أدلّة جواز الاجتماع

الدليل الأوّل :

أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لو لم يكن جائزاً لم يقع في الشريعة المقدّسة مع أنّه واقع فيها ، كما في موارد العبادات المكروهة ، حيث قد اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرّة كما في الصلاة في الحمام والصلاة في مواضع التهمة ونحوهما ، والاستحباب معها مرّة اخرى كما في النوافل المبتدأة ، ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء في الخارج أدل دليل على إمكانه وجوازه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة ، إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى ، والجامع هو أنّه لا يمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة فيه ... وهكذا.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ من وقوع اجتماع الوجوب والكراهة في شيء واحد يكشف عن أنّه لا مانع من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه ، سواء أكانا إلزاميين أم لا.

ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد عدّ من أمثلة ذلك الصيام في


السفر (١).

وغير خفي أنّ الصوم في السفر ليس مثالاً لمحل الكلام هنا ، والوجه في ذلك :

هو أنّه ليس بمأمور به في غير الموارد المستثناة لا وجوباً ولا استحباباً ليلزم اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة ، ضرورة أنّه غير مشروع فيما عدا تلك الموارد ، والاتيان به بقصد الأمر تشريع ومحرّم ، فإذن لا وجه لعدّه من أمثلة المقام. وأمّا في موارد استثنائه كما إذا نذر الصوم في السفر فليس بمكروه ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.

وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره عن هذا الدليل بوجهين : الأوّل : بالاجمال. والثاني : بالتفصيل.

أمّا جوابه الاجمالي فإليك نصّه : فبأ نّه لا بدّ من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان. مع أنّ قضية ظهور تلك الموارد ، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك ، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين ، فهو أيضاً لا بدّ له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها ، سيما إذا لم يكن هناك مندوحة كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً كما لا يخفى (٢).

ونوضّح ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الظاهر من هذه الموارد وإن كان اجتماع الحكمين في شيء واحد ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦١.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٣.


إلاّ أنّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر والتصرف فيه وتأويله من ناحية قيام الدليل القطعي على الامتناع واستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، بداهة أنّ الظهور مهما كان لونه لا يمكن أن يصادم البرهان العقلي الذي قام على استحالة الاجتماع بمقتضى المقدّمات المتقدِّمة.

الثانية : أنّ هذه الموارد التي توهم اجتماع حكمين فيها لشيء واحد خارجة عن مورد النزاع في المسألة ، والوجه في ذلك : هو أنّ النزاع فيها ما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوانٍ كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب ، وقد اتفق اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في الدار المغصوبة ، فعندئذ يقع النزاع ، فالقائل بالجواز يدّعي أنّ تعدد العنوان يكفي للقول بجواز الاجتماع ، والقائل بالامتناع يدّعي أنّه لا يكفي ، فالعبرة إنّما هي بوحدة المعنون وتعدده ، لا بوحدة العنوان وتعدده. وأمّا إذا فرض تعلق الأمر والنهي بشيء واحد بعنوانٍ ، فهو خارج عن محل النزاع ، ضرورة أنّه لا يقول أحد بالجواز فيه حتى من القائلين به فضلاً عن غيرهم ، فإنّهم إنّما يقولون بالجواز فيما إذا فرض تعلق كل من الأمر والنهي به بعنوانٍ ، والمفروض أنّ في موارد العبادات المكروهة ليس الأمر كذلك ، فإنّ النهي في تلك الموارد تعلق بعين ما تعلق به الأمر لا بغيره ، والفرق بينهما بالاطلاق والتقييد.

وعلى الجملة : فالأمر في هذه الموارد تعلق بذات العبادات والنهي تعلق بها بعنوان خاص ، كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء والنهي عن الصلاة في الحمام مثلاً ، فلم يتعلق الأمر بها بعنوانٍ والنهي بعنوان آخر ، كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، فإذن تلك الموارد خارجة عن محل الكلام في المسألة.

الثالثة : أنّ القائلين بالجواز إنّما يقولون به فيما إذا كانت هناك مندوحة ، وأمّا إذا فرض أنّه لا مندوحة في البين فلا يقولون بالجواز فيه أصلاً ، وعليه فلا


يمكن القول بالجواز في مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة وما شاكلهما مما لا بدل له.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فالأمر كما ذكره قدس‌سره وذلك لما تقدّم (١) من أنّ المعنون إذا كان واحداً وجوداً وماهية في مورد الاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع ، وبما أنّ المعنون في موارد العبادات المكروهة واحد ، فلا بدّ من التوجيه والتأويل بعد استحالة كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

وأمّا النقطة الثانية : فهي في غاية الصحّة والمتانة ، ضرورة أنّ أمثال هذه الموارد التي تعلق الأمر والنهي فيها بشيء بعنوان واحد ، خارجة عن محل النزاع في المسألة ، كما تقدّم الكلام في ذلك بشكل واضح.

وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها ما تقدّم (٢) من أنّه لا دخل لقيد المندوحة في جواز الاجتماع أصلاً ، لما عرفت من أنّ القول بالجواز يبتني على تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية ، فإذا كان متعدداً كذلك لا مناص من القول به ، سواء أكانت هناك مندوحة أم لا ، كما أنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة المجمع فيه ، فإذا كان واحداً كذلك لا مناص من القول به ولو كانت هناك مندوحة ، فلا دخل لقيد المندوحة ولا لعدمه في جواز الاجتماع وعدمه أصلاً.

وأمّا جوابه التفصيلي فإليك نصّه : إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام : أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء

__________________

(١) في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٩٨.

(٢) في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٨٦.


والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات. ثانيها : ما تعلق النهي به كذلك ، ويكون له البدل كالنهي عن الصلاة في الحمام. ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة ، بناءً على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أمّا القسم الأوّل : فالنهي تنزيهاً عنه ـ بعد الاجماع على أنّه يقع صحيحاً ، ومع ذلك يكون تركه أرجح ، كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك ـ إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كان مصلحة الترك أكثر ، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين ، وإلاّ فيتعين الأهم ، وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض ، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع ، فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ، بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ، كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذلك من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، إلاّفي أنّ الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز ، وإنّما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة ، كما في سائر المكروهات من غير فرق ، إلاّ أنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً ، غاية الأمر كون الترك أرجح.


نعم ، يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك ، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز فلا تغفل (١).

توضيح ما أفاده ( قدس‌سره ) : هو أنّ الكراهة في هذه الموارد ليست كراهة مصطلحة ، وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل وحزازة ومنقصة فيه ، فإنّ الكراهة في المقام لو كانت كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحاً ، ضرورة عدم إمكان التقرب بما هو مبغوض للمولى ومشتمل على مفسدة غالبة ، مع أنّه لا شبهة في وقوعه صحيحاً وإمكان التقرب به ، غاية الأمر أنّ تركه أرجح من فعله ، مثلاً لا شبهة في صحّة الصوم يوم عاشوراء وأ نّه قابل لأن يتقرب به ومحبوب للمولى في نفسه ، وليس النهي المتعلق به ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه ، ضرورة أنّه لو كان ناشئاً عنها لخرج عن قابلية التقرب ولا يمكن الحكم بصحته أبداً ، لوضوح أنّه لا يمكن التقرب بما هو مبغوض للمولى ، بل هو ناشٍ عن رجحان تركه الطبيعة المأمور بها مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية كما يظهر من مداومة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام على ذلك.

وعليه فلا محالة يكون هذا الرجحان إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كانت مصلحة الترك غالبة على مصلحة الفعل ، حيث إنّه في نفسه محبوب ومشتمل على مصلحة موافقة لغرض المولى ، فالصوم يوم عاشوراء كبقية أفراد الصوم ، ولكن بما أنّ بني اميّة ( عليهم اللعنة ) التزموا بصوم هذا اليوم شكراً وفرحاً من الانتصار الظاهر المزعوم ، فتركه فيه مخالفة لهم ، وهي مطلوبة للشارع ، ولأجل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٢.


انطباق هذا العنوان ـ أعني عنوان المخالفة على هذا الترك ـ يكون ذا مصلحة غالبة على مصلحة الفعل ، فإذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين ، وحيث إنّ المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فلا بدّ من الالتزام بالتخيير إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، وإلاّ فيقدّم الأهم على غيره.

وفي المقام بما أنّ الترك أهم من الفعل فيقدّم عليه ، وإن كان الفعل أيضاً يقع صحيحاً ، لعدم قصور فيه أصلاً من ناحية الوفاء بغرض المولى ومحبوبيته ، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات ، فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه ، بل الأمر كذلك في الواجبات المتزاحمات ، فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم ، لا من ناحية الترتب ، لما تقدّم في بحث الضد (١) من أنّه قدس‌سره من القائلين باستحالة الترتب وعدم إمكانه ، بل من ناحية اشتماله على الملاك والمحبوبية.

وإن شئت فقل : إنّ النهي في أمثال هذه الموارد غير ناشٍ عن مفسدة في الفعل ومبغوضية فيه ، بل هو ناشٍ عن مصلحة في الترك ومحبوبية فيه ، وهذا إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من الفعل ، ولكن مع ذلك لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً ، فلو كان النهي عنه نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه لكان يوجب حزازة ومنقصة لا محالة ، ومعه لا يمكن الحكم بصحته أبداً ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وإمّا من ناحية ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة خارجاً من دون انطباق ذلك العنوان عليه ، كما إذا فرضنا أنّ عنوان المخالفة لبني اميّة ( عليهم اللعنة ) لا ينطبق على نفس ترك الصوم يوم عاشوراء ، بدعوى استحالة انطباق العنوان

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤٢.


الوجودي على الأمر العدمي ، وإن كانت هذه الدعوى خاطئة في خصوص المقام ، من ناحية أنّ عنوان المخالفة ليس من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية ، بل هو عنوان انتزاعي ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من انتزاع مثل هذا العنوان من الأمر العدمي ، بأن يكون ذلك الأمر العدمي منشأً لانتزاعه.

وعلى هذا فلا مانع من انتزاع عنوان المخالفة من ترك الصوم في هذا اليوم ، نعم الذي لا يمكن انتزاع شيء منه هو العدم المطلق لا العدم المضاف ، فإنّه ذو أثر شرعاً وعرفاً كما هو واضح.

وكيف كان ، فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل ، لا محالة يكون الترك أرجح منه ، فلا فرق عندئذ بين هذه الصورة والصورة الاولى ، أعني ما كان العنوان الراجح منطبقاً على الترك ، غاية الأمر أنّ الطلب المتعلق بالترك في هذه الصورة ليس طلباً حقيقياً ، بل هو بالعرض والمجاز ، إذ أنّه في الحقيقة متعلق بذلك العنوان الراجح الملازم له ، وهذا بخلاف الطلب المتعلق به في الصورة الاولى كما مرّ.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ المصلحة الموجودة في صوم يوم عاشوراء مثلاً ليست بأنقص من المصلحة الموجودة في صوم بقيّة الأيام بما هو صوم ، غاية الأمر أنّ المصلحة الموجودة في تركه حقيقة أو عرضاً أرجح منها ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من فعله ، وعندئذ فالنهي المتعلق به كما يمكن أن يكون بمعنى طلب الترك ، يمكن أن يكون إرشاداً إلى أرجحية الترك من الفعل ، إمّا لأجل انطباق العنوان الراجح عليه ، أو لأجل ملازمته له وجوداً وخارجاً.

وعليه فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، وبما أنّ الترك أرجح فيقدّم على الفعل ، كما يظهر ذلك من مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك ، ولذا لم ينقل منهم عليهم‌السلام ولو بطريق ضعيف أنّهم عليهم‌السلام صاموا في


يوم عاشوراء ، كما أنّ سيرة المتشرعة قد استمرت على ذلك من لدن زمانهم عليهم‌السلام إلى زماننا هذا ، هذا تمام ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّه إذا فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصلحة ، فبما أنّه يستحيل تعلق الأمر بكل من النقيضين في زمان واحد ، لا محالة يكون المؤثر في نظر الآمر إحداهما على فرض كونها أقوى وأرجح من الاخرى ، وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معاً عن التأثير ، ضرورة استحالة تعلق الطلب التخييري بالنقيضين ، فإنّه طلب الحاصل ، وعلى هذا الضوء يستحيل كون كلٍّ من الفعل والترك مطلوباً فعلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ فرض اشتمال كلٍّ من الفعل والترك على مصلحة يوجب التزاحم بين المصلحتين في مقام تأثيرهما في جعل الحكم ، لا التزاحم بين الحكمين في مرحلة الامتثال ، لما عرفت من استحالة جعل الحكمين للمتناقضين مطلقاً ، أي سواء أكان تعيينياً أو تخييرياً.

ومن هذا القبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فإنّه لا يمكن جعل الحكم لكليهما معاً ، لا على نحو التعيين ولا على نحو التخيير. أمّا الأوّل ، فلأ نّه تكليف بالمحال. وأمّا الثاني ، فلأ نّه طلب الحاصل.

ومن هذا القبيل أيضاً المتلازمين الدائميين ، فإنّه لا يمكن جعل الحكمين المختلفين لهما ، بأن يجعل الوجوب لأحدهما والحرمة للآخر ، لا تعييناً ولا تخييراً ، لاستلزام الأوّل التكليف بالمحال ، والثاني طلب الحاصل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٧٣.


فالنتيجة من ذلك قد أصبحت : أنّ المزاحمة لا تعقل بين أمرين متناقضين كالفعل والترك ، ولا بين ضدّين لا ثالث لهما ، ولا بين متلازمين دائميين على الشكل المتقدِّم ، بل هذه الموارد جميعاً داخلة في كبرى باب التعارض كما هو ظاهر.

ولأجل ذلك قد تصدى قدس‌سره لجواب آخر وبنى ذلك الجواب على مقدّمة ، وهي أنّه لا شبهة في أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعبادة مستحبة كصلاة الليل أو نحوها متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، ونتيجة ذلك لا محالة هي اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ، لاستحالة أن يكون كل من الأمرين محفوظاً بحدّه بعد ما كان متعلقهما واحداً ، ولازم الاندكاك والاتحاد هو اكتساب كل منهما من الآخر جهة ، فالأمر الوجوبي يكتسب جهة التعبدية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبي ، فيتحصل من اندكاك أحدهما في الآخر أمر واحد وجوبي عبادي.

والوجه في ذلك : ما أشرنا إليه من أنّه إذا كان متعلق كل من الأمرين عين ما تعلق به الأمر الآخر ، فلا بدّ من اندكاك أحدهما في الآخر ، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو محال ، هذا في النذر.

وأمّا الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة كما في موارد النيابة عن الغير ، فلا يكون متعلقاً بنفس العبادة المتعلق بها الأمر الاستحبابي ليندك أحدهما في الآخر ويتحد ، بل يكون متعلق أحدهما غير متعلق الآخر ، فانّ متعلق الأمر الاستحبابي على الفرض هو ذات العبادة ، ومتعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة هو الاتيان بها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، لوضوح أنّ ذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه لم يتعلق بها


غرض عقلائي من المستأجر ، ولأجل ذلك تبطل الإجارة لو تعلقت بها.

وعلى هذا الضوء يستحيل اتحاد الأمرين واندكاك أحدهما في الآخر في موارد الاجارة على العبادات ، ضرورة أنّ التداخل والاندكاك فرع وحدة المتعلق ، والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد ، فإذن لا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد من تعلق الأمر الاستحبابي بذات العبادة والأمر الوجوبي باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.

وبكلمة اخرى : أنّ الأمر الطارئ على أمر آخر لا يخلو من أن يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأوّل أو بغيره ، والأوّل كموارد النذر المتعلق بالعبادة المستحبة ، فإنّ الأمر الناشئ من ناحية النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، وعليه فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ، فيتولد منهما أمر واحد وجوبي عبادي ، ويكتسب كل منهما من الآخر جهة مفقودة فيه ، فالأمر الوجوبي بما أنّه فاقد لجهة التعبد فيكتسب تلك الجهة من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي بما أنّه فاقد لجهة الالزام فيكتسب تلك الجهة من الأمر الوجوبي ، هذا نتيجة اتحاد متعلقهما في الخارج.

والثاني كموارد الاجارة على العبادات المستحبة ، فإنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في هذه الموارد لم يتعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، بل تعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، وإلاّ فلا تترتب على تلك الاجارة فائدة تعود إلى المستأجر ، ضرورة أنّه لو أتى بها لا بذلك الداعي ، بل بداعي الأمر المتعلق بذاتها ، فلا ترجع فائدته إلى المستأجر أصلاً ، بل ترجع إلى نفس العامل.

ومن هنا قد اشتهر بين الأصحاب أنّ الاجارة لو تعلقت بذات العبادة لكانت باطلة ، لفرض أنّ الاتيان بذات العبادة بداعي أمرها في الخارج لا يفيد


المستأجر ولا ترجع فائدته إليه ، وهي سقوط العبادات عن ذمته ورجوع أجرها وثوابها إليه ، بل ترجع إلى نفس النائب والفاعل ، ومن المعلوم أنّ حقيقة الاجارة هي تمليك المنفعة للمستأجر بأن تكون المنفعة له ، وأمّا إذا فرض عدم كون المنفعة له فلا تتحقق حقيقة الاجارة ، بداهة أنّه لا معنى لاجارة عين مسلوبة المنفعة أو إجارة شخص على أن يعمل لنفسه ، فانّ في مثل هذه الموارد لا تتحقق حقيقة الاجارة وواقعها الموضوعي ليقال إنّها صحيحة أو فاسدة ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في طول الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة ، ويترتب على ذلك أنّه لا مقتضي للتداخل والاندكاك في موارد الاجارة أصلاً.

وبعد بيان ذلك قال قدس‌سره : إنّ الاشكال في اتصاف العبادة بالكراهة في هذا القسم إنّما نشأ من الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي أنّ متعلق النهي فيها غير متعلق الأمر ، فإنّ متعلق الأمر هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العبادة ، ضرورة أنّه لا مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها ، بل هو التعبد بهذه العبادة فانّه منهي عنه ، لما فيه من المشابهة والموافقة لبني اميّة ( لعنهم الله ) وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ النهي المتعلق به بما أنّه تنزيهي فهو غير مانع عن جواز الاتيان بمتعلقه والتعبد به ، بل هو بنفسه متضمن للترخيص في الاتيان بمتعلقه بداعي امتثال الأمر المتعلق به.

نعم ، لو كان النهي المتعلق به تحريمياً لكان مانعاً عن الاتيان بمتعلقه والتعبد به ، وموجباً لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد المتعلق به النهي ، بداهة أنّ الحرام يستحيل أن يكون مصداقاً للواحب ، وعليه فلا محالة يقيد إطلاق دليل الأمر بغير هذا المورد.


وملخص ما أفاده : هو أنّ متعلق النهي في هذا القسم بما أنّه مغاير لمتعلق الأمر فلا يكون منافياً له ، فانّه في طول الأمر ويكون كموارد الاجارة المتعلقة بالعبادات المستحبة ، فكما أنّ فيها متعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة غير متعلق الأمر الاستحبابي ، فكذلك في المقام ، فانّ متعلق النهي غير متعلق الأمر كما مرّ ، وليس المقام من قبيل النذر المتعلق بها ، لما عرفت من أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي.

ثمّ إنّ نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره تمتاز عن نظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في نقطة واحدة ، وهي أنّ نظرية شيخنا الاستاذ ترتكز على كون النهي في المقام في طول الأمر ، فانّه متعلق بايقاع العبادة بداعي أمرها الاستحبابي أو الوجوبي المتعلق بذاتها ، فلا يكون متعلقه متحداً مع متعلقه ليلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد ، كما أنّه غير ناشئ عن وجود مفسدة في الفعل أو عن وجود مصلحة في تركه ، بل الفعل باقٍ على هو ما عليه من المحبوبية والمصلحة ، بل هو ناشئ عن مفسدة في التعبد بهذه العبادة ، لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين. ويترتب على هذا أنّ النهي على وجهة نظره قدس‌سره نهي مولوي حقيقي ناشٍ عن مفسدة في التعبد بها.

ونظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ترتكز على كون الترك كالفعل مشتملاً على مصلحة أقوى من مصلحة الفعل ، إمّا لأجل انطباق عنوان راجح عليه ، أو لأجل ملازمته معه وجوداً وخارجاً ، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.

ولنأخذ بالمناقشة على نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره فانّ ما أفاده من الكبرى الكلية ، وهي عدم جريان التزاحم في الموارد المتقدِّمة وإن كان صحيحاً ، ضرورة أنّ تلك الموارد من موارد المعارضة بين الدليلين في مقام


الاثبات على وجه التناقض أو التضاد ، لا من موارد التزاحم بين الحكمين ، لما عرفت من استحالة جعلهما في هذه الموارد مطلقاً ولو على نحو التخيير ، إلاّ أنّ تلك الكبرى لا تنطبق على المقام ، فإنّه ليس من صغرياتها ومصاديقها ، وذلك لأنّ المقام إنّما يكون من إحدى صغريات هذه الكبرى إذا فرض قيام مصلحة بطبيعي صوم يوم عاشوراء ، فعندئذ لا ثالث بين فعله وتركه ، ومن المعلوم أنّه إذا لم يكن بينهما ثالث فلا محالة لا تعقل المزاحمة بينهما كما تقدّم.

ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ المصلحة إنّما قامت بحصة خاصة منها وهي الحصة العبادية ، لا بمطلق وجود الفعل في الخارج والترك ، وعليه فلهما ثالث وهو الحصة غير العبادية ، فانّه لا مصلحة في فعلها ولا في تركها ، فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما ، غاية الأمر عندئذ تقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال فيدخل في كبرى مسألة المستحبين المتزاحمين ، لفرض أنّ المكلف عندئذ قادر على تركهما والاتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، وغير قادر على الجمع بينهما ، كما هو مناط التزاحم في كل متزاحمين ، سواء أكانا واجبين أم مستحبين.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ المستحب إنّما هو خصوص الحصة الخاصة من الصوم ، وهي الحصة التي يعتبر فيها قصد القربة ، وأمّا ترك هذه الحصة بخصوصها فلا رجحان فيه ، بل الرجحان في ترك الامساك مطلقاً والافطار خارجاً ، فإنّ فيه مخالفة لبني اميّة ، فالمكلف إذا صام بقصد القربة أو أفطر فقد أتى بأمر راجح ، وأمّا إذا أمسك بغير قربة فقد ترك كلا الأمرين الراجحين.

وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين استحباب الفعل واستحباب الترك ، لفرض تمكن المكلف من ترك امتثال كليهما معاً ، والاتيان بمطلق الفعل من دون قصد القربة ، وغير متمكن من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد باب التزاحم.


فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الكبرى وهي عدم إمكان جريان التزاحم بين النقيضين ولا بين الضدّين لا ثالث لهما ولا بين المتلازمين الدائميين ، وإن كان تاماً ، إلاّ أنّه لا ينطبق على المقام كما عرفت.

وبعد بيان ذلك نأخذ بالمناقشة على جوابه قدس‌سره عن هذا القسم ، وهي أنّ ما ذكره قدس‌سره في باب الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة في موارد النيابة عن الغير غير تام في نفسه ، وعلى فرض تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه ، فلنا دعويان :

الاولى : عدم تمامية ما أفاده في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير.

الثانية : أنّه على تقدير تماميته لا ينطبق على المقام.

أمّا الدعوى الاولى : فقد حققنا في محلّه (١) أنّ الأوامر المتصورة في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير أربعة :

الأوّل : الأمر المتوجه إلى شخص المنوب عنه المتعلق بعبادته ، كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك. وهذا الأمر يختص به ولا يعم غيره ، ويسقط هذا الأمر عنه بموته أو نحوه. ولا يفرق في صحة الاجارة بين بقاء هذا الأمر ، كما إذا كان المنوب عنه حياً ومتمكناً من الامتثال بنفسه ، كمن نسي الرمي وذكره بعد رجوعه إلى بلده ، أو كان حيّاً وعاجزاً عن الامتثال ، كما في الاستنابة في الحج عن الحي فإنّ التكليف كما يسقط بموت المكلف كذلك يسقط بعجزه ، لاستحالة التكليف في هذا الحال ، لأنّه من التكليف بالمحال ، وهو مستحيل من الحكيم. وكيف كان ، فبقاء هذا الأمر وعدم بقائه وسقوطه بالاضافة إلى صحة الاجارة على حد سواء ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

__________________

(١) راجع مصباح الفقاهة ١ : ٤٥٩ وما بعدها ، مبحث الاجرة على الواجبات ، النيابة في العبادات.


ومن ذلك يظهر أنّ هذا الأمر أجنبي عن النائب بالكلية ، فلا يكون متوجهاً إليه أصلاً ، بداهة أنّه لا يعقل توجه تكليف شخصٍ إلى آخر ، فإنّه خاص به ويسقط بموته أو نحوه ، ولا يمكن توجهه إلى غيره ، وهذا واضح.

وعلى هذا الضوء فقد تبيّن أنّ هذا الأمر مباين للأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إلى النائب ، ولا يمكن دعوى اتحاده معه أبداً ، لفرض أنّهما مختلفان بحسب الموضوع ، فيكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، فان موضوع الأوّل هو المنوب عنه ، وموضوع الثاني هو النائب ، ومع هذا كيف يعقل دعوى الاتحاد بينهما واندكاك أحدهما في الآخر ، ضرورة أنّه فرع وحدة الموضوع ، كما هو واضح.

الثاني : الأمر المتوجه إلى شخص النائب المتعلق بعباداته كالصلاة ونحوها ، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الأوّل بالكلية ، لفرض أنّهما مختلفان بحسب الموضوع والمتعلق ، فان موضوع الأمر الأوّل هو المنوب عنه ، وموضوع الأمر الثاني هو النائب ، ومتعلقه هو فعل المنوب عنه ، ومتعلق الثاني هو فعل النائب نفسه ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل اتحاد أحدهما مع الآخر أبداً كما هو ظاهر ، كما أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الناشئ من ناحية الاجارة المتوجه إليه ، وذلك لاختلافهما بحسب المتعلق ، فان متعلق هذا الأمر هو فعل النائب ، ومتعلق ذاك الأمر هو فعل المنوب عنه ، غاية الأمر أنّه ينوب عنه في إتيانه في الخارج ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل دعوى الاتحاد بينهما أصلاً ، وهذا واضح.

الثالث : الأمر المتوجه إلى النائب المتعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير ، وهذا الأمر الاستحبابي متوجه إلى كل مكلف قادر على ذلك ، فيستحب للانسان أن يصلي أو يصوم نيابة عن أبيه أو جدّه أو امّه أو استاذه أو صديقه


وهكذا ... ثمّ إنّه من الواضح جداً أنّ هذا الأمر الاستحبابي كما أنّه أجنبي عن الأمر الأوّل ، كذلك أجنبي عن الأمر الثاني ، ولا يعقل لأحدٍ دعوى اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني.

الرابع : الأمر المتوجه إلى النائب الناشئ من قبل الاجارة المتعلق باتيان العبادة نيابة عن غيره ، فهذا الأمر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، فانّ الأمر الاستحبابي كما عرفت متعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير ، والمفروض أنّ هذا الأمر الوجوبي متعلق بعين ذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام باندكاك أحد الأمرين في الآخر واتحادهما في الخارج ، ضرورة أنّه لا يمكن بقاء كلا الأمرين بحدّه بعد فرض كون متعلقهما واحداً وجوداً وماهية ، فلا محالة يندك أحدهما في الآخر ، ويتحصل منهما أمر واحد وجوبي عبادي ، فإن كلاً منهما يكتسب من الآخر جهة مفقودة فيه ، فيكتسب الأمر الوجوبي من الأمر الاستحبابي جهة التعبد ، ويكتسب الأمر الاستحبابي من الأمر الوجوبي جهة اللزوم ، وهذا معنى اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً.

وقد تحصل من ذلك : أنّ الأمر الرابع يتحد مع الأمر الثالث ، لاتحادهما بحسب الموضوع والمتعلق ، ولايعقل اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني ، لاختلافهما في الموضوع أو المتعلق كما عرفت.

ومن هنا يظهر أنّ النائب يأتي بالعمل بداعي الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إليه ، لا بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، ضرورة استحالة أن يكون الأمر المتوجه إلى شخص داعياً لشخصٍ آخر بالاضافة إلى الاتيان بمتعلقه ، فان داعوية الأمر لشخص بالاضافة إلى ذلك إنّما تكون فيما إذا كان ذلك الأمر متوجهاً إليه ، وإلاّ فيستحيل أن يكون داعياً له ، وهذا من الواضحات.


ولا فرق في داعوية الأمر إليه بين أن يكون الاتيان بمتعلقه من قبل نفسه ، أو من قبل غيره ، كما في موارد الاجارة ، لوضوح أنّ العبرة إنّما هي بتوجه الأمر إلى شخص ليكون داعياً له إلى العمل ، لا بكون متعلقه عمل نفسه أو عمل غيره ، وهذا ظاهر.

ومن هنا قلنا إنّ صحة الاجارة لا تتوقف على بقاء ذلك الأمر ليأتي النائب بالعمل بداعيه ، كما أنّه لا يأتي به بداعي الأمر المتوجه إليه المتعلق باتيان عباداته من قبل نفسه ، بداهة استحالة أن يكون ذلك الأمر داعياً إلى الاتيان بمتعلقه من قبل غيره ونيابة عنه ، بل هو داعٍ إلى الاتيان به من قبل نفسه كما هو واضح.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ النائب يأتي بعمل المنوب عنه بداعي الأمر المتوجه إليه الناشئ من ناحية الاجارة المتعلق باتيانه نيابةً عنه ، وبما أنّ هذا الأمر تعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، فلا مناص من اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً ، فتكون النتيجة أمراً واحداً وجوبياً عبادياً.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الأمر الاستحبابي في موارد الاجارة متعلق بذات العبادة ، والأمر الوجوبي الناشئ من ناحيتها متعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، وذلك لما عرفت من أنّ الأمر المتوجه إلى المنوب عنه يستحيل أن يكون داعياً للنائب إلى الاتيان بمتعلقه ، بداهة أنّ الأمر المتوجه إلى شخص يمتنع أن يكون داعياً لشخص آخر ، فإنّ الداعي لكل مكلف هو الأمر المتوجه إلى شخصه كما سبق ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الأمر الاستحبابي المتوجه إلى النائب ليس منحصراً بأمر واحد ، بل هو أمران : أحدهما متعلق باتيان العمل من قبل نفسه ، ومن


المعلوم أنّه لا يعقل أن يتوهم أحد اتحاد هذا الأمر مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة ، لاختلافهما في المتعلق ، فانّ متعلق هذا الأمر الاستحبابي هو ذات العبادة ، ومتعلق الأمر الوجوبي هو إتيانها من قبل الغير ونيابة عنه.

وثانيهما متعلق باتيان العمل من قبل غيره ونيابة عنه ، وهذا الأمر الاستحبابي متحد مع الأمر الوجوبي في المتعلق ، فيكون متعلقهما واحداً وجوداً وماهيةً ، وهو إتيان العمل من قبل الغير ، ومع هذا الاتحاد لا مناص من اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي.

ومن هنا تظهر نقطة اشتباه شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهي غفلته عن الأمر الاستحبابي المتعلق باتيان العبادات من قبل الغير ، وتخيّل أنّه منحصر بالأمر الاستحبابي الأوّل ، والمفروض أنّه متعلق باتيانها من قبل نفسه لا من قبل الغير ، ولأجل ذلك حكم باستحالة اتحاده مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة واندكاكه فيه ، لعدم وحدة متعلقهما كما مرّ.

وعلى هدى هذا البيان قد تبيّن أنّه لا فرق بين موارد الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة وموارد النذر المتعلق بها ، فكما أنّ في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبله ، فكذلك في موارد الاجارة ، غاية الأمر أنّه في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة مع الأمر الوجوبي ، لفرض أنّه متعلق بها كما عرفت ، وفي موارد الاجارة يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق باتيانها من قبل الغير ونيابةً عنه مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة ، لا الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة ، ولكن هذا لا يوجب التفاوت فيما هو المهم في المقام ، كما هو واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ ما أفاده قدس‌سره على تقدير تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما أفاده قدس‌سره من


أنّ متعلق النهي في هذا القسم مغاير لمتعلق الأمر ، لا يمكن المساعدة عليه من وجوه :

الأوّل : أنّ هذا خلاف مفروض الكلام في المقام ، فانّه فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي واحداً لا متعدداً ، وإلاّ فلا كلام فيه ، ضرورة أنّ محل البحث والكلام هنا بين الأصحاب في فرض كون متعلقهما واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً فهو خارج عن محل الكلام والبحث ، ولا إشكال فيه أصلاً.

الثاني : أنّ ما أفاده قدس‌سره خلاف ظاهر الدليل ، لوضوح أنّ الظاهر من النهي عن الصوم في يوم عاشوراء هو أنّه متعلق بذات الصوم وأ نّه منهي عنه ، ودعوى أنّه متعلق بجهة التعبد به لا بذاته خلاف الظاهر ، فلا يمكن الالتزام به بلا قرينة وشاهد. وكذا الحال في النهي المتعلق بالنوافل المبتدأة في بعض الأوقات ، فانّ الظاهر منه هو أنّه متعلق بذات تلك النوافل ، وأ نّها منهي عنها لا بجهة التعبد بها ، ضرورة أنّ حمل النهي على ذلك خلاف الظاهر ، فلا يمكن أن يصار إليه بلا دليل.

الثالث : أنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النهي متعلق بجهة التعبد بها وإتيانها بقصد القربة لا بذاتها ، فمع ذلك لا يتم ما أفاده قدس‌سره ، والوجه فيه ما حققناه من أنّ قصد القربة كبقية أجزاء العبادة مأخوذ في متعلق الأمر ، غاية الأمر أنّه على وجهة نظره قدس‌سره مأخوذ في متعلق الأمر الثاني دون الأمر الأوّل ، وعلى وجهة نظرنا مأخوذ في متعلق الأمر الأوّل.

وعلى هذا الضوء فدعوى أنّ النهي في هذه الموارد تعلق بجهة التعبد بالعبادات لا بذاتها ، لاتدفع محذور لزوم اجتماع الضدين في شيء واحد ، ضرورة أنّ قصد القربة إذا كان مأخوذاً في متعلق الأمر يستحيل أن يتعلق به النهي ، لاستحالة كون شيء واحداً مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.


الرابع : لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ قصد القربة غير مأخوذ في متعلق الأمر مطلقاً ، أي لا في متعلق الأمر الأوّل ولا في متعلق الأمر الثاني ، فمع ذلك لا يتم ما أفاده قدس‌سره ، وذلك ضرورة أنّ النهي لم يتعلق بخصوص قصد القربة فحسب ، ليكون متعلقه غير متعلق الأمر ، بل تعلق بحصة خاصة من الصوم ، وهي الحصة العبادية التي يعتبر فيها قصد القربة. مثلاً المنهي عنه في المقام هو خصوص الصوم العبادي في يوم عاشوراء في مقابل ما إذا كان المنهي عنه هو مطلق الامساك ، لا أنّ المنهي عنه هو خصوص قصد القربة دون ذات العبادة ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون خصوص قصدها منهياً عنه كما هو واضح. فإذن لا محالة يكون المنهي عنه هو إتيانها بقصد القربة ، وعليه فمحذور لزوم كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه باقٍ على حاله ، ضرورة أنّ الاتيان بها بقصد القربة إذا كان منهياً عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به ، لاستحالة أن يكون شيء واحداً محبوباً ومبغوضاً معاً.

فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره غير تام صغرى وكبرى. إذن فالصحيح هو ما ذكرناه من أنّ النهي هنا ليس ناشئاً عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه ، بل هو باقٍ على ما هو عليه من المحبوبية ، ولذا يكون الاتيان به صحيحاً ، بل هو لأجل أرجحية الترك من الفعل باعتبار انطباق عنوان راجح عليه أو ملازمته له خارجاً ووجوداً ، كما تقدّم ذلك بشكل واضح. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعبادة المنهي عنها بدل ، فيمكن أن يجاب عنه بعين هذا الجواب بلا زيادة ونقيصة.

ويمكن أن يجاب عنه بشكل آخر : وهو أنّ النهي في هذا القسم متعلق بحصة خاصة من الواجب ، كالنهي عن الصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة وما شاكل


ذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى أنّ هذا النهي نهي تنزيهي وليس بتحريمي.

وعلى ضوء ذلك يتبيّن أنّ هذا النهي لايوجب تقييد إطلاق الطبيعة المأمور بها بغير هذه الحصة المنهي عنها ، بيان ذلك :

أنّ النهي المتعلق بحصة خاصة من العبادة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون إرشاداً إلى اقتران هذه الحصة بالمانع ، بمعنى أنّ الخصوصية الموجبة لكونها حصة مانعة عنها ، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس وفي الميتة وما شاكل ذلك ، فانّ هذه النواهي جميعاً إرشاد إلى مانعية هذه الامور عن الصلاة وتقيدها بعدمها ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ أمثال هذه النواهي الواردة في أبواب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية بمقتضى الفهم العرفي ، كما تقدّم الكلام فيها من هذه الناحية بصورة واضحة في أوّل بحث النواهي (١) كما أنّه لا شبهة في ظهور الأوامر الواردة في أبواب العبادات والمعاملات في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه النواهي كثيرة في كلا البابين ، كما أنّ هذه الأوامر كذلك.

وعلى الجملة : فالأمر والنهي وإن كانا في أنفسهما ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد بلا قرينة ، إلاّ أنّ هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر الواردتين في أبواب العبادات والمعاملات ، فهما ظاهران فيها في الارشاد دون المولوية بمقتضى المتفاهم العرفي ، كما هو واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّ هذه النواهي لا محالة تكون مقيّدة

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٠٧.


لاطلاق العبادة والمعاملة وموجبة لتقييدهما بغير الحصة المنهي عنها ، فلا تنطبقان عليها ، ومن هنا لم يستشكل أحد ـ فيما نعلم ـ في دلالة هذا النهي على الفساد في العبادات والمعاملات ، والوجه فيه ما عرفت من أنّها توجب تقييد المأمور به بغير هذه الحصة المنهي عنها ، فهذه الحصة خارجة عن حيز الأمر ولا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها ، ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بصحتها أبداً ، لفرض أنّ الصحة تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به ، وأمّا إذا فرض أنّه لا ينطبق عليه فلا يمكن الحكم بصحته أصلاً كما هو ظاهر ، كما أنّها توجب تقييد المعاملة بغير هذه الحصة ، ولازم ذلك هو أنّ اقترانها بها مانع عن صحتها ، فلا يمكن الحكم بصحتها عند تخصصها بهذه الخصوصية المنهي عنها.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّه لا شبهة في أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد العبادة أو المعاملة بغير الفرد المنهي عنه ، ومعه لا يكون هذا الفرد من أفرادها ولأجل ذلك يكون فاسداً.

الثاني : أن يكون لبيان حكم تحريمي فحسب ، وذلك كالنهي عن الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب ، أو النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة ... وهكذا ، فهذه النواهي تدل على حرمة متعلقها في الخارج ومبغوضيته ، وأنّ الشارع لا يرضى بايجاده فيه أصلاً ، ومن الواضح جداً أنّ أمثال هذه النواهي تنافي إطلاق المأمور به وتوجب تقييده بغير هذا الفرد المنهي عنه ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ مقتضى إطلاق المأمور به ترخيص المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء المكلف إيجاده ، ومقتضى هذا النهي عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج ، وعدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه ، ضرورة استحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب ، وعليه فلا بدّ من رفع اليد عن


إطلاق المأمور به وتقييده بغير الفرد المنهي عنه ، بداهة أنّ الشارع بنهيه عنه قد سدّ طريق امتثال المأمور به به ، ومنع عن إيجاده في ضمنه ، ومعه كيف يعقل بقاء إطلاقه على حاله الذي لازمه هو ترخيص الشارع المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء إيجاده في ضمنه.

وإن شئت قلت : إنّ العقل وإن حكم من ناحية الاطلاق بجواز تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء المكلف تطبيقه عليه ، إلاّ أنّ من المعلوم أنّ حكمه بذلك منوط بعدم منع الشارع عن بعض أفراده ، ومع منعه عنه لا حكم له بذلك أصلاً ، بل يحكم بعكس هذا ، أعني بعدم جواز تطبيقه عليه وتقييد إطلاقه بغيره ، ضرورة استحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصلياً أو تعبدياً ، فكما أنّ هذا النهي يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التعبدي ، فكذلك يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التوصلي بعين هذا الملاك ، وهو استحالة كون الحرام مصداقاً للواجب ، وهذا واضح.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد إطلاق الواجب بغير الفرد المنهي عنه ، من دون فرق فيه بين أن يكون الواجب تعبدياً أو توصلياً.

الثالث : أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلقه ، ففي مثل ذلك لا موجب لتقييد الواجب بغيره حتّى إذا كان عبادياً ، فضلاً عما إذا كان غير عبادي ، بيان ذلك : أنّ المولى إذا نهى عن الصلاة في الحمام مثلاً وكان نهيه تنزيهياً وملازماً للترخيص في الاتيان بها ، فمعناه جواز امتثال الواجب بالاتيان بالصلاة في الحمام وصحّتها ، والجمع بين ذلك وبين النهي التنزيهي يقتضي أن يكون تطبيق الطبيعي الواجب على هذه الحصة في نظر الشارع مرجوحاً بالاضافة


إلى تطبيقه على سائر الحصص ، وإلاّ فالحصة بما أنّها وجود للطبيعة المأمور بها لا نقصان فيها أصلاً ، ومن هنا لو لم يتمكن المكلف من الاتيان بغير هذه الحصة لزمه الاتيان بها جزماً ، فهذا يكشف عن اشتراكها مع سائر الحصص في الوفاء بالغرض ، وعدم تقييد الواجب بغيرها.

ومن هذا البيان يظهر أنّه لا وجه لما ذكره غير واحد من حمل النهي في هذا القسم على الارشاد إلى أقلّية الثواب بالاضافة إلى سائر الحصص والأفراد ، وجه الظهور : أنّ تخصص الطبيعة المأمور بها بهذه الخصوصية الموجبة للنهي التنزيهي ، إن كان مرجوحاً في نظر الشارع فالنهي مولوي لا محالة ، وإلاّ فلا موجب للارشاد إلى اختيار غير ما تعلق به من الأفراد.

ومما ذكرناه يظهر حال الأمر الاستحبابي المتعلق بحصة خاصة من الطبيعة الواجبة ، فانّه بمعنى استحباب تطبيق الواجب على تلك الحصة ، وكونها أفضل الأفراد المجامع مع جواز تطبيقه على سائر الأفراد ، ومن هنا لا يوجب مثل هذا الأمر تقييداً في إطلاق المأمور به ، سواء في ذلك الواجب وغيره ، وتفصيل الكلام يأتي في بحث المطلق والمقيد (١) إن شاء الله تعالى.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه بالنهي التنزيهي نسبة العموم من وجه ، فقد ظهر الحال فيه مما تقدّم وحاصله : أنّه لا إشكال فيه في صحة العبادة على القول بالجواز ـ أي جواز اجتماع الأمر والنهي ـ ولا يكون دليل النهي عندئذ موجباً لتقييد إطلاق دليل المأمور به ، لفرض تعدد متعلقي الأمر والنهي حينئذ في مورد الاجتماع من ناحية ، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر من ناحية اخرى ، وعلى هذا فلا موجب للتقييد أصلاً.

__________________

(١) في ص ٥٥٣.


وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً ، فربّما يتخيل فساد العبادة فيه من ناحية توهم التنافي بين صحتها في مورد الاجتماع وكونها مكروهة فيه ، لتضاد الأحكام وعدم اختصاصه بالوجوب والحرمة ، بل يعم جميع الأحكام الالزامية وغيرها ، فإذن فرض كون العبادة مكروهةً ينافي كونها مصداقاً للواجب أو المستحب ، وعليه فلا بدّ من تقييد إطلاق دليل الأمر بغير موارد الكراهة ، كما هو الحال فيما إذا كان النهي تحريمياً.

ولكن هذا خيال خاطئ وغير مطابق للواقع ، والوجه في ذلك : هو أنّ النهي عن حصة خاصة من العبادة لا يوجب تقييد إطلاقها بغيرها إذا كان تنزيهياً كما هو المفروض في المقام ، فانّ النهي التنزيهي بما أنّه ملازم للترخيص في إيجاد متعلقه في الخارج فلا ينافي الرخصة في انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وهذا بخلاف ما إذا كان النهي تحريمياً ، فانّه ينافي إطلاق المأمور به على ما تقدّم بيان جميع ذلك بصورة واضحة فلا نعيد. وإن شئت قلت : إنّ القسم الثالث على القول بالامتناع يدخل في القسم الثاني ويكون من صغرياته فيجري فيه جميع ما ذكرناه فيه.

الدليل الثاني :

ما عن جماعة من أنّ المولى لو أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، فلو خاطه في ذلك المكان لعدّ عاصياً للنهي عن الكون فيه ، ومطيعاً لأمر الخياطة.

وغير خفي أنّ هذا الدليل غير قابل للاستدلال به ، وذلك أمّا أوّلاً : فلأنّ الغرض من الخياطة يحصل بايجادها في الخارج ، سواء أكان إيجادها في ذلك المكان المخصوص المنهي عنه أم لا ، وسواء فيه القول باتحاد الخياطة مع الكون


فيه فرضاً أو القول بعدم اتحادهما معه. وأمّا ثانياً : فلأن متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي ، فانّ متعلق الأمر خياطة الثوب ، ومتعلق النهي هو الكون في ذلك المكان ، ومن المعلوم أنّ أحدهما غير الآخر وجوداً وماهيةً ، وعليه فلا مانع من أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي ، ولا يلزم من القول بالامتناع في المسألة القول بالامتناع هنا أبداً كما هو واضح.

الدليل الثالث :

ما عن المحقق القمي قدس‌سره (١) من أنّ الأمر على الفرض تعلق بطبيعة كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بطبيعة اخرى كالغصب مثلاً أو نحوه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الفرد الذي يكون مجمعاً لعنوانين في مورد الاجتماع مقدّمة لوجود الطبيعي في الخارج الذي يكون واجباً بوجوب نفسي ، وعلى هذا الضوء يتوقف القول بالامتناع في المسألة على الالتزام بأمرين : الأوّل : بوجوب المقدّمة. الثاني : بتنافي الوجوب الغيري مع النهي النفسي.

ولكن كلا الأمرين خاطئ ، أمّا الأمر الأوّل : فقد ذكر قدس‌سره أنّ مقدمة الواجب ليست بواجبة ليكون تنافٍ بين وجوب هذا الفرد الذي يكون مقدمة للطبيعي الواجب وبين حرمته. وأمّا الأمر الثاني : مع تسليم أنّ مقدمة الواجب واجبة مطلقاً ، فلما حققناه من أنّه لا تنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي أصلاً ولا مانع من اجتماعهما في شيء واحد.

وعلى الجملة : فعلى فرض أنّ النهي يسري إلى هذه الحصة التي تكون مجمعاً

__________________

(١) قوانين الاصول : ١٤٠ ، السطر ٢٤.


لهما ، باعتبار انحلال هذا النهي وسريانه إلى جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها ، فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين وهما الوجوب والحرمة في شيء واحد ، لأنّ ما هو محرّم وهو الفرد ليس بواجب ، وما هو واجب وهو الطبيعة المأمور بها ليس بمنهي عنه ، وعلى فرض أنّ الفرد واجب بوجوب غيري ، فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين ، لعدم التنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي كما مرّ ، فإذن لا مانع من القول بالجواز في المسألة.

وغير خفي ما فيه : وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره يرتكز على ركيزتين ، وكلتاهما خاطئة.

أمّا الركيزة الاولى : وهي كون الحصة والفرد مقدمةً للطبيعة المأمور بها ، فواضحة الفساد ، ضرورة أنّ الفرد ليس مقدمةً للطبيعي ، بل هو عينه وجوداً وخارجاً ولا تعقل المقدمية بينهما ، لوضوح أنّها إنّما تعقل بين شيئين متغايرين في الوجود ، وعليه فالحصة الموجودة في مورد الاجتماع بما أنّها تكون محرّمة بنفسها ومنهياً عنها ، فلا يعقل أن تكون مصداقاً للواجب ، وهذا معنى القول بالامتناع ، بداهة أنّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، كذلك يمتنع أن يكون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به.

وأمّا الركيزة الثانية : وهي كون الوجوب الغيري لا ينافي النهي النفسي ، فهي أيضاً واضحة الفساد ، ضرورة أنّ الوجوب الغيري على القول به لا يجتمع مع النهي النفسي ، فالمقدّمة إذا كانت محرّمة لا يعقل أن تكون واجبة ، فلا محالة يختص الوجوب بغيرها من المقدّمات ، كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب (١)

__________________

(١) لاحظ المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٧٣.


بشكل واضح. ولكنّ الذي يسهّل الخطب هو أنّه لا مقدمية في البين ، وعليه فإذا فرض أنّ الحصة في مورد الاجتماع محرّمة كما هو مفروض كلامه قدس‌سره فلا يعقل أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها ، بداهة أنّ المحرّم لا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب ، وهذا معنى امتناع اجتماع الأمر والنهي. هذا إذا كان مراده من المقدمة ما هو ظاهر كلامه قدس‌سره.

وأمّا لو كان مراده قدس‌سره منها هو أنّ الفرد لايتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلق الوجوب هو صرف وجود الطبيعة ، ومن المعلوم أنّه لا يسري إلى أفراده وحصصه ، وهذا بخلاف النهي ، فانّ متعلقه مطلق الوجود ، ولذا ينحل بانحلال أفراده ويسري إلى كل واحد منها ، وعلى هذا الضوء فلا يجتمع الوجوب والحرمة هنا في شيء واحد ، فإنّ الحصة الموجودة في مورد الاجتماع لا تتصف بالوجوب على الفرض ، وإنّما هي متصفة بالحرمة فحسب ، فإذن لا يجتمع الوجوب والحرمة فيها ليكون محالاً.

فيرد عليه أوّلاً : أنّ هذا خلاف مفروض كلامه قدس‌سره فانّ المفروض فيه هو أنّ الفرد مقدمة لوجود الطبيعي في الخارج ، لا أنّه لا يتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلقه هو صرف الوجود. وثانياً : أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فانّ الحصة لا تتصف بالوجوب ، إلاّ أنّها إذا كانت محرّمة يستحيل أن تقع مصداقاً للواجب ، وعليه فاذا فرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع محرّم ومنهي عنه ، يستحيل أن ينطبق عليه الواجب ، وهذا معنى القول بالامتناع ، لما عرفت من أنّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، كذلك يمتنع أن يكون الحرام مصداقاً للواجب.

فالنتيجة : أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو ما


ذكرناه من وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً وتعدده كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، وعلى الثاني من القول بالجواز على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.

إلى هنا قد تبيّن أنّ العمدة للقول بالجواز هي الوجه الأوّل ، وأمّا الوجه الثاني والثالث فهما لا يرجعان إلى معنىً محصل أصلاً ، كما أنّ الوجوه الاخر التي ذكرت لهذا القول لا ترجع إلى معنى معقول ، ولأجل ذلك لا نتعرض لتلك الوجوه ، لوضوح فسادها وعدم ارتباطها للقول بالجواز أصلاً.

ونتائج البحث عن العبادات المكروهة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما يمكن أن يستدل به للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة مطلقاً إنّما هو موارد العبادات المكروهة ، بدعوى أنّه لو لم يجز الاجتماع لم يمكن تعلق النهي بتلك العبادات ، ضرورة عدم اختصاص المضادة بين الوجوب والحرمة فحسب ، بل تعم جميع الأحكام من الالزامية وغيرها ، فإذن تعلق النهي بها ووقوعه في الخارج أقوى برهان على إمكانه وعدم استحالته ، وإلاّ لم يقع.

الثانية : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد أجاب عن هذا الدليل بصورة إجمالية ، ولكن قد عرفت النقد في بعض جهات جوابه ، ثمّ أجاب عنه بصورة تفصيلية ، حيث قسّم تلك العبادات إلى ثلاثة أقسام ، وأجاب عن كل واحد واحد منها مستقلاً ، ولا بأس بجوابه هذا في الجملة.

الثالثة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد أورد على ما أجاب به صاحب الكفاية قدس‌سره عن القسم الأوّل بما ملخصه : أنّ التزاحم لا يعقل بين النقيضين ، ولا بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وبما أنّ الصوم يوم عاشوراء


وتركه متناقضان ، فلا يمكن جعل الحكم لهما معاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال ، بل هما يدخلان في باب المعارضة فيرجع إلى قواعده وأحكامه. ولكن قد ذكرنا أنّ ما أفاده قدس‌سره من الكبرى ـ وهي استحالة وقوع المزاحمة بين النقيضين والضدين اللذين لا ثالث لهما ـ وإن كان في غاية المتانة والاستقامة ، إلاّ أنّ تطبيق تلك الكبرى على المقام غير صحيح ، وذلك لوجود أمر ثالث في البين وهو الامساك بدون قصد القربة فانّه لا موافقة فيه لبني اميّة ولا مخالفة لهم ، فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما اصلاً ، كما تقدّم ذلك بشكل واضح.

الرابعة : أنّ النهي في القسم الأوّل لا يخلو من أن يكون إرشاداً إلى محبوبية الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه أو ملازمته له ، أو يكون بمعنى الأمر ، أعني به ما يكون نهياً صورة وشكلاً وأمراً واقعاً وحقيقةً.

الخامسة : أنّ النهي في القسم الثاني نهي مولوي ، ويترتب على هذا أنّ الكراهة في المقام كراهة مصطلحة وليست بمعنى أقلّية الثواب ، ومع ذلك لا تكون منافية لاطلاق العبادة فضلاً عن غيرها ، غاية الأمر أنّ تطبيق الطبيعة المأمور بها على هذه الحصة المنهي عنها مرجوح بالاضافة إلى تطبيقها على غيرها من الحصص والأفراد ، كما تقدّم.

السادسة : أنّه لا فرق في القسم الثالث من أقسام العبادات المكروهة بين القول بالامتناع والقول بالجواز ، فعلى كلا القولين تكون العبادة صحيحة في مورد الاجتماع ، أمّا على القول بالجواز فهي على القاعدة ، وأمّا على القول بالامتناع فلأجل ما ذكرناه في القسم الثاني من هذه الأقسام في وجه صحة العبادة باعتبار أنّ هذا القسم على هذا القول داخل فيه ، ويكون من صغرياته كما تقدّم.


الاضطرار إلى ارتكاب المحرّم

لتمييز موضع البحث هنا عن المباحث المتقدمة ينبغي أن نشير إلى عدّة نقاط :

الاولى : ما إذا كان المكلف متمكناً من امتثال الواجب في الخارج بدون ارتكاب الحرام ، ولكنّه باختياره ارتكب المحرّم وأتى بالواجب في ضمنه ، وذلك كمن كان قادراً على الاتيان بالصلاة مثلاً في خارج الأرض المغصوبة وغير ملزم بالدخول فيها ، ولكنه باختياره دخل فيها وصلّى ، فعندئذ يقع الكلام في صحة هذه الصلاة وفسادها من ناحية أنّها هل تتحد مع المحرّم خارجاً في مورد الاجتماع أم لا؟ وهذه النقطة هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تقدّم الكلام فيها بشكل واضح (١).

الثانية : ما إذا كان المكلف غير متمكن من امتثال الواجب بدون ارتكاب الحرام لعدم المندوحة له ، ولكنّه قادر على ترك الحرام ، وذلك كما إذا توقف الوضوء أو الغسل مثلاً على التصرف في أرض الغير ، بأن يكون الماء في مكان يتوقف التوضؤ أو الاغتسال به على التصرف فيها ، فيدور عندئذ أمر المكلف بين أن يترك الواجب أو يرتكب المحرم أو يتخير بينهما ، لعدم تمكنه من امتثال كليهما معاً ، وهذه النقطة هي التي تدور عليها بحث التزاحم ، وقد تقدّم الكلام فيها بصورة مفصّلة (٢).

الثالثة : ما إذا كان المكلف غير متمكن من ترك الحرام ومضطراً إلى ارتكابه ،

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤١٥ ، ثمرة مسألة الاجتماع.

(٢) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٥١٠ ، ٥١٥ ، وكذا مجلد ٣ : ٥٠٩.


وذلك كمن كان محبوساً في الدار المغصوبة مثلاً ، سواء أكانت مقدمته باختياره أو بغير اختياره ، وبعد ذلك لا يتمكن من الخروج عنها فطبعاً عندئذ يضطر إلى الصلاة فيها ، وهذه النقطة هي محل البحث في المقام دون غيرها.

وبعد ذلك نقول : الكلام فيها يقع في موضعين :

الأوّل : في الاضطرار الناشئ بغير سوء اختيار المكلف.

الثاني : في الاضطرار الناشئ بسوء اختياره.

[ الاضطرار لا بسوء الاختيار ]

أمّا الموضع الأوّل فالكلام فيه يقع في موردين :

الأوّل : في حكم الفعل المضطر إليه نفسه.

الثاني : في حكم العبادة الواقعة معه.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في أنّ الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن الفعل المضطر إليه ولا يعقل بقاؤه ، ضرورة استحالة توجيه التكليف إلى المضطر ، لأنّه تكليف بما لا يطاق وهو محال عقلاً.

هذا ، مضافاً إلى ما دلّت عليه عدّة من الروايات (١).

__________________

(١) قال الصدوق : حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار قال : حدّثنا سعد بن عبدالله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن امّتي تسعة :


..........................................

__________________

الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (١).

ثمّ إنّ الموجود في نسخة الخصال (٢) : محمّد بن أحمد بن يحيى العطار وهو غلط ، والصحيح هو أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، لأنّه من مشايخ الصدوق ، وأمّا محمّد ابن أحمد بن يحيى العطار فلا وجود له أصلاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى أنّه وقع اختلاف يسير في هذه الرواية ، بين ما في الوسائل وما في الخصال والتوحيد ، فإنّ ما فيهما أعني الخصال والتوحيد مشتمل على جملة « ما اضطروا إليه » دون كلمة « السهو » وما في الوسائل عكس ذلك ، يعني أنّه مشتمل على كلمة « السهو » دون جملة « ما اضطروا إليه » ولعل منشأ هذا الاختلاف اختلاف النسخ أو جهة اخرى ، وكيف كان فلا يهمّنا ذلك بعد كون الرواية ضعيفة.

ومن هنا يظهر أنّ توصيف شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣) هذه الرواية بالصحة بقوله : المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد في غير محلّه ، ولعلّه قدس‌سره يرى صحّتها باعتبار أنّ أحمد بن

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١ ، ٧ : ٢٩٣ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣٧ ح ٢ ، ٨ : ٢٤٩ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٣٠ ح ٢ ، ورواه في الخصال : ٤١٧ / ٩ وفي التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. وهي ضعيفة بأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار لعدم ثبوت وثاقته.

(٢) [ ولكنّ في الخصال الموجود عندنا : أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ].

(٣) فرائد الاصول ١ : ٣٦١.


..........................................

__________________

محمّد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ، وهذا المقدار يكفي في توثيقه ، أو باعتبار رواية الأجلاء عنه ، ولكن من المعلوم أنّ مجرد كونه من مشايخه أو رواية الأجلاء عنه لا يكفي في توثيقه ، بل لا يثبت به حسنه فضلاً عن وثاقته ، لأن من مشايخه مَن كان معلوم الضعف ، كما أنّ رواية الأجلاء عمن كان كذلك كثيرة ، فإذن كيف يكون هذا قرينة على صحة الرجل.

٢ ـ موثقة أحمد بن محمّد بن يحيى عن سماعة عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : إذا حلف الرجل تقيةً لم يضرّه إذا اكره واضطرّ إليه ، وقال : ليس شيء ممّا حرّم الله إلاّوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه » (١).

٣ ـ موثقة سماعة عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال : لا ، إلاّ أن يكون مضطراً إليه وليس عنده غيرها ، وليس شيء مما حرّم الله إلاّوقد أحلّه لمن اضطر إليه » (٢).

٤ ـ أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن إسماعيل الجعفي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : وضع عن هذه الامّة ستّة خصال : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه » (٣).

يقع الكلام في سند هذه الرواية ، والظاهر أنّ سندها صحيح ، فان في سندها

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٨ / كتاب الأيمان ب ١٢ ح ١٨.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٨٣ / أبواب القيام ب ١ ح ٧.

(٣) الوسائل ٢٣ : ٢٣٧ / كتاب الأيمان ب ١٦ ح ٣.


..........................................

__________________

إسماعيل الجعفي وهو إسماعيل بن جابر الجعفي ، إذ إسماعيل الجعفي الذي ورد بهذا العنوان في الروايات كثيراً أمره مردد بين ابن جابر وابن عبدالرحمن ، وليس هو رجلاً آخر غيرهما كما هو واضح ، وإلاّ لتعرض له أرباب الرجال لا محالة.

نعم ، ذكره الشيخ قدس‌سره في رجاله (١) في أصحاب الصادق والباقر عليهما‌السلام بعنوان الخثعمي ( إسماعيل بن جابر الخثعمي ) وفي أصحاب الكاظم عليه‌السلام بلا عنوان : إسماعيل بن جابر ، ومن هنا وقع الاختلاف في تعدد الرجل وأنّ المسمى بإسماعيل بن جابر واحد أو متعدد ، ولكنّ الظاهر بل لا شبهة في أنّه واحد ، ويدلنا على ذلك امور :

الأوّل : أنّه لو كان رجلين لذكرهما الشيخ في كتابيه الرجال والفهرست ، ولا سيما في الفهرست حيث إنّه معدّ لذكر أرباب الكتب والاصول ، مع أنّه لم يذكر فيه إلاّ إسماعيل بن جابر بلا توصيف (٢) ولذكرهما النجاشي أيضاً في رجاله مع أنّه لم يذكر إلاّ إسماعيل بن جابر الجعفي (٣) ، ولا معنى لأن يذكر الشيخ أحدهما في كتابيه والنجاشي الآخر ، مع أنّ بناء كل منهما على ذكر أرباب الكتب والاصول. ومما يؤيد الاتحاد أنّ الراوي عنهما صفوان بن يحيى ، وأ نّه يبعد عدم اطلاع الشيخ على الجعفي مع أنّه صاحب أصل ، بل وكيف يمكن ذلك مع اشتهار الجعفي بين الرواة ووروده في الروايات ، كما أنّه يبعد عدم اطلاع النجاشي والكشي على الخثعمي وكل ذلك يؤكد الاتحاد.

__________________

(١) رجال الطوسي : ١٦٠ / ١٧٨٩ ، ١٢٤ / ١٢٤٦ ، ٣٣١ / ٤٩٣٤.

(٢) الفهرست : ١٥ / ٤٩.

(٣) رجال النجاشي : ٣٢ / ٧١.


..........................................

__________________

الثاني : أنّ جملة من أرباب الكتب نقلوا عن رجال الشيخ إسماعيل بن جابر الجعفي لا الخثعمي منهم العلاّمة في الخلاصة (١) والتفريشي في نقد الرجال (٢) ومولى عناية الله في المجمع (٣) وهذا النقل من هؤلاء الأكابر شاهد صدق على تحريف نسخة رجال الشيخ بتبديل الجعفي بالخثعمي.

الثالث : الموجود في روايات كتابي الشيخ أعني التهذيب والاستبصار ليس هو إسماعيل بن جابر الخثعمي ، بل الموجود فيهما إمّا إسماعيل بن جابر بلا توصيف كما هو الغالب أو إسماعيل الجعفي وهذا كثير ، فهذا قرينة على وقوع التحريف في رجاله وعدم وجودٍ لإسماعيل بن جابر الخثعمي.

نعم بقي هنا شيء ، وهو أنّ الجعفي كما أنّه لقب لإسماعيل بن جابر كذلك هو لقب لإسماعيل بن عبدالرحمن ، فإذن من أين يعلم أنّ المراد من الجعفي في هذه الرواية هو ابن جابر دون ابن عبدالرحمن.

والجواب عن ذلك أوّلاً : أنّ المراد من إسماعيل الجعفي في هذه الرواية لا محالة هو ابن جابر ، وذلك لأنّ إسماعيل بن عبدالرحمن الجعفي مات في حياة أبي عبدالله عليه‌السلام على ما ذكره الشيخ في رجاله ، فإذن الراوي عن إسماعيل الجعفي إذا أدرك زمان أبي عبدالله عليه‌السلام فهو طبعاً مردد بين ابن جابر وابن عبدالرحمن.

وأمّا إذا لم يدرك زمانه عليه‌السلام فيتعين في ابن جابر ، ضرورة أنّه لا يمكن رواية

__________________

(١) الخلاصة : ٥٤.

(٢) نقد الرجال ١ : ٢١٢.

(٣) مجمع الرجال ١ ـ ٢ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.


وأمّا الكلام في الثاني فيقع في عدّة مقامات :

الأوّل : في بيان ما هو المستفاد من تعلق النهي بعبادة أو معاملة ، وهذا وإن كان خارجاً عن محل الكلام فانّه في الاضطرار إلى ارتكاب المحرّم لا غيره ، إلاّ أنّه لا بأس بالاشارة إليه لأدنى مناسبة. الثاني : في صحة العبادة في فرض عدم اتحادها مع المحرّم خارجاً. الثالث : في صحة العبادة في فرض اتحادها معه كذلك.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ النهي في العبادات كقوله عليه‌السلام :

« لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » أو « في الميتة » أو « في الحرير » أو « في الذهب » أو « في النجس » (١) أو ما شاكل ذلك ، أو في المعاملات كقوله عليه‌السلام : « لاتبع ما ليس عندك » (٢) وقوله عليه‌السلام : « نهى النبي ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )

__________________

من لم يدرك زمانه عليه‌السلام عن إسماعيل بن عبدالرحمن بلا واسطة.

وعلى هذا الأساس يتعين في هذه الرواية أنّه ابن جابر ، لأنّ الراوي عنه أحمد بن محمّد ابن عيسى وهو ممن لم يدرك زمان أبي عبدالله عليه‌السلام.

وثانياً : على تقدير التنزل عن ذلك ، أنّ هذا الترديد لا ينافي اعتبار الرواية ، لأن إسماعيل بن عبدالرحمن الجعفي أيضاً ثقة ولا أقل أنّه حسن ، لقول النجاشي في رجاله أنّه كان وجهاً في أصحابنا ، فإذن لا إشكال في اعتبار الرواية وصحّتها.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٦ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ٦ ، وص ٣٤٤ ب ١ ح ٢ ، وص ٣٦٨ ب ١١ ح ٢ ، وص ٤١٣ ب ٣٠ ح ٤ ، الوسائل ٣ : ٤١٨ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤٧ / أبواب أحكام العقود ب ٧ ح ٢.


عن بيع الغرر » (١) ونحوهما ، ظاهر في الارشاد إلى مانعية هذه الامور عن العبادات أو المعاملات ، ومعنى مانعيتها هو اعتبار عدمها فيها ، ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الامور وكذا الممضاة من المعاملة.

ويترتب على ذلك : أنّ الصلاة فيما لا يؤكل أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك ليست بمأمور بها ، ومن المعلوم أنّ الاتيان بغير المأمور به لايجزئ عن المأمور به ولا يوجب سقوطه ، فإذن لا محالة يقع فاسداً ، بل لو أتى بها مع أحد هذه الموانع بقصد الأمر لكان تشريعاً ومحرّماً ، وكذا لو فعل معاملةً غرريةً أو باع ما ليس عنده ، فلا محالة تقع فاسدةً لفرض أنّها غير ممضاة شرعاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه النواهي إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة مع أحد هذه الامور ، فيكون البطلان مدلولاً مطابقياً لها ، ولا تدل على حكم تكليفي أصلاً ، ولذا لا يكون إيجادها في الخارج من المحرّمات في الشريعة المقدّسة ، فلا يكون لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس محرّماً ومبغوضاً. نعم ، لبس الحرير والذهب من المحرّمات ، إلاّ أنّ حرمته غير مستفادة من هذا النهي ، بل هي مستفادة من دليل آخر ، وكيف كان فهذا واضح ، وأنّ هذه النواهي من هذه الناحية ـ أي من ناحية كونها إرشاداً إلى مانعية تلك الامور ـ لا تدل على حرمة إيجادها في الخارج أبداً. نعم ، يمكن استفادة حرمة بعضها من دليل آخر ، وهذا لا صلة له بدلالة تلك النواهي عليها كما لا يخفى.

وعلى ضوء هذا البيان يترتب أنّ المكلف لو اضطرّ إلى لبس ما لا يؤكل في الصلاة أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك ، فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣.


الصلاة ، لعدم تمكنه من الاتيان بها واجدةً لجميع الأجزاء والشرائط ، ومعه لا محالة يسقط الأمر عنها ، وإلاّ لكانت تكليفاً بالمحال. وأمّا وجوب الفاقد لهذا القيد فهو يحتاج إلى دليل آخر ، فإن دلّ دليل على وجوبه أخذنا به ، وإلاّ فلا وجوب له أيضاً.

وعلى الجملة : فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عن كل مركب إذا تعذر أحد أجزائه أو قيوده من الوجودية أو العدمية باضطرار أو نحوه ، ولايعقل بقاء الأمر به في هذا الحال ، لاستلزامه التكليف بغير المقدور وهو محال. وأمّا وجوب الباقي من الأجزاء والقيود فهو يحتاج إلى دليل آخر ، فإن كان هناك دليل عليه فهو ، وإلاّ فلا وجوب له أيضاً.

نعم ، قد ثبت وجوب الباقي في خصوص باب الصلاة من جهة ما دلّ من الروايات على أنّها لا تسقط بحال (١) ، هذا مضافاً إلى قيام الضرورة والاجماع القطعي على ذلك.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الأوامر والنواهي بطبعهما ظاهرتان في المولوية ، وحملهما على غيرها من الارشاد أو نحوه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خاصة تدل عليه ، ولكن هذا الظهور قد انقلب في الأوامر والنواهي المتعلقتين بحصة خاصة من العبادات والمعاملات ، فانّهما في هذه الموارد ظاهرتان في الارشاد ، فالأوامر إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية والنواهي إلى المانعية. فتلخص أنّ ورودهما في أبواب العبادات والمعاملات قرينة عامّة على أنّهما للارشاد.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.


الثاني : أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب عند تعذره بتعذر أحد أجزائه أو قيوده. وأمّا وجوب الباقي فهو يحتاج إلى دليل آخر ولا دليل عليه إلاّ في باب الصلاة فحسب.

وأمّا المقام الثاني : فلا ينبغي الشك في صحة العبادة في مورد الاجتماع هنا ، والوجه في ذلك ما ذكرناه هناك من أنّ من ثمرة المسألة ـ أعني مسألة الاجتماع ـ هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً ، وقد تقدّم أنّ القول بالجواز يرتكز على ركيزتين :

الاولى : أن يكون المجمع في مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهيةً.

الثانية : أن لا يسري الحكم من متعلق النهي إلى متعلق الأمر ، وعلى هذا فإذا كانت العبادة صحيحة في مورد الاجتماع مع بقاء الحرمة وفعليتها ، وأ نّها لا تكون مانعة عن صحتها ، فما ظنك فيما إذا سقطت تلك الحرمة من ناحية الاضطرار أو الاكراه أو نحوهما ، كما هو المفروض في مقامنا هذا. وعلى الجملة : فقد ذكرنا أنّ العبادة كالصلاة مثلاً صحيحة على القول بالجواز مطلقاً ، ومجرد ملازمة الحرام معها وجوداً لا يمنع عن صحتها بعد ما كان وجود أحدهما في الخارج مبايناً لوجود الآخر ، فيكون نظير ما إذا استلزم الصلاة في مكانٍ النظر إلى الأجنبية فكما أنّه غير مانع عن صحة الصلاة في ذلك المكان فكذلك في المقام ، هذا حال ما إذا لم يكن المكلف مضطراً إلى ارتكاب المحرّم وصلّى باختياره في أرض مغصوبة.

وأمّا إذا كان مضطراً إلى ارتكابه والتصرف فيها ، فلا إشكال في صحة صلاته ، بل لو قلنا بالفساد هناك ـ إمّا من ناحية سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، أو من ناحية أنّ مجرد ملازمة الحرام معها وجوداً في الخارج مانع عن صحتها ، بدعوى اعتبار الحسن الفاعلي في صحة العبادة ،


ومع ملازمة وجود الحرام معها خارجاً لا يكون صدورها حسناً ـ فلا نقول به في المقام ، وذلك لأنّ المانع عن الحكم بالصحة إنّما هو الحرمة الواقعية من جهة أحد هذين الأمرين ، والمفروض أنّها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً ، لفرض أنّه رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً ، فإذن لا مانع من الصحة أصلاً.

ومن هنا قلنا بصحة العبادة على القول بالامتناع في صورة النسيان أو نحوه بعين هذا الملاك ، وهو أنّه رافع للتكليف واقعاً ، فإذا كانت الحرمة مرفوعة واقعاً من جهة النسيان أو نحوه لا مانع عندئذ من الحكم بالصحة أصلاً. وكيف كان ، فلا إشكال في صحة العبادة في المقام ولو قلنا بفسادها على القول بالجواز في المسألة ، وسيأتي بيان ذلك (١) بشكل واضح إن شاء الله تعالى.

وأمّا المقام الثالث : وهو ما إذا كان المأمور به متحداً مع المنهي عنه في الخارج ، فهل يصحّ الاتيان بالعبادة المضطر إليها المتحدة مع الحرام خارجاً أم لا؟

وجهان بل قولان ، المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأوّل ، ولكن اختار جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) القول الثاني.

وقد استدلّ للمشهور : بأنّ الموجب لتقييد إطلاق المأمور به بغير الحصة المنهي عنها إنّما هو حرمة تلك الحصة ، وإلاّ فلا مقتضي لتقييده أصلاً ، والمفروض في المقام أنّ حرمتها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً ، فلا حرمة بحسب الواقع ونفس الأمر ، ومن المعلوم أنّه مع سقوطها كذلك

__________________

(١) في ص ٥٤ وتقدّم أيضاً في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤١ ، ٤٩٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ وما بعدها.


لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر لاثبات كون هذه الحصة من مصاديق المأمور به وأفراده.

لتوضيح ذلك نأخذ مثالاً : وهو ما إذا اضطرّ المكلف إلى الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب فتوضأ أو اغتسل به ، ففي أمثال هذا لا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل ، فانّ المانع عن صحتهما إنّما هو حرمة التصرف في هذا الماء ، حيث إنّها لا محالة توجب تقييد إطلاق دليليهما بغير هذه الحصة ـ أعني التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب ـ فهذه الحصة خارجة عن دائرة الأمر ومبغوضة للشارع فلا يعقل انطباق المأمور به عليها ، لاستحالة كون المحرّم والمبغوض مصداقاً للواجب والمحبوب ، ولازم ذلك لا محالة تقييد المأمور به بغيرها. فإذن النتيجة هي أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في هذا الماء بالمطابقة ، فلا محالة يدل على تقييد الوضوء أو الغسل بغيره بالالتزام ، لفرض أنّ هذا التقييد لازم حرمة التصرف فيه ومتفرع عليها ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء والوجود والحجية ، فلا يعقل بقاء الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية ، فالدلالة الالتزامية كما أنّها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود فلا يعقل وجودها بدون وجود تلك الدلالة ، كذلك تابعة لها في الحجية فلا يمكن بقاؤها على صفة الحجية مع فرض سقوط الدلالة المطابقية عنها.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ في المقام بما أنّ الدلالة المطابقية ـ وهي دلالة النهي على حرمة التصرف في هذا الماء ـ قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه ، فلا محالة تسقط دلالته الالتزامية أيضاً ، وهي الدلالة على تقييد الوضوء أو الغسل بغير الوضوء أو الغسل بهذا الماء ، فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل لاثبات كون هذا


الفرد مأموراً به.

وبكلمة اخرى : أنّه لا شبهة في أنّ المانع عن صحة الوضوء أو الغسل ليس هو التصرف في مال الغير بما هو تصرف في مال الغير ، ضرورة أنّه لو أذن في التصرف فيه فلا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به ، بل المانع عنها إنّما هو حرمة التصرف فيه ، لوضوح أنّه إذا كان محرّماً يستحيل أن يكون مصداقاً للواجب ، وأمّا إذا سقطت تلك الحرمة من جهة الاضطرار أو نحوه واقعاً كما هو المفروض في المقام ، فلا مانع عندئذ من كون الوضوء أو الغسل به مصداقاً للمأمور به ، لفرض أنّ التصرف فيه وقتئذ جائز واقعاً كالتصرف في الماء المملوك أو المباح ، فإذا كان جائزاً كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به عليه.

ومن هنا قوّينا صحة الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب في صورة النسيان إذا كان عن قصور لا عن تقصير ، والوجه فيه ما تقدّم من أنّ النسيان كالاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فحسب ، ومن المعلوم أنّه إذا ارتفعت الحرمة واقعاً ارتفع ما هو معلول لها أيضاً ، لاستحالة بقاء المعلول من دون علّته ، وهو تقييد المأمور به بغير هذا الفرد المنهي عنه ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وعلى ضوء ذلك قد تبين أنّه لا فرق في صحة الوضوء أو الغسل بهذا الماء بين أن يكون للمكلف مندوحة ، بأن يتمكن من أن يتوضأ أو يغتسل بماء آخر مباح أو مملوك له ، أو لا يكون له مندوحة.

والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ حرمة التصرف في هذا الماء على الفرض قد سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه ، ومن المعلوم أنّه مع سقوط الحرمة عنه لا فرق بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في أمر آخر ، وعليه فتمكن المكلف من استعمال هذا الماء في شيء آخر والتوضؤ أو الاغتسال بماء


مباح أو مملوك له لا يوجب لزوم صرفه في هذا الشيء والتوضؤ أو الاغتسال بماء آخر ، لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق فيه بين أنحاء التصرف.

نعم ، يمكن ذلك فيما لو أذن المالك في التصرف في ماله من جهة خاصة دون جهة اخرى ، فانّه على هذا وجب الاقتصار في التصرف فيه على تلك الجهة فحسب ، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن المقام بالكلّية ، لفرض أنّ الاضطرار في المقام تعلق بطبيعي التصرف في هذا الماء لا بالتصرف فيه بجهة خاصة كما هو واضح.

تتلخص نتيجة استدلال المشهور في نقطتين رئيسيتين :

الاولى : أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.

الثانية : أنّ الاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فقط كما هو الحال في الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً ولا ينافي ثبوته واقعاً.

وقد أورد شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على النقطة الاولى بما حاصله :

هو أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أنواع :

الأوّل : أن يكون إرشاداً إلى مانعية شيء واعتبار عدمه في المأمور به ، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس والميتة والحرير وما شاكل ذلك ، فاعتبار عدم هذه الامور في المأمور به كالصلاة مثلاً ، يكون مدلولاً مطابقياً لهذا النهي وليس مدلولاً إلتزامياً كما هو ظاهر.

الثاني : أن يكون نهياً نفسياً تحريمياً ، ولكن استفادة اعتبار قيد عدمي فيه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ وما بعدها.


ـ أي في المأمور به ـ من ناحية مزاحمته مع المنهي عنه ، بمعنى أنّ المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، وعلى هذا فبناءً على تقديم جانب النهي على جانب الأمر لا محالة يقيد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد.

الثالث : هذه الصورة بعينها ، ولكن استفادة التقييد ليست من ناحية مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ، بل هو من ناحية الدلالة الالتزامية ، بمعنى أنّ النهي يدل على الحرمة بالمطابقة وعلى التقييد بالالتزام.

أمّا النوع الأوّل ، فلا إشكال في دلالته على الفساد ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق هذا النهي هو اعتبار هذا القيد العدمي في المأمور به مطلقاً وفي جميع أحوال المكلف ، ولازم ذلك سقوط الأمر عنه عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد لهذا القيد ، كما لو اضطرّ المكلف إلى لبس الحرير أو الذهب أو الميتة في الصلاة ، هذا ما تقتضيه القاعدة ، ولكن في خصوص باب الصلاة قد دلّ الدليل على عدم سقوطها بحال ، ومردّ هذا الدليل إلى إلغاء هذه القيود عند العجز وعدم التمكن من إتيانها.

وأمّا النوع الثاني ، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ، فلا يدل على الفساد حتى فيما إذا تمكن المكلف من ترك الحرام بناءً على إمكان الترتب وصحته ، أو بناءً على إمكان تصحيح العبادة بالملاك فضلاً عما إذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ، كما في المقام ، وذلك لأنّ سقوط الحرمة يستلزم سقوط التقييد لا محالة ، لفرض أنّ منشأه ليس دليلاً لفظياً له عموم أو إطلاق ليتمسك بعمومه أو إطلاقه لاثبات أنّه باقٍ ولم يسقط ، بل منشؤه مزاحمة الحرمة مع الوجوب ، فإذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ارتفعت المزاحمة ومع ارتفاعها لا يعقل بقاؤه ، بداهة أنّه لا يعقل بقاء المعلول مع


سقوط علته وارتفاعها ، وكذا الحال فيما إذا كانت الحرمة ثابتة في الواقع ولكنّها غير منجّزة ، لوضوح أنّها ما لم تكن منجّزة فلا تزاحم الوجوب ولا تكون معجّزاً للمكلف عن الاتيان بالمأمور به ومعذّراً له في تركه لتكون موجبة لتقييده بغير هذا الفرد.

فالنتيجة : أنّ الحرمة إذا سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه ـ كما فيما نحن فيه ، أو فرض أنّها وإن لم تسقط في الواقع بل هي باقية إلاّ أنّها غير منجّزة ـ فلا تمنع عن انطباق الطبيعي المأمور به على هذا الفرد الملازم وجوداً مع الحرام ، لأنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة المنجّزة الموجبة لتقييده بغيره بناءً على تقديمها على الوجوب كما هو المفروض ، وأمّا إذا سقطت فلا مانع أصلاً.

وأمّا النوع الثالث ، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن الدلالة الالتزامية ، فقد أفاد قدس‌سره بما هو توضيحه : أنّ التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة ، فلا سبق للحرمة على التقييد ليكون التقييد معلولاً لها ، وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عند تعذر قيده ، ضرورة استحالة بقاء الأمر بحاله مع تعذره ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، ومقتضى القاعدة الثانوية هو سقوط التقييد ولزوم الاتيان بالباقي من أجزاء الصلاة وشرائطها ، والوجه في ذلك : هو أنّ الحرمة والوجوب متضادان ، وقد تقدّم في بحث الضد (١) بشكل واضح أنّ وجود الضد ليس مقدمةً لعدم الضد الآخر ، ضرورة أنّ المقدمية تقتضي تقدم المقدمة على ذيها بالرتبة ، والمفروض أنّه لا تقدم ولا تأخر بين وجود ضد وعدم الآخر ، كما أنّه لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما ، لأنّ تقدم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك مصحح له ولا يكون جزافاً ، والمفروض أنّه

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٩٠ وما بعدها.


لا ملاك له في المقام. فالنتيجة : أنّ عدم الضد ووجود ضد آخر في رتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما أبداً ، فإذا كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون أحدهما متفرعاً على الآخر وفي مرتبة متأخرة عنه.

وعلى ضوء ذلك قد تبين أنّه لا يمكن أن يكون النهي دالاً على الحرمة في مرتبة وعلى التقييد وعدم الوجوب في مرتبة اخرى متفرعةً عليها ، لما عرفت من عدم الاختلاف بينهما في الرتبة أصلاً ، وعليه فلا محالة تكون دلالة النهي على كليهما في رتبة واحدة.

ونتيجة ذلك : هي أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر عن المركب عند تعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد ، لفرض أنّ دلالة النهي عليه لم تكن متفرعة على دلالته على الحرمة ، بل دلالته عليه كانت في عرض دلالته عليها.

ويترتب على ذلك : أنّه إذا سقطت دلالته على الحرمة لضرورة فلا مقتضي لسقوط دلالته على التقييد أصلاً ، لفرض أنّها غير متفرعة عليها لتنتفي بانتفائها ، بل هي في عرضها ، فإذن مقتضى القاعدة الأوّلية هو عدم سقوط التقييد وأ نّه باقٍ بحاله ، والاضطرار إنّما يوجب سقوط الحرمة فحسب ، فانّ بقاءها معه غير معقول ، لاستلزام بقائها في هذا الحال التكليف بالمحال ، وأمّا التقييد فلا موجب لسقوطه. ومن المعلوم أنّه لا منافاة بين سقوط الحرمة وبقاء التقييد أصلاً ، بل هو مقتضى إطلاق دليله كما لا يخفى.

نعم ، قد دلّ الدليل على سقوطه في خصوص باب الصلاة ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بالباقي من أجزائها وشرائطها.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا ما أفاده في النوع الأوّل من تلك النواهي ، فهو في غاية الاستقامة ، كما


تقدم ذلك غير مرّة فلا نعيد.

وأمّا ما أفاده في النوع الثاني منها ، فأيضاً الأمر كذلك ، فانّه لا إشكال في سقوط التقييد عندئذ ـ أي عند سقوط النهي واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ـ ومعه لا شبهة في صحة العبادة ، بل قد ذكرنا سابقاً أنّ العبادة صحيحة في فرض بقاء الحرمة وعدم سقوطها بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه ، فضلاً عما إذا سقطت الحرمة.

وأمّا ما أفاده في النوع الثالث ، فلا يمكن تصديقه بوجه ، والصحيح فيه هو ما ذكره المشهور من أنّ دلالة النهي على التقييد متفرعة على دلالته على الحرمة فتنتفي بانتفائها ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّه لا تقدم ولا تأخر بين عدم ضد ووجود ضد آخر وأ نّهما في مرتبة واحدة ، وإن كان في غاية المتانة والصحة بحسب مقام الواقع والثبوت ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ تقدم شيء على آخر في الرتبة بعد ما كان مقارناً معه زماناً لا يكون جزافاً ، وإلاّ لأمكن تقدم كل شيء على آخر بالرتبة ، بل كان بملاكٍ كتقدم العلة على المعلول رتبةً بعد ما كانت مقارناً معه زماناً ، فانّه قضية حق علّيتها عليه ، وتقدم الشرط على المشروط كذلك ، فانّه قضاء لحق الشرطية ... وهكذا ، ولا ملاك لتقدم عدم ضد على وجود ضد آخر رتبة أو بالعكس ، كما بيّنا ذلك في بحث الضد بشكل واضح فلاحظ (١).

ولكنّه لا يتم بحسب مقام الاثبات والدلالة ، بيان ذلك : هو أنّه لا شبهة في أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير كقوله عليه‌السلام « لا يحل

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٩٠ وما بعدها.


مال امرئ مسلم إلاّبطيب نفسه » (١) ونحوه لا تدل على التقييد المزبور وعدم الوجوب إلاّبالدلالة الالتزامية ، ضرورة أنّ مدلولها المطابقي هو حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه لا ذلك التقييد وعدم الوجوب ، ولكن بما أنّ الحرمة تنافي الوجوب ولا تجتمع معه فلا محالة ما دلّ على الحرمة بالمطابقة يدل على عدم الوجوب بالالتزام ، نظير ما إذا أخبر أحد عن قيام زيد مثلاً ، فانّ إخباره هذا يدل على قصد الحكاية عن قيامه بالمطابقة وعلى عدم قعوده بالالتزام ، فانّ كل دليل يدل على ثبوت شيء لشيء بالمطابقة ـ سواء أكان إخباراً أو إنشاءً ـ يدل على عدم ثبوت ضدّه له بالالتزام ، فلو دلّ دليل على حرمة شيء فلا محالة يدل بالالتزام على عدم وجوبه ، وهذا من الواضحات الأوّلية.

ويترتب على ذلك : أنّ عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس وعدم تفرّع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت ، لا ينافي الترتب والتفرع بينهما بحسب مقام الاثبات والدلالة ، بل قد عرفت أنّ ذلك من الواضحات ، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية وفي مرتبة متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين ـ أعني المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي ـ تقدم وتأخر في مقام الثبوت والواقع أصلاً ، فان ذلك لا يمنع عن كون دلالة الدليل على أحدهما في مرتبة سابقة على دلالته على الآخر ، بل الأمر طبعاً كذلك في جميع الامور المتلازمة في الوجود خارجاً ، فكلّما دلّ الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دلّ على وجود الآخر بالالتزام ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ ، ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).


فتكون دلالته على وجود أحدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على وجود الآخر ، مع أنّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.

وكذا ما دلّ على وجود المعلول بالمطابقة ، لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام ، فتكون دلالته على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة ، مع أنّ وجوده متأخر رتبة عن وجودها ، ولذا قسّموا الدليل إلى دليل إنّي ودليل لمّي ، والمراد بالأوّل هو ما كان المعلول واقعاً في طريق إثبات العلة ، ويكون العلم بها معلولاً للعلم به ، أو كان أحد المعلولين واقعاً في طريق إثبات المعلول الآخر ، والمراد بالثاني هو ما كانت العلة واقعة في طريق إثبات المعلول.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبةً بحسب مقام الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الاثبات والكشف أيضاً ، لوضوح أنّه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدّماً رتبةً على كشف الآخر والعلم به ، بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبةً متقدماً على كشف المتقدم كذلك ، كما هو الحال في الدليل الإنّي ، بل هذا من البديهيات الأوّلية ، ضرورة أنّ كل دليل دلّ على وجود شيء لا محالة يدل على عدم ضدّه ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.

نعم ، المستحيل إنّما هو كون الشيء المتأخر رتبةً واسطة وعلة لوجود الشيء المتقدم كذلك ، أو كون أحد المتساويين في الرتبة علةً لوجود المتساوي الآخر ، فان هذا غير معقول ، لاستلزام ذلك تقدم الشيء على نفسه ، وأمّا كون الشيء المتأخر واسطةً للعلم بالمتقدم أو كون أحد المتساويين واسطةً للعلم بالمتساوي الآخر فلا محذور فيه أبداً. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب ليست متفرعة على دلالته على الحرمة بل


هي في عرضها ، لا يرجع بظاهره إلى معنىً معقول أصلاً.

لحدّ الآن قد تبيّن أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة ، وليست في عرض دلالته عليها ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ الدلالة المطابقية لو سقطت عن الحجية لسقطت الدلالة الالتزامية أيضاً ، وبما أنّ في المقام قد سقطت الدلالة المطابقية وهي دلالة النهي على الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه ، فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية أيضاً وهي دلالته على التقييد بمقتضى قانون التبعية. فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب لاثبات كون هذه الحصة مصداقاً للمأمور به ، وفي المثال المتقدم لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل عندئذ لاثبات جوازه في هذا الماء ، أعني الماء المغصوب ، فيكون المقام نظير ما إذا ورد التخصيص على دليل النهي من أوّل الأمر ، فانّه لا محالة يوجب اختصاص الحرمة بغير موارد تخصيصه ، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر بالاضافة إلى تلك الموارد أصلاً.

ومن ذلك يظهر فساد ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أيضاً من أنّ الدلالة الالتزامية ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية ، وإنّما هي تابعة لها في الحدوث ، فإذن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها ، ووجه الظهور ما عرفت على نحو الاجمال من أنّ الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحدوث والحجية ، فلا يعقل بقاؤها على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦.


صفة الحجية والاعتبار مع سقوط الدلالة المطابقية عنها ، وقد تقدّم الكلام في بيان الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً في بحث الضد (١) بصورة واضحة ، فلا نعيد.

فالنتيجة قد أصبحت إلى الآن : أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من صحة العبادة بعد سقوط الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً.

ولكن قد يناقش في ذلك : بأنّ الحرمة وإن ارتفعت واقعاً من جهة الاضطرار أو غيره ، إلاّ أنّ ملاكها وهو المفسدة باقٍ لعدم الدليل على ارتفاعه ، فانّ الدليل إنّما قام على ارتفاع الحرمة الفعلية لأجل عروض ما يوجب ارتفاعها وهو الاضطرار ، وأمّا ملاكها فلا دليل على ارتفاعه أصلاً ، ودليل رفع الحكم لا يكون دليلاً عليه بنفسه ، ضرورة أنّه لا يدل إلاّعلى رفع الحكم فحسب ، وأمّا رفع الملاك فلا. وعليه فبما أنّ الفعل في هذا الحال ـ أي حال الاضطرار ـ أيضاً مشتمل على ملاك التحريم ، فلا يصلح أن يتقرب به ، فإذن لا يمكن التمسك باطلاق دليل الأمر.

وبكلمة واضحة أنّ لنا في المقام دعويين :

الاولى : أنّ ملاك التحريم باقٍ بحاله والمرفوع بأدلة الاضطرار إنّما هو الحرمة فحسب.

الثانية : أنّه مع هذا الملاك لا يمكن الحكم بصحة العبادة والتقرب بها.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ حديث الرفع أو ما شاكله حيث قد ورد في مورد الامتنان ، فلا محالة يدل على أنّ رفع الحكم لاضطرارٍ أو نحوه مستند إلى ذلك ـ أي الامتنان ـ وقضية ذلك ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا معنى

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٦٢ وما بعدها.


لكونه وارداً في مورد الامتنان ، ضرورة أنّ معنى وروده في ذلك المورد هو أنّه لولا الامتنان لكان الحكم ثابتاً ، وهذا قرينة واضحة على أنّ المقتضي له تام ولا قصور فيه أصلاً ، وإلاّ فلا يكون في رفعه امتنان.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ رفع الحكم امتناناً على الامّة في نفسه قرينة واضحة على ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا منّة في رفعه أصلاً ، كما هو واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : فلا ريب في أنّ الفعل إذا كان مشتملاً على مفسدة فلا يمكن التقرب به ، ضرورة أنّ المفسدة مانعة عن التقرب بها وبدونه لا يمكن الحكم بصحته.

ولكن هذه الدعوى خاطئة جداً ، وذلك لأنّ الفعل المضطر إليه وإن كان مشتملاً على ملاك التحريم ومقتضيه كما هو قضية رفعه امتناناً ، إلاّ أنّ ذلك الملاك بما أنّه غير مؤثر في المبغوضية فلا يمنع عن صحة العبادة ، فانّ المانع عنها كما عرفت إنّما هو المبغوضية والحرمة ، والمفروض أنّهما قد سقطتا من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً. ومجرد اشتمال الفعل على مفسدة غير مؤثرة فيهما لا أثر له أصلاً ، ومن الواضح جداً أنّ الفعل إذا كان جائزاً واقعاً كالتصرف في الماء المغصوب عند الاضطرار إليه ، فلا مانع من التمسك باطلاق الواجب لاثبات كونه مصداقاً له.

وعلى الجملة : فالتصرف في الماء المغصوب بعد سقوط الحرمة عنه واقعاً جائز كذلك ، ومعه لا مانع من التوضؤ أو الاغتسال به ، ومجرد اشتماله على مفسدة بلا تأثيرها في حرمته ومبغوضيته غير مانع عن التقرب بايجاد الطبيعة المأمور بها في ضمنه ، هذا حال غير الصلاة من العبادات.

وأمّا الصلاة في الأرض المغصوبة في حال الاضطرار فيقع الكلام في حكمها


في مقامين :

الأوّل : فيما إذا لم يتمكن المكلف من الخروج عنها في الوقت ، بمعنى أنّه لا مندوحة له.

الثاني : فيما إذا تمكن من الخروج عنها فيه بأن تكون له مندوحة في الجملة.

أمّا المقام الأوّل : فهل يجوز له الاتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود ، أو يجب الاقتصار على الايماء والاشارة بدلاً عنهما ، باعتبار أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على مقدار الضرورة فلا يجوز؟ قولان.

ذهب جماعة إلى القول الثاني ، بدعوى أنّه لا بدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار ، فانّ الزائد عليه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز ، وبما أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على ذاك المقدار فلا يسوغ ، فإذن وظيفته الايماء والاشارة بدلاً عنهما.

هذا ، وأمّا شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) فقد سلّم أنّ الأمر كذلك بنظر العرف ولم يكن كذلك بنظر العقل ، فله قدس‌سره هنا دعويان :

الاولى : أنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف.

الثانية : أنّهما ليسا بتصرف زائد عند العقل.

أمّا الدعوى الاولى : فاستظهر أنّ الركوع والسجود يعدّان عرفاً من التصرف الزائد ، باعتبار أنّهما مستلزمان للحركة وهي تصرف زائد بنظر العرف ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ العبرة في صدق التصرف الزائد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٤.


على مقدار الضرورة بما أنّها بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية ، فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على الايماء والاشارة بدلاً عنهما.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ العقل يحكم بأن كل جسم يشغل المكان المغصوب بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ، ومن الواضح جداً أنّ ذلك المقدار لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله ، ضرورة أنّه سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل ذلك ، يشغل مقداراً خاصاً من المكان ، وهذا لا يتفاوت زيادةً ونقيصةً بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال ، وعليه فكونه على هيئة الراكع أو الساجد ليس تصرفاً زائداً بنظر العقل على كونه على هيئة القائم أو القاعد ... وهكذا ، وهذا واضح.

ونتيجة ما أفاده قدس‌سره هي وجوب الاقتصار على الايماء والاشارة في الصلاة وعدم جواز الاتيان بالركوع والسجود.

ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل ، والوجه في ذلك : هو أنّ كل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه ، ومن الطبيعي أنّ مقدار تحيزه وشغله المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما ، بداهة أنّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه ، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه ، مثلاً إذا اضطرّ الانسان إلى البقاء في المكان المغصوب كما هو مفروض الكلام في المقام لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه ، وأن يكون راكعاً أو ساجداً ، فكما أنّ الركوع والسجود تصرّف فيه ، فكذلك القيام والقعود ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، بداهة أنّ الركوع والسجود ليسا تصرّفاً زائداً على القيام والقعود لا بنظر العقل ولا العرف ، فعندئذ لا وجه للقول


بوجوب الاقتصار على الايماء بدلاً عنهما.

ودعوى أنّهما يعدّان بنظر العرف من التصرف الزائد خاطئة جداً ، ضرورة أنّه لا فرق في نظر العرف بين أن يكون الانسان قائماً في الدار المغصوبة أو قاعداً ، وبين أن يكون راكعاً أو ساجداً فيها ، فكما أنّ الثاني تصرّف فيها بنظره فكذلك الأوّل ، وليس في الثاني تصرّف زائد بنظره بالاضافة إلى الأوّل ، وهذا لعلّه من الواضحات.

فإذن لا وجه لما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفرقة بين نظر العرف ونظر العقل. ولعل منشأها هو الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي عدم الفرق بين كون المكلف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة ، وتخيل أنّه إذا كان على هيئة واحدة فهو مرتكب لحرام واحد ، وإذا كان على هيئات متعددة كأن يكون راكعاً مرّةً وساجداً مرّة اخرى فهو مرتكب لمحرّمات متعددة ، ولأجل ذلك لا محالة وجب الاقتصار فيها على هيئة واحدة ، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز ارتكاب الزائد.

ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له أبداً ، وذلك لأنّ كون المكلف فيها على هيئة واحدة في كل آن وزمن تصرّف في الأرض ومحرّم ، لا أنّ كونه عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرّف واحد ومحكوم بحكم واحد ، لتكون الحركة فيها تصرفاً زائداً ، ومن الواضح جداً أنّه لا فرق في ذلك بين نظر العقل ونظر العرف ، فكما أنّ الكون في الأرض المغصوبة في كل آنٍ تصرّف فيها ومحرّم ، بلا فرق بين أن يكون في ضمن هيئة واحدة أو هيئات متعددة بنظر العقل ، فكذلك الكون فيها في كل آن تصرّف ومحرّم كذلك بنظر العرف.

وبكلمة اخرى : أنّ جعل الركوع والسجود تصرفاً زائداً مبني على ما ذكرناه من الخيال الخاطئ ، وهو أنّ بقاء الانسان في الأرض المغصوبة على


حالة واحدة وهيئة فاردة من القيام أو القعود تصرّف واحد بنظر العرف ، وأمّا إذا اشتغل بالركوع أو السجود فهو تصرف زائد ، غفلةً عن أنّ بقاءه على تلك الحالة الواحدة حرام في كل آن ، ضرورة أنّه في كل آن تصرف في مال الغير بدون إذنه ، كما أنّ انتقاله من هذه الحالة والهيئة إلى حالة اخرى وهيئة ثانية حرام ، وليس هذا تصرفاً زائداً على بقائه على الحالة الاولى ، ضرورة أنّه على الفرض لم يجمع بين الحالتين في مكانين لتكون الحالة الثانية تصرفاً زائداً ، غاية الأمر أنّه تصرّف في الحالة الاولى في مكان وفي الحالة الثانية في مكان آخر ، أو أنّه تصرّف في كلتا الحالتين في مكان واحد وفضاء فارد ، فانّ التصرف في مكان واحد قد يكون بهيئة واحدة ووضع فارد ، وقد يكون بهيئات متعددة وأوضاع مختلفة ، ومن الطبيعي أنّ تصرّفه في الحالة الثانية وبهيئة اخرى في مكان آخر أو في نفس المكان الأوّل بمقدار تحيزه في الحالة الاولى وبالهيئة السابقة دون الزائد ، لوضوح أنّ مقدار تحيز الجسم المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله لا عقلاً ولا عرفاً ، كما هو واضح.

نعم ، لو كان البقاء فيها على حالة واحدة محرّماً بحرمة واحدة في تمام الآنات والأزمنة ، لكان الالتزام بما أفاده قدس‌سره مما لا بدّ منه ، وعليه فلا بدّ من الحكم بحرمة كل حركة فيها والاقتصار على حالة واحدة في تمام آنات البقاء ، ولكن قد عرفت أنّه مجرد فرض لا واقع له أصلاً.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّه ليست الصلاة مع الركوع والسجود تصرفاً زائداً على الصلاة مع الايماء والاشارة ، ومما يشهد على ذلك : أنّ العرف لا يرون أنّ المصلي في الأرض المغصوبة إذا كان على وضع الراكع أو الساجد يكون تصرفه فيها أزيد مما إذا كان على غير هذا الوضع وغير هذا الشكل ، كما هو واضح. فالنتيجة أنّ وظيفته هي الصلاة مع الركوع والسجود فيها دون


الصلاة مع الايماء.

وممن اختار هذا القول في المسألة صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال في بحث مكان المصلي ما إليك نصه : تصح منه صلاة المختار ، ضرورة عدم الفرق بينه وبين المأذون في الكون بعد اشتراكهما في إباحته وحليته. نعم ، لو استلزمت الصلاة تصرفاً زائداً على أصل الكون لم يجز ، لعدم الاذن فيه ، لا ما إذا لم تستلزم فانّها حينئذ أحد أفراد الكون الذي فرض الاذن فيه. على أنّ القيام والجلوس والسكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز ، وجميعها أكوان ولا ترجيح لبعضها على بعض ، فهي في حد سواء في الجواز ، وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس. نعم ، يختلفان في الطول والعرض ، إذ الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثمّ قال : ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه ، إن قائماً فقائم وإن جالساً فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصلاة أيضاً ، لما فيه من الحركة التي هي تصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطن أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف أيضاً لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف ، كما أنّه لم يتفطن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشد ما عامله الظالم ، بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد ، اللهمّ إلاّ أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصاً وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير ، وكل


ذلك ناشٍ عن عدم التأمل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك (١).

أقول : الأمر كما أفاده قدس‌سره فانّه لو حرم عليه جميع الحركات والتقلبات فيها حتى مثل حركة اليد وما شاكلها فهذا كان غاية الضيق عليه وأشد مما حبسه الظالم ، ومن الواضح جداً أنّ ذلك مناف لرفع الشارع حرمة التصرف عنه امتناناً ، ضرورة أنّ في ذلك ليس أيّ امتنان بل هو خلاف الامتنان ، كيف فانّ الانسان لا يخلو من مثل هذه التصرفات والتقلبات أبداً ، فانّها من لوازم حياته ، وأنّ الانسان الحي لا يخلو منها في زمان من الأزمنة ، ومع هذا لا يمكن الحكم بحرمة هذه التقلبات والاقتصار على مقدار يتوقف عليه حفظ نفسه ، ضرورة أنّ هذا أشد ظلماً مما فعله الظالم.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من التخلص عن الغصب في الوقت ، فيقع الكلام فيه في موردين :

الأوّل : ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الدار لبقاء الوقت ، وهذا الفرض وإن كان خارجاً عن محل الكلام إلاّ أنّه لا بأس بالتعرض له لمناسبة.

الثاني : ما إذا لم يتمكن من الصلاة في الخارج لضيق الوقت وعدم تمكنه من إدراك تمام الصلاة فيه.

أمّا المورد الأوّل : فلا إشكال في لزوم الخروج عليه والتخلص عن الغصب في أوّل أزمنة الامكان عقلاً وشرعاً ، ولا يجوز له البقاء فيها آناً ما بعد تمكنه من الخروج ، لأنّه تصرف زائد على مقدار تقتضيه الضرورة.

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٣٠٠.


وعلى الجملة : فكل من العقل والشرع ألزم المكلف بالتخلص عن الدار المغصوبة والخروج عنها في أوّل زمن الامكان ورفع الاضطرار ، فلو بقي بعد ذلك ولو آناً ما فقد ارتكب محرّماً ، لفرض أنّه تصرّف فيها بغير اضطرار ، ومن المعلوم أنّ تصرفه فيها بدونه محرّم على الفرض ، هذا حكم التخلص والخروج.

ومن هنا يظهر أنّه لا يجوز الاتيان بالصلاة ، لأنّه يوجب زيادة البقاء فيها والتصرف بلا موجبٍ ومقتض ، ومن الواضح أنّه غير جائز. وأمّا إذا فرض أنّه عصى وأتى بالصلاة فيها فهل يحكم بصحة صلاته أم لا ، فهو مبني على النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فعلى القول بالجواز يحكم بصحتها ، لفرض أنّه على هذا القول يكون المجمع متعدداً وجوداً وماهيةً ، فيكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه خارجاً ، ومجرد ملازمته معه في الوجود الخارجي لا يمنع عن انطباق المأمور به عليه وصحته ، كما تقدّم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح ، وعلى القول بالامتناع يحكم ببطلانها ، لفرض أنّه على هذا يكون مصداق المأمور به متحداً مع المنهي عنه خارجاً ، ومعه ـ أي مع الاتحاد ـ لا يمكن الحكم بالصحة أبداً ، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب كما سبق ذلك بصورة مفصّلة ، هذا حكم الصلاة في الدار المغصوبة بعد رفع الاضطرار.

وأمّا الصلاة فيها قبل رفع الاضطرار ، فعلى وجهة نظرنا لا إشكال في جواز الاتيان بها وعدم وجوب تأخيرها لأن يؤتى بها في خارج الدار ، والوجه في ذلك واضح ، وهو ما ذكرناه من أنّ الصلاة مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على مقدار تقتضيه الضرورة ، ومن هنا قلنا إنّ وظيفة غير المتمكن من التخلص عن الغصب هي الصلاة مع الركوع والسجود ، وليست وظيفته الصلاة مع الايماء بدلاً عنهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : المفروض جواز


تصرف المتوسط في الدار المغصوبة بغير اختياره بمقدار تقتضيه الضرورة ، لفرض ارتفاع حرمته من ناحية الاضطرار أو نحوه. ومن ناحية ثالثة : قد تقدم أنّه لا فرق بين أن يكون المكلف فيها على هيئة واحدة ووضع فارد أو على هيئات متعددة وأوضاع مختلفة ، وليس كون المكلف على هيئات متعددة تصرّفاً زائداً بالاضافة إلى كونه على هيئة واحدة ، كما سبق بشكل واضح.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي جواز الصلاة فيها مع الركوع والسجود ، وعدم وجوب تأخيرها إلى أن يرتفع الاضطرار ويأتي بها في خارج الدار.

وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره فلا تجوز الصلاة فيها مع التمكن من الاتيان بها في خارج الدار ، والوجه فيه ما عرفت (١) من أنّ الركوع عنده من التصرف الزائد بالاضافة إلى مقدار الضرورة فلا يجوز ، فإذن لا محالة وجب الاقتصار على خصوص الايماء في الصلاة وترك الركوع والسجود ، ولكن بما أنّ المكلف متمكن من الصلاة معهما في غير المكان المغصوب كما هو المفروض ، فلا تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الايماء فيه ، ضرورة أنّها وظيفة المضطر وغير المتمكن من الصلاة في تمام الوقت ، والمفروض في المقام أنّ المكلف متمكن من الصلاة في الوقت مع الركوع والسجود ، ومن الواضح جداً أنّه مع هذا لا تنتقل وظيفته إلى بدلها الاضطراري وهو الصلاة مع الايماء ، ضرورة أنّها غير مشروعة في حق المتمكن من الاتيان بصلاة المختار.

نعم ، لو كان مجرد الاضطرار كافياً في ذلك ولو لم يكن مستوعباً لتمام الوقت لكان الاتيان بها مجزئاً لا محالة ، إلاّ أنّ ذلك باطل قطعاً ، ضرورة أنّ الاضطرار

__________________

(١) في ص ٥٥.


الرافع للتكليف إنّما يكون رافعاً فيما إذا كان مستوعباً لتمام الوقت ليصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك الواجب لينتقل الأمر إلى بدله ، وأمّا إذا كان الاضطرار إلى ترك الواجب في بعض الوقت دون بعضه الآخر فلا يصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك الواجب. نعم ، يصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك بعض أفراده ، لفرض أنّ الواجب هو الجامع بين الحدّين ، والمفروض أنّ الاضطرار لم يتعلق بتركه ، وما تعلق به الاضطرار لا يكون واجباً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الثمرة التي تظهر بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره نتيجة الاختلاف في نقطة واحدة ، وهي أنّ الركوع والسجود على وجهة نظره قدس‌سره من التصرف الزائد ، وعلى وجهة نظرنا ليسا من التصرف الزائد.

أمّا المورد الثاني : وهو ما إذا لم يتمكن المكلف من الصلاة في خارج الدار لضيق الوقت ، فلا إشكال في وجوب الصلاة عليه حال الخروج ، لفرض أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن بما أنّه كان في مقام التخلص عن الغصب فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على خصوص الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ولا مسوّغ له ، ولأجل ذلك تنتقل الوظيفة من صلاة المختار إلى صلاة المضطر وهي الصلاة مع الايماء والاشارة.

وإن شئت فقل : إنّه لا يجوز للمكلف في هذا الحال الركوع والسجود. أمّا عدم جواز السجود في هذا الحال فواضح ، وذلك لما تقدّم من أنّه متحد مع الغصب خارجاً باعتبار أنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهومه ، والمفروض أنّه نحو تصرّف فيها ، فإذن يتحد المأمور به مع المنهي عنه ، ومع الاتحاد لا يمكن الحكم بصحته ، لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للمأمور به


وعليه فلا محالة تكون وظيفته الايماء دون السجدة.

وأمّا الركوع ، فهو وإن لم يكن بنفسه تصرفاً في مال الغير ، لما عرفت من أنّه عبارة عن هيئة حاصلة للمصلي من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج ، إلاّ أنّه مستلزم للبقاء فيها وهو تصرف زائد على مقدار الضرورة ، فإذن تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة مع الركوع وبين حرمة التصرف في مال الغير ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة ، ولكن بما أنّ وجوب الصلاة مع الركوع خاصة مشروط بالقدرة شرعاً ، لما تقدّم في بحث الضد (١) من أنّ الأركان بعرضها العريض وإن كانت غير مشروطة بالقدرة الشرعية ، إلاّ أنّ كل مرتبة منها مشروطة بها ، فعليه تتقدّم حرمة التصرف في مال الغير على وجوبه من ناحية ما ذكرناه من أنّه إذا وقعت المزاحمة بين ما هو المشروط بالقدرة شرعاً وما هو المشروط بالقدرة عقلاً ، فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً ، على تفصيل تقدّم في مسألة الضد.

