنحراف والإنجراف بتيار الهوى والبعد عن منهج الفضيلة والهدى .

وقد بلغ هذا الإنحراف ذروته في شخص يزيد الذي كان وارثاً لكل الطواغيت في التاريخ ومجدداً لكل ما سبقوا إليه وقاموا به من الظلم والاستبداد والانحراف عن خط الفضيلة والرشاد الأمر الذي أوجب على سيد الشهداء أن يثور عليه ليقف في وجه تيار انحرافه ويضع حداً لكفره وفجوره ويصون بذلك كل رسالات السماء بصيانة رسالة جده التامة الخاتمة التي حملت في طيها كل المبادىء الأساسية المقومة لطبيعة الدين


بصورة عامة وهي القاسم المشترك بين كل الديانات السماوية المعبر عنها بالإسلام في قوله تعالى :

( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) (١) .

وقوله سبحانه :

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٢) .

وهكذا بقيت نماذج الصلاح والإصلاح ونماذج الفساد والإفساد تتكرر وتتجدد حتى وصلت إلى كل زمان وبلغت كل مكان تصارعت فيه وفوقه مبادىء الحق والفضيلة ومبادىء الباطل والرذيلة وهذا ما عناه الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء .

وعلى ضوء هذا المفهوم الثوري العام يصح أن نقول مخاطبين سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء وعنوان العزة والإباء :

ذكراك فـينا ثـورةٌ تتجددُ

يمضي الزمانُ ونورها متوقد

فإذا طغى فـينا يزيدٌ ظـالم

يلقاه منتفضاً حُسينٌ مُرشد

ليظل شرعُ الحق نهج تقدم

نرقي به نحو العلاء ونصعد

ونعيش في ظل الإبـاء أعزةً

أبداً لغير إلهنا لا نسجدُ

من أجل ذا جاءت قوانين السما

وأتى ليكملَها النبي محمدُ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩ .

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٨٥ .


فلسفة الابتلاء السماوي وحكمته

بعد أن ذكرت أنواع الابتلاء التي تعرض لها النبي ابراهيم عليه‌السلام وبينت السبب الأساسي الذي ساعده على تحملها بصبر واحتساب ونيل درجة النجاح الراقية بهذا الصبر والتحمل .

أجل : بعد بيان ذلك ترجح عندي نقل حديث مطول ومفصل نشر في الجزء الأول ـ من وحي الإسلام ، تحت عنوان فلسفة الابتلاء صفحة ١٠٥ .

وذلك لانسجامه مع الحديث الذي انطلقتُ به في رحاب شخصية النبي إبراهيم عليه‌السلام وشرحت فيه مواقف هذا البطل التوحيدي من تلك الابتلاءات فيكون متمماً للحديث المذكور وممهداً لاستفادة الدروس التربوية الكثيرة منه بالنسبة إلى الشخص الذي لم يصل إليه الجزء الأول المذكور وهو كما يلي :




بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد :

( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) . صدق الله العلي العظيم

إذا كان المراد من البلاء الوارد في قوله تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم ) هو الابتلاء والامتحان يتوجه حينئذ سؤالان .

الأول : ما معنى أن يمتحن الله عباده وهو العالم بأوضاعهم وأحوالهم قبل وجودهم في هذه الحياة وبعده إلى أن يرث الأرض ومن وما عليها وبذلك يرتفع موضوع الاختبار الذي يصدر من أجل معرفة حال الممتحن كالأستاذ يَمتحنُ طلابه ليعرف الناجح وغيرَه والأب ولدَه ليعرفَ بره وعدمه والصديقُ صديقَه ليعرف إخلاصه والزوجةُ زوجَها وبالعكس

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧ .


ليعرف كل واحد منهما وفاء الآخر وإخلاصه له وهكذا .

السؤال الثاني : ما معنى أن يبتلي الله عباده بهذه المحن والمصائب وهو أرحم الراحمين الذي سبقت رحمتهُ غضبَه ووسعت كل شيء ؟

وحاصل الجواب على السؤال الأول أن الامتحان مرةً يكون للتعرف على حال الممتحَن والإطلاع على وضعه وأخرى يكون من أجل أن يعرف الإنسانُ نفسه ويطلعَ الآخرون على واقع حاله من حيث قوة الإيمان وضعفه والممتنع في حقه سبحانه هو الأول دون الثاني كما هو واضح .

وفلسفة هذا الامتحان بمعناه الثاني هي أن الكثير من الناس يكون في حال الرخاء والسلام على حالة جيدة من الالتزام الديني والبروز بالمظهر الحسن الذي يُوحي للآخرين بأن أحدهم قد بلغ المرتبة العالية في الالتزام الشرعي وربما طرأ عليه الإعجاب والغرور بحاله وحصل له الاطمئنان بأنه قد بلغ هذه الدرجة .

وحيث أن الله هو الحق فلا يرضى من الإنسان إلا بالإيمان الحق القائم على أساسٍ ثابتٍ وراسخ ولا يُعرف واقع ذلك إلا بعد مرور الشخص بتجربة صعبةٍ ومحنة شديدة أشار الله سبحانه إلى بعض أنواعها بالآية المذكورة .

وفي حال إصابته بشيء من ذلك إذا بقي على وضعه الأول من الالتزام بخط السماء بالإيمان الصادق والاستقامة في خط التقوى ـ يُعرف أنه قوي العقيدة وثابت الموقف لا تزيده المصيبةُ إلا ثباتاً على منهج الحق بعقيدته واستقامته وتسليمه لقدر الله سبحانه ورضاه به منتظراً أحد أمرين إما الفرج والسلامة ليقابل ذلك بشكر الله سبحانه على تفضله باستجابة دعائه وكشف بلائه أو استمرار المصيبة وبقاءَها إلى أجل غير مسمى ليقابل


ذلك بالاستمرار على الصبر والتسليم وينال ثواب الصابرين وجائزتهم التي أشار الله سبحانه إليها بقوله في آخر الآية المذكورة :

( أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .

وإذا حصل منه تبدل وتغير في الوضع بتحوله من موقف الالتزام والاستقامة في العقيدة والسلوك إلى موقف الانحراف عنه فإنه بذلك يظهر واقعُه أمام نفسه والآخرين وأن التزامه الذي كان عليه لم يكن قائماً على أساس ثابت بدليل اهتزاز موقفه وتغير تصرفه من الاستقامة إلى الانحراف ليكون مصداقاً لقوله تعالى :

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (٢) .

وكما يكون الامتحان بالمصيبة كذلك يكون بالنعمة والتكليف الحقيقي الواقعي الذي صدر من المولى بقصد العمل والامتثال أو الظاهري الذي لم يصدر لذلك بل لمجرد الاختبار والامتحان فقط ونجاح المؤمن في امتحان النعمة يكون أولاً باعترافه بكونها من الله سبحانه وتوفيقه وليست لمجرد توفير الأسباب المادية العادية المتعارفة فيكون ذلك منطلقاً من إيمانه بمؤدى قوله تعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) (٣) .

وثانياً بصرف هذه النعمة في سبيل إطاعته تعالى انطلاقاً من إيمانه بأنه سبحانه إنما وفقه لنيل هذه النعمة ومَنَّ بها عليه من أجل أن يستعين بها

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ١١ .

(٣) سورة النحل ، الآية : ٥٣ .


على إطاعته وعبادته التي خلقه من أجلها وبنجاحه في هذا الامتحان ينال من الله جوائز معجلةً في هذه الحياة ومؤجلة إلى اليوم الموعود .

أما الأولى فتتمثل بزيادة النعمة ودوامها وطول العمر ودفع البلاء وقد أبرم إبراماً كما تقدم في حديث سابق .

والمصداق الواضح للمؤمن الناجح بهذا الامتحان هو النبي سليمان على نبينا وعليه أفضل التحية والسلام كما تقدم مفصلاً .

حيث اعترف بأن ملكه الواسع كان من فضل الله سبحانه وقد منَّ به عليه ليبلوه ويمتحنه أيشكر الله عليه بصرفه في سبيل إطاعته أم يكفر بصرفه في غير هذا السبيل ؟

وحيث صرفه في السبيل الأول وحقق بذلك واجبَ الشكر كان ناجحاً في امتحان النعمة ونال الجوائز العظمى والفوائد الكبرى في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم .

