بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين

حجج الله على الخلق أجمعين

ولعنة الله على اعدائهم ابد الآبدين.


المطلب الثاني : إشتباه الواجب بغير الحرام

دوران الأمر بين المتباينين (١)

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وهو قسمان :

القسم الأوّل : الشك في الجزء الخارجي

١ ـ الشك في الجزئيّة لفقدان النص

٢ ـ الشك فيها لإجمال النص

٣ ـ الشك فيها لتعارض النصّين

٤ ـ الشك فيها لإشتباه الموضوع

القسم الثاني : الشك في الجزء الذهني ( القيد )

ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير

ـ الشك في المانعيّة

ـ الشك في القاطعيّة

تنبيهات الأقلّ والأكثر

التنبيه الأوّل : الشك في الرّكنيّة

__________________

(١) وقد مرّ البحث فيه بطوله وتفصيله في المجلد الرابع.


التنبيه الثاني : سقوط التكليف بالكل أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط

التنبيه الثالث : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة

التنبيه الرابع : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة أو بين الجزئية والزيادة المبطلة

المطلب الثالث : اشتباه الواجب بالحرام

ـ خاتمة فيها مقامان :

المقام الأوّل : ما يعتبر في العمل بالاحتياط

المقام الثاني : ما يعتبر في العمل بالبراءة ، وفيه مقامان :

الأوّل : في وجوب أصل الفحص

الثاني : في مقدار الفحص

ـ الفاضل التوني وشرطان آخران للبراءة

١ ـ ان لا يكون موجبا لثبوت حكم آخر

٢ ـ عدم تضرّر آخر

قاعدة لا ضرر


القسم الثاني

من اشتباه الواجب بغير الحرام

الأقلّ والأكثر



(١) قوله قدس‌سره : ( الثاني : فيما دار الأمر في الواجب بين الأقل والأكثر ) (١). ( ج ٢ / ٣١٥ )

__________________

(١) قال العلاّمة الجليل السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« أقول : وجه رجوعه إلى الشك في جزئيّة شيء ـ والحال انّ الشك بين الأقلّ والأكثر على قسمين : ارتباطي يرجع إلى الشك في جزئيّة شيء ، واستقلالي لا يرجع إلى ما ذكر ـ : أن المسألة من أقسام الشك في المكلّف به والأقلّ والأكثر الإستقلالي راجع إلى الشك في التكليف وهو العلم التفصيلي بالأقلّ وكون الشك في الأكثر بدويا فلا يدخل في المسألة.

ومن هنا يحتاج إلى تقييد عنوان المسألة بالأقلّ والأكثر الإرتباطي ليخرج الإستقلالي منه صريحا ، بل وكذا يحتاج إلى تقييد الشك في الشرطيّة والجزئيّة فيما نحن فيه بما يكون في عرض المأمور به وماهيّته لا في طوله ومقوّماته الخارجة عن ماهيته ، فيخرج من الشرط والجزء المشكوك ما يرجع إلى الشك في طريق الإطاعة كالشك في شرطيّة العلم التفصيلي بتعيين المأمور به وعدم كفاية العلم الإجمالي بتعيينه ؛ فإنه يرجع إلى الشك في طريق الإطاعة.

وكذلك الشك في كون الأمر توصّليا أم تعبّديا يعتبر فيه القربة ؛ فإنّه أيضا راجع إلى طريق الإطاعة ، وكذلك الشك في إشتراط نيّة الوجه في العبادات ؛ فإنه وإن كان من الشك في الشرطيّة إلاّ انّه مع ذلك خارج عن هذا النزاع لخروجه عن ماهيّة المأمور به ، وإنّما هو من مقوّماته الخارجة عنه ـ على تقدير اعتباره ـ هذا في تحرير محلّ النزاع.

وأما تأسيس الأصل للعمل في المسألة ففي كونه الإحتياط ؛ نظرا إلى قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل أو البراءة ؛ نظرا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وجهان : أوجههما الأخير ؛ نظرا إلى ورود قاعدة القبح على قاعدة لزوم دفع الضّرر لرفع قاعدة القبح موضوع لزوم الدفع وهو احتمال الضّرر ، فلم يبق بعدها شائبة المعارضة سواء فرضنا قاعدة القبح قاعدة عقليّة من مستقلاّت العقل كقبح الظلم ـ كما هو ظاهر الماتن ـ أم فرضناها قاعدة شرعيّة مأخوذة من


في دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر

أقول : قد عرفت ممّا أسمعناك سابقا ـ في بيان دوران الأمر بين المتباينين موضوعا ـ : الفرق بينه وبين دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وأن مرجع الدوران هناك ولو كان بين الأقل والأكثر إلى أقل بشرط لا ، والأكثر بشرط شيء كالقصر والتمام ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإن مرجع الدوران فيه إلى أقلّ لا بشرط والأكثر حتى فيما احتمل مانعيّة شيء للمأمور به ؛ فإن مرجعه إلى الشكّ في الشرطيّة بالنسبة إلى عدمه ، فلو كان الواجب هو الأمر الغير المربوط بعدمه كان لا بشرط بالنسبة إليه لا محالة ، ومن هنا أدرجه شيخنا قدس‌سره في أقسام المقام وتعرّض لحكم دوران الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة فيما سيأتي من كلامه.

__________________

أخبار البراءة الثابتة بعد ثبوت الشريعة ـ كما هو المختار ـ غاية الفرق : انه على تقدير كونها عقليّة تتوسّع دائرتها لما قبل الشريعة فلم يبق لوجوب شكر المنعم ووجوب النّظر في المعجزة دليل ، وعلى تقدير كونها شرعيّة تتضيّق دائرتها بالإختصاص بما بعد ورود الشريعة وثبوتها هذا كلّه في تأسيس الأصل العملي في المسألة.

وأما الكلام في الدليل ، فالدليل على البراءة في المسألة بعد تأسيس الأصل وقاعدة القبح بأحد وجهيه وجوه :

منها : الشهرة المنقولة ، بل المحصّلة ، بل الإجماع المنقول ، بل المحصّل بين القدماء والمتأخرين ممن عدى السبزواري وتابعيه على ما حكاه أستاذنا العلاّمة [ الفاضل الإيرواني ] من تتبّع كلماتهم ولكنّه على تقدير تسليمه دليل إقناعي لا إلزامي » إنتهى.

التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٩.


ثمّ إنّ موضوع البحث ومحلّه هو الأقلّ الأكثر الارتباطيّين ؛ فإنه من صور الشكّ في المكلّف به ودورانه وإن كان القائل بالبراءة قائلا برجوع الشكّ بالنسبة إلى الزائد والأكثر إلى الشكّ في التكليف كما ستقف عليه.

وأما الأقلّ والأكثر الاستقلاليّان فهو خارج عن محل البحث وموضوعه ؛ فإن وجود الأكثر على تقدير وجوبه ليس معتبرا في صحة الأقل وسقوط الأمر به ؛ فإنّ الأمر المعلّق بالأقلّ فيه نفسيّ استقلاليّ على كل تقدير ، فهو خارج عن موضوع الشكّ في المكلّف به وداخل في الشكّ في التكليف حقيقة من غير فرق بين تعلّق العلم التفصيلي أوّلا بالأقلّ والشكّ بالزائد ، وبين انحلال المعلوم إجمالا إلى معلوم تفصيليّ ومشكوك على ما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا عند التكلم في حكم الموضع الأوّل يعني الشك في التكليف.

فما في كلام بعض المتأخرين من إدراجه في المقام ليس ممّا ينبغي وإن كان المتراءى من الأكثر تبعا للشيخ قدس‌سره القول : بجريان قاعدة الاشتغال والتمسّك بها في بعض جزئيّاته وفروضه كدوران الفائتة بين الأقلّ والأكثر مع التزامهم به في سائر جزئيّاته وفروضه على ما عرفته من كلام شيخنا في الموضع الأوّل ؛ فإن مجرّد ذكر القاعدة اعتمادا أو تأييدا في بعض جزئيّات المسألة لا يوجب دخولها في الشكّ في المكلّف به كما هو واضح.

ثمّ إن الكثرة المحتمل اعتبارها قد تلاحظ بحسب الوجود الخارجي للمأمور به ، فيكون الأكثر المحتمل وجوبه زائدا بحسب الوجود الخارجي على الأقلّ فيكون الزائد من مقولة الكمّ ، ويعبّر عن هذا القسم بالشك في الجزئيّة.


وقد تلاحظ بحسب الوجود الذهني للمأمور به ، فيكون التركّب ذهنيّا مع اتحاد وجود المحتمل اعتباره في المأمور به معه في الخارج ، فيكون الزائد من مقولة الكيف ، فالمعتبر حقيقة هو تقييده لا نفسه ، ويعبّر عنه بالشكّ في الشرطيّة ويدخل فيه الشكّ في المانعة أيضا ؛ من حيث إن تقييد المأمور به بعدم المانع كتقييده بوجود الشرط ، فالشرط دائما من الحيثيّة المعتبرة في المأمور به خصوصيّة متحدة معه في الوجود من غير فرق بين ما يحتاج إلى إيجاد فعل في الخارج لتحصيلها في الغالب كالطّهارة ونحوها مما يعتبر في الصلاة ـ وهو المراد من الانتزاع في كلامه قدس‌سره ـ وبين غيره مما لا يحتاج في الغالب إليه ، وإن توهّم الفرق بينهما حكما بإلحاق الأوّل بالشكّ في الجزئيّة من حيث الرجوع إلى البراءة ، والثاني بالمتباينين من حيث الرجوع إلى قاعدة الاشتغال كما ستقف عليه من كلام شيخنا العلاّمة ، ومن هنا أفرده في التكلّم والبحث.

ثمّ إن الكلام في المسألة كسائر مسائل الباب قد يقع : في الشبهة الحكميّة الراجعة إلى عدم تبيّن القضيّة الشرعيّة إمّا من جهة عدم الدليل ، أو إجماله بالمعنى الأعمّ الذي عرفت المراد منه ، أو تعارض الدليلين. وقد يقع : في الشبهة الموضوعيّة فالمراد من النصّ في « الكتاب » هو الدليل لا خصوص الحديث ، أو قسم منه كما هو واضح.


القسم الأوّل :

الشك في الجزء الخارجي

(٢) قوله : ( والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٧ )

__________________

(١) قال الأصولي المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« عزّاه إلى المشهور أيضا المحقق القمّي رحمه‌الله في مبحث كون الفاظ العبادات أسامي للصحيح أو للأعم منه قال :

« وكيف كان : فالمتبع هو الدليل ولا ينبغي التوحّش مع الإنفراد إذا وافقنا الدليل ، كيف! وجلّ الأصحاب إن لم نقل كلّهم متفقون على عدم الفرق ، فمن يعمل بالأصل يعني أصالة البراءة لا يفرّق بين العبادات وغيرها » إنتهى.

وصرّح بالإتّفاق عليه قبله قال :

« فاعلم ان الظّاهر انه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادات كنفس الإحكام والمعاملات ، بل الظاهر انه لا خلاف فيه كما يظهر من كلمات الأوائل والأواخر ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء » إنتهى.

وحكى الفاضل الإصبهاني في حاشية المعالم عن بعضهم نسبة القول بالالفاظ إلى المشهور أيضا.

ولعلّ منشأ الشبهة في النسبة : إمّا عدم عنوان هذه المسألة في كلماتهم الأصوليّة ؛ لأنّه إنّما أحدث البحث عنها جماعة من المتأخرين ، ولذا قد اختلفت مذاهبهم فيها واختلفت النسبة


__________________

إليهم.

وإمّا لأنهم قد تمسّكوا بالبراءة في كثير من موارد هذه المسألة في أبواب الفقه ، فمن ادعى شهرة القول بالبراءة نظر إلى ظاهر كلماتهم في الفقه ، ومن ادعى شهرة القول بالإحتياط نظر إلى القاعدة لكون الشغل اليقيني بالواقع مقتضيا عندهم للبراءة اليقينيّة ، فزعم منه كون القول بالإحتياط مذهبا لهم في المقام ويحتمل أن يريدوا بالبراءة في موارد التمسّك بها إطلاق الأدلّة على القول بالأعم في ألفاظ العبادات بأن تسامحوا في التعبير بها عنه لموافقتها في المؤدى ، ومن هنا سرت الشبهة إلى صاحب الرّياض فزعم كون القول بالبراءة ملازما للقول بوضع الفاظ العبادات أسام للأعم قال في صلاة الجمعة عند بيان اشتراطها بوجود سلطان عادل :

« ليس هنا إلاّ الجمعة بهذا الشرط وباقي الشروط الآتية ، ونفيه بأصالة البراءة إنّما يتّجه على القول بكونها أسام للأعم من الصحيحة والفاسدة ، وأمّا على القول بأنها أسام للصحيحة خاصة كما هو الأقرب فلا » إنتهى. [ الرياض ج ٣ / ٣١٦ ط مؤسّسة آل البيت ].

وظنّي انّ هذه الشبهة إنّما نشأت مما ذكره الوحيد البهبهاني ثمرة للقولين في ألفاظ العبادات من جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط على القول بالأعم وعدمه على القول بالصحيح.

والحق عدم دلالة ما ذكره على الملازمة بين القول بالصحيح والرجوع إلى قاعدة الإشتغال وأن التمسّك بأصالة البراءة على القول بالأعم غلط فاحش.

أمّا الأوّل : فإن المقصود من ذكر هذه الثمرة بيان جواز التمسّك بالبراءة على القول بالأعم ؛


بيان حكم الأقلّ والأكثر والآراء فيه

أقول : ما استظهره قدس‌سره من ذهاب المشهور إلى البراءة بقول مطلق ـ بعد حمل تمسّك جمع من القدماء بقاعدة الاشتغال في بعض جزئيّات المسألة على التأييد لما دلّ على حكم مورد التمسّك كما ترى تمسّكهم بها فيما اتّفقوا على كون الأصل فيه البراءة كالشكّ في التكليف خصوصا الشبهة الوجوبيّة ـ في كمال الاستقامة ، وإن زعم بعض خلافه ، وذكر آخر كالمحقّق المحشيّ على « المعالم » :

__________________

نظرا إلى إطلاق الأدلة على هذا القول بالصحيح فحيث كان لازمه القول بإجماع الأدلة الذي يلزمه الرجوع في مواردها إلى مقتضى الأصول وكان المرجع عنده عند الشك في الأجزاء والشرائط هو الرجوع إلى قاعدة الإشتغال أطلق القول بالرّجوع إلى قاعدة الإحتياط على القول بالصحيح ، لا أن هذا لازم للقول بالصحيح فهو أعم من القول بالإحتياط وأما الثاني : فلعدم جريان الأصول العمليّة سواء كانت هي أصالة البراءة أو الإشتغال مع وجود دليل اجتهادى في مواردها طابقته أو خالفته في المؤدّى ، فعلى القول بكون الفاظ العبادات أسام للأعم يكون إطلاق أدلة العبادات حاكما أو واردا عليها ، وأمّا على القول بالصحيح ـ كما هو الصحيح ـ فيمكن القول بالبراءة كما هو المختار ويمكن القول بوجوب الإحتياط كما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن السبزواري.

وكيف كان : فالذي يقضي به المتتبع في فتاوي الفقهاء هو اشتهار القول بالبراءة في المقام كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦١.


أنه اختلف نقل الشهرة على طرفي المسألة واضطربت فيها كلماتهم.

وكيف كان : ما اختاره شيخنا هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، وإن ذهب جمع من أفاضل المتأخّرين ـ ممن قارب عصرنا ، أو عاصرناه (١) ـ إلى وجوب الاحتياط ، منهم : الأستاذ الشريف (٢) شيخ شيخنا ( قدّس الله سرّهما ).

وبالحريّ أن نتعرّض أوّلا لما اعتمدوا عليه على سبيل الإجمال والاختصار ، ثمّ نعقّبه بالكلام فيما أفاده قدس‌سره من دليل المختار.

وجوه الحكم بالإشتغال في الأقلّ والأكثر

فنقول : إنهم تمسّكوا على ذلك بوجوه :

أحدها : ما يظهر من غير واحد من حكم العقل بذلك ؛ من حيث إن الشغل اليقيني بالتكليف بالأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر يقتضي البراءة اليقينيّة وتحصيل العلم بفراغ الذمة عنه في حكم العقل على ما هو الأصل في جميع ما يكون من هذا القبيل ؛ ضرورة كون مبنى الأصل المذكور هو حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل

__________________

(١) كالمحقق السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٧٣ ـ والشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين : ٤٤٩ ط ق ، ج ٣ / ٥٦٩ ط جماعة المدرسين والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٥٢٨.

(٢) شريف العلماء المازندراني في ما قرّر عنه من بحوث في ضوابط الأصول : ٣٢٦.


من غير فرق بين الموارد ، ولا يحصل العلم بالفراغ من هذا التكليف النفسي إلاّ بإتيان الأكثر ؛ فإنه على تقدير وجوب الأكثر يكون فعل الأقلّ لغوا.

فلا يقال : إن القدر الثابت هو وجوب الأقل ، ووجوب الزائد مشكوك ، فالاشتغال اليقيني إنّما هو بالنسبة إليه ، وأمّا الأكثر فاشتغال الذمة بالنسبة إليه مشكوك فيرجع إلى البراءة كما يرجع إليها بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ؛ ضرورة منافاته لفرض الدوران في المقام ؛ فإن الثابت هو وجوب الأقلّ بالمعنى الأعمّ لا وجوبه بالوجوب النفسي وإلاّ لم يكن الواجب النفسي مردّدا بين الأمرين ولا يعلم حصول البراءة من الواجب النفسي بفعل الأقل ، ومنه يظهر : فساد قياس المقام بالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ؛ فإن الأقلّ فيه واجب نفسيّ من غير أن يكون له ارتباط بالأكثر أصلا.

ثانيها : استصحاب الاشتغال اليقيني بالطبيعة المردّدة بين الأقل والأكثر ؛ حيث إنه لا يعلم بكون فعل الأقلّ رافعا له فيحتمل بقاؤه.

قال المحقّق المحشي قدس‌سره في تقريب الاستصحاب : « إنه لا شكّ في اشتغال ذمّة المكلّف بتلك العبادة المعيّنة وحصول البراءة بفعل الأقلّ غير معلوم لاحتمال الاشتغال بالأكثر فيستصحب إلى أن تبيّن الفراغ » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ومثل الاستصحاب المذكور : استصحاب بقاء الوجوب والتكليف ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٥٦٥.


واستصحاب عدم حصول الواجب بعد الإتيان بالأقلّ وغيرهما ممّا يوهم جريانه في المتباينين.

ثالثها : ما دلّ بظاهره على وجوب الاحتياط المختصّ بالشكّ في المكلّف به ، بل المقام على وجه واحتمال ، وإن استفيد منه حكم غيره كالصحيحة الواردة في جزاء الصيد (١) وقد تقدم نقلها في « الكتاب » (٢) ، أو المحمول على الشكّ في المكلّف به بحيث يشمل المقام جمعا بينه وبين ما دل على البراءة وقد تقدّمت الطّائفتان في « الكتاب » أيضا.

رابعها : ما سلكه بعض من تأخّر وركن إليه : من أن الأحكام الشرعيّة لمّا كانت مبنيّة على المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال ومعلولة لها حقيقة ـ على ما استقرّ عليه رأي العدليّة من الإماميّة والمعتزلة ـ فالمطلوب الأوّلي في كل واجب في الحقيقة : هو تحصيل المصلحة الموجبة لوجوبه ؛ إذ هو المقصود بالطلب والعنوان في الواجب ، وإن كان الأمر معلّقا في الظاهر بنفس الفعل ، إلاّ أنّا نعلم من جهة انطباق العنوان المطلوب حقيقة عليه ، فالواجب هو تحصيل تلك المصلحة

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٤ / ٣٩١ ـ باب « القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون » ـ ح ١ ، والتهذيب : ج ٥ / ٤٦٦ و ٤٦٧ ـ باب « من الزيادات في فقه الحج » ـ ح ٢٧٧ ، والوسائل :

ج ١٣ / ٤٦ ـ باب : « انه إذا اشترك اثنان أو جماعة وهم محرمون ـ ولو رجالا ونساءا ـ في قتل صيد لزم كل واحد منهم فداء كامل » ـ ح ٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٦.


النفس الأمريّة أوّلا وبالذات ، ويكون الأمر بالفعل من حيث كونه وصلة إليه. وهذا معنى قولهم : إن الواجبات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ولو بالإجمال ؛ حيث إن العقل يحكم بلزوم ما أوجبه الشارع من حيث اشتماله على ما يجب تحصيله في حكم العقل.

وإن شئت تقرير الدليل على معنى آخر لقولهم فقل : إنه لا شكّ في كون العنوان في الواجب السّمعي الذي أوجب وجوبه كونه لطفا ومقرّبا إلى المستقلاّت العقليّة التي يحكم العقل بها تفصيلا مع قطع النظر عن الأحكام الشرعيّة السمعيّة كردّ الوديعة ونحوه ؛ من حيث إن إيجاب فعل الواجبات تكميل النفوس الموجب للتنزّه عن القبائح والمنكرات العقليّة كما يدل عليه قوله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) فالواجب أوّلا هو تحصيل اللطف فإذا لم يعلم تحصيل المصلحة أو اللطف بفعل الأقلّ ، فيجب في حكم العقل الإتيان بالأكثر من حيث كونه محصّلا يقينيّا لهما ؛ ضرورة لزوم تحصيل المأمور به على سبيل الجزم واليقين وعدم جواز الاكتفاء باحتمال حصوله ولم يخالف فيه أحد من العلماء والعقلاء وسيجيء الاعتراف به من شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في المسألة الرابعة (٢) ؛ فإن مرجع الدليل المذكور إلى رجوع الشبهة الحكميّة دائما إلى الشبهة

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٢.


الموضوعيّة بالاعتبار المذكور. وإن كان الفرق بينهما من جهة أخرى وهي : عدم تبيّن القضيّة الظاهريّة الشرعيّة في الأولى وتبيّنها في الثانية.

خامسها : ما سلكه بعض أفاضل مقاربي عصرنا أو عاصرناه في « فصوله » :

من أن دليل البراءة لا يثبت ماهيّة المأمور به ولا يبيّنها ولا يعيّن كونها الأقل ؛ نظرا إلى عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة ، مضافا إلى أن مفاده مجرّد نفي العقاب فيلزم للقول بالاحتياط من جهة استقلال العقل بلزوم تحصيل المأمور به على سبيل القطع واليقين ما لم يقم طريق ظاهريّ على تبيّنه. والفرق بين المقام وغيره ممّا علم فيه التكليف على سبيل الإجمال مع كون التكليف المتعلّق نفسيّا ـ كما في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ـ غير خفيّ على المتأمّل.

وما ذكرناه وإن كان ملخّص كلامه إلاّ أن الأولى نقله بألفاظه وطوله. قال قدس‌سره ـ بعد جملة كلام له في المسألة ونقل الخلاف فيها والإشارة إلى ما ذكره فيها عند البحث في الحقيقة الشرعيّة ـ ما هذا لفظه :

« ونقول : هنا توضيحا وتنقيحا : إنّ أصل البراءة وإن كان باعتبار عموم أدلّته قاضيا بنفي الوجوب الغيري عند الشكّ كالنفسي ، فيصحّ نفي وجوب الأجزاء والشرائط المشكوكة للتوصّل بها إلى فعل الكلّ وللشروط ، إلاّ أن المستفاد من أدلته : إنّما هو مجرّد نفي الحكم لا إثبات لوازمه العادية ككون الماهيّة المجعولة معرّاة عن اعتبار ذلك الجزء ، أو ذلك الشرط ، فلا يصلح دليلا على نفي الجزئيّة


والشرطيّة ليتعيّن به الماهيّة المخترعة كما هو الثمرة في الاستدلال بالأصل ، بل حينئذ قضيّة ثبوت الاشتغال بها وجوب الإتيان بهما تحصيلا لليقين بالبراءة. والفرق بين هذا الوجوب والوجوب الذي نفيناه أوّلا : هو الفرق بين وجوب مقدّمة الواجب ووجوب مقدّمة العلم به.

فاتّضح بما قرّرنا : أن لا ثمرة يترتّب على نفي الوجوب بالاعتبار الأوّل ، وحيث إن مرجع النزاع في جريان أصل البراءة في المقام وعدمه إلى جريانه فيه على وجه يترتب عليه الثمرة وعدمه ، فالمتّجه : هو القول بعدم جريانه مطلقا.

وأما وجوب الجزء في ضمن الكلّ فلا سبيل إلى نفيه بالأصل ؛ لأنه في معنى نفي وجوب أحد المركّبين مع أن نسبة الوجوب إلى كل واحد منهما سواء والفرق بين المقام وبين بقيّة موارد أصل البراءة حيث يجري فيها ولا يجري فيه : أن البراءة من القدر المتيقّن من الاشتغال هنا لا يحصل بإتيان القدر المتيقّن ، بخلاف بقيّة الموارد ؛ فإنّ البراءة بفعل ما ثبت الاشتغال به لا يناط بحصول غيره في غير المقام على تقدير الاشتغال به في الواقع بخلاف المقام ؛ فإن البراءة بفعل البعض منوطة بفعل الباقي على تقدير الاشتغال به فيتوقف العلم بها عليه ؛ إذ لا علم بمطلوبية القدر المعلوم مستقلاّ وإنما المعلوم مطلوبيّته في الجملة إما مستقلاّ أو منضمّا ، ولا سبيل إلى تعيين الأوّل بأصالة عدم تعلّق الوجوب التّبعي بالجزء ، أو الشرط المشكوك فيه ؛ لأن ذلك أصل مثبت ولا تعويل عليه عندنا.


ودعوى : أن التكليف لا يتعلّق إلاّ بالقدر المتيقّن ، وإلاّ لزم التكليف بالمجمل وهو محال.

ممنوعة ؛ لأن المجمل الذي لا يجوز تعلّق التكليف به هو المجمل الذي لا سبيل إلى امتثاله ، وظاهر أن المقام ليس منه.

وإلحاق الغائبين عن مجلس الخطاب بالحاضرين فيه في وجوب الاقتصار على ما ثبت لهم وبلغهم من البيان إنّما يتمّ إذا وصل إليهم خطاب دال بظاهره على حصر أجزاء الماهيّة وشرائطها في أمور معيّنة ، كما هو الغالب في حق الحاضرين كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (١). والكلام هنا مبنيّ على تقدير عدمه ؛ إذ المقصود إثبات حجّيّة أصل البراءة وأصل العدم في المقام دون ظاهر النصّ.

وأمّا إذا لم يدلّ الخطاب على الحصر كما لو ورد نص : بأن الركوع جزء للصّلاة ، ثم ورد نصّ : بأن السجود جزء ، وهكذا ... كان تمسّك الحاضرين بأصل البراءة وأصل العدم في نفي غير المذكور مثل تمسّك الغائبين بهما في كونه في محلّ المنع قد نبّهنا عليه سابقا ، وكذا الكلام في أصل العدم.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ١٩٧ ـ الفصل التاسع « في ذكر أحاديث تتضمّن شيئا من أبواب الفقه ذكرها بعض الأصحاب في بعض كتبه » ـ ح ٨ وج ٣ / ٨٥ ـ باب « الصلاة » في ضمن ـ ح ٧٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ / ٣٤٥ باب « من سها فترك ركنا عاد الى ما ترك حتى يأتي بالصلاة على الترتيب ».


نعم ، لا يبعد دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على أصالة عدم الزيادة المشكوك فيها في المقام لا باعتبار حجب العلم ، أو عدم العلم بالتكليف المشكوك فيه ـ ليتوجّه عليه : دعوى عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر تحصيلا ليقين البراءة كما في سائر أحكام التعليقيّة الظاهريّة ـ بل باعتبار دلالتها على نفي الجزئية والشرطيّة ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيته من حيث حجب العلم عنهما ظاهرا وواقعا.

إذ ليس في وجوبهما من باب المقدّمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على إثبات الجزئيّة والشرطيّة للواجب مطلقا ، فإذا ثبت بعموم الروايات المذكورة سقوط اعتبار جزئيّته أو شرطيّته في الظاهر حصل العلم بالبراءة بدونه في الظاهر فيسقط اعتبار كونه مقدّمة. وهل هذا إلاّ كسقوط اعتبار جزئيّة ما عدا الأركان في حقّ الناسي وشرطيّة بعض الشرائط كطهارة البدن واللباس بالنسبة إلى الجاهل؟ وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء الله تعالى » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ومرجعه كما ترى ، إلى الاستناد إلى قاعدة الاشتغال بعد منع جريان دليل البراءة بحيث ينفع في المقام.

وأمّا ما استدركه أخيرا بقوله : « نعم ... الى آخره » ونفي البعد عن دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على نفي الجزئيّة والشرطيّة المشكوكتين وبيان

__________________

(١) و (٢) الفصول الغرويّة : ٣٥٧.


ماهيّة المأمور به ، فقد ضعّفه في باب أصالة العدم : بأن الجزئيّة الشرطيّة من الأمور الاعتباريّة فلا يشملهما الأخبار ، وهذا وإن كان مخالفا لما بنى عليه الأمر في أول « كتابه » : من كون الأحكام الوضعيّة مجعولة ، إلاّ أنه رجوع عنه ، ويثبت بناؤه على الاحتياط في المقام.

هذه عمدة ما اعتمد عليه القائلون بالاحتياط في المسألة ولهم بعض وجوه أخر ضعيفة يأتي الإشارة إليها في مطاوي « الكتاب » وكلماتنا.

إشارة إلى ضعف الوجوه المزبورة

وأنت خبير بأن الوجوه المذكورة لا تصلح للاعتماد عليها في قبال دليل البراءة ، ولا بأس بالإشارة إلى بيان ضعفها على سبيل الإجمال وإن كان ما أفاده شيخنا في « الكتاب » كافيا في البيان.

أمّا الوجه الأوّل ، فيتوجّه عليه : بأن اقتضاء الاشتغال اليقيني تحصيل العلم بالبراءة والبراءة اليقينيّة في حكم العقل إنما هو من حيث حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل ـ على ما اعترف به المستدلّ في طيّ دليله ـ مضافا إلى وضوح ابتنائه عليه ، ونحن نحكم بمقتضى قاعدة قبح العقاب من غير بيان بعدم العقاب والضرر في ترك الواجب المسبّب عن ترك المشكوك ، أو في ترك الأكثر على تقدير وجوبه في نفس الأمر ، فالقاعدة واردة على قاعدة وجوب الدّفع على نحو ما عرفته في الشكّ في التكليف.


ودعوى ؛ عدم جريان القاعدة بالنسبة إلى الوجوب الغيري المشكوك ؛ من حيث إن العقاب على تقدير ثبوته على ترك الواجب النفسي لا الغيري كما حكي عن شيخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سرهما فاسدة.

مضافا إلى أن مقتضاها على تقدير التسليم منع جريان القاعدة بالنسبة إلى ترك الجزء المشكوك لا الأكثر ؛ فإنه لا يحتمل إلا الوجوب النفسي ويتمّ المدّعى ، كما لا يخفى : بأن ترك الواجب الغيري سبب وعلّة تامّة للعقاب ، وهذا المقدار يكفي في حكم العقل وإن كان المعاقب عليه ترك الواجب النفسي المسبّب عن تركه هذا. مضافا إلى أن ترك الجزء عين ترك الكلّ.

لا يقال : إن ورود القاعدة على قاعدة وجوب الدفع إنّما هو فيما لم يكن هناك بيان وانحصر الأمر في جعل حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل بيانا ، كما في موارد الشكّ في التكليف وليس المقام منه ؛ إذ المفروض ثبوت الاشتغال والعلم بالتكليف ووقوع الشكّ في المكلّف به ، فالبيان القاطع للعذر موجود متحقّق واصل إلى المكلّفين ، فكيف يقاس المقام بموارد الشكّ في أصل التكليف؟

فإن شئت قلت : إن العلم الإجمالي بالتكليف ـ كما ذكر في غير موضع من كلماتنا السّابقة وفي « الكتاب » ـ منجّز للتكليف ـ بالمعلوم إجمالا ومانع من الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى أطرافه ورافع لموضوعها وبيان للتكليف المتعلّق بالواقع المحتمل بالنسبة إلى جميع المحتملات ، فيصحّ إذن العقاب على ترك الأكثر


لو كان واجبا في نفس الأمر ، فكيف يرجع إلى البراءة بالنسبة إليه ويقاس بموارد الشكّ في التكليف؟

لأنّا نقول : ما ذكر : من كون العلم الإجمالي بيانا ، إنّما يسلّم في الجملة لا على إطلاقه ؛ فإنّ من شرائط كونه بيانا ومنجّزا للخطاب بالواقع المردّد عدم انحلال المعلوم بالإجمال إلى معلوم تفصيليّ ومشكوك بالشّكّ البدوي. ومن هنا حكمنا : بالبراءة وحكموا بها في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين مع وجود العلم الإجمالي.

ونقول : في المقام أيضا : بأن الحاصل من العلم الإجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي بالنسبة إلى وجوب الأكثر ، فلو عاقبنا الشارع على مخالفته كان قد عاقبنا مع عدم بيان بالنسبة إليه.

لا يقال : ما ذكر من الشرط أمر مسلّم لم يخالف فيه أحد من العقلاء والعلماء ، إلاّ أنا نقول : بتحقّق الشرط المذكور في محل البحث ؛ حيث إن المعلوم بالإجمال وهو : الواجب الشرعي النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر لم ينقلب ولم ينحل إلى المعلوم التفصيلي ، وإلاّ لم يبق شك بالنسبة إلى الزائد كما في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين. والفرق بينه وبين المقام واضح ؛ فإن المفروض هناك واجبان حقيقة : أحدهما معلوم والآخر مشكوك. وفي المقام واجب واحد فلو فرض العلم به تفصيلا في ضمن الأقلّ لزمه ما ذكرنا : من ارتفاع الشك ، وهو خلف. غاية ما في


المقام : حصول العلم من الدوران المذكور بوجوب الأقلّ بالوجوب القدر المشترك بين النفسي والغيري. وأين هذا من انحلال المعلوم بالإجمال وهو الواجب النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر؟

لأنّا نقول : ما سلّم أخيرا من حصول العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ من الدوران في المقام بالوجوب الجامع يكفي مانعا لتنجّز الخطاب الواقعي بالنسبة إلى الأكثر ؛ فإن التحريك العقلي تابع للعلم بالوجوب من غير فرق بين أن يكون غيريّا أو نفسيّا ، فالحكم لاحق لوجود الجامع بينهما من غير أن يكون للخصوصيّات مدخل فيه أصلا ، فلو رجع إلى البراءة بالنسبة إلى الأكثر لم يعارض بجريانها بالنسبة إلى الأقلّ.

وهذا هو الميزان والمدار في تنجّز الخطاب بالنسبة إلى موارد العلم الإجمالي وإن كان المختار عدم جريان الأصول فعلا في موارد تنجّز الخطاب بالعلم الإجمالي على ما أسمعناك في مطاوي كلماتنا السّابقة : من أنه المسلك الحقيق بالسلوك دون الحكم بجريان الأصول وتعارضها وتساقطها والرجوع إلى أصالة الاحتياط ، هذا كلّه.

مع أنّ في حكم الشرع بالبراءة بالنسبة إلى ما شكّ فيه من التكليف بمقتضى أخبارها المتقدّمة غنى وكفاية للحكم بعدم جريان قاعدة الاشتغال في المقام من غير حاجة إلى حكم العقل بها. فلو فرض توقف العقل عن الحكم بالبراءة في


المقام فليرجع إلى أخبارها. ومن هنا كان شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره جازما بالبراءة في المسألة مع تأمّله في حكم العقل بها في المقام كما صرّح به في « الكتاب ». هذا فيما لو قرّر دليل البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر ، ومنه يعلم كيفيّة تقريره بالنسبة إلى الوجوب الغيري للجزء المشكوك ، فلا يحتاج إلى بسط القول فيه.

وأمّا الوجه الثاني ، الذي سلكه من عرفت فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما أسمعناك مرارا : من عدم جريان استصحاب الاشتغال وما يطابقه واستصحاب البراءة وما يرجع إليه في مورد من الموارد ـ :

أوّلا : بأن الوجود العلمي للمستصحب إذا لم يكن مؤثّرا في إيجاب الأكثر على المكلّف ، فكيف يكون وجوده الاستصحابي التنزيلي مؤثّرا في إيجابه عليه؟

من غير فرق بين أن يجعل الاستصحاب المتوهّم جريانه من الاستصحاب التقديري كما في غالب فروض المسألة ، أو التنجيزي كما في بعض فروض : وهو ما لو كان الجزء المشكوك بحسب المحلّ آخر أجزاء المركّب.

لا يقال : عدم تأثير الوجود العلمي إنما هو من جهة دوران المعلوم بين الأقل والأكثر وبعد استصحابه يثبت كونه منطبقا على الأكثر ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه.

لأنا نقول : ـ مضافا إلى ابتناء ما ذكر على اعتبار الأصول المثبتة التي قد فرغنا عن إبطالها بناء على اعتبار الأصول من باب التعبّد والأخبار ـ : إن الوجود


الظاهري للشيء سواء كان من جهة الاستصحاب ، أو غيره فيما لم يكن من الأحكام الشرعيّة إنما ينفع بالنسبة إلى ما يترتّب على وجوده الواقعي النفس الأمري من الأحكام الشرعيّة وكون الواجب هو الأكثر أو الأقلّ ليس ممّا يترتّب عليه شرعا وجوب الإتيان بهما وإن الحاكم في هذه القضيّة العقل فتدبّر.

وثانيا : بأنّه إذا حكمنا بعدم وجوب الأكثر من جهة دليل البراءة عقلا ونقلا في مرحلة الظاهر فيرتفع الشكّ عن البقاء الموجب لجريان الاستصحاب بحكم الشارع ؛ لأن الشكّ فيه مسبّب عن احتمال وجوب الأكثر الذي فرض عدم الإتيان به والمفروض نفيه من أوّل الأمر بدليل البراءة ، فهي حاكمة في خصوص المقام على الاستصحاب وإن كان واردا عليها في وجه وحاكما عليها في وجه في غير المقام.

لا يقال : حكومة البراءة على الاستصحاب إنما يسلّم في المقام فيما لو بني على مساعدتها لإثبات كون الواجب هو الأقلّ وهي لا يساعد عليه بعد البناء على بطلان الأصول المثبتة.

لأنا نقول : حكومتها عليه مبنيّة على مساعدتها لنفي وجوب الأكثر في مرحلة الظاهر لا لإثبات كون الواجب هو الأقل كما هو ظاهر.

لا يقال : مفاد البراءة مجرّد نفي المؤاخذة على الواقع المشكوك فلا ينفي وجوب الأكثر حتى يكون حاكما على الاستصحاب.


لأنا نقول : نفي وجوبه في مرحلة الظاهر يكفي فيه نفي المؤاخذة عليه فتدبّر.

مضافا إلى كفاية ما دلّ من الأخبار على ثبوت الحكم الشرعي الظاهري في مورد الشكّ هذا بالنسبة إلى استصحاب الاشتغال. ومنه يعلم : ما يتوجّه على غيره من الاستصحابات المتوهّمة فلا يحتاج إلى بسط الكلام وطوله.

وأمّا الوجه الثالث ، فيتوجّه عليه :

بأن الصحيحة الواردة في جزاء الصيد ظاهرة في عدم جواز الحكم والفتوى بالنسبة إلى حكم الواقعة بحسب نفس الأمر مع عدم العلم به ، فمساقها مساق ما دلّ من الآيات والأخبار على النهي عن القول بغير العلم والعمل بالآراء ، فلا تعلق لها بمحل الكلام من حيث كون الحكم الظاهري وجوب الاحتياط أو البراءة ، ونحن نقول : بمقتضاها حتى فيما وقع الاتفاق فيه على البراءة كالشبهة الوجوبيّة من صور الشكّ في التكليف هذا.

مضافا إلى أن دلالتها على وجوب الإفتاء بالاحتياط مع الغضّ عمّا يتوجّه عليه : من عدم التزام المستدلّ به في موردها إذا كان من الأقل والأكثر الاستقلاليّين وفي سائر موارد شمولها على ما عرفت تفصيل القول فيه ـ عند الاستدلال بها في الموضع الأول ـ مقصورة على صورة التمكّن من استعلام حكم الواقعة وإرجائها إلى لقاء الحجّة ولو بالنسبة إلى مستقبل الأوقات ، ولا نضايق من


الحكم بالاحتياط فيها ، وأين هذا من محلّ البحث؟ هذا بالنسبة إلى الصحيحة.

وأمّا ما دلّ من الأخبار على التوقّف والاحتياط عموما فقد عرفت شرح القول فيما يستظهر منه وما يحمل عليه ، فلو فرض حمله على موارد الشكّ في المكلّف به فلا مناص من حمله على ما يجب الاحتياط فيه منها كالمتباينين من الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة فلا يشمل المقام ، فالجمع المذكور فاسد جدّا.

وأمّا الوجه الرابع : فيتوجّه عليه :

أوّلا : أنه ليس المراد من ابتناء الأحكام الشرعيّة على المصالح ـ حسبما اتفقت عليه كلمة العدليّة : من جهة استحالة الترجيح بلا مرجّح ، والإيجاب بلا موجب ، وامتناع كون الإرادة مرجّحة على ما زعمه الأشعري ـ كونها واجبا أوّليّا ومأمورا بها في الحقيقة بحيث يرجع الأمر المتعلّق بما اشتمل عليه إلى الأمر الغيريّ المقدّمي في الحقيقة ، فيدخل جميع صور دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشبهة المصداقيّة والموضوعيّة بهذه الملاحظة ، فلا متيقّن هناك أصلا ؛ لأن احتمال حصول العنوان المذكور والمصلحة المطلوبة بفعل الأقلّ كاحتمال حصولها بفعل الأكثر من غير فرق بين الأمرين ، فيدخل في المتباينين بهذه الملاحظة ، وإن كان فعل الأكثر في المقام من جهة اشتماله على الأقلّ لا بشرط محصّلا قطعيّا له.

بل المراد : كونها مما لاحظها الشارع في تشريع الأحكام من غير أن يجب


على المكلّف تحصيلها ، فهي علّة لفعل الشارع وتشريعه وإيجابه ، فالواجب الشرعي هو نفس الفعل ، والواجب العقلي الذي يحكم به قاطبة العقلاء : إطاعة حكم الشارع على وجه يدفع به الضرر والعقاب. وأمّا وجوب تحصيل منشأ وجوب الفعل من المصالح ، أو شيء آخر من الغايات فلا يحكم العقل به قطعا. نعم ، لا إشكال في حكمه بجنسه ، لكنه لا يجدي نفعا.

فإن قلت : سلّمنا عدم كون المصلحة واجبا أوّليّا ونفسيّا بحيث يرجع الأمر في جميع الواجبات إلى الأمر الغيري ، لكن لا كلام في كونها الغرض للشارع من تشريع الواجبات ، فيجب تحصيلها على المكلّف في حكم العقل والعقلاء ، ألا ترى إلزامهم المريض بتحصيل ما يحتمل مدخليّته في المركّب الذي أمره الطبيب بشربه مع علمه بعدم كونه ضارّا ومفسدا على تقدير عدم المدخليّة؟ وليس ذلك إلاّ من جهة احتمال عدم حصول الغرض من المركّب المأمور بشربه بدونه. والمقام من هذا القبيل لأن الشارع هو طبيب النفوس لا يأمر بشيء يرجع فائدته إليه ، بل أمره دائما يرجع إلى تداوي النفوس والفوائد الراجعة إليهم ، وإلاّ فهو غنيّ بالذات.

قلت : نمنع لزوم تحصيل الغرض الذي يكون من العلّة الغائية والفائدة المقصودة من تشريع الأحكام ؛ لأن الواجب في حكم العقل هو تحصيل البراءة عمّا أوجبه الشارع ليس إلاّ ، وأمّا قياس المقام بأمر الطبيب ففاسد جدّا ، لأن أمر الطبيب إرشاديّ صرف لا يتكلّم فيه من حيث الإطاعة والمعصية والثواب


والعقاب. ومن هنا لا يفرّق بين أمره وإخباره عن الدواء المركّب وإنها نافعة ، بل الأمر كذلك فيما لو تعلّق غرض المريض أو غيره بتحصيل عنوان من فعل مركّب يشكّ في مدخليّة بعض الأمور في حصوله مع علمه بعدم كونه ضارّا ؛ فإنّ ترك الاحتياط فيه نقض للغرض عند العقلاء ، وهذا بخلاف المقام الذي نتكلّم فيه من حيث المعصية الإطاعة وإن كان للأمر الشرعي المولوي جهة إرشادي أيضا ، لكنه ليس ممحّضا فيه كما تبيّن في محلّه.

فإن قلت : يجب على الشارع إيجاب الاحتياط في المقام ؛ إذ لولاه لزم نقض الغرض من تشريع الأحكام المبتنية على المصالح فتسليم الابتناء يلازم الالتزام بذلك فيتمّ المدّعى.

قلت : الابتناء المذكور وإن كان مقتضيا لذلك كما يكشف عنه حديث الرّفع بالبيان الذي عرفته في الموضع الأوّل عند التكلم في الحديث الشريف ، إلاّ أنه ليس علّة تامّة له فربما يكون هناك موانع ومصادمات لمقتضاه لا يعلم بها إلاّ علاّم الغيوب. ومن هنا كان بناء الشرع على رفع الأحكام الحرجيّة وتدريج بيان الأحكام. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعثت على السّمحة السّهلة » (١). ولولاه كان مقتضى ما ذكر وجوب الاحتياط حتّى في الشك في التكليف كما هو ظاهر.

__________________

(١) قريبا منه في البحار : ج ٣٠ / ٥٤٨ والموجود : « بعثت اليكم بالحنيفيّة السمحة السهلة البيضاء » نقلا عن مسند أحمد بن حنبل : ج ٥ / ٢٦٦.


وثانيا : سلمنا كون مقتضى الابتناء المذكور تعلّق التكليف الواقعي النفس الأمري بتحصيل المصلحة وإيجادها ، لكن نمنع من اقتضائه وجوب الاحتياط في المقام ؛ نظرا إلى كون المحصّل شرعيّا ، فيجب بيانه على الحكيم تعالى. فإذا كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر فيرجع إلى البراءة بالنسبة إلى الزائد ، وهذا نظير الأمر بالوضوء والغسل المحصّلين للطهور مع كونه شرطا للصّلاة إذا فرض الشكّ في جزئيّة شيء للوضوء مثلا ، فإنا نحكم فيه بالبراءة ولا نوجب الاحتياط. وهذا إن كان مخالفا لما أطلقه شيخنا قدس‌سره في المسألة الرابعة أو لما صرّح به ، إلاّ أنه الحق الذي لا محيص عنه وسيأتي له مزيد بيان في تلك المسألة.

وممّا ذكرنا كله يظهر : فساد التمسّك بما ذكره المتكلّمون : من كون الواجبات السمعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة لإيجاب الاحتياط في المقام ؛ نظرا إلى كون اللطف واجبا أوليّا حقيقة أو غرضا من تشريع الواجبات السمعيّة على نحو ما عرفت في تقريب الاستدلال بالابتناء المذكور هذا. وسيأتي بعض الكلام فيه ، مضافا إلي ما عرفته عند تكلم شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره عليه.

وأمّا الوجه الخامس الذي استند إليه الشيخ الفاضل في « الفصول » فمرجعه في الحقيقة إلى التمسّك بالوجه الأوّل مبنيّا على منع جريان دليل البراءة في المقام حقيقة ؛ من جهة عدم مساعدته لإثبات كون الماهيّة هي الأقلّ الذي هو مبنى عدم جريان قاعدة الاشتغال بزعمه ، وإن سلّم نهوضه لنفي الوجوب الغيري كنفي الوجوب النفسي المستقل.


فيتوجّه عليه : بأن ابتناء جريان القاعدة على عدم تعيين الماهيّة ومنعه على نفيها لم يعلم له مستند أصلا : إذ مجرّد نفي العقاب المحتمل في ترك الأكثر أو الزائد يكفي رافعا لموضوع القاعدة ، أعني : الضرر المحتمل. فلا شاهد لما أفاده أصلا ، بل الشاهد على خلافه.

ثمّ إن في ما أفاده بطوله أنظارا يطول المقام بذكرها ولعل المتأمل يقف عليها. هذا ما ساعد عليه المجال في ذكر ما هو العمدة من مستند القائل بالاحتياط والإشارة إلى ضعفه على سبيل الإجمال وسيجيء الإشارة إلى بعض وجوه أخر في « الكتاب » وضعفه وليكن في ذكر منك لعلّه ينفعك في الوقوف على حقيقة الحال ؛ فإن ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير المقام ؛ فإنه لا يخلو عن ثبوت الإجمال والله أعلم بحقيقة الحال.

(٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا العقل فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٨ )

__________________

(١) قال المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« مرّ غير مرّة منع حكم العقل بقبح العقاب إلاّ إذا علم عدم البيان واقعا من غير مانع عن البيان وكلا القيدين غير معلوم فيما نحن فيه ، فلا يكون موردا لحكم العقل بنفي العقاب بل نقول ـ بناء على مذهب العدليّة : من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ـ : انه يحكم العقل بوجوب الإحتياط حتى في الشبهات البدويّة الإستقلاليّة من باب وجوب دفع


__________________

الضرر المحتمل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٤.

* وقال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره الشريف :

« أقول : توضيح المقام بحيث يرتفع به غشاوة الأوهام ويتّضح به ملخّص مرام المصنّف رحمه‌الله هو أن الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : وهو الذي عقد له هذا الباب أنه عند دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر هل التارك للجزء المشكوك مع إتيانه بما عداه من الأجزاء يعدّ عاصيا في حكم العقل والعقلاء فيحسن عقابه كما في المتباينين أم لا؟

ثانيهما : إنّه بعد البناء على عدم استقلال العقل بحسن العقاب وعدم كونه عاصيا في حكم العقلاء بالنظر إلى ذلك التكليف من حيث هو هل العقل يحكم بوجوب الإحتياط في الأحكام الشرعيّة لإحراز مصلحتها الواقعيّة الملزمة الموجبة للأمر الشرعي أم لا؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل فنقول :

لا شبهة في انه اذا عزم العبد على إطاعة المولى وبذل جهده في تعيين موضوع أمره ولم يطّلع إلاّ على عدّة أجزاء واحتمل إرادته أجزاء أخر لم يصل إليه بيانها ، أو لم يتعرّض المولى لبيانها ولو لعجزه عن بيان تمام مراده وأتى العبد بجميع الأجزاء التي علم بوجوبها بعد فحصه وبحثه عن وجوب ما يحتمل وجوبه وعدم اطلاعه على ما يدلّ على وجوبه ليس للمولى أن يؤاخذه ويعاتبه ـ بقوله : لم عصيتني وخالفتني فيما أمرتك وتركت إطاعتي والإتيان بمرادي؟ ـ لأن عذر العبد معلوم مقبول عند العقلاء فيقبح من المولى مؤاخذته


__________________

خصوصا مع اعترافه بأنّي ما نصبت له عليه دلالة.

وأمّا الكلام في المقام الثاني فملخّصه :

إن العقل لا يلزم بايجاد فعل بلحاظ مصلحته إلاّ بعد العلم بأنّ فيه مصلحة ملزمة سواء علم بها تفصيلا أو إجمالا وهو فيما نحن فيه متعذّر ؛ إذ لا طريق للعقل إلى إحرازها ؛ لأن غاية ما يستقلّ به العقل وتقتضيه قواعد العدليّة هو أنّ أمر الشارع لا يكون إلاّ عن مصلحة في المأمور به عائدة إلى المكلّف ولو بلحاظ الأمر على الخلاف في المسألة إلاّ انه لم يعلم ترتّب تلك المصلحة على حصول ذات المأمور به كيف اتّفق ، أو توقّفها على حصوله بكيفيّة خاصّة كأن كان المكلّف جازما حين الفعل عارفا بكيفيّة الطلب وخصوصيّاته ولا ينافي ذلك ما قوّيناه من عدم اعتبار معرفة الوجه في الإطاعة ؛ لأنّ ما قوّيناه إنّما هو بالنظر إلى القواعد التي بأيدينا من كيفيّة الإطاعة بحكم العقل والعقلاء ولا إستحالة في أن يكون ما يترتّب عليه المصلحة كيفيّة خاصّة من الإطاعة لم يطلع عليها واختفى عنا بيان الشارع كما انه لا امتناع عقلا ولا عادة في أن يكون للمركّبات أجزاء أخر اختفى علينا تصوّرها أو الإذعان بجزئيّتها لفقد أدلتها أو معارضتها بما هو أرجح منها في نظرنا أو اقتضاء الإطلاقات والعمومات نفي وجوبها.

والحاصل : إن العلم الإجمالي الذي لا إحاطة للمكلف بأطرافه ولا يمكنه الإتيان بجميع الأطراف لا يصلح أن يكون منجّزا للتكليف فليس للعقل حكم إلزامي بوجوب ايجاد الواجبات الشرعيّة بلحاظ مصلحتها الواقعيّة ما لم يعلم بتلك المصالح تفصيلا وإنّما يحكم بوجوب إيجادها إطاعة لأمر الشارع وفرارا عن معصيته الموجبة لاستحقاق العقاب كما لا


__________________

يخفى.

هذا مع أنّ العلم إجمالا بأن الغرض من هذا التكليف حصول مصلحة عائدة إلى الأمر أو المأمور مغايرة لنفس ذلك الفعل من حيث هو لا يصلح أن يكون مؤثّرا في ايجاب الاحتياط بالنسبة إلى ما تعلّق به الغرض إلاّ اذا علم بتخلّفه عن المأمور به أحيانا وكون المكلف قادرا على تحصيله وإتيان المأمور به على وجه يترتّب عليه تلك الغاية المقصودة.

وأمّا اذا احتمل كونه من قبيل الخاصّيّات المترتّبة على هذا الفعل من حيث هو كما هو الغالب في الأوامر العرفيّة التي لا يعلم الأغراض المتعلّقة بها تفصيلا فلا ؛ إذ لا يعلم حينئذ بمغايرة الفعل الإختياري الصّالح لأن يتعلّق به التكليف مما له دخل في حصول ذلك الغرض لهذا الفعل الذي وقع في حيّز الطلب كي يثبت بذلك تكليف ، مثلا إذا كلّف المولى عبده بالرّواح إلى السوق وعلم العبد بأنّ نفس الرّواح من حيث هو ليس متعلّقا لغرضه وإنّما مقصوده تحصيل أمر آخر اختياري له ، إمّا لكونه من عند أفعاله الإختياريّة كشراء لحم ونحوه ، او غاية مترتّبة على فعله الإختياري كوقوع رؤية زيد عليه عند مروره من عند دكّانه بارزا ، فحينئذ يجب على العبد عند تردّد ذلك الغرض بين أمرين أو أمور مقدورة ، الإحتياط وتحصيل الجزم بحصول ما تعلّق به غرض المولى ، لا لأجل أنّ الإطاعة عقلا وعرفا اسم للإتيان بالمأمور به على وجه تعلّق به غرض المولى ، وذلك لان الإطاعة التي يستقل العقل بوجوبها ليس إلاّ ايجاد المأمور به بداعي الأمر لا غير ، وإنّما على المولى أن لا يأمر العبد إلاّ بما يطابق غرضه ، ولكن بعد أن علم العبد بالمخالفة وأنّ ما تعلّق به الغرض أمر مباين لهذا الفعل كشراء اللحم في المثال المزبور ، أو شيء لا يترتّب عليه إلاّ على بعض التقادير كوقوع


في بيان القول المختار ومستنده

أقول : لا يخفى عليك أن ما ذكره قدس‌سره من الوجهين في الاستدلال على المدّعى هو الذي ينبغي أن يذكر ويعتمد عليه على ما عرفت الإشارة إليه.

وأمّا سائر الوجوه التي استدلوا بها للقول المختار فستعرف عدم نهوضها لإثباته وعدم تماميتها.

__________________

رؤية زيد عليه فى المثال وجب عليه حينئذ تحصيل الجزم بحصول ذلك الغرض لكون علمه حينئذ طريقا عقليّا لتنجيز التكليف به وإن لم يكن هناك خطاب سمعي فضلا عمّا إذا كان خطابه قاصرا عن الوفاء بمراده ولكن هذا مع العلم بالتخلّف أو المباينة.

وأمّا إذا احتمل كونه من قبيل الخواص المترتّبة على نفس المأمور به كهضم الغذاء الذي هو من فوائد الرّواح إلى السوق في المثال المزبور ، فلا أثر لعلمه الإجمالي كما هو واضح.

وما نحن فيه كلّها من هذا القبيل ؛ لأن غاية ما اقتضته قواعده كون التكاليف السمعيّة ناشئة عن المصالح النفس الأمريّة لازمة التحصيل بنظر العقل على تقدير الإطلاع عليها ، فمن الجائز ـ إن لم نقل بانّه المتعيّن ـ كون تلك المصالح من قبيل الخاصّيّات المترتّبة على نفس هذه الأفعال التي تعلّق بها الطلب السمعي فلا يتنجّز التكليف حينئذ إلاّ بنفس هذه الأفعال ، فعند تردّدها بين الأقل والأكثر يتمشّى فيها الكلام المزبور : من أنّ مقتضى الأصل حينئذ ـ بالنسبة إلى الأكثر ـ هل هو البراءة أو قاعدة الشغل؟ كما لا يخفى على المتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٤٨ ـ ٢٤٥.


ثمّ إن ما ذكره من استقلال العقل في الحكم بقبح المؤاخذة في الفرض المذكور ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه يشهد به الوجدان ، وتقبيح العقلاء كافة من يعاتب عبده ويؤاخذه على ترك المركّب المسبّب عن ترك بعض أجزائه الذي لا يعلم العبد بوجوبه بعد الفحص التام بقدر وسعه عنه فيما نصبه المولى لمعرفة أحكامه ، وما حكم به العقل عند فقد الطريق المنصوب من قبل المولى سيّما بملاحظة الخصوصيّة التي ذكرها الأستاذ العلامة بقوله : « خصوصا مع اعتراف المولى بأني ما نصبت لك عليه دلالة » (١) فإن حكم العقل بقبح المؤاخذة في الفرض أوضح.

ودعوى : أن العقل إنما يقبح المؤاخذة على المولى فيما لم ينصب دلالة على الحكم أصلا ، لا فيما نصبها واختفت على العبد ، والكلام إنما هو في الثاني لا الأوّل.

فاسدة جدّا ؛ لأنه إذا قيل بكون العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة في نظر العقل في حكمه بوجوب الاحتياط وإن تردّد متعلّقه بين الأقل والأكثر لم يكن معنى للدعوى المذكورة أصلا.

ومن هنا نلتزم بوجوب الاحتياط فيما التزمنا بوجوبه من المتباينين حتى في صورة العلم بعدم نصب الدلالة عن المولى على بيان المكلّف به على ما عرفت

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣١٨.


تفصيل القول فيه سابقا ، غاية ما في الباب ، كون ترك النصب منه قبيحا لو فرض عدم المصلحة فيه ، لكنه لا يرفع قبح ترك الاحتياط من العبد وحسن مؤاخذته على الواقع المتروك ؛ إذ لا ملازمة بينهما أصلا ، ولا دخل لأحدهما بالآخر جزما ؛ إذ مورد أحد القبيحين فعل العبد من غير أن يكون له دخل بفعل المولى ، ومورد الآخر فعل المولى من غير أن يكون له دخل بفعل العبد.

والحاصل : أنّ هنا قاعدتين لا دخل لأحدهما بالأخرى ولا ارتباط بينهما أصلا ، أحدهما : وجوب اللطف والبيان على المولى. الثانية : وجوب الاحتياط وتحصيل الإطاعة القطعيّة العلميّة على العبد بعد العلم الإجمالي بإرادة المولى ، وإن لم يعلم المراد تفصيلا : بأن تردّد بين أمرين ، أو أمور متباينة ، أو الأقلّ والأكثر ، فالتوهّم المذكور فاسد جدّا.