فالنتيجة هي وجوب الاقتصار على الايماء في الصلاة للركوع والسجود.

نعم ، لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الصلاة من دون استلزامه للتصرف الزائد لوجب ذلك ، كما إذا فرض أنّ خروجه من الأرض المغصوبة بالسيارة أو الطيارة أو السفينة أو ما شاكل ذلك ، فانّ الركوع والسجود في مثل ذلك لا يستلزمان التصرف الزائد ، كما هو واضح ، فإذن تتعين الصلاة بهما ولا يجوز الاقتصار على الايماء ، لفرض أنّه بدل اضطراري عنهما ومع تمكن المكلف من الاتيان بهما لا تصل النوبة إلى بدلهما الاضطراري ، كما هو واضح.

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ١٣٣.


نتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط :

الاولى : أنّه لا إشكال في سقوط الحرمة واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ، وليس حاله حال الجهل الرافع للتكليف ظاهراً لا واقعاً.

الثانية : أنّه لا شبهة في صحة العبادة فيما إذا لم تكن متحدةً مع الفرد المحرّم المضطر إليه ، لما عرفت من أنّ العبادة صحيحة على هذا الفرض فيما إذا كانت الحرمة باقية بحالها فضلاً عما إذا سقطت.

الثالثة : أنّ الظاهر صحة العبادة فيما إذا فرض كونها متحدةً مع المحرّم المضطر إليه ، وذلك لما عرفت من أنّ المانع عن صحتها إنّما هو حرمتها ، فإذا فرض أنّها سقطت بالاضطرار أو نحوه واقعاً فلا مانع عندئذ من صحتها أصلاً كما تقدّم.

الرابعة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ دلالة النهي على حرمة شيء في عرض دلالته على تقييد المأمور به بعدمه ، وليست متقدمةً عليها ، قد تقدّم فساده بشكل واضح ، وقلنا هناك إنّ حرمة شيء وعدم وجوبه وإن كانا في رتبة واحدة بحسب مقام الثبوت والواقع ، لعدم ملاكٍ لتقدم أحدهما على الآخر ، إلاّ أنّهما بحسب مقام الاثبات والدلالة ليسا كذلك ، فانّ دلالة النهي على الحرمة في مرتبة متقدمة على دلالته على عدم الوجوب والتقييد ، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية.

الخامسة : أنّه تظهر الثمرة بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره في جواز التمسك بالاطلاق وعدمه ، فانّه بناءً على وجهة نظرنا بما أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة فلا محالة تسقط بسقوط دلالته عليها ، ومن المعلوم أنّه مع سقوط التقييد لا مانع


من التمسك بالاطلاق. وبناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره بما أنّ دلالته على التقييد وعدم الوجوب في عرض دلالته على الحرمة ، فلا تسقط بسقوط تلك الدلالة ، ومع عدم السقوط لا يمكن التمسك بالاطلاق.

السادسة : قد تقدّم أنّ رفع الحكم من ناحية الاضطرار بما أنّه يكون للامتنان ، فيدل على ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا معنى للامتنان أصلاً ، وهذا بخلاف رفع الحكم في غير موارد الامتنان ، فانّه لا يدل على ثبوت مقتضيه ، ضرورة أنّه كما يمكن أن يكون من جهة المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن أن يكون من جهة عدم المقتضي له ، فلا دليل على أنّه من قبيل الأوّل ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد سبق أنّ هذا الملاك بما أنّه غير مؤثر في المبغوضية والحرمة فلا يمنع عن صحة العبادة وقصد التقرب بها.

السابعة : أنّ الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب في صورة الاضطرار إلى التصرف فيه صحيح مطلقاً ، أي بلا فرق بين وجود المندوحة وعدمه كما سبق.

الثامنة : أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لا تسقط عن المتوسط فيها بغير اختياره على القاعدة على وجهة نظرنا ، لما عرفت من أنّ الصلاة فيها مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على الكون فيها بدون الصلاة ، وعليه فلا موجب لسقوطها أصلاً ، كما أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوطها عنه على وجهة نظر جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره ولكنّ القاعدة الثانوية تقتضي وجوب الاتيان بالباقي من الأجزاء والشرائط ، والوجه فيه : ما تقدّم من أنّ الركوع والسجود بنظرهم من التصرف الزائد عرفاً فلا يجوز ، فإذن لا محالة يسقطان عنه ، ومع سقوطهما لا محالة يسقط الأمر عن الصلاة ، ولكن دلّ دليل آخر على وجوب الاتيان بها مع الايماء بدلاً عنهما.


التاسعة : أنّ كل جسم يشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ، ولا يختلف ذلك ـ أي مقدار تحيزه وشغله المكان ـ باختلاف هيئاته وأوضاعه عقلاً وعرفاً ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث إنّه قد فصّل بين نظر العرف والعقل ، فذهب إلى أنّ اختلاف الجسم باختلاف الهيئات ليس تصرفاً زائداً بالدقّة العقلية ، ولكنّه تصرف زائد بالنظر العرفي. ولكن قد عرفت فساده بشكل واضح.

العاشرة : أنّ الصلاة في حال الخروج لا بدّ فيها من الاقتصار على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، لفرض أنّهما مستلزمان للتصرف الزائد على قدر الضرورة ، إلاّفيما إذا فرض أنّهما لا يستلزمان له ، كما إذا كان خروجه بالسيارة أو نحوها. ومن هنا تكون مشروعية هذه الصلاة أعني الصلاة مع الايماء منوطة بعدم تمكن المكلف من إدراك الصلاة في الوقت في خارج الأرض ، وإلاّ فلا تكون مشروعة ، ضرورة أنّ المكلف مع التمكن من الاتيان بصلاة المختار لا يسوغ له الاتيان بصلاة المضطر ، وكذا منوطة بعدم تمكنه من الصلاة في الأرض المغصوبة.

وذلك أمّا على وجهة نظرنا ، فلما عرفت من أنّه متمكن فيها من الصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين من دون استلزامهما للتصرف الزائد ، ومعه لا محالة تكون وظيفته هي صلاة المختار دون صلاة المضطر. نعم ، لو أخّرها ولم يأت بها إلى زمان خروجه عنها فوجب عليه الاتيان بصلاة المضطر ، وهي الصلاة مع الايماء ، لفرض أنّها لا تسقط بحال ، ولكنه عصى في تأخيره وتفويت الواجب عليه ، إلاّ إذا فرض أنّ تأخيره كان لعذر شرعي.

وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره فلأجل أنّ الصلاة حال


الخروج تستلزم تفويت الاستقرار المعتبر فيها ، ومن المعلوم أنّ المكلف إذا تمكن من الصلاة مع الاستقرار ، فلو صلى بدونه بطلت لا محالة ، وعليه فلا يجوز له تأخيرها إلى زمان الخروج ، لاستلزام ذلك تفويت الاستقرار باختياره وهو غير جائز ، إلاّ إذا كان التأخير مستنداً إلى عذر شرعي. وعلى الجملة : فالصلاة في حال الخروج إذا كانت مستلزمة لتفويت شرط من شرائطها كالاستقرار أو الاستقبال دون الصلاة في الدار فيجب إتيانها في الدار.

الحادية عشرة : قد ظهر مما تقدّم أنّه بناءً على وجهة نظرنا تصحّ الصلاة من المتوسط فيها بغير اختياره مطلقاً ـ أي بلا فرق بين كون المكلف متمكناً من الصلاة في الوقت في خارج الدار ، وبين كونه غير متمكن منها كذلك ـ أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلفرض أنّه متمكن من الاتيان بالصلاة التامة الأجزاء والشرائط ، ومعه لا موجب للتأخير والاتيان بها في خارج الدار.

نعم ، بناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره وجب التأخير في هذا الفرض ، لأنّ المكلف على هذه النظرية لا يتمكن من صلاة المختار في الدار ، لفرض أنّ الركوع والسجود تصرّف زائد عليها ، والانتقال إلى صلاة المضطر مع التمكن من صلاة المختار لا دليل عليه ، إلى هنا انتهى الكلام في المقام الأوّل.

[ الاضطرار بسوء الاختيار ]

وأمّا الموضع الثاني ، وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، فيقع الكلام فيه في موردين :

الأوّل : في حكم الخروج في حدّ نفسه.

الثاني : في حكم الصلاة الواقعة حاله ، أي حال الخروج.


أمّا المورد الأوّل : فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال :

الأوّل : أنّ الخروج حرام بالفعل.

الثاني : أنّه واجب وحرام معاً كذلك. أمّا أنّه واجب فمن ناحية أنّه إمّا أن يكون مقدمةً للتخلص عن الحرام الذي هو واجب عقلاً وشرعاً ومقدمة الواجب واجبة ، وإمّا أن يكون من ناحية أنّه مصداق له ، أي للتخلص الواجب ، وأمّا أنّه حرام فمن ناحية أنّه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرّم ، وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي (١) ، ويظهر اختياره من المحقق القمي قدس‌سره أيضاً (٢) ، وهذا القول يرتكز على أمرين : الأوّل : دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار عقاباً وخطاباً. الثاني : الالتزام بوجوب الخروج ، إمّا لأجل أنّه مقدمة للتخلص الواجب ، ومقدمة الواجب واجبة ، وإمّا لأجل أنّه من مصاديقه وأفراده.

الثالث : أنّه واجب فعلاً وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ، ولكن يجري عليه حكم المعصية ، واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول قدس‌سره (٣).

الرابع : أنّه واجب فحسب ولا يكون محرّماً ، لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق الساقط ، واختار هذا القول شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٤)

__________________

(١) البرهان في اصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، المنخول : ١٢٩.

(٢) قوانين الاصول ١ : ١٥٢.

(٣) الفصول : ١٣٨.

(٤) مطارح الأنظار : ١٥٣.


ووافقه فيه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١).

الخامس : أنّه لا يكون فعلاً محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية ، ولكنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، ويجري عليه حكم المعصية. نعم ، هو واجب عقلاً من ناحية أنّه أقل محذورين وأخف قبيحين ، واختار هذا القول المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فهذه هي الأقوال في المسألة.

ولنأخذ بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال :

أمّا القول الأوّل : فهو واضح الفساد ، وذلك لاستلزام هذا القول التكليف بالمحال ، بيان ذلك : هو أنّ المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : المفروض أنّ البقاء فيها محرّم ، فلو حرم الخروج أيضاً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، فإذن لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة.

وأمّا القول الثاني : فهو أوضح فساداً من الأوّل ، وذلك ضرورة استحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً حتّى على مذهب الأشعري الذي يرى جواز التكليف بالمحال ، فان نفس هذا التكليف والجعل محال ، لا أنّه من التكليف بالمحال. على أنّ وجوبه إمّا أن يكون مبنياً على القول بوجوب المقدمة بناءً على كون الخروج مقدمةً للتخلص الواجب وردّ المال إلى مالكه ، وإمّا أن يكون مبنياً على كونه مصداقاً للتخلص ولردّ المال إلى مالكه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٦.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٨.


أمّا الأوّل فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب أنّه لا دليل على وجوب المقدمة شرعاً. وأمّا الثاني فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى أنّ الخروج ليس مصداقاً لقاعدة ردّ المال إلى مالكه ، فإذن لا دليل على كون الخروج واجباً. وأمّا حرمته فهي مبنية على قاعدة « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً » ، ولكن سيأتي (١) بيان أنّ هذه القاعدة تنافي الخطاب ، ضرورة أنّه لا يمكن توجيه التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستنداً إلى سوء اختياره ، لكونه لغواً محضاً ، وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل ، وكيف كان فهذا القول غير معقول ، وعلى تقدير كونه معقولاً فلا دليل عليه كما عرفت.

وأمّا القول الثالث : وهو كون الخروج واجباً فعلاً ومحرّماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، فهو وإن كان له بحسب الظاهر صورة معقولة ، ببيان أنّ الخروج بما أنّه تصرّف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من أن يعاقب عليه ، لفرض أنّه مبغوض للمولى وإن كان النهي عنه فعلاً غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال ، وبما أنّه مصداق للتخلية ولردّ المال إلى مالكه فلا مانع من كونه واجباً.

فالنتيجة : هي أنّ الخروج واجب فعلاً ومنهي عنه بالنهي السابق ، إلاّ أنّه بحسب الواقع والدقّة العقلية ملحق بالقولين الأوّلين في الفساد ، والوجه في ذلك : هو أنّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد محال ، وإن كان زمان تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به ، فان ملاك استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا عبرة بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده أصلاً ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون شيء واحد

__________________

(١) في ص ٨٨ ، ٩٣ ، وتقدّم أيضاً في المجلد الثاني ص ١٨٥.


في زمان واحد متعلقاً للايجاب والتحريم معاً ، وإن فرض أنّ زمان الايجاب غير زمان التحريم ، والسر في ذلك واضح ، وهو أنّ الفعل الواحد في زمان واحد إمّا أن يكون مشتملاً على مصلحة ملزمة ، وإمّا أن يكون مشتملاً على مفسدة كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بوجوبه ، وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بحرمته ولا يعقل إيجابه وتحريمه معاً ، كما هو واضح.

تلخّص : أنّ العبرة إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب ، فإن كان واحداً يستحيل تعلق الأمر والنهي به ، وإن كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان تعلق الآخر ، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلقهما به وإن كان زمان تعلقهما واحداً كما إذا أمر المولى يوم الخميس باكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن إكرامه يوم السبت ، فانّه لا محذور فيه أبداً.

نعم ، يمكن للمولى العرفي أن يأمر بشيء وينهى عنه في زمان آخر اشتباهاً أو بتخيل أنّ فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثمّ بان أنّه لا مصلحة بل فيه مفسدة مقتضية للتحريم ، إلاّ أنّه لا أثر في مثل ذلك لأحد الحكمين أصلاً ، بل هو صدر اشتباهاً وغفلةً لا حقيقةً وواقعاً.

وبكلمة اخرى : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الغرض من الأمر بشيء أو النهي عنه إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال ، ومن الواضح جداً أنّ الداعي إنّما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال في ظرفه ، وأمّا إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي ومع عدم حصوله يكون الأمر أو النهي لغواً محضاً فلا يترتب عليه أيّ أثر ، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل ، وعليه فلا يمكن أن يكون فعل واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضاً ، أعني ناحية المنتهى والامتثال.


وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ الخروج في مفروض الكلام إن كان مشتملاً على مفسدة امتنع تعلق الأمر به ، وإن كان مشتملاً على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو من الزمان السابق ، لفرض أنّ المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه ، ومعه يستحيل أن ينهى عنه في ذلك الظرف ، وقد عرفت أنّ العبرة في استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، فإن كان واحداً يستحيل أن يكون متعلقاً للأمر والنهي معاً ، وإن كان زمان النهي سابقاً على زمان الأمر أو بالعكس ، لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلاً ، لفرض أنّه لا يرفع المحذور المزبور ، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان واحد فضلاً عن زمانين ، لعدم التنافي بينهما عندئذ أصلاً ، لفرض أنّ الأمر تعلق به في زمانٍ والنهي تعلق به في زمان آخر ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد في زمان محكوماً بحكم وفي زمان آخر محكوماً بحكم آخر غيره.

مثال الأوّل : ما إذا فرض أنّ المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة وأمر به في يوم الجمعة ، فانّه لا إشكال في استحالة ذلك ، ضرورة أنّ صوم يوم الجمعة لا يمكن أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً ، فانّه إن كان فيه ملاك الوجوب امتنع تعلق النهي به مطلقاً ، وإن كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.

ومثال الثاني : ما إذا أمر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك اليوم عن صوم يوم السبت ، فانّه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.

فالنتيجة : أنّ ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شيء واحد ، وإمكان اجتماعه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا اعتبار بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً.


وأمّا الأحكام الوضعية فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ حالها من هذه الناحية حال الأحكام التكليفية ، فكما أنّ المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده ، فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعية في شيء واحد وإمكانه ، هو وحدة زمان المعتبر وتعدده لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.

ومن هنا أشكل قدس‌سره على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم قدس‌سره وإليك نص ما أفاده : فلا وجه للقول بالكشف بمعنى تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الاجازة فيما بعد ، نعم بمعنى الحكم بعد الاجازة بتحقق مضمونه حقيقةً مما لا محيص عنه بحسب القواعد ، فلو أجاز المالك مثل الاجارة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها ، أو الزوج أو الزوجة عقد التمتع كذلك ، فيصح اعتبار الملكية حقيقةً للمستأجر والزوجية لهما في تمام المدة التي قد انقضى بعضها ، بل ولو انقضى تمامها لتحقق منشأ انتزاعها.

فإن قلت : كيف يصح هذا وكان قبل الاجازة ملكاً للمؤجر ولم يكن هناك زوجية ، إلاّ أن يكون مساوقاً لكون شيء بتمامه ملكاً لاثنين في زمان واحد ، واجتماع الزوجية وعدمها كذلك. قلت : لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار الملكية لأحدهما في زمان غير زمان اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان ، لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد لكل منهما في زمانين ، وكذا الزوجية وعدمها (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٨.

(٢) حاشية المكاسب : ٦١.


وحاصل هذا الاشكال هو ما أفاده قدس‌سره من أنّ اختلاف زمان اعتبار الملكية للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملكٍ واحدٍ في زمان واحد ، فان اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الاخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد ، وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين ، فانّ حكم الحاكم في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض ، كما هو واضح.

وغير خفي أن ما افاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على المكاسب هو الصحيح ، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، والوجه في ذلك : هو أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك مع الأحكام التكليفية في ملاك الاستحالة والامكان ، وذلك لأنّ الأحكام التكليفية بما أنّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات اخرى ، فلا يمكن أن يكون فعل في زمان واحد محكوماً بحكمين مختلفين كالوجوب والحرمة مثلاً ، ولو كان تعلق أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر ، ضرورة أنّ هذا الفعل في هذا الزمان لا يخلو من أن يكون مبغوضاً للمولى أو أن يكون محبوباً له ولا ثالث لهما.

فعلى الأوّل يستحيل تعلق الأمر به ، وعلى الثاني يستحيل تعلق النهي به كما هو واضح ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية ، فانّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد النوعية في نفس جعلها واعتبارها ، وعليه فلا يمكن أن تقتضي مصلحة في زمان اعتبار شيء ملكاً لشخص ، ومصلحة اخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكاً لآخر. نعم ، لا مانع من أن تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان ، والمصلحة الاخرى في زمان آخر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه ،


بأن يكون زمان الاعتبارين مختلفاً وزمان المعتبرين واحداً كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في مسألة الفضولي عند البحث عن كون الاجازة ناقلة أو كاشفة (١).

ونتيجته : هي أنّ القول بكون الاجازة ناقلة باطل ولا دليل عليه أصلاً ، كما أنّ الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل ، بل هو غير معقول ، وهو أن تكون الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الاجازة ، فالاجازة كاشفة عنها فحسب ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأوّل ، ومن المعلوم أنّ هذا بلا موجب ودليل ، بل الدليل قام على خلافه ، ضرورة أنّ هذا العقد لم يكن عقداً للمجيز إلاّبعد إجازته ورضاه به ، ليكون مشمولاً لأدلة الامضاء ، ومع هذا كيف يحكم الشارع بملكية المال له وانتقاله إليه قبل أن يرضى به ويجيزه ، ولأجل ذلك قد التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر ـ ولا بأس بتسميته بالكشف الانقلابي ـ وهو الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقياً على ملك مالكه الأصلي قبل الاجازة وإلى زمانها ، وأمّا إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضي به فهو ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل من حين العقد وزمانه.

والوجه في ذلك : هو أنّ مفهوم الاجازة مفهوم تعلّقي ، فكما أنّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي ، وفي المقام بما أنّ إجازة المالك متعلقة بالعقد السابق ، إذ المفروض أنّه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقداً آخر ، ومن المعلوم أنّ العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقةً ، ولا مانع من انتساب الأمر السابق وهو العقد بواسطة الأمر اللاّحق وهو الاجازة ، بداهة أنّ الانتساب والاضافة خفيف المؤونة فيحصل بأدنى شيء وأقل مناسبة ، ولذلك

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٤ : ١٤٤.


أمثلة كثيرة في العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها ، فاذا صار هذا العقد عقداً له من حين صدوره ، فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين ، ومن هنا قلنا إنّ الكشف بذاك المعنى مطابق للقاعدة فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.

ولكن قد يتخيل أنّ الكشف بهذا المعنى غير ممكن ، وذلك لاستلزامه كون المال الواحد في زمانٍ ملكاً لشخصين ، لفرض أنّ هذا المال باق في ملك مالكه الأصلي إلى زمان الاجازة حقيقة ، ومعه كيف يعقل أن يصير هذا المال ملكاً للطرف الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الاجازة فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد في زمان فارد وهو غير معقول ، لأنّه من اجتماع الضدّين على شيء واحد.

وغير خفي أنّ هذا خيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع يقيناً ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية جميعاً امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ولذا قلنا إنّه لا مضادة بينها في أنفسها ، والمضادة بينها إنّما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.

وعلى هذا الضوء فبما أنّ في المقام زمان الاعتبار مختلف ، فان زمان اعتبار بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الاجازة ، وزمان اعتبار كونه ملكاً للآخر بعدها ، وإن كان زمان المعتبر فيهما واحداً ، فلا يلزم محذور التضاد ، فان محذور التضاد إنّما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضاً واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً كما في المقام فلا يلزم ذلك ، ضرورة أنّه لا مانع من أن تقتضي المصلحة الملزمة بعد الاجازة لاعتبار كون هذا المال ملكاً له من حين العقد ، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق ، كأن يعتبر المولى ملكية مال لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبداً ، كما أنّه قابل للتعلق


بأمر لاحق ، كما في باب الوصية أو نحوها.

ومن هنا قلنا إنّ التعليق في باب العقود أمر معقول في نفسه ، بل هو واقع كما في باب الوصية ، فانّ الموصي حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقاً عليه ، والشارع أمضاه كذلك ، وكذا في بيع الصرف ، فان إمضاء الشارع وحكمه بالملكية فيه معلّق على التقابض بين المتبايعين وإن كان حكمهما ـ أي المتبايعين ـ بالملكية غير معلّق على شيء.

فالنتيجة : أنّ التعليق في العقود أمر معقول ، ولذا كلّما دلّ الدليل على وقوعه نأخذ به ، وإنّما لا نأخذ به من ناحية الاجماع القائم على بطلانه.

وكيف كان ، فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة ، كما أنّه لا مانع من تعلقه بالملكية اللاّحقة ، بداهة أنّه لا واقع للملكية ولا وجود لها في الخارج على الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً في نفسه فهو واقع في المقام لا محالة ، لأنّ مقتضى تعلق الاجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا المال ملكاً له في الواقع من ذلك الزمان.

وبكلمة اخرى : أنّ اعتبار الملكية بما أنّه تابع للملاك القائم به فهو مرّة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن سابق كما فيما نحن فيه ، فانّ الاعتبار فعلي والمعتبر أمر سابق ، واخرى يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن متأخر كما في باب الوصية ، فانّ الاعتبار فيه فعلي والمعتبر أمر متأخر ، وثالثة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن فعلي ، فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلياً ، وهذا هو الغالب ، ومن المعلوم أنّ جميع هذه الصور ممكن ، غاية الأمر أنّ وقوع الصورة الاولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في مورد مطابقاً للقاعدة كما في المقام ، لأنّ اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي لمن انتقل إليه تابع لاجازة المالك ، وبما أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق كما هو مقتضى


مفهومها ، فلا محالة يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من ذلك الزمان لا من حين الاجازة ، إذ من الواضح جداً أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة لاستناد ذلك العقد إلى المالك ، فلابدّ من أن يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من حين العقد ، فان أدلة الامضاء كقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ، ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الاجازة ، والمفروض أنّ ما تعلقت به الاجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي ، فإذن تدل الأدلة على صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذاك الزمان ، فيكون زمان الاعتبار فعلياً وهو زمان الاجازة وزمان المعتبر سابقاً وهو زمان صدور العقد ، وهذا معنى ما ذكرناه من أنّ الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة ولا مناص من الالتزام به.

وقد تحصّل من ذلك عدّة امور :

الأوّل : أنّ القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع ، ضرورة أنّه لا واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب ، فان انقلاب الواقع فرع أن يكون لها واقع ، ليقال إنّ الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه وهو محال ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلاً. فما توهم من أنّ المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا القول أيضاً ، فاسد جداً ولا أصل له أبداً ، كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم فلاحظ.

الثاني : أنّ الكشف بهذا المعنى أمر معقول في نفسه من ناحية ، ومطابق

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.


للقاعدة من ناحية اخرى ، ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل ، فامكانه يكفي لوقوعه كما عرفت.

الثالث : أنّ ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعية في شيء واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه ، ولأجل ذلك يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعية مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع اثنين منها في شيء في زمان واحد. وأمّا في الأحكام التكليفية فلا أثر له أصلاً كما تقدّم. ومن هنا يظهر أنّ الصحيح هو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم لا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأمّا القول الرابع : وهو ما اختاره شيخنا الاستاذ (١) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره فملخصه على ما أفاده : هو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ، ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ولأجل ذلك يكون الخروج واجباً شرعاً ولا يجري عليه حكم المعصية. نعم ، بناءً على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، فالصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم شرعي فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار وهو المعصية ، فله قدس‌سره دعاوٍ ثلاث :

الاولى : أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم من الأحكام الشرعية فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، بناءً على كون المقام من صغريات قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٦ وما بعدها.


الثانية : أنّ المقام غير داخل في كبرى تلك القاعدة وليس من صغرياتها.

الثالثة : أنّه داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ولزوم التخلية بينه وبين صاحبه.

أمّا الدعوى الاولى : فقد أفاد قدس‌سره أنّه يكفي لاثباتها بطلان القولين السابقين ، أعني القول بكون الخروج واجباً وحراماً فعلاً ، والقول بكونه واجباً فعلاً وحراماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه. وقد تقدم بطلان كلا القولين.

أمّا القول الأوّل : فلاستحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً. ودعوى أنّ الخطاب التحريمي في المقام خطاب تسجيلي ، والغرض منه تصحيح عقاب العبد وليس خطاباً حقيقياً ، كما هو الحال في الخطابات المتوجهة إلى العصاة مع علم الآمر بعدم تحقق الاطاعة منهم خاطئة جداً ، وذلك لأنّه لا معنى للخطاب التسجيلي ، فانّ العبد إن كان مستحقاً للعقاب بواسطة مخالفة أمر المولى أو نهيه مع قطع النظر عن هذا الخطاب فيكون هذا الخطاب لغواً ولا فائدة له أصلاً ، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم محال ، وإن لم يكن مستحقاً له في نفسه مع قطع النظر عنه ، فكيف يمكن خطابه بهذا الداعي ـ أي بداعي العقاب مع عدم قدرته على امتثاله ـ ضرورة أنّ هذا تعدّ من المولى على عبده وظلم منه.

فإذن لا يمكن الالتزام بالخطاب التسجيلي ، وأمّا خطاب العصاة مع العلم بعدم تحقق الاطاعة منهم فهو خطاب حقيقي ، بداهة أنّه لا يعتبر في صحة الخطاب الحقيقي إلاّ إمكان انبعاث المكلف أو انزجاره في الخارج ، وهذا المعنى متحقق في موارد تكليف العصاة على الفرض ، فانّ العصيان إنّما هو باختيارهم ، فإذن قياس المقام بخطاب العصاة قياس مع الفارق ، وكيف كان فلا شبهة في بطلان هذا القول.


وأمّا القول الثاني : فقد عرفت امتناع تعلق الحكمين بفعل واحد في زمان واحد ولو كان زمان تعلق الايجاب مغايراً لزمان تعلق التحريم ، لما ذكرناه من أنّ ملاك الاستحالة والامكان إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده لا بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده كما تقدّم ذلك بشكل واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي عدم كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، فقد استدلّ عليها بوجوه :

الأوّل : أنّ ما يكون داخلاً في كبرى هذه القاعدة لا بدّ أن يكون مما قد عرضه الامتناع باختيار المكلف وإرادته كالحج يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره وقدرته ، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق ، ونحوهما من الأفعال الاختيارية التي تعرض عليها الامتناع بالاختيار. ومن الواضح جداً أنّ الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك ، فانّه باقٍ على ما هو عليه من كونه مقدوراً للمكلف فعلاً وتركاً بعد دخوله فيها ، ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح.

نعم ، مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء بأقل مقدار يمكن فيه الخروج ، وإن كان مما لا بدّ منه ولا يتمكن المكلف من تركه بعد دخوله فيها ، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج كما هو محل الكلام ، ضرورة أنّ الاضطرار إلى جامع لا يستلزم الاضطرار إلى كل واحد من أفراده ، مثلاً لو اضطرّ المكلف إلى التصرف في ماء جامع بين ماء مباح وماء مغصوب فهو لا يوجب جواز التصرف في المغصوب ، لفرض أنّه لا يكون مضطراً إلى التصرف فيه خاصة ليكون رافعاً لحرمته ، بل هو باقٍ عليها لعدم الموجب لسقوطها ، فانّ الموجب له إنّما هو تعلق الاضطرار به ، والمفروض أنّه غير متعلق به وإنّما تعلق بالجامع بينه وبين وغيره ، فإذن


لا يجوز التصرف فيه. نعم ، يتعين عليه عندئذ التصرف في خصوص الماء المباح ورفع الاضطرار به ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ الاضطرار إلى مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء لا يوجب الاضطرار إلى خصوص الخروج ، بل الخروج باقٍ على ما هو عليه من كونه مقدوراً من دون أن يعرض عليه ما يوجب امتناعه. فالنتيجة أنّ الخروج ليس من مصاديق قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

الثاني : أنّ محل الكلام في هذه القاعدة إنّما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاماً في ظرفه ومطلقاً ـ أي من دون فرق في ذلك بين أن تكون مقدمته الاعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة ـ وأن يكون وجوبه مشروطاً بمجيء زمان متعلقه أو لا ، وذلك كوجوب الحج ، فانّه وإن كان مشروطاً بمجيء يوم عرفة بناءً على استحالة الواجب المعلّق ، إلاّ أنّ ملاكه يتم بتحقق الاستطاعة كما هو مقتضى قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١).

فانّه ظاهر في أنّ ملاك وجوبه في ظرفه صار تاماً بعد تحقق الاستطاعة ، ولا يتوقف على مجيء زمان متعلقه وهو يوم عرفة ، وعليه فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه وإن امتنع عليه الفعل عندئذ في وقته ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. وكذا من ألقى نفسه من شاهق فانّه يستحق العقاب عليه. هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة ، ومن المعلوم أنّ هذا الملاك غير موجود في المقام بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة ، وذلك لأنّ الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.


مشتملاً على الملاك ، فالدخول فيها من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه ، ضرورة أنّ الداخل فيها هو الذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره. فإذن لا يمكن أن يكون الخروج داخلاً في موضوع القاعدة.

وعلى الجملة : فمورد القاعدة كما عرفت ما إذا كان ملاك الحكم تاماً مطلقاً ـ أي سواء أوجد المكلف مقدمته الوجودية أم لم يوجد ـ كوجوب الحج مثلاً فان ملاكه تام بعد تحقق الاستطاعة ، وإن لم يوجد المكلف مقدمته في الخارج ، غاية الأمر أنّه إذا تركها امتنع عليه الحج فيدخل عندئذ في موضوع القاعدة ، وهذا بخلاف الخروج ، فانّه لا ملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول في الأرض المغصوبة ، فيكون الدخول مما له دخل في تحقق الملاك فيه.

وعلى هذا الضوء يمتنع دخول الخروج في كبرى تلك القاعدة كما هو ظاهر.

الثالث : أنّ مناط دخول شيء في موضوع القاعدة هو أن يكون الاتيان بمقدمته موجباً للقدرة عليه ، ليكون الآتي بها قابلاً لتوجيه التكليف إليه فعلاً ، وهذا كالاتيان بمقدمة الحج ، فانّه يوجب تحقق قدرة المكلف على الاتيان به وصيرورته قابلاً لتوجيه التكليف به فعلاً. وأمّا إذا ترك المسير إليه ولم يأت بهذه المقدمة ، لامتنع الحج عليه ولسقط وجوبه ، ولكن بما أنّ امتناعه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه ، وهذا معنى كونه من صغريات تلك القاعدة.

وأمّا المقام فليس الأمر فيه كذلك ، لأنّ الدخول وإن كان مقدمةً إعدادية للخروج وموجباً للقدرة عليه ، إلاّ أنّه يوجب سقوط الخطاب عنه ، لا أنّه يوجب فعلية الخطاب به ، والوجه فيه ما ذكروه من أنّ المكلف في هذا الحال يدور أمره بين البقاء في الدار المغصوبة والخروج عنها ، ومن المعلوم أنّ العقل


يلزمه بالخروج مقدمة للتخلص عن الحرام ، ولا يجوز له البقاء لأنّه تصرف زائد.

وعلى هذا فلا محالة يضطر المكلف إلى الخروج عنها ولا يقدر على تركه تشريعاً وإن كان قادراً عليه تكويناً ، ومعه لا يمكن للشارع أن ينهى عنه ، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا غير داخل في مورد القاعدة.

وإن شئت فقل : إنّ ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان ، فانّ إيجاد المقدمة فيما نحن فيه ـ أعني بها الدخول في الأرض المغصوبة ـ يوجب سقوط الخطاب بترك الخروج ، وفي مورد القاعدة يوجب فعلية الخطاب كما عرفت ، فإذن كيف يمكن دخول المقام تحت القاعدة.

الرابع : أنّ الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل ، وهذا يكشف عن كونه مقدوراً وقابلاً لتعلق التكليف به ، ومن المعلوم أنّ كلّما كان كذلك ـ أعني كونه واجباً ولو بحكم العقل ـ لا يدخل في كبرى تلك القاعدة قطعاً ، ضرورة أنّ مورد القاعدة هو ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلق التكليف به لامتناعه ، وأمّا إذا فرض كونه قابلاً لذلك ولو عقلاً ، فلا موجب لسقوط الخطاب المتعلق به شرعاً أصلاً. فإذن فرض تعلق الخطاب الوجوبي به مع فرض كونه داخلاً في موضوع القاعدة فرضان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما ، وعليه فكيف يمكن كون المقام من صغريات القاعدة.

نتيجة جميع ما ذكره قدس‌سره هي أنّ الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره من الوجوه : إنّ هذه الوجوه جميعاً تبتني على الاشتباه في نقطتين :


الاولى : توهم اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية ، والغفلة عن أنّه لا فرق في جريانها بين موارد التكاليف الوجوبية وموارد التكاليف التحريمية ، فهما من هذه الناحية على صعيد واحد ، والفارق هو أنّ ترك المقدمة في التكاليف الوجوبية غالباً بل دائماً يفضي إلى ترك الواجب وامتناع فعله في الخارج ، كمن ترك المسير إلى الحج فانّه يوجب امتناع فعله ، وهذا بخلاف التكاليف التحريمية فان في مواردها إيجاد المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه لا تركها ، مثلاً الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه ، لا تركه فانّه لا يوجب امتناع فعله ، فتكون موارد التكاليف التحريمية من هذه الناحية على عكس موارد التكاليف الوجوبية.

الثانية : توهم اختصاص جريان القاعدة بموارد الامتناع التكويني كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه ، وعدم جريانها في موارد الامتناع التشريعي ، فتخيل أنّ الامتناع العارض على الفعل المنتهي إلى اختيار المكلف وإرادته إن كان امتناعاً تكوينياً فيدخل في موضوع القاعدة ، وإن كان تشريعياً فلا يدخل فيه.

ولكن كلتا النقطتين خاطئة :

أمّا النقطة الاولى : فلضرورة أنّ الملاك في جريان هذه القاعدة في مورد هو أن يكون امتناع امتثال التكليف فيه منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته ، فلا فرق بين أن يكون ذلك التكليف تكليفاً وجوبياً أو تحريمياً ، وبلا فرق بين أن يكون امتناع امتثاله من ناحية ترك ما يفضي إلى ذلك كترك المسير إلى الحج ، أو من ناحية فعل ما يفضي إليه كالدخول في الأرض المغصوبة ، فكما أنّه على الأوّل يقال إنّ امتناع فعل الحج يوم عرفة بما أنّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه ، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فكذلك على الثاني يقال إنّ


امتناع ترك الغصب بما أنّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا فرق بينهما في الدخول في موضوع القاعدة أصلاً.

وبكلمة اخرى : أنّه لا واقع موضوعي لهذه القاعدة ما عدا كون امتناع امتثال التكليف منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته ، فيقال إنّ هذا الامتناع بما أنّه مستند إلى اختياره فلا ينافي العقاب ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، هذا هو واقع تلك القاعدة ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق في ذلك بين التكليف الوجوبي والتحريمي أبداً. نعم ، تمتاز التكاليف التحريمية عن التكاليف الوجوبية في نقطة اخرى : وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية يستند امتناع فعل الواجب في الخارج كما عرفت إلى ترك المقدمة اختياراً ، وفي موارد التكاليف التحريمية يستند امتناع ترك الحرام كالمثال المتقدم وما شاكله إلى فعل المقدمة ، ولكن من المعلوم أنّه لا أثر لهذا الفرق بالاضافة إلى الدخول في موضوع القاعدة كما مرّ.

وأمّا النقطة الثانية : فلأ نّه لا فرق في الدخول في كبرى تلك القاعدة بين أن يكون الامتناع الناشئ من الاضطرار بسوء الاختيار تكوينياً كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وما شابه ذلك ، أو تشريعياً ناشئاً من إلزام الشارع بفعل شيء أو بتركه ، فانّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، ضرورة أنّ الميزان في جريان هذه القاعدة كما عرفت هو ما كان امتناع الامتثال مستنداً إلى اختيار المكلف ، ومن الطبيعي أنّ الامتثال قد يمتنع عقلاً وتكويناً وقد يمتنع شرعاً ، ومن المعلوم أنّه لا فرق بينهما من ناحية الدخول في موضوع القاعدة أصلاً إذا كان منتهياً إلى الاختيار ، وهذا واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد جميع هذه الوجوه :


أمّا الوجه الأوّل : فلأ نّه مبني على اختصاص القاعدة بموارد الامتناع التكويني ، ليختص جريانها بما إذا عرضه الامتناع في الخارج تكويناً وكان ذلك بسوء اختيار المكلف كالاتيان بالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه ، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق مثلاً وما شابه ذلك ، وعليه فلا محالة لا تشمل مثل الخروج عن الدار المغصوبة ، لفرض أنّه غير ممتنع تكويناً ومقدور للمكلف عقلاً فعلاً وتركاً ، وإن كان غير مقدور له تشريعاً ، ولكن قد عرفت أنّه لا وجه لهذا التخصيص أصلاً ، ولا فرق في جريان هذه القاعدة بين أن يكون امتناع الفعل تكوينياً أو تشريعياً ، فكما أنّها تجري على الأوّل ، فكذلك تجري على الثاني.

وعلى هدى ذلك قد تبيّن أنّ الخروج عن الأرض المغصوبة في مفروض الكلام وما شاكله داخل في كبرى تلك القاعدة ، وذلك لأنّ الخروج وإن كان مقدوراً للمكلف تكويناً فعلاً وتركاً ، إلاّ أنّه لا مناص له من اختياره خارجاً ، والوجه فيه : هو أنّ أمره في هذا الحال يدور بين البقاء في الأرض المغصوبة والخروج عنها ولا ثالث لهما ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ التصرف فيها بغير الخروج بما أنّه محرّم فعلاً من جهة أنّه أهمّ المحذورين وأقوى القبيحين ، فلا محالة يحكم العقل بتعين اختيار الخروج والفرار عن غيره ، ومع هذا يمتنع النهي عنه بالفعل ، لأنّ حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً الموجب لامتناع ترك الخروج تشريعاً لا يجتمع مع النهي عن الخروج أيضاً ، فالنتيجة : أنّه لا يمكن النهي عنه في هذا الحال لامتناع تركه من ناحية إلزام الشارع بترك البقاء والتصرف بغيره كما هو واضح ، ولكن بما أنّه مستند إلى اختيار المكلف فلا ينافي العقاب فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.


وعلى الجملة : فمن دخل الأرض المغصوبة باختياره وإرادته وإن كان قادراً على الخروج منها عقلاً كما أنّه قادر على البقاء فيها كذلك ، فانّ ما هو خارج عن قدرته واختياره هو مطلق الكون فيها الجامع بين البقاء والخروج لا كل واحد منهما في نفسه ، إلاّ أنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج تستلزم لا محالة لزوم اختيار الخروج بحكم العقل فراراً عن المحذور الأهم ، وعلى هذا فالنهي عن الخروج ممتنع لامتناع تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره ، ولكن هذا من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره ، ولكن هذا الامتناع بما أنّه منته إلى اختياره فلا ينافي العقاب ، وهذا معنى كونه داخلاً في موضوع القاعدة. فما أفاده قدس‌سره في هذا الوجه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

وأمّا الوجه الثاني : فلأ نّه مبتنٍ على اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية ، ببيان أنّ المعتبر في دخول شيء في تلك القاعدة هو أن يكون ملاك الواجب تاماً في ظرفه ، سواء أكان المكلف أوجد مقدمته الوجودية أم لا ، وذلك كالحج في الموسم فانّ ملاكه تام بعد حصول الاستطاعة وإن لم توجد مقدمته في الخارج ، ففي مثل ذلك إذا ترك المكلف مقدمته كالمسير إليه فلا محالة امتنع الواجب عليه في ظرفه ويفوت منه الملاك الملزم ، وبما أنّ تفويته باختياره فلأجل ذلك يستحق العقاب. وأمّا الخروج في مفروض الكلام بما أنّه لا ملاك لوجوبه قبل حصول مقدمته وهي الدخول لفرض أنّ له دخلاً في ملاكه وتحقق القدرة عليه ، فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة.

وغير خفي ما في ذلك ، فانّ فيه خلطاً بين جريان القاعدة في موارد التكاليف الوجوبية وجريانها في موارد التكاليف التحريمية ، وتخيل أنّ جريانها في كلا الموردين على صعيد واحد ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لوضوح أنّ الكلام في دخول الخروج في موضوع القاعدة وعدم دخوله ليس من ناحية حكمه


الوجوبي ليقال إنّه قبل الدخول لا ملاك له ليفوت بتركه فيستحق العقاب عليه إذا كان بسوء اختياره ، بل من ناحية حكمه التحريمي ، وهذا لعلّه من الواضحات ، ومن المعلوم أنّه من هذه الناحية داخل في كبرى القاعدة ، لما عرفت من أنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج أوجبت بحكم العقل لزوم اختياره فراراً عن المحذور الأهم ، وامتناع تركه تشريعاً وإن لم يكن ممتنعاً تكويناً ، ولكن بما أنّه منتهٍ إلى الاختيار فيستحق العقاب عليه ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وعلى الجملة : فقد ذكرنا أنّ التكاليف الوجوبية تمتاز عن التكاليف التحريمية في نقطة ، وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة غالباً أو دائماً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج تكويناً أو تشريعاً ، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة غالباً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج كذلك ، فهما من هذه الناحية على طرفي النقيض.

وعلى أساس تلك النقطة قد ظهر حال الخروج فيما نحن فيه ، فانّ له ناحيتين ، أعني ناحية حرمته وناحية وجوبه ، فمرةً ننظر إليه من ناحية حرمته واخرى من ناحية وجوبه.

أمّا من ناحية حرمته ، فقد عرفت أنّه لا إشكال في دخوله في موضوع القاعدة.

ولكنّ العجب من شيخنا الاستاذ قدس‌سره كيف غفل عن هذه الناحية ولم يتعرض لها في كلامه أبداً لا نفياً ولا إثباتاً ، وأصرّ على عدم انطباق القاعدة عليه ، مع أنّه من الواضح جداً أنّه لو التفت إلى هذه الناحية لالتزم بانطباق القاعدة عليه ، بداهة أنّه قدس‌سره لا يفرّق في جريان هذه القاعدة


بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية ، لعدم الموجب له أبداً وهذا واضح.

وأمّا من ناحية وجوبه ، فعلى ما يراه قدس‌سره من أنّه واجب شرعاً من جهة دخوله في موضوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه فالأمر كما أفاده ، لوضوح أنّه من هذه الناحية غير داخل في القاعدة ، لعدم الملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول ليفوت منه ذلك بترك هذه المقدمة ، ليستحق العقاب على تفويته إذا كان باختياره ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّه بعد إيجاد مقدمته بالاختيار لا يفوت منه الواجب على الفرض ليستحق العقاب على تفويته ، فإذن لا يمكن أن يكون الخروج من هذه الناحية داخلاً في كبرى القاعدة. ولكن سنبين عن قريب إن شاء الله تعالى (١) أنّ هذه الناحية ممنوعة وأنّ الخروج ليس بواجب شرعاً وإنّما هو واجب بحكم العقل ، بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ المكلف لا بدّ له من اختياره ولا مناص عنه من ناحية حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً ، وعليه فلا وجه لخروجه عن موضوع القاعدة.

أضف إلى ذلك : أنّه على فرض تسليم وجوبه وإن كان خارجاً عنه ، إلاّ أنّه لا شبهة في دخوله فيه من ناحية تحريمه كما عرفت ، فإذن لا وجه لاصراره قدس‌سره لخروجه عنه إلاّغفلته عن هذه الناحية كما أشرنا إليه آنفاً.

وأمّا الوجه الثالث فيرد عليه : أنّه مبني على الخلط بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام والغفلة عن نقطة ميزهما ، بيان ذلك : هو أنّ إيجاد المقدمة في موارد التكاليف الوجوبية يوجب قدرة المكلف على إتيان الواجب وامتثاله

__________________

(١) في ص ٩٢.


وصيرورته قابلاً لأن يتوجه إليه التكليف فعلاً. وأمّا في موارد التكاليف التحريمية فترك المقدمة يوجب قدرة المكلف على ترك الحرام ، وعلى هذا ففي موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة المزبورة يوجب امتناع فعل الواجب في الخارج فيدخل في مورد القاعدة كما عرفت ، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام. ففيما نحن فيه الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع الخروج تشريعاً من ناحية حكم الشارع بحرمة التصرف بغيره فعلاً ويوجب سقوط النهي عنه ، كما أنّ ترك الدخول فيها يوجب فعلية النهي عنه.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مبني على خلط مقدمة الحرام بمقدمة الواجب.

وأمّا الوجه الرابع : فقد ظهر بطلانه مما تقدم ، وملخصه : هو أنّ حكم العقل بلزوم اختياره الخروج دفعاً للمحذور الأهم وإن كان يستلزم كونه مقدوراً للمكلف تكويناً ، إلاّ أنّه لا يستلزم كونه محكوماً بحكم شرعاً ، لعدم الملازمة بين حكم العقل بلزوم اختياره في هذا الحال وإمكان تعلق الحكم الشرعي به ، والوجه في ذلك : هو أنّ حكم العقل وإدراكه بأ نّه لا بدّ من اختياره وإن كان كاشفاً عن كونه مقدوراً تكويناً ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن للشارع أن ينهى عنه فعلاً ، وذلك لأنّ منشأ هذا الحكم العقلي إنّما هو منع الشارع عن التصرف بغيره فعلاً الموجب لعجز المكلف عنه بقاعدة أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، ومع ذلك لو منع الشارع عنه أيضاً منعاً فعلياً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، فإذن لا يمكن أن يمنع عنه فعلاً كما هو واضح ، وهذا معنى سقوط النهي عنه وعدم إمكانه ، ولكن بما أنّ ذلك كان بسوء اختياره وإرادته فلا ينافي العقاب ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فما أفاده قدس‌سره من دعوى الملازمة بين وجوب الخروج بحكم العقل


وكونه قابلاً لتعلق التكليف به خاطئة جداً ولا واقع لها أصلاً. نعم ، هذه الدعوى تامة على تقدير القول بكون الخروج محكوماً بالوجوب كما هو مختاره قدس‌سره.

إلى هنا قد تبيّن أنّ ما أفاده قدس‌سره من الوجوه لاثبات أنّ الخروج غير داخل في كبرى تلك القاعدة لا يتم شيء منها.

وأمّا الكلام في الدعوى الثالثة : وهي كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة وجوب ردّ مال الغير إلى مالكه ، فقد ذكر قدس‌سره (١) أنّه بعد بطلان دخول المقام في كبرى قاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالوجوه المتقدمة من ناحية ، وبطلان بقية الأقوال من ناحية اخرى ، لا مناص من الالتزام بكونه دخلاً في موضوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ، ببيان أنّه كما يجب ردّ المغصوب إلى صاحبه في غير هذا المقام ، يجب ردّه إلى مالكه هنا أيضاً وهو يتحقق هنا بالخروج ، فإذن يكون الخروج مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه في غير المنقولات ، فيكون واجباً لا محالة عقلاً وشرعاً ، كما أنّ البقاء فيها على أنحائه محرّم.

والوجه في ذلك : هو أنّ الاضطرار متعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع بين البقاء والخروج ، لا بخصوص البقاء لتسقط حرمته ، ولا بخصوص الخروج ليسقط وجوبه ، ضرورة أنّ ما هو خارج عن قدرة المكلف إنّما هو ترك مطلق الكون فيها بمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج ، لا كل منهما ، ولأجل ذلك لا يمكن النهي عن مطلق الكون فيها ، ولكن يمكن النهي عن البقاء فيها بشتى أنحائه ، لأنّ المفروض أنّه مقدور للمكلف فعلاً وتركاً ، ومعه لا مانع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣.


من تعلق النهي به بالفعل أصلاً.

ومن هنا قلنا إنّ البقاء وهو التصرف فيها بغير الحركة الخروجية محرّم ، ولا تسقط حرمته من ناحية الاضطرار لفرض عدم تعلقه به ، والخروج بما أنّه مصداق للتخلية بين المال وصاحبه فلا محالة يكون واجباً شرعاً ، وعليه فيكون المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير الذي يكون بعض أفراده واجباً وبعضها الآخر محرّماً ، نظير ما إذا اضطرّ المكلف لرفع عطشه مثلاً إلى شرب الماء الجامع بين الماء النجس والطاهر ، فانّه لا يوجب سقوط الحرمة عن شرب النجس ، لفرض عدم الاضطرار إليه ، بل هو باقٍ على حرمته ووجوب الاجتناب عنه.

وعلى الجملة : فالخروج واجب بحكم الشرع والعقل من ناحية دخوله في كبرى تلك القاعدة ، أعني قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه ، وامتناع كونه داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ومن المعلوم أنّ عنوان التخلص والتخلية من العناوين المحسّنة عقلاً المطلوبة شرعاً من ناحية اشتمالها على مصلحة إلزامية ، وأمّا غيره ـ أي غير الخروج من أقسام التصرف ـ فيبقى على حرمته كما عرفت.

والجواب عن ذلك : أنّ الحركات الخروجية مضادّة لعنوان التخلية والتخلص ، ضرورة أنّ تلك الحركات تصرف في مال الغير حقيقةً وواقعاً ومصداق للغصب كذلك ، ومعه كيف تكون مصداقاً للتخلية ، لوضوح أنّ التخلية هي إيجاد الخلأ في المكان وهو يضاد الاشغال والابتلاء به ، ومن الواضح جداً أنّ الحركات الخروجية مصداق لعنوان الاشغال والابتلاء ، فكيف يصدق عليه عنوان التخلص والتخلية ، فانّهما من العناوين المتضادة فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر ، بداهة أنّ ظرف تحقق الخلاص وإيجاد الخلأ والفراغ بين المال ومالكه


حال انتهاء الحركة الخروجية ، وعليه فكيف يعقل أن تكون تلك الحركات مصداقاً للتخلية ومعنونةً بعنوان التخلص.

وبكلمة اخرى : أنّ من يقول بهذه المقالة ـ أي بكون الحركة الخروجية مصداقاً للتخلص والتخلية ـ إن اريد بمصداقيتها لها بالاضافة إلى أصل الغصب هنا والتصرف في مال الغير ، فيردّ ذلك ما عرفت الآن من أنّه ما دام في الدار سواء اشتغل بالحركات الخروجية أم لا ، فهو معنون بعنوان الابتلاء والاشغال بالغصب لا بعنوان التخلص والتخلية ، فهما عنوانان متضادان لا يصدقان على شيء واحد. هذا إذا كان عنوان التخلص عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ والخلأ بين المال وصاحبه ، كما هو الصحيح. وأمّا إذا فرض أنّه عنوان عدمي وعبارة عن ترك الغصب فيكون عندئذ نقيضاً لعنوان الابتلاء ، ومن الطبيعي استحالة صدق أحد النقيضين على ما يصدق عليه الآخر ، وكيف كان فعنوان التخلص سواء أكان عنواناً وجودياً أو عدمياً فهو مقابل لعنوان الابتلاء فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.

وإن اريد بالاضافة إلى الغصب الزائد على ما يوازي زمان الخروج ، ببيان أنّ التصرف في مال الغير في هذا المقدار من الزمان مما لا بدّ منه فلا يتمكن المكلف من تركه ، ولأجل ذلك ترتفع حرمته ، وأمّا الزائد على ما يوازي هذا الزمان فهو متمكن من تركه بالخروج عنها وقادر على التخلص عنه ، فعندئذ لا محالة تقع الحركات الخروجية مصداقاً للتخلية والتخلص بالاضافة إلى الغصب الزائد ، ومعه تكون محبوبة ومشتملة على مصلحة إلزامية فتجب ، فيرد على ذلك : أنّ عنوان التخلص لايصدق عليها بالاضافة إلى الغصب الزائد أيضاً ، ضرورة أنّ صدق عنوان التخلص عن الشيء فرع الابتلاء به ، فما دام لم يبتل بشيء فلا يصدق أنّه خلص عنه إلاّبالعناية والمجاز ، والمفروض في المقام أنّ


المكلف بعدُ غير مبتلى به ليصدق عليه فعلاً أنّه خلص منه بهذه الحركات الخروجية. نعم ، بعد مضي زمان بمقدار يوازي زمان الخروج إن بقي المكلف فيها فهو مبتلى به لفرض بقائه وعدم خروجه ، وإن خرج فهو متخلص عنه ، فعنوان التخلص عن الغصب الزائد يصدق عليه بعد الخروج وفي ظرف انتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج الدار لا قبله ، كما هو واضح ، وعليه فكيف تتصف تلك الحركة بعنوان التخلص والتخلية.

ودعوى أنّ هذه الحركات وإن لم تكن مصداقاً لعنوان التخلية والتخلص لتكون واجبة بوجوب نفسي ، إلاّ أنّه لا شبهة في كونها مقدمة له فتكون واجبة بوجوب مقدمي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، وذلك لأنّ تلك الحركات الخاصة ـ أعني الحركات الخروجية ـ مقدّمة للكون في خارج الدار ، ولا يعقل أن تكون مقدمة لعنوان التخلص ، فان عنوان التخلص لا يخلو من أن يكون عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ بين المال وصاحبه كما هو الصحيح ، أو يكون أمراً عدمياً وعبارة عن عدم الغصب وتركه ، وعلى كلا التقديرين فهو ملازم للكون في خارج الدار وجوداً لا أنّه عينه.

أمّا الثاني فواضح ، ضرورة أنّ ترك الغصب ليس عين الكون في خارج الدار ، بل هو ملازم له خارجاً ، لاستحالة أن يكون الأمر العدمي مصداقاً للأمر الوجودي وبالعكس. وأمّا الأوّل فأيضاً كذلك ، لوضوح أنّ عنوان التخلص والتخلية ليس عين عنوان الكون فيه خارجاً ومنطبقاً عليه انطباق الطبيعي على فرده بل هو ملازم له وجوداً في الخارج ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ حكم أحد المتلازمين لا يسري إلى الملازم الآخر فضلاً إلى مقدمته.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا يمكن الحكم بوجوب تلك الحركات من


باب المقدمة أيضاً ، فان ما هو واجب وهو عنوان التخلص ليست تلك الحركات مقدمة له ، وما كانت تلك الحركات مقدمة له وهو الكون في خارج الدار ليس بواجب ، ضرورة أنّ الكون فيه ليس من أحد الواجبات في الشريعة المقدسة لتكون مقدمته واجبة.

وبكلمة اخرى : فقد عرفت أنّ عنوان التخلية إمّا أن يكون مضاداً للحركات الخروجية أو مناقضاً لها ، وعلى كلا التقديرين لا يعقل أن تكون تلك الحركات مقدمة له ، لما ذكرناه في بحث الضد (١) من استحالة كون أحد الضدين مقدمةً للضد الآخر أو أحد النقيضين مقدمة لنقيضه ، كما تقدم هناك بشكل واضح فلاحظ.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عنوان التخلص متحد مع عنوان الكون في خارج الدار ومنطبق عليه انطباق الطبيعي على مصداقه ، فعندئذ وإن كانت تلك الحركات مقدمة له ـ أي لعنوان التخلية والتخلص ـ إلاّ أنّه قد تقدم في بحث مقدمة الواجب (٢) أنّه لا دليل على ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، لتكون تلك الحركات واجبة بوجوبي مقدمي.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ الخروج ليس بواجب لا بوجوب نفسي ، لعدم الملاك والمقتضي له ، ولا بوجوب مقدمي ، لعدم ثبوت الصغرى أوّلاً ، وعلى تقدير ثبوتها فالكبرى غير ثابتة.

أضف إلى ذلك : أنّ الخروج ليس عنواناً لتلك الحركات المعدّة للكون في الخارج ، بل هو عنوان لذلك الكون فيه ، ضرورة أنّه مقابل الدخول ، فكما أنّ

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٩٠ وما بعدها.

(٢) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٨١.


الدخول عنوان للكون في الداخل فكذلك الخروج عنوان للكون في الخارج ، فإذن لو صدق عليه عنوان التخلية والتخلص أيضاً فلا يجدي في اتصاف تلك الحركات بالوجوب كما هو واضح ، فما أفاده قدس‌سره من أنّ الخروج مصداق للتخلية بين المال وصاحبه لو سلّمنا ذلك فلا يفيده أصلاً ، لأنّ ذلك لا يوجب كون تلك الحركات محبوبة وواجبة ، لفرض أنّها ليست مصداقاً لها ، غاية الأمر أنّها عندئذ تكون مقدمة للواجب ، ولكن عرفت أنّ مقدمة الواجب غير واجبة ولا سيّما إذا كانت مبغوضة.

ومن هنا يظهر أنّ قياسه قدس‌سره المقام بالاضطرار إلى الجامع بين المحلل والمحرم قياس في غير محلّه ، لما عرفت من أنّ الخروج ليس بواجب ليكون الاضطرار في المقام متعلقاً بالجامع بين الواجب والحرام.

إلى هنا قد تبيّن بوضوح بطلان بقية الأقوال وصحة قول المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وهو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، وقد ظهر وجهها مما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.

ثمّ إنّ له قدس‌سره (١) هنا كلاماً آخر وحاصله : هو أنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه في حال من الحالات ولو كان ذلك بعنوان التخلية وردّه إليه كالخروج عن الدار المغصوبة في المقام كما هو ليس ببعيد ، فغاية ما يوجب ذلك هو أن يكون حال الخروج هنا حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة ، بيان ذلك : هو أنّ الشارع بما أنّه ينهى عن شرب الخمر مطلقاً من أيّ شخص كان وفي أيّة حالة ولا يرضى بشربه أصلاً لما فيه من المفسدة الالزامية ، فمن الطبيعي أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٤.


لا يرضى بارتكاب المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شربه ، ولكن بعد ارتكاب تلك المقدمة في الخارج ولو باختياره واضطراره إلى شربه من ناحية توقف حفظ النفس عليه لا محالة لا يقع هذا الشرب المتوقف عليه ذلك إلاّ محبوباً للمولى ومطلوباً له عقلاً وشرعاً ، وذلك كمن يجعل نفسه مريضاً باختياره وإرادته ويضطر بذلك إلى شربه ، أو يأتي بمقدمة يضطر بها في حفظ بيضة الاسلام إلى قتل نفس محترمة مثلاً وهكذا ، ولكن بعد جعل نفسه مضطراً إلى ذلك لا يقع الشرب المتوقف عليه حفظ النفس إلاّمطلوباً عقلاً وشرعاً ، وكذا قتل النفس المحترمة المتوقف عليه حفظ الدين لا يقع في الخارج إلاّمحبوباً ومطلوباً.

وما نحن فيه كذلك ، فانّ الشارع بما أنّه لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه مطلقاً ولو كان ذلك بالخروج وبعنوان التخلية وردّه إلى مالكه ، فلا محالة يحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج أعني بها الدخول ، فعندئذ يقع الدخول محرّماً من ناحية نفسه ومن ناحية كونه مقدمةً للخروج ، وأمّا الخروج بعده فيقع محبوباً ومطلوباً ، عقلاً وشرعاً.

وعلى الجملة : فالخروج لا يخلو من أن يكون حاله حال ترك الصلاة فيكون مبغوضاً في حال دون آخر ، كما في حال الحيض والنفاس وما شاكل ذلك فانّه يجوز للمرأة أن تفعل فعلاً كأن تشرب دواء يترتب عليه الحيض لتترك صلاتها ، أو يكون حاله حال شرب الخمر فيكون مبغوضاً في جميع الحالات ، ولذا يحرم التسبيب إليه ، فإن كان من قبيل الأوّل فهو واجب نفساً من ناحية كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه ، وإن كان من قبيل الثاني فهو واجب غيري من ناحية كونه مقدمةً لواجب أهم وهو التخلية بين المال ومالكه ، فيكون حاله عندئذ حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة ، فكما أنّه


بعد الاضطرار إليه بسوء اختياره واجب بوجوب غيري ومطلوب للشارع ، فكذلك الخروج بعد الدخول ، غاية الأمر أنّ المقدمة التي بها اضطر المكلف إلى شرب الخمر لحفظ النفس المحترمة سائغة في نفسها ، ولكنها صارت محرّمة من ناحية التسبيب والمقدمية ، والمقدمة التي بها اضطرّ إلى الخروج محرّمة في نفسها مع قطع النظر عن كونها مفضية إلى ارتكاب محرّم آخر ومقدمة له ، ولكن من المعلوم أنّه لا دخل لذلك فيما نحن فيه أصلاً ، بداهة أنّه لا فرق في وقوع شرب الخمر مطلوباً في هذا الحال بين كون المقدمة التي توجب اضطرار المكلف إليه سائغة في نفسها أو محرّمة كذلك ، غاية الأمر على الثاني يكون العقاب من ناحيتين : من ناحية حرمتها النفسية ، ومن ناحية التسبيب بها إلى ارتكاب محرّم آخر.

فالنتيجة : هي أنّ الخروج إمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الأوّل ، وعلى هذا فيكون واجباً في نفسه ومطلوباً لذاته ولا يكون محرّماً أبداً ، بمعنى أنّ التصرف في أرض الغير بالدخول والبقاء فيها محرّم لا مطلقاً ولو كان بالخروج ، فانّه واجب باعتبار كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه ، وإمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الثاني ، وعلى هذا فيكون واجباً غيرياً باعتبار أنّه مقدمة لواجب أهم ، وإن كان محرّماً في نفسه من ناحية أنّه تصرف في مال الغير وهو محرّم مطلقاً على الفرض ، وكيف كان فهو على كلا التقديرين غير داخل في موضوع قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره وهي أنّ تلك الحركات ـ أعني الحركات التي هي مقدمة للكون في خارج الدار ـ خارجة عن كلا البابين ، فكما أنّها ليست من صغريات الباب الأوّل ، فكذلك ليست من صغريات هذا الباب ، والوجه في ذلك : ما تقدم من أنّ تلك الحركات بقيت على ما هي عليه


من المبغوضية من دون أن تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية ، بداهة أنّها تصرف في مال الغير بدون إذنه ومصداق للغصب ، ومعه كيف تعرض عليها جهة محبوبية ، وقد سبق أنّها ليست مقدمة لواجب أيضاً ليعرض عليها الوجوب الغيري ، غاية ما في الباب أنّ العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية أنّها أخف القبيحين وأقلّ المحذورين ، وبما أنّ ذلك منتهٍ إلى اختيار المكلف فلا ينافي استحقاق العقاب عليها. وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت أنّها غير واجبة.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا عروض الوجوب الغيري لها ، فمن الطبيعي أنّه لا ينافي مبغوضيتها النفسية واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار ، كما هو الحال في المقام ، ضرورة أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك ومحبوبية متعلقه ليقال إنّها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها ، بل هو ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها ، ومن المعلوم أنّها لا تنافي مبغوضيتها النفسية أصلاً.

ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضاً ، وذلك لأنّ العقاب فيهما ليس على التسبيب والاتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل النفس المحترمة ، والوجه في ذلك : هو أنّ تلك المقدمة لو كانت محرّمةً في ذاتها ومبغوضة للمولى لاستحق العقاب على نفسها ، سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرّم آخر أم لا ، وأمّا لو لم تكن محرّمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها ، فلا وجه لاستحقاق العقاب عليها أصلاً ، بل يستحق العقاب عندئذ على ارتكاب المحرم كشرب الخمر مثلاً أو قتل النفس ، لفرض أنّ الاضطرار إلى ذلك منتهٍ إلى الاختيار ، بداهة أنّه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضاً للمولى ، بل كان محبوباً له من ناحية عروض الوجوب الغيري له


على الفرض ، لا معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه ـ أي التسبيب ـ مبغوضاً ومحرّماً لوضوح أنّ التسبيب إلى المحرّم حرام ومبغوض ، لا التسبيب إلى غيره ، وأمّا إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوباً فلا يعقل كون التسبيب إليه محرّماً وهذا واضح. فاذن لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل باعتبار أنّ الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منتهٍ إلى الاختيار فلا ينافي العقاب ، ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافي مبغوضيته في نفسه ، لفرض أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه ، بل هو ناشٍ عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلاً كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ هذين المثالين وما شاكلهما كالخروج جميعاً داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، وأنّ الجميع بالاضافة إلى الدخول في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد ، وأنّ العقل في جميع ذلك يرشد إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخروج أو ما شاكله ليس محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء الاختيار ، ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وإن كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فراراً عن المحذور الأهم ، ولكن عرفت أنّ ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهياً إلى سوء اختياره ، كما هو مفروض المقام.


[ حكم الصلاة حال الخروج ]

أمّا الكلام في المورد الثاني ، وهو حكم الصلاة الواقعة حال الخروج ، فيقع في عدة موارد :

الأوّل : ما إذا كان المكلف غير متمكن من الصلاة في خارج الدار أصلاً ، لا مع الركوع والسجود ولا مع الايماء ، لضيق الوقت أو نحوه.

الثاني : أن يتمكن من الصلاة مع الايماء فيه ، ولا يتمكن من الصلاة مع الركوع والسجود.

الثالث : أن يتمكن من الصلاة في الخارج مع الركوع والسجود لسعة الوقت.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : فيجوز له الصلاة حال الخروج ، ولكن يقتصر فيها على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، وذلك لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ، ومعه لا محالة تنتقل الوظيفة إلى بدلهما وهو الايماء ، هذا على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية. وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع وجوداً فمقتضى القاعدة الأوّلية عدم جواز إيقاع الصلاة حال الخروج ، لفرض أنّ الحركات الخروجية متحدة مع الصلاة خارجاً ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ، ولكن مقتضى القاعدة الثانوية هو لزوم الاتيان بها ، لأنّها لا تسقط بحال ، ومردّ ذلك إلى سقوط المبغوضية عن تلك الحركات بمقدار زمان تسع الصلاة فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ولا يتمكن من


الخروج عنها لمانع من سدّ باب أو نحوه إلى أن ضاق وقت الصلاة ، فعندئذ على القول بالجواز وتعدد المجمع لا إشكال في صحة الصلاة بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه ، لفرض أنّ مصداق المأمور به غير متحد مع مصداق المنهي عنه ، ومعه لا مانع من التقرب به أصلاً ، وإن كان المكلف مستحقاً للعقاب من ناحية أنّ تصرّفه في مال الغير بدون إذنه منتهٍ إلى الاختيار.

والاشكال إنّما هو على القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الحركات الخروجية ، وحاصله : أنّ الحرمة في المقام وإن سقطت من ناحية الاضطرار ، ضرورة أنّ بقاء الحرمة في هذا الحال مع عدم تمكن المكلف من الترك ـ أي ترك الحرام ـ لغو محض وتكليف بما لا يطاق ، إلاّ أنّ مبغوضيتها باقية ، ومن المعلوم أنّها تمنع عن قصد التقرب ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض عند المولى ، وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة ، لفرض أنّها مبغوضة فيستحيل أن يكون مقرّباً ، هذا ما تقتضيه القاعدة الأوّلية ، فلو كنّا نحن وهذه القاعدة ولم يكن هنا دليل آخر يدل على وجوب الصلاة وعدم سقوطها بحال ، لقلنا بسقوطها وعدم وجوبها في المقام.

ولكن من جهة دليل آخر وأ نّها لا تسقط بحال ، نلتزم بوجوبها وعدم سقوطها في هذا الحال أيضاً ، ولازم ذلك هو سقوط المبغوضية ، بمعنى أنّ الصلاة في هذا الحال ليست بمبغوضة بل هي محبوبة فعلاً وقابلة للتقرب بها ، ولكن لا بدّ عندئذ من الالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الحركات التي تكون مصداقاً للصلاة بمقدار زمان يسع الصلاة دون الزائد على ذلك ، فانّ الضرورات تتقدر بقدرها ، لوضوح أنّ ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من ناحية وعدم إمكان الحكم بصحتها هنا مع فرض بقاء المبغوضية من ناحية اخرى


أوجب الالتزام بسقوط تلك المبغوضية عن هذه الحركات الصلاتية لا محالة في زمان يسع لها فحسب لا مطلقاً ، لعدم المقتضي لارتفاع المبغوضية عنها في الزائد على هذا المقدار من الزمان ، بل هي باقية على حالها من المبغوضية.

وإن شئت فقل : إنّ المقتضي للالتزام بسقوط المبغوضية أمران :

الأوّل : وجوب الصلاة في هذا الحال وعدم سقوطها عن المكلف على الفرض.

الثاني : عدم إمكان الحكم بصحة الصلاة مع بقاء المبغوضية ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض ، فعندئذ لو لم نلتزم بسقوط المبغوضية عنها في زمان يسع لفعلها للزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، ولأجل ذلك لا بدّ من الالتزام بسقوطها ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يقتضي إلاّجواز التصرف بمقدار زمان يسع لفعل الصلاة فحسب ، وأمّا الزائد عليه فلا مقتضي للجواز وارتفاع المبغوضية أصلاً ، هذا بناءً على وجهة نظر الأصحاب من القول بالجواز أو الامتناع في مسألة الاجتماع.

وأمّا بناءً على ما حققناه هناك من أنّ أجزاء الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً ما عدا السجدة ، باعتبار أنّ مجرد مماسة الجبهة الأرض لا يكفي في صدقها بل لا بدّ فيها من الاعتماد على الأرض ، وبدونه لا تصدق السجدة ، ومن المعلوم أنّه تصرف في مال الغير بدون إذنه وهو مبغوض للمولى فلا يمكن التقرب به. نعم ، نفس هيئة السجود ليست تصرفاً فيه ، فانّها من هذه الناحية كهيئة الركوع والقيام والقعود ، وقد ذكرنا أنّ هذه الهيئات التي تعتبر في الصلاة ليس شيء منها متحداً مع الكون في الأرض المغصوبة ومصداقاً للغصب.

نعم ، الحركات المتخللة بينها كالهوي والنهوض وإن كانت تصرّفاً فيها


ومصداقاً له ، إلاّ أنّها ليست من أجزاء الصلاة ، فما هو من أجزائها غير متحد مع الغصب خارجاً ، وما هو متحد معه ليس من أجزائها ، وقد سبق الكلام في كل ذلك بشكل واضح ، فعندئذ لا مانع من الحكم بصحة الصلاة هنا أصلاً ، وإن قلنا بفسادها في غير حال الخروج من ناحية السجدة أو الركوع أو من ناحية مقدماتهما ، ومعه لا حاجة إلى التماس دليل آخر يدل على وجوبها في هذا الحال ، وذلك لأنّ الصلاة في حال الخروج في مفروض المقام ليست إلاّ مشتملة على التكبيرة والقراءة والايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، ومن الطبيعي أنّه ليس شيء منها تصرّفاً في مال الغير عرفاً ومصداقاً للغصب.

أمّا التكبيرة والقراءة ، فلأ نّهما من مقولة الكيف المسموع ، ومن الواضح أنّه لا صلة لها بالتصرف في مال الغير أصلاً ، كما أنّه من الواضح أنّه لا يعدّ تموج الهواء وخرقه الناشئ من الصوت تصرّفاً.

وأمّا الايماء للركوع والسجود فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لا يعدّ تصرفاً في ملك الغير عرفاً ليكون مبغوضاً. نعم ، لا تجوز الصلاة في هذا الحال مع الركوع والسجود لاستلزامهما التصرف الزائد وهو غير جائز ، فإذن لا محالة تنتقل الوظيفة إلى الايماء كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ الصلاة مع الايماء في حال الخروج صحيحة مطلقاً من دون حاجة إلى التماس دليل آخر ، ومع الركوع والسجود باطلة.

وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو ما إذا لم يكن المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الأرض المغصوبة إلاّمع الايماء للركوع والسجود ، فقد ظهر أنّه على القول بالجواز في المسألة وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية كما حققناه الآن ، فلا إشكال في صحة الصلاة حال الخروج ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه ، والوجه في هذا


واضح ، وهو أنّ الصلاة حال الخروج ليست مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير على الفرض ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّها لا تستلزم التصرف الزائد على نفس الخروج ، لفرض أنّها غير مشتملة على الركوع والسجود المستلزمين له. ومن ناحية ثالثة : أنّ المكلف غير قادر على الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار ، لتكون هذه الصلاة ـ أعني الصلاة مع الايماء حال الخروج ـ غير مشروعة في حقّه ، لأنّها وظيفة العاجز دون القادر.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّه لا مناص من الالتزام بصحة هذه الصلاة في هذا الحال أعني حال الخروج. وأمّا بناءً على القول بالامتناع وفرض اتحاد الصلاة مع الغصب خارجاً فلا تجوز الصلاة حال الخروج ، بل لا بدّ من الاتيان بها خارج الدار ، وذلك لفرض أنّها مصداق للغصب ومبغوض للمولى ، ومعه لا يمكن التقرب بها لاستحالة التقرب بما هو مبغوض.

وأمّا الكلام في المورد الثالث : وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار ، فلا إشكال في لزوم إتيانها في الخارج وعدم جواز إتيانها حال الخروج ولو على القول بالجواز في المسألة ، والوجه في ذلك ظاهر ، وهو أنّ المكلف لو أتى بها في هذا الحال لكان عليه الاقتصار على الايماء للركوع والسجود ، ولا يجوز له الاتيان بها معهما ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة وهو غير جائز ، فإذن لا بدّ من الاقتصار على الايماء ، ومن الواضح جداً أنّ من يتمكن من المرتبة العالية من الصلاة وهي الصلاة مع الركوع والسجود لا يجوز له الاقتصار على المرتبة الدانية وهي الصلاة مع الايماء ، ضرورة أنّها وظيفة العاجز عن المرتبة الاولى ، وأمّا وظيفة المتمكن منها فهي تلك المرتبة لا غيرها ، لوضوح أنّه لا يجوز الانتقال من هذه المرتبة ، أعني المرتبة العالية إلى غيرها من المراتب إلاّفي صورة العجز عن الاتيان بها.


وإن شئت فقل : إنّ الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة الجامع بين المبدأ والمنتهى ، والمفروض أنّ المكلف قادر على إتيان هذا الطبيعي بينهما ، ومعه لا محالة لا تنتقل وظيفته إلى صلاة العاجز والمضطر وهي الصلاة مع الايماء كما هو واضح ، هذا على القول بالجواز. وأمّا على القول بالامتناع فالأمر أوضح من ذلك ، لأنّه لو قلنا بجواز الصلاة حال الخروج في هذا الفرض ـ أي فرض تمكنه من الصلاة المختارة في خارج الدار ـ على القول بالجواز فلا نقول به على هذا القول ، لفرض أنّ الصلاة على هذا متحدة مع الغصب خارجاً ومصداق له ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، بداهة استحالة التقرب بالمبغوض.

وعلى الجملة : فالمانع على القول بالامتناع أمران : أحدهما مشترك فيه بينه وبين القول بالجواز ، وهو أنّ الصلاة مع الايماء ليست وظيفة له ، وثانيهما مختص به ، وهو أنّ الصلاة على هذا القول متحدة مع الحركة الخروجية التي هي مصداق للغصب ، ومعه لا يمكن أن تقع مصداقاً للمأمور به.

ثمّ لا يخفى أنّ الصلاة في حال الخروج مع عدم التمكن منها مع الركوع والسجود في الخارج على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره تقع صحيحة مطلقاً ، أي بلا فرق في ذلك بين القول بالامتناع في المسألة والقول بالجواز ، وذلك لأنّ الحركات الخروجية على وجهة نظره قدس‌سره (١) محبوبة للمولى وواجبة من ناحية انطباق عنوان التخلية عليها ، وعلى هذا فلا محالة تقع الصلاة صحيحة ، وإن كانت متحدة مع تلك الحركات خارجاً ، لفرض أنّها ليست بمبغوضة لتكون مانعة عن صحتها والتقرب بها ، بل هي محبوبة. نعم لو استلزمت الصلاة في هذا الحال تصرّفاً زائداً فلا تجوز ، وهذا واضح.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣.


فالنتيجة : أنّ نظريتنا تفترق عن نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره في الصلاة حال الخروج ، فانّ الحركات الخروجية على وجهة نظرنا مبغوضة وموجبة لاستحقاق العقاب عليها ، ولذا تقع الصلاة فاسدة في صورة اتحادها معها خارجاً ، وعلى وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره محبوبة وتقع الصلاة في هذا الفرض صحيحة ، هذا تمام الكلام في مسألة الاضطرار.

بقي هنا أُمور :

الأوّل : أنّا قد ذكرنا أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية من صغريات كبرى باب التعارض ، كما أنّها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات كبرى باب التزاحم وقد تقدم الكلام في هاتين الناحيتين بصورة واضحة (١) فلا نعيد ، كما أنّه تقدم النقد على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في ضمن المقدمة الثامنة والتاسعة والعاشرة فلا حاجة إلى الاعادة.

الثاني : أنّه على القول بالامتناع في المسألة فهل هناك مرجّح لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب أو بالعكس ، أو لا يكون مرجّح لشيء منهما ، هذا فيما إذا لم يكن دليل من الخارج على تقديم أحدهما على الآخر كاجماع أو نحوه وإلاّ فلا كلام.

وقد ذكروا لترجيح جانب النهي على جانب الأمر وجوهاً :

منها : أنّ دليل النهي أقوى دلالةً من دليل الأمر ، وذلك لأنّ الاطلاق في طرف دليل النهي شمولي ، ضرورة أنّ حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٦٨ الجهة الرابعة.


بمقتضى قوله عليه‌السلام : « لايحل مال امرئ مسلم إلاّبطيب نفسه » (١) ونحوه ، لا تختص بمال دون مال وبتصرف دون آخر ، فهي تنحل بحسب الواقع بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج ، ففي الحقيقة تكون نواهٍ متعددة بعدد أفراد الموضوع والمتعلق ، فيكون كل تصرف محكوماً بالحرمة على نحو الاستقلال من دون ارتباط حرمته بحرمة تصرف آخر ... وهكذا.

وهذا بخلاف الاطلاق في طرف دليل الأمر فانّه بدلي ، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشيء يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج بعد استحالة أن يكون المطلوب هو تمام وجودها ، ومن المعلوم أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود فيكون الوجود الثاني والثالث وهكذا غير مطلوب ، وهذا معنى كون الاطلاق في طرف الأمر بدلياً ، وقد بينّا السر في أنّ الاطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي والاطلاق في طرف النواهي المتعلقة بها شمولي في أوّل بحث النواهي بصورة مفصّلة فلاحظ (٢) ولذلك ـ أي لكون الاطلاق في طرف النهي شمولياً ، وفي طرف الأمر بدلياً ـ ذكروا أنّ الاطلاق الشمولي يتقدم على الاطلاق البدلي في مقام المعارضة ، وذهب إليه شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣) وتبعه على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٤) واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة وقد تقدمت تلك الوجوه

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ ، ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٥ وما بعدها.

(٣) مطارح الأنظار : ٤٩.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٢٣٥.


مع المناقشة عليها بصورة مفصّلة في بحث الواجب المشروط (١) وملخصها :

١ ـ أنّ تقديم الاطلاق البدلي على الاطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله ، وهذا بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، فانّه لا يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله لفرض أنّ مدلوله واحد وهو محفوظ ، غاية الأمر أنّ ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على أفراده.

٢ ـ أنّ ثبوت الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف ، وهي إحراز تساوي أفراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها ، وهذا بخلاف الاطلاق الشمولي ، فانّه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة ، وبتلك المقدمات يتمّ الاطلاق وسريان الحكم إلى جميع أفراده ، وإن كانت الأفراد مختلفة من جهة الملاك المقتضي لجعل الحكم عليها ، ومن المعلوم أنّه مع وجود الاطلاق الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض ، وهذا معنى تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع ، لفرض عدم ثبوت الاطلاق له بالاضافة إلى هذا الفرد.

٣ ـ أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف عن حكم العقل بالتخيير ، والاطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً ، فلو توقف عدم مانعيته على وجود الاطلاق البدلي لدار.

ولنأخذ بالمناقشة عليها ، أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه :

أوّلاً : أنّ العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنّما تكون بقوته ، ومجرد

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٥٨.


أنّ تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا يكون موجباً للتقديم.

وثانياً : أنّ الحكم الالزامي في مورد الاطلاق البدلي وإن كان واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة ، إلاّ أنّ الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من أفرادها ، وذلك لأنّ لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، فالعموم بالاضافة إلى هذا الحكم ـ أعني الحكم الترخيصي ـ شمولي لا محالة ، فإذن كما يستلزم تقديم الاطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض مدلوله ، كذلك يستلزم تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض مدلوله ، وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.

وأمّا الوجه الثاني : فيردّه أنّ التخيير الثابت في مورد الاطلاق البدلي ليس تخييراً عقلياً ، بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد خاص ، وبذلك يحرز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى مقدمة اخرى خارجية ، ولذلك لو شك في تعيين بعض الأفراد لاحتمال أنّ الملاك فيه أقوى من الملاك في غيره ، يدفع ذلك الاحتمال بالاطلاق ، فالاطلاق بنفسه محرز للتساوي بلا حاجة إلى شيء آخر. وعليه فلا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي عليه ، بل تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع ، فانّ مقتضى الاطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، وهو يعارض مقتضى الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.

وعلى الجملة : فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه أنّ ثبوت الاطلاق للمطلق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على مقدمات الحكمة ، وهي إحراز


تساوي أفراده في الوفاء بالغرض ، وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي ، فانّه لا يحتاج إلى مقدمة زائدة على تلك المقدمات ، فإذن هو مانع عن ثبوت الاطلاق له ، أي للمطلق البدلي بالاضافة إلى مورد الاجتماع ، ضرورة أنّه بعد كون مورد الاجتماع مشمولاً للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز أنّه وافٍ بغرض الطبيعة المأمور بها كبقية أفرادها ، وهذا معنى عدم إحراز تساوي أفرادها مع وجود الاطلاق الشمولي.

ولكن تلك النقطة خاطئة جداً ، لأنّها ترتكز على كون التخيير بين تلك الأفراد عقلياً ، ولكن عرفت أنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق وعدم تقييد الشارع الطبيعة بحصة خاصة ، فإذن نفس الاطلاق كافٍ لاحراز التساوي وإلاّ لكان على المولى التقييد ونصب القرينة ، والعقل وإن احتمل وجداناً عدم التساوي إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الاطلاق الكاشف عن التساوي.

ومن هذا البيان تظهر المناقشة في :

الوجه الثالث أيضاً ، وذلك لأنّ هذا الوجه أيضاً يبتني على كون التخيير عقلياً ، ولكن بعد منع ذلك وأنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق ، فان مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، ومن المعلوم أنّ حجية هذا لا تتوقف على أيّ شيء ما عدا مقدمات الحكمة ، فإذن لا محالة يعارض هذا الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في الواقع وعدم صدوره من الشارع.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الوجوه بأجمعها خاطئة ولا واقع موضوعي لها أصلاً.


فالصحيح : هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي ، وذلك لأنّ ثبوت كلا الاطلاقين يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض ، ضرورة أنّه لا مزية لأحدهما بالاضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلاً ، فاذن الحكم بجريان مقدمات الحكمة في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح ، وعليه فيسقط كلا الاطلاقين معاً ، بمعنى أنّ مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا ولا في طرف ذاك ، وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة ، ومجرد كون الاطلاق في أحدهما شمولياً وفي الآخر بدلياً لا يكون سبباً للترجيح بعد ما كان الاطلاق فيه أيضاً شمولياً بالدلالة الالتزامية كما عرفت.

نعم ، العموم الوضعي يتقدم على المطلق سواء أكان شمولياً أو بدلياً ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّ سراية الحكم في العموم الوضعي إلى جميع أفراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وأ نّها فعلية ، لأنّها معلولة للوضع لا لتلك المقدمات ، وهذا بخلاف إطلاق المطلق ، فانّه معلول لاجراء تلك المقدمات وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلاً. وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن يكون قرينة على التقييد ، ومعه لا تجري المقدمات ، إذ من المقدمات عدم نصب قرينة على الخلاف ومن المعلوم أنّ العام صالح لذلك ، ومن هنا قالوا إنّ دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه : أنّ مجرد كون الاطلاق في طرف النهي شمولياً وفي طرف الأمر بدلياً لا يكون سبباً لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم والشمول مستنداً إلى الوضع ، فإذن هذا الوجه باطل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٦.


ومنها : أنّ الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّهم ذكروا أنّه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا بدّ في المقام من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، لكونه من صغريات تلك القاعدة.

وغير خفي أنّ هذا الاستدلال من الغرائب جداً ، وذلك لأنّه على فرض تسليم تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزماً ، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة ، أو بالعكس. فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه ، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه ، فليس في مورد الاجتماع مصلحة ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، ولا موضوع عندئذ لتلك القاعدة ، وموضوع هذه القاعدة وموردها هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الاولى وجلب الثانية معاً ، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، فيقال إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فهذه القاعدة لو تمت فانّما تتم في باب التزاحم ، بناءً على وجهة نظر العدلية فحسب لا مطلقاً ، وأمّا في باب التعارض فلا تتم أصلاً ، وقد تقدم أنّ المسألة ـ أي مسألة الاجتماع ـ على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض. على أنّه لا أصل لهذه القاعدة في نفسها ، لعدم الدليل عليها أصلاً ، لا من العقل ولا من الشرع ، بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد فقد يقدّم جانب المفسدة على جانب المنفعة ، وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة ، وهكذا.

أضف إلى ذلك : أنّ هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها


أولوية قطعية لا ظنّية ، فهي لا صلة لها بالأحكام الشرعية أصلاً ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرة غالباً ، والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى : أنّ الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار ، وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة ، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها ، وبدنية كالجهاد وما شاكله ، كما أنّ في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية ، مع أنّ الاولى تابعة لمصالح كامنة فيها ، والثانية تابعة لمفاسد كذلك ، فاذن لا موضوع لهذه القاعدة بالاضافة إلى الأحكام الشرعية أصلاً.

الثاني : أنّ وظيفة المكلف عقلاً إنّما هي الاتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بعد ثبوت التكليف شرعاً ، وأمّا دفع المفسدة بما هي أو استيفاء المصلحة كذلك فليس بواجب لا عقلاً ولا شرعاً ، فلو علم المكلف بوجود مصلحة في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع لا يجب عليه استيفاء الاولى ولا دفع الثانية ، وأمّا مع العلم بثبوته فالواجب عليه هو امتثال ذلك التكليف لا غيره ، فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنّما هو أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب ، لا إدراك الواقع بما هو واستيفاء المصالح ودفع المفاسد.

وعلى هذا فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية هذه القاعدة ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد اخر لتقديم أحدهما على الآخر إن كانت ، وإلاّ فيرجع إلى الاصول العملية.


ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي قدس‌سره (١) في المقام حيث إنّه أجاب عن هذا الدليل بأ نّه مطلقاً ممنوع ، لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة ، فاذن لا يدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك.

ووجه الغرابة واضح ، ضرورة أنّه لا مفسدة في ترك الواجب كما أنّه لا مصلحة في ترك الحرام ، فالمصلحة في فعل الواجب من دون أن تكون في تركه مفسدة ، كما أنّ المفسدة في فعل الحرام من دون أن تكون في تركه مصلحة وإلاّ لكان اللازم أن ينحل كل حكم إلى حكمين أحدهما متعلق بالفعل والآخر متعلق بالترك ، ولازم هذا أن يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام ، أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام ، لفرض أنّ ترك الواجب محرّم ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى هو قدس‌سره كما هو واضح.

ومنها : الاستقراء ، بدعوى أنّا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها ، نجد أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، فمن جملة تلك الموارد حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار ، فانّ أمر المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها ، ولكنّ الشارع غلّب جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر بترك الصلاة فيها. ومنها : الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين ، فانّ الأمر يدور حينئذ بين حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه ، ولكنّ الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر باهراق الماءين والتيمم للصلاة. ومنها : غير ذلك. ومن مجموع ذلك نستكشف أن تقديم جانب الحرمة أمر مطرد في كل مورد دار

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ١٥٣.


الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون اخرى وبباب دون آخر.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص فضلاً عن التام ، فانّ الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والأفراد وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية ، في قبال الاستقراء التام الذي هو عبارة عن تتبع تمام الأفراد ، ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية ، ومن الواضح جداً أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين.

وثانياً : أنّ الأمر في هذين الموردين أيضاً ليس كذلك ، وأنّ الحكم بعدم الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة ، بيان ذلك :

أمّا في مورد الاستظهار ، فلأنّ الروايات الواردة فيه في باب الحيض والنفاس مختلفة غاية الاختلاف ، ولأجل اختلاف تلك الروايات والنصوص في المسألة اختلفت الأقوال فيها ، فذهب بعضهم كالمحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) والسيد والعلاّمة الطباطبائي قدس‌سرهم في العروة (٢) إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه. وجعل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب وعدم اهتمام الشارع بالاستظهار ، كما جعل قدس‌سره اختلاف النصوص قرينة على عدم الالزام في غير هذا المورد أيضاً ، منها : مسألة الكر. وعلى الجملة : فهذا من الأصل المسلّم عنده قدس‌سره ففي كل مسألة كانت النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة مثلاً ولم تكن قرينة من الخارج على أنّ الحكم في المسألة إلزامي جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم فيها إلزامياً.

__________________

(١) كتاب في الدماء الثلاثة : ٣٩.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٢١٩ المسألة ٢٣ [٧٢٣].


واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام. وهذا هو الصحيح في نظرنا ، وأ نّه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات ، وقد ذكرنا نظير ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة وقلنا في تلك المسألة أيضاً بوجوب واحدة منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين ، بمعنى أنّ للمكلف أن يقتصر على الواحدة وله أن يأتي بالبقية أيضاً وهو الأفضل. وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام. وذهب جماعة اخرى إلى وجوبه عشرة أيام.

هذه هي الأقوال في المسألة ، ومن الواضح جداً أنّ شيئاً من هذه الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة ، أعني قاعدة وجوب تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.

أمّا على القول الأوّل فواضح ، لأنّ النصوص على هذا القول محمولة على الاستحباب ، أي استحباب الاستظهار لا وجوبه ، فلم يقدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب.

وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ إيجاب الاستظهار إذا كان من جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة أيام ، ولم يختص بيوم واحد ، ضرورة أنّ احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم الأوّل كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث وهكذا ، فاختصاص وجوبه بيوم واحد منها قرينة على أنّه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.

وأمّا على القول الثالث ، فلأنّ حاله حال القول الثاني من هذه الناحية ، إذ لو كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام ، لبقاء احتمال الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضاً.


وأمّا على القول الرابع ، فقد يتوهم أنّ الروايات على هذا القول تدل على تلك القاعدة ، ولكنّه من المعلوم أنّه توهم خاطئ جداً ، وذلك لأنّ مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لاتكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها ، فلعله بملاك آخر مثل قاعدة الامكان ونحوها. على أنّ هذا القول ضعيف في نفسه فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية.

أضف إلى ذلك : أنّ الاستشهاد يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض والنفساء ذاتاً ، إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار مردداً بين الحرمة والوجوب ، فايجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبياً عن القاعدة المزبورة بالكلية.

وأمّا المورد الثاني : وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين فقد ظهر حاله مما تقدم ، فانّ عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، بل هو من ناحية النص الخاص (١) الذي ورد فيه الأمر باهراقهما والتيمم ، وإلاّ فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة ، إذ بذلك يحرز المكلف أنّ إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية ، ومن المعلوم أنّه مع التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه (٢).

أضف إلى ذلك : أنّ حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة ، بل هي حرمة تشريعية وهي خارجة عن موضوع القاعدة ، ضرورة أنّ موضوعها هو دوران الأمر بين الحرمة الذاتية والوجوب ، وأمّا الحرمة التشريعية فهي

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٥ / أبواب التيمم ب ٤ ح ١.

(٢) شرح العروة ٢ : ٣٥٦ المسألة ٧ [١٥٥].


تابعة لقصد المكلف وإلاّ فلا حرمة بحسب الواقع ، وكيف كان فلا أصل لهذه القاعدة أصلاً.

لحدّ الآن قد تبيّن أنّه لايرجع شيء من الوجوه التي ذكروها لترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب إلى محصّل.

فالصحيح هو ما حققنا سابقاً من أنّ المسألة على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع تدخل في كبرى باب التعارض ، ولا بدّ عندئذ من الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب ، فإن كان هناك ترجيح لأحدهما على الآخر فلا بدّ من العمل به ، وإلاّ فالمرجع هو الاصول العملية.

نعم ، قد تكون في بعض الموارد خصوصية تقتضي تقدم الحرمة على الوجوب وإن كان شمول كل منهما لمورد الاجتماع مستفاداً من الاطلاق ، وذلك كاطلاق دليل وجوب الصلاة مع إطلاق دليل حرمة الغصب ، فانّ عنوان الغصب من العناوين الثانوية ، ومقتضى الجمع العرفي بين حرمته وجواز فعلٍ بعنوانه الأوّلي في مورد الاجتماع حمل الجواز على الجواز في نفسه وبطبعه غير المنافي للحرمة الفعلية ، وذلك نظير ما دلّ على جواز أكل الرمان بالاضافة إلى دليل حرمة الغصب ، فانّ النسبة بينهما وإن كانت نسبة العموم من وجه إلاّ أنّه لا يشك في تقديم حرمة الغصب ، لما ذكرناه.

الثالث : أنّه إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب الحرمة على الوجوب أو بالعكس ، فهل يمكن الحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع على هذا القول ، أعني القول بالامتناع أم لا؟

فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا مانع من الحكم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٨.


بالصحة ـ أي صحة الصلاة ـ من ناحية جريان أصالة البراءة عن حرمتها ، ومعه لا مانع من الحكم بالصحة أصلاً ، ضرورة أنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة الفعلية ، وبعد ارتفاع تلك الحرمة بأصالة البراءة فهي قابلة للتقرب بها ، ومعه لا محالة تقع صحيحة ، ولا يتوقف جريان البراءة عنها على جريانها في موارد الشك في الأجزاء والشرائط ، بل ولو قلنا بعدم جريانها في تلك الموارد تجري في المقام ، والوجه في ذلك : هو أنّ المورد ليس داخلاً في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لفرض أنّه ليس هنا شك في مانعية شيء عن المأمور به واعتبار عدمه فيه ، بل الشك هنا في أنّ هذه الحركات الصلاتية التي هي مصداق للغصب وتصرف في مال الغير هل هي محرّمة فعلاً أو لا ، فالشك إنّما هو في حرمة هذه الحركات فحسب ، ومعه لا مانع من جريان البراءة عنها وإن قلنا بالاشتغال في تلك المسألة.

نعم ، المانعية في المقام عقلية ، ضرورة أنّ مانعية الحرمة عن الصلاة ليست مانعية شرعية ليكون عدم حرمتها قيداً لها ، بل مانعيتها من ناحية أنّ صحتها لا تجتمع مع الحرمة ، لاستحالة اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخارج ، وعلى هذا فالحرمة مانعة عن التقرب بها عقلاً لا شرعاً ، فإذن لا يرجع الشك فيها إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، ليكون داخلاً في كبرى تلك المسألة ويدور جريان البراءة هنا مدار جريانها فيها ، بل تجري هنا ولو لم نقل بجريانها هناك ، لأنّ الشك هنا شك بدوي.

نعم ، لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة هي المؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن محرزة ، فأصالة البراءة عندئذ لا تجري ، بل لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال ولو قلنا بجريان البراءة في الشك في الأجزاء والشرائط في تلك المسألة ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّه مع احتمال غلبة المفسدة في الواقع كما هو


المفروض لا يمكن قصد القربة كما هو واضح ، هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره مع توضيح منّا.

ونحلّل ما أفاده قدس‌سره إلى عدة نقاط :

١ ـ جريان أصالة البراءة عن الحرمة.

٢ ـ أنّه يكفي في الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مجرد رفع هذه الحرمة بأصالة البراءة ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك.

٣ ـ أنّ المقام غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر.

٤ ـ أنّه لو بنينا على أنّ المؤثر في المبغوضية الفعلية هو المفسدة الواقعية وإن لم تكن محرزة فلا يمكن الحكم بالصحة وقتئذ ، لعدم إمكان التقرب بما يحتمل كونه مبغوضاً للمولى.

أمّا النقطة الاولى : فلا إشكال فيها ، لوضوح أنّ البراءة تجري ولا مانع من جريانها أبداً كما هو ظاهر.

وأمّا النقطة الثانية : فلا يمكن تصديقها بوجه ، وذلك لأنّه لا يكفي في الحكم بالصحة مجرد رفع الحرمة بأصالة البراءة ، بل لا بدّ من إحراز المقتضي له أيضاً ، وهو في المقام إطلاق دليل المأمور به بالاضافة إلى هذا الفرد ، والمفروض أنّه قد سقط بالمعارضة ، وعليه فلا مقتضي للصحة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ أصالة البراءة عن الحرمة لاتثبت إطلاق دليل المأمور به واقعاً وحقيقة ليتمسك به لاثبات صحة هذا الفرد وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وهو الصلاة في الدار المغصوبة في مفروض الكلام ليقيّد به إطلاق دليل النهي بغير ذلك الفرد ، والمفروض أنّ أصالة البراءة لا ترفع إلاّ الحرمة ظاهراً


لا واقعاً لتثبت لوازمها العقلية أو العادية. وقد ذكرنا في محلّه (١) أنّه لا دليل على حجية الأصل المثبت. فإذن أصالة البراءة عن الحرمة في المقام لا تثبت الاطلاق ، أي إطلاق دليل المأمور به ليشمل المورد إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

نعم ، لو قامت أمارة معتبرة كخبر الثقة أو نحوه على ارتفاعها لكانت مثبتة للاطلاق لا محالة ، لما ذكرناه في موضعه (٢) من أنّ مثبتات الأمارات الحاكية عن الواقع كاخبار الثقة أو ما شاكلها حجة ، إلاّ أنّ وجود مثل هذه الأمارة في محل الكلام مفروض العدم.

وأمّا النقطة الثالثة : فالمقام وإن لم يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من نقطة النظر في كون الشك في حرمة المجمع وعدم حرمته كما عرفت ، إلاّ أنّه داخل في كبرى تلك المسألة من نقطة نظر آخر ، وهي أنّ أصل وجوب الصلاة مثلاً على الفرض معلوم لنا ، والشك إنّما هو في تقييدها بغير هذا المكان ، وعليه فلا محالة يدور الأمر بين أن يكون الواجب هو المطلق أو المقيد ، فإذن بناءً على ما حققناه هناك من جريان البراءة عن التقييد الزائد تجري البراءة في المقام أيضاً ، فانّ التقييد بما أنّه كلفة زائدة دون الاطلاق فهو مدفوع بحديث الرفع أو نحوه ، وبذلك يثبت الاطلاق الظاهري للمأمور به ، إذ المفروض أنّ وجوب بقية أجزائه وشرائطه معلوم لنا والشك إنّما هو في تقييده بأمر زائد ، فاذا رفعنا هذا التقييد بأصالة البراءة يثبت الاطلاق الظاهري بضم الأصل إلى أدلة الأجزاء والشرائط المعلومتين وهو كافٍ للحكم بالصحة ظاهراً ، لفرض

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ١٨١ وما بعدها.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ١٨٦.


انطباق المأمور به عندئذ على الفرد المأتي به في الخارج ولا نعني بالصحة إلاّ ذلك. وعليه فنحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع ظاهراً لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها في الظاهر بعد رفع تقييدها بغير هذا المكان بأصالة البراءة ، لفرض أنّها بعد رفع ذلك التقييد صارت مصداقاً لها في حكم الشارع ، وهذا المقدار كافٍ للحكم بالصحة ، وتمام الكلام في محلّه.

وأمّا النقطة الرابعة : وهي أنّ المؤثر في المبغوضية لو كان هو المفسدة الواقعية الغالبة فلا مجال للبراءة ، فيردّها : عدم العلم بوجود مفسدة في هذا الحال فضلاً عن كونها غالبة على المصلحة للشك في أصل وجودها وأنّ المجمع في هذا الحال مشتمل على مفسدة أم لا ، والوجه في ذلك ما ذكرناه (١) من أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض لا باب التزاحم ، لفرض أنّه لا علم لنا بوجود مفسدة في المجمع ، فانّ الطريق إلى إحراز اشتماله على المفسدة إنّما هو حرمته ، والمفروض أنّها مشكوك فيها وهي مرفوعة بأصالة البراءة ، ومع ارتفاعها كيف يمكن لنا العلم بوجود مفسدة فيه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المجمع مشتمل على كلا الملاكين كما هو مختاره قدس‌سره في باب الاجتماع ، إلاّ أنّ كون المفسدة غالبة على المصلحة غير معلومة ، ومع عدم العلم بالغلبة كانت الحرمة والمبغوضية مجهولة لا محالة فلا مانع من الرجوع إلى البراءة.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة أو نحوها في مورد الاجتماع ظاهراً على القول بالامتناع فيما إذا فرض أنّه لم يكن ترجيح لأحد الجانبين على الآخر.

__________________

(١) في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٧٣.


الرابع : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قد ألحق تعدد الاضافات بتعدد العناوين والجهات ، بدعوى أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه لا يختص بما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة مثلاً ، والنهي بعنوان آخر كالغصب ، وقد اجتمعا في مورد واحد ، بل يعم ما إذا تعلق الأمر بشيء كالاكرام مثلاً بجهة وإضافة ، والنهي تعلق به بجهة اخرى وإضافة ثانية ، ضرورة أنّ تعدد العنوان لو كان مجدياً في جواز اجتماع الأمر والنهي مع وحدة المعنون وجوداً وماهية لكان تعدد الاضافة أيضاً مجدياً في جوازه ، إذ كما أنّ تعدد العنوان يوجب اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة ، كذلك تعدد الاضافة يوجب اختلاف المضاف إليه بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً والوجوب والحرمة شرعاً. وعلى هذا فكل دليلين متعارضين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق يدخلان في باب الاجتماع لا في باب التعارض ليرجع إلى مرجحات ذلك الباب ، إلاّ إذا علم من الخارج أنّه لم يكن لأحد الحكمين ملاك في مورد الاجتماع ، فعندئذ يدخل في باب التعارض ، كما هو الحال أيضاً في تعدد العنوانين.

وعلى الجملة : فلا فرق بين تعدد العنوان وتعدد الاضافة من هذه الناحية أصلاً. وأمّا معاملة الفقهاء قدس‌سرهم مع مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق معاملة التعارض بالعموم من وجه ، فهي إمّا مبنية على القول بالامتناع أو لاحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع. وأمّا في غير ذلك فلا معارضة بين الدليلين أصلاً.

وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما أفاده قدس‌سره من جهات :

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٩.


الاولى : أنّ فرض إحراز الفقهاء عدم وجود ملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع بين الدليلين اللذين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه في جميع أبواب الفقه أمر غريب ، فان هذا يختص بمن كان عالماً بالجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية ، ومن هنا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن ثبوتها ، فإذن من أين يعلم الفقيه بعدم اشتمال المجمع لأحد الملاكين من أوّل الفقه إلى آخره.

وعلى الجملة : فعلى وجهة نظره قدس‌سره من أنّ المجمع في مورد الاجتماع لا بدّ أن يكون مشتملاً على ملاك كلا الحكمين معاً وإلاّ فلا يكون من باب الاجتماع أصلاً ، فلا بدّ من فرض جهة وجوب وجهة حرمة في إكرام العالم الفاسق ، ليكون داخلاً في هذا الباب ، أي باب الاجتماع.

وعلى هذا الأساس يدخل جميع موارد التعارض بالعموم من وجه كهذا المثال في هذا الباب ، إلاّ إذا علم من الخارج بعدم وجود الملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع ، فوقتئذ يدخل في باب التعارض. وأمّا معاملة الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) مع هذا المثال وما شاكله معاملة التعارض بالعموم من وجه إنّما يكون لأحد سببين :

الأوّل : من ناحية علمهم بعدم وجود الملاك لأحدهما في مورد الاجتماع في تمام أبواب الفقه.

الثاني : من ناحية التزامهم بالقول بالامتناع في المسألة ـ أي مسألة الاجتماع ـ وعدم كفاية تعدد العنوان أو الاضافة للقول بالجواز.

ولنأخذ بالمناقشة في كليهما.

أمّا السبب الأوّل : فلأ نّه يرتكز على كون الفقهاء عالمين بالجهات الواقعية


والملاكات النفس الأمرية ليكونوا في المقام عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما في مورد الاجتماع ، ولأجل ذلك عاملوا معهما معاملة المتعارضين بالعموم من وجه ، ومن الضروري أنّه ليس لهم هذا العلم فانّه يختص بالله تعالى وبالراسخين في العلم. على أنّه لو كان لهم هذا العلم لكانوا عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما المعيّن ، ومعه لا معنى لأن يعامل معهما معاملة التعارض ، ضرورة أنّه عندئذ يكون ملاك الآخر هو المؤثر ، وكيف كان فصدور مثل هذا الكلام من مثله قدس‌سره يعدّ من الغرائب جداً.

وأمّا السبب الثاني : فلأ نّه يبتني على أن يكون الفقهاء جميعاً من القائلين بالامتناع في المسألة ، وهذا مقطوع البطلان ، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّ هذا المثال وما شاكله خارج عن مسألة الاجتماع رأساً ، لا يتوهم ولن يتوهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه ، بداهة أنّه يستحيل أن يكون في المجمع في مورد الاجتماع وهو إكرام العالم الفاسق جهة وجوب وحرمة معاً ومحبوبية ومبغوضية كذلك ، فإذن لا محالة يدخل في كبرى باب التعارض كما صنع الفقهاء ذلك فيه وفي أمثاله ، وذلك لاستحالة جعل كلا الحكمين معاً للمجمع في مادة الاجتماع بحسب مقام الواقع والثبوت ، ونعلم بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع ، بداهة أنّه كيف يعقل أن يكون إكرام زيد العالم الفاسق مثلاً واجباً ومحرّماً معاً. وعليه فلا محالة تقع المعارضة بين مدلولي دليليهما في مقام الاثبات والدلالة ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات بابها ، وهذا هو الملاك في باب التعارض ، ومن هنا قد ذكرنا سابقاً أنّ التعارض بين الحكمين لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما دون الآخر ، بل الملاك فيه ما ذكرناه من عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً في الواقع ومقام الثبوت ، ولذا


قلنا إنّ مسألة التعارض لا تختص بوجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تجري على جميع المذاهب والآراء.

الثانية : أنّ ما ذكره قدس‌سره من المثال خارج عن محل الكلام في المسألة ، وذلك لأنّ العموم في هذا المثال في كلا الدليلين عموم استغراقي ، فلا محالة ينحل الحكم بانحلال موضوعه أو متعلقه فيثبت لكل فرد من أفراده حكم مستقل غير مربوط بحكم ثابت لفرد آخر منها ... وهكذا ، ولازم ذلك هو أن يكون المجمع في مورد الاجتماع وهو إكرام العالم الفاسق محكوماً بكلا هذين الحكمين على نحو الاستقلال ، بأن يكون إكرامه واجباً ومحرماً معاً ، ومن الواضح جداً أنّ القائلين بالجواز في المسألة لا يقولون به في مثل هذا المثال ، ضرورة أنّ في مثله جعل نفس هذين التكليفين معاً محال لا أنّه من التكليف بالمحال ، فإذن هذا المثال وما شاكله خارج عن محل الكلام.

الثالثة : قد تقدم في مقدمات مسألة الاجتماع أنّ محل الكلام فيها فيما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة مثلاً والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب ، ولكنّ المكلف قد جمع بينهما في مورد ، فعندئذ يقع الكلام في أنّ التركيب بينهما اتحادي أو انضمامي ، بمعنى أنّ المعنون لهما في الخارج هل هو واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به. وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بالقول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه. وقد تقدم تفصيل كل ذلك من هذه النواحي بصورة واضحة.

وعلى ضوء هذا الأساس قد ظهر أنّ مجرد تعدد الاضافة مع كون المتعلق واحداً وجوداً وماهيةً لا يجدي للقول بالجواز في مسألة الاجتماع ، بل هو خارج عن محل الكلام فيها بالكلية ، لما عرفت من أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا


تعلق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر مباين له ، ولكن اتفق اجتماعهما في مورد واحد ، والمفروض في المقام أنّ الأمر تعلق بعين ما تعلق به النهي وهو إكرام العالم الفاسق ، غاية الأمر جهة تعلق الأمر به شيء وهو علمه ، وجهة تعلق النهي به شيء آخر وهو فسقه ، ومن المعلوم أنّ تعدد الجهة التعليلية لا يوجب تعدد المتعلق ، فالمتعلق في المقام واحد وجوداً وماهيةً وهو الاكرام ، والموضوع له أيضاً كذلك وهو زيد العالم الفاسق مثلاً ، والتعدد إنّما هو في الصفة ، فانّ لزيد صفتين : إحداهما العلم وهو يقتضي وجوب إكرامه ، والاخرى الفسق وهو يقتضي حرمة إكرامه ، ومن البديهي أن لا يعقل أن يكون إكرام زيد العالم الفاسق واجباً ومحرّماً معاً ، لأنّ نفس هذا التكليف محال ، لا أنّه مجرد تكليف بالمحال وبغير المقدور ، والمفروض أنّ صفتي العلم والفسق ليستا متعلقتين للتكليف ، بل هما جهتان تعليليتان خارجتان عن متعلق التكليف وموضوعه.