ويأتي قارونُ في المقابل ليكون المثال الواضح للإنسان الراسب في امتحان النعمة حيث أنكر كونها من الله سبحانه وأدعى أنها إنما حصلت له لعلمه وقدرته الذاتية البشرية وذلك هو الكفر القلبي وترتب عليه الكفر الظاهري العملي بامتناعه عن دفع الحق الشرعي الذي أمره الله به بواسطة النبي موسى عليه‌السلام ونال بذلك جزاءه العادل وخسارته الكبرى عندما خسف الله به وبداره الأرض وخسر بذلك الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين .

وأما النجاح في امتحان التكليف الواقعي فهو يكون بالالتزام به إيماناً وعملاً مهما كانت الصعوبات ما لم تصل إلى درجة الضرر أو الحرج لأن الشارع يرفع عنه الإلزام في أحد هذين الفرضين إلا مع فريضة الجهاد


المقدس الذي يتوقف عليه حفظ الدين من الزوال وتحرير الوطن من الاحتلال وإنقاذ الشعب من الإذلال والاستغلال حيث يبقى على وجوبه والإلزام به مهما كانت التضحية جسيمةً لأن الهدف أسمى والغاية أعلى وأغلى .

والناجح في هذا الامتحان ينال جائزته المعجلة بتحصيله مصلحة الواجبات بفعلها وسلامته من مفسدة المحرمات بتركها .

وإذا أراد أن يُضيف مصلحةَ المستحبات الضعيفة بفعلها مع الواجبات مع إضافته ترك المكروهات إلى ترك المحرمات ليسلم من مفسدتها الخفيفة فذلك نور على نور .

وبذلك يُعرف مصدرُ الرسوب والفشل في هذا الامتحان لأنه ( بضدها تتميز الأشياء ) وتكون نتيجة رسوبه هي حرمانه من المصلحة ووقوعه في المفسدة وهذه عقوبة معجلة .

وأما عقوبته المؤجلة فهي واضحة معلومة .

وقد نال الحسين عليه‌السلام الدرجة العالية من النجاح في امتحان النعمة بما من الله عليه من نعمة منصب الإمامة والجاه العريض والمال الكثير والذرية الصالحة المعصومة وغير ذلك من النعم والآلاء الجسيمة وذلك لأنه سخر ذلك كله وصرفه في سبيل مرضاة الله سبحانه وصون شريعته الغراء من الزوال والفناء كما نجح في امتحان التكليف الصعب الذي توجه نحوه من أجل حفظ الدين وصونه من التحريف والتزييف .

وقد نهض بمسؤولية هذا التكليف وضحى في سبيل امتثاله بنفسه النفيسة وأولاده الأحباء وإخوته الأعزاء وأصحابه الأوفياء كما عرض عياله ومن بقي من أطفاله لأقسى ألوان المشقة والعناء أيام سبيهم والانتقال بهم


من بلد إلى بلد ونال الإمام زين العابدين عليه‌السلام النصيب الأوفر من الألم النفسي والعذاب الجسمي في هذا السبيل .

أجل : لقد نال الحسين الدرجة السامية بل الأسمى والأعلى من النجاح في امتحان التكليف الشاق والصعب حيث امتثله بصبر وتجلد وهو يقول بلسان المقال أو الحال :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

ويقول أيضاً بهذا اللسان الصادق والإيمان الواثق :

رضاكَ رضاكَ لا جناتُ عَدْنٍ

وهل عدنٌ تطيب بلا رضاكا

ولو قطعـتني في الحب إرْباً

لما مال الفؤاد إلى سواكا

وكذلك نال هذا الدرجة الأرقى من النجاح في امتحان البلاء حيث واجه تلك المحن والخطوب التي نزلت عليه وأحاطت به من كل جانب ومكان بقوة صبر ورحابة صدر مناجياً ربه بقوله :

هوَّن ما نزل بي أنه بعينك يا رب .

وتبعه كل من كان معه بنيل الدرجة العالية من النجاح في هذا الامتحان العسير حيث قدموا المثل الأعلى في التضحية والفداء والإخلاص والوفاء لقائدهم ورسالتهم مستبشرين بما سينالونه من النعيم الخالد والسعادة الأبدية في ظل جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين والتابعين لهم بإحسان وحسن أولئك رفيقا .

وعلى العكس من هؤلاء أولئك الأعداء الذين سقطوا في أصعب امتحان ونالوا الذل والهوان وفي الآخرة أعظم الخسران .


نجاح النبي ابراهيم وولده إسماعيل في امتحان التكليف الظاهري

وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي ابراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام أنه مأمور بذلج ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مأمور بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ من هذا الاعتقاد إقدامه على الامتثال بالذبح فعلاً وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعاً بتقديم نفسه قرباناً لله وتقرباً منه فأقدم على التنفيذ معبراً عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله :

( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجاً لعدم كونه مطلوباً للمولى ومقصوداً له بهذا التكليف الظاهري .

وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الإمتحان الصعب عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي مَنَّ الله به عليه حال الشيخوخة والكبر وأقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قرباناً لله تعالى .

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٠٢ .


وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما أراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الإيمانية السامية .

أجل : بعد حصول ذلك كشف الله لهما عن واقع الرؤيا وأن المقصود منها واقعاً هو الإقدام على الذبح لا نفسُه وذلك بقوله تعالى :

( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولده الروحي علي بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك عندما طلب منه بأمرٍ من الله سبحانه أن يَنام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطياً لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والأمارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقي في فراشه ـ يفرض إصابتهُ لعلي عليه‌السلام ووقوعه عليه .

ومع هذا أقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداءً للرسول والرسالة كما أقدم عليٌ على أن يقدم نفسه المطمئنَّة فداءً لهما .

وقد نالا النجاح الباهر في هذا الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران . وإن كان فداء إسماعيل وصونه من الذبح ـ بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي عليه‌السلام وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم

__________________

(١) سورة الصادفات ، الآيتان : ١٠٤ و ١٠٥ .


وتقدير حكيم من أجل أن يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجاً بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته ـ .

وحاصل الجواب على السؤال الثاني أن المصيبة مرة تحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره وأخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثةً تحصل بقدر وقضاء من السماء أما النوع الأول فلا تصح نسبته إلى الله سبحانه لنحتاج إلى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من أن الإنسان مخير في أعماله وليس مجبوراً عليها .

وبذلك يندفع الإشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقاً لقوله تعالى :

( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وبذلك يُعرف الجواب بالنسبة إلى النوع الثاني من المصيبة وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لأن الله سبحانه وإن اقتضت حكمته أن يخلق الإنسان حراً مختاراً في أفعاله من الناحية التكوينية ولكنه قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سَلم وسلَّم غيره من الظلم كما أراد الله تعالى وكتب له الثواب على التزامه وامتثاله هذا التكليف .

وإذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عُجلت له في الدنيا إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك .

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١١٨ .


وأما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدراً بل لا بد أن ينظر إليها بعين العدل التشريعي معجلاً وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص إذا كانت الجناية على حياته أو أخذ الدية إذا تنازل الولي عن الأخذ بحق القصاص ووافق على أخذ الدية وكذلك إذا كان الاعتداء على أحد أعضائه . عمداً فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدَى عليه الحق بالقصاص أو الدية إذا تنازل عن الأول ورضي بها .

وإذا لم يكن الاعتداء جنايةً على النفس أو على أحد الأعضاء على وجه يوجب القصاص أو الدية بل كان مسبباً ما هو أقل من ذلك فقد أعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى :

( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ) (١) .

وإذا كان الاعتداء سبباً لإتلاف المال فالشرع يوجب على هذا المعتدي ضمان ما أتلفه لصاحبه بمثله أو بقيمته وهكذا فالله العادل بقضائه وشرعه لا يظلم أحداً ولا يسمح لغيره بظلمه ـ وإذا اعتُدي عليه وقف إلى جانبه في هذه الحياة بالتشريع العادل كما يأخذ له بحقه في الآخرة بالقضاء والفصل العادل أيضاً حتى لا يذهب حق المظلوم هدراً وربما أدت مظلومية بعض الأشخاص لأن يدخل بها الجنة إذا سببت له استحقاق مقدار من حسنات الظالم مقابل حقه المادي أو المعنوي الذي غُصب منه في الدنيا ـ وأدت نقيصة حسنات الظالم لأن يدخل بها النار حيث تغلب سيئاتُه حسناته بسبب هذه النقيصة على تفصيل وتوضيح مذكور في محله .