فقد تبيّن مما ذكرنا كلّه : عدم الارتياب في حكم العقل بالبراءة في المقام بالنظر إلى قاعدة قبح العقاب من غير بيان سواء جعل مورده الوجوب النفسي المحتمل المتعلّق بالأكثر ، أو الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك بالنظر إلى ذاته من حيث توقف وجود الكل عليه ؛ من جهة كون تركه سببا لترك الكل ، أو عينه على ما عرفت الإشارة إليه سابقا ؛ لأن المعاقب عليه وإن كان ترك الكلّ إلاّ أن السبب له ترك الجزء الذي لم يبيّنه الشارع وهذا المقدار يكفي في جريان القاعدة وحكم العقل.


(٤) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إن بناء العقلاء ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣١٨ )

أقول : هذا السؤال إشارة إلى ما زعمه غير واحد وركن إليه في منع جريان قاعدة القبح في المقام وكون العقل مستقلاّ في الحكم بوجوب الاحتياط ؛ من جهة إلزامه دفع الضّرر المحتمل مستكشفا ذلك من بناء العقلاء على ذلك في الأوامر العرفيّة الصّادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد ، أو الأطبّاء بالنسبة إلى

المرضى ، فهو إيماء إلى ما عرفته في طيّ الاستدلال للقول بوجوب الاحتياط في المقام.

(٥) قوله : ( قلت : أمّا أوامر الطبيب فهي إرشاديّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٨ )

__________________

(١) قال الأصولي الجليل الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : بيان الفرق بينما كان الغرض من الأمر إطاعة العبد لمولاه وبينما كان الغرض منه حصول شيء آخر ، وكان المأمور به مقدمة لحصوله بأن كان الأمر به إرشادا للمكلّف إلى تحصيل هذا الشيء بل كان هو المأمور به في الحقيقة بدعوى تقبيح العقلاء لمؤاخذة المولى لو عاقب العبد لأجل ترك الجزء المشكوك فيه في المقام الأوّل وحيث كان طريق الإطاعة والمعصية موكولة إلى طريقة العقلاء في أوامرهم العرفيّة يثبت بذلك حصول الإطاعة بالإتيان بالأقل وإن كان المأمور به عند المولى هو الأكثر بخلاف ما لو كان الغرض من المأمور به تحصيل شيء آخر بحيث كان حصوله موقوفا على حصول جميع أجزاء المأمور به الواقعي ؛ لأن بناءهم على الإحتياط عند الشك في بعض أجزائه وشرائطه إنما هو من جهة كون نفي جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته منافيا للغرض المقصود من الأمر ، وأوامر الطبيب من هذا القبيل ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ولذا قلنا بوجوب الإحتياط عند الشك في بعض أجزاء الطهارات الثلاث أو شرائطها » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٢.


في إبداء الفرق بين أوامر المقام وأوامر الأطباء

أقول : ما أفاده في الجواب عن السؤال يرجع إلى إبداء الفرق بين المقام وبين أوامر الأطبّاء مع تسليم وجوب الاحتياط في الثاني : بأن أوامرهم إرشاديّة محضة لا يقصد منها إلا تحصيل ما هو الثابت في المأمور به من الخواص والفوائد. ومن المعلوم ضرورة لزوم الاحتياط فيما إذا تعلق الغرض بتحصيل عنوان من الفعل يشكّ في حصوله بترك بعض ما يعلم بعدم كون فعله مضرّا ولم يزل بناء العقلاء على الالتزام بفعله ، ولو لم يكن هناك أمر من أحد أصلا ، على ما عرفت الإشارة إليه ؛ لئلا يلزم نقض الغرض.

وهذا بخلاف المقام المفروض كون الأمر فيه مولويّا وإن كان له جهة إرشاد يتكلّم فيه ويبحث عنه : من حيث الإطاعة والمعصية ؛ فإن العقل مستقلّ في الحكم فيه بكفاية فعل الأقلّ في التخلّص عن تبعة العقاب وتحقّق الإطاعة التي لا واقعيّة لكيفيّتها وشؤونها إلاّ بملاحظة حكم العقل وإن لم يقطع بحصول الواجب الواقعي في ضمن ما يتحقّق به الإطاعة وهو فعل الأقلّ في مفروض البحث ؛ فإن هذا ليس شرطا في تحقق الإطاعة الموجب لاستحقاق الثواب ورفع العقاب.

إذ قد عرفت ـ من مطاوي كلماتنا السابقة في هذا الجزء وفي الجزء الأوّل من التعليقة غير مرّة ـ : أن الخطابات الواقعيّة والأحكام النفس الأمريّة ليس ممّا


يقتضي بأنفسها وجوب الإطاعة وحرمة المعصية بحيث يترتّبان على وجودها النفس الأمري ويكون لهما كنفس الأحكام ثبوت واقعيّ ونفس أمريّته (١) ، بل هما من الأحكام العقليّة الوجدانيّة يختلف مراتبهما في حكم العقل بحسب اختلاف الموارد والحالات : فقد يحكم العقل في مقام بلزوم تحصيل العلم والقطع ، ولا يكتفى بغيره في مقام الإطاعة. وقد يحكم في مقام بلزوم تحصيل مرتبة من الظّن ، ولا يكتفى بغيره في حصول الإطاعة. وقد يحكم بكفاية مطلق الظنّ ولا يكتفى بغيره. وقد يكتفى في مقام الإطاعة ببعض محتملات الواقع ، هذا بالنسبة إلى أوامر الطبيب.

وأمّا الأوامر الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم :

فإن كانت مولويّة فنلتزم فيها بما التزمنا بالنسبة إلى الأوامر الشرعيّة : من قبح المؤاخذة على ترك الواقع المسبّب عن ترك الجزء المشكوك للمركّب الذي تعلّق به الأمر المولوي ، ودعوى حكم العقلاء على خلافه مكابرة بيّنة واضحة.

وإن كانت إرشادية محضة فحالها حال أوامر الأطبّاء.

__________________

(١) كذا والظاهر : « نفس أمريّة » والصحيح : « نفس أمريّ ».


(٦) قوله قدس‌سره : ( نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أن المقصود منه ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣١٩ )

أقول : ما استدركه إشارة إلى تسليم وجوب الاحتياط بفعل ما شكّ في مدخليّته وجزئيّته ، وحسن المؤاخذة من المولى على تركه فيما يفرض الأمر المولوي المتعلّق بالمركّب المردّد بين الأقلّ والأكثر منبعثا عن عنوان يشكّ في حصوله بفعل الأقلّ بحيث يكون هو المأمور به الحقيقي حقيقة ويكون الأمر بالفعل

__________________

(١) أورد المحقق الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره ها هنا شطرا من تعليق الفقيه المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره السابق الذكر إلى قوله : « الموجبة لاستحقاق العقاب كما لا يخفى » ـ والتي أوردناها بكاملها قبل قليل ـ ثمّ علّق عليها قائلا :

« أقول : لا بد في طلب الشارع وأمره من وجود مصلحة إمّا في ( نفس ) الطلب كما في قضيّة إسماعيل ذبيح الله عليه‌السلام ؛ فإن المصلحة في أمر الخليل بالذبح كما يحصل للخليل والذبيح ( صلوات الله عليهما ) توطين النفس للإطاعة والإنقياد لأمر المولى الحقيقي ويحصل بذلك لهما مرتبة لم تكن لهما بدون ذلك وإن لم تكن مصلحة في نفس الذبح وإلاّ لم يمنع منه بعد ايجاد مقدّماته ويلوح من كلام الهمداني أن المصلحة في القسم الثاني أيضا في المأمور به إلاّ انه بلحاظ الأمر ، فإن أراد أنّ مصلحة الطلب توجد وتحصل مصلحة في المطلوب مع انه لم يكن فيه بوجه فذلك ضبط وإن أراد أن تعلّق الطلب به مع عدم المصلحة فيه باعتبار وجود المصلحة في الطلب فلا كلام فيه.

وبالجملة : لمّا كان همّنا عدم الوقوع في معرض استحقاق العقاب طويت الكلام في المقام الثاني حامدا » إنتهى. أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٢٧٣.


غيريّا أو غرضا من الأمر بالفعل من غير فرق بين كون العنوان المذكور معلوما بالتفصيل ، أو مجهولا ؛ فإن تحصيل العلم بحصول العنوان المذكور لازم عند العقلاء في الصورتين ، وإن كان حكمهم به في الصورة الأولى أظهر وأوضح من حكمهم به في الصورة الثانية هذا. ولكنّك عرفت ما يتوجّه على ما أفاده في طيّ الجواب عن وجوه القول بالاحتياط ، وستمرّ الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

(٧) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إن الأوامر الشرعيّة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣١٩ )

أقول : لمّا سلّم قدس‌سره وجوب الاحتياط فيما كان من الأمر المولوي العرفي المتعلّق بالمركّب قصد به عنوان ووجه يكون هو المكلّف به حقيقة ، أو غرضا للأمر به ، فقد تفطّن ورود سؤال على نفسه فيما بني الأمر عليه : من عدم وجوب الاحتياط في محل البحث من الشرعيّات. وقد عرفت : أنه من وجوه القائلين بالاحتياط في المقام.

ونقول توضيحا لما أفاده : أن من المسلّمات عند العدليّة : كون الأحكام الشرعيّة بأسرها مبنيّة على جهات الأفعال أو الأحكام ـ كما زعمه بعض ـ من المصالح والمفاسد وإن لم يعلم بها تفصيلا وبحقائقها. ومن هنا حكموا في مسألة الملازمة بثبوت التلازم من الطرفين ، وإنه كما يكون حكم العقل دليلا على حكم الشرع وكاشفا عنه يكون حكم الشرع أيضا كاشفا عن حكم العقل ولو كان بين


الكشفين فرق من حيث الإجمال والتفصيل.

فالمصلحة : إمّا من قبيل العنوان والوجه للمأمور به كالطّهور المطلوب حقيقة من الأمر بإزالة الخبث ، والحدث بالوضوء والغسل الرافعين ، أو الغرض من الأمر به ، فلا بدّ إذن من الالتزام بوجوب الاحتياط في المقام وأمثاله ، ممّا يشكّ في حصول المصلحة بفعل بعض محتملات الواجب على ما وقع الاعتراف به سابقا.

والحاصل : أن الأوامر الشرعيّة بأسرها على قسمين :

أحدهما : ما يكون إرشاديّة محضة كأوامر الإطاعة والتوبة ـ على ما يقتضيه التحقيق ـ والإشهاد عند المعاملة ونحوها.

ثانيهما : ما يكون له جهتان : جهة مولويّة ، وجهة إرشادية إلى ما هو المكنون في المأمور به من المصلحة كأكثر الأوامر الواردة في الشريعة ، خلافا لبعض المدقّقين فيما حكي عنه في تعليقه على « المعالم » ؛ حيث ذهب إلى كون الأوامر الشرعيّة بأسرها إرشاديّة محضة ، في قبال الأشعري القائل بكونها مولويّة محضة. ولآخر ؛ حيث اكتفى بوجود المصلحة في الأمر. وليس لهما قسم ثالث عند العدليّة. فإذن لا بدّ من الالتزام بوجوب الاحتياط في الشكّ في المكلّف به مطلقا بناء على الاستدراك المذكور. هذا حاصل ما أفاده في تقريب السؤال.


وأما ما أفاده بقوله قدس‌سره : ( وبتقرير آخر (١) : المشهور بين العدليّة : أن الواجبات

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« هذا تقرير للسؤال على طرز آخر لا يبتني على قول الإماميّة والمعتزلة بكون الأحكام الشرعيّة ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنة ، وقد سمعت من بعض مشايخي في تقريره :

أن شكر المنعم وإطاعته سبحانه وتعظيمه واجب بحكم العقل والمحصّل لهذه العناوين هي الواجبات الشرعيّة فهي لطف فيها بمعنى كونها مقرّبة للعبد إليها لأجل كونها مقدّمة لحصولها ، بل هذه العناوين قائمة بها فهي المأمور به في الحقيقة ، والأفعال المحصّلة لها مقدّمة لها ، أو هي أغراض مقصودة منها.

وفيه نظر ، يظهر وجهه بالتأمّل فيما حكي عن المحقق الثاني في جامعه عند بيان نيّة وجه الوجوب والندب في الوضوء قال :

« المراد بوجه الوجوب والندب السبب الباعث على ايجاب الواجب وندب المندوب فهو على ما قرّره جمهور العدليين من الإماميّة والمعتزلة : « أن السمعيّات ألطاف في العقليّات » ومعناه : أن الواجب السمعي مقرّب من الواجب العقلي أي : إمتثاله باعث على إمتثاله ؛ فإن من امتثل الواجبات السمعيّة كان أقرب إلى امتثال الواجبات العقليّة من غيره ، ولا معنى للطف إلاّ ما يكون المكلّف معه أقرب إلى الطاعة ، وكذا الندب السمعي مقرّب من الندب العقلي أو مؤكّد لإمتثال الواجب العقلي فهو زيادة في اللطف والزيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا ولا نعني أن اللطف في العقليّات منحصر في السمعيّات ؛ فإن النبوّة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد ، بل جميع الآلام تصلح للألطاف فيها وإنّما هي نوع من الألطاف » إنتهى.


الشرعيّة ... إلى آخر ما أفاده ) (١) فليس معناه عند التحقيق : كون الواجبات السّمعيّة منطبقة على الواجبات العقليّة بحيث يحكم العقل بها تفصيلا على تقدير علمه بجهات الأحكام وكاشفة عنها بهذه الملاحظة على وجه الإجمال ، بل كونها مقرّبة إلى الواجبات العقليّة التي استقل العقل بها مع قطع النظر عن الشارع كردّ الوديعة ونحوه ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٢) وإن كان تقريبها إليها من جهة اشتمالها على ما يوجب كمال النفس والتشبّه بالروحانيّين فلعلّه قدس‌سره لاحظ الجهة المذكورة فتأمل.

وكيف كان : الظاهر من القضيّة المذكورة في كلمات المتكلّمين ما ذكرنا ، كما صرّح به قدس‌سره في مجلس البحث.

(٨) قوله قدس‌سره : ( قلت : أوّلا : إن مسألة البراءة والاحتياط ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٢ / ٣١٩ )

__________________

وعلى كل تقدير فمبنى التقرير الأوّل على كون الغرض من الأوامر تحصيل المصالح الكامنة ، ومبنى الثاني على كون الغرض منها كون العبد قريبا من امتثال الواجبات العقليّة » إنتهى. انظر أوثق الوسائل : ٣٦٢.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣١٩.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

(٣) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :


__________________

« ما ذكره أوّلا : إشارة إلى ما نبّهنا عليه آنفا : من أن الكلام في هذا المقام إنّما هو في بيان ما يقتضيه الأصل في مقام الخروج عن عهدة التكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر من البراءة والإحتياط.

وأمّا أنّ الصلاة التي يشك في جزئيّة السورة لها مثلا هل هي من جزئيات هذه المسألة أو أنّها مقدّمة لواجب عقلي يجب تحصيله لقاعدة الملازمة؟

فهو أجنبي عن ذلك ؛ إذ بعد تسليم المقدّميّة ننقل الكلام في ذلك الواجب فنقول : إن علم عنوانه تفصيلا فقد وجب الإتيان بذلك المعلوم ، وإن تردّد بين أمور متباينة وجب الإتيان بمحتملاته ، وإن تردّد بين الأقلّ والأكثر اندرج في موضوع هذه المسألة فلاحظ وتأمّل ».

إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٤٨.

* قال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« أقول : لا يخفى أنّ كلاّ من جوابيه المذكورين لا يتمّ إلاّ على بعض الأقوال الضعيفة التي لا يقول بها المجيب هو أيضا.

والعجب كلّ العجب من المصنّف في المقام كيف اقتصر في جواب المعترض عليه بجوابين لا يتم شيء منهما على المذهب المشهور ولا على مذهبه هو أيضا.

أمّا جوابه الأوّل : فلإبتناءه على ما صرّح به من مذهب الأشاعرة دون العدليّة أو على مذهب الفصول وهو بشيء منهما لا يقول.

وأمّا جوابه الثاني : فلإبتناءه أيضا على القول باعتبار نيّة الوجه في العبادات الذي لا يقول به هو أيضا.


__________________

والصواب في الجواب هو :

أن يجاب عن ذلك الإعتراض :

أوّلا ـ على وجه المعارضة والإجمال ـ : بأنّ استتباع الأوامر الشرعيّة للمصالح النفس الأمريّة لو كان مقتضيا للإحتياط لانسدّ باب العمل بما عداه من سائر الأصول العمليّة حتى في مورد الشك في التكليف ودوران الأمر بين الأقل والأكثر الإستقلالي بل وفي الشبهات الموضوعيّة من الشك في التكليف والحال ان اللازم باطل بالإتفاق والوفاق فالملزوم مثله.

وثانيا ـ على وجه التفصيل والحلّ ـ بأن أمر الشارع وترخيصه الرجوع إلى البراءة في مشكوكات الوجوب من الأجزاء والشروط كاشفة وحاكية :

إمّا عن عدم استتباع الأوامر الشرعيّة للخواص والمصالح كما هو مذهب الأشاعرة وإن كان باطلا عندنا.

وإمّا عن كون المصلحة والخاصّيّة قد تكون في الأمر دون المأمور به كما هو مذهب الفصول [ ص ١١١ ] وغيره من بعض الفحول مستشهدا له بالأوامر الإمتحانيّة والإبتدائيّة.

وإمّا عن كون المصلحة والخاصّيّة في المأمور به ليست بذاتيّة لا يتخلّف ، بل هي قابلة للإختلاف بالوجوه والإعتبارات التي من جملتها جهل المأمور وعلمه كما هو المشهور والمنصور ، وعلى ذلك فتتبدّل المصلحة والخاصّيّة الكائنة الكامنة في تمام الأجزاء بالنسبة إلى العالم بها بمصلحة وخاصّيّة أخرى في ناقص الأجزاء بالنسبة إلى الجاهل بما عداها مثل المصلحة والخاصّيّة الأولى الكامنة في تمام الأجزاء.

وإمّا كاشفه عن كون المصلحة والخاصّيّة الكائنة الكامنة في المأمور به ممّا لا يتغيّر بنقصانها


أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأن ابتناء الكلام في المسألة على مذهب الأشعري ـ مضافا إلى ما فيه ـ لا يجامع التمسّك للقول بالبراءة في مفروض البحث بقاعدة قبح العقاب من غير بيان عقلا. نعم ، التمسّك بالدليل العقلي ممّا لا غبار فيه على مذهبهم.

نعم ، ما أفاده يستقيم على ما ذهب إليه بعض المتأخرين ممن قال بوجوب الاحتياط في المقام ، إلاّ أنه بنى المسألة على جريان قاعدة الاشتغال من غير التفات إلى ما ذكر من الوجه.

(٩) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أن نفس الفعل ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٠ )

__________________

عن الجزء المشكوك بالنسبة إلى الجاهل كخواصّ بعض المعاجين غير المتغيّرة بنقصان بعض أجزاءها.

وإمّا كاشفه عن كون الفائت من المصلحة والخاصّيّة بواسطة العمل بالبراءة عن الجزء المشكوك في عهدة الآمر المرخّص للعمل بالبراءة فيتدارك ويتلافى ما يفوت من مصلحة المأمور به بواسطة العمل بما جعله أصلا ومرجعا للجاهل كما هو لازم كلّ حكيم يجعل لكيفيّة الوصول إلى أمره سبيلا من عنده فإنّ ما يفوت من مصلحة أمره بسلوك السبيل المجعول له إنّما هو في عهدته وهو الضامن لتداركه وتلافيه » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢١.

(١) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : قد تبيّن شرحه مفصّلا فراجع وتأمّل فيما حرّرناه حتى يرتفع عن ذهنك ما تراه في


__________________

عبارة الكتاب من التشويش والإضطراب! » إنتهى. حاشية فرائد الأصول : ٢٤٩.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان ما أفاده قدس‌سره من الجوابين لا يجدي مثله ممن كان بناءه على ابتناء الأحكام على المصالح والمفاسد في الأشياء وعدم اعتباره قصد الوجه في حصول الإطاعة ، مع ان احتمال عدم اعتباره في حصول الغرض كاف في استقلال العقل على تقدير تنجّز الأمر بلزوم الإتيان بجميع ما يحتمل مدخليّته في حصول غرضه وعدم التخلّص من تبعة مخالفته إلاّ بذلك ؛ حيث إن الإطاعة التي تكون واجبة وموجبة للتخلّص عنه عبارة عن إمتثال الأمر على نحو يحصل أيضا ما هو الغرض وهو نفس المأمور به ، وليس لتحصيل الغرض منه او تفويته مقام ، ولا طاعته أو معصيته مقام آخر تنجّز بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر ، بل ليس في البين إلا مقام واحد وهو لزوم الإمتثال على نحو لو كان هناك غرض لحصل وسقط ، فالأمر مع احتمال عدم التمكّن من امتثاله كذلك إن كان منجّزا فلا محيص عن الإتيان بجميع ما فيه احتمال المدخليّة مما شك في اعتباره جزءا أو شرطا وإلاّ فلا وجه للإتيان بما علم اعتباره.

هذا كلّه مضافا إلى ان هذا الجواب لو تمّ لما عمّ ما هو بصدده حسبما اعترف رحمه‌الله فيما علّقه على الهامش من اختصاص هذا الجواب بالأوامر التعبّديّة فلاحظ وتدبّر جيّدا » إنتهى. درر الفوائد : ٢٥٢.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« فيه أوّلا : أنه أخصّ من المدّعى ؛ إذ لا ينحصر الأقلّ والأكثر الإرتباطي في العبادات فلا يتم


__________________

في الواجب التوصّلي.

وثانيا : لا يتم الجواب بناء على عدم اعتبار قصد الوجه كما هو مذهب المصنّف وجلّ المتأخرين بل كلّهم.

فإن قلت : إنهم لم يعتبروا قصد الوجه ؛ لعدم الدليل عليه ولم ينفوا إحتماله ، واحتماله كاف فيما أراده من عدم إمكان الإحتياط والعلم بحصول اللطف.

قلت : إنّا نعلم بعدم اعتبار الوجه وإلاّ لشاع وذاع في الأخبار والآثار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ولا إشارة إليه في خبر أو آية في عبادة من العبادات على كثرتها وكثرة الإبتلاء بها في جميع الأعصار ويبعد كلّ العبد عدم تعرّضهم عليهم‌السلام لهذا الواجب الكذائي لو كان واجبا بحيث يلحق بالمحال العادي.

وثالثا : لا شك انه بناء على اعتبار قصد الوجه التفصيلي لا يسقط الواجب بالمرّة عند تعذّره ، بل تبقى بقيّة الأجزاء على الوجوب وحينئذ نقول ـ بناء على القول بتبعيّة الأوامر للمصالح في نفس المأمور به ـ لا بد أن يكون في بقيّة الأجزاء في هذا الحال مصلحة اقتضت وجوبها وإلاّ سقط الوجوب عنها بالمرّة ، وهو خلاف الفرض ، وتلك المصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور به وإمّا من قبيل الغرض ، ويلزمه وجوب الإحتياط بالنسبة إلى الجزء المشكوك كما قرّر في السؤال ، وهكذا يقرّر في كلّ جزء من المركّب عند تعذّره ، فتجب بقيّة الأجزاء ولو بدليل قاعدة الميسور ، فلا بد أن تكون مشتملة على مصلحة في هذه الرّتبة ويلزم إحرازها بالإحتياط ؛ لكونها عنوانا للمأمور به أو غرضا منه.

اللهم إلاّ أن يقال : انّ القدر المسلّم تبعيّة الأحكام الأوّليّة للمصالح في المأمور به دون


__________________

الواجبات البدليّة ؛ فإنّ وجوب بقيّة الأجزاء من باب البدل عن الواقع وإلى هذا المعنى يشير في آخر كلامه بقوله : ( فلم يبق عليه إلاّ التخلّص من تبعة مخالفة الأمر ... إلى آخره ).

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ دليل دوران الأحكام مدار حسن المأمور به لو تمّ عمّ ، ولا فرق في حكم العقل في الواجب الأصلي الأوّلي والبدل.

ورابعا : سلّمنا أنّ المشتمل على المصلحة هو الواجب الأصلي لكن يحتمل عدم اعتبار قصد الوجه التفصيلي في المأمور به كما يحتمل اعتباره فيكون صاحب المصلحة نفس الأجزاء فيجب في حكم العقل إحرازها بالإحتياط بالنسبة إلى الأجزاء المشكوكة بناء على التحقيق : من وجوب إقدام المكلّف على امتثال الأمر بالإشتغال بالمأمور به ومقدّماته وما يحتمل أن يكون هو المأمور به إلى أن يعلم بعجزه وتعذّره ، ولا يشترط العلم بقدرته على إتيان المأمور به على وجهه فيبقى أصل الإشكال بحاله.

والتحقيق في جوابه أن يقال :

لو سلّمنا دوران الأحكام مدار حسن المأمور به وأن عنوان المأمور به أو الغرض منه هو نفس المصلحة الواقعيّة لم يقتض ذلك أيضا وجوب الإحتياط بالنسبة إلى أجزاء المركّب الذي يحصل به تلك المصلحة إذا كان هذا المحصّل أمرا تعبّديّا كما فيما نحن فيه ، بل يحكم العقل بالبراءة عن الجزء المشكوك فيه بقبح العقاب بلا بيان ، ولا فرق في حكم العقل بالبراءة بين كون المشكوك جزء نفس الواجب أو جزء ما يحصل به عنوان الواجب ويحقّقه بعد اشتراكهما في أنّ بيان تلك الأجزاء وظيفة الشارع.

نعم ، لو لم يكن بيان المحصّل والمحقّق وظيفة الشارع بأن كان من الأمور العقليّة والعرفيّة


أقول : حاصل ما أفاده ثانيا : هو أن للأمر الشرعي جهتين : جهة ابتنائه على المصلحة وكون الواجب لطفا في غيره على مذهب العدليّة وهي الجهة الإرشاديّة في الأوامر ، وجهة المولويّة المستتبعة لوجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

ولمّا تعذّر تحصيل القطع بالجهة الأولى في المقام : من جهة احتمال اعتبار قصد الوجه في حصول الإطاعة المعتبرة في تحقّق المصلحة اتفاقا من حيث كون الفعل عبادة لا يترتّب عليه أثر بدون الامتثال ؛ فإنّ من صرّح من العدليّة : بكون الواجبات السمعيّة ألطافا في الواجبات العقليّة التزم باعتبار قصد الوجه ، أو معرفته في حصول الإطاعة ، والمفروض عدم إمكانهما من جهة تردّد الواجب بالفرض ، ولم يقتض الجهة الثانية إلاّ التخلّص عن تبعة العقاب والتضرّر بحكم العقل وهو يأمن المكلّف من العقاب بالنظر إلى قاعدة القبح ، فيحكم بالبراءة والاكتفاء بفعل الأقلّ هذا حاصله.

__________________

إقتضى وجوب الإحتياط ، وليس فليس » إنتهى. حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٦.

* أقول : وأنظر تعليقة صاحب قلائد الفرائد في المقام المرقّمة برقم ٣٤١ من المجلّد الأوّل من قلائده : ٥٣٢ ـ ٥٤٠.


مناقشة ما أفاده المصنّف قدس‌سره

وقد يناقش فيه : أوّلا : بأن النزاع والبحث في المقام يجري في التوصّليّات أيضا كالتعبّديّات لا في البحث عن حكم مطلق الواجب المردّد ، غاية الأمر : وقوع التمثيل في كلماتهم بالتعبّديات ، وهو لا يكون مختصّا كما هو ظاهر.

وما أفاده لا يجري في التوصّليّات قطعا ؛ لعدم اعتبار حصول الإطاعة في ترتب المصلحة الموجبة لوجوبها وإن اعتبر في استحقاق الثواب عليها لفرض كونها توصّليّة لا يعتبر فيها قصد القربة ، فضلا عن قصد الوجه. وتتميم المدّعى فيها بعدم القول بالفصل وإجماع المركّب مع كونه معارضا بالمثل مما لا معنى له أصلا كما لا يخفى.

ودعوى : أن الواجب العقلي في جميع الواجبات الإطاعة ، إلاّ أنه في التوصّلي يرتفع موضوع الأمر إذا أتى به بغير قصد الطاعة ، كما أن الأمر كذلك في بعض الموارد في التعبّدي أيضا ، لا ينفع فيما هو المقصود بالمقام على تقدير تسليمها كما لا يخفى.

وثانيا : بأن بناء جماعة وإن كان على اعتبار قصد الوجه في صحة العبادة إلاّ أنه يخالف ما بنى قدس‌سره عليه الأمر وفاقا للمحقّقين : من عدم اعتباره ـ على


ما أسمعناك وأسمعك في الجزء الأول من « الكتاب » ـ حتى مع العلم التفصيلي بالوجه.

ودعوى : كون ما أفاده من باب الإلزام على الخصم ، فاسدة ؛ فإنّه إنّما يتمّ فيما لو كان الخصم ممن يذهب إلى اعتبار قصد الوجه وليس الأمر كذلك ؛ إذ كثيرا ممّن التزم بوجوب الاحتياط في المقام رأيناهم لا يلتزمون باعتباره فراجع إلى كلماتهم.

وثالثا : بأنه لا يتمّ حتى على مذهب القائلين باعتبار قصد الوجه ؛ ضرورة كون اعتباره عندهم مشروطا بالتمكّن من تحصيل الوجه ولو ظنّا ، وسقوطه في ظاهر كلماتهم بل مقطوعها في صورة عدم التمكّن ؛ لأن أحدا لم يذهب إلى إنكار حسن الاحتياط في المقام ، بل صريحها الإطباق على ذلك. فكيف ذلك عن الشرط المذكور؟

والقول بإمكان قصد الوجه في المقام إجمالا أو تفصيلا ـ ولو كان هو الوجه الظاهري على كلا القولين والمذهبين في المقام مضافا إلى ما فيه ـ هدم لما أفاده من الجواب كما لا يخفى.

ورابعا : بأن احتمال اعتبار قصد الوجه في مفروض البحث لا يجامع القطع بوجوب الواجب ؛ ضرورة كون قضيّة احتمال اعتباره مطلقا مع فرض ابتناء الحكم على المصلحة التي لا يعلم بحصولها عدم حصول القطع بالوجوب المعلول لها فيشكّ في أصل الوجوب ، فيرجع إلى البراءة بالنسبة إليه ، وهو خلف.


إلى غير ذلك من المناقشات ، فالأولى في الجواب عن السؤال : التشبّث بذيل ما ذكرنا سابقا في الاستدلال بهذا الوجه ؛ فإنه لا مناص عنه.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( نختار هنا : أن الجهل مانع عقليّ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢١ )

أقول : لا يخفى عليك أن المراد من توجيه التكليف : هو فعليّته المقتضية لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة على المخالفة لا مجرّد التعلّق الواقعي ؛ فإنه غير منكر في المقامين ، بل في الشكّ في التكليف أيضا ؛ ضرورة استحالة اشتراط تعلّق التكليف الواقعي بالعلم على ما عرفت الكلام فيه مرارا. مضافا إلى أنه أمر لا سترة فيه أصلا ، من غاية وضوحه.

كما أن ما أفاده : من استقلال العقل في الحكم بقبح توجيه التكليف به بالنسبة إلى الجزء المشكوك بحيث يورث تركه العقاب على ترك الكل المسبّب عنه على تقدير جزئيّته في نفس الأمر ممّا لا غبار ولا شبهة فيه عند من لم يسبق ذهنه بالشبهات ـ على ما عرفت بعض القول فيه ـ مثل وضوح ما أفاده : في فساد المعارضة بقبح المؤاخذة على ترك الأقل من حيث الجهل بوجوبه النفسي ؛ فإنه من القضايا الأوليّة عند ذوي الأفهام المستقيمة ؛ ضرورة أن المحرّك العقلي والباعث على حكمه بلزوم الإقدام على الفعل هو دفع العقاب المترتّب عند ترك الإقدام.

__________________

(١) انظر تعليقة العلامة القمي في قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٤١ ـ التعليقة رقم ٣٤٣.


وأمّا حيثيّة كون العقاب على ترك نفس المتروك ، أو ترك ما هو مسبّب عن تركه فملقاة في نظر العقل قطعا ، وإن هو إلاّ نظير المائع الذي يقطع الشخص بأن شربه يوجب هلاكه ، لكن لا يعلم أن هلاكه من جهة تأثير نفسه في ذلك ، أو من تأثير يكون شربه سببا له ؛ فإنه لا شبهة في إلزام العقل بترك شربه مع عدم علمه بأن الهلاكة المترتبة من معلولات نفسه. وهذا أمر ظاهر لمن له وجدان سليم.

(١١) قوله قدس‌سره : ( أما الأوّل : فلأن عدم جواز المخالفة القطعيّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٢ )

أقول : عدم جريان ما ذكر سندا لمنع كون الجهل مانعا في المتباينين من

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لا يخفى ما فيه من سوء التأدية ، وكان الأولى أن يقول :

( أمّا الأوّل : فلأن العلم الإجمالي فيما نحن فيه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشك البدوي بوجوب الأكثر الرّاجع إلى الشك في وجوب الجزء المشكوك فيه ).

ويعلّله بقوله :

( فإنّ وجوب الأقلّ بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا ... إلى آخر ما ذكره ).

ويضمّ إليه :

( وهذا بخلاف الأكثر ؛ فإنّ استحقاق العقاب على ترك الأكثر أي : الجزء المشكوك لكونه غير معلوم الوجوب منفي بقبح العقاب بلا بيان ).

وكيف كان : فالأمر سهل بعد وضوح مراده » إنتهى. حاشية فرائد الأصول : ٢ / ٣٦٨.

* أقول : وانظر : أوثق الوسائل : ٣٦٣.


توجّه الخطاب بالواقع المعلوم إجمالا المجهول تفصيلا : من استلزامه المخالفة القطعيّة ـ على تقدير القول بالمانعية في المقام ـ من الأمور الواضحة ؛ لأن لزومه كان من دوران لا يجري في المقام جزما ؛ فإنه في المتباينين : إمّا أن يلتزم بإجراء البراءة بالنسبة إلى أحد المشتبهين ، أو كلاهما. وعلى الأول : إمّا أن يجعل مورد البراءة أحدهما المعيّن عندنا ، أو المعيّن عند الله تعالى وفي الواقع والنفس الأمر ، أو أحدهما لا على التعيين ، يعني مفهوم أحدهما. لا سبيل إلى شيء من هذه الوجوه.

أما الأول : فلاستلزامه الترجيح بلا مرجّح ، ولزومه كبطلانه ظاهر لا سترة فيه.

وأمّا الثاني : فلأن موردها لا يخلو : إمّا أن يكون ما هو جائز في نفس الأمر ، أو ما هو واجب كذلك ، وشيء منهما لا يصلح موردا للبراءة مضافا إلى لزوم لغويّتها ؛ إذ إجراؤها بحيث ينتفع بها موقوف على إحراز موردها ، وبعده يرتفع موضوعها كما هو ظاهر هذا. مع أن إناطة الحكم الظاهري بالواقع لا يخفى بطلانها على الأوائل.

وأمّا الثالث : فلأنه مفهوم منتزع عن المشتبهين غير متعلّق لحكم يغاير حكمهما ، مع أنه ممّا لا معنى له مع قطع النظر عمّا ذكر على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فيتعيّن الوجه الثاني ، وهو إجراء البراءة بالنسبة إلى كليهما. وعليه : يلزم ما ذكر من الاستلزام ، فلا بدّ من الالتزام بوجه ثالث ، وهو وجوب الاحتياط.


وهذا بخلاف المقام ؛ فإنه لو حكم بجريان البراءة بالنسبة إلى الجزء المشكوك أو الأكثر كما هو المدّعى لم يعارض بجريانها بالنسبة إلى الأقلّ ؛ فإن القطع بوجوبه واستحقاق العقوبة عند تركه مانع من الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه ، وليس فيه ترجيح بلا مرجّح أصلا ، للفرق بينهما بما يوجب تعيين جريانها بالنسبة إلى الأقلّ حسبما عرفت.

(١٢) قوله قدس‌سره : ( وأمّا عدم معذورية الجاهل .... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٢ )

أقول : حاصل ما أفاده في بيان عدم جريان الدّليل الثاني لعدم صلاحيّة مانعيّة الجهل في المتباينين في المقام : هو أن الشكّ في المتباينين لم ينحل إلى

__________________

(١) قال المحقق الشيخ غلامرضا القمي قدس‌سره :

« أقول : حاصله : أن الشك في المتبائنين لمّا كان في المكلّف به غير المنحلّ إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، بل كان طرفا الشك فيه متساويين في احتمال تحقّق المعلوم بالإجمال فيه ، فيكون نظير الشك الحاصل للجاهل المقصّر العالم إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة وأين ذلك من المقام الذي عرفت انحلال الشبهة فيه إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ) إنتهى. قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٤٣.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« يعني الفرق والفارق كون عدم معذوريّة الجاهل في ما هو غير معذور فيه إنّما هو لأجل تقصيره في تحصيل ما يمكنه العلم التفصيلي به من التكاليف المعلومة له إجمالا الثابتة عليه يقينا بخلاف ما نحن فيه ممّا لم يتمكّن من تفصيله ولم يقصّر في تحصيله ورفع إجماله » إنتهى. انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٣.


معلوم تفصيلي ومشكوك بالشكّ البدوي ، بل كان طرفا لشبهة متساويين من حيث احتمال تحقق المعلوم بالإجمال وانطباقه على كل واحد منهما ، فيكون نظير الشكّ الحاصل للجاهل المقصّر العالم إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، فمعذوريّة الجاهل في المتباينين مستلزمة لمعذوريّة الجاهل المقصّر بالنسبة إلى الواقع مع كونها خلاف الإجماع في الجملة ، أو مطلقا بناء على عدم قدح مخالفة من ذهب إلى كون عقاب خصوص الغافل من المقصّر على ترك تحصيل العلم عند الالتفات على ما ستسمعه بعد ذلك ، أو المشهور بينهم.

وهذا بخلاف المقام لما أسمعناك : من انحلال المعلوم بالإجمال فيه إلى معلوم ومشكوك ، فالحكم بمعذورية الجاهل فيه بالنسبة إلى المشكوك لا يلازم الحكم بمعذورية الجاهل المقصّر ولا يقاس أحدهما بالآخر.

نعم ، يشابه العلم الإجمالي في مفروض البحث العلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات الكثيرة في الشريعة مع تردّد المعلوم بالإجمال بين الأقلّ والأكثر.

ومن هنا بنينا على الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الزائد على الأقل المتيقّن من المعلوم بالإجمال بعد تحصيل العلم به ـ في غير موضع من كلماتنا السابقة ولعله يأتي الإشارة إليه في مطاوي ما يبحث عنه بعد ذلك ـ كما أنه يشابهه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص عمّا يكون حاكما أو واردا على البراءة من الأدلّة من حيث اشتراط الفحص في الشبهة الحكميّة في الرجوع إلى الأصل مطلقا بالأدلّة الأربعة ، لكنه أمر مفروغ عنه لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ لأن الكلام في حكم المسألة بعد إحراز ما هو شرط لجريان الأصل كما هو واضح.


(١٣) قوله قدس‌سره : ( كما لو علم إجمالا بكون أحد من الإناءين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٣ )

__________________

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« وفي التنظير نظر ، بل منع ، لوجود الفرق والفارق الواضح بين المقيس والمقيس عليه.

أما الفرق : فلكون العلم الإجمالي بين الأقلّ والأكثر ـ المقيس فيما نحن فيه ـ إنّما هو بالإنحلال والحقيقة عين العلم التفصيلي بالأقلّ والشك البدوي بالأكثر ، وفي المقيس عليه المشبّه به علم إجمالي مستقل متطرّق على علم تفصيلي مستقل كالعلم التفصيلي المستقل المتطرّق على علم إجمالي مستقل.

وأمّا الفارق الموضّح لقوّة مجرى البراءة في المقيس دون المقيس عليه فهو انتفاء المقتضي للإحتياط وهو العلم الإجمالي في الأوّل أوّلا ، وأصالة عدم مقتضاه وهو ثبوت التكليف به ثانيا ، بخلاف الحال في المثال ؛ فإنّه بالعكس حيث إنّ نفس المقتضي للإحتياط وهو العلم الإجمالي موجود فيه أوّلا ، وأصالة بقاء مقتضاه وعدم سقوطه ثانيا حيث إنّ الشك هاهنا إنما هو في سقوط التكليف بمقتضى العلم الإجمالي بتوهّم مانعيّة العلم التفصيلي منه والأصل عدم سقوطه وعدم مانعيّة العلم التفصيلي منه وثمّة في ثبوت التكليف ، والأصل عدمه.

وحينئذ فمثال تطرّق العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين على العلم التفصيلي السابق بنجاسة المعيّن منهما حكمه حكم العكس ، وهو تطرّق العلم التفصيلي بنجاسة المعيّن منهما ، على الإجمالي السابق بنجاسة أحدهما في عدم انقلاب الإحتياط فيهما إلى البراءة وعدم مانعيّة العلم التفصيلي من تأثير العلم الإجمالي أثره وإلاّ للزم بواسطة تنجيسك طرفا معيّنا من أطراف الشبهة المحصورة والعلم الإجمالي بالتنجيس والحرمة إنفتاح باب حلّيّة


__________________

ارتكاب ما عدا ذلك الطرف المعين بتطرّق العلم التفصيلي عليه ولم يلتزم به أحد من الإحتياطيّين في العلم الإجمالي.

نعم ، مانعيّة العلم التفصيلي بنجاسة المعيّن من تأثير العلم الإجمالي بها فيه إنّما هو من تأثير محلّ العلم التفصيلي بالعلم الإجمالي من جهة عدم قابليّة المحلّ لتحصيل الحاصل ، لا من تأثير العلم الإجمالي أثره ، وتأثّر ما عدا محلّ العلم التفصيلي الخالي من مانعيّة التأثير والتأثر به ، خصوصا اذا اختلف تأثير العلمين بالنجاسة والحرمة ، أو الحقّين بحق الله وحقّ الناس.

فتبيّن : انّ المثال غير مطابق للحال وأنّ المطابق له التمثيل بالعلم الإجمالي بوجوب أحد الشيئين المتطرّق عليه العلم التفصيلي بتعيين الواجب بدليل أو أمارة شرعيّة معيّنة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٣.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره في ( الأوثق / ٣٦٣ ) :

« قد يقال بالفرق بين المثال وما نحن فيه ؛ إذ حرمة شرب الخمر ليست من جهة نجاسته ولذا يحرم وإن لم نقل بنجاسته ويتفرّع عليه : انه إن شرب الخمر المخلوط بالبول استحق العقاب من جهتين من جهة شرب النجس ومن جهة شرب الخمر فإذا علم إجمالا بكون أحد الإناءين اللذين أحدهما المعيّن نجس خمرا يتوجّه هنا خطابان ؛ أحدهما : وجوب الإجتناب عن النجس ، والآخر : وجوب الإجتناب عن الخمر.

والأوّل قد علم مصداقه تفصيلا والآخر إجمالا ، ومقتضى امتثال كلا الخطابين وجوب الإجتناب عن كلا الإنائين بخلاف ما نحن فيه ، لاتحاد الخطاب فيه ، فهو نظير ما لو علم


المثال المذكور في الكتاب للكليّة لا يخلو عن مناقشة

أقول : حاصل ما أفاده ـ : من عدم تأثير العلم الإجمالي في إيجاب الاحتياط فيما لو انحل المعلوم بالإجمال إلى المعلوم بالتفصيل والمشكوك بالشكّ البدوي ـ ممّا لا خفاء فيه ولا ريب يعتريه على ما عرفت توضيح القول فيه مرارا ، إلا أن ما مثّل به للكليّة المذكورة وشابه المقام به لا يخلو عن مناقشة ؛ لأن العلم الإجمالي بالخمر في المثال يوجب العلم بتوجّه خطاب إجمالي ولو بالنسبة إلى معلوم النجاسة تفصيلا ؛ ضرورة أن حرمة الخمر ليست من حيث نجاسته واستخباثه ، ولذا لا يكون إشكال في تعدّد العقاب فيما لو شرب مائعا يعلم بكونه مركّبا من الخمر والبول.

وهذا بخلاف ما لو شرب مائعا يعلم بوجود البول والغائط فيه مثلا ؛ فإنه لا إشكال في وحدة العقاب فيه لوحدة الخطاب ، فالمتعيّن التمثيل له : بما إذا علم المكلّف بوقوع قطرة من البول من أحد إناءين يعلم بنجاسة أحدهما المعيّن من

__________________

إجمالا بنجاسة أحد الإناءين علم بكون أحدهما المعيّن منهما غصبا فالمثال المطابق لما نحن فيه ما لو علم إجمالا بتنجس أحد الإناءين بالبول مع العلم بتنجس أحدهما بغيره من النجاسات لوضوح عدم كون اجتماع عناوين من النجاسات في مورد موجبا لتعدد العقاب ؛ لأن حرمتها شرعا إنما هي من جهة كونها نجسا لا بولا أو غائطا أو نحوهما » إنتهى.


جهة كونه بولا ، أو بنجس آخر من النجاسات التي لم يثبت لها جهة تحريم من غير جهة النجاسة بناء على تداخل النجاسات حكما : من حيث وجوب الاجتناب في الأكل والشرب وإن لم يتداخل من حيث المانعيّة في الصلاة.

ثمّ إنه لا بد من أن يعلم وجود الفرق الواضح بين المقام والمثال الذي ذكرناه وأمثاله مما لم نذكره إن لم يكن فرق بينهما : من حيث الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى المشكوك حيث إن العلم الإجمالي في المقام يؤثّر في توجيه الخطاب وتنجيزه بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال في الجملة ولو بالنسبة إلى الأقلّ ، ويوجب في حكم العقل لزوم إطاعته بحيث لولاه لم يكن هناك ملزم عقلي أصلا ، لعدم المقتضي له سواه ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي في المثال ونظائره ؛ فإنّه لا يؤثّر في الخطاب المنجّز أصلا ؛ لأن الحكم بوجوب الاجتناب عن الطرف المعيّن مستندا إلى العلم التفصيلي المفروض بالنسبة إليه ولو لم يكن هنا علم إجمالي أصلا.

ومن هنا قيل : بالفرق بينهما حكما من حيث تأثير العلم الإجمالي في المقام في تنجيز الخطاب فيقتضي تحصيل القطع بالبراءة كما زعمه القائل بوجوب الاحتياط في المسألة ، وهذا بخلاف المثال وأشباهه ؛ فإنه لم يتوهم أحد وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الطرف المشكوك ، وإن كان هذا الفرق فاسدا عندنا على ما عرفت.

وبالجملة : الفرق بين العلمين لا يكاد أن يخفى ، فالغرض تشبيه المقام


بالمثال في عدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف المشكوك بالشكّ البدوي لا مطلقا كما هو واضح.

(١٤) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا يظهر : أنه يمكن التمسّك في عدم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٣ )

أقول : وجه ظهور ما أفاده مما ذكره في المقام : من جهة كون الأقلّ معلوم الوجوب تفصيلا ، فكما لا يعارض جريان البراءة بالنسبة إلى الجزء المشكوك ، أو الأكثر بجريانها في الأقلّ ، كذلك لا يعارض جريان أصالة العدم بالنسبة إلى وجوب الجزء ، أو الأكثر بجريانها بالنسبة إلى الأقلّ.

والقول : بأن المعلوم بالنسبة إلى الأقلّ هو مطلق الوجوب لا خصوص النفسي والغيري ـ فيعارض الأصل بالنسبة إلى كلّ من الخصوصيتن في الجزء المشكوك ، أو الأكثر بمثله بالنسبة إلى الأقلّ فيقع التعارض لا محالة ، وهذا بخلاف البراءة ؛ فإن إجراءها بالنسبة إلى الجزء ، أو الأكثر لا يعارض بإجرائها بالنسبة إلى الأقل ؛ فإن الخصوصيّات ملقاة بالنسبة إليها كما هو مبنى القول بالبراءة في المقام على ما عرفت ـ فاسد جدّا ؛ لأن نفي كل من الخصوصيّتين بالنسبة إلى الأقلّ معارض بنفي الأخرى بالنسبة إليه فيبقى الأصل في الجزء المشكوك والأكثر سليما فتأمّل (١).

__________________

(١) وجه التأمّل : ما سيجيء من المناقشة في تعارض الأصلين بالنسبة إلى الأقلّ. ( منه دام ظلّه


نعم ، ما أفاده قدس‌سره : في تقريب عدم المعارضة وثبّته ودفع توهّمها بقوله : « وتردّد وجوبه بين النفسي والغيري ... الى آخره » (١) لا يخلو عن مناقشة ظاهرة ؛ فإن الخطابات المذكورة خطابات غيريّة مقدّميّة بالأجزاء على سبيل القطع واليقين في الخطابات المتوجّه بالنسبة إلى الأقلّ ، كما يحتمل كونه غيريا يحتمل كونه نفسيّا فلا يعقل انطباقه على الخطابات المفصّلة.

فإن شئت قلت : الخطاب بالنسبة إلى الأقلّ إجمالي والخطابات المذكورة تفصيليّة ، ولو علم الانطباق ارتفع الشكّ عن المسألة ؛ ضرورة استلزامه للعلم بوجوب الأكثر ، فالتقريب المذكور لا يتمّ بالنسبة إلى ما أفاده وإنما يتمّ فيما لو فرض إجراء أصالة عدم الوجوب بالنسبة إلى الجزء المشكوك فتدبّر.

اللهمّ إلا أن يريد بالتقريب المذكور بيان العلم التفصيلي بوجوب الأجزاء من غير نظر إلى كونها تمام الماهيّة المأمور بها أو بعضها. وبعبارة أخرى : مع قطع النظر عن انفراد كل جزء وانضمامها فتأمّل (٢). كما أن عطف قوله : « وأصالة البراءة » (٣) على قوله : « وأصالة عدم الوجوب » (٤) لا يخلو عن مناقشة أيضا ؛ إذ

__________________

العالي ).

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٣.

(٢) وجه التأمّل : ان تجريد النظر عن الملاحظة المذكورة لا يجامع التقريب المذكور كما هو ظاهر. ( منه دام ظلّه العالي ).

(٣) نفس المصدر : ج ٢ / ٣٢٤ وفي الكتاب : « أو أصالة البراءة ».


الحق أن يعبّر بدل العطف « كما لم يوجب جريان أصالة البراءة » ، فإن الكلام في ظهور حال أصالة العدم مما أفاده بالنسبة إلى أصالة البراءة لا في جريان البراءة وعدمه فتدبّر.

ثمّ إن المقصود بالكلام المذكور مجرّد بيان عدم المعارضة وإن لم يحكم بجريان أصالة العدم من جهة أخرى أشار إليها بقوله : « لكن الإنصاف ... الى آخره » (١) هذا.

ولكن العبارة آبية عما ذكرنا من الحمل ، فالأولى حملها على تعدّد النظر بعيني النظر الأوّلي الثانوي. ومن هنا جعل الأصل المذكور بعض المتأخرين من وجوه المختار واستند إليه في المقام وإن كان خارجا عن عنوان أصالة البراءة.

(١٥) قوله قدس‌سره : ( لكن الإنصاف : أن التمسّك بأصالة ) (٢). ( ج ٢ / ٣٢٤ )

توضيح ضعف التمسّك بأصالة العدم

أقول : توضيح ما أفاده قدس‌سره في ضعف التمسّك بأصالة العدم في المقام : هو أنه لا يخلو الأمر : من أنه إمّا أن يقصد من أصالة عدم وجوب الأكثر : ترتّب عدم

__________________

(٤) نفس المصدر. وفي الكتاب : « أصالة عدم الوجوب » من دون واو العطف.

(٥) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٢٤.

(٦) أقول : وأنظر التعليقة رقم ٣٤٥ من قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٤٣.


استحقاق العقاب عليه ونفيه بها ، وإمّا أن يقصد منها : نفي الآثار المترتّبة على خصوص الوجوب النفسي ، وإمّا أن يقصد منها : نفي الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب القدر المشترك الجامع بين النفسي والغيري.

فإن قصد منه : الأوّل ، فيتوجّه عليه :

أوّلا : أن عدم استحقاق العقاب ليس من أحكام المستصحب وآثاره حتى يتمسّك له بأصالة عدمه. وبعبارة أخرى : عدم استحقاق العقوبة ليس من آثار عدم الوجوب الواقعي النفس الأمري بل من أحكام ما ينطبق على الشكّ في الوجوب قطعا وهو عدم المعصية التي لا يتحقّق إلاّ بتنجّز الخطاب بالواقع المنفيّ مع الشكّ فيه لاستقلال العقل ـ على ما عرفت مرارا ـ بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلّف بالطريق العلمي أو ما يقوم مقامه.

وقد عرفت من مطاوي كلماتنا السابقة وستعرف مشروحا في محله إن شاء الله تعالى : أن إجراء الاستصحاب لترتيب الآثار المترتّبة على نفس موضوع الشكّ أو ما ينطبق عليه ويوجد في ضمنه من العناوين غير معقول لا أنه ممّا لا يحتاج إليه مع جريانه حسبما ربّما يتوهّم من تعبير شيخنا قدس‌سره في « الكتاب ».

ومن هنا أوردنا وأورد شيخنا قدس‌سره في الجزء الأوّل من التعليقة و « الكتاب » على من وافقنا في الأصل الأوّلي في الظن ، ولكن تمسّك له بأصالة عدم الحجيّة والجعل ـ نظرا إلى كونهما من الحوادث المسبوقة بالعدم ـ : بأنّ الغرض من الأصل


المذكور : إن كان إثبات الحرمة التشريعيّة لما شكّ في اعتباره من الظنون فهو غلط ظاهر لثبوتها عند الشكّ في الحجيّة قطعا لكونها من آثار عدم العلم بالحجيّة لا من آثار عدمها فلا معنى للأصل المذكور. وإن كان إثبات الحرمة الذاتيّة له فهو غلط أيضا لعدم ثبوتها في الواقع ونفس الأمر حتى مع العلم بعدم الحجيّة كما في القياس وأشباهه.

نعم ، لو قيل : بأن الحرمة التشريعيّة مترتبة على عدم الجعل الواقعي لا على عدم العلم به كما لم نستبعد هناك تعيّن التمسّك بالأصل المذكور ، ويحمل عليه تمسّك من وافقنا في الأصل هذا. فإن شئت قلت : إن استحقاق العقاب وعدمه من آثار المعصية وعدمها لا من آثار الوجوب الواقعي وعدمه.

وثانيا : أنه من الآثار العقلية والأحكام التي يستقل العقل بها ولو سلّم ترتّبه على نفس الواقع وإن كان محالا عندنا كما هو الشأن في مطلق الأحكام العقليّة ، بل مطلق الأحكام بالنسبة إلى الحاكم بها ـ على ما عرفته في محلّه ـ ولا يمكن إثباته بالأصل أيضا ، ولا يجري بالنسبة إليه لما عرفته من كلماتنا السابقة إجمالا وستعرفه في الجزء الثالث من « الكتاب » والتعليقة مفصّلا : من أنه لا يترتّب على الاستصحاب ولا يثبت به إلاّ خصوص الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحبات بالترتب الأوّلي ومن غير توسيط أمر آخر عقلي أو عاديّ.

نعم ، لو فرض كون عدم الوجوب من الأحكام الشرعيّة الجعليّة ، استقام


ترتّب عدم استحقاق العقاب عليه على الإغماض المذكور ؛ لما ستعرفه في باب الاستصحاب أيضا : من أن المستصحب إذا كان أمرا شرعيّا يترتب عليه جميع لوازمه من غير فرق بين الشرعيّ منها وغيره بشرط أن يكون الموضوع للآثار الغير الشرعية الأعمّ من الحكم الشرعي الواقعي والظاهري ، وإلاّ كان كاستصحاب غير الحكم الشرعي. ولكن دون إثباته خرط القتاد.

وإن قصد منه الثاني ، فيتوجّه عليه :

أن أصالة عدم وجوب الأكثر بالوجوب النفسي معارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ بالوجوب النفسي لعدم العلم بثبوت هذا النحو من الوجوب له أيضا ، وإلاّ لم يعقل دوران الواجب النفسي بينه وبين الأكثر كما لا يخفى ، فهو من باب إجراء الأصل في أحد طرفي الحادث المعارض بجريانه في الطرف الآخر هذا.

ولكن قد يناقش فيه : بما عرفت الإشارة إليه : من أن نفي الوجوب النفسي بالأصل في الأقلّ معارض بنفي الوجوب الغيري له ؛ لأن كلاّ منهما حادث يعلم بثبوت أحدهما للأقلّ فيبقى الأصل بالنسبة إلى الأكثر سليما ، وهكذا الكلام فيما لو أريد إجراء الأصول بالنسبة إلى الوجوب الغيري للجزء المشكوك ؛ فإنه سليم عن معارضة الأصل بالنسبة إلى الوجوب الغيري للأقلّ لمعارضته بأصالة عدم الوجوب النفسي له.

وإن شئت قلت : إن العلم الإجمالي بثبوت الوجوب للأقلّ بالوجوب المردّد


بين النفسي والغيري يمنع من إجراء الأصل بالنسبة إليه في نفي كل من الوجوبين ، فيبقى كل من أصالتي عدم وجوب الأكثر بالوجوب النفسي وعدم وجوب الجزء المشكوك بالوجوب الغيري سليما.

نعم ، لا إشكال في عدم جواز إثبات الوجوب النفسي للأقلّ من نفيه بالنسبة إلى الأكثر وإن كان أصله سليما ؛ نظرا إلى عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة هذا.

ولكن يمكن التفصّي عن المناقشة المذكورة : بأن أصالة عدم الوجوب الغيري للأقل إنما يعارض أصالة عدم الوجوب النفسي له لو أريد بها إثبات الوجوب الغيري له. وأما لو أريد بها نفي الوجوب النفسي له ليعارض الأصل في الأكثر فلا يعارضها أصلا فتأمل.

والأولى في التفصّي عن المناقشة المذكورة أن يقال : إن الوجوب الغيري للأقلّ وعدمه ، تابع للوجوب النفسي للأكثر وعدمه فنفي وجوب النفسي للأكثر في معنى نفي الوجوب الغيري للأقلّ ، فالمعارضة إنما هي بين أصالتي عدم الوجوب النفسي بالنسبة إلى الأكثر والأقلّ ليست إلاّ.

وإن شئت قلت : إن الحادث الأصلي المردّد في المقام هو الواجب الشرعي المردّد بين الأقلّ والأكثر وإن استتبع واستلزم تردّده احتمال الوجوب الغيري بالنسبة إلى الأقلّ ، فالاحتمال المذكور تابع ومعلول للتردّد المذكور ، فلا يجري


الأصل بالنسبة إليه حتى يعارض الأصل الجاري في الشكّ المتبوع فافهم وتأمّل ؛ فإن المقام حقيق بالتأمّل التام.

وإن قصد منه الثالث ، أعني : نفي الأكثر الشرعي المترتّب على الوجوب القدر المشترك الجامع بين الخصوصيّتين فلا ضير فيه ، إلاّ أن مثل هذا الأثر نادر جدّا. ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره : أنه قليل الفائدة والجدوى ، لكنه على كل تقدير لا تعلّق له بالمقام ولا يمكن جعله من وجوه محل البحث كما هو ظاهر.

لا يقال : كيف لا ضير في الأصل المذكور لترتيب الأثر المزبور ولا قادح له مع أن الوجوب الثابت للأكثر على تقدير الثبوت ليس إلاّ الوجوب النفسي على ما هو المفروض فلا معنى لنفي وجوبه بالأصل إلا نفي الوجوب النفسي له والمفروض عدم جواز نفيه بالأصل كما مرّ.

لأنا نقول : الثابت في الواقع بالنسبة إلى الأكثر على تقدير وجوبه أمران : أحدهما : الخصوصيّة والشخص المعبّر عنه بالوجوب النفسي. ثانيهما : الحصّة المتحقّقة في ضمنها المعبّر عنه بالوجوب القدر المشترك. والمفروض إجراء الأصل في الثاني مع تجريد النظر عن الخصوصيّة وإن كانا متلازمين وجودا وعدما ، وليس حال نفي الجامع بالأصل إلا كحال إثباته بالأصل مع كونه ملازم للخصوصيّة في الخارج ، بل عينه بالنظر إليه كما ستعرف تفصيل القول فيه في استصحاب القدر المشترك في بابه ، هذا.