فالنتيجة : أنّ مثل هذه الموارد خارج عن محل الكلام في المسألة ، والقائل بالجواز فيها لا يقول بالجواز فيه ، بل تخيل دخول هذه الموارد في محل النزاع من مثله قدس‌سره من الغرائب جداً.

نتائج ما ذكرناه عدة نقاط :

الاولى : أنّ المناط في الاستحالة والامكان في الأحكام التكليفية إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا عبرة بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً ، فالفعل الواحد في زمان واحد لا يمكن أن يكون واجباً ومحرّماً معاً ولو كان تعلق الوجوب به في زمان وتعلق الحرمة به في زمان آخر ، ومن هنا قلنا باستحالة القول بكون الخروج واجباً فعلاً ومنهياً عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه.


الثانية : أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك في مناط الاستحالة والامكان مع الأحكام التكليفية ، فانّ تعدد زمان الحكم في الأحكام الوضعية يجدي في رفع الاستحالة ولو كان زمان المتعلق واحداً ، ومن هنا قلنا بالكشف في باب الفضولي وأنّ المولى من زمان تحقق الاجازة يحكم بملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي من حين العقد للمشتري إذا كان الفضولي من طرف البائع ، وللبائع إذا كان من طرف المشتري ، بل قلنا إنّ ذلك مضافاً إلى إمكانه على طبق القاعدة في خصوص المقام.

الثالثة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم الفرق في الاستحالة والامكان بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية وأ نّهما على صعيد واحد من هذه الناحية ، لا يرجع إلى معنىً محصّل كما تقدم.

الرابعة : الصحيح هو أنّ الخروج من الدار المغصوبة داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، وقد ذكرنا أنّه لا فرق في الدخول في موضوع هذه القاعدة بين أن يكون الامتناع المنتهي إلى اختيار المكلف تكوينياً أو تشريعياً ، كما أنّه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية ، لما ذكرناه من أنّ هذه القاعدة ترتكز على ركيزة واحدة ، وهي أن يكون امتناع امتثال التكليف في الخارج منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته.

الخامسة : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الحركات الخروجية داخلة في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ومصداق للتخلية والتخلص لا يمكن المساعدة عليه أصلاً ، وما ذكره من الوجوه لاثبات ذلك لا يتم شيء منها ، وقد ذكرنا وجه فسادها بشكل واضح فلاحظ.


السادسة : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه لا تعارض بين خطاب صلّ وخطاب لا تغصب على القول بالامتناع غير تام ، والوجه فيه ما ذكرناه هناك من أنّ مسألة الاجتماع على هذا القول ـ أي على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية ـ تدخل في كبرى باب التعارض لا محالة ، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به ، فاذن لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق الخطابين.

السابعة : أنّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الوجوه لذلك لا يتم شيء منها كما عرفت ، نعم العموم الوضعي يتقدم على الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة سواء أكان بدلياً أو شمولياً كما عرفت.

الثامنة : أنّه لا أصل لقاعدة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، على أنّها لا تنطبق على الأحكام الشرعية أصلاً وأجنبية عنها بالكلية كما سبق.

التاسعة : أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بمورد وموردين فضلاً عن التام ، مع أنّه على تقدير ثبوته لا يكون حجة. أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكروه من الموردين خارج عن مورد القاعدة وليس تقديم جانب الحرمة فيهما مستنداً إلى تلك القاعدة.

العاشرة : الصحيح هو أنّ جانب الحرمة يتقدم على جانب الوجوب في مورد الاجتماع فيما إذا كانت الحرمة ثابتة للشيء بعنوان ثانوي ، وهو عدم إذن المالك في التصرف فيه ، فانّ جواز انطباق الطبيعة المأمور بها على المجمع في مورد الاجتماع بمقتضى الاطلاق عندئذ لا يعارض حرمته كما عرفت.

الحادية عشرة : أنّه لا شبهة في جريان البراءة عن حرمة المجمع بما هي عند


الشك فيها ، لفرض أنّ الشبهة بدوية وهي المقدار المتيقن من موارد جريانها.

وأمّا جريانها عن تقييد الواجب بغير هذا المكان فهو يبتني على جريانها في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولكن بما أنّا قد اخترنا جريان البراءة فيها هناك فلا محالة نقول بجريانها في المقام أيضاً.

الثانية عشرة : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من إلحاق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات في الدخول في محل النزاع في المسألة لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً كما عرفت.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء.

إلى هنا قد تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه الجزء الرابع (١) من كتابنا محاضرات في اصول الفقه ، وسيتلوه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) [ حسب التجزئة السابقة ].


النهي في العبادات

يقع البحث فيه عن عدّة جهات :

الاولى : ما تقدّم من أنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة ـ وهي مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ هي أنّ النزاع في هذه المسألة كبروي ، فانّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادةٍ وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة ، بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى ـ وهي تعلق النهي بالعبادة ـ وفي تلك المسألة صغروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو سراية النهي في مورد الاجتماع والتطابق عن متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر وعدم سرايته. وعلى ضوء ذلك فالبحث في تلك المسألة في الحقيقة بحث عن إثبات الصغرى لهذه المسألة ، حيث إنّها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر تكون من إحدى صغريات هذه المسألة ومصاديقها ، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين المسألتين.

الثانية : أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاصولية العقلية ، فلنا دعويان : الاولى : أنّها من المسائل الاصولية. الثانية : أنّها من المسائل العقلية.

أمّا الدعوى الاولى : فلما ذكرناه في أوّل بحث الاصول (١) من أنّ المسألة الاصولية ترتكز على ركيزتين : إحداهما : أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الإلهي. وثانيتهما : أن يكون ذلك بنفسها ، أي بلا ضم مسألة اصولية

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤ ـ ٩.


اخرى ، وحيث إنّ في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين فهي من المسائل الاصولية ، فانّها على القول بثبوت الملازمة تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي بلا واسطة ضم مسألة اصولية اخرى.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ الحاكم بثبوت الملازمة بين حرمة عبادةٍ وفسادها وعدمه إنّما هو العقل ، ولا صلة له بباب الألفاظ أبداً ، ومن هنا لا يختص النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي ، ضرورة أنّه لا يفرق في إدراك العقل الملازمة أو عدمها بين كون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره.

وبكلمة اخرى : أنّ القضايا العقلية على شكلين :

أحدهما : القضايا المستقلة العقلية ، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة على تلك القضايا لا نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بنفسها ، وهذا معنى استقلالها ، وهي كمباحث التحسين والتقبيح العقليين.

وثانيهما : القضايا العقلية غير المستقلة ، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، وهذا هو معنى عدم استقلالها ، وهي كمباحث الاستلزامات العقلية كمبحث مقدمة الواجب ، ومبحث الضد ، وما شاكلهما ، فانّ الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره ، ضرورة أنّه يدرك وجود الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته ، وبين وجوب شيء وحرمة ضده ، وهكذا ، ومسألتنا هذه من هذا القبيل.

الثالثة : أنّ محل النزاع في المسألة إنّما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات ، وأمّا النواهي الارشادية المتعلقة بهما التي تدل على مانعية شيء لهما كالنهي عن المعاملة الغررية مثلاً وكالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه وما


شاكل ذلك فهي خارجة عن محل النزاع جزماً ، والسبب فيه ظاهر وهو أنّه لا إشكال ولا خلاف في دلالة تلك النواهي على الفساد ، بداهة أنّه إذا اخذ عدم شيء في عبادة أو معاملة فبطبيعة الحال تقع تلك العبادة أو المعاملة فاسدةً عند اقترانها بهذا الشيء ، لفرض أنّها توجب تقييد إطلاق أدلة العبادات والمعاملات بغير هذه الحصة فلا تشملها.

وعلى الجملة : فحال هذه النواهي حال الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط في أبواب العبادات والمعاملات ، وقد ذكرناه في أوّل بحث النواهي (١) بصورة موسعة ، وقلنا هناك إنّ الأمر والنهي في نفسهما وإن كانا ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد من دون قرينة إلاّ أنّ هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر ، وعليه فلا محالة يكون مثل هذا النهي إذا تعلق بعبادة أو معاملة مقيداً لاطلاق أدلتهما بغير هذه الحصة المنهي عنها ، ومن هنا لم يقع خلاف فيما نعلم في دلالته على الفساد فيهما.

أمّا في الاولى ، فلفرض أنّها لا تنطبق على تلك الحصة ، ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بالصحة حيث إنّها تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به خارجاً. وأمّا في الثانية ، فلفرض عدم شمول دليل الامضاء لها وبدونه لا يمكن الحكم بالصحة.

الرابعة : أنّه لا إشكال ولا كلام في أنّ النهي النفسي التحريمي داخل في محل النزاع وإنّما الاشكال والكلام في موردين ، الأوّل : في النهي التنزيهي وهل هو داخل فيه أم لا؟ الثاني : في النهي الغيري.

أمّا الأوّل : فالصحيح في المقام أن يقال إنّ النهي التنزيهي المتعلق بالعبادة

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٠٧.


تارةً ينشأ من حزازة ومنقصة في تطبيق الطبيعي الواجب على حصة خاصة منه من دون أيّة حزازة ومنقصة في نفس تلك الحصة ، ولذا يكون حالها حال سائر حصصه وأفراده في الوفاء بالغرض ، وذلك كالنهي المتعلق بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلاً ، والصلاة في مواضع التهمة وما شاكل ذلك. واخرى ينشأ من حزازة ومنقصة في ذات العبادة.

وبعد ذلك نقول : إنّ النهي التنزيهي على التفسير الأوّل خارج عن مورد النزاع ، بداهة أنّه لا يدل على الفساد ، بل هو يدل على الصحة. وعلى التفسير الثاني داخل فيه ، ضرورة أنّ الشيء إذا كان مكروهاً في نفسه ومرجوحاً في ذاته لم يمكن التقرب به ، فلا فرق عندئذ بينه وبين النهي التحريمي من هذه الناحية أصلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ النهي التنزيهي إذا كان متعلقاً بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلاً يدل على صحتها دون فسادها ، نظراً إلى أنّ مدلوله الالتزامي هو ترخيص المكلف في الاتيان بمتعلقه ، ومعنى ذلك جواز الامتثال به وعدم تقييد الواجب بغيره ، ولا نعني بالصحة إلاّذلك ، وهذا بخلاف ما إذا كان متعلقاً بذات العبادة ، فانّه يدل على كراهيتها ومبغوضيتها ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن التقرب بالمبغوض وإن كانت مبغوضيته ناقصة. فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النهي التنزيهي على التفسير الأوّل خارج عن محل النزاع ، وعلى التفسير الثاني داخل فيه.

وأمّا الثاني : وهو النهي الغيري كالنهي عن الصلاة التي تتوقف على تركها إزالة النجاسة عن المسجد بناءً على ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده فهو خارج عن مورد الكلام ، ولا يدل على الفساد بوجه ، والسبب في


ذلك ما عرفت بشكل موسّع في مبحث الضد (١) من أنّ هذا النهي على تقدير القول به لا يكشف عن كون متعلقه مبغوضاً كي لا يمكن التقرب به ، فان غاية ما يترتب على هذا النهي إنّما هو منعه عن تعلق الأمر بمتعلقه فعلاً ، ومن الطبيعي أنّ صحة العبادة لا تتوقف على وجود الأمر بها بل يكفي في صحتها وجود الملاك والمحبوبية.

نعم ، مع فرض عدم الأمر بها لا يمكن كشف الملاك فيها ، إلاّ أنّه مع ذلك قلنا بصحتها من ناحية الترتب على ما أوضحناه هناك. نعم ، لو لم نقل به فلا مناص من الالتزام بالفساد.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الداخل في محل النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو النهي النفسي التحريمي والنهي التنزيهي المتعلق بذات العبادة ، وأمّا بقية أقسام النواهي فهي خارجة عنه.

الخامسة : لا شبهة في أنّ المراد من العبادة في عنوان المسألة ليس العبادة الفعلية ، ضرورة استحالة اجتماعها مع الحرمة كذلك ، كيف فانّ معنى حرمتها فعلاً هو كونها مبغوضةً للمولى فلا يمكن التقرب بها ، ومعنى كونها عبادةً فعلاً هو كونها محبوبةً له ويمكن التقرب بها ، ومن المعلوم استحالة اجتماعهما كذلك في شيء واحد ، بل المراد منها العبادة الشأنية بمعنى أنّه إذا افترضنا تعلق الأمر بها لكانت عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ المراد منها كل عمل لو امر به لكان عبادياً فمثل هذا العمل لو وقع في حيّز النهي صار مورداً للكلام والنزاع وأنّ هذا النهي هل

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٨٠.


يستلزم فساده أم لا؟

والمراد من المعاملات هو كل أمر اعتباري قصدي يتوقف ترتيب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد اعتباره وإنشائه من ناحية ، وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما من ناحية اخرى ، ومن الطبيعي أنّها بهذا المعنى تشمل العقود والايقاعات فلا موجب عندئذ لاختصاصها بالمعاملات المتوقفة على الايجاب والقبول ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ كل ما لا يتوقف ترتيب الأثر على قصده وإنشائه بل يكفي فيه مطلق وجوده في الخارج كتطهير البدن والثياب وما شاكلهما فهو خارج عن محل الكلام ولا صلة له به.

السادسة : أنّ الصحة والفساد في العبادات والمعاملات هل هما مجعولان شرعاً كسائر الأحكام الشرعية ، أو واقعيّان ، أو تفصيل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات ، أو تفصيل في خصوص المعاملات بين المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية ، فهما في الاولى مجعولان شرعاً دون الثانية ، أو تفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية فالثانية مجعولة دون الاولى؟ فيه وجوه بل أقوال.

قد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) التفصيل في خصوص المعاملات ، واختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) التفصيل الأخير ، والصحيح هو التفصيل الأوّل.

وبعد ذلك نقول : إنّه لا شك في أنّ الصحة والفساد من الأوصاف الطارئة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٩.


على الموجودات الخارجية ، فالشيء الموجود يتصف بالصحة مرةً وبالفساد اخرى. وأمّا الماهيات فهي مع قطع النظر عن طروء الوجود عليها لا يعقل اتصافها بالصحة أو الفساد أبداً ، والسبب في ذلك : أنّ الصحة لا تخلو من أن تكون من الامور الانتزاعية أو الامور المجعولة ، فعلى كلا التقديرين لا يعقل عروضها على الماهية المعدومة في الخارج.

أمّا على الأوّل فظاهر ، حيث إنّها في العبادات إنّما تنتزع من انطباق الطبيعة المأمور بها على العمل المأتي به في الخارج ، كما أنّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه. وكذا المعاملات ، فانّ الصحة فيها تنتزع من انطباق طبيعة المعاملة الممضاة شرعاً على الفرد الموجود في الخارج ، كما انّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه ، فمورد عروض الصحة والفساد إنّما هو الفرد الخارجي باعتبار الانطباق وعدمه.

وأمّا على الثاني فكذلك ، فانّ حكم الشارع بالصحة أو الفساد إنّما هو للعمل الصادر من المكلف في الخارج ، وأمّا العمل الذي لم يصدر منه فلا يعقل أن يحكم الشارع بصحته تارةً وبفساده تارة اخرى ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الصحة والفساد إنّما تعرضان على الشيء المركب ذي الأثر في الخارج دون البسيط فيه ، والوجه في هذا واضح ، وهو أنّ الشيء إذا كان مركباً وكان ذا أثر فبطبيعة الحال إذا وجد في الخارج جامعاً لجميع الأجزاء والشرائط اتصف بالصحة باعتبار ترتب أثره المترقب منه ، وإذا وجد فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط اتصف بالفساد باعتبار عدم ترتب أثره على الفاقد. وأمّا إذا كان بسيطاً فهو لا يخلو من أن يكون موجوداً في الخارج أو معدوماً فيه ولا ثالث لهما ، ومعه كيف يعقل اتصافه بالصحة مرة وبالفساد مرة اخرى.


ومن ناحية ثالثة : أنّ الصحة والفساد وصفان إضافيان ، فيكون شيء واحد يتصف تارةً بالصحة واخرى بالفساد ، وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في مبحث الصحيح والأعم بشكل موسع (١).

ثمّ إنّنا قد قوّينا في الدورات السابقة ما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل في المسألة ، بيان ذلك : أنّا قد ذكرنا في تلك الدورات أنّ ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات إنّما هو بالانطباق على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه.

أمّا في العبادات فظاهر ، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع ، وإنّما تتصف بهما في مقام الامتثال والانطباق ، مثلاً إذا جاء المكلف بالصلاة في الخارج ، فان انطبقت عليها الصلاة المأمور بها انتزعت الصحة لها وإلاّ انتزع الفساد ، ومن البديهي أنّ انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً ، من دون فرق في ذلك بين الماهيات الجعلية وغيرها ، فانطباق المأمور به الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري على الموجود الخارجي وعدم انطباقه عليه كانطباق الماهيات المتأصلة على فردها الموجود في الخارج وعدمه ، فكما أنّ الانطباق على ما في الخارج أو عدمه في الماهيات المتأصلة أمر قهري تكويني غير قابل للجعل شرعاً ، فكذلك الانطباق وعدمه في الماهيات المخترعة ، وهذا معنى قولنا : إنّ الصحة والفساد فيها أمران واقعيان وليسا بمجعولين أصلاً لا أصالةً ولا تبعاً.

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٥٥.


وأمّا في المعاملات فكذلك ، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والامضاء ، وإنّما تتصف بهما في مقام الانطباق والخارج ، مثلاً البيع ما لم يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد ، فاذا وجد فيه فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة وإلاّ فبالفساد ، وكذا الحال في الاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك.

وبكلمة اخرى : أنّ الممضاة شرعاً إنّما هي المعاملات الكلية بمقتضى أدلة الامضاء كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النكاح سنّتي » (٤) وقوله عليه‌السلام : « الصلح جائز بين المسلمين » (٥) ونحو ذلك ، دون أفرادها الخارجية ، وإنّما تتصف تلك الأفراد بالصحة تارةً وبالفساد اخرى باعتبار انطباق تلك المعاملات عليها وعدم انطباقها ، فاذا وقع بيع في الخارج ، فان انطبق عليه البيع الكلي الممضى شرعاً حكم بصحته وإلاّ فلا ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد عرفت أنّ الانطباق وعدمه أمران تكوينيان غير قابلين للجعل تشريعاً.

فالنتيجة على ضوئهما : أنّ حال الصحة والفساد في المعاملات حالهما في العبادات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، هذا كلّه في الصحة الواقعية.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) المائدة ٥ : ١.

(٣) النساء ٤ : ٢٩.

(٤) المستدرك ١٤ : ١٤٩ / أبواب مقدمات النكاح ب ١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

(٥) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / كتاب الصلح ب ٣ ح ٢.


وأمّا الصحة الظاهرية فالصحيح أنّها مجعولة شرعاً في العبادات والمعاملات.

أمّا في الاولى : فكالصحة في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ ، فانّه لولا حكم الشارع بانطباق المأمور به على المشكوك فيه تعبداً ، لكانت العبادة محكومة بالفساد لا محالة.

وأمّا في الثانية : فكالصحة في موارد الشك في بطلان الطلاق أو نحوه ، فانّه لولا حكم الشارع بالصحة في هذه الموارد لكان الطلاق مثلاً محكوماً بالفساد لا محالة ، هذا.

والصحيح : ما اخترناه وهو التفصيل بين كون الصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً وفي المعاملات مجعولين كذلك.

أمّا في العبادات ، فقد عرفت أنّهما منتزعان من انطباقها على الموجود الخارجي وعدم انطباقها عليه فلا تنالهما يد الجعل أصلاً.

وأمّا في المعاملات ، فالأمر فيها ليس كذلك ، والسبب فيه هو أنّها تمتاز عن العبادات في نقطة واحدة وتلك النقطة هي الموجبة لافتراقها عن العبادات من هذه الناحية ، وهي : أنّ نسبة المعاملات إلى الامضاء الشرعي في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه ، وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها ، فانّ نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لا الموضوع ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّنا قد حققنا في محلّه (١) أنّ موضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه ، ولذا

__________________

(١) راجع ص ٢٦٣ ، ٣٣٥ ، والمجلد الثالث من هذا الكتاب ص ١٨١.


تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون الحكم فعلياً فيها بدون فعلية موضوعه ، فلا حكم قبل فعليته إلاّعلى نحو الفرض والتقدير.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الحكم ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج فيثبت لكل فردٍ منه حكم على حدة.

ومن ناحية رابعة : أنّ معنى اتصاف المعاملات بالصحة أو الفساد إنّما هو ترتب الأثر الشرعي عليها وعدم ترتبه ، ومن الواضح أنّ الأثر الشرعي إنّما يترتب على المعاملة الموجودة في الخارج دون الطبيعي غير الموجود فيه.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ المعاملات بما أنّها اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلتها فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء على فعليتها في الخارج ، فما لم تتحقق المعاملة فيه لم يعقل تحقق الامضاء لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه. وعلى ذلك فاذا تحقق بيع مثلاً في الخارج تحقق الامضاء الشرعي وإلاّ فلا إمضاء أصلاً ، لما عرفت من أنّ الامضاء الشرعي في باب المعاملات لم يجعل لها على نحو صرف الوجود لتكون صحتها منتزعةً من انطباقها على الفرد الموجود ، وفسادها من عدم انطباقها عليه.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المعاملات بما أنّها موضوعات للامضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الامضاء بتعدد أفرادها ، فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل ، مثلاً الحلية في قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) تنحل بانحلال أفراد البيع فتثبت لكل فردٍ منه حلية مستقلة غير مربوطة بالحلية الثابتة لفرد آخر منه وهكذا ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا لا نعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنىً إلاّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.


إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه من جهة شمول الاطلاقات والعمومات لها وعدم شمولها ، فكل معاملة واقعة في الخارج من البيع أو نحوه ، فإن كانت مشمولة لاطلاقات أدلة الامضاء وعموماتها فهي محكومة بالصحة وإلاّ فبالفساد.

وعلى هذا الضوء لا يمكن تفسير الصحة فيها إلاّبحكم الشارع بترتيب الأثر عليها ، كما أنّه لا يمكن تفسير الفساد فيها إلاّبعدم حكم الشارع بذلك. وعلى الجملة : فمعنى أنّ هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس إلاّحكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية ، كما أنّه لا معنى لفساده شرعاً إلاّعدم حكمه بذلك.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الصحة والفساد في العبادات أمران واقعيان وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد تبيّن بطلان نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الصحة والفساد في المعاملات كالصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً لا أصالة ولا تبعاً ، ووجه التبين ما عرفت من أنّ هذه النظرية تبتني على نقطة واحدة وهي كون المعاملات كالعبادات متعلقات للامضاءات الشرعية لا موضوعات لها ، وعليه فبطبيعة الحال تكون صحتها منتزعة من انطباقها على ما في الخارج ، وفسادها من عدم انطباقها ، ولكن من المعلوم أنّ هذه النقطة خاطئة حتى عنده قدس‌سره فلا واقع موضوعي لها ، حيث إنّه قد صرّح في غير مورد أنّ نسبة المعاملات إلى الأحكام الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه ، وعلى ذلك فالجمع بين كون الصحة والفساد في المعاملات أمرين منتزعين واقعاً ، وبين كون نسبة المعاملات إلى آثارها الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم جمع بين المتناقضين ، ضرورة أنّ لازم كون نسبتها إليها نسبة الموضوع إلى الحكم هو كونهما أمرين مجعولين شرعاً.


كما أنّه ظهر بذلك فساد ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من التفصيل بين المعاملات الكلية كالبيع والاجارة والصلح والنكاح وما شاكل ذلك ، وبين المعاملات الشخصية الواقعة في الخارج ، فبنى قدس‌سره على أنّ الصحة والفساد في الاولى مجعولان شرعاً ، وفي الثانية منتزعان واقعاً ، بدعوى أنّ المعاملات الشخصية غير مأخوذة في موضوع أدلة الامضاء ، حيث إنّ المأخوذ فيها هو المعاملات بعناوينها الكلية ، وعندئذ فان انطبقت هذه المعاملات عليها في الخارج اتصفت بالصحة وإلاّ فبالفساد ، ووجه الظهور : هو أنّ أخذ تلك العناوين الكلية في موضوع أدلة الامضاء إنّما هو للاشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج حيث قد تقدم أنّها اخذت مفروضة الوجود فيه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الموضوع هو نفس تلك الأفراد فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل وإمضاء على حدة كما مرّ ذلك آنفاً بشكل موسع.

فما أفاده قدس‌سره من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

السابعة : أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أقسام :

الأوّل : ما يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صلاة الحائض وصوم يومي العيدين وهكذا.

الثاني : ما يتعلق بجزء منها.

الثالث : ما يتعلق بشرط منها.

الرابع : ما يتعلق بوصفها الملازم لها كالجهر والخفت في القراءة.

الخامس : ما يتعلق بوصفها المفارق وغير الملازم لها كالتصرف في مال الغير

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.


الملازم لأكوان الصلاة في مورد الالتقاء والاجتماع ـ وهو الأرض المغصوبة ـ لا مطلقاً ، ومن هنا يكون هذا التلازم بينهما اتفاقياً لا دائمياً ، هذا مجمل الأقسام وإليكم تفصيلها :

أمّا القسم الأوّل : وهو النهي المتعلق بذات العبادة ، فلا شبهة في دلالته على الفساد وثبوت الملازمة بين حرمتها وبطلانها ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ العبادة كصلاة الحائض مثلاً وصومي العيدين وما شاكلهما إذا كانت محرّمة ومبغوضة للمولى لم يمكن التقرب بها ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض له فعلاً ، كيف فانّه مبعّد والمبعّد لا يعقل أن يكون مقرّباً ، ومعه لا تنطبق الطبيعة المأمور بها عليه لا محالة ، وهذا معنى فساده.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون حرمتها ذاتية أو تشريعية. نعم ، فرق بين الصنفين من الحرمة في نقطة اخرى ، وهي أنّ صلاة الحائض لو كانت حرمتها ذاتية فمعناها أنّها محرّمة مطلقاً ولو كان الاتيان بها بقصد التمرين ، فحالها من هذه الناحية حال سائر المحرّمات. وإن كانت حرمتها تشريعية فمعناها أنّها لا تكون محرّمة مطلقاً ، بل المحرّم إنّما هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقترنة بقصد القربة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ التشريع العملي عبارة عن الاتيان بالعمل مضافاً إلى المولى سبحانه فيكون عنواناً له ، ومن هنا قلنا إنّه افتراء عملي ، وعلى ذلك بما أنّ هذه الحصة الخاصة من الصلاة وهي الصلاة مع قصد القربة محرّمة على الحائض ومبغوضة للمولى ، يستحيل أن تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها ، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب ، فاذن لا محالة تقع فاسدةً.

فالنتيجة : هي أنّه لا فرق في استلزام حرمة العبادة فسادها بين كونها ذاتية


أو تشريعية ، فهما من هذه الناحية على صعيد واحد ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى : أنّه لايمكن تصحيح هذه العبادة المنهي عنها بالملاك بتخيل أنّ الساقط إنّما هو أمرها ، نظراً إلى عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وأمّا الملاك فلا موجب لسقوطه أصلاً ، وذلك لعدم الطريق إلى إحراز كونها واجدةً للملاك في هذا الحال ، فانّ الطريق إلى إحراز ذلك أحد أمرين :

الأوّل : وجود الأمر بها ، فانّه يكشف عن كونها واجدةً له. الثاني : انطباق الطبيعة المأمور بها عليها ، والمفروض هنا انتفاء كلا الأمرين كما عرفت.

هذا مضافاً إلى أنّها لو كانت واجدةً للملاك لم يكن ذلك الملاك مؤثراً في صحتها قطعاً ، ضرورة أنّها مع كونها محرّمة فعلاً ومبغوضةً كذلك كيف يكون ملاكها مؤثراً في محبوبيتها وصالحاً للتقرب بها ، وهذا واضح.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا شبهة في فساد العبادة المنهي عنها ، بلا فرق بين أن يكون النهي عنها نهياً ذاتياً أو تشريعياً. هذا كلّه في النهي المتعلق بذات العبادة.

وأمّا القسم الثاني : وهو النهي المتعلق بجزء العبادة فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا إشكال في استلزامه فساد الجزء ، ولكنّه لا يوجب فساد العبادة إلاّ إذا اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال ، وأمّا إذا لم يقتصر عليه وأتى بعده بالجزء غير المنهي عنه تقع العبادة صحيحة لعدم المقتضي لفسادها عندئذ ، إلاّ أن يستلزم ذلك موجباً آخر للفساد كالزيادة العمدية أو نحوها ، وهذا أمر آخر أجنبي عمّا هو محل الكلام هنا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٥.


فالنتيجة : أنّ النهي عن الجزء بما هو نهي عنه لا يوجب إلاّفساده دون فساد أصل العبادة.

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك نصه : وأمّا النهي عن جزء العبادة فالتحقيق أنّه يدل أيضاً على فسادها ، وتوضيح الحال فيه : هو أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاص كالوحدة المعتبرة في السورة بناءً على حرمة القِران ، وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك.

أمّا الأوّل : أعني به جزء العبادة المعتبر فيه عدد خاص ، فالنهي المتعلق به يقتضي فساد العبادة لا محالة ، لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه ، وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الاشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه ، فانّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئية أو عمومه فيكون وجوده كعدمه ، فان اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزءها ، وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض. ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر ، لأنّ قراءتها تستلزم الاخلال بالفريضة من جهة ترك السورة أو من جهة لزوم القِران ، بل لو بنينا على جواز القِران لفسدت الصلاة في الفرض أيضاً ، لأنّ دليل الحرمة قد خصص دليل الجواز بغير الفرد المنهي عنه فيحرم القِران بالاضافة إليه لا محالة. هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، سواء اتي به في محلّه المناسب له كقراءة العزيمة بعد الحمد أم اتي به في غير محلّه كقراءتها بين السجدتين.

ويترتب على ذلك امور كلّها موجبة لبطلان العبادة المشتملة عليه :


الأوّل : كون العبادة مقيدة بعدم ذلك الجزء المنهي عنه فيكون وجوده مانعاً عن صحتها ، وذلك يستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده.

الثاني : كونه زيادةً في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها ، ولا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس أحد أجزاء العمل. نعم ، يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

الثالث : خروجه عن أدلة جواز مطلق الذكر في الصلاة ، فان دليل الحرمة لا محالة يوجب تخصيصها بغير الفرد المحرّم فيندرج الفرد المحرّم في عموم أدلة بطلان الصلاة بالتكلم العمدي ، إذ الخارج عن عمومها إنّما هو الذكر غير المحرّم. وما ذكرناه هو الوجه في بطلان الصلاة بالذكر المنهي عنه. وأمّا ما يتوهم من أنّ الوجه في ذلك هو دخوله في كلام الآدميين فهو فاسد ، لأنّ المفروض أنّه ذكر محرّم ، ومن الواضح أنّه لا يخرج بسبب النهي عنه عن كونه ذكراً ليدخل في كلام الآدميين.

وأمّا الثاني : وهو ما لم يؤخذ فيه عدد خاص ، فقد اتضح الحال فيه مما تقدم ، لأن جميع الوجوه المذكورة المقتضية لفساد العبادة المشتملة على الجزء المنهي عنه جارية في هذا القسم أيضاً ، وإنّما يختص القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها (١) انتهى.

نحلّل ما أفاده قدس‌سره من البيان إلى عدة نقاط :

الاولى : بطلان العبادة في صورة اقتصار المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٩.


الثانية : أنّ حرمة الجزء توجب تخصيص دليل جواز القِران بغير الفرد المنهي عنه لا محالة ، فيحرم القِران بالاضافة إلى هذا الفرد في ظرف الامتثال.

الثالثة : أنّ النهي عن جزء لا محالة يوجب تقييد العبادة بغيره.

الرابعة : أنّه لا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من سنخ أجزاء العمل.

الخامسة : أنّ الجزء المنهي عنه خارج عن عموم ما دلّ على جواز مطلق الذكر في الصلاة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فالأمر كما أفاده قدس‌سره من أنّ المكلف إذا اقتصر عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة فقدانها الجزء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجزء مأخوذاً بشرط لا أو لا بشرط كما هو واضح.

وأمّا النقطة الثانية : فيردّها أنّه بناءً على القول بجواز القِران في العبادة وعدم كونه مانعاً عن صحتها كما هو المفروض لم تكن حرمة الجزء في نفسها موجبة لبطلانها ما لم يكن هناك موجب آخر له ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ حرمة الجزء في نفسها لا توجب اعتبار عدم القِران في صحة العبادة ليكون القِران مانعاً عنها ، كيف فانّ مانعية القِران في العبادة عبارة عن اعتبار عدم اقتران جزء بمثله في صحة تلك العبادة ، ومن المعلوم أنّ حرمة جزء لا تستلزم ذلك ، ضرورة أنّ اعتباره يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي في اعتباره مجرد حرمته ومبغوضيته. فاذن لا يترتب عليها إلاّبطلان نفسه وعدم جواز الاقتصار به في مقام الامتثال دون بطلان أصل العبادة ، إلاّ إذا كان هناك موجب آخر له كالنقيصة أو الزيادة.


وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها أنّ حرمة جزء العبادة لو كانت موجبة لتقييد العبادة بغيره من الأجزاء لكانت حرمة كل شيء موجبة لذلك ، ضرورة أنّه لا فرق في ذلك بين كون المحرّم من سنخ أجزاء العبادة وبين كونه من غير سنخها من هذه الناحية أصلاً. وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام ببطلان كل عبادة قد أتى المكلف في أثنائها بفعل محرّم كالنظر إلى الأجنبية مثلاً في الصلاة ، مع أنّ هذا واضح البطلان. فاذن الصحيح في المقام أن يقال : إنّ حرمة شيء تكليفاً لا تستلزم تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، بداهة أنّه لا تنافي بين صحة العبادة في الخارج وحرمة ذلك الشيء المأتي به في أثنائها.

فالنتيجة : أنّ حال الجزء المنهي عنه حال غيره من المحرّمات ، فكما أنّ الاتيان بها في أثناء العبادة لا يوجب فسادها ، فكذلك الاتيان بهذا الجزء المنهي عنه ، فلا فرق بينهما من تلك الناحية أبداً.

وعلى الجملة : فحرمة الجزء في نفسها لا تستلزم فساد العبادة إلاّ إذا كان هناك موجب آخر له كالزيادة العمدية أو النقيصة أو نحو ذلك ، لوضوح أنّه لا منشأ لتخيل اقتضاء حرمته الفساد إلاّتخيل استلزامها تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ ما دلّ على حرمته لا يدل على تقييد العبادة بغيره ، لوضوح أنّ تقييدها كذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي فيه مجرد حرمة شيء تكليفاً وإلاّ لدلّ عليه كل دليل قام على حرمة شيء كالنظر إلى الأجنبية أو إلى عورة شخص أو نحو ذلك ، مع أنّ هذا واضح البطلان.

وبكلمة اخرى : أنّ التقييد بعدم شيء على نحوين :

أحدهما : شرعي وهو تقييد الصلاة بعدم القهقهة والتكلم بكلام الآدميين وما شاكلهما ، فانّ مردّ هذا التقييد إلى أنّ وجود هذه الأشياء مانع عنها شرعاً


وعدمها معتبر فيها.

وثانيهما : عقلي وهو عدم انطباق الصلاة المأمور بها على المقيد بذلك الشيء ، أي لا يكون المقيد به مصداقاً لها ، فان هذا التقييد لا يرجع إلى أنّ وجود هذا الشيء مانع عنها شرعاً وعدمه معتبر فيها كذلك ، بل مردّه إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة وهي لا تنطبق على المقيد به ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فان ما دلّ على حرمة جزء لا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بهذا الجزء بغير هذه الحصة فلا ينطبق الجزء المأمور به عليها ، لاستحالة انطباق المأمور به على الفرد المنهي عنه. مثلاً ما دلّ على حرمة قراءة سور العزائم في الصلاة بطبيعة الحال يقيد إطلاق ما دلّ على جزئية السورة بغيرها ، ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بحصة خاصة من السورة فلا تنطبق على الصلاة الفاقدة لتلك الحصة ، وعليه فان اقتصر المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال بطلت الصلاة من ناحية عدم انطباق الصلاة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج ، وإن لم يقتصر عليه بل أتى بعده بالفرد غير المنهي عنه أيضاً فلا موجب لبطلانها أصلاً ، غاية الأمر أنّه قد ارتكب في أثناء الصلاة أمراً محرّماً وقد عرفت أنّه لا يوجب البطلان.

وأمّا النقطة الرابعة : فمضافاً إلى أنّها لو تمت لكانت خاصة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات ، يرد عليها : أنّ صدق عنوان الزيادة في الجزء على ما بيّناه في محلّه يتوقف على قصد جزئية ما يؤتى به في الخارج وإلاّ فلا تصدق الزيادة ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون ما أتى به من جنس أجزاء العمل أو من غير جنسها. نعم ، لا يتوقف صدق الزيادة على القصد في خصوص الركوع والسجود ، بل لو أتى بهما من دون قصد ذلك لكان مبطلاً للصلاة ، إلاّ أنّ ذلك من ناحية النص الخاص الوارد في المنع عن قراءة العزيمة في الصلاة معللاً بأ نّها


زيادة في المكتوبة ، وهذا النص وإن ورد في السجود خاصة إلاّ أنّا نقطع بعدم الفرق بينه وبين الركوع ، وتمام الكلام في محلّه (١).

فالنتيجة : أنّه لا يصدق على الاتيان بالجزء المنهي عنه بدون قصد الجزئية عنوان الزيادة لتكون مبطلةً للصلاة.

وأمّا النقطة الخامسة : فمضافاً إلى اختصاص تلك النقطة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات ، أنّه لا دليل على بطلان الصلاة بالذكر المحرّم ، فانّ الدليل إنّما يدل على بطلانها بكلام الآدميين ، ومن المعلوم أنّ الذكر المحرّم ليس من كلامهم على الفرض.

وأمّا القسم الثالث : وهو النهي المتعلق بالشرط ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (٢) أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلاّ إذا كان الشرط عبادة. وبكلمة اخرى : أنّ الشرط إذا كان توصلياً كما هو الغالب في شرائط العبادات فالنهي عنه لا يوجب فساده فضلاً عن فساد العبادة المشروطة به ، فانّ الغرض منه يحصل بصرف إيجاده في الخارج ولو كان إيجاده في ضمن فعل محرّم. وأمّا إذا كان عبادياً كالوضوء أو الغسل أو نحو ذلك فالنهي عنه لا محالة يوجب فساده ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ، ومن المعلوم أنّ فساده يستلزم فساد العبادة المشروطة به ، هذا.

ولشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٣) في المقام كلام وملخصه : هو أنّ شرط

__________________

(١) شرح العروة ١٨ : ٨ ـ ٩.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٥.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٠.


العبادة الذي عبّر عنه باسم المصدر ليس متعلقاً للنهي ، ضرورة أنّ النهي تعلق بالفعل الصادر عن المكلف باختياره وإرادته ، لا بما هو نتيجته وأثره ، وما هو متعلق للنهي الذي عبّر عنه بالمصدر ليس شرطاً لها. فاذن ما هو شرط للعبادة ليس متعلقاً للنهي ، وما هو متعلق له ليس شرطاً لها. مثلاً الصلاة مشروطة بالستر فاذا افترضنا أنّ الشارع نهى عن لبس ثوب خاص فيها فعندئذ إن كان مردّ هذا النهي إلى النهي عن الصلاة فيه فهو لا محالة يوجب بطلانها ، وإن لم يكن مردّه إلى ذلك كما هو المفروض حيث قد عرفت أنّ متعلق النهي غير ما هو شرط فعندئذ لا وجه لبطلانها أصلاً ويكون حاله حال النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية فيحصل الغرض منها ولو بايجادها في ضمن فعل محرّم.

ومن هنا يظهر بطلان تقسيم الشرط إلى كونه عبادياً كالطهارات الثلاث وغير عبادي كالتستر ونحوه ، فانّ ما هو شرط للصلاة هو الطهارة بمعنى اسم المصدر المقارنة لها زماناً ، وأمّا الأفعال الخاصة كالوضوء والغسل والتيمم فهي بأنفسها ليست بشرط ، وإنّما تكون محصّلةً للشرط. فاذن ما هو شرط لها وهو الطهارة بالمعنى المزبور ليس بعبادة ، وما هو عبادة وهو تلك الأفعال الخاصة ليس بشرط ، ولذا لا يعتبر فيها قصد القربة وإنّما يعتبر قصد القربة في تلك الأفعال فحسب ، فحال الطهارة من هذه الناحية حال بقية الشرائط. فالنتيجة :

أنّ النهي عن الشرط إن رجع إلى النهي عن العبادة المتقيدة به فهو يوجب بطلانها لا محالة ، وإلاّ فلا أثر له أصلاً.

نحلّل ما أفاده قدس‌سره إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ النهي المتعلق بالشرط يرجع في الحقيقة إلى النهي عمّا هو مفاد المصدر ، والمفروض أنّه ليس بشرط ، وما هو شرط ـ وهو المعنى الذي يكون مفاد اسم المصدر ـ ليس بمنهي عنه.


الثانية : أنّ الشرط في مثل الوضوء والغسل والتيمم إنّما هو الطهارة المتحصلة من تلك الأفعال لا نفس هذه الأفعال.

الثالثة : أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فيرد عليها أنّه قدس‌سره إن أراد من المصدر واسم المصدر المقدمة وما يتولد منها ، بدعوى أنّ النهي المتعلق بالمقدمة لا يوجب فساد ما يتولد منها ويترتب عليها كالنهي عن غسل الثوب مثلاً أو البدن بالماء المغصوب فانّه لا يوجب فساد الطهارة الحاصلة منه ، فلا يمكن المساعدة عليه أصلاً ، والوجه في ذلك : هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ ما عبّر عنه باسم المصدر لا يغاير المعنى الذي عبّر عنه بالمصدر إلاّبالاعتبار ، فالمصدر باعتبار إضافته إلى الفاعل ، واسم المصدر باعتبار إضافته إلى نفسه كالايجاد والوجود فانّهما واحد ذاتاً وحقيقةً والاختلاف بينهما بالاعتبار ، حيث إنّ الايجاد باعتبار إضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلى نفسه ، وليس المصدر واسم المصدر من قبيل المثال المذكور ، ضرورة أنّ المثال من السبب والمسبب والعلة والمعلول ، ومن الواضح جداً أنّ المصدر ليس علةً وسبباً لاسم المصدر ، بداهة أنّ العلية والسببية تقتضي الاثنينية والتعدد بحسب الوجود الخارجي ، والمفروض أنّه لا اثنينية ولا تعدد بين المصدر واسم المصدر أصلاً ، بل هما أمر واحد وجوداً وماهية.

نعم ، في مثل المثال المزبور لا مانع من أن تكون المقدمة محرّمةً وما يتولد منها واجباً إذا لم تكن المقدمة منحصرة وإلاّ فتقع المزاحمة بينهما كما تقدم في


بحث مقدمة الواجب مفصّلاً (١) إلاّ أنّك عرفت أنّه خارج عن محل الكلام هنا حيث إنّه في المصدر واسم المصدر وقد عرفت أنّهما أمر واحد وجوداً وخارجاً ، فلا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه ، لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، وعليه فلا محالة يكون النهي عن شرط يوجب تقييد العبادة المشروطة به بغير هذا الفرد المنهي عنه ، مثلاً إذا نهى المولى عن التستر في الصلاة بثوب خاص فلا محالة يوجب تقييد الصلاة المشروطة بالستر بغير هذا الفرد ولا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها على هذه الحصة المقترنة به.

وإن أراد قدس‌سره من المصدر واسم المصدر واقعهما الموضوعي ، فيرد عليه : ما عرفت الآن من أنّهما متحدان حقيقةً وذاتاً ومختلفان بالاعتبار ، ومعه لا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه. ودعوى أنّ النهي تعلق به باعتبار إضافته إلى الفاعل ـ وهو المعبّر عنه بالمصدر ـ والأمر تعلق به باعتبار إضافته إلى نفسه فلا تنافي بينهما عندئذ خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك ضرورة أنّ الشيء الواحد لا يتعدد بتعدد الاضافة ، ومعه كيف يعقل أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً ، ومحبوباً ومبغوضاً في زمان واحد ، وعلى هذا فاذا افترضنا أنّ المولى نهي عن التستر حال الصلاة بثوب خاص أو نهى عن الوضوء أو الغسل بماء مخصوص ، فلا محالة يكون مردّ هذا النهي إلى مبغوضية تقيد الصلاة بهذا الفرد الخاص ، وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الصلاة المقترنة به مأموراً بها ، لاستحالة اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً.

__________________

(١) [ بل تقدّم في مبحث الضد في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٩٥ ، ٥١٠ ].


وبكلمة اخرى : أنّ النهي عن الشرط والقيد لا محالة يرجع إلى تقييد إطلاق دليل العبادة بغير هذه الحصة المنهي عنها ، ولازم ذلك أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بغير تلك الحصة فلا ينطبق عليها ، ومع عدم الانطباق لا محالة تقع فاسدة.

فالنتيجة : أنّ حال النهي عن الشرط من هذه الناحية حال النهي عن الجزء فلا فرق بينهما. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى : وهي أنّ الأجزاء بأنفسها متعلقة للأمر وعبادة فلا تسقط بدون قصد القربة ، وهذا بخلاف الشرائط ، فانّ ذواتها ليست متعلقة للأمر والمتعلق له إنّما هو تقيد العبادات بها ، ومن هنا تكون الشرائط خارجةً عن مقام ذات العبادة وغير داخلة فيها ، ولذا لا يعتبر في سقوطها قصد القربة ، فلو أتى بالصلاة غافلاً عن كونها واجدةً للشرائط كالستر والاستقبال إلى القبلة ونحوهما صحت.

وكيف كان ، فلا فرق بين الجزء والشرط فيما نحن فيه ، فكما أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة كالصلاة مثلاً بغير الحصة المشتملة على هذا الجزء فلا يعقل أن تكون تلك الحصة مصداقاً للمأمور به وفرداً له ، لاستحالة كون المبغوض مصداقاً للمحبوب ، فكذلك النهي عن الشرط فانّه يوجب تقييد إطلاق العبادة بغير الحصة المقترنة به بعين الملاك المزبور.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه بناءً على ثبوت الملازمة بين حرمة عبادة وفسادها لا يفرق في ذلك بين أن تكون الحرمة متعلقة بذاتها أو بجزئها أو شرطها ، فعلى جميع التقادير تقع فاسدةً بملاك واحد وهو عدم وقوعها مصداقاً للعبادة المأمور بها ، فما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ النهي متعلق بالشرط بالمعنى المصدري ، وما هو شرط في الواقع والحقيقة هو المعنى الاسم المصدري فلا يوجب الفساد ، لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، لما عرفت من


أنّهما متحدان ذاتاً وخارجاً ومختلفان اعتباراً ، وقد عبّر عنهما في لغة العرب بلفظ واحد ، ويفرق بينهما بقرائن الحال أو المقال. نعم ، عبّر في لغة الفرس عن كل منهما بلفظ خاص. وكيف كان ، فلا يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي.

وأمّا النقطة الثانية : وهي أنّ الطهارة الحاصلة من الأفعال الخاصة شرط للصلاة دون نفس هذه الأفعال ، فيردّها : أنّ ذلك خلاف ظواهر الأدلة من الآية والروايات ، فانّ الظاهر منها هو أنّ الشرط لها نفس تلك الأفعال ، والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبباً عنها. وعلى الجملة : فما ذكره قدس‌سره من كون الطهارة مسببة عنها وإن كان مشهوراً بين الأصحاب إلاّ أنّه لا يمكن إتمامه بدليل ، ومن هنا قلنا : إنّ ما ورد في الروايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وأ نّه طهور (١) ونحو ذلك ، ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبباً عنها على ما فصّلنا الكلام فيه في محلّه.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة أيضاً : وهي أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ نفس هذه الأفعال شرائط لها وهي تعبدية لا توصلية ، وعليه صحّ تقسيم شرائط الصلاة إلى تعبدية وتوصلية.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم صحة هذا التقسيم خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

وأمّا القسم الرابع : وهو النهي عن الوصف الملازم للعبادة ، فحاله حال النهي عن العبادة بأحد العناوين السالفة ، والوجه في ذلك : هو أنّ النهي عن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٨ ، ٣.


مثل هذا الوصف لا محالة يكون مساوقاً للنهي عن موصوفه باعتبار أنّ هذا الوصف متحد معه خارجاً ولا يكون له وجود بدون وجوده ، وعليه فلا يعقل أن يكون أحدهما منهياً عنه والآخر مأموراً به ، لاستحالة كون شيء واحد مصداقاً لهما معاً ، ومثال ذلك : الجهر والخفت بالقراءة فانّ النهي عن الجهر بالقراءة مثلاً لا محالة يكون نهياً حقيقةً عن القراءة الجهرية ، أي عن هذه الحصة الخاصة ، ضرورة أنّه لا وجود للجهر بدون القراءة ، كما أنّه لا وجود للقراءة بدون الجهر أو الخفت في الخارج ، فلا يعقل أن يكون الجهر بالقراءة منهياً عنه دون نفس القراءة ، بداهة أنّها حصة خاصة من مطلق القراءة ، فالنهي عن الجهر بها نهي عن تلك الحصة لا محالة.

فالنتيجة : أنّ النهي عن الجهر أو الخفت يرجع إلى النهي عن العبادة ، غاية الأمر أنّ القراءة لو كانت بنفسها عبادة دخل ذلك في النهي عن نفس العبادة ، وإن كانت جزءاً لها دخل في النهي عن جزئها ، وإن كانت شرطاً لها دخل في النهي عن شرطها ، وعلى هذا الضوء فلا يكون هذا القسم نوعاً آخر في مقابل الأقسام المتقدمة ، بل هو يرجع إلى أحد تلك الأقسام لا محالة كما هو واضح.

وأمّا القسم الخامس : وهو النهي عن الوصف المفارق للموصوف فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة ، وذلك لأنّ هذا الوصف إن كان متحداً مع موصوفه في مورد الالتقاء والاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع ، وعندئذ يدخل في كبرى مسألتنا هذه. وإن كان غير متحد معه وجوداً فيه ولم نقل بسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر فلا مناص من القول بالجواز ، وعندئذ لا يكون داخلاً فيها. فالنتيجة : أنّ هذا القسم داخل في المسألة المتقدمة لا في مسألتنا هذه كما لا يخفى.

الثامنة : أنّه لا أصل في المسألة الاصولية ليعوّل عليه عند الشك في ثبوتها ،


والسبب في ذلك : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الملازمة المزبورة وإن لم تكن داخلةً تحت إحدى المقولات كالجواهر والأعراض ، إلاّ أنّها مع ذلك أمر واقعي أزلي ، أي ثابت من الأزل وليست لها حالة سابقة ، فان كانت موجودة فهي من الأزل وإن كانت غير موجودة فكذلك ، فلا معنى لأن يشك في بقائها لا وجوداً ولا عدماً ، بل الشك فيها دائماً إنّما هو في أصل ثبوتها من الأزل وعدم ثبوتها كذلك ، ومن المعلوم أنّه لا أصل هنا ليعتمد عليه في إثباتها من الأزل أو عدم إثباتها كذلك.

ومن هنا يظهر الحال فيما لو كان المبحوث عنه في هذه المسألة دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه ، حيث إنّه لا أصل على هذا الفرض أيضاً ليعوّل عليه في إثبات هذه الدلالة أو نفيها ، هذا كلّه في المسألة الاصولية.

وأمّا في المسألة الفرعية : فيجري الأصل فيها ـ وهو أصالة الفساد ـ وإنّما الكلام في أنّه هل يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات مطلقاً أو في المعاملات فحسب دون العبادات؟ فيه قولان.

فاختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الثاني ، وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ الأصل في جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضي الفساد ، لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة الخارجية المشكوك صحتها ، وبقاء متعلقها على ما كان قبل تحققها ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الشك لأجل شبهة حكمية أو موضوعية. وأمّا العبادة فان كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها. وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحة والفساد عند

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٢.


الشك فيهما يبتني على الخلاف في جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في كبرى مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، هذا حسب ما تقتضيه القاعدة الأوّلية.

وأمّا بالنظر إلى القواعد الثانوية الحاكمة على القواعد الأوّلية فربّما يحكم بصحة العبادة أو المعاملة عند الشك فيها بقاعدة الفراغ أو التجاوز أو الصحة أو نحو ذلك.

وأمّا صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ففي بعض نسخ كتابه وإن كان هذا التفصيل موجوداً إلاّ أنّه ضرب خط المحو عليه واختار القول الأوّل ـ وهو الفساد مطلقاً ـ وقال : نعم ، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة ، وأمّا العبادة فكذلك لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

والصحيح هو ما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره من النظرية في المسألة بيان ذلك :

أمّا في العبادات : فلأنّ محل الكلام هنا ليس في مطلق الشك في صحة العبادة وفسادها سواء أكانت متعلقة للنهي أم لم تكن وكانت الشبهة موضوعية أم كانت حكمية ، بل محل الكلام إنّما هو في خصوص عبادة شك في صحتها وفسادها من ناحية كونها متعلقة للنهي ومحرّمة فعلاً ، وأمّا ما لا تكون كذلك فليس من محل الكلام في شيء ، سواء أكان الشك في صحتها وفسادها من ناحية الشك في انطباق المأمور به عليها أو من الشك في أصل مشروعيتها ، أو في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مع عدم الشك في أصل مشروعيتها ، فانّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.


كل ذلك خارج عن مفروض الكلام في المسألة. وعليه فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الأصل في هذه الموارد وإن كان تاماً في الجملة إلاّ أنّه أجنبي عن محل الكلام ، فمحل الكلام في المسألة ما ذكرناه.

وعلى هذا فلا محالة يكون مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد ، والسبب فيه واضح ، وهو أنّ العبادة إذا كانت محرّمة ومبغوضة فعلاً للمولى فبطبيعة الحال هي توجب تقييد إطلاق دليلها بغيرها ـ الحصة المنهي عنها ـ بداهة أنّ المحرّم لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، فاذن كيف يمكن الحكم بصحتها.

وإن شئت قلت : إنّ صحتها ترتكز على أحد أمرين : الأوّل : أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها. الثاني : أن تكون مشتملة على الملاك في هذا الحال ، ولكن شيئاً من الأمرين غير موجود. أمّا الأوّل : فلما عرفت من استحالة كون العبادة المنهي عنها مصداقاً للمأمور به. وأمّا الثاني : فلما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا يمكن إحراز اشتماله على الملاك إلاّبأحد طريقين : وجود الأمر به. وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وأمّا إذا افترضنا أنّه لا أمر ولا انطباق فلا يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، والمفروض فيما نحن فيه هو انتفاء كلا الطريقين معاً ، ومعه كيف يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، فانّ سقوط الأمر كما يمكن أن يكون لأجل وجود مانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل عدم المقتضي له في هذا الحال.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد مطلقاً.

وأمّا في المعاملات : فإن كان هناك عموم أو إطلاق وكان الشك في صحة المعاملة المنهي عنها وفسادها من جهة الشبهة الحكمية فلا مانع من التمسك به


لاثبات صحتها ، ضرورة أنّه لا تنافي بين كون معاملة محرمة ووقوعها صحيحة في الخارج ، إلاّ أنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، حيث إنّه فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق في البين يقتضي صحتها ، أو كان ولكنّ الشبهة كانت موضوعية فلا يمكن التمسك بالعموم فيها ، فعندئذ بطبيعة الحال المرجع هو الأصل العملي ، ومقتضاه الفساد.

مثلاً لو شككنا في صحة نكاح الشغار أو فساده ولم يكن دليل من الخارج على صحته أو فساده لا عموماً ولا خصوصاً فالمرجع هو الأصل ، وهو يقتضي فساده وعدم حصول العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة. وكذا الحال فيما إذا شككنا في صحة معاملة وفسادها من ناحية الشبهة الموضوعية.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ مقتضى الأصل في المعاملات أيضاً هو الفساد مطلقاً ، فلا فرق بينها وبين العبادات من هذه الناحية. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى وهي أنّه لا تنافي بين حرمة المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً كما ستأتي الاشارة إلى ذلك بشكل موسع (١) وهذا بخلاف العبادة فانّ حرمتها لا تجتمع مع صحتها كما عرفت.

وبكلمة واضحة : أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشادياً ومسوقاً لبيان مانعية شيء عنها كالنهي عن بيع الغرر أو بيع ما ليس عندك وما شاكل ذلك فلا إشكال في دلالته على الفساد ، ومن هنا قلنا بخروج هذا القسم من النهي عن محل الكلام في المسألة ، وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن البحوث المتقدمة بشكل موسع (٢) فالكلام هنا إنّما هو في دلالة النهي النفسي المولوي على الفساد

__________________

(١) في ص ١٦٦.

(٢) في ص ١٣٥ ـ ١٣٦.


وعدم دلالته عليه ، بمعنى ثبوت الملازمة بين حرمة معاملة وفسادها وعدم ثبوتها ، وقد اختلفت كلمات الأصحاب حول ذلك ، ونسب إلى أبي حنيفة والشيباني (١) دلالة النهي على الصحة ، ونسب إلى آخر دلالته على الفساد ، وفصّل ثالث بين ما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبيب وما إذا تعلق بالسبب ، فعلى الأوّل يدل على الصحة دون الثاني.

واختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره حيث قال ـ بعد ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ـ : والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب ، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلاّفيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة (٢).

وإليك توضيح ما أفاده : وهو أنّ النهي إذا افترض تعلّقه بالتسبيب ، أي ايجاد الملكية من سبب خاص دون آخر كالنهي عن بيع الكلب مثلاً ، فبطبيعة الحال يدل على صحة هذا السبب ونفوذه في الشريعة وحصول الملكية به ، ضرورة أنّه لو لم يكن هذا السبب نافذاً شرعاً ولم تحصل الملكية به لكان النهي عن إيجادها به لغواً محضاً وكان نهياً عن غير مقدور لفرض أنّها لا تحصل بانشائها به ( السبب الخاص ) مع قطع النظر عن النهي ، فاذن لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن أمر غير مقدور وهو مستحيل.

ومن هنا يظهر الحال فيما إذا تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن تمليك المصحف لكافر ، فانّه يدل على صحة هذه المعاملة ـ وهي البيع ـ لوضوح أنّها لو لم تكن صحيحةً وممضاةً شرعاً لم تكن سبباً لحصول الملكية وبدون ذلك لا معنى

__________________

(١) شرح تنقيح الفصول : ١٧٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٩.


للنهي عن الملكية المسببة عن هذا السبب الخاص ، لفرض أنّه لا يقدر على إيجادها بايجاد سببها ، ومعه لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن غير مقدور وهو محال ، لاعتبار القدرة في متعلقه كالأمر.

وقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) تفصيلاً ثانياً في المقام : وهو أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب دلّ على الفساد وإذا تعلق بالسبب لم يدل عليه. هذه هي الأقوال في المسألة.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ النهي عن المعاملة لا يدل على فسادها وأ نّه لا ملازمة بين حرمة معاملة وبطلانها أصلاً ، بيان ذلك يحتاج إلى مقدمة : وهي أنّنا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية بشتى أشكالها وألوانها : التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدم منّا في أوّل بحث النواهي بصورة موسّعة أنّ حقيقة النهي وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل وبُعده عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرزٍ من قول أو فعل ، كما أنّ حقيقة الأمر وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك ، وهذا هو واقع الأمر والنهي. وأمّا الوجوب والحرمة والبعث والزجر وما شاكل ذلك فليس شيء منها مدلولاً للأمر والنهي ، بل الجميع منتزع من إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج ولا واقع موضوعي لها ما عدا ذلك ، فانّ الأمر والنهي لا يدلاّن إلاّعلى إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج دون غيره.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٧.


ومن ناحية ثالثة : أنّ لهذا الأمر الاعتباري متعلق وموضوع ، ومتعلقه هو فعل المكلف كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما شاكل ذلك ، وموضوعه العقل والبلوغ ودخول الوقت والاستطاعة والدم والخمر والخنزير وغير ذلك من الجواهر والأعراض.

أمّا الأوّل : وهو المتعلق فلا ينبغي الشك في عدم دخله في الحكم الشرعي أصلاً ولا يؤثر فيه أبداً ، لا في مرحلة التشريع والاعتبار ولا في مرحلة الفعلية والامتثال.

أمّا عدم دخله في مرحلة التشريع فواضح ، حيث إنّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على أيّ شيء ما عدا اختياره وإعمال قدرته. نعم ، نظراً إلى أنّ صدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل فبطبيعة الحال يتوقف اعتباره وصدوره منه على وجود داع ومرجح له ، والداعي له إنّما هو المصالح والحِكم الكامنة في نفس الأفعال والمتعلقات بناءً على ما هو المشهور بين العدلية ، أو في نفس الاعتبار والتشريع بناءً على ما ذهب إليه بعض العدلية والأشاعرة. ومن الواضح أنّ دخل تلك المصالح فيه على نحو دخل الداعي في المدعو لا على نحو دخل العلة في المعلول ، وإلاّ لزم خروج الحكم الشرعي عن كونه أمراً اعتبارياً بقانون التناسب والسنخية بينهما من ناحية ، وعن كونه فعلاً اختيارياً للشارع من ناحية اخرى.

وأمّا عدم دخله في مرحلة الفعلية فأيضاً واضح ، وذلك لأنّ فعلية الأحكام إنّما هي بفعلية موضوعاتها وتدور مدارها وجوداً وعدماً ، ولا تتوقف على فعلية متعلقاتها ، كيف فانّ فعليتها توجب سقوطها خارجاً.

وأمّا الثاني : وهو الموضوع فأيضاً لا دخل له في الحكم الشرعي أبداً ،


وذلك لما عرفت من أنّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على شيء ما عدا إرادته واختياره. نعم ، جعله حيث كان غالباً على نحو القضايا الحقيقية فبطبيعة الحال يكون مجعولاً للموضوع المفروض الوجود خارجاً ، فإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وإلاّ لزم الخلف ، أي ما فرض موضوعاً له ليس بموضوع ، ولأجل ذلك يطلق عليه السبب تارةً ، والشرط تارة اخرى فيقال : إنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والسفر بقدر المسافة شرط لوجوب القصر ، والبلوغ شرط للتكليف والبيع سبب للملكية وهكذا ، مع أنّه عند التحليل لا شرطية ولا سببية في البين أصلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ الموجودات الخارجية لا تؤثر في الأحكام الشرعية وإلاّ لكانت تلك الأحكام من الامور التكوينية بقانون التناسب والسنخية المعتبر في تأثير العلة في المعلول من ناحية ، ولخرجت عن كونها أفعالاً اختيارية من ناحية اخرى. وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون إطلاق الشرط على موضوعاتها مبنيّاً على ضرب من المسامحة ، نظراً إلى أنّها حيث اخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار فيستحيل انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ، فتكون من هذه الناحية كالسبب والشرط. مثلاً إذا جعل الشارع وجوب الحج للمستطيع على نحو القضية الحقيقية انتزع عنوان الشرطية للاستطاعة باعتبار أنّ فعلية وجوبه تدور مدار فعليتها خارجاً واستحالة انفكاكها عنها.

ومن هدى هذا البيان يظهر حال الأحكام الوضعية أيضاً ، تفصيل ذلك : أنّ الأحكام الوضعية على طائفتين :

إحداهما : منتزعة من الأحكام التكليفية وذلك كالجزئية والشرطية والمانعية وما شاكل ذلك.


وثانيتهما : مجعولة على نحو الاستقلال كالأحكام التكليفية ، وذلك كالملكية والزوجية والرقية والولاية وما شابه ذلك. أمّا الطائفة الاولى : فهي خارجة عن محل كلامنا في المسألة ، لما عرفت من أنّ محل الكلام فيها إنّما هو في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات.

وبعد ذلك نقول : إنّا قد حققنا في محلّه (١) أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب من أنّ صيغ العقود والايقاعات أسباب للمسببات خاطئ جداً ولاواقع موضوعي له أصلاً ، كما أنّا ذكرنا أنّه لا أصل لما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والسبب في ذلك : ما بيّناه في مبحث الانشاء والاخبار بشكل موسع (٢) ملخّصه : أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ لا واقع له أصلاً ، وذلك لأنّهم إن أرادوا به الايجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول ، بداهة أنّ اللفظ لا يعقل أن يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده. وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري فيرد عليه : أنّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن ، لوضوح أنّ اللفظ لا يكون سبباً لايجاده الاعتباري ولا آلة له ، كيف فانّ الأمر الاعتباري كما ذكرناه غير مرّة لا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار في افق النفس ، ولا يتوقف وجوده على أيّ شيء آخر غيره. نعم ، إبرازه في الخارج يحتاج إلى مبرز ، والمبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون كتابة أو إشارة خارجة ، وقد يكون فعلاً كذلك ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا إذا حلّلنا واقع المعاملات تحليلاً موضوعياً لم نجد

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٢١٩.

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٩٧ ـ ٩٨.


فيها إلاّ أمرين : الأوّل : الاعتبار القائم بنفس المعتبر بالمباشرة. الثاني : إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك. فالمعاملات أسامٍ للمركب من هذين الأمرين ، أي الأمر الاعتباري النفساني ، وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، مثلاً عنوان البيع والاجارة والصلح والنكاح لايصدق على مجرد الأمر الاعتباري النفساني بدون إبرازه في الخارج ، فلو اعتبر شخص في افق نفسه ملكية داره لزيد مثلاً من دون أن يبرزه في الخارج لم يصدق عليه أنّه باع داره أو وهب فرسه مثلاً ، كما أنّه لا يصدق تلك العناوين على مجرد الابراز الخارجي من دون اعتبار نفساني كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الايقاعات ، أو كان التكلم بها بداعٍ آخر لا بقصد إبراز ما في افق النفس من الأمر الاعتباري.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّ المعاملات بشتى ألوانها مركبة من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا وأسامٍ لهما ، وكلاهما أمر مباشري ولا يعقل التسبيب بالاضافة إلى ذاك الأمر الاعتباري.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد اتضح : أنّه ليس في باب المعاملات سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها ليقال إنّ النهي قد يتعلق بالسبب وقد يتعلق بالمسبب ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك قد اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلة الامضاء والجعل كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النكاح سنّتي » (٣) و « الصلح

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

(٣) المستدرك ١٤ : ١٤٩ / أبواب مقدمات النكاح ب ١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).


جائز بين المسلمين » (١) ونحو ذلك ، كما أنّها مأخوذة كذلك في موضوع إمضاء العقلاء ، وعلى هذا فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء الشرعي على فعلية هذه المعاملات وتحققها في الخارج ، فمرجع قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) مثلاً إلى قولنا : إذا وجد شيء في الخارج وصدق عليه أنّه بيع فهو ممضى شرعاً ، ومن هنا قلنا فيما تقدم إنّ الصحة في المعاملات مجعولة شرعاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ نسبة صيغ العقود أو الايقاعات إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها ، بل نسبة المبرز ـ بالكسر ـ إلى المبرز ـ بالفتح ـ كما أنّ نسبتها إلى الامضاء الشرعي ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، كيف فانّ المعاملات بهذه العناوين الخاصة مأخوذة في موضوعه ، ومن المعلوم أنّ الموضوع ليس سبباً لحكمه وعلّة له. ومن هنا يظهر أنّ نسبة هذه المعاملات كما تكون إلى الامضاء الشرعي نسبة الموضوع إلى الحكم كذلك تكون نسبتها إلى الامضاء العقلائي.

وعلى أساس هذا البيان يظهر : أنّه لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية من هذه الناحية أصلاً ، فكما أنّه لا سببية ولا مسببية في باب الأحكام التكليفية حيث إنّ نسبتها إلى موضوعاتها كالاستطاعة والبلوغ والعقل ودخول الوقت وما شاكل ذلك ليست نسبة المعلول إلى العلة فلا تأثير ولا ارتباط بينهما ذاتاً ، فكذلك الحال في الأحكام الوضعية. وعليه فلم يظهر لنا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / كتاب الصلح ب ٣ ح ٢.


لحدّ الآن وجه ما اصطلحوا عليه الفقهاء من التعبير عن موضوعات الأحكام التكليفية بالشرائط وعن موضوعات الأحكام الوضعية بالأسباب ، مع أنّهما من وادٍ واحد فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

وكيف كان ، فلا يقوم هذا الاصطلاح على واقع موضوعي ، حيث قد عرفت أنّه ليس في كلا البابين معاً إلاّجعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده في الخارج من دون أيّ تأثير له في ثبوت الحكم تكويناً. نعم ، لا بأس بالتعبير عن الموضوع بالشرط نظراً إلى رجوع القضية الحقيقية إلى القضية الشرطية ، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، ولكن هذا الشرط بمعنى آخر غير الشرط الذي هو من أجزاء العلة التامة.

وقد تحصّل من مجموع ما حققناه : أنّ الموجود في مورد المعاملة عدّة امور :

الأوّل : الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر بالمباشرة.

الثاني : إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك.

الثالث : الامضاء العقلائي ، وهو فعل اختياري للعقلاء وخارج عن اختيار المتعاملين.

الرابع : الامضاء الشرعي ، وهو فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، وقد تقدم أنّ موضوعه هو المعاملة بعناوينها الخاصة كالبيع أو نحوه.

وبعد ذلك نقول : إنّ النهي المتعلق بالمعاملة لا يخلو من أن يكون متعلقاً بالامضاء الشرعي المعبّر عنه في لسان الفقهاء بالملكية الشرعية ، أو متعلقاً بالامضاء العقلائي ، أو بالأمر الاعتباري النفساني ، أو بالمبرز الخارجي ، أو بالمجموع المركب منهما ، فلا سادس في البين.

أمّا الأوّل : وهو الامضاء الشرعي فلا معنى للنهي عنه ، بداهة أنّه فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، ومن الطبيعي أنّه


لا معنى لنهي الشارع عن فعل نفسه ، غاية الأمر إذا كانت فيه مفسدة ملزمة لم يصدر منه ، كما هو الحال في مثل بيع الكلب والخنزير والخمر والبيع الربوي وما شاكل ذلك ، فانّ عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات وعدم اعتباره الملكية فيها من جهة وجود مفسدة ملزمة في تلك المعاملات فانّها تكون مانعة منه ، لا أنّها موجبة للنهي عنه.

وتوهم أنّ هذه الدعوى لا تلائم مع نهي الشارع عن هذه المعاملات من ناحية ، وكون النهي عنها متوجهاً إلى المتعاملين من ناحية اخرى ، فاسد جداً ، وذلك لأنّ هذا النهي ليس نهياً تكليفياً ليقال إنّه غير معقول ، بل هو نهي إرشادي فيرشد إلى عدم إمضاء الشارع تلك المعاملات. وقد ذكرنا غير مرّة أنّ شأن النهي الارشادي شأن الاخبار ، فكأنّ المولى أخبر عن فساد هذه المعاملات وعدم إمضائها. نعم ، بعض هذه المعاملات ـ وهو المعاملة الربوية ـ وإن كان محرّماً تكليفاً أيضاً إلاّ أنّ الحرمة متعلقة بفعل المتعاملين لا بالامضاء الشرعي والملكية الشرعية ، وقد عرفت أنّ المعاملات أسامٍ للأفعال الصادرة عن آحاد الناس فلا مانع من تعلق الحرمة بها.

فالنتيجة : هي أنّه لا معنى لتعلق النهي بالملكية الشرعية ، ومن هنا يظهر الحال في :

الأمر الثاني : وهو الامضاء العقلائي ، فانّه حيث كان خارجاً عن اختيار المتعاملين فلا معنى للنهي عنه ولا يعقل تعلق النهي في باب المعاملات به.

وأمّا الثالث : وهو فرض تعلق النهي بالأمر الاعتباري النفساني فحسب ، فهو وإن كان شيئاً معقولاً في نفسه إلاّ أنّه لا يستلزم فساد المعاملة ، لأنّ النهي عنه لا يكون نهياً عن المعاملة حتى يستلزم فسادها ، لما عرفت من أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسامٍ للمركب من ذلك الأمر الاعتباري


النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما ، فلا تصدق على الاعتبار النفساني فحسب ، ولا على المبرز الخارجي كذلك. وعلى هذا الضوء فما يتعلق به النهي ليس بمعاملة وما هو معاملة ليس بمنهي عنه.

وإن شئت قلت : إنّ تعلق النهي بذلك الأمر الاعتباري النفساني مع قطع النظر عن إبرازه في الخارج غير محتمل في نفسه ، وعلى تقدير تعلقه به فهو لا يدل على صحة المعاملة ولا على فسادها.

وأمّا الرابع : وهو فرض تعلق النهي بالمبرز ـ بالكسر ـ فحسب ، فقد ظهر أنّه لا يستلزم فساد المعاملة أيضاً ، حيث إنّ النهي عنه لا يكون نهياً عنها حتى يدل على فسادها ، ومثال ذلك : ما إذا افترضنا أنّ أحداً تكلم أثناء الصلاة بقوله : بعت داري أو زوجتي طالق أو ما شاكل ذلك ، فانّ التكلم بهذا القول بما هو قول آدمي أثناء الصلاة وإن كان محرّماً بناءً على نظرية المشهور ، بل ادعي الاجماع على ذلك ، إلاّ أنّ هذه الحرمة لا تدل على فساد هذا العقد أو الايقاع ، لوضوح أنّ المحرّم إنّما هو التكلم بهذه الصيغة بما هي كلام آدمي ، لا بما هي بيع أو إجارة أو طلاق أو نحو ذلك ، فاذن لا يكون نهي عن المعاملة ليقال باستلزامه فسادها.

نتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ النهي عن الأمر الأوّل والثاني غير معقول في نفسه ، وأمّا النهي عن الأمر الثالث والرابع وإن كان معقولاً إلاّ أنّه ليس نهياً عن المعاملة بما هي معاملة ليقع البحث عن أنّه هل يدل على فسادها أم لا.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني ـ وهو الذي اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً من أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب أو التسبيب يدل على الصحة ـ خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبداً.


أمّا أوّلاً : فلما عرفت في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من أنّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً كي يفرض تارةً تعلق النهي بالسبب واخرى بالمسبب وثالثاً بالتسبيب.

وأمّا ثانياً : فلما تقدم من أنّهم فسّروا المسبب فيها بالملكية الشرعية ، وقد عرفت أنّه لا معنى للنهي عنها ليقال إنّه يدل على الصحة.

وأمّا ثالثاً : فعلى تقدير تسليم أنّهم أرادوا بالمسبب فيها الاعتبار النفساني ولكن قد عرفت أنّ النهي عنه في إطاره الخاص لا يكون نهياً عن المعاملة ليقال إنّه يدل على صحتها. وعلى الجملة : فصحة المعاملة تابعة لامضاء الشارع إيّاها ولا صلة لها بالنهي عن الأمر الاعتباري النفساني أصلاً.

وأمّا الخامس : وهو فرض تعلق النهي بالمعاملة من العقود أو الايقاعات ولو باعتبار جزئها الداخلي أو الخارجي ، فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ الحق في المقام هو التفصيل بين تعلق النهي بالسبب على نحو يساوق معنى المصدر وتعلقه بالمسبب على نحو يساوق معنى اسم المصدر ، فالتزم قدس‌سره أنّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه ، بيان ذلك :

أمّا وجه عدم دلالة الأوّل على الفساد ، فلأنّ الانشاء في المعاملة بما أنّه فعل من أفعال المكلف فالنهي عنه إنّما يدل على مبغوضيته فحسب ، ومن الطبيعي أنّ مبغوضيته لا تستلزم فساد المعاملة وعدم ترتب أثر شرعي عليها ، ضرورة أنّه لا منافاة بين حرمة إنشاء المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً.

وأمّا وجه دلالة الثاني على الفساد ، فلما ذكره قدس‌سره من أنّ صحة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٧.


المعاملة ترتكز على ركائز ثلاث :

الاولى : أن يكون كل من المتعاملين مالكاً للعين أو ما بحكمه كالوكيل أو الولي أو ما شاكل ذلك.

الثانية : أن لا يكون ممنوعاً عن التصرف بأحد أسباب المنع كالسفه أو الفلس أو الحجر لتكون له سلطنة فعلية على التصرف فيها.

الثالثة : أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاص وآلة خاصة ، وعلى ذلك فاذا فرض تعلق النهي بالمسبب وهو الملكية المنشأة بالصيغة أو بغيرها كما هو الحال في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر ، فلا محالة يكون النهي عنه معجّزاً مولوياً للمكلف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه ، وبذلك تختل الركيزة الثانية المعتبرة في صحة المعاملة ـ وهي سلطنة المكلف عليها في حكم الشارع وعدم كونه ممنوعاً عن التصرف فيها ـ ويترتب على هذا فساد المعاملة لا محالة.

وعلى ضوء ذلك يظهر : وجه تسالم الفقهاء على فساد الاجارة على الأعمال الواجبة على المكلف مجاناً ، فانّ العمل بما أنّه مملوك لله تعالى وخارج عن سلطان المكلف فلا يمكنه تمليكه من غيره باجارة أو نحوها ، وكذا وجه تسالمهم على بطلان بيع منذور الصدقة ، فانّ نذره أوجب حجره عن التصرف بكل ما ينافي الوفاء بنذره فلا تنفذ تصرفاته المنافية له ، وكذا وجه تسالمهم على فساد معاملة شيء إذا اشترط في ضمنها عدم معاملته من شخص آخر كما إذا فرض أنّه باع داره من زيد مثلاً واشترط عليه عدم بيعها من عمرو ، فانّ وجوب الوفاء بهذا الشرط يجعل المشتري محجوراً من البيع ، فلو خالف وباع الدار من عمرو لم يكن نافذاً ، وغير ذلك من الموارد.


ولكن من ضوء ما حققناه في ضمن البحوث السالفة قد تبيّن نقد ما أفاده قدس‌سره ملخّص ما ذكرناه هناك : هو أنّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً لكي يفرض تعلق النهي مرّةً بالسبب واخرى بالمسبب ، كما أنّا ذكرنا هناك أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة ليست من قبيل نسبة السبب إلى المسبب ، ولا المصدر إلى اسم المصدر ، وأمّا نسبتها إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي من قبيل نسبة الموضوع إلى الحكم لا السبب إلى المسبب كما عرفت ولا المصدر إلى اسم المصدر ، بداهة أنّ المصدر واسم المصدر كما مرّ متحدان ذاتاً ووجوداً ومختلفان اعتباراً كالايجاد والوجود ، ومن المعلوم أنّ صيغ العقود أو الايقاعات تباين الملكية الانشائية وجوداً وذاتاً ، فلا صلة بينهما إلاّصلة الابراز ، أي كونها مبرزة لها ، كما أنّه لا صلة بينها وبين الملكية الشرعية أو العقلائية إلاّصلة الموضوع والحكم.

وعلى ذلك فإن أراد شيخنا الاستاذ قدس‌سره من المسبب الملكية الشرعية فقد تقدم ـ مضافاً إلى أنّها ليست مسببة عن شيء ـ أنّ النهي عنها غير معقول ، وإن أراد به الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة المبرزة في الخارج بالصيغ المزبورة ، أو نحوها فقد عرفت أنّ النهي عنها لا يوجب فساد المعاملة وإن فرض تعلقه بها بوصف كونها مبرزة في الخارج بمبرز ما كما هو مفروض الكلام هنا ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين حرمة معاملة تكليفاً وفسادها وضعاً ، فلا مانع من أن تكون المعاملة محرّمةً شرعاً كما إذا أوقعها أثناء الصلاة مثلاً ، فانّها محرّمة على المشهور ، ومع ذلك يترتب عليها أثرها. ومن هنا لو أوقع شخص طلاق زوجته أثناء الصلاة لم يشك أحد في صحته إذا كان واجداً لسائر شرائط الصحة ، وكذا لو باع داره أثناءها مع أنّه


منهي عنه على المشهور ومحرّم.

وعلى الجملة : فالنهي المولوي عن الأمر الاعتباري بوصف كونه مبرزاً في الخارج ، وكذا النهي عن المبرز ـ بالكسر ـ بوصف كونه كذلك لا يدلاّن بوجه على فساد المعاملة لعدم التنافي بين حرمتها وصحتها أصلاً ، وإنّما يدل النهي على فساد العبادة من ناحية التنافي بينهما وعدم إمكان الجمع كما عرفت.

وبكلمة اخرى : أنّ النهي عن المسبب بالمعنى المتقدم في باب المعاملات لا يوجب تقييد إطلاق دليل الامضاء بغير الفرد المنهي عنه إذا كان له إطلاق يشمله بنفسه ، وذلك لما عرفت من عدم التنافي بين حرمته تكليفاً وإمضاء الشارع إيّاه وضعاً ، حيث إنّ كلاً منهما في إطاره الخاص تابع لملاك كذلك ولا تنافي بين الملاكين أصلاً ، والسر فيه واضح ، وهو أنّه إذا كان لدليل الامضاء كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) أو نحوه إطلاق أو عموم ، فالنهي تكليفاً عن معاملة في موردٍ لا يوجب تقييد إطلاقه أو تخصيص عمومه بغيرها ، لعدم كونه مانعاً عن شموله لها ، كيف حيث إنّه لا تنافي بين كون معاملة محكومة بالحرمة تكليفاً وكونها محكومة بالصحة وضعاً ، ولذا صحّ تصريح المولى بذلك ، فإذا لم تكن منافاة بينهما فلا مانع من التمسك باطلاقه أو عمومه لاثبات صحتها.

ومن هنا يظهر أنّ مثل هذا النهي لا يوجب حجر المكلف ومنعه عن إيجاده وعدم إمضاء الشارع إيّاه عند تحققه ، فانّ ما يوجب ذلك إنّما هو النهي الوضعي دون التكليفي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ قياس المقام بموارد ثبوت الحجر الوضعي

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.


خاطئ جداً وأ نّه قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ النهي عن المعاملة في تلك الموارد إرشاد إلى فسادها ، حيث إنّ المكلف ممنوع من التصرف فيها وضعاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ما رتّبه قدس‌سره من الفروع على ما ذكره من الضابط أيضاً قابل للنقد بيان ذلك :

أمّا الفرع الأوّل : وهو تسالم الفقهاء على بطلان الاجارة على الواجبات المجانية ، فانّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ البطلان غير مستند إلى ما أفاده قدس‌سره من كون تلك الواجبات مملوكة له ( سبحانه وتعالى ) بل هو مستند إلى نقطة اخرى ، فلنا دعويان : الاولى : أنّ بطلان الاجارة غير مستند إلى ما ذكره. الثانية : أنّه مستند إلى نقطة اخرى.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ نحو ملكه تعالى لشيء يغاير نحو الملك الاعتباري فلا يوجب بطلان العقد عليه ، فانّ معنى كون هذه الواجبات مملوكة له تعالى هو إضافتها إليه سبحانه ، ومن البديهي أنّ مجرد هذه الاضافة لا يقتضي بطلان الاجارة عليها وإلاّ لزم بطلانها في كل مورد يتصف متعلقها بالوجوب ولو كان الوجوب كفائياً كما في الصناعات الواجبة كذلك ، وهذا مما لا نظن أن يلتزم به أحد حتى هو قدس‌سره.

فالنتيجة : أنّ مقتضى القاعدة صحة الاجارة على الواجبات ، فالوجوب بما هو لا يقتضي سلب المالية عنها ولا يوجب خروجها عن قابلية التمليك.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ المانع من صحة الاجارة عليها إنّما هو إلزام الشارع بالاتيان بها مجاناً ، ومن الطبيعي أنّ هذا العنوان لا يجتمع مع عنوان الاجارة عليها.

وبكلمة اخرى : قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية جواز الاجارة على


كل واجب إلاّما قامت القرينة من الخارج على لزوم الاتيان به مجاناً وبلا عوض ، وعلى هذا فبما أنّنا علمنا من الخارج بوجوب الاتيان بتلك الواجبات مجاناً ومن دون عوض ، فبطبيعة الحال لا تصحّ الاجارة عليها ، فالنتيجة : أنّ البطلان مستند إلى هذه النقطة دون ما أفاده قدس‌سره.

وأمّا الفرع الثاني : وهو بيع منذور الصدقة ، فانّ النذر إذا لم يكن نذر النتيجة فلا يكون بطلان بيع المنذور مما تسالم عليه الفقهاء ، بل هو محل خلاف بينهم ، فاذن كيف يجوز الاستشهاد به على بطلان المعاملة فيما نحن فيه. وبقول آخر : أنّ النذر المتعلق بشيء على قسمين : أحدهما : نذر النتيجة. وثانيهما : نذر الفعل. أمّا الأوّل فعلى تقدير تسليم صحته فهو وإن كان يوجب بطلان البيع نظراً إلى أنّ المال المنذور قد انتقل من ملك الناذر إلى ملك المنذور له ، وعليه فلا محالة يكون بيع الناذر إيّاه بيع لغير ملكه فيلحقه حكمه ، إلاّ أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه قدس‌سره حيث إنّ كلامه ناظر إلى أنّ المانع عن صحة بيعه هو وجوب الوفاء به ، لا صيرورة المال المنذور ملكاً للمنذور له ، هذا.

والصحيح أنّ وجوب الوفاء به غير مانع عنها ، والسبب في ذلك : هو أنّ وجوب الوفاء بالنذر لا ينافي إمضاء البيع ، حيث إنّه لا منافاة بين لزوم إبقاء المال على الناذر تكليفاً بمقتضى التزامه به وصحة البيع وضعاً على تقدير تحققه في الخارج ، غاية الأمر أنّه يترتب على البيع المزبور استحقاق العقاب على المخالفة ولزوم الكفارة ، ومن الطبيعي أنّ شيئاً منهما لا يستلزم بطلان البيع ، بل إذا افترضنا أنّ المال المنذور قد انتقل إليه ثانياً بعد بيعه وفي ظرف الوفاء بالنذر لم يلزم الحنث أيضاً من هذه الناحية ، أي من ناحية بيعه إيّاه.

وعلى الجملة : حيث إنّه كان وجوب الوفاء بالنذر وجوباً تكليفياً محضاً


فبطبيعة الحال أنّه لا يستلزم بطلان البيع أصلاً. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الناذر من جهة لزومه الوفاء بنذره يكون محجوراً عن التصرف في المال المنذور خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له. ومن هنا يظهر حال :

الفرع الثالث : وهو ما إذا اشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المال المشترى من غيره ، فانّ غاية ما يترتب على هذا وجوب الوفاء به ، وقد عرفت أنّه لا ينافي صحة البيع وإمضاءه على تقدير تحققه في الخارج ، فلا بدّ في الحكم بفساده من التماس دليل آخر وإلاّ لكان مقتضى الاطلاق صحته وترتب الأثر عليه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشاداً إلى مانعية شيء عنها فلا إشكال في دلالته على فسادها ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون النهي متعلقاً بنفس العقد أو الايقاع كالنهي عن بيع الوقف وما لا يملك وبيع المجهول والنكاح في العدة والطلاق في طهر المواقعة وما شاكل ذلك ، وأن يكون متعلقاً بآثاره كقوله عليه‌السلام « ثمن العذرة سحت » (١) « وثمن الكلب سحت » (٢) ونحو ذلك ، فهذه الطائفة من النواهي بكلا نوعيها تدل على فساد المعاملة جزماً وبلا خلاف وإشكال ، ومن هنا قلنا بخروجها عن محل الكلام.

وأمّا إذا كان النهي نهياً مولوياً ودالاً على حرمتها ومبغوضيتها فقد عرفت أنّه لا يدل على فسادها بوجه ، سواء أكان متعلقاً بأحد جزأي المعاملة أو بكلا جزأيها. ثمّ لا يخفى أنّ هذا القسم من النهي في باب المعاملات من العقود

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ ( باختلاف يسير ).

(٢) الوسائل ١٧ : ١١٨ / أبواب ما يكتسب به ب ١٤ ح ٢ وغيره.


والايقاعات قليل جداً والغالب فيه إنّما هو القسم الأوّل.

بقي الكلام حول الروايات (١) الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون إذن سيده. قد يتوهم أنّ تلك الروايات تدل على عدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها ، ببيان أنّ مفادها هو أنّ عصيان السيد لا يستلزم بطلان نكاح العبد رأساً وإنّما يوجب ذلك أن تتوقف صحته على إجازته وإذنه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ عصيان السيد بما أنّه يستلزم عصيانه تعالى فبطبيعة الحال تدل تلك الروايات من جهة هذه الملازمة على عدم استلزام عصيانه ( سبحانه وتعالى ) بطلان النكاح. ومن ناحية ثالثة : أنّ ما دلّ على أنّ عصيانه تعالى مستلزم لفساده وهو مفهوم قوله عليه‌السلام « إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيده » إلخ ، فلا بدّ أن يراد به العصيان الوضعي بمعنى أنّ العبد لم يأت بالنكاح غير المشروع في نفسه كالنكاح في العدة على ما مثّل الإمام عليه‌السلام له بذلك لئلا يكون قابلاً للصحة ، بل جاء بأمر مشروع في نفسه وقابل للصحة باجازة المولى. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي التكليفي لا يدل على فساد المعاملة بوجه ، وأمّا النهي الوضعي فانّه يدل على فسادها جزماً.

تفصيل الكلام حول هذه المسألة : فنقول : إنّ الأقوال فيها ثلاثة :

الأوّل : أنّ صحة نكاح العبد تتوقف على إجازة السيد فاذا أجاز جاز.

الثاني : أنّه فاسد مطلقاً ، أي سواء أجاز سيده أم لا ، وإليه ذهب كثير من العامة.

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ١١٤ / أبواب نكاح العبيد والاماء ب ٢٤ ح ١ ، ٢.


الثالث : التفصيل بين ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه وما إذا أوقع فضولةً ومن قبل غيره ، فانّه على الأوّل فاسد مطلقاً دون الثاني. هذه هي الأقوال في المسألة.

أمّا القول الأوّل : فانّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به ، وذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ صحته بالاجازة على طبق القاعدة ، قد دلّت عليها روايات الباب بالصراحة ، وسيأتي توضيح ذلك في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

وأمّا القول الثاني : فهو واضح البطلان ، فانّه مضافاً إلى أنّ الالتزام به بلا موجب ، خلاف صريح الروايات المشار إليها.

وأمّا القول الثالث : فقد اختاره شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) ونسبه إلى الشيخ التستري قدس‌سره ونسبه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) إلى المحقق القمي قدس‌سره وكيف كان ، فقد ذكر في وجهه : أنّ العقد الصادر منه لنفسه لا يمكن تصحيحه باجازة المولى المتأخرة ، لفرض أنّه من حين صدوره يقع فاسداً ، ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، فاذن كيف يعقل انقلابه من الفساد إلى الصحة بالاجازة المتأخرة ، وهذا بخلاف العقد الصادر منه لغيره فانّه وإن كان فضولياً حيث إنّه بدون إذن سيده إلاّ أنّ السيد إذا أجازه جاز ، نظراً إلى استناده إلى من له العقد من هذا الحين ـ أي من حين الاجازة ـ فتشمله الاطلاقات والعمومات ، والسر في ذلك : هو أنّ هذا العقد لم يقع من الأوّل فاسداً ، بل فساده كان مراعىً بعدم إجازة المولى ، نظير بقية العقود الفضولية ، فاذا أجاز صحّ.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٦٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٤.


وبتعبير آخر : أنّ النكاح الصادر من العبد لنفسه بدون إذن مولاه كالنكاح الصادر من الصبي أو المجنون أو السفيه لنفسه بدون إذن وليّه ، فكما أنّه غير قابل للتصحيح باجازته نظراً إلى أنّه فاسد من حين صدوره فكذلك نكاح العبد ، وهذا بخلاف ما إذا كان لغيره فانّ من له العقد بما أنّه غيره فصحته تتوقف على استناده إليه والمفروض أنّ الاجازة المتأخرة مصححة له ، هذا.

ولنأخذ بالمناقشة على هذا التفصيل ، ملخّصها أمران :

الأوّل : أنّه لا فرق بين هذه الموارد وسائر موارد الفضولي ، فان صحته بالاجازة على القاعدة في جميع الموارد بلا فرق بين مورد دون مورد ، بل لا يبعد أن يكون الحكم بالصحة في هذه الموارد أولى من غيرها ، وذلك لأنّ الاستناد هنا إلى مالك العقد موجود ولا قصور فيه إلاّمن ناحية أنّ صحته وترتب الأثر عليه شرعاً تتوقف على إجازة السيد أو الولي.

وعلى الجملة : فلا فرق في صحة عقد الفضولي بالاجازة المتأخرة بين أن يكون عدم صحته من ناحية عدم استناده إلى المالك أو مَن هو في حكمه ، أو من ناحية عدم إجازة من يكون لاجازته دخل في صحته ، ففي جميع هذه الموارد يكون حكم الشارع بفساد العقد معلّقاً على عدم الاجازة ، فاذا أجاز مَن له الاجازة جاز وصحّ ، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس من انقلاب الشيء عما وقع عليه ، فانّ الحكم بالفساد إنّما هو من جهة عدم تحقق شرط الصحة وهو الاجازة فاذا تحقق حكم بها لا محالة ، وهذا ليس من الانقلاب في شيءٍ. على أنّ إشكال لزوم الانقلاب لو تمّ لا يختص بموردٍ دون مورد ، بل يعم تمام موارد العقد الفضولي كما هو ظاهر.

الثاني : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مقتضى القاعدة عدم صحة عقد الفضولي والصحة تحتاج في كل مورد إلى دليل خاص ، إلاّ أنّ روايات الباب


تكفينا دليلاً على الصحة في المقام ، فانّ هذه الروايات وإن وردت في خصوص نكاح العبد بغير إذن سيده إلاّ أنّه يستفاد منها الكبرى الكلية وهي : أنّ المعاملات إذا كانت في أنفسها ممضاة شرعاً لم يضر عصيان السيد بصحتها أصلاً سواء أكانت نكاحاً أم كانت غيره ، ضرورة أنّه لا خصوصية للنكاح في ذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا خصوصية لعصيان السيد بما هو سيد إلاّمن جهة أنّ صحة المعاملة تتوقف على إجازته وإذنه ، فاذا أجاز جازت. وعلى ذلك فكل من كانت إجازته دخيلة في صحة معاملةٍ فعصيانه لا يضر بها فاذا أجاز المعاملة جازت.

وعلى الجملة : فهذه الروايات في مقام بيان الفرق بين المعاملات الممضاة شرعاً في أنفسها والمعاملات غير الممضاة كذلك كالنكاح في العدة ونحوه ، وتدل على أنّ الطائفة الاولى إذا وقعت في الخارج فضولة وبدون إجازة من له الاجازة صحت باجازته المتأخرة دون الثانية. مثلاً لو باع شخص مال غيره فضولةً أو تزوج بامرأة كذلك فعندئذ إن أجازه المالك صحّ العقد.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ المراد من العصيان في تلك الروايات هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي كما سيأتي بيانه بشكل موسع. فاذن تلك الروايات أجنبية عن محل الكلام في المسألة بالكلية ، فانّها كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملة يدل على الصحة كذلك لاتدل على أنّ النهي عنها يدل على الفساد.

ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد استدلّ بهذه الروايات على دلالة النهي على الفساد ببيان أنّ المراد من عصيان الله تعالى فيها المستلزم للفساد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.


بمقتضى مفهومها هو العصيان التكليفي. وأمّا ما ذكر من تحقق عصيانه ( سبحانه وتعالى ) في المقام نظراً إلى أنّ عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى ، فانّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ المنفي في روايات الباب ليس مطلق عصيانه ولو كان مع الواسطة ، بل خصوص عصيانه المتحقق بمخالفة نهيه الراجع إلى حقّه تعالى على عبيده مع قطع النظر عن حقوق الناس بعضهم على بعض ، فيكون المتحصّل من الروايات هو أنّ عصيان العبد لسيده بنكاحه من دون إذنه لو كان ناشئاً من مخالفة نهي متعلق بذلك النكاح من حيث هو في نفسه لما فيه من المفسدة المقتضية لذلك ، لأوجب ذلك فساده لا محالة كالنهي عن النكاح في العدة أو عن النكاح الخامس وهكذا ، وذلك لأنّ متعلق هذا النهي مبغوض للشارع حدوثاً وبقاءً ، لفرض استمرار مفسدته المقتضية للنهي عنه ، وهذا بخلاف عصيان العبد الناشئ من مخالفة النهي عن التمرد على سيده فانّه بطبيعة الحال يدور مدار تمرده عليه حدوثاً وبقاءً ، فاذا افترضنا أنّ سيده رضي بما عصاه ارتفع النهي عنه بقاءً ، وعليه فلا يبقى موجب لفساده أصلاً ولا مانع من الحكم بصحته.

فالنتيجة : أنّ المستفاد من الروايات : هو أنّ الفساد يدور مدار النهي الإلهي حدوثاً وبقاءً ، غاية الأمر أنّه إذا كان ناشئاً من تفويت حقّ الغير فهو إنّما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهي باقياً ببقاء ملاكه وموضوعه ، وأمّا إذا ارتفع حقّ الغير بارتفاع موضوعه باجازة مَن له الحق تلك المعاملة ارتفع النهي عنها أيضاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي عن المعاملة ذاتاً يوجب فسادها وأنّ صحتها لا تجتمع مع عصيانه تعالى. نعم ، إذا كان العصيان ناشئاً من تفويت حق مَن له الحق توقفت صحة المعاملة على إجازته


كما عرفت.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيده فاذا أجاز جاز » فانّ المراد من أنّه لم يعص الله يعني أنّه لم يأت بما هو منهي عنه بالذات ومبغوض له تعالى من ناحية اشتماله على مفسدة ملزمة ، وإنّما أتى بما هو مبغوض لسيده فحسب من جهة تفويت حقه فلا يكون مبغوضاً له تعالى إلاّبالتبع ، ومن هنا يرتفع ذلك برضا سيده بما فعله وعصاه فيه.

أو فقل : إنّ نكاح العبد بما أنّه ليس من أحد المحرّمات الإلهية في الشريعة المقدّسة ، بل هو أمر سائغ في نفسه ومشروع كذلك وإنّما هو منهي عنه من ناحية إيقاعه خارجاً بدون إذن سيده ، وعليه فبطبيعة الحال يرتفع النهي عنه باذن سيده وإجازته ، ومع الارتفاع لا موجب للفساد أصلاً.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره : وهو أنّه لايمكن أن يراد من العصيان في الروايات العصيان التكليفي ، بل المراد منه العصيان الوضعي في كلا الموردين ، والسبب في ذلك : هو أنّ النكاح المزبور بما أنّه مشروع في نفسه في الشريعة المقدسة لا يكون مانع من صحته ونفوذه بمقتضى العمومات إلاّعدم رضا السيد به وعدم إجازته له ، فاذا ارتفع المانع بحصول الاجازة جاز النكاح ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد تقدم منّا في ضمن البحوث السالفة أنّ حقيقة المعاملات عبارة عن الاعتبارات النفسانية المبرزة في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو كتابة أو نحو ذلك ، ومن الطبيعي أنّ إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرزٍ مّا ليس من التصرفات الخارجية ليقال إنّه حيث كان بدون إذن السيد فهو محكوم بالحرمة ، بداهة أنّه لا يحتمل إناطة جواز تكلم العبد باذن سيده ، ومن هنا لو عقد العبد لغيره لم يحتج نفوذه


إلى إذن سيده جزماً ، فلو كان مجرد صدور العقد منه بدون إذنه معصية له فبطبيعة الحال كان نفوذه يحتاج إلى إذنه بمقتضى روايات الباب مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وعلى الجملة : فلا نحتمل أن يكون تكلم العبد بصيغة النكاح بدون إذن سيده محرّماً شرعاً ، كما أنّا لا نحتمل أنّ اعتباره الزوجية في افق النفس بدون إذنه من أحد المحرّمات في الشريعة ، ومن هنا تكون النسبة بين توقف نفوذ العقد على إجازة السيد وبين صدور العقد من العبد عموماً من وجه ، فانّه قد يصدر العقد من العبد ومع ذلك لا يتوقف نفوذه على إجازة سيده كما إذا أوقعه لغيره ، وقد يصدر العقد من غيره ولكن مع ذلك يتوقف نفوذه على إجازته كما إذا أوقعه للعبد مع أنّه لا عصيان هنا من أحد ، وقد يجتمع الأمران كما إذا أوقع العبد العقد لنفسه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا مناص من القول بأنّ المراد من العصيان في الروايات العصيان الوضعي ، وعلى هذا الضوء فحاصل معنى الروايات : هو أنّ النكاح لو كان غير مشروع في نفسه كما إذا كان العقد في العدة أو ما شاكل ذلك لكان باطلاً وغير قابل للصحة أصلاً. وأمّا إذا كان مشروعاً في نفسه ، غاية الأمر يتوقف نفوذه خارجاً وترتب الأثر عليه على رضا السيد به فهو بطبيعة الحال يدور فساده مدار عدم رضاه به حدوثاً وبقاءً ، فاذا رضي صحّ ونفذ.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النقطة : وهي أنّ هذه الروايات كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملات يقتضي الفساد كذلك لا تدل على أنّه يقتضي الصحة فهي ساكتة عن ذلك بالكلية.

فالصحيح هو ما حققناه من عدم الملازمة بين حرمة المعاملة شرعاً


وفسادها. ومما يؤكد ذلك : أنّنا إذا افترضنا حرمة المعاملة بعنوان ثانوي كما إذا أوقع العقد قاصداً به وقوع الضرر على غيره أو نحو ذلك لم يحكم بفساده جزماً مع أنّه محرّم شرعاً.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه تغاير الجهة المبحوث عنها في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة ، حيث إنّها في تلك المسألة في الحقيقة عن إثبات الصغرى لمسألتنا هذه.

الثانية : أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاصولية العقلية ، أمّا كونها اصولية فلتوفر ركائز المسائل الاصولية فيها ، وأمّا كونها عقلية فلأنّ الحاكم بها هو العقل ولا صلة لها باللفظ.

الثالثة : أنّ القضايا العقلية على شكلين : مستقلة وغير مستقلة ، وتقدم ما هو ملاك الاستقلال وعدمه.

الرابعة : أنّ محل النزاع في المسألة إنّما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات. وأمّا النواهي الارشادية فهي خارجة عن محل النزاع حيث لا نزاع بين الأصحاب في دلالتها على الفساد.

الخامسة : لا شبهة في أنّ النهي التحريمي المتعلق بالعبادة داخل في محل النزاع ، وكذا النهي التنزيهي المتعلق بها إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في ذاتها. نعم ، إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في تطبيقها على حصة خاصة منها فهو خارج عن محل الكلام. وأمّا النهي الغيري فهو أيضاً خارج عنه ولا يوجب الفساد.

السادسة : أنّ المراد من العبادة في محل الكلام هو العبادة الشأنية لا الفعلية ،


لاستحالة اجتماعها مع النهي الفعلي. والمراد من المعاملات كل أمر اعتباري قصدي بحيث يتوقف ترتب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد إنشائه واعتباره ، فما لا يتوقف ترتيب الأثر عليه على ذلك فهو خارج عن محل الكلام.

السابعة : أنّ الصحة والفساد أمران منتزعان في العبادات ومجعولان شرعاً في المعاملات ، وعلى كلا التقديرين فهما صفتان عارضتان على الموجود المركب في الخارج باعتبار ما يترتب عليه من الأثر وعدمه ، فالماهية لا تتصف بهما كالبسيط.

الثامنة : أنّ النهي تارةً يتعلق بذات العبادة واخرى بجزئها وثالثةً بشرطها ورابعةً بوصفها الملازم لها وخامسةً بوصفها المفارق. أمّا الأوّل : فلا شبهة في استلزامه الفساد من دون فرق بين كونه ذاتياً أو تشريعياً ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وأمّا الثاني : فالصحيح أنّه لا يدل على فساد العبادة ، نعم لو اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة كونها فاقدةً للجزء. وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ النهي عنه يدل على فساد العبادة فقد تقدم نقده بشكل موسع. وأمّا الثالث : فحاله حال النهي عن الجزء من ناحية عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على الحصة المنهي عنها على تفصيل قد سبق. وأمّا الرابع : فهو يرجع إلى أحد هذه الأقسام وليس قسماً آخر في قبالها. وأمّا الخامس : فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي. نعم على القول بالامتناع يدخل مورد الاجتماع في أحد الأقسام المزبورة.

التاسعة : أنّه لا أصل في المسألة الاصولية ليعتمد عليه عند الشك وعدم قيام الدليل عليها إثباتاً أو نفياً. نعم ، الأصل في المسألة الفرعية موجود ،


ومقتضاه الفساد مطلقاً في العبادات والمعاملات.

العاشرة : نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي عن المعاملة على صحتها ، واختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وقد تقدم نقده بصورة موسعة ، والصحيح هو أنّ النهي عنها لا يدل على صحتها ولا على فسادها ، يعني لا ملازمة بين حرمتها وفسادها.

الحاية عشرة : أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية المنشأة ليست نسبة السبب إلى المسبب ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها ، بل نسبتها إليها نسبة المبرز إلى المبرز ، فالملكية من الأفعال القائمة بالمتعاقدين بالمباشرة لا بالتسبيب. وأمّا نسبة الصيغ إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي نسبة الموضوع إلى الحكم لا غيرها ، وعليه فلا معنى لفرض تعلق النهي بالسبب تارةً وبالمسبب اخرى.

الثانية عشرة : أنّ حقيقة الأحكام الشرعية بأجمعها من التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها إلاّ اعتبار من بيده الاعتبار فلا دخل للّفظ أو لغيره من الامور الخارجية بها أصلاً.

الثالثة عشرة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد فصّل بين تعلق النهي بالسبب وتعلقه بالمسبب ، والتزم بأ نّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه ، وقد تقدم نقده بشكل مفصّل فلاحظ.

الرابعة عشرة : أنّ الروايات الواردة في نكاح العبد بدون إذن سيده لا تدل على فساد النكاح ولا على صحته وأ نّها أجنبية عن ذلك ، وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّها تدل على الفساد بتقريب أنّ المراد من العصيان فيها هو العصيان التكليفي لا الوضعي ، قد سبق نقده وقلنا إنّ المراد منه العصيان الوضعي ولا يمكن أن يكون المراد منه العصيان التكليفي.


مباحث المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب ، سواء أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية ، وقد يطلق على مطلق ما يفهم من الشيء ، سواء أكان ذلك الشيء لفظاً أم كان غيره كالاشارة أو الكتابة أو نحو ذلك. وغير خفي أنّ هذين الاطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث إنّه في المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من الشيء مطلقاً.

وعلى ذلك فلا بدّ لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم فنقول :

أمّا المنطوق : فانّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقولنا : رأيت أسداً ، فانّه يدل على كون المرئي هو الحيوان المفترس بالمطابقة وكقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً )(١) حيث إنّه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى طهورية جميع أفراده بالاطلاق والقرينة العامة ، كما أنّ قولنا : رأيت أسداً يرمي يدل على كون المرئي هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا. وعلى الجملة : فما دلّ عليه اللفظ وضعاً أو إطلاقاً أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة فهو منطوق ، نظراً إلى أنّه يفهم من شخص ما نطق به المتكلم.

وأمّا المفهوم : فانّه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظراً

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٤٨.


إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق ، فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أوّلاً وبالذات وعلى المفهوم ثانياً وبالتبع ، وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية قد دلّت عليها بالمطابقة أو بالاطلاق والقرينة العامة ، مثلاً دلالة القضية الشرطية على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً ـ تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علة منحصرة للحكم وضعاً أو إطلاقاً على ما يأتي.

وبكلمة اخرى : أنّ انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون أوّلاً وبالذات ـ أي لا يحتاج إلى شيء ما عدا الوضع أو القرينة العامة أو الخاصة ـ أو يكون ثانياً وبالتبع ، أي يحتاج انفهامه زائداً على ما عرفت إلى خصوصية اخرى ، وتلك الخصوصية تستتبع ذلك ، فانّ القضية الشرطية كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه مثلاً بناءً على دلالتها على المفهوم تدل على الثبوت عند الثبوت أوّلاً وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانياً وبالتبع ، بمعنى أنّ انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأوّل. ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها على الخصوصية المزبورة ، وهي كون الشرط علةً منحصرةً للحكم ، ومن الطبيعي أنّ لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعاً لانفهام المنطوق في مقام الاثبات والدلالة.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ المفهوم في محل الكلام عبارة عما كان انفهامه لازماً لانفهام المنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج إلى شيء آخر زائداً على ذلك.

ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام ، فانّ الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، ووجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك ، إلاّ أنّها ليست على نحو اللزوم البيّن ، ضرورة أنّ النفس لا تنتقل من مجرد تصور


وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور مقدمة اخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما. فالنتيجة : أنّ الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البيّن.

ودعوى أنّ تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون جزافاً فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة بين المعنيين ، فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين التبعية في تلك الموارد ، فكما أنّ تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي إدراك العقل ثبوت الملازمة بينهما ـ فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطّرداً حيث تدخل فيه الموارد المذكورة.

خاطئة جداً وذلك لأنّ التبعية في المقام تمتاز عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة ، وهي أنّ التبعية هنا وإن كانت تستند إلى كون الشرط علةً منحصرةً للحكم ، إلاّ أنّه ليس من المقدمات الخارجية فانّه مدلول للجملة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً فلا نحتاج في انفهام المفهوم منها إلى مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف التبعية هناك ، فانّها تحتاج إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائداً على مدلول الجملة كصيغة الأمر أو ما شاكلها.

وعلى الجملة : فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أنّ التبعية في المقام مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ ، والتبعية هناك مستندة إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ ، ولأجل ذلك تكون الملازمة هنا بين الانفهامين بيّنة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية ، وهناك غير بيّنة


لاحتياجها إليها ، كما أنّه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء والتنبيه والاشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام ، فانّ اللزوم في مواردها من اللزوم غير البيّن فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية. مثلاً دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أنّها ليست من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون اللزوم بيّناً ، والمفروض أنّ الملازمة فيها غير بيّنة ، بل هي من الدلالة الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة اخرى وبدونها فلا دلالة. فالنتيجة : أنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن.

ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من الخلط بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم غير البيّن ، حيث إنّه قدس‌سره مثّل للأوّل بتلك الدلالات مع أنّك عرفت أنّ اللزوم فيها غير بيّن لاحتياجها إلى ضم مقدمة خارجية ، فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن واللزوم غير البيّن.

وأمّا نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم البيّن بالمعنى الأخص فهي أمر آخر ، وهو أنّه يكفي في اللزوم البيّن بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى لازمه ، وهذا بخلاف اللزوم البيّن بالمعنى الأعم فانّه لا يكفي فيه ذلك ، بل لا بدّ فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الجزم باللزوم ، نعم هما يشتركان في نقطة اخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ في كل مورد لم يحتج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضم مقدمة اخرى فهو من اللزوم البيّن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٣.


ـ سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص ـ وفي كل مورد احتاج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضمّها فاللزوم لا يكون بيّناً أصلاً.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ هذه الدلالة من اللازم البيّن بالمعنى الأعم في غير محلّه.

ثمّ إنّ لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم؟ الظاهر هو الأوّل ، والسبب في ذلك : هو أنّ اللازم إذا كان بيّناً بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أنّ المخاطب قد يغفل عنه ، نظراً إلى أنّ الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور ملزومه ولحاظه في افق النفس ، بل لا بدّ من تصوره وتصور اللازم والنسبة بينهما ، ومن الطبيعي أنّ اللاّزم بهذا المعنى لاينطبق على المفهوم ، لوضوح أنّ معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أنّها تدل على كون الشرط أو نحوه علةً منحصرةً للحكم ، ومن الطبيعي أنّ مجرد تصورها يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى تصور أيّ شيء آخر ، وهذا معنى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.