وبذلك يظهر أن ظلم شخص لآخر يكون رحمة للمظلوم في الآخرة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤ .


على ضوء النتيجة المذكورة ويكون ظلماً حقيقياً لنفس هذا الظالم قال سبحانه :

( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) (١) .

ويبقى النوع الثالث من المصيبة هو الذي يحتاج إلى الإجابة الواضحة المبينة لحقيقة العدل الإلهي فأقول :

إن كل الحوادث التي تجري في الحياة خارج نطاق اختيار الإنسان وإرادته إنما تحدث لأسباب تكوينية أودعها الله سبحانه في الكون لمصلحة نوعية تخدم نوع البشر وأكثر أفراده فأصل وجود الريح وهبوبها قوية أو ضعيفة لمصلحة عامة وخلق الماء سائلاً بطبعه لحكمة كما أن خلق النار محرقة لمصلحة وهكذا ـ وقد يتفق في بعض الأحيان أن تحمل الريح النار إلى زرع شخص فتحرقه كما قد يتفق أن يكون هبوب الريح بدرجة قوية ولمصلحة نوعية لا يعلمها تفصيلاً إلا الله تعالى ـ مؤدياً إلى غرق السفينة وهلاك من فيها ففي هذه الموارد التي تتصادم فيها مصالح نوع المجتمع مع مصلحة بعض الأشخاص قد تقتضي المصلحة النوعية والحكمة الإلهية . أن تبقي القانون الطبيعي جارياً على مجراه التكويني ليؤدي الخدمة النوعية الكبرى ولو أدى ذلك إلى حدوث الضرر لبعض الأفراد من باب تقديم الأهم على المهم في عالم المصالح عندما تتزاحم وتتصادم ولا يتنافى ذلك مع العدل الإلهي لأن الأضرار الطارئة على الإنسان في هذه الحياة بالقدر والقضاء إذا رضي بقدر الله وقضائه وصبر عليه ـ تُعوض عليه في الآخرة بما يُعطيه سبحانه للمؤمن من الثواب العظيم والأجر الجسيم .

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٤٦ .


وإبطالُ القانون الطبيعي بجعل النار برداً وسلاماً مثلاً كما حصل مع النبي ابراهيم ـ لا يكون إلا على وجه المعجزة ومع النبي أو الإمام والقريب منهما من الأولياء الصالحين كما هو واضح ـ .

وأما الحوادث الطبيعية التي يقدرها الله سبحانه في بعض الأحيان لتكون عقوبةً للمجرمين المتمردين على إرادته تعالى فهذه أيضاً لا تنافي العدل الإلهي بالنسبة إلى مستحقي العقوبة أولاً لاستحقاقهم لها ـ وثانياً لأن العقوبة المعجلة تخفف من المؤجلة ليوم الحشر الموعود .

وأما بالنسبة إلى المؤمنين الصابرين فالأضرار الطارئة عليهم في هذه الحياة تعوض عليهم بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية جزاءً عادلاً ومكافأةً لهم على تسليمهم لقضاء الله وصبرهم عليه حيث يدخلون الجنة بغير حساب لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٠ .


الحكمة في تشريع وجوب الوقوف في عرفات

بعد الانتهاء من الجولة الفكرية والرحلة المعنوية التي انطلقنا بها في رحاب شخصية أبي الأنبياء وأبي الابتلاء النبي ابراهيم عليه‌السلام واستيحاء الكثير من العِبَر والدروس المفيدة من سيرته الرشيدة وتصرفاته السديدة المنطلقة من التشريع السماوي والمترجمة لما فيه من قيم رفيعة ومثل سامية تلفت الأنظار وتدعو إلى الإجلال والإكبار .

أجل : بعد هذه الجولة الممتعة نعود لنكمل الحديث عن رحلة الحج المباركة بالحديث عن أبرز شعار وأروع منسك من مناسك هذه الفريضة الميمونة وهو الوقوف في عرفات الذي تتجلى فيه روح التعبد بربطه بهذا المكان الخاص وتحديده بزمانه المعلوم المحدد من طرف البداية بأول الزوال من يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة ومن طرف النهاية بالغروب منه أي من يوم عرفة مع حصره بهذا اليوم الخاص دون غيره من أيام ذي الحجة وقد نبهت سابقاً على أن الحكمة الإلهية قد تقتضي تكليف الإنسان ببعض الوظائف الشرعية على وجه التعبد من دون أن تشرح الحكمة في أصل التشريع وفي بعض الخصوصيات من أجل تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة الله تعالى مع الاعتقاد الجازم بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع بدون هدف كما لا يخلق بدون غاية ولا يوجد هناك أي موجب لأن يتعرض الله سبحانه لبيان الحكمة ولو بواسطة أنبيائه المرسلين كما لا يجب


على المكلف أن يطلع على ذلك بصورة تفصيلية ومع هذا وذاك لا مانع من استلهام بعض العبر والدروس التربوية من أصل إيجاب فريضة الحج بصورة عامة ومن كل شعار من شعاراته المقدسة على وجه الخصوص ـ على ضوء ما يستفاد من بعض النصوص الواردة عن أهل البيت وملاحظة واقع النتائج الإيجابية والمنافع الكثيرة المترتبة على تأدية فريضة الحج عامة وكل شعيرة من شعائره المباركة خاصة ويأتي موقف عرفات ليكون أحد أبرز أركان هذه الفريضة لما يترتب عليه من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة كما سيأتي ـ وقد ورد في بعض النصوص ما يعبر عن أهميته حيث ورد فيه ما حاصله ( الحج عرفة ) وقد حاول البعض أن يُرجع كلمة عرفة أو عرفات إلى مصدرها اللغوي رابطاً ذلك ومفرعاً له على حادثة افتراق آدم عن حواء بعد هبوطهما من الجنة وسَعْيِ كل واحد منهما باحثاً عن الآخر حتى مَنّ الله عليهما باللقاء وعرفَ مكانَ وجود الآخر في هذا المكان الطاهر المبارك ـ ونحن لا يهمنا معرفة مصدر هذه الكلمة من زاوية اللغة أو علمي النحو والصرف والحادثة التاريخية المذكورة بقدر ما يهمنا معرفة ما ينطوي عليه هذا الشعار من حكمة ويترتب عليه من مصلحة وفائدة وعلى هذا الأساس ستكون انطلاقتنا في رحاب الحديث عنه ومحاولة استلهام المزيد من الحِكَم والمصالح والدروس التربوية والمنافع الدنيوية والأخروية التي أشار الله إليها بقوله سبحانه : ( لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (١) مؤكداً بذلك ما هو المرتكز في ذهن المسلم الواعي المؤمن بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع أي حكم بدون حكمة كما لا يوجد أي مخلوق بدون هدف وغاية وإن لم نعرف تلك الحكمة وهذه الغاية بصورة تفصيلية .

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٢٨ .


وإذا كان لربط مبنى هذه الكلمة من الناحية اللفظية الصياغية بمصدرها وقع إيجابي في نفس القارىء الكريم والحاج العزيز فنحن نرى أن أقرب منطلق لها هو المعرفة بمعناها الإيجابي الذي اعتبره الله سبحانه علة لإيجاد الكون بما فيه الإنسان وذلك على ضوء التفسير الذي يفيد أن المراد بالعبادة الواردة في قوله تعالى :

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) .

هو المعرفة ـ وذلك لأن المعرفة الصحيحة هي مصدر العقيدة الصحيحة والعبادة المطلوبة لله تعالى المقربة منه ـ ويصح تقسيمها بلحاظ متعلقها إلى قسمين :

الأول : المعرفة الأساسية الأصلية وهي المتعلقة بأصول الدين المعهودة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ـ وقد أشرت إليها بأسلوب علمي مختصر في أكثر من حديث من أحاديث الجزء الأول من وحي الإسلام .