مع ما يقال : من أن نفي الوجوب النفسي لنفي الأثر المترتّب على الوجوب


الجامع لا غبار فيه ، وإن لم يمكن نفيه من حيث الأثر المترتّب على نفيه لسلامته عن المعارض من الجهة الأولى ومعارضته من الجهة الثانية واستلزامه للحكم بوجوده وعدمه في زمان واحد لا ضير فيه إذا كان مبنى الحكمين على الظاهر كما في نظائره ممّا وقع في الشرعيّات كثيرا ، بل فوق حدّ الإحصاء فتأمّل (١).

(١٦) قوله قدس‌سره : ( ثم مما ذكرنا في منع جريان ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٥ )

أقول : لا يخفى أن جعل الوجه الثاني مقابلا ومغايرا لما تقدّم ضعفه ، محلّ نظر كما يشير إليه عند الجواب عن الوجوه المذكورة ، كما أن عدّه والوجه الرابع وجهان ، محلّ نظر أيضا ؛ لأن مبنى قاعدة الاشتغال هو وجوب دفع الضرر المحتمل.

ثمّ إن المراد من قوله في بيان الاستصحاب : ( بعد الإتيان بالأقلّ ) (٢) لا بدّ من أن يحمل على فرض كون الجزء المشكوك بحسب المحل آخر الأجزاء ، أو على التقدير ، فيكون من الاستصحاب التقديري والفرضي كما هو ظاهر.

(١٧) قوله قدس‌سره : ( فإن الأوّل مندفع ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٥ )

أقول : قد يراد بالمستصحب في استصحاب الاشتغال حكم العقل بوجوب

__________________

(١) وجه التأمّل : ان نفي الأثر المقصود المترتّب على الجامع ، نفي الخصوصيّة بالأصل إن كان مع نفي الجامع بالإلتزام فيرجع إلى الأصل المثبت ، وإن كان لا معه فلا معنى له بعد كون الأثر للجامع كما هو واضح. ( منه دام ظلّه العالي ).

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٦.


الاحتياط ، وقد يراد به الأمر المنتزع من التكليف ، وقد يراد به نفس التّكليف. أعني : الوجوب الشرعي المتعلّق بالأمر الواقعي المردّد في نظرنا بين الأقلّ والأكثر.

ومراده في المقام : هو الأخير بقرينة قوله : ( بأن بقاء وجوب الأمر المردّد ... الى آخره ) (١) (٢) وما تقدم منع جريان الاستصحاب فيه من حيث عدم إمكان عروض الشكّ عليه هو الأوّل ، كما هو الشأن في جميع الأحكام العقليّة.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٣٢٥.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« مرجع ما ذكره إلى انه إن أريد باستصحاب الشغل إثبات عدم ارتفاع وجوب الأمر المردّد بالإتيان بالأقلّ ليترتب عليه وجوب الإحتياط بالإتيان بالإكثر.

ففيه : أن وجوب الأمر المردّد قبل الإتيان بأحد المشتبهين كان يقينا فهو حينئذ إذا لم يكن مقتضيا لوجوب الإحتياط فبعد الإتيان بأحدهما وحصول الشك فيه بطريق أولى ؛ لأن غاية ما يقتضيه الإستصحاب هو بقاء الأمر المجمل الواقعي وعدم ارتفاعه بالإتيان بالأقلّ وأما دلالته على وجوب إمتثال هذا الأمر المجمل فلا ، بل هو بمقتضى العقل المستقل بامتثال أحكام الشارع فإذا لم يجب الإحتياط مع القطع بوجود هذا الأمر المجمل فمع الشك بطريق أولى.

وإن أريد به إثبات وجوب الأكثر بالخصوص.

ففيه : انه لا يتم إلاّ على القول بالأصول المثبتة مع ما فيه كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله.

أقول : ومع التسليم فهو معارض باستصحاب عدم جزئيّة الشيء المشكوك فيه » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٤.


وأما الثاني ، فليس مرادا في المقامين ، وإن كان الحق عدم جريان الاستصحاب فيه أيضا بعد فرض كونه أمرا اعتباريّا منتزعا من التكليف كما هو ظاهر.

وبالجملة : الذي تقدّم في المتباينين عدم إمكان جريان الاستصحاب فيه هو المعنى الأول ، وأما المعنى الأخير فلم يكن له قادح عند شيخنا في المتباينين إلاّ أنه أصل مثبت كما عرفت شرح القول فيه.

والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى : فإن الأول من الأحكام العقليّة والأخير من الأحكام الشرعيّة ولا يمكن إرادة المعنى في المقام ، وإن أغمضنا عما ذكرنا من عدم تصوّر الشكّ في الأحكام العقليّة ، ويمكن إرادته في المتباينين مع الغضّ عما ذكر لثبوت حكم العقل بوجوب الاحتياط والجمع بين المشتبهين في المتباينين فيشك في بقائه بعد الإتيان بأحدهما ، وثبوته في المقام عين المدّعى وهو وجوب الإتيان بالأكثر فتأمّل.

ثمّ إن ما أفاده في المقام في الجواب عن التمسّك باستصحاب الوجوب كما ترى ، يرجع إلى وجهين :

توضيح الوجه الأوّل في الجواب عن الاستصحاب

أحدهما : أن استصحاب الوجوب المردّد لا يترتّب عليه وجوب الإتيان بالأكثر بعد فرض عدم اقتضاء وجوده العلمي اليقيني له ؛ لأن معنى استصحاب


الشيء ترتيب ما يترتّب عليه على وجوده العلمي في السابق ، والمفروض عدم اقتضاء نفس التكليف المردّد المعلوم قبل الإتيان بالأقل وجوب الأكثر وإلاّ ارتفع النزاع. وهو كما ترى ، يرجع إلى منع جريان الاستصحاب من جهة عدم ترتيب الأثر المقصود بالإثبات على المستصحب.

نعم ، على القول بجواز التعويل على الأصول المثبتة يمكن القول بجريان الاستصحاب المذكور لكي يثبت به كون الواجب المردّد هو الأكثر في مرحلة الظاهر.

لا يقال : كيف يثبت ذلك ويزعم به على القول المذكور مع أنه ليس مما يترتّب على المستصحب بالفرض فكيف يمكن ترتّبه بالاستصحاب؟

لأنا نقول : وجود اللاّحق للمستصحب يلازم وجوب الأكثر عقلا فهو من الأحكام العقليّة لوجوده اللاحق ، وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب وإلاّ اختلّ أمره بالنسبة إلى استصحاب الأمور المستقبلة فإن مبناه على ذلك.

فإن قلت : وجوب الأكثر المترتب على الوجود اللاحق للمستصحب ، أعني :

التكليف والوجوب حكم شرعي وليس حكما عقليّا ولازما عاديّا ولا مما يترتّب على المستصحب بتوسطها ، بل ترتّبه عليه ترتب أوّلي ، فكيف تجعله من الأصول المثبتة؟

قلت : أولا : إن المترتّب على بقاء الوجوب كون الواجب هو الأكثر


لا وجوب الأكثر ، والحكم الشرعي إنّما هو الثاني لا الأول. والفرق بين المترتّبين كوضوح ترتّب الأول لا الثاني لا يكاد أن يخفى على من له أدنى مسكة.

وثانيا : إن وجوب الأكثر وإن كان حكما شرعيّا إلاّ أن ترتّبه على المستصحب ليس شرعيّا. وبعبارة أخرى : ليس من أحكامه الشرعيّة وإن كان حكما شرعيّا في نفسه ، والمعتبر في الاستصحاب : كون الأثر الشرعي من أحكام المستصحب شرعا. ومن هنا قلنا ـ في باب الاستصحاب كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ : بأنه لا يترتّب على استصحاب الشيء ملزوماته الشرعيّة ؛ فإنها وإن كانت أحكاما شرعيّة بالنظر إلى أنفسها ، إلاّ أنها لما لم يكن من أحكام المستصحب شرعا لم ينفع استصحابه في إثباتها.

فإن قلت : قد ذكر شيخنا العلاّمة في باب الاستصحاب : أن المستصحب إذا كان أمرا شرعيّا وحكما جعليّا إلهيّا يترتّب على استصحابه جميع لوازمه من غير فرق بين لوازمه الشرعيّة وغيرها. والمفروض أن المستصحب في المقام شرعيّ ، فكيف يبتني اعتباره على اعتبار الأصول المثبتة؟

قلت : ما أفاده في باب الاستصحاب : من عدم الفرق بين الآثار في المستصحب الشرعي وإن كان مستقيما ، إلاّ أنه مختصّ بما إذا كان الأثر الغير الشرعي ممّا يترتّب واقعا على الحكم الشرعي بالمعنى الأعمّ من الظاهري الواقعي كوجوب الإطاعة عقلا المترتّب على إلزام الشارع من غير فرق


بين إلزامه الواقعي والظاهري. وأما ما يترتّب على وجوده الواقعي من الآثار الغير الشرعيّة فلا يمكن جعلها بالاستصحاب وكلامه قدس‌سره في هذا الباب وإن كان مطلقا إلا أنه لا مناص عن تنزيله على ما ذكرنا لعدم معقولية الإطلاق في ذلك ، وستقف على برهانه في باب الاستصحاب.

فإن قلت : إذا لم يكن وجوب الإتيان بالأكثر من لوازم المستصحب ، بل الذي يلزمه كون الواجب هو الأكثر فوجوب الإتيان به بعد تعيين الواجب إنما هو من حيث حكم العقل بوجوب الإطاعة ، فهو ليس حكما شرعيّا بهذه الملاحظة ، ومن المقرّر في باب الاستصحاب على القول باعتبار الأصول المثبتة : اشتراط ترتّب أثر شرعيّ على الواسطة ، وليس هذا الشرط متحقّقا في مفروض البحث.

قلت : تعلّق الوجوب بالأكثر بمعنى كونه واجبا شرعيّا وتعيينه مستتبع لوجوب إثباته عقلا فهو مترتّب على تعيين الواجب ولو في مرحلة الظّاهر ، لا أن يكون مجعولا شرعيّا ، وهو ممّا لا غبار عليه كما عرفته عن قريب فتأمّل.

وراجع ما ذكرنا في الجواب عن الاستدلال بالاستصحاب في طيّ وجوه القول بوجوب الاحتياط في المقام. هذا بعض الكلام في توضيح الوجه الأوّل الذي أفاده في الجواب عن الاستصحاب.


أما الوجه الثاني

[ حكومة اصالة البراءة على استصحاب الإشتغال في المقام ]

ثانيهما : أنه على تقدير الإغماض عما ذكر وتسليم عدم ابتناء الأصل المذكور على اعتبار الأصول المثبتة لا يجوز التمسّك بالاستصحاب المذكور في المقام ؛ من حيث حكومة أصالة البراءة الجارية قبل الإتيان بالأقلّ وفي زمان اليقين عليه ، فإنا نفينا بمقتضى الأصل المذكور في ذاك الزمان وجوب الزائد الأكثر ورفعنا به الشك عما اشتغلت الذمة به في السابق ، فكيف يثبت في اللاّحق؟

فليس هنا وجوب مردّد بين الأمرين بمقتضى الأصل المذكور حتى يثبت بالاستصحاب بعد الإتيان بالأقلّ تعلّقه بالأكثر ، وليس هذا من باب تعارض الاستصحاب مع أصل البراءة وتقديمه عليه حتى يقال : بأن المقرر في محلّه ورود الاستصحاب على البراءة العقليّة ؛ لأن المفروض عدم جريان الاستصحاب في الموضع الذي يجري فيه أصل البراءة وبعد جريانه يتعيّن التكليف به في مرحلة الظاهر ، فلا يبقى تردّد حتى يجري الاستصحاب لاحقا وفي موضوعه ، فأصالة البراءة الجارية في السابق وإن لم يكن رافعا لموضوع الاستصحاب حقيقة لبقاء الشكّ في ماهيّة المأمور به بالوجدان ، إلاّ أنّها رافعة له بحكم الشارع. ومن هنا


حكمنا بكونها حاكمة عليه ورافعة لموضوعه بالتنزيل والجعل ، لا بالوجدان والحقيقة.

فإن قلت : إن تعيين الماهيّة المأمور بها وإنّها الأقلّ بأصالة البراءة الذي هو مبنى حكومتها على الاستصحاب لا يتمّ إلا على القول باعتبار الأصول المثبتة ، والمختار عند المصنف وفاقا للمحقّقين من المتأخّرين : عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة إذا لم يكن مبنى الأصل على الظنّ من غير فرق بين أصالة البراءة وغيرها. وقد صرّح قدس‌سره في طيّ الجواب الأول عن الاستصحاب المذكور والتزم ببطلانه ، فكيف يجعل جوابا عن التمسّك به؟

قلت : أوّلا : إن ابتناء ما ذكره في الجواب الثاني من حكومة أصل البراءة على الاستصحاب في خصوص المقام على تعيين الماهيّة بالأصل الذي يقتضي التعويل على الأصول المثبتة بظاهره مبني على إرادة الإلزام على الخصم ؛ حيث إنه أراد تعيين الماهيّة في ضمن الأكثر بالاستصحاب ، فيجاب عنه : بأنه إذا بني على الأصول المثبتة تعيّن الماهيّة في ضمن الأقلّ بالأصل الحاكم على الاستصحاب المذكور.

وثانيا : إن تحكيم أصل البراءة على الاستصحاب والمنع من جريانه لا يتوقّف على القول بمساعدة أصل البراءة لتعيين الماهيّة واعتباره حتى يبتني على القول باعتبار الأصول المثبتة ، بل مجرّد حكم الشارع بعدم وجوب الأكثر في


مرحلة الظاهر قبل الإتيان بالأقلّ بمقتضى أصل البراءة حاكم على استصحاب الأمر المردّد المقصود إثبات ما حكم بنفيه في السابق ظاهرا.

نعم ، لو ترتّب حكم بالفرض على نفس بقائه بوصفه الترديدي من غير أن يريد إثبات وجوب الأكثر به لم يكن إجراء البراءة مانعا من استصحابه لترتّب خصوص الأثر المفروض هذا. وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلّق بهذا المرام في طيّ الأجوبة عن وجوه الخصم فراجع إليه.

(١٨) قوله : ( وقد عرفت الجواب عنه وأن الاشتغال ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٦ )

أقول : لا يخفى عليك أن المراد مما أفاده : هو الاشتغال المتحقّق بحكم العقل بمقتضى الخطاب المتنجّز المتوجّه إليه بمقتضى العلم الإجمالي ، لا التكليف الواقعي النفس الأمري المردّد بين تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر ؛ فإنه متعلّق بنفس الواقع من حيث هو إلا أنه لا يقتضي بحكم العقل إلاّ الإتيان بالأقلّ على ما عرفت تفصيل القول فيه.

__________________

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« وبعبارة [ أخرى ] : إن الإشتغال اليقيني إنّما يقتضي البراءة اليقينيّة بقدر الإشتغال اليقيني وهو الأقلّ ، لا الزائد المشكوك [ الذي هو ] الأكثر فيما نحن فيه » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٦.


(١٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الثالث ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٦ )

أقول : ما أفاده في المقام في غاية الوضوح ؛ فإن دليل الاشتراك لا يقتضي

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« وفيه أيضا : انه يرجع إلى قاعدة الإشتغال السابق ويرد عليه ما أورد عليه ولا يتفاوت الحكم باختلاف التعبيرات والتقريرات ؛ فإنّ العلم بوجوب الصلاة الواقعيّة حاصل وجدانا بالفرض ، فإن لم يفد ذلك وجوب الإحتياط كيف يفيده العلم بوجوب ما كلّف به الحاضرون ؛ فإنّه عبارة أخرى عن الواجب الواقعي وهو ظاهر.

والظاهر أنّ القائل أيضا لم يرد بهذا الدليل إلاّ تقرير قاعدة الإشتغال بهذا التعبير ؛ إذ لم يعلم منه انه جمع بينه وبين القاعدة بجعلها دليلين على الإحتياط.

نعم ، لو أراد من هذا الدليل أن دليل الإشتراك يقتضي وجوب ما كلّف به الحاضرون العاملون على الغائبين مطلقا وإن كانوا جاهلين بالخطاب ، كان ذلك وجها آخر لوجوب الإحتياط.

وجوابه : منع اقتضاء أدلّة الإشتراك ذلك ، بل لا تقتضي أزيد من إشتراك عالمهم بالخطاب مع عالمهم به وجاهلهم مع جاهلهم.

وقد يقال : إن مراد المستدلّ أنّ الشاك من الحاضرين في مسألتنا حكمه وجوب الإحتياط فبدليل الإشتراك نحكم بأنّ الغائبين أيضا حكمهم كذلك ، ويقال : إن قوله في المتن في ذيل الجواب : ( ولا ريب أن وجوب الإحتياط على الجاهل ... إلى آخره ) إشارة إلى هذا التقرير.

وفيه أوّلا : منع كون تكليف الحاضرين هو الإحتياط.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك فإنّما هو لأجل قدرتهم على تحصيل العلم بالواقع بالفحص والرّجوع إلى الإمام عليه‌السلام بخلاف الغائبين فلا يمكنهم تحصيل العلم بالواقع وتجري قاعدة البراءة بالنسبة إليهم » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٢.


إلاّ اشتراك الغائبين والمعدومين مع الحاضرين في مجلس الخطاب في التكاليف المتوجّهة إليهم بعد دخولهم في موضوعهم الذي تعلّق الحكم المخصوص عليهم فيه وباعتباره ، فإذا كان تكليفهم من حيث كونهم مسافرين القصر ، يحكم بأن تكليف غيرهم القصر إذا سافر وإلاّ مطلقا وهكذا. وهذا من غاية وضوحه لا سترة فيه أصلا ، ولم يخالف فيه أحد جزما ؛ ضرورة أن دليل الاشتراك إنّما يثبت الكبرى ، وأما الصّغرى فلا شبهة في اختلافها بحسب حالات المكلّفين ولا خلاف فيه أيضا.

وإنّما خالف من خالف في خصوص المقام واستدل بدليل الاشتراك غفلة عن حقيقة الحال بتوهّم : أن مقتضاه الاحتياط بإحراز محتملات الواقع حتى يقطع بالعمل بما كان مقتضى تكليفهم فإذا احتمل كون تكليفهم في المقام الأكثر ، فيجب الإتيان به وهكذا.

ولكنك خبير بفساده ؛ فإنه إذا احتمل كون تكليفهم بالأكثر من حيث بلوغ الخطاب به إليهم وعلمهم به لم ينفع هذا الاحتمال في الحكم بوجوب الاحتياط علينا مع جهلنا بذاك الخطاب.

نعم ، لو ثبت أنّ تكليف الحاضرين مع الجهل بالمكلّف به ودورانه بين الأقلّ والأكثر الاحتياط لزمه القول به بالنسبة إلينا أيضا ، ولكن نمنع من كون تكليف الحاضرين في هذا الموضوع الاحتياط إذا تحقّق في حقّهم ، لعدم قيام دليل عليه


من العقل والنقل ، بل مقتضاهما في حقهم عدم تكليفهم به فدليل الاشتراك لنا لا علينا ، وإن كنا غير محتاجين إلى إثبات ذلك ؛ فإن مجرّد احتمال كون تكليفهم مع جهلهم الاحتياط لا ينفع في المقام ، بل لا بدّ من إثبات كون تكليفهم ذلك ؛ لأن التمسّك بالكبرى مع الشكّ في الصغرى لا معنى له كما هو واضح.

وقد يقال : في منع جواز التمسّك بدليل الاشتراك في المقام : بأن المسألة عقليّة لا سبيل للاحتمال والشكّ فيه أصلا ، حتى يتمسّك فيها بدليل الاشتراك وغيره ؛ لأنه بعد ثبوت التكليف في الجملة : إما أن يستقلّ العقل في الحكم بوجوب الاحتياط على ما يزعمه القائل بوجوبه في المقام ، أو يستقل بالبراءة. فلا شكّ ولا دوران في الحكم الظاهري أصلا ، هذا.

وفيه : أن حكم العقل بالبراءة على سبيل القطع لا ينافي ورود دليل من الشرع على وجوب الاحتياط ، فإنه وارد عليه ولا يكون منافيا له ، كما أن حكمه بالاحتياط لا ينافي ورود دليل من الشرع على مقتضى البراءة ، بل عندنا الأمر كذلك على تقدير القول باقتضاء الشغل اليقيني الاحتياط في المقام بالنظر إلى حكم العقل ، كما ستقف عليه. وبالجملة : لا سبيل إلى القول المذكور أصلا ؛ فإنه ناش عن قلّة التدبّر.


(٢٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الرابع : فلأن وجوب المقدّمة فرع وجوب ذي المقدّمة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٦ )

أقول : قد يتوجّه على ما أفاده : بأن المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم لا للواقع فجعل ذي المقدّمة في كلامه نفس الأمر المردّد لا العلم بحصوله محلّ نظر ، فالأولى تبديل قوله : ( وهو الأمر المردّد ) (١) بقوله : ( وهو تحصيل العلم بالأمر الواقعي المردّد ) وهذا هو المراد قطعا وإن كانت العبارة قاصرة عن الدلالة عليه في ابتداء النظر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٦.


(٢١) قوله قدس‌سره : ( وأما الخامس : فلأنه يكفي في قصد القربة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٧ )

جواب آخر عن الوجه المذكور

أقول : قد يجاب عن الوجه المذكور مضافا إلى ما أفاده : من عدم توقف قصد القربة بالفعل على العلم بكونه مطلوبا نفسيّا ومتعلّقا للأمر الأصلي ؛ لكفاية العلم بمطلوبيّته في الجملة ، وأداء تركه إلى العقوبة وفعله إلى التخلّص عنها بالفرض على القول بوجوب الاحتياط ؛ فإنه لا يعلم بكون الأكثر مطلوبا أصلا لا نفسا ولا مقدّمة ، وامتثال الأمر الاحتياطي المتعلّق به لا يكون مقرّبا قطعا لكونه

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« هذا الكلام من المصنّف موافق للتحقيق الذي قد مرّ منا غير مرّة إلاّ انّه مخالف لمذاقه : من أنّ الأمر الغيري لا يصير منشأ لعباديّة العبادة ، وقصده لا يؤثّر في كون العمل عبادة على ما صرّح به في المتباينين بل في غير موضع من المتن وفي كتاب الطهارة في بحث الوضوء وفي مبحث مقدّمة الواجب من أصوله وفي غير ذلك فتبصّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٥.

* وقال المحقّق الشيخ غلامرضا القمي قدس‌سره في قلائده :

« أقول : توضيحه : أن المراد بالقربة إنّما هو التقرّب المعنوي وله مراتب أعلاها التعبّد من جهة استحقاق المعبود للعبادة وأدناها التعبّد طمعا في الجنّة وخوفا من النّار والذي يكفي في حقّ عامّة المكلّفين هو الأخير وهو يحصل بإتيان الأقل » إنتهى. قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٥٠.


إرشاديّا جزما ، مع أن الالتزام بكونه مقرّبا يوجب الالتزام بكون امتثال الأمر المردّد المتعلّق بالأقلّ مقرّبا ، بل بطريق أولى ؛ فإنه إما أمر نفسيّ ، أو غيريّ. وعلى كلّ تقدير يعلم بكونه مطلوبا شرعا.

وهذا بخلاف الأكثر ؛ فإنّ تعلّق الأمر الشرعي به احتمالي ، والأمر المعلوم المتعلّق به إرشاديّ صرف ، فلو قيل بكفايته كان الأمر المردّد المتعلّق بالأقلّ قطعا أولى بالكفاية ، ولا يقاس المقام بالمتباينين حتى يقال : بأنه يقصد التقرّب بامتثال الأمر الشرعي النفسيّ المتعلق بأحد الفعلين يقينا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنا نعلم أن فعل الأكثر مقرب قطعا ولو من جهة اشتماله على الواجب النفسي ، ولو لم يعلم بكونه مقرّبا بعنوانه ، ومن حيث كونه أكثرا فالمحرّك حقيقة بفعل الأكثر امتثال الأمر النفسي المتوجّه إلى المكلّف يقينا من الشارع ، بل هو أولى بقصد التقرّب فيه من قصد التقرّب بالاحتياط والجمع بين المحتملين في المتباينين.

فإن شئت قلت : حصول التقرّب بفعل الأكثر اتفاقي حتى من القائل بالبراءة ؛ فإنه يجوّز الاحتياط قطعا ، بل نقول : برجحانه هذا. مع كفاية الحسن العقلي الثابت للاحتياط في قصد التقرّب بفعل الأكثر بهذا العنوان وإن كان الأمر المتعلّق بالاحتياط إرشاديّا صرفا وعقليّا محضا فتأمّل ، وراجع ما قدّمناه لك في تحقيق هذا البحث في مطاوي كلماتنا السابقة.


(٢٢) قوله قدس‌سره : ( والدليل العقلي على البراءة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٢٧ )

وجه تأمّل المصنّف في الدليل العقلي على البراءة

أقول : قد عرفت : أنه لا تأمّل في حكم العقل بالبراءة في المقام فهو مطابق للنّقل من حيث إن مجرّد العلم الإجمالي كيف ما كان ـ ولو صار أحد طرفيه معلوم الالتزام تفصيلا ـ لا يوجب تنجّز الخطاب بالنسبة إلى المجهول ، وأن المثال أجنبيّ عن المقام ولا دخل له به أصلا ، وأن الحكم فيه وجوب الاحتياط عن غير معلوم النجاسة من جهة تنجّز الخطاب بسبب العلم الإجمالي بوجود الخمر وحمل المثال

__________________

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« وذلك لإمكان القول بانحصار مجرى البراءة في الأقلّ والأكثر الإرتباطي حيث إن تحقق موضوع الأقليّة والأكثريّة فيه لا يتوقّف على اجراء حكم البراءة أو الإحتياط ، بخلاف الأقلّ والأكثر الإرتباطي فإنّ تحقّق موضوع الأقلّيّة فيه موقوف على إجراء حكم البراءة ، وحينئذ لا يتعقّل اجراءه ثانيا لتحقّق حكمه وهو تعيين الوجوب في الأقلّ بلزوم الدور.

وبعد مزيد التأمّل يعرف الجواب أوّلا : بالنقض وهو : أن تحقّق موضوع الأكثريّة أيضا موقوف على إجراء الإحتياط وبعد اجراءه لا يتعقّل إجراءه ثانيا لتشخيص حكم الأكثر.

وثانيا : بالحل وهو : أن المراد من ارتباط الأقلّ والأكثر في ما نحن فيه هو الإرتباط الشأني المحتمل ، لا الإرتباط الفعلي حتى يتوقّف تحقّق موضوع الأقليّة على إجراء البراءة ؛ لأن الإرتباط الفعلي فرع تعيين التكليف بالأكثر وهو أوّل الكلام » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٦.


على ملاحظة النجاسة للخمر ـ مع قطع النظر عن حرمته من حيث خمريّته ، فالمقصود التمثيل من الحيثيّة الأولى لا الثانية ـ لا ينفع بعد عدم انفكاك الثانية عن الأولى وجودا وإن كانتا مفترقين من حيث اللحاظ كما لا يخفى. وبالجملة : المدار على المتحيّث في المقام لا الحيثيّة كما هو ظاهر.

ثمّ إن الوجه في تأمّل شيخنا العلاّمة قدس‌سره في حكم العقل بالبراءة ـ على ما يستفاد من قوله : ( نعم ، لو ثبت أن ذلك .... إلى آخره ) (١) (٢) وصرّح به في مجلس البحث ـ : هو أن الوجه في المصير إلى الاحتياط في المتباينين والبناء عليه :

إن كان تعارض الأصلين في المشتبهين وتساقطهما والرجوع إلى الاحتياط ـ كما هو أحد الوجهين في موارد الحكم بوجوب الاحتياط ـ فلا تأمّل في الحكم بالبراءة في المقام لما عرفت : من عدم جريان الأصل في الأقلّ بعد العلم بوجوبه حتّى يعارض الأصل في الأكثر.

وإن كان الوجه فيه : حصول الغاية الرافعة لموضوع البراءة بعد العلم الإجمالي بالتكليف المنجزّ ؛ نظرا إلى تعميم البيان في حكم العقل بالبراءة في

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : قد تقدّم شرحه آنفا وأشرنا فيما تقدّم إلى أنّ الشأن في إثبات هذا الأثر للعلم الإجمالي ، أي : صلاحيّة كونه بيانا للتكليف بالنسبة إلى ما عدى المتيقّن كي يخرج بذلك عن موضوع قاعدة القبح فليتأمّل » إنتهى. حاشية فرائد الأصول : ٢٥٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٧.


موضوع عدم البيان لما يشمل العلم الإجمالي ـ كما هو الوجه والمختار في موارد وجوب الاحتياط سواء كانت في الشبهة الموضوعيّة كما في الشبهة المحصورة أو الحكميّة كما في المتباينين كما عرفت تفصيل القول فيه في الشبهتين ـ فيمكن القول بالاحتياط في المقام ؛ نظرا إلى حصول العلم الإجمالي وكونه مؤثّرا في تنجيز الخطاب ووجوب الأخذ بمقتضاه في الجملة على ما عرفت ـ في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ : من الفرق بين المقام وما لا تأثير للعلم الإجمالي فيه في تنجّز الخطاب : من جهة كون أحد طرفيه معلوم الخطاب تفصيلا هذا.

ولكنّك عرفت أيضا : أن مطلق العلم الإجمالي المؤثّر أيضا لا يمنع من الرجوع إلى البراءة إلاّ إذا كان تأثيره في بعض الأطراف مستندا إلى احتمال كونه من موارد العلم لا إلى العلم بكونه مطلوبا ، كيف! ولو جعل الغاية العلم بالخطاب المنجّز مطلقا وكيف ما اتّفق أشكل الفرق بين العقل والنّقل في ذلك ، فلا بدّ إذن من القول : بأن المستظهر من أخبار البراءة أو المتيقّن من مدلولها هو الرجوع إليها فيما لم يكن هناك خطاب منجّز أصلا ، فإذن يتأمّل في البراءة من جهة النّقل أيضا فلا ينبغي تخصيص التأمّل في ذلك من جهة العقل فتأمل.


(٢٣) قوله قدس‌سره : ( ويمكن تقريب الاستدلال ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٨ )

في امكان اجراء البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر

أقول : قد عرفت مرارا : أنه كما يجري دليل البراءة عقلا ونقلا بالنسبة إلى الوجوب الغيري للزائد كذلك يجري بالنسبة إلى الأكثر أيضا ، لا بمعنى الجمع بينهما ، بل بمعنى كفاية جريانه بالنسبة إلى كلّ منهما عن جريانه بالنسبة إلى الآخر. بل قد يقال : بأن المتيقّن إجراؤه بالنسبة إلى وجوب الأكثر ؛ حيث إنّ وجوب الجزء المشكوك تابع له ومسبّب عنه وليسا في مرتبة واحدة ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ فالجزء ذاتا وإن كان مقدّما على وجوب الأكثر ؛ من حيث كونه مأخوذا في موضوعه إلا أنه حكما متأخّر عنه ، فلا يجتمع معه في الإرادة المستقلّة.

نعم ، لو شكّ في وجوبه من جهة الشكّ في ورود خطاب تفصيليّ بالنسبة إليه ولو كان غيريّا لا من جهة الشكّ في الخطاب بالكلّ المشتمل عليه جاز الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه. وعلى كل تقدير : الأولى الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه ؛ لأنه سالم عمّا يستشكل في الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الوجوب الغيري من جهة النّقل ؛ نظرا إلى كون الظاهر منها الترخيص في الحكم الشرعي المتعلّق بالموضوعات من حيث الاستقلال كما عن شيخ شيخنا قدس‌سره (١) بعد منع جريان

__________________

(١) أقول : يريد به العلاّمة المفضال شريف العلماء المازندراني قدس‌سره ، أنظر ضوابط الأصول : ٣٢٩.


الدّليل العقلي على البراءة في المقام ؛ نظرا إلى ما عرفت فساده.

لا يقال : كيف يحكم بما ذكر من الأولويّة مع أن وجوب الأكثر معلوم في الجملة ولو من جهة وجود الواجب في ضمنه؟ لأنه على تقدير وجوب الأقلّ يكون الموجود الخارجي المشتمل على الزائد فردا منه لا محالة ، فيتّصف بالوجوب. ومن هنا يقصد التقرّب بفعله ولو لم يعلم بوجوبه بعنوانه وبوجهه. وبعبارة أخرى : الأكثر إما واجب نفسا أو مشتمل على الواجب ، فيكون في الخارج من مصاديقه بهذه الملاحظة. ومن هنا حكم في « الكتاب » بإمكان تقريب الاستدلال بالأخبار بالنسبة إلى وجوب الأكثر.

لأنّا نقول : ما ذكر : من كون الأكثر مصداقا للواجب على تقدير وجوب الأقلّ ، توهّم فاسد ؛ لأن صدق الواجب على الأقل المتحقّق في ضمن الأكثر إنما هو بالنسبة إلى الأقلّ ومن هذه الحيثيّة ، وليس الأقلّ والأكثر من الكلّي والفرد ، ومجرد الاشتمال لا يوجب التسرية من حيث الحكم ، وإلا جاز الحكم بوجوب الأكثر مع العلم بكون الواجب النفسي هو الأقلّ ، فإنه ليس ملحوظا بعنوان بشرط « لا » على هذا التقدير أيضا.

(٢٤) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٩ )

أقول : لعلّ المستشكل نظر إلى أن الظاهر من الأخبار نفي الحكم الصادر من الشارع عند الجهل به ، أو المؤاخذة على الحكم المجعول من الشارع أصالة لا تبعا ؛ فإنّه ربّما يتوهّم من قوله : ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) : أن


الموضوع الحكم الابتدائي من الشارع لا ما يتبع حكما آخر ، وإن كان هذا التوهّم فاسد أيضا ؛ لأن الوجوب الغيري صادر من الشارع وبيانه وإعلامه قد يكون بإيجاب الجزء وقد يكون بإيجاب المركّب المشتمل عليه.

(٢٥) قوله قدس‌سره : ( مع إمكان أن يقال : إن العقاب .... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٩ )

أقول : توضيح ما أفاده : أن الجزء إذا لوحظ من حيث الوجود فقد يلاحظ من حيث ذاته ومن حيث توقف وجود الكل على وجوده ، فيعرضه الوجوب الغيري التّبعي كالمقدّمات الخارجيّة. وقد يلاحظ من حيث عنوانه وبملاحظة انضمامه مع سائر الأجزاء فيعرضه الوجوب النفسي ؛ فإنه بهذه الملاحظة عين الكلّ كما هو ظاهر.

وأمّا إذا لوحظ من حيث العدم فعدمه عين عدم المركّب بعنوانه التركيبي الذي يكون معروضا للوجوب ، وليس له بهذه الملاحظة وجهان. وهذا بخلاف المقدّمات الخارجيّة ؛ فإن عدمها مستلزم لعدم ذي المقدّمة وليس عينه.

(٢٦) قوله قدس‌سره : ( هذا كله إن جعلنا المرفوع ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٢٩ )

أقول : قد يتوجّه على ما أفاده قدس‌سره ويناقش فيه : بأن التعميم لمطلق الآثار الشرعيّة لا يوجب قوّة دلالة الأخبار بعد البناء على عدم كون الجزئيّة وفساد الصّلاة ووجوب الإعادة من الأحكام والآثار المجعولة الشرعيّة كما عليه المصنف قدس‌سره.


نعم ، على القول بتعلّق الجعل بها ربّما يكون الدلالة أقوى وأوضح فتأمل.

(٢٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنه لو فرضنا عدم تماميّة الدليل ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أن التعبير بالحكومة في المقام لا يخلو عن مسامحة لعدم تصوّر الحكومة بمعناها الظاهر عنده قدس‌سره الراجع إلى التخصيص واقعا بلسان الشرح والتفسير بالنسبة إلى الأحكام العقليّة كما هو ظاهر. فالمراد منها : الورود كما يظهر من بيان « الكتاب » أيضا ، كما أنه المراد من ظاهر ما حكيناه ممن عاصره من بعض الأفاضل إلاّ أنه لم يفرّق بين الحكومة والورود فأطلق الحكومة على الورود في موارده.

(٢٨) قوله قدس‌سره : ( وقد توهّم بعض المعاصرين ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٠ )

نقل كلام صاحب الفصول قدس‌سره

أقول : ذكره في مسألة الصحيح والأعمّ فإنه قال ـ في عداد الوجوه التي ذكرها لنفي الثمرة المعروفة للمسألة على ما زعمه المحقّق القمي قدس‌سره : من جواز الرجوع إلى أصالة البراءة على القول بالوضع للصحيح أيضا ـ ما هذا لفظه :

« السابع : عموم قوله في الموثّق « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (١) وغير ذلك ممّا يفيد مفاده ، كالصحيح : « رفع عن أمتي تسعة ... وعدّ منها :

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ١٦٤ باب « حجج الله على خلقه » ـ ح ٣ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٦٣ باب « وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى » ـ ح ٣٣ ، ولا يوجد لفظ « علمه » في الكافي.


ما لا يعلمون » (١) وقوله : « من عمل بما علم كفي ما لم يعلم » (٢) فإن لفظة « ما » للعموم فيتناول حكم الجزء والشرط أيضا.

لا يقال : لا نسلّم حجب العلم في المقام لقيام الدليل ، وهو أصل الاشتغال على وجوب الإتيان بالأجزاء والشرائط المشكوكة.

لأنّا نقول : المراد حجب العلم بالحكم الواقعي ، وإلاّ فلا حجب في الحكم الظاهري.

وفيه نظر : لأنّ ما كان لنا إليه طريق ولو في الظاهر لا يصدق في حقّه حجب العلم قطعا ، وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجيّة الأدلة الظاهرية كخبر الواحد ، وشهادة العدلين ، والاستصحاب ، وغير ذلك مما تفيد العلم بالظاهر فقط ، ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجّيّة تلك الطرق تعيّن تخصيصها أيضا بما دلّ على حجيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلة الاستصحاب ووجوب مقدمة العلم.

بل التحقيق عندي : أن يتمسّك بالرّوايات المذكورة باعتبار دلالتها على

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ ، والخصال : ٤١٧ ، عنهما الوسائل : ج ١٥ / ٣٦٩ باب « جملة مما عفي عنه » ـ ح ١.

(٢) التوحيد : ٤١٦ ـ ح ١٧ وثواب الأعمال : ١٣٣ ـ ثواب من عمل بما علم ، عنهما الوسائل : ج ٢٧ / ١٦٤ باب « وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى » ـ ح ٣٥.


نفي الحكم الوضعي ؛ نظرا إلى حجب العلم وانتفائه بالنسبة إلى جزئيّة الجزء المشكوك وشرطيّة الشرط المشكوك ، فيكون بمقتضى النصّ موضوعا ومرفوعا في الظاهر ، ويكون مكفئين عنه فلا تكليف به ؛ لأن ما ثبت عدم جزئيّته أو عدم شرطيّته في الظاهر لا يجب الإتيان به في الظاهر قطعا ، كما لو قام عليه نصّ بالخصوص. وأصل الاشتغال ووجوب مقدّمة العلم لا يثبتان الجزئيّة والشّرطيّة في الظاهر ، بل مجرّد بقاء الاشتغال وعدم البراءة في الظاهر بدونهما.

وبالجملة : فمقتضى عموم الروايات : أن ماهيّة العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة ، بشرائطها المعلومة فتبيّن موارد التكليف ويرتفع عنها الإبهام والإجمال وينتفي الإشكال.

ولو تشبّث مانع بضعف عموم الموصولة وادّعى : أن المتبادر منها ـ بقرينة ظاهر الوضع والرفع ـ : إنّما هو الحكم التكليفي فقط ، فأمكن دفعه أوّلا : بأن الوضع والرفع لا اختصاص لهما بالحكم التكليفي ؛ فإن المراد رفع فعليّة الحكم ووضعها ، وهو صالح للتعميم إلى القسمين فيكون التخصيص تحكّما. وثانيا : بأن من الأصول المتداولة المعروفة ما يعبّرون عنه بأصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم فيستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ، ونحن قد تصفّحنا ولم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسّك به غير عموم هذه الأخبار فيتعيّن تعميمها للحكم


الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم (١) ، وحينئذ فيتناول الجزئية والشرطية المبحوث

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ محمّد هادي الطهراني قدس‌سره :

« ولقد أجاد المتوهّم حيث استدل له بفهم العلماء منها ذلك ؛ حيث إنّ من الأصول المعتبرة عندهم أصالة العدم وعدم الدليل ؛ فإن هذا إعتراف منهم ببطلان ما توهّمه ؛ فإنّ كون فهم العلماء دليلا من سخائف الأوهام ، مع ان عدم وجدانه مدركا للأصلين سوى ذلك لا يدلّ على استنادهم إليه وقد حقّقنا في مبحث الإستصحاب : أن أصالة العدم قاعدة عقليّة ، ومعناها أصالة عدم المانع ، وأن عدم الدليل دليل العدم فيما يعمّ به البلوى وهو دليل علمي في الحقيقة ، وكيف كان : فليس مدرك الأصلين ما توهّمه.

وظهر بما حقّقناه جريان أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته وأصالة عدم جزئيّته.

أمّا الأوّل : فعلى ما حقّقناه في غاية الوضوح ، وأمّا على ما زعمه الأستاذ قدس سره : من أنّ الأقلّ متيقّن الإلزام ؛ فانه لا معنى لإنحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي إلاّ ذلك.

ومن العجب انه تصدّى لإبطاله : بأن الحادث المجعول هو وجوب المركّب المشتمل عليه فوجوب الجزء في ضمن الكل عين وجوب الكل ووجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّيّة لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجيّة الاربعة ، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ليثبت بذلك كون الماهيّة هي الأقلّ.

وفيه : ان المنفي هو الوجوب المشترك بين النفسي والمقدّمي الذي ثبت للأقل فإن لم يكن


عنهما في المقام.

ولك أن تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة التي كادت أن تكون إجماعا على ما حكاه الفاضل المعاصر (١). وربّما يظهر بالتفحّص في مصنّفاتهم والتتبع في مطاوي كلماتهم ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« ولنا في المقام كلام آخر يأتي بيانه في الأدلة العقليّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

هذا قابلا للنفي فكيف يقتصر عليه بالنسبة إلى الأقل!

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل الماهيّة واختراعها عبارة عن اعتبار أمور متعدّدة أمرا واحدا على نسق خاص وترتيب مخصوص ، فاعتبر الشارع قياما بعنوان القنوت والرّكوع وسجدتين على ترتيب مخصوص واعتبر تحريما وتحليلا وجعل لكل صلاة ركعات محدودة ثم أمر بها تارة ونهى عنها أخرى ، فحيث شككنا في اعتبار وراء ما يعلم باعتباره معها ، فالأصل عدمه ، وهذا الأصل ليس إعتمادا على حالة سابقة ، بل إنّما هو أصل عدم خروج الشيء عمّا هو عليه ، ومن المعلوم : أن الأصل في كلّ حادث هو العدم ، والتفصيل في مبحث الإستصحاب.

وأطال الأستاذ قدس‌سره في إبطال هذا الوجه بما لا طائل تحته » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٤٩.

(١) يريد به الفاضل القمي في القوانين.

(٢) الفصول الغرويّة : ٥١.


نقل كلام آخر له في الأدلّة العقليّة

والأولى نقل كلامه بطوله في الأدلّة العقليّة أيضا لارتباطه بالمقام قال ـ قدس‌سره بعد جملة كلام له في بيان أصل العدم والفرق بينه وبين أصالة البراءة بجريانه في الأحكام الوضعيّة كالجزئيّة والشرطيّة دونها والاستدلال له بوجهين أحدهما : أخبار الاستصحاب. والإيراد عليه : بأن التعويل عليها لإثبات الماهيّة المردّدة تعويل على الأصول المثبتة التي لا نقول بها ـ ما هذا لفظه :

« الثاني : عموم ما دلّ على أنه رفع عن هذه الأمّة ما لا يعلمون ، وأنّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، إلى غير ذلك من الأخبار التي مرّ ذكرها. وتخصيصها بالحكم التكليفي خروج عما يقتضيه وضع اللفظ من غير دليل. وقيام الدليل في بعض الأحكام الوضعيّة وعدم اشتراطه بالعلم لا ينافي تعميمه إلى الموارد التي لا دليل فيها على ذلك.

ثمّ دائرة أصل العدم بحسب هذا الدليل ، أعني : الأخبار ، أوسع من دائرته بحسب الدليل السابق لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام الوضع حتى الجزئيّة منها الشرطيّة والمانعيّة ؛ لأن المفهوم من أخبار الباب رفع الحكم المجهول وإثبات ما يترتّب عليه من الأحكام الشرعيّة وغيرها ممّا يترتب عليه أحكام شرعيّة عملا بظاهر الإطلاق السالم عما يقتضيه صرفه هنا عنه ؛ إذ الوجه الذي


قرّرناه في منع الإطلاق (١) أخبار الاستصحاب غير متطرّق إلى إطلاق هذه الأخبار ، ولو لا ذلك لالتزمنا بالإطلاق هناك أيضا.

فاتّضح بما قرّرناه : أن الأصل المثبت بالمعنى المذكور إن كان استصحابا لم يعتبر ، وإن كان أصل العدم بالاعتبار الذي ذكرنا كان معتبرا ، هذا تحقيق ما أدّي إليه نظري سابقا.

والذي أدّي إليه نظري لاحقا فساد هذا الوجه ؛ فإن الظاهر من أخبار الوضع والرّفع وما في معناهما : إنما هو وضع المؤاخذة والعقوبة ورفعهما ، فيدلّ على رفع الوجوب والتحريم الفعليّين في حقّ الجاهل دون غيرهما وحملهما على رفع نفس الحكم وتعميمه إلى حكم الوضع مع بعده عن سياق الرواية مناف لما تقرر عند الأصحاب : من أن أحكام الوضع لا تدور مدار العلم ، بل ولا العقل والبلوغ.

ولهذا تراهم يحكمون في مباحث الفقه بترتّب أحكامها الوضعيّة كالحدث بأنواعه ، والطهارة ، والنجاسة ، والملكيّة ، المتعلّقة بالعين والمنفعة بأقسامها المقررة ، والضمان ، والخيارات ، والصحة ، والبطلان ، إلى غير ذلك مما لا يحصى على الصغير ، والمجنون ، والجاهل ، والعاقل ، إلاّ فيما شذّ وندر.

وبالجملة : فالذي يظهر من اتفاقهم : أن الأصل في أحكام الوضع عمومها للعالم وغيره ، وأن الخروج من هذا الأصل في بعض الموارد النّادرة إنّما هو

__________________

(١) كذا والظاهر : إطلاق.


لدلالة دليل عليه بالخصوص.

ثمّ نؤكّد الكلام في منع دلالة هذه الأخبار على أصالة عدم الجزئيّة والشرطيّة وما في معناهما بالنسبة إلى ما شكّ في اتصافه بذلك : بأن مرجع عدم وضع الجزئيّة الشرطيّة في الجزء والشرط المشكوك فيهما إلى عدم وضع المركّب من ذلك الجزء والمشروط بذلك الشرط ؛ فإن عدم جزئيّة الجزء بمعنى عدم كليّة الكلّ ، وعلى قياسه الشرط والمشروط ، ولا ريب في عدم جريان أصل العدم بالنسبة إلى المركّب والمشروط ؛ لأن أصالة عدم وضع الأكثر في مرتبة أصالة عدم وضع الأقلّ ، وأصالة عدم وضع المقيّد في مرتبة أصالة عدم وضع المطلق ، يعارضهما العلم الإجمالي بوضع أحدهما : فيسقطان عن درجة الاعتبار ، فكذا ما يرجع إلى ذلك ممّا لا يغايره إلاّ بمجرّد المفهوم.

سلّمنا مغايرتهما بغير المفهوم لكن لا خفاء في أن الجزئية والشرطيّة لا يستدعيان وضعا مغايرا لوضع الكلّ والمشروط ، بل هما اعتباريّان عقليّان متفرّعان على وضع الكلّ والمشروط ، وعدمهما من الحكم الشرعي مبني على مراعاة هذا الاعتبار ، وإلاّ فليسا عند التحقيق منه ، فلا ينصرف الوضع والرّفع في الأخبار إليهما.

سلّمنا لكن لا ريب في أن الجزئيّة والشرطيّة كما ينتزعان من اعتبار الجزء في الكلّ والشرط مع المشروط كذلك ينتزع عدمهما من عدم اعتبارهما ، فيكون عدمهما أيضا حكما وضعيّا كثبوتهما. ونسبة عدم العلم إلى كل منهما بالخصوص


سواء ، فلا وجه لترجيح إعمال الأصل بالنسبة إلى أحدهما بالخصوص مع العلم بانتقاض الأصل بالنسبة إلى أحدهما لا على التعيين ، فيسقط الاستدلال بأخبار الوضع والرفع وما في معناهما.

بقي الاحتجاج برواية « من عمل بما علم كفي ما لم يعلم » (١).

فالوجه في الجواب : القدح في دلالته ؛ بأن الظاهر مما علم ما علمه من المطلوبات النفسيّة دون الغيريّة والإتيان بما علم من أجزاء العبادة وشرائطها ليس إتيانا بما علم أنه مطلوب نفسي ، فلا يندرج في عموم الرواية.

سلّمنا لكن معنى ( ما علم ) ما علم مطلوبيّته لا ما علم جزئيّته أو شرطيّته ، ولا ريب في العلم بمطلوبيّة الجزء والشرط المشكوك فيهما من باب المقدّمة فلا يندرجان في عموم ( ما لم يعلم ). فاتضح ممّا حققنا : أن المستند على حجيّة أصل العدم في أحكام الوضع منحصر في الاستصحاب ، وقد بيّنا عدم مساعدته على جريانه بالنسبة إلى وضع الجزئيّة والشرطيّة. فالتحقيق إذن : هو القول بوجوب الاحتياط فيهما حيث لا يقوم دليل على نفيهما » (٢). انتهى كلامه المتعلّق بالمقام بتمامه رفع الله في الخلد مقامه.

__________________

(١) انظر توحيد الشيخ الصدوق : ص ٤١٦ ـ ح ١٧.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٦٤.


في التعرّض لما اعترضه المصنّف على الكلام المذكور

وفي كلامه ـ كما ترى ـ أنظار غير مخفيّة على الواقف بما ذكرنا في طيّ أجزاء التعليقة وسنذكره يطول المقام بذكرها ، ونقتصر فيه على التعرّض لما أورده شيخنا قدس‌سره عليه في « الكتاب » بقوله قدس‌سره : ( أقول : قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه : أن استصحاب الاشتغال ... الى آخره ) (١) (٢).

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : دعوى حكومة أخبار البراءة على قاعدة الإحتياط سواء كان المستند فيها استصحاب الشغل أو العقل.

نعم ، لو كان المستند فيها الأخبار كان لما ذكره صاحب الفصول وجه.

أمّا الأوّل : فلكون الأصل مثبتا ؛ لأن استصحاب الإشتغال بعد الإتيان بالأقلّ لا يثبت وجوب الأكثر إلاّ على القول بترتّب الآثار العقليّة على المستصحب ومع التسليم فاخبار البراءة حاكمة عليه كما أوضحه المصنف رحمه‌الله.

وأقول : هذا مضافا إلى منع جريان استصحاب الإشتغال في مورد جريان قاعدته كما أشار إليه المصنف رحمه‌الله سابقا وفيما يأتي ان شاء الله تعالى.

وأما الثاني : فإن قاعدة الإحتياط المستندة إلى العقل إن كان مقتضاها الدلالة على ان ما وجب في الواقع هو الأكثر دون الأقل كان لما ذكره وجه ، وليس كذلك لأن مبناها على حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل فإذا فرضت دلالة أخبار البراءة على عدم وجوب الأكثر


وحاصله : كما ترى ، يرجع إلى وجوه :

لا معنى لحكومة قاعدة الإشتغال على اخبار البراءة

الأوّل : أن الحكم بحكومة قاعدة الاشتغال على أخبار البراءة كـ ( رواية الحجب ) ونحوها ، لا معنى له سواء كان مدركها حكم العقل بها : من باب حكمه

__________________

وعدم ترتّب العقاب على تركه لا يبقى مجرى لقاعدة الإحتياط كما لو صرّح الشارع بعدم ترتّب العقاب من جهة إحتمال وجوب الإكثر.

وأمّا الثالث : فإن أخبار الإحتياط إن كان مقتضاها إثبات الوجوب الشرعي الظاهري فلما ذكره من حكومتها على أخبار البراءة وجه ، وقد أوضحه المصنف رحمه الله في الشبهة التحريميّة من مسائل الشك في التكليف ؛ لأن مقتضى أخبار البراءة هي الإباحة الظاهريّة فيما لم يرد فيه بيان من الشارع خصوصا ولا عموما ، أو نفي العقاب في مورد عدم ثبوت التكليف ولو ظاهرا وأخبار الإحتياط لعمومها بيان ومثبتة للوجوب الظاهري في مورد إحتماله أو العلم به إجمالا.

وإن كان مقتضاه الإرشاد إلى دفع العقاب المحتمل لما فيه من مصلحة المكلّف كان مؤداه موافقا لحكم العقل فتكون أخبار البراءة حينئذ حاكمة عليها.

ومن هنا يظهر أن حكم المصنّف رحمه‌الله بحكومة أخبار الإحتياط عليها مبني على ظاهر كلام من تمسك بها في أمثال المقام لإثبات الوجوب الشرعي لا على ما اختاره من حملها على الإرشاد كما صرّح به في الشبهة التحريميّة البدويّة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣١.


بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، أو استصحاب الاشتغال ، أو الأخبار.

أما الأول :

فلما عرفت : من ورود أخبار البراءة على الحكم المذكور ؛ نظرا إلى ارتفاع موضوعه وما هو المناط له من العقاب المحتمل من جهة حكم الشارع بالجواز وعدم الوجوب من الأخبار المذكورة ، فليس الحكمان في مرتبة واحدة فضلا عن حكومة الأول على الثاني ، وليس حكم العقل بوجوب الاحتياط في المقام على تقدير تسليمه أقوى من حكمه به في المتباينين من الشبهة الحكميّة والموضوعية كاشتباه القبلة مثلا ، والمناط فيه في كليهما دفع الضرر المحتمل في أطراف الشبهة والمحتمل كما في المقام.

فإذا حكم الشارع بجواز ترك الصلاة إلى بعض الجهات كما وقع في الشرعيّات ، فهل يتوهّم أحد أن الحكم المذكور مناف لحكم العقل بوجوب الاحتياط ويجعله مخصّصا له؟ حاشا بل يحكم كل أحد بكونه رافعا لموضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فإذا كان حال الحكم المذكور بالنسبة إلى حكم العقل كذلك ، كان حال حكم الشارع بجواز ترك الجزء المشكوك ، أو الأكثر : من جهة أخبار البراءة بالنسبة إلى حكمه كذلك ، فلا محالة يكون واردا عليه ؛ إذ الفرق بالخصوص والعموم لا يصلح فارقا بعد عدم إمكان التخصيص في العقليّات.


وأما على الثاني :

فأمّا أوّلا : فبأن استصحاب الاشتغال بأحد معنييه لا معنى له أصلا على ما عرفت سابقا ، وبالمعنى الآخر لا ينفع جزما ، ولا يثبت وجوب الاحتياط إلا على القول بجواز التعويل على الأصول المثبتة الذي لا نقول به وفاقا للفاضل المذكور والمحققين بناء على القول باعتبار الاستصحاب : من جهة الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ.

ومن هنا التزم بوجوب الاحتياط فيما عرفت من كلامه : من جهة عدم جواز إثبات الماهيّة بأصالة البراءة ، وما يرجع إليها : من أصالة العدم بناء على الاستدلال لها بأخبار الاستصحاب وكونها منه مبتنيا المسألة على جواز تعيين الماهيّة بالأصل وعدمه هذا. مع أنه على تقدير جواز التعويل على الأصل المثبت لا معنى للرجوع إلى استصحاب الاشتغال لحكومة أصالة البراءة المعيّنة للماهيّة ، وكذلك أصل العدم المعيّن لها عليه كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فبأنّه على فرض تسليم جواز التعويل على الأصل المثبت لا ينفع الاستصحاب المذكور في محلّ البحث لحكومة أخبار البراءة عليه في خصوص الفرض ؛ حيث إن المقصود من استصحاب الاشتغال في الزمان اللاحق وتعيين الواجب في ضمن الأكثرية ليس إلاّ إثبات وجوب الجزء المشكوك والحكم به ، وقد تعلّق الحكم الظاهري بنفي وجوب الأكثر والجزء المشكوك قبل


جريان الاستصحاب المذكور وتحقّق موضوعه ، فبعد الحكم بنفيه ظاهرا في السّابق وتجويز تركه لا معنى للحكم بإثباته ظاهرا في اللاحق.

فإن شئت قلت : في بيان الحكومة : إنّ الشكّ في بقاء الاشتغال والوجوب مسبّب عن الشكّ في وجوب الأكثر ، أو الجزء المشكوك في أصل الشرع. فإذا حكم بنفيهما بمقتضى أخبار البراءة فيرتفع الشكّ عن البقاء بحكم الشارع ، وهذا معنى الحكومة. والعكس بأن يقال : إن الشكّ في أصل حكم الشارع مسبّب عن الشكّ في بقاء الاشتغال والوجوب بعد الإتيان بالأقلّ لا معنى له كما هو ظاهر ، مع أنه مستحيل مطلقا ؛ ضرورة امتناع صيرورة علّة الشيء معلولا له.

وبالتأمّل فيما ذكرنا من شرح الحكومة وبيانها يظهر لك فساد ما قد يورد على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في بيان الحكومة بقوله : « وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار ... إلى آخره » (١) :

بأن الذي يظهر مما ذكره حسبما يفصح عنه مقالته اقتضاء الأخبار نفي العقاب ليس إلاّ ، ومن المعلوم عدم ظهور حكومة أخبار البراءة بملاحظة هذا المعنى المستظهر منها على الاستصحاب المذكور ؛ لأن حكم الشارع بنفي العقاب إنّما ينفع في رفع اليد عن الحكم المبتني على احتمال العقاب كحكم العقل بوجوب الاحتياط ، لا في رفع اليد عمّا يكون مقتضيا في الظاهر لوجوب الإتيان

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٢.


بالمشكوك من حيث هو ، بل المتعيّن عليه هو القول بعكس ذلك ، وتحكيم الاستصحاب المقتضي لوجوب الجزء المشكوك ظاهرا بناء على القول بالأصل المثبت على أخبار البراءة ؛ فإن رفع العقاب على ترك المشكوك رفع لوجوبه في مرحلة الظاهر ، كما أن الإخبار بثبوت العقاب على ترك فعل إثبات لوجوبه ، فالتحكيم الذي أفاده إنما هو بالنظر إلى رفع الوجوب لا مجرّد رفع العقاب فقط ، فتأمل حتى لا يختلط عليك الأمر في المقام.

وأما على الثالث :

فلما عرفت في طيّ الكلام على أخبار الاحتياط في الموضع الأول من الشك في الشبهة التحريميّة الحكميّة التي ذهب الأخباريّون إلى وجوب الاحتياط فيها مستدلّين بتلك الأخبار : من أن مساق أكثرها إن لم يكن كلّها مساق حكم العقل المبتني على دفع الضّرر فيحمل على الطلب الإرشادي لا الشرعي ، فيرتفع موضوعها بأخبار البراءة. وعلى تقدير حملها على الطلب الشرعي لا بدّ من أن يحمل على الطلب القدر المشترك لئلا يرد التخصيص عليها بإخراج ما لا يجب الاحتياط فيه باتفاق الأخباريين مع إبائها عن التخصيص هذا.