لحدّ الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص (١).

الثانية : أنّ مسألة المفاهيم هل هي من المسائل الاصولية العقلية أو اللفظية؟ فيه وجهان بل قولان.

قد يقال كما قيل : إنّها من المباحث اللفظية بدعوى أنّ الدال عليها اللفظ ،

__________________

(١) [ وهذا هي الجهة الاولى من البحث ].


غاية الأمر أنّ دلالته على المنطوق بالمطابقة وعلى المفهوم بالالتزام ، ومن هنا تفترق مسألة المفاهيم عن مسألة الضد ومقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وما شاكل ذلك ، حيث إنّها من المباحث اللفظية دون تلك المسائل فانّها من المباحث العقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

ولكن يمكن أن يقال : إنّها من المسائل العقلية أيضاً والوجه في ذلك : هو أنّ الحيثية التي تقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلية المنحصرة وإن كانت مدلولاً للّفظ وضعاً أو إطلاقاً ، حيث إنّ الدال عليها هو الجملة الشرطية أو نحوها ، إلاّ أنّ هذه الحيثية نفسها ليست بمفهوم على الفرض ، فانّ المفهوم ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها ، ومن المعلوم أنّ الحاكم بذلك ـ أي بانتفاء المعلول عند انتفاء علته التامة ـ إنّما هو العقل ولا صلة له باللفظ.

وبكلمة اخرى : أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين ، فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصولية العقلية ، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصولية اللفظية ، وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاصولية العقلية ، وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاصولية اللفظية ، لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت ، فاذن يكون المفهوم مدلولاً للّفظ التزاماً. وكيف كان فلا يترتب أيّ أثر على البحث عنها من هذه الناحية وإنّما الأثر مترتب على كونها اصولية ، سواء أكانت عقلية أم كانت لفظية ، والمفروض أنّها من المسائل الاصولية لتوفر ركائزها فيها ـ وهي وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها من دون ضم كبرى أو صغرى اصولية إليها ـ فلا أثر للبحث عن أنّ الحاكم فيها هل هو العقل أو غيره أصلاً.

الثالثة : أنّ كلامنا هنا ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده ، بل


الكلام إنّما هو في أصل وجوده وتحققه خارجاً ، بمعنى أنّ الجملة الشرطية أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أم لا كما هي ظاهرة في المنطوق ، والوجه فيه أنّ البحث في جميع مباحث الألفاظ إنّما هو عن ثبوت الصغرى ـ وهي إثبات الظهور لها ـ بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى ، وهي حجية الظواهر في الجملة.

وبعد ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في عدة موارد ، الأوّل في :

مفهوم الشرط

اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه ، وليعلم أنّ دلالتها على المفهوم ترتكز على ركائز.

الاولى : أن يرجع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة ، بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة اخرى.

الثانية : أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.

الثالثة : أن تكون القضية ظاهرةً في أنّ ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول ولا من باب ترتب أحد المعلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر.

الرابعة : أن تكون ظاهرةً في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها.

فمتى توفرت هذه الركائز في القضية تمت دلالتها على المفهوم وإلاّ فلا ، وعلى هذا فلا بدّ لنا من درس كل واحدة منها.

أمّا الركيزة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، والسبب في ذلك : هو ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطية ظاهرة عرفاً في


تعليق مفاد الجملة وهي الجزاء على مفاد الجملة الاخرى وهي الشرط ، مثلاً قولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء » (١) يدل على تعليق عدم الانفعال على بلوغ الماء قدر كر وهكذا ، وكيف كان فلا شبهة في ظهور القضية الشرطية في ذلك.

نعم ، لو بنينا على رجوع القيد إلى المادة كما اختاره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) فحال القضية الشرطية عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة على المفهوم وعدمها ، لما سيأتي (٣) من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل سائر المتعلقات ، بل المراد منه مطلق القيد سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود ، ومن هنا لو عبّر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد لكان أولى.

وعلى الجملة : فعلى هذه النظرية يدخل مفهوم الشرط في مفهوم الوصف ويكون من أحد أفراده ومصاديقه. فالنتيجة : أنّ القول بمفهوم الشرط في قبال مفهوم الوصف يقوم على أساس رجوع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة.

وأمّا الركيزة الثانية : وهي دلالة القضية الشرطية على كون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة لزومية فانّها أيضاً تامة ، وذلك لأن استعمالها في موارد الاتفاق وعدم العلاقة في أيّة لغة كان لو لم يكن غلطاً فلا شبهة في أنّه نادر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).

(٢) مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦ ، ٥٢.

(٣) لاحظ مبحث مفهوم الوصف ص ٢٧٢.


جداً ، لوضوح أنّه لا يصح تعليق كل شيء على كل شيء من دون علاقة وارتباط بينهما. وكيف كان فلا شك في أنّ الاستعمال في تلك الموارد لو صحّ فانّه يحتاج إلى رعاية علاقة وإعمال عناية وبدونهما فالقضية ظاهرة في وجود العلاقة اللزومية بينهما.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ تقسيم المناطقة القضية الشرطية إلى لزومية واتفاقية لا يقوم على أساس صحيح ، فانّ ما مثّلوا للثانية بقولهم : إن كان الانسان ناطقاً فالحمار ناهق أو ما شاكل ذلك لم يكن بحسب الواقع والحقيقة قضية شرطية ، بل صورتها صورة القضية الشرطية. وكيف كان فلا شبهة في ثبوت هذه الركيزة وأ نّها أساس للقضية الشرطية.

وأمّا الركيزة الثالثة : وهي دلالة القضية الشرطية على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فهي خاطئة جداً ، وذلك لأنّها وإن دلّت على ترتب الجزاء على الشرط والتالي على المقدم كما هو مقتضى كلمة الفاء إلاّ أنّها لا تدل على أنّ هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غيره مجازاً ، بل هي تدل على مطلق الترتب سواء أكان من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة كترتب وجوب الحج على الاستطاعة وترتب وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه وترتب عدم انفعال الماء على بلوغه كراً وما شاكل ذلك ، أو كان من قبيل ترتب العلة على المعلول كما هو الحال في البرهان الإني كترتب طلوع الشمس على وجود النهار وترتب تغير العالم على حدوثه ، والأوّل كقولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة. والثاني كقولنا : إن كان العالم حادثاً فهو متغير ونحو ذلك ، أو كان من قبيل ترتب أحد معلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر كقوله : إن كان النهار موجوداً فالعالم مضيء وغير ذلك.


والسبب فيه : هو أنّ القضية الشرطية في جميع هذه الموارد تستعمل في معنى واحد وليس استعمالها في موارد ترتب العلة على المعلول أو ترتب أحد المعلولين على الآخر مجازاً لنحتاج إلى لحاظ وجود قرينة في البين وإعمال عناية ، بل إنّه كاستعمالها في موارد ترتب المعلول على العلة التامة على نحو الحقيقة ، ضرورة أنّه لا فرق بين قولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وبين قولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، فكما أنّ الأوّل على نحو الحقيقة فكذلك الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

نعم ، يفترق الأوّل عن الثاني في نقطة اخرى وهي أنّ الترتب في الأوّل مطابق للواقع الموضوعي دون الثاني ، فانّ الترتب فيه بمجرد افتراض من العقل من دون واقع موضوعي له.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ القضية الشرطية موضوعة للدلالة على ترتب الجزاء على الشرط من دون الدلالة على أنّه من ترتب المعلول على العلة التامة فضلاً عن كونها منحصرةً ، فالموضوع له هو الجامع بين جميع أنواع الترتب ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم في موارد البرهان الإنّي ، لوضوح أنّ غاية ما تقتضيه القضية في تلك الموارد هو أنّ تحقق المقدّم يستلزم تحقق التالي ويكشف عنه فيكون وسطاً للاثبات والعلم دون الثبوت والوجود ، ولا تدل على امتناع وجود التالي من دون وجود المقدّم ، بداهة أنّ وجود المعلول وإن كان يكشف عن وجود العلة إلاّ أنّ عدمه لا يكشف عن عدمها ، لامكان أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع لا إلى عدمها. مثلاً وجود الممكن في الخارج كاشف عن وجود الواجب بالذات نظراً إلى استحالة وجوده في نفسه ، ولكن عدمه لا يكشف عن عدمه ولا عن عدم وجود ممكن آخر لجواز أن يكون عدمه


مستنداً إلى ما يخصه من المانع.

نعم ، عدم المعلول يكشف عن عدم علته التامة ، كما أنّ وجوده يكشف عن وجودها ، وعدم أحد المعلولين لعلة ثالثة يكشف عن عدم الآخر كما يكشف عن عدم علته التامة.

وعلى هذا الضوء فالقضايا الشرطية في موارد البراهين الإنّية إنّما تدل على الثبوت عند الثبوت ولا تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء المقدّم ، لاحتمال أن يكون انتفاء المقدّم مستنداً إلى وجود المانع لا إلى انتفاء الجزاء ، والوجه في ذلك : هو أنّه لا فرق بين استعمال القضايا الشرطية في موارد العلة الناقصة واستعمالها في موارد العلة التامة ، فكما أنّه على نحو الحقيقة في الثانية فكذلك في الاولى ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا ظهور للقضايا الشرطية في ترتب المعلول على العلة لا بالوضع ولا بالاطلاق ، هذا.

ولكن لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام : وهو أنّه بعد ما اعترف من أنّ استعمالها في موارد غير ترتب المعلول على العلة ليس مجازاً ، قال : إنّ ظاهر القضية الشرطية ذلك ، أي ترتب المعلول على العلة ، وذلك لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدّم ، فان كان هذا الترتب موافقاً للواقع ونفس الأمر بأن يكون المقدّم علةً للتالي فهو ، وإلاّ لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية ، وعليه فمن ظهور الجملة الشرطية في ترتب التالي على المقدّم يستكشف كون المقدّم علةً للتالي وإن لم يكن ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٩.


مأخوذاً في نفس الموضوع له.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره وإن كان غير بعيد في نفسه ، نظراً إلى أنّ المتكلم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع لدلت القضية على ذلك في مقام الاثبات أيضاً للتبعية ، نظير ما إذا قلنا جاء زيد ثمّ عمرو فانّه يدل على تأخر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر وإلاّ لم يصح استعماله فيه.

وأمّا إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان ذلك بل كان في مقام الاخبار أو الانشاء ، فلا يتم ما أفاده قدس‌سره ، وذلك لأنّ القضية الشرطية عندئذ لا تدل إلاّعلى أنّ إخبار المتكلم عن وجود الجزاء متفرع على فرض وجود الشرط ، أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحققه ، وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتب على وجود الشرط فلا دلالة للقضية على ذلك أصلاً ، ضرورة أنّه لا مانع من أن يكون الاخبار عن وجود العلة متفرّعاً على فرض وجود المعلول في الخارج ، والاخبار عن وجود أحد المتلازمين متفرعاً على فرض وجود الملازم الآخر فيه ، والسرّ فيه : هو أنّه لا يعتبر في ذلك إلاّ فرض المتكلم شيئاً مفروض الوجود في الخارج ثمّ إخباره عن وجود شيء آخر متفرّعاً على وجوده ومعلّقاً عليه كقولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، حيث إنّ المتكلم فرض وجود النهار في الخارج ثمّ أخبر عن طلوع الشمس على تقدير وجوده ، أو فرض وجود شيء فيه ثمّ أنشأ الحكم على هذا التقدير كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث إنّه جعل وجوب الاكرام على تقدير تحقق مجيئه في الخارج وهكذا.

وعلى الجملة : فبما أنّ القضية الشرطية لم توضع للدلالة على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة ، فبطبيعة الحال تستند دلالتها على


ذلك في مورد إلى قرينة حال أو مقال ، وإلاّ فلا دلالة لها على ذلك أصلاً.

وأمّا الركيزة الرابعة : وهي دلالة القضية على كون الشرط علةً منحصرةً للجزاء فهي واضحة الفساد ، لما عرفت من أنّها لا تدل على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فضلاً عن دلالتها على أنّ هذا الترتب من الترتب على العلة المنحصرة.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم أصلاً ، وإنّما تدل على الثبوت عند الثبوت فحسب.

قد يقال كما قيل : إنّ القضية الشرطية وإن لم تدل على المفهوم وضعاً إلاّ أنّها تدل عليه إطلاقاً ، بيان ذلك : هو أنّ المتكلم فيها إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على الخلاف فمقتضى إطلاقها هو أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء ، وأنّ ترتبه عليه من الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة أنّه لو كانت هناك علة اخرى سابقة عليه وجوداً لكان الجزاء مستنداً إليها لا محالة ، كما أنّه لو كانت هناك علة اخرى في عرضها لكان مستنداً إليهما معاً ، وبما أنّ المتكلم أسند وجود الجزاء إلى وجود الشرط فمقتضى إطلاق هذا الاسناد هو أنّه ليس له علة اخرى سابقة أو مقارنة ، ونستكشف من هذا الاطلاق الاطلاق في مقام الثبوت والواقع وأنّ العلة منحصرة فيه فليس له علة اخرى غيره.

ولكن هذا القول خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، والسبب في ذلك : هو أنّ غاية ما تدل القضية الشرطية عليه هو ثبوت الملازمة بين التالي والمقدّم فحسب ، وأمّا ترتب التالي على المقدّم فانّه ليس مدلولاً لها ، وإنّما هو قضية تفريعه عليه في ظاهر القضية وتعليقه ، ومن هنا قلنا إنّ القضية مع هذا التفريع لا تدل إلاّعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط. وأمّا الترتب الخاص وهو ترتب المعلول على العلة فلا يستفاد منها إلاّبقرينة خاصة فضلاً عن كون هذا


الترتب من ترتب المعلول على العلة المنحصرة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.

ومن هنا أخذ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) طريقاً ثالثاً لاثبات المفهوم لها وهو التمسك باطلاق الشرط ، بيان ذلك : أنّ القضية الشرطية على نوعين :

أحدهما : ما يكون الشرط فيه في حدّ ذاته مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً وتكويناً.

وثانيهما : ما لا يكون الشرط فيه كذلك ، بل يكون توقف الجزاء عليه بجعل جاعل ولا يكون عقلياً وتكوينياً.

أمّا النوع الأوّل : فبما أنّ ترتب الجزاء على الشرط في القضية قهري وتكويني فبطبيعة الحال لا يكون لمثل هذه القضية الشرطية مفهوم ، لأنّها مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيكون حالها حال اللقب فلا يكون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وهذا كقولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وإن جاء الأمير فخذ ركابه وما شاكل ذلك ، فانّ القضية الشرطية في أمثال هذه الموارد تكون مسوقةً لبيان تحقق الحكم عند تحقق موضوعه ، فيكون حال الشرط المذكور فيها حال اللقب فلا تدل على المفهوم أصلاً ، بداهة أنّ التعليق في أمثال هذه القضايا لو دلّ على المفهوم لدلّ كل قضية عليه ولو كانت حملية ، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مع أنّ دلالتها عليه ممنوعة جزماً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥١.


وأمّا النوع الثاني : وهو ما لا يتوقف الجزاء فيه على الشرط عقلاً وتكويناً فقد ذكر قدس‌سره أنّه يدل على المفهوم وأفاد في وجه ذلك : أنّ الحكم الثابت في الجزاء لايخلو من أن يكون مطلقاً بالاضافة إلى وجود الشرط المذكور في القضية الشرطية أو يكون مقيّداً به ولا ثالث لهما ، وبما أنّه رتّب في ظاهر القضية الشرطية على وجود الشرط فبطبيعة الحال يمتنع الاطلاق ويكون مقيداً بوجود الشرط لا محالة ، وعلى هذا فان كان المتكلم في مقام البيان وقد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر ـ سواء أكان التقييد بذكر عِدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو لتكون نتيجته تركب قيد الحكم من أمرين كما في مثل قولنا : إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ـ استكشف من ذلك انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية الشرطية.

وعلى الجملة : فالقضية الشرطية وإن كانت بحسب الوضع لا تدل على تقييد الجزاء بوجود الشرط المذكور فيها فحسب ، وذلك لما عرفت من صحة استعمالها في موارد القضية المسوقة لبيان الحكم عند تحقق موضوعه ، إلاّ أنّ ظاهرها فيما إذا كان التعليق على ما لا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلاً هو ذلك ، فاذا كان المتكلم في مقام البيان فكما أنّ إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلاً يدل على عدم كون الشرط مركباً من المذكور في القضية وغيره ، فكذلك إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدل على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية وليس له شرط آخر وإلاّ لكان عليه ذكره. وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة ، فكما أنّ قضية إطلاقها عدم سقوط الواجب باتيان ما يحتمل كونه عدلاً له فيثبت بذلك كون الوجوب تعيينياً ، فكذلك قضية إطلاق الشرط في المقام فانّها انحصار قيد الحكم به وأ نّه لا بدل له في سببية الحكم وترتبه عليه.


ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره على هذا التقريب خاطئ جداً وحاصل ما أورده : هو أنّ قياس المقام بالوجوب التعييني قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ الوجوب التعييني سنخ خاص من الوجوب مغاير للوجوب التخييري فهما متباينان سنخاً ، وعلى هذا فلا بدّ للمولى إذا كان في مقام البيان من التنبيه على أحدهما بخصوصه والاشارة إليه خاصة ، وبما أنّ بيان الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر خصوصية في الكلام ، أعني بها العدل كما في مثل قولنا : أعتق رقبةً مؤمنةً ، أو صم شهرين متتابعين ، أو أطعم ستين مسكيناً ، فاذا لم يذكر كان مقتضى الاطلاق كون الوجوب تعيينياً وأ نّه غير متعلق إلاّبما هو مذكور في الكلام ، وهذا بخلاف المقام فانّ ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايراً في السنخ لترتبه على غير المنحصرة ، بل هو في كليهما على نحو واحد. فاذن لا مجال للتمسك بالاطلاق لاثبات انحصار العلة بما هو مذكور في القضية.

وجه الظهور : هو أنّ الاطلاق المتمسك به في المقام ليس هو إطلاق الجزاء وإثبات أنّ ترتبه على الشرط إنّما هو على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ليرد عليه ما ذكر ، بل هو إطلاق الشرط بعدم ذكر عدل له في القضية ، وذلك لما عرفت من أنّ ترتب الجزاء على الشرط وإن لم يكن مدلولاً للقضية الشرطية وضعاً إلاّ أنّه يستفاد منها بحسب المتفاهم العرفي سياقاً ، وذلك يستلزم تقييد الجزاء بوجود الشرط في غير القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الحكم بتحقق موضوعه كما تقدم ، وبما أنّ التقييد بشيء واحد يغاير التقييد بأحد الشيئين على البدل سنخاً ، يلزم على المولى بيان الخصوصية إذا كان في مقام البيان ، وحيث إنّه لم يبيّن العدل مع أنّه يحتاج إلى البيان ، تعيّن كون الشرط واحداً وأنّ القيد منحصر به.


ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذكره قدس‌سره من الملاك لدلالة القضية الشرطية على المفهوم لو تمّ فلا يختص الملاك بها ، بل يعمّ غيرها أيضاً كالقضايا الوصفية ونحوها ، والسبب في ذلك : هو أنّ التمسك بالاطلاق المزبور لا يثبت مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد ، فلو أثبت المفهوم فهو إنّما يثبته بعنوان مفهوم القيد ببيان أنّ الحكم الثابت لشيء مقيد بقيد كقولنا : أكرم العالم العادل مثلاً ، فالقيد لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الكلام ولم يذكر المتكلم عدلاً له كالمثال المزبور ، أو ذكر عدلاً له كقولنا : أكرم العالم العادل أو الهاشمي ، فالقضية على الأوّل تدل على أنّ الحكم الثابت للعالم مقيد بقيد واحد وهو العدالة ، وعلى الثاني تدل على أنّه مقيد بأحد القيدين : وهما العدالة والهاشمية ، وبما أنّ التقييد بأحدهما على البدل يحتاج إلى بيان زائد في الكلام كالعطف بأو أو نحوه ، كان مقتضى إطلاق القيد وعدم ذكر عدل له انحصاره به ، أي بما هو مذكور في القضية ، وإلاّ لكان على المولى البيان ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق في ذلك بين كون القضية شرطية أو وصفية أو ما شاكلها ، والسر في هذا هو أنّ ملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو إطلاق القيد المذكور فيها ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق في ذلك بين كونه معنوناً بعنوان الشرط أو الوصف أو نحو ذلك.

وبكلمة اخرى : أنّ الحكم المذكور في القضية قد يكون مقيداً بقيود عديدة مذكورة فيها ، وقد يكون مقيداً بأحد قيدين أو قيود على سبيل البدل ، وقد يكون مقيداً بقيد واحد ، فما ذكره قدس‌سره من البيان لاثبات المفهوم للقضية الشرطية إنّما هو لازم تقييده بقيد واحد ، حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو انحصاره به ، وهذا الملاك لا يختص بها ، بل يعم غيرها من القضايا أيضاً.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره لو تمّ فهو لا يثبت مفهوم الشرط في


مقابل مفهوم القيد.

وأمّا ثانياً : فلأنّ مقتضى إطلاق القيد في الكلام وعدم ذكر عِدل له وإن كان وحدته تعييناً في مقابل تعدده أو كونه واحداً لا بعينه ، إلاّ أنّه لا يدل على انحصار الحكم به ، بل غاية ما يدل عليه هو أنّ الحكم في القضية غير ثابت لطبيعي المقيد على الاطلاق ، وإنّما هو ثابت لحصة خاصة منه ، ولكنّه لا يدل على أنّه ينتفي بانتفاء تلك الحصة ، فانّه لازم انحصار الحكم به لا لازم إطلاقه وعدم ذكر عدل له ، فانّ لازمه عدم ثبوت الحكم للطبيعي على الاطلاق ولا يدل على انتفائه عن حصة اخرى غير هذه الحصة.

وعلى الجملة : فملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو انحصار الحكم بالقيد المذكور فيها وأ نّه علته المنحصرة لا إطلاقه ، حيث إنّ لازمه ما ذكرناه لا المفهوم بالمعنى الذي هو محل الكلام ، وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره من البيان لا يكون ملاك دلالة القضية الشرطية على المفهوم.

وأمّا ثالثاً : فلما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره هنا وحاصله :

هو أنّ المتكلم بالقضية الشرطية ليس في مقام البيان من هذه الناحية ، أي من ناحية انحصار الشرط بما هو مذكور فيها ، بل الظاهر أنّه في مقام بيان مؤثرية الشرط على نحو الاقتضاء بمعنى عدم قصوره في حد ذاته عن التأثير ، وليس هو في مقام بيان مؤثريته الفعلية وانحصارها بما هو مذكور في القضية بلحاظ عدم ذكر عدل له حتى يتمسك باطلاقه لاثبات انحصار المؤثر الفعلي فيه.

نعم ، لو كانت القضية في مقام البيان من هذه الناحية لدلت على المفهوم لا محالة ، إلاّ أنّ هذه النكتة التي توجب دلالتها على المفهوم لا تختص بها ، بل


تعم القضية الوصفية أيضاً ، حيث إنّها لو كانت في مقام البيان من هذه الناحية ، أي من ناحية انحصار القيد المؤثر بما هو مذكور فيها وعدم وجود غيره ، لدلت بطبيعة الحال على المفهوم ، وقد تقدم منّا أنّ هذا المفهوم ليس من مفهوم الشرط الذي هو محل الكلام في مقابل مفهوم القيد بل هو هو بعينه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ كون المتكلم فيها في مقام البيان حتى من هذه الناحية نادر جداً ، فلا يمكن أن يكون هذا هو مراد القائلين بالمفهوم فيها ، حيث إنّه رغم كونه نادراً وغير مناسب أن يكون مراداً لهم فيحتاج إثباته إلى قرينة خاصة ، ومن المعلوم أنّ مثله خارج عن مورد كلامهم وإن لم يكن نادراً ، فانّ كلامهم في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً ، وأمّا دلالتها عليه بواسطة القرينة الخاصة فلا نزاع فيها أبداً.

وبكلمة اخرى : أنّ المتكلم في القضية الشرطية إنّما هو في مقام بيان ترتب مفاد الجزاء على الشرط ، وليس في مقام بيان انحصار العلة والمؤثر بما هو مذكور فيها بملاحظة عدم ذكر عدل له في الكلام ، ومن هنا قلنا إنّ القضية الشرطية لا تدل إلاّعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط ، فلا تدل على أنّه على نحو ترتب المعلول على علته فضلاً عن الترتب على علته المنحصرة.

وعلى ضوء ذلك فالناحية التي يكون المتكلم فيها في مقام البيان فالتمسك بالاطلاق فيها لا يجدي لاثبات كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ، والناحية التي يجدي التمسك بالاطلاق فيها فالمتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الطريقة لاثبات المفهوم للقضية الشرطية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.


إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ ما ذكروه من الوجوه لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً لا يتم شيء منها ، ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) عدم دلالتها على المفهوم إلاّفيما قامت قرينة على ذلك ، ولكن أين هذه من دلالتها عليه وضعاً أو إطلاقاً.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء ، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في البابين ، فلنا دعويان :

الاولى : عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية المشهور في هذين البابين ، لا بالوضع ولا بالاطلاق.

الثانية : دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.

أمّا الدعوى الاولى : فقد ذكرنا في محلّه أنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، والجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج. وعلى ضوء ذلك فلا يمكن إثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية الوضع ولا من ناحية الاطلاق ، لما تقدم من أنّ غاية ما تدل القضية عليه هو ترتب الجزاء على الشرط وتفرّعه عليه ، سواء أكانت القضية في مقام الاخبار أم كانت في مقام الانشاء. وأمّا كون الجزاء معلولاً للشرط فقد عرفت عدم دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق فضلاً عن الوضع ، وعلى تقدير التنزل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه ، إلاّ أنّها لا تدل على كون هذا الترتب على نحو ترتب

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٩٤ ـ ١٩٦.


المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع.

أمّا الدعوى الثانية : فقد ذكرنا في بحث الانشاء والاخبار أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه ولو دلالة ظنّية مع قطع النظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل ذلك وقطع النظر عن القرائن الخارجية ، مع أنّ من الطبيعي أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع ، وعليه فما فائدته.

وعلى الجملة : فاذا افترضنا أنّ الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفاً ظنياً فما معنى كونها موضوعة بازائها ، فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغواً محضاً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

الثاني : أنّ الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام النفساني المبرز بمبرزٍ مّا في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محلّه : أنّ كل متكلم من أهل أيّ لغة كان تعهّد والتزم في نفسه أنّه متى ما أراد تفهيم معنىً خاص يبرزه بلفظ مخصوص ، وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع على أنّ المتكلم به أراد تفهيم معنىً خاص.

ثمّ إنّ من الطبيعي أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلاّبالفعل الاختياري ، ضرورة أنّه لا معنى لتعهد الشخص بالاضافة إلى الأمر الخارج عن اختياره ، فالتعهد إنّما يتعلق بالفعل في إطاره الخاص وهو الفعل الاختياري ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه في


القضايا أمر خارج عن الاختيار ، يعني عن اختيار المتكلم بها ، بل هو تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع ، وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام به. ومن ناحية ثالثة : أنّ ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنّما هو إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل لأن يتعلق به التعهد والالتزام.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي تعيّن تعلق التعهد والالتزام بابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.

ومن هذا البيان قد ظهر أمران :

الأوّل : أنّه بناءً على ضوء نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.

الثاني : تعين وضعها للدلالة على إبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً ، ونتيجة هذا أنّ الجملة الخبرية ـ بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شيء في الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها ـ تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها وتحققها في الخارج ذلك ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها مصداقاً للحكاية والاخبار.

ثمّ إنّ هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبداً حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والافادة في الواقع ما لم ينصب قرينةً على الخلاف في مقام الاثبات ، غاية الأمر أنّ تكلّمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهّده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع ، ومن هنا قلنا إنّ الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرّةً وبالكذب اخرى من ناحية الدلالة الوضعية ، لما عرفت من أنّ تلك الدلالة ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب ، فقولنا :


زيد عدل مثلاً يدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه ، وأمّا أنّه مطابق للواقع أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأ نّه لا صلة لها بما لها من الدلالة الوضعية بهذه الجهة أصلاً.

ولأجل ذلك قلنا إنّ الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الانشائية في الدلالة الوضعية ، فكما أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الانشائية بالصدق والكذب من هذه الجهة ، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية اخرى وهي أنّ لمدلول الجملة الخبرية واقعاً موضوعياً دون مدلول الجملة الانشائية ، ولذا تتصف الاولى بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون الثانية ، هذا ملخّص القول في الجملة الخبرية.

وأمّا الجملة الانشائية فقد حققنا في محلّها أنّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى فيه كما اشتهر في ألسنة الأصحاب ، وذلك لما ذكرناه هناك من أنّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني الخارجي كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات ، ولا نحتمل أنّهم أرادوا ذلك ، كيف فانّ الموجودات الخارجية بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالانشاء ، بداهة أنّ الألفاظ لم تقع في سلسلة عللها وأسبابها. وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية وما شاكل ذلك ، فيرد عليه : أنّه يكفي في إيجاد هذه الامور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأيّ كلام والتلفظ بأيّ لفظ ، لوضوح أنّ الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعاً ووضعاً ، فله إيجاده في عالم


الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.

نعم ، اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أنّه موجد له ، وتقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة فلاحظ.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ مفاد الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر فيه ، لا على نحو الاطلاق والارسال بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، مثلاً جملة إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود ، تدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية والاخبار عن وجود النهار ، لا على نحو الاطلاق وإلاّ لكان كاذباً ، بل على تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس ، ومن الطبيعي أنّ لازم هذه النكتة يعني كون إخباره على تقدير خاص هو انتفاؤه عند انتفاء هذا التقدير ، لفرض أنّه لم يخبر عنه على نحو الاطلاق وإنّما أخبر عنه على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، وعليه فبطبيعة الحال ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير ، وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، مثلاً في جملة : لو شرب زيد سمّاً لمات ، أو لو قطع رأسه لمات ، فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرأس لا مطلقاً ، ولازم ذلك قهراً انتفاء إخباره بانتفاء هذا التقدير.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ إخباره عن موت زيد على هذا التقدير لا يتصف بالكذب عند انتفائه ، يعني انتفاء هذا التقدير خارجاً وعدم تحققه فيه ، والسبب في ذلك : هو أنّ المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارةً وبالكذب اخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له ، بل المناط في ذلك إنّما هو ثبوت الملازمة بين المقدّم والتالي وعدم ثبوتها ، فان


كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة وإلاّ فهي كاذبة ، من دون فرق في ذلك بين كون المقدّم والتالي صادقين أم كاذبين ، بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) فانّ القضية صادقة على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلاً ، فلا يكون إخباره تعالى عن فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذباً وغير مطابق للواقع ، بل هو صادق ومطابق له ، حيث إنّ إخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقاً ، بل يكون على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم. نعم ، لو لم يقع الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن عدم الملازمة بينهما في الواقع.

والسر في ذلك : أي في أنّ صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الأمر وعدم ثبوتها فيه ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما ، هو أنّ المخبر به فيها إنّما هو قصد الحكاية والاخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدّم والتالي ، لوضوح أنّ المتكلم فيها غير ناظر إلى أنّهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان ، وعليه فان كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية صادقة وإلاّ فهي كاذبة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ القضية الشرطية على ضوء نظريتنا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على تقدير وجود المقدّم ، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء الاخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدّم ، وهذا معنى دلالتها على المفهوم بالدلالة الالتزامية الوضعية ، يعني

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٢.


أنّها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين بالمعنى الأخص.

وأمّا الجمل الانشائية فهي على نوعين :

الأوّل : ما يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً وتكويناً كقولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وإن ملكت شيئاً تصدق به وما شاكل ذلك.

الثاني : ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا : إن كان زيد عالماً فأكرمه وما شابه ذلك.

أمّا النوع الأوّل : فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم ، والسبب في ذلك : هو أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين : الاولى : أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الذي علّق عليه الجزاء. الثانية : أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقلياً ، وعلى ذلك فأيّة قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لاحداهما فلا مفهوم لها ، والأوّل كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا : إن جاءك أمير فاستقبله ، فانّ الشرط في هذه القضية وإن كان غير الموضوع إلاّ أنّ توقف الجزاء عليه عقلي.

وعلى الجملة : فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتباً على الشرط ومعلّقاً عليه أصلاً ، ضرورة أنّ توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأ نّه يستحيل وجوده وتحققه في الخارج بدون وجوده وتحققه ، ومن هنا لا يفرق في ذلك بين ما لو جيء به على نحو القضية الشرطية ، وما لو جيء به على نحو القضية الوصفية ، فانّ توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفاءه بانتفائه عقلي ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. فاذن كيف يمكن عدّ هذا الانتفاء من المفاهيم ، وقد تقدم أنّ المفاهيم مداليل للألفاظ


وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلاً.

وأمّا النوع الثاني : وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل إنّما هو بجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، فبما أنّ الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم ، بيان ذلك : أنّ الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور فيها ، يعني أنّ له حالتين ، فالجزاء معلّق على إحداهما دون الاخرى ، ولا يكون هذا التعليق عقلياً وإنّما هو بجعل المولى وعنايته ، كما هو الحال في المثال المذكور فانّ الموضوع فيه هو زيد والشرط فيه هو مجيؤه ، ولا يكون توقف الجزاء وهو وجوب الاكرام عليه عقلياً ، ضرورة عدم توقف إكرامه عليه بل يمكن ذلك في كلتا الحالتين ، فمثل هذه القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة بناءً على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الانشاء.

وحاصلها : هو أنّ حقيقة الانشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، ومن الطبيعي أنّ هذا الاعتبار قد يكون مطلقاً ، وقد يكون معلّقاً على شيء خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال السابق حيث إنّ المولى لم يعتبر إكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ، وإنّما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه وإبرازه في الخارج بقوله : إن جاءك زيد فاكرمه ، فانّه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيء وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام ، وقد تقدم أنّ الملازمة بينهما بيّنة بالمعنى الأخص ، والسر فيه ما عرفت من أنّ اعتبار المولى إذا كان مقيداً بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء هذه الحالة ، ومن الطبيعي أنّ هذا اللازم بيّن بالمعنى الأخص ، حيث إنّ النفس تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الاطلاق في اعتبار المولى وأ نّه يكون


على تقدير خاص ومقيداً به ، فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أيّة نكتة ومقدمة اخرى.

والسبب في ذلك : ما تقدم من أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، وعلى هذا الضوء فاذا كانت الجملة الانشائية شرطيةً كقضية إن استطعت فحج مثلاً أو نحوها ، دلت على أنّ اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو الاطلاق ، بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة ، ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه ، غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.

وبكلمة ثانية : أنّ اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف أو اعتبار ملكية شيء لشخص مثلاً إذا كان معلّقاً على تقدير ثبوت شيء ولم يكن مطلقاً كاعتبار الصلاة مثلاً على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا ، كان مردّه إلى أمرين : أحدهما : اعتبار هذا الشيء على هذا التقدير الخاص. وثانيهما : عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير ، لفرض أنّ الشارع لم يعتبر الصلاة مثلاً على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة ، وكذا الموصي لم يعتبر ملكية ماله له على تقدير عدم موته ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ هذين الأمرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالكاشف عن ذلك إن كان هو القضية الوصفية فهي لا تدل على المفهوم ، أي الانتفاء عند الانتفاء وإنّما تدل على أنّ الحكم في


القضية لم يجعل على نحو الاطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية (١). وإن كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه بمقتضى التعليق ، أي تعليق الجزاء على الشرط ، غاية الأمر أنّ دلالتها على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.

فالحاصل : أنّ دلالتها على المفهوم نتيجة النكتة المتوفرة فيها ولم تكن متوفرة في غيرها وهي تعليق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفاً عليه ومترتباً بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.

ثمّ إنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع ، أي وضع أدوات الشرط للدلالة على ذلك ككلمة « إن » و « إذا » و « لو » وما شاكل ذلك في أيّة لغة كانت ، ولم تكن مستندةً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، لفرض أنّها لازمة بيّنة بالمعنى الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا إن جاءك زيد فأكرمه أو ما شاكله ، أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا : إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ، أو العطف بأو كقولنا : إن جاءك زيد أو عمرو فاعط له هذا المال ، فعلى الأوّل يكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين بحيث يكون كل واحد منهما جزءه لاتمامه ، وعلى الثاني أحدهما ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً ، ضرورة أنّ ملاك دلالتها في الجميع واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتاً وإثباتاً ، غاية الأمر إذا كان الشرط مجموع الأمرين انتفى الجزاء

__________________

(١) راجع مبحث مفهوم الوصف ص ٢٧٤.


بانتفاء واحد منهما ، وإذا كان أحدهما لا بعينه لم ينتف إلاّبانتفاء الجميع.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد القضية الشرطية هو تعليق الجزاء على الشرط ، وأمّا كون الشرط واحداً أو متعدداً وعلى تقدير التعدد كان ملحوظاً على نحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي فكل هذه الخصوصيات خارجة عن مفادها فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة ، نظير ذلك لفظ « كل » فانّه موضوع للدلالة على إرادة العموم والشمول بالاضافة إلى أفراد مدخوله ومتعلقه ، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة لا تختلف باختلاف مدخوله سعةً وضيقاً ، ضرورة أنّه غير ناظر إلى ذلك أصلاً ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل عالم ، وقولنا : أكرم كل إنسان ، فانّ كلمة « كل » في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد ، وهو الدلالة على إرادة عموم أفراد مدخوله.

إلى هنا قد ظهر لنا هذه النتيجة وهي الفرق بين القضية الشرطية والقضية الحقيقية مثل قولنا : يجب على المسافر القصر وعلى الحاضر التمام وما شاكل ذلك ، فانّ المبرز عن اعتبار المولى إن كان هو القضية الحقيقية فهي لا تدل على المفهوم ، لما تقدم من أنّ مدلولها هو قصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع الخاص المفروض وجوده في الخارج ، ولا يستلزم نفيه عن غيره كما هو واضح وأشرنا إليه آنفاً أيضاً ، وهذا بخلاف القضية الشرطية كقولنا : إن سافرت فقصّر ، فانّها كما تدل على ثبوت وجوب القصر عند ثبوت السفر وتحققه ، كذلك تدل على نفيه عند عدم تحققه ، والحجر الأساسي لهذا الفرق هو أنّ عنوان المسافر أو نحوه بما أنّه قد اخذ موضوعاً للحكم بنفسه في القضية الحقيقية فبطبيعة الحال لا تدل إلاّعلى ثبوته لهذا الموضوع الخاص ولا تدل على نفيه عن غيره. ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وأمّا في القضية الشرطية فالموضوع فيها هو نفس المكلف في المثال المتقدم


وحيث إنّ له حالتين : حالة سفره ، وحالة عدم سفره ، فالمولى قد علّق الحكم على إحدى حالتيه وهي حالة سفره ، وعليه فلا محالة تدل على انتفائه عند انتفاء هذه الحالة. ومن هنا قلنا إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين : هما كون الموضوع فيها غير الشرط ، وأن لا يكون توقف الجزاء عليه عقلياً.

قد وصلنا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة : وهي أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم بناءً على وجهة نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء من الواضحات ، وأمّا بناءً على نظرية المشهور في هذين البابين فلا يمكن إثبات دلالتها عليه.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ المراد من المفهوم ليس كل معنى يفهم من اللفظ ، بل المراد منه حصة خاصة من المعنى ، في مقابل المنطوق حيث إنّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة ، والمفهوم يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية المستندة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم.

الثانية : تمتاز الملازمة بين المفهوم والمنطوق عن الملازمة في مباحث الاستلزامات العقلية ـ كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وبين وجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك ـ في نقطة ، وهي أنّ الملازمة بينهما هنا من اللزوم البيّن بخلاف الملازمة هناك فانّها غير بيّنة ، وعلى ضوء هذه النقطة قد خرجت دلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه عن المفهوم حيث إنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن فتحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف اللزوم في موارد الدلالة على المفهوم ، فانّه بيّن فلا تحتاج الدلالة عليه إلى ضم مقدمة خارجية ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث جعل اللزوم في


تلك الموارد من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، وقد تقدم نقده.

الثالثة : أنّ كون مسألة المفاهيم من المسائل الاصولية واضح حيث تتوفر فيها ركائزها ، وإنّما الكلام في أنّها من المسائل الاصولية العقلية أو اللفظية ، وقد تقدم أنّ لها حيثيتين واقعيتين : فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصولية العقلية ، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصولية اللفظية ، ولكن لا أثر للبحث عن هذه الجهة أصلاً.

الرابعة : أنّ محل الكلام ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده ، بل إنّما هو في أصل وجوده كما هو الحال في جميع مباحث الألفاظ.

الخامسة : أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركائز ، وتلك الركائز وإن تتم بعضها ولكن بما أنّها لا تتم جميعاً فلا دلالة لها على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.

السادسة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد أخذ طريقاً آخر لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو التمسك باطلاق الشرط. وقد تقدم نقده بشكل موسّع.

السابعة : أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء ، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في هذين البابين. وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسّعة.

بقي أُمور

الأوّل : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط عند انتفائه ، وأمّا انتفاء شخصه فهو إنّما يكون بانتفاء موضوعه ولو بلحاظ انتفاء بعض قيوده وحالاته ، ومن الطبيعي أنّه عقلي ولا صلة له بدلالة اللفظ أبداً ،


مثلاً انتفاء شخص وجوب الاكرام المنشأ في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه بانتفاء المجيء الذي هو من حالات الموضوع وقيوده عقلي ولا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم أصلاً ، ضرورة استحالة بقاء المعلّق بدون المعلّق عليه ، ومن هنا لو لم نقل بدلالتها على المفهوم أيضاً انتفى هذا الوجوب الخاص بانتفاء ما علّق عليه وهو المجيء في المثال.

فالذي يصلح أن يكون محلاً للنزاع ومورداً للكلام بين الأصحاب إنّما هو دلالة القضية الشرطية على انتفاء فرد آخر من هذا الحكم عن الموضوع المذكور فيها عند انتفاء الشرط وعدم ثبوته ، ومن الطبيعي أنّ الحكم لو ثبت له في هذه الحالة ـ أي حالة انتفاء الشرط ـ لا محالة كان حكماً آخر غير الحكم الثابت له عند ثبوت الشرط ، غاية الأمر أنّه من سنخه ، ومن المعلوم أنّ ثبوت هذا الحكم له في تلك الحالة وعدم ثبوته كلاهما أمر ممكن بحسب مقام الثبوت ، والكاشف عن عدم ثبوته وانتفائه في مقام الاثبات إنّما هو دلالة القضية الشرطية على المفهوم.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط ، لا انتفاء شخص هذا الحكم ، فانّه كما عرفت أمر عقلي وضروري عند انتفاء المعلّق عليه وليس قابلاً للنزاع.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّه ليس انتفاء الحكم في باب الوصايا والأقارير والأوقاف وما شاكلها عن غير مواردها من باب الدلالة على المفهوم كما توهم ، بل نسب إلى الشهيد قدس‌سره في تمهيد القواعد (١) أنّه نفى الاشكال عن دلالة هذه القضايا على المفهوم بدعوى أنّها تدل على انتفاء

__________________

(١) تمهيد القواعد : ١١٠ ، القاعدة «٢٥».


الوصية عن غير موردها ، وانتفاء الوقف عن غير الموقوف عليه ، وانتفاء الاقرار عن غير موضوعه ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي لايرتبط بدلالة اللفظ أبداً ، والموارد المذكورة من هذا القبيل ، لوضوح أنّ الواقف إذا أوقف شيئاً على عنوان خاص كعنوان أولاده الذكور مثلاً أو على عنوان عام كعنوان أهل العلم أو السادة أو ما شاكل ذلك فبطبيعة الحال ينتفي الوقف بانتفاء هذا العنوان ، كما أنّه منتفٍ عن غيره من العناوين ، وكلاهما غير منوط بدلالة اللفظ. أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي فلا صلة له باللفظ أبداً. وأمّا الثاني فلعدم المقتضي حيث إنّه جعل وقفاً على العنوان المزبور فحسب ، فانتفاؤه عن غيره ليس من ناحية دلالة اللفظ ، بل هو من ناحية عدم المقتضي لثبوته ، وكذلك الحال في غيره من الموارد.

فالنتيجة : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط بانتفائه ، ونقصد بسنخ الحكم الحكم الكلي المنشأ في الجزاء فانّه بما هو حكم ينتفي عن الموضوع مطلقاً بانتفاء شرطه ، لا خصوص الفرد الثابت منه ، فيمتاز المفهوم من هذه الناحية عن مطلق انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر : أنّ الحكم المستفاد من الجزاء المعلّق على الشرط إذا كان مفهوماً اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة وجب أو يجب أو ما شاكل ذلك ، فلا إشكال في دلالة القضية الشرطية عندئذ على المفهوم ، نظراً إلى أنّه حكم كلي. وأمّا إذا كان مفهوماً حرفياً ومستفاداً من الهيئة فقد يشكل في دلالة القضية على المفهوم حينئذ ، نظراً إلى أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي ، وقد عرفت أنّ انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي ولا صلة له بدلالة القضية على المفهوم أصلاً ، فانّ معنى دلالتها هو انتفاء سنخ


الحكم بانتفاء شرطه.

ومن هنا فصّل شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) بين ما كان الحكم في الجزاء مستفاداً من المادة كقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور » وما كان مستفاداً من الهيئة كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث إنّه قدس‌سره التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأوّل دون الثاني بملاك أنّ الحكم في الأوّل كلي وفي الثاني جزئي.

وقد اجيب عن هذا الاشكال بوجوه عديدة ، ولكن بما أنّ تلك الوجوه بأجمعها مبنية على أساس وجهة نظر المشهور في باب الانشاء فلا يجدينا شيء منها ، لما تقدم من فساد هذه النظرية ، فعليه لسنا بحاجة إلى بيان تلك الوجوه والمناقشة فيها.

وأمّا على ضوء نظريتنا في باب الانشاء فلا مجال لهذا الاشكال أبداً ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من أنّه لا واقع موضوعي للوجوب والثبوت ما عدا اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، ومن الطبيعي أنّه لا يفرق في المبرز بين القول والفعل ، كما أنّه لا يفرق في القول بين الهيئة والمادة ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بالاعتبار النفساني ، ومن المعلوم أنّه لا يختلف باختلاف المبرز والكاشف ، كيف حيث إنّه لا شأن له ما عدا ذلك ، وعلى هذا فالمولى مرّةً يعتبر الفعل على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ومرّةً اخرى يعتبره على تقدير خاص دون آخر كاعتبار الصلاة والطهارة على ذمة المكلف على تقدير زوال الشمس لا مطلقاً ، واعتبار الحج على تقدير الاستطاعة ، وهكذا.

فاذا كان الاعتبار قابلاً للاطلاق والتقييد فالقضية الشرطية بمنطوقها تدل

__________________

(١) [ لاحظ مطارح الأنظار : ١٧٣ فانّه صرّح بعدم التفصيل ].


على التعليق ، أي تعليق الاعتبار على الشرط ، وبمفهومها تدل على انتفاء هذا الاعتبار عند انتفاء الشرط والمعلّق عليه ، ومن الواضح أنّه لا فرق في دلالة القضية عليه بين أن يكون المبرز عن ذلك الاعتبار النفساني هيئةً كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، أو قولنا : إن استطعت فحج ، أو مادةً كقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة » (١) أو ما شاكل ذلك.

والسبب فيه : هو أنّه لا واقع موضوعي لهذا الاشكال بناءً على ضوء نظريتنا ، لوضوح أنّ الاعتبار المزبور كما عرفت قابل للاطلاق والتقييد ، فاذا افترضنا أنّ المولى اعتبره مقيداً بشيء ومعلّقاً عليه من دون اقتضائه ذلك بنفسه فبطبيعة الحال ينتفي بانتفائه ، والمبرز عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو القضية الشرطية على نحو الالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخص. أو فقل : إنّ الملازمة بين ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت هذا الشيء وانتفائه عند انتفائه موجودة في مقام الثبوت ، فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ، ولا نقصد بالمفهوم إلاّذلك ، ومن المعلوم أنّه لا فرق فيه بين أن يكون الجزاء مستفاداً من المادة أو الهيئة.

الثاني : أنّه لا فرق فيما حققناه من دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً كالأمثلة المتقدمة أو ما شاكلها أو يكون متعدداً ، سواء أكان تعدده على نحو التركيب أو التقييد ، والأوّل كقولنا : إن جاءك زيد وأكرمك وسلّم عليك فأكرمه ، فانّ الشرط مركب من امور :

المجيء ، والاكرام ، والسلام ، ولازم ذلك هو انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد منها.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٢ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).


والثاني كقولنا : إن ركب الأمير في يوم الجمعة والساعة الفلانية فخذ ركابه ، فيكون الشرط وهو الركوب مقيداً بقيدين : هما يوم الجمعة والساعة الفلانية ، وبانتفاء كل منهما ينتفي الحكم لا محالة.

فالنتيجة : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين كون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً. نعم ، على الأوّل ينتفي الحكم المستفاد من الجزاء بانتفائه ، وعلى الثاني ينتفي بانتفاء المجموع ، وانتفاؤه تارةً يكون بانتفاء جميع أجزائه أو قيوده ، واخرى بجزء أو قيد منه ، وهذا ظاهر.

الثالث : أنّ الحكم الثابت في الجزاء المعلّق على الشرط على نوعين :

أحدهما : أنّه حكم غير انحلالي وذلك كوجوب الصلاة والحج وما شاكل ذلك حيث إنّه ثابت لطبيعي الفعل على نحو صرف الوجود ، ومن المعلوم أنّه لا ينحل بانحلال أفراده ومصاديقه. نعم ، هو ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج ـ وهو المكلف ـ ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يكون مفهوم القضية الشرطية هو انتفاء هذا الحكم بانتفاء شرطه.

وثانيهما : أنّه حكم انحلالي كقوله « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » (١) فانّ الشيء نكرة وبما أنّه وقع في سياق النفي فبطبيعة الحال يدل على العموم ، وعليه فلا محالة ينحل الحكم المجعول في الجزاء المعلّق على الشرط المذكور في القضية بانحلال أفراده ومصاديقه في الخارج ، هذا مما لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في مفهوم مثل هذه القضية وهل هو إيجاب جزئي أو كلي؟ فيه وجهان بل قولان.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).


اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره القول الثاني وقد أفاد في وجه ذلك ما هو نصه : ولكنّ التحقيق أن يقال : إنّ النظر في علم الميزان بما أنّه مقصور على القواعد الكلية لتأسيس البراهين العقلية لا ينظر فيه إلى الظواهر ، ومن ثمّ جعلت الموجبة الجزئية نقيضاً للسالبة الكلية ، وهذا بخلاف علم الاصول فانّ المهم فيه هو استنباط الحكم الشرعي من دليله ويكفي في ذلك إثبات ظهور الكلام في شيء وإن لم يساعده البرهان المنطقي ، فلا منافاة بين كون نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية وظهور القضية التي علّق فيها السالبة الكلية على شيء في ثبوت الموجبة الكلية بانتفاء ذلك الشيء ، فبين النظرين عموم وخصوص من وجه ، وعلى ذلك فان كان المعلّق على الشرط بحسب ظاهر القضية الشرطية هو نفس عموم الحكم وشموله كما في العام المجموعي ، فلا محالة كان المنتفي بانتفاء الشرط هو عموم الحكم أيضاً فلا يكون المفهوم حينئذ إلاّ موجبة جزئية. وأمّا إذا كان المعلّق على الشرط هو الحكم العام أعني به الحكم المنحل إلى أحكام عديدة بانحلال موضوعه إلى أفراده ومصاديقه ، كان المعلّق في الحقيقة على وجود الشرط حينئذ هو كل واحد من تلك الأحكام المتعددة فيكون المنتفي عند انتفاء الشرط هو كل واحد من تلك الأحكام أيضاً.

وبالجملة : الحكم الثابت في الجزاء ولو فرض كونه استغراقياً ومنحلاً إلى أحكام متعددة إلاّ أنّ المعلّق على الشرط في القضية الشرطية تارةً يكون هو مجموع الأحكام ، واخرى كل واحد واحد منها ، وعلى الأوّل فالمفهوم يكون جزئياً لا محالة ، بخلاف الثاني فانّه فيه كلي كالمنطوق ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات : فان كان العموم المستفاد من التالي معنىً اسمياً مدلولاً عليه بكلمة كل وأشباهها ، أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو


نفس العموم أو الحكم العام فلا بدّ في تعيين أحدهما من إقامة قرينة خارجية. وأمّا إذا كان معنىً حرفياً مستفاداً من مثل هيئة الجمع المعرّف باللام ونحوها وغير قابل لأن يكون ملحوظاً بنفسه ومعلّقاً على الشرط ، أو كان مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي ولم يكن هو بنفسه مدلولاً عليه باللفظ ، فلا محالة يكون المعلّق في القضية الشرطية حينئذ هو الحكم العام كما في الرواية المزبورة ، إذ المعلّق على الكرية فيها إنّما هو عدم تنجس الماء بملاقاة كل واحد من النجاسات ، لأنّه مقتضى وقوع النكرة في سياق النفي ، فتدل الرواية على عدم تنجس الكر من الماء بملاقاة البول أو الدم أو نحوهما ، فيثبت بانتفاء الشرط ـ أعني به كرية الماء ـ تنجسه بملاقاة كل واحد منها ، فلا معنى حينئذ للقول بأنّ المفهوم موجبة جزئية وأ نّه لا يثبت بالرواية إلاّتنجس الماء القليل بملاقاة نجسٍ مّا دون جميع النجاسات ، هذا.

مع أنّا لو قلنا بأنّ المفهوم فيما لو كان التالي سالبة كلية لا يكون إلاّموجبة جزئية لما ترتب عليه أثر في خصوص المثال ، لأنّه إذا تنجس الماء القليل بنجسٍ مّا ثبت تنجسه بكل نجس من أنواع النجاسات ، إذ لا قائل بالفصل بينها ، فلا تترتب ثمرة على البحث عن كون مفهوم الرواية موجبة كلية أو موجبة جزئية.

وأمّا توهم أنّ ما تدل عليه الرواية على القول بكون المفهوم موجبة جزئية إنّما هو تنجسه بملاقاة نجسٍ مّا ، غاية الأمر أنّه يتعدى من ذلك إلى بقية النجاسات بعدم القول بالفصل ، لكن عدم القول بالفصل مختص بالأعيان النجسة فلا يمكن إثبات تنجس الماء القليل بملاقاته المتنجس إلاّعلى تقدير كون المفهوم موجبة كلية فهو مدفوع بأ نّه ليس المراد من الشيء المذكور في الرواية هو كل ما يصدق عليه أنّه شيء ، إذ لا معنى لاشتراط عدم انفعال الماء


عند ملاقاته الأجسام الطاهرة بكونه كراً ، بل المراد به هو الشيء الذي يكون في نفسه موجباً لتنجس ملاقيه ، وعليه فان ثبت من الخارج تنجيس المتنجس فذلك يكفي في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته من دون احتياج في ذلك إلى التمسك بمفهوم الرواية ، وإن لم يثبت ذلك فالمتنجس غير داخل في عموم المنطوق لتثبت بمفهومها نجاسة الماء القليل بملاقاته على تقدير كون المفهوم موجبة كلية (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ بين النظر المنطقي والنظر الاصولي عموماً من وجه حيث إنّ الأوّل يقوم على أساس البراهين العقلية ـ سواء أكانت مطابقة لظاهر الدليل أم لم تكن ـ والثاني يقوم على أساس الدليل في المسألة والحجة فيها ، وهو قد يكون مطابقاً للبرهان العقلي وقد لا يكون.

الثانية : أنّ العام المعلّق على الشرط في ظاهر القضية الشرطية قد يكون عاماً مجموعياً وقد يكون استغراقياً ، فعلى الأوّل يكون مفهومها قضية جزئية ، وعلى الثاني قضية كلية.

الثالثة : أنّ العموم المستفاد من الجزاء في مقام الاثبات إن كان معنى اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة « كل » أو ما شاكلها أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو العموم المجموعي ، كما أمكن أن يكون هو العموم الاستغراقي. وإن كان معنىً حرفياً بأن يكون مستفاداً من هيئة الجمع المعرّف باللام أو نحوها أو مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي فلا محالة يكون المعلّق على الشرط هو العموم الاستغراقي ، والرواية المزبورة من هذا القبيل حيث إنّ العموم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩.


فيها مستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي.

الرابعة : أنّا إذا افترضنا أنّ مفهوم السالبة الكلية لا يكون إلاّموجبةً جزئيةً إلاّ أنّه لا ثمرة لذلك في المقام.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت تامةً بحسب الكبرى إلاّ أنّ الظاهر عدم تحقق الصغرى لها كما سوف يتضح ذلك في ضمن النقطة الآتية.

وما قيل من أنّ مفهوم السالبة الكلية في القضية الشرطية قد يكون قضية كلية وذلك كما إذا افترضنا أنّ المعلّق على الشرط هو الجامع بين المطلق والمقيد والاطلاق المستفاد من قرينة الحكمة يطرأ عليه ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون مفهومها قضية كلية ، فانّ انتفاء الجامع لا يمكن إلاّبانتفاء كلا فرديه المطلق والمقيد معاً ، وعلى الجملة : فإن كان التعليق وارداً على المطلق والعموم فالمفهوم قضية جزئية حيث إنّه نفي العموم لا عموم النفي ، وإن كان التعليق وارداً على الطبيعي الجامع والاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يطرأ عليه فالمفهوم قضية كلية حيث إنّه نفي الجامع وهو لا يكون إلاّبنفي جميع أفراده ، ومن هنا يفترق الحال بين ما كان العموم مستفاداً من اللفظ وما كان مستفاداً من قرينة الحكمة ، فعلى الأوّل التعليق وارد على العموم وعلى الثاني العموم وارد على التعليق.

لا يمكن المساعدة عليه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ المعلّق على الشرط إذا لم يكن هو المطلق والعموم بل كان الطبيعي الجامع فليست القضية في مرتبة التعليق حينئذ قضية سالبة كلية ، لفرض أنّ الكلية المستفادة من قرينة الحكمة تطرأ عليه ، فما أفاده المناطقة من أنّ نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية لا ينتقض بذلك.


وأمّا ثانياً : فلأنّ المتفاهم العرفي من تلك القضايا الشرطية التي يكون إطلاق الجزاء فيها مدلولاً لقرينة الحكمة هو أنّ التعليق فيها أيضاً وارد على المطلق ، مثلاً المتفاهم عرفاً من مثل قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١) هو ورود التعليق على المطلق لا أنّه في مرتبة سابقة عليه ، والسر في ذلك هو أنّ المعلّق على الشرط في القضية بطبيعة الحال إنّما يكون هو مراد المتكلم ومقصوده حسب فهم العرف ولو كان بضميمة قرينة خارجية كقرينة الحكمة أو نحوها.

فالنتيجة : أنّ فرض ورود الاطلاق على المعلّق وإن كان ممكناً بحسب مقام الثبوت إلاّ أنّه لا يمكن إثباته بدليل.

وأمّا النقطة الثانية : فهي مبنية على نقطة خاطئة وهي أن يكون الدال على كل حكم منحل بانحلال أفراد الطبيعة المحكوم عليها قضية مستقلة في مقام الاثبات والدلالة لتكون هناك قضايا متعددة بعدد أفرادها ، ولكن الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه فانّه فيما إذا كان الدال على جميع هذه الأحكام الثابتة لأفراد هذه الطبيعة قضية واحدة في مقام الاثبات والدلالة ، والمفروض أنّ هذه القضية لا تدل على ثبوت حكم لكل فرد منها بعنوانه واستقلاله ، بل هي تدل على ثبوت حكم الطبيعة السارية إلى أفرادها على تقدير تحقق شرطه ، فاذن بطبيعة الحال يكون مفهومها انتفاء هذا الحكم الساري ، ومن الطبيعي أنّ انتفاءه يتحقق بانتفائه عن بعض أفراده فيكون مساوقاً للقضية الجزئية.

وبكلمة اخرى : أنّ انحلال الحكم وتعدده في القضية بحسب مقام الثبوت

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).


والواقع لا يجدي في كيفية استفادة المفهوم منها في مقام الاثبات والدلالة على الشكل الذي أفاده قدس‌سره وهو القضية الكلية ، وذلك لأنّ مدلول القضية في مقام الاثبات والدلالة واحد حيث إنّ الشارع في مقام الابراز والجعل فقد أبرز حكماً واحداً ، غاية الأمر أنّ ذلك الحكم الواحد يتعدد بتعدد أفراد متعلقه وينحل بانحلاله ، بل ربّما ينحل إلى أحكام غير متناهية من ناحية عدم تناهي أفراد متعلقه ، ولكن هذا الانحلال إنّما هو في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل والابراز.

وعلى ضوء ذلك فالقضية الشرطية في أمثال هذه الموارد لا تدل إلاّعلى انتفاء الحكم الساري عن الطبيعة كذلك عند انتفاء شرطه ، حيث إنّ منطوقها ثبوت هذا الحكم لها كذلك ، ومن الطبيعي أنّه يتحقق بانتفائه عن

بعض الأفراد ولا يتوقف تحققه على انتفائه عن جميع الأفراد ، ضرورة أنّ النفي المتوجه إلى الحكم الساري المطلق بسريان أفراد متعلقه مساوق للموجبة الجزئية ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السريان والاطلاق مدلولاً وضعياً للفظ أو مدلولاً لقرينة الحكمة ، فانّه على كلا التقديرين يكون المعلّق على الشرط هو الاطلاق والسريان ، وعليه فبطبيعة الحال تدل القضية على انتفائه بانتفاء الشرط ، ومن المعلوم أنّ ذلك مساوق للقضية الجزئية.

ولنأخذ لتوضيح ذلك بعدة أمثلة :

الأوّل كقولنا : إذا لبس زيد لأمة حربه لم يخف أحداً ، فانّه لا إشكال في أنّ المتفاهم العرفي منها هو تحقق الخوف له في الجملة عند انتفاء الشرط وهو مساوق للموجبة الجزئية ، بداهة أنّ مفهومها ليس تحقق الخوف له من كل أحد حتى من الجبناء.

الثاني كقولنا : إذا غضب الأمير لم يحترم أحداً ، فانّه لا يدل على أنّه يحترم


كل أحد عند انتفاء غضبه ولو كان عدواً له ، بل يدل على ذلك في الجملة وهو مساوق للقضية الجزئية.

الثالث كقولنا : إذا جدّ زيد في درسه فلا يفوقه أحد ، فانّ مفهومه عرفاً هو أنّه إذا لم يجد في درسه فسوف يفوقه أحد ، لا أنّ مفهومه هو أنّه إذا لم يجد في درسه يفوقه كل أحد ، وعليه فلا يكون مفهوم قولهم عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء » إلاّثبوت النجاسة له في الجملة بملاقاة النجس عند انتفاء الكرية لا ثبوت النجاسة له بملاقاة كل نجس.

فالنتيجة : أنّ المتفاهم العرفي من الأمثلة التي ذكرناها وما شاكلها من القضايا الشرطية هو أنّ مفهومها قضية جزئية لا قضية كلية (١) ولا فرق في

__________________

(١) وما قيل من أنّه فرق بين الأمثلة المتقدمة وبين قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماءقدر » إلخ ببيان أنّ في تلك الأمثلة قد طرأ التعليق على المطلق دون قولهم عليهم‌السلام والسبب فيه هو أنّ ثبوت الاطلاق في تلك الأمثلة إنّما هو لقرينة عرفية خاصة وليس ثابتاً بمجرد مقدمات الحكمة حيث لا يحتمل عرفاً اختصاص كلمة أحد المذكورة فيها في طرف الجزاء بخصوص العادي من الناس بحيث لو أراد القائل بكلامه السابق : أنّ زيداً إذا لبس لأمة حربه لم يخف أحداً ، الجبناء من الناس لما كان كلامه كلاماً عرفياً ، وكذا لو أراد من قوله : إنّ زيداً إذا جدّ في درسه لم يسبقه أحد ، خصوص الأغبياء منهم ، أو أراد من أحداً في قوله : إذا غضب الأمير لم يحترم أحداً ، خصوص الأهل والأقرباء منه ، فاذا كان الاطلاق مدلولاً لقرينة خاصة عرفية كان التعليق وارداً عليه ، وهذا بخلاف الاطلاق في قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماء » إلخ فانّه حيث يكون مدلولاً لقرينة الحكمة فهو وارد على التعليق دون العكس ، وعليه فيكون مفهومه موجبة كلية ، حيث إنّ المعلّق على الشرط على هذا هو الطبيعي الجامع فنفيه


هذه الاستفادة العرفية بين أن يكون العموم في طرف الجزاء استغراقياً أو مجموعياً ، فكما أنّ نفي العموم المجموعي يلائم مع قضية موجبة جزئية فكذلك نفي العموم الاستغراقي.

__________________

لا يمكن إلاّبنفي جميع أفراده.

وما قيل من الفرق مدفوع بأنّ حال قولهم عليهم‌السلام حال الأمثلة المذكورة فكما أنّ تخصيص الأحد فيها بطائفة خاصة مستهجن عرفاً فكذلك تخصيص الشيء فيه بخصوص المتنجس.

وإن شئت قلت : إنّ تقييد المطلق بطائفة خاصة منه وإن لم يكن مستهجناً عرفاً في نفسه ، ولكن في المقام نلاحظ الاستهجان في تخصيص الشيء في قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء » بالمتنجس ، وعلى هذا فلا محالة يكون المراد منه المطلق الشامل للمتنجس أيضاً ، وعليه فبطبيعة الحال يكون مفهومه موجبةً جزئية.

وبكلمة اخرى : أنّ المراد من الشيء في هذه الرواية لا يخلو من أحد امور ثلاثة : الأوّل : أن يكون المراد منه خصوص الأعيان النجسة. الثاني : أن يكون المراد منه خصوص الأعيان المتنجسة. الثالث : أن يكون الأعم منهما. فعلى الاحتمال الأوّل الرواية ساكتة عن حكم ملاقاة المتنجس منطوقاً ومفهوماً ، وإنّما هي ناظرة إلى بيان حكم ملاقاة عين النجس كذلك ، وعلى الاحتمال الثاني عكس ذلك تماماً. ولكن لا يمكن الأخذ بكلا الاحتمالين جزماً ، أمّا الاحتمال الأوّل فبملاحظة أنّ التقييد بحاجة إلى قرينة تدل عليه وحيث إنّه لا قرينة في المقام على ذلك مع كون المولى في مقام البيان فقرينة الحكمة تعيّن الاطلاق. وأمّا الاحتمال الثاني فهو ساقط في نفسه ، لوضوح أنّه لا يمكن أن تكون الرواية متجهةً منطوقاً ومفهوماً إلى بيان حكم ملاقاة المتنجس خاصة ، وقد تقدم أنّ الرواية على هذا تخرج عن الكلام العرفي. فاذن يتعيّن الاحتمال الثالث.


وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر مما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة خطؤها.

أمّا أوّلاً : فلما تقدم بشكل موسع في ضمن بحث الحروف أنّ ما اشتهر في الألسنة من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلةً والمعنى الاسمي استقلالاً لا أصل له ، وقد ذكرنا هناك أنّه لا فرق بينهما في هذه النقطة أبداً.

وأمّا ثانياً : فعلى فرض تسليم ذلك إلاّ أنّه لا نتيجة له فيما نحن فيه ، لما عرفت من عدم الفرق بين كون العموم في طرف الجزاء مجموعياً أو استغراقياً في كيفية استفادة المفهوم عرفاً من القضية الشرطية.

وأمّا النقطة الرابعة : فهي تامة بالاضافة إلى الأعيان النجسة وخاطئة بالاضافة إلى الأعيان المتنجسة ، فلنا دعويان : الاولى : أنّ الثمرة لا تظهر في الأعيان النجسة بين كون مفهوم قولهم عليهم‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء » (١) موجبة كلية أو جزئية. الثانية : أنّها تظهر في الأعيان المتنجسة بين الأمرين.

أمّا الدعوى الاولى : فلأ نّه إذا ثبت انفعال الماء القليل بملاقاة عين النجس في الجملة ثبت انفعاله بملاقاة جميع أنواعها ، لعدم القول بالفصل بينهما جزماً ، وأنّ التفكيك بينها في ذلك خلاف المرتكز العرفي ، ومن الطبيعي أنّ هذا الارتكاز قرينة عرفية على ذلك. فاذن لا تظهر ثمرة بين وجهة نظرنا في المقام ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّه بعدما ثبت من الخارج تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس بناءً على ضوء نظرية

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).


شيخنا الاستاذ قدس‌سره من استفادة العموم في جانب المفهوم. وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم استفادة العموم في جانب المفهوم وأ نّه موجبة جزئية فلا نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته ، وذلك لأنّ القدر المتيقن من المفهوم عندئذ هو تنجسه بملاقاة عين النجس فلا يدل على أزيد من ذلك ، والقول بعدم الفصل بين المتنجس والأعيان النجسة غير ثابت ، والتفكيك بينهما بالحكم بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة الأوّل وانفعاله بملاقاة الثاني ليس على خلاف الارتكاز العرفي ليتمسك به.

ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام من أنّه إذا دلّ دليل خارجي على تنجيس المتنجس لما لاقاه كفى ذلك في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس فلا حاجة حينئذ إلى التمسك بالمفهوم ، وإن لم يدل دليل من الخارج على ذلك فالمتنجس غير داخل في المنطوق فيختص المنطوق بالأعيان النجسة ، وعليه فلا يترتب على القول بكون المفهوم موجبةً كليةً الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته ، وجه الظهور : هو أنّه لو كان للدليل الخارجي إطلاق أو عموم فالأمر كما أفاده ( قدس الله سرّه ) حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو تنجيس المتنجس لما لاقاه مطلقاً ، أي سواء أكان ماءً أو كان غيره. وأمّا إذا افترضنا أنّه لا يدل إلاّعلى تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من دون أن يكون له إطلاق أو عموم ، فعندئذٍ يدخل المتنجس في موضوع ما يكون قابلاً لتنجيس ملاقيه ، فتدل الرواية بحسب المنطوق على عدم انفعال الكر بملاقاته.

وعلى هذا فلو قلنا بكون مفهوم الرواية موجبة كلية لدلت على انفعال الماء

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩.


القليل بملاقاة المتنجس كما تدل على انفعاله بملاقاة الأعيان النجسة ، وإلاّ فهي ساكتة عن حكم ملاقاته له فلا بدّ فيه من التماس دليل آخر ، والقول بعدم الفصل بين أفراد ملاقي المتنجس غير ثابت ليتمسك به.

وإن شئت قلت : إنّ ما دلّ على تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من غير دلالته على تنجيس الماء القليل بملاقاته بالخصوص أو العموم لا يمكن التعدي عن مورده المتيقن إلى غيره من الموارد بعدم القول بالفصل ، بدعوى أنّه إذا ثبت تنجيس المتنجس لملاقيه في موردٍ ثبت في جميع الموارد من دون فرق بين أقسام ملاقيه في ذلك ، كما أنّه لم يثبت القول بعدم الفصل بين أنواع المتنجس وأفراده ، والثابت إنّما هو القول بعدم الفصل بين أنواع النجس فحسب.

وعلى هذا الضوء تترتب ثمرة مهمة على هذا البحث ـ أي البحث عن كون مفهوم القضية الكلية كالرواية المتقدمة قضية كلية أو جزئية ـ حيث إنّه على الأوّل تدل الرواية على انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس دون الثاني.

[ تعدد الشرط واتحاد الجزاء ]

الرابع : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قضيتي : إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر ، فبناءً على ضوء دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاخرى ، وعليه فيقع الكلام في طريق علاج هذه المعارضة وقد ذكر لذلك طرق أربعة :

الأوّل : أن يلتزم بعدم دلالتهما على المفهوم ، نظراً إلى أنّ دلالة القضية


الشرطية على المفهوم تقوم على أساس دلالتها على العلية المنحصرة ، وحيث إنّ العلة في مفروض المقام لم تكن منحصرةً ، فلا مقتضي لدلالتها على المفهوم أصلاً. وقد اختار هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بدعوى أنّه مما يساعد عليه العرف.

الثاني : أن يلتزم في هذه الموارد أنّ الشرط هو عنوان أحدهما الذي هو نتيجة العطف بكلمة « أو » وعليه فان كان لهما جامع ذاتي فذلك الجامع الذاتي هو الشرط في الحقيقة ، وإن لم يكن لهما جامع كذلك فالجامع الانتزاعي هو الشرط فيها ، ونتيجة ذلك : هي ترتب وجوب القصر على خفاء أحدهما وإن لم يخف الآخر.

الثالث : أن يلتزم بأنّ الشرط هو المركب من الأمرين الذي هو نتيجة العطف بكلمة « واو » لا كل واحد منهما مستقلاً ، وعلى هذا فاذا خفيا معاً وجب القصر وإلاّ فلا وإن فرض خفاء أحدهما.

الرابع : أن يلتزم بتقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر من دون تصرف في شيء من المنطوقين. فهذه هي الوجوه المتصورة في هذه الموارد.

نعم ، ذكر المحقق النائيني قدس‌سره (٢) وجهاً خامساً وهو أن يكون كل منهما شرطاً مستقلاً ثمّ قال : وعليه يترتب لزوم تقييد إطلاق كل من الشرطين المذكورين في القضيتين باثبات العدل له فيكون وجود أحدهما كافياً في ثبوت الجزاء.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩.


ولكن غير خفي أنّ هذا الوجه بعينه هو الوجه الثاني فليس وجهاً آخر في قباله كما هو ظاهر. وبعد ذلك نقول :

أمّا الوجه الرابع : فبظاهره غير معقول إلاّ أن يرجع إلى الوجه الثاني ، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، وعليه فلا يعقل التصرف فيه بتقييد أو تخصيص من دون التصرف في المنطوق أصلاً ، بداهة أنّ مردّ ذلك إلى انفكاك اللازم من الملزوم والمعلول عن العلة وهو مستحيل. وعلى الجملة : فقد عرفت أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم إنّما هي بدلالة التزامية على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة بما أنّها دلالة قهرية ضرورية لدلالة القضية على المنطوق ، فلا يمكن رفع اليد عنها والتصرف فيها من دون رفع اليد والتصرف في تلك ، فاذن لا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني. وعليه فالوجوه المعقولة في المسألة ثلاثة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه الوجوه :

أمّا الوجه الأوّل : وهو الالتزام برفع اليد عن المفهوم فيهما معاً فيردّه : أنّه بلا مقتضٍ وموجب ، بداهة أنّ الضرورة تتقدر بقدرها ، ومن الطبيعي أنّ الضرورة لا تقتضي رفع اليد عن مفهوم كلتا القضيتين معاً والالتزام بعدم دلالتهما عليه أصلاً ، بل غاية ما تقتضي هو رفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بالاخرى بمثل العطف بكلمة « أو » او بكلمة « واو » وبه تعالج المعارضة بينهما ويدفع التنافي بينهما رأساً ، وعليه فكيف يساعد العرف على هذا الوجه.

وسيأتي بيانه بشكل موسّع من دون موجب للالتزام بعدم المفهوم في ضمن البحوث التالية.


وأمّا الوجه الثاني : وهو أن يكون الشرط عنوان أحدهما في الحقيقة ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ العقل يعيّن هذا الوجه وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه هذا : أنّ الامور المتباينة المتعددة بما هي كذلك لا يعقل أن تؤثر أثراً واحداً ، وذلك لاستحالة صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير ، لاستلزام ذلك اجتماع علل مستقلة على معلول واحد وهو محال ، وقد تقدم بيان ذلك بشكل موسّع في ضمن بحوث الجبر والتفويض ، وحيث إنّ المعلول في المقام واحد وهو وجوب القصر ، فلا يعقل أن يكون المؤثر فيه الشرطين المذكورين في القضيتين على نحو الاستقلال ، وإلاّ لزم تأثير الكثير في الواحد وهو مستحيل. فاذن بطبيعة الحال يكون الشرط هو الجامع بينهما بقانون أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بهذا الوجه وإن كان مخالفاً لما هو المرتكز في أذهان العرف من أنّ كل واحد منهما بعنوانه الخاص وإطاره المخصوص شرط ومؤثر فيه ، إلاّ أنّ هذا الارتكاز العرفي إنّما يكون متبعاً فيما أمكن الالتزام به ، لا في مثل المقام حيث قد عرفت استحالة كون كل منهما بعنوانه الخاص شرطاً ومؤثراً. ثمّ بعد ذلك ذكر بقوله : وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلاّبدليل آخر ، إلاّ أن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا ما أفاده من أنّ قاعدة الواحد لايصدر إلاّمن الواحد ويستحيل صدوره عن الكثير فيرد عليه :

أوّلاً : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ هذه القاعدة إنّما تتم في الواحد الشخصي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠١ لكن قوله : وأمّا رفع ... لا توجد في طبعة المؤسّسة.


الحقيقي حتى يكشف عن جامع وحداني كذلك ، ولا تتم فيما إذا كانت وحدة المعلول اعتبارية ، فانّه لا يكشف إلاّعن وحدة كذلك ، ومن المعلوم أنّ وحدة الجزاء في المقام وحدة اعتبارية لا حقيقية ، وعليه فلا يكشف عن جامع واحد ذاتي.

وثانياً : أنّه لا شمول ولا عموم لتلك القاعدة بالاضافة إلى جميع الأشياء بشتى ألوانها وأشكالها ، بل إنّ لها إطاراً خاصاً وموضعاً مخصوصاً وهو إطار سلسلة العلل والمعاليل الطبيعيتين ، دون إطار سلسلة الأفعال الاختيارية ، وقد تقدّم (١) الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين في ضمن نقد مذهب التفويض بشكل موسّع وقلنا هناك باختصاص القاعدة بالسلسلة الاولى فحسب دون الثانية ، وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر وليست بامور تكوينية ، وأ نّها فعل اختياري للشارع وصادرة منه باختياره وإعمال قدرته ، وليس للُامور الخارجية دخل وتأثير فيها أصلاً ، وإلاّ لكانت اموراً تكوينية بقانون التطابق والسنخية. نعم ، لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ولكن هذه الاستحالة إنّما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك المعلول عن العلة التامة ، لفرض أنّه ليس لها أيّ تأثير في الأحكام أبداً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ ما نحن فيه ليس من موارد تلك القاعدة في شيء ليتمسك بها لاثبات أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين ، وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما ، يمكن أن يكون الشرط هو مجموعهما

__________________

(١) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٤.


من حيث المجموع.

وثالثاً : أنّه قد لا يعقل الجامع الماهوي بينهما ، وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر من مقولة اخرى ، فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي ، لاستحالة وجود الجامع كذلك بين المقولتين.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : إلاّ أن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر ، فلعله سهو من قلمه الشريف ، وذلك لأن مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين ، وذلك لأنّ التنافي إنّما هو بين مفهوم كل واحدةمنهما ومنطوق الاخرى ، ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب إنّما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق الاخرى ، وأمّا التنافي بين مفهوم الاخرى ومنطوق تلك باقٍ على حاله ، ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أنّه ضرب في النسخة المصححة خط المحو على هذه العبارة.

لحدّ الآن قد تبين أنّ ما تمسك به المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره لاثبات كون الشرط هو الجامع بين الأمرين غير تام ، هذا.

وقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ الشرط هو مجموع الأمرين لا كل واحد منهما ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه : التحقيق أنّ دلالة كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه إنّما هي بالاطلاق المقابل بالعطف بالواو ، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الاطلاق المقابل للعطف بأو ، وبما أنّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، يسقط كلاهما عن الحجية ، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير. وأمّا في فرض انفراد كل من


الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه ، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض ، لسقوط الاطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي ، فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل بالعطف بالواو.

وأمّا ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن خصوص الاطلاق المقابل بالعطف بأو ، لكونه متاخراً في الرتبة عن الاطلاق المقابل بالعطف بالواو ، ضرورة أنّ انحصار الشرط متأخر رتبة عن تعينه وتشخصه ، فيدفعه : أنّ تقدم أحد الاطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر ، لأنّ الموجب لرفع اليد عن الاطلاقين إنّما هو وجود العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما ، ومن الواضح أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره هو أنّ الاطلاقين بما أنّه لا يمكن الأخذ بكليهما معاً من ناحية العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معاً ، فلا يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو إطلاق ليتمسك به لاثبات الجزاء ، وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج. فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وبما أنّ وجوب القصر في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام ، لفرض شك المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر ، ومعه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام. وإن شئت قلت : إنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.


لا شبهة في وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الأذان والجدران معاً ، كما أنّه لا إشكال في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محل الكلام ولا إشكال فيهما ، وإنّما الاشكال والكلام في الصورة الثالثة وهي ما إذا خفي أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما أنّ إطلاق كل منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فبطبيعة الحال ينتهي الأمر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب بقاء وجوب التمام ، للشك في بقائه وتبدله بالقصر. فاذن النتيجة هي نتيجة التقييد بالعطف بالواو.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره صغرى وكبرى :

أمّا بحسب الصغرى : فلأنّ مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده قدس‌سره من الكبرى وهي الرجوع إلى الأصل العملي ، بل هو من صغريات كبرى اخرى وهي الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق ، فلنا دعويان : الاولى أنّ المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي. الثانية : أنّه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ وجوب القصر وجواز الافطار في حال السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنّة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ السفر المأخوذ في موضوعهما أمر عرفي وهو بهذا المعنى العرفي مأخوذ فيه على الفرض. ومن ناحية ثالثة : أنّه لا شبهة في صدق عنوان المسافر على من خرج من البلد قاصداً السفر ولا يتوقف هذا الصدق على وصوله إلى حدّ الترخص.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً ولو قبل وصوله إلى حدّ الترخص أي


بمجرد صدق عنوان المسافر عليه ، ولكن قد قيّد هذا المطلق في عدّة من النصوص به ، يعني حدّد وجوب القصر وجواز الافطار فيها بخفاء الأذان والتواري عن الجدران الذي عبّر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران ، نظراً إلى أنّه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران إلاّبخفائها وإلاّ فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب.

فالنتيجة : أنّ هذه الروايات توجب تقييده بما ذكر ، وعليه فما لم يصل المسافر إلى حدّ الترخص لم يجب عليه التقصير. وعلى ضوء هذا البيان فاذا خفي أحدهما دون الآخر فالمكلف وإن شكّ في وجوب القصر وجواز الافطار إلاّ أنّ المرجع فيه ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء التمام ، بل المرجع الأصل اللفظي وهو الاطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ المورد داخل في كبرى الرجوع إلى الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيّناه في الدعوى الاولى ، وتوضيحه : هو أنّ القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدالة على وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً ، حيث إنّ الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الافطار ، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها ، ومعه لا مناص من الرجوع إليها لاثبات وجوب القصر وجواز الافطار ، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الاطلاقين من ناحية المعارضة ، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الكبرى لا ينطبق على المقام.


نعم ، إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم الابتدائي تمّ ما أفاده قدس‌سره ، وذلك كما إذا ورد في دليل : إذا خفي الأذان فتصدق ، وورد في دليل آخر : إذا خفي الجدران فتصدق ، وبما أنّه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين معاً للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان ، فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي ، وهو أصالة البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر ، لا في مثل المقام حيث إنّهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والاطلاق ، فحينئذ لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم والاطلاق كما عرفت.

وأمّا بحسب الكبرى : فالصحيح أنّ القاعدة تقتضي تقييد الاطلاق المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره والسبب في ذلك : هو أنّه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين ، ضرورة أنّ وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضاً ، لفرض أنّ ثبوت حكم لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وكذا لا منافاة بين مفهوميهما ، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ليكون بينهما تناف.

فالنتيجة : أنّ المنافاة إنّما هي بين إطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الاخرى مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم ، ولذا لو كان الوارد في الدليلين : إذا خفي الأذان فقصّر ، ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران ، كان بين ظهور القضية الاولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، فانّ مقتضى إطلاق مفهوم الاولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن فرض خفاء الجدران ، ومقتضى القضية


الثانية وجوب القصر في هذا الفرض.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المعارضة في مورد الكلام إنّما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه ، فاذن لا بدّ لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوهاً :

الأوّل : ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وهو رفع اليد عن مفهوم إحداهما دون الاخرى.

وفيه : ما عرفت من أنّه لا تعارض بين المفهومين حتى يعالج بذلك ، ومن هنا قلنا إنّ هذا سهو من قلمه قدس‌سره.

الثاني : ما تقدم من شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهو رفع اليد عن كلا الاطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي.

أقول : إنّ ما أفاده قدس‌سره وإن أمكن علاج المعارضة به ، إلاّ أنّ الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين ، والسبب في ذلك هو أنّه إذا أمكن في موردٍ علاج المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه ليس معهوداً ومرتكزاً بينهم ، وبما أنّ ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا يمكن المساعدة عليه ، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً وهو ما إذا ورد الأمر باكرام العلماء الظاهر في وجوب إكرامهم ، ثمّ ورد في دليل آخر أنّه لا يجب إكرام زيد العالم ، فانّ التنافي بينهما وإن كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل العام على الاستحباب إلاّ أنّه بلا مقتض ، حيث إنّ العرف لا يساعد على ذلك ، فانّ الموجب للتنافي في المقام ليس إلاّظهور الدليل الأوّل في العموم ، ومن

__________________

(١) في ص ٢٤٢.


المعلوم أنّ المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالدليل الثاني ، لا حمل الأمر في الدليل الأوّل على الاستحباب فانّه خارج عن المرتكز العرفي.

وعلى الجملة : فالتنافي في المثال المزبور إنّما هو بين ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مراداً ، ولا تنافي بين ظهور الخاص في التخصيص به وبين ظهور الأمر في طرف العام في الوجوب مع قطع النظر عن ظهوره في العموم ، وعليه فبطبيعة الحال يحمل العام على الخاص نظراً إلى أنّ ظهوره أقوى منه فيكون قرينةً عليه عرفاً ، كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر. وأمّا التصرف في ظهور الأمر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو بلا ضرورة تستدعيه وإن كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل أحدهما على التقية ، مع أنّه لم يقل به أحد فيما نعلم ، أو بحمل الخاص على أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ كل ما يمكن به دفع التنافي والتعارض بين الدليلين لا يمكن الأخذ به ما لم يساعد عليه العرف. وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام من رفع اليد عن كلا الاطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لأنّ التعارض وإن كان يُدفع بما ذكره قدس‌سره إلاّ أنّك عرفت أنّ كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن الأخذ به إلاّفيما إذا ساعد عليه العرف ، يعني يكون الجمع بينهما جمعاً عرفياً ، ومن الطبيعي أنّ رفع اليد عن كلا الاطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شيء.


والسبب في ذلك : هو ما تقدم من أنّ التعارض بينهما إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاخرى وإن افترض عدم دلالتها على المفهوم ، فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصّر ، ويجب التقصير عند خفاء الجدران ، لكان بين ظهور القضية الاولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، وحيث إنّ نسبة المنطوق إلى المفهوم نسبة الخاص إلى العام ، فبطبيعة الحال يقيّد إطلاقه به ، وبما أنّ التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن ، لما عرفت من أنّه لازم عقلي له ، فيدور مداره سعةً وضيقاً ، فلا يمكن انفكاكه عنه ولو بالاطلاق والتقييد ، فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ التصرف في إطلاق مفهوم كل من القضيتين بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في إطلاق منطوق كل منهما بنتيجة العطف بكلمة « أو » ولازم ذلك هو أنّ الشرط أحدهما ، والسر فيه : هو أنّنا إذا قيّدنا إطلاق مفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا خفي الأذان فقصّر » بمنطوق قوله عليه‌السلام : « إذا خفى الجدران فقصّر » (١) وبالعكس ، أي تقييد إطلاق مفهوم القضية الثانية بمنطوق القضية الاولى ، فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير إلاّ إذا خفي أحدهما ، وهذا معنى أنّ ذلك نتيجة تقييد إطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة « أو » وأمّا التقييد بالعطف بكلمة « واو » فلا مقتضي له أصلاً وإن كان يرتفع به التعارض.

وقد تحصّل من ذلك عدة امور :

الأوّل : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام خاطئ صغرى وكبرى فلا واقع موضوعي له.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ( نقل بالمضمون ).


الثاني : أنّ ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في أمثال المقام دون غيره.

الثالث : أنّ الجمع بين ظواهر الأدلة لا بدّ أن يكون في إطار مساعدة العرف عليه وإلاّ فهو غير مقبول.

الرابع : أنّ التعارض في محل الكلام إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاخرى.

الخامس : أنّ نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الاخرى نسبة العموم المطلق.

السادس : أنّ التصرف في المفهوم لا يمكن بدون التصرف في المنطوق.

[ تداخل الأسباب والمسببات ]

الأمر الخامس : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وثبت من الخارج أو من نفس ظهور القضيتين أو القضايا كون كل شرط مستقلاً في ترتب الجزاء عليه ، فهل القاعدة في مثل ذلك تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها أثراً واحداً أو لا؟ مثلاً إذا اجتمع أسباب عديدة للوضوء أو الغسل في شخص واحد كالنوم والبول وخروج الريح والجنابة ومسّ الميت والحيض وما شاكل ذلك فهل تستدعي أثراً واحداً أو متعدداً ، وعلى تقدير اقتضائها التعدد فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء أو لا؟ ونقصد بتداخل الجزاء الاكتفاء بوضوء واحد أو غسل في مقام الامتثال ، وبعدم تداخله عدم الاكتفاء به في هذا المقام ، بل لا بدّ من الاتيان به متعدداً حسب تعدد الشرط.

وبعد ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في مقامين : الأوّل : في تداخل الأسباب. الثاني : في تداخل المسببات. وقبل البحث عنهما ينبغي تقديم خطوط تالية :


الأوّل : أنّ الكلام في التداخل أو عدمه إنّما هو فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك وإلاّ فهو خارج عن محل الكلام ، كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أنّه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه إلاّوضوء واحد ، وكذا الحال في الغسل. ومنشأ هذا العلم هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين.

أمّا في باب الوضوء ، فلأنّ الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل : « لا ينقض الوضوء إلاّحدث » (١) وما شاكل ذلك ، ومن الطبيعي أنّ صفة النقض لاتقبل التكرر والتكثر ، وعليه فبطبيعة الحال يكون المتحصّل من نصوص الباب أنّ أسباب الوضوء إنّما تؤثر في وجود صفة واحدة وهي المعبّر عنها بالحدث ، إن اقترنت أثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد منها جزء السبب لاتمامه ، وإن ترتبت تلك الأسباب استند الأثر إلى المتقدم منها دون المتأخر كما هو الحال في العلل المتعددة التي لها معلول واحد. فالنتيجة على ضوء هذا البيان : أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسببات.

وأمّا في باب الغسل ، فلأنّ الوارد في لسان عدة من رواياته هو إجزاء غسل واحد عن المتعدد كصحيحة زرارة « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فاذا اجتمعت عليك حقوق ( الله ) أجزأها عنك غسل واحد ـ ثمّ قال ـ وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (٢) وموثقته عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا حاضت المرأة وهي جنب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.


أجزأها غسل واحد » (١) وصحيحة شهاب بن عبد ربّه قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتاً ، له أن يأتي أهله ثمّ يغتسل؟ فقال : سواء ، لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده وتوضأ وغسل الميت وهو جنب. وإن غسل ميتاً توضأ ثمّ أتى أهله ويجزئه غسل واحد لهما » (٢) ونحوها غيرها.

فالنتيجة : أنّ المستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسببات لا في الأسباب ، هذا فيما إذا علم بالتداخل في الأسباب أو المسببات. وأمّا إذا لم يعلم بذلك كما إذا أفطر الصائم مثلاً في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع أو نحو ذلك مرات عديدة فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة ، وسيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى (٣).

الثاني : إذا فرض أنّه لا دليل على التداخل ولا على عدمه فما هو قضية الأصل العملي ، فهل هي التداخل أو عدمه أو التفصيل بين الأسباب والمسببات ، يعني يقتضي التداخل في الاولى دون الثانية؟ وجوه.

الصحيح هو الوجه الأخير ، وهو التفصيل بينهما ، والسبب في ذلك : هو أنّ مردّ الشك في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشك في ثبوت تكليف زائد على التكليف الواحد المتيقن ، ومن الطبيعي أنّ مقتضى الأصل عدمه ، ومثال ذلك :

ما إذا علم المكلف بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه كما إذا بال أو نام ولكن شك في ثبوته زائداً على هذا المتيقن كما إذا بال أو نام مرّةً ثانية ، فحينئذ

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٣.

(٣) في ص ٢٦٩.


لا محالة يكون مقتضى الأصل عدم ثبوته ، وهذا بخلاف الشك في تداخل المسببات ، فانّه حيث إنّا نعلم بتعدد التكليف هناك والشك إنّما هو في سقوط كلا التكليفين بسقوط أحدهما بالامتثال ، فبطبيعة الحال يكون مقتضى الأصل عدم سقوطه.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه في كلا الموردين لا يفرق فيه بين الأحكام الوضعية والتكليفية ، لوضوح أنّ الشك إذا كان في وحدة الحكم وتعدده عند تعدد شرطه فمقتضى الأصل عدم تعدده ، يعني عدم حدوث حكم آخر زائداً على المتيقن ، ومن المعلوم أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون المشكوك حكماً تكليفياً أو وضعياً ، كما أنّه إذا شك في سقوطه بعد العلم بثبوته فمقتضى الأصل عدم سقوطه ، ولا يفرق فيه أيضاً بين كونه حكماً تكليفياً أو وضعياً.

فالنتيجة : أنّ مقتضى الأصل العملي هو التداخل في موارد الشك في تأثير الأسباب وعدم التداخل في موارد الشك فيه في المسببات. ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّه لا ضابط كلي لجريان الأصل في موارد الأحكام الوضعية فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع فيه إلى ما يقتضيه الأصل لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما عرفت من أنّه لا فرق في جريانه في كلا المقامين بين الحكم التكليفي والوضعي أصلاً.

الثالث : أنّ محل الكلام في تداخل الأسباب أو المسببات إنّما هو فيما إذا كان الجزاء قابلاً للتعدد كالوضوء أو الغسل أو ما شاكل ذلك ، وأمّا إذا لم يكن قابلاً لذلك فهو خارج عن محل الكلام ، كالقتل فانّ مَن يستحق ذلك بارتداد أو نحوه فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب أو المسببات فيه وفي أمثاله. نعم ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤.


قد يكون قتله مورداً لحقوق متعددة متباينة كما إذا افترض أنّه قتل عدّة أشخاص متعمداً ، فانّه يثبت لولي كل من المقتولين حق قتله على نحو الاستقلال ، فلو أسقط أحد الأولياء حقه لم يسقط حقّ الآخرين فلهم اقتصاصه.

نعم ، لو اقتصه أحدهم سقط حقّ الباقين قصاصاً بسقوط موضوعه ، ولكن لهم عندئذ أن يأخذوا الدية من أمواله ، هذا بالاضافة إلى حقوق الناس.

وكذلك الحال بالاضافة إلى حقوق الله كما إذا افترضنا أنّ أحداً زنى بأحد محارمه كاخته أو امّه أو بنته أو ما شاكل ذلك مرّتين أو أزيد ، فانّه بطبيعة الحال لا يترتب على الزنا في المرّة الثانية إلاّتأكد الجزاء حيث إنّ القتل غير قابل للتعدد.

ثمّ إنّه ربما لا يكون الجزاء قابلاً للتأكد أيضاً كاباحة شيء مثلاً أو طهارته ، نظراً إلى أنّ الطهارة كالاباحة غير قابلة للشدة والتأكد فضلاً عن الزيادة ، مثلاً إذا غسل الثوب المتنجس في الماء الكر وطهر فلا أثر لغسله ثانياً في الماء الجاري ولا يوجب ذلك تأكد طهارته وشدتها ، وكذا إذا افترضنا إباحة شيء بعدة أسباب مجتمعة عليه دفعيةً أو تدريجية كاجتماع الاكراه والاضطرار وما شاكلهما في مادة شخص واحد حيث إنّه لا يوجب شدة إباحة الفعل المضطر إليه أو المكره عليه على الرغم من كون كل واحد منها سبب تام لذلك.

الرابع : ما نسب إلى فخر المحققين (١) من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات ، فعلى الأوّل لا يمكن القول بالتداخل ، وعلى الثاني لا مانع منه حيث إنّ اجتماع معرّفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح.

__________________

(١) نسبه إليه في مطارح الأنظار : ١٧٥.


وغير خفي أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب فيه : أنّه إن اريد بكونها معرّفات أنّها غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول ، فهو وإن كان متيناً جداً ، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من أنّه لا دخل للُامور التكوينية في الأحكام الشرعية أصلاً ، ولا تكون مؤثرةً فيها كتأثير العلة في المعلول وإلاّ لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الامور التكوينية ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخية ، والحال أنّ الأمر ليس كذلك ، بداهة أنّ وجوب صلاتي الظهرين مثلاً ليس معلولاً لزوال الشمس وإلاّ لكان معاصراً له من ناحية وأمراً تكوينياً من ناحية اخرى بقانون التناسب. وكذا الحال في وجوب صلاتي المغرب والعشاء فانّه ليس معلولاً لغروب الشمس ، ووجوب صلاة الفجر فانّه ليس معلولاً لطلوع الفجر ، ووجوب الحج فانّه ليس معلولاً للاستطاعة ونحوها ، ووجوب الصوم فانّه ليس معلولاً لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.

وعلى الجملة : فالأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية فرفعها ووضعها بيد الشارع وفعل اختياري له ، ولا يؤثر فيها شيء من الامور الطبيعية. نعم ، الملاكات الموجودة في متعلقاتها وإن كانت اموراً تكوينية إلاّ أنّ دخلها في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها ، بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إيّاها. أو فقل إنّها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها كبقية الدواعي للأفعال الاختيارية ، لا أنّها تؤثر في نفسها. فان اريد من كون الأسباب الشرعية معرّفات ذلك فهو وإن كان متيناً من هذه الناحية إلاّ أنّه يرد عليه من ناحية اخرى ، وهي أنّه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعية وكونها معرّفات ، بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها ، يعني أنّ الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والانشاء


على نحو القضية الحقيقية ، مثلاً أخذ الشارع زوال الشمس مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة ، وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج وهكذا ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ عدم دخل الأسباب الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها معرّفات محضة ، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك الموضوعات ، ولا تنفك عنها أبداً ، ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه الناحية ، أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.

وإن اريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات الأحكام في الواقع ، ولا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه ، مثلاً عنوان الافطار في نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعاً لوجوب الكفارة ، بل هو معرّف لما هو الموضوع له في الواقع. وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم وما شاكلهما ، فانّ هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها موضوعات للأحكام بل هي معرّفات لها ، ومن الطبيعي أنّه لا مانع من اجتماع معرّفات متعددة على موضوع واحد.

فيرد عليه : أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه إلاّ أنّ ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك ، حيث إنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام ، لا أنّها معرّفات لها ، فالحمل على المعرّف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن. وعلى الجملة : فالظاهر من الدليل عرفاً أنّ عنوان


الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة ، لا أنّه معرّف لما هو الموضوع له واقعاً ، وكذا عنوان البول والنوم ونحوهما.

وإن اريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعية ، ففيه : أنّها ليست بكاشفة عنها بوجه ، فانّ الكاشف عنها إجمالاً إنّما هو نفس الحكم الشرعي ، وأمّا ما سمي سبباً له فلا يكون بكاشف عنها أصلاً.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً. هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الأحكام وشرائطها كما هو كذلك. وأمّا لو اريد بها ملاكاتها الواقعية فالأمر في غاية الوضوح حيث إنّه لا معنى لدعوى كونها معرّفات كما هو ظاهر.

الخامس : أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الشرط قابلاً للتعدد والتكرر ، وأمّا إذا لم يكن قابلاً له فهو خارج عن محل الكلام ، لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه ، وذلك كالافطار متعمداً في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة ، حيث إنّه من العناوين التي لا تقبل التعدد والتكرر ، فلو أكل الصائم عالماً عامداً في نهار شهر رمضان مرّةً واحدةً صدق عليه عنوان الافطار العمدي ، وأمّا إذا أكل بعده مرّةً ثانيةً فلا يصدق عليه هذا العنوان ، وبما أنّ موضوع وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات (١) هو عنوان الافطار دون الأكل أو الشرب ، فبطبيعة الحال لا يجري فيه النزاع المتقدم ، ومن هنا لو أكل أو شرب في نهار شهر رمضان مرّات عديدة لم يجب

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨.


عليه إلاّكفارة واحدة. نعم ، في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما ، نظراً إلى أنّ الجماع والاستمناء بعنوانهما قد اخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات (١) ، ومن الطبيعي أنّها تتعدد بتعددهما خارجاً.

وبكلمة اخرى : أنّ غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما أنّها لم تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأوّلية وإنّما اخذت فيه بعنوان المفطر فمن الطبيعي أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب في نهار شهر رمضان ، باعتبار أنّ الصوم قد افطر ونقض به فلا يصدق هذا العنوان على وجوده الثاني ، لوضوح أنّ ما نقض غير قابل للنقض مرّةً ثانية ، وإن كان الامساك بعد النقض والافطار أيضاً واجباً عليه إلاّ أنّه ليس بعنوان الصوم الواجب ، ومن هنا يجب قضاؤه ولا يكون الامساك المزبور مجزئاً عنه.

فالنتيجة : أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث وهكذا ، ولذا لا تتعدد الكفارة بتعدده ، وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث إنّ المأخوذ في لسان الرواية عنوان إتيان الأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما من العناوين القابلة للتعدد والتكرر خارجاً ، وعليه فلا محالة تتعدد الكفارة بتعددهما ، فلو أتى أهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعدداً وجبت عليه الكفارة كذلك ، هذا.

ولكنّ السيد الطباطبائي صاحب العروة قدس‌سره (٢) قال في جواب بعض المسائل التي سئل عنها : إنّ الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والأكل ، بدعوى

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤.

(٢) [ ولكنه في العروة الوثقى ١ : ٣٣ المسألة ٢ [٢٤٧١] حكم بوحدة الكفارة في غير الجماع ].


أنّ عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن تكون له خصوصية ، فأخذه في لسان الروايات إنّما هو بعنوان المعرّف لما هو الموضوع له واقعاً ، ثمّ قال : وتدل عليه الروايات أيضاً.

وفيه : ما تقدم (١) من أنّ ظاهر الروايات هو أنّ عنوان الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة لا أنّه كناية عن الأكل والشرب ، فحمله على المعرّف والكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة على الفرض. وأمّا ما أفاده قدس‌سره من دلالة الروايات على ذلك فيردّه : أنّا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده قدس‌سره من الروايات الدالة على ذلك. وبعد ذلك نقول :

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو التداخل في الأسباب فيقوم على أساس أنّ القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل أو في عدمه ، فلو أتى المكلف أهله في نهار شهر رمضان مرّات عديدة ، فان قلنا بالأوّل لم تجب عليه إلاّ كفارة واحدة ، وإن قلنا بالثاني وجبت عليه كفارات متعددة.

وذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما إليك نصه : والتحقيق أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه ، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط ، كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقةً أو وجوداً محالاً ، ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل : إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، أو فيما إذا بال مكرراً أو نام كذلك ، محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح

__________________

(١) في ص ٢٥٩.


الاستحالة كالمتضادين ، فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرف فيه إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أنّه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط (١) إلاّ أنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها كما في : أكرم هاشمياً وأضف عالماً ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ، ضرورة أنّه بضيافته بداعي أمرين يصدق أنّه امتثلهما ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له امتثال كل منهما على حدة كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم غير الهاشمي (٢).

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

١ ـ أنّ القضية الشرطية في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط في القضية بنفسه سبباً للجزاء أو يكون كاشفاً عن السبب.

٢ ـ أنّ الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن ، نظراً إلى أنّ متعلق الجزاء بما أنّه حقيقة واحدة فلازم الأخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل كاجتماع المتضادين.

٣ ـ أنّه على القول بالتداخل لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، وإمّا أن يلتزم

__________________

(١) [ في المصدر إضافة قوله : متصادقة على واحد ، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددةحسب تعدد الشروط ... ].

(٢) كفاية الاصول : ٢٠٢.


بأنّ متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أنّه متعدد واقعاً.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط : أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة. وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها ـ مضافاً إلى ما سوف يأتي في ضمن البحوث التالية ـ ما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا مانع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد ، غاية الأمر أنّه يوجب التأكد والاندكاك وصيرورتهما حكماً واحداً مؤكداً. ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة حيث إنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، كما أنّه لا معنى لدعوى أنّ الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة في الواقع ونفس الأمر ، هذا.

ولشيخنا الاستاذ ( قدس‌سره ) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة وإليك نصه : والحق هو القول بعدم التداخل مطلقاً ، وتوضيح ذلك إنّما يتم ببيان أمرين :

الأوّل : ما تقدم سابقاً من أنّه لا إشكال في أنّ كل قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية ، كما أنّ كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد ، وإنّما الاختلاف في كيفية التعبير عنه ، وعليه فكما أنّ الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة ، إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له ، كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه ، لأنّ أدوات الشرط اسمية كانت أم حرفية إنّما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض ، فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من جهة الانحلال أصلاً ، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجوداً ، كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج.


وأمّا تعدد الحكم بتعدد شرطه جنساً فهو إنّما يستفاد من ظهور كل من القضيتين في أنّ كلاً من الشرطين مستقل في ترتب الجزاء عليه مطلقاً ، فانّ ظاهر قضية : إذا بلت فتوضأ ، هو أنّ وجوب الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلاً ، وكذلك ظاهر قضية : إذا نمت فتوضأ ، هو ترتب وجوب الوضوء على النوم ولو قارنه أو سبقه البول مثلاً ، فاطلاق كل من القضيتين يستفاد منه استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير ، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج ووجودهما فيه.

الثاني : أنّ تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلاّ إيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق ، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من وجودات الطبيعة ، يكون الاتيان به مجزئاً في مقام الامتثال عقلاً. وأمّا توهم أنّ ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات فهو فاسد ، إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادة ، ضرروة أنّ المادة لم توضع إلاّلنفس الماهية المعرّاة عن الوجود والعدم. وأمّا الهيئة فهي لا تدل إلاّعلى طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهراً على أوّل الوجودات ، وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادةً ، وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه ، بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلقه خارجاً ونقض عدمه المطلق ، فاذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما إيجاد تلك الماهية ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرتين ، كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين


بماهية واحدة ، فتعدد الايجاد تابع لتعدد الارادة تشريعيةً كانت أم تكوينية.

وبالجملة : أنّ كل أمر في نفسه لا يدل إلاّعلى الطلب المقتضي لايجاد متعلقه ، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدداً فليس في الأمر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعاً. نعم ، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد الطلب وقد فرض تعلق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحداً قهراً ، إلاّ أنّه من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه ، فاذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب ، أو فرض تعدد القضية الشرطية في نفسها ، كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب ـ أعني به عدم المقتضي للتعدد ـ ووارداً عليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، لكان ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد. فاذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب ، كان هذا الظهور لكونه لفظياً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب. ومن هنا يظهر الفرق بين المقام الذي التزمنا فيه بتعدد الطلب ، ومسألة تعلق الأمر بشيء واحد مرتين كما إذا قال المولى : صم يوماً ، ثمّ قال : صم يوماً ، التي التزمنا فيها بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم ، وذلك لأنّ ظهور الأمر الثاني في التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهوراً لفظياً ليكون قرينة على صرف ظهور وحدة المتعلق في وحدة الحكم ، بل هو من الظهورات السياقية ، فكما يمكن أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد ، كذلك يمكن أن تكون وحدة المتعلق قرينة على الوحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس ، ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد على المتيقن فتكون النتيجة نتيجة التأكيد. وهذا بخلاف المقام فان ظهور القضية الشرطية في تعدد الحكم بما أنّه ظهور لفظي


يكون رافعاً لظهور الجزاء في وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره نقطتان :

الاولى : أنّ القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه ، حيث إنّ الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه ، ولا شبهة في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه ، ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الأفراد أو الأجناس.

الثانية : أنّ تعلق الطلب بشي والبعث نحوه يقتضي إيجاده في الخارج ونقض عدمه ، فاذا فرض تعلق الطلب به ثانياً فهو يقتضي في نفسه إيجاده كذلك ، نظراً إلى أنّ تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو الفعل لا محالة. ودعوى أنّ متعلق الطلب والبعث بما أنّه صرف الوجود فهو غير قابل للتكرر ، وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب واحد ، بمعنى أنّ الطلب الثاني يكون مؤكداً للأوّل خاطئة جداً ، وذلك لأن متعلق الطلب والبعث إيجاد الطبيعة ، ومن المعلوم أنّ إيجادها يتعدد بتعدد وجوداتها في الخارج ، فيكون لكل وجود منها فيه إيجاد خاص فلا مانع من تعلق كل طلب بايجاد فرد منها ، ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني على التأكيد ، فانّه يحتاج إلى قرينة وإلاّ فكل بعث نحو فعلٍ يقتضي في نفسه انبعاث المكلف إلى إيجاده ، غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي إيجاده متعدداً فيكون إيجاد كل فرد متعلقاً لبعث ، كما هو مقتضى انحلال الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.

فالنتيجة على ضوء هاتين النقطتين : هي أنّه لا موضوع للتعارض بين ظهور

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩.


القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف ، حيث لا ظهور للجزاء في ذلك ، بل قد عرفت أنّ تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب ، فالحمل على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال ، كما إذا علم من الخارج أنّ الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الأمرين ، كما إذا كرّر نفس السبب في القضية الاولى مرّةً ثانية من دون التقييد بقيد كمرّةً اخرى أو نحوها ، مثل ما إذا قال المولى : إن جامعت فكفّر ثمّ قال : إن جامعت فكفّر ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون الأمر في القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس ، حيث إنّ ذكر سبب واحد لكليهما معاً قرينة على ذلك.

وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الأمر ظاهراً في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقان بطبيعة واحدة ، فاذا أتى المكلف بها مرّةً سقط أحدهما من دون تعيين ، وإذا أتى بها مرّةً ثانية سقط الآخر ، ونظير ذلك : ما إذا أتلف أحد درهماً من شخص واستقرض منه درهماً آخر ، فحينئذ الثابت في ذمته درهمان : أحدهما من ناحية الاتلاف والآخر من ناحية القرض ، فاذا أدّى أحد الدرهمين سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في أنّ الساقط هو الدرهم التالف أو الدرهم القرض ، حيث إنّه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف ثبوتهما ـ وهو الذمة ـ وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك ، ففي مثل ذلك لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين ، لفرض عدم واقع معيّن لهما حتى في علم الله تعالى. وكذا الحال فيما إذا كان مديوناً بصلاتين متماثلتين بناءً على عدم اعتبار الترتيب بينهما.