القسم الثاني من المعرفة : هو المعرفة المتعلقة بفروع الدين المتفرعة على أصوله وقد فرقوا بين هذين القسمين من المعرفة بأن الأول يجب أن يكون حاصلاً من الدليل القاطع الثابت لدى العارف المعتقد ولو كان ذلك الدليل مختصراً فطرياً موجباً للاعتقاد الجازم ولا يجوز فيه تقليد الآخرين مهما سمت مرتبتهم العلمية .

وأما القسم الثاني : فالمكلف مخير بين أن يحصله بالاجتهاد والدليل الصحيح المعتبر وأن يقلد فيه المجتهد الواجد لشروط

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦ .


التقليد وهي مذكورة في محلها من الرسائل العملية والكتب الفقهية وذلك لأن الأول مرتبط بالعقيدة والإيمان وهو لا ينور العقل ولا يغذي الروح ويهذب النفس لتنطلق في طريق الغاية الأساسية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ـ وهي عبادته وحده لا شريك له ـ إلا إذا نفذت إلى داخل العقل والقلب بالاقتناع الذي يحصل للإنسان من خلال تدبره الآيات الكونية المنتشرة في الآفاق والأنفس وكلها تنادي بلسان الفطرة السليمة بوجود الخالق المبدع الواحد العادل الحكيم الذي خلق الكون لخدمة الإنسان وخلق الإنسان لعبادته فاقتضى ذلك أن يبعث لبني الإنسان المكلفين ـ الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ليرشدوهم إلى الغاية التي خلقوا من أجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ويدلوهم على كيفية هذه العبادة ويمثلوا لهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لتتم الحجة وتتحقق الغاية المقصودة من الخلق والبعثة .

كما اقتضى ذلك أن يتولى الله سبحانه تعيين الحجة الشرعية والقائد العام المعصوم والأفضل من أهل زمانه على الإطلاق وبكل الصفات الكمالية كما كان النبي نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته فكما كان تعيين الرسول والحجة الأولى راجعاً إلى الله تعالى كذلك تعيين من ينوب عنه ويمثل دوره وقد عين الله ذلك وبلغ النبي ما أنزل إليه من ربه في هذه الشأن ـ ومن لوازم الإيمان بعدل الله سبحانه الإيمان الراسخ والاعتقاد الجازم بضرورة إعادة الله الخلق للحياة من جديد ليحكم بينهم بالعدل ويجازي المحسن عن إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وهو أوفى الواعدين وأصدق القائلين حيث قال سبحانه :


( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وأما القسم الثاني من المعرفة : فالمقصود منه هو العمل وفق الوظائف الشرعية المحددة للمكلف في مجال العبادات والمعاملات على ضوء اجتهاده أو تقليده ويُراد بالمعاملات معناها العام الشامل لكل التصرفات المنسجمة مع الأحكام الشرعية والمحققة لعبادة الله سبحانه والإنقياد لإرادته بكل الأعمال الاختيارية التي لا يشترط في انسجامها مع الوظيفة الشرعية قصد التقرب بها لله تعالى ـ وبعبارة أخرى أوجز وأوضح : المراد بالمعاملات بالمعنى العام ـ كل عمل يمارسه المكلف وفق الوظيفة الشرعية المقررة في كل مورد ولا يشترط في انسجامه مع هذه الوظيفة قصد التقرب به لله تعالى وبهذا المعنى العام تشمل المعاملات بمعناها الخاص وهي المتوقفة على الإيجاب والقبول من طرفي العقد كما تشمل الإيقاعات التي لا تتوقف عليهما ويحصل من الشخص الواحد كالعتق والطلاق ونحوهما والتفصيل موكول إلى محله ـ ومن المعلوم أن العمل بالوظائف الشرعية وامتثال الأحكام السماوية لا يتوقف على تحصيل العلم بها عن طريق الدليل والبرهان ولذلك كان المكلف مخيراً فيها بين تحصيلها بالاجتهاد ومعرفتها بالتقليد لواجد شروطه المعهودة كما تقدم .

وحيث انطلقنا بالحديث حول كلمة عرفة وعرفات من زاوية مفهومها الإيماني العرفاني الواسع الذي لا يختص بزمان معين ومكان محدد بل يشمُل كلّ الساحات التي يكون للإنسان فيها حركة عبادية بتأدية واجب أو مستحب وترك حرام أو مكروه ـ أجل : حيث أنا انطلقنا بالحديث حول

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ و ٨ .


العنوان المذكور ( عرفة أو عرفات ) من الزاوية الواسعة المذكورة فسيكون الحديث حول عدة عرفات متسلسلة الحلقات انطلاقاً من الساحة الصغيرة إلى الكبيرة فالكبرى حتى نصل إلى عرفات الحج في زمانها ومكانها ونحن متجملون بكل المعاني والقيم التي تساعدنا على إدراك الحكمة والغاية ولو إجمالاً ـ من تشريع الله سبحانه هذا الشعار المقدس واعتباره ركناً أساسياً من أركان فريضة الحج المباركة فأقول والله ولي التوفيق .

وقفة في عرفات النفس :

إن الحلقة الأولى من حلقات عرفات بمعناها العرفاني الإيماني هي عرفات النفس التي يجب على المكلف أن يقف فيها ابتداء من أول زوال وظهر يوم التكليف إلى وقت غروب شمسه عن سماء القدرة والتمكن . والوظيفةُ الشرعيةُ المطلوبة منه في هذه الساحة وفي إطار هذه الحلقة هي التفقه في الدين بالاطلاع على أصوله المعهودة والإيمان بها عن دليل قاطع ولو إجمالاً مع الاطلاع على الفروع الواقعة محل ابتلائه من العبادات والمعاملات مضافاً إلى ما يتمم هذا الاطلاع وتلك المعرفة وهو التجمل بالتقوى ومكارم الأخلاق باعتبار أن ذلك هو الغاية الأساسية المقصودة من خلق الإنسان وإنزال الكتب والشرائع السماوية .

وقفة أخرى في عرفات الأسرة :

وبعد الوقوف على صعيد عرفات النفس والقيام بما يجب على المكلف نحوها وهو ما ذكرناه من التفقه في الدين والعمل بمقتضاه كما تقدم يجب عليه أن يقف في عرفات الأسرة وذلك بمعرفة ما يجب عليه نحو كل فرد من أفرادها فيعرف الزوج حق زوجته ووالديه وأولاده وكذلك


الزوجة كما يعرف الولد حق والديه وبعد حصول المعرفة والتعارف يأتي دور الوقوف على صعيد هذه الحلقة الوسطى من حلقات عرفات بمعناها العام ليؤدي المكلف لكل ذي حق حقه ويؤدي بذلك ما يجب عليه في إطار عرفات الأسرة من مناسكها المناسبة لها .

وقفة ثالثة في عرفات المجتمع :

وبعد خروج المكلف من إطار عرفات الأسرة الوسطى يدخل في إطار عرفات الكبرى الأوسع مساحةً والأكثر أفراداً ليعرف ما يطلب منه من حق واجب أو مستحب نحو جاره ثم نحو أخيه في الإسلام والإيمان ثم نحو أخيه في الإنسانية لقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ، ثم سائر المخلوقات التي تشترك معه بمصدر الخلق والإيجاد وهو الله سبحانه فيقف نحو كل طبقة من هذه الطبقات الموقف الذي يحدده الشرع له وبذلك يكون قد أدى ما يُطلب منه وجوباً أو استحباباً في عرفات المجتمع وقام بمناسكها المطلوبة منه فيها .

وبتأدية ما يطلب منه في الحلقات المذكورة لعرفات بمعناها العام الإيماني يكون قد هيأ نفسه لتأدية واجبات عرفات الحج المعهودة .

الوقفة المنشودة في عرفات المعهودة :

وهي التي يستلهم منها الحاجُ الدروس المفيدة والعِبَر العديدة وهي كثيرة منها تذكر يوم الحشر الأكبر من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال ـ وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله


عنه بقوله تعالى :

( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (١) .

والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف الشديد من هول ذلك اليوم وهذا يؤدي بطبعه إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة لأن الله سبحانه :

( يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٢) .