مع ما عرفت : من أنه على تقدير حملها على الطلب الشرعي الإلزامي الظاهري لا يجوز تحكيمها على أخبار البراءة ؛ لما عرفت : من أن نفي العقاب على الحكم الواقعي المجهول في معنى تجويز الفعل وعدم وجوب الاحتياط سيما


حديث الرّفع الظاهر في رفع وجوب الاحتياط الثابت في الشريعة ، بل الأمر عكس ما ذكره بالنسبة إلى الحديث الشريف. ومن هنا جعلناه حاكما على ما دلّ على ثبوت الآثار الشرعيّة بعمومها في مورد الحالات المذكورة في الرواية على تقدير التعميم لجميع الآثار.

نعم ، لو كان الموضوع في أخبار البراءة الجهل المطلق بحكم الشيء وبجميع مراتبه ، الموضوع في أخبار الاحتياط الجهل بحكم الشيء في مرحلة الواقع ومن حيث هو ، وكان المحمول وجوب الاحتياط كانت أخبار الاحتياط حاكمة على أخبار البراءة في وجه وواردة عليها في وجه آخر ، لكن المقدّرات بأسرها ممنوعة وإن أمكن تقديرها ؛ لأن فرض المحال ليس بمحال فضلا عن الممكن المخالف لظاهر الدليل.

وإلى التقدير الأخير ينظر تصديقه في « الكتاب » بقوله : « نعم ، لو كان مستند الاحتياط ... الى آخره » (١) (٢) فافهم ، وراجع ما ذكرنا في شرح المقام في الموضع

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : إن قلنا إنّ مفاد قوله عليه‌السلام : ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) أنّ ما حجب علمه ـ ولو في مرحلة الظاهر ـ بعنوان كونه مشكوك الحكم ، كانت أخبار الإحتياط ـ على تقدير الدلالة على وجوب الإحتياط ـ حاكمة عليه.

وإن قلنا إن مفاده ما حجب علمه بعنوانه الواقعي يعني أنّ الأشياء التي لم يعلم حكمها


__________________

بعناوينها المخصوصة بها يعارضها أخبار الإحتياط ولا بد حينئذ من الرجوع إلى المرجّحات » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٥٦.

* وعلّق عليه المحقق الكرماني قدس‌سره قائلا :

« أقول : إن كان العلم المأخوذ في حديث الحجب أعمّ من المتعلّق بالحكم الأولي الواقعي والثانوي الظاهري كان ما دلّ على وجوب الإحتياط في مشكوك الحكم الواقعي لو دلّ واردا على هذا الخبر باعتبار منطوقه ومعاضدا له باعتبار مفهومه وإن اختص بالحكم الواقعي الأوّلي دخل مشكوك الحكم الواقعي الذي هو موضوع أخبار الإحتياط فيما حجب الله علمه عن العباد وصار مادّة التعارض بين الطائفتين من الأخبار وتتأتّى أحكام التعارض ، ولا ينبغي الذهول عن أن ورود أخبار الإحتياط على حديث الحجب على تقدير تعميم العلم فيه يصحّ لو خلّيناها وأنفسها ابتداء للمشكوك الحكم من غير ملاحظة مزاحمة أخبار الوضع والسعة لها فيه حتى يصير معلوم الحكم في الظاهر ويخرج عن تحت المحجوب ، امّا لو جعلناه ابتداء معركة نزاع الفريقين فكما انّ أخبار الإحتياط تقتضي أخذه لنفسها وتصيّره معلوم الحكم في الظاهر كذلك أخبار الحجب والسعة يقتضي أخذه لنفسها وتصيّره موضوعا عن العباد موسّعا فيه وتمنع أخبار الإحتياط بأن تجعله معلوم الحكم فتتعارض الطائفتان فيه كفرض تخصيص العلم بالحكم الأوّلي الواقعي فإذا زال غسق الليل بالإصباح واستغنيت عن الإسراج والإقداح فحيّ على الفلاح » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٢٧٧.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« وقد ذكر في الشبهة التحريميّة من أقسام الشك في التكليف : أن أخبار البراءة بل الآيات


الأوّل من الشكّ.

__________________

المستدل بها لها على تقدير تماميتها ما سوى خبر ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) مفادها : أن ما لا يعلم حكمه الواقعي ولا الظاهري فحكمه البراءة.

وبعبارة أخرى : مفادها مساوق للحكم العقلي بالبراءة وحينئذ لا تعارض أخبار الإحتياط لأن مورد وجوب الإحتياط قد علم حكمه الظاهري فخرج بذلك عن موضوع أخبار البراءة لكن ذكرنا نحن هناك : أن أغلب أخبار الباب بل الآيات ظاهرة في أن ما لم يعلم حكمه الواقعي فهو مرخّص فيه وعليه تتعارض أخبار البراءة وأخبار الإحتياط ؛ إذ مفاد الأوّلة : نفي العقاب على الواقع المجهول ، ومفاد الثانية : ثبوت العقاب على الواقع المجهول بناء على أنّ مفادها الإرشاد إلى تنجيز الواقع وكذا إذا حملناها على الموضوعيّة وأن مفادها إثبات الحكم الظاهري للمحتمل وترتّب العقاب على مخالفته ولو تخلّف عن الواقع على خلاف التحقيق ؛ لأنّ مفاد أخبار البراءة إثبات الإباحة الظاهريّة ومفاد أخبار الإحتياط إثبات الوجوب أو الحرمة الظاهريين.

نعم ، لو قلنا بأن أخبار البراءة لا تدل على الإباحة الظاهريّة الفعليّة ، بل إنّما تدلّ على نفي ترتّب عقاب الواقع المجهول ولا تنافي ترتّب العقاب المترتّب على ارتكاب محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب كان أخبار الإحتياط حينئذ مقدما على أخبار البراءة ولزم العمل على الإحتياط ، لكنه خلاف التحقيق ؛ فإن أخبار البراءة ظاهرة في الإباحة الفعليّة فتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨١.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٣١.


الوجه الثاني :

لا معنى للملازمة المزبورة

الثاني : ما أفاده : من الملازمة بين حكومة أخبار البراءة على قاعدة الاشتغال وبين دلالتها على عدم حجيّة الأدلّة الظنيّة كأخبار الآحاد وتعارضها معها ؛ من حيث عدم حصول العلم منها بالواقع كما لا يحصل من القاعدة بقوله : ( وإلاّ لدلّت هذه الأخبار ... إلى آخره ) (١) مما لا معنى له عند من له أدنى تأمّل ، لوجود الفرق البيّن بينهما بما لا يخفى على الأوائل ؛ فإن حجيّة الأدلّة الظنيّة ليست من حيث احتمال الضرر والعقاب ، بل من حيث كشفها عن الواقع ظنّا ولو بحسب النوع والطبع. ودليل اعتبارها إنما دلّ عليه من هذه الحيثيّة والجهة.

وحاصل مفاده : عدم الاعتناء باحتمال عدم إصابتها للواقع وخطأها ، ومعناه : رفع اليد عن الأصل الذي أسّس شرعا في موضوع احتمال الواقع والشكّ فيه ، فهو شارح لدليل اعتبار الأصل ومفسّر له ومبيّن لمقدار مدلوله ، فهو وإن لم يكن رافعا لموضوع الاحتمال وجدانا وحقيقة إلا أنه رافع له بحكم الشارع ، وهذا بخلاف القاعدة المبتنية على وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ فإنّها لا يمكن أن تكون

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١ والذي فيه : ( وإلاّ لدلّت هذه الرّواية ).


شارحة لما سواها من الأصول الشرعيّة ، ولو جعل الموضوع فيها : عدم العلم بالحكم بالمعنى الأعمّ من الظاهري والواقعي لا خصوص الأخير ، والعجب كل العجب من اشتباه هذا الفرق البيّن عليه مع ما عليه من مقام العلم هذا.

مع أن لنا قلب ما أفاده عليه : بأنه لو كانت القاعدة حاكمة على أخبار البراءة لوجب الحكم بحكومتها على الأدلّة الظنيّة المطابقة لها في القضايا ؛ إذ المفروض على ما زعمه : حكومة القاعدة على ما ينفي التكليف في مرحلة الظاهر من غير فرق بين أقسامه ؛ إذ المفروض : أن مفاد الأدلة الظنيّة أيضا حكم ظاهريّ كمفاد أخبار البراءة ، فإذا بني على عدم التميز والفرق لزمه ذلك فتأمل.

ومنه يظهر ما في قوله : ( ولو بني على تخصيصها ... الى آخره ) (١) ؛ إذ قد عرفت : أن وجه العمل بها في قبال الأصول الشرعيّة بأسرها هو حكومتها عليها ، مع أن تخصيصها بها مع الغضّ عمّا ذكرنا من الترتّب والتقدّم الذاتي وتسليم كونهما في مرتبة واحدة ، لا يوجب الحكم بجواز تخصيص أخبار البراءة بالقاعدة المبتنية على احتمال العقاب مع ورود الأخبار عليها كما هو ظاهر.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١.


الوجه الثالث :

تمسّكه بالأخبار لنفي الحكم الوضعي أشدّ ضعفا

من تمسّكه بها لنفي الحكم التكليفي

الثالث : أن عدوله عن التمسّك بالأخبار المذكورة لنفي الحكم التكليفي إلى التمسّك بها لنفي الحكم الوضعي في ذيل كلامه أشدّ ضعفا :

أمّا أوّلا : فيمنع العموم للأخبار المذكورة لنفي الحكم الغير التكليفي على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا واعترف به أيضا قدس‌سره في كلامه الذي نقلناه عنه أخيرا في باب أصل العدم.

وأمّا ثانيا : فبمنع كون الجزئيّة أمرا شرعيّا حتى يتعلّق الحكم بإثباتها ونفيها ، بل هي كسائر الأحكام الوضعيّة من الأمور الاعتباريّة المنتزعة من الأحكام التكليفيّة على ما عرفت بعض الكلام فيه وستعرف تفصيله في كلماتنا بعد ذلك وقد اعترف به أيضا في كلامه المذكور ، بل قيل : معنى جعل الحكم الوضعي جعل الحكم التكليفي الذي ينتزع عنه كما هو الظاهر من قول شيخنا قدس‌سره ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعوليّا شرعيّا غير الحكم التكليفي ؛ فإن المراد مغايرتهما بحسب الجعل بمعنى تعلّق الجعلين بهما وإن كان ظاهر كلام هذا الفاضل في أوّل


« الكتاب » كونه مجعولا مستقلاّ في قبال جعل الحكم التكليفي ، لا أن يرجع جعله إلى جعله ؛ فإن مرجعه إلى إنكار جعل الحكم الوضعي ؛ فإن أحدا لم ينكر الجعل بالنسبة إلى الحكم التكليفي في مورد الأحكام الوضعيّة.

وبالجملة : جزئيّة الجزء ككلّيّة الكلّ كما اعترف به قدس‌سره من الاعتباريّات العقليّة لا يجامع الحكم لشمول الرواية لها كما لا يخفى.

وأما ثالثا : فبأنه إذا بني على عدم مساعدة الأخبار لإثبات الأصول المثبتة ـ ولأجله قال : إن نفي الوجوب بمقتضى الأخبار لا يثبت الماهيّة ولا يعيّنها في ضمن الأقلّ ، وكذلك نفي الجزئيّة بمقتضى أخبار الاستصحاب أيضا لا يثبتها ـ لم يعقل الفرق في مدلولها بين الاستناد إليها لنفي الحكم التكليفي وبينه لنفي الحكم الوضعيّ ، فكما أن نفي وجوب الجزء المشكوك كذلك نفي وجوب الأكثر بالأخبار المذكورة لا يثبت الماهيّة ، كذلك نفي جزئيّة المشكوك وكليّة الأكثر المشتمل عليه بالأخبار المذكورة لا يثبتها ؛ إذ لا يعقل الفرق بين الأمرين بعد البناء على كون المجعول بالروايات المذكورة هو خصوص الآثار الشرعيّة المترتّبة على المنفيّ بها في مرحلة الظاهر.

وكأنه قدس‌سره زعم كون مفادها فيما إذا نسب إلى الحكم التكليفي هو النفي في مرحلة الظاهر ، وفيما إذا نسب إلى الحكم الوضعي هو النفي في مرحلة الواقع فيكون دليلا اجتهاديّا بهذه الملاحظة كما يفصح عنه قوله : ( إن مقتضى هذه


الروايات أن ماهيّة العبادات ... إلى آخره ) (١).

وأنت خبير بما فيه ؛ إذ كيف يعقل الفرق في مفاد رواية واحدة بين النسبتين؟

وأما ما أفاده في المقام في كلامه الذي حكينا عنه أخيرا من المعارضة بين الجزئية وعدمها ؛ نظرا إلى كون كل منهما حكما شرعيّا بناء على القول بتعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة ، فيتعارض الأصلان بالنسبة إلى وجودها وعدمها للعلم الإجمالي بجعل أحدهما ، فهو مما لا محصّل له ، وإن هو إلا كالقول : بأن الوجوب كما يكون حكما شرعيّا كذلك عدمه أيضا حكم شرعيّ ، فكل مورد شكّ فيه يجري الأصلان فيه بالنسبة إلى وجوده وعدمه ويتعارضان فتأمل.

والقول : بأن تعيين الماهيّة في الأقلّ يحتاج إلى جنس وجوديّ وهو اعتبار الأجزاء المنسيّة ، وفصل عدميّ وهو عدم اعتبار غيرها. والجنس موجود بالفرض والفصل مورد للأصل ، فلا يلزم هناك من تعيين الماهيّة بنفي الجزئيّة التعويل على الأصل المثبت ، وهذا بخلاف نفي الوجوب ؛ فإنه يلازم كون الماهيّة هي الأقلّ وليس عين مجرى الأصل ، ومن هنا يفرّق بين الحكمين في مفاد الرّوايات ، فليس هنا اختلاف في أصل معناها فاسد.

مضافا إلى ما ستقف عليه عن قريب من ضعف هذا التوهّم : بأنه اعترف : بأن نفي الجزئيّة بأخبار الاستصحاب لا يجدي في تعيين الماهيّة ، إلاّ على القول

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥١.


بجواز التعويل على الأصل المثبت ، وإنما أراد الفرق بين الحكمين بالنظر إلى أخبار البراءة.

الرابع : أن ما استشهد لتعميم روايات الباب أخيرا : من فهم العلماء منها ذلك حيث إن من الأصول المعروفة المسلّمة عندهم : أصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم ، ويستعملونها في نفي ما شكّ فيه مطلقا من غير فرق بين الحكم التكليفي وغيره ، ولا مستند لهم في ذلك إلاّ الروايات ، فلا بد من تعميمها ولو بمساعدة أفهامهم ممّا لا معنى له أيضا ؛ لأن استنادهم إلى الأصلين في نفي غير الحكم التكليفي في الجملة مما لا مجال لإنكاره ، كما أن عدم استنادهم في الأصلين إلى روايات الباب مما لا ينبغي التأمّل فيه :

أمّا غير حديث الرفع : مثل ( رواية الحجب ) ونظائرها ، فلم يستظهر منهم إلاّ الاستناد إليه في نفي المؤاخذة والحكم التكليفي فقط ، كما هو الظاهر منه بلا ارتياب.

وأمّا ( حديث الرفع ) فهم بين مخصّص له برفع المؤاخذة والحكم التكليفي ـ على ما عرفت في القسم الأوّل من الشكّ : من أنه الظاهر منه ـ وبين معمّم له لرفع غير المؤاخذة من الآثار الشرعيّة المترتّبة على الموضوعات المذكورة في الرواية بالمعنى الذي عرفته ثمّ ، فيجعلونه حاكما على أدلّة الآثار كدليل نفي الحرج الضرر بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الشرعيّة.

وهذا المعنى لمّا لم يتصوّر بالنسبة إلى قوله : ( ما لا يعلمون ) ـ ضرورة عدم


إمكان رفع ما له دليل علمي ولو على وجه العموم على ثبوته بما دلّ على رفع الحكم عند عدم العلم به ، بل على تقدير جعل المراد من الرفع : المعنى الأعم الشامل للدّفع أيضا لا يمكن تعميمه بالنسبة إلى قوله : ( ما لا يعلمون ) لشمول المعنى العام لصورة وجود الدليل الغير المجامعة على ما عرفت مع تعلّق الرفع بعدم العلم كما هو ظاهر ـ فلا يمكن الاستناد للأصلين بالروايات المذكورة ، غاية ما هناك : تصادق الروايات بحسب المورد مع موارد الأصلين في الجملة. وهذا لا يدلّ على الاستناد فيهما إليها ، بل يدل على العدم ضرورة امتناع أخصّيّة العلّة من المعلول وافتراقها منه ولو في بعض الموارد كما هو ظاهر.

فلا بد أن يكون استنادهم في الأصلين إلى شيء آخر غير الأخبار المذكورة :

أمّا أصل العدم : فهو من أقسام الاستصحاب فيدلّ عليه ما دلّ على اعتباره من الأخبار أو بناء العقلاء. ويمكن الاستدلال في خصوص باب الألفاظ ببناء أهل اللسان والعرف عليه من باب الظنّ والظهور من غير أن يكون بناؤه على ملاحظة الحالة السّابقة حتى يدخل بذلك في الاستصحاب.

وأمّا عدم الدليل دليل العدم : (١) فبناؤه إمّا على حصول القطع منه ، كما في مسألة النبوّة وأمثالها من مسائل الأصول. وإمّا على حصول الظنّ منه كما يظهر

__________________

(١) أقول : مضى كلام المحقق الطهراني حول الأصلين المذكورين في التعليقة السابعة فراجع.


بالتصفّح في كلماتهم سيّما كلام المحقّق قدس‌سره وإن لم نقل باعتباره على الوجه الثاني على تقدير

تسليم حصول الظن منه مطلقا ، أو فيما يحصل منه إذا لم نقل بحجيّة مطلق الظن في الأحكام الشرعيّة.

(٢٩) قوله قدس‌سره : ( وحاله حال سابقه بل أردأ ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٦ )

محلّ النزاع في مسئلة مقدمة الواجب

أقول : ظاهر ما أفاده بل صريحه : إجراء أصل العدم بالنسبة إلى الحكم التكليفي المتصوّر للجزء في قبال ما يذكره بعده. ومحصّل القول في ذلك : أن للحكم التكليفي الثابت للجزء وجوها بعضها محلّ النزاع والكلام في مسألة وجوب المقدّمة وبعضها خارج عن حريم البحث.

أحدها : الوجوب العارض عليه بملاحظة انضمامه مع سائر الأجزاء وما له دخل في تحقّق المطلوب وبعبارة أخرى : من حيث صيرورته جزءا فعليّا للمركّب ووجوبه بهذا الاعتبار واللحاظ عين وجوب الكلّ ؛ لأنّه عين الكلّ بهذه الملاحظة وإن غايره بحسب التعبير أو الاعتبار ، فمرجع أصالة عدم وجوب الجزء بهذا المعنى والاعتبار في المقام إلى أصالة عدم وجوب الأكثر.

ثانيها : اللزوم واللاّبدّيّة. أي : الوجوب بالمعنى اللغوي. وذكر شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : « أن الوجوب بهذا المعنى ليس حادثا مغايرا للجزئيّة والمقدّميّة ، بل


حدوثه بحدوث المقدميّة كالزوجيّة للأربعة » (١) فلا يمكن إجراء الأصل فيه وإن هو إلا نظير إجراء الأصل في عدم الزوجيّة في العدد المردّد بين الأربعة والثلاثة مثلا. ولكن التحقيق : أن الوجوب بهذا المعنى عين المقدميّة فليس نفيه بالأصل من نفي الحكم التكليفي حقيقة فتدبّر.

ثالثها : الوجوب الإرشادي العقلي الثابت لجميع المقدّمات الداخليّة والخارجيّة ، وهذا المعنى وإن لم يقع النّزاع في ثبوته في مسألة مقدّمة الواجب ـ على ما حقّقناه فيها وفاقا لشيخنا قدس‌سره ومن هنا توهّم بعض : خروج المقدّمة العلميّة عن حريم البحث : زعما منه عموم النّزاع لما يشمل الوجوب الثابت للمقدّمة العلميّة من الوجوب الإرشادي العقلي مع وضوح فساده ؛ لأن الوجوب الإرشادي ثابت لجميع المقدّمات إتفاقا من غير فرق بين المقدّمة العلميّة والوجوديّة ، غاية ما هناك : عدم إمكان عروض غير الوجوب الإرشادي للمقدّمة العلميّة ؛ حيث إن الوجوب الثابت لذيها ليس إلا الوجوب الإرشادي العقلي ؛ إذ مبناه على وجوب دفع الضرر المحتمل وليس له وجوب شرعيّ حتى يتوهم الوجوب بمعنى آخر لمقدميّته ـ إلا أنه لا يعقل الشكّ فيه مع الشك في الجزئيّة حتى يرجع إلى الأصل فيه كما هو الشأن في جميع الأحكام العقليّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٦.


ومن هنا ذكرنا في مسألة وجوب المقدّمة ـ في قبال من جعل الأصل في المسألة عدم الوجوب ـ : أنه لو كان المشكوك الوجوب الغيري الذي أنشأه الشارع للمقدّمة جاز الرجوع إلى الأصل بالنسبة إليه على تقدير وقوع الشكّ فيه.

ولو كان المشكوك الوجوب العقلي ، أو حكم العقل بثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّماته ـ لا الملازمة الواقعيّة التي يرجع إلى المعنى الأول باعتبار ـ وأراد القائل نفيها بالأصل لم يكن معنى له ؛ لأنه لا يمكن وقوع الشكّ في الحكم العقلي.

رابعها : الطلب الشرعي التوصّلي التّبعي الغيري الثابت للجزء من حيث توقف وجود الكل عليه ، كما هو ثابت للمقدمة الخارجيّة بهذه الملاحظة ، وإن كان العقل يحكم به ويكشف عن ثبوته أيضا بعد إحراز المقدّميّة وهو الذي وقع النزاع فيه في مسألة وجوب المقدّمة ، وإنّما الكلام في جواز الرجوع إلى الأصل المذكور بالنسبة إليه.

فإن كان الغرض من الأصل المذكور : نفي الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الوجوب الغيري فلا إشكال في جريانه بناء على ما ستقف عليه : من عدم معارضة الأصل في الأقل معه.

وإن كان المقصود منه : مجرّد نفي المؤاخذة المطلوب بأصالة البراءة فحاله حال الأصل المتوهم جريانه في الأكثر لترتب هذا الأثر ، وقد عرفت : أن عدم


استحقاق المؤاخذة مضافا إلى كونه مما يحكم به العقل فلا معنى للشكّ فيه مترتّب على عدم العلم بالوجوب لا على عدم الوجوب في نفس الأمر.

وإن كان الغرض منه : تعيين الماهيّة والواجب النفسي في المركب الخالي عنه وهو الأقل فهو مبنيّ على القول باعتبار الأصول المثبتة بناء على عدم معارضته بالأصل الجاري في الأقل من حيث وجوبه لابتلائه بالأصل الجاري في الأكثر من حيث وجوبه بهذا المعنى ، مع كونهما في مرتبة واحدة وكون الشكّ في الجزء المشكوك ناشئا عن الشكّ المتقوّم بهما فيكون الأصل الجاري في الجزء نظير الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ فتأمّل في المقام ؛ فإنه من مزالّ الأقدام وقد تقدّم منّا فيه الكلام فراجع إليه هذا.

ولعلّك تظفر ممّا فصّلنا لك على كون الأصل المذكور أردأ من الأصل الجاري في وجوب الأكثر ، وإن كان الظاهر منه الاحتمال الأخير المتّحد مع سابقه حكما ، بل ربّما يكون سابقه أردأ بالنظر إلى ما ذكرنا من البيان كما لا يخفى.

(٣٠) قوله قدس‌سره : ( ومنها : أصالة عدم جزئيّة المشكوك. وفيه : أن جزئية الشيء المشكوك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٣٦ )

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني أعلى الله تعالى درجاته الشريفة :

« حاصله : أن الغرض من أصالة عدم الجزئيّة :


__________________

إن كان هو أصالة عدم إتصاف المركّب الواقعي بكون المركّب المشكوك جزءا له ، فليس إتّصافه أمرا حادثا مسبوقا بالعدم بحيث كان المركّب ولم يكن الإتّصاف ثم حدث ، بل هو إمّا حدث معه أو لم يحدث بعده.

وإن كان هو أصالة عدم إتصاف المشكوك بالجزئيّة للمركّب ، فالإتّصاف هاهنا وإن كان مسبوقا بالعدم ، إلاّ انّ الأصل بالنسبة إلى إثبات المقصود مثبت » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٥٧.

* وعلّق عليه المحقّق الكرماني قدس‌سره :

« ليت شعري ما الفرق بين حدوث المركّب الواقعي متّصفا بكون المشكوك جزءا له وحدوث وصف الجزئيّة للمشكوك حيث منع الخراساني من إجراء الأصل في الأوّل دون الثاني ، والفارق الذي زعمه فارقا غير صالح له ؛ فإنّ الأصل جار في الحادث الذي شك في حدوثه سواء كان حدوثه المشكوك ـ على تقديره ـ موجودا ومع حدوث موجود متحقّق الحدوث مشكوك الزائد على المتحقّق ؛ فإن الأصل ينفي حدوث الزائد المشكوك من غير فرق بين حدوثه على تقديره واردا على موجود سابق أو معه مقارنين.

وكيف كان : الظاهر انّ منع الشيخ الأعظم من إجراء الأصل في جزئيّة الشيء المشكوك وإنكار كونه أثرا حادثا مسبوقا بالعدم من جهة ان أحكام الوضع عنده أمور اعتباريّة منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، ألا ترى إلى قوله في السابق : ( ومنع كون الجزئيّة أمرا مجعولا شرعيّا غير الحكم التكليفي وهو ايجاب المركّب المشتمل على ذلك الجزء )؟ [ فرائد : ج ٢ / ٣٣٣ ].

والخراساني علّل المنع بما لا يرضى به المانع ولو عرض عليه لأنكر المنع من جهة.


أصالة عدم الجزئيّة لا تنفع في المقام

أقول : لا يخفى عليك أن المراد مما أفاده أوّلا من الوجه في الجزئيّة الذي حكم بعدم كونه حادثا مسبوقا بالعدم هو التوقّف والمقدّمية لا المعنى الوضعي المعروف كما سبق إلى بعض الأوهام فلا معنى لجعل قوله : « وإن أريد ..... إلى آخره ) (١) تفصيلا لما أجمله.

__________________

ثمّ إنّ الذي له مهارة ونباهة في فهم المرادات من التعبيرات لا يشك في أنّ المنع باعتبار عدم وجود الموصوف قبل الإتّصاف ليس عبارته انّ جزئيّة الشيء ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم ، مع ان حدوث الإتّصاف يتحقّق بوجود الموصوف حين الإتّصاف سواء كان موجودا قبل الإتّصاف أو وجد متّصفا.

ومعنى قولهم : ( ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ) ليس ولا يكون وجوب وجوده في الخارج قبل وجوده قبليّة زمانيّة ، بل معناه وجوده بنحو من انحاءه حين ثبوته له.

وبالجملة : هذا المعنى الذي فسّر به الخراساني كلام المصنّف في المنع يكاد يلصق به خصوصا مع ملاحظة عدم صلوحه للمنع ولما طال التعليق ختمته راجيا من الله التوفيق » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٧٩.

* أقول : مرّ ما ينفعك في المقام من المحقّق الطهراني قدس‌سره عند ذكروهم بعض المعاصرين للشيخ الأعظم قدس‌سره فراجع.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٦.


وبالجملة : لا إشكال عندنا في عدم جريان الأصل في الجزئيّة بمعنى التوقّف والمقدّميّة ؛ لأن العدم المتحقّق في زمان عدم ذي المقدّمة لا ينفع في إجراء الأصل بالنسبة إلى زمان فرض ذي المقدّمة وتحقّقها.

وبعبارة أخرى : عدم وجود الجزئيّة في زمان عدم وجود جزء وكلّ لا يجدي استصحابه لإثبات عدمه بعد جعل الكلّ.

وبعبارة ثالثة : عدم الوصف باعتبار عدم الموصوف ، وعدم العرض باعتبار عدم الموضوع والمعروض ، ليس مما يجري فيه الاستصحاب بعد وجود الموصوف والمعروض وهو المراد من الأصل الاعتباري في ألسنة جمع ممن قارب عصرنا في باب الاستصحاب الذي حكموا بعدم اعتباره هذا.

وإن أريد من الجزئيّة الحكم الوضعي المعروف الذي وقع الكلام في كونه مجعولا شرعيّا أو أمرا اعتباريّا عقليّا ومفهوما منتزعا من الحكم التكليفي حسبما هو الظاهر من كلام المتمسّك بالأصل ، فيكون المراد من عدم جزئيّة السّورة مثلا عدم صيرورتها جزءا للمركب المأمور به ، فيكون المقصود من نفيها بالاستصحاب إثبات خلوّ المركّب المأمور به عنه.

فيتوجّه عليه : أن قضيّة التحقيق ـ الذي ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه ـ عدم تعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة فلا يعقل الحكم بنفيها بالأصل إلاّ باعتبار نفي منشأ انتزاعها بالأصل ، فمرجع الأصل المذكور بعد فرض جريان الأصل في نفس الجزئيّة إلى أصالة عدم الأمر به أو إلى أصالة عدم الأمر بما يكون


مركّبا منه وجزءا له ، فيرجع إلى الأصل في الحكم التكليفي بالنسبة إلى الجزء أو الأكثر ، فيتوجّه عليه ما عرفت شرحه في إجراء الأصل بالنسبة إلى الحكم التكليفي فلا ينبغي إعادته.

وإن أريد من الجزئيّة تصوّر الجزء وملاحظته مع سائر ما له دخل في المركّب شيئا واحدا وإن كان خلاف الظاهر منها عند الإطلاق ، إلاّ أنّه لا كلام في ثبوتها لجميع ما يكون جزءا للمركبات الاعتباريّة بحيث لا يعقل إنكاره ، وإلاّ لزم إنكار المركّب الاعتباري واختراع الماهيّات والجعل بالنسبة إليها ؛ فإنّ معنى تركيبها واختراعها وجعلها هو ملاحظة المركب والمخترع من غير فرق بين الشارع وغيره عدّة أمور لا ارتباط بينها حسّا ولا تجتمع وجودا أصلا شيئا واحدا فالجعل والاختراع والتركيب إنّما هو بحسب الملاحظة لا الحقيقة ، فمرجع أصالة عدم جزئيّة المشكوك إلى عدم ملاحظته مع سائر ما فرغ عن دخله في المركّب المأمور به شيئا واحدا.

فإن أريد من نفيها بالأصل ترتيب ما فرض ترتّبه شرعا على مجرى عدم الجزئيّة بهذا المعنى فلا كلام فيه إلاّ أنه لا جدوى له ؛ إذ لا تعلّق له بالمقام أصلا.

وإن أريد منه إثبات خلوّ المركّب المأمور به عنه ، وأنه اعتبر المركّب بالنسبة إلى ما عداه وهو الأقل فيثبت بذلك كليّة الأقلّ.

فيتوجّه عليه : ـ مضافا إلى معارضته بالمثل ؛ لأنّ الأصل عدم ملاحظة التركيب بالنسبة إلى سائر الأجزاء فإن مجرّد الملاحظة المعلومة بالنسبة إلى سائر


الأجزاء ؛ لا تفيد في تحقّق التركيب بالنسبة إليها ؛ لتوقّفه على ملاحظتها بعنوان الوحدة ـ : بأنه أصل مثبت.

فإن قلت : نمنع من كونه أصلا مثبتا ؛ لأن كون الماهيّة الأقل ويتوقّف على أمرين : أحدهما : ملاحظة ما فرض دخله في المركّب وهو بمنزلة الجنس له ، وعدم ملاحظة غيره معه وهو بمنزلة الفصل له (١) ، والجنس موجود بالفرض ، والفصل ثابت بالأصل ، فلا يراد إثبات شيء آخر ، وهذا بخلاف كونها الأكثر ؛ فإنه يتوقّف على جنس وجوديّ وفصل وجوديّ أيضا ؛ ضرورة أن القلّة والكثرة من الأمور الإضافيّة بالنسبة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأقليّة الأقل إنّما هي باعتبار عدم اشتماله على ما يشتمل عليه الأكثر لا باعتبار اشتماله على ما يشتمل عليه الأجزاء ؛ ضرورة عدم اتصافه بكونه أقل بهذا اللحاظ والاعتبار ، كما أنّ أكثرية الأكثر إنّما هي باعتبار اشتماله على ما لا يشتمل عليه دونه من المراتب ، فإذا فرض كون الأقلّ مركبا من جنس وجوديّ متحقق بالفرض وفصل عدميّ شكّ في ثبوته ، فالشكّ في عنوانه مسبب لا محالة عن الشكّ في اشتماله على الجزء الزائد ، فمعنى الحكم بعدم جزئيّة المشكوك ودخله في المركّب وعدم ملاحظته مع سائر الأجزاء الحكم بكون سائر الأجزاء ملحوظا بدونه ، وكونه غير ملحوظ معها وهو معنى الأقلّ ، فلا يقصد بالأصل إلاّ الحكم بتحقق نفس مجراه وترتيب آثاره عليه

__________________

(١) وهذا هو الأمر الثاني من الأمرين المزبورين.


من غير أن يقصد منه ترتيب لوازمه العقلية أو العاديّة المترتب عليها الأحكام ، وأين هذا من الأصل المثبت؟

قلت ـ بعد تسليم ترتّب الأثر الشرعي على أقليّة الأقلّ ـ أوّلا : إن مجرّد ثبوت أحد جزئي المفهوم بالوجدان والفرض مع إثبات جزئه الآخر بالأصل لا يخرج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ؛ ضرورة ترتّب الحكم على العنوان لا على نفس الجزءين حسبما ستقف على شرح القول فيه في الجزء الثالث من التعليقة.

ومن هنا أوردنا فيما تقدّم من كلامنا على بعض الأفاضل ممن قارب عصرنا ـ القائل بإثبات الاستحباب في دوران الأمر بينه وبين الوجوب بنفي المنع من الترك بالأصل ؛ حيث إن الاستحباب مركّب من جنس متحقق بالفرض وهو الرجحان وفصل مثبت بالأصل وهو عدم المنع من الترك ـ : بأنه تعويل على الأصل المثبت فراجع إليه.

نعم ، على القول بالتفصيل في اعتبار الأصل المثبت بين الواسطة الخفيّة والجليّة ـ كما ستعرف الميل إليه من شيخنا قدس‌سره في الجزء الثالث ـ يمكن القول باعتبار الأصل المذكور في المقام مع قطع النظر عما سنذكره.

وثانيا : إن كليّة الأقلّ وكونه المركّب المأمور به وكليّة الأكثر ليستا بمجرّد عدم ملاحظة المشكوك مع سائر الأجزاء وملاحظته معها ، بل يحتاج مضافا إلى تلك الملاحظة والعدم إلى اعتبار الملحوظ شيئا واحدا حتى يتحقّق هناك وحدة


اعتباريّة يجمعها كي يوجد التركيب على ما عرفت ، فمجرّد عدم ملاحظة المشكوك لا يترتّب عليه كليّة الأقل إلاّ بعد إثبات ملاحظة ما لوحظ من الأجزاء بلحاظ الوحدة ، ونسبة هذه الملاحظة إلى الأقلّ والأكثر سواء ، فمرجع الأصل المذكور إلى أصالة عدم ملاحظة الشارع للمشكوك مع سائر الأجزاء شيئا واحدا وهو معنى نفي كليّة الأكثر ليثبت بذلك ملاحظته لغيرها من الأجزاء شيئا واحدا وهو معنى كليّة الأقلّ فيرجع إلى إثبات كلية الأقلّ بنفي كليّة الأكثر ، فهو من إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل.

فيتوجّه عليه ما ذكرنا : أوّلا : من المحذورين من كونه معارضا بالمثل ، وأصلا مثبتا. فالمعنى المذكور وإن كان ثابتا للجزء ولا دخل له بالحكم الوضعي ولا بالجعل الإنشائي وإن كان نوعا من الإيجاد والتكوين فلا دخل له بما هو محل البحث في باب الأحكام الوضعيّة ، إلاّ أن يريد قائل ما يعمّ ذلك ويشمله فلا ننكره ، إلاّ أنه لا يجدي نفيه بالأصل شيئا على ما عرفت.

ومثله الكلام فيما لو أريد من الجزئيّة المعنى الثابت للأجزاء بالثبوت التكويني على مذهب العدليّة : من مدخليّته في المصلحة الملزمة الموجبة لتشريع الحكم ؛ فإنه لا يقبل الإنكار أيضا ، وإلا لزم الترجيح من غير مرجّح كما هو ظاهر ؛ فإنه لا يترتّب على نفي مدخليّة المشكوك في مصلحة المركّب ما هو المقصود بالبحث أصلا ، كما لا يخفى.

وكذا لو أريد من نفيها نفي الالتفات إليه بالأصل عند الالتفات إلى سائر


الأجزاء ؛ فإنه أيضا حادث مسبوق بالعدم فيجري الأصل بالنسبة إليه هذا. مع أنّ نفي الالتفات من الشارع المنزّه عن الغفلة والذهول الذي قضى البرهان الضروري على حضور جميع الأشياء في علمه بحقيقها وكنهها لا يعقل له معنى مع أن الالتفات مع قطع النظر عمّا ذكرنا مفروض في بعض فروض المسألة وهو دوران الأمر في الجزء بين الوجوب والاستحباب.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن المعلوم في الدوران المذكور الالتفات في الجملة لا خصوص الالتفات بعنوان الوجوب ، فالمنفي الالتفات الخاصّ ، ولعلّه أشار إليه قدس‌سره بقوله : ( فتأمّل ) (١) (٢) إلاّ أنه شطط من الكلام ؛ لأن جزء الواجب والمستحبّ

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« الجزء المستحب ليس داخلا في قوام الواجب من أجزاء ماهيّته وإلاّ لا يعقل إتّصافه بالإستحباب ، بل من أجزاء بعض مصاديقه ومشخصاته ، فلا يستلزم الإلتفات إلى الواجب بجميع أجزاءه حين ايجابه الإلتفات إليه أصلا.

نعم ، الإلتفات اليه في الجملة مما لا بد منه فيقطع به ، لا خصوص الإلتفات المتوقّف عليه لحاظ جزئيّته للواجب ، ولعلّه أشار اليه بأمره بالتأمّل ». أنظر درر الفوائد : ٢٥٨.

* وقال القمي في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٥٦٠ ) :

« أقول : لعلّه إشارة إلى ان الإستحباب يحتاج إلى التفات آخر ، وذلك لأنّ الأجزاء المستحبّة كان لها جعل على حدة غير جعل الأجزاء الواجبة ؛ لأنّ الاستحباب إنّما هو من مراتب الكمال في فرد الواجب والجزء الواجب من المقوّمات وحينئذ يكون الجاري في المقام هو


__________________

الأصلان بطريق التعارض.

والأصل بالنسبة إلى الالتفات في طرف الجزء المستحب ليس له أثر عدا إثبات كون الجزء المشكوك واجبا وهو من الأصول المثبتة فيبقى الأصل الجاري في الإلتفات إلى جعل وجوبه سليما عن المعارض » إنتهى.

* وقال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى ان ليس المراد من عدم الإلتفات الغفلة حتى لا يناسب مقام الشارع ، بل المراد منه عدم الإلتفات على الوجه المخصوص المترتّب عليه كون هذا الشيء جزءا ، وكذا فيما دار الأمر بين كونه جزءا واجبا أو مستحبّا ؛ فإنّ المراد من الإلتفات المنفي بالأصل هو الإلتفات الخاص المترتّب عليه عدم تحقّق المأمور به بدونه لا الأعم منه ومما يترتّب عليه كون الشيء مكمّلا مزيّنا للمأمور به » إنتهى. حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٧٩.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان دعوى حصول الغفلة على وجه خاص لاختلاف الإلتفات في مقام الإيجاب والإستحباب ؛ لأن الإلتفات إلى الشيء على وجه يكون مقوّما لغيره بحيث ينتفي بانتفائه مغاير للإلتفات اليه على وجه لا يكون كذلك والإلتفات على الوجه الثاني لا يستلزمه على الوجه الأوّل فتدبّر » انتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.

* وقال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى أن عدم الالتفات لا يستلزم الغفلة الممتنعة على الشارع ؛ لأن المراد نفي الالتفات الخاص على وجه الجزئيّة والوجوب لا نفي مطلق الإلتفات الممتنع على العالم المطلق » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٢.


لا يختلفان من حيث الالتفات والملاحظة والتصوّر جزما.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كله : أن الرجوع إلى أصالة عدم الجزئيّة في محل البحث بأي معنى فرض لها لا محصّل له.

__________________

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٣٨.


المسألة الثانية :

الشك في الجزئية من جهة إجمال الدليل

(٣١) قوله قدس‌سره : ( والإجمال قد يكون في المعنى العرفي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٣٩ )

أقول : قد عرفت المراد من الإجمال مرارا ، وأن الغرض منه عدم ظهور اللفظ بأي سبب كان ، وأمّا المراد بالمعنى العرفي في كلامه قدس‌سره فالظاهر أنه مقابل الشرعي فيشمل العرف العام واللغة ، بل العرف الخاصّ فيما يحمل كلام الشارع عليه سواء كان عرف بلد الإمام عليه‌السلام أو المخاطب فيما لو اختلف عرف البلدين.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( على أن هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٣٩ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« وكذا على القول بوضعها للأعم لو علمنا باستعمالها في الصحيحة بقرينة حاليّة أو مقاليّة فلا ينحصر المثال في قول الصحيحي وكذا لو قلنا بوضعها للأعم لكن ورد أن السورة جزء لها وتردّد أمرها بين كونها جزء واجبا أو مستحبّا أو ورد أمر بقوله عليه‌السلام : ( إقرء السورة ) وتردّد بين كونه للوجوب أو الندب بناء على القول بالإشتراك اللفظي بينهما أو القول بالقدر المشترك بل لو كان في هذه الصورة ثبوت وجوب أصل الصّلاة بدليل لبّي كالإجماع يكون الشك من باب إجمال النص أعني النص المتعلّق بالجزء.


في ان لازم قول الصحيحي الإجمال الذاتي

وقول الأعمّي البيان الذاتي

أقول : قد يناقش ـ فيما أفاده من الابتناء ـ : بأنه مبني على جعل المراد من المعنى الشرعي هو الذي اخترعه الشارع ووضع اللفظ له وليس الأمر كذلك ؛ لأن المراد منه المعنى الذي اخترعه الشارع سواء وضع اللفظ له أو استعمله فيه مجازا ، وهذا هو المتعيّن منه في المقام ؛ لأن الإجمال اللازم على القول الصحيحي ليس ملازما للقول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ؛ لعدم ابتناء أصل المسألة عليه ، بل على

__________________

وكيف كان : فينحصر مثال المسألة الأولى أي : ما كان الشك فيه من فقدان النص فيما كان ثبوت وجوب أصل المركّب بدليل لبّي أو لفظي بناء على القول بالأعم مع عدم نص مجمل متعلّق بالجزء ، بل كان منشأ الشك اختلاف الفقهاء مثلا » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٠.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ان هذه الألفاظ على معانيها اللغويّة واستعمال الشارع لها في المعاني اللغويّة لما قرّرناه في محلّه : من إمكان تأتّي النّزاع في الصحيح والأعمّ والثمرة المرتبة عليه من الإجمال والبيان في استعمال الشارع أيضا وإن قلنا ببقاءها على المعاني اللغويّة » إنتهى.

انظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.


مجرّد الاستعمال في الصحيح ولو مجازا. ولو فرض تحرير النزاع في المسألة من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ووقوع النزاع منهم ـ كما احتمل ـ لم يكن إشكال في ترتّب الإجمال على مجرّد الاستعمال هذا.

ويمكن التفصيّ عن المناقشة المذكورة : بأن المراد من الوضع ما يشمل الوضع النوعي الترخيصي الثابت في المجازات ، فيكون في قبال ما اختاره الباقلاني ومن تبعه في المسألة : من بقاء ألفاظ العبادات في عرف الشارع على معانيها اللغويّة والعرفيّة (١) كألفاظ المعاملات عند المشهور ، وإنّما جعل الشارع في ترتيب أحكامه عليها شروطا هذا. مع أنه بناء على إرادة المعنى الأخصّ من الوضع ـ كما هو ظاهره ـ لا يتوجّه عليه شيء ؛ لعدم إرادة المفهوم مما أفاده ؛ فإن الغرض منه بيان إجمال اللفظ بحسب معناه الشرعي في الجملة لا استقصاء موارد إجمال اللفظ بحسب ما أراده الشارع منه حتى يشمل المجازات الشرعيّة فتدبّر.

إشكال آخر

وهاهنا كلام آخر على ما أفاده لا بأس بالإشارة إليه وإلى دفعه وإن كان ما يفيده بعد ذلك كافيا في دفعه وهو : أن بناء الإجمال على القول بالوضع للصحيح ظاهر في عدمه على القول بالوضع للأعمّ مع أن الأمر ليس كذلك ؛ فإن ألفاظ

__________________

(١) انظر التقريب والإرشاد : ج ١ / ٣٨٧.


العبادات على هذا القول قد لا يكون لها ظهور وإطلاق يتمسّك على نفي ما شكّ في اعتباره فيها شطرا أو شرطا : من جهة ورودها في مقام بيان القضيّة المهملة ، أو ورودها في مقام حكم آخر ، أو تقيّدها بقيد مجمل إلى غير ذلك ممّا ذكر مانعا للتمسّك بإطلاقها في محلّه كما هو الشأن في سائر المطلقات أيضا ، هذا بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء. وأما بالنسبة إليها فحالها حال الوضع للصحيح ؛ ضرورة عدم تصوّر الوضع للأعمّ بالنسبة إليها.

فإن شئت قلت : الوضع للصحيح بالنسبة إلى معظم الأجزاء مما اتفق عليه الفريقان ، فإذا كان الجزء المشكوك على تقدير اعتباره من معظم الأجزاء لم يكن إطلاق للعبادة بالنسبة إليه على كلا القولين.

نعم ، يمكن فرض الإطلاق لألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء ، كما إذا فرض وجود ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق بخلاف الوضع للصحيح ؛ فإنه لا يمكن فرض البيان والظهور للّفظ بالنظر إلى نفسه لكن مجرّد هذا لا يوجب ابتناء الإجمال على القول بالوضع للصحيح هذا.

دفع الإشكال

ويدفعه : أنه نشأ عن قلّة التدبّر في المراد من الوضع للصحيح أو الأعمّ فلا بد من بيانه إجمالا فنقول : إن معنى الوضع للصحيح كما يشير إليه في « الكتاب » أيضا


كون اللفظ موضوعا للمركّب التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط بناء على تعميم الكلام والبحث بالنسبة إلى الشرائط في قبال القول بالتفصيل ـ المحكّي عن الفريد البهبهاني قدس‌سره ـ بحيث لو انتفى جزء أو شرط انتفى الصّدق لانتفاء الموضوع له ، فيكون اللفظ مستعملا في غير معناه وما وضع له على تقدير استعماله في الناقص لفرض مدخليّة كلّ جزء وشرط في الموضوع له من حيث إنه كذلك.

فإذا شكّ في جزئيّة شيء للعبادة كالاستعاذة مثلا فيرجع الشك لا محالة إلى الشك في الموضوع له وأنه الأقلّ أو الأكثر ، فيصير حاله على هذا القول حال ما لو فرض العلم بوضع اللفظ لأحد شيئين متباينين ؛ ضرورة عدم وجود القدر المتيقن بالنظر إلى الوضع فهو نظير ما لو فرض وضع اللفظ لمفهوم معيّن مبيّن شك في صدقه على بعض الأمور الخارجيّة من جهة الشبهة الموضوعيّة وإن كان الفرق بينهما موجودا من حيثيّة أخرى ، فلا بدّ من الحكم بإجمالها ذاتا بالنظر إلى أنفسها على هذا القول.

نعم يمكن عروض البيان لها من جهة دليل خارجيّ يدلّ على حصر أجزائها وشرائطها في أمور مخصوصة ، مع أنّ لنا كلاما عند قيام الدليل على الحصر في أن المرجع عند الشك في الفرض الدليل الخارجي الذي اقتضى الحصر أو لفظ العبارة.

وكيف كان : لا إشكال في الإجمال الذاتي للفظ العبارة على هذا القول هذا. ومعنى الوضع للأعمّ كونها موضوعة للأعم من الجامع لجميع الأجزاء وفاقد غير


معظم الأجزاء. وبعبارة أخرى : موضوعة لماهيّة لا بشرط اشتمالها على غير معظم الأجزاء وإن وضع لها في حال اشتمالها عليه لكنه لم يلاحظ في الوضع.

وهذا ما يقال : إن المسمّى شرعي والتسمية عرفيّة ، فيكون حالها على هذا القول حال الألفاظ الموضوعة في العرف للمركّبات كالسّرير والبيت ونحوهما من المركّبات ، وإن كان المراد دائما المركّب التام لا محالة ؛ لعدم إمكان التعميم بالنسبة إلى الإرادة ؛ ضرورة منافاته لفرض الاعتبار والجزئيّة كما هو ظاهر.

فإذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به ولم يكن ممّا يتوقف عليه صدق وقوام الماهيّة فيرجع الشكّ لا محالة إلى الشكّ في التقييد ؛ لفرض صدق الموضوع له وتحقّقه بدونه ، وعدم شكّ بالنظر إلى الوضع أصلا ، فيكون اللفظ مبيّنا بالنظر إلى ذاته كالمطلقات العرفيّة.

وإن شكّ في إرادة خلاف الظاهر والمقيّد منه من جهة الشكّ في الجزئيّة فالشك إنّما هو في الإرادة لا الوضع والصدق ، غاية ما هناك : عدم جواز الأخذ بإطلاقها فيما فرض عدم وجود ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق فيرجع إلى الأصول العمليّة ، وأين هذا من إجمال اللفظ المراد به عدم وضوح دلالته بحسب الوضع؟ فإن الأمر في جميع المطلقات والألفاظ المبنيّة كذلك ؛ فإنه إذا لم يكن لها إطلاق معتبر من حيث انتفاء شرائط التمسّك به يرجع إلى الأصل في المسألة الفقهيّة.

فإن قلت : على ما ذكرت : من كون الموضوع له مفهوما مبيّنا لا إجمال ولا


تردّد فيه أصلا ، على القول بالوضع للأعمّ يلزمك القول بتعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّة العبادات بناء عليه لما مرّ ويأتي : من أن المأمور به إذا كان مبيّنا من حيث المفهوم وشك في مصداقه يجب تحصيل القطع بإحرازه ولا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة فيه ، مع أن النزاع في البراءة والاشتغال يأتي على كلّ من القولين والمختار البراءة على كل حال على ما سيأتي تفصيل القول فيه.

قلت : ما ذكرنا ونذكره مبنيّ على تبيّن المراد من اللفظ لا مجرّد تبيّن مفهومه كما لا يخفى ، ومجرّد تبيّن الوضع لا يوجب تبيّن المراد كما هو واضح بل مفروض ، وكيف كان : لا إشكال في عدم توجّه الكلام المذكور على ما أفاده.

نعم ، حال ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى معظم الأجزاء حال القول بالوضع للصحيح بالنسبة إلى مطلق الأجزاء كما هو الشأن بالنسبة إلى الألفاظ الموضوعة للمركّبات في العرف ، ولكن لا يتوجّه على ما أفاده إشكال من هذه الجهة ؛ فإن غرضه مما أفاده لزوم الإجمال بناء على القول بالوضع للصحيح لا عدم تصوّره على القول بالوضع للأعمّ.

بل يمكن التفصّي بملاحظة ما ذكرنا عن الإشكال بوجه آخر بناء على تعميم الإجمال لما يشمل مطلق اللفظ الذي لا يكون ظاهرا في المراد ولو لعارض ، مع تبيّنه بحسب الوضع حتى يشمل المطلق الذي لا يجوز التمسّك بإطلاقه ؛ نظرا إلى فقد شرطه فيعمّ ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ في الجملة ؛ فإن الإجمال كما عرفت لازم القول بالوضع للصحيح بخلافه على القول


بالوضع للأعمّ ؛ فإن الإجمال بالمعنى المذكور لا يلزمه وإن أمكن وجوده في الجملة فتأمّل.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( والحاصل : أن مناط وجوب الاحتياط ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤٠ )

أقول : ما أفاده : من عدم الفرق في حكم الشكّ في المقام بين وجود اللّفظ المجمل المتعلّق بالماهيّة المردّدة وعدمه ؛ لعدم الفرق في جريان دليل البراءة عقلا ونقلا بالنسبة إليهما فيكون المسألتان متّحدتين حكما أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، كما هو الشأن في جميع ما يرجع فيه إلى البراءة أو الاحتياط من مسائل الباب ؛ فإن مجرّد وجود اللفظ مع عدم تبيّن المراد منه لا يؤثر في شيء قطعا غاية الأمر : كونه كالدليل العلمي المقتضي لوجوب أحدهما مع فقد الدليل على التعيين الذي يعبّر عنه بعدم النصّ ، وتوهّم الفرق سار في القسم الأول من الشكّ أيضا وهو الشك في التكليف وقد عرفت وضوح فساده هناك.

نعم قد يستظهر مما أفاده ـ في بيان مناط وجوب الاحتياط في موارد العلم

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ظاهره أن المناط فيه تعارض أصالة البراءة في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما لذلك ولكن مختار المصنّف رحمه‌الله كما صرّح به في المتباينين وغيره : ان المناط فيه عدم جريان أصالة البراءة في موارد العلم الإجمالي من رأس وأن مقتضى أخبار البراءة فيها إمّا جواز المخالفة القطعيّة وهو مناف للعلم الإجمالي أو وجوب الموافقة القطعيّة وهو المطلوب ».

أنظر أوثق الوسائل : ٣٦٩.


الإجمالي ـ كون الوجه في وجوب الاحتياط عنده فيها جريان الأصل في كلا المشتبهين أو المشتبهات وتعارض الأصل الجاري في كل شبهة مع الأصل الجاري في الأخرى وتساقطهما والرجوع إلى أصالة الاحتياط بعد الجريان والتساقط كما هو أحد المسلكين على ما عرفت تفصيل القول فيه.

مع أن الذي يقتضيه التحقيق ـ عنده وعندنا بل عند جمع من المحققين ـ : كون المناط عدم شمول دليل الأصل لشيء من المشتبهين بالبيان الذي عرفته غير مرّة ، ويمكن أن يقال : إن الوجه عنده وإن كان عدم جريان الأصل في شيء من المشتبهين بعد العلم الإجمالي بتنجّز الخطاب التوجّه إلى أحدهما ، إلاّ أن المناط المذكور لمّا لم ينفكّ عن الوجه المذكور موردا فجعله مناطا لوجوب الاحتياط في موارده من غير أن يكون استناده إليه في وجوب الاحتياط لا ضير فيه فتدبّر.

(٣٤) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إذا كان متعلّق الخطاب مجملا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤١ )

أقول : هذا السؤال مبنيّ على ما يبتني الأمر عليه في المسألة الرابعة من نفي الإشكال في وجوب الاحتياط فيما إذا كان ثمّة خطاب متعلّق بما هو مبيّن مفهوما دار الأمر في مصداقه وما يحصّل به في الخارج بين الأقلّ والأكثر.

بيان ذلك : أن الخطاب وإن كان مجملا بحسب متعلّقه ؛ نظرا إلى تردّده بين

__________________

(١) أقول : ولاحظ تعليقة الشيخ موسى التبريزي في أوثق الوسائل : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.


الأقل والأكثر ، إلاّ أنا نقطع بأن الحكم تعلّق بما هو المراد من اللفظ والمقصود منه ، فالتكليف قد تعلّق وتنجّز بما هو مبين مفهوما ، أي : المراد أو ما يؤول إليه من المفاهيم المبيّنة من المقصود والمفهوم والمدلول والموضوع له والمعنى ونحوها ؛ ضرورة كون هذه العنوانات مبيّنة من حيث المفهوم قد شكّ في صدقها على الأقلّ أو الأكثر ، فيجب الإتيان بالثاني تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا اشتغلت الذمّة به قطعا ، فقد حصل الفرق بين المسألتين ، أي : عدم النصّ وما أجمل فيه وعدم وجود الخطاب التفصيلي في المسألة ووجوده فيها ، وبطل القول بعدم الفرق بينهما هذا.

ولكنك خبير بأنه توهّم فاسد وتمحّل بارد كما صرّح به شيخنا قدس‌سره أيضا ؛ لأن التكليف لم يتعلّق بمفاهيم الألفاظ المذكورة حتى يقال : إن متعلّق التكليف مبيّن مفهوما دار الأمر في مصداقه بين الأقل والأكثر ، كيف! ولو كان كذلك خرج الفرض عن إجمال النصّ ، بل إنّما تعلّق بمصاديقها المردّدة ؛ حيث إن اللفظ وضع لها لا لتلك المفاهيم المنتزعة عنها بالاعتبارات المختلفة ، بل التحقيق : عدم إمكان وضع اللفظ لها لتأخّرها عن الوضع بمرتبة أو بمرتبتين أو بمراتب ، فكيف يمكن مع ذلك وضع اللفظ لها ؛ فإن اتصاف المعنى الذي وضع له اللفظ بالموضوع له بعد الوضع ، وبالمستعمل فيه بعد الوضع والاستعمال ، وبالمراد والمقصود بعد الوضع والاستعمال والإرادة وهكذا.

فإذن يستحيل تعلّق التكليف المستفاد من اللفظ بتلك المفاهيم المتأخرة عن الوضع ، كما أنه يمتنع وضع اللفظ لها ، فالموضوع له الذي تعلّق به التكليف


هو معروض تلك المفاهيم المنتزعة بالاعتبارات المختلفة ومصداقها المردّد بين الأقل والأكثر ، فالاشتباه من المتوهم في المقام من اشتباه العارض بالمعروض نفس متعلّق التكليف مردّد بين الأمرين لا مصداقه ، فإذن بطل توهّم الفرق بين المسألتين.

وقد وقع هذا الخلط والاشتباه في مواضع.

منها : ما وقع في مسألة الصحيح والأعمّ على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو استعماله فيه مجازا. فتوهّم : أنّ الموضوع له الذي تعلّق به التكليف أمر مبيّن مفهوما ؛ حيث إن اللفظ وضع للصحيح وهو المركّب التامّ الجامع لجميع الأجزاء والشرائط فهو مبيّن مفهوما وإن تردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح تعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّات العبادات المردّدة وعدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة ، بل جعلوه ثمرة للمسألة.

وفساد هذا التوهّم يظهر بأدنى التفات ؛ لأن لفظ العبادة لم يوضع لمفهوم الصحيح بل لمصداقه ، كيف؟ ولو كان كذلك كان لفظ الصلاة والصحيح مترادفين ، بل كان لجميع العبادات حقيقة واحدة وهو مفهوم الصحيح ، وهو كما ترى ، فنفس متعلّق التكليف على هذا القول مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه.

وأما الثمرة الّتي فرّعوها على القول بوضع الألفاظ للصحيح من وجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات ، فإن أراد المتوهّم المستشهد بتفريع تلك المسألة


تفريعها من الكلّ حتى من القائلين بالبراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في ماهيّات العبادات فهو في محلّ المنع كما لا يخفى على المتتبّع ، وإن أراد التفريع من القائلين بالاشتغال في تلك المسألة فهو لا يدلّ على كون الموضوع له مفهوما مبيّنا دار الأمر في مصداقه بين الأقل والأكثر كما هو ظاهر.

والحاصل : أنا لم نجد في كلام الكلّ بل ولا الأكثرين تفريع الثمرة المذكورة ، وإنّما ذكره غير واحد ممّن تأخّر تبعا لما أفاده الفريد البهبهاني قدس‌سره في « فوائده » (١) وردّه جماعة من المتأخرين حتى بعض تلامذته مثل المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » ومنعوا من لزوم الاحتياط على القول بالوضع للصحيح (٢).

وقد وجّه شيخنا الأستاذ العلاّمة ما أفاده الفريد البهبهاني قدس‌سره في المقام : بأن غرضه ليس بيان الثمرة للمسألة وأنّ كلّ من قال بالوضع للصحيح يقول بالاشتغال أو يلزمه القول به ، بل بيان الثمرة على ما اختاره من الرجوع إلى الاحتياط في ماهيّات العبادات المردّدة ، بل ربّما يتطرّق هذا التوجيه في كلام من تبعه (٣) في ذكر الثمرة المذكورة للمسألة ، كيف؟ والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيح قد ملؤوا طواميرهم من إجراء أصالة البراءة عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ، ولا

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : الفائدة ١٩ ص ٤٤١.