والنكتة في ذلك : أنّ ما ثبت في الذمة من تكليف كالصلاة والصوم ونحو


ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك ، فلا بدّ في مقام الوفاء من الاتيان بما ينطبق عليه ما له طابع خاص وإلاّ لم يف به ، كما إذا نذر صوم يومي الخميس والجمعة مثلاً حيث إنّ لكل منهما طابعاً خاصاً في الواقع فلا ينطبق على غيره. وأمّا إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شيء منهما ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله سبحانه باعتبار أنّه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذمة ، فعندئذ لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما لا بعينه من دون تمييز ، حيث لا يتوقف سقوطه على وجود ميز في الواقع.

ودعوى أنّه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال المقام ، فانّ الحكم بسقوط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجّح والحكم بسقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شيء منهما خاطئة جداً ، حيث إنّ المفروض أنّه لا تعيّن ولا ميز بينهما في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله تعالى ليقال إنّ الساقط هذا أو ذاك ، فانّ الاشارة تستدعي أن يكون بينهما ميز في الواقع ، وقد عرفت عدمه. فاذن لا محالة يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعيّن في الواقع لانطباقه على المأتي به في الخارج جزماً وهو واضح.

أمّا الكلام في المقام الثاني ـ وهو التداخل في المسببات ـ فلا شبهة في أنّ مقتضى القاعدة هو عدم التداخل ، لوضوح أنّ تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال ، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل ، حيث قد ثبت أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجباً. وأمّا فيما لم يقم


دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال ، كما إذا وجبت على المكلف كفارة متعددة من ناحية أنّه أتى أهله مثلاً في نهار شهر رمضان مرّات متعددة ، أو من ناحية اخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة واحدة عن الجميع حيث قد عرفت أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط التكاليف المتعددة بامتثال واحد.

نعم ، يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضيتي أكرم عالماً وأكرم هاشمياً ، فانّ مقتضى القاعدة فيه هو سقوط كلا التكليفين معاً باتيان المجمع وامتثاله ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ لانطباق متعلق كل منهما عليه ، ومن الطبيعي أنّه لا يعتبر في تحقق الامتثال عقلاً إلاّ الاتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.

وبكلمة اخرى : أنّ مقتضى إطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز امتثالهما منفرداً ومجتمعاً ، حيث إنّ إكرام العالم لا يكون مقيداً بغير الهاشمي وبالعكس ، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق كل منهما ، وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ المقام ليس من تأكد الحكم في مورد الاجتماع أصلاً كما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وذلك لأنّ التأكد في أمثال المقام إنّما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد الاجتماع ، كما إذا كان التكليف في كل من العامين من وجه انحلالياً ، فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلّقاً لكلا الحكمين معاً فيحصل التأكد بينهما فيصبحان حكماً واحداً مؤكداً ، لاستحالة بقاء كل منهما بحدّه ، وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدلياً كما هو المفروض في المقام ، فعندئذ لا يكون المجمع


بنفسه مورداً لكل من الحكمين ، بل هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما ، حيث إنّ متعلق التكليف في العموم البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات ، فالفرد المأتي به ليس بنفسه متعلقاً للأمر ليتأكد طلبه عند تعلق الأمرين به ، بل هو مصداق لما يتعلق به الطلب والأمر. فالنتيجة : أنّ التداخل في أمثال المقام على القاعدة فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة.

وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموماً من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقاً بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات ، أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك. والأوّل كالنسبة بين صوم الاعتكاف ، وصوم شهر رمضان أو قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه ، حيث إنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فاذا أتى المكلف بالمجمع بينهما فانّه يجزئ عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليه. والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب ، حيث إنّ الأمر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال باتيان المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب ، فانّها تجزئ عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليها ، وكذا الحال بين صلاة جعفر ونافلة المغرب.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط ، وأمّا انتفاء شخص الحكم المعلّق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم ، فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط. وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من المفهوم في شيء ، ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد من الجزاء


مدلولاً إسمياً أو حرفياً.

الثانية : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً ، كان تعدده على نحو التركيب أو التقييد.

الثالثة : أنّ الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلّق على الشرط قد يكون انحلالياً وقد يكون غير انحلالي ، وعلى الأوّل فهل مفهومه إيجاب جزئي أو كلي؟ اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الثاني ، والصحيح هو الأوّل وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسّع.

الرابعة : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه هو أنّ الشرط أحدهما ، حيث إنّها تقتضي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة أو.

الخامسة : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك ، وقد تقدم أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين ، فالتداخل يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.

السادسة : أنّ كون الأسباب الشرعية معرّفات لا يرجع عند التحليل إلى معنىً صحيح ومعقول.

السابعة : أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان كل من الشرط والجزاء قابلاً للتعدد والتكرر وإلاّ فلا موضوع لهذا البحث على ما عرفت بشكل موسّع.

الثامنة : أنّ مقتضى القاعدة التداخل في المسبب فيما إذا كانت النسبة بين


الدليلين عموماً من وجه وكان العموم فيهما بدلياً ، فانّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع يجزئ عن كلا التكليفين ، لانطباق متعلق كل منهما عليه.

مفهوم الوصف

لتنقيح محل النزاع ينبغي لنا تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ محل الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضية بأن يكون مذكوراً فيها كقولنا : أكرم إنساناً عالماً ، أو رجلاً عادلاً ، أو ما شاكل ذلك. وأمّا الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا : أكرم عالماً أو عادلاً أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم ، ضرورة أنّه لو كان داخلاً في محل الكلام لدخل اللقب فيه أيضاً ، لوضوح أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية ، فكما أنّ الأوّل لا يدل على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني ، ومجرد أنّ الوصف ينحل بتعمل من العقل إلى شيئين : ذات ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقية لا يوجب فارقاً بينه وبين اللقب في هذه الجهة ، حيث إنّ هذا الانحلال لا يتعدى عن افق النفس إلى افق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الاثبات والدلالة أصلاً ، حيث إنّ المذكور فيها شيء واحد وهو الوصف دون موصوفه.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالته على المفهوم ، والسبب فيه هو أنّ الحكم الثابت في القضية لعنوانٍ اشتقاقياً كان أو ذاتياً فلا تدل القضية إلاّعلى ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلاً فيه ، وأمّا انتفاؤه عن غيره فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة ، بل لو دلّ على المفهوم لكان


الوصف الذاتي أولى بالدلالة ، نظراً إلى أنّ المبدأ فيه مقوّم للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزماً ، وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي فانّ المبدأ فيه حيث إنّه خارجي غير مقوّم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بانتفائه. فالنتيجة أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف ، فانّ ملاك عدم الدلالة فيهما واحد.

الثاني : أنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا : أكرم إنساناً ضاحكاً وما شاكله ، واخرى يكون أعم منه مطلقاً كقولنا : أكرم إنساناً ماشياً ، وثالثةً يكون أخص منه كذلك كقولنا : أضف انساناً عالماً ، ورابعةً يكون أعم منه من وجه كقوله عليه‌السلام : « في الغنم السائمة زكاة » (١).

أمّا الأوّل والثاني : فلا إشكال في خروجهما عن محل النزاع والوجه فيه ظاهر ، وهو أنّ الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم ، حيث إنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وهذا فيما لا يوجب انتفاؤه انتفاء الموصوف ، والمفروض أنّ في هاتين الصورتين يكون انتفاؤه موجباً لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم.

وأمّا الثالث : فلا إشكال في دخوله في محل الكلام ، فانّ ما ذكرناه من الملاك لدلالته على المفهوم موجود فيه.

وأمّا الرابع : فهو أيضاً داخل في محل الكلام حيث إنّه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال المتقدم بخصوص السائمة ، فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه ، فلا زكاة في الغنم المعلوفة. نعم ، لا يدل على انتفائه عن غير

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١١٨ / أبواب زكاة الأنعام ب ٧ ( نقل بالمضمون ).


هذا الموضوع كالابل المعلوفة كما نسب ذلك إلى بعض الشافعية (١) فنفى وجوب الزكاة عن الابل المعلوفة استناداً إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على انتفاء حكمها ، يعني وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقاً ولو كان موضوعاً آخر ، ووجه عدم دلالته على ذلك واضح ، لما عرفت من أنّ معنى دلالته على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وأمّا غير المذكور فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفياً ولا إثباتاً ، فما نسب إلى بعض الشافعية لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

وبعد ذلك نقول : إنّ الصحيح هو عدم دلالة الوصف على المفهوم ، بيان ذلك : أنّ دلالة القضية على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وبما أنّ الوصف في القضية يكون قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم أصلاً ، فانّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على نفيه عن غيره ، ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل بوجه على نفيه عن غيره ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع شيئاً واحداً كاللقب أو كالوصف غير المعتمد على موصوفه أو يكون مقيداً بقيد كالموصوف المقيد بوصف خاص ، فانّ ملاك عدم الدلالة على المفهوم في الجميع واحد ، وهو أنّ ثبوت حكم لموضوع خاص وإن كان مركباً أو مقيداً لا يدل على نفيه عن غيره ، فلا فرق بين قولنا : أكرم رجلاً وأكرم رجلاً عادلاً ، حيث إنّهما يشتركان في نقطة واحدة وهي الدلالة على ثبوت الحكم لموضوع خاص ، غاية الأمر أنّ الموضوع في الجملة الثانية مقيد بقيد خاص فتدل على ثبوت الحكم له ولا تدل على نفيه عن غيره كما إذا كان الموضوع واحداً.

__________________

(١) المنخول : ٢٢٢.


ومن ضوء ذلك يظهر الفرق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية ، نظراً إلى أنّ الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم دون الموضوع فيكون الحكم معلّقاً عليه فلأجل ذلك تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط ، وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فانّه راجع إلى الموضوع فيها دون الحكم.

فالنتيجة أنّ دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أن يكون قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه وإلاّ فلا دلالة له عليه أصلاً.

ولكن مع ذلك قد يستدل على المفهوم بوجوه :

الأوّل : أنّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغياً وهو مستحيل في حقّ المتكلم الحكيم ، فاذن لا مناص من الالتزام بدلالته عليه.

ويرد عليه : أنّه مبني على إحراز أنّ الداعي للآتي به ليس إلاّدخله في الحكم نفياً وإثباتاً حدوثاً وبقاءً بمعنى أنّه علة منحصرة له ، فاذا كان كذلك فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه.

ولكن من المعلوم أنّ هذا الاحراز يتوقف أوّلاً : على كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وقد عرفت أنّ الأمر بالعكس تماماً.

وثانياً : على الالتزام بأنّ إثبات حكم لموضوع خاص يدل على انتفائه عن غيره ، وقد مرّ أنّه لا يدل على ذلك ، بل لا يكون فيه إشعار به فضلاً عن الدلالة.

وثالثاً : على أن لا يكون الداعي له أمراً آخر حيث إنّ فائدته لا تنحصر بما ذكر.

ورابعاً : على أنّه لا يكفي في الخروج عن كونه لغواً الالتزام بدلالته على اختصاص الحكم بحصة خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو الاطلاق ،


والمفروض أنّه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الالتزام بدلالته على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء ـ.

فالنتيجة : أنّ هذا الوجه ساقط فلا يمكن الاستدلال به على إثبات المفهوم للوصف.

الثاني : أنّ الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند الاطلاق.

ويرد عليه : أنّ مجرد الاشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لاثبات المفهوم جزماً ، حيث إنّه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون متبعة عندهم ، بل لا بدّ في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضية في كون الوصف علةً منحصرةً للحكم المذكور فيها ، ومن الطبيعي أنّ إثبات ظهورها في كونه علةً في غاية الاشكال بل خرط القتاد ، فما ظنك بظهورها في كونه علةً منحصرةً ، كيف حيث إنّ مردّ هذا الظهور إلى كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق وأ نّه يدور مداره وجوداً وعدماً وبقاءً وارتفاعاً ، وقد تقدم أنّ القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم. فالنتيجة أنّ مجرد الاشعار بالعلية غير مفيد وما هو مفيد ـ وهو الظهور فيها ـ فهو غير موجود.

الثالث : أنّ القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيد ، حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره ، وبدون توفر هذه النكتة لا موجب له ، ومن الطبيعي أنّ هذه النكتة بعينها هي نكتة دلالة الوصف على المفهوم.

ويرد عليه : أنّ نكتة حمل المطلق على المقيد غير تلك النكتة ، فانّها نكتة


دلالة القيد على المفهوم وقد عرفت عدم توفرها فيه وأ نّه لا يدل على المفهوم أصلاً. وأمّا حمل المطلق على المقيد فلا يتوقف على تلك النكتة ، فانّه على ضوء نظرية المشهور يتوقف على أن يكون التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصرف وجوده ، ففي مثل ذلك إذا تعلق التكليف في دليل آخر بحصة خاصة منه وعلم من القرينة أنّ التكليف واحد حمل المطلق على المقيد ، نظراً إلى أنّ المقيد قرينة بنظر العرف على التصرف في المطلق ، ومن المعلوم أنّه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم أي نفي الحكم عن غير مورده ، ضرورة أنّ المقيد لا يدل إلاّ على ثبوت الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه ، ومع ذلك يحمل المطلق على المقيد. وأمّا إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بمطلق وجوده المستلزم انحلاله بانحلال وجوداته وأفراده خارجاً ، ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك كما إذا ورد في دليل : أكرم كل عالم ، وورد في دليل آخر : أكرم كل عالم عادل ، فلا موجب لحمل الأوّل على الثاني أصلاً ، حيث إنّ النكتة التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أن يكون كل منهما واجباً ، غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل أفراد الواجب.

وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد بين ما كان التكليف واحداً أو متعدداً ، فأيضاً لا يتوقف هذا الحمل على دلالة القيد على المفهوم يعني نفي الحكم عن غير مورده ، بل يكفي فيه دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الاطلاق ، وسنبيّن إن شاء الله تعالى عن قريب أنّه لا شبهة في دلالته على ذلك كما أنّه لا شبهة في عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده.


وعلى الجملة : سوف نذكر في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله (١) أنّ ظهور المطلق في الاطلاق كما يتوقف حدوثاً على عدم دليل صالح للتقييد كذلك بقاءً ، حيث إنّ ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الواضح أنّها لا تجري مع وجود الدليل الصالح للتقييد ، والمفروض أنّ دليل المقيد يكون صالحاً لذلك عرفاً. ومما يدل على أنّ حمل المطلق على المقيد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم ، هو أنّه يحمل المطلق على المقيد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه ، كما إذا ورد في دليل : أكرم عالماً ، وورد في دليل آخر : أكرم فقيهاً ، يحمل الأوّل على الثاني مع أنّه لا يدل على المفهوم أصلاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ النكتة التي ذكرناها في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفاً ـ وهي تعليق الحكم فيها على الشرط تعليقاً مولوياً ـ غير متوفرة في القضية الوصفية ، حيث إنّ الحكم فيها غير معلّق على الوصف ، يعني أنّ الوصف ليس قيداً للحكم كالشرط بل هو قيد للموضوع أو المتعلق ، ومن المعلوم أنّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على انتفائه عن غيره. فما ذكرناه لحدّ الآن هو المعروف والمشهور بين الأصحاب في تقرير المسألة.

ولكنّ الصحيح فيها هو التفصيل ، بيان ذلك : أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم تارةً بمعنى أنّ تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على انتفاء الحكم عن غيره ، فلو ورد في الدليل : أكرم رجلاً عالماً يدل على انتفاء وجوب الاكرام عن غير مورده ، يعني عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر. واخرى بمعنى أنّ تقييده به يدل على عدم ثبوت الحكم له

__________________

(١) لاحظ ص ٥٣٦.


على نحو الاطلاق ، أو فقل : إنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الاطلاق وأ نّه غير ثابت له كذلك.

فإن كان النزاع في المعنى الأوّل فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى ، ضرورة أنّ قولنا : أكرم رجلاً عالماً لا يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى منه كالرجل العادل أو الهاشمي أو ما شاكل ذلك ، لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا : أكرم رجلاً عالماً ، وقولنا : أكرم رجلاً عادلاً مثلاً بنظر العرف أصلاً ، فلو دلت الجملة الاولى على المفهوم ـ أي نفي الحكم عن حصص اخرى منه ـ لكان بينهما تنافٍ لا محالة. وقد تقدم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسع.

وإن كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أنّه يدل على المفهوم بهذا المعنى. ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلقه إلاّ أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه ، ففي مثل قولنا : أكرم رجلاً عالماً ، يدل على أنّ وجوب الاكرام لم يثبت لطبيعي الرجل على الاطلاق ولو كان جاهلاً ، بل ثبت لخصوص حصة خاصة منه ـ وهي الرجل العالم ـ وكذا قولنا : أكرم رجلاً هاشمياً ، أو أكرم عالماً عادلاً وهكذا ، والضابط أنّ كل قيد اتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق ، يعني أنّ الحكم غير ثابت له إلاّمقيداً بهذا القيد لا مطلقاً ، وإلاّ لكان القيد لغواً ، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة.

والحاصل : أنّ مثل قولنا : أكرم رجلاً عالماً وإن لم يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى من الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك آخر ، إلاّ أنّه لا شبهة في دلالته على أنّ وجوب الاكرام غير ثابت لطبيعي الرجل على نحو الاطلاق.


فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر ، فقد عرفت أنّها لا تدل على ذلك بوجه ، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة. وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أنّها تدل على ذلك جزماً ، حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلاّفيما قامت قرينة على خلافه. ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه وغير المعتمد عليه كقولنا : أكرم عالماً مثلاً ، فانّه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإن انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم إلاّ أنّه لا أثر له في مقام الاثبات بعد ما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان : أحدهما موصوف والآخر صفة له.

ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها قد اهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً ، مع أنّ لها ثمرة مهمة في الفقه ، منها : ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث إنّ المشهور قد خصّوا تلك المسألة ـ فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين ـ بما إذا كان التكليف فيهما واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً فلا يحملوا المطلق على المقيد. وأمّا على ضوء ما ذكرناه من النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعدداً ، كما إذا ورد في دليل : لا تكرم عالماً ، وورد في دليل آخر : لا تكرم عالماً فاسقاً ، فانّه يحمل الأوّل على الثاني مع أنّ التكليف فيهما انحلالي. وكذا إذا ورد في دليل : أكرم العلماء ثمّ ورد في دليل آخر : أكرم العلماء العدول ، فيحمل الأوّل على الثاني ، والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز ، يعني أنّه يدل على أنّ الحكم ـ وهو وجوب الاكرام ـ لم يثبت للعالم على نحو الاطلاق ، وإنّما ثبت لحصة خاصة منه ـ وهو العالم العادل في المثال دون العالم مطلقاً ولو كان فاسقاً ـ ومن الواضح أنّه لا فرق في


دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحداً أو متعدداً.

نلخّص هذا المبحث في ضمن عدة نقاط :

الاولى : أنّ محل الكلام هنا كما عرفت إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه ، وأمّا غير المعتمد فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم.

الثانية : أنّ ملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم ، وأمّا إذا كان راجعاً إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له عليه ، وبما أنّ الوصف من القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم.

الثالثة : أنّه قد استدلّ على المفهوم بوجوه ثلاثة وقد عرفت نقدها جميعاً.

الرابعة : أنّ الحق في المقام هو التفصيل على شكل قد تقدم.

الخامسة : أنّ لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه.

مفهوم الغاية

يقع الكلام فيه في مقامين ، الأوّل : في المنطوق. الثاني : في المفهوم.

أمّا المقام الأوّل : فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيّي وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غايةً للمتعلق أو الموضوع على وجوه بل أقوال ، ثالثها : التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّي وعدم كونها من جنسه ، فعلى الأوّل الغاية داخلة فيه دون الثاني. ورابعها : التفصيل بين كون الغاية مدخولةً لكلمة « حتى » وكونها مدخولةً لكلمة « إلى » فعلى الأوّل هي داخلة في المغيّي دون الثاني.


وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث قال : وهذا التفصيل وإن كان حسناً في الجملة لأنّ كلمة « حتى » تستعمل غالباً في إدخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلةً في المغيّى لا محالة ، لكن هذا ليس بنحو الكلية والعموم فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيّى أو عدمه (١).

ولكنّ الصحيح هو القول الثاني ، يعني عدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً ، فلنا دعويان ، الاولى : صحة هذا القول. الثانية : بطلان سائر الأقوال.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ المرجع في المقام إنّما هو فهم العرف وارتكازهم ، والظاهر أنّ المتفاهم العرفي من القضية المغيّاة بغاية كقولنا : صم إلى الليل وكقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٢) وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغيّى إلاّفيما قامت قرينة على الدخول كما في مثل قولنا : سرت من البصرة إلى الكوفة أو ما شاكل ذلك.

وأمّا الدعوى الثانية : فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الاولى بطلان القول الأوّل والثالث ، حيث إنّه لا فرق في فهم العرف كما عرفت بين كون الغاية من جنس المغيّى وعدمه ، وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك ، وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولةً لكلمة « إلى » وكونها مدخولةً لكلمة « حتى » نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة « حتى » عاطفةً ، وموارد استعمالها لافادة كون مدخولها غايةً لما قبلها ، فانّها في أيّ مورد من الموارد إذا استعملت لادراج الفرد الخفي كما في مثل قولنا : مات

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩.

(٢) المائدة ٥ : ٦.


الناس كلّهم حتى الأنبياء ، لا تدل على كون ما بعدها غايةً لما قبلها ، بل هي من أدوات العطف. فالنتيجة : أنّ مقتضى الظهور العرفي والارتكاز الذهني عدم دخول الغاية في المغيّى ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فالغاية قد تكون غايةً للموضوع كما في مثل قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١) وقد تكون غايةً للمتعلق كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢). وقد تكون غايةً للحكم كقوله عليه‌السلام :

« كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام » (٣) وقوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر » (٤) أو كقولنا : يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه ، فانّ الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون المتعلق أو الموضوع. وأمّا إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم ترتكز على دلالة الوصف عليه ، حيث إنّ المراد من الوصف كما عرفت مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق ، سواء أكان وصفاً اصطلاحياً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً أو ما شاكل ذلك ، وعليه فالتقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف.

وأمّا إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها تارةً يقع في مقام الثبوت ، واخرى في مقام الاثبات.

أمّا المقام الأوّل : فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند تحقق

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.


الغاية ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية عليه ، ضرورة أنّه لو لم يدل على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه ، يعني ما فرض غايةً له ليس بغاية وهذا خلف ، فاذن لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.

وأمّا المقام الثاني : وهو مقام الاثبات ، فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل ـ وهو المتعلق ـ دون الموضوع ، حيث إنّ حالها حال بقية القيود ، فكما أنّ الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار أنّه معنىً حدثي كذلك الظاهر من الغاية. وأمّا رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في الآية الكريمة المتقدمة حيث إنّ قوله تعالى : ( إِلَى الْمَرافِقِ )(١) في هذه الآية غاية للموضوع وهو اليد لا للمتعلق وهو الغسل ، وذلك لأجل قرينة وخصوصية في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على أنّه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حدّ المغسول من اليد ومقداره ، ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنّة على أنّ الآية في مقام تحديد المغسول ، لا في مقام بيان الترتيب ، ولذا يقول العامة (٢) بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك ، وإن كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين بالغسل منكوساً ، ونظير الآية في ذلك المثال المشهور : اكنس المسجد من الباب إلى المحراب ، فانّه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أنّ كلمة « إلى » غاية للموضوع وبيان لحدّ المسافة التي امر بكنسها ، وليست في مقام بيان الترتيب ، ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) نقل عنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١١ : ١٦٠.


وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(١) حيث إنّ الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو أنّ كلمة « إلى » غاية لتحديد حدّ الممسوح لا لبيان الترتيب ، ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوساً وهو الأقوى ، إذ مضافاً إلى إطلاق الآية فيه رواية خاصة. هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة.

وأمّا إذا كان الحكم فيها مستفاداً من مادة الكلام فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيه كقولنا : يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه ، فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم ، وأمّا إذا كان المتعلق مذكوراً فيه كما في مثل قولنا : يجب الصيام إلى الليل ، فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق ، فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الحكم في القضية إن كان مستفاداً من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيداً للمتعلق لا للموضوع ، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) من أنّ مفاد الهيئة معنىً حرفي ، والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد ، وذلك لما حققناه في بحث الواجب المشروط (٣) من أنّه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ، بل الوجه فيه هو أنّ القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة ، وإن كان الحكم مستفاداً من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن المتعلق

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٣) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٥٣.


مذكوراً وإلاّ فلا ظهور له في شيء منهما ، فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها إلى الحكم ولو بمعونة قرينة.

نتائج هذا البحث عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً ، أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن ، وسواء أكانت بكلمة « إلى » أم كانت بكلمة « حتى » ، فما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل بينهما قد عرفت نقده.

الثانية : أنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف فلا تدل على المفهوم ، وإذا كانت قيداً للحكم فحالها حال القضية الشرطية ، بل لا يبعد كونها أقوى دلالةً منها على المفهوم.

الثالثة : أنّ الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من الهيئة ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق ، فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل ، وفي القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من المادة ، فإن لم يكن المتعلق مذكوراً فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم ، وإلاّ فهي مجملة من هذه الجهة.

مفهوم الحصر

يقع الكلام في أداته ، منها : كلمة « إلاّ » ولا يخفى أنّ هذه الكلمة إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء كما هو الظاهر منها عرفاً كقولنا مثلاً :

جاء القوم إلاّزيداً ، فانّها تدل على نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ولذا يكون الاستثناء من الاثبات نفياً ومن النفي إثباتاً ، وأمّا إذا كانت صفة بمعنى « غير » فلا تدل على ذلك ، بل حالها حينئذ حال سائر قيود الموضوع ،


وقد تقدم عدم دلالتها على المفهوم.

ومنها : كلمة « إنّما » وقد نص أهل الأدب (١) على أنّها من أداة الحصر وتدل عليه. هذا مضافاً إلى أنّه المتبادر منها أيضاً. نعم ، ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم حتى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها ، نظراً إلى أنّ الهيئات مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات ، مثلاً لهيئة اسم فاعل معنىً واحد في تمام اللغات بشتى أنواعها وكذا غيرها ، وهذا بخلاف المواد فانّها تختلف باختلاف اللغات. وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة أداةً للحصر ومفيدةً له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة ، والتبادر من جهة اخرى.

ثمّ إنّها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل في عكس ذلك وهو الغالب.

وعلى الأوّل فهي تستعمل في مقام التجوز أو المبالغة كقولنا : إنّما زيد عالم أو مصلح أو ما شاكل ذلك ، مع أنّ صفاته لا تنحصر به حيث إنّ له صفات اخرى غيره ، ولكنّ المتكلم بما أنّه بالغ فيه وفرض كأ نّه لا صفة له غيره فجعله مقصوراً عليه ادعاءً.

وعلى الثاني فهي تفيد الحصر كقولنا : إنّما الفقيه زيد مثلاً ، وإنّما القدرة لله تعالى وما شاكل ذلك ، فانّها تدل في المثال الأوّل على انحصار الفقه به وأنّ فقه غيره في جنبه كالعدم. وفي المثال الثاني على انحصار القدرة به ( سبحانه وتعالى ) حيث إنّ قدرة غيره في جنب قدرته كلاقدرة ، وإن كان له أن يفعل وله أن يترك ، إلاّ أنّ هذه القدرة ترتبط بقدرته تعالى في إطار ارتباط المعلول بالعلة ، وتستمد منها في كل آن بحيث لو انقطع الامداد منها في آنٍ انتفت القدرة في ذلك

__________________

(١) كما في المصباح المنير : ٢٦.


الآن ، وقد أوضحنا ذلك بشكل موسّع في ضمن البحوث المتقدمة في مسألة الأمر بين الأمرين (١). فالنتيجة : أنّ هذه الكلمة غالباً تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي تفيد الحصر عندئذ. نعم ، قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضاً ، وعندئذ لا تدل على الحصر.

ثمّ إنّ العجب من الفخر الرازي (٢) حيث أنكر دلالة كلمة « إنّما » على الحصر وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ )(٣) فانّه بعد إنكاره أنّ المراد من ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ في الآية هو علي بن أبي طالب ( عليه الصلاة والسلام ) كما قال الشيعة ، بل المراد منه عامة المؤمنين قال : إنّ الشيعة قد استدلوا على أنّ الآية نزلت في حق علي عليه‌السلام بأنّ كلمة « إنّما » للحصر وتدل على حصر الولاية بالله وبرسوله وبالذين موصوفون بالصفات المذكورة في الآية ، ومن المعلوم أنّ من كان له هذه الصفات فهو الولي المتصرف في أمر الامّة وهو لا يكون إلاّ الإمام عليه‌السلام.

ودعوى أنّ المراد من الولي ليس معنى المتصرّف ، بل هو بمعنى الناصر والمحب خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، لأنّ الولاية بهذا المعنى تعم جميع المؤمنين فلاتختص بالله وبرسوله وبالذي يكون موصوفاً بالصفات المزبورة ، فاذن بطبيعة الحال يكون المراد من الولاية في الآية معنى التصرف والسلطنة ، ومن المعلوم أنّها بهذا المعنى تختص بالله وبالرسول وبالإمام وهو علي بن أبي

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤٢٩.

(٢) التفسير الكبير ١٢ : ٣٠.

(٣) المائدة ٥ : ٥٥.


طالب عليه‌السلام.

ثمّ أورد على هذا الاستدلال بأ نّا لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، حيث إنّ عدم العموم يبتني على كون كلمة « إنّما » مفيدة للحصر ، ولا نسلّم ذلك ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ )(١) ولا شك أنّ الحياة الدنيا لها أمثال اخرى ولا تنحصر بهذا المثل.

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(٢) ولا شك في أنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها.

والجواب عنه أوّلاً : بالنقض بقوله تعالى : ( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(٣) وقوله سبحانه : ( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ )(٤) حيث لا شبهة في إفادة كلمة « إلاّ » الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلاّ أبو حنيفة (٥) فاذن ما هو جواب الفخر الرازي عن هاتين الآيتين. فان أجاب بأنّ عدم دلالة كلمة « إلاّ » على الحصر فيهما إنّما هو من ناحية قيام قرينة خارجية على ذلك ، وهو العلم الخارجي بعدم انحصار الحياة الدنيا بهما ، نقول بعين هذا الجواب عن الآيتين المتقدمتين وأنّ عدم دلالة كلمة « إنّما » على الحصر فيهما إنّما هو من جهة القرينة الخارجية.

__________________

(١) يونس ١٠ : ٢٤.

(٢) محمّد ٤٧ : ٣٦.

(٣) الأنعام ٦ : ٣٢.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

(٥) الإحكام للآمدي ٣ : ٩٢ ، شرح مختصر الاصول ـ للعضدي ـ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.


وثانياً : بالحل ، بيان ذلك : أنّ الحياة مرّةً تضاف إلى الدنيا واخرى تكون الدنيا صفةً لها.

أمّا على الأوّل فالمراد منها حياة هذه الدنيا في مقابل حياة الآخرة كما هو المراد في قوله تعالى : ( ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا )(١) وقوله تعالى :

( إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )(٢) فيكون المراد من الحياة فيهما هو حياة هذه الدنيا في قبال الآخرة ، كما أنّ المراد من الحيوان في قوله تعالى : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ )(٣) هو الحياة الاخروية.

وأمّا على الثاني وهو أن تكون الدنيا صفةً للحياة فالمراد منها الحياة الدانية في مقابل الحياة العالية الراقية ، وهي بهذا المعنى تارةً تطلق ويراد منها الحياة في مقابل الحياة الاخروية ، نظراً إلى أنّ الحياة الدنيوية وإن كانت حياة الأنبياء والأوصياء فهي دانية بالاضافة إلى الحياة الاخروية ، حيث إنّها حياة راقية دائمية أبدية ومملوءة بالطمأنينة والراحة. وأمّا هذه الحياة فهي موقتة وزائلة ومقدّمة لتلك الحياة الأبدية ومملوءة بالتعب وعدم الراحة فكيف يقاس هذه بتلك ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الحياة في هذه الدنيا ولو كانت حياة عالية وراقية كحياة الأنبياء والصالحين التي هي مملوءة بالعبودية والاطاعة لله سبحانه إلاّ أنّها مع ذلك تكون في جنب الحياة الاخروية دانية.

وتارة اخرى تطلق ويراد منها الحياة الدانية في هذه الدنيا ، في مقابل الحياة

__________________

(١) الجاثية ٤٥ : ٢٤.

(٢) المؤمنون ٢٣ : ٣٧.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.


الراقية فيها ، يعني أنّ الحياة في هذه الدنيا على نوعين : أحدهما حياة دنيّة حيوانية كالحياة المملوءة باللعب واللهو ونحوهما. وثانيهما حياة عالية راقية كحياة الأنبياء والأولياء ومن يتلو تلوهما ، حيث إنّ حياتهم بشتى أنواعها وأشكالها عبادة وطاعة لله تعالى.

وبعد ذلك نقول : إنّ المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة الدانية ، فالدنيا صفة لها ، وهي تنحصر باللعب واللهو ، يعني أنّ الحياة الدنيّة في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة « إنّما » ويؤيد ذلك دلالة الآيتين المتقدمتين على حصر الحياة الدنيّة بهما. هذا مضافاً إلى أنّ في الآية الكريمة ليس كلمة « إنّما » بكسر الهمزة ، بل هي بفتحها (١) ، ودلالتها على الحصر لا تخلو عن إشكال بل منع. فاذن لا وقع للاستشهاد بهذه الآية المباركة على عدم دلالة كلمة « إنّما » على الحصر. ومن هنا يظهر حال الآية الاولى.

فالنتيجة : أنّ دلالة كلمة « إنّما » على الحصر واضحة ، وإنكار الفخر دلالتها عليه مبني على العناد أو التجاهل.

ثمّ إنّه ذكر في مقام تقريب عدم دلالة الآية الثانية على الحصر بأنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها أي غير الحياة الدنيا ، ففيه ـ مضافاً إلى منع ذلك ـ أنّ الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما ، لا في مقام حصرهما بها ، فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الاخروية مانعاً عن دلالة الآية على الحصر. وإن أراد من ذلك حصولهما في الحياة العالية في هذه الدنيا وعدم انحصارهما بالحياة الدانية فيها ، فيردّه أوّلاً : منع ذلك وأنّ الحياة العالية خالية عنها. وثانياً : أنّه لا يضر بدلالة الآية على الحصر ، فانّ الآية تدل على حصر

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ الموجود في سورة الحديد الآية ٢٠ بالفتح ولكن في غيرها بالكسر ].


الحياة الدانية بهما ولا تدل على حصرهما بها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه وجهان.

اختار المحقق النائيني قدس‌سره الأوّل وقال : إنّ دلالتها على الحصر داخلة في الدلالات المنطوقية دون المفهومية (١) نظراً إلى أنّ ضابط المفهوم لا ينطبق على المقام ، حيث إنّ الركيزة الأساسية للمفهوم هي أنّ الموضوع فيه بعينه هو الموضوع في المنطوق ، غاية الأمر أنّ دلالة القضية على ثبوت الحكم له على تقدير ثبوت المعلّق عليه تكون بالمطابقة في المنطوق وعلى انتفائه عنه عند انتفاء المعلّق عليه بالالتزام في المفهوم ، وهذه الركيزة مفقودة في المقام ، فانّ كلمة « إنّما » في مثل قولنا : إنّما الفقيه زيد ، تدل على ثبوت الفقه لزيد ونفيه عن غيره ، فلا يكون النفي والاثبات واردين على موضوع واحد. نعم ، لا بأس بتسمية هذا بالمفهوم أيضاً ولا مشاحة فيها. كما أنّ دلالة كلمة « إلاّ » على النفي أو الاثبات مسمّاة بالمفهوم مع أنّهما غير واردين على موضوع واحد. وكيف كان فلا أثر لهذا البحث أصلاً.

وأمّا كلمة « إلاّ » فلا شبهة في وضعها لافادة الحصر ، ومن هنا ذهب بعض إلى أنّ دلالتها عليه بالمنطوق لا بالمفهوم. وكيف كان فلا خلاف في إفادتها ذلك إلاّ عن أبي حنيفة (٢) حيث ذهب إلى عدم دلالتها عليه واستدل على ذلك بقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٣.

(٢) الإحكام للآمدي ٣ : ٩٢ ، شرح مختصر الاصول ـ للعضدي ـ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.


وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد من الصلاة في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور ، فيكون مفاده أنّ الصلاة التي كانت واجدةً للأجزاء والشرائط المعتبرتين فيها لا تكون صلاةً إلاّ إذا كانت واجدةً للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على القول بالصحيح وصلاة تامة على القول بالأعم.

ويرد عليه : أنّه واضح البطلان ، حيث إنّ لازم ذلك هو استعمال الصلاة في معانٍ متعددة حسب تعدد هذا التركيب ، فانّها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور ، وفي مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » (٢) قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب ، مع أنّ المتفاهم العرفي منها معنىً واحد في كلا التركيبين.

الثاني : أنّ عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب إنّما هو من جهة وجود القرينة ولولاه لكانت دالة عليه.

وفيه : أنّه لا قرينة هنا حيث إنّه لا فرق بين استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد.

ولعلّه لأجل ذلك عدل عنه وأجاب بجواب ثالث وهو أنّ كلمة « إلاّ » في مثل هذا التركيب تدل على نفي الامكان ، يعني أنّ الصلاة لا تكون ممكنةً بدون الطهور ومعه تكون ممكنة.

وفيه : أنّ موارد استعمالاتها تشهد بأ نّها تستعمل للنفي الفعلي أو الاثبات كذلك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٠.

(٢) المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.


وبكلمة اخرى : أنّ ظاهر هذا التركيب كمثل قولنا : لا أقرأ القرآن إلاّمع الطهارة ولا أزور الحسين عليه‌السلام إلاّحافياً ونحو ذلك ، هو أنّ خبر « لا » المقدّر فيه موجود لا ممكن. فالنتيجة : أنّه لا يمكن الاعتماد على شيء من هذه الوجوه ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب هو أنّ مردّه إلى قضيتين : ايجابية وسلبية ، مثلاً قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » ينحل إلى قولنا : إنّ الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة وإذا تحققت فلا محالة تكون مع الطهارة ، وكذا قولنا : لا آكل الطعام إلاّمع الملح ، فانّه ينحل إلى قولنا : إنّ الأكل لا يتحقق بدون ملح ، وأ نّه متى تحقق تحقق مع ملح ، وليس [ معنى ] قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » أنّ الطهور متى تحقق تحققت الصلاة ، وكذا قولنا : لا آكل الطعام إلاّمع الملح ، ليس معناه أنّ الملح متى تحقق تحقق الأكل ، ومنه قولنا : لا اطالع الكتب إلاّكتب الفقيه ، فانّ معناه ليس أنّه متى تحقق كتب الفقيه تحققت المطالعة. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجملة في مقام الاخبار أو الانشاء ، كما أنّ المتبادر من جملة : « لا صلاة إلاّبطهور » هو أنّها مسوقة لانشاء شرطية الطهور للصلاة. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ المتفاهم عرفاً من أمثال هذه التراكيب ما ذكرناه دون ما توهمه أبو حنيفة.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد ، فانّ دلالتها عليه بمقتضى فهم العرف وارتكازهم ، ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال ، والسبب فيه ما عرفت من أنّ الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال.

ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأنّ خبر « لا » بما أنّه مقدّر في


الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدّر ممكناً أو موجوداً ، فان كان الأوّل فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى ، وإن كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إله آخر ، حيث إنّ نفي الوجود أعم من نفي الامكان.

والجواب عنه : هو أنّ إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه ، نظراً إلى أنّ الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالامكان الخاص ، فانّ المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم ، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له ، فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري ( سبحانه وتعالى ) وإن لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري ، فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما. والحاصل : أنّ إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالامكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه ، كما أنّ عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه ، وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.

وقد يستدل على ذلك كما عن بعض : بأنّ الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال إمّا أن يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضي أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع ، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود ، ضرورة أنّ وجوده لا يعقل أن يستند إلى وجود المقتضي مع توفر الشرط وعدم المانع فيه وإلاّ لانقلب الواجب ممكناً ، بل نفس تصوّره يكفي للتصديق بوجوده ، ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين عند العرفاء ، ومدلوله هو أنّ نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج وإلاّ لم يكن التصور تصور مفهوم واجب الوجود وهذا خلف ، ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة الغرب من أنّ مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان.


وكيف كان فلا شبهة في أنّ إمكانه تعالى مساوق لوجوده وبالعكس ، فنفي إمكانه عين نفي وجوده كما أنّ نفي وجوده عين نفي إمكانه. ومن هنا يظهر حال صفاته ( سبحانه وتعالى ) فانّه إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب وإلاّ امتنع.

ثمّ إنّ الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو أنّ الخبر المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا : لا رئيس في هذا البلد ، وقولنا : لا رجل في الدار وهكذا ، فانّ المتفاهم العرفي منها هو أنّ الخبر المقدّر لكلمة « لا » فيها موجود لا ممكن ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى :

أنّ المستفاد من كلمة التوحيد أمران ، أحدهما : التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية. وثانيهما : التصديق بوحدانيته ذاتاً وصفةً ومعبوداً وإليه أشار بقوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) وقوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فهذان الأمران معتبران في كون شخصٍ مسلماً فلو عبد غيره تعالى فقد خرج عن ربقة الاسلام.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج :

الاولى : أنّ كلمة « إلاّ » إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء ، وأمّا إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.

الثانية : أنّ كلمة « إنّما » وضعت للدلالة على إفادة الحصر ، للتبادر عند العرف وتصريح أهل الأدب بذلك وإن لم يكن لها نظائر في لغة الفرس ليرجع إليها ، إلاّ أنّه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.

الثالثة : أنّ كلمة « إنّما » قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة فحينئذ لا تدل على الحصر ، بل تدل على المبالغة ، وقد تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كما هو الغالب وحينئذ تدل على الحصر. نعم ، قد تستعمل في هذا المقام أيضاً في المبالغة.


الرابعة : أنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة « إنّما » على الحصر ، وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) وقد عرفت ما في إنكاره وأ نّه لا محمل له إلاّ الحمل على العناد أو التجاهل.

الخامسة : أنّه لا ثمرة للبحث عن أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أصلاً وإن اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الأوّل ، وقد تقدم وجهه موسّعاً.

السادسة : لا شبهة في دلالة كلمة « إلاّ » على الحصر وأ نّها موضوعة لذلك ، ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة وأ نّه استدل على عدم إفادتها الحصر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّبطهور » ، وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب الكفاية قدس‌سره بعدة وجوه ، وقد عرفت عدم تمامية شيء منها ، والصحيح في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلاحظ.

السابعة : أنّ كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي ، وليست دلالتها مستندةً إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية قدس‌سره. والاشكال على دلالتها بأنّ الخبر المقدّر فيها لا يخلو من أن يكون موجوداً أو ممكناً ، وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحيد مدفوع بما تقدم بشكل موسع.

الثامنة : أنّ الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ خبر « لا » المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها ، هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر.


مفهوم العدد

إن اريد به أنّ للقضية مثل : تصدّق بخمسة دراهم دلالة على أنّه لا يجزئ التصدق بأقل من ذلك ، فالأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّه ليس من جهة دلالة العدد على المفهوم ، بل من جهة أنّه لم يأت بالمأمور به ، يعني أنّ المأمور به لا ينطبق على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزئاً ، نظير ما إذا قال المولى : أكرم زيداً مثلاً في يوم الجمعة ، فلو أكرمه في يوم الخميس لم يجزئ لعدم انطباق المأمور به على المأتي به ، وكذا إذا قال : صل إلى القبلة فصلّى إلى جهة اخرى ، وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ قضية تصدّق بخمسة دراهم لا تدل إلاّعلى وجوب التصدق بها ، وأمّا بالاضافة إلى الأقل فهي ساكتة نفياً وإثباتاً ، يعني لا تدل على نفي وجوب التصدق عنه ولا على إثباته ، وأمّا عدم الاجزاء به فهو من ناحية أنّ المأمور به في هذه القضية لا ينطبق عليه ، وأمّا بالاضافة إلى الزائد على هذا العدد فان قامت قرينة على أنّ المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد بشرط لا بالاضافة إليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد ، يعني أنّ التصدق بالستّة غير واجب ، بل هو مضر ، نظير الزيادة في الصلاة ، وإن لم تقم قرينة على ذلك ، فمقتضى إطلاق كلامه أنّ الزيادة لا تكون مانعةً عن حصول المأمور به في الخارج ، وأمّا بالاضافة إلى حكمه [ أي ] الزائد فهو ساكت عنه نفياً وإثباتاً يعني لا يدل على وجوبه ولا على عدم وجوبه ولا على استحبابه ، فحال العدد من هذه الناحية حال اللقب.


العام والخاص

قبل الوصول إلى محل البحث لا بأس بالاشارة إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً ، وأمّا اصطلاحاً فالظاهر أنّه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي ، ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله.

الثانية : ما هو الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٢) وما شاكلهما ، حيث إنّه يدل على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله؟ أقول : الفرق بينهما هو أنّ دلالة العام على العموم والشمول بالوضع ودلالة المطلق على ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وتترتب على هذه النقطة من الفرق ثمرات تأتي في ضمن البحوث الآتية.

الثالثة : أنّ العموم ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي ، فالحكم في الأوّل وإن كان واحداً في مقام الانشاء والابراز إلاّ أنّه في مقام الثبوت والواقع متعدد بعدد أفراد العام ، ففي مثل قولنا : أكرم كل عالم ، وإن كان الحكم في مقام الانشاء واحداً إلاّ أنّه بحسب الواقع ينحل بانحلال أفراد موضوعه ، فيكون في قوة قولنا : أكرم زيداً العالم وأكرم بكراً العالم وهكذا ، فيثبت لكل فردٍ حكم مستقل غير مربوط بالحكم الثابت لآخر.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.


وفي الثاني واحد في مقامي الاثبات والثبوت باعتبار أنّ المتكلم قد جعل المجموع من حيث المجموع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه.

وفي الثالث أيضاً كذلك ، حيث إنّ الحكم فيه تعلق بصرف وجود الطبيعة السارية إلى جميع أفرادها كقولنا مثلاً : أكرم أيّ رجل شئت ، والمفروض أنّ صرف الوجود غير قابل للتعدد ، وعليه فلا محالة يكون الحكم المتعلق به واحداً.

الرابعة : ما هو منشأ هذا التقسيم ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام ، حيث إنّه يتعلق به تارةً على نحو يكون كل فردٍ موضوعاً على حدة للحكم ، واخرى يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فردٍ جزء الموضوع لاتمامه ، وثالثةً يكون كل فردٍ موضوعاً على البدل.

وفيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، والسبب فيه : هو أنّ المولى في مرحلة جعل الحكم إذا لم يلاحظ الطبيعة بما هي مع قطع النظر عن أفرادها ، أي من دون لحاظ فنائها فيها ، ولم يجعل الحكم عليها كذلك كما هو الحال في القضية الطبيعية كقولنا : الانسان نوع والحيوان جنس وما شاكلهما التي لا صلة لها بالعام والخاص ، فبطبيعة الحال تارةً يلاحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الكثرة ، يعني يلاحظ الأفراد الكثيرة واقعاً وحقيقةً في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الأفراد فيكون كل واحد منها موضوعاً مستقلاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.


واخرى يلاحظها فانيةً في الأفراد لا على نحو الوحدة في الكثرة ، بل على نحو الوحدة في الجمع ، يعني يلاحظ الأفراد المتكثرة على نحو الجمع واقعاً وحقيقةً في إطار مفهوم واحد ويجعل الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعاً واحداً على نحو يكون كل فرد جزء الموضوع لاتمامه.

وثالثةً يلاحظها فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه. فعلى الأوّل العموم استغراقي فيكون كل فرد موضوعاً للحكم ، وجهة الوحدة بين الأفراد ملغاة في مرتبة الموضوعية ، كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعددة لموضوع واحد. وعلى الثاني العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعاً للحكم ، فالتكثرات فيه وإن كانت محفوظةً إلاّ أنّها ملغاة في مرتبة الموضوعية. وعلى الثالث العموم بدلي فيكون الموضوع واحداً من الأفراد لا بعينه ، فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية ، يعني لم يؤخذ شي منهما في الموضوع. فالنتيجة أنّ منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

الخامسة : أنّ صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها ، منها هيئة الجمع المحلى باللام التي ترد على المادة كقولنا : أكرم العلماء ، فانّها موضوعة للدلالة على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخولها وهو العالم. وكذا الحال في كلمة « كل ».

ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دلّ على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها ، فانّ هذه اللفظة بالاضافة إلى أفرادها حيث إنّها كانت من أسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعةً للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا ، فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء.

وأمّا بالاضافة إلى مدخولها كقولنا : أكرم عشرة رجال فلا تدل على


سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها ـ وهو الرجل ـ نعم بمقتضى الاطلاق وإن دلت على أنّ المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم أراد وشاء ، سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها ، إلاّ أنّ ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع ، وأمّا بالاضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وإن دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو الحال في كل مركب يتعلق الحكم به ، فانّه لا محالة يسري إلى أجزائه كذلك ، إلاّ أنّ هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله ، حيث إنّ تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعددة المستقلة إلى الأفراد والموضوعات كذلك ، وهذا بخلاف هذه الدلالة ، فانّها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمناً ، يعني أنّ كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها.

ودعوى أنّ استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد ، حيث إنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم مخصوص مؤلفة من الآحاد ، والواحد الذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل واحد منها ، فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدّها الخاص ، والعشرون يكون مستغرقاً له إلى حدّه كذلك وهكذا. وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضائر ، لأنّ مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد من أفراده ، بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من أفراده ، فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وشمول وإلاّ فليس له إلاّمطابق واحد.

خاطئة جداً والوجه فيه : أنّ مراتب الأعداد وإن تأ لّفت من الآحاد إلاّ أنّ الواحد ليس مادة لفظ العشرة أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق


بعروض هذه اللفظة عليه أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين.

وإن شئت قلت : إنّ نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلاً إلى العلماء حيث إنّه مادة الجمع المحلى باللام ، يعني أنّ هيئة هذا الجمع تعرض عليه وتدل على كونه ذا شمول واستغراق ، وهذا بخلاف العشرة فانّها لا تعرض على الواحد كيف فانّه جزؤها المقوّم لها ، نظراً إلى أنّها مركبة منه ومن سائر الآحاد وبانتفائه تنتفي ، وتكون مباينةً له لفظاً ومعنىً ، كما أنّها مباينة لسائر مراتب الأعداد كذلك. فاذن لا يعقل عروضها عليه كي تدل على شموله وعمومه ، ضرورة أنّ الكل لا يعقل عروضه على الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من أفرادها. وكذا ليست نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة الرجل إلى لفظة « كل » الداخلة عليه ، وذلك لأنّ الواحد كما عرفت جزء العشرة لا أنّها داخلة عليه كدخول أداة العموم على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد ، كما هو الحال في لفظة « كل » الداخلة على الرجل مثلاً. فالنتيجة : أنّ العشرة ليست من أداة العموم كلفظة « كل » وهيئة الجمع المعرف باللام ونحوهما.

السادسة : أنّه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كلفظة « كل » وما شاكلها ، حيث لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها العموم وأنّ دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني ، وهكذا الحال في نظائرها. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ كلمة « كل » في لغة العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وأ نّها ونظائرها من صيغ العموم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.


خاصة به. ودعوى أنّ الخاص بما هو القدر المتيقن بحسب الارادة خارجاً فوضع اللفظ بازائه أولى من وضعه بازاء العموم خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أبداً ، ضرورة أنّ كونه كذلك لا يقتضي وضع اللفظ بازائه دون العموم.

نعم ، كون الخاص من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال إنّ وضع اللفظ للعموم لغو ، فالأولى أن يكون موضوعاً للخصوص. ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ كون الخاص متيقناً إنّما هو بحسب الارادة الخارجية ، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا المتيقن لا يكون مانعاً عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره ، غاية الأمر يكون اللفظ نصاً بالاضافة [ إلى ] إرادة الخاص ، وظاهراً بالاضافة إلى إرادة العام ، ومحطّ النظر إنّما هو في إثبات الظهور وعدمه ، وقد عرفت أنّه لا شبهة في ظهور لفظة « كل » في العموم كما في مثل قولنا : أكرم كل عالم أو أكرم كل رجل وما شاكل ذلك.

ودعوى أنّ المناسب وضع اللفظ للخاص لا للعام ، نظراً إلى كثرة استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام إلاّوقد خص فاسدة جداً ، ضرورة أنّ مجرد ذلك لا يقتضي الوضع بازائه دونه ، إذ لا مانع من أن تكون الاستعمالات المجازية أكثر من الاستعمالات الحقيقية لداع من الدواعي.

وإن شئت قلت : إنّ كون الخاص معنىً مجازياً للعام ليس على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور ، بل الأمر بالعكس تماماً ، فانّه ظاهر في العموم وإرادة الخاص منه تحتاج إلى قرينة. هذا مضافاً إلى ما سيأتي في ضمن البحوث


الآتية (١) من أنّ التخصيص لايستلزم استعمال العام في الخاص حتى يكون مجازاً ، بل العام قد استعمل في معناه بعد التخصيص أيضاً.

السابعة : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصه : ربّما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً ، لضرورة أنّه لا يكاد يكون الطبيعة معدومةً إلاّ إذا لم يكن فرد منها بموجود وإلاّ لكانت موجودة ، لكن لا يخفى أنّها تفيده إذا اخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد ، وإلاّ فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما اريد منها يقيناً ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فانّها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ « كل » على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

نعم ، لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً بناءً على إفادته للعموم ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره. وإطلاق التخصيص على تقييده ليس إلاّ من قبيل : ضيّق فم الركية. لكن دلالته على العموم وضعاً محل منع ، بل إنّما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة اخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ، ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى ، وربّما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام (٢).

__________________

(١) في ص ٥٤١.

(٢) كفاية الاصول : ٢١٧.


نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ المراد من النكرة هو الطبيعة اللا بشرط ، ودلالتها على العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على أن تكون مأخوذةً على نحو الاطلاق ، حيث إنّها تدل على عموم ما يراد منها عقلاً ، فان اريد منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك ، وإن اريد منها الطبيعة المقيدة دلت على نفيها كذلك ، لا مطلقة وبالاضافة إلى جميع أفرادها. فاذن في إثبات دلالة كلمة « لا » على نفي الطبيعة مطلقةً لا بدّ من إثبات أنّها مأخوذة في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة ، حيث إنّها بدونها لا تدل عليه ، ضرورة أنّ الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن إثبات إطلاقها بها لم تدل على نفيها كذلك ، بل تدل على نفي المتيقن منها في إطار الارادة.

الثانية : أنّ لفظة « كل » وإن كانت موضوعةً للدلالة على العموم ، إلاّ أنّ دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الأفراد والوجودات تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه وإلاّ فلا دلالة لها على ذلك ، نظراً إلى أنّها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ، فان ثبت إطلاقه فهو وإلاّ فهي تدل على إرادة المتيقن منه.

الثالثة : أنّ الجمع المعرّف باللام بناءً على إفادته للعموم أيضاً كذلك ، يعني أنّ دلالته على العموم ـ أي عموم أفراد مدخوله ـ تبتني على إثبات إطلاقه باجراء مقدمات الحكمة فيه ، وكذا الحال في المفرد المعرّف باللام.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، والوجه فيه ما ذكرناه في


أوّل بحث النواهي (١) من أنّ مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة « لا » سواء أكانت نافية أم ناهية ، فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا مثلاً : لا أملك شيئاً ، فانّ كلمة شيء وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء ، إلاّ أنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء ، لا نفي فردٍ مّا منه ووجود البقية عنده ، فانّ هذا المعنى باطل في نفسه فلا يمكن إرادته منه. وأمّا إذا افترضنا أنّه لا إطلاق له ، يعني أنّ مقدمات الحكمة لم تجر فيه ، فهي لا تدل على العموم والشمول وإنّما تدل على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية ، كما أنّه إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد ، ومن هذا القبيل أيضاً قوله : لا تشرب الخمر ، وقوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (٢) وقوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ )(٣) وما شاكلها.

وأمّا النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، والسبب فيه : أنّ دلالة لفظة « كل » أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه لاثبات إطلاقه أوّلاً ، وإنّما هي تكون مستندةً إلى الوضع ، بيان ذلك : أنّ لفظة « كل » أو ما شاكلها التي هي موضوعة لافادة العموم تدل بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصية فيه ، ولا يتوقف ذلك على إجراء المقدمات ، ففي مثل قولنا : أكرم كل رجل تدل

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٥.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٧.


لفظة « كل » على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل ، من دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل والأبيض والأسود وما شاكل ذلك ، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصية وقيد في مدخولها.

وبكلمة اخرى : قد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى ، فانّه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية من الخصوصيات فيه ، منها خصوصية الاطلاق والتقييد ، فارادة كل منهما تحتاج إلى عناية زائدة ، وعليه فلفظة « كل » في مثل قولنا : أكرم كل رجل تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بما له من المعنى وضعاً ، ومن الواضح أنّ هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ خصوصية فيه ، لا أنّ دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام قرينة على تقييده بقيدٍ مّا ، وإلاّ لكفى جريان مقدمات الحكمة في إثبات العموم من دون حاجة إلى أداته. وعليه فبطبيعة الحال يكون الاتيان بها لغواً محضاً حيث إنّ العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن ، وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها ، وهذا خلاف الارتكاز العرفي ، ضرورة أنّ العرف يفرّق بين قولنا : أكرم كل عالم وقولنا : أكرم العالم ، ويرى أنّ دلالة الأوّل على العموم لا تحتاج إلى أيّة مؤونة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه ، وهذا بخلاف الثاني فانّ دلالته على العموم تحتاج إلى مؤونة زائدة وهي إجراء مقدمات الحكمة.

فالنتيجة : أنّ وضع لفظة « كل » أو ما شاكلها للدلالة على العموم أي عموم مدخولها وشموله بما له من المعنى بنفسه قرينة على عدم أخذ خصوصية وقيد فيه ، يعني أنّ دلالتها عليه عين دلالتها على العموم ، لا أنّ لها دلالتين : دلالة على العموم ، ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه. وهذه النقطة هي


زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع ، والعموم المستند إلى قرينة الحكمة ، حيث إنّ الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية (١) والأوّل بيان على عدم دخله فيه ، فهما أشبه شيء بالاصول والأمارات.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ إمكان تقييد مدخول الأداة كلفظة « كل » في مثل قولنا : أكرم كل عالم عادل ، وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها على العموم دليل على أنّ دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه فهو خاطئ جداً ، وذلك لأنّ دلالتها على العموم ـ أي عموم مدخولها ـ وشموله بما له من المعنى لا ينافيه تقييده بقيدٍ مّا ، ضرورة أنّها لا تدل على أنّ مدخولها جنس أو نوع أو فصل أو صنف ، فانّ مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان ، غاية الأمر إن كان جنساً دلت على العموم في إطاره ، وإن كان نوعاً دلت على العموم في إطار النوع ، وإن كان صنفاً دلت على العموم في إطار الصنف وهكذا.

وإن شئت قلت : إنّه لا فرق بين القول بوضعها للعموم أي عموم المدخول بما له من المعنى ، والقول بوضعها لعموم ما يراد من المدخول في هذه النقطة ، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على العموم ، نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأوّل في نقطة اخرى وهي أنّ دلالتها على العموم على القول الثاني لاثبات إطلاق المدخول وإرادته بقرينة الحكمة كي تدل على عمومه وشموله ، وعلى القول الأوّل فهي بنفسها تدل على إطلاقه وسعته.

ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا : هي أنّ أداة العموم على القول بكونها موضوعةً

__________________

(١) في ص ٥٣٠.


للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لا بدّ أوّلاً من إثبات سعته وإطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله ، وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة [ على ] عموم المدخول بما له من المعنى فهي بنفسها تدل على سعته وإطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها ، لما عرفت من أنّ دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على إطلاق المدخول وعدم أخذ خصوصية فيه ، ومن الطبيعي أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف ، فانّ السعة إنّما تلاحظ بالاضافة إلى دائرة المدخول ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل رجل وقولنا : أكرم كل رجل عالم ، فانّ تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على العموم ، فانّ معنى دلالته عليه هو أنّها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة ، سواء أكانت دائرة المدخول واسعة أو ضيّقة في مقابل القول بأنّ دلالته عليه تتوقف على إجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيّقةً ، وبما أنّ المدخول هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه ، ولولا ما ذكرناه من الدلالة على العموم لما أمكن التصريح به في موردٍ مّا أبداً مع أنّه واضح البطلان.

وأمّا النقطة الثالثة : فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى (١).

نلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط :

١ ـ الظاهر أنّ العام في كلمات الاصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي وهو الشمول.

٢ ـ أنّ الفرق بين العام والمطلق هو أنّ دلالة الأوّل على العموم بالوضع

__________________

(١) في ص ٥٢٦.


والثاني بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.

٣ ـ ما هو المنشأ والموجب لتقسيم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به ، ولكن عرفت نقده وأ نّه ليس منشأً لذلك ، بل منشؤه ما ذكرناه آنفاً بشكل موسّع.

٤ ـ أنّ العشرة وأمثالها من مراتب الأعداد ليست من ألفاظ العموم ، فانّ دلالتها بالاضافة إلى هذه العشرة وتلك بالاطلاق ، وبالاضافة إلى الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية ، كما هو الحال في كل مركب بالاضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم.

٥ ـ لا شبهة في أنّ للعموم صيغ تخص به وتدل عليه بالوضع ، ولا موجب لدعوى أنّها موضوعة للخصوص باعتبار أنّه القدر المتيقن أو أنّه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاص على ما تقدم بشكل موسّع.

٦ ـ أنّ دلالة العام على العموم كلفظة « كل » أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل هو يدل بالوضع على إطلاق مدخوله وعدم أخذ خصوصيةٍ مّا فيه.

عدّة مباحث :

المبحث الأوّل (١) : اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه على أقوال : بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية :

__________________

(١) [ تعرّض للمبحث الثاني في ص ٤٠٣ بعنوان : « فصل في الفحص عن المخصص » من دون ترقيم ، وكذا المباحث الآتية ].


الأوّل : يفرض الكلام في الشبهة الحكمية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الحكم الشرعي ، كما إذا افترض ورود عام مثل : أكرم كل عالم ، وورد مخصص عليه مثل : لا تكرم المرتكب للكبائر منهم ، وشك في خروج المرتكب للصغائر عن حكم العام من ناحية اخرى ، لا من ناحية الشك في دخوله تحت عنوان المخصص للقطع بعدم دخوله فيه.

الثاني : يفرض الكلام في الشبهة المفهومية ، يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في مفهوم الخاص ، أي دورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد : أكرم كل عالم ثمّ ورد : لا تكرم الفسّاق منهم ، وافترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة والضيق ، أي أنّه عبارة عن خصوص مرتكب الكبائر أو الجامع بينه وبين مرتكب الصغائر ، والشك إنّما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر ومنشؤه إنّما هو إجمال مفهوم الخاص وشموله له ، وأمّا في طرف العام فلا إجمال في مفهومه أصلاً.

الثالث : يفرض الكلام في الشبهة المصداقية ، يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الامور الخارجية كما إذا دلّ دليل على وجوب إكرام كل هاشمي ، ودلّ دليل آخر على حرمة إكرام الفاسق منهم وشككنا في أنّ زيداً الهاشمي هل هو فاسق أو لا ، فيقع الكلام في إمكان التمسك بالعام بالاضافة إليه وعدم إمكانه.

أمّا الكلام في الأوّل : فالظاهر أنّ عمدة الخلاف فيه إنّما يكون بين العامة (١) حيث نسب إلى بعضهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقاً ، ونسب إلى بعضهم الآخر التفصيل بين ما كان المخصص منفصلاً وما كان متصلاً ، فذهب إلى عدم

__________________

(١) المحصول ١ : ٤٠٢ ، الإحكام للآمدي ٢ : ٤٣٩.


جواز التمسك بالعام على الأوّل دون الثاني ، هذا.

والصحيح هو جواز التمسك به مطلقاً ، أي بلا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل.

أمّا في الأوّل : فهو واضح ، حيث إنّ دائرة العام كانت من الأوّل ضيّقاً ، نظراً إلى أنّ المخصص المتصل يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم من الابتداء ، بل يوجب استقرار ظهوره من الأوّل في الخاص.

وبكلمة اخرى : أنّه لا تخصيص في البين ، وإطلاقه مبني على المسامحة ، لما تقدم من أنّ أداة العموم كلفظة « كل » أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على عموم المدخول وشموله بما له من المعنى ، سواء أكان من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل رجل وقولنا : أكرم كل رجل عادل أو كل رجل إلاّ الفساق منهم ، فانّ لفظة « كل » في جميع هذه الأمثلة تستعمل في معناها ـ وهو عموم المدخول وشموله ـ غاية الأمر أنّ دائرة العموم فيها تختلف سعةً وضيقاً كما هو الحال في سائر الموارد والمقامات ، ومن الطبيعي أنّه لا صلة لذلك بدلالتها على العموم أبداً. فالنتيجة أنّ إطلاق التخصيص في موارد التقييد بالمتصل في غير محلّه.

وأمّا الثاني : وهو ما كان المخصص منفصلاً ، فقد يقال إنّ التخصيص كاشف عن أنّ عموم العام غير مراد من الأوّل وإلاّ لزم الكذب ، فاذا انكشف أنّ العام لم يستعمل في العموم لم يكن حجةً في الباقي لتعدد مراتبه ، ومن المعلوم أنّ المعاني المجازية إذا تعددت فارادة كل واحد منها معيّناً تحتاج إلى قرينة ، وحيث لا قرينة على أنّ المراد منه تمام الباقي فبطبيعة الحال يصبح العام مجملاً فلا يمكن التمسك به. وعلى الجملة ففي كل مورد كان المعنى المجازي متعدداً فارادة أيّ


واحد منه تحتاج إلى قرينتين : إحداهما قرينة صارفة. وثانيتهما قرينة معيّنة ، وفي المقام وإن كانت القرينة الصارفة موجودة ـ وهي المخصص ـ إلاّ أنّ القرينة المعيّنة غير موجودة ، وبدونها لا محالة يكون اللفظ مجملاً.

وقد اجيب عنه بوجوه : منها ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك نصه :

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ الميزان في كون اللفظ حقيقةً هو كونه مستعملاً في معناه الموضوع له بحيث إنّ الملقى في الخارج كأ نّه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني ، وهذا الميزان متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص ، وذلك من جهة أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّفيما وضعت له ، كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلاّفيما وضع له.

أمّا عدم استعمال المدخول إلاّفي نفس ما وضع له ، فلأ نّه لم يوضع إلاّلنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، ومن الواضح أنّه لم يستعمل إلاّ فيها ، وإفادة التقييد بدال آخر كافادة الاطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر ، ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه ، واستفيد قيده الدخيل في غرض المتكلم من دال آخر ، وأمّا في موارد التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وإن كان منحصراً بنفس اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة ، ولأجله كانت مقدمات الحكمة موجبةً لظهوره في إرادة المطلق ، إلاّ أنّ الاتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينةً على أنّ المتكلم اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده ، إمّا لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو لمصلحة في ذلك ، وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلاّفي معناه الموضوع له.


وأمّا عدم استعمال الأداة إلاّفيما وضعت له فلأ نّها لا تستعمل أبداً إلاّفي معناها الموضوع له ، أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واخرى يكون أمراً ضيّقاً ، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلاً.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازاً لا في ناحية المدخول ولا في ناحية الأداة ، إنّما يتم في المخصصات الأنواعية ، فانّها لا توجب إلاّتقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلاً ، وأمّا التخصيصات الأفرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب المجازية في ناحيتها.

قلت : ليس الأمر كذلك ، فانّ التخصيص الأفرادي أيضاً لا يوجب إلاّ تقييد مدخول الأداة ، غاية الأمر أنّ قيد الطبيعة المهملة ربّما يكون عنواناً كلياً كتقييد العالم بكونه عادلاً أو بكونه غير فاسق ، وقد يكون عنواناً جزئياً كتقييده بكونه غير زيد مثلاً ، وعلى كل حال فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له ، ولا فرق فيما ذكرناه من عدم استلزام التخصيص للتجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، لأنّ الأداة في كل منهما لا تستعمل إلاّفي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، وأمّا المدخول فهو أيضاً لا يستعمل إلاّفي نفس الطبيعة اللا بشرط القابلة لكل تقييد ، وكون القضية خارجية أو حقيقية إنّما يستفاد من سياق الكلام ، ولا ربط له بمداليل الألفاظ ، نظير استفادة الاخبار والانشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم.

وبالجملة : أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّفيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد ، وسواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية ، فلا فرق


بين موارد التخصيص وغيرها ، إلاّ أنّ التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة ، ومن الظاهر أنّ التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملاً في غير ما وضع له أصلاً على ما سيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

وأمّا توهم أنّ التخصيص إذا كان راجعاً إلى تقييد مدخول أداة العموم ورافعاً لاطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في أنّ استفادة العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده ، وعليه فلا وجه لما تقدّم سابقاً من تقدم العام على المطلق عند التعارض ، وبالجملة أنّ شمول الحكم لكل فردٍ من أفراد العام إن كان مستنداً إلى الدلالة الوضعية كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزماً لكون العام مجازاً ، وإن لم يكن الشمول المزبور مستنداً إلى الوضع ، بل كان مستفاداً من مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة.

فهو مدفوع بما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أنّ إحراز لحاظ الماهية مطلقة وإن كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام ، إلاّ أنّ وجه تقدم العام على المطلق إنّما هو من جهة أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالاضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه مدخولها ، وهذا بخلاف المطلق ، فانّ سراية الحكم فيه إلى الأقسام المتصورة له إنّما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق ، وحيث ما فرض هناك عام دلّ بمدلوله اللفظي على عدم تسوية أفراد المطلق فهو يكون بياناً له ومانعاً من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٦.


نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم ولا في مدخولها ، أمّا في الاولى فلأ نّها دائماً تستعمل في معناها الموضوع له ، وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها ، أي سواء أكان ما يراد منه معنىً وسيعاً أو ضيّقاً ، وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم كانت القرينة المنفصلة ، فانّها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلاً. وأمّا في الثاني فالأمر واضح ، حيث إنّ المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة على الماهية المهملة التي لم تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الاطلاق والتقييد ، فهما كبقية الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى ، فاللفظ لا يدل إلاّعلى معناه ، ولم يستعمل إلاّفيه ، وإفادة التقييد إنّما هي بدال آخر ، كما أنّ إفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة.

الثانية : أنّه لا فرق فيما ذكرناه من أنّ تخصيص العام لا يوجب تجوّزاً لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول ، بين كون المخصصات ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية ، ولا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.

الثالثة : أنّ العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة اخرى ، أمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ إحراز إطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة مشترك فيه بين العام والمطلق. وأمّا نقطة الافتراق فهي أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من الأقسام والأصناف ، وأمّا المطلق فانّ سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام المتصورة له تتوقف على مقدمة اخرى وهي حكم العقل بتساوي أفراده في انطباقه عليها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :


أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناءً على نظريتنا من أنّ أداة العموم بنفسها متكفلة لافادة العموم وعدم دخل خصوصية مّا في حكم المولى وغرضه.

بيان ذلك : أنّ الدلالات على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الدلالة التصورية ـ الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له ، وليس لعدم القرينة دخل فيها ، فالعالم بوضع لفظٍ خاص لمعنىً مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو افترضنا أنّ المتكلم نصب قرينةً على عدم إرادته ، بل ولو افترضنا صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن شيء آخر كاصطكاك حجر بحجر مثلاً ، وقد ذكرنا في محلّه (١) أنّ هذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه أو غيره مما يوجب هذه الدلالة.

الثاني : الدلالة التفهيمية ويعبّر عنها بالدلالة التصديقية أيضاً من جهة تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير ، وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه ، وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أنّ المتكلم في مقام التفهيم وأ نّه لم ينصب قرينةً متصلةً في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية ، وإلاّ فلا دلالة له على الارادة التفهيمية ، وقد ذكرنا في أوّل الاصول بشكل موسّع أنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع. أمّا على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع حيث إنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني فالاستناد إليه واضح ، ضرورة أنّه لا معنى للتعهد والالتزام

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١١٥.


بكون اللفظ دالاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، فانّ هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه طرفاً للالتزام والتعهد ، حيث إنّهما لا يتعلقان إلاّ بما هو تحت اختيار الانسان وقدرته ، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته ، سواء أكانت الارادة تفهيمية محضة أم كانت جدية أيضاً ، وتمام الكلام من هذه الناحية هناك. وأمّا على ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالأمر أيضاً كذلك على ما ذكرناه هناك. فالنتيجة أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الوضعية.

الثالث : الدلالة التصديقية ، وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية ، يعني أنّهما متحدتان في الخارج. وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء وتتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً. ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفاً عن المراد الجدي ، فهذه القرينة إنّما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن الواقع وحجيته لا عن أصله ، فانّ الشيء إذا تحقق لم ينقلب عمّا هو عليه. والحاصل أنّ بناء العقلاء قد استقر على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وبعد ذلك نقول : إنّ العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي ، فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعية على أنّ المتكلم به أراد تفهيم المخاطب لتمام معناه الموضوع له ، كما أنّه يدل ببناء العقلاء على أنّ إرادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم المجعول على العام ثابتاً له واقعاً. ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما تتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام الافادة وعدم نصبه قرينة على اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام ، كذلك تتوقف على عدم إتيانه بقرينة تدل على


الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه ، فانّ القرينة المنفصلة تكون مانعةً عن كشف ظهور العام في كون الحكم المجعول له إنّما هو بنحو العموم في الواقع ونفس الأمر ، حيث إنّها تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهّدهم ، ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من التعهد والالتزام ، يعني ظهوره في الارادة التفهيمية وكشفه عنها.

وعليه فلا ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليلٍ ورفع اليد عن أصله ، بداهة أنّه لا ملازمة بين كون المعنى مراداً للمتكلم في مقام التفهيم وكونه مراداً له في مقام الواقع والجد ، فاذا افترضنا أنّ المولى في الواقع لا يريد في مثل قوله : أكرم كل عالم إلاّ إكرام العالم العادل دون غيره ، ولكن لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام ، إمّا لوجود مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره من ناحية ، ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان يتمكن من تقييده من ناحية اخرى ، فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو العموم ، ومن المعلوم أنّه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام ، فاذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير أفراد الخاص في الواقع ، فانّه لا محالة يكشف عن أنّ الداعي إلى إرادة تفهيم المعنى العام ليس هو الارادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في جميع أفراد العام في نفس الأمر بل الداعي لها شيء آخر.

وعلى الجملة : فاللفظ بمقتضى تعهّد الواضع والتزامه بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً ، يدل على إرادة تفهيم معناه إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام ، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عدّ الجملات مثلاً ، أو كان في مقام البيان ولكنّه أتى بقرينة متصلة فيه ، ففي مثل ذلك على الأوّل لا تعهّد له أصلاً ، لا بالاضافة


إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، ولا بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي. وعلى الثاني فله تعهد بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي دون الحقيقي. وأمّا دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جدٍّ فهي دلالة اخرى غير الدلالة الاولى ، حيث إنّ الاولى مستندة إلى الوضع دون تلك ، فانّها مستندة إلى تباني العقلاء وتعهّدهم ، ومن هنا قد يشك في هذه الدلالة مع القطع بالدلالة الاولى ، وهذا يكشف عن أنّه لا ملازمة بين الدلالتين ، يعني أنّ هدم الدلالة الثانية بالقرينة لايلازم هدم الدلالة الاولى ، والسر فيه ما عرفت من أنّ الدلالة الاولى مستندة إلى تعهد الواضع ، والدلالة الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء ، ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأوّل أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك ، فان نصب قرينةً متصلةً فهي تدل على أنّه أراد خلاف تعهّد الواضع ، وإن نصب قرينةً منفصلةً فهي تدل على أنّه أراد خلاف تعهد العقلاء ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى الوضع ، وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه من جهة قرينة تدل عليه ، وقد عرفت أنّ اللفظ بمقتضى الوضع إنّما يدل على إرادة تفهيم المعنى فحسب دون أزيد من ذلك ، وهذه الدلالة دلالة حقيقية حيث إنّها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، وأمّا كون هذا المعنى مراداً بارادة جدية أيضاً فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة وإلاّ فلا دلالة له على ذلك أصلاً ، فالقرينة المنفصلة إنّما هي تمنع عن حجية الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي ، ولا تمنع عن ظهوره في إرادة تفهيمه الذي هو مستند إلى الوضع ، وعليه فاذا ورد عام من المولى ثمّ ورد مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل إنّما يزاحم حجية ظهور العام في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع ،


دون أصل ظهوره ، ضرورة أنّ ظهوره في أنّ المولى أراد تفهيم المعنى العام باقٍ على حاله ، والمفروض أنّ هذا الظهور كاشف عن أنّ المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.

فالنتيجة : أنّ إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له أمر ، وكون هذه الارادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد المستعمل فيه أمر آخر ، والمفروض أنّ المخصص المنفصل إنّما يكون كاشفاً عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الأمر ، لا عن كون استعمال العام استعمالاً مجازياً ، ضرورة أنّك قد عرفت ملاك الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وأ نّه لا صلة للمخصص المنفصل بهما أصلاً ، لا وجوداً ولا عدماً.

قد يقال كما قيل : إنّ المخصص المنفصل إذا كان كاشفاً عن المراد الجدي وأ نّه غير مطابق للمراد الاستعمالي ـ وهو العموم ـ فما هو فائدة التكلم بالعام واستعماله في العموم ، وما هو الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي بعد ما لم يكن مراداً جداً وواقعاً.

وفيه : مضافاً إلى أنّ استعمال العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لا بدّ منه ، نظراً إلى أنّ المتكلم قد لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو تقية أو ما شاكل ذلك ، أنّ استعماله فيه إنّما هو ضرب للقاعدة والقانون ، حيث إنّه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلاّبقيام دليل على خلافه ، فهو حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلاّما قام الدليل على خروجه عنه فنأخذ به ، وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدةً وقانوناً.

وأمّا النقطة الثانية : فالأمر فيها أيضاً كذلك ، يعني أنّه لا فرق بين كون


المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي ، فعلى كلا التقديرين لا يوجب التجوّز في ناحية العام.

وأمّا النقطة الثالثة : فيردّها ما تقدم منّا بشكل موسّع من أنّ أداة العموم بنفسها تدل على أنّ مدخولها ملحوظ مطلقاً ، أي بدون أخذ خصوصية ما فيه ، من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ التخصيص في العام لا يوجب تجوّزاً فيه ، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقاً وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً للمتكلم بالارادة الجدية.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على هذا الوجه ، وحاصله : أنّ الارادة الاستعمالية إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والارادة مغفول عنهما حين الاستعمال باعتبار أنّ النظر إليهما آلي ، فهذه بعينها هي الارادة الجدية التي يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى. وإن اريد بها الارادة الهزلية في مقابل الارادة الجدية ، فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الارادة الجدية ، إلاّ أنّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هو الارادة الهزلية.

وجه الظهور : ما عرفت من أنّ الارادة الاستعمالية وإن كانت قد تتحد مع الارادة الجدية إلاّ أنّها قد تفترق عنها فيكون المعنى مراداً استعمالياً ولم يكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠١.


مراداً عن جد ، ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الارادة إرادة هزلية ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين عدم كون الارادة جدية وكونها هزلية ، فانّ إرادة الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داعٍ من الدواعي ولم يكن ذلك الداعي الارادة الجدية ، وقد عرفت ما هو الداعي لهذه الارادة وما هو الفائدة المترتبة عليها ، ومع هذا كيف تكون هزلية.

ومنها : ما قيل من أنّ تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه ، لامكان أن يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ليكون ذكر العام توطئةً لبيان مخصصه ، وحيث إنّ العموم يكون مراداً من اللفظ فبطبيعة الحال يكون اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّ ذكر العام للدلالة على معناه الموضوع له دلالة تصورية توطئةً للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعضه الآخر وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا ينطبق إلاّفي موارد التخصيص بالمتصل ، فتبقى موارد التخصيص بالمنفصل بلا دليل ، على أنّ التخصيص فيها لا يستلزم المجاز.

وفيه : أنّ ما أفاده قدس‌سره خلاف ظاهر هذا الوجه ، فانّ الظاهر من إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية هو أنّ العام قد استعمل فيه واريد منه هذا المعنى بالارادة المقوّمة للاستعمال يعني الارادة التفهيمية ، والتعبير عنها بالارادة التمهيدية نظراً إلى أنّ ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده. وكيف كان فالظاهر أنّ مردّ هذا الوجه إلى ما ذكرناه وليس وجهاً آخر في قباله.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٢.


ومنها : أنّ العام إنّما يستعمل في العموم دائماً من باب جعل القانون والقاعدة في ظرف الشك فلا ينافيه ورود التخصيص عليه بعد ذلك.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أيضاً بأنّ ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشك ضرباً للقاعدة وإن كان مما لاينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة ونحوهما ، إلاّ أنّ التخصيص في هذه الموارد قليل جداً ، حيث إنّ تقدم شيء عليها غالباً يكون بنحو الحكومة أو الورود ، وأمّا العمومات المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه ، فلا يكون عمل أهل العرف بها حال الشك كاشفاً عن كونها واردةً في مقام جعل القانون والقاعدة ، حيث إنّ عملهم بها حال الشك في ورود التخصيص عليها إنّما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون الظاهر مراداً واقعاً وعن أنّ المتكلم ألقى كلامه بياناً لما أراده في الواقع ، وعليه فلا يعقل كون هذه العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك كما هو ظاهر.

وفيه : أنّ الظاهر من هذا الوجه ليس هو جعل الحكم على العام في ظرف الشك ليرد عليه ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، بل الظاهر منه أنّ الداعي إلى استعمال العام في معناه الموضوع له قانوناً وقاعدةً إنّما هو كون العام بياناً للمراد ما لم يكن هناك قرينة على التخصيص ، ففي كل مورد شك في التخصيص فيه فالمرجع هو عموم العام. فالنتيجة أنّ هذا الوجه أيضاً يرجع إلى ما ذكرناه فليس وجهاً على حدة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٢.


ومنها : ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ التخصيص لا يوجب إجمال العام على تقدير استلزامه المجاز ، ولا يمنع من التمسك به في غير ما خرج منه من الأفراد أو الأصناف ، وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ المجاز فيه إنّما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه عنه ، لا من بقاء بقية الأفراد أو الأصناف تحته ، ضرورة أنّها داخلة فيه سواء أخصص العام به أم لا. وإن شئت قلت : إنّ المقتضي لبقاء البقية تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأوّل ، فالخروج يحتاج إلى دليل ، فاذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام لا محالة ، وأمّا خروج غيرها من الأفراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا مقتضٍ وموجب ، حيث إنّ المقتضي للبقاء موجود فالخروج يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا ، وعليه فاذا شككنا في خروج مقدار زائد عمّا خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالاضافة إليه ، حيث إنّه لا بدّ من الاقتصار على المقدار الذي نتيقن بخروجه عنه دون الزائد عليه.

وبكلمة اخرى : أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لكل واحد من أفراد مدخوله ليست متوقفةً على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الأفراد جزماً ، فكما أنّ ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الأفراد ، فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ المجعول في مقام الثبوت والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله المحققة والمقدرة ، فيكون كل فردٍ منها في الواقع محكوماً بحكم مستقل بحيث لو خالفه استحق العقوبة وإن كان ممتثلاً للحكم

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٢.


الثابت لغيره من الأفراد. وأمّا في مقام الاثبات فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة في عرض واحد ، ونقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها الآخر ، ومن الطبيعي أنّ سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية ، بل هي باقية عليها ، لفرض أنّ هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها ، فاذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب لسقوطها ، وعليه فخروج أفراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمها المخصص.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا : رأيت أسداً يرمي ، فانّ المجاز اللازم هنا إنّما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلاً في عموم العام ، حيث إنّه يستلزم كونه مجازاً في الباقي. وأمّا دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون استعماله فيه مجازاً ، فانّه داخل فيه من الأوّل يعني قبل التخصيص ، وعليه فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلاً فيه لا إلى دخول الباقي ، ونتيجة ذلك : هي أنّ المعنى المجازي في المقام لا يكون مبايناً للمعنى الحقيقي ، فانّ الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنىً مجازياً ، وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا : رأيت أسداً يرمي فانّه مباين للمعنى الحقيقي ، وعلى ذلك فالمعنى المجازي وإن كان متعدداً في المقام نظراً إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام ، إلاّ أنّ المتعيّن بعد ورود التخصيص عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب ، لما عرفت من أنّ الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي ، فانّ المقتضي له موجود والمانع مفقود. فاذن لا يحتاج إرادته من بين غيره من المراتب إلى قرينة معيّنة.


وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعدداً في غير المقام كالمثال المزبور ، فانّه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معيّنة. مثلاً إذا قامت القرينة الصارفة على أنّ المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس ، ودار أمره بين أن يكون المراد منه الرجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلاً أو غيرهما من المعاني المجازية له ، فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها إلى قرينة معيّنة ، وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شيء منها ، وقد قرّب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) هذا الوجه بهذا التقريب وقال : إنّه على تقدير تسليم كون التخصيص مستلزماً للمجاز فلا إجمال في العام أيضاً ، وأنّ المرجع في غير أفراد المخصص هو عموم العام.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما ذكره في الكفاية (٢) من أنّ الدلالة لا بدّ لها من مقتضٍ وهو إمّا الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما ، أمّا الأوّل فهو مفقود على الفرض ، حيث إنّ العام لم يوضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام الباقي ، وإنّما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام أفراد مدخوله. وأمّا القرينة فكذلك ، فانّ القرينة إنّما قامت على أنّ العام لم يستعمل في معناه الموضوع له ، ولا قرينة اخرى تدل على أنّه استعمل في تمام الباقي ، فما ذكره قدس‌سره من أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد وإن كان متيناً جداً ، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى مقتضٍ وهو وضع العام للدلالة على العموم ، فاذا افترضنا أنّ دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا مقتضي لدلالته على إرادة تمام الباقي ، لفرض أنّ دلالته عليها إنّما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢٠.


هي من جهة دلالته على العموم لا مطلقاً.

وعلى الجملة : فالمقتضي ـ وهو دلالته على العموم ـ قد سقط على الفرض ، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة تمام الباقي فانّه يرتكز على أحد أمرين : الوضع أو القرينة المعيّنة ، وكلاهما مفقود كما عرفت. فاذن ما هو المقتضي لظهوره فيها ، فما في كلامه قدس‌سره من أنّ المقتضي لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنىً صحيح على ضوء نظرية أنّ التخصيص يستلزم المجاز ، فانّ المقتضي ـ وهو عموم العام ـ قد سقط بالتخصيص ، فاذن ما هو المقتضي لدخوله ، إذ من المحتمل أنّه قد استعمل بعد التخصيص في بعض مراتب الباقي لا في تمامه ، فالتعيين يحتاج إلى قرينة.

نعم ، لو كانت دلالة العام على العموم عقلية أو كانت ذاتية لتم ما أفاده قدس‌سره كما هو واضح. ولكنّه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له. فالنتيجة أنّه لا دافع للاشكال المزبور إلاّعلى ضوء ما ذكرناه من أنّ التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المجاز ، حيث إنّ العام بعد التخصيص أيضاً استعمل في معناه الموضوع له ، وعليه فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من أنّ المقتضي بالاضافة إلى الباقي موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه ، فانّ المقتضي ـ وهو ظهور العام في العموم المستند إلى الوضع ـ موجود ، والمخصص المنفصل إنّما يكون مزاحماً لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره. فاذن لا مانع من التمسك به بالاضافة إلى الباقي كلّه ، كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة بعدد أفراده ، وهذه الدلالات دلالات عرضية لا يتوقف بعضها على بعضها الآخر ، فاذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها ، إنّما يتم على ضوء ما عرفت


من أنّ التخصيص لا يوجب المجاز. إذن على هذا الأساس فسقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها ، والسر فيه هو أنّ موضوع الحجية إنّما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى ، والمفروض أنّه متحقق في المقام ، والمخصص المنفصل إنّما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته بالاضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه ، فبالنسبة إلى الزائد فالعام باقٍ على ظهوره وكاشفيته عن الواقع ، لعدم المانع عنه على الفرض ، وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلاً.

ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز ، وهي أنّ المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم ومزاحماً له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو كذلك على ضوء هذه النظرية ، وعليه فاذا افترضنا أنّ ظهوره في العموم قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم بالاضافة إلى الأفراد الباقية ، يعني غير أفراد المخصص. ونظير ما ذكرناه هنا موجود في سائر الأمارات والحجج أيضاً ، مثلاً إذا افترضنا أنّ البيّنة قامت على أنّ الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها والدار الاخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلّها لزيد ، ثمّ أقرّ زيد بأنّ الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو ، فلا يكون هذا الاقرار مانعاً عن حجية البيّنة مطلقاً ، وإنّما يكون مانعاً بالاضافة إلى مورده فحسب ، والسبب فيه هو أنّ هذه البيّنة تنحل في الواقع إلى بيّنات متعددة فسقوط بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها ، لعدم موجب لذلك أصلاً ، وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.

وأمّا الكلام في البحث الثاني : وهو ما يفرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشبهة المفهومية ، فيقع في مقامين : الأوّل : فيما إذا كان أمر المخصص


المجمل مفهوماً دائراً بين الأقل والأكثر. الثاني : فيما إذا كان أمره دائراً بين المتباينين.

أمّا المقام الأوّل : فتارةً يكون المخصص المجمل متصلاً ، واخرى يكون منفصلاً.

أمّا إذا كان متصلاً فبما أنّه مانع عن انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل حيث إنّه لا ينعقد للكلام الملقى للافادة والاستفادة ظهور عرفي في المعنى المقصود إلاّبعد فراغ المتكلم منه ، فبطبيعة الحال يسري إجماله إلى العام فيكون العام مجملاً حقيقةً ، يعني كما لا ينعقد له ظهور في العموم لا ينعقد له ظهور في الخصوص أيضاً.

وإن شئت قلت : إنّ اتصال المخصص بالعام مانع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم ، فان لم يكن مجملاً انعقد ظهوره في خصوص الخاص ، وأمّا إذا كان مجملاً فهو كما يمنع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم كذلك يمنع عن ظهوره التصديقي في خصوص الخاص أيضاً كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، إذا افترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ودار أمره بين فاعل الكبيرة فحسب أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ، ففي مثل ذلك كما أنّ شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم حيث لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة ، كذلك شمول العام له نظراً إلى إجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلاً ، فلا يعلم أنّ الخارج منه فاعلا الكبيرة والصغيرة معاً أو خصوص فاعل الكبيرة ، وعليه فلا محالة يكون المرجع في فاعل الصغيرة الأصل العملي.

فإن كان العام متكفلاً لحكم إلزامي والخاص متكفلاً لحكم غير إلزامي أو بالعكس فالمرجع فيه أصالة البراءة.


وأمّا إن كان كل منهما متكفلاً لحكم إلزامي فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين حيث يدور أمره بين وجوب الاكرام وحرمته ، فهل المرجع فيه أصالة التخيير عقلاً أو أصالة البراءة؟ الأظهر هو الثاني فيما إذا كانت الواقعة واحدةً لا مطلقاً على تفصيل يأتي في محلّه (١).

وأمّا إذا كان المخصص المجمل منفصلاً ودار أمره بين الأقل والأكثر كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق منهم وفرضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ومردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ، فلا يكون إجماله مانعاً عن التمسك بعموم العام ، حيث إنّ ظهوره في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره فيه ، وعليه فلا محالة يقتصر في تخصيصه على المقدار المتيقن إرادته من المخصص المجمل ، وهو خصوص فاعل الكبيرة فحسب ، وأمّا في المشكوك ـ وهو فاعل الصغيرة في المثال ـ فبما أنّ الخاص لا يكون حجةً فيه لفرض إجماله ، فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام حيث إنّه حجة وكاشف عن الواقع ، ولا يسري إجمال المخصص إليه على الفرض.

وإن شئت قلت : إنّ المخصص المنفصل إنّما يكون مانعاً عن حجية العام وموجباً لتقييد موضوعه في المقدار الذي يكون حجةً فيه ، فان لم يكن مجملاً فهو لا محالة يكون حجةً في تمام ما كان ظاهراً فيه ، وإن كان مجملاً كما في محل الكلام فهو بطبيعة الحال إنّما يكون حجةً في المقدار المتيقن إرادته منه في الواقع دون الزائد ، حيث إنّه كاشف عن هذا المقدار فحسب دون الزائد عليه ، وعلى الأوّل فهو يوجب تقييد موضوع العام بالاضافة إلى جميع ما كان ظاهراً فيه ،

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٨٣.


وعلى الثاني فيوجب تقييده بالاضافة إلى المتيقن فحسب دون الزائد المشكوك فيه ، فانّه لا يكون حجةً فيه ، وعليه فلا مانع من الرجوع فيه إلى عموم العام حيث إنّه شامل له ، ولا مانع من شموله ما عدا كون الخاص حجةً فيه وهو غير حجة على الفرض. وعلى هذا الضوء ففي المثال المتقدم قد ثبت تقييد موضوع العام ـ وهو العالم ـ بعدم كونه فاعل الكبيرة ، وأمّا تقييده بعدم كونه فاعل الصغيرة فهو مشكوك فيه فأصالة العموم في طرف العام تدفعه.

فالنتيجة : أنّ أصالة العموم رافعة لاجمال المخصص حكماً ، يعني لا يبقى معها إجمال فيه من هذه الناحية.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان أمر المخصص المجمل مردداً بين المتباينين ، فأيضاً تارةً يكون المخصص المجمل المزبور متصلاً ، واخرى يكون منفصلاً.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه بعينه هو الكلام في المخصص المتصل المجمل الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر ، يعني أنّه يوجب إجمال العام حقيقةً ، فلا يمكن التمسك به أصلاً ، ومثاله كقولنا : أكرم العلماء إلاّزيداً ، مثلاً إذا افترضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر ، فانّه لا محالة يمنع عن ظهور العام في العموم ويوجب إجماله حقيقةً. نعم ، يفترق الكلام فيه عن الكلام في ذاك بالاضافة إلى الأصل العملي ، بيان ذلك : أنّ العام أو الخاص إذا كان أحدهما متكفلاً للحكم الالزامي والآخر متكفلاً للحكم الترخيصي ، فالمرجع فيه أصالة الاحتياط ، للعلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما أو بحرمة إكرامه ، ومقتضى هذا العلم الاجمالي لا محالة هو الاحتياط. وأمّا إذا كان كلاهما متكفلاً للحكم الالزامي بأن يعلم إجمالاً أنّ أحدهما واجب الاكرام والآخر محرّم الاكرام ، فبما أنّه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط ولا إلى أصالة البراءة ، لعدم إمكان الأوّل


واستلزام الثاني المخالفة القطعية العملية ، فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة التخيير. فالنتيجة أنّهما يشتركان في الأصل اللفظي ويفترقان في الأصل العملي.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا كان المخصص المجمل المذكور منفصلاً فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً حيث قد انعقد له الظهور في العموم ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، إلاّ أنّه يوجب إجماله حكماً ، مثلاً لو قال المولى : أكرم كل عالم ثمّ قال : لا تكرم زيداً وفرضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن خالد ، فهذا المخصص المنفصل كغيره وإن لم يكن مانعاً عن ظهور العام في العموم لما عرفت ، إلاّ أنّه لا يمكن التمسك بأصالة العموم في المقام ، لأنّ التمسك بها بالاضافة إلى كليهما لا يمكن ، لأنّ العلم الاجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية والاعتبار فلا تكون كاشفةً عن الواقع بعد هذا العلم الاجمالي ، وأمّا بالاضافة إلى أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً على الفرض. فالنتيجة أنّ العام في المقام في حكم المجمل وإن لم يكن مجملاً حقيقةً.

وأمّا الكلام في البحث الثالث : وهو ما إذا كان الشك في التخصيص من ناحية الشبهة الموضوعية ، فيقع في جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وعدم جوازه. الصحيح هو عدم جوازه مطلقاً ، أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً.

أمّا في الأوّل : فلا شبهة في عدم جواز التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولا خلاف فيه بين الأصحاب ، ولا فرق فيه بين أن يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو بغيرها كالوصف أو نحوه كقولنا : أكرم كل عالم تقي وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أو هو تقي أو ليس بتقي ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بأصالة العموم لاحراز أنّه ليس


بفاسق أو هو تقي.

والسبب في ذلك : هو أنّ القضية مطلقاً ، أي سواء أكانت خارجية أم كانت حقيقية ، وسواء أكانت خبرية أم كانت إنشائية ، فهي إنّما تتكفل لبيان حكمها لموضوعه الموجود في الخارج حقيقيةً أو تقديراً من دون دلالة لها على أنّ هذا الفرد موضوع له أو ليس بموضوع له أصلاً ، مثلاً قولنا : أكرم علماء البلد إلاّ الفسّاق منهم ، قضية خارجية تدل على ثبوت الحكم للأفراد الموجودة في الخارج ، فلو شككنا في أنّ زيداً العالم الذي هو من علماء البلد هل هو فاسق أوليس بفاسق فهذه القضية لا تدل على أنّه ليس بفاسق فيجب إكرامه ، ضرورة أنّ مفادها وجوب إكرام عالم البلد على تقدير عدم كونه فاسقاً ، وأمّا أنّ هذا التقدير ثابت أوليس بثابت فهي لا تتعرض له لا إثباتاً ولا نفياً.

وأمّا في القضية الحقيقية كالقضيتين المتقدمتين ونحوهما فالأمر فيها أوضح من ذلك ، فانّ الموضوع فيها بما أنّه قد اخذ في موضع الفرض والتقدير فلأجل ذلك ترجع في الحقيقة إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، ومن الطبيعي أنّ القضية الشرطية لا تنظر إلى وجود شرطها في الخارج وعدم وجوده أصلاً ، بل هي ناظرة إلى إثبات التالي على تقدير وجود الشرط كقولنا : الخمر حرام ، البول نجس ، الحج واجب على المستطيع وما شاكل ذلك ، فانّها قضايا حقيقية قد اخذ موضوعها مفروض الوجود في الخارج ، ومدلول هذه القضايا هو ثبوت الحكم لهذا الموضوع من دون نظر لها إلى وجوده وتحققه في الخارج وعدمه أصلاً ، ومن هنا لو شككنا في أنّ المائع الفلاني خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك باطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر لاثبات أنّه خمر ، حيث إنّه خارج عن إطار مدلوله فلا نظر له إليه لا إثباتاً ولا نفياً. فالنتيجة أنّ عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية


في موارد التخصيص بالمتصل بمكان من الوضوح ، هذا.

مضافاً إلى أنّ العام المخصص بالمتصل لا ينعقد له ظهور في العموم وإنّما ينعقد له ظهور في الخاص فحسب كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم ، فانّه لا ينعقد له ظهور إلاّفي وجوب إكرام حصة خاصة من العلماء وهي التي لاتوجد فيها صفة الفسق ، وعليه فاذا شككنا في عالم أنّه فاسق أو ليس بفاسق فلا عموم له بالاضافة إليه حتى نتكلم في جواز التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً ، فقد قيل إنّ المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وربّما نسب هذا القول إلى السيد قدس‌سره في العروة أيضاً بدعوى أنّ حال هذه المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر ، فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث إنّ الخاص لا يكون حجةً فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف عن كونه مراداً في الواقع ، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة ببيان أنّ ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب إكرام كل عالم سواء أكان فاسقاً أم لم يكن ، وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص ، فحينئذ إن علم بفسقه فلا إشكال في عدم وجوب إكرامه ، وإن لم يعلم به فلا قصور في شمول عموم العام له ، حيث إنّ دليل المخصص غير شامل له باعتبار أنّه لا عموم أو لا إطلاق له بالاضافة إلى الفرد المشكوك ، وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث إنّه بعمومه شامل له ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ هذه النسبة غير مصرّح بها في كلماتهم وإنّما هي استنبطت من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها ، كما أنّ شيخنا العلاّمة


الأنصاري قدس‌سره (١) قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع التي هم قد التزموا بها وذكر قدس‌سره بعض هذه الفروع وقال : إنّها تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم.

وعلى الجملة : فبما أنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاصول ولا في الفروع ، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلاّعلى القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، فلأجل ذلك نسب إليهم ، هذا.

وأمّا نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة قدس‌سره فهي أيضاً تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها قدس‌سره في العروة (٢) منها قوله : إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في أنّه من المستثنيات أم لا يبنى على العفو ، وأمّا إذا شك في أنّه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو. حيث توهم من ذلك أنّ بناءه قدس‌سره على العفو في الصورة الاولى ليس إلاّ من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية وكذا بناؤه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس إلاّمن ناحية التمسك بها فيها ، بيان ذلك :

أمّا في الصورة الاولى : فقد ورد في الروايات أنّه لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال « قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٢.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٨٦ المسألة ٣ [٢٩٩].


تره » (١). ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة » (٢). ومنها : صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة » (٣) وهذه الروايات استثناء مما دلّ على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقاً ولو كان أقل من درهم باعتبار نجاسته ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ورد في رواية اخرى أنّ دم الحيض مانع عن الصلاة مطلقاً ولو كان أقل من الدرهم ، وقد ألحق المشهور به دم النفاس والاستحاضة ، وهي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله أو أبي جعفر عليه‌السلام « قال : لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره غير دم الحيض فانّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء » (٤) فهذه الرواية تقيّد إطلاق الروايات المتقدمة بغير دم الحيض وما الحق به.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه إذا شككنا في دم يكون أقل من الدرهم أنّه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد العام وهو الروايات المتقدمة ، فالسيد قدس‌سره تمسك بعموم تلك الروايات وحكم

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣١ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٢٩ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٣٠ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٢.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٣٢ / أبواب النجاسات ب ٢١ ح ١ وفي بعض النسخ بدون « لم ».


بعدم البأس به في الصلاة ، مع أنّ الشبهة مصداقية ، وهذا ليس إلاّمن جهة أنّه قدس‌سره يرى جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وأمّا في الصورة الثانية : فقد ورد في الروايات (١) ما دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجساً بالدم أو بغيره من النجاسات ، ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة ، فعندئذ إذا شككنا في دم أنّه أقل من الدرهم حتى يكون داخلاً تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون داخلاً تحت عنوان دليل العام ، فالسيد قدس‌سره قد تمسك فيه بعموم دليل العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة ، مع أنّ الشبهة مصداقية ، وهذا شاهد على أنّه قدس‌سره يرى جواز التمسك بالعام فيها ، هذا.

ولكنّ التوهم المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع.

أمّا في الصورة الاولى : فيحتمل أن يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي لاحراز موضوع العام ، حيث إنّ موضوعه مركب من أمرين : أحدهما وجودي وهو الدم الذي يكون أقل من الدرهم. وثانيهما عدمي وهو عدم كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة ، والأوّل محرز بالوجدان ، والثاني بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات وإطلاقها ، أو يحتمل أن يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٨ / أبواب النجاسات ب ١٩.


وأمّا في الصورة الثانية : فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم ، نظراً إلى أنّ عنوان المخصص عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه. وكيف كان فلا يمكن استنباط أنّه قدس‌سره من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين. ومما يشهد على أنّه ليس من القائلين بذلك ما ذكره قدس‌سره في كتاب النكاح وإليك نصه :

مسألة ٥٠ : إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع ، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب ، وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية ، فان شك في كونه مماثلاً أو لا ، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا ، فالظاهر وجوب الاجتناب ، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم ، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم ، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك (١) فانّ هذا شاهد صدق على أنّه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره من التمسك بعموم آية وجوب الغض خاطئ جداً ، أمّا أوّلاً : فلا عموم في الآية من هذه الناحية ، يعني لا يمكن استفادة حرمة النظر من الآية الكريمة. وأمّا ثانياً : فعلى تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أنّ جواز النظر مشروط بأمرٍ وجودي ، بل مفهومها حرمة النظر إلى المخالف ، فتكون الحرمة مشروطةً بأمر وجودي وهو المخالف ،

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٥٨٥ المسألة [٣٦٨٢].


وتمام الكلام في محلّه.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النسبة غير ثابتة.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية ، ولكن لم يعلم وجه فتواهم بذلك هل هو من ناحية التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو من ناحية قاعدة المقتضي والمانع ، نظراً إلى أنّ المقتضي للضمان موجود وهو اليد ، والمانع مشكوك فيه وهو كونها يد أمانة فيدفع بالأصل ، أو استصحاب العدم الأزلي نظراً إلى أنّ موضوع الضمان هو الاستيلاء على مال الغير المتصف بكونه مقارناً لعدم رضاه ، فاذا كان الاستيلاء محرزاً بالوجدان جرى استصحاب عدم رضا المالك فيثبت الضمان ، أو وجه آخر غير هذه الوجوه. فالنتيجة أنّ كون مستند فتواهم به أحد هذه الامور الثلاثة غير معلوم ، بل هي بأنفسها غير تامة. أمّا الأوّل فسيجيء الكلام فيه. وأمّا الثاني فان اريد بالمقتضي الدليل فقد عرفت أنّه قاصر عن شمول المورد ، وإن أريد به الملاك المقتضي له فلم يمكن إحراز أصل وجوده فيه بعد عدم شمول الدليل له ، وإن أريد به اليد الخارجية فقد عرفت أنّ اليد مطلقاً لاتقتضي الضمان والمقتضي له إنّما هو اليد الخاصة ، وهي التي لاتكون يد أمين.

ثمّ قال قدس‌سره إنّ الصحيح في وجه ذلك أن يقال : إنّه يمكن التمسك بالأصل لاحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إليه ، وملخص ما أفاده قدس‌سره : هو أنّ موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاه بذلك ، والمفروض في المقام أنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.


رضاه بذلك محرز بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو الضمان.

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره في غاية الصحة والمتانة ، سواء أكانت الدعوى بين المالك وذي اليد في الرضا وعدمه ، يعني أنّ المالك يدّعي أنّه غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي رضاءه به كما عرفت ، أو كانت بينهما في رضا الله تعالى به وعدمه ، يعني أنّ المالك يدّعي أنّه تعالى غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي أنّه راضٍ به ، كما إذا افترضنا أنّ المالك يدعي أنّك غصبت ما بيدك من مالي ، وهو يدعي أنِّي وجدت هذا المال وأ نّه كان عندي أمانة برضى الله سبحانه وتعالى فلا ضمان عليه إذا تلف ، ففي هذه الصورة أيضاً لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، حيث إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضاه تعالى به محرز بالأصل ، فيتم الموضوع ويترتب عليه أثره وهو الضمان.

وإن شئت قلت : إنّ ذي اليد قد اعترف بأنّ المال الذي تحت يده هو مال المدعي ، ولكنّه ادعى أنّه غير ضامن له بدعوى أنّ يده عليه يد امانة ، حيث إنّها كانت باذن من الله تعالى ، ولكنّ المالك ادعى أنّه تعالى لم يأذن به وأنّ يده عليه ليست يد أمانة ، ففي مثل ذلك يمكن إحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل ، وهو أصالة عدم إذنه تعالى به.

نعم ، فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدعي ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ، ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم ضمانه ، مثاله : ما إذا اختلف المالك وذو اليد في عقد فادعى المالك أنّه بيع ، وادعى ذو اليد أنّه هبة ، فالقول قول مدعي الهبة ، وعلى مدعي البيع الاثبات ، والوجه فيه : هو أنّه يدعي اشتغال ذمة المنقول إليه بالثمن وهو ينكر ذلك ويدعي عدم


اشتغال الذمة بشيء ، فحينئذ إن أقام البيّنة على ذلك فهو وإلاّ فله إحلاف المنكر أي المنقول إليه ، حيث إنّ قوله مطابق لأصالة عدم الضمان ، يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن.

هذا فيما إذا كانت العين تالفة أو كان المنقول إليه ذا رحم ، وإلاّ فله حق استرجاع المال من دون مرافعة ، لأنّ العقد إن كان بيعاً في الواقع فبما أنّ المشتري لم يردّ ثمنه فله خيار الفسخ ، وإن كان هبةً كذلك يعني في الواقع فبما أنّها جائزة على الفرض فله فسخها واسترداد المال. نعم ، إذا افترضنا الأمر بالعكس بأن يدّعي المالك الهبة ويدّعي ذو اليد البيع ، فالقول قول مدعي البيع ، وعلى مدعي الهبة الاثبات ، وذلك لأنّه يدّعي في الحقيقة زوال ملكية المنقول إليه عن هذا المال برجوعه ، فان أقام البيّنة على ذلك فهو وإلاّ فالقول قوله مع يمينه. ولكن مثل هذا الفرع خارج عن مورد كلامه قدس‌سره فانّ مفروض كلامه هو ما إذا كان الشك في رضا المالك وعدمه ، كما في الفرعين الأوّلين ، وأمّا في هذا الفرع فالمفروض أنّ رضا المالك بالتصرف محرز والشك في الضمان إنّما هو من ناحية اخرى.

فالنتيجة : أنّ النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم تكن فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز ، والسبب فيه : أنّ غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو ما أشرنا إليه من أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره ، وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه ، مثلاً لو أمر المولى بقوله : أكرم كل عالم ثمّ نهى عن إكرام العالم الفاسق ، فالدليل الأوّل وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى. أمّا الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد. وأمّا الكبرى وهي وجوب إكرام كل عالم قد وصلت إلينا على الفرض ، وقد تقدم


أنّها لا تتكفل لبيان حال الأفراد في الخارج ، وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع المفروض الوجود فيه ، فاذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض فلا حالة منتظرة للعمل به ، وأمّا الدليل الثاني وهو الخاص ففي كل مورد أحرزنا صغراه ـ وهو العالم الفاسق ـ نحكم بحرمة إكرامه ونقيّد عموم العام بغيره ، وفيما لم نحرزها لا نحكم بحرمة إكرامه ، لما عرفت من أنّ العمل بالدليل متوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبدونه فلا موضوع للعمل به ، وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أنّ زيداً العالم مثلاً فاسق أو ليس بفاسق ، ولكن لا مانع من العمل بالعام فيه لاحراز الصغرى والكبرى معاً بالاضافة إليه.

وعلى الجملة : فلا يمكن التمسك بأيّ دليل ما لم يحرز صغراه ، ولا يكون حجةً بدون ذلك ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة إنّا إذا شككنا في مائع أنّه خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دلّ على حرمة شرب الخمر ، ضرورة أنّه لا يكون متكفلاً لبيان صغراه ، وإنّما هو متكفل لثبوت الحكم لمائع على تقدير أنّه خمر ، كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلاً ، لا وجوداً ولا عدماً ، وإنّما هي ناظرة إلى ثبوت الأحكام لموضوعاتها المقدّر وجودها في الخارج ، وأمّا أنّها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبداً ، فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر ، نظراً إلى أنّ المخصص هناك لا يكون حجة إلاّفي الأقل دون الزائد عليه ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من الرجوع إلى عموم العام في الزائد ، لعدم قصور فيه عن الشمول له.