كما وصف نفسه وتحدث في كتابه الكريم ، هذا إذا كان منحرفاً عن خط الاستقامة وأما إذا كان مستقيماً عليه فهو يستمر على استقامته بقوة وثبات أكثر وأقوى مما كان عليه قبل وقوفه على صعيد عرفات الحج وهذه فائدة كبرى جديرة بالاهتمام وبذلك الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذه الفريضة بعد وجوبها بالاستطاعة الشرعية كما تقتضي تأكد الاستحباب ورجحان السعي في سبيل تحصيلها أي تحصيل الاستطاعة تمهيداً للتمكن من الإتيان بهذه الفريضة المباركة وتحصيل فوائدها العديدة .

ومنها : حصول الانفتاح العفوي من قبل المسلمين بعضهم على بعض ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى بالسعي في سبيل تحقيق المصالح المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مذاهبها وانتماءاتها وتتمثل تلك المصالح بالمنافع التالية وهي :

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٢ .

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢ .


أولاً : المنافع المادية الاقتصادية بسبب تعارف التجار وتفاهمهم على القيام بالتبادل التجاري بأن يرسل كل بلد ما يوجد لديه من بضائع ومصنوعات ومنتوجات غير موجودة في البلد الآخر ـ إلى هذا البلد كما يحصل تبادل منافع بين الحجاج القاصدين لتأدية فريضة الحج المباركة بأن يصحب الذاهب إلى زيارة بيت الله الحرام ما يوجد في بلده من بضائع ونحوها ليبيعها في أسواق بلد الحج قبل قيامه بالفريضة أو بعد تأديتها ولا مانع من ذلك شرعاً ما دام مقصوداً بالعرض والتبع كما هو المتوقع من المكلف المتفقه في الدين والمطلع على اشتراط قصد القربة في صحة كل العبادات ومنها فريضة الحج مع الإخلاص في النية والقصد بمعنى أن يكون الدافع لسفره هو تأدية هذه الفريضة . وما عداه من المنافع المادية أو المعنوية ـ يكون مقصوداً له بالتبع بمعنى أنه لولا عزمه على القيام بمناسك الحج وجوباً أو استحباباً ـ لما سافر إلى مكة وقد صرح الله سبحانه بمشروعية الاستفادة الاقتصادية للحجاج بعد حديثه عن فريضة الحج في آية سابقة مباشرة وذلك بقوله سبحانه :

( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ) (١) .

وثانياً : المنافع السياسية وذلك من خلال تلاقي رموز الشعوب الروحية والسياسية واجتماعها على مائدة المذاكرة ومن خلال مؤتمر يُعقد على صعيد بلد الحج كما يحصل في الغالب ـ من أجل التشاور ومعرفة ما يعود على الشعوب الإسلامية ودولها ـ بالنفع والقوة المعنوية السياسية مضافاً إلى ما يعود عليها بالقوة العسكرية التي تمكنها من الصمود أمام التحديات والاعتداءات التي تتعرض لها بين الحين والآخر من قبل أعداء

__________________

(١) سورة البقرة : الآية : ١٩٨ .


الأمتين الإسلامية والعربية كما مكنها من تحرير ما احتل من أرضها .

وثالثاً : المنافع الثقافية من خلال التقاء رجال الفكر والثقافة العالية وتذاكرهم حول أهم المواد العلمية الدراسية والأدبية ونحوها مما ينفع الطلاب أكثر مع محاولة التعرف على أجدى الأساليب وأنفع الطرق التي تساعد المعلم على تعليم طلابه وإفادتهم في الحقل التعليمي بالأسلوب الواضح الراجح .

ورابعاً : فائدة الوحدة والاتحاد بين أبناء الأمة الإسلامية ونظمها الحاكمة فيها لتعود إلى سابق عهدها ومجدها يوم كانت أمةً واحدةً معتصمة بحبل الوحدة الإسلامية التي تنطلق من خلال ملاحظة القواسم المشتركة والروابط المعنوية الكثيرة وهي إيمانها بالإله الخالق المعبود الواحد مع إيمانها بالرسول الأخير الواحد الذي أرسله الله سبحانه ليكون رحمة للعالمين عامة وللمسلمين خاصة وبالكتاب الواحد الذي أنزله سبحانه على هذا الرسول الأعظم ليكون نظام أمة ودستور حياة لجميع أفراد الأمة الإسلامية بلا استثناء مع الإيمان بالمعاد الواحد والنهاية المشتركة التي يقف الجميع بعدها بين يدي العدالة السماوية لتجازي كل فرد على عمله بما يناسبه من الجزاء .

وتأتي وقفة عرفات لتؤكد أواصر الوحدة المعنوية للأمة الإسلامية بمظاهر وحدوية تذوب معها فوارق اللون واللغة والعرق والمذهب واللباس فالكل متجردون من ملابس الحياة الدنيا وزينتها ليبرزوا بمظهر واحد ويلتقوا على صعيد واحد ويهتفوا بشعار واحد وهو شعار التلبية التي يدوي صداها في مسامع تلك الجماهير الغفيرة فتبعث في قلوبها القوة والثقة بقدرة الأمة وتمكنها إذا اعتصمت بحبل الله سبحانه ـ من تحرير أرضها واستعادة عزتها وكرامتها .


ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه لكونها ـ أي الوحدة الإسلامية ـ إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها ولو إجمالاً ـ على ضوء التوجيهات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ومن خلال ملاحظة ما يتحقق على صعيد العمل والامتثال من الفوائد الملموسة بالوجدان المؤكد والمتأكد بما هو المعلوم لدى كل مؤمن واع وملتفت إلى ضرورة اتصاف الله سبحانه بكل الصفات الكمالية ومنها العدل والرحمة والحكمة ـ وتعني الصفة الأخيرة عدم صدور أي تشريع من قبل الله سبحانه بلا حكمة وعدم إيجاده مخلوقاً بلا فائدة كما تقدم بيانه مكرراً .

وبعد التفات المكلف إلى غاية التشريع يُطلب منه بذل الجهد في سبيل تحقيقها على الصعيد العملي ـ وذلك بأن يُحقق غاية فريضة الحج والصوم مثلاً وهي التقوى ـ من خلال الاتصاف بها ـ بعد أن عرف أنها من أبرز الغايات والفوائد المنشودة من وراء تشريع وجوبهما على ضوء الآيات المباركة المصرحة بهذه الغاية السامية ـ وهكذا بالنسبة إلى أية فريضة من الفرائض الأخرى كالصلاة والخمس والزكاة ونحوها من الواجبات الشرعية المباركة ـ وقد مرت الإشارة إلى الغاية المستهدفة من تشريع وجوبها فيما سبق من أبحاث هذا الكتاب .

وبإمكان الشخص الذي يقوم بدور التعريف وتعليم أحكام الحج للحجاج الذين تحمل مسؤولية تأدية فريضتهم على الوجه الصحيح من حيث الشكل والصورة أن يلفت أنظارهم إلى الحكمة المستهدفة بعد أن


يتفقه في أحكام الدين بصورة عامة والحج بصورة خاصة كمطلب شرعي يُطلب منه تحقيقه على الصعيد العملي في حق نفسه ويمهد للآخرين الذين انطلقوا معه واعتمدوا عليه ـ سبيل تأدية فريضتهم كاملة شكلاً ومضموناً صورة وهدفاً ويكون من نتائج إدراك غاية أي شعار من شعارات الحج وغيره من الواجبات الإسلامية والتنبه لأهمية هذه الغاية ـ التحرك في طريق تحقيقها على الصعيد العملي .

وللتوضيح نمثل بشعار وقفة عرفات ـ موضوع الحديث ، فإن الحاج الواعي لفلسفة هذا الشعار المبارك ينطلق في طريق تحقيقه وذلك بالانفتاح على إخوانه المسلمين المنتمين إلى غير مذهبه على أساس أن الاختلاف في ذلك كالاختلاف في الرأي بمعناه العام الذي لا يؤدي عند العقلاء الواعين من المسلمين ـ لأن يفسد للود وللوحدة قضية بل كل ما يقتضيه ذلك هو حصول الحوار الهادف الهادىء بين رموز أرباب المذاهب ـ بالحكمة والموعظة الحسنة كما أدبنا القرآن وتكون النتيجة إما الالتقاء والاتفاق نظرياً وعملياً ـ ليحصل التكامل والتعاون على البر والتقوى ويترتب على ذلك ما ينفع الجميع . أو البقاء على الاختلاف في الرأي ـ مع البقاء على احترام كل فريق لمذهب الآخر من أجل المحافظة على وحدة الموقف التي تعود على الجميع بالعزة والقوة وتمكنهم من تحقيق أهدافهم المشتركة وأبرزها التحرير وتقرير المصير .