(٢) قوانين الأصول : ج ١ / ٥٥.

(٣) كصاحب هداية المسترشدين في هدايته : ج ١ / ٤٨٤.


يظن اشتباه مثل هذا الأمر الواضح المبيّن على مثل هؤلاء الأعلام ، فغرضه : أن القول بالصحيح ينفع الاشتغاليين لا أن كل من قال بالصحيح يلزمه القول بالاشتغال فضلا عن أن يقول به هذا (١).

ولكنك خبير بأن هذا التوجيه وإن كان حسنا ينبغي إرادته إلاّ أن كلامهم يأبى عن إرادته سيّما بملاحظة ما ذكروه من أن لازم القول بالأعمّ عدم وجوب الاحتياط ، بل في كلام بعضهم : أن لازمه الرجوع إلى البراءة فراجع إلى كلماتهم.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( والتحقيق : أن ما ذكروه ثمرة للقولين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٢ )

في فساد ما ذكروه من ترتب الثمرة على القولين

أقول : لا خفاء فيما أفاده : من عدم ترتب الثمرة المذكورة على القولين وفساده ، أمّا عدم تعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في ماهيّات العبادات المردّدة بين الأقلّ والأكثر على القول بالوضع للصحيح فقد اتضح أمره مما فصّلنا لك القول فيه : من أن ما يلزم هذا القول الراجع إلى مدخليّة كل ما يعتبر في مهيّة المأمور به في أصل الوضع والصدق إجمال اللفظ عند الشكّ في مدخليّة شيء للمأمور به ليس إلاّ.

وأمّا حكمه فهو مبنيّ على حكم المجمل في المقام على الوجه الكلّي من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.


الرجوع إلى البراءة كما عرفت : أنه المختار الذي عليه الأكثرون ، أو الاشتغال على ما عليه جماعة.

وأمّا عدم لزوم الاحتياط على القول بالأعمّ (١) :

سواء قيل : بأن لازمه الرجوع إلى البراءة وكونها الأصل في المسألة كما زعمه غير واحد في بيان الثمرة على ما في « الفصول » وغيره.

__________________

(١) قال العلاّمة السيد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« وحاصله ـ على طوله ـ : أن الصحّة المعتبرة في الصلاة ـ على الصحيحي ـ صحّة حكميّة مستفادة من حكم الشارع بالصحة الظاهريّة المستفادة من الأدلّة الظاهريّة والأصول العمليّة ـ ولهذا تجري فيها البراءة لا الإحتياط على المختار ـ لا صحة اسميّة داخلة في إسم الصلاة ومستفادة من وضعها له شرعا حتى يتعيّن فيها الإحتياط.

ومن المعلوم أنّ الصحّة الحكميّة المنتزعة عن الإمتثال بألفاظ العبادات لا يعقل أخذها قيدا للموضوع له اللفظ منها وإلاّ لزم الدّور.

وحينئذ فلا يكون الشك في حصول تلك الصحّة شكّا في حصول المصداق المأمور به حتى يوجب الإحتياط.

وكذلك الفاسد في طرف القول بالأعم من الصحيح والفاسد ليس الفاسد بحسب اسم الصلاة ووضعها له حتى يكون خروجه موجبا للعود إلى القول بالصحيح في الثمرة ، بل الفاسد بحسب الواقع ، الصحيح بحسب ظاهر الإسم والوضع للأعم منه في الظاهر ، ولهذا يجري فيه أصالة الإطلاق وعدم التقييد بالصحّة » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٣.


قال في الأوّل : « ذكر جماعة : أن فائدة النزاع تظهر في إجراء أصل البراءة عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة ، والشكّ في المانعيّة راجع إلى الشكّ في الشرطيّة ؛ من حيث أن عدم المانع شرط بالمعنى الأعمّ ؛ فإنه على القول بأنّها موضوعة للمعنى الأعمّ يمكن إجراء الأصل المذكور في نفيها بعد تحصيل ما يصدق عليه الاسم ؛ لأن الأمر حينئذ إنما تعلّق بالمفهوم العام ، وقضيّة الأصل إجزاء كلّ ما يصدق عليه ذلك المفهوم ما لم يثبت اعتبار أمر زائد عليه شطرا أو شرطا ، وأمّا على القول بأنّها موضوعة بإزاء الصحيحة فلا يمكن نفي ما شكّ فيه بالأصل المذكور ... إلى آخر » ما ذكره في المقام (١) ».

أو قيل : بأن لازمه الرجوع إلى أصالة الإطلاق عند الشكّ كما عن آخرين وهو المستفاد مما أفاده شيخنا في المقام في بيان ما زعموه.

فلأن غاية ما يلزم على هذا القول تحقّق الصّدق بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء وما به قوام الماهيّة ، ومجرّد تحقّق الاسم والصّدق لا يلزم شيئا من الأمرين ؛ لأنه ـ مع القطع بالصّدق ـ إذا شكّ في جزئيّة شيء ودخله في المراد والمطلوب ـ لعدم التنافي بين الصدق وتقييد المراد ـ ولم يتحقّق هناك ما يعتبر في التمسك بالإطلاق لا يلزم الرجوع إلى البراءة ، كما أنه لا معنى للتمسّك بالإطلاق بل يلزم الرجوع إلى أصالة الاشتغال على القول بها في دوران الأمر في ماهيّات

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٩.


العبادة بين الأقلّ والأكثر.

توضيح ما ذكرنا : أنّا قد أسمعناك سابقا : أن ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ كالألفاظ العرفيّة الموضوعة عند العرف للمركّبات ، ومن هنا قالوا :

إن الوضع عرفي وإن كان المسمّى شرعيّا ، ومن البيّن أنه لا يمكن اعتبار الإطلاق في الألفاظ الموضوعة للمركّبات الاعتباريّة والخارجيّة بالنسبة إلى جميع الأجزاء والشرائط بحيث يكون صدق الماهيّة المركّبة على وجه اللابشرط بالنسبة إلى كل جزء من الأجزاء على وجه لا يكون شيء منها مقوّما للصّدق وداخلا في تحقّق الحقيقة والمعنى الموضوع له.

وإن كان كلام بعضهم في بيان الثمرة وتحرير القول والدليل موهما لذلك في باديء النظر ، بل لا بدّ من أخذ بعض الأجزاء في تحقّق الحقيقة وإن كانت على وجه اللابشرطيّة بالنسبة إلى بعض آخر ، فلا بد أن يكون اعتباره على وجه التقييد ولو كان المعتبر جزءا ؛ لفرض تحقق الصّدق بدونه فهو جزء للفرد ومقوّم للمطلوب ، وتقييده أعتبر في تعلّق الأمر به ، إلاّ أنه لا يتوقّف الصّدق عليه فاعتباره كاعتبار التقييد في تمام المطلقات ؛ فإنه على هذا الوجه مع صدق الحقيقة المطلقة على فاقد القيد والشرط حقيقة ، وإلاّ لم يعقل التقييد كما هو واضح.

فحال ألفاظ العبادات على القول بالوضع للأعمّ بالنسبة إلى ما يكون مقوّما للصّدق والحقيقة حالها على القول بالوضع للصحيح بالنسبة إلى جميع ما فرض اعتباره في الماهيّة ، كما أن حالها بالنسبة إلى ما لا يتوقّف الصّدق عليه حال تمام


المطلقات بالنسبة إلى القيود المقسّمة لها ؛ فإن فرض كون مشكوك الاعتبار مقوّما للصّدق والحقيقة في نظر الشارع على تقدير اعتباره أو احتمل ذلك على تقدير الاعتبار وإن لم يقطع بذلك ، بل ولم يظنّ به لم يكن معنى للتمسّك بالإطلاق لرجوع الشك على ما هو المفروض إلى الشكّ في صدق أصل الحقيقة.

كما أنه لا معنى للرجوع إلى البراءة على القول بالاشتغال في دوران الأمر في ماهيّة العبادة بين الأقلّ والأكثر ، وإن فرض كونه على تقدير الاعتبار بأحد الوجهين مما لا يتوقّف الصّدق عليه ، بل مأخوذ في المطلوب وقيد له وإن كان من الأجزاء الخارجيّة المعتبرة تقييده في المطلوب.

فإن وجد هناك تمام ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق وظهور الألفاظ المطلقة وكشفها عن إرادة الطبيعة المطلقة تعيّن الرجوع إليه والحكم لأجله بعدم اعتبار المشكوك في المطلوب أصلا ، من غير فرق بين كون المذهب وجوب الاحتياط عند دوران الأمر في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر أو البراءة ؛ لأن الرجوع إلى الأصل العملي إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك دليل ولو على طبق الأصل والإطلاق المعتبر من الظواهر والأدلّة الاجتهاديّة ، خلافا لبعض أفاضل مقاربي عصرنا ؛ حيث لم ير الدليل الموافق للأصل مانعا من الرجوع إليه في ظاهر كلامه بل صريحه في طيّ كلماته.

وإن لم يوجد هناك ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق من الشرائط تعيّن الرجوع إلى الأصل العملي كل على مذهبه من البراءة ، أو الاحتياط عند الشكّ في المكلّف


به ؛ إذ مجرّد الصّدق وتحقق الحقيقة لا يجدي في المنع عن الرجوع إلى الأصل ؛ إذ المانع الدليل وهو اللفظ الكاشف عن إرادة المتكلم لا مجرّد صدق المعنى الموضوع له اللفظ ولو لم يكشف عن المراد أصلا ، وإلاّ لزم أن يكون الفاسد مرادا وهو خلف محال.

فإن شئت قلت : الدليل المانع عن الرجوع إلى الأصل في أمثال المقام إطلاق اللفظ الظاهر في إرادة المعنى المطلق عنه فإذا لم يكن ظاهرا لم يكن دليلا كما هو ظاهر.

شرائط التمسّك بالإطلاق

ومن المعلوم أن للتمسّك بالإطلاق شروطا مذكورة في مسألة المطلق والمقيّد كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا.

منها : أن يكون في مقام بيان تمام المراد ولا يكون في مقام الإهمال والإعلام في الجملة ، ككثير من مطلقات الكتاب والسّنة.

ومنها : أن لا يكون مسوقا لبيان الحكم من جهة خاصّة ، وبعبارة أخرى : واردة لمورد حكم آخر ، ويمكن إرجاعه إلى الوجه الأوّل في وجه.

ومنها : عدم تطرّق التقيّد بما يوجب الوهن في إطلاقه.


ومنها : عدم تقييده بقيد مجمل متصل أو مطلقا على الخلاف.

ومنها : عدم اقترانه بما يصلح للتقييد.

ومنها : عدم انصرافه إلى بعض الأفراد ؛ لكثرة الاستعمال الغير البالغ حدّ الوضع ، أو شيوع الفرد على الخلاف.

ومنها : عدم ذهاب المشهور إلى خلافه على ما ذكره بعض الأفاضل ، وإن كان ممنوعا عندنا ، إلى غير ذلك مما ذكر في محلّه من الشرائط أو الموانع الغير المطّردة جميعها.

فإذا فرض هناك مطلق اقترن ببعض ما يكون مانعا عن ظهوره في إرادة الإطلاق فلا معنى للتمسّك به في نفي ما شك في اعتباره في ماهيّات العبادات وإن كان الصدق متحققا بالنسبة إلى فاقده ، فإذا كان المذهب وجوب الاحتياط في المسألة فلا ينفع صدق الماهيّة والحقيقة على الفاقد لما شكّ في اعتباره في المنع عنه ، كما أنه لم يمنع عدم صدقها من الرجوع إلى أصالة البراءة على القول بالوضع للصحيح عند القائل بكونها الأصل في المسألة هذا.

وفي هامش « الفصول » كلام منسوب إلى المصنّف في المقام لا محصّل له قال فيه ـ ناظرا إلى كلام في المتن في بيان الثمرة المذكورة ومنعها ـ ما هذا لفظه :

وفيه : أن تحصيل المسمّى بصدق الاسم عرفا الموجب لشمول الإطلاق مع


فرض عدم المعارض كاف على القولين ؛ لأنّ المكلّف به المسمّى عند الشارع الذي يكشف عنه الصّدق عند المتشرّعة وقد حصل ، ولازمه حصول الامتثال إذا أتى به ؛ نظرا إلى الإطلاق وأصالة عدم اعتبار أمر آخر ـ سواء قلنا إنّ المسمّى هو الصحيح أو الأعمّ ـ ضرورة أن الصّدق العرفي الذي هو المناط في المقام لا يدور مدار اختيارنا القول بالأعم أو الصحيح ، بل هو شيء منضبط في نفسه.

ودعوى : صدق الاسم عرفا على القول بالأعمّ على خصوصيّات موارده دون القول بالصحيح ، مجازفة (١) ». إنتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى غير محصّل المراد ؛ إذ لا يظن بمن دونه بمراتب في العلم الاعتقاد بظاهر هذه المقالة.

فتبين ممّا ذكرنا كله : أنّ ما فرّعوه على القول بالأعمّ وجعلوا من لوازمه من الرجوع إلى أصالة البراءة مطلقا حتى على القول بأن الأصل وجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات ـ سواء كان هناك إطلاق معتبر أم لا ؛ إذ الرجوع إلى إطلاق ألفاظ العبادات مطلقا حتى بالنسبة إلى معظم الأجزاء سواء كان شرط التمسك بالإطلاق متحققا أم لا ـ فاسد جدّا ، كتفريع الرجوع إلى أصالة الاشتغال على القول بالصحيح ، بل الذي يلزم القول بالصحيح ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ الإجمال

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٩.


الذاتي ، والقول بالأعمّ صلاحيّة اللفظ وقابليته للتمسّك به في نفي الشكّ في اعتباره بالنسبة إلى غير معظم الأجزاء ، وبعد تحقّق ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق نحكم بمقتضاه من غير التفات إلى الأصل العملي في المسألة.

وقد يعبّر عنه بالبيان الذاتي بالنسبة بناء على كون الأصل عند الشكّ في طروّ المانع من التمسّك بالإطلاق ، أو كون المتكلم بالمطلق في مقام بيان تمام المراد البناء على عدمه والحكم بكونه في مقام بيان تمام المراد ويعبّر عنه بأصالة البيان.


« توهّمان »

نعم ، هنا توهّمان :

أحدهما : يقتضي وجوب الاحتياط على القول بالأعم مطلقا انبعث من التوهّم المقتضي له على القول بالصحيح على ما عرفت الكلام فيه قد تعرّض له شيخنا في « الكتاب » كالتوهم المذكور.

وتوضيحه : أنه لا إشكال في اتفاق الفريقين على أن المطلوب ومراد الشارع من ألفاظ العبادات : الماهيّة الصحيحة التامة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، فقد قيّدت بتمامها دفعة واحدة بقيد مبيّن مفهوما شكّ في مصداقه ومحصّله في الخارج ، فيجب الاحتياط في تحصيله على ما قضت به كلمتهم في المسألة الرابعة ؛ لعدم الفرق في المسألة بين تعلّق الحكم بعنوان مطلق مبيّن مفهوما وبين تعلّقه بعنوان مقيّد بقيد مبيّن كذلك ؛ إذ كما يجب في حكم العقل تحصيل ما يقطع بحصول المطلوب معه في الأقلّ ، كذلك يجب تحصيل ما يقطع معه بحصول العنوان المقيّد في الثاني ، ولا يجوز الاقتصار بما يحتمل معه الحصول في المقامين كما هو ظاهر.

وليس هذا الدوران والترديد في نفس المقيّد حتى يرجع معه إلى أصالة الإطلاق بناء على القول بالرجوع إليها عند إجمال المقيّد ودورانه بين ما يوجب


قلّة التقييد وكثرته ، أو إلى أصالة البراءة بناء على القول بعدم الرجوع إليها مطلقا كما قيل ، أو إذا كان المقيّد متّصلا لبيّا كالإجماع ونحوه كما هو المختار لحصول الإجماع المانع من التمسّك بالإطلاق ، فيرجع إلى أصالة البراءة لكونها الأصل في المسألة بل في مصداقه ومحصّله الخارجي بعد تبيّن مفهومه هذا.

ويظهر فساده مما ذكرنا سابقا : من أنّ لفظ الصحيح وإن كان مبيّنا لا إجمال فيه أصلا ، إلاّ أن لفظ العبادة كالصّلاة مثلا لم يوضع على القول بوضعه للصحيح لمفهوم هذا اللفظ بل لمصداقه المردّد ، وكذلك نقول : في المقام : إن الصّلاة على القول بوضعها للأعمّ بعد العلم بإرادة الصحيحة منها بالنظر إلى الاتفاق بل الضرورة لم يقيّد بمفهوم لفظ الصحيح بل مقيّد على فرض تسليم التقييد والإغماض عمّا سيجيء من منعه بما يكون المفهوم المذكور صادقا عليه.

ثانيهما : يقتضي المنع عن التمسّك بالإطلاق مطلقا فيرجع إلى أصالة الاشتغال على ما هو لازم القول بالوضع للصحيح على ما زعموا فيتجّه القولان من حيث اللازم والثمرة ، ومبناه ـ على ما عرفت في التوهّم الأول : من قيام الإجماع بل الضرورة على كون المراد من ألفاظ العبادات ـ هي الماهيّة التامّة الجامعة ، فيقال في بيان التوهّم : إن لازم تقييدها بما ذكر مع إجماله وتردّده بين الأقل والأكثر ؛ نظرا إلى تقييدها بالمصداق إلاّ بالمفهوم صيرورة المطلقات بأسرها مجملة فيكون حالها حال القول بالصّحيح من عدم الإطلاق لها أصلا.

وأنت خبير بضعف هذا التوهّم أيضا ؛ لأن الصلاة كما لم يقيّد بمفهوم


الصحيحة ، كذلك لم يقيّد بمصداقها بمعنى استعمال اللفظ فيه حتى يلزم الإجمال كما عرفت على القول بالوضع للصحيح ، بل القدر المسلّم هو تقييد إطلاقها بما ثبت من الدليل اعتباره فيها شطرا أو شرطا فيما لو فرض وجود الإطلاق لها ، فيلزم رفع اليد من الإطلاق بالنسبة إليه خاصّة.

وكون المراد والمطلوب هو الصحيح في الواقع ونفس الأمر لا يستلزم تقييد الإطلاق به بحيث يعتبر عنوانا ضرورة أن الإرادة لا يقيّد اللفظ بحيث يصير المراد عنوانا ؛ كما أنه لا يوجب استعمال اللفظ فيه ، كيف! وقد تقرّر في محلّه ـ حسبما مرّت الإشارة إليه أيضا ـ أن النزاع في مسألة الصحيح والأعمّ ليس مبنيّا على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ولا محرّرة على القولين في تلك المسألة ، بل النّزاع إنّما هو فيما استعمل فيه اللفظ وإن كان الاستعمال بطريق المجاز ، وإن بلغ حدّ الحقيقة في عرف المتشرّعة من باب الاتفاق من غير أن يكون النزاع مبنيّا عليه.

فكيف يمكن أن يقال ـ مع ذلك ـ : إن المستعمل فيه على القول بالأعمّ هو خصوص الصحيح الجامع لتمام ما يعتبر في العبادة؟ بل اللازم بعد قضاء الأدلّة القطعيّة على ثبوت الملازمة بين إرادة الشارع والصحّة وعدم تعلّق إرادته بالفاسد ـ كما يقتضيه فرض فساده ـ هو الحكم بعدم انفكاك ما أراده الشارع بظاهر اللفظ عن الصّحة في الواقع لا بطريق الاستعمال بل على وجه التصادق والتقارن. ومن الواضح البيّن أن هذا المعنى لا يوجب الإجمال في اللفظ أصلا ، فلا يوجب منع الرجوع إلى إطلاق اللفظ فيما فرض له إطلاق معتبر.


وقد وقع نظير التوهّم المذكور لبعض المتأخرين في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) في قبال المتمسّكين بالآية الشريفة على اللزوم والصحّة ؛ حيث زعم : أنه لا يجوز التمسّك بالآية الشريفة على اللزوم إلاّ بعد إحراز صحة العقد من الخارج ومن دليل آخر ؛ نظرا إلى أن المراد من العقد الذي تعلّق الأمر بوفائه هو الصحيح فلا يمكن إحرازه من نفس الأمر.

ويظهر فساده أيضا مما ذكرنا : من عدم إرادة الصحّة من اللفظ بأحد الوجهين المتقدّمين فيستكشف من لزوم العقد صحّته بالدلالة الالتزاميّة التبعيّة بعد ثبوت الملازمة المسلّمة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في فساد التوهم المذكور في المقام ؛ لما عرفت ، مضافا إلى استلزامه لعدم جواز التمسّك بشيء من الإطلاقات بل العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في أبواب الفقه من أوّله إلى آخره حتى المعاملات بالمعنى الأعمّ ، وظهور الملازمة كفساد التالي مما لا يحتاج إلى البيان أصلا.

وقد أشرنا إلى سريان التوهّم المذكور إلى الآية الشريفة ؛ فإنه بناء على التوهّم المذكور إذا أريد التمسّك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) أو

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.


عمومه على الوجهين لصحّته ببيع وقع الكلام فيه مثلا يقال : إن مورد تحليل الشارع هو البيع الجامع للشرائط والأمور المعتبرة في تأثيره وصحّته عنده ؛ إذ تحليله لا يتعلّق بالفاسد فقد ثبت تقييده بهذا العنوان المبيّن مفهوما ، أو مصداقه المجمل المردّد فلا إطلاق للآية الشريفة ، فيجب الرجوع إلى أصالة الاشتغال ولا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة أيضا.

وهكذا الكلام إذا أريد التمسّك بالعمومات كما عرفت تقريبه مما ذكرنا سابقا في بيان توهّم بعض المتأخرين ، والدافع للتوهم المذكور في جميع موارده ما عرفت : من أن الدليل القاضي بعدم إرادة الشارع للفاسد لا يقتضي أخذ عنوان الصحيح على وجه التقييد ولا استعمال اللفظ فيه ولو مجازا ، بل مقتضاه هو التلازم بين الإرادة والصحّة في نفس الأمر فيكشف من جهة إطلاق اللفظ أو عمومه عن كون الفاقد لما يحتمل اعتباره مرادا في الواقع فيحكم بصحّته وعدم دخل المحتمل فيها أصلا ، بالنظر إلى التلازم المذكور.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : الفرق بين جعل الشيء قيدا للعنوان والموضوع الذي تعلّق به الحكم أو استعمل فيه اللفظ كما لو قال المولى : « أكرم العلماء العدول » مثلا ، أو « أكرم جيراني المحبّين » إلى غير ذلك ، وبين العلم بعدم إرادة المولى من متعلّق خطابه إلاّ من كان واجدا لصفة كذائيّة ، أو ما كان كذلك في نفس الأمر ، كما إذا قال : « أكرم جيراني » وعلم من الخارج أن إرادته لا يتعلّق بإكرام من كان عدوّا له ، أو ورد أمر من المولى بلعن طائفة كبني أميّة مثلا أو إظهار البراءة والعداوة وعلم


من الخارج أنه لا يأمر بلعن من لا يكون مستحقّا له ؛ فإنه لا يمكن الأخذ بالعموم في الفرض الأول في مشكوك العداوة والمحبّة ، ويجب الأخذ به في الفرض الثاني في مشكوك المحبّة والعداوة واستحقاق اللعن ونحكم لأجله بكونه محبّا ومستحقّ اللعن والأمر في العرفيّات والشرعيّات في باب الألفاظ على نهج واحد كما هو واضح.

* * *


المسألة الثالثة :

الشك في الجزئية من جهة تعارض النصّين (١)

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره الشريف :

« اذا كان منشأه تعارض النّصين فمقتضى القواعد التساقط والرجوع إلى الأصل.

وقد يتوهّم : ان الحكم فيه التخيير للأخبار الآمرة بالأخذ بهما من باب التسليم على التخيير.

وفيه : ان موردها ما علم بصدورهما عنهم عليهم‌السلام لإلقاء الخلاف بين الفرقة الناجية كي لا يتميّزوا فيعرفوا ، قال عليه‌السلام : ( نحن القينا الخلاف بينهم وإنّ أدنى ما للإمام أن يفتي بسبعة وجوه ) ، قال عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ حج : ٧٨ ] والمخاطب هم الأئمة عليهم‌السلام وهذا نحو من التقية لا تعتبر فيها الموافقة للعامة ؛ فإنها تحصل بنفس اختلاف الشيعة.

فالإختلاف في الرواية قد يكون للتعمّد في الكذب ، المندفع إحتماله بالأخذ بالأوثق.

وقد يكون من جهة الإشتباه ويندفع احتماله بالأخذ بقول الأفقه.

وقد يكون من جهة الموافقة للعامّة ويندفع بالأخذ بما خالفهم.

وقد يكون بعد الفراغ عن هذه الجهات وكون الخبرين مشهورين أي ظاهرين كالشمس ولا يحتمل فيهما شيء من وجوه الخلل فحينئذ بأيّهما أخذ من باب التسليم وسعه ، فهذا ليس حكم المتعارضين ، وإليه ينظر من قال بالتخيير الواقعي.

وقد حقّقناه في مبحث التعارض :


(٣٦) قوله قدس‌سره : ( وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٨ )

أقول : ظاهر ما أفاده بل صريحه عند التأمّل : كون أصالة التخيير الجارية في تعارض الخبرين ، أو مطلق الدليلين المتكافئين ، أصلا عمليّا كسائر الأصول العمليّة ، ومن هنا توجّه السؤال المذكور في « الكتاب » عليه ، فيكون حالها حال أصالة التخيير ـ الجارية في المسألة الفرعيّة في دوران الأمر بين المحذورين بحكم العقل ـ في كونهما من الأصول العمليّة ، وهو مبني على القول : بأن حكم الشارع بالتخيير بين المتعارضين المتكافئين إنّما هو من جهة رعاية الحجّة المحتملة بالنسبة إلى كل منهما مع العلم بوجودها إجمالا بينهما.

وهذا الوجه وإن كان فاسدا عندنا وعنده قدس‌سره ـ كما ستقف على تفصيل القول

__________________

ان ما في الكتب الأربعة ليس موردا لشيء من هذه الأحكام ، وإنّما هي أحكام الروايات قبل التنقيح والثبت في الأصول المدوّنة بامرهم عليهم‌السلام.

وأمّا الأصول الاربعمائة التي دوّنها الأساطين من علماء الإماميّة من أصحابهم صلوات الله عليهم منهم أربعة الآف من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام فليست موضوعة لهذه الأحكام ، والإختلال اليسير فيها ناش عن النقل بالمعنى أو غلط في النسخة أو ما يشبهها.

ولا يخفى الوجه على الفقيه الماهر ومن أراد الإطّلاع على التفصيل فليراجع ما صنّفناه في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ؛ فإنهم عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال ، فالأعلام واضحة بحمد الله ولكن لا يهتدي إلى الحق إلاّ الأوحديّ الماهر وهو المؤمن الممتحن قلبه للإيمان » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٠.


فيه في الجزء الرابع من « الكتاب » والتعليقة ـ إلاّ أنه لا مناص عنه بعد البناء على ما أفاده : من كون التخيير أصلا عمليّا اتفق الفريقان المختلفان في حكم المسألة : من حيث وجوب الاحتياط والبراءة على الرجوع إليه ، وهو مبني على ما يقتضيه الرأي في باديء النظر ، وإلاّ فقوله بعد ذلك : ( ولكن الإنصاف ) صريح في خلافه.

ثمّ إن فرض الإطلاق المعتبر الجامع لشرائط التمسّك به في العبادات لا بدّ أن يكون مبنيّا على القول بالأعمّ في ألفاظ العبادات ، كما ذهب إليه جمع من المتأخّرين ، وأمّا على القول بالصحيح فيها على ما اختاره شيخنا قدس‌سره في المسألة وفاقا للمحقّقين فلا يفرض لها إطلاق أصلا كما لا يخفى.


(٣٧) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : فأيّ فرق بين وجود ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٤٩ )

أقول : السؤال المذكور ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ مبنيّ على جعل التخيير الجاري في المسألة الأصوليّة من الأصول العمليّة ، كالتخيير العقلي الجاري في المسألة الفرعيّة.

__________________

(١) قال العلامة اللاري قدس‌سره :

« حاصله : منع اشتراط التخيير بين المتكافئين بعدم وجود مطلق في البين ؛ لانه إن كان الأصل الأوّلي فيهما التساقط فعدم اشتراط التخيير به من باب السالبة بانتفاء موضوعه ، وإن كان الأصل فيهما التخيير فالأصل وإطلاق التخيير عدم اشتراطه بعدم المطلق.

وحاصل « قلت » اعتبار اشترطه بعدم المطلق بأن المطلق على كل من تقديري مرجّحيّته ومرجعيّته هو المعتبر لا المتكافئين فيكون اعتبار التخيير بينهما مشروطا بعدم المطلق ؛ لأن مفهوم التخيير بينهما هو المنع عن الرجوع في موردهما إلى الأصل العملي لا اللفظي المفروض هو المطلق.

ولكن فيه : ما أشار اليه من انه على تقدير مرجّحيّة المطلق يسلم الإشتراط. وأمّا على تقدير مرجعيّته يكون حاله حال سائر الأصول العملية في المحكوميّة لأدلة التخيير بينهما كمحكوميّته لأدلة تعيين أحدهما من غير فرق ، فاشتراط عدمه إنما هو على تقدير المرجحيّة لا المرجعيّة.

لا يقال : لا فرق بين الأصول العمليّة واللفظيّة في المحكوميّة لأدلة التخيير.

لأنّ المفروض ورود التخيير بقوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر » بعد فرض الراوي التساوي من جميع الجهات وانتفاء جميع المرجّحات فكيف تقدّم عليها؟ » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٦.


(٣٨) قوله : ( قلت : أمّا لو قلنا بأن المتعارضين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٤٩ )

بيان تحكيم أخبار التخيير على أصالتي الإطلاق والعموم

أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره : من خروج الفرض عن محلّ البحث (١) على

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« هذا بناء على اعتبار أصالة الإطلاق من باب الظهور النوعي والترجيح بكل مزيّة داخليّة كانت أو خارجيّة حسب ما يستظهر من أخبار العلاجيّة » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٥٨.

* وعلّق عليه المحقق الكرماني قدس‌سره قائلا :

« بناء هذا على اعتبار الترجيح بالمزايا الخارجيّة واضح ، كما ان بناء تكافؤهما على عدم اعتبارها قول الخراساني من أخبار العلاجيّة غلط ، إنّما الصّواب الأخبار العلاجيّة بتحلية الأخبار بالألف واللام أو أخبار العلاج بتجريده عن ياء النسبة ؛ لأنها تلحق مع التوصيف وإذا كان وصفا مع اللام كان الموصوف أيضا كذلك وأمثال هذا كثيرا مّا يخفى على أمثال الخراساني وإنّما يعرفها الأديب كلّ الأديب بل الأديب » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ٢٨٣.

أقول : ولا يخفى ما فيه من القسوة والجفاء ؛ فإن جلالة المحقق الخراساني وعظمته في ميدان العلم والعمل ليس بها من خفاء وصدور مثل ذلك منه ليس إلاّ من سهو القلم بعد ذلك العطاء.

وكيف كان : فإن كتابات جماعات من أعلامنا العجم مملوءة من أمثال ذلك وهو غير خفي على الناقد البصير المنصف غير المتعسّف وهذه كفاية الخراساني بالإضافة إلى بحر


القول بكون موافقة أحد الخبرين للأصل اللفظي من الإطلاق أو العموم يوجب ترجيح الخبر الموافق له ؛ فإن التخيير إنّما هو في مورد التكافؤ ، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى الأصل العملي على القول بكونه مرجّحا ، كما إذا وافق أحد الخبرين على الاستصحاب على القول باعتباره من باب الظن.

وأمّا الفرق بين الأصل اللفظي والعملي على القول بعدم الترجيح بهما من حيث كون اعتبارهما من باب التعبّد ، فحاصل ما أفاده في بيانه :

هو دعوى سوق أخبار التخيير لإثبات جواز الأخذ بكل من المتعارضين فيما لم يكن دليل على قول الشارع بحيث يكون المكلّف متحيّرا في الأخذ بأيّ قولي الشارع الّذين وقع التعارض بينهما في مرحلة الظاهر ، والأصل اللفظي من الإطلاق أو العموم أصل في المسألة الأصوليّة اللفظيّة مفاده : البناء على وجود قول الشارع في المسألة ، فيكون حاكما على أخبار التخيير. وأمّا الأصل العملي فهو أصل في المسألة الفرعيّة مع عدم وجود دليل في تلك المسألة ، ومفاد أخبار التخيير البناء على دليليّة أحد المتعارضين عند عدم وجود الدليل ، فهي حاكمة على الأصل العملي الشرعي وواردة على الأصل العملي العقلي ، فالمراد من

__________________

الآشتياني وتعليقة الكرماني بين يديك ، إلاّ أن كل ذلك لا يقدح بمقاماتهم العلميّة الرفيعة ويكفيك انهم أتعبوا الأجيال على مرّ السنين في فهم كلماتهم فما ظنّك بهضمها أو بلوغ شأوها؟!!


الحكومة في كلامه قدس‌سره أعمّ من الورود ولو مسامحة هذا.

مضافا إلى أن القول بعدم الفرق بينهما يوجب تخصيص أخبار التخيير بما لا يكون هناك أصل عمليّ ، أو بما كان الأصل في المسألة التخيير. وهو كما ترى ، هذا ما يقتضيه النظر الأوّل في تحقيق المقام.

وأما ما يقتضيه النظرة الثانية فهو الذي أفاده بقوله : قدس‌سره « ولكن الإنصاف (١) ... إلى آخره » (٢) من تحكيم أخبار التخيير على أصالتي الإطلاق والعموم ، وإن كان اعتبارهما من باب الظنّ والظهور ومفادها الأخذ بأحدهما من

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« توضيحه : أن ظاهر أخبار التخيير هو التخيير في مقام الأخذ بالخبرين لا التخيير في مجرّد العمل ـ كما قيل ـ فتفيد حجّيّة أحدهما على التخيير ويكون الخبر الخاص حاكما على أصالة الإطلاق نظير حكومته لو دلّ دليل على حجّيّته معيّنا.

نعم ، لو قيل : بان المراد منها هو التخيير في العمل ، أعني : التخيير في تطبيق العمل على وفق أحد الخبرين كان مفادها كالأصول العمليّة يقدّم عليها الأصول اللفظيّة.

ويرد عليه : أنّ أخبار التخيير حاكمة على أصالة الإطلاق بناء على الثاني أيضا ؛ لأنّ العمل على التخيير هذا وإن كان في عرض الأصول العمليّة بالنسبة إلى الأدلة لكنه مقدّم على سائر الأصول ، ألا ترى انه لا يعمل بسائر الأصول من البراءة والاستصحاب والإحتياط في مورده وإن كانت موجودة ولا يعارض بها فيتوقّف بل يعمل على طبق التخيير » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٠.


حيث التعبّد ؛ نظرا إلى عدم إمكان ملاحظة الطريقيّة في مقام التخيّر مع قطع النظر عما اقتضى ترجيح أحد المتعارضين وتقديمه بما يوجب قوّته ، كما أنها حاكمة على الأصل العملي المفيد للظنّ أيضا مع قطع النظر عما ذكرنا ؛ نظرا إلى أن كلاّ من الأصلين الجاريين في كلام الشارع ولفظه وإن كان مقتضاه وجود قول الشارع والدليل في المسألة الفرعيّة ، إلاّ أنه أصل تعليقي ؛ ضرورة كونه مشروطا بعدم ورود التقييد والتخصيص ، وأخبار التخيير المقتضية لحجيّة المخالف للمطلق والعام يجعله مقيّدا ومخصّصا لهما فهي من هذه الحيثيّة كالأدلّة الدّالة على حجيّة الأخبار ؛ فإنه لا إشكال في حكومتها على الأصلين فيما كان هناك خبر سليم يخالفهما ؛ ضرورة اتحادهما من حيث الدلالة على حجيّة الخبر المخالف لهما.

والقول بالفرق بينهما : من حيث الدلالة على الحجيّة التعيينيّة والتخييرية ، شطط من الكلام بعد تسليم كون مفاد أخبار التخيير تجويز الأخذ بالخبر المخالف وحجيّته ؛ إذ تجويز ذلك لا يجامع البناء على كل من الأصلين كما هو ظاهر.

ودعوى : أن الأصل المذكور وإن كان تعليقيّا ، إلاّ أنّ أصالة التخيير أيضا تعليقيّة فلنا أن نقلب الدليل ، فنقول : إن الأصل المذكور يقتضي البناء على الإطلاق وعدم التقييد ، فيثبت الدليل وقول الشارع في المسألة فيرتفع موضوع التخيير ، فلا يجوز تقديم أخبار التخيير إلاّ على القول بثبوت إطلاق فيها يشمل صورة وجود الإطلاق مثلا فيكون تنجيزيّا بالنسبة إليه ، وإلاّ فلا معنى لتحكيم أحد التعليقين على الآخر أو وروده عليه للزوم الترجيح بلا مرجّح.


فاسدة : بأن إجراء الأصل المذكور موقوف على منع جريان أخبار التخيير المقتضية للتقييد ورفع موضوعه بالفرض وهو لا يصلح للمانعيّة جزما ، وإلاّ لزم الدور الظاهر ، وإن هو إلاّ نظير جعل قاعدة وجوب دفع الضرر واردة على قاعدة القبح ، وقد عرفت امتناعه فتأمّل.

فإذن لا بدّ أن يكون مبنى حكم المشهور بعدم التخيير بين الخبرين في صورة وجود أصالتي الإطلاق والعموم ما نصّ عليه في أخبار العلاج : من تقديم ما وافق الكتاب والسنّة بتعميم الموافقة لما يشمل الموافقة بالإطلاق والعموم.

مضافا إلى الكليّة المستفادة منها : من لزوم الترجيح بكل مزيّة ـ على ما ستقف على تفصيل القول فيه بناء على كون اعتبار الأصلين : من باب الظن والظهور كما هو المسلّم عندهم ـ فالعمل بالمطلق ليس من حيث كونه مرجعا بعد تساقط الخبرين ، أو عدم شمول أخبار التخيير لصورة وجود المطلق في المسألة ، بل من حيث كونه مرجّحا للخبر الموافق له ، والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

لا يقال : بناء على ما ذكر لا فرق في كون مبنى اعتبار الأصل على الظن والظهور أو التعبّد.

لأنا نقول : الفرق إنّما هو من جهة عدم مساعدة أخبار العلاج على الترجيح بالأمور التعبّدية لحصر دلالتها على ما يوجب قوّة لأحد المتعارضين وما كان من سنخهما في الطريقيّة وإن لم يكن حجّة في نفسه.


لا يقال على ما ذكر لا يبقى فرق بين الأصل اللفظي والأصل العملي إذا كان مبناه على الظن كما عن المشهور ؛ فإن الترجيح به وإن لم يكن منصوصا عليه في الأخبار ، إلاّ أنّ الكليّة المستفادة منها يشمله مع أن كلماتهم لا يساعد على الترجيح بالأصل العملي.

لأنا نقول : نحن نلتزم بعدم الفرق على القول المذكور إلاّ أن القول به ضعيف عندنا ، وأمّا تقديم جمع في باب الترجيح الخبر المخالف للأصل فليس من جهة عدم الترجيح بما يوجب القوة والأقربية ، بل من جهة رجحان عندهم للخبر المخالف مذكور في ذلك الباب مثل : أن بناء الشارع غالبا على تبليغ المحرّمات وما يخالف الأصل فيظن صدور المخالف ، إلى غير ذلك مما يرجع إلى تسليم الكلّيّة والبناء عليه في ترجيح المخالف فراجع باب التعارض.

* * *


المسألة الرابعة :

الشك في الجزئية من جهة اشتباه الموضوع

(٣٩) قوله قدس‌سره : ( المسألة الرابعة : فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع (١) الخارجي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٢ )

__________________

(١) قال المحقق الكرماني قدس‌سره : « إيضاح »

« ليس المراد من الموضوع هنا معناه اللغوي الذي هو مقابل الرفع ولا ما هو مصطلح أهل الميزان الذي يستمّيه أهل العربية بالمحكوم عليه والمسند اليه ، بل المراد منه ما تعلّق به حكم من الأحكام الخمسة التكليفيّة ابتداء كالأفعال الصادرة عن المكلّفين أو بالواسطة كالأعيان التي تعلّق بها الأفعال.

فإن كان المراد منه غير المعنى اللغوي أو العرف العام بالوضع التعييني أو التعيّني فهو الذي يسمّيه الأصوليون بالموضوع المستنبط وبيانه وظيفة الشارع كالصلاة والصوم والحج والكفر والإسلام والسرقة والزنا ونحو ذلك ولو باعتبار زيادة القيد على المعنى اللغوي أو العرفي وهو بيّن ومبيّن ومجمل ، والأمر في الأوّلين واضح والثالث يؤخذ فيه بالمتيقّن إن كان والمرجع في الزائد إلى ما هو أصل فيه وإن لم يرد منه معنى جديدا غير ما يعرفه العرف فليس بيانه وظيفة الشارع وليس عليه بيانه ويطلقون عليه الموضوع الخارجي ، يريدون أن بيانه وتفسيره خارج عن وظيفة الشارع ، والشك فيه كان باعتبار المفهوم فالمرجع فيه إلى


مناقشة المثالين المذكورين في الكتاب للشبهة الموضوعيّة

أقول : وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة من الأقلّ والأكثر مضافا إلى أنه مما لا إشكال ولا خلاف فيه بين الأصحاب إلاّ ما يحكى عن المحقّق الخوانساري والقمّي قدس‌سرهما ، إلاّ أنّ التمثيل لها بما في « الكتاب » محلّ مناقشة.

أمّا المثال الأوّل (١) : فلأن دوران الأمر في الشهر الهلالي المبيّن بحسب المفهوم بين الأقلّ والأكثر من الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين فلا تعلّق لها بالمقام ؛ ضرورة كون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاّ في الشرعيّات ، وإن قلنا بكفاية نيّة

__________________

العرف إن كان مع الوحدة أو عرف الناقل او المنقول منه مع الإختلاف ، أو اللغة إن لم يكن على التفاصيل المذكورة في محلّها ، وإن كان باعتبار تحقّق المفهوم في مصداق مشكوك تحقّقه فيه أو رفعه عن مصداق معلوم تحقّقه فيه لعروض أمر لو لم يكن لم يشك كالغيم وكان الشك في الجزء الإرتباطي فهو المتكلّم فيه هنا واتخذ هذا الإيضاح منّا لا لنا ولا علينا » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٨٣.

(١) قال السيد المحقّق اللاري قدس‌سره :

« وفيه : انه خارج عن الأقل والأكثر الارتباطي ، بل الإرتباطي منه الداخل في محل النزاع هو الشك في دخول الليل المغيّى به وجوب صوم النهار بواسطة عروض غيم ونحوه من الموانع الخارجيّة من الرؤيّة » إنتهى. انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٧.


واحدة عن تمام الشهر كما عن علم الهدى (١) وبعض آخر من الأصحاب (٢) ؛ فإن القول بذلك ليس من جهة كون صوم الشهر عندهم تكليفا واحدا بحيث لو لم يمتثل الأمر في بعض الأيّام نسيانا أو عمدا بطل صومه فيما صامه من الأيّام ؛ فإن أحدا من علماء الإسلام لم يقل بذلك ، بل لما ذكروه في باب الصوم في الفقه.

نعم ، يمكن فرض ذلك في النذر : بأن تعلّق بالشهر على وجه الاجتماع بحيث لو أخلّ بصوم يوم حصل الحنث معه وإن لم يفسد صومه بالنسبة إلى ما صامه ، فهو نظير التتابع المعتبر في الكفارة فتأمّل.

وأما المثال الثاني (٣) : فلأن الظاهر منه تعلّق الشكّ بجزئيّة شيء للوضوء والغسل من جهة الشبهة الحكميّة ولو كانت مسبّبة عن إجمال المفهوم ، كالشكّ في

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ والإنتصار : ٦١.

(٢) كالمفيد والطوسي وسلاّر وأبي الصّلاح ، أنظر المقنعة : ٣٠٢ الخلاف ٢ / ١٦٣ المسألة ٣ ، المبسوط ١ : ٢٧٦ ، النهاية : ١٥١ ، الإقتصاد : ٢٨٧ ، جمل العلم والعمل : ٩٥ ، المراسم : ٩٦ ، الكافي في الفقه : ١٨١.

(٣) قال السيّد اللاّري قدس‌سره :

« وفيه : ان الشك في جزئيّة شيء للوضوء وعدمه كالشك في جزئيّة غسل باطن العكنة والأذن ومحلّ الخاتم وثقب الأذن ونحوه داخل فيما سبق من الشبهة الحكميّة وخارج عما نحن فيه من الشبهة الموضوعيّة إلاّ أن يراد منه الشك في حصول ذلك الجزء المعلوم الجزئيّة وعدمه وفي وصول الماء إلى ذلك المحل المعلوم الجزئيّة وعدمه بواسطة مانع خارجي من الرؤية » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٨ ـ ٤٣٧.


كون شيء من ظاهر البدن أو باطنه فيهما : من جهة عدم تحقّق معنى الظاهر والباطن بكنههما بحيث لا يبقى شك في مصداق من مصاديقهما من جهة المفهوم ، فالظهور وإن كان بحسب المفهوم مبيّنا لا إجمال فيه ، إلاّ أنّ الشكّ في حصوله حقيقة في الخارج ليس مستندا إلى اشتباه الأمور الخارجيّة ، بل إلى عدم العلم بحقيقة الوضوء والغسل الواجبين شرعا ، فهو اشتباه مسبّب عن الاشتباه في الحكم الشرعي حقيقة لا عن اشتباه الأمور الخارجيّة.

ومرجع هذا الاشتباه وإن كان إلى اشتباه المصداق ، إلاّ أنه لا دخل له باشتباه الموضوع الخارجي ، بل هو من اشتباه المصداق الشرعي. ومن هنا جعله من أمثلة المسألة الثانية من الشبهة الحكميّة فيما تقدّم من كلامه ، بل قد يتأمّل في تبيّن الطهور بمعنى الفعل الرافع مع عدم تبيّن حقيقة الوضوء والغسل ؛ فإنه عبارة عنهما في الخارج ليس له وجود آخر فتأمل.

وكيف كان : لا يمكن الجمع بين التمثيل بالمثال للمقام والتمثيل به للشبهة الحكميّة ، مع أنه على تعميم العنوان في المقام لما يشمل المثال نمنع من وجوب الاحتياط فيما يرجع من هذا العنوان إلى الشبهة الحكميّة ، وإن رجع شكّه إلى الشكّ في المصداق الشرعي ؛ لأن الشكّ في حصول الطهور إذا كان مسبّبا عن الشكّ في حقيقة الوضوء والغسل شرعا وأجرينا البراءة بالنسبة إليهما ؛ لعدم المانع منها أصلا ، ارتفع الشكّ عن حصول الطهور فلا معنى للرجوع إلى قاعدة الاشتغال بالنسبة إليه ؛ لابتنائها على احتمال العقاب على تقدير الاكتفاء باحتمال حصوله


كما هو واضح. فإذا حكم الشرع والعقل بالأمن منه فيرتفع موضوع القاعدة. فلا بدّ على القول بالتعميم من اختيار التفصيل في المسألة.

فالمثال الصحيح للمقام بحيث لا يتطرّق إليه مناقشة أصلا : هو تردّد اليوم الذي يجب فيه الصوم ، مع تبيّن مفهومه بين الأقلّ والأكثر : من جهة الشكّ في حصول المغرب : من جهة الشبهة الموضوعيّة لا من جهة الاختلاف في معنى الغروب الذي هو غاية اليوم ، وعدم فهم المراد منه : أو الاختلاف في معنى ذهاب الحمرة وأنّها المغربيّة أو المشرقيّة ، وكيف كان لا بدّ من تمثيل المقام به وبأمثاله.

ثمّ إنه يدلّ على وجوب الاحتياط ـ في محلّ البحث والفرق بينه وبين المسائل الراجعة إلى الشبهة الحكميّة ـ العقل الحاكم على وجه القطع بوجوب تحصيل اليقين عما اشتغلت الذمّة به يقينا في مقام الامتثال ، وعدم الاكتفاء باحتمال امتثال الأمر المتوجّه إلى المكلّف ، والخطاب الصّادر من الشارع يقينا الواصل إلى المكلّف بحيث لا اشتباه فيه موضوعا ومحمولا ونسبة ، وإنّما وقع الاشتباه في تحقّق موضوعه المعيّن في الخارج : من جهة اشتباه الأمور الخارجيّة الذي لا تعلّق له بالشارع أصلا ، ولا يجب إزالته عليه جزما ، وإلاّ وجب عليه بيان الموضوع الخارجي دائما كالحكم الشرعي.

وليس المقام إلاّ مثل ما لو شكّ المكلف في الوقت في إتيانه بالصلاة المفروضة أو شكّ في إتيانه بالجزء الذي علم بوجوبه ونحوهما ؛ فإنه لا ريب في حكم العقل بوجوب الإتيان وعدم جواز القناعة بالاحتمال مع قطع النظر عن


حكم الشارع بعدم الالتفات بالشكّ في إتيان الجزء بعد التجاوز عن محلّه ؛ لحكمه ـ باعتبار الظنّ النوعي الحاصل للمكلّف ـ بالإتيان ، على ما هو قضيّة بعض أخباره أو مجرّد التعبّد.

ومنه يظهر الفرق بين المقام والمسائل الثلاث الراجعة إلى الشبهة الحكميّة ، وعدم جريان أدلّة البراءة المضيات (١) الجارية فيها فيه ؛ حيث إن مفادها عقلا ونقلا نفي المؤاخذة عما لم يعلم إلزام الشارع به ، لا عن ترك ما علم تعلّق الإلزام به من الشارع كما في المقام.

وبمثل ما حرّرناه ينبغي تحرير المقام لا بمثل ما حرّره شيخنا قدس‌سره ؛ فإن التمسّك للمدّعى بأصالة عدم تحقّق المشكوك ، أو استصحاب بقاء الاشتغال ، والجمع بين التمسّك بهما وقاعدة الاشتغال لا يستقيم على ما بني الأمر عليه مرارا : من عدم جريان الاستصحاب في مورد جريان القاعدة كالعكس ، اللهمّ إلاّ أن يريد منه الإشارة إلى مسلك غيره في المقام وأمثاله لا التمسّك بخصوص ما هو الحق عنده فتدبّر.

__________________

(١) كذا في النسخ ولعله من إشتباه النسّاخ والصحيح : الماضيات. ومراده : عدم جريان أدلّة البراءة الماضية في المقام.


القسم الثاني :

الشك في القيد

(٤٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الثاني : فالظاهر اتحاد حكمهما وقد يفرّق بينهما ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٤ )

أقول : وجه الاتحاد أنّ الشرط بما هو شرط ـ على ما عرفت ـ : من مقولة الكيف المتّحد مع المشروط بحسب الوجود الخارجي ؛ فإن المعتبر حقيقة تقيّد المشروط به واشتراطه ، فهو وإن كان زائدا على المشروط في الذهن ومعقولا متصوّرا في نفسه ، إلاّ أنّهما متحدان في الخارج ، وبهذا افترق عن الجزء الخارجي ؛ فإنه من مقولة الكمّ يزيد المركّب بملاحظته في الخارج ، إلاّ أنّ في موارد الشكّ في الشرط يشكّ في وجوب المشروط بعنوان أنه مشروط مع العلم بوجوب ذات المشروط في الجملة ، مع قطع النظر عن كونه « لا بشرط » أو « بشرط شيء » ، فمعلوم الوجوب هو « اللاّبشرط » المنقسم إليهما وإن لم ينفكّ في الواقع عن أحدهما ، إلاّ أنه يعرضه الوجوب لا محالة على كلّ تقدير ؛ لأن مطلق الوجود أمر معقول في نفسه مع قطع النظر عن الوجود المطلق وإن كان تحققه بأحد الأمرين.

فالفعل الذي يؤخذ « بشرط شيء » ويعرضه الطلب الوجوبي مثلا بهذا


العنوان يكون واجبا نفسيّا ، ونفس الفعل وذاته الغير الملحوظة بالملاحظة المذكورة يعرضها الطلب التّبعي الغيري من حيث توقّف وجود العنوان على وجوده وحقيقته فتأمّل.

فإذا كان هناك معلوم ومشكوك من جهة الشكّ في الشرط نحكم ـ من جهة دليل البراءة عقلا ونقلا ـ بعدم وجوب المشكوك ، فلا يعارض : بأن وجوب الفعل لا بعنوان شيء بشرط غير معلوم أيضا : فإنه إن أريد من هذه القضيّة كون وجوب الفعل بعنوان « اللاّبشرط » غير معلوم فهو مسلّم ؛ فإن العلم به موجب للعلم بعدم الشرطيّة. وإن أريد منه كون وجوب ذات الفعل مع قطع النظر عن عنوان « اللاّبشرط » و « بشرط شيء » غير معلوم فهو ممنوع.

وهذا المعنى كما ترى ، لا فرق فيه بين ما يتوقّف وجوده على تحصيل فعل في الخارج يؤثّر في وجوده كالطّهارة وما لا يكون كذلك.

نعم ، لو كان المعتبر في دليل البراءة تعلّق الشكّ بوجوب فعل في الخارج منفكّ عن وجود معلوم الوجوب ، أمكن الفرق بينهما بدعوى : أنّ اعتبار الشرط في القسم الأول لمّا كان راجعا إلى إيجاب سببه في الخارج فيشمله دليل البراءة ، بخلافه في القسم الثاني ؛ فإنه ليس فيه فعلان في الخارج ، أحدهما : معلوم الوجوب ، والآخر : مشكوك الوجوب ؛ لفرض اتّحاد القيد والمقيّد في الخارج ، وإليه ينظر من ذهب إلى الفرق بينهما.


فإن شئت قلت : في وجه الفرق بينهما : أن الصفة الحاصلة من الفعل من مقولة الفعل التوليدي فيمكن أن يعرضها الوجوب ، وهذا بخلاف الصفة الغير الحاصلة منه ، فإنه لا يتعلّق بها الطلب وإن كان الفعل الملحوظ بهذه الصفة متعلّقا للطلب.

كما أنك لو شئت قلت ـ في وجه عدم الفرق ـ : أن المؤاخذة في حكم العقل على ترك المأمور به من حيث ترك شرطه مع عدم العلم به قبيح في حكم العقل مطلقا من غير فرق بين القسمين ، كما أن مقتضى ما دلّ على إثبات السّعة وعدم الضيق من جهة الجهل من الدليل النقلي عدم الفرق بينهما أيضا فافهم وتدبّر.

(٤١) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا كله : يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٥٧ )

وجه إلحاق دوران الأمر بين التخيير والتعيين بالأقلّ والأكثر

أقول : الوجه في إلحاق الدوران المذكور بالدوران بين الأقلّ والأكثر ـ لا المتباينين كما عليه بعض الأصحاب ـ : هو جريان ما اقتضى الرجوع إلى البراءة في الأقلّ والأكثر في الدوران المذكور من العقل والنقل ؛ حيث إنّ في الدوران المفروض أيضا نعلم بوجوب قدر مشترك بين الأمرين ، وهو أحدهما ويشك في وجوب خصوص الواحد المعيّن منهما وحيث إن بيانه من الشارع فيحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الواجب المسبّب عن ترك الخصوصيّة


المجهولة ، وكذا الدليل النقلي دلّ على وضع ما حجب علمه عن العباد ، وهو وجوب خصوص الواحد المعيّن في المقام.

ولا يعارض : بأن وجوب الواحد المخيّر أيضا محجوب ؛ لأن وجوبه بهذا العنوان التخييري وإن كان محجوبا ، إلاّ أن وجوبه لا بهذا العنوان ، بل بالعنوان الذي يجامع وجوب الواحد المعيّن في الواقع غير محجوب.

وبعبارة أخرى : وجوبه بعنوان « اللابشرط المقسمي » غير محجوب وإن كان وجوبه بعنوان « اللابشرط القسيمي » محجوبا على نحو ما عرفت تقريبه في الشك في الشرط حرفا بحرف ، وكذا الضيق الناشئ من الالتزام بالخصوصيّة التعيينيّة لمكان الجهل بالإلزام المذكور منفي بمقتضى قوله : « الناس في سعة ما لا يعلمون ».

ولا يعارض : بأن في المتباينين أيضا قد يكون أحدهما أثقل من الآخر كالتمام بالنسبة إلى القصر في موارد دوران الأمر بينهما ، فيحكم بنفي وجوبه بما دلّ على تقديم ما فيه السعة على ما فيه الضيق.

وهو كما ترى ؛ لأن المستفاد من الرواية نفي الضيق المستند إلى الجهل وإثبات السعة بالنسبة إلى ما لا يعلم ، لا ترجيح ما فيه السعة على ما فيه الضيق كيف ما اتفق ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا لمن له أدنى خبرة بمعنى الرواية هذا.

وأما وجه عدم إلحاق الدوران المذكور بالدوران بين الأقلّ والأكثر حتى


من جهة الشكّ في الشرط بقسميه ، وإلحاقه بالدوران بين المتباينين في وجوب الاحتياط ـ وإن كان الاحتياط في المتباينين بحسب الكيفيّة يغاير الاحتياط في المقام ؛ حيث إنه في المتباينين بالجمع بين المحتملين ، وفي المقام باختيار ما يحتمل تعيينه ـ فهو : أنه ليس في المقام قدر مشترك يعلم بوجوبه ويشكّ في وجوب الزائد عليه ؛ لأنّ مفهوم أحدهما أمر ينتزع من الفعلين ، وليس متعلّقا لخطاب الشارع يقينا سواء فرض الواجب معيّنا أو مخيّرا ؛ لأن الخطاب التخييري في الواجب المخيّر يتعلّق بكلّ من الفعلين لا بعنوان أحدهما المنتزع منهما ، وإن صحّ الحكم بأن أحدهما واجب إلاّ أن الوجوب لا يتعلّق بالفعلين من أجل كونهما مصداقين لهذا المفهوم.

نعم ، ربّما يتوهّم : الإلحاق مما لا يجب الاحتياط فيه على مذهب العامّة في الواجب للمخيّر لكنه فاسد أيضا ؛ لعدم العلم بالوجوب التخييري ، ولم يتوهّم أحد تعلّق الخطاب بهذا المفهوم المنتزع في الواجب المعيّن ، فالذي تيقّن وجوبه على كل تقدير هو الذي يحتمل وجوبه التعييني ، ووجوب غيره وإسقاطه عنه مشكوك كيف يجوّز العقل العدول في مقام الامتثال من اليقين إلى الاحتمال؟ وكيف ينفى وجوبه بالدليل النقلي على وجه اليقين معه إن تعلّق الخطاب به بخصوصه ، أو به لا بهذا العنوان وصاحبه في مرتبة واحدة؟

وممّا ذكرنا كله يعلم : فساد قياس المقام بدوران الأمر بين المطلق والمقيّد ؛ حيث إن الدوران فيه أيضا يؤول إلى الدوران بين التخيير والتعيين ، غاية الأمر :


كون التخيير المحتمل في الدوران المذكور من جهة حكم العقل به ، وفي المقام من جهة حكم الشارع لانتفاء الخطاب التخييري في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد قطعا ؛ لأنّه على تقدير وجوب المطلق ليس هناك خطاب تخييريّ بالنسبة إلى الخصوصيّات أصلا لا من الشارع ولا من العقل.

أمّا الأوّل : فلأنه المفروض ، وأمّا الثاني : فلأن الذي يحكم به العقل على وجه الإدراك لا الإنشاء ـ بعد العلم بأن الواجب وهو الطبيعة المطلقة نسبته إلى الأفراد على وجه سواء ونسبته واحدة ـ جواز اختيار المكلف كل فرد في مقام الامتثال ، فإذا اختاره فقد وجد الواجب المعيّن في الخارج. وهذا أمر ظاهر قد نبّهنا عليه في مسألة تعلّق الأمر بإيجاد الطبيعة ، فالصفة الجامعة بين المطلق والمقيّد يعرضها الوجوب لا محالة على كل تقدير فلا يجوز قياس المقام به أصلا.