وكذا الحال في المقام حيث إنّ المخصص كقولنا : لا تكرم فسّاقهم لا يكون حجةً إلاّفيما إذا احرز صغراه فيه ، فاذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا


مانع من التمسك به ، وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون حجةً ، وعليه فلا مانع من كون العام حجةً فيه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حريّ بنا أن نقدّم نقطةً : وهي أنّ الحجة قد فسّرت بتفسيرين : أحدهما أن يراد بها ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما أن يراد بها الكاشفية والطريقية ، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدي فيحتج على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الحجة بالتفسير الأوّل تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وإلاّ فلا أثر لها أصلاً ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أنّه يجوز ارتكاب المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه ، فانّ ما دلّ على حرمة شرب الخمر أو نجاسة البول لا يكون حجةً في المشتبه ، لعدم إحراز صغراه. وأمّا الحجة بالتفسير الثاني فلا تتوقف على إحراز الصغرى ، ضرورة أنّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه ، سواء أكان لها موضوع في الخارج أم لم يكن. وإن شئت قلت : انّ الحجة بهذا التفسير تتوقف على إحراز الكبرى فحسب.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في مقام الفتيا ، دونها بالتفسير الأوّل ، ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه أجاب بالكتاب أو السنّة أو ما شاكلهما ، ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج على المستطيع سواء أكان المستطيع موجوداً في الخارج أم لم يكن ، فاحراز الكبرى فحسب كافٍ من دون لزوم إحراز الصغرى.

ومن ناحية رابعة : أنّ القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية


توهم أنّ المراد من الحجة في كل من طرفي العام والخاص هو الحجة بالتفسير الأوّل دون التفسير الثاني ، وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً ، وبما أنّ الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما على إحراز الصغرى فحسب ، فان احرز أنّه عالم فاسق فهو من صغريات الخاص حيث قد قيد موضوع العام بغيره ، وإن شك في فسقه فلا يحرز أنّه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاص حجةً فيه ، وأمّا كونه من صغريات العام فالظاهر أنّه من صغرياته لفرض أنّ العالم بجميع أقسامه وأصنافه ـ أي سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه ـ من صغريات العام ، ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق ، وأمّا القسمان الآخران فهما باقيان تحته.

والحاصل : أنّ موضوع العام قد قيّد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص نظراً إلى أنّه حجة فيه دون غيره ، وأمّا مشكوك الفسق فهو باقٍ تحت العام فلا مانع من التمسك به بالاضافة إليه.

وبعد ذلك نقول : إنّ المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير الثاني يعني الطريقية والكاشفية ، والوجه فيه واضح وهو أنّ معنى حجية العام في عمومه وحجية الخاص في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع ، حيث إنّ حجية كل منهما من باب حجية الظهور ، وقد حقق في محلّه أنّ حجيته من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع. ثمّ إنّ الحجة بهذا المعنى تلازم الحجة بالمعنى الأوّل أيضاً ، يعني أنّ المولى كما يحتج على عبده بجعل ظهور العام مثلاً حجةً عليه وكاشفاً عن مراده واقعاً وجداً ، كذلك يحتج بجعل ظهور الخاص حجةً عليه وكاشفاً عن مراده في الواقع.

وعليه فاذا ورد عام كقولنا : أكرم كل عالم فهو كاشف عن أنّ مراد المولى


إكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفسّاق ونحوهما ، ثمّ إذا ورد خاص كقولنا : لا تكرم فسّاقهم فهو يكشف عن أنّ مراده الجدي هو الخاص دون العام بعمومه ، ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه إمّا مطلقاً أو مقيداً ، ولا ثالث لهما ، وحيث إنّه لا يمكن أن يكون هو المطلق ، لفرض وجود المقيد والمخصص في البين ، فلا محالة يكون هو المقيد ، يعني أنّ موضوع العام يكون مقيداً بقيد عدمي ، ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً ، لا مطلق العالم ولو كان فاسقاً ، وعلى ضوء هذا البيان فاذا شك في عالم أنّه فاسق أو ليس بفاسق فكما أنّ صدق عنوان المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام ، فالصغرى في كليهما غير محرزة. فاذن لا محالة يكون التمسك بالعام بالاضافة إليه من التمسك به في الشبهات المصداقية ، كما أنّ التمسك بالخاص بالاضافة إليه كذلك.

وإن شئت فقل : إنّ التمسك بالعام إنّما هو من ناحية أنّه حجة وكاشف عن المراد الجدي ، لا من ناحية أنّه مستعمل في العموم ، إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً ، والمفروض أنّ المراد الجدي هنا غير المراد الاستعمالي ، حيث إنّ المراد الجدي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي ، وعليه فاذا شك في عالم أنّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالاضافة إلى الخاص ، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالاضافة إلى كل من العام بما هو حجة والخاص نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالاضافة إلى هذا الفرد ، فكذلك لايمكن التمسك بالعام بالاضافة إليه ، ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بالمسألة المتقدمة ـ وهي ما إذا كان


المخصص مجملاً ودار أمره بين الأقل والأكثر ـ [ خاطئ جدّاً ] ووجه الظهور هو أنّ تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم ، وأمّا بالاضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم.

وعلى الجملة : فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية ، بل من ناحية الشبهة المفهومية فيكون الشك شكاً في التخصيص الزائد بعد العلم بأنّ المشكوك فيه ليس من مصاديق المخصص ، دون المقام فانّ الشك فيه ليس شكاً في التخصيص الزائد ، وإنّما هو شك في أنّه من مصاديق العام بما هو حجة أو لا ، وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لاحراز أنّه من مصاديقه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعام فيها ، بل هو من التمسك بالعام في الشبهات الحكمية ، حيث إنّ الشك إنّما هو في التخصيص الزائد بالاضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاص ، نظراً إلى أنّ الخاص لا يكون حجةً بالاضافة إليه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج :

الاولى : أنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير ممكن.

الثانية : أنّ ما ذكر في وجه جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين المزبورين للحجة.

الثالثة : أنّه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك بالعام في الموارد المشكوك كونها من مصاديق الخاص من التمسك به في الشبهات المصداقية.


ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) قد فصّل في المقام بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية دون الثاني ، وتبعه في ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وقال في وجهه ما إليك نصه :

وأمّا إذا كان ـ المخصص ـ لبياً ، فان كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلاّفي الخصوص ، وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه ، والسر في ذلك : أنّ الكلام الملقى من السيد حجةً ليس إلاّما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بدّ من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى أكرم جيراني وقطع بأ نّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم ، كان أصالة العموم باقيةً على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته ، لعدم حجة اخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً ، فانّ قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأ نّه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقةً فيما كان الخاص متصلاً ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته إلاّفيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٤.


وبالجملة : كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعلّه لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما بالقاء حجتين هناك تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام كأ نّه لم يعمّه حكماً من رأس ، وكأ نّه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فانّ الحجة الملقاة ليست إلاّواحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في أكرم جيراني مثلاً لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلاّ فيما قطع بخروجه عن تحته ، فانّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه فلا بدّ من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. بل يمكن أن يقال إنّ قضية عمومه للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه فيقال في مثل لعن الله بني اميّة قاطبة أنّ فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً فينتج أنّه ليس بمؤمن ، فتأمل جيداً (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة خطوط :

١ ـ أنّ المخصص اللبي قد يكون كالمخصص اللفظي المتصل ، يعني يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم.

٢ ـ أنّه قد يكون كالمنفصل اللفظي ، يعني لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، ولكنّه يفترق عنه في نقطة وهي أنّ المخصص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، وأمّا إذا كان لبياً فهو غير مانع عنه ، والنكتة في ذلك : هو أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصص من باب تحكيم الخاص على العام ، وعليه فاذا شك في فرد أنّه من أفراد الخاص أو العام لم يمكن التمسك بالعام لاحراز أنّه من أفراده كما عرفت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.


بشكل موسّع ، وهذا بخلاف الثاني ، فانّه لا يوجب تقيد موضوع العام إلاّبما قطع المكلف بخروجه عن تحته ، فانّ ظهور العام في العموم حجة ، والمفروض عدم قيام حجة اخرى على خلافه وإنّما هو قطع المكلف بخروج بعض أفراده عن تحته للقطع بعدم كونه واجداً لملاك حكمه ، وهذا القطع حجة فيكون عذراً له في مقام الاحتجاج ، وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسك بعمومه فيها ، حيث إنّ المانع عنه على الفرض إنّما هو قطع المكلف به ، ومع فرض عدمه فلا مانع منه أصلاً.

٣ ـ أنّ التمسك بعموم العام للفرد المشكوك فيه يكون دليلاً على أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه من العنوان عن حكمه وأنّ هذا الفرد من أفراد العام ، هذا.

وقد أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك بيانه : وهذا الكلام ـ جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً غير لفظي ـ لا يسعنا تصديقه على إطلاقه ، فانّ المخصص إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً بأن كان صارفاً لظهور الكلام وموجباً لعدم انعقاد الظهور إلاّفي الخاص من أوّل الأمر ، فحكمه حكم القرينة المتصلة اللفظية فكما لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية معها كذلك لا يجوز التمسك بالعموم معه ، وأمّا إذا كان حكماً عقلياً أو إجماعاً بحيث لم يكن صالحاً لصرف ظهور العام من أوّل الأمر ، فحكمه حكم المخصص المنفصل اللفظي ، إذ كما أنّ المخصص اللفظي بعد تقدمه على عموم العام يكشف عن تقيد المراد الواقعي وعدم كون موضوع الحكم الواقعي مطلقاً فلا يمكن التمسك به عند عدم إحراز تمام موضوعه لأجل الشك في وجود القيد ، كذلك المخصص اللبي يكشف عن التقيد المزبور فلا يمكن التمسك بالعموم عند عدم إحراز تمام موضوعه ، فانّ الاعتبار في عدم اعتبار


جواز التمسك بالعموم إنّما هو بالمنكشف ، أعني به تقيد موضوع الحكم لباً ، لا بخصوصية الكاشف من كونه لفظياً أو عقلياً (١).

وبعد ذلك نقول : أمّا الخط الأوّل فهو في غاية الصحة والمتانة.

وأمّا الخط الثاني : فيرد عليه ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره لكن فيما إذا كان تطبيق الكبرى على الصغرى وإحرازها موكولاً بنظر المكلف ، سواء أكانت القضية حقيقيةً أم كانت خارجيةً ، لا مطلقاً حتى فيما إذا لم يكن موكولاً بنظره ، فلنا دعويان : الاولى عدم تمامية هذا الخط فيما إذا كان أمر التطبيق منوطاً بنظر المكلف. الثانية تماميته فيما إذا لم يكن كذلك.

أمّا الدعوى الاولى (٢) : فإن كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق موضوع الحكم فيها على أفراده في الواقع موكولاً بنظر المكلف وإحرازه ، فبطبيعة الحال يكون إحراز عدم وجود ملاك الحكم في فردٍ مّا كاشفاً عن أنّ فيه خصوصية قد قيد موضوع العام بعدمها ، وتلك الخصوصية قد تكون واضحةً بحسب المفهوم عرفاً والشك إنّما هو في وجودها في فردٍ مّا من أفراد العام ، وقد تكون مجملةً بحسب المفهوم كذلك ، يعني يدور أمرها بين أمرين أو الأكثر ، وهذا تارةً من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، واخرى من المتباينين ، أو العموم من وجه ، فالأقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : فلا يجوز فيه التمسك بالعام لاثبات الحكم له ، لفرض أنّ الشك فيه في وجود موضوعه وتحققه في الخارج ومعه لا محالة يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق فيه بين أن يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢.

(٢) [ تأتي الدعوى الثانية في ص ٣٥٤ ].


المخصص لفظياً أو لبياً.

وأمّا القسم الثاني : فلا مانع من التمسك به بالاضافة إلى المقدار الزائد عن المتيقن ، حيث إنّ مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد ، والمرجع فيه لا محالة هو عموم العام.

وأمّا القسم الثالث : فلا يمكن التمسك به لاجماله ، نظراً إلى أنّنا نعلم إجمالاً بتقييد موضوع العام بقيد مردد بين أمرين متباينين أو امور كذلك ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم الاجمالي مانع من التمسك به في المقام ، حيث إنّ شمول العام لكليهما معاً لا يمكن ، وشموله لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجّح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال وهو ما إذا ورد دليل يدل على وجوب إكرام كل عالم الشامل للعادل والفاسق وللنحوي وغيره ، ثمّ علم من الخارج أنّ ملاك وجوب الاكرام غير موجود في زيد العالم مثلاً ، وهذا تارةً من ناحية العلم بكون اتصافه بالفسق مانعاً عن تحقق ملاك وجوب الاكرام فيه ، واخرى من ناحية العلم بكون المانع من تحقق الملاك فيه واحدة من صفتي الفسق والنحوية الموجودتين فيه ، فعلى الأوّل لا محالة يستلزم ذلك العلم بتقييد موضوع وجوب الاكرام بعدم كونه فاسقاً ، وعليه فبطبيعة الحال لا يجوز التمسك بالعموم لاثبات وجوب الاكرام للعالم الذي شك في فسقه ، وعلى الثاني يستلزم العلم بتقييد الموضوع بعدم اتصافه بأحد الوصفين على نحو الاجمال ، ولازم ذلك إجمال العام وعدم جواز التمسك به لاثبات وجوب الاكرام للعالم الفاسق أو للنحوي.

نعم ، إذا علم أنّ المانع من تحقق الملاك هو صفة الفسق ولكنّها بحسب المفهوم مجمل ويدور أمره بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه وفاعل الصغيرة ، أو احتمل أنّ المانع من تحقق الملاك هو اجتماع الوصفين معاً لا كل


واحد منهما ، أو مع إضافة وصف آخر إليهما ، اقتصر في جميع هذه الفروض في تخصيص العام على القدر المتيقن ويتمسك في غيره بأصالة العموم ، كما كان هو الحال بعينه فيما دار أمر المخصص اللفظي بين الأقل والأكثر.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هو أنّه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي في شيء من الأحكام المزبورة فيما إذا كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق الموضوع على أفراده في الخارج بنظر نفس المكلف.

وأمّا إذا كانت القضية من قبيل القضايا الخارجية ، فإن كان المخصص لفظياً لم يجز التمسك بالعام في موارد الشبهات المصداقية ، حيث إنّ المخصص اللفظي يكون قرينةً على أنّ المولى أوكل إحراز موضوع حكمه في الخارج إلى نفس المكلف ، وبما أنّ موضوعه صار مقيداً بقيد بمقتضى التخصيص فبطبيعة الحال إذا شك في تحقق قيده في الخارج لم يمكن التمسك بالعموم ، لفرض عدم كونه ناظراً إلى وجوده فيه أو عدم وجوده كما سبق. وأمّا إذا كان المخصص لبياً فإن علم من الخارج أنّ المولى أوكل إحراز موضوع العام إلى نفس المكلف فحاله حال المخصص اللفظي ، كما إذا ورد في دليل : أعط لكل طالب علم في النجف الأشرف كذا وكذا ديناراً ، وعلم من الخارج أنّ مراد المولى هو المعيل دون المجرد ، ولازم ذلك بطبيعة الحال هو العلم بتقيد موضوع العام بعدم كونه مجرداً ، فعندئذ إذا شك في طالب علم أنّه معيل أو مجرد لم يمكن التمسك بعمومه ، لعدم إحراز أنّه من مصاديق العام.

وإن لم يعلم من الخارج ذلك صحّ التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية ، والسبب فيه : أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أنّه بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع الأفراد ولم يكل ذلك إلى المكلف ، ومن


المعلوم أنّ هذا الظهور حجة على المكلف في الموارد المشكوك فيها ، فاذا أمر المولى خادمه باكرام جميع جيرانه ، فانّ ظهور كلامه في العموم كاشف عن أنّه لاحظ جميع أفراد موضوع حكمه وأحرز وجود الملاك في الجميع ، ومن الطبيعي أنّ هذا الظهور حجة عليه ولا يجوز له التعدي عن مقتضاه إلاّ إذا علم خلافه ، كما إذا علم بأنّ زيداً مثلاً الذي يسكن في جواره عدوّه وأ نّه لا ملاك لوجوب الاكرام فيه جزماً ، وسكوت المولى عن بيانه لعلّه لأجل مصلحة فيه أو مفسدة في البيان أو غفل عنه أو كان جاهلاً بعدم وجود الملاك فيه ، وكيف ما كان فالمكلف متى ما علم بعدم وجود الملاك فيه فهو معذور في ترك إكرامه ، لأنّ قطعه هذا عذر له ، وهذا بخلاف ما إذا شك في فرد أنّه عدوّه أو لا فلا عذر له في ترك إكرامه ، حيث إنّه لا أثر لهذا الشك في مقابل الظهور ، نظراً إلى أنّه حجة فلا يجوز له رفع اليد عنه من دون قيام دليل وحجة أقوى بخلافه.

وأمّا الخط الثالث : فهو صحيح فيما إذا لم يكن إحراز الموضوع موكولاً إلى نظر المكلف كما هو الحال في مثل قوله عليه‌السلام : « لعن الله بني اميّة قاطبة » (١) فانّ هذه القضية بما أنّها قضية خارجية صادرة من الإمام عليه‌السلام من دون قرينة تدل على إيكال إحراز الموضوع فيها في الخارج إلى نظر المكلف ، فبطبيعة الحال تدل على أنّ المتكلم لاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز أنّه لا مؤمن بينهم ، وعليه فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعن الفرد المشكوك في إيمانه. أو فقل : إنّا إذا علمنا من الخارج أنّ فيهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه فلا يجوز لعنه جزماً ، وأمّا إذا شك في فرد أنّه مؤمن أو ليس بمؤمن فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعنه ، ويستكشف منه بدليل الانّ أنّه

__________________

(١) كامل الزيارات : ١٧٦.


ليس بمؤمن.

فالنتيجة : أنّ القضية إن كانت خارجيةً فإن كان المخصص لفظياً أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ إحراز الموضوع في الخارج موكول إلى نظر المكلف ، لم يجز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية. وأمّا إذا كان المخصص لبياً ولم تقم قرينة على ذلك فالقضية في نفسها ظاهرة في أنّ أمر التطبيق بيد المولى ، وأ نّه لاحظ جميع الأفراد الخارجية وجعل الحكم عليها ، مثلاً لو قال المولى لعبده : بع جميع ما عندي من الكتب ، فانّه يدل بمقتضى الفهم العرفي على أنّ المولى قد أحرز وجود ملاك البيع في كل واحد واحد من كتبه ، ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة إلاّفيما حصل له القطع بالخلاف ، فحينئذ يرفع اليد عن هذا الظهور ويعمل على طبق قطعه لأنّ حجيته ذاتية وهو معذور في العمل به وإن كان مخالفاً للواقع ، وأمّا في موارد الشك في وجود الملاك فالظهور حجة فيها ، ولو خالف ولم يعمل به استحق المؤاخذة واللوم ، إذ لا أثر لشكه بعد ما كان أمر التطبيق وإحراز الملاك بيد المولى.

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقد التفصيل الذي اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وحاصل ما اختاره أنّ المخصص اللبي بحسب مقام الاثبات على أنحاء ثلاثة :

أحدها : ما يوجب تقييد موضوع حكم العام وتضييقه نظير تقييد الرجل في قوله عليه‌السلام : « فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا » إلخ بكونه عادلاً ، لقيام الاجماع على ذلك ، فحال هذا القسم حال المخصص اللفظي في عدم جواز التمسك بالعموم معه في الأفراد المشكوك فيها ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٧.


ولا فرق في ذلك بين كون المخصص اللبي من قبيل القرينة المتصلة كما إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً ، أو من قبيل القرينة المنفصلة كما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً ، فانّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

وثانيها : ما يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وعلته من دون أن يوجب ذلك تقييد موضوع الحكم به ، حيث إنّه لا يصلح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فإن كان المخصص اللبي من هذا القبيل فلا إشكال في جواز التمسك بالعموم عندئذ في الشبهات المصداقية ، وكشف هذا العموم بطريق الانّ عن وجود الملاك في تمام الأفراد ، فاذا شك في وجود الملاك في فردٍ كان عموم الحكم كاشفاً عن وجود الملاك فيه ورافعاً للشك من هذه الناحية ، كما أنّه إذا علم بعدم الملاك في فردٍ كان ذلك الفرد خارجاً عن العام من باب التخصيص ، فيكون سكوت المولى عن حكم ذلك الفرد إمّا لأجل مصلحة مقتضية له أو مفسدة في بيانه كما في المولى الحقيقي ، أو لجهله بعدم الملاك فيه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية.

فالنتيجة : أنّ المخصص اللبي على هذا سواء أكان حكماً ضرورياً أم نظرياً أم إجماعاً لا يوجب تقييد موضوع الحكم في طرف العام ، حيث إنّ ملاك الحكم كما عرفت لا يصلح أن يكون قيداً لموضوعه ، والسبب في ذلك : هو أنّ إحراز اشتمال الأفراد على الملاك إنّما هو وظيفة نفس المولى ، فبعموم الحكم يستكشف أنّه أحرز وجود الملاك في تمام الأفراد فيتمسك به في الموارد المشكوكة.

وثالثها : ما لا يكشف عن شيء من الأمرين المزبورين ، يعني لا يعلم أنّه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما ، فاذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في موارد


الشك ، فقد فصّل قدس‌سره بين ما إذا كان المخصص اللبي حكماً عقلياً ضرورياً بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان ، وما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية ، حيث إنّ المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيسقط ظهوره في العموم لا محالة ، فانّ هذا المخصص اللبي إن كان كاشفاً عن الملاك لم يكن مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، وإن كان كاشفاً عن تقييد موضوع العام كان مانعاً عنه ، وبما أنّه مردد بين الأمرين فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد الظهور ، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك بالعموم حيث إنّ ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك به في الشبهات المصداقية ، والسبب في ذلك هو أنّ أمر المخصص بما أنّه يدور بين الأمرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به في الواقع ، بل هو مجرد الاحتمال ، ومن الطبيعي أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة ، ولا يمكن رفع اليد عنه بمجرد الاحتمال.

وجه الظهور : أي ظهور النقد ، هو ما عرفت من أنّه لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظياً أو لبياً. وأمّا في القضايا الخارجية فإن كان المخصص لفظياً ، أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ المولى أوكل أمر التطبيق وإحراز الموضوع إلى نفس المكلف ، فأيضاً لا يمكن التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق. نعم ، إذا كان المخصص لها لبياً ولم تقم قرينة على إيكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كانت القضية بنفسها ظاهرةً في أنّ المولى لاحظ بنفسه الأفراد الخارجية واشتمالها على الملاك ثمّ جعل الحكم عليها ، ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة ولا يمكن رفع اليد عنه إلاّفيما علم بعدم


اشتمال فرد على الملاك ، فيكون سكوت المولى عن استثنائه لعله لأجل مصلحة في السكوت أو لأجل مفسدة في الاستثناء ، أو لأجل جهل المولى به ، أو غفلته عنه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية ، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ إحراز اشتمال المتعلق على الملاك وظيفة الحاكم فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ العلم بعدم اشتمال فرد على الملاك لا ينفك عن العلم بعدم كونه واجداً لخصوصية موجودة في بقية الأفراد وإن كانت تلك الخصوصية أمراً عدمياً ، ومن الطبيعي أنّ العلم بدخل هذه الخصوصية في ملاك الحكم ملازم للعلم بأخذها في موضوعه ، وعليه فلا يجوز التمسك بالعموم لا محالة فيما إذا شك في انطباق الموضوع بتمام قيوده على فردٍ مّا في الخارج إذا لم يكن أمر التطبيق بيد المولى ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ المخصص اللبي قد يدور أمره بين أن يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وأن يكون قيداً للموضوع لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، والسبب فيه : أنّه لا يوجد مورد يشك في كون ما أدركه العقل من قبيل قيود الموضوع أو من قبيل الملاك المقتضي لجعل الحكم على موضوعه ، حيث إنّ كل ما يمكن انقسام الموضوع بالنسبة إليه إلى قسمين أو أزيد يستحيل أن يكون من قبيل ملاكات الأحكام ، بل لا بدّ من أن يكون الموضوع بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً بوجوده أو بعدمه ، كما أنّ كل ما يكون مترتباً على فعل المكلف في الخارج من المصالح أو المفاسد يستحيل كونه قيداً لموضوع الحكم وإنّما هو متمحض في كونه ملاكاً له ومقتضياً لجعله على موضوعه.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، وما اخترناه من التفصيل هو الصحيح.


تكملة

[ استصحاب العدم الأزلي ]

هل يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بعموم العام بالاضافة إليه؟ فيه قولان.

فذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى القول الأوّل ، وشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) إلى القول الثاني ، فهنا نظريتان. والصحيح هو النظرية الأولى دون الثانية.

ثمّ ليعلم أنّ محل الكلام في جريان هذا الأصل وعدم جريانه إنّما هو فيما إذا كان المخصص ذا عنوان وجودي وموجباً لتقييد موضوع العام بعدمه كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم ، أو قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، وأمّا إذا كان المخصص موجباً لتقييد موضوع العام بعنوان وجودي كقوله : أكرم العلماء العدول أو أكرم العلماء ثمّ قال : فليكونوا عدولاً ، فهو خارج عن محل الكلام ، فلو شك في فرد أنّه عادل أو ليس بعادل فلا أصل لنا لاحراز عدالته. نعم ، لو شك في بقائها فالاستصحاب وإن كان يقتضي ذلك إلاّ أنّه خارج عن مفروض الكلام ، حيث إنّ الكلام في وجود الأصل المحرز لعدالته مطلقاً وفي جميع الموارد ، ومثل هذا الأصل غير موجود.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٨.


ونظير ذلك ما ذكرناه في الفقه (١) من أنّ ما دل من الروايات على عدم انفعال الماء مطلقاً إلاّبالتغير بأحد أوصاف النجس قد قيد بروايات الكر الدالة على اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة دون القليل ، وإلاّ لكان عنوان الكر المأخوذ في لسان الروايات لغواً محضاً ، وعليه فيكون موضوع عدم انفعال الماء بالملاقاة إلاّ إذا تغير هو الماء المقيد بالكر دون مطلق الماء ، فاذا شك في ماء أنّه كر أم لا فلا أصل هنا لاحراز أنّه كر إلاّ إذا كانت لكريته حالة سابقة.

فالنتيجة : أنّ في كل مورد يكون المخصص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن إثباته بالأصل. فمحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان المخصص موجباً لتقيد العام بعنوان عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل ، كتقييد ما دل على انفعال الماء مطلقاً بالملاقاة بما دل على أنّ الماء الكر لا ينفعل بها ، فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الذي لا يكون كراً ، وعليه فاذا شك في ماء أنّه كر أو ليس بكر ، فالصحيح أنّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل لاثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي ، فانّ الموضوع على هذا مركب من أمرين : أحدهما عنوان وجودي. والآخر عنوان عدمي ، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ، ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال مركباً من الماء وعدم اتصافه بالكرية ، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل ، حيث إنّه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثمّ وجد الماء في الخارج فنشك في اتصافه بالكرية وأ نّه هل وجد أم لا ، فنستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.

__________________

(١) شرح العروة الوثقى ٢ : ٩٧ وما بعدها.


وكذا الحال في المثال الذي جاء به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وهو ما إذا شك في المرأة أنّها قرشية أو لا ، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها ، حيث إنّ في زمان لم تكن هذه المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثمّ وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى قريش فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه ، وبضم هذا الاستصحاب إلى الوجدان. يثبت أنّ هذه مرأة لم تكن قرشية ، والأوّل بالوجدان والثاني بالأصل ، فتدخل في موضوع العام.

ولكن أنكر ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) وقال بأنّ الاستصحاب لا يجري في العدم الأزلي ، واستدل على ذلك بعدّة مقدّمات :

الاولى : أنّ التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء أكان استثناءً أو غيره إنّما يوجب تقييد موضوع العام بغير عنوان المخصص ، فاذا كان المخصص أمراً وجودياً كان الباقي تحت العام معنوناً بعنوان عدمي. وإن كان المخصص أمراً عدمياً كان الباقي تحته معنوناً بعنوان وجودي ، والوجه فيه هو ما تقدم من أنّ موضوع كل حكم أو متعلقه بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له ، ولا بدّ من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه إمّا مطلقاً بالاضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي ، أو مقيداً بوجودها فيكون من الماهية بشرط شيء ، أو مقيداً بعدمها فيكون من الماهية بشرط لا ، لأنّ الاهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأوّلية مستحيل.

مثلاً العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النظر عن ثبوت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٧.


الحكم له ، وعليه فاذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب الاكرام له فهو لا يخلو من أن يجعل له مطلقاً وغير مقيد بوجود العدالة أو بعدمها ، أو يجعل له مقيداً باحدى الخصوصيتين ، ضرورة أنّه لا يعقل جهل الحاكم بموضوع حكمه وأ نّه غير ملاحظ له لا على نحو الاطلاق ولا على نحو التقييد ، ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها ، وعليه فاذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيداً بنقيض الخارج فيكون دليل المخصص مقيداً لاطلاقه ورافعاً له ، أو يبقى على إطلاقه بعد التخصيص أيضاً ، ولا ثالث لهما ، وبما أنّ الثاني باطل جزماً لاستلزامه التناقض والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاص فيتعيّن الأوّل.

نعم ، إذا كان المخصص متصلاً فهو مانع من انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل ، فاطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من المسامحة ، حيث إنّه لا تقييد ولا تخصيص في العموم ، فانّ الظهور من الأوّل قد انعقد في الخاص ، وإنّما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك اصلاً ، وإن كان فرق بينهما من ناحية اخرى كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعياً أو صنفياً أو فردياً أصلاً ، فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.

وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم ( قدس الله أسرارهم ) (١) بما ملخّصه : أنّ التخصيص لايوجب تعنون العام بأيّ عنوان ، حيث إنّه ليس إلاّكموت أحد أفراد العام ، فكما أنّه لا يوجب تعنون العام بأيّ عنوان فكذلك التخصيص ، غاية الأمر أنّ الأوّل موت تكويني والثاني موت تشريعي.

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٤٤٠ ، ٤٤٥ وراجع أيضاً نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٥١٩.


ويردّه : أنّ هذا القياس خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب فيه : أنّ الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في مرحلة التطبيق ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مردّها إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مثلاً قولنا : الخمر حرام يرجع إلى قولنا : إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه أنّه خمر فهو حرام ، وإذا لم يوجد مائع كذلك فلا حرمة ، فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها ، وهذا ليس تقييداً للحكم في مرحلة الجعل ، ضرورة أنّه مجعول في هذه المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه وإلاّ فلا حكم في هذه المرحلة ، أي مرحلة التطبيق والفعلية ، وهذا بخلاف التخصيص فانّه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت ، يعني أنّ دليل المخصص يكشف عن أنّ الحكم من الأوّل خاص ، وفي مقام الاثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع الموجود ، فيكون من السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في الموت التكويني.

الثانية : أنّ الوجود والعدم مرةً يضافان إلى الماهية ، يعني أنّها إمّا موجودة أو معدومة. وبكلمة اخرى : أنّ الماهية سواء أكانت من الماهيات المتأصلة كالجواهر والأعراض أو كانت من غيرها ، فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما ، ضرورة أنّه لا يعقل خلوّ الماهية عن أحدهما وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين ، فكما يقال إنّ الجسم الطبيعي إمّا موجود أو معدوم ، فكذلك يقال : إنّ البياض إمّا موجود أو معدوم ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم المحموليين ، نظراً إلى أنّهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين.


واخرى يلاحظ وجود العرض بالاضافة إلى معروضه لا ماهيته ، أو عدمه بالاضافة إليه ، ويعبّر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين تارةً ، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة اخرى ، وهذا الوجود والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ويستحيل تحققهما بدونه ، فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة ، يعني أنّ التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج ، ويستحيل التقابل بدونه ، أمّا احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها إلاّفي موضوع موجود ، وأمّا احتياج العدم فلأنّ المراد منه ليس العدم المطلق ، بل المراد منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للاتصاف بالملكة. مثلاً العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الاطلاق ، ولذا لا يصح سلبه عمّا لا يكون قابلاً للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلاً إنّه أعمى يعني ليس ببصير ، ومن هنا يصح ارتفاعهما معاً عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فانّ زيداً غير الموجود لا بصير ولا أعمى.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ اتصاف شيء بكل منهما يحتاج إلى وجوده وتحققه في الخارج ، بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها ، لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في الخارج ، ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فانّ الفرد الخارجي من العالم إمّا أن يكون عادلاً أو فاسقاً ، وأمّا المعدوم فلا يعقل اتصافه بشيء منهما ، وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معاً ، فانّه من ارتفاع النقيضين ، لما عرفت من أنّ الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما.


فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما ، حيث إنّ الشيء قبل وجوده لا يكون متصفاً بوجود الصفة ولا بعدمها ، ضرورة أنّ الاتصاف فرع وجود المتصف ، وأمّا إذا كانا محموليين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع ، ضرورة أنّه من ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتاً.

الثالثة : أنّ الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها.

أمّا إذا كان من قبيل الأوّل كأن يكون مركباً من وجودي زيد وعمرو مثلاً ، فتارةً يكون كلاهما محرزاً بالوجدان ، واخرى يكون كلاهما محرزاً بالأصل ، وثالثة يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ، كما إذا كان وجود زيد محرزاً بالوجدان وشك في وجود عمرو وأ نّه باقٍ أو مات ، فلا مانع من استصحاب بقائه وعدم موته ، وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع ، حيث إنّ الموضوع ليس إلاّذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلاّ لخرج عن محل الكلام ، فانّ محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة. على أنّه لا يمكن إحراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل.

وأمّا إذا كان من قبيل الثاني فتارةً يكونان عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد مثلاً وعلمه ، حيث إنّهما قد اخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات وجودي العدالة والعلم ، ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو أنّه إذا وجد العلم له في زمان كان عادلاً في ذلك الزمان ، فقد تحقق الموضوع بكلا جزأيه ، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد من دون


أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره ، والمفروض أنّ أحدهما لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتاً له. وإن كان كل واحد منهما نعتاً لموضوعه ومحتاجاً إليه ، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلاً ، وعليه فمرةً يكون كل منهما محرزاً بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني ، ومرةً اخرى يكون كل منهما محرزاً بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبيّنة مثلاً أو بالأصل أو أحدهما بالبيّنة والآخر بالأصل. ومرةً ثالثةً يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر محرزاً بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتاً بالوجدان وعدالته بالبيّنة أو بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو جواز التقليد أو نحوه.

واخرى يكونان عرضين لمعروضين في الخارج كاسلام الوارث مثلاً وموت المورّث حيث إنّ كلاً منهما وإن كان نعتاً لموضوعه إلاّ أنّ أحدهما ليس نعتاً للآخر ومتوقفاً عليه ، نظير الممكن فانّه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.

أو فقل : إنّ الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين خارجاً من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه ، وعليه فحالهما حال الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد ، فكما أنّه يمكن إحراز كليهما بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، فكذلك في المقام. ومن هذا القبيل ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا إنّ الموضوع مركب من ذاتي ركوع الإمام وركوع المأموم ، يعني ركوع المأموم تحقق في زمان كان الإمام فيه راكعاً ، وعليه فاذا شك المأموم حينما ركع أنّه هل أدرك الإمام في ركوعه أو لا ، فلا مانع من استصحاب بقاء الإمام فيه وبضمه إلى الوجدان


ـ وهو ركوع المأموم ـ يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره وهو صحة الاقتداء. وأمّا إذا قلنا إنّ المستفاد من الأدلة أنّ الموضوع لها عنوان آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الإمام ووجود ركوع المأموم في زمان واحد ، فلا يمكن إثباته إلاّعلى القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.

وعلى الجملة : فإن كان المستفاد من الأدلة هو أنّ الموضوع ذاتا الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية اخرى فيه ، فلا مانع من جريان الأصل وإثبات الموضوع به ، وأمّا إن كان المستفاد منها أنّه قد اخذ فيه خصوصية اخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام ليتمسك به إلاّ إذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.

وأمّا إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض ، فانّه تارةً يكون مركباً من جوهر وعرض لموضوع آخر كما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من وجود زيد مثلاً وعدالة عمرو أو وجود بكر وقيام خالد وهكذا ، فحال هذا الشق حال القسم الأوّل والثاني فلا مانع من إثباته بالأصل. وتارةً اخرى يكون مركباً من عرض وموضوعه كزيد وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا ، ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي ، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له ، فعندئذ إن كان لاتصاف الموضوع به وجوداً أو عدماً حالة سابقة جرى استصحاب بقائه وإلاّ فلا. مثلاً إذا كان لاتصاف الماء بالكرية أو بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة فلا يجري الاستصحاب ، فانّ استصحاب عدم الكرية بنحو العدم المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وإن كان لا مانع منه في نفسه ، نظراً إلى أنّ له حالة سابقة ، إلاّ أنّه لا يجدي في المقام ، حيث إنّه لا يثبت الاتصاف المزبور


ـ وهو مفاد كان أوليس الناقصة ـ إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لايمكن إثبات الوجود أو العدم النعتي باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك ، وهذا معنى قولنا : إنّ الوجود والعدم المحموليين مغايران للوجود والعدم النعتيين ، لا بمعنى أنّ في الخارج عدمين ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي ، ضرورة أنّ في الخارج ليس إلاّعدم واحد ووجود كذلك ، ولكنّهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارةً يلحظ وجود العرض أو عدمه في نفسه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم المحمولي ، واخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافاً إلى موضوعه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم النعتي ، فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع. مثلاً استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت.

وبعد هذه المقدمات أفاد قدس‌سره أنّ ما خرج عن تحت العام من العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة الاولى ، وأنّ هذا التقييد لا بدّ أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة بمقتضى المقدمة الثالثة ، وأنّ هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية ، وعليه فلا يمكن إحراز قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي ، ببيان أنّ المستصحب لا يخلو من أن يكون هو العدم النعتي المأخوذ في موضوع العام ، أو يكون هو العدم المحمولي الملازم للعدم النعتي بقاءً ، فعلى الأوّل لا حالة سابقة له ، فانّه من الأوّل مشكوك فيه ، وعلى الثاني وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن باستصحابه إحراز العدم النعتي المأخوذ في الموضوع إلاّعلى القول بالأصل المثبت.


وبكلمة اخرى : أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص بما أنّه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بالأصل ، لعدم حالة سابقة له ، والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن باستصحابه إثباته إلاّبناءً على الأصل المثبت ، وعلى ذلك فرّع قدس‌سره منع جريان أصالة العدم في المشكوك فيه من اللباس بناءً على كون المانعية المجعولة معتبرة في نفس الصلاة ومن قيودها ، فانّ الصلاة من أوّل وجودها لا تخلو من أن تكون مقترنةً بالمانع أو بعدمه ، فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل. وأمّا العدم الأزلي فهو وإن كان متحققاً سابقاً إلاّ أنّك عرفت أنّ استصحابه لا يجدي إلاّ إذا قلنا باعتبار الأصل المثبت.

وأمّا إذا كانت المانعية المجعولة معتبرةً في ناحية اللباس وكانت من قيوده ، فمرةً يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول ، واخرى لأجل الشك في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير ما لا يؤكل لحمه ، أمّا الأوّل فلا يجري فيه الأصل ، لما عرفت من أنّ العدم النعتي لا حالة سابقة له ، والعدم الأزلي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّ استصحابه لا يجدي لاثبات العدم النعتي بناءً على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت ، وأمّا الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق التكليف في الخارج.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي ، فاذن لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام من البراءة أو نحوها.

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده قدس‌سره بيان ذلك : أنّ ما أفاده ( قدس‌سره )


في المقدمة الاولى من أنّ التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلاً أو منفصلاً وسواء أكان نوعياً أو صنفياً أو فردياً لا محالة يوجب تعنون موضوع العام بعدم عنون المخصص وتقيده به ، في غاية الصحة والمتانة ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول فلا بدّ إمّا من الاطلاق أو التقييد ، وحيث إنّ الاطلاق غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص ، فلا مناص من التقييد ، فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع العام عدماً نعتياً أصلاً.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) في المقدمة الثانية من أنّ وجود العرض قد يضاف إلى ماهيته ويعبّر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة ، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم المحمولي ومفاد ليس التامة ، وقد يضاف إلى موضوعه المحقق في الخارج ويعبّر عنه بالوجود النعتي ومفاد كان الناقصة ، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم النعتي ومفاد ليس الناقصة ، فهو في غاية الصحة والمتانة. كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الوجود والعدم إذا كانا محموليين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية ، ضرورة أنّها لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً فلا ثالث لهما ، فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو مستحيل ، وأمّا إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما ، حيث إنّ الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فاذا لم يكن متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم ، وهذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين ، في غاية الصحة والمتانة. وغير خفي أنّ هذه المقدمة أيضاً لا تقتضي كون المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتي.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) في المقدمة الثالثة من أنّ الموضوع المركب لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو أحد جزأيه جوهر والآخر


عرض ولا رابع لها. أمّا القسم الأوّل والثاني فقد عرفت فيهما أنّ إحراز كلا جزأي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزاً بالوجدان بمكان من الامكان. وأمّا القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر ، وأمّا إذا كان مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أنّه لا يمكن إحرازه بالأصل ، فانّ المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتي ، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له ، وحينئذ فإن كان له حالة سابقة فهو وإلاّ فلا يمكن إحرازه بالأصل. وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتي ، فانّه إن كانت له حالة سابقة فهو ، وإلاّ لم يجر الأصل فيه ، وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كانت له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحابه إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فهو متين جداً ولا مناص عنه ، إلاّ أنّه لا يقتضي كون العدم ـ أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام ـ هو العدم النعتي دون العدم المحمولي.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها قدس‌سره لاتقتضي الالتزام بما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في المقام ، فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الاستاذ قدس‌سره ليس في هذه المقدمات وإنّما هو في العام المخصص بدليل ، وأنّ موضوعه بعد التخصيص هل قيّد بالعدم النعتي أو بالعدم المحمولي ، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه فيها. مثلاً ما دلّ على أنّ الماء الكر لا ينفعل بالملاقاة يكون مخصصاً للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقاً ولو كان كراً ، وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام ـ وهو الانفعال ـ بعدم عنوان المخصص ـ وهو الكر ـ هل يكون المأخوذ فيه هو الاتصاف بعدم كونه كراً أو المأخوذ


فيه هو عدم الاتصاف بكونه كراً؟ فعلى الأوّل إن كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه وإلاّ لم يجر. واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتي إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام الموضوع ، غاية الأمر أنّ أحد جزأيه ـ وهو الماء ـ كان محرزاً بالوجدان ، وجزأه الآخر ـ وهو العدم المحمولي ـ قد احرز بالأصل. وكذا إذا شك في امرأة أنّها قرشية أو لا ، فإن قلنا إنّ المأخوذ في موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه إن كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه لعدم حالة سابقة له ، وإن كان عدم الاتصاف بها لا مانع منه.

فالنتيجة : أنّ محل النزاع إنّما هو في أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه ما هو؟ هل هو العدم النعتي أو العدم المحمولي ، وقد برهن شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي دون المحمولي بما حاصله : أنّ المأخوذ في موضوع العام من جهة ورود المخصص عليه لو كان هو العدم المحمولي ليكون الموضوع مركباً من الجوهر وعدم عرضه بمفاد كان التامة ، فلا محالة إمّا أن يكون ذلك مع بقاء إطلاق الموضوع بالاضافة إلى كون العدم نعتاً ، أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتاً أيضاً. وبكلمة اخرى : أنّ العدم النعتي بما أنّه من نعوت موضوع العام وأوصافه ولذا ينقسم الموضوع باعتباره إلى قسمين ، مثلاً العالم الذي هو موضوع في قضية أكرم كل عالم إلاّ إذا كان فاسقاً ، له انقسامات منها انقسامه إلى اتصافه بالفسق مثلاً واتصافه بعدمه ، فلا محالة إمّا أن يكون الموضوع ملحوظاً بالاضافة إليه مطلقاً ، أو مقيداً به أيضاً ، أو مقيداً بنقيضه ، بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل.

أمّا القسم الأوّل : وهو ما إذا كان الموضوع بالاضافة إلى العدم النعتي مطلقاً ،


فهو غير معقول للزوم التناقض والتهافت بين إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي وتقييده بالاضافة إلى العدم المحمولي ، فانّ الجمع بينهما غير ممكن ، حيث إنّ العدم النعتي ذاتاً هو العدم المحمولي مع زيادة شيء عليه وهو إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ، فلا يعقل أن يكون الموضوع في مثل قضية كل مرأة ترى الدم إلى خمسين إلاّ القرشية مثلاً مطلقاً بالاضافة إلى العدم النعتي ، وهو اتصافه بعدم القرشية بعد فرض تقييده بالعدم المحمولي ، وهو عدم القرشية بمفاد ليس التامة ، بداهة أنّ مردّ إطلاق الموضوع في القضية هو أنّ المرأة مطلقاً ـ أي سواء أكانت متصفة بالقرشية أم لم تكن ـ تحيض إلى خمسين ، وهذا الاطلاق كيف يجتمع مع الاستثناء وتقييد المرأة بعدم كونها قرشيةً بمفاد ليس التامة ، فالنتيجة أنّ إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي بعد تقييده بالعدم المحمولي غير معقول.

وأمّا القسم الثاني : فهو أيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الموضوع قد قيّد بعدم الفسق بمفاد ليس التامة فكيف يعقل تقييده بوجوده بمفاد كان الناقصة ، فاذن يتعين القسم الثالث وهو تقيده بالعدم النعتي ، فاذا قيّد الموضوع به فهو أغنانا عن تقييده بالعدم المحمولي ، حيث إنّه يستلزم لغوية التقييد به. فالنتيجة هي أنّه لا مناص من تقييد موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه بالعدم النعتي ، ومعه لا يمكن التمسك بالاستصحاب في العدم الأزلي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره :

أوّلاً : أنّ النكتة التي ذكرها قدس‌سره لاستلزام التخصيص تقييد موضوع حكم العام بالعدم النعتي لو تمت لم تختص بخصوص ما نحن فيه ، بل تجري في الموضوعات المركبة بشتى أنواعها حتى فيما إذا كان مركباً من


جوهرين أو عرضين لمحل واحد أو محلين ، والسبب فيه : هو أنّ انقسام كل جزء من أجزاء الموضوع المركب بمقارنته للجزء الآخر زماناً أو مكاناً وعدمها بما أنّه من الانقسامات الأوّلية والأعراض القائمة بالجوهر فلا بدّ من لحاظها في الواقع ، لاستحالة الاهمال فيه ، وعليه فبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من أن يلحظ كل جزء مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة للجزء الآخر زماناً أو مكاناً ، أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له كذلك ، أو مطلقاً لا هذا ولا ذاك ، ومن المعلوم أنّ الثاني والثالث كليهما غير معقول.

أمّا الثاني فلفرض أنّ تقييد جزء الموضوع بجزئه الآخر قد ثبت في الجملة ومعه كيف يعقل أخذه فيه متصفاً بعدم مقارنته له ، ضرورة أنّه في طرف النقيض معه. وكذا الحال في الثالث ، لوضوح أنّ فرض الاطلاق فيه بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة وعدمه يستلزم التدافع بينه وبين التقييد المزبور ، فاذن لا مناص من الالتزام بالأوّل ، ومن الطبيعي أنّ مع اعتبار التقييد بالاتصاف بالمقارنة بمفاد كان الناقصة يلزم لغوية تقييد كل جزء بنفس وجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة.

والنكتة فيه : أنّ مفاد كان الناقصة هو مفاد كان التامة مع اشتماله على خصوصية زائدة ، وهي إضافته إلى موضوعه ومحلّه ، وعليه فبطبيعة الحال إذا افترضنا تقييد جزء موضوع بالاضافة إلى جزئه الآخر بمفاد كان الناقصة لزم لغوية تقييده بالاضافة إليه بمفاد كان التامة ، ويترتب على ذلك أنّه لا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس وجود أحد الجزأين مع إحراز الآخر بالوجدان إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين :

الأوّل : ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من جوهرين كوجودي زيد


وعمرو مثلاً ، فانّ وجود كل منهما بالاضافة إلى الآخر لا يخلو من أن يكون ملحوظاً مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة له ، أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له ، أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما لاستحالة الاهمال في الواقع ، وحيث إنّ الشقي الثاني والثالث غير معقول فلا محالة يتعين الشق الأوّل ، ومعه يكون تقييده بوجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً كما عرفت ، وعليه فلا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

الثاني : ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من عرضين في محلّين كاسلام الوارث وموت المورّث ، حيث إنّ موضوع الإرث مركب منهما ، وعليه فبطبيعة الحال إمّا أن يلحظ كل منهما بالاضافة إلى الآخر مقيداً باتصافه بالمقارنة له بمفاد كان الناقصة ، أو مقيداً باتصافه بعدم المقارنة له بمفاد ليس الناقصة ، أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما ، ولا رابع لها وذلك لاستحالة الاهمال في الواقع ، وقد تقدم أنّ القسمين الثاني والثالث يستلزمان التدافع والتناقض فلا يمكن الأخذ بشيء منهما. وأمّا القسم الأوّل فلا مناص من الأخذ به ، ومعه لا محالة يكون تقييد أحدهما بالآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً بعد ثبوت التقييد بينهما بمفاد كان الناقصة. فاذن لا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، كما إذا كان الموت محرزاً بالوجدان وشك في بقاء إسلام الوارث ، فباستصحاب بقائه لا يثبت الاتصاف بالمقارنة إلاّعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة : أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو أنّه لايمكن إحراز الموضوعات المركبة بشتى أنواعها وأشكالها بضم الوجدان إلى الأصل.

وثانياً : حلّ ذلك بصورة عامة وهو ما ذكرناه في ضمن بعض البحوث السالفة من أنّ موضوع الحكم أو متعلقه بالاضافة إلى ما يلازمه وجوداً في


الخارج لا مطلق ولا مقيد ولا مهمل. أمّا الاطلاق فهو غير معقول حيث إنّ مردّه إلى أنّ ما افترضناه من الموضوع أو المتعلق للحكم ليس موضوعاً أو متعلقاً له ، فانّ معنى إطلاقه بالاضافة إليه هو أنّه لا ملازمة بينهما وجوداً وخارجاً وهو خلف. وأمّا التقييد فهو لغو محض ، نظراً إلى أنّ وجوده في الخارج ضروري عند وجود الموضوع أو المتعلق ، ومعه لا معنى لتقييده به. وأمّا الاهمال فهو إنّما يتصور في المورد القابل لكل من الاطلاق والتقييد ، فانّ المولى الملتفت إليه لا يخلو من أن يلاحظ متعلق حكمه أو موضوعه بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً ، لاستحالة الاهمال في الواقع ، وأمّا إذا لم يكن المورد قابلاً لذلك كما فيما نحن فيه فلا موضوع للاهمال فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ الاطلاق والتقييد إنّما يتصوران في المحل القابل لهما ، يعني ما يمكن لحاظ الموضوع أو المتعلق بالاضافة إليه مطلقاً تارةً ومقيداً اخرى ، كالقبلة مثلاً بالنسبة إلى الصلاة حيث يمكن لحاظ الصلاة مطلقة بالاضافة إليها ويمكن لحاظها مقيدة بها ، ولكن بعد تقييد الصلاة بها كما امتنع إطلاقها بالاضافة إليها كذلك امتنع تقييدهابعدم كونها إلى دبر القبلة ، فانّ هذا التقييد أصبح ضرورياً بعد التقييد الأوّل ، يعني أنّ التقييد الأوّل يغني عنه ويلازمه وجوداً بلا حاجة إليه.

وإن شئت قلت : إنّ للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة ، فانّها تستلزم في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق وخلفه في طرف الشمال ، بل لها لوازم غير متناهية ، ومن الطبيعي كما أنّه لا معنى لاطلاقها بالاضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها ، حيث إنّها قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ، ومعها لا محالة يكون كل من الاطلاق


والتقييد بالاضافة إليها لغواً ، حيث إنّهما لا يعقلان إلاّفي المورد القابل لكل منهما ، لا في مثل المقام فانّ تقييدها إلى القبلة يغني عن تقييدها بها ، كما هو الحال في كل متلازمين في الوجود الخارجي ، فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، حيث إنّه لغو صرف بعد التقييد الأوّل ، كما أنّ الأمر بأحدهما يغني عن الأمر بالآخر حيث إنّه لغو محض بعد الأمر الأوّل ، ولا يترتب عليه أيّ أثر ، فلو أمر المولى بالفعل المقيد بالقيام كالصلاة مثلاً فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، فانّ تقييده به بعد التقييد الأوّل لغو محض.

فالنتيجة : أنّ ما ذكرناه سارٍ في جميع الامور المتلازمة وجوداً ، سواء أكانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث ، فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، كما أنّ الأمر به يغني عن الأمر بالآخر ، وعليه فلا معنى لاطلاق المأمور به بالاضافة إليه ، فانّ إطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول ، لفرض تقييده به قهراً ، وأمّا إطلاقه بحسب مقام الاثبات فانّه لغو ، وكذلك تقييده به في هذا المقام. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ العدم النعتي ملازم للعدم المحمولي ، وعليه فتقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بعنوان الخاص كالقرشية مثلاً لا يبقي مجالاً لتقييده باتصافه بعدم ذلك العنوان الخاص ولا لاطلاقه بالاضافة إليه ، فكما أنّ تقييد المراة مثلاً باتصافها بعدم القرشية يغني عن تقييدها بعدم اتصافها بالقرشية ، كذلك التقييد بعدم اتصافها بالقرشية يغني عن التقييد باتصافها بعدم القرشية ، ضرورة أنّه مع وجود المرأة في الخارج كان كل من الأمرين المزبورين ملازماً لوجود الآخر لا محالة ، فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الآخر أصلاً.


وعلى الجملة : فحيث إنّ العدم النعتي والعدم المحمولي متلازمان في الخارج ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فبطبيعة الحال إذا قيّد الموضوع أو المتعلق بأحدهما لم يبق مجال للتقييد أو الاطلاق بالاضافة إلى الآخر. نعم ، إنّما تظهر الثمرة بين التقييد بالعدم المحمولي والتقييد بالعدم النعتي في صحة جريان الأصل وعدمها ، فعلى الأوّل لا مانع من جريان الأصل في نفس العدم وإحراز تمام الموضوع بضمه إلى الوجدان كما هو الحال في بقية موارد تركب الموضوع من جزأين أو أكثر ، وعلى الثاني فلا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس العدم بمفاد ليس التامة إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ أخذ كل من العدم المحمولي والعدم النعتي في الموضوع أو المتعلق يغني عن أخذ الآخر فيه بحسب مقام الثبوت والواقع ، فلا مجال للاطلاق أو التقييد بالاضافة إليه أصلاً. نعم ، في ظرف الشك فيه تظهر النتيجة بينهما في جريان الأصل وعدمه ، نظراً إلى أنّ المأخوذ في الموضوع أو المتعلق إذا كان العدم المحمولي أمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، وأمّا إذا كان المأخوذ فيه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إلاّ على القول بالأصل المثبت. نعم ، لو كانت حالة سابقة لنفس ذلك العدم جرى الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يلتئم الموضوع المركب.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما إذا كان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق الوجود المحمولي وما إذا كان المأخوذ فيه الوجود النعتي ، فعلى الأوّل إذا شك في بقائه فلا مانع من جريان الأصل فيه وبه يحرز الموضوع أو المتعلق إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، كما إذا افترضنا أنّ الصلاة مقيدة بالطهارة بمفاد كان


التامة ، فعندئذ إذا شك في بقائها فلا مانع من استصحاب بقائها وبه يحرز أنّ المكلف قد صلّى في زمان كان واجداً للطهارة في ذلك الزمان ، أمّا الصلاة فيه فهي محرزة بالوجدان وأمّا الطهارة فهي محرزة بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ، وعلى الثاني إذا شك في بقائه لم يمكن إحرازه بجريان الأصل فيه إلاّعلى أساس أحد أمرين : إمّا القول باعتبار الأصل المثبت أو يكون لنفس هذا الوجود حالة سابقة ، ومثاله هو ما إذا افترضنا أنّ المأخوذ في الصلاة هو عنوان اقترانها بالطهارة واجتماعها معها ، وعليه فلا يمكن إحراز هذا العنوان باستصحاب بقاء الطهارة إلاّعلى القول بحجية الأصل المثبت ، أو فيما إذا كانت حالة سابقة لنفس هذا العنوان.

وعلى ضوء هذه النتيجة يقع الكلام في أنّ التخصيص هل يوجب تعنون موضوع العام بعدم اتصافه بعنوان المخصص بمفاد ليس التامة ، أو يوجب تعنونه باتصافه بعدم ذلك العنوان بمفاد ليس الناقصة ، قد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الثاني. والصحيح هو الأوّل فلنا دعويان :

الاولى : بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الثانية : صحة ما اخترناه.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ التخصيص لا يقتضي تقييد موضوع العام بكونه متصفاً بعدم عنوان المخصص ليترتب عليه تركب الموضوع من العرض ـ وهو العدم النعتي ـ ومحلّه ، فانّ غاية ما يترتب عليه فيما إذا كان المخصص عنواناً وجودياً هو تقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بذلك العنوان الوجودي ، بيان ذلك : أنّه قد حقق في محلّه أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ويستحيل أن يتحقق بدون وجود موضوع محقق في الخارج ، حيث


إنّ حقيقة وجود العرض حقيقة متقوّمة بالموضوع الموجود خارجاً في مقابل وجود الجوهر حيث إنّه في ذاته غني عن الموضوع وقائم بذاته ، ولذا قيل في تعريف الجوهر بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في نفسه في قبال تعريف العرض بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في غيره يعني متقوّماً بغيره ، ومن هنا يكون وجوده المحمولي عين وجوده النعتي ، يعني أنّ في الخارج وجوداً واحداً والاختلاف بينهما إنّما هو في الاضافة باعتبار إضافته إلى نفسه محمولي ، وباعتبار إضافته إلى موضوعه نعتي.

وعلى هذا فإن كان الموضوع مركباً من جوهرين أو عرضين في محل واحد أو في محلّين ، أو عرض مع غير محلّه وموضوعه ففي جميع ذلك يكون العرض مأخوذاً في الموضوع بوجوده المحمولي وبمفاد كان التامة ، فانّ أخذه بمفاد كان الناقصة في هذه الموارد يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلاّ فالقضية في نفسها وبطبعها لا تقتضي أزيد من أخذه بمفاد كان التامة ، وأمّا إذا كان مركباً من العرض ومحلّه الخاص كالكرية المأخوذة في الماء والعدالة المأخوذة في زيد مثلاً وهكذا ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون المأخوذ فيه العرض بوجوده النعتي ، ضرورة أنّ الحكم إنّما يترتب على خصوص وجوده في ذلك المحل الخاص والموضوع المخصوص ، ومن المعلوم أنّه بعينه وجود نعتي ، لما عرفت آنفاً أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فوجود الكرية في ماء هو بعينه ثبوت الكرية له الذي يعبّر عنه باتصافه بالكرية وما هو مفاد كان الناقصة ، وكذا وجود العدالة في زيد مثلاً هو بنفسه ثبوت العدالة له المعبّر عنه باتصاف زيد بالعدالة الذي هو مفاد كان الناقصة ، فعلى الأوّل لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وعلى الثاني لا يمكن ذلك ، فانّ استصحاب وجود العدالة بمفاد كان التامة لا يثبت اتصاف زيد بها ، وكذا استصحاب وجود


الكرية كذلك لا يثبت اتصاف الماء بها إلاّ إذا كانت لهذا الاتصاف حالة سابقة ، وأمّا في غير هذه الصورة فلا مجال لجريان الاستصحاب وترتب آثار الوجود النعتي إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ، فالأثر المترتب على كرية ماء في الخارج أو عدالة زيد مثلاً إنّما يترتب عليها بضم الوجدان إلى الأصل فيما إذا علم باتصاف الماء بالكرية أو اتصاف زيد بالعدالة ليستصحب بقاؤه عند الشك فيه ، وأمّا مع عدم العلم بهذا الاتصاف فلا يمكن إحراز كريته أو عدالته باستصحاب وجود طبيعي الكرية أو العدالة بمفاد كان التامة ولو مع العلم بالملازمة بين وجودها في الخارج واتصافه بها ، حيث إنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

فالنتيجة : أنّ الموضوع إذا كان مركباً من العرض ومحلّه فلا محالة يكون المأخوذ فيه هو وجود العرض بمفاد كان الناقصة ، حيث إنّ ثبوته لموضوعه بعينه هو اتصافه به كما عرفت.

وأمّا إذا كان مركباً من عدم العرض ومحلّه فلا يلزم أن يكون العدم مأخوذاً فيه بمفاد ليس الناقصة حتى لا يمكن إحرازه بالأصل ، بل الظاهر هو أنّه مأخوذ فيه بمفاد ليس التامة ، والسبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين وجود العرض وعدمه ، حيث إنّ العرض في وجوده يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج لا في عدمه فانّه لا يحتاج إلى موضوع كذلك ، بداهة أنّ نقطة الافتقار إلى وجود الموضوع في عالم العين إنّما تكون من لوازم وجود العرض دون عدمه ، فكرية الماء مثلاً وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت لا محالة في الموضوع ، إلاّ أنّ عدم كريته ليس كذلك ، بل هو أمر أزلي كان متحققاً قبل تحقق موضوعه ، فاذا تحقق ماء في الخارج ولم يكن متصفاً بالكرية كان عدم


كريته الذي يعبّر عنه بعدم اتصافه بالكرية باقياً على ما كان عليه في الأزل ، وكذا عدم عدالة زيد مثلاً ، فانّ عدالته وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت في الموضوع لا محالة إلاّ أنّ عدم عدالته ليس كذلك ، بل هو ثابت من الأزل سواء أكان موضوعها موجوداً أم لا ، فاذا وجد زيد في الخارج ولم يكن متصفاً بالعدالة فبطبيعة الحال كان عدم عدالته المعبّر عنه بعدم اتصافه بالعدالة باقياً على ما كان عليه في الأزل.

نعم ، قد يؤخذ في موضوع الحكم اتصافه بعدم شيء على نحو الموجبة المعدولة إلاّ أنّ هذا الاعتبار يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة ، حيث إنّ صِرف عدم شيء بما هو هو لم تؤخذ فيه أيّة خصوصية من الخصوصيات ، منها كونه صفةً ونعتاً لموضوع موجود في الخارج ، ضرورة أنّه بطلان محض ، فلا بدّ في أخذه نعتاً لموضوع محقق فيه من اعتبار خصوصية في ذلك الموضوع ملازمةٍ لأخذ العدم كذلك ، وتلك الخصوصية هي إضافته إليه ، ومن المعلوم أنّها خصوصية زائدة على أصل العدم وذاته.

وأمّا على تقدير تحقق هذا الاعتبار وأخذ العدم في الموضوع كذلك فلا يجري الاستصحاب في مورده لاحراز تمام الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، إلاّ إذا كان لاتصاف الموضوع به حالة سابقة ، فعندئذ لا مانع من جريان استصحاب بقائه ، وبضم الوجدان إليه يحرز الموضوع بكلا جزأيه.

وأمّا إذا لم تكن حالة سابقة له فلا يجري الاستصحاب فيه ، ولا يكفي في صحة جريانه العلم بعدم اتصافه ، أي اتصاف الموضوع بوجود ذلك الوصف قبل ذلك ، فانّه وإن كان يوجب صحة جريانه في عدم الاتصاف بالوصف الوجودي بمفاد ليس التامة ، ضرورة أنّه لا مانع منه في نفسه ، إلاّ أنّه لا يجدي


في إحراز موضوع الحكم في محل الفرض ، لأنّ المفروض أنّ العدم المأخوذ فيه إنّما هو بمفاد ليس الناقصة والعدم النعتي دون العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة ، ومن المعلوم أنّ استصحاب العدم المحمولي وما هو بمفاد ليس التامة لا يثبت العدم النعتي وما هو بمفاد ليس الناقصة الذي له خصوصية وجودية زائدة ، وهي خصوصية إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ، إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة دون العدم المحمولي.

وعلى ضوء هذه النتيجة فالظاهر أنّ عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه هو العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة دون العدم النعتي وما هو مفاد ليس الناقصة ، فانّ أخذه فيه يحتاج إلى عناية ونصب قرينة وإلاّ فالقضية ظاهرة في أنّ المأخوذ هو الأوّل دون الثاني ، مثلاً الظاهر في مثل قضية : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم هو تقييد موضوعها بعدم الاتصاف بالفسق لا بالاتصاف بعدمه.

وعلى الجملة : إذا اخذ وجود عرض في محلّه موضوعاً لحكم شرعي فهو وإن كان لا بدّ من كونه مأخوذاً فيه على وجه النعتية والصفتية وما هو مفاد كان الناقصة ، إلاّ أنّ ذلك لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم وارتفاعه ، لوضوح أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يرتفع عند عدم اتصافه بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة من دون أن يتوقف ذلك على اتصاف الموضوع بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة ، وعليه فمفاد قضية : المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية وإن كان هو اعتبار صفة القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم الخاص ،


وهو الحكم بتحيض المرأة القرشية بعد الخمسين ، إلاّ أنّ من الواضح أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية أي مفاد ليس الناقصة ، وإنّما يستدعي أخذه في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة ، أعني به مفاد ليس التامة ، فكل امرأة لا تكون متصفةً بالقرشية باقية تحت العام بعد خروج خصوص المرأة المتصفة بها ، لا أنّ الباقي تحته المرأة المتصفة بعدمها أي بعدم القرشية.

والنكتة في ذلك : ما عرفت من أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة في مقام الثبوت والاثبات دون أخذ العدم المحمولي ، فقضية : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم في نفسها ظاهرة في أنّ المأخوذ في موضوعها هو العدم المحمولي ، فانّ دلالتها على أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي تحتاج إلى رعاية نصب قرينة لكي تدل على اعتبار خصوصية زائدة على أخذ نفس العدم فيه ، كما أنّ أخذه في مقام الثبوت يحتاج إلى لحاظ عناية زائدة.

وعلى ذلك فاذا شك في كون المرأة الفلانية قرشية من جهة الشبهة الموضوعية دون الحكمية ، فلا مانع من التمسك باستصحاب عدمها الثابت لها قبل وجودها في عالم التكوين ، حيث إنّ في زمانٍ لم تكن المرأة موجودةً ولا اتصافها بالقرشية ، ثمّ وجدت المرأة في الخارج وشك في أنّ اتصافها بالقرشية هل وجد أيضاً ، فلا مانع فيه من استصحاب عدم اتصافها بها وأ نّه لم يوجد وبذلك يثبت موضوع العام فانّ كونها مرأة محرز بالوجدان وعدم اتصافها بالقرشية بالاستصحاب ، وبضمه إلى الوجدان يحرز الموضوع بكلا جزأيه ويترتب عليه أثره وهو أنّها تحيض إلى خمسين ولا تحيض إلى ستين.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ دعوى استلزام التخصيص بعنوان وجودي أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على وجه الصفتية والنعتية كما


أصرّ على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، ولأجل ذلك منع عن جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، حيث قد عرفت بشكل موسّع أنّ التخصيص بعنوان وجودي سواء أكان بالاستثناء أو بمخصص منفصل إنّما يستلزم تقييد موضوع العام بعدم ذلك العنوان الوجودي بمفاد ليس التامة ، نظراً إلى أنّ أخذ عدم عرضٍ مّا في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلاّ أخذه كذلك ، فانّ تقييده به بمفاد ليس الناقصة يحتاج إلى عناية زائدة ثبوتاً وإثباتاً ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، ويترتب على جريانه فيها ثمرات في أبواب الفقه كما لا يخفى.

بقي هنا شيء : وهو أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من العبارة بقوله : لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلاّ ما شذ ممكناً (١) ما هو مراده ومقصوده؟ الظاهر أنّ مراده منها هو أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بما أنّه كان مقيداً بعدم عنوان الخاص ، فلا محالة يكون المنافي لحكمه هو وجود هذا العنوان الخاص دون غيره من العناوين ، فانّ أيّ عنوان كان وجودياً أو عدمياً فلا يكون اتصافه وتعنونه به مانعاً عن ثبوت حكمه له.

مثلاً في جملة : كل مرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية يكون المانع عن

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.


ثبوت هذا الحكم العام لكل مرأة إنّما هو هذا العنوان الوجودي وهو عنوان القرشية دون غيره من العناوين ، إذ أيّ عنوان فرض إمكان اتصاف المرأة به سواء أكان وجودياً أم كان عدمياً دون ذاك ، لا يكون مانعاً عن ثبوت هذا الحكم العام لها.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية إلاّفي صورة واحدة ، وهي ما إذا كان عموم العام على سبيل القضية الخارجية وكان المخصص له لبياً ، فانّ لمثل هذا العام ظهوراً في نفسه في أنّ أمر التطبيق بيد المولى ، وعليه فلا محالة يكون عمومه حجةً حتى في الفرد المشكوك فيه على ما تقدم بشكل موسّع.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة اخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقاً للنذر ، بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم ، وكلّ ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً ، للقطع بأ نّه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك (١).

ملخّص ذلك : هو أنّه لا مانع من تصحيح عبادة لم تثبت مشروعيتها من ناحية النذر ، حيث إنّ وجوب الوفاء به يكشف عن صحتها وإلاّ لم يجب الوفاء به جزماً ، نظير الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فانّه كالصلاة قبل الوقت في عدم المشروعية كما في بعض الروايات ومع ذلك يصح بالنذر ، وكذا الصوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.


في السفر فانّه غير مشروع ومع ذلك يصح بالنذر.

حري بنا أنّ نتكلم في هذه المسألة في مقامين :

الأوّل : في صحة هذا النذر وفساده.

الثاني : في صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر بالنذر.

أمّا المقام الأوّل : فلا شبهة في أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلاً عن المرجوح ، ضرورة أنّ ما كان لله تعالى لا بدّ وأن يكون راجحاً حتى يصلح للتقرب به إليه تعالى ، فانّ المباح لا يصلح أن يكون مقرّباً ، فاذن لابدّ أن يكون متعلقه عملاً صالحاً لذلك.

وعلى ضوء ذلك فلو شك في رجحان عمل وعدمه لم يمكن التمسك بعموم أوفوا بالنذور ، لفرض أنّ الشبهة هنا مصداقية وقد تقدم أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بل هو من أظهر أفراد التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام ، يعني فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنواناً وجودياً كما هو المفروض هنا ، فانّ موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بعنوان وجودي وهو عنوان الراجح ، وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، لفرض أنّ الشك في رجحان هذا الوضوء ، ومعه كيف يمكن التمسك به.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا المقام الثاني : فلأنّ الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر. وعلى


ذلك فامّا أن نجعل هذه الأدلة مخصصةً لما دلّ على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه ، وإمّا أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي قدس‌سره في العروة (١).

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بأن لازم هذه النظرية إمكان تصحيح النذر في المحرّمات أيضاً بالرجحان الناشئ من قبله فضلاً عن المكروهات ، وهو كما ترى.

وفيه : أن ما أورده قدس‌سره على هذه النظرية خاطئ جداً ، والسبب في ذلك : أنّ ما دل على حرمة شيء أو كراهته باطلاقه يشمل ما قبل النذر وما بعده ، يعني أنّه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده ، بداهة أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيداً لاطلاقه وإلاّ لأمكن تحليل جميع المحرّمات والواجبات فعلاً وتركاً بالنذر كما أفاده ، والسر فيه : أنّ دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظراً إلى أنّ ما تعلق به النذر راجح أو ليس براجح ، وعليه فلا بدّ من إحرازه من الخارج. نعم ، قد يكون تعلق النذر به ملازماً لانطباق عنوان راجح عليه فحينئذ يصح النذر ، إذ لا يعتبر في صحته أن يكون متعلقه راجحاً قبله أي قبل النذر زماناً ، بل يكفي فيها مقارنته معه زماناً.

وعلى الجملة : فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سبباً وموجباً لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض محبوباً والحرام راجحاً ، حيث إنّه غير ناظر إلى أنّ متعلقه راجح أو غير راجح حرام

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٣٨١ المسألة ١٧ [١٢٠٧].

(٢) العروة الوثقى ( المحشّاة ) : ٢ : ٢٧٤ المسألة ١٧ / فصل في أوقات الرواتب.


او ليس بحرام وهكذا ، بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج ، فان أحرزنا أنّه راجح صح النذر ، وإن لم يحرز ذلك ـ سواء أحرزنا أنّه مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز ـ فهو غير صحيح.

وعليه فبما أنّ ما دل على حرمة شيء كشرب الخمر مثلاً أو كراهته باطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضاً ، فلا محالة لا يكون مثل هذا النذر صحيحاً لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء بالنذر لما عرفت ، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر ، فانّ صحته في تلك المسألتين إنّما هو من ناحية الروايات الخاصة ، ومن الواضح أنّنا نستكشف من هذه الروايات أنّ تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجح عليهما أو موجب له ، ولأجله يصح النذر ويجب الوفاء به ، فتكون تلك الروايات مقيدةً لاطلاق أدلة عدم مشروعية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.

وبكلمة اخرى : أنّ الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر ، يعني أنّ تعلقه بشيء إذا كان موجباً لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا إشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال في تلك المسألتين ، وأمّا إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن إحرازه ، وبدونه لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلاً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ صحة الصوم في السفر بالنذر وكذا الإحرام قبل الميقات إنّما هي من ناحية أحد أمرين ، إمّا من ناحية أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيداً لاطلاق ما دل على اعتبار الرجحان في متعلقه ،


وإمّا من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة النذر على الشكل الذي عرفت.

بقي هنا أمران ، الأوّل : ما إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلاً غير واجب ، ولكن لا ندري أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص عموم إكرام كل عالم بغيره ، أو أنّه من ناحية التخصص ، يعني أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية أنّه ليس بعالم ، فدار الأمر في المقام بين التخصيص والتخصص ، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء ، حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت لعدم تأثير ماء الاستنجاء فيه ـ الملاقي ـ فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص ، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي له هل يكون مخصصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس أو يكون خروجه منه بالتخصص؟

فيه خلاف بين الأصحاب ، فذهب بعضهم إلى الأوّل ، وآخر إلى الثاني بدعوى أنّه لا مانع من التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات طهارة ماء الاستنجاء ، نظراً إلى أنّ الاصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضاً ، فالنتيجة أنّه لا مانع من التمسك بها لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى : أنّ الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يقدم الأوّل على الثاني؟ فيه قولان. المعروف في الألسنة هو القول الثاني ، واستدل عليه بأصالة عدم التخصيص في طرف العام ، وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها


العقلية والعادية ، نظراً إلى أنّ المثبتات من الاصول اللفظية حجة. مثلاً إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في أنّ خروجه منه بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود التخصيص عليه لاثبات التخصص.

ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت بآية أو رواية حتى نأخذ باطلاقها في أمثال المورد ، وإنّما هي ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء ، فاذن بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد ، وقد ثبت جريان سيرتهم فيما إذا احرز فردية شيء لعام وشك في خروجه عن حكمه ، ففي مثل هذا المورد لا مانع من التمسك بها ، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس بأن علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه ، حيث إنّا نعلم بأن زيداً مثلاً خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أنّ خروجه من ناحية أنّه ليس بفرد له أو من ناحية التخصيص ، فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها ، ومع عدم إحرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.

أو فقل : إنّ الاصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجة ، لما ذكرناه في محلّه من أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً ، يعني في أصل الوجود والحجية ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها ، ضرورة أنّها تسقط بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه (١). هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودةً من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء ، وأمّا إذا لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٦٢.


موضوع للدلالة الالتزامية ، لفرض أنّها متفرعة عليها فكيف يعقل وجودها بدون تلك.

وبعد ذلك نقول : إنّ ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشيء فرداً لعام وشك في خروجه عن حكمه ، ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجةً فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضاً ، لما عرفت من أنّها تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والحجية. وأمّا في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض تماماً فلا تجري هذه الأصالة ، لعدم إحراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنّك بدلالتها الالتزامية. مثلاً لو قال المولى لعبده : بع جميع كتبي الموجودة في مكتبتنا هذه فباع جميعها ، فليس للمولى الاعتراض عليه بقوله : لماذا بعت الكتاب الفلاني ، بل له إلزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة على الخلاف ، وأمّا إذا قال له : بع جميع كتبي ثمّ قال : لا تبع الكتاب الفلاني ونشك في أنّه وقف أو عارية أو أنّه ملكه ، فعلى الأوّل يكون خروجه من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص ، فلا يمكن التمسك بأصالة العموم لاثبات التخصص ، لعدم إحراز جريان السيرة على التمسك بها في مثل المقام. ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّ أمره يدور بين أن يكون خروجه عن عموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص أو التخصص.

بيان ذلك : أنّ في ماء الاستنجاء أقوالاً ثلاثة : الأوّل : النجاسة. الثاني : الطهارة ، ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب. الثالث : النجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشيء بملاقاته.

أمّا القول الأوّل : فلا أصل له ، حيث إنّه يقوم على أساس الأخذ بعموم ما


دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضاً ، ولكن فساده بمكان من الوضوح ، فانّ الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم جزماً ، للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته. فاذن هذا القول على تقدير القائل به خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، فيدور الحق بين القولين الأخيرين ، ونقول : إنّ هنا طوائف من الروايات :

الاولى : ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.

الثانية : ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس.

الثالثة : ما دلت على عدم انفعال الملاقي لماء الاستنجاء فحسب. ثمّ إنّ هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصةً للطائفة الاولى بغير ماء الاستنجاء ، ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس كالبول أو العذرة ، وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب التخصص ، أو تكون مخصصةً للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب ، ولا ثالث لهما ، فالاحتمال الأوّل يقوم على أساس إحدى دعويين :

الاولى : أنّ الحكم بطهارة الملاقي لماء الاستنجاء إن كان لطهارته ، فلا تخصيص في الطائفة الثانية الدالة على انفعال الملاقي للماء النجس. وإن كان مع نجاسة ماء الاستنجاء ، لزم التخصيص في هذه الطائفة ، فبأصالة عدم التخصيص تثبت طهارة ماء الاستنجاء.


ويرد على هذه الدعوى أوّلاً : أنّ أصالة العموم في هذه الطائفة معارضة بأصالة العموم في الطائفة الاولى ، للعلم الاجمالي بتخصيص إحداهما بالطائفة الثالثة بناءً على ما هو الصحيح من أنّ مثبتاتها حجة ، فانّ لازم أصالة العموم في الطائفة الاولى تخصيص الطائفة الثانية ، كما أنّ لازم أصالة العموم في الطائفة الثانية تخصيص الطائفة الاولى من ناحية ، وإثبات التخصص من ناحية اخرى ، يعني خروج الملاقي لماء الاستنجاء عن عموم الطائفة الثانية موضوعياً لا حكمياً ، فلا يمكن الجمع بينهما معاً ، لاستلزامه طرح الطائفة الثالثة رأساً.

وثانياً : أنّ هذه الأصالة لا تجري في مثل المقام في نفسها ، للعلم التفصيلي بسقوطها إمّا تخصيصاً وإمّا تخصصاً ، فلا تجري لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى : أنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا علم بفردية شيء للعام وشك في خروجه عن حكمه ، وأمّا إذا علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته له ففي مثل ذلك لا مجال للتمسك بها أصلاً ، وما نحن فيه من هذا القبيل. نعم ، بناءً على جريانها في نفسها تقع المعارضة بين إطلاق الطائفة الاولى وإطلاق الطائفة الثانية. ودعوى أنّ الطائفة الثانية واردة في موارد خاصة فلا إطلاق لها خاطئة جداً ، فانّها وإن كانت كذلك إلاّ أنّ إلغاء خصوصيات الموارد بالارتكاز العرفي مما لا شبهة فيه ، وبضم هذا الارتكاز إليها يثبت الاطلاق ، وحيث لاترجيح في البين فيسقط كلا الاطلاقين معاً ويرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء ، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع موضوعي له ، فالصحيح هو عدم جريانها في نفسها في أمثال المقام.

الثانية : أنّ مقتضى الارتكاز العرفي هو التلازم بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه ، وعلى ضوء هذا التلازم فما دلّ على طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ يدل


بالالتزام العرفي على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وفيما نحن فيه بما أنّ الطائفة الثالثة تدل على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء فبطبيعة الحال تدل بالالتزام العرفي على طهارة ماء الاستنجاء ، فتكون مخصصةً للطائفة الاولى.

ويرد على هذه الدعوى أوّلاً : أنّ هذه الدلالة الالتزامية معارضة بالدلالة الالتزامية الموجودة فيما دلّ على نجاسة العذرة الشامل باطلاقه للعذرة عند ملاقاة ماء الاستنجاء لها جزماً ، حيث إنّه يدل بالدلالة الالتزامية على نجاسته بالملاقاة ، فانّ مقتضى تلك الدلالة الالتزامية نجاسة ماء الاستنجاء ومقتضى هذه طهارته فلا يمكن الجمع بينهما للتدافع. نعم ، على هذا فالنتيجة هي القول بالطهارة حيث إنّ كلتا الدلالتين الالتزاميتين تسقط فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة الطهارة.

وثانياً : أنّ المستفاد من روايات الباب ـ وهي الطائفة الثالثة ـ عدم وجود هذه الدلالة الالتزامية ، حيث إنّ محطّ السؤال فيها عن حكم الملاقي لماء الاستنجاء ، ومن الطبيعي أنّ السؤال عن حكمه من حيث الطهارة أو النجاسة مساوق لعدم الجزم بالملازمة بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه إمّا في مرتبة ملاقاة الثوب أو البدن لماء الاستنجاء ، أو في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة بعد اليقين بنجاسة العذرة ، وحكم الإمام عليه‌السلام في تلك الروايات بطهارة الثوب الملاقي لا محالة يدل على عدم الملازمة في إحدى المرتبتين ، فإن كان عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمردّه إلى التخصيص في المقام ، وإن كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمردّه إلى التخصص ، وحيث إنّ تلك الطائفة ـ يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب ـ لا تدل على تعيينه ، أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة ، فلا محالة لا ظهور لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها. فاذن لا مانع من الرجوع إلى


عموم الطائفة الاولى ، حيث إنّ قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.

ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة ولا سيما معتبرة عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجّس ذلك ثوبه؟ قال : لا » (١) فانّها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على ذلك ، وخصوصاً ملاحظة حال المفتي والمستفتي ، فانّه إذا سأل العامي مقلّده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بأ نّه غير منجّس فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.

وعليه فهذه الروايات تعيّن عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين النجاسة ـ وهي العذرة في مفروض المقام ـ نظراً إلى أنّها واردة في مورد خاص ، دون ما دلّ على نجاسة العذرة فانّه يدل بالالتزام على نجاسة ملاقيها مطلقاً في هذا المورد وغيره ، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة الالتزامية في غير هذا المورد.

بقي هنا شيء (٢) : وهو أنّ ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فرداً له كما إذا تردد أمر زيد في مثل لا تكرم زيداً بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية ، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بأصالة العموم بالاضافة إلى زيد العالم ، لفرض أنّ الشك كان

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٣ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ١٤ ح ٥.

(٢) [ وهو الأمر الثاني ].


في خروجه عن حكم العام ، وبذلك يثبت التخصص ، يعني أنّ الخارج هو زيد الجاهل بناءً على أن مثبتاتها حجة ، والوجه فيه هو أنّ هذا المورد من موارد التمسك بها ، حيث إنّ فرديته للعام محرزة والشك إنّما هو في خروجه عن حكمه ، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة حيث إنّها بعكس ذلك تماماً ، يعني أنّ هناك كان خروج الخارج عن حكم العام معلوماً والشك إنّما هو في فرديته له ، وقد تقدم أنّه لا دليل في مثل ذلك على جريان أصالة العموم لاثبات التخصص.

ولكن قد يقال : بأنّ العلم الاجمالي بحرمة إكرام زيد المردد بين العالم وغيره موجب لترك إكرامهما ، وأصالة العموم لا توجب انحلاله ، نظراً إلى أنّها غير متكفلة لبيان حال الأفراد ، وليس حالها كقيام أمارة على أنّ زيداً العالم يجب إكرامه ، حيث إنّه يوجب انحلاله جزماً ، نظراً إلى أنّها متكفلة لبيان حال الفرد دونها ، فاذن تسقط عن الحجية بالاضافة إلى زيد العالم أيضاً.

وغير خفي ما في هذا القول ، فانّ أصالة العموم وإن لم تكن ناظرةً إلى بيان حال الأفراد ، إلاّ أنّها مع ذلك توجب انحلال هذا العلم الاجمالي ، بيان ذلك :

هو أنّ لها دلالة مطابقية ودلالة التزامية ، فبالاولى تدل على وجوب إكرام زيد العالم ، وبالثانية تدل على انتفاء الحرمة عنه وإثباتها لزيد الجاهل باعتبار أنّ مثبتاتها حجة ، وعلى هذا فلا محالة ينحل هذا العلم الاجمالي إلى علمين تفصيليين هما : العلم بوجوب إكرام زيد العالم ، والعلم بحرمة إكرام زيد الجاهل فلا تردد حينئذ.

وفي نهاية المطاف قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية : وهي أنّ مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصص إذا كانت بالاضافة إلى فرد واحد فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أنّه لا دليل على جريان أصالة العموم فيها لاثبات التخصص ، فاثبات كل منهما يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه إلاّ إذا


كان هناك أصل موضوعي يحرز به أنّ المشكوك فرد للعام أو ليس بفرد له.

فعلى الأوّل يثبت التخصيص ، وعلى الثاني التخصص ، ولكنّه خارج عن مفروض الكلام.

نعم ، قد يكون مقتضى دليل آخر التخصيص كما في مسألة ماء الاستنجاء فانّ نتيجة التمسك بعموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس هي نجاسة ماء الاستنجاء ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم بطهارة الملاقي له تخصيصاً في دليل انفعال الملاقي لماء النجس ، وقد سبق تفصيل ذلك بشكل موسع (١). وأمّا إذا كانت كبرى مسألة دوران الأمر بينهما بالاضافة إلى فردين يكون أحدهما فرداً للعام والآخر ليس بفرد له فقد عرفت أنّه لا مانع من الرجوع إلى أصالة العموم لاثبات التخصص.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ الكلام في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه يقع في موارد ثلاثة : ١ ـ في الشبهات الحكمية. ٢ ـ في الشبهات المفهومية. ٣ ـ في الشبهات المصداقية. أمّا في الاولى فلا خلاف في جواز التمسك بالعام فيها إلاّما نسب إلى بعض العامة من عدم جوازه مطلقاً أو التفصيل بين المخصص المنفصل والمخصص المتصل فلا يجوز في الأوّل دون الثاني.

الثانية : الصحيح هو جواز التمسك بالعام مطلقاً ، يعني بلا فرق بين كون المخصص منفصلاً أو متصلاً. ودعوى أنّ المخصص إذا كان منفصلاً يوجب التجوز في العام المستلزم لاجماله فلا يمكن التمسك به خاطئة جداً ، وذلك لعدة

__________________

(١) في ص ٣٩٤.


وجوه منها ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره على تفصيل تقدم.

الثالثة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره يرجع إلى عدة نقاط وقد ناقشنا في النقطة الثالثة منها فحسب دون غيرها.

الرابعة : أنّ العام دائماً يستعمل في معناه الموضوع له وإن لم يكن مراداً واقعاً وجداً ، فانّ الارادة الجدية قد تكون مطابقةً للارادة الاستعمالية وقد لا تكون مطابقة لها ، وما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّا لا نعقل للارادة الاستعمالية في مقابل الارادة الجدية معنىً معقولاً ، قد ذكرنا خطأه وأ نّه لا واقع موضوعي له.

الخامسة : أنّ الوجه الثاني والثالث كليهما يرجع إلى ما حققناه في المقام وليس وجهاً آخر في قبال ما ذكرناه.

السادسة : أنّ ما عن شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من أنّ التخصيص في العام وإن استلزم المجاز فيه إلاّ أنّه لا يمنع من التمسك به بالاضافة إلى غير ما هو الخارج عنه من الأفراد ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه على ما عرفت بشكل موسّع.

السابعة : أنّ المخصص المجمل بحسب المفهوم تارةً يدور أمره بين الأقل والأكثر ، واخرى بين المتباينين ، وعلى كلا التقديرين مرةً اخرى يكون متصلاً واخرى يكون منفصلاً ، فإن كان متصلاً منع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم ، من دون فرق بين أن يكون دائراً بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين ، وإن كان منفصلاً فإن كان أمره دائراً بين الأقل والأكثر فبما أنّه لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم فبطبيعة الحال يقتصر في تخصيصه بالمقدار المتيقن ـ وهو خصوص الأقل ـ وفي الزائد عليه يرجع إلى عموم العام ، وإن


كان دائراً بين المتباينين فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً إلاّ أنّه يوجب إجماله حكماً فلا يمكن التمسك به.

الثامنة : أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقاً ، أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً. أمّا على الأوّل فواضح كما تقدم بشكل موسّع. وأمّا على الثاني فكذلك حيث إنّ القضية سواء أكانت حقيقيةً أم كانت خارجيةً لا تتكفل لبيان موضوعها نفياً وإثباتاً وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم عليه على تقدير تحققه في الخارج ، وما نسب إلى المشهور من أنّهم يجوّزون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مبني على الحدس والاستنباط ولعله لا أصل له. وأمّا ما نسب إلى السيد الطباطبائي قدس‌سره من جواز التمسك به فيها لا أصل له كما عرفت بشكل مفصّل.

التاسعة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية ، واحتمل أنّ وجه فتواهم بذلك أحد امور ، ثمّ ناقش في جميع هذه الامور وبعد ذلك بيّن قدس‌سره وجهاً آخر لذلك وقد تقدم أنّ ما ذكره قدس‌سره من الوجه متين جداً. نعم ، فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدّعي ضمانه بعوضه وهو يدّعي فراغ ذمته عنه ، ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم الضمان على تفصيل تقدم.

العاشرة : أنّ ما يمكن أن يستدل به على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية هو أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاده على الفرض ، والمفروض أنّ هذا الظهور حجة ما لم يقم دليل على خلافه ، ولا دليل عليه بالاضافة إلى الأفراد المشكوكة ، حيث إنّ الخاص لا يكون حجة فيها وقد عرفت بشكل موسّع خطأ هذا الاستدلال فلاحظ.


الحادية عشرة : أنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره فصّل بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام دون الثاني ، وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً وقد أفاد في وجه ذلك ما يرجع إلى عدّة خطوط وقد فصّلنا الكلام حول هذه الخطوط بشكل موسّع وقلنا إنّ هذا التفصيل لا يرجع إلى معنىً محصّل ، فالصحيح هو تفصيل آخر : وهو أنّ في كل مورد ثبت أنّ أمر التطبيق أيضاً بيد المولى يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكل مورد كان أمر التطبيق بيد المكلف لا يجوز التمسك به.

الثانية عشرة : الصحيح جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وعليه فيمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام وترتب حكمه عليه ، ولكن أنكر ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وشدّد ذلك ببيان مقدمات ، وقد ذكرنا أنّ المقدمات التي ذكرها قدس‌سره بأجمعها في غاية الصحة والمتانة إلاّ أنّها لا تقتضي عدم جريان هذا الأصل ، وأنّ المأخوذ في موضوع العام بعد التخصيص هو العدم النعتي لا المحمولي ، وقد عرفت أنّ المأخوذ فيه هو العدم المحمولي ، وعليه فلا مانع من جريان هذا الأصل لاحراز أنّ الفرد المشتبه داخل في أفراد العام ومحكوم بحكمه.

الثالثة عشرة : أنّه يعتبر في صحة النذر أن يكون متعلقه راجحاً ، فلو شك في ذلك لم يجز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، لأنّ الشبهة مصداقية فلا يجوز التمسك بالعام فيها ، وأمّا صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر وكذلك الصوم في السفر فانّما هي من جهة الروايات الخاصة لا من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر.

الرابعة عشرة : إذا علم بخروج فرد عن حكم العام وشك في أنّ خروجه


من باب التخصيص أو من باب التخصص فلا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات أنّ خروجه من باب التخصص ، فانّ الاصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجةً إلاّ أنّه لا دليل على جريانها في مثل المقام.

الخامسة عشرة : أنّ الأقوال في ماء الاستنجاء ثلاثة ، الصحيح بمقتضى الفهم العرفي أنّه طاهر ، فانّ ما دلّ على طهارة ماء الاستنجاء بالملازمة العرفية يتقدم على ما دلّ على نجاسته كذلك ، لوروده في مورد خاص.

الفحص عن المخصص

قبل التكلم في ادلته ينبغي تقديم ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) تبعاً للمحقق صاحب الكفاية (٢) وهو نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص في موارد الاصول العملية وحاصلها : هو أنّ الفحص في المقام إنّما هو عن المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها ـ وهو ظهوره في العموم ـ حيث إنّه قد انعقد ، لفرض عدم الاتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهوره في العموم ، والفحص إنّما هو عن وجود قرينة منفصلة وهي إنّما تزاحم حجية العام لا ظهوره ، فالمقتضي للعمل به موجود ـ وهو الظهور ـ والفحص إنّما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع ، وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالاصول العملية ، فانّه لتتميم المقتضي.

أمّا بالاضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح ، حيث إنّ العقل لا يستقل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥١.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢٧.


بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى المتوجهة إليه ، لوضوح أنّه لا يجب على المولى إيصال الأحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شيء منها ، بل الذي هو وظيفة المولى بيان الأحكام لهم على النحو المتعارف بحيث إنّهم لو قاموا بما هو وظيفتهم وهي الفحص عنها لوصلوا إليها.

وعلى هذا الضوء فلايكون موضوع أصالة البراءة العقلية محرزاً قبل الفحص ، فانّ موضوعها عدم البيان فلا بدّ في جريانها من إحرازه ، ومن المعلوم أنّه قبل الفحص غير محرز حيث يحتمل وجود بيان في الواقع بحيث لو تفحّصنا عنه لوجدناه ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون محرزاً. فالنتيجة : أنّ عدم جريانها قبل الفحص إنّما هو لعدم المقتضي لها ، والفحص إنّما هو لتتميمه وإحراز موضوعها. وعلى الجملة فمن البديهي أنّ العقل يستقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول إذا لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى مع احتمال قيام المولى بما هو وظيفته من بيان أحكامه المتوجهة إلى عبده بحيث إنّ العبد لو تفحص عنها لظفر بها ، ومعه كيف يكون العقل مستقلاً بعدم استحقاق العقاب عليها.

وقد ذكرنا في محلّه أنّه لا تنافي بين هذه القاعدة وقاعدة قبح العقاب من دون بيان ، لاختلافهما مورداً وموضوعاً. أمّا مورداً ، فلأن مورد تلك القاعدة ما كان التكليف الواقعي فيه منجّزاً بمنجّزٍ مّا ، دون مورد هذه القاعدة ، أي قاعدة قبح العقاب حيث إنّ التكليف الواقعي فيه غير منجّز لفرض عدم قيام منجّز عليه. وأمّا موضوعاً ، فلأنّ موضوع تلك القاعدة هو ما قام بيان على التكليف ومنجّز عليه ولو كان ذلك البيان والمنجّز نفس احتماله في الواقع ، حيث إنّه منجّز بحكم العقل إذا كان قبل الفحص ، وأمّا موضوع هذه القاعدة هو ما


لا يقوم بيان ومنجّز عليه.

وأمّا البراءة الشرعية فأدلتها على تقدير تماميتها سنداً وإن كانت مطلقة وغير مقيدة بالفحص ، إلاّ أنّ إطلاقها قد قيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص وأ نّه لا يجوز العمل باطلاقها ، وإلاّ لزم كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ، ضرورة أنّه لو لم يجب الفحص بحكم العقل والنظر لم يمكن إثبات أصل النبوة ، حيث إنّ إثباتها يتوقف على وجوب النظر إلى المعجزة وبدونه لا طريق لنا إلى إثباتها. وعلى الجملة فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل المستقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث الرسل وإنزال الكتب ، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعية المتوجهة إلى العباد بعين هذا الملاك.

فالنتيجة : أنّ موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيّد بما بعد الفحص ، فالفحص في مواردها إنّما هو متمم لموضوعها ، ومن ذلك يظهر حال دليل الاستصحاب أيضاً حرفاً بحرف.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاداه قدس‌سرهما بيان ذلك : أنّ هذه النظرية وإن كانت لها صورة ظاهرية ، إلاّ أنّه لا واقع موضوعي لها ، فانّ الفحص في كلا المقامين كان مرّةً عن ثبوت المقتضي والموضوع ، ومرّةً اخرى عن وجود المزاحم والمانع ، توضيح ذلك : أنّ العمومات الواردة في الكتاب أو السنّة أو من الموالي العرفية إن كانت في معرض التخصيص بحيث قد قامت قرينة من الخارج على أنّ المتكلم بها قد اعتمد في بيان مراداته منها على القرائن المنفصلة والبيانات الخارجية المتقدمة أو المتأخرة زماناً ، حيث إنّ دأبه إنّما هو على عدم بيان مراده في مجلس واحد ، أو أخّر البيان لأجل مصلحة مقتضية لذلك كما هو الحال في عمومات الكتاب ، حيث إنّ الله تعالى أوكل بيان المراد منها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام.


ومن هنا قد ورد من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام مخصصات بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة أو ورد منهم عليهم‌السلام عمومات ولكن اخّر بيانها إلى أمد آخر لأجل مصلحة تقتضي ذلك أو مفسدة في البيان كخلاف تقية أو نحوها ، ونتيجة ذلك : أنّ مثل هذه العمومات التي قد علمنا من الخارج أنّها في معرض التخصيص وأنّ دأب المتكلم بها إنّما هو على بيان مراداته الواقعية منها بالقرائن المنفصلة المتأخرة عنها زماناً أو المتقدمة عليها كذلك ، لا يكون حجةً قبل الفحص ، لعدم إحراز بناء العقلاء على العمل بها قبله ، وبدونه فلا يمكن التمسك بها ، حيث إنّ عمدة الدليل على حجيتها إنّما هو بناء العقلاء على التمسك بها ، وبما أنّنا لم نحرز البناء منهم على التمسك بتلك الطائفة من العمومات قبل الفحص عن وجود القرائن على خلافها ، فلا يمكن الحكم بحجيتها بدونه ، فاذن بطبيعة الحال كان الفحص عن وجود تلك القرائن بالاضافة إلى هذه العمومات متمماً للموضوع والمقتضي للعمل بها وبدونه لا يتم ، وعليه فحالها من هذه الناحية حال أصالة البراءة فكما أنّ الفحص في موارد التمسك بها يكون متمماً للموضوع والمقتضي له ، فكذلك الفحص في موارد التمسك بهذه العمومات.

وأمّا إذا كانت العمومات ليست من تلك العمومات التي تكون في معرض التخصيص كما هو الحال في أكثر العمومات الواردة من الموالي العرفية بالاضافة إلى عبيدهم وخدمهم ، أو من الموكّلين بالاضافة إلى وكلائهم ، أو من الامراء بالاضافة إلى المأمورين ، فانّ هذه العمومات ليست في معرض التخصيص ، ولأجل ذلك لا مانع من العمل بها قبل الفحص ، حيث إنّها كاشفة عن أنّ المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي وظاهرة في ذلك ، وهذا الظهور حجة ما لم تقم قرينة على الخلاف ولا يجب عليهم الفحص.


والسر في ذلك كلّه : هو أنّ السيرة القطعية من العقلاء قد جرت على العمل بها قبل الفحص ، فالتوقف عن العمل بها قبله خلاف تلك السيرة الجارية بينهم ، وهذا بخلاف تلك العمومات فانّ السيرة لم تجر على العمل بها قبل الفحص عن وجود المخصصات والقرائن على الخلاف ، نظراً إلى أنّها غير كاشفة عن مطابقة الارادة الاستعمالية للارادة الجدية ، فاذا كانت العمومات من هذا القبيل لم يجب الفحص عنها إلاّفيما إذا علم إجمالاً بورود مخصص عليها ، فعندئذ لا محالة يجب الفحص لأجل هذا العلم الاجمالي ، حيث إنّه لو لم ينحل بالفحص لكان موجباً لسقوطها عن الحجية والاعتبار ، وضرورة أنّ أصالة العموم تسقط في أطرافه.

ومن الواضح أنّ الفحص حينئذ إنّما هو عن وجود المانع والمزاحم مع ثبوت المقتضي للعمل بها ، يعني هذا العلم الاجمالي يكون مانعاً عن العمل بها مع ثبوت المقتضي له ، ومثل هذه العمومات الاصول العملية في الشبهات الموضوعية حيث إنّ المقتضي للعمل بها في تلك الشبهات تام ولا قصور فيه أصلاً ، نظراً إلى أنّ جريانها فيها لا يتوقف على الفحص إلاّفي موارد العلم الجمالي ، كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين مثلاً أو بخمرية أحدهما ، فانّه مانع عن جريان الاصول في أطرافه مع ثبوت المقتضي لها وعدم قصور فيه أبداً ، ولذا لو انحل هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بنجاسة أحدهما وجداناً أو تعبداً فلا مانع من جريانها في الآخر.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين الاصول العملية في الشبهات الموضوعية وتلك الطائفة من العمومات وأ نّهما من وادٍ واحد.

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النقطة ، وهي أنّه لا فرق بين الفحص في موارد الاصول اللفظية والفحص في موارد الاصول العملية ، فما أفاده شيخنا


الاستاذ قدس‌سره تبعاً للمحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من الفرق بينهما خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

وبعد ذلك نقول : إنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص ، وهذا هو الصحيح واستدل على ذلك بعدة وجوه ، ولكنها بأجمعها مخدوشة وغير قابلة للاستدلال بها.

الأوّل : أنّ الظن بمراد المولى من العموم لا يحصل قبل الفحص ، فلزوم الفحص إنّما هو لتحصيل الظن به. وإن شئت قلت : إنّ حجية أصالة العموم ترتكز على إفادة الظن بمراد المولى ، وبما أنّها لا تفيد الظن قبل الفحص عن وجود المخصصات في الواقع فيجب حتى يحصل الظن به.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه أخص من المدعى ، فانّ المدعى هو وجوب الفحص مطلقاً وإن فرض حصول الظن منها قبل الفحص ، مع أنّ لازم هذا الوجه هو عدم وجوبه في هذا الفرض. وثانياً : أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي من باب إفادة الظن النوعي دون الشخصي كما ذكرناه بشكل موسّع في محلّه ، وعليه فهي حجة سواء أفادت الظن أم لم تفد ، بل لا يضر بحجيتها قيام الظن الشخصي على الخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق.

الثاني : أنّ خطابات الكتاب والسنّة خاصة بالمشافهين فلا تعم غيرهم من الغائبيين والمعدومين ، وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسكوا بعموم تلك الخطابات لفرض أنّها غير متوجهة إليهم ، بل لا بدّ في إثبات الحكم المتوجه إلى المشافهين لهم من التمسك بذيل قانون الاشتراك في التكليف ، ومن الطبيعي أنّ التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين من تلك الخطابات وأ نّه عام أو


خاص ، ومن المعلوم أنّ تعيينه منها يتوقف على الفحص ، فاذن يجب على غير المشافهين الفحص.

فالنتيجة : أنّ هذه النظرية تستلزم وجوب الفحص عن القرائن والمخصصات على غير المشافهين.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه أخص من المدعى ، حيث إنّ جميع الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة بشتى أنواعها ليس من الخطابات المشافهيّة ، ضرورة أنّ بعضها ورد على نحو القضية الحقيقية ، ومن الطبيعي أنّها غير مختصة بالمشافهين كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) وما شاكله ، وكقوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر » (٢) و « كل مسكر حرام » (٣) وما شابهها.

وثانياً : أنّا سنذكر في ضمن البحوث الآتية (٤) أنّها لا تختص بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب ، بل تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين أيضاً.

الثالث : أنّ كل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة يعلم إجمالاً بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة فيهما. وبتعبير آخر : أنّ المتصدي لذلك يعلم إجمالاً بوجود قرائن على إرادة خلاف الظواهر من الكتاب والسنّة ، وقضية هذا العلم الاجمالي عدم جواز العمل بها إلاّبعد الفحص عن

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٥١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ٣.

(٤) في ص ٤٣٠ وما بعدها.


المخصص والمقيد ، كما أنّ قضية العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة المقدّسة عدم جواز العمل بالاصول العملية إلاّبعد الفحص عن الحجة على التكليف.

وقد يورد عليه : بأنّ المدرك لوجوب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي لكانت قضيته وجوب الفحص عن كل ما يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد ، سواء أكان من الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة أم كان من غيرها.

أو فقل : إنّ لازم ذلك هو وجوب الفحص عن كل كتاب يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد من دون فرق بين كون ذلك الكتاب كتاباً فقهياً أو اصولياً أو غيرهما. ومن الطبيعي أنّ المجتهد لا يتمكن من الفحص عن كل مسألة مسألة كذلك ، حيث إنّ عمره لا يفي بذلك ، وهذا دليل على أنّ المدرك لوجوب الفحص ليس هذا العلم الاجمالي.

والجواب عنه : أنّ لنا علمين إجماليين : أحدهما علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيدات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام. وثانيهما : علم إجمالي بوجودهما في ضمن خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة ، وقضية العلم الاجمالي الأوّل وإن كانت هي وجوب الفحص عن كل كتاب أو باب يحتمل وجود المخصص أو المقيد فيه ، إلاّ أنّ هذا العلم الاجمالي ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، حيث إنّ المعلوم بالاجمال في ذاك العلم ليس بأزيد من المعلوم بالاجمال في هذا العلم ، ومعه لا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، يعني أنّه لا علم لنا بوجود مخصص أو مقيد في الخارج عن دائرة العلم الاجمالي الثاني


وإن كان احتماله موجوداً إلاّ أنّه لا أثر له ولا يكون مانعاً عن التمسك بالعموم أو الاطلاق.

ومن الطبيعي أنّ الفحص عن وجود المخصص أو المقيد في كل مسألة في الأبواب المناسبة لها بمكان من الامكان ولا يلزم منه محذور العسر والحرج عادةً فضلاً عن عدم إمكان ذلك ، نظير ذلك ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة إناءات في ضمن مائة إناء ، ثمّ علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة في ضمن خمسين ، ونحتمل أن تكون العشرة في ضمن المائة بعينها هي العشرة في ضمن الخمسين.

وعلى هذا فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، يعني لا علم لنا بالنجاسة الخارجة عن دائرة العلم الاجمالي الثاني وهذا هو معنى الانحلال ، فاذن لا يجب الاجتناب إلاّعن أطراف هذا العلم الاجمالي الثاني دون الزائد عنها ، وقد أجبنا بمثل هذا الجواب عن هذه الشبهة التي أوردها هناك أيضاً على وجوب الفحص في موارد التمسك بالاصول العملية فلاحظ. فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ هذا الاشكال غير وارد على هذا الوجه.

نعم ، يرد عليه اشكال آخر : هو أنّ المقتضي لوجوب الفحص لو كان هذا العلم الاجمالي فبطبيعة الحال أنّه إنّما يقتضي وجوبه ما دام لم ينحل ، فاذا انحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن مقتضٍ لوجوب الفحص بعده لا محالة.

وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم قبل الفحص ، مع أنّ المدعى وجوبه مطلقاً ولو بعد الانحلال ، ومن هنا يعلم أنّ العلم الاجمالي بما هو لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوبه على الاطلاق.

هذا ، وقد تصدى شيخنا الاستاذ قدس‌سره لاثبات أنّ هذا العلم


الاجمالي غير قابل للانحلال وأفاد في وجه ذلك ما إليك نصه : ليس الميزان في انحلال العلم الاجمالي هو مجرد وجود القدر المتيقن في البين ليترتب عليه ما ذكرت من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف أو المخصصات المستلزم لعدم وجوب الفحص بعد ذلك عند احتمال تكليف أو تخصيص ، بل الميزان في الانحلال أمر آخر لا بدّ في توضيحه من بيان امور :

الأوّل : أنّه لا بدّ في موارد العلم الاجمالي من تشكيل قضية شرطية على سبيل منع الخلو ، ضرورة أنّه لازم العلم بأصل وجود الشيء مع الشك في خصوصيته وانطباقه على كل واحد من أطرافه.

الثاني : أنّه يختلف موارد العلم الاجمالي ، فتارةً تكون القضية الشرطية التي لابدّ منها في موارد العلم الاجمالي مؤتلفةً من قضية متيقنة وقضية اخرى مشكوك فيها كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. واخرى تكون القضية الشرطية المزبورة مؤتلفةً من قضيتين يكون كل منهما مشكوكاً فيه كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين المتباينين. وثالثةً تكون تلك القضية جامعةً لكلتا الخصوصيتين فهي من جهة تكون مؤتلفةً من قضية متيقنة واخرى مشكوك فيها ، ومن جهة اخرى مؤتلفة من قضيتين مشكوك فيهما ، ولازم ذلك انحلال العلم الاجمالي إلى علمين اجماليين أحدهما من قبيل القسم الأوّل ، والثاني من قبيل القسم الثاني.

الثالث : من القضايا التي قياساتها معها هو استحالة أن يزاحم ما لا يقتضي خلاف شيء لما يقتضي ذلك.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم أنّ الانحلال في القسم الأوّل كعدمه في القسم الثاني مما لا ريب فيه ولا إشكال. وأمّا القسم الثالث ففي انحلال العلم الاجمالي فيه وعدمه خلاف ، وتوهم الانحلال فيه هو الموجب لتوهم الانحلال في المقام.


ولكنّ التحقيق خلافه ، وتوضيحه مع التطبيق على المقام هو أن يقال : إنّنا إذا علمنا بعد المراجعة إلى ما بأيدينا من الكتب المعتبرة أنّ فيها ما يخالف الاصول اللفظية والعملية فكل ما فيها من التكاليف الالزامية والتخصيصات الواردة على العمومات يكون منجّزاً لا محالة ، لأنّ المفروض تعلق العلم به بهذا العنوان ، أعني به وروده في تلك الكتب ، وهذا العلم يوجب التنجز بمقدار عنوان متعلقه.

وعليه فالأحكام والمخصصات الواقعية الموجودة في تلك الكتب بما أنّها معلومة بهذا العنوان مع قطع النظر عن كميتها تكون ذات علامة وتعيّن ، فلا ينحل العلم بها بالظفر بمقدار يعلم بتحققه من التكاليف والمخصصات في هذه الكتب ، فانّ العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر إنّما يكون منحلاً إلى العلم بوجود الأقل والشك في وجود الأكثر إذا لم يكن الأكثر طرفاً لعلم إجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلحظ فيه الكمية.