وتبرز أهمية الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبلها المتين من خلال ملاحظة ابتداء الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته المباركة بالدعوة إلى الاعتراف بشعارها المقدس وذلك بقوله : قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا ، لأنهم عندما يتدبرون معنى هذا الشعار بعقولهم ويؤمنون بمضمونه بقلوبهم ثم يطبقونه على الصعيد العملي بسلوكهم ليضموا إلى توحيد العقيدة توحيد العبادة ـ


يصبحون بهذا وذاك أمةً واحدة كما وصفها الله في كتابه الكريم بقوله تعالى :

( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) .

وحيث أن الإسلام جاء رحمة للعالمين فقد بيّن للعقلاء كلهم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم ـ الحكمة في خلقهم شعوباً وقبائل وميولاً متنوعة ونزعات مختلفة وصرح بأن المقصود من ذلك التعارفُ والتعاطفُ والتكامل بالتعاون على تحقيق مصلحة الجميع ودفع أو رفع ما يضرهم حيث قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

وإذا لاحظنا مفردات الشعائر الإسلامية نجد أنها كلها تحمل في طيها روح الوحدة وقلب التوحيد من أجل أن ترسخ وحدة المسلمين وتبقيهم دائماً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .

فالصلاة مثلاً تجب على كل المسلمين في وقت واحد من حيث العنوان العام وإن حصل الاختلاف في بعض الخصوصيات والتفاصيل على وجه لا يضر بجوهر الوحدة وروحها ، ولذلك يصح أن نشبه الشعارات الإسلامية بالروافد والأنهار التي تختلف في مجاريها ولكنها تصب في نهاية المطاف في بحر واحد . وهكذا الشعارات الدينية وإن اختلفت بخصوصياتها المميزة لبعضها عن بعض بالشكل والصورة ولكن الجوهر واحد والغاية واحدة ما دامت تصب في النهاية في بحر عبادة الله سبحانه

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٢ .

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٣ .


وحده لا شريك له وتعود كلها على الإنسانية بصورة عامة وعلى المتعبدين بها بصورة خاصة بالخير الكثير لأنها تمثل الجانب العملي التطبيقي من الشرع الإسلامي الذي أنزله الله تعالى ليكون رحمة للعالمين .

وتمتاز فريضة الحج عن سائر الواجبات العبادية بأنها تضم إلى توحيد الأمة وجمعها في إطار الوحدة والتوحيد المعنوي ـ توحيدها الجسمي الخارجي المتمثل باجتماع العدد الكثير من أفرادها على صعيد المناسك المشتركة وخصوصاً الوقوف في عرفات والمشعر الحرام في الوقت الواحد المحدد ، ولا يخفى أن الظاهرة الاجتماعية المباركة التي تتحقق بالتقاء الأفراد الذاهبين إلى زيارة بيت الله الحرام لا ينحصر أثرها الايجابي في المجال التوحيدي ويقف على خصوص أولئك المتشرفين بتأدية هذه الفريضة المقدسة بل ينسحب ويمتد ليشمل بروحه الطاهرة وأبعاده الواسعة سائر الأفراد الذين لم يقدر لهم أن يؤدوا فريضة الحج .

وذلك من خلال الالتقاء الفكري والشعوري الذي يحصل بين ممثلي البلاد الإسلامية ورموزها مضافاً إلى اللقاء الذي يحصل بين الأفراد الآخرين حيث تزرع بذرته في حقل التعارف هناك أيام قيامهم بشعائر فريضتهم المشتركة ثم تُسقى بعد ذلك بماء المواصلة والتواصل ولو بالمراسلة ونحوها الأمر الذي يؤدي عادة إلى نمو هذه الغرسة لتصبح بعد ذلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها .

وبقدر ما تتسع دائرة التعارف بين أفراد الأمة فإن شجرته المباركة تمتد ظلالها أكثر لتشمل أكبر عدد ممكن من هذه الأفراد وبذلك يتحقق الهدف الكبير والغاية الواسعة عندما ينطبق عنوان الأمة على تلك الجماهير


الغفيرة بحيث يصح أن يقال إن الأمة بعنوانها الوحدوي المجموعي ـ قد حجت كما يريد الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صرح سبحانه بمحبته للظاهرة الاجتماعية التي تنصهر في ظلها الأفراد لتشكل كياناً موحداً واحداً وذلك بقوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (١) .

باعتبار أن وحدة صفهم حال جهادهم المقدس ضد أعدائهم يعود عليهم بالقوة التي تمكنهم من الغلبة والانتصار في جميع الساحات وخصوصاً ساحة النضال والجهاد المقدس في سبيله تعالى ـ ولذلك أمر الله سبحانه بالاعتصام بحبله المتين وأكد ذلك بالنهي عن التفرق والتنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب القوة حيث قال سبحانه :

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٢) .

وقال سبحانه :

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٣) .

وقد أشرت إلى دور الوحدة في قوة الأمة وقدرتها على تحقيق أهدافها في مجال الدفاع عن كيانها ودفع الأخطار عنها بالمقطوعة الشعرية التالية :

__________________

(١) سورة الصف ، الآية : ٤ .

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣ .

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٤٦ .


بالوحدة الكبرى يُحـقق مقصدُ

ونَنَالُ ما نصبو إليه وننشد

في ظلها الطاقات تُـحشد كلها

ويقوم صرح بالوفاق مشبد

الجمعُ يُدرك بالتـضامن دائماً

ما يبتغيه وليس ينجح مفرد

كلتا اليدين تصفـقان لمقصد

يُجنى ولا تسطيعُ تصفيقاً يد

من وحي الوقوف في المشعر الحرام :

بغروب الشمس من أفق اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام ينتهي وقت الوقوف في عرفات ليبدأ وقت الزحف المقدس باتجاه المشعر الحرام ليلة اليوم العاشر ليؤدي الحجاج الواجب التالي وهو الوقوف في المزدلفة من فجر اليوم العاشر إلى وقت طلوع الشمس .

والحكمة التي يمكن استلهامها من هذا الشعار المقدس هي أن الحجاج الكرام بعد أن توفقوا للتعارف ببركة الوقوف السابق على صعيد عرفات وأصبحوا يمثلون جبهة واحدة وصفاً واحداً قوياً قادراً على التصدي للعدو من أجل إزالة عدوانه أو منعه من القيام به ـ يُطلب منهم أن يتحركوا نحوه ويستعدوا لخوض معركة الشرف والجهاد المقدس ضده ـ وحيث أن تحصيل الأسلحة المناسبة لذلك وجمعها من مصادرها من أوضح مصاديق أخذ الأهبة والاستعداد .

يأتي جمع الحصى من المشعر الحرام ليلة المبيت فيه ليكون رمزاً وتمريناً على جمع السلاح المادي المعهود وإعداده للوقت المناسب عملاً بقوله تعالى :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ


عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١) .

كما يأتي الزحفُ صباح اليوم العاشر من ذي الحجة ـ وهو يوم عيد الأضحى ـ بعد بزوغ شمسه ـ وتحركُ الحجاج إلى مِنى لتأدية مناسكها في هذا اليوم ـ ليكون رمزاً لتحرك الجيش الإسلامي المبارك نحو ساحة العدو من أجل مفاجأته والأخذ بزمام المبادرة المساعِدَة على انتزاع النصر والغلبة غالباً .

ويأتي رمي جمرة العقبة وهو أول أعمال مِنى صباح يوم العيد المبارك ليكون رمزاً واضحاً لبدء الهجوم بالفعل على العدو ـ وحيث أن خوض المعركة يستلزم غالباً استشهاد بعض الجنود المناضلين ـ يكون تقديم الهدي وذبحه في هذا اليوم رمزاً لذلك كما أنه في الوقت نفسه تذكير بقصة إقدام إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل وإقدام ولده هذا على تقديم نفسه قرباناً لله سبحانه وامتثالاً لأمره الذي حصل لهما الاعتقاد بتوجهه من قبل الله واقعاً بقصد حصول الذبح وتحققه خارجاً .