فاتضح ممّا ذكرنا كلّه : أنه لا مناص عن القول بوجوب الاحتياط في المقام وعدم جواز العدول عمّا احتمل تعيّنه لا الحكم بعدم وجوب الطرف الآخر ؛ فإنّه مبنيّ على جواز الرجوع إلى البراءة في نفي التخيير ولا تعلّق له بالمقام ، وقد عرفت ما يقتضيه الدليل بالنسبة إليه في مطاوي كلماتنا السابقة.


(٤٢) قوله قدس‌سره : ( وأما الشكّ في القاطعيّة ... إلى آخره ) (١) (٢). ( ج ٢ / ٣٥٩ )

المرجع عند الشك في القاطعيّة هو الإستصحاب مطلقا

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده ( ج ١ / ٥٨٤ ) :

« أقول : إن الفرق بين القاطع والمانع :

أن الثاني يكون عدمه من مقولة الشرط بخلاف الأوّل ؛ فإنّ عدمه من قبيل شرط الشرط حيث ان الشرط في الصلاة إنّما هو صفة الإتصال وعدم القاطع شرط لها ، وليس عدم القطع عبارة عن الإتصال ؛ لوجود الفرق بينهما مفهوما ومصداقا ، فحاصل الفرق بينهما : أنّ عدم الشيء إن كان بنفسه شرطا في المركّب ـ كالحدث بالنسبة إلى الصلاة ـ فهو من مقولة المانع.

وإن كان اعتباره من جهة ان وجوده مخلّ بالهيئة الإتصاليّة التي هي من شرائط الصلاة ـ كالقهققة مثلا ـ فهو من مقولة القاطع.

وكيف كان : فمن خواص الأوّل : انه لا بد من إحرازه قبل الدخول في العمل وهذا بخلاف الثاني ؛ فإنّ عنوان القاطع لا يتحقّق إلاّ حال العروض في الأثناء » إنتهى.

(٢) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان كون العدم شرطا لا معنى له ، وإنّما المانع أمر وجودي يحول بين المقتضي وأثره ، والشرط أمر وجودي له مدخليّة في ترتّب الأثر على المقتضي ؛ وأمّا الهيئة الإتصاليّة القائمة بما تحقق وما لم يتحقّق فلا معنى لقطعها ؛ لعدم تحقّقها ، وما قامت بالمتحقّق من الأجزاء يستحيل زوالها ؛ والقاطع في الصّلاة إنّما يقطع الإحرام المتحقّق بالتكبيرة ، فللإحرام إستمرار ينقطع بالحدث وما بمنزلته ويظهر التفصيل ممّا حقّقناه في كتاب الصلاة » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ٢ / ٥٢.


أقول : القاطع وإن كان قسما من المانع حقيقة ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ وحق المقام : أن نحكم بإلحاقه بالمانع : من حيث جواز الرجوع إلى البراءة بالنسبة إليه وعدمه ؛ فإن الكلام في مسائل الباب من حيث الاحتياط والبراءة لا الاستصحاب ، إلاّ أن المختار عنده قدس‌سره لمّا كان جريان الاستصحاب في الشكّ في القاطع دون مطلق الشكّ في المانع ـ كما ستقف عليه ـ أراد الإشارة إلى أن المتعيّن فيه الرجوع إلى الاستصحاب سواء كان المذهب الاحتياط في الأقلّ والأكثر بقسميه ، أو البراءة كما هو ظاهر.

(٤٣) قوله قدس‌سره : ( ثم إنّ الشكّ في الشرطيّة قد ينشأ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٥٩ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى ان الحكم التكليفي النفسي لا يمكن ان يكون منشأ للشرطيّة حتى يكون الشك فيه منشأ للشك فيها ؛ ضرورة أن جعل الشرطيّة مغاير لجعل التكليف لا ملازمة بينهما أصلا ، بل التكليف النفسي والغيري متباينان وإن كان قد يتّحد موردهما ويكون معروضا للحكمين ، إلاّ انه لا يلزم من إتصاف المورد بالوجوب النفسي إتصافه بالوجوب الغيري والشرطيّة ، اللهمّ إلاّ في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على القول بعدم جوازه فيمكن أن يقال : إن شرطيّة إباحة المكان للصّلاة مستفادة عن النهي النفسي عن الغصب فلو شك في حرمة شيء آخر متحد في الوجود مع الصّلاة حصل الشك في كونه مانعا أو كون عدمه شرطا ، فبأصالة البراءة عن حرمة ذلك المشكوك يحكم بعدم مانعيّته وعدم شرطيّة عدمه.

والتحقيق : أن ذلك أيضا ليس مما نحن فيه في شيء ؛ لأن كلامنا في الشك في المكلّف به


__________________

وفي شرائط المأمور به وأجزاءه وموانعه لا في شرائط الأمر وموانعه ، وما ذكر متفرّعا على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي إنّما يكشف عن عدم تعلّق الأمر بما هو مورد للنهي ، لا أن المأمور به مقيّد بقيد آخر.

نعم ، يمكن فرض ذلك فيما لو دلّ دليل على انّ كلّ واجب نفسي وقع حال الصلاة فهو جزء أو شرط ، وكلّ حرام نفسي وقع حال الصّلاة فهو مانع ، وحينئذ فلو شك في انّ ما وقع في صلاته كان واجبا حتى يكون شرطا أو جزءا أو كان حراما حتى يكون مانعا ، فبإجراء أصالة البراءة عن الوجوب أو الحرمة يحكم بنفي الشرطيّة والمانعيّة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٣.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« كما اذا شك في اشتراط إباحة مكان المصلّي من جهة الشك في حرمة الغصب مثلا ـ بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي ـ فالأصل الجاري في الحرمة مثبتا كان لها أو نافيا ، كان حاكما على الأصل في الشرطيّة.

ثم إن الشك من جهة ذلك إنّما يتصوّر في الشرطيّة ولا يتأتّى في الجزئيّة ؛ إذ لا يعقل أن تنشأ الجزئيّة من التكليف النفسي فإلحاقها بها مجرّد فرض كما صرّح قدس‌سره بذلك في الهامش » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٦٠.

* وقال صاحب القلائد قدس‌سره :

« أقول : في بعض النسخ كان العبارة هكذا « ثم إن الشك في الجزئية أو الشرطيّة ... » وفي


__________________

الحاشية المنسوبة إلى المصنف رحمه‌الله في المقام ما لفظه :

« لا يخفى عليك : أن هذا الكلام بالنسبة إلى الشك في الجزئية مجرّد فرض ؛ إذ لا يعقل أن ينشأ الجزئيّة من الشك في أحكام التكليف النفسي حتى صار الشك فيها من الشك فيه » إنتهى.

أنظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٥٨٤.

أقول : وهذه هي النسخة التي كانت عند المحقق الخراساني حين التعليق عليها كما هو ظاهر وقد أشار إلى هذه الحاشية من دون أن يذكرها بقوله : « كما صرّح قدس‌سره بذلك في الهامش ».

وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

قد ضرب على قول الجزئيّة في بعض النسخ المصحّحة والوجه فيه واضح ؛ لأن الأمر بشيء في مركّب إن كان نفسيّا فلا يدل على جزئيّته له وإن كان غيريّا فلا يكون نفسيّا ، وإن كان نفسيّا وغيريّا فهو ممتنع ؛ لعدم إمكان تصادق الوجوب النفسي والغيري في مورد ، وقد حقّق ذلك في مبحث المقدّمة وأشار اليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب عما أورده على نفسه.

وأمّا مثال تسبّب الشك في الشرطيّة من الشك في حكم تكليفي نفسي ، فمثل الشك في إباحة المكان في الصلاة أو لبس الذهب فيها عند من شك في جواز اجتماع الأمر والنهي أو قال به وشك في حكم تقديم جانب الوجوب أو الحرمة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٧٦.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« قيل : هذا الكلام بالنسبة إلى الشك في الجزئيّة مجرّد فرض ؛ إذ لا يعقل أن تنشأ الجزئيّة من


الشرط قسمان

أقول : توضيح ما أفاده يحتاج إلى بسط الكلام فيما يتعلّق بالمقام فنقول ـ بعون الله الملك العلاّم ودلالة أهل الذكر عليهم أفضل التحيّة والصّلاة والسلام ـ :

__________________

التكليف النفسي حتى صار الشك فيها من الشك فيه ولهذا ضرب على لفظ الجزئيّة في بعض النسخ المصحّحة بل ونقل عن المصنّف أيضا.

إلا أن فيه ـ على نظري ـ :

نقضا : بانه لو لم يعقل أن يكون منشأ الشك في الجزئيّة الشك في التكليف النفسي لم يعقل في الشك في الشرطيّة أيضا.

وحلاّ : بانه كما مثّل للشك في الشرطيّة الناشئة عن التكليف النفسي بالشك في اشتراط صحّة الصلاة بمعرفة احكامها وخللها الناشيء شكه عن وجوب تلك المعرفة نفسا وعدمه ، كذلك يمكن أن يمثّل للشك في الجزئيّة الناشئة عن الشك في التكليف النفسي بالشك في جزئيّة الصلوات في الصلاة من جهة الشك في وجوبها النفسي عند ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكما ينشأ الشك في شرطيّة إباحة المكان في الصلاة عن الشك في حرمة الغصب ، كذلك ينشأ الشك في جزئيّة الإستعاذة في الصلاة ناشيء عن الشك في وجوب الإستعاذة عند قراءة القرآن ، فتكون أصالة البراءة في هذا الحكم التكليفي النفسي حاكما على الأصل في الجزئيّة والشرطيّة بناء على حكومة الأصل في الشك السببي على الأصل في المسبّب » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٠ ـ ٤٣٩.


إن الشرط على قسمين :

أحدهما : ما يكون شرطا ومعتبرا في المأمور به ويكون مأخوذا في موضوع الأمر ، فيكون مقدّما عليه بحسب الملاحظة كسائر ما له دخل في وجود المأمور به مثل الأجزاء ، كغالب الشرائط للعبادات.

ثانيهما : ما يكون معتبرا في امتثال الأمر المتعلّق بالمأمور به بحيث لا يكون له تعلّق وارتباط بالماهيّة المأمور بها أصلا ، فيكون المتوقّف الامتثال دون وجود المأمور به في الخارج ، كإباحة المكان واللباس للصّلاة مثلا ، وإباحة الماء والتراب في وجه في الغسل والوضوء والتيمّم ، إلى غير ذلك من استفادة الإباحة من مانعيّة الغصب المجامع للعبادة وجودا المتّحد معها مصداقا المستفادة من النهي المتعلّق به في نفسه الذي يمنع من تحقّق الامتثال الأمر المتعلّق بالعبادة : من حيث امتناع التقرّب بما يكون مبغوضا للمولى ـ حسبما تبين مفصّلا في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي ـ وليس الإباحة ـ المستفادة من مانعية الغصب بالتقريب الذي عرفته ـ مأخوذة في مهيّة العبادات على حد سائر شرائط المأمور به كالطهارة ، والسّتر ، والقبلة ، ونحوها.

ومن هنا يصحّ العبادات بارتفاع النهي عن الغصب واقعا ـ كما في مورد الضرورة والاضطرار ولو من جهة الأمر بالخروج فيمن توسّط الدار المغصوبة ـ أو فعلا كالجاهل القاصر بالحكم ـ بالمعنى الأعمّ من الغافل والناسي والشاك ـ أو بالموضوع كذلك ـ بناء على أن المزاحم للأمر هو النهي الفعلي كما بنوا عليه الأمر


في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي لا النهي الواقعي النفس الأمري وإن لم يتوجّه إلى المكلّف أصلا ؛ لعذر عقلي أو شرعيّ من توجيهه إليه ـ أو القول بإمكان الامتثال بالمبغوض إذا كانت له جهة محبوبيّة أيضا فيما كانت الجهتان تقييديتين على ما بني الأمر عليه من ذهب إلى جواز الاجتماع في تلك المسألة.

وبالجملة : لا إشكال في افتراق القسمين بحسب الآثار والأحكام كثيرا في الفقه.

القسم الأوّل لا يكون معلولا للخطاب النفسي

أمّا القسم الأول : فممتنع عقلا أن يكون مسبّبا من الخطاب النفسي ومعلولا له وناشئا منه ، بل هو علّة تامّة ـ بناء على القول بوجوب المقدّمة لأمر غيري تبعيّ متعلق به ـ فهو علّة للأمر الغيري وإن كان الكاشف عنه الخطاب المتعلّق بالمشروط بعد ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته.

فحال هذا القسم من الشرط حال الجزء في امتناع صيرورته مسبّبا عن الأمر النفسي ؛ ضرورة امتناع تأثير طلب الشيء لنفسه في كونه ممّا يتوقّف عليه وجود الغير شطرا أو شرطا بحيث يوجب حدوث المقدّميّة والارتباط بينهما.

نعم ، لا امتناع بين اجتماع جهتي الغيرية والنفسيّة ، بمعنى : صيرورة الشيء المطلوب نفسا مقدّمة للغير ، كالطّهارة من الحدث مثلا أو الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم


عند ذكر اسمه الشريف المطلوبة نفسا حيث صارت جزءا للتشهّد وهكذا.

لكنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ فإن المدّعى : أن الأمر الدّال على الأمر بالصّلوات عند ذكره ( صلوات الله عليه وآله ) لا يدلّ على كون الصلوات عليه جزءا للصّلاة أو عبادة أخرى ، وكذا الأمر بالسجود عند قراءة آية السجدة أو استماعها لا يدل على كون السجود للعزيمة جزءا للصّلاة ، والنهي عن الغصب بما هو غصب لا يدلّ على كون الغصب من موانع الصّلاة وممّا يكون عدمه مأخوذا في مهيّة الصّلاة مع كون النهي المتعلّق به نفسيّا ، بل نقول : إن تحريم الشيء في العبادة نفسيّا بحيث لا يكون محرّما في غيرها لا يمكن دلالته على المانعيّة.

ومن هنا ذهب جمع من القدماء والمتأخرين إلى أن تحريم الارتماس والحقنة والقيء في الصوم لا يدلّ على كونها من موانع الصوم ، وإن هي إلاّ كالمحرّمات النفسيّة في حال الإحرام.

نعم ، لو استفيد من النهي كونه إرشاديّا وغيريّا كما استظهره كليّة بعض الأساطين من المتأخّرين وجعله الأصل في النواهي المتعلّقة بما يوجد في ضمن العبادة ـ كما هو مسلّم في جملة من الموارد بالاتفاق كالتكتّف ونحوه ـ دل على المانعية لا محالة ، لكنّه يخرج عن النهي النفسي ولا تعلق له بالمقام ؛ فإن النهي الإرشادي الغيري معلول للمانعية السابقة عليه وإن كان متعلّقا بالمعاملة أيضا. وهذا ما ذكرنا : من أن الشرط علّة للخطاب الغيري.


وبالجملة : الخطاب النفسي بما هو نفسي لا يمكن دلالته على المقدّمية والارتباط ، وإن كان ظرف متعلّقه العبادة فضلا عما إذا لم يكن كذلك ، بل نقول : إن النهي النفسي المتعلّق بما فرغ عن شرطيّته يدلّ على الفساد والمانعيّة فضلا عن غيره ، ولذا نقول : بأنه إذا ورد النهي النفسي عن لبس الحرير في الصلاة لم يدل على فساد الصّلاة في الحرير ، بخلاف ما لو ورد النهي النفسي عن الصلاة في الحرير ؛ فإنّه يدخل في المنهي عنه بشرطه من أقسام النهي في العبادات.

نعم ، لو استفيد من النهي عن لبس الحرير في الصلاة الإرشاد إلى مانعيّة نفس الحرير عن الصلاة دلّ على الفساد لا محالة وخرج عن محلّ الفرض.

والسرّ : إن الفعل المحصل للشرط ترتّبه عليه قهريّ توصلي لا يفرّق في حصوله بين كون مبدأه ومحصّله مبغوضا للمولى وبين أن لا يكون مبغوضا وليس أمره كالجزء للعبادة حتى لا يجامع مبغوضيّته للأمر بالعبادة. وهذا ما يقال وقرع سمعك وسمع كل أحد : من أن حيثيّة الشرط حيثيّة توصّليّة تحصل بفعل الحرام إذا لم يكن المحصّل بنفسه من العبادات كالطّهارات تفارق حيثيّة الجزء.

وكيف ما كان : لا ينبغي الارتياب في أن الخطاب النفسي بما هو خطاب نفسيّ لا يمكن دلالته على كون متعلّقه مقدّمة للعبادة وشرطا فيها. ومن هنا قد حكمنا : بأن عطف الجزئيّة على الشّرطيّة كما في جملة من نسخ « الكتاب » (١) غلط

__________________

(١) كما في نسخة ( ص ) و ( ظ ) المذكورة في طبعة المؤتمر ، أنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٩


ظاهر ؛ لعدم جريان القسمين في الجزئيّة (١).

ومن هنا صرّح شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فيما سيجيء من كلامه : بأن الخطاب النفسي بالفعل لا يمكن دلالته على كون متعلّقه جزءا للعبادة.

القسم الثاني من الشرط المستفاد من النهي النفسي وما يتفرّع عليه

وأمّا القسم الثاني : فيستفاد من النهي النفسي لكن يعتبر في دلالته إذا لم يكن متعلّقا بالعبادة أن يكون متعلّقا بعنوان متّحد وجودا مع العبادة ولو باعتبار جزئها. وبعبارة أخرى : يعتبر في دلالته تصادق متعلقه مع العبادة وجودا وإن انفكّ عن موارد العبادة ووجد في غيرها أيضا ، فمثل النهي عن لباس الشهرة ، أو النهي عن لبس الرّجل لباس النساء ، أو العكس ونحوهما خارجة عن محلّ الكلام ؛ فإنّها لم يتعلّق بما يتّحد وجودا مع العبادة فلا يحكم بفساد الصّلاة فيها ولا يقال : علي هذا كيف يحكم بفساد الصّلاة في لباس الحرير للرجال أو لباس الذهب لهم ونحوهما؟

فإن الحكم بفساد الصّلاة فيها ليس من جهة النهي النفسي المتعلّق بلبسها ،

__________________

الهامش رقم ٢.

(١) أقول : قد مرّ كلام المحقّق الخراساني فيها وإشارة الشيخ غلام رضا القمي إليها في قلائده فراجع.


بل من جهة النّهي عن العبادة فيها ، ولولاه لم يحكم بالفساد لأجلها. ومن هنا أفتى جماعة بصحّة الوضوء من أواني الذهب والفضّة مع عدم الانحصار ، زعما منهم : أن الوضوء منهما ليس استعمالا لهما وإن كان الاغتراف منهما استعمالا حراما إلاّ أنّه خارج عن الوضوء ، فحالهما حال الإناء المغصوب مع عدم الانحصار ، وإن كان الحق خلافه على ما بيّنّاه في الفقه.

وذهب بعض إلى عدم بطلان الصلاة في المحمول المغصوب إذا لم يتحرّك بحركات الصّلاة مستقلاّ ومال إليه شيخنا قدس‌سره في الفقه وإن كان لنا كلام فيه من حيث كفاية الحركة التبعيّة الغير المنفكّة في المنع من حيث كونه نحوا من التصرّف أيضا.

وبالجملة : المدار في هذا القسم المستفاد منه الشرطيّة : تصادق المنهي عنه مع المأمور به وجودا ولو بحسب الاتفاق ، لا مجرّد اجتماعهما موردا فإنه لا يمكن استفادة الشرطيّة منه ولو تعلّق النهي بمبدأ الشرط كما عرفته من التمثيل بلبس لباس الشهرة وأمثاله ، ولذا حكموا بصحّة الصّلاة مع النظر إلى الأجنبيّة بشهوة فيها بحيث لم يتوهّم أحد فساد الصّلاة معها. والوجه فيه : ما ذكرنا : من عدم تصادقه مع الصّلاة أصلا وإن وقع في أثنائها.

ومن هنا يحكم بصحّة الصّلاة مع حمل ساعة الذهب وإن فرض كونها إناء وقلنا بأن وضعها في الجيب مثلا استعمال لها ؛ لعدم اتحاد الحرام مصداقا مع


الصّلاة وإن أفتى بعض المعاصرين (١) رحمه‌الله بفساد الصّلاة فيها زاعما : اتّحاد كون الصّلاة معها كما سمعته منه مشافهة ، وتشخيص مصاديق هذه الكليّة ومواردها بنظر الفقيه وليس علينا الاستقصاء والعمدة بيان الضابطة.

ثمّ إن الوجه في استفادة الشرطيّة من هذا القسم من النهي ما أشرنا إليه : من أنه بعد فرض التصادق والاتحاد في وجود واحد لمّا امتنع الامتثال وإن كان جهة الأمر والطلب موجودة فلا محالة يجعل الغصب المتعلّق للنهي الفعلي مانعا من قصد التقرّب بالأمر ، فجعل إباحة المكان مثلا شرطا وهكذا.

وأولى منه : ما لو تعلّق النهي التحريمي بنفس العبادة ، كما إذا تعلّق النهي بالصّلاة في الدار المغصوبة ، أو الحرير ، أو في غير المأكول إلى غير ذلك مع كونه نفسيّا على ما هو مبنى المسألتين ، أي : مسألة اجتماع الأمر والنهي ، والنهي في العبادات لما عرفت : من أن النهي الإرشادي لا يعقل البحث فيه ؛ فإن الامتثال بالخصوصيّة المبغوضيّة (٢) محال ، فجهة الفساد في الفرض وإن كانت هي جهة في الفرض الأول حقيقة ، إلاّ أن بعض القائلين بجواز الاجتماع حكم بالفساد في مسألة النهي في العبادات ؛ نظرا إلى عدم تحقق جهة الصحّة فيها وإن حكم بالفساد

__________________

(١) العالم الفقيه المتبحّر المولى علي الكني المتوفي سنة ١٣٠٦ ه‍ له : « تحقيق الدلائل » في غاية من النّفاسة لو كان يعرف له قدر.

(٢) كذا والظاهر : المبغوضة.


بعضهم كالمحقق القمّي في « القوانين » : من جهة الدلالة العرفية والتخصيص مع اعترافه : بأنّ المسألتين من واد واحد بالنظر إلى حكم العقل.

وهذا نظير قول بعض المتأخرين في مسألة اجتماع الأمر والنهي وابتناء حكمها على مسألة تعارض العامّين من وجه وتقديم النهي في مادّة الاجتماع : من جهة كون دلالته أقوى من دلالة الأمر ، وإن كان فاسدا عندنا : من جهة أن مبنى المسألة على التزاحم لا على التعارض.

ومن هنا قد حكمنا بصحّة العبادة في موارد الغصب مع عذر المكلّف وانتفاء النهي الفعلي ، وإن حكمنا بأجرة المثل والضمان مع العذر أيضا ، ولو لا ما ذكرنا من المبنى لم يكن لما ذكرنا ـ وتسالموا عليه ـ وجه أصلا ، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام على سبيل الضّابطة.

وبقي هنا مطالب آخر جليلة تعرّضناها في محالّها فلعلّ المتأمّل الدقيق يكتفي بما ذكرنا عما طوينا ذكره ، ويتّضح له أبواب من الفقه بشرطها وشروطها وهو الموفّق للصواب.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنعد إلى بيان حكم المقام.

فنقول : إذا تسبّب الشكّ في الشرطيّة في القسم الثاني عن الشكّ في الخطاب النفسي تعيّن الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الشكّ في الخطاب ، سواء قلنا بالبراءة في الشك في الشرطيّة ، أو الاشتغال ؛ لما عرفت مرارا : من عدم جريان


الأصل في الشكّ المسبّب مع جريانه في الشكّ السّبب ، من غير فرق بين أن يكون الأصلان متوافقين ، أو متخالفين ، من جنس واحد ، أو جنسين ، فإذا كان قضيّة الأصل في الشكّ في التكليف البراءة باتفاق المجتهدين ، بل الأخباريّين أيضا ـ في الجملة ـ حكم بعدم الالتفات إلى الشكّ في الشرطيّة المسبّبة عنه ، ولا يكون مقتضاه الاحتياط ، إلاّ على مذهب الأخباريّين في الشبهة التحريميّة.

فقوله قدس‌سره في « الكتاب » : ( فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم : من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته أو عدم وجوبه ) (١) مبنيّ على الفرض. والغرض : أنه لا يلاحظ مقتضى الأصل في الشكّ في الشرطيّة في هذا القسم أصلا ، بل يتّبع حكمه حكم الشكّ في التكليف النفسي فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٩.


تنبيهات الأقل والأكثر

* التنبيه الأوّل : الشك في الركنيّة

* التنبيه الثاني : سقوط الكل أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط

* التنبيه الثالث : دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة

* التنبيه الرابع : الدوران بين الشرطيّة والمانعيّة أو بين الجزئيّة والزيادة المبطلة



تنبيهات دوران الأمر بين

الأقلّ والأكثر



التنبيه الأوّل : الشك في الركنيّة (١)

(٤٤) قوله قدس‌سره : ( أو مبني على مسألة البراءة والاحتياط (٢) ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٦١ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« اذا دار أمر الجزء بين كونه ركنا أو غير ركن فالأصل عدم ركنيّته ؛ فإن الركن في المركّب ما به قوامه وهذه خصوصيّة زائدة على أصل الجزئية المعلومة ، وتظهر الثمرة في التعذّر وما بمنزلته ، فيكتفى بما اشتمل على الأركان وإن كان فاقدا لبعض الأجزاء ، وعلى هذا الأصل يتفرّع الحكم بصحّة الصّلاة مع نسيان الفاتحة وما يشبهها ؛ حيث انّ المحرم بالصّلاة لا سبيل له إلى قطعها لتدارك الفاتحة بعد تجاوز المحل ؛ لأن حفظ الإحرام أهمّ في نظر الشارع مما عدى الأركان ، بل يكتفى مع الدوران من الأركان بالبدل الإضطراري ، فالمحرم بالصلاة عاجز شرعا عن تبديل هذا الإمتثال بامتثال آخر ويتعيّن عليه ما تلبّس به وإن لم يتمكّن إلاّ ممّا يكتفي به من ذوي الأعذار وقد خفي ما حقّقناه أصلا وفرعا على الأستاذ قدس‌سره » انتهى.

انظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٢.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : إبتناءه على تلك المسألة بمعنى الإلتزام بعد الإختلال بنقصه وزيادته سهوا على القول بالبراءة والإخلال بهما على القول بالإحتياط مبنيّ على عدم اعتبار الشك الفعلي في جريان الأصلين كما لا يخلو عن وجه.

وأمّا على القول باعتبار الشك الفعلي في اجرائهما ، فلا يعقل الإلتزام بشيء منهما في حق


أقول : قد حكى قدس‌سره الابتناء المذكور في مجلس البحث عن شيخه

__________________

الناسي ، وإجراءهما بعد الإلتفات لنفي وجوب الإعادة أو وجوبها غير صحيح ؛ لأن وجوب الإعادة وعدم وجوبها من الآثار العقليّة المترتّبة على بقاء الأمر الواقعي وعدمه ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٦٥.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ربّما يقال : إن هذا البناء إنّما يتم بالنسبة إلى زيادة الجزء عمدا دون نقصه أو زيادته سهوا ؛ لعدم جريان أصالتي البراءة والإشتغال بالنسبة إلى الجزء المغفول عنه من حيث الزيادة أو النقيصة لأخذ الشك في موضوعهما فلا تجريان في صورة السهو والغفلة كما ستقف على توضيحه.

وإن أريد إجزاؤها بالنسبة إلى الإعادة بعد الفراغ من العمل الذي وقع فيه السهو مع الإلتفات إلى ما وقع فيه من السهو والشك في بطلانه.

يرد عليه : اني لا أظنّ أحدا يقول بالبراءة حينئذ ؛ لأن ثبوت التكليف بالأمر المجمل المحتمل بطلانه بما وقع فيه من السهو يقتضي اليقين بالبراءة وهي لا تحصل إلاّ بالإعادة ، فإن جرت أصالة البراءة من أوّل الأمر وإلاّ وجبت الإعادة تحصيلا لليقين بالبراءة.

فإن قلت : كيف تنكر وجود قول بالبراءة في المقام والمحقق القمي رحمه‌الله يقول بالإجزاء فيما نحن فيه؟

قلت ـ مع ما سيشير اليه المصنّف رحمه‌الله : من كون مقتضى القاعدة هو البطلان ـ : أن القول بالإجزاء هنا مبني على صدق الإمتثال بالمأتي به وانه لا إمتثال عقيب الإمتثال ، وهو دليل عدم الأمر بالإعادة ومعه لا معنى للتمسّك بأصالة البراءة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٧٦.


الشريف قدس‌سره (١) ولا بدّ أن يكون المراد من ابتناء حكم المقام على الخلاف في المسألة على سبيل المهملة ولو بالنسبة إلى الزيادة العمديّة ؛ إذ إرادة القضيّة المطلقة لا معنى لها أصلا ؛ لعدم تصوّر جريان الأصل بالنّسبة إلى النقض السّهوي والزيادة السّهويّة ؛ ضرورة عدم تحقّق الشكّ الفعلي المعتبر في مجاري الأصول مع الغفلة لأنه فرع الالتفات كما هو ظاهر.

لا يقال : إجراء أصل البراءة بالنسبة إلى الجزء المتروك سهوا وإن لم يكن ممكنا ما دام المكلّف غافلا ، إلاّ أنّه يمكن إجراؤها بعد زوال الغفلة وحصول الالتفات بالنسبة إلى وجوب الإعادة المشكوك المترتّب على احتمال الجزئيّة حال الغفلة ، فيستكشف من الحكم بعدم وجوب الإعادة بعد الالتفات لأصالة البراءة عن عدم الجزئيّة حال الغفلة.

لأنا نقول : الشكّ في وجوب الإعادة وعدمه مسبّب عن الشكّ في قناعة الشارع عن المأمور به بغيره وحكمه بكونه مسقطا عنه ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ ولم يقل أحد ـ ممن قال بالبراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ـ :

بأن مقتضاها الحكم بقناعة الشارع بفعل الناقص الغير المأمور به عن التام ، بل كلمتهم متفقة على : أنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو البناء على عدم القناعة ووجوب الإتيان بالتام ، كما هو واضح لمن له أدنى تتبّع ، كيف؟ والعقل الضروري يحكم

__________________

(١) يريد الأصولي الشهير شريف العلماء المازندراني « رضوان الله تعالى عليه ».


بعدم جواز الاقتصار بالناقص مع الشكّ هذا ، وانتظر لتمام الكلام في ذلك فيما سيتلى عليك عن قريب.

(٤٥) قوله قدس‌سره : ( فنقول : إن الركن في اللغة والعرف معروف ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٦١ )

معنى الركن والمراد منه

أقول : « الركن » : مصدر ركن يركن بمعنى الاعتماد ، وقد يطلق على ما به

__________________

(١) قال المؤسس الأصولي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان الركن ما يركن اليه ويعتمد عليه وهو في العبادة من الأجزاء ما لا قوام لها بدونه بوجه من الوجوه.

وأمّا الزيادة فربّما تكون قادحة في غير الأركان كالقران ـ على القول به ـ ولا إصطلاح للفقهاء فيه ، ولا إشكال في الإختلال بالنقض من غير فرق بين العمد والنسيان ؛ فإنّه مقتضي الجزئيّة ، ولكن الثمرة تظهر في الأعذار وإن كان الترك عن عمد ؛ فإنّ ما عدا الركن يكتفى بفاقده وإن كان الترك عن عمد حيث كان هناك عذر آخر غير النسيان من قبيل ضيق الوقت أو خوف على نفس محترمة وما أشبهها ، غاية الأمر ان رعاية الإحرام في خصوص الصّلاة من الأعذار فيجتزى من الناسي بفاقد غير الركن فلا معنى لتأسيس الأصل للجزء في نفسه وإنّما الحكم للمزاحم في مسألة النسيان وهو الإحرام الذي ثبت فيه شدّه الإهتمام كالرّكن وهذا لا ينافي الإخلال بترك الجزء ؛ فإن الإجتزاء بالفاقد لا ينافي النقصان » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٣.


قوام الشيء ، وليس له في الكتاب والسنّة ذكر حتى نتعرّض لمعناه في زمان تعلّق الحكم به من الشارع ، وأن المراد منه المعنى المتبادر منه عرفا المنطبق على اللّغة إذا لم يكن للشارع عرف واصطلاح خاصّ فيه كما هو الشأن في الألفاظ الواقعة في كلام الشارع ؛ ضرورة أن بحث الفقيه عن معنى اللفظ ووضعه وظاهره وخلافه مع عدم تعلّق الحكم به في كلام الشارع مما لا معنى له ، وإنّما يبحث عنه اللغوي من حيث إنه لغوي.

نعم ، قد يبحث عنه إذا وقع في معقد الإجماع محقّقا أو منقولا كما في المقام ، ففي الأوّل : يرجع إلى العرف العام إذا لم يكن للمجمعين عرف خاصّ فيه. وفي الثاني : إلى ما أراده حاكي الإجماع إن علم ما أراده ، وإلاّ فإلى عرف الفقهاء إن كان ، وإلاّ فإلى العرف العام.

ولمّا وقع الخلاف بينهم في معنى الركن مع الاتفاق على ثبوته في الجملة ، وأنّه هل يتقوّم بثبوت البطلان على ترك الجزء سهوا كما يبطل بتركه عمدا وإلاّ لم يكن جزءا وهو خلف ، كما اقتصر به جمع وهو الأوفق بمعناه العرفي المطابق للّغة كما هو واضح ، أو للبطلان بزيادته عمدا وسهوا مدخل فيه كما عن آخرين ، فإذا أريد فهم مقتضى الأصل الأوّلي أو الثانوي في الجزء الذي ثبت جزئيّته ويشكّ في ركنيّته فلا بدّ من تحرير الكلام في مسائل ثلاث لاختلاف مقتضى الأصل كما ستقف عليه بالنظر إلى النقيصة والزيادة.

ثمّ إن البحث وإن لم يكن له اختصاص بباب الصّلاة ، إلاّ أن حال الأجزاء من حيث الأحكام المذكورة ظاهرة عندهم في غيره.


المسألة الأولى في ترك الجزء سهوا

(٤٦) قوله قدس‌سره : ( لأن ما كان جزءا [ في ] حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٦٣ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فيه : انه يمكن اختصاص اعتبار جزئيّة شيء بما اذا التفت إليه بحيث يختلف الاجزاء زيادة ونقيصة واقعا حسب حالتي الإلتفات اليه والغفلة عنه ، كسائر الحالات الموجبة لذلك بأن يؤمر بالصلاة مثلا أوّلا ثم يقيّد بدليل دالّ على جزئيّة السورة في حال الالتفات إليها بناء على وضعها للأعم ، أو يشرح به وبما يدلّ على سائر ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا بناء على وضعها للصحيح ؛ فإن الغافل حينئذ يلتفت إلى ما توجّه إليه من الأمر ويتمكّن من إمتثاله حقيقة بإتيان ما هو المأمور به واقعا في هذا الحال وإن كان غافلا عن غفلته الموجبة لكون المأتي به تمام المأمور به ؛ فإن اللازم إنّما هو الإلتفات إلى ما يتوجّه إليه من الأمر وما أمر به بتمامه ولو على نحو الإجمال ، لا الإلتفات إلى ما يكون بحسبه من الحال ، فليست الغفلة عن الغفلة بمانعة من أن يتغيّر بها المأمور به : بأن يتوجّه خطاب واحد إلى وجوب إقامة الصلاة على إطلاقها وإجمالها ، ثم يقيّد أو يشرح كما ذكرنا بما يدل على جزئيّة السورة لها في خصوص حال الإلتفات إليها ، فيكون الدّاعي إلى الطاعة في كلّ ـ الغافل وغيره ـ هو هذا الخطاب وإن كان الواجب به عليه غير الواجب على الغير.

نعم ، إنّما هي مانعة عن الإيجاب عليه بخطاب مختص ببيان تكليفه ، مع ان هذا إنما هو اذا


أقول : لا يخفى عليك أن ما أفاده قدس‌سره في تقريب أصالة البطلان بنقض الجزء سهوا يرجع إلى القياس المركّب من الصغرى والكبرى ، ولمدا كانت الكبرى واضحة مسلّمة حرّر الكلام في الصغرى ، ومقتضى القياس المذكور بظاهره كما ترى ، وإن كان بطلان العبادة بنقض الجزء سهوا كيف ما اتفق ، إلاّ أنّ المراد كما يعلم من كلامه قبل ذلك وبعده الحكم بالبطلان ما لم يقم هناك دليل على الاكتفاء بالناقص عن التام ولا يتنافى بين نتيجة القياس وما ذكره أصلا ؛ لأن النتيجة كون المأتي به غير مأمور به.

ومقتضاه كما ترى البطلان ووجوب الإعادة ما لم يقم هناك دليل من الشارع على القناعة بغير المأمور به عن المأمور به. فإذا شكّ في قيام الدليل فيرجع إلى أصالة الاشتغال ، فالمراد من الأصل في المقام لا بدّ أن يكون ما ذكرنا

__________________

خوطب به بهذا العنوان ، أي : الغافل ، لا بما يلازمه من عنوان آخر كما لا يخفى.

هذا مع انه لا يلزم خطاب في هذا الحال أصلا ويكفي مجرّد محبوبيّة الخالي عن المغفول عنه في الحال كمحبوبيّة المشتمل عليه في حال الإلتفات إليه ؛ فإن فائدة الخطاب ليس إلاّ البعث والتحريك وهو حاصل من نفس الخطاب بالمركّب ؛ حيث إنّ الغافل يعتقد شموله فافهم.

ومن هنا انقدح : انه لو شك في الجزئيّة في حال الغفلة لإجمال الدليل المقيّد فالمرجع هو الإطلاق لو كان ، وإلاّ فأصالة البراءة أو الإحتياط على الخلاف فيما هو الأصل في مسألة الشك في الجزئية فتأمّل جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٦٠.


لا ما يقتضيه ظاهر « الكتاب » : من أصالة عدم القناعة والإسقاط وما يرجع إليهما من الأصول العدميّة ؛ لعدم ترتّب الحكم على مجاريها ، بل على مجرّد احتمال عدم القناعة كما هو ظاهر ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل.

وتوضيح ما أفاده في بيان الصغرى هو ما مرّت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة : من استحالة تنويع المأمور به في نفس الأمر والواقع بحسب العلم والجهل والالتفات والغفلة والسهو والنسيان : بأن يكون المأمور به في حال العلم بوجوب الحمد مثلا الصّلاة المشتملة على الحمد ، ومع الجهل به الصّلاة الخالية عنه ، وكذا يكون المأمور به في حال الالتفات إلى السورة الصلاة المشتمل عليها ، ومع الغفلة عنها الصّلاة الخالية عنها.

أمّا عدم إمكان التنويع بحسب حالتي العلم والجهل : فللزوم الدور الظاهر الذي أسمعناك القول فيه مرارا. وأمّا عدم إمكانه بحسب الغفلة والالتفات : فلأنّ الحالة التي يؤخذ موضوعا لا بدّ من أن يكون قابلة لأن يخاطب المكلّف بالفعل في حال الاتّصاف بها مع الالتفات إليها. والغفلة والنسيان والسهو لا يكون قابلة لذلك ضرورة ؛ أنه بمجرّد التفات المكلّف إلى كونه ناسيا عن السورة يزول نسيانه وغفلته ، فينتفي موضوع التكليف المتعلّق بالفعل الناقص من حيث كون المكلّف غافلا عن التّام وهو أمر ظاهر كظهور المقدّمة الأولى.

لا يقال : إنّ الآتي بالصّلاة بدون السورة يلتفت إلى ما يأتي به من الأجزاء فلا مانع من أمره بها ، غاية الأمر : عدم التفاته إلى كونها مقرونة بنسيان السّورة.


وعدم الالتفات إلى هذا العنوان لا تعلّق له بما يأتي به من الأجزاء.

فإن شئت قلت : المأمور به في حق ناسي السّورة مثلا غيرها من الأجزاء التي يأتي بها والمفروض أنه يلتفت إليها ، وإنّما لا يلتفت إلى ما نسيه والمفروض سقوطه عنه ، فالذي أمر به لم يتعلّق به النسيان والذي تعلّق به النسيان لم يؤمر به ، فلم قلت بعدم إمكان التنويع بحسب الالتفات والغفلة؟ مع أنّه لا محذور فيه أصلا بعد رجوع الأمر إلى ما ذكر ، وإلاّ يلزم في التكليف بشيء الالتفات إلى غيره ممّا لم يكلف به.

لأنّا نقول : إن لم يكن لنسيان السّورة في الفرض دخل في التكليف بغيرها من الأجزاء ، فيتوجّه عليه : أن لازمه عدم دخل السّورة في الصّلاة أصلا ، فيلزم أن يكون سائر الأجزاء مكلّفا بها على كلّ حال وهو خلف. مضافا إلى منافاته لفرض التنويع وإن كان له دخل فيه ، فلا بدّ أن يكون عنوانا للتكليف بغيرها ، فيلزم ما ذكرنا من المحذور.

فإن قلت : نسيان السورة أوجب التكليف بغيرها من الأجزاء في حالته لا أن يكون شرطا للتكليف بغيرها بحيث يلزم الالتفات إليه في زمان الإتيان به ، فالتكليف إنّما هو في حال نسيانها لا بشرطه.

قلت : ما ذكر لا محصّل له أصلا ؛ لأنه خلاف فرض التنويع ؛ فإن معناه دخل الحالة في موضوع الحكم فإن كان للحالة المذكورة دخل في عروض الحكم وبقائه فيعود المحذور ، وإلاّ فلا معنى للقول بكون التكليف في حال النسيان


لا بشرطه ؛ فإنه إذا فرض عدم اشتراطه فأيّ معنى للقول المذكور؟

(٤٧) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : عموم جزئيّة الجزء لحالتي (١) النسيان ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٦٣ )

عدم إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي

أقول : لمّا أفاد قدس‌سره في صغرى القياس ـ الذي أفاده لتأسيس الأصل في المسألة ـ عموم جزئيّة المنسي لحالتي النسيان والالتفات فقد توهّم : أن المراد التمسّك بالعموم اللفظي لدليل الجزئيّة ، فيتوجّه السؤال : بأن ذلك إنما يستقيم فيما لو كان له عموم ، وأمّا إذا لم يكن له عموم سواء كان لبيّا أو لفظيّا بصورة الجملة الخبريّة مع إهماله والإنشائيّة الغير القابلة لأن يشمل صورة النسيان والغفلة فلا معنى للحكم بالعموم ، فيرجع إلى إطلاق دليل العبارة إن كان له إطلاق يشمل صورة النسيان ـ على قول الأعمّي في ألفاظ العبادات ـ وإلاّ فيبني على مسألة البراءة والاشتغال في ماهيّات العبادات ؛ فإن ثبوت الجزئيّة في الجملة ـ كما هو المفروض ـ لا ينافي الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى حالة يشكّ في عموم الجزئيّة بالنسبة إليها كما لا يخفى ، فإذا بني على عدمها من جهة الأصل اللفظي أو العملي يكون حال الجزء حال الشرط المختصّ بحال الذكر.

__________________

(١) كذا وفي نسخة الكتاب : لحال النسيان ... إلخ.


وأجاب عنه بقوله : ( قلت ... إلى آخره ) (١) بما عرفت : من أن التنويع بحسب حالتي الغفلة والالتفات يستحيل عقلا ، فلا يمكن توجيه التكليف إلى الغافل عن الفعل حقيقة ؛ لأن التام غير مقدور له ، والنّاقص وإن كان مقدورا له ذاتا إلاّ أنه غير مقدور له بعنوانه ، فهو ما دام غافلا كالنائم في برهة من الوقت لا يكون مكلّفا بشيء ، وإذا زالت غفلته توجّهت الخطابات الواقعيّة بالمركب التام إليه.

نعم ، يمكن أن يكون الناقص مشتملا على مصلحة ملزمة كافية عن المصلحة الموجودة في المركّب التام في حق خصوص الناسي مع قصوره عن توجّه التكليف بالنسبة إليه لعجزه ، ولكن هذا مجرّد إمكان لا ينفع إلا بعد قيام الدليل على كفاية الناقص عن التام ؛ فإنه يستكشف منه ذلك رفعا للحكم الجزافي القبيح عن الشارع المنزّه ، فيحكم بعد قيام الدليل ـ كما قام في جملة من الموارد ـ :

بأن غير المأمور به مسقط عن المأمور به في العبادات ، كما نقول : بمثله في مسألتي الجهر والإخفات في الجاهل المركّب والمتمّم في السفر جهلا مركّبا كما ستقف على تفصيل القول فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : أن النّاسي ما دام ناسيا لا يتوجّه إليه خطاب وأمر لا من الشارع ولا من العقل.

نعم ، يحكم العقل بكونه معذورا ما دام غافلا ، وهذا لا تعلّق له بكونه مأمورا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٤.


عقلا ، كيف؟ والعقل ليس مشرّعا ، مضافا إلى ما عرفت : من عدم إمكان توجيه الخطاب بالنسبة إليه شرعا وعقلا ؛ لعدم قدرته.

نعم ، يأتي بالفعل بداعي امتثال الأمر الواقعي المتعلّق بالمركب غفلة عن بعض أجزائه.

وهذا الإقدام لا يحدث في حقه أمرا ، ومن هنا قال قدس‌سره : ( ومما ذكرنا ظهر : أنه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للإجزاء ... إلى آخر ما أفاده ) (١) ؛ فإن ابتناء حكم المقام على المسألة المذكورة موقوف على فرض أمر فيه وقد عرفت عدم إمكانه.

إشارة إلى أمّهات مطالب بحث الإجزاء

وحيث انجر البحث إلى هذا المقام فلا بأس بإيراد بعض الكلام في المسألة المذكورة عسى أن ينفع في توضيح المقام ؛ فنقول : ـ بعون الله وتوفيقه ودلالة أوليائه الكرام عليهم آلاف التحيّة والسلام ـ : إنهم ذكروا للأمر في تلك المسألة وجوها وأقساما أربعة لا خامس لها.

أحدها : الأمر الواقعي الاختياري ، وهو الذي يتعلّق بالموضوعات تعلّقا أوّليّا بمعنى : عدم أخذ الظن أو الشكّ في حكم آخر في موضوعه وعدم دخل العذر

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٦٥.


بالمعنى الأعم من المرض والخوف والتقيّة والاضطرار الشامل لفقدان الماء ونحو ذلك فيه ، وإن اختلف بحسب سائر حالات المكلّفين كالحضر والسفر.

وهذا هو الذي ادّعي اتفاق الفريقين على القول بالإجزاء فيه إلاّ عن أبي هاشم من العامّة. وقد ادّعي اتفاق العقلاء في تخطئته ، ومن غاية افتضاحه وجّهه بعض : بأن بحثه في إمكان أن يرد من الشارع عقيب امتثاله بإتيان الفعل ثانيا لا بعنوان المتدارك ، وجعل مرجع النزاع في المسألة إلى إمكان ورود الأمر المذكور وعدمه وإن كان في غاية الضعف ؛ لأن إمكان ذلك بمعنى إيجاب الشارع للفعل ثانيا بعنوان التكرار مما لا يعقل النزاع فيه.

وبالجملة : اقتضاء أمثال هذا القسم من الأمر سقوط الفعل ثانيا بالمعنى الأعمّ من الإعادة والقضاء عقلي مع فرض تعلّق الأمر بنفس إيجاد الطبيعة ، بل التحقيق : أنّ اقتضاء امتثال كل أمر ـ لعدم إمكان تعلّق الأمر بإيجاد الفعل على طبقه ثانيا لا بعنوان طلب التكرار ـ عقليّ من غير فرق بين أقسام الأمر كما هو ظاهر ؛ فإن كان البحث في المسألة عن هذا المعنى ـ كما استظهره بعض ـ كان الاقتضاء عقليّا بالنسبة إلى الجميع وإن كان النزاع في الأعم منه ـ كما يظهر من الشهيد قدس‌سره وغيره ـ فيشمل النزاع في اقتضاء امتثال أمر سقوط الفعل بمقتضى أمر آخر افترق هذا القسم عن باقي الأقسام ؛ إذ لا يتصوّر بالنسبة إليه أمر آخر كما هو ظاهر.

ثانيها : الأمر الواقعي الاضطراري المتعلّق بالموضوعات الأوليّة بالمعنى الذي عرفته مع دخل العذر بالمعنى الأعمّ في موضوعه ، فأمر ذوي الأعذار إذا


قيل بجواز البدار لهم واقعا بمجرّد طروّ العذر في بعض أجزاء الوقت وإن علم بزواله في جزء آخر يدخل في هذا القسم ، وهذا كالأوّل في اقتضاء امتثاله عقلا لسقوط الفعل ثانيا من غير فرق بين الوقت وخارجه وإن زال العذر فيهما ؛ لأنّ المفروض كونه واقعيّا.

نعم ، يمكن تعلق الأمر الندبي بعد زوال العذر بإيجاد الفعل على طبق الأمر الأوّل ، كما أنه يمكن تعلّق الأمر الندبي بإيجاد الأفضل بعد إيجاد غيره لإدراك المصلحة الأوليّة الفائتة كالمعادة جماعة هذا.

ولكن ربّما يجري في لسان شيخنا قدس‌سره عند البحث عن هذه المسألة : أن مقتضى الأصل وإن كان الإجزاء بالنسبة إلى هذا القسم ، إلاّ أنه يمكن الأمر الإلزامي بإيجاده ثانيا لتدارك المصلحة الأوليّة الفائتة سيّما في خارج الوقت.

وقال قدس‌سره في تقريب ذلك : أنه لا ينبغي الإشكال في أن قضيّة الأصل والقاعدة في امتثال التكليف الاضطراري حصول الإجزاء به ، فيجري على مقتضى هذا الأصل ما لم يقم دليل على خلافه ؛ فإن مقتضى اختلاف التكليف الواقعي في أجزاء الوقت بحسب أحوال المكلّف التي منها الاضطرار مع فرض وحدة التكليف ـ كما هو المفروض ـ هو رفع التكليف عن المكلف المضطرّ الآتي بوظيفته كالآتي بالصلاة تقيّة ، أو الوضوء كذلك ، أو الآتي بالصلاة مع الطهارة الترابيّة إلى غير ذلك.

إلاّ أنه يصحّ أن يرد دليل من الشارع على وجوب الإتيان بالواقع


الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار لأجل إدراك مصلحته التي هي الأصل المكتفي عنها بالمصلحة الموجودة في حال الاضطرار من باب البدليّة ، وليس الأمر فيه كامتثال الأمر الواقعي الاختياري الذي لا يتصوّر عدم الإجزاء فيه ، بل ربّما يقال : إن مقتضى ما دلّ على وجوب تدارك ما فات بعد خروج الوقت هو ثبوت القضاء ، إلاّ أن يقوم دليل على سقوطها لفرض فوت الواجب الاختياري هذا حاصل ما أفاده في مجلس المذاكرة.

ولكني لم أستصوبه ؛ لأن الفعل الناقص في حال الاضطرار إن لم يكن فيه مصلحة يتدارك بها المصلحة الملزمة ، ولم يبلغ إلى تلك المرتبة كان الأمر به من الشارع واقعا قبيحا ، وإن كان فيه المصلحة المذكورة لزم من إيجاده على طبق الأمر المتعلّق به ارتفاع الأمر عن الواقع.

فإن شئت قلت : إن الواقع الاضطراري من مراتب الواقع حقيقة فإذا أتى به المكلّف فقد أتى بالواقع فيرتفع أمره الإلزامي.

ومنه يظهر فساد التمسّك في المقام بما دلّ على وجوب القضاء على من فاته الفريضة في الوقت ؛ فإنّا نمنع من صدق الفوت بعد ثبوت التّدارك ، بل نمنع من صدق مجرّد عدم الإتيان بالواجب الواقعي أيضا لو جعل الفوت عبارة عن هذا المعنى ، لما عرفت : من أن الإتيان بالواقع الاضطراري من مراتب الإتيان بالواقع.

وإن شئت قلت : إن القضاء وإن كان بأمر جديد ، إلا أنّه بعد ثبوته من مراتب الأمر بالواقع أيضا وبعد امتثاله لا يبقى موضوع الأمر بالقضاء. ومن هنا قلنا تبعا


للعلاّمة ( قدّس الله نفسه الزكيّة ) : إن مرجع أمر الكفار بالقضاء وتكليفهم به حقيقة إلى مؤاخذتهم على تفويت الواقع الذي أمروا به ، فلا يتوجّه الإشكال المشهور : بأن القضاء غير مقدور لهم لا قبل الإسلام ولا بعده لسقوط التكليف بدليل جبّه عمّا قبله.

فإن قلت : بعد اشتمال الفعل على مصلحة الواجب الواقعي على ما هو المفروض لا بد أن يكون بدلا اختياريّا والتكليف به والواجب الاختياري تكليفا تخييريّا وهو خلف.

قلت : ما ذكر توهّم فاسد ؛ إذ لا امتناع في أن يكون للفعل مصلحة في حال دون حال كالصلاة مع الطهارة الترابيّة ؛ فإن مصلحتها إنّما هي في حق الفاقد للماء.

فإن قلت : بعد تسليم ارتفاع الأمر عن الواقع رأسا أيّ معنى لقولك بإمكان تعلّق الأمر الندبي من الشارع بإتيان الواقع الاختياري بعد ارتفاع العذر؟ فإن الأمر الندبي كالأمر الإيجابي يتوقّف على المصلحة والمفروض تداركها.

قلت : إنّما التزمنا بتدارك المقدار الموجب من مصلحة الواقع لإتمام المصلحة لعدم الدليل عليه أصلا ، فيمكن صدور الأمر الندبي عن الشارع لأجل تداركه ، وقد التزمنا بمثله في الإتيان بالبدل الاختياري كالصلاة المعادة جماعة في الجملة ، فكيف البدل الاضطراري؟

ثالثها : الأمر الظاهري الشرعي ، ولو كشف عنه العقل المتعلّق بالموضوعات


تعلّقا ثانويّا من حيث الظن بالواقع الأوّلي بالمعنى الأعمّ من الظن النوعي ، أو عدم العلم به فينطبق على مجاري الأصول العمليّة. وهذا على قسمين :

أحدهما : ما يتعلّق بالمكلف من حيث عجزه عن تحصيل الواقع كالأصول الحكميّة وبعض الأصول الموضوعيّة والأمارات الظنيّة في الأحكام والموضوعات بشرط الانسداد وعدم التمكّن من تحصيل العلم بالواقع الأوّلي.

ثانيهما : ما يتعلّق به لا من الحيثيّة المذكورة ، بل من حيث ظنّه بالواقع أو عدم علمه به ولو تمكن من تحصيل العلم بالواقع ، كالظنون الخاصّة المطلقة وأكثر الأصول الموضوعيّة.

أما الأوّل : فلا إشكال في عدم اقتضاء سلوكه القناعة به عن امتثال الأمر الواقعي وسقوط الفعل على طبقه أداء وقضاء فيحكم بمقتضى الأمر الواقعي بعد تبيّن خطأ الحكم الظاهري وعدم موافقته للواقع بوجوب الإتيان على طبقه في الوقت وخارجه فيما يثبت له القضاء ولو بالعموم ؛ إذ الحكم الظاهري لا يوجب التصرّف في الواقع أصلا ، غاية الأمر حكم العقل بكون سالكه معذورا في مخالفة الواقع ما لم ينكشف الخلاف.

ودعوى : أن الحكم الظاهري وإن لم يوجب التصرّف في الواقع ، وإلا لزم التصويب الباطل عند أهل الصواب ، إلا أنّ مقتضاه لما كان ترتيب جميع آثار الواقع التي منها سقوط الفعل ثانيا بعد تحقّقه الإجزاء شرعا ، فاسدة بأن الأمر المذكور ـ على ما عرفت توضيحه ـ من اللوازم العقليّة لإتيان الواقع الأولي


فلا يمكن تعلّق جعل الشارع به على ما عرفت الكلام فيه وستعرفه في محلّه ، وهذا هو الذي يلزم سلوكه في هذا القسم وعليه المحققون وزعم جماعة بالنظر إلى إطلاق كلماتهم خلافه.

وأمّا القسم الثاني : فلا إشكال في عدم اقتضاء سلوكه الإجزاء عن الواقع أيضا فيما لو تبيّن الخطأ والوقت باق لتدارك الواقع بعين ما عرفته في القسم الأوّل : من عدم تصرّف الحكم الظاهري في الواقع ، وإن ترتّب عليه تمام آثار الواقع من حيث البناء على كونه واقعا ما دام الحكم الظاهري موجودا ، بل الإشكال في تصوير الإجزاء بعد قيام الدليل عليه في بعض الموارد على ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من أن الأصل في امتثال الأمر الظاهري عدم الإجزاء فيبني على مقتضاه فيما لم يقم هناك دليل من الشارع على الإجزاء.

وقد عرفت في الجزء الأول من « الكتاب » : ابتناء ثاني الشهيدين « قدس‌سرهما » القول بالإجزاء على القول بالتصويب وجعل الإجزاء وعدمه ثمرة للقول بالتصويب والتخطئة (١).

وغاية ما يقال في توجيه الإجزاء بعد قيام الدليل عليه : إن قيامه يكشف عن أن في أمر الشارع ظاهرا وحكمه بالبناء على ترتيب آثار الواقع مصلحة يتدارك بها تمام المصلحة الملزمة في الواقع فيرتفع الحكم الواقعي ؛ لأن بقاءه بعد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١١٩ وأنظر تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


الفرض المزبور يوجب ثبوته بلا صفة تقتضيه ، وإن أشكل الأمر حينئذ بعدم انفكاك الفرض عن التصويب ولو بعد قيام الدليل على الإجزاء ؛ اللهم إلاّ أن يقال : إن ثبوت الواقع في الجملة ـ ولو قبل العمل بالحكم الظاهري ـ يكفي في التفصّي عن لزوم إشكال التصويب ؛ فإنه لا إشكال في جواز تحصيل العلم بالواقع في حقه فيرتفع موضوع الحكم الظاهري فتأمّل.

وأولى بالإشكال : ما لو قام الدليل على الإجزاء في القسم الأول ؛ لأنه لا يحكم فيه العقل بلزوم المصلحة في تشريع الحكم الظاهري ، اللهم إلاّ أن يقال : إن عدم حكمه به فيما لم يقم هناك دليل على الإجزاء ، وأما بعد قيامه فيحكم به لا محالة فيتّحد القسمان من هذه الجهة وإن افترقا من حيث إطلاق الاعتبار وتقييده هذا فيما لو تبيّن الخطأ في أثناء الوقت.

وأما لو تبيّن بعد خروج الوقت المضروب للفعل فقد بنى شيخنا قدس‌سره لزوم تدارك الواقع وعدمه في الجزء الأول من « الكتاب » عند الكلام في كيفيّة جعل الطرق على كون المراد من الفوت في دليل القضاء مجرد ترك الواجب الواقعي في الوقت وإن تداركت مصلحته ؛ حيث إن في ترخيص الشارع لترك الواقع في الجزء الأخير من الوقت مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع في حكم العقل أو فوت الواقع ؛ من حيث إن فيه مصلحة. لكن قد عرفت الإشكال في هذا المبنى منّا فيما بيّنا لك في المقام.

وممّا ذكرنا لك كله تعرف : حكم تبدل رأي المجتهد في المسألة قبل العمل


وبعده ، قبل خروج الوقت وبعده ، تبدّل رأيه إلى العلم بالخلاف أو الظنّ المعتبر به ؛ فإن مقتضى القاعدة العمل بمقتضى الرأي الثاني إذا كان التبدّل قبل العمل ، بل لم يخالف فيه أحد ، ووجوب الإعادة والتدارك إذا كان بعده مطلقا ونقض الآثار السابقة حتى في المعاملات بالمعنى الأعمّ إلاّ فيما إذا قام هناك إجماع على عدم النقض أو دليل آخر كدليل نفي الحرج.