وأمّا فيما إذا كان كذلك كما في المقام فلا يكون العلم بوجود الأقل موجباً للانحلال ، لأنّ غاية الأمر أنّ العلم بالتكاليف أو المخصصات من جهة تعلقه بما هو مردد بين الأقل والأكثر لا يكون مقتضياً لتنجّز الأكثر وذلك لا ينافي تنجّزها من جهة تعلقه بما له تعيّن وعلامة.

وعليه فكل حكم احتمل المكلف جعله في الشريعة المقدّسة أو كل عام احتمل أن يكون له مخصص يجب الفحص عنه في تلك الكتب ، لكونه من أطراف العلم الاجمالي المتعلق بما له تعيّن وعلامة. ولا يفرق في ذلك بين الظفر بالمقدار المتيقن من حيث الكمية والعدد وعدم الظفر به.

وبالجملة : المعلوم بالاجمال في محل الكلام وإن كان مردداً بين الأقل


والأكثر ، إلاّ أنّ ذلك بمجرده لا يكفي في عدم تنجّز الأكثر بعد تعلق العلم به بعنوان آخر لم تلحظ فيه الكمية والعدد ، فغاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجز بالاضافة إلى المقدار الزائد على المتيقن ، لا أنّه يقتضي عدم التنجز بالاضافة إلى ذلك المقدار ، فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأوّل للتنجز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدمة الثالثة. ونظير ذلك ما إذا كنت عالماً بأ نّك مديون لزيد بمقدار مضبوط يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إلى الدفتر ، فهل يساعد وجدانك على أن تكتفي بمراجعة الدفتر بمقدار يكون فيه القدر المتيقن من الدين ، وهل عدم الاكتفاء به إلاّمن جهة العلم باشتغال الذمة بمجموع ما في الدفتر الموجب لتنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.

فاتضح مما ذكرناه أنّ الانحلال يتوقف زائداً على كون المعلوم مردداً بين الأقل والأكثر على أن لا يكون متعلق العلم معنوناً بعنوان آخر غير ملحوظ فيه الكمية والعدد. وأمّا إذا كان كذلك فلا يعقل فيه الانحلال ، ويستحيل أن يكون مجرد اليقين بمقدار معيّن مما يندرج تحت ذلك العنوان موجباً له ، فانّه يستلزم سقوط ما فيه الاقتضاء عن اقتضائه لأجل ما لا اقتضاء فيه وهو غير معقول (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي ليس هو الظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، بل له نكتة اخرى لا بدّ في الحكم بالانحلال من توفر تلك النكتة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٥ ـ ٣٥٩.


وسوف يأتي توضيحها في ضمن النقاط التالية.

الثانية : أنّ القضية المتشكلة في مورد العلم الاجمالي مرةً تكون مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها كما هو الحال فيما إذا كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر. واخرى تكون مركبة من قضيتين مشكوكتين كما إذا تردد المعلوم بالاجمال بين أمرين متباينين. وثالثةً تكون جامعة بين الأمرين يعني أنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة ينحل في الحقيقة إلى علمين اجماليين ، فالمعلوم بالاجمال في أحدهما مردد بين الأقل والأكثر وفي الآخر بين المتباينين ، فهذه الصورة في الحقيقة مركبة من الصورتين الأوّلتين وليست صورة ثالثة في قبالهما.

الثالثة : أنّ العلم الاجمالي إنّما يكون قابلاً للانحلال فيما إذا تعلق بعنوان لوحظ فيه الكمية والعدد من دون أن يكون ذا علامة وتعين في الواقع كما هو الحال في أكثر موارد العلم الاجمالي.

وأمّا إذا كان متعلقاً بعنوان ذات علامة وتعيّن في الواقع ولم تلحظ فيه الكمية والعدد فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن ، ومثال ذلك : هو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءات ، وعلم أيضاً بنجاسة خصوص إناء زيد مثلاً المردد بين تلك الاناءات واحتمل أن يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل هو إناء زيد كما احتمل أن يكون غيره ، وبما أنّ المعلوم بالعلم الاجمالي الثاني ذو علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم في العلم الاجمالي الأوّل ، فلا ينحل الثاني بانحلال الأوّل بالظفر بالمقدار المعلوم ، حيث إنّ نسبة إناء زيد إلى كل واحد من هذه الاناءات على حد سواء من دون فرق بين المعلوم منها بالتفصيل والمشكوك منها بالشك البدوي.


وإن شئت قلت : إنّ العلم التفصيلي بنجاسة أحدها وإن كان يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل جزماً ، إلاّ أنّه لا يؤثر بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني ، فانّ المعلوم بالاجمال فيه وإن احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يكفي بعد ما كانت نسبته إلى كل واحد منها نسبة واحدة ، فلا تنحل القضية الشرطية فيه إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، حيث إنّ ملاك انحلال العلم الاجمالي هو انحلال هذه القضية وهي قد انحلت في العلم الاجمالي الأوّل على الفرض دون العلم الاجمالي الثاني.

وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ لنا علمين إجماليين : أحدهما متعلق بوجود المخصصات والمقيدات المردد في الواقع بين الأقل والأكثر. وثانيهما متعلق بوجوداتهما في خصوص الكتب الأربعة مثلاً ، فالعلم الاجمالي الثاني يمتاز عن العلم الاجمالي الأوّل حيث إنّ المعلوم بالاجمال في العلم الثاني ذات علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم بالاجمال في العلم الأوّل.

ونتيجة ذلك هي : أنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم دون الثاني ، نظراً إلى أنّ المعلوم بالاجمال فيه ذات علامة وتعيّن في الواقع من دون لحاظ الكمية والعدد فيه.

وعلى الجملة : فاذا ظفرنا بمقدار من المخصص والمقيد فان لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الأوّل ، فإن كان بمقدار المعلوم بالاجمال فيه فقد انحل لا محالة ، وإن لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني لم يؤثر فيه أصلاً حيث لم تلحظ فيه الكمية ، فما دام العلم الاجمالي متعلقاً بما له تعيّن وعلامة في الواقع فهو غير قابل للانحلال ، ولا ينتفي إلاّبانتهاء تعيّنه وعلامته فيه ، ولازم ذلك هو وجوب الاحتياط بالاضافة إلى كل ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال المعنون بهذا العنوان والعلامة ، وفي المقام العلم الاجمالي الأوّل الذي يدور المعلوم


بالاجمال فيه بين الأقل والأكثر وإن انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ـ وهو الأقل ـ ولازمه هو عدم وجوب الفحص عن المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، إلاّ أنّ هذا الأكثر طرف للعلم الاجمالي الثاني ، وهو يقتضي وجوب الفحص عنه في ضمنه فلا يزاحم ما لا اقتضاء له ـ وهو العلم الاجمالي الأوّل ـ ما له اقتضاء وهو العلم الاجمالي الثاني.

الرابعة : ما إذا علم شخص إجمالاً بأ نّه مديون لزيد مثلاً بمقدار مضبوط في الدفتر يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إليه ، لم يجز له الرجوع إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد العلم التفصيلي بالمقدار المتيقن من الدين ، وليس هذا إلاّمن ناحية أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي ذات علامة وتعيّن في الواقع ، فهو لا محالة يوجب تنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب فيه : هو أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي إنّما هو الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال تفصيلاً بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي ، فانّه إذا ظفر المكلف بهذا المقدار واحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه كما هو كذلك ، فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالاضافة إلى المقدار المعلوم بالاجمال والشك البدوي بالاضافة إلى غيره ، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى الأصل في غير موارد العلم التفصيلي.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم بالاجمال ذات علامة وتعيّن في الواقع وأن لايكون كذلك ، ضرورة أنّ المعلوم بالاجمال إذا احتمل انطباقه على المعلوم


بالتفصيل أو على المعلوم بالاجمال في علم إجمالي آخر فضلاً عن إحرازه ، فقد انحل ولو كان ذا علامة وتعيّن في الواقع ، ولا تبقى القضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو ، بل تنحل إلى قضيتين حمليتين : إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، وليس لانحلاله نكتة اخرى سوى ما ذكرناه ، وما أفاده قدس‌سره من النكتة سوف يأتي بطلانها بشكل موسّع في ضمن البحوث التالية.

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أنّ فرض القضية المتشكلة في موارد العلم الاجمالي مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها بعينه هو فرض انحلال العلم الاجمالي ، أو فقل : إنّ في كل مورد كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ففيه صورة للعلم الاجمالي لا واقعه الموضوعي.

نعم ، فيما إذا كان الأقل والأكثر ارتباطيين فالعلم الاجمالي في مواردهما وإن كان موجوداً إلاّ أنّ القضية الشرطية فيها ليست مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها ، بل هي مركبة من قضيتين مشكوكتين ، حيث إنّ العلم الاجمالي في موردهما قد تعلق بالجامع بين الاطلاق والتقييد وكل منها مشكوك فيه ، وبما أنّ الأصل في طرف الاطلاق غير جارٍ لعدم الكلفة فيه ، فلا مانع من جريانه في طرف التقييد ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي حكماً ، لما حققناه في الاصول من أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما يقوم على أساس عدم جريان الاصول في أطرافه وسقوطها من جهة المعارضة.

وأمّا إذا افترضنا أنّ الأصل قد جرى في بعض أطرافه بلا معارض ، فلا يكون العلم الاجمالي مؤثراً ، وما نحن فيه من هذا القبيل. فالنتيجة : أنّ ما فرضه قدس‌سره من تركب القضية في مورده ـ أي مورد العلم الاجمالي ـ هو


فرض انحلاله لا فرض وجوده.

وأمّا النقطة الثالثة : فهي لو تمت فانّما تتم في المثال الذي ذكرناه لا في المقام ، والسبب فيه : هو أنّ المعلوم بالاجمال هنا وإن كان ذا علامة وتعيّن في الواقع ، إلاّ أنّه إنّما يمنع من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمثال الذي قدّمناه آنفاً.

وأمّا إذا كان ما له العلامة والتعين مردداً أيضاً بين الأقل والأكثر ، فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع ، فكما أنّ ما ليس له العلامة والتعيّن فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم ، فكذلك ما له العلامة والتعين ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ ما له العلامة والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعيّن ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.

وإن شئت فقل : كما أنّ العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في الشريعة المقدّسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، كذلك العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل بذلك ، والنكتة فيه أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل ، يعني أنّ أمره دائر بين الأقل والأكثر.

وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلاً ، فلا علم بعده بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، والشاهد عليه هو أنّنا لو أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص أو المقيد فيها ، وهذا معنى انحلال العلم الاجمالي.


وعلى الجملة : أنّ قوام العلم الاجمالي إنّما هو بالقضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو ، فاذا انحلّت هذه القضية إلى قضيتين حمليتين : إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، فقد انحل العلم الاجمالي ولا يعقل بقاؤه.

والمفروض في المقام أنّه قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين ، ومجرد كون المعلوم بالاجمال فيه ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله بعد ما كان في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر ، كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يتم في المثال الذي ذكرناه أيضاً بناءً على ضوء نظريته قدس‌سره من أنّ العلم الاجمالي مقتضٍ للتنجيز لا علة تامة ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعددة مردد بين الواحد والأكثر وعلم أيضاً بنجاسة إناء زيد بالخصوص المعلوم وجوده بين هذه الاناءات ، فانّه إذا علم بعد ذلك وجداناً أو تعبداً بنجاسة أحد تلك الاناءات بعينه ، فهذا العلم التفصيلي كما يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل المتعلق بوجود النجس بينها المردد بين الأقل والأكثر ، كذلك يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني ، لاحتمال أنّ الاناء المعلوم نجاسته تفصيلاً هو إناء زيد ، فلا علم بوجود إناء زيد بين الاناءات الباقية ، كما لا علم بوجود النجس بينها ، فاذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الاناءات الباقية ، ولا يلزم من جريانها فيها مخالفة قطعية عملية ، والمفروض أنّ المانع عن جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي إنّما هو لزوم المخالفة القطعية العملية ، فاذا افترضنا أنّ جريانها في أطرافه لا يستلزم تلك المخالفة فلا مانع منه.


وبكلمة اخرى : أنّ تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على تعارض الاصول في أطرافه ، بتقريب أنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية ، وفي البعض دون الآخر ترجيح من غير مرجّح ، فلا محالة تسقط في الجميع ، وأمّا إذا افترضنا أنّه لا يلزم من جريانها في أطرافه المخالفة القطعية العملية التي هي المانع الوحيد عنه فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، وحينئذ لا مانع من جريانها فيها. وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الاناءات الباقية بأجمعها ، لفرض عدم لزوم المخالفة القطعية العملية منه التي هي ملاك المعارضة بين جريانها فيها الموجبة لسقوطها ، فاذا جرت أصالة الطهارة فيها فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي فيصبح وجوده كعدمه.

وفي نهاية الشوط قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة ، وهي أنّه بناءً على أساس نظريته قدس‌سره من أنّ العلم الاجمالي يكون مقتضياً للتنجيز لا العلة التامة كما قوّينا أيضاً هذه النظرية ، لا يفرق بين كون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتعيّن في الواقع وما لا علامة وتعيّن له ، وما له العلامة لا يفرق فيه بين أن يكون مردداً بين الأقل والأكثر وما لا يكون مردداً بينهما ، فانّ العلم الاجمالي في جميع هذه الصور ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم ، يعني أنّه لا مانع بعد ذلك من الرجوع إلى الاصول فيما عدا هذا المقدار المتيقن تفصيلاً ، حيث إنّ المانع من الرجوع إليها في أطرافه إنّما هو وقوع المعارضة بينها ، وحيث إنّ منشأه لزوم المخالفة القطعية العملية وهي غير لازمة في المقام في تمام هذه الشقوق [ فلا مانع من الرجوع إلى الاصول ].

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ العلم الاجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لا يصلح أن يكون ملاكاً لوجوب الفحص ، وإلاّ لكان لازمه عدم وجوبه بعد انحلاله مع أنّ الأمر ليس كذلك.


وأمّا النقطة الرابعة : فقد ظهر خطؤها مما ذكرناه ، فانّ مجرد العلم الاجمالي بكون مقدار الدين مضبوطاً في الدفتر لا يوجب الاحتياط والفحص بعد الظفر بالمقدار المتيقن ثبوته ، لفرض أنّه قد انحل بعد الظفر بهذا المقدار إلى قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها.

ومجرد كون المعلوم بالاجمال هنا ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله كما عرفت آنفاً ، ولا سيّما فيما إذا كان مردداً بين الأقل والأكثر كما هو كذلك في المثال ، فانّه ينحل لا محالة بالظفر بالمقدار المتيقن.

وعليه فوجوب الفحص عن الزائد على هذا المقدار يحتاج إلى دليل آخر يدل عليه بعد عدم الاطمئنان باشتمال الدفتر على الزائد عنه.

ومن هنا لو لم يتمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو نحو ذلك لم يجب عليه الاحتياط جزماً بأداء ما يقطع معه بفراغ الذمة واقعاً ، بل يرجع إلى أصالة البراءة بالاضافة إلى الزائد على المقدار المعلوم والمتيقن ، لفرض الشك في اشتغال الذمة به ، وهذا دليل على أنّ العلم الاجمالي المزبور لا يكون منجّزاً للواقع على ما هو عليه.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بيّن وجهاً آخر لوجوب الفحص وحاصله : هو أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي لكشفها عن مراد المتكلم في الواقع وهو متقوّم بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله التي تكشف عن عدم دخل قيدٍ مّا في مراده ، نظراً إلى أنّ أداة العموم إنّما وضعت للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ولا تكون متكفلةً لبيان أنّ المراد من مدخولها هو الطبيعة المطلقة دون المقيدة ، فانّ إثبات ذلك يتوقف على جريان مقدمات الحكمة كما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.


تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة موسّعاً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : حيث إنّنا قد علمنا بعد مراجعة الأدلة الشرعية أنّ طريقة الشارع قد استقرت على إبراز مراداته وبيان مقاصده من ألفاظه الصادرة منه في هذا المقام بالقرائن المنفصلة حتى قيل إنّه لم يوجد عام في الكتاب والسنّة إلاّوقد ورد عليه تخصيص منفصل عنه ، لا يكون للعمومات الواردة فيهما ظهور تصديقي كاشف عن المراد قبل الفحص عن مخصصاتها. ومن الطبيعي أنّ ما لم يكن لها هذا الظهور ، يعني الظهور التصديقي الكاشف عن المراد قبل الفحص عنها ، لا محالة لا تكون حجةً يصح الاعتماد عليها.

وعلى ضوء هذا العلم ، يعني العلم بأنّ ديدن الشارع قد استقر على ذلك ، فقد انهدم أساس جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأداة أي أداة العموم ، فانّها إنّما تجري في مدخول العمومات التي يكون المتكلم بها في مقام بيان مراداته منها ، ولم تستقر سيرته على بيان مقاصده بالقرائن المنفصلة كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّها واردة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومخصصاتها قد وردت في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، وكذا الحال في العمومات الصادرة منهم عليهم‌السلام ، فان بناءهم ليس على إبراز مقاصدهم ومراداتهم في مجلس واحد لمصلحة دعت إلى ذلك أو لمفسدة في البيان.

ومن الطبيعي أنّ هذا العلم أوجب هدم أساس المقدمات فلا يعقل جريانها في مدخول مثل هذه العمومات ، لفرض أنّ من مقدمات الحكمة عدم نصب المتكلم القرينة على الخلاف ، فاذا علمنا من الخارج أنّ ديدن هذا المتكلم قد جرى على نصب القرينة المنفصلة على الخلاف فكيف تجري المقدمات في كلامه ، فاذا لم تجر المقدمات لم ينعقد له ظهور تصديقي في العموم حتى يكون


كاشفاً عن مراده الجدي في الواقع.

فالنتيجة : أنّ عدم جواز التمسك بالعمومات أو المطلقات الواردة في الكتاب أو السنّة قبل الفحص إنّما هو لأجل هذه النكتة.

ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه بأمرين :

الأوّل : ما ذكرناه سابقاً بشكل موسّع (١) من أنّ أداة العمومات بنفسها متكفلة لاثبات إطلاق مدخولها ، يعني أنّها تدل بمقتضى وضعها على تسرية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيه.

الثاني : سوف ما نذكره إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد أنّ مقدمات الحكمة إنّما تجري لاثبات ظهور المطلق في الاطلاق ، فاذا صدر كلام مطلق عن متكلم في مجلس ولم يصدر منه قرينة على الخلاف جرت مقدمات الحكمة فيه ، وبها يثبت ظهوره في الاطلاق والعلم بأنّ سيرة المتكلم قد جرت على إبراز مراداته ومقاصده بالقرائن المنفصلة ، وليس بناؤه على إبرازها في مجلس واحد لا يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في كلامه إذا لم ينصب قرينةً متصلةً على الخلاف ، والسبب فيه واضح هو أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق ، وإنّما هي تمنع عن حجية ظهوره فيه ، والمفروض أنّ جريان مقدمات الحكمة إنّما هو لاثبات ظهوره فلا يكون العلم المزبور مانعاً عنه.

وعلى الجملة : فبناءً على تسليم نظريته قدس‌سره من أنّ دلالة أدوات العموم على إرادته من مدخولها تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه ، فما

__________________

(١) في ص ٣٠٧.


أفاده قدس‌سره في المقام غير تام ، فانّ القرائن المنفصلة لا تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في المطلق لاثبات ظهوره في الاطلاق ، والمانع عنه إنّما هو القرينة المتصلة ، فالمراد من عدم البيان الذي هو من إحدى مقدماتها هو عدم البيان المتصل لا المنفصل ، فلا يتوقف انعقاد ظهوره في الاطلاق على عدم بيانه أيضاً.

وعليه فلا محالة ينعقد ظهور العام في العموم ، مع أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو عدم جواز التمسك بالعموم فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً ، حيث إنّه يصلح أن يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة في مدخوله ، فاذا لم تجر لم ينعقد ظهور العام في العموم.

أو فقل : إنّ عمومات الكتاب والسنّة لا تخلو من أن ينعقد لها ظهور في العموم ولا يتوقف انعقاده فيه على عدم وجود القرائن المنفصلة أو لا ينعقد لها ظهور فيه.

فعلى الأوّل لا بدّ من التزام شيخنا الاستاذ قدس‌سره بعدم وجوب الفحص ، حيث إنّ ملاكه على ما ذكره قدس‌سره إنّما هو عدم ظهورٍ لها في العموم ، فاذا افترضنا أنّ الظهور لها قد انعقد فيه فلا مقتضي له بعد ذلك.

وعلى الثاني لا بدّ له من الالتزام بعدم جواز التمسك بها حتى فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً ، ضرورة أنّه لو توقف انعقاد ظهور العام في العموم على عدم البيان أصلاً حتى المنفصل فبطبيعة الحال لا يفرق في المخصص المجمل بين كونه متصلاً أو منفصلاً ، فكما أنّ إجمال الأوّل يسري إلى العام ويمنع عن انعقاد ظهوره في العموم ، فكذلك الاجمال الثاني مع أنّه قدس‌سره غير ملتزم به.


إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنّ هذه الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص لا يتم شيء منها.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ ما دلّ على وجوب الفحص عن الحجة في موارد الاصول العملية بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاصول اللفظية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فالملاك لوجوبه في كلا البابين واحد ، وذكرنا هناك أنّ ما دلّ على وجوبه أمران :

الأوّل : حكم العقل بذلك حيث إنّه يستقل بأنّ وظيفة المولى ليست إلاّ تشريع الأحكام وإظهارها على المكلفين بالطرق العادية ولا يجب عليه تصدّيه لجميع ما له دخل في الوصول إليهم بحيث يجب على المولى إيصال التكليف إلى العبد ولو بغير الطرق العادية المتعارفة إذا امتنع العبد من الاطلاع على تكاليف مولاه بتلك الطرق ، كما أنّه يستقل بأن وظيفة العبد إنّما هي الفحص عن تكاليف المولى التي جعلها وأظهرها بالطرق العادية لئلاّ يقع في مخالفتها ، ضرورة أنّه لو لم يتصدّ للفحص عنها وتمسك بأصالة البراءة أو استصحاب العدم في كل مورد احتمل التكليف فيه لزم إبطال فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب حيث لا يمكن الوصول إلى تلك التكاليف إلاّبالفحص.

وعلى الجملة : فالعقل كما يستقل بوجوب النظر إلى المعجزة وإلاّ لزم إفحام جميع الأنبياء والأوصياء ، كذلك يستقل بوجوب الفحص في مقام الرجوع إلى البراءة أو الاستصحاب ، فالملاك لاستقلاله في كلا الموردين واحد ، والسر في ذلك ما عرفت من أنّه لايجب على المولى إيصال الأحكام والتكاليف التي جعلها في الشريعة المقدّسة إلى العباد بالطرق غير العادية ، فالواجب عليه بيانها بالطرق المتعارفة العادية بحيث يتمكن المكلف من الوصول إليها بالمراجعة والفحص ،


فلو لم يفحص ووقع في مخالفتها لم يكن معذوراً.

وهذا الوجه بعينه جارٍ في موارد الرجوع إلى الاصول اللفظية ، فانّ المكلف لو تمسك بها بدون الفحص عن القرائن على خلافها مع علمه بأنّ بيان الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج وبالطرق العادية المتعارفة لوقع في مخالفة تلك الأحكام كثيراً ولا يكون معذوراً ، حيث إنّ العقل يرى أنّ وظيفته هي الفحص عن القرائن المحتملة في الواقع وأ نّه لو تفحّص عنها لوصل إليها لو كانت موجودة ، ومعه كيف يكون معذوراً.

فالنتيجة : أنّ وظيفة المولى بيان الأحكام بالطرق العادية ووظيفة العبد الفحص عن تلك الأحكام ، بلا فرق في ذلك بين موارد الاصول العملية والاصول اللفظية.

الثاني : الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص ، أمّا الاولى : فمنها قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) ومنها قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) إلخ (٢) وغيرهما من الآيات. وأمّا الثانية : فمنها قوله عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى يقول لعبده في يوم القيامة هلاّ عملت؟ فقال : ما علمت ، فيقول : هلاّ تعلّمت » (٣) وغيرها من الروايات.

ومن الواضح أنّ هذا الوجه لا يختص بموارد الرجوع إلى الاصول العملية ،

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣.

(٢) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ ، ١٨٠.


بل يعمّ غيرها من موارد الرجوع إلى الاصول اللفظية أيضاً ، ضرورة أنّه لا يكون في الآيات والروايات ما يوجب اختصاصهما بها.

فالنتيجة : أنّهما لا تختصان بمورد دون مورد وتدلان على وجوب التعلم والفحص مطلقاً ، بلا فرق بين موارد الاصول العملية وموارد الاصول اللفظية ، هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأمّا مقداره فهل يجب الفحص على المكلف بمقدار يحصل له العلم الوجداني بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه وإن احتمل وجوده في الواقع ، أو بمقدار يحصل له الاطمئنان بذلك ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل يكفي تحصيل الظن به؟ فيه وجوه.

أمّا الأوّل : فهو غير لازم جزماً ، لأنّ تحصيل العلم الوجداني بعدم وجوده بالفحص يتوقف على الفحص في جميع الكتب المحتمل وجوده فيها وإن لم يكن الكتاب من كتب الحديث ، ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى وقت طويل ، بل لعلّه لا يفي العمر بالفحص كذلك في باب واحد من أبواب الفقه فضلاً عن جميع الأبواب ، هذا مضافاً إلى عدم الدليل على وجوبه كذلك.

وأمّا الثاني : فهو الصحيح ، نظراً إلى أنّه حجة فيجوز الاكتفاء به ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ تحصيله لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بمكان من الامكان ، نظراً إلى أنّ الاطمئنان يحصل بعدم وجوده بالفحص عنه في الأبواب المناسبة ، ولا يتوقف على الفحص في الزائد عليها ، والمفروض أنّ تحصيل الزائد على مرتبة الاطمئنان غير واجب.

وأمّا الثالث : فلا يجوز الاكتفاء به لعدم الدليل بعد ما لم يكن حجة شرعاً.

فالنتيجة : أنّ المقدار الواجب من الفحص هو ما يحصل الاطمئنان منه بعدم


وجود المخصص أو المقيد في مظانه دون الزائد ، ولا أثر لاحتمال وجوده في الواقع بعد ذلك ، كما أنّه لا يجوز الاكتفاء بما دونه يعني الظن لعدم الدليل عليه.

ولصاحب الكفاية قدس‌سره (١) في المقام كلام وحاصله : هو أنّ عمومات الكتاب والسنّة بما أنّها كانت في معرض التخصيص فالمقدار اللازم من الفحص هو ما به يخرج عن المعرضية له.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يرجع بظاهره إلى معنىً محصّل ، فانّ تلك العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضية بالفحص عن مخصصاتها ، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، بل القطع الوجداني بعدم المخصص لها لا يوجب خروجها عن المعرضية فضلاً عن الاطمئنان ، ولعلّه قدس‌سره أراد الاطمئنان من ذلك.

وكيف كان ، فالصحيح ما ذكرناه من أنّ الفحص الواجب إنّما هو بمقدار يحصل منه الاطمئنان بالعدم دون الزائد عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٦.


الخطابات الشفاهية

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ النزاع فيها يتصور على وجوه :

الأوّل : أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفل له الخطاب هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب؟ ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهياً أو غيره كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) وقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) وما شاكلها.

الثاني : أن يكون النزاع في إمكان المخاطبة مع المعدومين أو الغائبين وعدم إمكانها ، يعني أنّه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا؟ فالنزاع على هذين الوجهين يكون عقلياً.

الثالث : أن يكون في وضع أدوات الخطاب ، يعني أنّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.

وبعد ذلك نقول : الذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو هذا الوجه يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليّن ، لأنّهما غير قابلين لأن يجعلا محلاً للنزاع والكلام.

أمّا الأوّل : فلأنّ جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥.


للمعدومين بل للغائبين ، ضرورة أنّه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج ـ وهو العاقل البالغ القادر ـ والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعلياً في حقّه وإلاّ استحال فعليته.

وأمّا جعل التكليف بمعنى الانشاء وإبراز الأمر الاعتباري على نحو القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان ، لوضوح أنّه لا بأس بجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معاً ، حيث إنّ الموضوع فيها قد اخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له ، سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن ، فالوجود الفرضي لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجوداً.

وإن شئت قلت : إنّا قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فكما أنّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الاستقبالي كما هو الحال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر. وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية ، حيث إنّ مردّها إلى الشرط المتأخر لا محالة. ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة ، حيث إنّ الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطناً بعد بطن ، بحيث إنّ كل بطن لاحق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق ، ومعنى ذلك هو أنّ الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له ، فيكون زمان المعتبر متأخراً عن زمان الاعتبار. فالنتيجة أنّ النزاع بهذا المعنى لا يرجع إلى معنىً معقول.

وأمّا الثاني : فإن اريد من إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٣٥.


توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقةً فهو غير معقول ، ضرورة أنّ توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلاً مستحيل فما ظنك بالمعدوم والغائب ، فيكون نظير الخطاب إلى الحجر فانّه لا يعقل إذا قصد به تفهيمه ، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لايكون عارفاً بها أو بالعكس وهكذا ، فانّ الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول.

وإن اريد بذلك شيئاً آخر كاظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك ، فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان ، كما هو المشاهد في الصبي كثيراً حينما يخاف أو يضربه شخص نادى يا أباه يا امّاه مع أنّه يعلم بأنّ أباه أو امّه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب إظهار العجز والتظلم.

فالنتيجة : أنّ الخطاب الحقيقي الذي يكون الداعي إليه قصد التفهيم لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غافلاً فضلاً عن المعدوم. وأمّا الخطاب الانشائي الذي يكون الداعي إليه إظهار العجز أو الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك فتوجيهه إلى المعدوم فضلاً عن الغائب بمكان من الامكان.

وهنا شق ثالث للخطاب : وهو أن يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حينما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره ، كما إذا افترضنا أنّ المخاطب نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله : إذا قمت من النوم افعل الفعل الفلاني ، أو خاطب ولده بقوله : يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا ، أو سجّل خطابه في شريط ثمّ يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم وسماعهم إيّاه ، لا من حين الصدور ، أو خاطب شخصاً في بلد آخر بالتلفون حيث إنّ خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه كان بعده بزمان وإن كان ذلك


الزمان قليلاً جداً. ومن الطبيعي أنّه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير ، فاذا جاز في القليل جاز في الكثير أيضاً. وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة جميع البشر إلى يوم القيامة ، يعني كل من وصلت إليه تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك. وكيف ما كان فلا إشكال في إمكان ذلك أصلاً.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ النزاع في هذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل.

فالذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو الوجه الأخير ، وهو أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب الحقيقي أو الانشائي ، فعلى الأوّل لا يمكن شموله للغائبين فضلاً عن المعدومين ، بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلاً عنه فما ظنك بالغائب والمعدوم كما أشرنا إليه آنفاً ، وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث إنّ مفادها حينئذ إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي ، فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه بمنزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية ، هذا.

والظاهر أنّها موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي ، فانّ المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب هو إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي. ومن الواضح أنّ الخطابات بهذا المعنى تشمل المعدومين بعد فرضهم منزلة الموجودين فضلاً عن الغائبين. هذا مضافاً إلى أنّ لازم القول بكون هذه الأدوات مستعملةً في الخطاب الحقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات الشرعية هو اختصاص تلك الخطابات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم


شمولها للغائبين فضلاً عن المعدومين ، وهذا مما نقطع بعدمه ، لأنّ اختصاصها بالمدركين لزمان الحضور وإن كان محتملاً في نفسه إلاّ أنّه لا يحتمل اختصاصها بالحاضرين في المجلس جزماً.

وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الانشائي ولو كان ذلك بالعناية ، فاذن يشمل المعدومين أيضاً بعد تنزيلهم منزلة الموجودين على ما هو لازم كون القضية حقيقيةً ، هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطاباً من الله تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى امّته.

وأمّا إذا قلنا بأ نّها نزلت على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل قراءته فلا موضوع عندئذ لهذا النزاع ، حيث إنّه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه إليه الخطاب حقيقةً ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين بل المعدومين.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام من التفصيل بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، بتقريب أنّ الخطاب في القضايا الخارجية يختص بالمشافهين ، فانّ عمومه للغائبين فضلاً عن المعدومين يحتاج إلى عناية زائدة وبدونها فلا يمكن الحكم بالعموم ، وأمّا في القضايا الحقيقية فالظاهر أنّه يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين ، حيث إنّ توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين الذي هو المقوّم لكون القضية حقيقيةً ، لا يتم فانّ كون القضية حقيقيةً وإن كان يقتضي بنفسه فرض الموضوع فيها موجوداً والحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين ، ضرورة أنّ صِرف وجود الموضوع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٧.


خارجاً لا يكفي في توجيه الخطاب إليه ، بل لا بدّ فيه من فرض وجوده في مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب وإلاّ لصحّ خطاب الغائب في القضية الخارجية من دون عناية وهو خلاف المفروض كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ الصحيح هو ما ذكرناه من أنّ أدوات الخطاب موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي دون الحقيقي ، وقد مرّ أنّه لا مانع من شمول الخطاب الانشائي للمعدومين فضلاً عن الغائبين.

الكلام في ثمرة هذا البحث : قد ذكر له عدّة ثمرات نذكر منها ثمرتين :

إحداهما : أنّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فظواهره تكون حجة عليهم بالخصوص ، وعلى القول بعدمه فلا تكون حجةً عليهم كذلك.

وأورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأ نّها تبتني على مقدمتين : الاولى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه. الثانية : أن يكون المقصود بالافهام من خطابات القرآن هو خصوص الحاضرين في مجلس التخاطب.

ولكن كلتا المقدمتين خاطئة وغير مطابقة للواقع. أمّا المقدمة الاولى فلما حققناه في محلّه (٢) من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالافهام بل تعم الجميع من المقصودين وغيرهم ، وذلك لعدم الفرق في السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين مَن قصد إفهامه من الكلام ومَن لم يقصد وتمام الكلام في محلّه. وأمّا المقدمة الثانية فلأنّ المقصود بالافهام من خطابات

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣١.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٣٨.


القرآن جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين والمعدومين ، والنكتة في ذلك أنّ القرآن لا يختص بطائفة دون طائفة وبزمان دون زمان ، بل هو يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا (١) ولا يمكن القول بأنّ المقصود بالافهام من خطاباته هم الحاضرون في مجلس التخاطب دون غيرهم ، حيث إنّه لا يناسب مكانة القرآن وعظم شأنه وأ نّه كتاب إلهي نزل لهداية البشر جميعاً ، فلا محالة يكون المقصود بالافهام منها جميع البشر ، غاية الأمر أنّ من يكون حاضراً في مجلس التخاطب يكون مقصوداً بالافهام من حين صدورها ، ومن لم يكن حاضراً أو كان معدوماً فهو مقصود به حينما وصلت إليه الآيات والخطابات.

ثانيتهما : أنّه على القول بالعموم والشمول يصح التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين

والمعدومين كقوله تعالى مثلاً : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ )(٢) فانّه لا مانع من التمسك بعمومه على هذا القول لاثبات وجوب السعي لهما.

وأمّا على القول بالاختصاص وعدم العموم فلا يصحّ التمسك بها ، لفرض أنّ وجوب السعي في الآية عندئذ غير متوجه إلينا لنتمسك بعمومه عند الشك في تخصيصه ، بل هو خاص بالحاضرين في المجلس فاثباته للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف هنا ، وهذه القاعدة إنّما تثبت الحكم لهم إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف. وأمّا مع الاختلاف فيه فلا مورد لتلك القاعدة ، مثلاً الحكم الثابت للمسافر لا يمكن إثباته بهذه القاعدة للحاضر

__________________

(١) كما ورد في البحار ٣٥ : ٤٠٣ ذيل الحديث ٢١.

(٢) الجمعة ٦٢ : ٩.


وبالعكس. نعم ، إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافراً ثبت لجميع من يكون متحداً معه في هذا العنوان ببركة تلك القاعدة.

وأمّا في المقام فهل يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات الحكم الثابت للحاضرين في ذلك العصر للمعدومين فيه؟ وجهان الأظهر عدم إمكان التمسك بها ، وذلك لعدم إحراز اشتراكهم معهم في الصنف ، لاحتمال أنّ لوصف الحضور دخلاً فيه ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بهذه القاعدة.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّه لا يمكن اختلاف أهل شريعة واحدة في أحكام تلك الشريعة. نعم ، هم مختلفون فيها حسب اختلافهم في الصنف فيثبت لكل صنفٍ منهم حكم خاص لا يثبت للآخر ، مثلاً للحائض حكم وللجنب حكم آخر وللمستطيع حكم ثالث وللمسافر حكم رابع وللحاضر حكم خامس وهكذا ، ولا يمكن اختلاف أفراد صنفٍ واحد في ذلك الحكم ، فاذا ثبت لفرد منه ثبت للباقي. فاذا دلّ دليل على ثبوت حكم لشخصٍ ثبت لغيره من الأفراد المتحدة معه في الصنف ، ونظير ذلك كثير في الروايات حيث إنّ رواية لو كانت متكفلة لحكم شخص خاص باعتبار ورودها فيه فالحكم لا يختص به ، بل يعمّ غيره مما هو متحد معه في الصنف بقانون الاشتراك في التكليف.

وأمّا إذا لم يحرز الاتحاد فيه فلا يمكن التمسك بهذه القاعدة لتسرية الحكم من مورده إلى غيره مما لم يحرز اتحاده معه فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّنا لم نحرز اتحاد المعدومين مع الحاضرين في الصنف ، لاحتمال دخل وصف الحضور فيه فلا يمكن التمسك بتلك القاعدة.

فالنتيجة : أنّ الثمرة تظهر بين القولين ، فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين يجوز لهم التمسك بها ، وعلى القول بعدمه فلا يجوز لهم ذلك ، هذا.


وقد أورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بما إليك نصه : ولا يذهب عليك أنّه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقداً له مما كان المشافهون واجدين له باطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق مع إرادة المقيد منه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان وإن صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلاّ الاتحاد فيما اعتبر قيداً في الأحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام ، وإلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلاً عن المعدومين حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به شك في شمولها لهم أيضاً ، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم فتأمل جيداً.

فتلخص أنّه لا يكاد تظهر الثمرة إلاّعلى القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص في غير المقام واشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام (١).

وملخّص ما أفاده ( قدس‌سره ) هو أنّ التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف لا يمكن إلاّفيما احرز الاتحاد في الصنف ، ومن الطبيعي أنّه لا يمكن إحرازه فيه إلاّ باحراز عدم [ دخل ] ما كان المشافهون في ذلك الزمان واجدين له دون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣١.


غيرهم ، ومن المعلوم أنّه لايمكن إحراز ذلك إلاّبالتمسك باطلاق الخطاب لاثبات عدم دخله في الحكم ، وهو لا يمكن إلاّفي الأوصاف المفارقة دون الأوصاف اللازمة للذات ، حيث إنّ ما يحتمل دخله فيه مما كان المشافهون واجدين له إن كان من الأوصاف المفارقة وكان دخيلاً في مطلوب المولى واقعاً فعليه بيانه بنصب قرينة دالة على التقييد ، وإلاّ لأخل بغرضه. وإن كان من الأوصاف اللازمة وكان دخيلاً فيه كذلك لم يلزم عليه بيانه ولا إخلال بالغرض بدونه.

والنكتة في ذلك : هي أنّ ما يحتمل دخله فيه إن كان من تلك الأوصاف لم يمكن التمسك بالعموم والاطلاق ، حيث إنّ التمسك به فرع جريان مقدمات الحكمة ، ومع الاحتمال المزبور لا تجرى المقدمات إذ على تقدير عدم البيان لا يكون إخلال بالغرض ، نظراً إلى عدم انفكاك الوصف المزبور عن الموضوع.

وغير خفي أنّ ما أورده قدس‌سره من الايراد على هذه الثمرة يتم في غير المقام ولا يتم فيه فلنا دعويان : الاولى تمامية ما أفاده قدس‌سره في غير المقام ، وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل دخلها في الحكم الشرعي من العوارض المفارقة كالعلم والعدالة والفسق وما شاكلها. الثانية : عدم تماميته في المقام ، وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل [ دخلها ] فيه من العوارض اللازمة للذات كالهاشمية والقرشية وما شاكلهما.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ احتمال دخل مثل هذه الأوصاف في ثبوت حكم لجماعة كانوا واجدين لها مع عدم البيان من قبل المولى على دخله فيه لا يكون مانعاً عن التمسك بالاطلاق ، لوضوح أنّه لو كان دخيلاً فيه واقعاً فعلى المولى بيانه وإلاّ لكان مخلاً بغرضه وهو خلف.

والسر في ذلك : هو أنّ الوصف المزبور بما أنّه من الأوصاف والعوارض المفارقة ، يعني أنّه قد يكون وقد لا يكون ، فمجرد أنّ هؤلاء الجماعة واجدين له


حين ثبوت الحكم لهم غير كافٍ لبيان دخله فيه ولتقييد إطلاق الكلام ، حيث إنّه ليس بنظر العرف مما يصح أن يعتمد عليه المتكلم في مقام البيان إذا كان دخيلاً في غرضه واقعاً ، بل عليه نصب قرينة تدل على ذلك وإلاّ لكان إطلاق كلامه في مقام الاثبات محكّماً وكاشفاً عن إطلاقه في مقام الثبوت ، يعني أنّ مقتضى إطلاق كلامه هو ثبوت الحكم لهم في كلتا الحالتين ، أي حالة وجدان الوصف المزبور وحالة فقدانه.

فالنتيجة : أنّ احتمال دخل مثل هذا الوصف لا يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة والتمسك بالاطلاق.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ احتمال دخل مثل تلك الأوصاف في ثبوت الحكم مانع عن جريان مقدمات الحكمة ، والسبب فيه : أنّ الحكم إذا ثبت لطائفة كانوا واجدين لوصف لازم لذاتهم كالهاشمية أو نحوها وكان الوصف المزبور دخيلاً فيه واقعاً صحّ عرفاً اعتماد المتكلم عليه في مقام البيان فلا يحتاج إلى بيان زائد. وعليه فاذا احتمل دخله وكان المتكلم في مقام البيان فبطبيعة الحال يحتمل اعتماده في هذا المقام عليه ، ومعه كيف يمكن التمسك بالاطلاق.

فالنتيجة : أنّ عدم دخله يحتاج إلى قرينة خارجية دون دخله فيه. وبكلمة اخرى : ليس لهم حالتان : حالة كونهم واجدين للوصف المزبور وحالة كونهم فاقدين له حتى يكون لكلامه إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين ، فالتقييد يحتاج إلى دليل ، بل لهم حالة واحدة وهي حالة كونهم واجدين له فلا إطلاق لكلامه حتى يتمسك به لاثبات الحكم الثابت لهم لغيرهم فالاطلاق يحتاج إلى دليل ، وما نحن فيه من هذا القبيل نظراً إلى أن ما يحتمل دخله في الحكم ـ وهو وصف الحضور ـ من الأوصاف اللازمة ، ومع احتمال دخله فيه لا يمكن التمسك باطلاق الخطابات لاثبات الحكم لغير الحاضرين بعين الملاك المتقدم.


فالنتيجة : أنّه لا بأس بهذه الثمرة.

نتائج البحوث المتقدمة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وتبعه فيه شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد الاصول العملية ، فانّ الفحص هنا عن وجود المزاحم والمانع مع ثبوت المقتضي ، وأمّا الفحص هناك إنّما هو عن ثبوت أصل المقتضي لها ، لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أنّه لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه والفحص هناك.

الثانية : أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص هو الصحيح وإن كان ما استدلوا عليه من الوجوه مخدوشة بتمامها.

الثالثة : قد يستدل على وجوب الفحص بالعلم الاجمالي بوجود مخصصات ومقيدات ، وهذا العلم الاجمالي أوجب لزوم الفحص عنها ، حيث إنّ أصالة العموم لا تجري ما لم ينحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم. وناقش في انحلال هذا العلم الاجمالي شيخنا الاستاذ قدس‌سره وقد تقدم بشكل موسّع أنّ العلم الاجمالي ينحل ، وما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم الانحلال لا يرجع إلى معنىً محصّل ، وبالتالي ذكرنا أنّ العلم الاجمالي لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوب الفحص.

الرابعة : أنّ الدليل على وجوب الفحص بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاصول العملية ، وقد ذكرنا هناك أنّ الدليل عليه أمران : أحدهما حكم العقل بذلك. وثانيهما : الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص.


الخامسة : أنّ النزاع المعقول في شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين إنّما هو في وضع أدوات الخطاب وأ نّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين ، أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين فحسب. ثمّ إنّه لا يمكن أن يكون النزاع في توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين حقيقةً فانّه غير معقول ، نعم توجيه الخطاب إليهم انشاءً أو بداع آخر كاظهار العجز أو التحسر أو نحو ذلك أمر معقول.

السادسة : ذكرنا للمسألة ثمرتين :

الاولى : أنّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فالظواهر حجة بالخصوص ، وعلى القول بعدم عمومه فلا تكون حجةً عليهم كذلك. وأورد على هذه الثمرة صاحب الكفاية قدس‌سره بأ نّها تبتني على مقدمتين ، وكلتاهما خاطئة.

الثانية : أنّه على القول بعموم الخطاب يجوز التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين والمعدومين ، وعلى القول بعدم عمومه لا يجوز التمسك بها. وهذه الثمرة لا بأس بها ، ولا يرد عليها ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.


تعقّب العام بضمير

إذا عقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه ، ومثّلوا لذلك بقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) إلى قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ )(١) فانّ كلمة المطلّقات تعمّ الرجعيات وغيرها ، والضمير في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ ) يرجع إلى خصوص الرجعيات ، حيث إنّ حقّ الرجوع للزوج إنّما ثبت فيها دون غيرها من المطلّقات ، فاذن يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك؟ وجوه بل أقوال.

اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) القول الأخير ، وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه : لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى أصالة عدم الاستخدام. أمّا أصالة العموم فلأنّ تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه ، حيث إنّ ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به إلاّعلى القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً وهو غير ثابت جزماً. وأمّا أصالة عدم الاستخدام فلأنّ الأصل اللفظي إنّما يكون متبعاً ببناء العقلاء فيما إذا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣٣.


شك في مراد المتكلم من اللفظ ، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته وأ نّها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا أصل هناك لتعيّنها.

وعلى الجملة : فالاصول اللفظية بشتى أشكالها إنّما تكون حجةً في تعيين المراد من اللفظ فحسب ، دون كيفية إرادته من عموم أو خصوص وحقيقة أو مجاز ، لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وإنّما بناؤهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه ، وبما أنّ المراد من الضمير فيما نحن فيه معلوم والشك إنّما هو في كيفية استعماله وأ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز ، فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله ، لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض ، والدليل الآخر غير موجود.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام ، لكن كلّ بملاك ، فانّ أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية ، وأصالة عدم الاستخدام بملاك أنّ الشك فيها ليس في المراد وإنّما هو في كيفية استعماله ، فاذن لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الناحية ، هذا.

ولكن قد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الأوّل وهو جريان أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام ، وقد أفاد في وجه ذلك وجوهاً :

الأوّل : أنّ الاستخدام في الضمير إنّما يلزم فيما إذا اريد من المطلّقات في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات منها ، ومن الواضح أنّ هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص مجازاً ، إذ على هذا يكون للعام معنيان : أحدهما معنىً حقيقي وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم. وثانيهما معنىً مجازي وهو الباقي من أفراده بعد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.


تخصيصه ، وعليه فبطبيعة الحال إذا اريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام. وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ العام لا يكون مجازاً بعد التخصيص فلا يكون له إلاّمعنىً واحد حقيقي وليس له معنىً آخر ليراد من الضمير الراجع إليه معنىً مغاير لما اريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.

ويرد على هذا الوجه : أنّ لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف على كون العام مجازاً بعد التخصيص ، ضرورة أنّه لو اريد من العام جميع أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وإن لم يستلزم كون العام مجازاً ، حيث إنّه خلاف الظاهر ، فانّ الظاهر اتحاد المراد من الضمير وما يرجع إليه ، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة ، وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه ، فالمراد من أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.

الثاني : أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع النظر عن معارضتها بأصالة العموم ، والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة (١) من أنّ أصالة الظهور إنّما تكون حجةً إذا كان الشك في مراد المتكلم ، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته من أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري. وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري إذا كان الشك فيما اريد بالضمير ، وأمّا إذا كان المراد به معلوماً والشك في الاستخدام وعدمه إنّما هو من ناحية الشك فيما اريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلاً.

__________________

(١) في ص ٣٩٢.


ويرد على هذا الوجه : أنّ المراد بالضمير في المقام وإن كان معلوماً ، إلاّ أنّ من يدعي جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في إرادة شيء ليرد عليه ما أفاده قدس‌سره ، بل إنّما هو يدعي ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه ، يعني ظهور الضمير في رجوعه إلى عين ما ذكر أوّلاً ، لا إلى غير ما اريد منه ، وحيث إنّ المراد بالضمير في مورد الكلام معلوم ، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي الذي مردّه إلى عدم إرادة العموم من العام ورفع اليد عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.

ولكنّ الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعنى الحقيقي ، يعني يلزم في مثل ذلك أيضاً رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي وحمله على إرادة المعنى المجازي ، مثلاً في مثل قولنا : رأيت أسداً وضربته يتعيّن حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أنّه المراد بالضمير الراجع إليه.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الأمر بينهما.

الثالث : أنّنا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد ، إلاّ أنّها إنّما تجري فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع ، كما إذا قال المتكلم :

رأيت أسداً وضربته وعلمنا أنّ مراده بالضمير هو الرجل الشجاع واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع


أيضاً لئلاّ يلزم الاستخدام ، وأن يكون المراد به الحيوان المفترس ليلزم ذلك ، ففي مثل ذلك نسلّم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم فيثبت بها أنّ المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرجل الشجاع دون الحيوان المفترس.

وأمّا فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات ، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلّقات في الآية الكريمة ، فالمراد بالضمير فيها إنّما هو مطلق المطلّقات ، وإرادة خصوص الرجعيات منها إنّما هي بدال آخر ـ وهو عقد الحمل في الآية ـ فانّه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.

فالنتيجة : أنّ ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع ، وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجري أصالة عدمه فتعارض بها أصالة العموم ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم أيضاً من جهة اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنّما هو اشتمال الكلام على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده كما في مثل قولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم إذا افترضنا أنّ لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فلا محالة يسري إجماله إلى العام.

ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه ، فانّ ما نحن فيه هو ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث إنّ الجملة المشتملة على


العام متكفلة لحكم ـ وهو لزوم التربص والعدة ـ والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لحكمٍ آخر مغاير له ـ وهو أحقية الزوج بالرجوع إلى الزوجة في مدة التربص والعدة ـ والحكم الأوّل ثابت لجميع أفراد العام ، والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده ، ومن الواضح أنّ ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينةً على اختصاص الحكم الأوّل به أيضاً ، ضرورة أنّه لا صلة له به من هذه الناحية أصلاً ، كيف حيث قد عرفت أنّه حكم مغاير له.

وإن شئت قلت : إنّه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده محكوماً بحكم وببعضها محكوماً بحكم آخر مغاير للأوّل ، ولا مقتضي لكون الثاني قرينة على تخصيص الأوّل بوجه ، وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث إنّ إجمال المخصص فيه يسري إلى العام لا محالة.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

ويرد على هذا الوجه : أنّ ما أفاده قدس‌سره من كون الضمير في الآية الكريمة مستعملاً في العموم وإن كان في غاية الصحة والمتانة ، حيث إنّ قيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلّقات في أثناء العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص ، أعني به خصوص الرجعيات من أقسام المطلّقات ، وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة (١) من أنّ التخصيص لا يستلزم كون العام مجازاً ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية الكريمة وهو قوله تعالى : ( أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) حيث إنّه يدل على كون الزوج أحق

__________________

(١) في ص ٣١٨.


برد زوجته ، خاطئ جداً.

والسبب فيه : أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الحكم المذكور فيها عام لجميع المطلّقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم خاص منها ، فليس فيها ما يدل على الاختصاص ، فالاختصاص إنّما ثبت بدليل خارجي ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصص المنفصل ، يعني أنّه لا يستلزم كون اللفظ مستعملاً في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.

وبكلمة اخرى : أنّ الآية الكريمة قد تعرّضت لثبوت حكمين للمطلّقات :

أحدهما لزوم التربص والعدة لهنّ. وثانيهما أحقية الزوج بردّ زوجته ، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلّقات ، حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهنّ ، وإنّما ثبت ذلك بدليل خارجي ، فقد دلّ دليل من الخارج على أنّ الحكم الثاني خاص بالرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلّقات.

كما أنّ الدليل الخارجي قد دلّ على أنّ الحكم الأوّل خاص بغير اليائسة ومن لم يدخل بها ، فاذن بطبيعة الحال كما أنّ لفظ المطلّقات في الآية استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو بدليل خارجي وهو لايوجب استعماله في الخاص ، كذلك الحال في الضمير فانّه استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاص.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وإن كان تاماً كما عرفت تفصيله بشكل موسّع في ضمن كلامه قدس‌سره إلاّ أنّ هنا نكتة اخرى وهي تمنع عن التمسك بأصالة العموم ، وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً من أنّ المرتكز العرفي في أمثال


المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ورفع اليد عن ظهور العام في العموم ، يعني أنّ ظهور الكلام في الاتحاد يكون قرينةً عرفيةً لرفع اليد عن أصالة العموم ، إذ من الواضح أنّ أصالة العموم إنّما تكون متبعةً فيما لم تقم قرينة على خلافها ، ومع قيامها لا مجال لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين :

الاولى : أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني ، يعني الأخذ بأصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم ، لما عرفت من النكتة فيه. وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، كان اللازم هو رفع اليد عن أصالة العموم وإبقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.

الثانية : أنّ الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة ، حيث إنّ موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في خصوص بعض أقسامه فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، وقد عرفت أنّ الضمير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل في خصوص بعض اقسامه ، بل هو مستعمل في العام ، والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملاً في خصوص الخاص.

ثمّ إنّه هل يكون لهذه المسألة صغرىً في الفقه أم لا؟ الظاهر عدمها ، حيث إنّه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الأمر فيه بين رفع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ، وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.


تعارض المفهوم مع العموم

هل يقدّم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجوه.

قيل : بتقدم العموم على المفهوم بدعوى أنّ دلالة العام على العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية ، ومن الطبيعي أنّ الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام المعارضة.

ويرد عليه : أنّ دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من أن تكون مستندةً إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.

وبكلمة اخرى : قد تقدم في مبحث المفاهيم (١) أنّ دلالة القضية على المفهوم إنّما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له ، ومن المعلوم أنّ دلالتها على تلك الخصوصية إمّا من جهة الوضع أو من جهة مقدمات الحكمة ، والمفروض أنّ دلالة العام على العموم أيضاً لا تخلو من أحد هذين الأمرين ، يعني الوضع أو مقدمات الحكمة ، فاذن ما هو معنى أنّ دلالة العام على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية. فالنتيجة : أنّه لم يظهر لنا معنىً محصّل لذلك.

وقيل : بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق ، ببيان أنّ دلالة القضية على المفهوم عقلية ودلالة العام على العموم لفظية ، فلا يمكن

__________________

(١) في ص ١٩٨ وما بعدها.


رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم. وبتعبير واضح أنّ المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق ، ومن الطبيعي أنّه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك الخصوصية ، ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب ، لفرض أنّها ليست طرفاً للمعارضة مع العام ، وما هو طرف لها ـ وهو المفهوم ـ فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول. أو فقل : إنّ رفع اليد عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع أنّ المفروض لزوم المفهوم له أمر غير ممكن ، والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع أنّه ليس طرفاً للمعارضة بلا مقتضٍ وموجب ، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير المفهوم.

ويرد عليه : أنّ التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، والسبب فيه : أنّ المفهوم كما عرفت لازم عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق ، ومن الطبيعي أنّ انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فلا يعقل انفكاكٌ بينهما لا ثبوتاً ولا نفياً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام ، غاية الأمر إن كان اللازم موافقاً للقضية في الايجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق ، وإن كان مخالفاً لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الدليل المعارض قد يكون معارضاً للملزوم ويسمى ذلك بالمعارض للمنطوق ، وقد يكون معارضاً للازم ويسمى ذلك بالمعارض للمفهوم ، ولكن على كلا التقديرين يكون معارضاً لكليهما معاً ، ضرورة أنّ ما يكون معارضاً للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه أيضاً ،


وكذا بالعكس ، أي ما يكون معارضاً للازم ويدل على نفيه ، فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضاً ، لما أشرنا إليه آنفاً من أنّ نفي الملزوم كما يستلزم نفي اللازم ، كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ، إلاّ أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه ، فعندئذ لا ملازمة بينهما. وأمّا إذا كان اللازم لازماً مساوياً له كما هو الحال في المفهوم حيث إنّه لازم مساوٍ للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق ، لأنّ مردّه إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ العام المعارض للمفهوم بعمومه ـ كما هو مفروض مسألتنا هذه ـ فهو في الحقيقة معارض للمنطوق ويدل على نفيه ، نظراً إلى ما عرفت من أنّ التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه طرفاً للمعارضة مستقلاً ، فاذا افترضنا أنّ العام بعمومه يكون منافياً للمفهوم فبطبيعة الحال يكون منافياً للمنطوق أيضاً ولا محالة يمنع عن دلالة القضية على الخصوصية المستتبعة له ( المفهوم ) وإلاّ فلا يعقل كونه منافياً له ومانعاً عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية ، لاستلزام ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل. فاذن المعارضة في الحقيقة لا تعقل إلاّ بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل معارضاً للمفهوم ، هذا.

وقد فصّل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام وإليك نصّه : وتحقيق المقام أنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينةً للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالاطلاق


بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك ، فلا بدّ من العمل بالاصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلاّ كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال ، وأ نّه لا بدّ أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر ، وإلاّ فهو المعوّل والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره يحتوي على نقطتين :

الاولى : أن يكون العام وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد ، فعندئذ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، أو إحداهما بالوضع والاخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الأوّل والثاني لا ينعقد الظهور لشيء منهما ، أمّا على الأوّل فلأنّ انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز على تمامية مقدمات الحكمة فيه ، والمفروض أنّها غير تامة في المقام ، حيث إنّ كلاً منهما مانع عن جريانها في الآخر. وأمّا على الثاني فلفرض أنّ كلاً منهما يصلح أن يكون قرينةً على الآخر ، وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشيء منهما. إذن يكون المرجع في مورد المعارضة هو الاصول العملية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.


وعلى الثالث فما كانت دلالته بالوضع يتقدم على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، حيث إنّ ظهوره في مدلوله لا يتوقف على شيء ، دون ذاك فانّه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية في المقام ، لفرض أنّ ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها.

الثانية : أن يكونا في كلامين منفصلين ، وعندئذ فتارةً تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، واخرى تكون بالوضع ، وثالثةً تكون إحداهما بالوضع والاخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الفرض الأوّل والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلاّ إذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه ، فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصاً والآخر عاماً.

وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما هو ظاهر ، هذا.

والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الذي أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والاشكال في ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل ، بيان ذلك : أنّك عرفت أنّ التعارض في الحقيقة إنّما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها فحسب كما هو ظاهر ، وعليه فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما ، ومن الطبيعي أنّ النسبة قد تكون عموماً من وجه ، وقد تكون عموماً مطلقاً. أمّا على الأوّل فقد ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه أنّه إذا كان أحدهما ناظراً إلى موضوع الآخر ورافعاً له دون العكس فلا إشكال في تقديمه عليه من دون ملاحظة النسبة بينهما ، لفرض أنّ ما كان ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر حاكم عليه.


ومن الواضح أنّه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم كما لا تلاحظ بقية المرجحات ، لفرض أنّه لا تعارض بينهما في الحقيقة ، كما هو الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها ، حيث إنّ الآية الكريمة على تقدير دلالتها على المفهوم ـ وهو حجية خبر العادل ـ تكون حاكمةً على عموم العلة ونحوها ، فانّ المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر العادل بعد ذلك من إصابة القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم ، حيث إنّه علم شرعاً بمقتضى دلالة الآية ، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعاً عن ظهورها في المفهوم ، ضرورة أنّ العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج لا وجوداً ولا عدماً ، يعني أنّها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي عدمها ، حيث إنّ شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل إلاّعلى ثبوت الحكم لأفراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.

ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد إلاّبعد إحراز أنّه من أفرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات ، فاذا كان هذا حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعاً عن انعقاد ظهور الآية في المفهوم ، لوضوح أنّ ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فرداً للعام ، وقد عرفت أنّه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فرداً لها أو لا ، فاذن كيف يعقل أن يكون مزاحماً لما يدل على كون هذا المورد ليس فرداً لها. أو فقل : إنّ جواز التمسك بعموم العام في مورد لاثبات حكمه له يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فرداً للعام ، والمفروض أنّ كونه فرداً له يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم وإلاّ لم يكن فرداً له ، ومعه كيف يعقل أن يكون عموم العام مانعاً عن دلالتها عليه وإلاّ لزم الدور ، نظراً إلى أنّ عموم العام يتوقف على كون المورد في نفسه فرداً للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم ، فلو كان


ذلك متوقفاً على عموم العام لزم الدور لا محالة.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلاً بما له المفهوم في الكلام وكونه منفصلاً عنه ، فانّه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام ، حيث إنّ النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.

وأمّا إذا لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر ، فعندئذ إن كان تقديم أحدهما على الآخر موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس تعيّن العكس ويكون ذلك من أحد المرجّحات عند العرف ، ولنأخذ لذلك بمثالين :

أحدهما : أنّ ما دلّ على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة كصحيحة ابن بزيع (١) معارض بما دلّ على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء » (٢) بيان ذلك : أنّ الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارةً بملاحظة التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « لأنّ له مادة » واخرى : بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء ».

أمّا إذا كان الاستدلال فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا ، حيث إنّ التعليل يكون أخص مطلقاً من المفهوم ، لأنّ المفهوم يدل بالالتزام على انحصار ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حدّ الكر ، وينفي وجوده عن غيره ، والتعليل نص في أنّ المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النظر إلى الماء القليل ، ضرورة أنّه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ( مع اختلاف ).


ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقاً ابتداءً لبيان اعتصام ماء البئر ، وأن يكون مسوقاً كذلك لبيان ارتفاع النجاسة عنه بعد زوال التغير ، حيث إنّ المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة ، لا أنّ مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سبباً لاعتصامه.

ودعوى أنّ مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل تعم الكثير أيضاً ، فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سبباً لاعتصام الكثير خاطئة جداً فانّ الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وأ نّها لا تصلح أن تكون سبباً لاعتصام الكثير ، بل من ناحية عدم قابلية المحل حيث إنّ المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي ، وبما أنّ الكثير معتصم في نفسه فيستحيل أن يقبل الاعتصام ثانياً بسبب خارجي كالمادة. واحتمال أنّ عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة إنّما هو من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية وجود المادة فيه مدفوع بأنّ هذا الاحتمال خلاف الارتكاز ، حيث إنّ العرف لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصيةً في ماء البئر بها يمتاز عن غيره مع قطع النظر عن وجود المادة فيه ، فامتيازه عن غيره إنّما هو بوجودها ، ومن هنا قلنا إنّ المتفاهم العرفي من الصحيحة أنّ سبب اعتصامه إنّما هو المادة.

وعلى الجملة : أنّ احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في نفسه غير محتمل جزماً ، ضرورة أنّ العرف لا يرى فرقاً بين الماء الموجود في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غضّ النظر عن المادة.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ التعليل في الصحيحة وإن فرضنا أنّه


مسوق ابتداءً لبيان ارتفاع النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير ، إلاّ أنّ العرف يرى بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لطهارته وارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه ، ولازم ذلك أنّ التعليل فيها مطلقاً بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو محط البحث والنظر ، وإن كان بحسب ظاهر القضية راجعاً إلى ارتفاع النجاسة عنه ، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ التعليل راجع إلى اعتصامه أو إلى ارتفاع النجاسة عنه.

ومن ضوء ما بيّناه من النكتة يظهر خطأ ما قيل من أنّ التعليل إذا افترضنا أنّه راجع إلى بيان ارتفاع النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير ، نظراً إلى أنّه باطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلاً ، وبنكتة أنّ الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه أيضاً. أو فقل : إنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه يستلزم سببيّتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولوية ، باعتبار أنّ الدفع أهون من الرفع عرفاً. وعلى هذا فلا محالة يعارض إطلاقه مع إطلاق ما يدل على انفعال الماء القليل بالملاقاة ، فانّ مقتضى إطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة أنّ الماء القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة ، فيكون معارضاً لما دلّ على انفعاله ولا يكون أخص منه ، فعندئذ يمكن تقييد إطلاق التعليل بخصوص الكثير ، يعني أنّ مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيراً.

والسبب في خطأ ذلك : أنّ هذا التقييد مضافاً إلى أنّه خلاف الارتكاز جزماً ، حيث إنّ المرتكز عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع أنّه لا فرق في مطهرية المادة بين كون الماء كثيراً في نفسه وكونه قليلاً ولا يرون للكثرة أيّة دخل في المطهرية ، أو فقل : إنّ العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية يرون الملازمة في


مطهرية المادة بين كون الماء المطهر ـ بالفتح ـ كثيراً في نفسه وكونه قليلاً فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم ، أنّ ذلك التقييد إنّما يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه ، وأمّا إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا التقييد ، لما عرفت من أنّ سببيّتها للاعتصام تختص بخصوص القليل ، حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقاً من دليل انفعال القليل.

وبكلمة اخرى : أنّ للمادة أثرين : الأوّل كونها سبباً للاعتصام. الثاني : كونها سبباً لارتفاع النجاسة ، ودليل انفعال الماء القليل إنّما يكون معارضاً للتعليل باعتبار أثرها الأوّل دون أثرها الثاني كما هو ظاهر ، وقد عرفت أنّه بهذا الاعتبار ـ أي باعتبار أثرها الأوّل ـ أخص منه مطلقاً فلا محالة يخصصه بغير مورده.

وأمّا إن كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النظر عن التعليل الوارد في ذيلها ، نظراً إلى أنّه لا مانع من الاستدلال به على طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلاً ، فهو حينئذ لا محالة يكون معارضاً بالعموم من وجه مع ما دلّ على انفعال الماء القليل ، سواء أكان راكداً أو بئراً ، ويتعين عندئذ تقديم إطلاق صدر الصحيحة على إطلاق دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع ، بنكتة أنّنا إذا قدّمنا الصدر فلا يلزم منه إلغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأساً ، بل يلزم منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر ، وهذا لا مانع منه.

وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا إطلاق دليل انفعال الماء القليل على صدر الصحيحة ، فهو يستلزم إلغاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأساً ، حيث لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلاً ، فانّ اعتصام الجميع


إنّما هو بالكثرة وببلوغه حدّ الكر ، فاذن يصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً محضاً ، وحيث إنّه لا يمكن بمقتضى الارتكاز العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو ، فلا محالة يكون قرينةً على تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.

وثانيهما : ما دلّ على طهارة بول الطير وخرئه مطلقاً ولو كان غير مأكول اللحم كقوله عليه‌السلام في معتبرة أبي بصير « كل شيء يطيرفلا بأس ببوله وخرئه » (١) معارض بما دلّ على نجاسة بول غير المأكول مطلقاً ولو كان طيراً ، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول ، ففي مثل ذلك لا بدّ من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ، حيث إنّ العكس يؤدي إلى إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع دليل الطهارة ، نظراً إلى أنّ الحكم بتقيده حينئذ [ يكون ] بما إذا كان الطير محلل الأكل ، ومن الواضح أنّ مرد ذلك إلى إلغاء عنوان الطير رأساً وجعل الموضوع للطهارة عنوان آخر ـ وهو عنوان ما يؤكل لحمه ـ وهو قد يكون طيراً وقد يكون غيره.

وهذا بخلاف ما لو قيّد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيراً ، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته للنجاسة ، ومن الطبيعي أنّه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوانٍ للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأساً يتعين الأوّل بنظر العرف ، وما نحن فيه كذلك فانّ تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع الطهارة رأساً ، وأمّا العكس فلا يستلزم

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.


إلاّ تقييد إطلاق موضوعية عنوان غير المأكول للنجاسة ، وهذا أخف مؤونة من الأوّل بمقتضى فهم العرف وارتكازهم.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ المفهوم إن كان حاكماً على المنطوق فلا شبهة في تقديمه عليه وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، وكذا لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأساً دون العكس. وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض إن كانت ، وإلاّ فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.

وأمّا لو كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فلا شبهة في تقديم الخاص على العام ، حيث إنّه يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه ، ومن المعلوم أنّ ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وإن افترض أنّ ظهورها بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع ، كما إذا افترضنا ورود دليل يدل بالوضع على أنّ كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة إلاّ إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، فانّه مع ذلك لا يقاوم مفهوم روايات الكر على الرغم من أنّ دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ حال التعارض بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلاً.


تعقّب الاستثناء للجملات

إذا تعقب الاستثناء جملاً متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شيء منهما؟ فيه وجوه بل أقوال.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : والظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال ، ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل ، وإن كان المتراءى من صاحب المعالم قدس‌سره حيث مهّد مقدمةً لصحة رجوعه إليه أنّه محل الاشكال والتأمل ، وذلك ضرورة أنّ تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً ، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوماً ، وبذلك يظهر أنّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير. نعم ، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لايكون معه ظاهراً فيه ، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول ، إلاّ أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعياً ، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة فانّه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع


فتأمل (١).

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

الاولى : أنّه لا إشكال في صحة رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة على كل حال ، حيث إنّ رجوعه إلى ما عداها لا يمكن بلا قرينة. وكذا لا إشكال في صحة رجوعه إلى الجميع.

الثانية : أنّ صحة رجوعه إلى الجميع لا تتوقف على كون الموضوع له في الحروف عاماً ، بل يصح رجوعه إليه ولو كان الموضوع له فيها خاصاً ، والسر فيه : أنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في ناحية الأداة ، فان تعدده إنّما هو بحسب الخارج لا في مقام اللحاظ والاستعمال ، فانّه في هذا المقام واحد سواء أكان مطابقه في الخارج أيضاً واحداً أم كان متعدداً ، فتعدده فيه لا يوجب تعدد الاخراج في مقام اللحاظ وظرف الاستعمال ، فالاخراج واحد في هذا المقام وكذا المخرج منه وإن كان متعدداً في الخارج ، ومن الطبيعي أنّ تعدده فيه إنّما يوجب تعدد إضافة الاخراج لا نفسه كما هو واضح.

الثالثة : أنّه لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع ولا إلى خصوص الأخيرة وإن كان رجوعه إليها متيقناً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة من الجمل وإن كان غير معلوم إلاّ أنّه مع ذلك لا ظهور لها في العموم لاكتنافها بما يصلح للقرينية ، هذا.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ تعدد العمومات المتعقبة بالاستثناء لا يخلو من أن يكون بتعدد خصوص موضوعاتها أو بتعدد خصوص محمولاتها أو بتعدد كليهما معاً ، لوضوح أنّ القضية كما تتعدد بتعدد الموضوع والمحمول معاً ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.


كذلك تتعدد بتعدد الموضوع فقط مع وحدة المحمول ، أو المحمول فقط مع وحدة الموضوع ، والأوّل كقولنا : زيد قائم وعمرو قائم ، والثاني كقولنا : زيد عادل وزيد متكلم ، فالصور ثلاث : الاولى : أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب.

الثانية : أن يكون تعددها بتعدد المحمول كذلك. الثالثة : أن يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معاً.

أمّا الصورة الاولى : فإن لم يتكرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : أكرم العلماء والأشراف والسادة إلاّ الفسّاق منهم ، أو قيل : أكرم الفقهاء والاصوليين والمتكلمين إلاّمن كان فاسقاً منهم ، فالظاهر بل لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، حيث إنّ ثبوت الحكم الواحد لهم جميعاً قرينة عرفاً على أنّ الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل وإن كان متعدداً في الواقع ، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع. وإن شئت قلت : إنّ القضية في مثل ذلك وإن كانت متعددةً صورةً إلاّ أنّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بحكم واحد وهو وجوب إكرام كل فرد من الطوائف الثلاث إلاّ الفسّاق منهم ، فمردّ هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا : أكرم كل واحد من هذه الطوائف الثلاث إلاّمن كان منهم فاسقاً.

وأمّا إذا كرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : أكرم العلماء والأشراف ، وأكرم الشيوخ إلاّ الفسّاق منهم ، فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت ، لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أنّه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات ، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر ، وحيث إنّه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في تلك الجملات.


ودعوى أنّها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جداً ، وذلك لأنّ كبرى احتفاف الكلام بذلك إنّما هي فيما إذا صحّ اعتماد المتكلم عليه وإن كان مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسق مثلاً إذا افترضنا أنّه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أنّه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو للأعم منه ومن الصغائر ، فانّه إذا ورد في كلام المولى مقترناً بعام أو مطلق كقوله : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة ، حيث إنّه يصح للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي ، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في العموم حتى يتمسك به.

فالنتيجة : أنّ مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة إنّما هي موارد إجماله واشتباه المراد منه للسامع ، وهذا بخلاف المقام حيث لا إجمال في الاستثناء في مفروض المسألة ، فانّه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل السابقة عليها ، فاذن لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.

وعلى الجملة : فلو أراد المولى تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان مخلاً ببيانه ، حيث إنّ الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي في خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقاً عليه ، ومعه لا موجب لرجوعه إلى الجميع ، فاذن كيف يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى.

نعم ، لو كان الاستثناء مجملاً وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحاً لرجوعه إلى كل منهما لكان المقام داخلاً فيها لا محالة.


وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول فحسب ، فإن كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا )(١) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الجميع ، نظير ما إذا قال المولى لعبده : بع كتبي وأعرها وآجرها إلاّما كان مكتوباً على ظهره أنّه مخصوص لي ، فانّه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور ، والوجه فيه واضح وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع ، حيث إنّه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه بحصة خاصة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع ، ويدل بمقتضى الارتكاز العرفي [ على ] أنّ هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم ، مثلاً لو قال المولى : أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلاّ الفسّاق منهم ، فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص العدول وأنّ هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفسّاق.

وعلى الجملة : فالقضية في المقام وإن كانت متعددةً بحسب الصورة إلاّ أنّها في حكم قضية واحدة ، فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدةً حقيقةً وأن تكون متعددةً صورةً ، فانّها في حكم الواحدة ، والتعدد إنّما هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الأحكام المتعددة. فالنتيجة : أنّه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض.

وأمّا إذا تكرر الموضوع فيها ثانياً كما في مثل قولنا : أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص

__________________

(١) النور ٢٤ : ٤ ـ ٥.


الجملة المتكرر فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل إن كانت ، والسبب فيه : هو أنّ تكرار عقد الوضع قرينة عرفاً على قطع الكلام عما قبله ، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.

فالنتيجة : أنّه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرّر الموضوع أصلاً وإنّما كرر الحكم فحسب ، وما إذا كرّر الموضوع أيضاً ، فعلى الأوّل يرجع الاستثناء إلى الموضوع المذكور في الجملة الاولى فيوجب تخصيصه بالاضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له ، وعلى الثانية يرجع إلى ما اعيد فيه الموضوع وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.

وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الاولى ، وكذا الثانية إذا كان ما اعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا ، لما عرفت من ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل ، ومعه لا محالة تكون أصالة العموم محكّمة. وأمّا ما قيل من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد الظهور لها في العموم ، فقد عرفت خطأه وأنّ المقام غير داخل في هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع والمحمول معاً ، فيظهر حالها مما تقدم يعني أنّ الاستثناء فيها أيضاً يرجع إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفاً بحرف.


تخصيص الكتاب بخبر الواحد

والظاهر أنّه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم ، والمخالف في المسألة إنّما هو العامة (١) وهم بين من أنكر تخصيصه به مطلقاً ، وبين من فصّل تارةً بما إذا خصص العام الكتابي بمخصص قطعي قبله ، وما إذا لم يخصص به كذلك ، فقال بالجواز على الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو تخيل أنّ التخصيص يوجب التجوز في العام فاذا صار العام مجازاً بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانياً بخبر الواحد ، نظراً إلى أنّ التخصيص الثاني لا يوجب شيئاً زائداً على ما فعله فيه التخصيص الأوّل ، وعليه فلا مانع منه.

وفيه : ما عرفت من أنّ التخصيص لا يوجب التجوز في العام.

وتارة اخرى : بين المخصص المتصل والمنفصل ، فقال بالجواز في الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو أنّ الأوّل لا يوجب التجوز في العام دون الثاني.

وفيه : ما مرّ من أنّ التخصيص مطلقاً لا يوجب التجوز فيه. ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني. فالنتيجة : أنّ هذه الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.

والتحقيق هو ما ذهب إليه علماؤنا ( قدّس الله أسرارهم ) من جواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقاً ، والسبب في ذلك : هو أنّنا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٢ : ٥٢٥ ، المحصول ١ : ٤٣٢ ، المستصفى ٢ : ١١٤


شرعاً بدليل قطعي ، فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به إلاّرفع اليد عنه بالقطع ، لفرض أنّا نقطع بحجيته. وبكلمة اخرى : أنّ التنافي إنّما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر ، ولا تنافي بينه وبين دلالته ، لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف ، حيث إنّها تكون قرينةً عندهم على التصرف فيه ، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها.

وعلى هذا فاذا أثبتنا اعتبار سنده شرعاً بدليل فلا محالة يكون مخصصاً لعمومه أو مقيداً لاطلاقه ، ولا يكون مردّ هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن ، ضرورة أنّه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سنداً ولا دلالة ، وإنّما التنافي كما عرفت بين دلالته على العموم أو الاطلاق وبين سند الخبر ، وأدلة اعتبار السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها ، وهو الشك في إرادة العموم ، حيث إنّه بعد اعتباره سنداً مبيّن لما هو المراد من الكتاب في نفس الأمر والواقع فيكون مقدّماً عليه وهذا واضح.

وإنّما الكلام في عدّة من الشبهات التي توهمت في المقام.

منها : أنّ الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني.

ويردّه : ما عرفت الآن من أنّ القطعي إنّما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة ، والمفروض أنّ الخبر لا ينافي سنده أصلاً لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة ، وأمّا دلالته على العموم أو الاطلاق فلا تكون قطعيةً ، ضرورة أنّنا نحتمل عدم إرادته تعالى العموم أو الاطلاق من عمومات الكتاب ومطلقاته ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه من رفع اليد عن القطعي بالظني ، فلو كانت دلالة الكتاب قطعيةً لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر ، بل لا بدّ من طرحه في مقابلها.


وعلى الجملة : فحجية أصالة الظهور إنّما هي ببناء العقلاء ، ومن المعلوم أنّ بناءهم عليها إنّما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها وإلاّ فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها ، والمفروض أنّ خبر الواحد بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينةً على الخلاف جزماً ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار ، وقد جرت على ذلك السيرة القطعية العقلائية. ومن الطبيعي أنّ عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلاً ، بل حالها حالها.

فالنتيجة : أنّ رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن القطعي بالظني.

ومنها : أنّه لا دليل على اعتبار خبر الواحد إلاّ الاجماع ، وبما أنّه دليل لبي فلا بدّ من الأخذ بالمقدار المتيقن منه ، والمقدار المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو إطلاقه وإلاّ فلا يقين بتحقق الاجماع على اعتباره في هذا الحال ، ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه.

ويرد عليه : أنّ عمدة الدليل على اعتبار الخبر إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع بما هو إجماع ، وقد عرفت أنّ بناءهم على العمل بالعموم أو الاطلاق إنّما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه ، حيث إنّه يكون بنظرهم قرينةً على التصرف فيه.

ومنها : الأخبار (١) الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله ، وأنّ ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله أو ما شاكل ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩.


وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضاً ، وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.

والجواب عن ذلك : هو أنّ الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية كمخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما ، والنكتة فيه : أنّ هذه المخالفة لا تعدّ مخالفةً عند العرف ، حيث إنّهم يرون الخاص قرينةً على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق ، ومن الطبيعي أنّه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها ، وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم والخصوص من وجه ، حيث إنّ هذه المخالفة تعدّ مخالفةً عندهم حقيقةً وتوجب تحيّرهم في مقام العمل ، ويدل على ذلك أمران :

الأوّل : أنّا نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار عليهم‌السلام بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم عليهم‌السلام لعموماته ومطلقاته ، فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولاً لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم عليهم‌السلام.

الثاني : أنّ في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة شاهداً على أنّ الخبر المخالف حجة في نفسه وإلاّ فلا موضوع للترجيح ، لوضوح أنّ التعارض إنّما يقع بين الخبرين يكون كل منهما حجة في نفسه وإلاّ فلا يعقل التعارض. وعليه فبطبيعة الحال يكون الخبر المخالف كالموافق حجة في نفسه بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا شبهة في أنّ هذه المخالفة يعني المخالفة


بالعموم المطلق لا تكون مشمولة لتلك الأخبار ، هذا.

مضافاً إلى أنّ أكثر الأخبار الواردة في أبواب العبادات والمعاملات لاتكون مخالفةً لعموم الكتاب ، حيث إنّها متكفلة للأحكام التي ليست بموجودة في عموم القرآن ليقال إنّها مخالفة له ، والوجه في ذلك : هو أنّ جل الآيات الواردة في أبواب العبادات إنّما هي في مقام التشريع فلا إطلاق لها فضلاً عن العموم.

وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الروايات الدالة على اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مخالفة لها بنحو من المخالفة. وأمّا الآيات الواردة في أبواب المعاملات وإن كان لكثير منها إطلاق إلاّ أنّه لا مانع من تقييده بخبر الواحد وإن لم نقل بجواز التخصيص به ، والنكتة فيه : أنّ ثبوت الاطلاق يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الطبيعي أنّها لا تجري مع قيام خبر الواحد على الخلاف ، وهذا بخلاف عموم العام ، فانّه لا يتوقف على شيء ما عدا الوضع.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّا لو قلنا بشمول الأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالأخبار المخالفة للكتاب لمثل هذه المخالفة ـ يعني المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ـ لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، لما عرفت من أنّنا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم إلغاء الخبر بالمرّة ، بل له موارد كثيرة لا بدّ من العمل به في تلك الموارد من دون كون العمل به فيها مخالفاً للكتاب بوجه.

ومنها : لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضاً ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


حيث إنّه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الأزمان فلا فرق بينهما إلاّ في أنّ التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الأفراد العرضية ، وذاك تخصيص بحسب الأفراد الطولية. ومن الطبيعي أنّ مجرد هذا لايوجب الحكم بجواز الأوّل وامتناع الثاني ، فلو جاز الأوّل جاز الثاني أيضاً مع أنّه ممتنع جزماً ، فيكون هذا شاهداً على امتناع الأوّل كالثاني.

وفيه : أنّ الاجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وهذا الاجماع ليس إجماعاً تعبدياً ، بل هو من صغريات الكبرى المسلّمة وهي أنّ الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنّه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده. والنسخ من هذا القبيل فانّه لو كان جائزاً بخبر الواحد لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للانكار ، فمن عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفاً قطعياً عن عدم وقوعه وأ نّه لا يجوز نسخ الكتاب به ، فلو دلّ خبر الواحد على نسخه لا بدّ من طرحه وحمله إمّا على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحال بالاضافة إلى إثبات قرآنية القرآن ، حيث إنّها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة ولذا لا يثبت باخبار عمر الآية : « الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما » لأنّ إخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به ، وإنّما يثبت بالخبر المتواتر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه فلا بدّ من حمله على أحد الوجوه الآنفة الذكر.

وعلى الجملة : فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد يكشف كشفاً جزمياً عن أنّ الأمر كذلك في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار عليهم‌السلام والنكتة فيه هي التحفظ على صيانة القرآن.


إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه لا مانع من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام.


التخصيص والنسخ

إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور :

الاولى : أن يكون الخاص متصلاً بالعام ، ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ حيث إنّه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة ، والمفروض أنّ الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعاً له ، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آنٍ واحد ودليل فارد.

الثانية : أن يكون الخاص متأخراً عن العام ولكنّه كان قبل حضور وقت العمل به ، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاص ناسخاً له؟ فذكر بعض الأعلام أنّه لا يمكن أن يكون ناسخاً ، والنكتة فيه : أنّه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه ، ضرورة أنّه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغواً محضاً ، حيث إنّ الغرض من جعله إنّما هو صيرورته داعياً للمكلف نحو الفعل فاذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي لغواً فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.

نعم ، يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية ، حيث إنّ الغرض من جعلها ليس بلوغها مرتبة الفعلية ، ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم قدرة المكلف على الامتثال ، نظراً إلى أنّ الغرض منها مجرد الامتحان وهو يحصل بمجرد إنشاء الأمر ، فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه ، وهذا بخلاف


الأوامر الحقيقية حيث إنّه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء شرطها وعدم تحققه في الخارج ، ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية والخارجية ، فكما أنّ جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح ، كذلك جعله مع علمه بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.

وعلى الجملة : فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والاتيان بالمأمور به مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها وامتثالها في الخارج ، لا محالة يكون لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك ، هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بما إليك نصه : ولكنّ التحقيق أنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية ، وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصحّ ما ذكروه ، وأمّا إذاكان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها في الخارج ـ كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة ـ فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل ، لأنّه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلاً ، إذ المفروض أنّه جعل على موضوع مقدّر الوجود.

نعم ، إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية ، كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية قبل وقت العمل به ، فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلاً حكماً مولوياً مجعولاً بداعي البعث أو الزجر.


وبالجملة : إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده ، فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة ، وبالقضايا الخارجية ، والقضايا الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها ، وأمّا القضايا الخارجية أو الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحاكم الملتفت ، والوجه في ذلك ظاهر (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في نقطة : وهي أنّ الحكم المجعول إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به ، وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك ، وقد تعرّض قدس‌سره هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فلاحظ.

ويرد عليه : أنّه لا يتم باطلاقه والسبب فيه : ما عرفت من أنّه لا يكفي في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها فيه ، ضرورة أنّ المولى على الرغم من هذا لو جعلها بداعي البعث حقيقةً لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن صدوره منه مع التفاته إلى ذلك ، وقد مرّ آنفاً أنّه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية غير الموقتة ، والقضايا الحقيقية الموقتة ، والقضايا الخارجية ، فكما أنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في القسمين الأخيرين ، فكذلك مستحيل في القسم الأوّل من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى هذا التفصيل ، مع أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.


قد صرح في عدة موارد (١) أنّ امتناع فعلية الحكم يستلزم امتناع جعله. هذا كلّه في الأوامر.

وأمّا النواهي فاذا علم المولى أنّه لا يترتب أيّ أثر على جعل النهي خارجاً ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته ، فلا محالة يكون جعله لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك ، وأمّا إذا علم بأنّ جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل القصاص والديات والحدود ، حيث إنّ تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف وزجره عن إيجاد موضوعها في الخارج فلا مانع منه ، بل يكون تمام الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي والقضايا الحقيقية والخارجية. نعم ، إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة سبباً لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.

الثالثة : أن يكون الخاص المتأخر وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصاً له أو ناسخاً؟ فيه وجهان.

فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، وعليه فيتعين كونه ناسخاً لا مخصصاً ، ولكنّهم وقعوا في الاشكال بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّ مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار

__________________

(١) منها ما في أجود التقريرات ٣ : ٥١٨.


( عليهم‌السلام ) قد وردت بعد حضور وقت العمل بها ، ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها ، والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جداً بل نقطع بخلافه ، بداهة أنّ لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة ، وهذا في نفسه مما يقطع ببطلانه ، لا من ناحية ما قيل من أنّ النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لانقطاع الوحي ، وذلك لأنّ الوحي وإن انقطع بعد زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنّه لا مانع من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوكل بيانه إلى الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام كبيان سائر الأحكام. بل من ناحية أنّ نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل الله تعالى وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام ببيانها ، ولأجل ذلك يقطع بخلافه.

ومن هنا قد قاموا بعدة محاولات للتفصي عن هذا الاشكال ، أحسنها ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) من أنّ هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها ضرباً للقاعدة ، يعني أنّها متكفلة للأحكام الظاهرية فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص ، فاذا ورد المخصص عليها كان ناسخاً بالاضافة إلى الأحكام الظاهرية ومخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية والأحكام الواقعية.

وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ كون العموم مراداً بالارادة الاستعمالية لا يلازم كونه مراداً بالارادة الجدية ، كما أنّ كونه مراداً ظاهراً

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٧ ، ٤٥١.

(٢) مطارح الأنظار : ٢١٢.


ضرباً للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مراداً واقعاً وجداً ، وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مراداً ظاهراً ويكون الناس مأمورين بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له ، فاذا جاء فيكون مخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية وناسخاً بالاضافة إلى الحكم الظاهري.

ويرد عليه : أنّ هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرةً في إرادة العموم واقعاً وجداً في مقام الاثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرةً فيه من جهة نصب قرينة على أنّها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع والجد ، يعني أنّ القرينة تدل على أنّها وردت ضرباً للقاعدة بالاضافة إلى الحكم الظاهري دون الواقعي ، ومن الطبيعي أنّ هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة العموم واقعاً وجداً ، فعلى الأوّل يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ولا يندفع به الاشكال المزبور ، ضرورة أنّها على هذا الفرض ظاهرة في إرادة العموم واقعاً ، والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدم إرادة العموم فيها ، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة. وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم في مقام الاثبات حتى يتمسك به ضرباً للقاعدة ، وعليه فلا يكون حجةً في ظرف الشك.

فالنتيجة : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره لدفع الاشكال المذكور لا يرجع إلى معنىً صحيح.

فالتحقيق في المقام أن يقال : إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما هو لأحد أمرين لا ثالث لهما :

الأوّل : أنّه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتضٍ لها في


الواقع ، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم إلزامي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملاً على حكم ترخيصي ، فانّه لا محالة يوجب إلزام المكلف ووقوعه بالاضافة إلى تلك الأفراد المباحة في المشقة والكلفة من دون موجب ومقتضٍ لها ، وهذا من الحكيم قبيح.

الثاني : أنّه يوجب إلقاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه ، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر ، ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجباً أو محرّماً ، فانّه على الأوّل يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلف ، وعلى الثاني يوجب إلقاءه في المفسدة ، وكلاهما قبيح من المولى الحكيم. ولكن من المعلوم أنّ هذا القبيح قابل للرفع ، ضرورة أنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقاءه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلاً.

فاذن لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه ، بل هو كقبح الكذب يعني أنّه في نفسه قبيح مع قطع النظر عن طروء أيّ عنوان حسن عليه. فاذا افترضنا أنّ المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت أقوى من مفسدة تأخيره ، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحاً ، بل هو حسن ولازم ، كما هو الحال في الكذب فانّ قبحه إنّما هو في نفسه وذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان حسن عليه.

فاذا فرضنا أنّ إنجاء مؤمنٍ في موردٍ يتوقف عليه لم يكن قبيحاً ، بل هو حسن يلزم العقل به ، وكذا حسن الصدق فانّه ذاتي بمعنى الاقتضاء وأ نّه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز ، ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجباً لقتل مؤمن أو ما شاكل ذلك ، فانّ


مثله لا محالة يكون قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً ، فما لا ينفك عنه القبح ـ هو الظلم ـ حيث إنّه علة تامة له فيستحيل تحقق عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح ، كما أنّ حسن العدل ذاتي بهذا المعنى ، أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.

فالنتيجة : أنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما أنّه ذاتي بمعنى الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير ، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحاً.

وبكلمة اخرى : أنّ حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدّسة ، حيث إنّ بيان الأحكام فيها كان على نحو التدريج واحداً بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس ،

نظراً إلى أنّ بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعاً توجب النفرة والاعراض عن الدين وعدم الرغبة فيه. ومن الطبيعي أنّ هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج ليرغب الناس فيه رغم أنّ متعلقاتها مشتملة على المصالح والمفاسد من الأوّل ، فتأخير البيان وتدريجيته إنّما هو لمصلحة تستدعي ذلك ـ وهي التسهيل على الناس ورغبتهم في الدين ـ ومن الواضح أنّ هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.

ومن هنا قد ورد في بعض الروايات (١) أنّ أحكاماً بقيت عند صاحب الأمر ( عجّل الله تعالى فرجه الشريف ) وهو عليه‌السلام بعد ظهوره يبيّن تلك الأحكام للناس ، ومن المعلوم أنّ هذا التأخير إنّما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٢ : ٣٣٨ ، ٣٥٤ ب ٢٧ ح ٨٢ و ١١٤.


البيان ، وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك ، أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة ، ولا يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلاً أو أزيد ، فانّه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعةً واحدةً جاز كذلك سنين متطاولة ، ضرورة أنّ قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبداً حتى في آنٍ واحدٍ ، لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك ، أو كانت في تقديمه مفسدة مانعة عنه.

وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاص المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام مخصصاً لا ناسخاً ، وعليه فلا إشكال في تخصيص عمومات الكتاب والسنّة الواردة في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمخصصات الواردة في عصر الأئمة الأطهار عليهم‌السلام حيث إنّ المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل ، أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.

الصورة الرابعة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يتعين كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر ، حيث إنّه لا مقتضي للنسخ هنا أصلاً ، وإلاّ لزم كون جعل الحكم لغواً محضاً وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر أو


أنّ العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم ، وتظهر الثمرة بينهما حيث إنّه على الأوّل يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة هو حكم الخاص دون العام ، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص بعد ورود العام ، فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة بعد وروده هو حكم العام.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً وأفاد في وجه ذلك : أنّ كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر ما من عام إلاّوقد خص وندرة النسخ فيها جداً أوجبتا كون ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وإن كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وإن كان بالوضع ، وعليه فلا مناص من تقديمه عليه ، هذا.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بما ملخّصه : أنّ دليل الحكم يستحيل أن يكون متكفلاً لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضاً ، ضرورة أنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجود الحكم أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، وبما أنّ موضوع الاستمرار هو نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجوده أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار.

ومن الطبيعي أنّ دليل الواحد لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم وإثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج وهو استمراره.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٠١.


فاذن لابدّ له في الحكم باستمراره إمّا من الرجوع إلى استصحاب عدم النسخ أو إلى قوله عليه‌السلام : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلخ (١).

ولكن كلا الأمرين غير تام.

أمّا الأوّل : فلأ نّه محكوم بدليل اجتهادي وهو أصالة العموم في المقام ، حيث إنّ الأمر دائر فيه بين التمسك بها والتمسك بأصالة عدم النسخ ، والمفروض أنّ الاولى حاكمة على الثانية نظراً إلى أنّها من الاصول اللفظية ، وتلك من الاصول العملية.

وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر منه هو استمرار الشريعة المقدسة إلى يوم القيامة وأ نّها لا تنسخ بشريعة اخرى ، ولا ينافيه نسخ بعض الأحكام وعدم استمراره.

أو فقل : إنّ المراد منه ليس استمرار كل حكم في هذه الشريعة حتى يتمسك بعموم هذا الدليل في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهو أنّ الاستمرار مرةً يلاحظ بالاضافة إلى نفس الحكم فحسب ، ومرة اخرى يلاحظ بالاضافة إلى متعلقه وموضوعه ، وما أفاده قدس‌سره من أنّ دليلاً واحداً لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم واستمراره معاً إنّما يتم في الفرض الأوّل دون الفرض الثاني ، حيث إنّه لا مانع من استفادة استمرار الحكم من إطلاق متعلقه وموضوعه إذا كان الدليل المتكفل له في مقام البيان كقولنا : لا تشرب الخمر مثلاً فانّه كما يدل باطلاقه على العموم بالاضافة إلى أفراده العرضية يعني كل ما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان متخذاً

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩.


من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك ، فالقضية تدل على حرمة شربه كذلك يدل عليه بالاضافة إلى أفراده الطولية يعني بحسب الأزمان لاطلاق المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان ، مع كون المتكلم في مقام البيان.

وإن شئت قلت : إنّ المتكلم كما يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد العرضية ، وهذا يعني أنّه تارةً يقيّد المتعلق بحصة خاصة منه ككونه متخذاً من العنب مثلاً ، واخرى لا يقيده بها فيلاحظه مطلقاً ومرفوضاً عنه القيود بشتى أشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه ، كذلك يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد الطولية ، يعني تارةً يقيده بزمان خاص دون آخر ، واخرى لا يقيده به فيلاحظه مطلقاً بالاضافة إلى جميع الأزمنة ، فعندئذ بطبيعة الحال يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له. فاذن ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخاص يدل على الدوام والاستمرار بالاطلاق ففي غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.

نعم ، يرد على ما أفاده قدس‌سره من أنّ الخاص يتقدم على العام وإن كانت دلالته على الدوام والاستمرار بالاطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام على العموم بالوضع ، والسبب فيه : هو أنّه لا يمكن الحكم بتقديم الخاص على العام في هذه الصورة ، حيث إنّ العام يصلح أن يكون بياناً على خلاف الخاص ، ومعه كيف تجري مقدمات الحكمة فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ دلالة الخاص على الدوام والاستمرار تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الطبيعي أنّ عموم العام بما أنّه مستند إلى الوضع


مانع عن جريانها ، فاذن كيف يحكم بتقديم الخاص عليه. وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما لا توجبان إلاّ الظن بالتخصيص ولا أثر له أصلاً. على أنّ فيما نحن فيه لا يدور الأمر بينهما ، حيث إنّ الخاص هنا لا يصلح أن يكون مخصصاً للعام ، فانّ صلاحيته للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، وهي غير جارية على الفرض ، فعندئذ بطبيعة الحال يقدّم العام على الخاص فيكون ناسخاً له.

ولكن هذا الذي ذكرناه إنّما يتم في الأحكام الصادرة من المولى العرفي ، فانّه إذا صدر منه خاص ثمّ صدر عام بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العام ناسخاً للخاص إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاص في الدوام والاستمرار مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وأمّا في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام ، والسبب في ذلك : هو أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الاسلامية المقدّسة حيث إنّها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا الظرف ، وإنّما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان ، فقد يكون العام متأخراً عن الخاص في مقام البيان ، وقد يكون بالعكس ، مع أنّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.

وعلى هذا الضوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص وإن كان بيانه متأخراً عن بيان الخاص زماناً ، إلاّ أنّه يدل على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدّسة مقارناً لثبوت مضمون الخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.

ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام عن ثبوتها من الأوّل لا من حين صدورها ، ولذا لو صلّى أحد في الثوب النجس


نسياناً ثمّ بعد مدة مثلاً تذكر وسأل الإمام عليه‌السلام عن حكم صلاته فيه فأجاب عليه‌السلام بالاعادة ، فهل يتوهم أحد أنّه عليه‌السلام في مقام بيان حكم صلاته بعد ذلك لا من الأوّل.

فالنتيجة : أنّ الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأوّل ، ولا إشكال في هذه الدلالة والكشف ، ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الإمام المتأخر إلى الإمام المتقدم كما في الروايات. ومن الطبيعي أنّه لم تكن النسبة صحيحة ، فما فيها من أنّهم عليهم‌السلام جميعاً بمنزلة متكلم واحد إنّما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أنّ لسان جميعهم لسان حكاية الشرع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ العام المتأخر زماناً عن الخاص إنّما [ المتأخر ] هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله ، فانّه مقارن للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه ، مثلاً العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام مقارن مع الخاص الصادر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتأخير إنّما هو في بيانه ، وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخاً للخاص ، بل لا مناص من جعل الخاص مخصصاً له ، ومن هنا قلنا إنّ العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام يصح نسبته إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن المعلوم أنّه لو كان صادراً في زمانه عليه‌السلام لم تكن شبهة في كون الخاص مخصصاً له ، فكذا الحال فيما إذا كان صادراً في زمان الصادق عليه‌السلام بعد ما عرفت من أنّه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وأنّ الصادر في زمانه عليه‌السلام كالصادر في زمان الأمير عليه‌السلام أو


الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هنا يكون دليل المخصص كاشفاً عن تخصيص الحكم العام من الأوّل لا من حين صدوره وبيانه.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية ، فانّ صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأوّل وإنّما يدل على ثبوته من حين صدوره ، فاذا افترضنا صدور خاص منه وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهراً في نسخه للخاص ، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر فانّه يدل على ثبوته من الأوّل لا من حين صدوره ، والتأخير إنّما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه ، ولأجل هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الأحكام العرفية فيما تقدّم من النسخ والتخصيص في بعض الموارد.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ المتعيّن هو التخصيص في جميع الصور المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شيء منها.


النسخ

وهو في اللغة (١) بمعنى الازالة ، ومنه نسخت الشمس الظل. وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، ولا يفرق فيه بين أن يكون حكماً تكليفياً أو وضعياً. ومنه يظهر أنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شيء ، والوجه في ذلك : هو أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ للحكم المجعول في الشريعة المقدّسة مرتبتين :

الاولى : مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء ، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الحكم في هذه المرتبة مجعول على نحو القضايا الحقيقية التي لاتتوقف على وجود موضوعها في الخارج ، فانّ قوام تلك القضايا إنّما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن ، مثلاً قول الشارع : شرب الخمر حرام ليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة ، بل مردّه هو أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة فيها سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

الثانية : مرتبة الفعلية وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه ، مثلاً إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة المجعولة له في

__________________

(١) المصباح المنير : ٦٠٣.


الشريعة المقدّسة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه ، حيث إنّ نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلة التامة ، وعليه فاذا انقلب الخمر خلاً فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته ، ضرورة أنّه لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلاّ لزم الخلف.

وبعد ذلك نقول : إنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج ، وإنّما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.

المعروف والمشهور بين المسلمين هو إمكان النسخ بالمعنى المتنازع فيه ( رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل ).

وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شبهةٍ لا واقع موضوعي لها ، وحاصلها : هو أنّ النسخ يستلزم أحد محذورين لايمكن الالتزام بشيء منهما ، إمّا عدم حكمة الناسخ أو جهله وكلاهما مستحيل في حقّه تعالى ، والسبب فيه : أنّ تشريع الأحكام وجعلها منه ( سبحانه وتعالى ) لا محالة يكون على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه ، بداهة أنّ جعل الحكم جزافاً وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.

وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة لموضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها ، أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالباً في الأحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما ، والأوّل ينافي حكمة الحكيم المطلق فانّ مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافاً. ومن المعلوم أنّ رفع الحكم مع بقاء


مصلحته المقتضية لجعله أمر جزاف فيستحيل صدوره منه. والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال في حقّه سبحانه.

فالنتيجة : أنّ وقوع النسخ في الشريعة المقدّسة بما أنّه يستلزم المحال فهو محال لا محالة.

والجواب عنها : أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين :

أحدهما : ما لايراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين كالأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله. ومن الواضح أنّه لا مانع من إثبات هذا النوع من الأحكام أوّلاً ثمّ رفعه ، حيث إنّ كلاً من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة ، لفرض أنّ حكمته ـ وهي الامتحان ـ قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقاؤه ، ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى حيث لا واقع له غير هذا.

وثانيهما : ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقي ، يعني أنّ الحكم المجعول حكم حقيقي ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان ، والمراد من النسخ كما عرفت هو انتهاء الحكم بانتهاء أمده ، يعني أنّ المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام الثبوت مقيداً بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيّد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الذي انيط به ، وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتى يكون مستحيلاً على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات.


فالنتيجة : أنّ النسخ بالمعنى الذي ذكرناه أمر ممكن جزماً ولايلزم منه شيء من المحذورين المتقدمين ، بيان ذلك : أنّه لا شبهة في دخل خصوصيات الأفعال في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات ، سواء أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك ، فانّ دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال مما لا يشك فيه عاقل فضلاً عن فاضل ، فاذا كانت خصوصيات الزمان دخيلةً في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلافها ، فلتكن دخيلةً في استمرارها وعدمه أيضاً ، ضرورة أنّه لا مانع من أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة في مدة معيّنة وفي قطعة خاصة من الزمان فلايكون مشتملاً عليها بعد انتهاء تلك المدة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم باشتماله كذلك محدوداً بأمد تلك المصلحة فلايعقل جعله منه على نحو الاطلاق والدوام ، فاذن لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث إنّها أمده.

وعلى الجملة : فاذا أمكن أن يكون لليوم المعيّن أو الاسبوع المعيّن أو الشهر المعيّن دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن دخل السنة المعيّنة أو السنين المعيّنة فيها أيضاً ، فاذا كان الفعل مشتملاً على مصلحة في سنين معيّنة لم يجعل له الحكم إلاّفي هذه السنين فحسب ، فيكون أجله وأمده انتهاء تلك السنين ، فاذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول أجله ، هذا [ بحسب مقام الثبوت ، وأمّا ] بحسب مقام الاثبات ، فالدليل الدال عليه وإن كان مطلقاً إلاّ أنّه كما يمكن تقييد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك يمكن تقييد إطلاقه من جهة الزمان أيضاً بدليل منفصل ، حيث إنّ المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق ، مع أنّ المراد الجدي هو الخاص أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل.


فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده ، وفي مقام الاثبات رفع الحكم الثابت لاطلاق دليله من حيث الزمان ، ولا يلزم منه خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى. هذا بناءً على وجهة نظر العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وأمّا على وجهة نظر من يرى تبعية الأحكام لمصالح في أنفسها فالأمر أيضاً كذلك ، فانّ المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارةً تقتضي جعله على نحو الاطلاق والدوام في الواقع ، وتارة اخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت ـ وهذا هو النسخ ـ وإن كان الفعل باقياً على ما هو عليه في السابق ، أو فقل : إنّ في إيجاب شيء تارةً مصلحة في جميع الأزمنة ، واخرى في زمان خاص دون غيره.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا ينبغي الشك في إمكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدّسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة أو نحوها.


البداء

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات ، وخالف في ذلك العامة (١) وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى ، ومن هنا نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه ، وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.

ولكن من الواضح أنّهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلاّ لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البيّن. وممّن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) قال : قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده (٢) وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة. وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى ، كيف فانّ الشيعة ملتزمون به ، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل عليه سبحانه وتعالى.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ « من زعم أنّ الله ( عزّ وجلّ ) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه » (٣) وفي بعضها الآخر « فأمّا من قال بأنّ الله

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٣ : ١٠٢ ، شرح اللُّمع ١ : ٤٨٥.

(٢) التفسير الكبير ١٩ : ٦٦.

(٣) إكمال الدين : ٧٠.


تعالى لا يعلم الشيء إلاّبعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد » (١).

وقد انفقت كلمة الشيعة الإمامية على أنّ الله تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى حكم العقل الفطري وطبقاً للكتاب والسنّة ، بيان ذلك : أنّه لا شبهة في أنّ العالم بشتى ألوانه وأشكاله تحت قدرة الله تعالى وسلطانه المطلق ، وأنّ وجود أيّ ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وإعمال قدرته ، فان شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وأنّ لها بجميع أشكالها تعييناً علمياً في علم الله الأزلي ، ويعبّر عن هذا التعيين بتقدير الله مرّةً وبقضائه مرّة اخرى.

ومن ناحية ثالثة : أنّ علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها ، ضرورة أنّ حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه ، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الاناطة بمشيئة الله واختياره ، فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء ، وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسّع (٢).

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ معنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها أنّ الأشياء بجميع ضروبها كانت متعيّنةً في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة الإلهية

__________________

(١) الغيبة : ٤٣٠ / ٤٢٠.

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٨.


بها حسب اقتضاء الحِكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه ، ومن هنا قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والاعطاء ، ووجه الظهور : ما عرفت من أنّ قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله تعالى على الأشياء حين إيجادها ، حيث إنّه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الاناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.

ومن الغريب جداً أنّهم ( لعنهم الله ) التزموا بسلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد ، مع أنّ الملاك في كليهما واحد ـ وهو العلم الأزلي ـ فانّه كما تعلّق بأفعاله تعالى كذلك تعلّق بأفعال العبيد.

فالنتيجة : أنّهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وأنّ قلم التقدير والقضاء لا ينافيها ، وسلب القدرة عن الله تعالى وأنّ قلم التقدير والقضاء ينافيها ، وهذا كما ترى.

وبعد ذلك نقول : إنّ المستفاد من نصوص الباب أنّ القضاء الإلهي على ثلاثة أنواع.

الأوّل : قضاؤه تعالى الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه حتى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبّر عنه باللوح المحفوظ تارةً وبامّ الكتاب تارةً اخرى. ولا ريب أنّ البداء يستحيل أن يقع فيه ، كيف يتصور فيه البداء وأنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في الأرض ولا في السماء ،


ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم لا أنّه يقع فيه :

منها : ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي أنّ الرضا عليه‌السلام قال لسليمان المروزي « رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : إنّ لله ( عزّ وجلّ ) علمين : علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلماً علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه » (١).

ومنها : ما عن بصائر الدرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّهو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه » (٢).

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بأ نّه سوف يقع حتماً ، ولا شبهة في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء ، ضرورة أنّ الله تعالى لا يكذّب نفسه ورسله وملائكته وأولياءه ، فلا فرق بينه وبين القسم الأوّل من هذه الناحية. نعم ، يفترق عنه من ناحية اخرى وهي أنّ هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأوّل.

وتدل على ذلك عدة روايات :

منها : قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدمة عن الصدوق « إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فما

__________________

(١) التوحيد : ٤٤٣.

(٢) بصائر الدرجات : ١٠٩ / ٢.


علّمه ملائكته ورسله فانّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون لم يُطلع عليه أحداً من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء » (١).

ومنها : ما روى العياشي عن الفضيل قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من الامور امور محتومة جائية لا محالة ، ومن الامور امور موقوفة عند الله يقدّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يُطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته » (٢).

الثالث : قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بوقوعه في الخارج لا بنحو الحتم ، بل معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئة الله على خلافه ، وفي هذا القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والاثبات وإليه أشار بقوله : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ )(٣) ، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ )(٤) وقد دلت على ذلك عدة نصوص :

منها : ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبدالله بن مسكان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فاذا أراد الله أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الذي

__________________

(١) التوحيد : ٤٤١ ـ ٤٤٤.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢١٧ / ٦٥.

(٣) الرعد ١٣ : ٣٩.

(٤) الروم ٣٠ : ٤.


أراده. قلت : وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله؟ قال : نعم. قلت : فأيّ شيء يكون بعده؟ قال : سبحان الله ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى » (١).

ومنها : ما في تفسيره أيضاً عن عبدالله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن عليه‌السلام عند تفسير قوله تعالى : ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء (٢).