وفي كلا الرمزين ـ رمز التذكير بحادثة ابراهيم وابنه ورمز ابتداء الاستعداد للتضحية والاستشهاد . أكثر من درس وعبرة لا تخفى على المتدبر والمتفكر في خلفيات التشريعات الدينية والشعارات الإسلامية عامة وشعارات فريضة الحج المباركة خاصة ـ وبعد قيام الحاج بالواجبين المذكورين صباح يوم عيد الأضحى في منى ـ وهما رمي جمرة العقبة وذبح الهدي أو نحره ـ يتحقق بذلك الدور المطلوب منهما والرمزية المترتبة عليهما .

أجل : بعد تحقق ذلك وترتبه على الواجبين السابقين ـ يأتي دور

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٠ .


الواجب الثالث وهو الحلق أو التقصير ليقوم بدوره ويكون رمزاً إلى إزالة آثار العدوان والاعتداء الذي يمارسه العدو ضد الإسلام والمسلمين كما يكون رمزاً إلى زوال الأخطاء والسيئات التي كانت صادرة من الحاج قبل تشرفه بزيارة بيت الله الحرام ـ إذا لم يكن معصوماً أو بحكم المعصوم ـ وأما إذا كان واحداً من هذين ـ المعصوم ومن بحكمه ـ فإن الحلق أو التقصير يكون رمزاً لإزالة العدوان كما يكون رمزاً لحصول المزيد من الصفاء الروحي والنظافة المعنوية التي تزيد صاحبها قرباً من الله سبحانه .

وأما مبيت الحاج في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وقد تضاف إليهما ليلة الثالث عشر ـ فيمكن أن يكون رمزاً لظاهرة أخرى من ظواهر ومظاهر التعبد الشرعي ـ وهو التزام جانب السكون والتوقف عن العمل والحركة في مقابل ظاهرة التحرك التعبدية الذي مارسه الحاج بإتيان المناسك السابقة على هذا المنسك الأخير .

إلى هنا نكون قد رسمنا صورة مختصرة عن مناسك الحج وما يُستوحى من كل واحد منها من دروس تربوية ترسخ العقيدة وتهذب النفس وتعدل السلوك في نهج السماء القويم وصراطه المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .

ومن أجل تتميم الفائدة وتعميق الفكرة التي رسمتها عن مناسك الحج بما تقدم بيانه أحب إعطاء صورة مختصرة عن مجموع ما تقدم الكلام حوله من مناسك الحج المباركة فأقول : إن تأدية فريضة الحج المباركة تعتبر رحلة فكرية وروحية في طريق السعي إلى الله تعالى والتقرب منه معنوياً بزيارة بيته الحرام وتأدية فريضة حجة الإسلام على الوجه المطلوب شكلاً وصورة وهدفاً وغاية ـ وأول خطوة على طريق هذه الرحلة المباركة هي الإحرام من أحد المواقيت المحددة للحجاج الكرام وهو


بالنسبة إلى فريضة الحج مثل تكبيرة الإحرام بالنسبة إلى الصلاة حيث يحرم بعدها ما كان حلالاً قبلها وارتداء ثوبي الإحرام يكون إشعاراً بدخول الحاج في حرم الله سبحانه وحدود مملكته الشرعية التعبدية كما يغير الجندي ملابسه العادية ويرتدي ملابس الجندية وطالب المدرسة أثوابه الطبيعية بثوبه المدرسي ـ وذلك لأن التغيير الظاهري يقتضي بطبعه التغيير الداخلي بتحول الإنسان المكلف من حالة التحلل والانطلاق من قيود وحدود فريضة الحج ـ إلى حالة التعبد والتقيد بنظام هذه الفريضة المقدسة بفعله ما يجب عليه فعله من مناسك الحج وتركه ما يحرم عليه فعله من محرمات الإحرام ـ هذا مضافاً إلى ما يثيره تبديل الملابس العادية المخيطة بملابس أخرى غير مخيطة بالنسبة إلى الرجل ـ من تذكر الموت وما بعده بسبب الشبه القوي بين ثوبي الإحرام وقِطَعِ الكفن وذلك يقتضي بطبعه الزهدَ في زخارف هذه الدنيا الزائلة والانصراف عما يبعده عن الله تعالى ويحرمه من رضوانه ـ من المحرمات وما يلحق بها من المشتبهات التي تؤدي بفاعلها إلى الوقوع في الحرام من حيث لا يدري . وفي المقابل يبعث تذكر الموت الرغبة في الاستعداد للموت قبل حلول الفوت ويتمثل ذلك بالمبادرة إلى التوبة النصوح والتزام خط الاستقامة في طريق الشريعة .

ويأتي الطواف بعد ذلك ليكون الخطوة الثانية في طريق الرحلة والسفر إلى الله تعالى بالفكر والروح وتكون الحركة الدائرية بقيودها وحدودها ـ حول الكعبة المشرفة ـ رمز الالتزام بمنهج الشريعة وخط العبودية وعدم تجاوز حدودها كما لا يتجاوز حدود الطواف ولا يخالف شروطه المعتبرة في صحته .

ثم تأتي صلاة الطواف بعده لتكون رمزاً لمرتبة القرب من الله تعالى والدنو من ساحة رحمته وغفرانه بسبب قيامه بحركة الطواف العبادية ضمن


قيودها المعتبرة وحدودها المرسومة ويكون السجود في هذه الصلاة الممثل الأوضح لذلك القرب المعنوي من اللطف الإلهي حيث ورد في الحديث ما مضمونه : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ـ وربط هذه الصلاة بمقام النبي إبراهيم عليه السلام كان من أجل لفت النظر إلى مقام هذا النبي العظيم ودوره البناء في تشييد بيت الله الحرام مع ولده إسماعيل ـ من الناحية المادية وعمرانه معنوياً بتأدية مناسكه ودعوته الأجيال من أجل أن تسعى لتأدية فريضة الحج المباركة ملبيةً النداء الذي وجهه إليها امتثالاً لأمر الله له بذلك حيث قال سبحانه مخاطباً له :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (١) .

هذا مضافاً إلى ما يستفاد من الدروس الكثيرة والعبر العديدة المفيدة من سيرته المستقيمة في منهج السماء وثباته عليه وعدم انحرافه عنه رغم تعرضه لعدة امتحانات وابتلاءات صعبة ـ لا يصمد أمامها إلا من كان مثله في قوة الإيمان والفناء في ذات الله حباً وقرباً ، والامتحانات التي تعرض لها كثيرة .

١ ـ منها : امتحانه بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله اسماعيل الوحيد ليتركهما في واد غير ذي زرع من أرض مكة المكرمة وقد نجح هو وزوجته هذه بانقيادهما لإرادة الله وامتثالهما لأمره وأخيراً جازاهما الله معجلاً بالفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر كما تقدم ـ مضافاً إلى ما نالاه في الآخرة من السعادة الخالدة .

٢ ـ ومنها : امتحانه بنفسه عندما تعرض للإحراق والاحتراق ونجح

__________________

(١) سورة الحج ، الآيتان : ٢٧ و ٢٨ .


في الامتحان كما نجح في سابقه حيث سلم أمره لله فسلمه الله من الاحتراق وجعل النار عليه برداً وسلاماً .

٣ ـ ومنها : امتحانه بأمره بذبح ولده الصغير الوحيد ونجح في هذا الامتحان الأصعب مع ولده هذا عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأبديا الاستعداد للامتثال والتنفيذ . وأخيراً سلمه الله سبحانه من الذبح وفداه بذبح عظيم .

وبعد الطواف وصلاته يأتي دور السعي بين الصفا والمروة بعدد معين من الأشواط مع قيودٍ وحدود مرسومة له كالطواف ليكون تقيد المكلف بتلك القيود والحدود رمزاً للعبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة التي تنطلق من حدود السعي الخاص بمكانه وزمانه ، إلى السعي العام في كل زمان ومكان في سبيل عبادة الرحمن بالعبادة العامة الشاملة لكل التصرفات الاختيارية المنسجمة مع إرادة الله تعالى .