نعم فيما لو تبدّل ترجيحه إلى الشكّ والتردّد في المسألة بعد العمل بالترجيح السابق يمكن الحكم بصحّته من جهة قاعدة الشكّ بعد الفراغ وإن كانت الشبهة في الحكم في نفس المسألة ، وإن كان فيه ما فيه ، وتعيّن عليه الرجوع إلى مقتضى الأصل بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة ، وفي المسألة أقوال يطلب من محلّها سيجيء الإشارة إلى بعضها في آخر هذا الجزء من « الكتاب » إن شاء الله تعالى.

رابعها : الأمر العقلي العذري ، وفي ألسنة بعض من عاصرناه أو قارب عصرنا توصيفه بالأمر الظاهري العقلي (١) ، وإن كان الحق توصيفه بالأمر الخيالي. وقد عرفت : توهّم وجوده في زعم غير واحد في الجاهل المركّب والناسي وأضرابهما ، وقد بنى الأمر عليه المحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » في مواضع منه.

__________________

(١) أنظر غاية المسؤول في علم الأصول ـ تقرير بحث الآخوند الأردكاني قدس‌سره بقلم العلاّمة السيّد محمّد حسين الشهرستاني المتوفى سنة ١٣١٥ ـ بحث الإجزاء ص ٢٨٢ ـ وكذا مطارح الأنظار للشيخ الأنصاري بقلم الميرزا أبي القاسم الكلانتري الطهراني ج ١ / ١٢٧ ، وتعليقة السيد علي علي القزويني على المعالم : ج ١ / ٤٠٦.


ولكنك قد عرفت : أنّه لا أمر هناك أصلا بالنسبة إلى ما يأتون به لا من الشارع ولا من العقل ، وإنّما يأتي الغافل بالفعل بداعي الأمر الغير المتوجّه إليه ، فإذا انكشف الخلاف وارتفع العذر يجب عليه تدارك الواقع في الوقت وخارجه ما لم يقم عليه دليل من الشارع على الاجتزاء بما فعله ، وبعد قيامه يكشف عن وجود مصلحة متداركة في فعله وإن عوقب على مخالفة الواقع ، كالجاهل بالجهر والإخفات بناء على شمول كلامهم للجاهل المقصّر كما ستقف على تفصيل القول فيه.

فإن قلت : إذا اعتقد المكلّف مطابقة ما يأتي به للواقع وأتى به بهذا العنوان فيحكم العقل بوجوبه من حيث كونه إطاعة للشارع في زعم المكلّف وانقيادا له ، وإن أخطأ في هذا الاعتقاد ؛ لأن الخطأ في اعتقاد الحكم الشرعي لا يوجب الخطأ في حكم العقل كما هو ظاهر ، فالمراد من الأمر العقلي في كلماتهم هذا المعنى ، وإن كان توصيفه بالظاهري خطأ إلا أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

قلت : بعد تسليم حكم العقل في الجزئيات إن حكمه بوجوب الإطاعة حكم إرشاديّ صرف ، لا يوجب تصحيح العمل المخالف للواقع وارتفاع الأمر الشرعي المتعلّق به مع عدم موافقته بالفرض من جهته وهذا أمر لا ينبغي الارتياب فيه أصلا ، فإن كان مقصود القائل هذا الأمر فلا يجديه في شيء فافهم.

نعم ، لو كان المكلف غافلا لجهله المركب في برهة من الزمان ، ثم تفطّن وشكّ في مطابقة أعماله السابقة للواقع أو الطريق الذي يرجع إليه لاحقا بني على


الصحّة ؛ نظرا إلى قاعدة البناء على الصحّة بعد الفراغ ، ولعلّنا نتكلّم في هذا زيادة على هذا إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : بعد قيام الدليل على الاكتفاء بغير الواقع عنه ما المصحّح للعبادة ؛ فإن كان الأمر الواقعي فالمفروض انتفاؤه ، وإن كان أمر آخر فقد التزمت بعدم حدوث أمر آخر بسبب طروّ الغفلة والنسيان ، وإن لم يكن هناك أمر أصلا ، فكيف يقصد التقرّب بالفعل؟

قلت : المصحّح رجحان الفعل في نفس الأمر واشتماله على جهة الأمر ، وإن كان هناك مانع في المكلّف من تأثيرها في توجيه الأمر إليه ، وهذا المقدار يكفي في صحّة العبادة.

ومن هنا نقول : بصحة الوضوء بعد دخول الوقت في الغايات المستحبّة ، وإن لم يتعلّق به الأمر الاستحبابي لأجلها لوجود المانع وهو الأمر الوجوبي ؛ حيث إن الغايات للوضوء ليست كالغايات في الغسل حتى يوجب اختلاف متعلّق الأمر الإيجابي والندبي ، غاية ما في المقام : عدم جعل المكلف الداعي رجحان الفعل واقعا ، بل جعله الأمر الواقعي الغير المتوجّه إليه ، إلاّ أنه مع هذا القصد قاصد للرجحان ضمنا ونلتزم بكفاية هذا المقدار أيضا فتدبّر.

وقد خرجنا بطول البحث في المسألة عن وضع التعليقة إلاّ أن رجاء انتفاع


المشتغلين ووقوعهم على لبّ المسألة وخالصها سيّما ولدي وقرّة عيني (١) وفّقه الله تعالى لمرضاته حملني على ذلك وإن مضى بعض الكلام فيها في الجزء الأوّل من التعليقة أيضا (٢).

(٤٨) قوله قدس‌سره : ( ومن ذلك يعلم الفرق بين ما نحن فيه ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٢ / ٣٦٦ )

__________________

(١) يريد به نجله العلاّمة الفاضل آية الله الشيخ مرتضى الآشتياني قدس‌سره ( ١٢٨١ ه‍ ـ ١٣٦٥ ه‍ ) أنظر ترجمته في آخر التعليقة رقم ٨٢.

(٢) أنظر بحر الفوائد : ج ١ / ٧٤ في أكثر من مورد.

(٣) قال المحقق السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« المقصود ليس إبداء الفرق بين ما نحن فيه وهو جزئيّة السورة في الصلاة وبين شرطيّة عدم لبس الحرير فيها من حيث الجزئيّة والشرطيّة ؛ لعدم الفرق من هذه الحيثيّة ، ولا إبداء الفرق بينهما من حيث اعتبار السورة فيما نحن فيه بالحكم الوضعي وهو الجزئيّة واعتبار عدم لبس الحرير بالحكم التكليفي ؛ لعدم فارقيّة الحكم للوضعي بعد فرض كونه غيريّا.

بل المقصود إبداء الفارقيّة بينهما من حيث إنّ شرطيّة عدم لبس الحرير في الصلاة مسبب عن التكليف فيختص بغير الغافل ـ عكس ما نحن فيه ـ حيث إنّ التكليف بالسورة مسبّب عن جزئيّتها.

والشاهد على ذلك الفرق قوله : « لا تلبس الحرير » تكليفى نفسي عام لغير الصّلاة أيضا بخلاف التكليف المفروض بالسورة في الصّلاة ؛ فإنه على تقديره غيريّ خاصّ بالصلاة فقط » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٢.

* وقال المحقّق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :


أقول : قد عرفت شرح القول فيما أفاده : من الفرق بين الجزئيّة المستكشفة من التكليف الغيري التي لا يلزم من انتفاء التكليف انتفائها وإن لم يكن انتفاؤه دليلا على وجوده أيضا ، والشرطيّة المسبّبة من التكليف النفسي المعلولة له التي يلزم من انتفاء التكليف انتفاؤه ، كشرطيّة إباحة المكان واللباس المسبّبة عن

__________________

« وتحقيق المقام : هو الفرق بينما ثبتت الشرطيّة لأجل القول بعدم إجتماع الأمر والنهي فيما تعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر وإجتمعا في مورد مع تعدد الجهة وبينما ثبتت الشرطيّة لأجل القول بدلالة النهي على الفساد في العبادات فيما تعلّق الأمر بعنوان كلّي والنهي ببعض أفراده أو دلّ الدليل بأمر غيري على أخذ شيء في المأمور به شطرا أو شرطا بكون مقتضى الأوّل هو القول بالشرطيّة حين الإلتفات ومقتضى الثاني هو القول بالشرطيّة في الواقع ، وذلك لأنه لا ريب في اختصاص الأحكام التكليفيّة بحال الإلتفات ، فإذا قلنا باشتراط إباحة المكان في الصّلاة لأجل القول بعدم جواز إجتماع الأمر والنهي فلا بد من تخصيص الشرطيّة بحال الإلتفات إلى النهي دون الغفلة عنه ، ومرجعه إلى تقييد إطلاق وجوب الصلاة بحال الإلتفات إلى النهي بخلاف ما لو ورد الأمر بالصّلاة والنهي عن إيقاعها في مكان مغصوب لكونه من قبيل المطلق والمقيّد ، وحكمها مقيّدا لموضوع المطلق فلا يرتفع التقييد بارتفاع النهي ؛ لأنه إذا فرض كون النهي غيريّا وكاشفا عن أخذ عدم الخصوصيّة الملحوظة في المنهي عنه في موضوع الدليل المطلق فهو يستلزم كون متعلق الأمر في الأمر في المطلق هي الطبيعة المقيّدة في الواقع ، ونحوه الكلام فيما دلّ الدليل بالأمر الغيري على أخذ شيء في شيء شطرا أو شرطا ؛ إذ لا بد حينئذ أن يكون المرتفع بسبب نسيان الشرط هو الأمر المتعلّق به دون شرطيّته » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٣٧٨.


تحريم الغصب ومانعيّة لبس الحرير المسبّبة عن النهي عن الصّلاة في الحرير إلى غير ذلك.

لا يقال : مقتضى ارتفاع الشرطيّة بحسب الواقع في صورة الغفلة عن التكليف النفسي ولو كان الفعل المتعلّق للخطاب التحريمي النفسي من حيث عدم تعلق الغفلة به اختياريّا متعلّقا للخطاب الواقعي يستلزم سقوط التكليف بالنسبة إلى الشرط والمشروط معا ، والمفروض عدم حدوث تكليف آخر بالفعل الفاقد للشرط فلا مصحّح له ، فيحتاج الحكم بالاجتزاء به إلى دليل كالفاقد للجزء نسيانا أو جهلا مركّبا ، فيتّحد الجزء والشرط حكما.

لأنا نقول : ما ذكر إنّما يستقيم فيما كان شرطا للمأمور به ومأخوذا في مرتبة الجزء لا فيما كان مأخوذا في الامتثال على ما هو المفروض ؛ فإن الغفلة عنه لا يوجب الغفلة عن المأمور به ، فلا يكون هناك مانع من تعلّق التكليف به كما هو ظاهر.


(٤٩) قوله قدس‌سره : ( قلت : بعد تسليم إرادة رفع جميع الآثار ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٦٧ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« فإن قلت : كيف تدّعي أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة والنبوي وارد في مقام بيان الإمتنان على هذه الأمّة وليس في رفع مؤاخذة الأمور التسعة منّة عليهم لكونها مرفوعة بحكم العقل عن سائر الأمم أيضا؟

قلت : ـ مع منع قبح المؤاخذة على جميع الأمور التسعة لعلّ المقصود رفع مؤاخذة الجميع باعتبار المجموع ـ : انه يحتمل ان يكون المرفوع عنهم هو وجوب المحافظة على الوقوع فيها بأن يتذكّر محفوظه مرارا لئلاّ ينساه ويحافظ على مقدّمات سائر الأمور التسعة لئلاّ يقع فيه ، ولعلّ هذه المحافظة كانت واجبة على سائر الأمم وكانوا مؤاخذين بتركها فرفع وجوبها عن هذه الأمّة امتنانا عليهم.

وهذا وإن كان خلاف الظاهر إلاّ ان الحمل على إرادة العموم أبعد منه ، وأمّا رواية المحاسن :

[ وضع عن امتي ما أكرهوا عليه ... « المحاسن ٢ : ٧٠ كتاب العلل ـ ح ١٢٤ ] فمع اختصاصها بالثلاثة من التسعة مخالفة لمذهب الإماميّة ؛ فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا مع الإختيار أيضا ، وظاهر الرّواية بطلانه من جهة الإكراه لا من حيث هو.

وغاية ما يستفاد من خبر المحاسن هو إرتفاع الآثار التي ثبتت شرعا بالتزام المكلّف بحلف أو نذر أو نحوهما لا الآثار التي أثبتها الشارع ابتداءا كالضمان المرتّب على الإتلاف أو اليد أو نحوه ، فهو إنّما يصير قرينة على الإرتكاب خلاف الظاهر في خبر الرفع بمقدار مدلوله وهو ما ذكرناه لا مطلق الآثار.


أقول : لا يخفى عليك أن ظاهر ما أفاده في الجواب : كون المراد من الجزئيّة في السؤال الحكم الوضعي بالمعنى المعروف الذي وقع الكلام في كونه مجعولا شرعيّا مستقلاّ في قبال جعل الحكم التكليفي في مورده ، أو أمرا إعتباريّا منتزعا من جعل الحكم التكليفي في مورده ، فيكون جزئيّة الجزء ككليّة الكلّ ومأموريّة المأمور به مثلا.

فيتوجّه عليه : بأن المراد منها في المقام ليس هذا المعنى قطعا ، بل المراد هو مقدّميّته وتوقف المركّب عليه في نفس الأمر ، وليس هذا المعنى أمرا إعتباريّا في المقدّمات جزما ، كيف؟ والدليل على الصحة في موارد نسيان بعض الأجزاء يكشف عن هذا المعنى ، وإلاّ لما أمكن حكم الشارع بصحة عمل الفاقد للجزء مع فرض جزئيّته وتوقّف العمل عليه ، وإن لم يمكن تعلّق التكليف والأمر بالعمل الفاقد له لما عرفت : من استحالة التنويع بحسب الالتفات والغفلة.

فمراد السائل كشف النّبوي ـ بناء على تعميمه لرفع غير المؤاخذة ـ عن كون الأمر في مقدّميّة المقدّمات على هذا الوجه ، فيستدلّ به على الأصل الثانوي في نسيان الأجزاء فيحكم بمقتضاه ، إلاّ فيما قام هناك دليل خاصّ على خلافه كما

__________________

ومع التسليم فغاية ما يسلّم كون خبر المحاسن قرينة على ارتفاع الأحكام الوضعيّة خاصّة لا الأعم منها ومن التكليفيّة. اللهمّ إلاّ ان يقال : ان الظاهر ان استشهاد الإمام ٧ بالنبوي من قبيل الاستدلال بالكلي عن بعض جزئيّاته ، فالمراد هو نفي جميع الآثار من دون اختصاص ببعضها » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٢٦١ و ٣٧٨.


قام عليه في أركان الصلاة ، ولا يريد بذلك إثبات التكليف بالناقص ، ولا رفع الجزئيّة التي هي من أحكام الوضع هذا.

ولكن يمكن التفصّي عنه : بأن المراد وإن كان ما ذكر في المناقشة إلا أن الجزئية بالمعنى المذكور أيضا ليست أمرا جعليّا للشارع ، بل هو أمر ثابت في نفس الأمر كشف عنه بيان الشارع على القول بتعميم النّبويّ لا يشمل رفع الجزئيّة بالمعنى المذكور أيضا ـ بناء على اختصاصه برفع الآثار الشرعيّة على ما هو المفروض ـ فالنّبوي لا يجدي في إثبات القاعدة الواردة على أصالة الاشتغال في المسألة ، ويمكن تنزيل كلام شيخنا قدس‌سره على هذا المعنى وإن كان بعيدا عن مساق كلامه.

(٥٠) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو صرّح الشارع : بأن حكم نسيان الجزء الفلاني ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٦٨ )

بيان المرفوع في حديث الرفع

أقول : ما أفاده من الفرق في الحكم برفع الأثر الشرعي المترتّب على المنسيّ بواسطة أمر عقليّ أو عاديّ بين النّبوي ـ المقضي بناء على عدم اختصاصه برفع المؤاخذة لرفع جميع الآثار الشرعيّة ـ والدليل الخاصّ الوارد في نسيان بعض الأجزاء الحاكم بكونه مرفوعا ـ من حيث إن الأوّل لا يقتضي بدلالة


الاقتضاء رفعه ، والثاني يقتضيه ـ مما لا ينبغي الارتياب فيه أصلا ؛ لأن رفع الأثر المذكور من حيث كونه شرعيّا أمر ممكن لا غبار فيه أصلا.

ومن هنا لا يفرّق بينه وبين الأثر الشرعي بلا واسطة في الأمارات الظنيّة المعتبرة إذا كان اعتبارها من حيث كشفها بعنوان الإطلاق ، وإنّما لم يقل بالتعميم وعدم الفرق بينهما بالنسبة إلى النّبوي وأخبار الاستصحاب ؛ من حيث عدم ظهورها في التعميم ، لا من حيث عدم قابليّة الأثر المذكور لتعلّق الجعل الشرعي به.

وأما إذا ورد دليل على تنزيل الموجود منزلة المعدوم أو العكس ولم يكن له إلاّ الأثر المزبور ، فلا بد من رجوع التنزيل إلى جعله من جانب الشارع وإن كان التنزيل ظاهريّا ؛ نظرا إلى تعيّن إرادته بحكم العقل ، بل بحكم العرف أيضا بعد الالتفات إلى ما ذكر فيحكم في المقام ـ بعد ورود دليل على رفع نسيان السورة مثلا ـ إن الأمر الشرعي المتعلق بالصّلاة يرتفع بعد الإتيان بالصلاة الخالية عنها ؛ من حيث إن بقاءه كحدوثه بجعل الشارع فلا يجب الإعادة ؛ من حيث كونه من لوازم بقاء الأمر بعد الالتفات وإن كان عقليّا.

وبمثل ما حرّرنا ينبغي تحرير المقام لا بمثل ما أفاده : من حمل الكلام فيما ورد هناك دليل خاصّ على إرادة رفع الإعادة ؛ فإن المستفاد من بعض كلماته كون وجوب الإعادة أمرا عقليّا ، اللهم إلاّ أن يكون المراد من رفعه رفع الحكم الشرعي


الموجب له فتدبّر.

وأمّا ما أفاده الشيخ قدس‌سره في « الفصول » في بيان معنى النّبوي ومساعدته على رفع الجزئيّة ، بخلاف أصالة عدم الجزئيّة ، فقد عرفت ، أو (١) ما أفاده في رجوعه عنه وإن كان مبنى رجوعه أيضا على كون الجزئية أمرا انتزاعيّا اعتباريّا كظاهر ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير المقام على ما عرفته.

ثمّ إن الكلام في حكم نسيان شرط المأمور به كالكلام في حكم نسيان الجزء حتى بالنسبة إلى القاعدة الثانويّة المسلّمة في باب الصلاة ؛ فإن في بعض أخبارها تصريح بحكم الشرط مثل الصحيحة ؛ لمكان استثناء الشرط فيها ، وبعضها ظاهر في حكم نسيانه كالمرسلة وما بعدها. وأما حكم نسيان شرط الامتثال فقد عرفت : من شيخنا قدس‌سره التصريح بمخالفة حكمه لحكم نسيان غيره. ومنه يظهر : أن مراده من الشرط في قوله : ( ثم إن الكلام في الشرط ... إلى آخره ) (٢) هو شرط

__________________

(١) كذا في النّسخ الموجودة عندنا.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« أقول : قد اشتهر في الكتب الفقهيّة تقسيم الشرط إلى واقعي وعلمي وذكري.

وقد يطلق الأوّل في مقابل الأخيرين وقد يطلق في مقابل أحدهما.

والمراد بالأوّل : أن يكون الشرط بحيث يبطل المشروط بالإخلال به مطلقا سواء كان مع العلم والتذكر أم مع الجهل والغفلة كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة.


__________________

وبالثاني : ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن جهل كالطهارة من الخبث في الجملة بالنسبة إلى الصّلاة.

وبالثالث : ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن غفلة كإباحة المكان بالنسبة إلى الصلاة بناء على صحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الغفلة عن كونه مغصوبا.

وتحقيق المقام يقتضي بيان صور المسألة وهي أربع :

إحداها : أن يكون كل من دليل المشروط والشرط مطلقين شاملين لصور العلم بالشرط والجهل به والتذكر له والغفلة عنه بأن قال الشارع : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) بناء على كون الفاظ العبادات أسام للأعم ، وقال : ( لا صلاة إلاّ بطهور ) لأن إطلاق دليل الشرط يقتضي كونه شرطا مطلقا ولا يعارضه إطلاق دليل المشروط حتى يقال : بأن المتيقن منه تقييد إطلاقه بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكّر خاصّة لحكومة إطلاق دليل الشرط على إطلاق دليل المشروط.

الثانية : أن يكون إطلاق الدليل في جانب الشرط دون المشروط ، فهي أولى من سابقتها في كون الشرط فيها واقعيّا لسلامة إطلاق دليله من معارضة إطلاق دليل المشروط.

الثالثة : عكس سابقتها : بأن كان إطلاق الدليل في جانب المشروط بأن كان الشرط ثابتا بدليل لبّي أو وقع في سياق الأمر بأن قال : ( تستّر في الصلاة ) لعدم شمول الأمر لغير حال العلم والتذكّر لعدم تعلّقه إلاّ بالمقدور ، والشرط المجهول والمغفول عنه غير مقدور للمكلّف فهو لا يثبت الشرطيّة إلاّ في حال العلم والتذكّر ، فيبقى إطلاق دليل المشروط بالنسبة إلى حالتي الجهل والغفلة على حاله ، هكذا قيل.

وفي إطلاقه نظر ؛ لأنه انّما يتمّ فيما كانت الشرطيّة ناشئة من امتناع اجتماع الأمر والنهي لا


__________________

من إقتضاء الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه أو من ورود الأمر باعتبار شيء بناء على استظهار كون الوجوب في مثله غيريّا كما يوضحه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في أصل المسألة وأوضحناه عند شرح قوله : ( ومن ذلك يعلم الفرق ... إلى آخره ).

وكيف كان : فمقتضى القاعدة فيما نحن فيه في الجملة ، بل ظاهر الفقهاء مطلقا ـ كما قيل ـ هو الأخذ بإطلاق دليل المشروط والحكم بعدم تقيّده بما ثبت من الشرطيّة إلاّ بالنسبة إلى حال العلم والتذكّر ؛ لأنه المتيقّن مما ثبت بدليل الشرطيّة فيحكم بصحة المشروط بدون الشرط مع الجهل به أو الغفلة عنه.

الرّابعة : ألاّ يكون لشيء من دليل المشروط والشرط إطلاق. بأن ثبت كل منهما بدليل لبّي أو لفظي مجمل وهي كسابقتها ؛ لأن المتيقّن من تقييد المراد الواقعي من دليل المشروط بدليل الشرط هو تقيّده بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكّر خاصّة. هذا ما تقتضيه القواعد الشرعيّة في باديء النظر.

والذي يقتضيه التأمّل الصحيح خلافه وكون ما ثبتت شرطيّته في الجملة شرطا واقعيّا مطلقا.

أمّا في الصورتين الأوليين فلما تقدم ، وأمّا الصورتين الأخيرتين : فلأن الجهل بالشرط والغفلة عنه لا يتحقّقان إلاّ مع ثبوت الشرطيّة في حال الجهل والغفلة أيضا ؛ إذ مع عدم ثبوتها في الحالين لا يتحقّق جهل وغفلة أصلا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن متعلق الجهل والغفلة ما هو شرط في حال العلم والتذكّر مع أنّا نقول : إن الجاهل أو الغافل إنما يأتي بالفعل المجهول شرطه أو المغفول عن شرطه باعتقاد كون المأتي به هو المأمور به الثابت في حال العلم والتذكّر ، وحينئذ إن تعلّق الأمر بالمأتي به الفاقد


المأمور به لا مطلقا كما هو ظاهر.

المسألة الثانية :

في زيادة الجزء عمدا

(٥١) قوله قدس‌سره : ( المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٧٠ )

__________________

للشرط لزم تعلّقه بما هو غير مقصود للمأمور وغير ملتفت إليه أصلا نظير ما ذكره المصنف رحمه‌الله في الجزء المنسي كما هو مقتضى إحالته الكلام في الشرط إلى ما ذكره في الجزء ولكنا ذكرنا هناك الفرق بينهما فراجع ولاحظ.

ومع تسليم عدم الفرق بينهما في الأصل الأوّلي لا فرق أيضا بينهما في الأصل الثانوي الثابت في خصوص الصلاة بعموم قوله عليه‌السلام : « لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمسة » وغيره من الأخبار فلا يحكم بفسادها مع فقد الشرط المجهول أو المغفول عنه إلاّ فيما ثبت بالدليل فتدبّر » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٣٨٠.

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

إعلم أن هنا أمورا لا بد من التنبيه عليها :

الأوّل : ما أشار المصنف رحمه‌الله : من اختصاص محلّ النزاع في الزيادة العمديّة ما بزيادة الجزء الذي لم يثبت اعتباره بشرط عدم الزيادة ولا بشرط مع كون الزيادة بقصد الجزئيّة لا بدونه ؛ لعدم الإشكال في البطلان على الأوّل وفي عدمه على الإخيرين.


في كيفيّة اعتبار الأجزاء في المركّب المأمور به

__________________

الثاني : أن مرجع النزاع في إبطال الزيادة العمديّة للعبادة إلى النزاع في إبطال مشكوك المانعيّة لكونه جزئيّا من جزئيّات هذا النزاع ؛ لأن مرجعه إلى النزاع في كون الزيادة العمديّة مانعة من صحّة العبادة وعدمه.

فالأولى أن يقرّر النزاع في مطلق ما يشك في مانعيّته سواء كان على تقدير منعه من الموانع او القواطع.

الثالث : أن المراد من الإبطال حيثما قلنا بإبطال مشكوك المانعيّة للعبادة ليس على حقيقته ؛ لأن معناه إحداث البطلان في الشيء وجعل وجوده كعدمه بعد وقوعه صحيحا ، وموانع الصّلاة ليست كذلك ؛ لأنها إمّا مانعة من انعقادها صحيحة إن وقعت في ابتداءها وقاطعة لها إن وقعت في أثنائها.

نعم ، إطلاق المبطل على مثل الشرك على وجه الحقيقة ؛ لإحباطه جميع الأعمال الماضية كالعجب على قول كما سيشير إليه المصنف رحمه‌الله في معنى قوله تعالى : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) [ محمد : ٣٣ ] إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٨٠ ـ ٣٨١.

* وقال المؤسس الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان كون العدم شرطا حيث يعبّر به مرجعه إلى كون الوجود مانعا ؛ ضرورة ان العدم لا يؤثّر ولا يتأثّر ولا يفسد العمل إلاّ على هذا التقدير ، فالبحث إنّما هو فيما يحتمل اعتبار الجزء بشرط لا.

وتوهّم : أن مرجعه إلى النّقيصة بيّن الوهن وإلاّ لم يكن للبطلان من جهة الزيادة معنى وانحصر في النقيصة وهو بديهي الفساد » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٤.


أقول : اعتبار فعل في المأمور به بعنوان الجزئيّة لا يخلو أمره من صور.

منها : اعتباره « بشرط شيء » بمعنى كون الجزء الموجودين المنضمّين كالسجود للصلاة في كل ركعة.

ومنها : اعتباره « بشرط لا » ، أي : بشرط عدم الزيادة.

ومنها : اعتباره بعنوان « لا بشرط » بمعنى : الطبيعة الصادقة على القليل والكثير عرفا بحيث يكون كل منهما فردا عرفا للطبيعة ، كالمشي الصادق على القليل والكثير بنسبة واحدة بمعنى كون الكثير ما دام المكلّف متشاغلا به أمرا مستمرّا واحدا في نظر العرف ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة خلافه فتأمل.

ومنها : اعتباره وأخذه في المأمور به من دون ملاحظة شيء من الملاحظات ونظر إليها حتى الملاحظة الأخيرة ، فلو قام الدليل الشرعي على بطلان المأمور به بزيادته لم يكن من جهة نقص في الجزء ، بل من جهة كونها مانعة وعدمها معتبرا في المأمور به في قبال وجود الجزء.

ومحلّ الكلام في المقام إنّما هو في هذا القسم الأخير لا في غيره من الأقسام السابقة عليه ، والوجه فيه ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

ثمّ إنه يعتبر في زيادة الجزء أمران :

أحدهما : كون المزيد من جنس المزيد عليه وسنخه.

ثانيهما : كون الإتيان به بعنوان الجزئيّة وقصدها لا لداع وغرض آخر ديني ،


أو دنيويّ راجح ، أو مرجوح ، أو متساوي الطرفين.

وأمّا تسمية السجود للعزيمة بالزيادة في المكتوبة فيما نهي عن قراءة السورة المشتملة إليها الموجبة للسجود لقراءة آية السجدة معلّلا : بأن السجود زيادة في المكتوبة ، فلعل المراد بها الإلحاق الحكمي ، فالتسمية من باب المسامحة : من حيث الشباهة الصورية لأجزاء الصلاة ، ويحتمل أن يراد بالزيادة في المكتوبة غير ما هو المراد من زيادة الأجزاء ، وهو الأمر الخارجي المغيّر للهيئة المخصوصة المعتبرة في نظر الشارع للصلاة ، ولا ينافي دخوله في العنوان المذكور كونه من العبادات أيضا.

وما أفاده قدس‌سره في المقام من الوعد لتعرض معنى الزيادة في المكتوبة بعد ذلك لا يفي به.


(٥٢) قوله قدس‌سره : ( كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا عن تقصير (١) ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٣٧٠ )

أقول : المراد من الاعتقاد التشريعي المستند إلى التقصير ـ على ما أفاده قدس‌سره في مجلس المذاكرة ـ هو الاعتقاد الحاصل لأكثر العوام الذين لا يرتدعون عنه

__________________

( * ) لفظ « عن تقصير » لا يوجد في نسخة الكتاب المطبوع.

(١) قال المحقّق الكرماني قدس‌سره :

« في نسخة مقروّة عند الشيخ المصنف رحمه‌الله لمن يتفرّد في الفن في عصره خصوصا في الكتاب زيادة « عن تقصير » ملحقا بقوله : « شرعا أو تشريعا » لإخراج الجاهل القاصر.

وفيه ـ على الأوّل مع استلزامه كفاية عمل الجاهل القاصر المعتقد كون الناقص تامّا شرعا مع بقاء الوقت لو سلّمت كفايته خارج الوقت مع اني لا اظن من يقول به ـ : ان الكلام في كون المزيد عليه كاملا أو ناقصا لا في قناعة الشارع به عنه على أصله في غير مورد من النظائر ، وعمل القاصر من هذا القبيل.

وعلى الثاني ـ على تفسير التشريع : بانه ادخال ما علم المشرّع انه ليس من الدين فيه ـ لا حاجة إلى إخراج القاصر لخروجه وفرض قصوره عن العلم بكون هذا الإدخال محظورا لا ينفع في كون غير الصحيح صحيحا مع بقاء الوقت ، بل خارجه.

وعلى تفسيره : بانه إدخال ما لم يعلم كونه من الدين فيه أيضا لا يكفي القصور في صحة عمله مع بقاء الوقت ، بل خارجه.

وبالجملة : فالتقييد غير نافع ، بل مضرّ » إنتهى. أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٨٨.

* أقول : وللمحقّق الإصفهاني رحمه‌الله تعالى هنا تعليق لطيف ينبغي اغتنام مراجعته ، أنظر نهاية الدراية : ج ٤ / ٣٥١ ـ ٣٥٩.


ولا يزيل عنهم مع نهيهم عن العمل وتنبيههم على فساد سلوك الطريق الذي يسلكونه ؛ من جهة عدم اعتنائهم بقول الناهي ، فيقلّدون سلفهم أو من يحذو حذوهم بجبلّتهم العواميّة المنحرفة عن الحقّ المائلة إلى الباطل ، كما نشاهد بالوجدان في حق أهل البوادي ، بل البلدان ، بل ربّما نشاهد في حق بعض من يدّعي كونه من الخواصّ وأهل الاجتهاد في الأحكام ؛ فإنه كثيرا لا يرتدع بردع غيره عن سلوك ما ليس أهلا له عصمنا الله وإخواننا من الأهواء الباطلة والنفس الأمّارة بالسّوء.

ثمّ إن حصر أقسام الزيادة فيما ذكره وصدقها بالنسبة إلى جميعها ممّا لا يعتريه ريب أصلا ، ولا يتوهّم كون رفع اليد بعد الفراغ عنها والإتيان بسورة أخرى من القرآن ؛ ضرورة اشتراط صدقه بعدم رفع اليد عن السّابقة فتدبّر.

نعم ، التمثيل للقسم الثالث بإتيان بعض الأجزاء رياء إنّما يستقيم على تقدير عدم إيجاب الرياء في الجزء صدق الرّياء عرفا في الكل ، وإلاّ كان خارجا عن مفروض البحث كما هو ظاهر.

وأمّا ما أفاده في حكم الأقسام فلا إشكال فيه أيضا ؛ لأن حكمه بالبطلان في القسم الأوّل بعد الفراغ عن عدم اعتبار كون الجزء « بشرط شيء » مستندا إلى قصد الإتيان بالعمل على وجه يعلم عدم الأمر به على كل تقدير ؛ لأن واقعه لا يخلو : إمّا أن يكون مأخوذا « بشرط لا » أو « لا بشرط » ، فقد قصد خلاف الأمرين فيكون فاسدا. وحكمه بالصحّة في الأخيرين مبنيّ على ما أفاده في أصل دوران الأمر في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر : من اختيار الرجوع إلى البراءة بعد رجوع الشكّ في


حكم الزيادة فيهما إلى الشكّ في مانعيّتهما.

(٥٣) قوله قدس‌سره : ( ونظير الاستدلال بهذا للبطلان في [ الضعف ](١) الإستدلال ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٣٧٢ )

فساد التمسّك باستصحاب صحّة الأجزاء السابقة عند الشك

أقول : الاستدلال باستصحاب الصحّة في محل البحث لإثبات عدم مانعيّة الزيادة وصحّة العمل الذي وقعت فيه وأمثاله وقع في كلام غير واحد من المتقدّمين والمتأخّرين : من جهة تخيّل عروض الشكّ في بقاء الصحّة المحقّقة اليقينيّة بعد عروض ما يشكّ في مانعيّته أو ترك ما يشكّ في جزئيّته المطلقة ، كما

__________________

( * ) أوردناها من نسخة الكتاب المطبوع.

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ محمّد هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان الصحّة في كلّ شيء بحسبه والجزء لا بشرط عين الكل وهو المصحّح لقصد القربة ؛ فإن الفاعل لا يأتي إلاّ بالأجزاء والكلّ إنّما يتحقّق بعد الفراغ ، فالمتلبّس بالصّلاة يتقرّب بعمله ؛ لانه صلاة وإن كانت مراعاة ولا تستقرّ إلاّ بالإتمام ، ألا ترى أنّ أحكام السفر تترتّب على من شرع في طيّ المسافة ؛ فإنه سفر مراعى ، وكذا الحال في كل ما كان على هذا المنوال مع انّ الزيادة مخرجة للأجزاء عمّا كانت عليها من الصّلوح والتأهّل لحيلولة الزائد الممنوع عنه بينها وبين اللاحقة ، وعجز المكلّف مستند إلى ذلك ، فتوهّم بقاء الصحّة التأهّليّة بيّن الوهن ، والأمر بالجزء وضعي لا معنى لإمتثاله » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٥.


عرفت حكاية الاستدلال به عن شيخنا قدس‌سره في المسألة السابقة وتحكيمه على أصالة العدم المقتضية للفساد.

وأنت خبير بعدم جريان استصحاب الصحّة في أمثال المقام أصلا ، سواء أريد بالمستصحب صحّة مجموع العمل الذي وقع الشكّ في إخلاله به في أثنائه ، أو ما أتى به من الأجزاء السابقة على وجود ما يشكّ في حكمه ، وهو المراد من عدم الجدوى للاستصحاب في « الكتاب » في قوله : ( فهي غير مجدية ) (١) وكونه غير محتاج إليه في قوله : ( فاستصحاب صحّة تلك الأجزاء غير محتاج إليه ) (٢).

ضرورة أنّه على تقدير الجريان مسّت الحاجة إليه لا محالة ، فعدم الحاجة إليه من جهة القطع ببقاء المستصحب يلازم لعدم جريانه ؛ إذ ليس المراد من عدم الحاجة الاستغناء عنه في المسألة فعلا من جهة وجود الدليل على طبقه ، حتى لا يمنع من جريانه في نفسه كما هو ظاهر ، بل المراد ما ذكرنا فيلازم عدم الجريان ، كما يشهد له تفريع قوله المذكور على القطع ببقاء الصحة ، وتعليله أيضا بالقطع ببقائها.

وكيف كان : لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب المذكور بكلا وجهيه واحتماليه ؛ لأنه إن أريد بالمستصحب صحة المجموع فليس هناك متيقّن سابق

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٢.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ / ٣٧٣.


لامتناع وجود الصفة بدون الموصوف والعرض بدون المعروض كما هو ظاهر ، بل لو أريد بهذا المعنى الاستصحاب التعليقي والتقديري أيضا لم يكن له معنى ؛ إذ القطع بترتّب الصحّة على تقدير وجود جميع الأجزاء بدون تخلّل ما يشكّ في مانعيّته وقادحيّته لا يلازم الصحّة مع وجوده.

فإن شئت قلت : الصحّة بالمعنى المذكور لا يشكّ في بقائها أصلا ، لأن مرجعها إلى التلازم بين وجود ما له دخل في تحقّق المركّب وترتّب الأثر وسقوط الأمر وهو مما لا يعرضه شكّ أصلا ، ولو قطع بعدم وجود بعض ما له دخل ؛ لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط كما هو ظاهر وستعرف توضيحه على الوجه الكامل في الشق الثاني من الترديد.

وإن أريد به صحة الأجزاء المأتي بها على وجهها ـ كما هو المفروض ـ فليس هناك مشكوك لاحق للقطع ببقائها على كل تقدير ، سواء أريد بالصحة موافقة الأمر ، أو الامتثال ، أو ترتيب الأثر المقصود من الشيء على اختلاف مراتبها بحسب الأشياء الراجعين إلى حقيقة واحدة حقيقة ، وإن اختلفا بحسب الاعتبار والأنظار على ما تبيّن في محلّه وسبقت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا : من أن الصّحة التي يعبّر عنها بالفارسيّة بـ « درستى ودرست بودن » معنى محفوظ عند المتكلّمين والفقهاء في العبادات والمعاملات ، وإن وقع الاختلاف في التعبير عنها بحسب الأنظار والأغراض.

أما إذا أريد بها المعنى الأوّل فلأن المفروض وقوع الأجزاء السابقة على


وجهها وعلى طبق الأمر المتعلق بها ، وإلاّ لم يكن هناك متيقّن سابق يجري الاستصحاب فيه وانقلابها عما وقع عليه مستحيل عقلا ولو مع القطع بإيجاد ما يكون مانعا أو إعدام ما يكون وجوده معتبرا في تحقق المأمور به ، فلا يعرضه شكّ حتى يجري الاستصحاب فيه.

وإن أريد بها المعنى الثاني فلا يعرضه شك أيضا ، فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه أيضا ؛ لأن صحّة كل جزء من أجزاء المركّب في مرتبته ليست على وجه يوجب تحققه وجوده ، وإلاّ خرج عن كونه جزءا كما يخرج المركب عن كونه مركّبا ، بل يكون علّة تامّة ومعلوله أمرا بسيطا وهو خلف.

بل وجوده على صفة ووجه اعتبر في تماميّة جزئيّته يؤثّر في تحقّق الكل على تقدير انضمام تمام ما له دخل في تحقّقه في عرض الجزء المفروض في مقابل فساده بالمعنى المقابل للمعنى المذكور : من جهة خلل فيه في مرتبة جزئيّته ، فصحّته يرجع حقيقة إلى أهليّته وشأنيّته وصلاحيّته للانضمام إلى غيره ممّا يعتبر في تحقّق الكلّ ، وبعد تحقّقه على الصفة المذكورة لا يفرّق في قيامها به وبقائها له بين انضمام غيره إليه وعدمه ، فمع القطع بعدم الانضمام يكون صحّته باقية ؛ لأن مرجع الصحّة المزبورة حقيقة إلى الشرطيّة الصادقة مع كذب الشرط.

ومن هنا يظهر : أنّ الأمر في الجزء الأخير من العلل المركّبة والأجزاء السابقة على نهج سواء في الدّخل في تحقّق المركّب ، وأنّ للكلّ وجودا إعداديا وتأثيرا ناقصا بالنسبة إلى المعلول وإن لم ينفكّ وجود المعلول عن الجزء الأخير ،


إلاّ أنّ التأثير التام مستند إلى المجموع ، من حيث المجموع فلكل جزء أثر ناقص في مرتبته بالنسبة إلى المعلول ، ولذا يعبّر عنه بالعلّة الناقصة وعن المجموع بالعلّة التامة ، وليس هذا المعنى مختصّا بأجزاء العبادات ، بل نسبته إليها وإلى أجزاء المعاملات بل المركّبات الخارجيّة على نهج سواء.

فصحّة الإيجاب يراد بها تحقّقه على وجه لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في ترتيب أثر العقد من القبول وغيره تعقّب الأثر المذكور : من قصد الإنشاء ، والعربيّة الصحيحة ، والماضويّة ، والتقدّم على القبول ، والصّراحة إلى غير ذلك ممّا يعتبر في تماميّة الإيجاب مادّة وهيئة في مقابل فساده الذي يراد به عدم وجوده على الوجه المزبور.

فإذا لم ينضم إليه القبول بعد وجوده على الوجه المعتبر في صحّته في مرتبته لم يتحقّق العقد ولم يترتّب أثره ، لكنّه لا يوجب عروض الفساد على الإيجاد بعد تحقّقه صحيحا ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى صحّة أجزاء المركّبات الخارجيّة كصحّة الخلّ الذي يكون جزءا للسّكنجبين على ما مثّل به في « الكتاب » ، فقد اتّضح من هذا البيان : الوجه فيما ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في المقام من جهة عدم المشكوك اللاّحق.


(٥٤) قوله قدس‌سره : ( نعم (١) حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٣٧٤ )

__________________

(١) كذا وفي نسخ الكتاب : ( نعم ، إنّ حكم الشارع ... إلى آخره ).

(٢) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : وأولى بجريان استصحاب الصحّة عند الشك في وجود القاطع ، الشك في وجود الناقض لا من حيث قطعه للهيئة الإتصاليّة ، بل من حيث تأثيره في إزالة أثر الأجزاء السابقة ، كما لو شك في ناقضيّة الحدث الأصغر في أثناء الغسل ؛ فانه لا يتطرّق في هذا النوع من استصحاب الصحّة شيء من المناقشات التي يتطرّق في سائر الموارد ؛ لأن الشك لم يتعلّق في الفرض إلاّ بخروج الأجزاء السابقة عن الصفة التي كانت عليها ، وهي تأثيرها في رفع الحدث الأكبر ، على تقدير ضمّ سائر الأجزاء ، فيستصحب هذا الحكم الشرعي التعليقي ، فيحكم بثبوته بعد حصول المعلّق عليه ، ومن هذا القبيل ما لو شك في خروج البول أثناء الوضوء ، أو خرج منه المذي وشك في ناقضيّته كما لا يخفى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٧٠.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« أنت خبير بأن إطلاق القاطع والناقض على ما يشمل المانع سيّما في المركّبات التي يكون المطلوب فيها الإتيان بالمركّب من حيث مجموعه شائع ، كيف لا! وقد منعنا في محلّه دلالة قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » على اختصاص حرمة النقض بما كان الشك فيه في المانع دون المقتضي فضلا عما نحن فيه وحينئذ يشكل التمييز بين الناقض والمانع بالتعبيرات المذكورة فلا يبقى محلّ لاستصحاب الهيئة الإتّصاليّة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٨١.


في الفرق بين القاطعيّة والمانعيّة

أقول : لا يخفى عليك الأمر : أن القاطع قسم من الرّافع ، كما أنه قسم من المانع حقيقة ؛ فإن المانع إن أضيف إلى الوجود الأوّلى للشيء يسمّى دافعا ، وإن أضيف إلى الوجود الثانوي له ـ الذي يعبّر عنه بالبقاء ـ يسمّى رافعا ؛ ضرورة امتناع تعلّق الرّفع بالموجودات بالنسبة إلى أزمنة وجودها ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين كما هو ظاهر.

والمراد بالقاطع : هو الرّافع للهيئة الاتصاليّة والوضع المخصوص المعتبر للأجزاء والمركّبات الشرعيّة الاعتباريّة فيما قام هناك دليل على اعتبارها ، فإن لم يعتبر في أجزاء المركّب في مرتبتها وجودها على وضع خاص اعتبر في تركيب المركّب منه في نظر الشارع ، وليس مما يعرفه العرف ولا اطّراد في رفعه في الشرعيّات بمعنى : لزوم رفعه ببعض الأشياء مع رفعه بغيره ، وإنما استكشف من اعتباره في الصّلاة من جهة يعتبر الشارع عن بعض المبطلات بالقاطع ؛ فإنه يستكشف منه أنّ لأجزائها ـ مضافا إلى ما يعتبر في جزئيّتها في مراتبها وذواتها ـ وضعا مخصوصا لا يعرف حقيقته إلاّ الشارع الذي اخترع التركّب للمركّبات الاعتباريّة التي لا يجتمع أجزاؤها في الوجود الخارجي أصلا ، فعدمه معتبر في بقاء الأجزاء على الوضع المخصوص ، فإذا وجد ارتفع ذلك الوضع ، فيفسد الجزء


بعد وجوده على صفة الأهليّة ، فلا يتحقّق الكل من جهة عروض الفساد للجزء بعد وجوده على الوجه الصحيح القابل.

ونظيره في عروض الفساد لبعض الأجزاء في المركّبات الخارجيّة خل (١) تام في مرتبة جزئيّته ، وقع فيه بعد وجوده على الوجه الصحيح القابل ما أفسده وأخرجه عن القابليّة والشأنيّة الثابتة له بالفرض ، فالقاطع في المقام أيضا يخرج الجزء عما كان عليه من القابليّة المفروضة الثابتة فيه إذا تخلّل بين الأجزاء ، فيخرج كلاّ من السابق واللاحق من قابلية الانضمام ، فعدمه وإن كان معتبرا في تحقّق المركّب المأمور به ، إلاّ أنّ اعتباره ليس من جهة قدحه ابتداء ومنعه عن وجود المركّب بالذات حتى يكون اعتباره في عرض اعتبار الأجزاء وشرائط المأمور به وفي مرتبته ـ كما هو الشأن في المانع عن وجود المركّب ـ بل من جهة قدحه في وضع الأجزاء ابتداء ، فيوجب فساد المأمور به من جهة تأثيره في فساد الجزء ، ففساد المركّب مستند إلى فساد جزءه ، وفساده مستند إلى القاطع ، وهذا هو الفرق بين القاطع والمانع كما نبّه عليه في « الكتاب » أيضا على وجه واف بأداء الفرق بينهما كما لا يخفى على من تأمّل فيه ، هذا هو الفرق المفهومي بين القاطع والمانع في المقام.

__________________

(١) كذا وفي نسخة أخرى « حمل » وفي ثالثة « حل » ولعلّ الصحيح : « خلل قام في مرتبة جزئيّته ». كما هو المناسب للعبارة والله أعلم.


وقد عرفت : أن تحقّق القاطع بالنسبة إلى أجزاء المركّب وتعيين مصداقه موكول إلى حكم الشارع الجاعل للمركّبات الشرعيّة بالمعنى الذي عرفته في مطاوي كلماتنا السابقة ، وأمّا حكمه من حيث جريان الاستصحاب عند الشكّ في وجوده أو صفته من جهة الشبهة الحكميّة والموضوعيّة فقد بني الأمر في هذا الجزء من « الكتاب » ـ والجزء الثالث المتعلّق بالاستصحاب ـ على جريانه ، وإن منع منه في مطلق الشكّ في المانع على ما عرفت توضيحه.

وتقريب جريانه على ما في « الكتاب » بوجهين :

أحدهما : أن تجعل المستصحب صحة الأجزاء بمعنى قابليتها وشأنيتها ؛ لأن تصير أجزاء فعليّة للمركّب ويترتّب وجوده على وجودها بعد حقيقتها في الخارج ؛ حيث إن وجودها على الصفة المذكورة كان متيقّنا يشكّ في بقائه من جهة الشك في وجود الرّافع ، فيحكم بالبقاء من جهة الاستصحاب.

ثانيهما : أن يجعل المستصحب الاتصال القائم بالأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء اللاحقة والجزء الصوري الملحوظ للمركّب الذي يعرض مواد الأجزاء ويتقوّم بها وقد يعبّر عنه بالهيئة الاتصاليّة بين الأجزاء بعضها مع بعض ، وهذا المعنى وإن لم يتحقّق فعلا بين الجزءين اللذين تخلّل ما يحتمل قاطعيّته بينهما ؛ ضرورة استحالة قيامه بالموجود والمعدوم ، إلاّ أنه لما كان في معرض الوجود باعتبار ركنه اللاّحق ، فألحق بالموجود عرفا في باب الاستصحاب ، وليس مثل استصحابه إلاّ مثل استصحاب الأمور التدريجيّة من الزمان


والزمانيّات كالتكلم ، والمشي ، والحيض بمعنى سيلان الدم والنبع والجريان ، ونحو ذلك هذا.

وقد ناقش شيخنا في « الكتاب » في كل من التقريرين للاستصحاب.

أمّا في التقرير الأوّل : فبأنّه من الأصول المثبتة ؛ حيث إن الحكم الشرعي مترتّب على فعليّة الاتصال وتحقّق الجزء الصوري لأجزاء المركّب ووجوده لا على مجرّد القابليّة وشأنية الأجزاء لأن تصير جزءا فعليّا للمركّب ، فلا بدّ من أن يثبت ببقاء القابليّة تحقّق الفعليّة المترتّبة عليه الحكم ، وهذا معنى كونه مثبتا.

وتفصّى عن المناقشة المذكورة فيه : بأن الحكم الشرعي في مفروض البحث وإن ترتب على المستصحب بواسطة ، إلاّ أنه لمكان خفائها يمكن القول باعتبار الاستصحاب فيه على ما ستقف عليه في باب الاستصحاب : من اعتبار الأصل المثبت فيما كانت الواسطة خفيّة في نظر العرف ، بحيث يجعلون الحكم الشرعي من محمولات نفس المستصحب بلا واسطة أمر آخر.

وأمّا في الثاني : فلأن المستصحب لمكان قيامه بالفرض المتّصلين الّذين لم يتحقّق أحدهما لم يوجد يقينا ، فكيف يحكم ببقائه بالاستصحاب المتوقف على العلم بوجود المستصحب في السّابق؟

وتفصّى عن المناقشة فيه أيضا : بأن مبنى الاستصحاب وإحراز موضوع المستصحب إن كان على المداقّة العقليّة في باب الاستصحاب لم يكن للسؤال


المذكور والإيراد المزبور جواب ودافع أصلا ، وإن كان على المسامحة العرفيّة ـ كما هو مبناه في كثير من الاستصحابات المسلّمة بينهم كاستصحاب كريّة الماء وقلّته ونحوهما على ما هو المختار في باب الاستصحاب ـ لم يتوجّه على الاستصحاب المذكور شيء.

فإنه كما يقال في استصحاب الكريّة مثلا في الجواب عن الإشكال في جريانه : بأنه إن كان الموضوع هو الماء الموجود فلا يتيقّن الكرية في السّابق ، فكيف يشكّ في بقائه على الكريّة؟ وإن كان الماء الموجود في السابق الذي أخذ منه مقدار فلا معنى لاستصحاب كرّيّته ؛ لعدم الشكّ في كريّته أصلا ، فعدم الكريّة في اللاّحق مستند إلى عدم موضوعه ؛ لأن الموجود من الماء بلغ ما بلغ موضوع وموجود واحد قامت صفة الكريّة بمجموعه ، فإذا نقص بعض أجزائه فقد انعدم موضوع الكريّة بأن الموضوع هذا الماء الموجود فعلا مسامحة في كونه غير الماء الموجود سابقا الذي قام به صفة الكريّة تنزيلا للجزء المأخوذ منزلة الموجود.

كذلك يقال في الجواب عن إشكال جريان الاستصحاب في المقام : بأن المراد من المستصحب وهو الاتصال إن كان هو الاتصال بين الأجزاء السابقة بعضها مع بعض فهو متيقّن البقاء ، وإن كان بين الجزء السابق على وجود ما يشكّ في قاطعيّته واللاحق عليه ، فإن لم يفرض وجود الجزء بعد وجوده فهو مقطوع العدم من أول الأمر. وإن فرض وجوده فهو مشكوك الحدوث ، فكيف يحكم ببقائه : بأن موضوع الاتصال والمستصحب في المقام أيضا هو الأجزاء السابقة


بقول مطلق من غير نظر إلى كون موضوعه هو خصوص الأجزاء السابقة ، أو ما تخلّل ما يشكّ في قاطعيّته بينهما من السابق واللاحق.

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام ، وستقف على تمام القول فيه في الجزء الثالث من التعليقة إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما أورده على استصحاب الصحّة في « الفصول » (١) كما حكاه عنه في « الكتاب » بقوله : ( ولربّما يرد استصحاب ... إلى آخره ) (٢) فلمّا كان مبناه على وقوع الشكّ وطروّه في صحة الأجزاء مطلقا ـ من غير فرق بين الشكّ في القاطع والمانع وعدم الجدوى في استصحابها على تقدير ، وابتنائه على اعتبار الأصول المثبتة على تقدير آخر غير مجد في حكم المقام ـ فردّه في « الكتاب » : بأنه إن كان المفروض في كلامه الشكّ في المانع فلا يعرض شكّ في بقاء الصحّة من جهته حتى يبنى اعتبار الاستصحاب فيه على الأصل المثبت ، وإن كان الشكّ في القاطع فلا مانع من الاستصحاب فيه بعد دفع المناقشة عنه على ما عرفت.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٥.


(٥٥) قوله قدس‌سره : ( فإن حرمة الإبطال إيجاب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٧٦ )

أقول : الاستدلال مبنيّ على إرادة حرمة الإبطال نفسا الكاشفة عن كون الشروع في العمل ملزما ومعيّنا لاختيار الفرد في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، والآية على تقدير إرادة حرمة الإبطال بالحرمة الشرعيّة منها ظاهرة في هذا المعنى من غير حاجة إلى ضمّ الإجماع المركّب ، كما يصرّح بذلك فيما بعد في ردّ الجواب عن الآية بقوله : « وفيه نظر ؛ فإنّ البراءة اليقينيّة ... إلى آخره » (٢) فتأمل.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« انّ الإبطال الإختياري يتوقّف على الصحّة ولا إشكال في عدم جواز إبطال الصّلاة الصحيحة ومن المحال إثبات الموضوع بأدلة الأحكام ، وكون وجوب المضيّ من لوازم الصحّة يدفعه التخلّف في الحج مع ان العمل الذي يترتّب عليه الآثار وثبت له الأحكام هو المركّب ، وإبطاله إنّما هو بما ينافيه بعد التمام كالشرك بالنسبة إلى جميع العبادات ، والمنّ والأذى بالنسبة إلى الصّدقات ، مع انّ حرمة الإبطال لا مورد لها إلاّ ما فيه الإحرام ، وبعد ثبوته لا حاجة إلى النهي.

وظهر مما حققناه جريان استصحاب وجوب الإتمام المترتّب على تحقّق الإحرام ، والشك في العجز مسبّب عن الشك في طروّ المفسد والإنقطاع والحيلولة ، والأصل العدم فيحكم بأنّ الإتيان بالباقي إتمام ويتحقّق الإتّصال والإنضمام ولا معنى للصحّة إلاّ ذلك ؛ ضرورة انّ وجوب الإتمام في الصلاة مرجعه إلى تعيّن العمل في كونه صلاة ، وليست من قبيل الحجّ كي يمكن التفكيك ... إلى آخر ما ذكره ». أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨١.


مع أن الواجب على الصائم إذا أفسد صومه هو الإمساك لا إتمام الصوم ، وفي الحج أيضا كلام مذكور في محلّه : في أن الفرض هو الأول والثاني عقوبة أو العكس فراجع (١).

(٥٦) قوله قدس‌سره : ( والنهي على هذين الوجهين ظاهره الإرشاد ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٧٨ )

بيان محتملات قوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (٢)

أقول : لا إشكال فيما أفاده من كون النهي على الوجهين الأولين يعني :

إحداث البطلان في العمل الذي وقع صحيحا بعجب ونحوه ـ على القول بكون العجب مبطلا للعمل ـ أو إيجاده على وجه باطل ، ظاهرا في الإرشاد إلى عدم جعل العمل لغوا وعدم إيجاده على الوجه الباطل اللغو ، وإن كان الثاني حراما تشريعيّا أيضا ، إذا تحقّق معه التشريع والفعل الموجب للإبطال حراما ذاتيّا كالعجب على الأول ؛ إذ الكلام في حرمة الإبطال لا ما يحصل به أو ما يقارن معه ، فلو جعل العمل أعمّ من الجزء والكل يكون المراد من إحداث البطلان في الجزء الذي وقع صحيحا إيجاد ما يرفع قابليّته للانضمام ، أو إيجاد ما يمنع من تحقّق سائر ما يعتبر في وجود المركب مسامحة في إطلاق البطلان على الجزء ، فلا ينافي ما ذكره في

__________________

(١) أنظر الجواهر : ج ٧ / ٤٢٨ « ط دار المؤرّخ العربي ».

(٢) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣٣.


الجواب عن السؤال المتقدّم بقوله : « نعم ، ولا ضير في التزام ذلك ... إلى آخره » (١).

ثمّ إنه لا إشكال فيما أفاده أيضا من كون المعنى الأوّل أظهر بقوله : « وكيف كان : فالمعنى الأول أظهر ... إلى آخره » (٢) لموافقته لوضع باب الأفعال وموافقته لآية النهي عن إبطال الصدقات بالمن والأذى ، وظهور سياق نفس الآية بملاحظة الآية السّابقة عليها ؛ من حيث إن تعقيب إطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنهي عن الإبطال ظاهر في إرادة عدم إبطالها بعد وجودها هذا.

مضافا إلى ظهور النهي المتعلّق بالأعمال بصيغة الجمع في إرادة جميعها فينزل على الإبطال بالكفر والشرك بعد الإيمان والإتيان بالأعمال ؛ فإن الإبطال به اتفاقيّ وإن سمّي إحباطا ؛ فإن الإحباط بمعنى الموازنة موافق للعقل والشرع بالنسبة إلى جميع الطاعات والمعاصي ، ولمّا كان الكفر لا يوازن به شيئا من الطاعات من حيث إن أثره الخلود في النار إتّفقوا على الإحباط به.

وأمّا غيره من المعاصي فلا يعلم بغلبته على الطاعة ، إلاّ علاّم الغيوب ومن أفاضه علم ذلك من رسله وأوليائه صلواته عليهم ، فلا يحكم بكونه موجبا للحبط بالمعنى المذكور والموافق للعقل ، فإذا كان المراد من الإبطال والإحباط هذا المعنى فلا يخالف حكم العقل بامتناع عروض الفساد على العمل الصحيح المؤثر واستحقاق الأجر والثواب من حيث استلزامه لاجتماع النقيضين على ما عرفت

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٤.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٨.


الإشارة إليه هذا. وقد تقدّم بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الأوّل من التعليقة (١).

مضافا إلى ظهور بعض الأخبار الواردة في الاستشهاد بالآية الشريفة في المعنى الأوّل ، وهو المرويّ في « الكتاب » (٢) عن « الأمالي » (٣) و « ثواب الأعمال » (٤) ، والغرض من الاستدلال به : إثبات كون الظاهر من الآية المعنى الأوّل مع قطع النظر عن ظهورها في إبطال الجميع فلا تنافي بين الاستدلالين فتدبّر هذا كلّه.

مضافا إلى أن المعنى الثالث الذي هو مبنى الاستدلال ـ كما هو ظاهر ـ موجب لتخصيص الأكثر المستهجن ، إلاّ أن يكون المراد منه العهد أي : خصوص العبادات الواجبة ؛ فإنه سالم عن تخصيص الأكثر ، وإن لم يسلم عن التخصيص في الجملة كما هو ظاهر ، ولا شاهد لهذا المعنى أصلا.