ومنها : ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه « قال : لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) » (٣) ومثله ما عن الصدوق في الأمالي والتوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومنها : ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة ، فقلت : أيّة آية؟ قال : قول الله ( يَمْحُوا اللهُ ) » إلخ (٤).

ومنها : ما في قرب الاسناد عن البزنطي عن الرضا عليه‌السلام « قال : قال أبو عبدالله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ١ : ٣٦٦.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ٢ : ٢٩٠.

(٣) الاحتجاج ١ : ٦١٠ / ١٣٨.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢١٥ / ٥٩.


طالب عليهم‌السلام : لولا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة ( يَمْحُوا اللهُ ) » إلخ (١).

ومنها : ما عن العياشي عن ابن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « يقول : إنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده امّ الكتاب ، وقال : فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، وليس شيء يبدو له إلاّوقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل » (٢).

ومنها : ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبدالله عليه‌السلام « سئل عن قول الله ( يَمْحُوا اللهُ ) إلخ قال : إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يردّ به القضاء حتى إذا صار إلى امّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً » (٣) ومنها غيرها من الروايات الدالة على ذلك.

فالنتيجة على ضوء هذه الروايات : هي أنّ البداء يستحيل أن يقع في القسم الأوّل من القضاء المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبامّ الكتاب والعلم المخزون عند الله ، بداهة أنّه كيف يتصور البداء فيه وأنّ الله سبحانه عالم بكنه جميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. نعم ، هذا العلم منشأ لوقوع البداء ، يعني أنّ انسداد باب هذا العلم لغيره تعالى حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة أوجب وقوع البداء في بعض إخباراتهم.

وكذا الحال في القسم الثاني من القضاء ، نظراً إلى أنّ العقل يستقل باستحالة

__________________

(١) قرب الاسناد : ٣٥٣ / ١٢٦٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢١٨ / ٧١.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٢٠ / ٧٤.


تكذيب الله تعالى نفسه أو أنبياءه.

وأمّا القسم الثالث فهو مورد لوقوع البداء ، ولا يلزم من الالتزام بالبداء فيه أيّ محذور كنسبة الجهل إلى الله ( سبحانه وتعالى ) ولا ما ينافي عظمته وجلاله ولا الكذب ، حيث إنّ إخباره تعالى بهذا القضاء لنبيّه أو وليّه ليس على نحو الجزم والبت ، بل هو معلّق بعدم تعلق مشيئته بخلافه ، فاذا تعلّقت المشيئة على الخلاف لم يلزم الكذب ، فانّ ملاك صدق هذه القضية وكذبها إنّما هو بصدق الملازمة وكذبها ، والمفروض أنّ الملازمة صادقة وهي وقوعه لو لم تتعلق المشيئة الإلهية على خلافه.

مثلاً إنّ الله تعالى يعلم بأنّ زيداً سوف يموت في الوقت الفلاني ويعلم بأنّ موته فيه معلّق على عدم إعطائه الصدقة أو ما شاكلها ، ويعلم بأ نّه يعطي الصدقة فلا يموت فيه ، فهاهنا قضيتان شرطيتان ففي إحداهما قد علّق موته في الوقت الفلاني بعدم تصدقه أو نحوه ، وفي الاخرى قد علّق عدم موته فيه على تصدقه أو نحوه.

ونتيجة ذلك : أنّ المشيئة الإلهية في القضية الاولى قد تعلقت بموته إذا لم يتصدق ، وفي القضية الثانية قد تعلقت بعدم موته وبقائه حيّاً إذا تصدق ، ومن الواضح أنّ إخباره تعالى بالقضية الاولى ليس كذباً ، فانّ المناط في صدق القضية الشرطية وكذبها هو صدق الملازمة بين الجزاء والشرط وكذبها لا بصدق طرفيها ، بل لا يضر استحالة وقوع طرفيها في صدقها ، فعلمه تعالى بعدم وقوع الطرفين هنا لا يضر بصدق إخباره بالملازمة بينهما. وكذا لا محذور في إخبار النبي أو الوصي بموته في هذا الوقت معلّقاً بتعلق المشيئة الإلهية به ، فانّ جريان البداء فيه لا يوجب كون الخبر الذي أخبر به المعصوم كاذباً ، لفرض أنّ المعصوم لم يخبر بوقوعه على سبيل الحتم والجزم ومن دون تعليق ،


وإنّما أخبر به معلّقاً على أن تتعلق المشيئة الإلهية به أو أن لا تتعلق بخلافه ، ومن الواضح أنّ صدق هذا الخبر وكذبه إنّما يدوران مدار صدق الملازمة بين هذين الطرفين وكذبها لا وقوعهما في الخارج وعدم وقوعهما فيه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا مانع من الالتزام بوقوع البداء في بعض إخبارات المعصومين عليهم‌السلام في الامور التكوينية ، ولا يلزم منه محذور لا بالاضافة إلى ذاته ( سبحانه وتعالى ) ولا بالاضافة إليهم عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) ولو أغمضنا عن تلك الروايات وافترضنا أنّه لم تكن في المسألة أيّة رواية من روايات الباب ، فما هو موقف العقل فيها؟ الظاهر بل لا ريب في أنّ موقفه هو موقف الروايات الدالة على أنّ قضاء الله تعالى على ثلاثة أنواع ، والسبب في ذلك : أنّ العقل يدرك على سبيل الحتم والجزم أنّ البشر مهما بلغ من الكمال ذروته كنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحيل أن يحيط بجميع ما في علم الله ( سبحانه وتعالى ) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ جريان البداء ووقوعه في الخارج بنفسه دليل على ذلك ، حيث إنّه يستحيل جريانه في علمه تعالى ، لاستلزامه الجهل بالواقع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وقد ثبت على ضوء الكتاب والسنّة والعقل الفطري أنّ الله سبحانه عالم بجميع الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في السماء ولا في الأرض ، وكذا يستحيل جريانه في القضايا التي أخبر بوقوعها ملائكته ورسله على سبيل الحتم والجزم ، فانّ الله تعالى يستحيل أن يكذّب نفسه أو ملائكته أو رسله.

وعليه فبطبيعة الحال يجري البداء في القضايا التي أخبر بوقوعها لهم معلّقاً بتعلق


وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ نتيجة البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية وتعتقد به هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته حدوثاً وبقاءً ، وأنّ مشيئة الله تعالى نافذة في جميع الأشياء ، وأ نّها بشتى ألوانها باعمال قدرته واختياره ، وقد تقدم الحديث من هذه الناحية في ضمن نقد نظريتي الجبر والتفويض (١) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ في الاعتقاد بالبداء يتضح نقطة الفرق بين العلم الإلهي وعلم غيره ، فانّ غيره وإن كان نبياً أو وصياً كنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يحيط بجميع ما أحاط به علمه تعالى وإن كان عالماً

__________________

مشيئته به أو بعدم تعلّقها على خلافه المعبّر عنه بعالم المحو والاثبات ، والنكتة في وقوعه فيها : هو أنّ الله تعالى يعلم بعدم الوقوع من جهة علمه بعدم وقوع ما علّق عليه في الخارج بعلمه المكنون والمخزون عنده لا يحيط به غيره أبداً.

وأمّا من أخبره تعالى بوقوعها على نحو التعليق فهو حيث لا يعلم بعدم وقوع المعلّق عليه فيه فلأجل ذلك قد يظهر ويبدو خلاف ما أخبر به ، وهذا هو البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية ولا يستلزم كذب ذلك الخبر ، لفرض أنّ إخباره عن الوقوع للناس ليس على سبيل الحتم والجزم ، وإنّما كان على نحو التعليق ، ولا يتصف مثل هذا الخبر بالكذب إلاّفي فرض عدم الملازمة بين المعلّق والمعلّق عليه ، والمفروض أنّ الملازمة بينهما موجودة. وبذلك يظهر أنّ حقيقة البداء عند الشيعة هي الابداء والاظهار ، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة ، وإسناده إليه تعالى باعتبار أنّ علمه منشأ لوقوعه وجريانه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه لا مناص من الالتزام بالبداء بالمعنى الذي ذكرناه على ضوء الروايات وحكم العقل.

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٦.


بتعليم الله إيّاه بجميع عوالم الممكنات ، إلاّ أنّه لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبامّ الكتاب ، حيث إنّه لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شيء أو عدم مشيئته إلاّحيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.

ومن ناحية ثالثة : أنّ القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية ، كل ذلك إنّما نشأ من الاعتقاد بالبداء وبأنّ عالم المحو والاثبات بيده تعالى ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ )(١) وهذا بخلاف القول بانكار البداء وأنّ كلّ ما جرى به قلم التقدير لا يمكن أن يتغير وأ نّه كائن لا محالة ، حيث إنّ لازمه أنّ المعتقد بهذه العقيدة مأيوس عن إجابة دعائه وقضاء حوائجه ، فانّ ما يطلبه العبد من ربّه لا يخلو من أن يجري قلم التقدير بايجاده أو لا يجري ، فعلى الأوّل فهو موجود لا محالة ، وعلى الثاني لن يوجد أبداً ولن ينفعه الدعاء والتضرع والتوسل حيث يعلم بأنّ تقديره لن يتغير أبداً.

ومن الطبيعي أنّ العبد إذا يئس من إجابة دعائه وأ نّه لا يؤثر في تقديره تعالى أصلاً ، ترك التضرع والدعاء له تعالى ، لعدم فائدة في ذلك. وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين عليهم‌السلام أنّها تزيد في العمر والرزق وغير ذلك مما يطلبه العبد ، ولأجل هذا السر قد ورد في الروايات الكثيرة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام الاهتمام بشأن البداء :

منها : ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد باسناده عن أحدهما عليهما‌السلام « قال : ما عبد الله ( عزّ وجلّ ) بشيء مثل البداء » (٢).

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٣٩.

(٢) التوحيد : ٣٣١ / ١.


ومنها : ما رواه باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : ما عظّم الله ( عزّ وجلّ ) بمثل البداء » (١).

ومنها : ما رواه باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : ما بعث الله ( عزّ وجلّ ) نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الاقرار بالعبودية ، وخلع الانداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء » (٢) وقد ورد أيضاً في الروايات الكثيرة من طرق أهل السنّة أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القدر (٣).

والنكتة في هذا الاهتمام : هو أنّ القول بعدم البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله تعالى غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، حيث إنّه مخالف لصريح الكتاب والسنّة وحكم العقل الفطري كما عرفت ، ومن المعلوم أنّ ذلك يوجب يأس العبد من إجابة دعائه ، وهو يوجب تركه وعدم توجهه إلى ربّه في قضاء مهماته وطلباته.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية :

الاولى : أنّ ما عن العامة من نسبة تجويز الجهل عليه ( سبحانه وتعالى ) إلى الشيعة باعتبار التزامهم بالبداء ، فقد عرفت أنّه افتراء صريح عليهم ، وأنّ الالتزام بالبداء لا يستلزم ذلك ، بل هو تعظيم وإجلال لذاته تعالى وتقدّس.

__________________

(١) التوحيد : ٣٣٣ / ٢.

(٢) التوحيد : ٣٣٣ / ٣.

(٣) سنن الترمذي ٨ : ٣٥٠ / ٢٠٦٥ ، مستدرك الحاكم ١ : ٤٩٣ ، مسند أحمد ٥ : ٢٧٧ / ٢١٣٥٢.


الثانية : أنّ العالم بأجمعه وبشتى أشكاله تحت سلطان الله تعالى وقدرته ، كما أنّه تعالى عالم به بجميع أشكاله منذ الأزل ، وقد عرفت أنّ هذا العلم لا ينافي ولا يزاحم قدرته واختياره ، ومن هنا قلنا إنّ ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، فانّ قلم التقدير والقضاء لا ينافي قدرته ولا يزاحم اختياره.

الثالثة : أنّ قضاءه تعالى على ثلاثة أنواع : ١ ـ قضاؤه الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه. ٢ ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته على سبيل الحتم والجزم. ٣ ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئته على خلافه ، ولا يعقل جريان البداء في القضاء الأوّل والثاني وإنّما يكون ظرف جريانه هو الثالث ، وهذا التقسيم قد ثبت على ضوء الروايات وحكم العقل الفطري.

الرابعة : أنّه لا يلزم من الالتزام بالبداء أيّ محذور كتجويز الجهل عليه سبحانه أو ما ينافي عظمته وإجلاله أو الكذب ، بل في الاعتقاد به تعظيم لسلطانه وإجلال لقدرته ، كما لا يلزم منه محذور بالاضافة إلى أنبيائه وملائكته ، بل فيه امتياز علم الخالق عن علم المخلوق.

الخامسة : أنّ حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعنى الابداء أو الاظهار وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة.

السادسة : أنّ فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) وتوجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه قي قضاء حوائجه ومهماته وعدم يأسه من


ذلك ، وهذا بخلاف القول بانكار البداء ، فانّه يوجب يأس العبد ولا يرى فائدةً في التضرع والدعاء ، وهذا هو السر في اهتمام الأئمة عليهم‌السلام بشأن البداء في الروايات الكثيرة.


المطلق والمقيّد

المطلق في اللغة (١) بمعنى المرسل الذي لم يقيد بشيء في مقابل المقيد الذي هو مقيد به ، ومنه يقال : إنّ فلاناً مطلق العنان يعني أنّه غير مقيد بشيء. وأمّا عند الاصوليين فالظاهر أنّه ليس لهم في إطلاق هذين اللفظين اصطلاح جديد ، بل يطلقونهما بمالهما من المعنى اللغوي والعرفي.

ثمّ إنّه يقع الكلام في جملة من الأسماء وهل أنّها من المطلق أو لا؟

منها : أسماء الأجناس من الجواهر والأعراض وغيرهما ، وقبل بيان ذلك ينبغي لنا التعرض لأقسام الماهية فنقول :

الماهية تارةً تلاحظ بما هي هي ، يعني أنّ النظر مقصور على ذاتها وذاتياتها ولم يلحظ معها شيء زائد ، وتسمى هذه الماهية بالماهية المهملة ، نظراً إلى عدم ملاحظة شيء من الخصوصيات المتعينة معها فتكون مهملةً بالاضافة إلى جميع تلك الخصوصيات حتى خصوصية عنوان كونها مقسماً للأقسام الآتية.

وبكلمة اخرى : أنّ النظر لم يتجاوز عن حدود ذاتها وذاتياتها إلى شيء خارج عنها حتى عنوان إهمالها وقصر النظر عليها ، فانّ التعبير عنها بالماهية المهملة باعتبار واقعها الموضوعي ، لا باعتبار أخذ هذا العنوان في مقام اللحاظ معها.

فالنتيجة : أنّ هذه الماهية مهملة ومبهمة بالاضافة إلى جميع طوارئها وعوارضها الخارجية والذهنية.

__________________

(١) كما في المنجد مادة ( طلق ) وفيه : المطلق ضدّ المقيّد.


وتارة اخرى يلاحظ معها شيء خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وذلك الشيء إن كان عنوان مقسميتها للأقسام التالية دون غيره سمّيت هذه الماهية بالماهية اللا بشرط المقسمي ، وإن كان ذلك الشيء الخارج عنوان تجردها في وعاء العقل عن جميع الخصوصيات والعوارض سمّيت هذه الماهية بالماهية المجردة وفي الاصطلاح بالماهية بشرط لا. وهي بهذا العنوان غير قابلة للحمل على شيء من الموجودات الخارجية ، لوضوح أنّها لو حملت على موجود خارجي لكانت مشتملةً على خصوصية من الخصوصيات وهذا خلف الفرض. وهذه الماهية تسمّى بالأسماء التالية : النوع ، الجنس ، الفصل ، العرض العام ، العرض الخاص ، حيث إنّها عناوين للماهيات الموجودة في افق النفس فلا تصدق على الموجود الخارجي.

وإن كان ذلك الشيء خصوصية من الخصوصيات الخارجية سمّيت هذه الماهية بالماهية المخلوطة ، وفي الاصطلاح بالماهية بشرط شيء ، وهذه الخصوصية تارةً وجودية واخرى عدمية. والأوّل كلحاظ ماهية الانسان مثلاً مع العلم ، فانّها لا تنطبق إلاّعلى هذه الحصة فحسب ، يعني الانسان العالم دون غيرها ، والثاني كلحاظها مثلاً مع عدم العلم أو عدم الفسق ، فهي على هذا لا تنطبق في الخارج إلاّعلى الحصة التي لا تكون متصفةً بالعلم أو بالفسق ، فهذان القسمان معاً من الماهية الملحوظة بشرط شيء. نعم ، قد يعبّر عن القسم الثاني في الاصول بالماهية بشرط لا ولكنّه مجرد اصطلاح من الاصوليين ولا مناقشة فيه.

وإن كان ذلك الشيء عنوان الاطلاق والارسال سمّيت هذه الماهية بالماهية اللا بشرط القسمي ، حيث إنّها ملحوظة مطلقة ومرسلة بالاضافة إلى جميع ما تنطبق عليه في الخارج.


وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم أخذ شيء منها مع الماهية ، وإلاّ لم تكن الماهية ماهيةً مطلقة ، ولنأخذ لذلك بمثال وهو أنّ الكلمة إذا لوحظت بما هي بأن يكون النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب ، فهي ماهية مهملة ومبهمة بالاضافة إلى جميع التعيّنات الخارجية والذهنية حتى تعيّن قصر النظر عليها ، يعني أنّ هذه الخصوصية أيضاً لم تلحظ معها ، فالكلمة في إطار هذا اللحاظ لا تصلح أن يحمل عليها شيء إلاّ الذات أو الذاتيات ، نعم إنّها تصلح أن تكون محلاً لعروض كل من الاسم والفعل والحرف.

وإن لوحظت معها خصوصية زائدة عن ذاتها وذاتياتها ، فإن كانت تلك الخصوصية هي عنوان كونها مقسماً لهذه الأقسام فهي الماهية لا بشرط المقسمي ، حيث إنّها في إطار هذا اللحاظ مقسم لتلك الأقسام ، يعني أنّه لا تحقق لها إلاّفي ضمن أحد أقسام الماهية كالمجردة والمخلوطة والمطلقة. كما أنّها تمتاز بهذا اللحاظ عن الماهية المهملة.

وإن لوحظت معها خصوصية زائدة على تلك الخصوصية أيضاً ، فإن كانت تلك الخصوصية الزائدة عنوان تجرّدها في افق النفس عن جميع العوارض والطوارئ التي يمكن أن تلحقها في الخارج من خصوصيات أفرادها وأصنافها ، فهي ماهية مجردة ، وإن كانت تلك الخصوصية خصوصية خارجية كخصوصية الاسم أو الفعل أو الحرف فهي ماهية مخلوطة ، وإن كانت تلك الخصوصية عنوان الاطلاق والارسال فهي ماهية مطلقة المسماة في الاصطلاح بالماهية لا بشرط القسمي.

وبعد ذلك نقول : إنّ اسم الجنس موضوع للماهية المهملة دون غيرها من أقسام الماهية وهي الجامعة بين جميع تلك الأقسام بشتى لحاظاتها ، وقد عرفت


أنّها معرّاة من تمام الخصوصيات والتعينات : الذهنية والخارجية ، حتى خصوصية قصر النظر عليها ، والسبب فيه : هو أنّه لو كان موضوعاً للماهية المأخوذ فيها شيء من تلك الخصوصيات لكان استعماله في غيرها مجازاً ومحتاجاً إلى عناية زائدة حتى ولو كانت تلك الخصوصية قصر النظر على ذاتها وذاتياتها ، لما عرفت من أنّه نحو من التعيّن وهو غير مأخوذ في معناه الموضوع له ، فالمعنى الموضوع له مبهم من جميع الجهات.

ومن هنا يصح استعمال اسم الجنس كالانسان أو ما شاكله في الماهية بجميع أطوارها : الذهنية والخارجية ، ومن الطبيعي أنّه لو كان شيء منها مأخوذاً في معناه الموضوع له لكان استعماله في غير الواجد له بحاجة إلى عناية زائدة ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

ومن الواضح أنّ صحة استعماله فيها في جميع حالاتها وطوارئها تكشف كشفاً يقينياً عن أنّه موضوع بازاء الماهية نفسها من دون لحاظ شيء من الخصوصيات فيها حتى قصر النظر على ذاتها وذاتياتها ، ففي مثل قولنا : النار حارة لم تستعمل كلمة النار إلاّفي الطبيعة الجامعة بين تلك الأقسام المهملة بالاضافة إلى تمام خصوصياتها ولحاظاتها.

وإن شئت قلت : إنّ اللحاظات الطارئة على الماهية بشتى أشكالها إنّما هي في مرحلة الاستعمال ، حيث إنّ في هذه المرحلة لا بدّ من أن تكون الماهية ملحوظة بأحد الأقسام المتقدمة ، نظراً إلى أنّ الغرض قد يتعلق بلحاظها على شكل ، وقد يتعلق به على شكل آخر وهكذا.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ الماهية المهملة فوق جميع الاعتبارات واللحاظات الطارئة عليها ، حيث إنّها مهملة حقيقةً وبتمام المعنى ، وأمّا الماهية المقصور فيها النظر إلى ذاتها وذاتياتها فليست بمهملة بتمام المعنى


نظراً إلى أنّها متعينة من هذه الجهة ـ أي من جهة قصر النظر إلى ذاتها ـ فتسمية هذه بالماهية المهملة لا تخلو عن مسامحة ، فالأولى ما عرفت.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية المهملة دون غيرها ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) حيث قد صرّح بأنّ الكلي الطبيعي الصادق على كثيرين هو اللابشرط القسمي دون المقسمي ، بدعوى أنّ اللا بشرط المقسمي عبارة عن الطبيعة الجامعة بين الكلي المعبّر عنه باللا بشرط القسمي الممكن صدقه على كثيرين ، والكلي المعبّر عنه بالماهية المأخوذة بشرط لا الممتنع صدقه على الأفراد الخارجية ، والكلي المعبّر عنه الماهية بشرط شيء الذي لا يصدق إلاّعلى أفراد ما اعتبر فيه الخصوصية.

ومن الطبيعي أنّه يستحيل أن يكون الجامع بين هذه الأقسام هو الكلي الطبيعي ، لأنّ الكلي الطبيعي هو الكلي الجامع بين الأفراد الخارجية الممكن صدقه عليها ، فهو حينئذ قسيم للكلي العقلي الممتنع صدقه على الأفراد الخارجية ، ولا يعقل أن يكون قسيم الشيء مقسماً له ولنفسه ، ضرورة أنّ المقسم لا بدّ من أن يكون متحققاً في ضمن جميع أقسامه ، ولا يعقل أن تكون الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو تصدق على الأفراد الخارجية متحققة في ضمن الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو يمتنع صدقها على ما في الخارج ، وعليه فلا مناص من الالتزام بكون الجامع بين الأقسام هو الماهية الجامعة بين ما يصح صدقه على ما في الخارج وما يمتنع صدقه عليه ، فالمقسم أيضاً وإن كان قابلاً للصدق على الأفراد الخارجية لفرض أنّه متحقق في ضمن الماهية المأخوذة على نحو اللا بشرط القسمي وحيث إنّها صادقة على ما في الخارج ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢١.


فالمقسم أيضاً كذلك ، إلاّ أنّه حيث يكون قابلاً للصدق على الكلي العقلي أيضاً فيستحيل أن يكون الجامع بين الأقسام هو نفس الجهة الجامعة بين الأفراد الخارجية المعبّر عنها بالكلي الطبيعي.

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

الاولى : أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي هي نفس الماهية من حيث هي هي.

الثانية : أنّ الكلي الطبيعي ليس هو الماهية اللا بشرط المقسمي ، حيث إنّه قدس‌سره قد اعتبر في كون الشيء كلياً طبيعياً صدقه على الأفراد الخارجية فحسب دون غيرها. ومن المعلوم أنّ هذه النكتة غير متوفرة في الماهية اللا بشرط المقسمي ، لفرض صدقها على الماهيات المجردة التي لا موطن لها إلاّ العقل ، وعليه فلا يمكن أن تكون تلك الماهية كلياً طبيعيّاً.

الثالثة : أنّ ما يصلح أن يكون كلياً طبيعيّاً هو الماهية اللا بشرط القسمي ، حيث إنّ النكتة المتقدمة وهي الصدق على الأفراد الخارجية فحسب دون غيرها متوفرة فيها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت معروفةً بينهم إلاّ أنّها خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها ، وذلك لما عرفت من أنّ الماهية من حيث هي هي بعينها هي الماهية المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها وغير ملاحظ معها شيء خارج عنهما ، بل قلنا إنّها مهملة بالاضافة إلى جميع الخصوصيات الذهنية والخارجية حتى عنوان إهمالها وقصر النظر عليها ، ولذا لا يصح حمل شيء عليها في إطار هذا اللحاظ إلاّ الذات فيقال : الانسان حيوان ناطق ، وهذا بخلاف الماهية اللا بشرط المقسمي ، فانّ عنوان المقسمية قد لوحظ معها فلا


يكون النظر مقصوراً على الذات والذاتيات ، فاذن كيف تكون الماهية اللا بشرط المقسمي هي الماهية المهملة ومن حيث هي هي.

وأمّا النقطة الثانية : فهي وإن كانت صحيحةً إلاّ أنّها ليست من ناحية ما أفاده قدس‌سره بل من ناحية اخرى ، وهي أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي لا تحقق لها إلاّفي ضمن أحد أقسامها من الماهية المجردة والمخلوطة والمطلقة كما هو الحال في كل مقسم بالاضافة إلى أقسامه ، وما يعرض عليه أحد اللحاظات المتقدمة هو الماهية المهملة دون الماهية اللا بشرط المقسمي ، نظراً إلى أنّه لا وجود لها ولا تحقق في افق النفس مع قطع النظر عن هذه التقسيمات ، ضرورة أنّ عنوان المقسمية عنوان انتزاعي وهو منتزع بلحاظ عروض هذه التقسيمات على الماهية ومتفرع عليها فكيف يعقل أن تعرض تلك التقسيمات عليها بلحاظ هذا العنوان الانتزاعي وتكون متفرعة عليه. أو فقل انّ عروض هذا العنوان ـ المقسمية ـ على الماهية إنّما هو في مرتبة متأخرة عن عروض تلك التقسيمات عليها ، ومعه كيف يعقل أن تكون تلك التقسيمات عارضة على الماهية المعنونة بهذا العنوان.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي ـ يعني المعنونة بهذا العنوان ـ كما لا تصلح أن تكون محلاً لعروض الأقسام المتقدمة ، كذلك لا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً.

أمّا الأوّل فلأمرين : الأوّل ما عرفت من أنّ لحاظها مع هذا العنوان في مرتبة متأخرة عن لحاظ تلك الأقسام ومتفرّع عليه ، ومعه كيف تكون محلاً لعروض تلك الأقسام. الثاني : أنّها مع هذا العنوان غير قابلة للانطباق على ما في الخارج حيث إنّه لا موطن له إلاّ العقل.


وأمّا الثاني فيظهر وجهه مما عرفت ، فانّ الكلي الطبيعي ما هو قابل للانطباق على ما في الخارج ، والمفروض أنّها مع هذا العنوان غير قابلة لذلك ومعه كيف تكون كلياً طبيعياً ، وأمّا مع قطع النظر عن ذلك العنوان فهي ليست الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي الماهية المهملة.

وعلى الجملة : فالماهية مع هذا العنوان ـ أي عنوان المقسمية ـ غير قابلة للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها إلاّفي الذهن فلا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً ، وأمّا مع قطع النظر عن هذا العنوان فهي وإن كانت قابلةً للانطباق على الخارجيات وتصلح أن تكون كلياً طبيعياً ، إلاّ أنّها ليست حينئذ الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي ماهية مهملة التي قد عرفت أنّها عارية عن جميع الخصوصيات ولم تلحظ معها أيّة خصوصية من الخصوصيات : الذهنية والخارجية.

وقد تقدم أنّ اسم الجنس موضوع لها وأنّ الخصوصيات بشتى أشكالها وألوانها طارئة عليها في ظرف الاستعمال ، حيث إنّ الغرض قد يتعلق بالماهية المجردة ، وقد يتعلق بالماهية المخلوطة ، وقد يتعلق بالماهية المطلقة ، وهذه الماهية هي التي تصلح أن تكون محلاً لعروض اللحاظات المتقدمة ، فانّها بأجمعها ترد عليها.

وأمّا النقطة الثالثة : فيظهر حالها مما تقدم ، بيان ذلك : أنّ المعتبر في الماهية اللا بشرط القسمي هو انطباقها بالفعل على جميع أفرادها ومصاديقها ، حيث إنّ السريان الفعلي قد لوحظ فيها رغم أنّه غير ملحوظ في الكلي الطبيعي ، إذ لا يعتبر فيه إلاّ إمكان انطباقه على الخارجيات دون فعليته ، ونقصد بالفعلية والامكان لحاظ الماهية فانيةً بالفعل في جميع مصاديقها وعدم لحاظها كذلك ، فعلى الأوّل هي اللا بشرط القسمي وعلى الثاني هي الكلي الطبيعي.


فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ الكلي الطبيعي هو الماهية المهملة لا الماهية اللا بشرط المقسمي كما عن السبزواري (١) ولا الماهية اللا بشرط القسمي كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ظهر مما تقدم أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة دون غيرها.

ومن ناحية ثالثة : قد تبيّن مما ذكرناه أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) من أنّ الماهية المطلقة لا وجود لها إلاّفي الذهن وأ نّها كلي عقلي خاطئ جداً ، ومنشأ الخطأ تخيّل أنّ لحاظ السريان قد اخذ قيداً لها ، ومن الطبيعي أنّ الماهية المقيدة به لا موطن لها إلاّ الذهن. ولكنّه تخيل فاسد ، فانّ معنى لحاظ سريانها هو لحاظها فانيةً في جميع مصاديقها وأفرادها الخارجية بالفعل من دون أخذ اللحاظ قيداً لها ، فالمعتبر فيها هو واقع السريان الفعلي لا لحاظه الذهني ووجوده في افق النفس ، فمعنى الارسال والاطلاق هو عدم دخل خصوصية من الخصوصيات الخارجية في الحكم الثابت لها ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه.

ومن البديهي أنّ السريان الفعلي من لوازم لحاظ الماهية كذلك ، ففي مثل قولنا : النار حارة الملحوظ فيه هو طبيعة النار مطلقة ، أي مرفوضة عنها جميع القيود والخصوصيات وعدم دخل شيء منها في ثبوت هذا الحكم لها وهو الحرارة ، ومن المعلوم أنّ السريان الفعلي وانطباقها على جميع أفرادها الخارجية

__________________

(١) شرح المنظومة ( المنطق ) : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) تقدم مصدره في ص ٥١٤.

(٣) كفاية الاصول : ٢٤٤.


بالفعل من لوازم إطلاقها وإرسالها كذلك.

وكذا قولنا : الانسان كاتب بالقوة أو مركب من الروح والبدن حيث لم يلحظ فيه إلاّطبيعة الانسان مطلقة ، أي من دون لحاظ أيّة خصوصية معها كالقصير والطويل والشاب والشيخ والعرب والعجم والذكر والانثى وما شاكل ذلك ، ومن الطبيعي أنّ الانسان الملحوظ كذلك ينطبق على جميع أفراده ومصاديقه بالفعل ، وعليه فالحكم الثابت له لا محالة يسري إلى جميع أفراده في الخارج من دون اعتبار خصوصية من الخصوصيات فيه.

فالنتيجة : أنّ السريان ليس خصوصية وجودية مأخوذة في الماهية لتصبح الماهية المطلقة الماهية بشرط شيء ، بل هو عبارة عن انطباق نفس الماهية على أفرادها في الخارج ولا واقع موضوعي له ما عدا هذا ، وعليه فما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الماهية المطلقة غير قابلة للانطباق على الخارجيات حيث لا موطن لها إلاّ الذهن خاطئ جداً ولا واقع له أصلاً ، هذا كلّه في أسماء الأجناس.

وأمّا أعلام الأجناس فقد قال جماعة إنّه لا فرق بينها وبين أسماء الأجناس إلاّ في نقطة واحدة ، وهي أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة من جميع الجهات والخصوصيات الذهنية والخارجية ، وأعلام الأجناس موضوعة لتلك الماهية لكن بشرط تعيينها في الذهن ، ومن هنا يعاملوا معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس.

وقد أورد على هذه النقطة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ببيان أنّ أعلام الأجناس لو كانت موضوعةً للماهية المتعينة في الذهن فلازم ذلك أنّها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٤.


بما لها من المعنى غير قابلة للحمل على الخارجيات حيث لا موطن لها إلاّ الذهن ، ومن الطبيعي أنّ ما لا موطن له إلاّ الذهن فهو غير قابل للانطباق على ما في الخارج ، مع أنّه لا شبهة في صحة انطباقها بما لها من المعنى على الخارجيات من دون تصرف ولحاظ تجرد فيها أصلاً ، على الرغم من أنّ الخصوصية الذهنية لو كانت مأخوذةً في معانيها لم يمكن انطباقها عليها بدون التصرف ولحاظ التجرد ، ومن الواضح أنّ صحة الانطباق بدون ذلك تكشف كشفاً قطعياً عن أنّ تلك الخصوصية غير مأخوذة فيها.

هذا مضافاً إلى أنّ وضعها لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية في مقام الاستعمال لا يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم ، حيث إنّه لغو محض ، ومن الطبيعي أنّه لا معنى لوضع لفظ لمعنىً لم يستعمل فيه أبداً.

ومن هنا قال قدس‌سره : التحقيق أنّه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس ، فكما أنّ الاولى موضوعة لصرف الطبيعة من دون لحاظ شيء من الخصوصية ـ الذهنية أو الخارجية ـ معها ، فكذلك الثانية يعني أعلام الأجناس. والدليل على عدم الفرق بينهما ما عرفت من أنّه لا يمكن أن تكون الخصوصية الذهنية مأخوذةً في معناها الموضوع له ، والخصوصية الخارجية مفروضة العدم. فاذن بطبيعة الحال لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. وأمّا أنّهم يعاملون معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس فالظاهر أنّ التعريف فيها لفظي كالتأنيث اللفظي ، فكما أنّ العرب قد تجري على بعض الألفاظ حكم التأنيث مع أنّه ليس فيه تأنيث حقيقةً كلفظ اليد والرجل والاذن والعين وما شاكلها ، فكذلك قد تجري على بعض الألفاظ حكم التعريف وآثاره مع أنّه ليس فيه تعريف أصلاً ، كلفظ اسامة حيث إنّه لا فرق بينه وبين لفظ أسد في المعنى الموضوع له ، فالفرق بينهما إنّما هو من ناحية جريان أحكام التعريف على


الأوّل لفظاً فقط ، يعني لا يدخل عليه الألف واللام ولا يقع مضافاً دون الثاني.

وعلى الجملة : فاللغة تتبع السماع ولا قياس فيها ، وحيث إنّ المسموع والمنقول فيها من أهلها كذلك فلا بدّ من متابعته مع عدم الفرق بينهما بحسب المعنى في الواقع والحقيقة ، كما هو الحال في المؤنث اللفظي السماعي حيث إنّ المسموع منهم جريان أحكام التأنيث عليه مع عدم التأنيث فيه حقيقة فلا بدّ من متابعته.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره متين جداً. نعم ، يمكن المناقشة في البرهان الذي ذكره على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له لأعلام الأجناس ، بيان ذلك : أنّ أخذه في المعنى الموضوع له تارةً يكون على نحو الجزئية ، يعني كل من التقيد والقيد داخل فيه ، وتارة اخرى يكون على نحو الشرطية ، بمعنى أنّ القيد خارج عن المعنى الموضوع له والتقيد داخل فيه ، فالتعين الذهني على الأوّل مثل أجزاء الصلاة التي هي داخلة فيها قيداً وتقيداً كالتكبيرة والفاتحة والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، وعلى الثاني كشرائطها التي هي داخلة فيها [ تقيداً لا ] قيداً كاستقبال القبلة وطهارة البدن والثوب وما شاكلها ، وثالثةً يكون على نحو المرآتية والمعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية.

فما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من البرهان على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له ، وهو أنّه لو كان مأخوذاً فيه لم يكن المعنى قابلاً للانطباق على الخارجيات ، إنّما يتم إذا كان أخذه فيه على أحد النحوين الأوّلين. وأمّا إذا كان أخذه على النحو الثالث فهو غير مانع عن انطباقه على الخارجيات. فاذن لو كان مراد القائلين بأخذه في المعنى الموضوع له لأعلام الأجناس هو النحو الثالث لم يرد عليه ما أورده قدس‌سره من عدم الانطباق


على الخارجيات.

وكيف كان ، فما أفاده قدس‌سره من أنّه لا فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى الموضوع له متين جداً ، لأنّه مطابق للمرتكزات الوجدانية من ناحية ، والاستعمالات المتعارفة من أهل اللسان من ناحيةاخرى ، ضرورة أنّ لفظ اسامة استعمل في المعنى الذي استعمل فيه بعينه لفظ أسد ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وإنّما الفرق بينهما في اللفظ فقط بترتيب آثار المعرفة على لفظ اسامة دون لفظ أسد كما عرفت.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس وأنّ كلتيهما موضوعة للماهية المهملة من دون أخذ خصوصية من الخصوصيات فيها ، والخصوصيات الطارئة عليها من ناحية الاستعمال لا دخل لها في المعنى الموضوع له. وأمّا ترتيب آثار المعرفة على أعلام الأجناس دون أسمائها فهو لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب كالمؤنثات اللفظية التي لا يتجاوز تأنيثها عن حدود اللفظ فحسب.

ومنها : المفرد المعرّف باللام.

أقول : المعروف بينهم أنّ اللام على أقسام : الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه من الذهني والذكري والخارجي ، كما أنّ المعروف بينهم أنّ كلمة اللام موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين في غير العهد الذهني.

وأورد على ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : وأنت خبير بأ نّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلاّ الاشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً ، ولازمه أن لا يصح حمل المعرّف باللام بما هو معرف على الأفراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّبالتجريد ، ومعه


لا فائدة في التقييد. مع أنّ التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خالٍ عن التعسف. هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه كان لغواً كما أشرنا إليه. فالظاهر أنّ اللام مطلقاً يكون للتزيين كما في الحسن والحسين ، واستفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيينها على كل حال ولو قيل بافادة اللام للاشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الاشارة لو لم تكن مخلّةً ، وقد عرفت إخلالها فتأمل جيداً (١).

ما أفاده قدس‌سره يتضمن عدّة نقاط :

الاولى : أنّ كلمة اللام لو كانت موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين فلازمه عدم إمكان حمل المفرد المعرّف باللام على الخارجيات ، وذلك لأنّ الجنس المعرّف بها لا تعيّن له في الخارج على الفرض ، وعليه فلا محالة يكون تعيّنه في افق النفس ، يعني أنّ كلمة اللام تدل على تعيينه وتمييزه من بين سائر المعاني في الذهن.

ومن المعلوم أنّ الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي إلاّ بالتجريد.

الثانية : أنّ لازم ذلك هو التصرف والتأويل في القضايا المتعارفة المتداولة بين العرف ، حيث إنّ الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون ذلك ، مع أنّ التأويل والتصرف فيها لايخلوان عن التعسف ، لفرض صحة الحمل فيها بدونهما.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٥.


الثالثة : أنّ وضع كلمة اللام لذلك لغو محض فلا يصدر من الواضع الحكيم.

الرابعة : أنّ كلمة اللام تدل على التزيين فحسب من دون أن تكون موضوعةً للدلالة على التعريف والتعيين.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط : أمّا النقطة الاولى فهي تبتني على كون كلمة اللام موضوعةً للدلالة على تعين مدخولها في افق الذهن بنحو يكون التعين الذهني جزء معناه الموضوع له أو قيده. ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ وضعها للدلالة على التعريف والتعيين لا يستلزم كون التعين جزء معنى مدخولها أو قيده ، ضرورة أنّ اسم الجنس موضوع لمعنى واحد سواء أكان مع اللام أو بدونه ، وأ نّه مع اللام لم يوضع لمعنىً آخر غيره ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّنا إذا راجعنا مرتكزاتنا الذهنية نرى أنّ كلمة اللام تدل على معنىً هي موضوعة بازائه وهو التعريف والاشارة ، وليس بحيث يكون وجودها وعدمها سيّان وأ نّه لا أثر لها ما عدا التزيين ، فيكون حالها حال أسماء الاشارة والضمائر من هذه الناحية ، فكما أنّ اسم الاشارة موضوع للدلالة على تعريف مدخوله وتعيينه في موطنه حيث قد يشار به إلى الموجود الخارجي كقولنا : هذا زيد ، وقد يشار به إلى الكلي كقولنا : هذا الكلي يعني الانسان مثلاً أخص من الكلي الآخر وهو الحيوان ، بل قد يشار به إلى المعدوم كقولنا : هذا الشيء معدوم ولا وجود له ، أو هذا القول معدوم وغير موجود بين الأقوال ، فكذلك كلمة اللام فقد يشار بها إلى الجنس كقولنا : أكرم الرجل ، وقد يشار بها إلى الاستغراق كقولنا : أكرم العلماء ، بناءً على دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم ، وقد يشار بها إلى العهد الخارجي ، وقد يشار بها إلى العهد الحضوري ، فهي في جميع هذه الموارد قد استعملت في معنىً واحد ، والاختلاف إنّما هو في المشار إليه بها.


وبكلمة اخرى : أنّ ما دلت عليه كلمة اللام من التعريف والاشارة فهو غير مأخوذ في المعنى الموضوع له لمدخولها لا جزءاً ولا شرطاً ، ولذا لا يختلف معنى المفرد المعرّف باللام عما إذا كان مجرّداً عنها ، فشأنها الاشارة إلى معنى مدخولها ، فإن كان جنساً فهي تشير إليه ، وإن كان استغراقاً فهي تشير إليه وهكذا.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ دلالتها على هذا المقدار من المعنى غير قابلة للانكار وأ نّها مطابقة للارتكاز والوجدان في الاستعمالات المتعارفة وإن لم يكن لها مرادف في سائر اللغات كي نرجع إلى مرادفها في تلك اللغات ونعرف معناها ، حيث إنّه من أحد الطرق لمعرفة معاني الألفاظ ، إلاّ أنّ في المقام لا حاجة إلى هذا الطريق لوجود طريق آخر فيه وهو التبادر والارتكاز.

وأمّا العهد الذهني فالظاهر أنّ دخول كلمة اللام عليه لا يفيد شيئاً فيكون وجودها وعدمها سيّان ، فلا فرق بين قولنا : لقد مررت على اللئيم وقولنا : لقد مررت على لئيمٍ بدون كلمة اللام ، فانّ المراد منه واحد على كلا التقديرين ، وهو المبهم غير المعيّن في الخارج ، ولا تدل كلمة اللام على تعيينه فيه ، وأمّا دخولها عليه فهو إنّما يكون من ناحية أنّ الأسماء المعربة في كلمات العرب لم تستعمل بدون أحد امور ثلاثة : التنوين ، الألف واللام ، والاضافة ، لا أنّها تدل على شيء ، ففي مثل ذلك صحّ أن يقال : إنّ اللام للتزيين فحسب كاللام الداخلة على أعلام الأشخاص ، وببالي أنّ المحقق الرضي (١) ذهب إلى ذلك ، أي كون اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية

__________________

(١) شرح الكافية ٢ : ١٢٩.


( قدس‌سره ) من أنّ كلمة اللام لم توضع للدلالة على معنى وإنّما هي للتزيين فحسب خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له على إطلاقه ، وإنّما يتم في خصوص العهد الذهني فقط.

ومنها : الجمع المعرّف باللام ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ دلالته على العموم لا تخلو من أن تكون من جهة وضع المجموع لذلك ، أو وضع خصوص كلمة اللام لها ، يعني أنّها إذا دخلت على الجمع تدل على ذلك. وأمّا ما ذكره بعض الأصحاب من أنّ كلمة اللام بما أنّها موضوعة بازاء التعريف والاشارة فلا بدّ أن يراد جميع أفراد مدخولها حيث لا تعيين لسائر مراتبها ـ الافراد ـ إلاّتلك المرتبة يعني المرتبة الأخيرة ، فهو غير تام ، وذلك لأنّه كما أنّ لتلك المرتبة تعيناً في الواقع كذلك للمرتبة الاولى وهي أقل مرتبة الجمع. فاذن لا دليل على تعيين تلك دون هذه ، هذا.

ولكنّ الظاهر أنّ ما ذكره هذا البعض هو الصحيح ، والسبب فيه ما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة من أنّ هذه المرتبة أي أقل مرتبة الجمع أيضاً لا تعيّن لها في الخارج وإن كان لها تعيين بحسب مقام الارادة ، فانّ الثلاثة التي هي أقل مرتبة الجمع تصدق في الخارج على الأفراد الكثيرة ولها مصاديق متعددة فيه كهذه الثلاثة وتلك وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد كالثلاثة والأربعة والخمسة والستة وهكذا ، كان قابلاً للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج فلا تعيّن لها فيه ، حيث إنّا لا نعلم أنّ المراد منها فيه هذه الثلاثة أو تلك وهكذا. نعم ، لها تعيّن في افق النفس وفي إطار الارادة دون افق الخارج وإطاره ، هذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٥.


من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ كلمة اللام تدل على التعين الخارجي. ومن ناحية ثالثة : أنّ التعين الخارجي منحصر في المرتبة الأخيرة من الجمع وهي إرادة جميع أفراد مدخوله ، حيث إنّ له مطابقاً واحداً في الخارج فلا ينطبق إلاّعليه ، فاذن يتعين إرادة هذه المرتبة من الجمع يعني المرتبة الأخيرة دون غيرها بمقتضى دلالة كلمة اللام على التعريف والتعيين.

وأمّا احتمال وضع المجموع من حيث المجموع للدلالة على ذلك زائداً على وضع كلمة اللام ومدخولها فهو بعيد جداً ، ضرورة أنّ الدال على إرادة هذه المرتبة إنّما هو دلالة كلمة اللام على التعريف والتعيين ، نظراً إلى أنّه لا تعيّن في الخارج إلاّلخصوص هذه المرتبة ، وكذا احتمال وضع كلمة اللام للدلالة على العموم والاستغراق ابتداءً بعيد جداً ، لما عرفت من أنّها لم توضع إلاّللدلالة على التعريف والتعيين.

فالنتيجة : أنّ الجمع المعرف باللام يدل على إرادة جميع أفراد مدخوله على نحو العموم الاستغراقي.

ومنها : النكرة ، ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّها تستعمل مرّة في المعيّن المعلوم خارجاً عند المتكلم وغير معلوم عند المخاطب كقوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ )(٢) ومرةً اخرى في الطبيعي المقيد بالوحدة كقولنا : جئني برجل ، ومن هنا يصح أن يقال : جئني برجل أو رجلين ولا يصح أن يقال : جئني بالرجل أو رجلين ، والنكتة فيه : أنّ التثنية لا تقابل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٦.

(٢) يس ٣٦ : ٢٠.


باسم الجنس ، حيث إنّه يصدق على الواحد والكثير على السواء ، وما هو المعروف في الألسنة من أنّ النكرة وضعت للدلالة على الفرد المردد في الخارج خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، ضرورة أنّه لا وجود للفرد المردد في الخارج ، حيث إنّ كل ما هو موجود فيه متعيّن لا مردد بين نفسه وغيره فانّه غير معقول.

وبكلمة اخرى : أنّ مرادهم من ذلك هو ما ذكرناه من أنّها استعملت في الطبيعة المقيدة بالوحدة القابلة للانطباق على كثيرين في الخارج ، حيث إنّها بهذا القيد أيضاً كلّي.

وعليه فما ذكره قدس‌سره في ذيل كلامه متين جداً ، وذلك لا لأجل أنّ النكرة موضوعة للطبيعة المقيدة بالوحدة تارةً وللطبيعة المهملة التي هي الموضوع له لاسم الجنس مرةً اخرى كما يظهر من عبارته قدس‌سره في بدو الأمر ، ضرورة عدم تعدد الوضع فيها ، بل هي موضوعة للطبيعة الجامعة بين جميع الخصوصيات فحسب وقد استعملت فيها دائماً ، والوحدة إنّما تستفاد من دال آخر ـ وهو التنوين للتنكير ـ فيكون من تعدد الدال والمدلول في مقابل التعريف والتنوين للتمكن ، فانّ الاسم المعرب لا يستعمل في لغة العرب إلاّمع إحدى هذه الخصوصيات : الاضافة أو التنوين أو الألف واللام ، فلا يستقر إلاّ باحداها حيث إنّ تمكنه بها.

وعليه فما ذكره قدس‌سره من أنّ رجلاً في قولنا : جئني برجل يدل على الطبيعي المقيد بالوحدة ليس المراد استعماله فيه ، بل المراد أنّ الرجل استعمل في الطبيعي الجامع والوحدة مستفادة من دال آخر.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في صدر كلامه من أنّ النكرة قد تستعمل في


الواحد المعيّن عند المتكلم والمجهول عند المخاطب كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى )(١) فلا يمكن الأخذ به ، ضرورة أنّ لفظ ( رَجُلٌ ) في الآية لم يستعمل في المعيّن الخارجي المجهول عند المخاطب ، بل استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة من باب تعدد الدال والمدلول ، غاية الأمر أنّ مصداقه في الخارج معلوم عند المتكلم ومجهول عند المخاطب.

ومن الطبيعي أنّ هذا لا يوجب استعمال اللفظ فيه. وكذا الحال في الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر كقولنا : جئني برجل أو جاء رجل أو ما شاكل ذلك ، فانّ لفظ الرجل في جميع هذه الأمثلة استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة بنحو تعدد الدال والمدلول ، وإن افترض أنّ مصداقه في الخارج معلوم للمتكلم وغير معلوم للمخاطب إلاّ أنّه لم يستعمل فيه جزماً ، كما إذا أمره باتيان كتاب وكان الكتاب معلوماً لديه في الخارج ولكنّه غير معلوم لدى المخاطب ، لم يستعمل في هذا المعلوم المعيّن خارجاً وإنّما استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة.

فالنتيجة : أنّ النكرة لم تستعمل في المعيّن الخارجي ولا المعيّن عند الله تعالى ، باعتبار أنّه ( سبحانه وتعالى ) يعلم بأ نّه يأتي بالفرد الفلاني المعيّن في الواقع ، بل هي تستعمل دائماً في الطبيعي الجامع ، والوحدة مستفادة من دال آخر. فاذن لا فرق بين النكرة واسم الجنس أصلاً ، فالنكرة هي اسم الجنس غاية الأمر يدخل عليها التنوين ليدل على الوحدة.

ثمّ إنّك قد عرفت في ضمن البحوث السالفة أنّ اللفظ موضوع للماهية الجامعة بين تمام الخصوصيات التي يمكن أن تعرض عليها ، وقد يعبّر عنها بالماهية المهملة التي هي فوق جميع الماهيات كما تقدم بشكل موسّع.

__________________

(١) يس ٣٦ : ٢٠.


ومن الواضح أنّ الاطلاق والتقييد من الخصوصيات الطارئة على الماهية التي وضع اللفظ بازائها ، فهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له ، وهذا هو المعروف بين المتأخرين وهو الصحيح ، وعليه فالتقييد لا يستلزم المجاز ، فانّ اللفظ استعمل في معناه الموضوع له ، والتقييد مستفاد من دال آخر ، بل لو كان موضوعاً للمطلق بمعنى اللا بشرط القسمي كما هو المعروف بين القدماء فأيضاً لا يستلزم التقييد المجاز ، فانّ المراد الاستعمالي منه هو المطلق واللفظ قد استعمل فيه ، والتقييد إنّما يدل على أنّ المراد الجدي هو المقيد دون المطلق ، ولا يدل على أنّ اللفظ قد استعمل في المقيد ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المحمول تارةً يكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع والحيوان جنس والضاحك عرض خاص وهكذا ، ففي مثل ذلك فالموضوع هو الماهية ولا ينطبق على الموجود الخارجي ، لوضوح أنّ زيداً مثلاً ليس بنوع ، والبقر ليس بجنس ، وضحك زيد ليس بعرض خاص وهكذا ، فلا يسري المحمول إلى حصصه وأفراده في الخارج ، فهذا القسم خارج عن محل الكلام هنا ـ وهو البحث عن إطلاق الموضوع وتقييده ـ وتارة اخرى يكون المحمول من غيرها مما هو قابل السراية إلى حصص الموضوع وأفراده في الخارج ، وهذا القسم هو محل الكلام في المقام.

وعلى ذلك فالموضوع أو المتعلق لا يخلو من أن يكون مطلقاً بمعنى الارسال أو مقيداً بأمر وجودي أو عدمي ، فإن كانت هناك قرينة شخصية على أحدهما فهو ، وإن لم تكن قرينة كذلك فهل هنا قرينة عامة على تعيين أحدهما أو لا ، فقد ذكروا لتعيين الاطلاق قرينةً عامةً تسمى بمقدمات الحكمة ، فان تمّت تلك المقدمات ثبت الاطلاق وإلاّ فلا. ويعتبر في تمامية هذه المقدمات امور :

الأوّل : أن يكون المتكلم متمكناً من البيان والاتيان بالقيد وإلاّ فلا يكون


لكلامه إطلاق في مقام الاثبات حتى يكون كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت ، بيان ذلك : أنّ الاطلاق أو التقييد تارةً يلحظ بالاضافة إلى الواقع ومقام الثبوت. واخرى بالاضافة إلى مقام الاثبات والدلالة.

أمّا على الأوّل : فقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا واسطة بينهما في الواقع ونفس الأمر ، وذلك لأنّ المتكلم الملتفت إلى الواقع وما له من الخصوصيات حكيماً كان أو غيره فلا يخلو من أن يأخذ في متعلق حكمه أو موضوعه خصوصية من تلك الخصوصيات أو لا يأخذ فيه شيئاً منها ولا ثالث لهما. فعلى الأوّل يكون مقيّداً ، وعلى الثاني يكون مطلقاً ، ولا يعقل شق ثالث بينهما يعني لا يكون مطلقاً ولا مقيداً ، ومن هنا قلنا إنّ استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق وبالعكس.

وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر ، وأ نّه لا بدّ من طروئهما على موضوع قابل للاتصاف بالملكة [ وإلاّ ] لم يكن قابلاً للاتصاف بالعدم أيضاً وكذا العكس ، ولأجل ذلك لا يصح إطلاق الأعمى على الجدار مثلاً ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، ولذا قال قدس‌سره إنّ استحالة الاطلاق في موردٍ تستلزم استحالة التقييد فيه وبالعكس.

فلا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما ذكرناه مرراً من أنّ التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة ، وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر لا استحالته ، بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل فالحكم فيه إمّا مطلق أو مقيد ولا ثالث لهما.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٨.


ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة إلاّ أنّه لا يعتبر كون الموضوع لها أمراً شخصياً ، بل قد يكون الموضوع فيها نوعياً ولا يعتبر في مثله أن يكون كل فرد من أفراد الموضوع قابلاً للاتصاف بها ، بل يستحيل ذلك بالاضافة إلى بعض أفراده ، كما هو الحال في العلم والجهل بالاضافة إلى ذاته ( سبحانه وتعالى ) فانّ العلم بكنه ذاته تعالى مستحيل ، ومن الواضح أنّ استحالته لا تستلزم استحالة الجهل به ، بل تستلزم ضرورته رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة. وكذا الحال في غنى الممكن وفقره بالاضافة إليه ( تعالى وتقدس ) فانّ استحالة غنائه عن ذاته سبحانه لا تستلزم استحالة فقره ، بل تستلزم ضرورته ووجوبه رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فليكن المقام من هذا القبيل ، يعني أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة فمع ذلك تستلزم استحالة أحدهما في مقام الثبوت والواقع ضرورة الآخر لا استحالته.

وعلى الثاني : وهو ما إذا كان الاطلاق والتقييد ملحوظين بحسب مقام الاثبات ، فحينئذ إن تمكن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت بقيد في كلامه كان إطلاقه في هذا المقام كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت وأنّ مراده في هذا المقام مطلق وإلاّ لكان عليه البيان. وأمّا إذا لم يتمكن من الاتيان بقيد في مقام الاثبات فلا يكشف إطلاق كلامه في هذا المقام عن الاطلاق في ذاك المقام والحكم بأنّ مراده الجدي في الواقع هو الاطلاق ، لوضوح أنّ مراده لو كان في الواقع هو المقيد لم يتمكن من بيانه والاتيان بقيد ، ومعه كيف يكون إطلاق كلامه في مقام الاثبات كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت.

الأمر الثاني : أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يكون في مقام الاهمال


والاجمال كما في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(١) وقوله تعالى : ( « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ )(٢) وما شاكل ذلك ، فانّ المتكلم في هذه الموارد لا يكون في مقام البيان ، نظير قول الطبيب للمريض : اشرب الدواء فانّه ليس في مقام البيان ، بل هو في مقام أنّ في شرب الدواء نفعاً له في الجملة ولا يمكن الأخذ باطلاق كلامه ، مع أنّ بعضه مضر بحاله جزماً.

فالنتيجة : أنّ المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان لم يكن لكلامه ظهور في الاطلاق حتى يتمسك به.

نعم ، إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهةٍ ولم يكن في مقام البيان من جهة اخرى لا مانع من التمسك باطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الاخرى ، وهذا في الآيات والروايات كثير.

أمّا في الآيات : فكقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٣) فانّه إذا شك في اعتبار الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتباره لا مانع من التمسك باطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية والحكم بعدم اعتبار الامساك من الحلقوم. وأمّا إذا شك في طهارة محل الامساك وعدمها فلا يمكن التمسك باطلاق الآية من هذه الناحية ، لأنّ إطلاقها غير ناظر إليها أصلاً ، فلا تكون الآية في مقام البيان من هذه الجهة ، فلا محالة عندئذ يحكم بنجاسته.

وأمّا في الروايات : فمنها قوله عليه‌السلام : « لا بأس بالصلاة في دم إذا كان

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) المائدة ٥ : ٤.


أقل من درهم » (١) فانّه في مقام البيان من جهة أنّ هذا المقدار من الدم غير مانع من ناحية النجاسة ، حيث إنّ المتفاهم العرفي كون هذا استثناءً من مانعية الدم من هذه الناحية ، ولا يكون في مقام البيان من جهة اخرى وهي كونه من دم المأكول أو غير المأكول ، وعليه فاذا شك في صحة الصلاة فيه وعدم صحتها لم يجز التمسك باطلاق الرواية ، لعدم كون إطلاقها ناظراً إلى هذه الناحية.

فالنتيجة : أنّه لا إشكال في ذلك وأنّ المتكلم من أيّ جهة كان في مقام البيان جاز التمسك باطلاق كلامه من هذه الجهة وإن لم يكن في مقام البيان من الجهات الاخرى.

ثمّ إنّه لا بدّ من بيان أمرين : الأوّل : ما هو المراد من كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : فيما إذا شك في أنّه في مقام البيان أم لا.

أمّا الأوّل : فليس المراد من كونه في مقام البيان [ كونه كذلك ] من جميع الجهات والنواحي ، ضرورة أنّ مثل ذلك لعله لم يتفق في شيء [ من ] الآيات والروايات ، ولو اتفق في مورد فهو نادر جداً. كما أنّه ليس المراد من عدم كونه في مقام البيان أن لا يكون في مقام التفهيم أصلاً مثل ما إذا تكلم بلغة لا يفهم المخاطب منها شيئاً كما إذا تكلم العرب بلغةٍ الفرس مثلاً ، بل المراد منه أن لا ينعقد لكلامه ظهور في الاطلاق كقول الطبيب للمريض : اشرب الدواء ، فانّ المريض يفهم منه أنّه لا بدّ له من شرب الدواء ، ولكنّه ليس في مقام البيان بل في مقام الاهمال والاجمال ، ولذا لا إطلاق لكلامه بحيث يكون كاشفاً عن مراده الجدي وكان حجةً على المخاطب فيحتج به عليه وبالعكس.

والحاصل : أنّ المراد من كونه في مقام البيان هو أنّه يلقي كلامه على نحو

__________________

(١) راجع الوسائل ٣ : ٤٢٩ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ( نقل بالمضمون ).


ينعقد له ظهور في الاطلاق ويكون حجةً على المخاطب على سبيل القاعدة.

ومن ذلك يظهر : أنّ التقييد بدليلٍ منفصل لا يضر بكونه في مقام البيان ولا يكشف عن عدمه ، وإنّما يكشف عن أنّ المراد الجدي لا يكون مطابقاً للمراد الاستعمالي ، وقد تقدم أنّه قد يكون مطابقاً له وقد لا يكون مطابقاً له ، ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعي والعموم الاطلاقي ، ولذا ذكرنا سابقاً (١) أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن أنّ المتكلم ليس في مقام البيان ، مثلاً قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) في مقام البيان مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد ، وكذا الحال فيما إذا افترضنا أنّ للآية عموماً تدل عليه بالوضع.

وعلى الجملة : فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق ، فكما أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العام عن قابلية التمسك به ، فكذلك التقييد بدليل منفصل ، ويترتب على ذلك : أنّ تقييد المطلق من جهةٍ لا يوجب سقوط إطلاقه من جهات اخرى إذا كان في مقام البيان من هذه الجهات أيضاً ، فلا مانع من التمسك به من تلك الجهات إذا شك فيها ، كما إذا افترضنا أنّ الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً ، وشك في ورود التقييد عليها من جهات اخرى ، كما إذا شك في اعتبار الماضوية في الصيغة أو الموالاة بين الايجاب والقبول ، فلا مانع من التسمك باطلاقها من هذه الجهات والحكم بعدم اعتبارها.

وأمّا الأمر الثاني : فالمعروف والمشهور بين الأصحاب هو استقرار بناء

__________________

(١) في ص ٤٢٥.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.


العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في ذلك ، ومن هنا قالوا إنّ الأصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في مقام البيان ، فعدم كونه في هذا المقام يحتاج إلى دليل.

ولكنّ الظاهر أنّه غير تام مطلقاً ، وذلك لأنّ الشك تارةً من جهة أنّ المتكلم كان في مقام اصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده ، كما إذا شك في أنّ قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في مقام بيان أصل التشريع فحسب كما هو الحال في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) أو في مقام بيان تمام المراد ، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بالاطلاق لقيام السيرة من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً. واخرى يكون الشك من جهة سعة الارادة وضيقها ، يعني أنّا نعلم بأنّ لكلامه إطلاقاً من جهة ولكن نشك في إطلاقه من جهة اخرى ، كما في قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٢) حيث نعلم باطلاقه من جهة أنّ حلية أكله لا تحتاج إلى الذبح ـ سواء أكان إمساكه من محل الذبح أو من موضع آخر ، كان إلى القبلة أو إلى غيرها ـ ولكن لا نعلم أنّه في مقام البيان من جهة اخرى ، وهي جهة طهارة محل الامساك ونجاسته ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق كما عرفت ، لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في مقام البيان من هذه الجهة.

الثالث : أن لا يأتي المتكلم بقرينة لا متصلة ولا منفصلة وإلاّ فلا يمكن التمسك باطلاق كلامه ، لوضوح أنّ إطلاقه في مقام الاثبات إنّما يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينةً على الخلاف ، وأمّا مع وجودها ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) المائدة ٥ : ٤.


فان كانت متصلةً فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور ، وإن كانت منفصلةً فالظهور وإن انعقد إلاّ أنّها تكشف عن أنّ الارادة الاستعمالية لا تطابق الارادة الجدية ، وأمّا إذا لم يأت بقرينة كذلك فيثبت لكلامه إطلاق كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت ، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت ، ضرورة أنّ إطلاق الكلام أو تقييده في مقام الاثبات معلول لاطلاق الارادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.

وعلى الجملة : فالارادة التفهيمية هي العلة لابراز الكلام وإظهاره في مقام الاثبات ، فانّ المتكلم إذا أراد تفهيم شيء يبرزه في الخارج بلفظ ، فعندئذ إن لم ينصب قرينةً منفصلةً على الخلاف كشف ذلك عن أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية وإلاّ لم تكن مطابقةً لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ المتكلم إذا كان متمكناً من الاتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على الخلاف لا متصلةً ولا منفصلةً كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت ، وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً ، ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث ، فهي قرينة عامة على إثبات الاطلاق ، وأمّا القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها.

بقي في المقام أمران : [ الأوّل : هل المتيقن في مقام التخاطب مانع عن الاطلاق؟ ]

الأوّل أنّ القدر المتيقن بحسب التخاطب هل يمنع عن التمسك بالاطلاق؟ فيه وجهان.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه يمنع عنه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٧.


وتفصيل الكلام في المقام : أنّه يريد تارةً بالقدر المتيقن القدر المتيقن الخارجي ، يعني أنّه متيقن بحسب الارادة خارجاً من جهة القرائن ، منها : مناسبة الحكم والموضوع.

ومن الواضح أنّ مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق ، ضرورة أنّه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك إلاّنادراً ، فلو قال المولى : أكرم عالماً فانّ المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع التقي ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه ، وأمّا احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود. ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) فانّ القدر المتيقن منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه.

واخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب ، وهذا هو مراد صاحب الكفاية قدس‌سره دون الأوّل ، وقد ادعى قدس‌سره منعه عن التمسك بالاطلاق.

ولكنّ الظاهر أنّه لا يمكن المساعدة على هذه الدعوى ، والسبب فيه : أنّ المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أن يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنّه مراده جزماً ، ومنشأ ذلك امور : عمدتها كونه واقعاً في مورد السؤال ، مثلاً في موثقة ابن بكير « سأل زرارة أبا عبدالله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.


حتى يصلي في غيره مما أحلّ الله أكله » (١) أنّ المتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة احتمال أنّ الإمام عليه‌السلام أراد غير مورد السؤال دونه غير محتمل جزماً ، وأمّا العكس فهو محتمل. ولكنّ الكلام إنّما هو في منعه عن التمسك بالاطلاق ، والظاهر أنّه غير مانع عنه ، والسبب فيه : أنّ ظهور الكلام في الاطلاق قد انعقد ولا أثر له من هذه الناحية.

ومن الطبيعي أنّه لا يجوز رفع اليد عن الاطلاق ما لم تقم قرينة على الخلاف ، ولا قرينة في البين. أمّا القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم. وأمّا القرينة المتصلة فأيضاً كذلك بعد فرض أنّ القدر المتيقن المزبور لا يصلح أن يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في الاطلاق. وعليه فلا مناص من التمسك به ، وبما أنّ مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت فالاطلاق في الأوّل كاشف عن الاطلاق في الثاني ، ولذا لو سئل عن مجالسة شخص معيّن في الخارج واجيب بعدم جواز مجالسة الفاسق ، لم يحتمل بحسب الفهم العرفي اختصاصه بذاك الشخص المعيّن في الخارج ، فلا محالة يعمّ غيره أيضاً.

فالنتيجة : أنّ حال هذا القدر المتيقن حال القدر المتيقن الخارجي ، فكما أنّه لا يمنع عن التمسك بالاطلاق فكذلك هذا ، فلو كان هذا مانعاً عنه لكان ذاك أيضاً مانعاً فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

ثمّ إنّ الماهية تارةً تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتواطؤ والتساوي. واخرى تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتشكيك ، حيث قد برهن في محلّه استحالة التشكيك في الماهيات ، ونقصد بالتشكيك والتواطؤ هنا التشكيك والتواطؤ بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم ، وله

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.


عوامل عديدة :

منها : علوّ مرتبة بعض أفراد الماهية على نحو يوجب انصرافها عنه عرفاً ، ومن ذلك لفظ الحيوان فانّه موضوع لغةً لمطلق ما له الحياة فيكون معناه اللغوي جامعاً بين الانسان وغيره ، إلاّ أنّه في الاطلاق العرفي ينصرف عن الانسان.

ومن هنا ذكرنا (١) أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » هو خصوص الحيوان في مقابل الانسان ، فلا مانع من الصلاة في شعر الانسان ونحوه. وكيف كان فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر العرف ، ولايمكن التمسك بالاطلاق في مثل ذلك ، لفرض أنّ الخصوصية المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الاطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتصلة التي تمنع عن انعقاد ظهوره فيه.

ومنها : دنوّ مرتبة بعض أفرادها على نحو يكون صدقها عليه مورداً للشك كصدق الماء على ماء الكبريت أو ما شاكله ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق أيضاً ، وذلك لأنّ المعتبر في التمسك به هو أن يكون صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزاً ، والشك إنّما كان من ناحية اخرى. وأمّا فيما إذا لم يكن أصل الصدق محرزاً فلا يمكن التمسك به ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّ أصل الصدق مشكوك فيه فلايمكن التمسك باطلاق لفظ الماء بالاضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه ، غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة ، والثاني من قبيل احتفافه بما يصلح للقرينية ، ولكنّهما يشتركان في نقطة واحدة ، وهي المنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق.

__________________

(١) شرح العروة الوثقى ١٢ : ١٧٩.


وأمّا الانصراف في غير هذين الموردين وما شاكلهما فلا يمنع عن التمسك بالاطلاق ، فانّه لو كان فانّما هو بدوي فيزول بالتأمل ، ومن ذلك الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فانّه بدوي ولا أثر له ، ولا يمنع عن التمسك بالاطلاق حيث إنّه يزول بالتأمل والتدبر.

[ الثاني : ] التقييد هل يستلزم المجاز؟ فيه وجهان. بناءً على ما اخترناه من أنّ الألفاظ وضعت بازاء الماهيات المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات الطارئة فهو لا يستلزم المجاز أصلاً ، إذ على أساس هذه النظرية فالاطلاق والتقييد كلاهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له ، فكل منهما مستفاد من القرينة ، فالاطلاق مستفاد غالباً من قرينة الحكمة والتقييد من القرينة الخاصة ، فاللفظ في كلتا الحالتين مستعمل في معناه الموضوع له.

نعم ، استعماله في خصوص المقيد يكون مجازاً كما أنّ استعماله في خصوص المطلق يكون كذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام فانّ محل الكلام إنّما هو في أنّ تقييد المطلق بقيد هل يوجب المجاز فيه أم لا ، وقد عرفت أنّه لا يوجب ذلك ، وأنّ التقييد مستفاد من دال آخر كما أنّ الاطلاق كذلك.

وأمّا بناءً على نظرية القدماء من أنّ الألفاظ موضوعة للماهية اللا بشرط القسمي ، يعني أنّ الاطلاق والسريان مأخوذ في المعنى الموضوع له فلا بدّ من التفصيل بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فانّ الاولى تستلزم المجاز لا محالة ، حيث إنّ الاطلاق والسريان لا يجتمع مع التقييد والتضييق. وأمّا الثانية فلا تستلزم ذلك لما ذكرناه في بحث العام والخاص (١) من أنّه لا مانع من أن

__________________

(١) في ص ٣١٨ ـ ٣١٩.


يكون المراد الاستعمالي من الكلام غير المراد الجدي ، والمفروض أنّ الحقيقة والمجاز تدوران مدار الأوّل دون الثاني.

وعليه فلا مانع من أن يكون المراد الاستعمالي في المقام هو الاطلاق والسريان ضرباً للقاعدة ، كما هو الحال في استعمال العام في العموم في موارد التخصيص بالمنفصل ، والمراد الجدي هو التقييد والتضييق. فاذن يكون اللفظ مستعملاً في معناه الموضوع له ، غاية الأمر أنّه غير مراد جداً.

وعلى الجملة : فالتقييد بالمنفصل لا يكشف عن أنّ المطلق استعمل في المقيد ، وإنّما يكشف عن أنّ الارادة الاستعمالية لا تطابق الارادة الجدية.

هل يحمل المطلق على المقيّد

إذا ورد مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أم لا؟ فالكلام فيه يقع في موضعين :

الأوّل : أن يكون الحكم متعلقاً بالمطلق على نحو صرف الوجود كقول المولى : أعتق رقبةً.

الثاني : أن يكون الحكم متعلقاً به على [ نحو ] مطلق الوجود كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) حيث إنّ الحكم فيه ينحل بانحلال أفراد متعلقه دون الأوّل.

أمّا الموضع الأوّل : فالكلام فيه تارةً يقع في المقيد الذي يكون مخالفاً للمطلق في الحكم كقوله : أعتق رقبةً ولا تعتق رقبة كافرة ، أو قوله : صلّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.


ولا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه أو في النجس أو نحو ذلك. واخرى يقع في المقيد الذي يكون موافقاً له فيه كقوله : أعتق رقبةً وأعتق رقبةً مؤمنةً. وعلى الأوّل فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد ، فيقيّد الرقبة في المثال الأوّل بغير الكافرة ، والصلاة في المثال الثاني بغير الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل أو في النجس. وعلى الثاني فقد اختلفوا فيه على قولين : أحدهما أنّه يحمل المطلق على المقيد. وثانيهما : أنّه يحمل المقيد على أفضل الأفراد.

ولكنّ الظاهر أنّه لا وجه للفرق بين هذا القسم والقسم الأوّل فهما من وادٍ واحد ، فلا وجه للاتفاق في الأوّل والاختلاف في الثاني أصلاً ، فانّه إن حمل المطلق على المقيد في الأوّل ففي الثاني أيضاً كذلك ، وإن حمل المقيد في الثاني على أفضل الأفراد برفع اليد عن ظهوره في الوجوب حمل المقيد في الأوّل على المرجوحية ، حيث إنّ ظهور الأمر في جانب المقيد في الوجوب ليس بأقل من ظهور النهي في الحرمة ، فما يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الرجحان يقتضي رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على المرجوحية ، وكيف كان فالملاك في القسمين واحد فلا وجه للتفرقة بينهما.

ثمّ إنّنا تارة نعلم من الخارج أنّ الحكم في موردي المطلق والمقيد واحد كما إذا قال المولى : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، وإن ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فنعلم أنّ الحكم واحد ، حيث إنّ الظهار ليس إلاّسبباً لكفارة واحدة وليس موجباً لكفارتين ، ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد أو يحمل المقيد على أفضل الأفراد؟ ذهب جماعة إلى الأوّل بدعوى أنّ فيه جمعاً بين الدليلين وعملاً بهما دون العكس.

وفيه : أنّه إن اريد به حصول الامتثال بالاتيان بالمقيد فهو مما لا إشكال فيه ، فانّ الامتثال يحصل به على كل تقدير ، أي سواء أكان واجباً أو كان من


أفضل الأفراد. وإن اريد أنّ الجمع بين الدليلين منحصر به ، ففيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الجمع بينهما كما يمكن بذلك يمكن بحمل المقيد على أفضل الأفراد ، فلا وجه لترجيح الأوّل على الثاني.

ومن هنا ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجهاً آخر لذلك : وهو أنّ ظهور الأمر في طرف المقيد في الوجوب التعييني بما أنّه أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق فيقدّم عليه.

وفيه : أنّه لا يتم على مسلكه قدس‌سره حيث إنّه قد صرّح في بحث الأوامر (٢) أنّ صيغة الأمر لم توضع للدلالة على الوجوب التعييني ، بل هو مستفاد من الاطلاق ومقدمات الحكمة ، وعليه فلا فرق بين الظهورين ، فلا يكون ظهور الأمر في الوجوب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ الأمر بالمقيّد بما أنّه ظاهر في الوجوب على ما حققناه في محلّه من ظهور صيغة الأمر في الوجوب ما لم تقم قرينة على الترخيص ، فيقدّم على ظهور المطلق في الاطلاق ، حيث إنّ ظهوره فيه يتوقف على البيان وهو يصلح أن يكون بياناً له عرفاً.

ومن الواضح أنّ في كل مورد يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور القرينة ورفع اليد عن ظهور ذيها ، يتعين الثاني بنظر العرف ، وعليه فيكون ظهور الأمر بالمقيد في الوجوب مانعاً عن ظهور المطلق في الاطلاق. ونقصد بظهوره الظهور الكاشف عن المراد الجدي ، فانّه يتوقف على عدم البيان المنفصل ، دون أصل ظهوره حيث إنّه لا يتوقف عليه وإنّما يتوقف على عدم البيان المتصل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.


وعلى الجملة : فلا يشك بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم في تقديم ظهور المقيد على ظهور المطلق ، سواء أكان في كلام منفصل أو متصل ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يمنع عن حجية الظهور وكاشفيته عن المراد الجدي ، وعلى الثاني يمنع عن أصل انعقاد الظهور له فلا تكون بينهما معارضة أبداً. هذا فيما إذا علم وحدة التكليف من الخارج.

وأمّا إذا احتمل تعدد التكليف حسب تعددهما فالمحتملات فيه أربعة :

الأوّل : أن يحمل المطلق على المقيد.

الثاني : أن يحمل المقيد على أفضل الأفراد.

الثالث : لا هذا ولا ذاك ، فيبنى على تعدد التكليف لكن من قبيل واجب في واجب آخر ، وهذا يعني أنّ عتق الرقبة واجب على نحو الاطلاق وخصوصية كونها مؤمنةً أيضاً واجبة ، نظير ما لو نذر المكلف الاتيان بالصلاة في المسجد أو في الجماعة أو في الحرم الشريف أو ما شاكل ذلك ، فانّ طبيعي الصلاة واجب على نحو الاطلاق وأينما سرى ، وخصوصية كونها في المسجد أو في الجماعة واجبة أيضاً ، فيكون من قبيل الواجب في الواجب. وقد اختار بعض الفقهاء هذا الوجه في الأغسال الثلاثة للميت حيث قال : إنّ طبيعي الغسل بالماء واجب أينما سرى ، وخصوصية كونه بالكافور واجب آخر ، وكذا خصوصية كونه بماء السدر ، ويترتب على ذلك أنّ المكلف إذا أتى بالصلاة في غير المسجد مثلاً سقط الأمر الثاني أيضاً بسقوط موضوعه ولا مجال له بعد ذلك ، غاية الأمر أنّه قد خالف نذره ، ويترتب على مخالفته استحقاق العقاب من ناحية ، ولزوم الكفارة من ناحية اخرى.

الرابع : أن يكون كل من المطلق والمقيد واجباً مستقلاً ، نظير ما إذا أمر


المولى بالاتيان بالماء على نحو الاطلاق وكان غرضه منه غسل الثوب به ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في كونه ماءً حاراً أو بارداً أو ما شاكل ذلك ، ثمّ أمر بالاتيان بالماء البارد لأجل الشرب ، فلا شبهة في أنّهما واجبان مستقلان. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالاحتمال الثاني من هذه المحتملات خلاف الظاهر جداً فلا يمكن الأخذ به ، لما عرفت من ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الندب خلاف هذا الظهور فيحتاج إلى دليل ، ولا دليل في المقام عليه وبدونه فلا يمكن.

وأمّا الاحتمال الثالث : فالظاهر أنّ المقام ليس من هذا القبيل ، أي من قبيل الواجب في الواجب كما هو الحال في مورد النذر أو العهد أو الشرط في ضمن العقد المتعلق بحصة خاصة من الواجب ، والوجه في ذلك : هو أنّ الأوامر المتعلقة بالقيودات والخصوصيات في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وليست ظاهرةً في المولوية وإن كانت بأنفسها كذلك ، إلاّ أنّ لخصوصية في المقام تنقلب ظهورها من المولوية إلى الارشاد ، كما أنّ النواهي المتعلقة بها ظاهرة في الارشاد إلى المانعية من جهة تلك الخصوصية.

ومن هنا يكون المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » (١) هو الارشاد إلى مانعية لبسه في الصلاة ، وكذا الحال في المعاملات مثل قوله « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر » (٢)

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ( نقل بالمضمون ).

(٢) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣ ( باختلاف يسير ).


فانّه ظاهر في الارشاد إلى مانعية الغرر عن البيع. هذا مضافاً إلى أنّ الأمر في أمثال هذه الموارد قد تعلق بالتقييد لا بالقيد ، فصَرف الأمر عنه إليه خلاف الظاهر جداً.

وأمّا الاحتمال الرابع : فهو يتصور على نحوين : أحدهما أن يسقط كلا التكليفين معاً بالاتيان بالمقيد. وثانيهما : عدم سقوط التكليف بالمطلق بالاتيان بالمقيد بل لا بدّ من الاتيان به أيضاً.

أمّا الأوّل : فيكون المقام نظير ما ذكرناه سابقاً من أنّه لو كان بين متعلقي التكليفين عموم من وجه كعنوان العالم وعنوان الهاشمي سقط كلا التكليفين بامتثال المجمع ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ حيث إنّ هذا مقتضى إطلاق دليل كل منهما ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، يعني أنّ المقيّد مجمع لكلا العنوانين فيسقط كلا التكليفين باتيانه.

وغير خفي أنّ هذا بحسب مقام الثبوت وإن كان أمراً ممكناً ، إلاّ أنّه لا يمكن الأخذ به في مقام الاثبات ، وذلك لأنّ الاتيان بالمقيد إذا كان موجباً لسقوط الأمر عن المطلق أيضاً فلا محالة يكون الأمر به لغواً محضاً ، حيث إنّ الاتيان بالمقيد مما لا بدّ منه ، ومعه يكون الأمر بالمطلق لغواً وعبثاً. ولا يقاس هذا بما ذكرناه من المثال ، فانّ إطلاق الأمر فيه بكل من الدليلين لا يكون لغواً أبداً ، لفرض أنّ لكل منهما مادة الافتراق بالاضافة إلى الآخر.

وعلى الجملة : فلا بدّ حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بالاتيان به في ضمن غير المقيد مع الترخيص في تركه بالاتيان بالمقيد ابتداءً ، ومردّ ذلك إلى أنّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالمقيد ابتداءً ليسقط كلا التكليفين معاً ، وبين الاتيان بالمطلق في ضمن حصة اخرى أوّلاً ثمّ بالمقيد ، وهذا يعني أنّ المكلف لو أتى بالمطلق فلا بدّ من الاتيان به في ضمن حصة اخرى.


ولكن من الواضح أنّ ذلك يستلزم خلاف الظاهر من جهتين : الاولى : أنّ التقييد المذكور خلاف الظاهر جداً فيحتاج إلى قرينة. الثانية : أنّ حمل الأمر في طرف المطلق على التخيير خلاف الظاهر فلا يمكن الأخذ به بدون قرينة.

وإن شئت قلت : إنّ هذا التخيير نتيجة التقييد المزبور ، فانّه مضافاً إلى أنّه بنفسه خلاف الظاهر يستلزم خلاف الظاهر من هذه الناحية أيضاً ، ولأجل ذلك لا يمكن الأخذ به.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا لم يسقط التكليف بالمطلق بالاتيان بالمقيد ، فأيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّه لا بدّ حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بغير هذه الحصة ، وإلاّ فلا موجب لعدم سقوطه بالاتيان بالمقيد بعد فرض انطباقه عليه انطباق الطبيعي على حصته. ومن المعلوم أنّ التقييد خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك وبدونها فلا يمكن.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن الأخذ بشيء من هذه الوجوه الثلاثة فيتعين حينئذ الوجه الأوّل ، وهو حمل المطلق على المقيد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه إذا علم من الخارج تعدد التكليف فالمتعيّن هو الوجه الرابع ، وأمّا إذا لم يعلم تعدده وإن احتمل فالمتعيّن هو الوجه الأوّل ، لما عرفت من عدم مساعدة الدليل على بقية الوجوه ، هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الموضع الثاني : وهو ما إذا كان الحكم متعلقاً بمطلق الوجود يعني أنّ الحكم يكون انحلالياً كما في قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.


تَراضٍ )(١) وما شاكل ذلك ، فيقع الكلام فيه تارةً فيما إذا كان دليل المقيد مخالفاً له في الايجاب والسلب ، واخرى يكون موافقاً له في ذلك.

أمّا على الأوّل : فلا شبهة في تقييد المطلق به ، ومن هنا قد قيّد إطلاق الآية بغير موارد البيع الغرري وبيع الخمر وبيع الخنزير والبيع الربوي وما شاكل ذلك ، وأمثلة هذا في الآيات والروايات كثيرة ولا كلام ولا خلاف في ذلك.

وأمّا على الثاني : فالمعروف والمشهور بينهم أنّه لا موجب لحمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، فالمقيد فيه يحمل على أفضل الأفراد. ولكن هذا إنّما يتم فيما إذا لم نقل بدلالة الوصف على المفهوم بالمعنى الذي تقدم في محلّه ، وأمّا إذا قلنا بها كما هو الظاهر فلا يتم ، بيان ذلك : أنّ القيد تارةً يقع في كلام السائل من جهة توهمه أنّ فيه خصوصية تمنع عن شمول الحكم له ، كما إذا افترض أنّه توهم أنّ الاطلاقات الدالة على طهورية الماء لا تشمل ماء البحر من جهة أنّ فيه خصوصية ـ وهي ملاحته ـ يمتاز بها عن غيره من المياه ، فلأجل ذلك سأل الإمام عليه‌السلام عن طهوريته فأجاب عليه‌السلام بأ نّه طاهر ، ففي مثل ذلك لا شبهة في عدم دلالته على المفهوم. وكذا إذا أتى الإمام عليه‌السلام بقيد في كلامه لرفع توهم السائل أنّ فيه خصوصية يمتاز بها عن غيره ، بأن قال عليه‌السلام : ماء البحر طاهر.

وأمّا إذا لم تكن قرينة على أنّ الاتيان بالقيد لأجل رفع التوهم ، ففي مثل ذلك لا مانع من الالتزام بالمفهوم ، وقد ذكرنا في بحث مفهوم الوصف أنّه ظاهر فيه وإلاّ لكان الاتيان به لغواً محضاً ، كما أنّا ذكرنا هناك أنّ المراد بالمفهوم هو دلالته على أنّ الحكم في القضية غير ثابت للطبيعي على نحو الاطلاق وإلاّ

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٩.


لكان وجود القيد وعدمه سيّان ، وليس المراد منه دلالته على نفي الحكم عن غير مورده كما هو الحال في مفهوم الشرط ، وقد تقدم تمام هذه البحوث بشكل موسّع هناك (١) فلاحظ ، وعلى أساس ذلك فلا مناص من حمل المطلق على المقيد هنا أيضاً.

فالنتيجة : أنّه لا فرق في لزوم حمل المطلق على المقيد بين ما إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصِرف وجوده أو بمطلق وجوده ، فلا وجه لما عن المشهور من التفصيل بينهما ، وعلى ذلك تترتب ثمرة فقهية في بعض الفروع.

بقي الكلام في الفرق بين المستحبات والواجبات حيث إنّ المشهور بين الأصحاب تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات ، فالكلام إنّما هو في الفارق بينهما ، فانّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفية على التقييد فلماذا لا يكون كذلك في المستحبات ، وإن لم يكن كذلك فلماذا يحمل المطلق على المقيد في الواجبات ، ومن هنا ذكر في وجه ذلك وجوه :

أحدها : ما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أنّ الفارق بين الواجبات والمستحبات في ذلك هو تفاوت المستحبات غالباً من حيث المراتب ، بمعنى أنّ غالب المستحبات تتعدد بتعدد مراتبها من القوّة والضعف على عرضهما العريض ، وهذه الغلبة قرينة على حمل المقيد على الأفضل والقوي من الأفراد.

ويرد عليه : أنّ مجرد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيد قرينة عرفية على تعيين المراد من المطلق ، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيد في ذلك.

__________________

(١) راجع ص ٢٧٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥١.


ومن هنا ذكر قدس‌سره (١) وغيره أنّ غلبة استعمال الأمر في الندب لا تمنع عن ظهوره في الوجوب عند الاطلاق ورفع اليد عنه. والحاصل : أنّ الظهور متبع ما لم تقم قرينة على خلافه ، ولا قرينة في المقام على خلاف ظهور دليل المقيد في تعيين المراد من المطلق ، والغلبة لا تصلح أن تكون قرينةً على ذلك.

ثانيها : أيضاً ما ذكره قدس‌سره وحاصله : هو أنّ ثبوت استحباب المطلق إنّما هو من ناحية قاعدة التسامح في أدلة السنن ، فانّ عدم رفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء المقيد وحمله على تأكد استحبابه من التسامح فيها.

ويرد عليه وجوه : الأوّل : أنّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفاً للتصرف في المطلق وحمله على المقيد لم يصدق عنوان البلوغ على المطلق حتى يكون مشمولاً لتلك القاعدة ، فان دليل المقيد إذا كان متصلاً به منع عن أصل انعقاد الظهور له في الاطلاق ، وإن كان منفصلاً عنه منع عن كشف ظهوره في الاطلاق عن المراد الجدي ، وعلى كلا التقديرين لا يصدق عليه عنوان البلوغ.

الثاني : أنّا قد ذكرنا في محلّه (٢) أنّ مفاد تلك القاعدة ليس هو استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، بل مفادها هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن الاتيان به برجاء إدراك الواقع.

الثالث : أنّا لو سلّمنا أنّ مفادها هو استحباب العمل شرعاً إلاّ أنّه حينئذ لا موجب لكون المقيد من أفضل الأفراد ، حيث إنّ استحبابه ثبت بدليل واستحباب المطلق ثبت بدليل آخر أجنبي عنه ، فاذن ما هو الموجب لصيرورة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٠.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٦٨ وما بعدها.


المقيد أفضل من المطلق.

ثالثها وهو الصحيح : أنّ الدليل الدال على التقييد يتصور على وجوه أربعة لا خامس لها :

الأوّل : أن يكون ذا مفهوم ، بمعنى أن يكون لسانه لسان القضية الشرطية ، كما إذا افترض أنّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبة وهي إحدى عشرة ركعة ، وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلف آتياً بها بعد نصف الليل ، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد عرفاً ، نظراً إلى أنّ دليل المقيد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.

الثاني : أن يكون دليل المقيد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم ، فاذا دلّ دليل على استحباب الاقامة مثلاً في الصلاة ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالاقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك ، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد ، والوجه فيه : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية ، وأنّ الحدث أو الجلوس مانع عن الاقامة المأمور بها ، ومرجع ذلك إلى أنّ عدمه مأخوذ فيها فلا تكون الاقامة في حال الحدث أو الجلوس مأموراً بها.

الثالث : أن يكون الأمر في دليل المقيد متعلقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا افترض أنّه ورد في دليل أنّ الاقامة في الصلاة مستحبة ، وورد في دليل آخر فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني حيث إنّ الأمر في قوله : فلتكن ، ظاهر في الارشاد إلى شرطية الطهارة أو القيام لها ، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الاقامة مستحبة أو واجبة ، فما هو المشهور من أنّه لا يحمل المطلق على المقيد في باب المستحبات لا أصل له في


الأقسام المتقدمة.

الرابع : أن يتعلق الأمر في دليل المقيد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبات ، مثلاً ورد في استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته عليه‌السلام في أوقات خاصة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب ، ونصف شعبان ، وليالي القدر وهكذا ، ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد؟

الظاهر أنّه لا يحمل عليه ، والسبب فيه : أنّ الموجب لحمل المطلق على المقيد في الواجبات هو التنافي بين دليل المطلق والمقيد ، حيث إنّ مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكلف في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال ، وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالاتيان بالمقيد ، وهذا بخلاف ما إذا كان دليل التقييد استحبابياً فانّه لا ينافي إطلاق المطلق أصلاً ، لفرض عدم إلزام المكلف بالاتيان به ، بل هو مرخّص في تركه ، فاذا لم يكن تنافٍ بينهما فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، بل لا بدّ من حمله على تأكد الاستحباب وكونه الأفضل ، وهذا هو الفارق بين الواجبات والمستحبات.

ومن هنا يظهر أنّ دليل المطلق إذا كان متكفلاً لحكم إلزامي دون دليل المقيد فلا بدّ من حمله على أفضل الأفراد أيضاً بعين الملاك المزبور. فالنتيجة : أنّ دليل المقيد إذا كان متكفلاً لحكم غير إلزامي فلا بدّ من حمله على الأفضل ، سواء أكان دليل المطلق أيضاً كذلك أو كان متكفلاً لحكم إلزامي ، والسر فيه ما عرفت من عدم التنافي بينهما أبداً.

بقي هنا شيئان :

أحدهما : أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت ،


والتقييد فيه يكشف عن التقييد في ذلك ، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت ، فلو أمر المولى باكرام العالم ولم يقيده بالعدالة أو الهاشمية أو ما شاكل ذلك من القيود وكان في مقام البيان فالاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت والواقع ، وأمّا إذا قيّده بالعدالة فهو يكشف عن التقييد في مقام الثبوت.

ولكن ربّما ينعكس الأمر فالاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت دون الاطلاق والسعة ، وذلك كما في إطلاق صيغة الأمر حيث إنّه في مقام الاثبات يكشف عن أنّ الواجب في مقام الثبوت والواقع نفسي لا غيري ، وتعييني لا تخييري ، وعيني لا كفائي ، كل ذلك ضيق على المكلف ، فلو أمر المولى بغسل الجنابة فإن كان مطلقاً في مقام الاثبات ولم يكن الأمر به مقيداً بايجاب شيء آخر على المكلف ، كشف ذلك عن كونه واجباً نفسياً في مقام الثبوت وهو ضيق على المكلف. وإن كان الأمر به مقيداً بهذا كشف ذلك عن كونه واجباً غيرياً وهو سعة بالاضافة إليه. وكذا الحال بالنسبة إلى الواجب التعييني والتخييري والعيني والكفائي ، فانّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت والتقييد فيه يكشف عن الاطلاق والسعة فيه.

وثانيهما : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه ، ونتيجته تختلف باختلاف خصوصيات الموارد والمقامات ، فقد تكون نتيجته في مورد تعلق الحكم بصرف الوجود ، وقد يكون تعلق الحكم بمطلق الوجود ، وقد يكون غير ذلك ، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة في مبحث النواهي (١) فلاحظ.

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٦.


المجمل والمبيّن

لا يخفى أنّ المجمل والمبيّن هنا كالمطلق والمقيّد والعام والخاص مستعملان في معناهما اللغوي ، وليس للُاصوليين فيهما اصطلاح خاص ، فالمجمل اسم لما يكون معناه مشتبهاً وغير ظاهر فيه ، والمبيّن اسم لما يكون معناه واضحاً وغير مشتبه.

ثمّ إنّ المجمل تارةً يكون حقيقياً واخرى يكون حكمياً. ونقصد بالأوّل ما كان اللفظ غير ظاهر في المراد الاستعمالي ، ونقصد بالثاني ما يكون إجماله حكمياً لا حقيقياً ، بمعنى أنّه ظاهر في المراد الاستعمالي ولكنّ المراد الجدي منه غير معلوم.

والأوّل لا يخلو من أن يكون إجماله بالذات كاللفظ المشترك ، أو بالعرض كالكلام المحفوف بما يصلح للقرينية فانّه يوجب إجماله وعدم انعقاد الظهور له.

والثاني كالعام المخصص بدليل منفصل يدور أمره بين متباينين كما إذا ورد أكرم كل عالم ثمّ ورد في دليل آخر لا تكرم زيداً العالم وفرضنا أنّ زيداً العالم في الخارج مردد بين شخصين : زيد بن خالد ، وزيد بن عمرو مثلاً ، فيكون المخصص من هذه الناحية مجملاً فيسري إجماله إلى العام حكماً لا حقيقةً ، لفرض أنّ ظهوره في العموم قد انعقد فلا إجمال ولا اشتباه فيه ، وإنّما الاجمال والاشتباه في المراد الجدي منه ، ولأجل ذلك يعامل معه معاملة المجمل ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الاجمال والبيان من الامور الواقعية فالعبرة بهما إنّما


هي بنظر العرف ، فكل لفظ كان ظاهراً في معناه وكاشفاً عنه عندهم فهو مبيّن ، وكل لفظ لا يكون كذلك ـ سواء أكان بالذات أو بالعرض ـ فهو مجمل فلا واسطة بينهما.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّهما من الامور الاضافية وليسا من الامور الواقعية بدعوى أنّ لفظاً واحداً مجمل عند شخص لجهله بمعناه ومبيّن عند آخر لعلمه به خاطئ جداً ، وذلك لأنّ الجهل بالوضع والعلم به لا يوجبان الاختلاف في معنى الاجمال والبيان ، فجهل شخص بمعنى لفظٍ وعدم علمه بوضعه له لا يوجب كونه من المجمل وإلاّ لزم أن تكون اللغات العربية مجملةً عند الفرس وبالعكس ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

نعم ، قد يقع الاختلاف في إجمال لفظٍ فيدعي أحد أنّه مجمل ويدعي الآخر أنّه مبيّن ، ولكن هذا الاختلاف إنّما هو في مقام الاثبات ، وهو بنفسه شاهد على أنّهما من الامور الواقعية وإلاّ فلا معنى لوقوع النزاع والخلاف بينهما لو كانا من الامور الاضافية التي تختلف باختلاف أنظار الأشخاص ، نظير الاختلاف في بقية الامور الواقعية فيدعي أحد أنّ زيداً مثلاً عالم ويدعي الآخر أنّه جاهل ، مع أنّ العلم والجهل من الامور الواقعية النفس الأمرية.

ومن ناحية ثالثة : أنّه يقع الكلام في عدّة من الألفاظ المفردة والمركبة في أبواب الفقه أنّها مجملة أو مبيّنة. والاولى كلفظ الصعيد ولفظ الكعب ولفظ الغناء وما شاكل ذلك. والثانية مثل « لا صلاة إلاّبطهور » (٢) أو « لا صلاة لمن لم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٣.

(٢) المستدرك ١ : ٢٨٧ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٢.


يقم صلبه » (١) وما شابه ذلك. ومنها : الأحكام التكليفية المتعلقة بالأعيان الخارجية كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(٢) ونحوه ، وبما أنّه لا ضابط كلّي لتمييز المجمل عن المبيّن في هذه الموارد ، فلا بدّ من الرجوع في كل مورد إلى فهم العرف فيه ، فإن كان هناك ظهور عرفي فهو وإلاّ فيرجع إلى القواعد والاصول وهي تختلف باختلاف الموارد.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء وهو الجزء الخامس (٣) من مباحث الألفاظ ، وقد تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٢١ / أبواب الركوع ب ١٦ ح ٢.

(٢) النساء ٤ : ٢٣.

(٣) [ حسب التجزئة السابقة ].



فهرس الموضوعات



فهرس الموضوعات

أدلة جواز اجتماع الأمر والنهي ............................................. ١

١ ـ الاستدلال على الجواز بالعبادات المكروهة .............................. ١

الجواب الاجمالي لصاحب الكفاية عن ذلك .................................. ٢

الجواب التفصيلي لصاحب الكفاية عن ذلك ................................. ٤

انقسام العبادات المكروهة إلى أقسام ثلاثة .................................... ٤

القسم الأوّل : ما تعلق به النهي بعنوانه ولا بدل له ........................... ٥

القسم الثاني : ما إذا كان للعبادة المنهي عنها بدل ........................... ٢١

القسم الثالث : ما تعلق النهي به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجودا .......... ٢٥

٢ ـ الاستدلال بمثال الخياطة في المكان المنهي عنه .......................... ٢٦

٣ ـ الدليل الذي ذكره المحقق القمي ..................................... ٢٧

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام .............................................. ٣٢

أقسام الاضطرار إلى ترك الحرام ........................................... ٣٢

١ ـ الاضطرار إلى الحرام بغير اختيار المكلف .............................. ٣٣


حكم الفعل المضطر إليه .................................................. ٣٣

بيان ما هو المستفاد من تعلق النهي بعبادة أو معاملة .......................... ٣٨

العبادة مع الاضطرار إلى الحرام غير المتحد معها ............................. ٣٨

العبادة مع الاضطرار إلى الحرام المتحد معها ................................. ٤١

تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية ............................ ٤٣

أقسام النهي المتعلق بالعبادة في كلام النائيني قدس‌سره ............................ ٤٥

تفرع دلالة النهي على التقييد على الدلالة على الحرمة ...................... ٥٢

الاشكال في صحة العبادة بوجود ملاك الحرام في مورد الاضطرار ............. ٥٣

حكم الصلاة في الأرض المغصوبة عند الاضطرار مع عدم مندوحة ............. ٥٥

هل الركوع والسجود تصرف زائد في المكان المغصوب؟ .................... ٥٥

تفصيل النائيني بين حكم العقل والعرف .................................... ٥٥

اختيار صاحب الجواهر صحة الصلاة في المغصوب في فرض المسألة ............ ٥٩

حكم الصلاة في الغصب عند الاضطرار مع المندوحة ........................ ٦٠

وجوب التخلص عن الغصب عند ارتفاع الاضطرار ......................... ٦٠

الصلاة حال الخروج من الغصب .......................................... ٦٣

٢ ـ الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار .................................. ٦٨

الأقوال في حكم الخروج من الغصب ...................................... ٦٩

حكم الصلاة حال الخروج من الغصب ................................... ١٠٣

بقي هنا امور .......................................................... ١٠٩

مرجحات الحرمة على القول بالامتناع ................................... ١٠٩


تقدم الاطلاق الشمولي على البدلي ...................................... ١١٠

قاعدة أولوية دفع المفسدة من جلب المصحلة .............................. ١١٥

الكلام في صحة الصلاة في مورد الاجتماع على الامتناع وعدم ثبوت ترجيح....... ١٢١

لحوق تعدد الاضافات بتعدد العناوين في الدخول في النزاع ................. ١٢٦

النهي في العبادات ....................................................... ١٣٤

١ ـ الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي ................. ١٣٤

٢ ـ كون هذه المسألة من المسائل الاصولية العقلية ....................... ١٣٤

٣ ـ اختصاص محل النزاع بالنواهي المولوية لا الارشادية .................. ١٣٥

٤ ـ الكلام في دخول النهي التنزيهي والغيري في محل النزاع ............... ١٣٦

٥ ـ المراد بالعبادة في عنوان النزاع ...................................... ١٣٨

٦ ـ في أنّ الصحة والفساد واقعيان أم مجعولان .......................... ١٣٩

٧ ـ أقسام تعلق النهي بالعبادة ......................................... ١٤٦

دلالة النهي عن ذات العبادة على فسادها ................................ ١٤٧

كلام صاحب الكفاية في النهي المتعلق بجزء العبادة ......................... ١٤٨

إيراد المحقق النائيني على صاحب الكفاية .................................. ١٤٩

كلام الآخوند والنائيني في النهي عن شرط العبادة ......................... ١٥٤

حكم النهي المتعلق بوصف العبادة ....................................... ١٥٩

٨ ـ مقتضى الأصل في المقام ............................................ ١٦٠

إجراء الأصل في المسألة الاصولية ........................................ ١٦٠


إجراء الأصل في المسألة الفرعية ......................................... ١٦١

أصالة الفساد في العبادات والمعاملات .................................... ١٦١

الكلام حول الروايات الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون إذن سيّده ........... ١٨٢

مباحث المفاهيم

معنى المفهوم والمنطوق .................................................. ١٩٢

الفرق بين الملازمة هنا والملازمة في الاستلزامات العقلية ..................... ١٩٣

اصولية بحث المفاهيم ................................................... ١٩٦

في أنّ النزاع في المفاهيم صغروي لا كبروي .............................. ١٩٧

مفهوم الشرط .......................................................... ١٩٨

مفهوم الشرط ......................................................... ١٩٨

توقف ثبوت المفهوم للشرط على إثبات امور أربعة ........................ ١٩٨

دلالة الجملة الشرطية على المفهوم إطلاقا ................................. ٢٠٤

التمسك باطلاق الشرط لاثبات المفهوم .................................. ٢٠٥

ثبوت المفهوم للشرط على مختار المصنف في بابي الاخبار والانشاء ........... ٢١١

تنبيهات في المقام ....................................................... ٢٢٤

١ ـ كون المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم ........................... ٢٢٤

ليس انتفاء الحكم عن غير مورد الوصية والاقرار والوقف من المفهوم ......... ٢٢٤

تفصيل الأنصاري بين استفادة حكم الجزاء من المادة أو الهيئة ............... ٢٢٦


٢ ـ عموم النزاع لما كان الشرط واحدا أو متعددا ........................ ٢٢٧

٣ ـ ثبوت المفهوم جزئيا مع كون الحكم في الجزاء انحلاليا ................. ٢٢٨

٤ ـ إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء ...................................... ٢٣٩

الأقوال في كيفية الجمع في مثل مسألة خفاء الأذان والجدران ................ ٢٣٩

الاشارة إلى قاعدة الواحد لا يصدر إلاّ من واحد .......................... ٢٤٢

٥ ـ تداخل الأسباب والمسببات ........................................ ٢٥٢

اختصاص محل النزاع بعدم وجود دليل على التداخل ....................... ٢٥٣

الأصل العملي عند الشك في التداخل .................................... ٢٥٤

اختصاص محل النزاع بما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ...................... ٢٥٥

القول بابتناء التداخل على القول بمعرفية العلل الشرعية ..................... ٢٥٦

اختصاص محل النزاع بما إذا كان الشرط قابلا للتكرار ..................... ٢٥٩

مفهوم الوصف ......................................................... ٢٧٢

اختصاص محل النزاع بالوصف المعتمد على موصوفه ....................... ٢٧٢

خروج اللقب عن محل النزاع ........................................... ٢٧٢

انقسام الوصف إلى المساوي والأعم والأخص من موصوفه ................. ٢٧٣

ما استدل به على ثبوت المفهوم للوصف .................................. ٢٧٥

الصحيح هو التفصيل في مفهوم الوصف .................................. ٢٧٨

مفهوم الغاية ............................................................ ٢٨١

الاختلاف في دخول الغاية في حكم المغيى وعدمه .......................... ٢٨١

انقسام الغاية إلى غاية الموضوع والمتعلق والحكم ........................... ٢٨٣


ثبوت المفهوم للغاية .................................................... ٢٨٣

هل الغاية في مقام الاثبات ترجع للموضوع أو المتعلق أو الحكم؟ ............ ٢٨٤

مفهوم الحصر ........................................................... ٢٩٨

دلالة « إلاّ » على الحصر .............................................. ٢٨٦

دلالة « إنّما » على الحصر.............................................. ٢٨٧

استعمال « إنّما » لقصر الصفة على الموصوف وبالعكس .................. ٢٨٧

إنكار الرازي دلالة « إنّما » على الحصر ................................ ٢٨٨

دلالة كلمة التوحيد على الحصر ......................................... ٢٩٤

مفهوم العدد ............................................................ ٢٩٨

العام والخاص

معنى العموم لغة وعرفا ................................................. ٢٩٩

الفرق بين العام والمطلق الشمولي ........................................ ٢٩٩

انقسام العموم إلى الاستغرافي والمجموعي والبدلي ........................... ٢٩٩

منشأ انقسام العموم إلى الأقسام الثلاثة ................................... ٣٠٠

عدم كون العشرة وأمثالها من العدد من ألفاظ العموم ...................... ٣٠١

صيغ العموم ........................................................... ٣٠٣

كيفية دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم .................... ٣٠٥

كيفية دلالة « كل » والجمع المحلى باللام على العموم ..................... ٣٠٥

التمسك بالعام بعد ورود التخصيص ..................................... ٣١١


التمسك بالعام في الشبهات الحكمية ..................................... ٣١٢

نسبة عدم جواز التمسك بالعام بعد التخصيص إلى العامة .................. ٣١٢

ما قيل في دفع شبهة إجمال العام بعد التخصيص بالمنفصل .................. ٣١٤

جواب المحقق النائيني عن الشبهة ......................................... ٣١٤

جواب آخر عن الشبهة ................................................. ٣٢٤

جواب ثالث عن الشبهة ................................................ ٣٢٥

جواب الشيخ الأنصاري عن الشبهة ..................................... ٣٢٦

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية ....................................... ٣٣٠

إجمال المخصص من جهة دورانه بين الأقل والأكثر ........................ ٣٣١

إجمال المخصص من جهة دورانه بين المتباينين ............................. ٣٣٣

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مع اتصال المخصص .................. ٣٣٤

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مع انفصال المخصص ................. ٣٣٦

نسبة جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية إلى مشهور القدماء ........ ٣٣٦

نسبة هذا القول إلى صاحب العروة ...................................... ٣٣٦

حكم المشهور بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية ........ ٣٤١

ما يمكن أن يستدل به لجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ............. ٣٤٣

التفصيل بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي ........................... ٣٤٩

إشكال المحقق النائيني على هذا التفصيل .................................. ٣٥١

تفصيل المحقق النائيني في المخصص اللبي ................................... ٣٥٦


جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في القضايا الخارجية مع كون الدليل لبيا ٣٥٨

استصحاب العدم الأزلي ................................................. ٣٦٠

الخلاف في اجراء الأصل في العدم الأزلي لاحراز دخول المشتبه في العام....... ٣٦٠

اختصاص النزاع بعدم تعنون العام بعنوان وجودي ......................... ٣٦٠

إنكار النائيني استصحاب العدم الأزلي نتيجة مقدمات ...................... ٣٦٢

هل التخصيص يوجب تقيّد العام بالعدم النعتي أو المحمولي؟ ................. ٣٧٣

الشك في شمول العام لفرد من غير جهة التخصيص ........................ ٣٨٧

تصحيح الوضوء بمائع مضاف بعموم وجوب الوفاء بالنذر .................. ٣٨٨

دوران الأمر بين التخصيص والتخصيص ................................. ٣٩١

هل أنّ طهارة ملاقي ماء الاستنجاء للتخصيص أو للتخصص ............... ٣٩٤

التمسك بالعام لاثبات التخصص ........................................ ٣٩٧

الفحص عن المخصص ................................................... ٤٠٣

الفرق بين الفحص عن المخصص هنا والفحص في موارد الاصول ........... ٤٠٣

نقد الوجوه التي استدل بها على وجوب الفحص عن المخصص .............. ٤٠٨

الاستدلال بحكم العقل وبالآيات والروايات على وجوب الفحص ........... ٤٢٦

الخطابات الشفاهية ...................................................... ٤٣٠

تحرير محل النزاع ...................................................... ٤٣٠


تفصيل النائيني بين القضايا الخارجية وبين القضايا الحقيقية ................. ٤٣٤

ثمرة هذا البحث ....................................................... ٤٣٥

إيراد صاحب الكفاية على الثمرة ........................................ ٤٣٥

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ................................. ٤٤٣

تعارض المفهوم مع العموم ................................................ ٤٥١

تعقب الاستثناء لجمل متعددة ............................................. ٤٦٣

تخصيص الكتاب بخبر الواحد ............................................. ٤٦٩

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ...................................... ٤٧٦

الكلام في النسخ ........................................................ ٤٩١

الكلام في البداء ........................................................ ٤٩٦

المطلق والمقيّد

معنى المطلق والمقيّد لغة واصطلاحا ....................................... ٥١٠

أنحاء لحاظ الماهية ...................................................... ٥١٠

وضع اسم الجنس للماهية المهملة ........................................ ٥١٢

في أنّ الكلي الطبيعي هي الماهية المهملة ................................... ٥١٤

كلام المحقق النائيني في المقام ............................................. ٥١٤

الفرق بين علم الجنس واسم الجنس ...................................... ٥١٩

وضع المفرد المعرّف باللام .............................................. ٥٢٢

وضع الجمع المحلى باللام ................................................ ٥٢٦


وضع النكرة .......................................................... ٥٢٧

عدم استلزام التقييد للتجوز ............................................. ٥٢٩

مقدمات الحكمة ....................................................... ٥٣٠

معنى كون المتكلم في مقام البيان ......................................... ٥٣٤

إذا شك في كون المتكلم في مقام البيان ................................... ٥٣٥

هل المتيقن في مقام التخاطب مانع عن الاطلاق؟ .......................... ٥٣٧

هل التقييد يستلزم المجاز؟ ............................................... ٥٤١

مورد حمل المطلق على المقيد ............................................. ٥٤٢

حمل المطلق على المقيد في المستحبات ..................................... ٥٥٠

التنبيه على أمرين ...................................................... ٥٥٣

المجمل والمبيّن

معنى المجمل والمبيّن ..................................................... ٥٥٥

المجمل والمبيّن من الامور الواقعيّة ......................................... ٥٥٥

فهرس الموضوعات ...................................................... ٥٥٩

محاضرات في أصول الفقه - ٤٦

المؤلف:
الصفحات: 570