وبعد السعي يأتي دور التقصير ليكون رمزاً لإزالة الذنوب وزوال الأخطاء الحاصلة للحاج قبل تأديته لما توفق للقيام به من مناسك الحج .

ويأتي الإحرام للحج من مكة المكرمة ليكون مؤكداً لإحرامه السابق ومرسخاً في النفس والذهن المعاني السامية والدروس التربوية المهذبة التي يراد للناسك أن يحصلها ويستوحيها من مدرسة فريضة الحج المباركة . وبعده يأتي دور الوقوف في عرفة ليكون مدرسة تربوية أوسع مساحة وأكثر طلاباً وأرقى دروساً من أجل أن يستلهم الناسك هذه الدروس من تلك المدرسة ويحملها نوراً في عقله وإيماناً في قلبه ثم يجسمها على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل . وبعد ذلك يأتي الوقوف في المشعر الحرام ليكون خطوة أخرى في طريق القرب والازدلاف إلى


رحمة الله ورضوانه ولا يبعد أن يكون تسمية هذا المشعر ـ بالمزدلفة ـ رمزاً لذلك المعنى . وبعد قيام الحاج بما وجب عليه من الوجود في المشعر من الفجر إلى طلوع الشمس يأتي دور الزحف إلى منى صباح اليوم العاشر ـ ليقوم الناسك في هذا اليوم ـ وفي ذلك المكان بمناسكه الثلاثة رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق والتقصير ويبقى عليه المبيت في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر ـ في بعض الفروض ـ من أجل رمي الجمرات الثلاث يومي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر في بعض الصور . وبعد المبيت في منى ورمي جمراتها يرجع إلى مكة لطواف الحج وصلاته وللسعي ثانياً وطواف النساء وصلاته . ويجوز للحاج أن يأتي إلى مكة بعد فراغه من أعمال منى صباح يوم العيد ليأتي بالأعمال المذكورة ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر وربما الثالث عشر مع رميه الجمرات الثلاث صباح كل يوم يبيت الناسك ليلته في منى .

وذكر هذه المناسك بهذا الاختصار لمجرد رسم الصورة الاجمالية في أعمال حج التمتع وعمرته المتقدمة عليه ولا بد لكل ناسك من الرجوع إلى مناسك مرجعه في التقليد ليطبق أعماله على فتاواه فيها . وأما المجتهد فهو يرجع إلى مناسكه ليعمل وفق فتاواه أو احتياطاته ـ كما هو واضح .

وبعد الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب ( حول فلسفة الحج في الإسلام ) ترجح لدي نقل حديث كتبته حول فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة وهو منشور في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة ٢٨ . وذلك لانسجامه مع مضمون أبحاث هذا الكتاب من جهة وللحديث فيه حول فلسفة الحج ـ موضوع البحث فيه ـ من جهة أخرى وفيما يلي الحديث المذكور ، وموضوعه .


فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين المنتجبين .

وبعد : قال الله في محكم كتابه المجيد :

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (١) .

حيث أننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله : ( لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) .

وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٢٨ .


المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) .

الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء .

أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكلا شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة .

وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦ .

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .


وقال سبحانه :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (١) .

والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول :

الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .


في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .

ومما تقدم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه‌السلام : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان ٧ و ٨ .


وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين .

أما الفوائد الأخرى التي يمكن تحصيلها من تأدية فريضة الحج فقد آثرت الإشارة إليها بالقصيدة التالية التي يستطيع المتدبر المثقف أن يستفيدها منها بذوقه السليم وفهمه المستقيم ، وعنوانها :

الحج للأجيال أفضل معهد

الحج للأجيال أفـضل معهدٍ

تجني به عفوَ الإله السرمدي

وتسير في درب التقى بتضامن

وتعارف وتعاطف وتوددِ

إحرامه نزعٌ لثوب مطامع

وطوافُه إجلال ربٍ أوحد

وصَلاتُه صِلةُ القلوب بخالق

باري الوجود ونبع عيشٍ أرغد

والسعيُ سعي للفـضيلة والعلى

وقضاءِ حاجات الفقير المُجهد

وكذلك التقصير رمز تجرّد

من كل خُلْقٍ عن كمالك مُبعدِ

أما الوقوفُ فوقفة لتعارف

وتقارب رغم المكان الأبعد

والإزدلاف لمشعر نرنو به

لرضا السما بتضرع وتعبد

والرمي رميٌ للطغـاة بموقفٍ

حُرٍ ـ من الجمع الغفير ـ مُوحَّد

والـذبحُ ذبحٌ للهوى وتأثرٌ

بسخاء إبراهيم بالغض الندي

والحلق زينة مؤمن متمسك

بعُرى التقى رغم الزمان الأنكد

أما المبيت لدى مِنى فضـيافةٌ

محمودةٌ عند الإله الأجود


هي تلك فلسفة المناسك أشرقت

وعياً يبدد حيرة المتردد

فالله لا يدعـو الأنامَ لغير ما

يُجدي البرية في القريب وفي الغد

وكذاك إن ينهى فعن مُردٍ لنا

جسماً وروحاً دون أي تردد

هو عالمٌ بمفاسدٍ ومصالحٍ

تعطي السعادة للتقي المهتدي

فمن اتّقى يجني المُنى بتعبـدٍ

وسواه يغرق في الشقا بتمرد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أولاً وآخراً على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وجميع عباد الله الصالحين .

وقع الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك سنة ١٤١٨ هـ الموافق ١٢ كانون الثاني سنة ١٩٩٨ م


الفهرست

الموضوع

الصفحة

تقديم وتمهيد ............  ٥

أهداف الحج الرسالية وفوائده التربوية ..........  ١٦

دور الاخلاص في صحة العمل العبادي والنجاح في غيره ......  ١٧

دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج ......  ٣٦

الرفيق الصالح ودوره الايجابي في نجاح الرحلة ...........  ٤٣

بعض ما يستحب لمن عزم على السفر أن يقوم به ............  ٥٨

الحج رحلة فكرية وروحية من عالم المادة الى عالم العبودية الخالصة ......  ٦٨

بيان الحكمة في أصل وجوب الاحرام وتقييده بمكان الميقات مع بيان الحكمة في وجوب التلبية ..............  ٨٨

الدروس التربوية التي تمليها مدرسة الحج الإسلامية ......  ٩٧

دور الحج في حدوث صفة التواضع أو تأكيدها ........  ٩٧

دور الحج في ثبوت صفة الزهد أو تقويتها ...........  ١٠٤

دور الإحرام في إثارة الشعور وتغذية الإحساس بالمراقبة .......  ١٠٦

دور الحج في تقوية الإرادة والصبر على الشدة ........  ١٠٧

دور الحج في التزام خط السلام واشاعة جو الامان ..........  ١٠٨


دور تأدية فريضة الحج في الالتزام بأداب الاسلام ............  ١١١

حكمة تشريع الطواف ..............  ١١٣

الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية .......  ١٣٠

الحكمة من تشريع وجوب صلاة الطواف بعده وفي مقام ابراهيم عليه‌السلام ...............  ١٤٤

امتحان النبي ابراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد ........  ١٦٣

الحكمة من تشريع وجوب الرمي والذبح والحلق أو التقصير ..........  ١٧٣

بيان سبب صبر بلال على التعذيب وعدم رجوعه عن اسلامه .......  ١٨٤

امتحان النبي ابراهيم عليه‌السلام بنفسه وماله .............  ١٨٥

فلسفة الابتلاء وحكمته .............  ١٩٤

نجاح النبي ابراهيم وولده اسماعيل في امتحان التكليف الظاهري .......  ٢٠١

الحكمة في تشريع وجوب الوقوف في عرفات ........  ٢٠٧

من وحي الوقوف في المشعر الحرام ...........  ٢٢٢

فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة .......  ٢٢٩

الحج للاجيال أفضل معهد قصيدة من وحي شعائر الحج .....  ٢٣٣


فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد


فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف: الشيخ حسن طراد
الصفحات: 238