(٥٧) قوله قدس‌سره : ( فإذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٨٠ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأن استظهار الإرشاد على تقدير إرادة المعنى

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٣٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٧٩.

(٣) أمالي الصّدوق : ٤٨٦ ـ المجلس ٥٨ ، الحديث : ١٤.

(٤) ثواب الأعمال : ١١.


الأول على ما ذكره سابقا ينافي الاستدلال بها على حرمة القطع في الأثناء على تقدير إرادة المعنى الأعمّ من الأعمال ؛ إذ لا يجوز الجمع بين إرادة المعنيين منها قطعا فتدبّر.

ثمّ إنه لا إشكال فيما أفاده : من عدم جواز الاستدلال بالآية الشريفة على حكم المقام حتى على إرادة المعنى الثالث منها ؛ نظرا إلى رجوع الشكّ في المقام إلى الشكّ في موضوع الإبطال وإن كانت الشبهة حكميّة ؛ فإنه لا يعلم بعد عروض ما يشكّ في مانعيّته أن رفع اليد عن العمل قطع له أو انقطاع. ومن المعلوم ضرورة عدم جواز التمسّك بالعموم في الشبهات الموضوعيّة ؛ لعدم رجوع الشك فيها إلى الشكّ في المراد من اللفظ كما هو ظاهر.

كما أنه لا إشكال فيما أفاده : من عدم جريان استصحابي حرمة القطع ووجوب الإتمام ، وظهور أمر عدم جريانهما مما أفاده في عدم جواز التمسّك بالآية في المقام على تقدير إرادة المعنى الثالث : من رجوع الشكّ إلى الشكّ في الموضوع ؛ فإنّه مع الشكّ المفروض يشكّ في صدق موضوع النقض المنهي بأخبار الاستصحاب ، فيرجع الشكّ بالنسبة إليها إلى الشكّ في الموضوع أيضا ، ومن هنا اعتبر في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع.

نعم ، قد يناقش فيما أفاده : من أضعفيّة الاستصحاب الثاني (١) من

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :


الاستصحاب الأوّل ، مع أنه علّله بما جعله وجها لمنع جريان الاستصحاب الأول : من رجوع الشّكّ إلى الشك في الموضوع ، اللهم إلاّ أن يجعل الوجه كون وجوب الإتمام مانعا لحرمة القطع ومتولّدا منها ؛ إذ ليس هنا تكليفان قطعا. أحدهما : حرمة القطع. ثانيهما : وجوب الإتمام ، فإذا لم يحكم بالحرمة ، فكيف يحكم بالوجوب؟ فتدبّر.

__________________

« أقول : قد عرفت أيضا إمكان استصحاب الوجوب الفعلي المنجّز المتعلّق بباقي الأجزاء ، فإن أريد من استصحاب وجوب الإتمام ، استصحاب وجوب الأجزاء الباقية التي ينتزع منها عنوان الإتمام ، لا يتوجّه عليه الإعتراض المذكور.

وإن أريد استصحاب وجوب نفس هذا العنوان فالإعتراض في محلّه » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٧١.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« وجه الأضعفيّة : ان العموم مع قوّته اللفظية إذا لم يشخّص الموضوع ، فاستصحاب وجوب الإتمام أولى بعدم تشخيصه موضوع التماميّة المشكوك فيها ؛ بل لا بد في الإستصحاب من إحراز بقاء موضوعه.

هذا ولكن فيه : ان العبرة في إحراز بقاء موضوع المستصحب على المسامحة العرفيّة لا المداقّة الفلسفيّة ، ومن المعلوم عرفا : أن موضوع إتمام الصّلاة المركّبة من الأجزاء العديدة لا يتغيّر عرفا بتخلل زيادة جزء من أجزاءه كما لا يتغيّر موضوع قلّة الماء وكثرته بالنقص والزيادة الكثيرة ولا بزوال تغيّره المنجّس من قبل نفسه أو الرّياح » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٧.


(٥٨) قوله قدس‌سره : ( وربّما يجاب عن حرمة الإبطال ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٨١ )

مبنى الجواب عن حرمة الإبطال والمناقشة فيه

أقول : مبنى الجواب المذكور على أن حرمة الإبطال بالحرمة النفسيّة لا يلازم صحة العمل ، فيجمع بين مقتضى الاستصحابين وأصالة الاشتغال المقتضية لإعادة العمل من حيث عدم العلم بأن المكلف به إتمام العمل أو إعادته ، فيكون الأمر دائرا بين المتباينين فيجب الاحتياط بالجمع بينهما.

لكنّك قد عرفت : عدم جريان الاستصحاب في المقام ، وإن كان الحكم وجوب الإتمام على القول بدلالة الآية أو قيام الإجماع عليه ؛ من حيث إن الشكّ في الموضوع كان مسبّبا عن مانعيّة الزيادة في الشرع ، فإذا حكم بعدمها ولو من

__________________

(١) أقول : ولاحظ تعليقة المحقق الأصولي الجليل الشيخ موسى بن جعفر التبريزي في كتابه النفيس أوثق الوسائل فإنها لا تخلو من فوائد بطولها وتفصيلها أنظر ص ٣٨٣ من الكتاب المزبور.

* وقال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده ( ج ١ / ٦٠٩ ) :

« أقول : حكي هذا الجواب عن صاحب الرياض وغيره وملخّصه :

أن غاية ما يدل عليه الأصلان إنّما هو وجوب الإتمام وحرمة القطع دون صحّة العمل ، فيجمع بينهما وبين أصالة الإشتغال بوجوب إتمام العمل تمسكا بهما ووجوب الإعادة تمسكا بقاعدة الإشتغال ، هذا » إنتهى.


جهة أصالة البراءة تعيّن الحكم بوجوب إتمام العمل في مرحلة الظاهر ، فيلزمه جواز الاقتصار عليه وعدم وجوب إعادته فيرتفع موضوع أصالة الاشتغال ؛ لانتفاء احتمال الضّرر بناء على ما عرفت ونبّه عليه شيخنا قدس‌سره : من أن حرمة الإبطال مستلزمة لصحّة العمل.

وتوهّم : عدم جواز إثبات موضوع الحرمة بأصالة البراءة في مانعيّة الزيادة ـ نظرا إلى أن الإبطال ليس حكما شرعيّا وإن كان ملازما لمجرى البراءة ، فالحرمة مترتّبة عليه بواسطة إثبات الإبطال ، فيكون من الأصول المثبتة فيبقى أصالة البراءة عن حرمة القطع والإبطال سليمة عن الأصل الحاكم عليها ، ومن هنا ذكر في « الكتاب » في ردّ الجواب : بأنه على تقدير عدم العمل بالاستصحاب وتحصيل البراءة اليقينيّة بالقطع والاستئناف ويدفع احتمال حرمته بأصالة البراءة ـ فاسد.

فإنه لا معنى لحكم الشارع بعدم الاعتناء باحتمال المانعيّة ، إلاّ أنه يجب البناء على صحة العمل وحرمة قطعه ، نظير حكمه بالبراءة عن احتمال الدّين المانع عن تحقّق الاستطاعة ، أو احتمال سائر حقوق الناس من الخمس والزكاة وغيرهما ، مع كون المال في نفسه بقدر الاستطاعة وحكمه بالبراءة عن الدّين المانع عن الخمس في فاضل المؤونة وغير ذلك فتأمل.

وأمّا ما أفاده في الإيراد عن الجواب فهو مبني على الإغماض عما ذكرنا


وإلاّ فلا معنى لما أفاده : « من أن الفقيه إذا كان متردّدا (١) ... إلى آخره » (٢) فإنّه لا معنى لتردّد الفقيه في التكليف مع جريان الأصل في حقّه ، وإن كان الحكم في مورد الدوران أولويّة القطع للفقيه وإيراده على الجواب مستقيما سواء قلنا بجريان الاستصحاب أو عدمه مع قطع النظر عما ذكرنا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨٢.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أولويّة ما ذكره ممنوعة ، بل المتعيّن بعد البناء على عدم تماميّة شيء مما ذكر ـ من استصحاب وجوب المعنى أو الإتمام أو حرمة القطع ونحوه ـ هو وجوب الإتمام ثم الإستئناف ؛ لإمكان استصحاب نفس الكون في الصلاة الذي أثره حرمة القطع بأن يقال : إنه كان سابقا في الصلاة وشك في انه خرج منها بواسطة ما شك في مانعيّته ، فيستصحب كونه في الصّلاة ، ويتفرّع عليه : حرمة ايجاد المنافي ؛ لكونها من آثاره ، فعليه الإتيان بباقي الأجزاء حتى يعلم بخروجه من الصّلاة ولكن لا يجدي ذلك في إحراز المأمور به ، وكون الباقي إمتثالا للأمر المتعلّق به الناشيء من وجوب الكلّ ؛ فإنه انّما وجب عليه ذلك إمتثالا للأمر المقدّمي العقلي الناشيء من حرمة الترك وهذا لا يوجب القطع بفراغ الذمّة عن الواجب إلاّ على القول بالأصل المثبت كما لا يخفى.

وقد صرّح بجريان الإستصحاب المزبور سيّد مشايخنا [ المجدّد الشيرازي الكبير ] أدام الله أيّام إفاضاته في البحث » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٧١.

* وقال صاحب قلائد الفرائد في قلائده ( ج ١ / ٦١٠ ) :

« أقول : إن هذا ينافي ما تقدّم منه : من ان المرجع في مقام الشك في طرف المانع هو البراءة والحكم بعدم بطلان العمل ؛ فإن لازمه صحّته وعدم إعادته هذا » إنتهى.


ثمّ إن ما ذكره في حكم التردّد إنّما هو بالنسبة إلى الفقيه ، وأمّا العامي فحكمه إذا تردّد في صحة عمله في الأثناء مغاير لحكمه ، بل يجب عليه البناء على ما يظنّه ـ مع البناء على الفحص عن الحكم بعد العمل ـ والعمل بما يقتضيه الفحص ، فهذا نوع من الاحتياط في حقّه ولعلّنا نتكلّم في هذه المسألة بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

* * *


المسألة الثالثة :

في ذكر الزيادة سهوا

(٥٩) قوله قدس‌سره : ( فأصالة البراءة الحاكمة بعدم البأس ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٨٥ )

أقول : لا يخفى عليك أن حقّ التحرير : أن يحكم بالتعارض الصّوري بين الأصلين على تقدير القول بعدم جواز الفصل الظاهري بمقتضى الأصول بين المسألتين اللتين لا فصل بينهما واقعا ؛ لانتفاء التعارض رأسا على القول بجواز الفصل والتفكيك الظاهري ، كما اختاره بعض أفاضل مقاربي عصرنا ومال إليه شيخنا قدس‌سره بعض الميل على خلاف ظاهر الأكثر في مسألة الإجماع على ما هو ببالي عند قراءتي المسألة عليه.

والوجه في كون التعارض صوريّا على القول بعدم الجواز ظاهر ؛ لعدم التّعارض الحقيقي بين الحاكم والمحكوم على ما أفاده : من تحكيم القاعدة على أصالة البراءة.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فإنها بضميمة عدم القول بالفصل حاكمة بعدم البأس بالنقيصة أيضا كما ان أصالة الإشتغال بضميمتها حاكمة بالبطلان فيهما فيتعارضان » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٦٤.


ثمّ إن الوجه في تحكيم القاعدة على البراءة الشرعيّة وورودها على البراءة العقليّة ـ على القول بعدم جواز الفصل المبنيّ على عدم جواز المخالفة القطعيّة والعملية ولو في المسألتين ولو كان هناك حكم ظاهريّ في كلّ مسألة أو المخالفة الالتزاميّة مطلقا ـ : هو أن مرجع الشكّ في مسألة النقيصة السهويّة لمّا كان إلى الشكّ في الأمر الوضعي حقيقة وبدليّة الناقص عن التّام وقناعة الشارع به عنه فلا يصلح أصالة البراءة لإثباته ، وهذا بخلاف الشكّ في مانعيّة الزيادة ، وحكم العقل بوجوب الاحتياط يصلح بيانا لحكم الشارع بالبناء على شرطيّة عدمها في مرحلة الظاهر ، فيرتفع موضوع البراءة العقليّة حقيقة والشرعيّة حكما.

فإن شئت قلت : بعد البناء على عدم جواز التفصيل يلحق مسألة الزيادة بمسألة النقيصة فيكون الشكّ فيها أيضا شكّا يجب الاحتياط فيه كالشكّ في النقيصة فتأمل.

(٦٠) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٨٥ )

بيان حكم المسائل الثلاث من الأخبار الواردة في المقام

أقول : لا يخفى عليك أن ما ورد في بيان حكم المسائل الثلاث من الأخبار التي يستفاد منها حكمها على سبيل الضابطة على أربعة وجوه :


منها : ما يكون مفاده بطلان الصّلاة بزيادة شيء من الأجزاء من غير فرق بين العمد والنسيان والسّهو مثل قوله عليه‌السلام : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » (١) والتعليل في الحكم بوجوب الإعادة على من أتمّ في السفر بقوله عليه‌السلام : « لأنه زاد في فرض الله عزّ وجلّ » (٢) ومثله تعليل المنع من قراءة العزائم في الصلاة : « بأن السجود زيادة في المكتوبة » (٣) إلى غير ذلك.

ومنها : ما يقتضي بطلان الصّلاة بزيادة شيء من أجزائها نسيانا من غير أن

__________________

(١) لم نجده بهذا اللفظ وأنظر الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٥٥ باب « من سها في الأربع أو الخمس ولم يدر زاد أو نقص أو استيقن انه زاد » ـ ح ٥ « من تيقن أنه زاد في الصلاة » ـ ح ٢ ، والتهذيب ج ٢ / ١٩٤ باب « أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة » ـ ح ٦٥ ، عنها الوسائل : ج ٨ / ٢٣١ باب « بطلان الفريضة بزيادة ركعة فصاعدا ولو سهوا الا أن يجلس عقيب الرابعة بقدر التشهد أو يشك جلس أم لا » ـ ح ٢.

(٢) الخصال : ٦٠٤ ، عنه الوسائل : ج ٨ / ٥٠٨ باب « ان من أتم في السفر عامدا وجب عليه الإعادة في الوقت وبعده ، ومن أتم ناسيا وجب عليه الإعادة في الوقت لا بعده ، ومن أتم جهلا أو نوى الإقامة وقصّر جهلا لم يعد ، وحكم من قصّر المغرب جاهلا » ـ ح ٨.

(٣) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣١٧ باب « عزائم السجود » ـ ح ٦ ، والتهذيب : ج ٢ / ٩٦ باب « كيفيّة الصلاة وصفتها وشرح الاحدى وخمسين ركعة وترتيبها والقراءة فيها والتسبيح في ركوعها وسجودها والقنوت فيها والمفروض من ذلك والمسنون » ـ ح ١٢٩ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ١٠٥ « عدم جواز قراءة سورة من العزائم في الفريضة وجوازها في النافلة ووجوب العدول عنها لو شرع فيها في الفريضة ناسيا » ـ ح ١.


يكون دالاّ على حكم العمد مطابقة مثل قوله عليه‌السلام : « إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة » (١) فإن الظاهر من الاستقبال بالزيادة عدم الالتفات إليها في زمان الفعل كما لا يخفى.

ومنها : ما يقتضي عدم بطلان الصلاة بزيادة شيء من أجزائها ونقصانها سهوا ويشمل نقص الشرائط سهوا أيضا على تأمّل مثل قوله عليه‌السلام في المرسلة : « تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة تدخل عليك » (٢).

ومنها : ما يقتضي التفصيل في الحكم بالبطلان بالنقص السهوي والزيادة السهويّة كقوله عليه‌السلام في الصّحيحة : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة أشياء الركوع

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٥٤ باب « من سها في الأربع والخمس ولم يدر زاد أو نقص أو استيقن أنه زاد » ـ ح ٢ ، عنه الإستبصار : ج ١ / ٣٧٦ باب « من تيقن أنه زاد في الصلاة » ـ ح ١ عنه أيضا التهذيب : ج ٢ / ١٩٤ باب « أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة » ـ ح ٦٤ ، عنها الوسائل : ج ٦ / ١٠٥ باب « عدم جواز قراءة سورة من العزائم في الفريضة و ... » ـ ح ١.

(٢) الإستبصار : ج ١ / ٣٦١ باب « وجوب سجدتي السهو على من ترك سجدة واحدة ولم يذكرها إلاّ بعد الركوع » ـ ح ٢ ، والتهذيب : ج ٢ / ١٥٥ باب « تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز » ـ ح ٦٦ ، عنهما الوسائل : ج ٨ / ٢٥١ باب « المواضع التي يجب فيها سجدتي السهو ، وحكم نسيانهما » ـ ح ٣.


والسجود والطهور والقبلة والوقت » (١) بناء على شمولها للزيادة السهويّة ؛ نظرا إلى كونها في مقام بيان عدم وجوب إعادة الصّلاة بكل إخلال فيها زيادة ونقيصة ، إلاّ إذا كان الإخلال من جانب الخمسة ؛ فإن ظاهرها بل صريحها عند التأمّل بيان حكم الإخلال بما ثبت أخذه واعتباره في الصلاة ، فيختصّ بصورة السهو لا بيان ماهيّة الصلاة وأنها ليست إلاّ خمسة أشياء من غير أن يكون له دخل بمسألة السهو كما زعمه بعض مشايخنا في « شرحه على الشرائع » (٢) ؛ ضرورة استهجان التعبير عن ماهية الصلاة بالعبارة المذكورة ؛ بل لا بدّ من التعبير بما يناسب بيان الماهيّة كما في الأخبار ؛ فإن الظاهر منها بيان حكم ما فرغ عن بيانها من حيث الأجزاء والشرائط من جهة الإخلال بشيء منها وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

ومثلها في الدلالة على التفصيل في خصوص النقص السهوي قوله عليه‌السلام فيمن نسي الفاتحة : « أليس قد أتممت الركوع والسجود؟ » (٣) فإن استظهار حكم الزيادة

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٢٧٩ ـ ح ٨٥٧ باب « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس » نشر جماعة المدرسين ، وتهذيب الأحكام : ج ٢ / ١٥٢ ـ ح ٥٥ من باب « تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز » ، عنهما الوسائل : ج ١ / ٣٧١ باب « وجوب إعادة الصلاة على من ترك الوضوء أو بعضه ... » ـ ح ٨.

(٢) الشيخ محمد حسن النجفي في جواهر الكلام.

(٣) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٤٨ باب « السهو في القراءة » ـ ح ٣ ، عنه الإستبصار : ج ١ / ٣٥٣


السهويّة منه في غاية الغموض ، فلو جعل الحصر فيه إضافيّا وبالنسبة إلى نقص الأجزاء فلا ينافي الصحيحة ، وإلا فلا يكون منافيا لها فلا بد من الجمع بينهما بما ستعرفه ، هذه جملة ما ورد من الأخبار في هذا الباب.

ولا يخفى تعارضها بظواهرها ؛ حيث إن مقتضى الطائفة الأولى : بطلان الصلاة بزيادة كل جزء عمدا كانت أو سهوا ، ومقتضى الثانية : بطلانها بها فيدل على البطلان عمدا من باب الأولوية ، ومقتضى الثالثة : عدم البطلان بكل من الزيادة السهوية والنقص السهوي على وجه التصريح والنصوصيّة لا الظهور والعموم ، ومقتضى الرابعة : التفصيل في الحكم بالبطلان في المقتضية السهويّة والزيادة السهويّة ـ بناء على عموم الصحيحة لهما ـ فيدخل في تعارض الزائد من الدليلين ، فلا بد من أن يسلك في المقام ما يسلك فيه : من تقديم الأخصّ والأظهر ، وإن انقلبت النسبة بعده بين الباقي كما برهن عليه في باب التعارض.

فيقع الكلام في علاج تعارضها في مواضع :

الأوّل : في علاج تعارض الطائفة الأولى المقتضية لبطلان الصلاة بالزيادة

__________________

باب « من نسى القراءة » ـ ح ٢ ، وعنه أيضا التهذيب : ج ٢ / ١٤٦ باب « تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز » ـ ح ٢٨ ، عنها الوسائل :

ج ٦ / ٩٠ باب « عدم وجوب الإعادة على من نسي القراءة أو شيئا منها حتى ركع وأنه لا يجب قضاء ما نسي ولا سجدتا السهو وان من قرأ في غير محل القراءة ناسيا فلا شيء عليه » ـ ح ٢.


مطلقا من حيث أنها زيادة من غير فرق بين العمد والسهو مع غيرها مما دلّ على عدم بطلان الصلاة بالزيادة السهويّة مطلقا ، أو في الجملة ، فنقول :

لا إشكال في كون تعارضهما في الزيادة السهوية في باديء النظر ؛ فإن ما دلّ على عدم البطلان لا يشمل العمد قطعا فلا بدّ من العمل بالطائفة الأولى في الزيادة العمديّة ؛ لسلامتها عن المعارض ، فيكون الحكم في المسألة الثانية بالنظر إلى القاعدة بطلان الصّلاة بالزيادة العمديّة مطلقا وبالنسبة إلى جميع الأجزاء.

وأمّا الزيادة السهوية التي وقع التعارض فيها فيحكم بعدم بطلان الصّلاة بها مطلقا إذا لوحظت الطائفة الأولى مع المرسلة من حيث كونها أخصّ منها ، وإن عمّت النقيصة أيضا ؛ نظرا إلى ما عرفت : من حيث كون عمومها لهما على وجه التصريح والتنصيص فلا يقبل التخصيص بأحدهما. فإن شئت قلت : إنّهما مشتملة على قضيتين :

أحدهما : عدم بطلان الصلاة بالزيادة السهويّة.

والأخرى : عدم بطلانها بالنقص السهوي ، ويحتمل كون تقديمها عليها من باب الحكومة لا التخصيص.

وأما إذا لوحظت مع الصحيحة فيحكم بتقديمها عليها أيضا ـ بناء على شمولها للزيادة السهويّة ـ وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه ؛ حيث إن الطائفة الأولى تفارقها في الزيادة العمديّة مطلقا وتفارقها في النقص السّهوي ؛ نظرا إلى


حكومة الصحيحة عليها : من حيث إن الظاهر منها على ما عرفت بيان حكم ما ثبت إخلال الصلاة من جهته في الجملة ، وإن المقصود منه صورة العمد لا مطلقا ، فهي شارحة للطائفة الأولى ، كما أنها شارحة لمطلق ما يقتضي بطلان الصّلاة من جهة الإخلال بما يعتبر فيه إذا لم يكن من الخمسة كقوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) ونحوه هذا.

الثاني : في علاج تعارض الطائفة الثانية المقتضية لبطلان الصلاة بالزيادة السهويّة مطلقا مع كلّ من المرسلة والصحيحة.

أما مع المرسلة فلا إشكال في كون تعارضهما على وجه التباين ؛ حيث إن مقتضى الطائفة الثانية : بطلان الصلاة بكل زيادة سهويّة ، ومقتضى المرسلة : عدم بطلان الصّلاة بها لكن يحتمل قريبا كون المرسلة أظهر منها ؛ حيث إن المرسلة نصّ في الزيادة السهويّة وهي ظاهرة فيها ؛ لاحتمال كون التعبير بالاستيقان من جهة الاهتمام في عدم قدح احتمال الزيادة ، وإن القادح الزيادة اليقينيّة فلا ينافي اعتبار التعمّد في القدح بها ، وهذا الاحتمال لا يتطرّق في المرسلة ، فيحكم بكون المراد منها الزيادة العمديّة فينطبق على الطائفة الأولى.

وأما مع الصحيحة فلا إشكال في كون تعارضهما بالعموم من وجه ؛ فإن

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ١ / ١٩٦ وج ٢ / ٢١٨ وج ٣ / ٨٢ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ٤ / ١٥٨ باب « وجوب قراءة الفاتحة في الثنائيّة ، وفي الأوليتين من غيرها » ـ ح ٥.


التعارض بينهما إنّما هو بالنسبة إلى العقد السلبي من الصحيحة. وبعبارة أخرى : المستثنى منه فيها ؛ ضرورة عدم التعارض بينهما من حيث العقد الإيجابي والمستثنى فيها ، والصحيحة بناء على عمومها للزيادة السهوية يشمل النقيصة السهويّة قطعا ، وهي يشمل زيادة الخمسة فيفترقان في النقيصة وزيادة الخمسة ويجتمعان في زيادة غير الخمسة وهي أظهر من الصحيحة ؛ حيث إنها نصّ في الزيادة ، والصحيحة ظاهرة على تقدير العموم في الزيادة ونصّ في النقيصة ، وإلاّ فقد يمنع من شمولها للزيادة من حيث عدم تصوّر الزيادة بالنسبة إلى ثلاثة منها ، وإن كان لا يمنع العموم عند التحقيق هذا.

ولكن يمكن أن يقال بكونها وإن كانت نصّا في الزيادة ، إلاّ أنّها ليست نصّا في غير الخمسة ؛ لاحتمال إرادة خصوص الخمسة منها ، فكلاهما ظاهران في غير الخمسة.

الثالث : في علاج الصحيحة مع المرسلة ، ولا إشكال في كونها أخصّ من المرسلة بالنسبة إلى النقيصة ؛ فإن التعارض بينهما إنّما هو بالنسبة إلى العقد الإيجابي من الصحيحة ، وهو أخصّ منها قطعا كما هو ظاهر. وأمّا بالنسبة إلى الزيادة فكذلك بناء على شمولها لها ؛ إذ الأخذ بالعقد الإيجابي منها بالنسبة إلى النقيصة دون الزيادة فيعمل فيها بالمرسلة كما ترى.

فإن شئت قلت : إنّها وإن كانت ظاهرة في الزيادة والمرسلة نصّا فيها إلاّ أنّها


أظهر منها بالنسبة إلى زيادة ما يتصوّر الزيادة فيه من الخمسة.

الرّابع : في علاج الصحيحة مع قوله عليه‌السلام : « أليس قد أتممت الركوع والسجود؟ » ولا إشكال في كونها أظهر ؛ حيث إنه بعمومه يقتضي عدم قدح الإخلال بغير الركوع والسجود ، وهي نصّ في قدح الإخلال بالثلاثة أيضا ، فلا بدّ من العمل بالصحيحة هذا فيما لوحظت الأخبار بعضها مع بعض.

وإن شئت سلكت ما أشرنا إليه من المسلك عند الدخول في المسألة ـ من تقديم الأظهر من بين المجموع مع ملاحظتها بهذه الملاحظة وإن انقلبت النسبة بين الباقي ـ وقلت : إن الصّحيحة أخصّ من المرسلة بما عرفت من البيان ، وبعد تخصيص المرسلة بغير الخمسة تصير أخصّ مما دلّ على إعادة الصّلاة بالزيادة السهويّة مطلقا فيخصّص بها ، كما أنّها خصّصت بالصحيحة ، فيكون المرجع الصحيحة بالنسبة إلى العقد السلبي والإيجابي ، فيكون مقتضى القاعدة الثابتة من الأخبار عدم قدح نقص غير الخمسة سهوا وزيادتها كذلك ، فيظهر حكم المسألتين بالنظر إلى القاعدة ، فيحتاج في إلحاق غير الخمسة بها إلى دليل خاصّ وارد في عنوان زيادة بعض الأجزاء والشرائط ونقصها سهوا. هذا كله مع قطع النظر عن ثبوت التلازم بين النقص السهوي والزيادة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وأمّا بملاحظته فلا إشكال في كون الصحيحة أخصّ من جميع أخبار الباب


حتى على القول باختصاصها بالنقص السهوي ؛ فإنها كما يكون نصّا في حكم نقص الخمسة وزيادتها بالملاحظة المذكورة ، كذلك يكون نصّا في حكم نقص غير الخمسة وزيادته سهوا ، وأنها لا توجب الإعادة فيكون أخصّ مطلقا مما دلّ على الإعادة بالزيادة السهويّة مطلقا ؛ فإنّ احتمال اختصاصها بالنقص السهوي مدفوع بالملازمة المذكورة وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر : المراد مما أفاده قدس‌سره بقوله : « ثم لو دلّ دليل على قدح الإخلال بشيء سهوا كان أخصّ من الصحيحة ... إلى آخر ما أفاده » (١) وإن كان مما لا مناص عنه ؛ فإن حكومة الصحيحة على عمومات أخبار الزيادة والنقصان لا ينافي تخصيصها بما هو أخصّ منها كالوارد في تكبيرة الإحرام ، والقيام المتّصل بالركوع ، وغيرهما من الأجزاء والشرائط.

إلاّ أن ما أفاده : من أخصيّة ما دلّ على بطلان الصّلاة بمطلق الزيادة السهويّة بقوله : « والظاهر أن بعض أدلّة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله عليه‌السلام : « إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة استقبل الصّلاة » (٢).

قد يناقش فيه : بما عرفته في بيان نسبة الصحيحة معه ، إلاّ أنه قد تقدّم ثمّة ما يوجّه به كلامه فراجع ، لكنّه لا بد من أن يحمل على ما ذكرنا أخيرا : من بيان النسبة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨٦.

(٢) نفس المصدر.


مع قطع النظر عن الملازمة الخارجيّة ، وإلاّ فلا يستقيم بحال كما لا يخفى.

فالأولى التمثيل بما مثّلنا مما ورد في الموارد الخاصّة في حكم الإخلال بالأجزاء والشرائط المخصوصة لا بما دلّ على حكم الزيادة سهوا مطلقا فافهم هذا.

مع أن ما دل على بطلان الصلاة بالزيادة السهويّة مطلقا يدلّ على بطلانها بالزيادة العمديّة ولو بالفحوى فتأمل (١) ، هذا كلّه فيما لو حملنا الصحيحة على بيان حكم الإخلال السهوي.

وأمّا لو حملناها على بيان حكم الماهيّة كما زعمه بعض مشايخنا (٢) فلا تعلّق لها بالمقام أصلا ؛ فإنها على هذا التقدير في بيان مقام أصل الماهيّة فيعارض ما دل على ثبوت الأجزاء والشرائط والموانع المغايرة للخمسة حتى ما دلّ على بطلان الصلاة بالزيادة مطلقا ، وكونها من موانع الصّلاة ، وإن تعيّن تخصيصها بها ؛

__________________

(١) وجه التأمّل : انه وإن دلّ على بطلان الصلاة بالزيادة العمديّة بالفحوى الاّ انه لا يوجب انقلاب النسبة وكون الدّال على البطلان بالزيادة السهويّة أعمّ من الصحيحة ونحوها حيث إن دلالتها على حكم الزيادة العمديّة من جهة مفهوم الموافقة والدلالة التبعيّة الثانويّة فلا معنى للتفكيك بينهما فتدبّر. ( منه دام ظله العالي ).

(٢) صاحب الجواهر الشيخ محمّد حسن باقر النجفي أعلى الله مقامه الشريف المتوفى سنة ١٢٦٦ ه


نظرا إلى كونها أخصّ منها كما لا يخفى. وأين هذا من الإخلال السهوي بما ثبت اعتباره في الصّلاة؟ فيرجع في حكم المسائل الثلاث إلى غير الصحيحة من الأخبار المتقدّمة ، وقد عرفت مفادها بعد الجمع والعلاج مما قدّمنا لك فلا نطيل بالإعادة ، كما أنك قد عرفت من مطاوي ما قدّمنا لك سابقا في تأسيس الأصل :

معنى حكم الشارع في طيّ الأخبار بعدم وجود الإعادة عند السّهو عن بعض ما يعتبر في العبادة ، وأن مرجعه إلى قناعة الشارع عن التام بالناقص لاشتماله على المصلحة لا إلى الأمر بالناقص فراجع إليها.

* * *


التنبيه الثاني :

هل يسقط التكليف بالكل أو المشروط

إذا تعذّر الجزء أو الشرط؟

(٦١) قوله قدس‌سره : ( الأمر الثاني : إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيّته في الجملة (١) ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٨٧ )

__________________

(١) قال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« أي : على وجه الإهمال لا الإطلاق ؛ لأن وجوب الجزء والكل إمّا مطلقين أو مهملين أو وجوب الجزء مطلق ووجوب الكل مهمل ، أو بالعكس.

ومحلّ النزاع في مجرى أصل البراءة أو الإستصحاب إنّما هو في الصّورة الثانية دون الصور الباقية لاقترانها بالدليل الإجتهادي وهو إطلاق وجوب الجزء والشرط القاضي بإطلاق الجزئيّة والشرطيّة في الصورة الأولى والثالثة ، وإطلاق وجوب الكل القاضي عدم إطلاق الجزئيّة والشرطيّة في الصورة الرّابعة ولا مجرى للأصل بعد تعيين إطلاق الجزئيّة أو تقييده بالدليل الإجتهادي » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٩.


دوران الأمر بين الشرطيّة المطلقة

وغيرها وكذا الجزئيّة

أقول : الكلام في المقام حسبما أفاده : قد يقع في مقتضى الأصول العمليّة وقد يقع في مقتضى الأصول اللفظيّة ، وقد يقع في مقتضى القاعدة العامّة المستفادة من الأخبار الخاصّة الواردة في مقام إعطاء القاعدة. وأمّا التكلّم فيما يقتضيه الأخبار الخاصّة في الموارد الشخصيّة فيقع في الفقه ولا تعلّق له بالمقام ، فالكلام يقع في ثلاثة مواضع :

أمّا الموضع الأول : فقد يقال ـ بل قيل بل ينسب إلى غير واحد ـ : أن مقتضى الأصل العملي عند الشكّ ودوران الأمر بين الجزئيّة المطلقة والخاصّة المقيّدة بحال التمكّن من الجزء ، وكذا عند الشك في الشرطية المطلقة والمقيّدة بعد الثبوت في الجملة في الموضعين : هو البناء على الجزئيّة والشرطيّة المطلقتين من غير فرق بين القول الصحيح والأعمّي ، كعدم الفرق بين كون المذهب : الرجوع إلى البراءة في مهيّات العبادات المردّدة ، أو الرجوع إلى أصالة الاشتغال ؛ لرجوع الشكّ في الدّوران المذكور إلى الشكّ في أصل التكليف على كل تقدير.

ضرورة استلزام تعذّر المقدّمة مع كونها مقدّمة ارتفاع التكليف عن ذي


المقدّمة ؛ لوضوح اشتراطه بالقدرة على المقدّمة حسب ما بيّن في بحث وجوب المقدّمة : من أن كل واجب مطلق مشروط بالنسبة إلى القدرة على المقدّمات الوجوديّة ؛ من حيث إن امتناعها يوجب امتناع ذيها ، والمفروض احتمال المقدّميّة المطلقة في المقام.

وهذا ما ذكرنا : من رجوع الشكّ إلى الشكّ في أصل التكليف الوجوبي ، والمرجع فيه البراءة إتّفاقا ولا يجري الاستصحاب حتى يكون واردا أو حاكما عليها بالنسبة إلى العقلية والشرعيّة منها ؛ لأن الوجوب النفسي للباقي المقدور مفروض الانتفاء في السّابق ، فكيف يحكم ببقائه ووجوده الثانوي بمقتضى الاستصحاب؟ والوجوب الغيري الثابت له سابقا مقطوع الارتفاع لاحقا ؛ لكونه تابعا لوجوب الكل والمشروط المرتفع جزما والقدر المشترك بين الخصوصيّتين تابع لهما في الوجود ، فكيف يحكم به مع عدم الحكم بهما فضلا عما حكم بعدمهما؟ هذا.

وقد يقال ـ بل قيل ـ : إن مقتضى الأصل في مفروض البحث : البناء على التقيّد والاختصاص والحكم بوجوب الباقي المقدور للمكلّف ؛ لأن مقتضى الدوران المذكور وإن كان الرجوع إلى البراءة كما ذكر ، إلاّ أن الاستصحاب وارد أو حاكم عليها وتقرير جريانه بوجهين :

أحدهما : أن يجعل المستصحب الوجوب القدر المشترك المتحقّق سابقا في ضمن الوجوب الغيري المتعلّق بالباقي الذي يحتمل بقاؤه باحتمال قيام الوجوب


النفسي بعد زوال الوجوب الغيري مقامه ، غاية ما هناك : عدم إمكان إثبات الوجوب النفسي به ؛ لعدم جواز التعويل على الأصول المثبتة ، كما أنه لا يمكن نفي القدر الجامع بنفي الوجوب النفسي في الزمان اللاحق بالأصل للوجه المذكور ، فيجمع بين ترتيب الآثار المترتّبة على الوجوب بقول مطلق ، ونفي أثر خصوص الوجوب النفسي كما هو الشأن في أمثال المقام.

ثانيهما : أن يجعل المستصحب الوجوب النفسي المتعلّق بالمقدور مسامحة في مدخليّة الجزء المتعذّر في معروض المستصحب ، نظير استصحاب الكرّيّة والقلّة للماء المسبوق بالكريّة مع المقدار الذي أخذ منه في الزمان اللاحق ، أو الماء المسبوق بالقلّة مع عدم خلط ما زيد عليه لاحقا ، لا الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب سابقا حتى يكون من قبيل استصحاب الكرّ في الماء الذي لا يفيد في إثبات الكرّيّة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت.

فيقال في تقريب الاستصحاب : إن هذه الأجزاء المقدورة كانت واجبة بالوجوب النفسي ويشكّ في بقائها على ما كان ، ولو كان عروض الوجوب النفسي عليها في السابق ؛ من حيث اشتمالها على المفقود فيجعل اشتمالها عليه في السابق ، مع انتفائه في اللاحق من قبيل الحالات المتبدّلة.

كما يقال في تقريب استصحاب الكريّة للماء الموجود الذي نقص عن المقدار الذي يحتمل قوام الكريّة به : إن هذا الماء كان كرّا ويشك في بقاء كرّيّته ، مع أن عروض الكرّية عليه كان مع اشتماله على الجزء الذي فقد لاحقا ، ولو لا هذه


المسامحة العرفيّة في موضوع المستصحب الموجبة للحكم باتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لاختلّ أمر الاستصحاب في كثير من موارده ، سيّما في استصحاب العوارض الزمانيّة المتجددة ، وكذا استصحاب الزمان بل بطريق أولى ، مع أن استصحاب الليل والنهار من الاستصحابات المسلّمة عندهم وكذا استصحاب الكرّيّة والقلّة في المثالين.

ودعوى : الفرق بين الاستصحاب في المقام واستصحابهما ؛ حيث إن دخل المتعذر في موضوع الوجوب النفسي في السابق معلوم بخلاف المقدار المأخوذ في استصحاب الكرية ، فلعلّ معروضه في السابق هذا الماء الموجود لاحقا فاسدة.

مضافا إلى انتفاء الاحتمال المزبور في استصحاب القلة فتدبّر بما عرفت توضيحه في طي كلماتنا السابقة : من أنّ الموجود المقداري ـ بلغ ما بلغ ـ أمر واحد ، فالكرّيّة قائمة بمجموع أجزائه ولو كان زائدا على الكريّة لا بالمقدار المعيّن ، كما هو الشأن في جميع مصاديق المقادير المنقسمة إلى الزائد والناقص فتأمّل.

نعم يعبّر في هذا التقرير الثاني مساعدة العرف على الحكم باتحاد القضيّتين وعدم كون المفقود من معظم الأجزاء فتدبّر.

هذه غاية ما يقال في تقريب الاستصحاب وسيجيء تفصيل الكلام فيهما وعليهما في باب الاستصحاب في الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.


وأمّا جعل المستصحب الوجوب المردّد بين النفسي والغيري المتعلّق بالمركب فلم يعلم له محصّل غير استصحاب الكلّي ؛ إذ المردّد بعنوانه الترديدي لا وجود له في الخارج ، وإنما الموجود في الأعيان الأمور المتعيّنة المتشخّصة ، كما أن جعله الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع الأعم عن الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها يرجع إلى التقريب الثاني لا محالة.

ثمّ إن الوجوب المستصحب في التقريبين قد يفرض منجّزا فعليّا فلا بد أن يفرض قدرة المكلّف على تمام الأجزاء والشرائط بعد دخول الوقت بقدر زمان الفعل وعروض العجز عن بعضهما في الأثناء ، وقد يفرض معلّقا شأنيّا بدخول الوقت.

وبعبارة أخرى : الوجوب الثابت للموقّت في أصل الشرع ، هذا بعض الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الموضع الثاني : فملخّص القول فيه :

أن فرض الأصل اللّفظي في المقام من العموم أو الإطلاق الذي يرجع إليه عند الدوران في أمر الجزء أو الشرط مبنيّ على القول بالأعمّ في ألفاظ العبادات إذا فرض الدوران فيها بشرط أن يوجد هناك أمور.

أحدها : كون الجزء المردّد من الأجزاء الغير المقوّمة للصّدق والحقيقة ضرورة اعتبار الصّدق في الإطلاق والعموم.


ثانيها : فرض العموم والإطلاق للمأمور به بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط وإلا لم ينفع كما هو ظاهر.

ثالثها : اجتماع تمام ما يعتبر في التمسّك بالإطلاق من الأمور التي عرفت الإشارة إليها في مطاوي كلماتنا السّابقة.

رابعها : عدم العموم والإطلاق لما دلّ على التخصّص والتقيّد من دليل الجزء والشرط ، وإلاّ تعيّن الرجوع إليه مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٢) ونحوهما ؛ فإن ظاهرهما على القول الأعمّي نفي الصحّة بدونهما مطلقا : من غير فرق بين حالتي الاختيار والتعذّر فيقيّد إطلاق الصلاة بهما في الحالتين ؛ ضرورة حكومة إطلاق المقيّد على إطلاق المطلق المقيّد بحسب الحالات المشمولة لدليل التقيّد.

خامسها : عدم ثبوت الجزئيّة والشرطيّة من نفس دليل العبادة ؛ ضرورة عدم إمكان فرض إطلاق له بنفي الجزئيّة والشرطيّة في صورة التعذر كما هو ظاهر ، فإذا اجتمع هذه الأمور تعيّن الرجوع إلى إطلاق المأمور به والحكم بعدم الجزئيّة

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٥٨ ـ ح ١٢٩ ، والإستبصار : ج ١ / ٥٥ باب « وجوب الاستنجاء من الغائط والبول » ـ ح ١٥ ، والتهذيب : ج ١ / ٤٩ باب « آداب الأحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٨٣ ، عنها الوسائل : ج ١ / ٣١٥ باب « وجوب الإستنجاء وإزالة النجاسات ، للصلاة » ـ ح ١.

(٢) غوالي اللئالي : ١ / ١٩٦ وج ٢ / ٢١٨ وج ٣ / ٨٢ ـ عنه مستدرك الوسائل : ٤ / ١٥٨ باب « وجوب قراءة الفاتحة في الثنائيّة وفي الأوّليتين من غيرها » ـ ح ٥.


والشرطيّة في حال تعذّرهما ، فيرفع اليد به عن أصالة البراءة القاضية بعدم وجوبه عند دوران الأمر في الجزئية والشرطيّة بين الإطلاق والاختصاص بحالة الاختيار.

ثمّ إن فرض عدم الإطلاق في دليل الجزء والشرط : قد يكون من جهة عدم قابليّته للإطلاق والعموم : من جهة كونه دليلا لبّيّا كما إذا فرض ثبوت الجزئيّة للجزء المردّد حاله بالإجماع ، وقد يكون من جهة إهماله مع كونه لفظيّا قابلا للإطلاق ، وقد يكون من جهة امتناع شموله عقلا لحالة التعذّر وإن كان من مقولة اللفظ ، وإن احتملنا ثبوت مفاده والجزئيّة المطلقة في نفس الأمر ، كما إذا كان من مقولة التكليف ؛ ضرورة امتناع تعلّق التكليف غير ما كان ، أو نفسيّا بغير المقدور فيقيّد إطلاق ذي المقدّمة بمقدار مساعدة التكليف.

فإن شئت قلت : الوجوب الغيري وإن كان متفرّعا على المقدّميّة ومعلولا لها في صورة إمكان وجوده ولا يكون المقدّميّة معلولة لها فلا يكشف اختصاصه عن اختصاصها ، إلاّ أن كشفه عنه بمقدار وجوده والمفروض اختصاصه بحالة الاختيار. نعم لا يكون دليلا على عدمها أيضا ؛ لعدم تفرّعها عليه فيرجع إلى أصالة الإطلاق. نعم ، فيما كانت الشرطيّة مسبّبة عن التكليف النفسي كشرط الامتثال كان اختصاصه دليلا على اختصاصها على ما عرفت الكلام فيه مفصّلا ، لكنّه خارج عن مفروض البحث ؛ لعدم تصوّر الدوران في حاله كما هو واضح.

فلا يقال : إن التكليف المستفاد منه باعتبار متعلّقه في المأمور به في


مفروض البحث غيريّ ، فاختصاصه بحالة الاختيار ملازم لاختصاص التكليف بذي المقدمة بتلك الحالة لامتناع التكليف بينهما عقلا فكما أن التكليف بذي المقدّمة يكشف عن طلب المقدّمات كذلك رفع التكليف عن المقدّمة يكشف عن ارتفاع التكليف بذيها ؛ لأنه مقتضى التلازم من الجانبين كما هو ظاهر ؛ لأن ذلك كلّه إنما يصحّ فيما كانت المقدّمة باقية على مقدميته في حالة التعذّر ، وأما إذا حكم بعدمها فلا يكشف انتفاء الوجوب الغيري عن انتفاء الوجوب النفسي المتعلّق بذيها كما هو ظاهر.

وبما ذكرنا ينبغي تحرير المقام لا بما أفاده قدس‌سره بقوله : « وكذلك لو ثبت أجزاء المركّب من أوامر متعدّدة ؛ فإن كلاّ منها أمر غيري إذا ارتفع عنه الأمر (١) بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدّمة أعني الكلّ ... إلى آخره » (٢) (٣).

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« بل إذا ارتفع الأمر بذي المقدّمة بسبب العجز عن واحد منها ارتفع الأمر عنها وعن سائرها وذلك لتبعيّة الأمر الغيري للنفسي حدوثا وارتفاعا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٦٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨٨.

(٣) قال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى خلاف « العوائد » حيث قال :

( لو كان هناك خطابات متعددة الأجزاء أمكن التمسك في الأجزاء الباقية بما يدل عليه


فإنه مع منافاته لبعض إفاداته السابقة غير مستقيم بظاهره كما لا يخفى ، اللهمّ إلاّ أن ينزّل على مورد لم يتعلّق فيه أمر بالكلّ وذي المقدّمة أصلا ، وإنّما استفيد وجوبه من أوامر غيرية متعلّقة بأجزائها ؛ من حيث كونها مع فرض غيريّتها تابعة لها وإذا حكم باختصاصها بصورة التمكّن منها فلا كاشف عنه ، لكنّه كما ترى.

ثمّ إنه بقي هنا قسم آخر من دليل الجزئيّة لم نقف عليه في الشرعيّات ، وإنّما هو مجرّد فرض وهو :

أن يكون بدلالته اللفظيّة مقيّدا بحال التمكّن من الجزء على وجه يكون له دلالة بحسب المفهوم على نفي جزئيّته ومقدّميّته في حال التعذّر ، فيدلّ على ثبوت الأمر بالكلّ في صورة العجز عنه.

__________________

خطاباتها كقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) و ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) وهكذا إلى آخر أجزاء الوضوء [ العائدة : ٢٧ ].

وفيه : ما أشار اليه المصنّف : بأنّ مجرّد تعدّد الخطاب لا يقضي ببقاء التكليف الباقي مع فرض الوجوب غيريّا.

نعم يبقى التكليف بالباقي اذا كان متعلّقات الخطابات المتعدّدة أمورا مستقلّة غير مرتبطة بعضها ببعض غير مندرجة تحت عنوان واحد ، بل وكذا إذا كانت مندرجة تحته ، وكذا إذا اتّحد الخطاب في هذين الفرضين ؛ لإستصحاب الوجوب بالنسبة إلى الباقي مضافا إلى قضيّة إطلاق الخطاب » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٠.


ثمّ إنه لا يتوهّم لزوم استعمال المطلق في معنيين فيما حكمنا باختصاص التقييد فيه بصورة التمكّن من الجزء والشرط ، أما على ما اخترناه تبعا لشيخنا قدس‌سره وفاقا لجمع من المحقّقين أوّلهم : فيما أعلم سلطانهم في تعليقاته على « المعالم » من كون المطلق موضوعا للمهملة ونفس الطّبيعة « اللابشرط المقسمي » ، فيستعمل في جميع موارد إطلاقه ويراد الخصوصيّات من الخارج فواضح.

وأمّا على ما اختاره الأكثرون بالنظر إلى ظاهر كلماتهم من كونه موضوعا للطبيعة المنتشرة أي : الطبيعة « اللابشرط القسمي » أو الحصّة المنتشرة ، فيكون وصف الإطلاق والانتشار مأخوذا في وضعه ؛ فلأنه لا بدّ من تجريده من الوصف المذكور واستعماله مجازا في نفس الطبيعة حتى لا يلزم استعمال اللفظ في معنيين ، هذا على القول بوضع الألفاظ للأعمّ.

وأمّا على القول بوضع ألفاظ العبادات للماهيّة الصحيحة التامّة الأجزاء والشرائط إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيّته في حالة خصوص التمكّن منه بحيث فرغنا في ثبوت الأمر بالعبادة في صورة العجز عنه ، فهل يلتزم عليه بتعدّد الأوضاع بحسب الحالات المختلفة فيها الأجزاء والشرائط والوضع الواحد والاستعمالات المجازية في الكلمة أو الإسناد؟

ففيه : كلام وبحث واسع في مسألة الصحيح والأعمّ ليس المقام محلّ ذكره وقد تعرضنا لشرح القول فيه فيما حرّرناه في تلك المسألة من أراده راجعه ، هذا بعض الكلام في الموضع الثاني.


وأمّا الموضع الثالث : فمحصّل القول فيه :

أن المشهور بين الأصحاب كون مقتضى جملة من الأخبار اختصاص جميع الأجزاء والشرائط بحالة الاختيار بحيث يستفاد منها ثبوت التكليف في حالة سقوطها وإن كان بعضها مختصّا ببيان حال الجزء ، إلاّ أنّ بعضها الآخر يدلّ على العموم بالنسبة إلى الجزء والشرط ، وربّما خالف فيه بعض المتأخّرين ؛ نظرا إلى عدم تماميّتها سندا ودلالة.

منها : النبويّ المروي في « عوالي اللئالي » : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (١) فإن كلمة « من » حقيقة في التبعيض أو ظاهرة فيه ، وكلمة « ما » ظاهرة في الموصولة فيدلّ على وجوب الإتيان بالمقدور من المركّب وكلمة « شيء » وإن كانت نكرة ، إلاّ أن المراد منها العموم يعني أي شيء كان وهو ظاهر لا سترة فيه أصلا. واختصاصه بأوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقدح بعد ثبوت عدم الفرق والفصل بالإجماع. مضافا إلى أن أوامر الأئمة عليهم‌السلام أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المعنى والحقيقة كما هو ظاهر.

ومنها : العلويّ المروي فيه أيضا : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (٢) والمراد

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ٤ / هامش ص ٥٨ ويأتي ذكر جملة من مصادره من كتب العامّة قريبا فانتظر.

(٢) عوالي اللئالي : ج ٤ / ٥٨.


من المعسور في الرواية ما يشمل محل البحث ولو بالأولويّة والفحوى ، أو عدم القول بالفصل وهو يشمل تعذّر الجزء والشرط ؛ لعدم الفرق في صدق مفاده كما هو ظاهر. « واللام » إمّا للاستغراق أو للجنس والطبيعة فيفيد العموم ولو بقرينة المقام ولزوم اللغويّة.

والتقريب : أن الحديث إمّا إخبار عن عدم سقوط حكم الميسور بواسطة سقوط حكم المعسور كما هو ظاهر القضيّة ، وإمّا إنشاء فيدلّ على طلب الميسور ، وأنه مطلوب للشارع بنفس القضيّة.

ويدلّ عليه : حمل عدم السقوط على نفس الميسور وبعد حمله على الإنشاء يكون ظاهرا في الوجوب على ما تبيّن في محلّه فلا يشمل غير الواجبات ، وهذا بخلاف ما لو حمل على الإخبار عن بقاء الحكم الثابت للميسور ، فإنه يشمل المستحبّات أيضا كما هو ظاهر.

والقول : بعدم شموله للمقام ؛ نظرا إلى أن الثابت للميسور قبل تعسّر بعض الأجزاء والشرائط هو الوجوب الغيري وهو غير قابل للبقاء عقلا فلا معنى لإخبار الشارع عن بقائه ، فاسد ؛ لأن وجوبه في الجملة سابقا كاف في صدق البقاء على ما عرفت في تقريب الاستصحاب فتدبّر.

ومنها : العلويّ المروي فيه أيضا : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كله » (١) التقريب

__________________

(١) المصدر السابق.


كما في العلوي السابق ، بل هو أظهر ؛ من حيث إن حمله على الإنشاء لا يقبل الإنكار وقد جعلوا الموصول من ألفاظ العموم في بابه بخلاف المفرد المحلّى ؛ فإن فيه كلام عند المشهور ، بل منع.

نعم ، هذه تختصّ بتعذّر بعض الأجزاء ولا يدلّ على حكم تعذّر الشرط وحمله على الإخبار عن طريقة الناس ، مضافا إلى لزوم الكذب ، أو إخراج أكثر وقائعهم مناف لوقوعه في كلام الشارع ، فيدلّ على لزوم الإتيان بالمقدور المدرك من المركّب الذي لا يدرك تمام أجزائه ولا يقدر على الإتيان بجميعها وهو المدّعى.

رواية عبد الاعلى والمناقشة في الإستشهاد بها

ومنها : ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

« عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه‌السلام يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) إمسح عليه » (٢).

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٢ باب « الجبائر والقروح والجراحات » ـ ح ٤ ، الوسائل : ج ١ / ٤٦٤ باب « أجزاء المسح على الجبائر في الوضوء » ـ ح ٥.


والتقريب : أن الإمام عليه‌السلام أحال الجواب عن حكم المسألة وبيانه إلى الآية الشريفة وأنه يعرف منها. ومعلوم أن معرفته منها مبنيّة على عدم كون تعسّر الشرط موجبا لسقوط المشروط : بأن يكون المنفي بسبب الحرج خصوص مباشرة اليد الماسحة لبشرة الرّجل ، فلا ينتفي بانتفائه أصل المسح المستفاد من آية الوضوء فيمسح على المرارة ؛ إذ لولاه لم يكن معرفة حكم المسح على المرارة من آية نفي الحرج ؛ لأنّها في ظاهر النظر يدلّ على سقوط المعسور وهو المسح على البشرة ، ولا يدلّ على ثبوت المسح ، فيحتاج إثبات المسح على المرارة إلى دليل آخر غير آية نفي الحرج.

والقول : بأن الإمام عليه‌السلام إنما أحال سقوط المسح على البشرة إلى الآية وأنه يستفاد منها ولا يحتاج إلى السؤال ، وأمّا وجوب المسح على المرارة فإنّما هو منه عليه‌السلام وليس مما يدلّ عليه الآية الشريفة فاسد.

لأن السؤال إنما هو عن تمام كيفية الوضوء لا عن خصوص ثبوت المسح على البشرة وسقوطه ـ فتدبّر ـ فإذا دلّ على ثبوت المشروط مع سقوط شرطه بالتعسّر دل على حكم المقام أيضا ؛ نظرا إلى ما عرفت في تقريب دلالة الرواية الثانية هذا.

وقد نوقش فيها : تارة من حيث السند سيّما ما في « العوالي » وقد طعن


صاحب « الحدائق » فيه وفي صاحبه (١) ، وإن كان طعنه مطعونا : بأنه من وجوه أصحابنا وكونه متكلّما لا ينافي وثاقته مع أن ضعف أسنادها على تقدير تسليمه مجبور بعمل الأصحاب من غير نكير بينهم ، بل بلغ من الاشتهار أمرها حتى يعرفها العوام والنسوان. وكيف كان : لا ينبغي الإشكال فيها من حيث السند.

وأخرى : من حيث الدلالة ، أما في النّبوي فيما حكاه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » وأن الردّ إلى المشيّة لا يدلّ على الوجوب.

نقل كلام الفصول وما يرد عليه

قال في « الفصول » ـ في بحث التكلّم عن حقيقة الأمر من حيث كونها الوجوب أو الندب أو القدر المشترك بينهما في ردّ من استدل بالنبوي على كونها حقيقة في الندب بعد جملة كلام له ـ ما هذا لفظه :

« أقول : ولو سلّم أن الاستطاعة حقيقة في المشيّة أيضا فكلمة « ما » في الرواية : إمّا أن تكون وقتية ، أو موصولة ، أو موصوفة. وعلى التقديرين الأخيرين :

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ١ / ٩٣ وكذا ج ٧ / ١٦٧.

« أقول : والإنصاف ان الحق مع صاحب الحدائق رحمه‌الله خصوصا وأنها لا سند لها حتى يكون ضعيفا فهي مجرد مراسيل أرسلت في القرون المتأخّرة ، وشهرتها حتى عند العوام لا يؤثّر في اعتبارها إذ هي شهرة متأخّرة منقطعة لا قيمة لها وهذا بمثابة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى التنبيه فصدوره من مثله غريب ».


إما أن يراد بها الفرد ، أو الجزء. وعلى التقادير : إما أن يكون المراد بالاستطاعة : القدرة ، أو المشيّة. فالاحتمالات عشرة ، وإن كان صدر الرواية كما سنذكره في مبحث التكرار لا يلائم البعض ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« مع أن سند الرواية غير معتبر ، فلا يصحّ الاعتماد عليه (١) ». انتهى كلامه في هذا المقام.

وقال في مبحث التكرار من مباحث الأمر ـ في الاستدلال على أن الأمر للتكرار بعد ذكر الدليل الأوّل والجواب عنه ـ ما هذا لفظه :

« الثاني : قوله عليه‌السلام : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (٢) فإن المراد ما دمتم مستطيعين لا الذي استطعتم ، أو شيئا استطعتم منه ، سواء فسر بالفرد ، أو بالقدر بمعنى الأجزاء. وذلك لشهادة ما قبله على ما روي : من أنه خطب رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن الله كتب عليكم الحجّ فقام عكّاشة ويروى سراقة بن مالك فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثا. فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ لو قلت لقضيت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٧.

(٢) تقدّم تخريجه.


واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) (١).

ولا يقال : « إذا » من أداة الإهمال والتكرار في البعض مما لا كلام فيه ... إلى آخر ما ذكره ) (٢).

أقول : لا ينبغي الإشكال في أن الظاهر من « الشيء » بقرينة قوله : « منه » الظاهر في التبعيض خصوص المركّب ولو حمل على الأعمّ مما له أفراد أو أجزاء لم يناف المدّعى جدّا وكلمة « ما » ظاهرة في الموصولة ، أو الموصوفة. وجعله ظرفا بعيد جدّا ، والردّ إلى الاستطاعة ظاهر في القدرة لا المشيّة.

نعم ، صدر الرواية على ما رواه في « الفصول » ربّما يوهن الاستدلال ، اللهم إلاّ أن يجعل كلّ جزء موردا للأمر فيجعل إذن « من » بمعنى الباء ، أو زائدة. وعلى كلّ تقدير : يتم الاستدلال ؛ لأن المقدور من الأجزاء كان موردا لأمر النبيّ فيجب الإتيان به فتأمل.

ثمّ إن الالتزام بالتخصيص في الرواية بإخراج ما لا يجري فيه القاعدة

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ج ٧ / ١١١ باختلاف يسير وكذا الدر المنثور للسيوطي : ج ٢ / ٣٣٥ وأوردها الطبرسي في مجمع البيان : ج ٣ / ٤٢٨ بألفاظها وأنظر تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي : ج ١ / ٤٢٤.

(٢) الفصول الغرويّة : ٧٤.


إجماعا كما في كثير من الموارد لا ينافي الاستدلال بظاهرها بالنسبة إلى محل الشكّ كما هو ظاهر لا سترة فيه.

ثمّ إن ظاهر الأمر حسبما حققناه في محلّه : الوجوب مع أن رجحان الإتيان يكفي في المقام قطعا ؛ إذ لم يقل أحد بكونه مندوبا. ومن هنا يعلم : أنه على تقدير حمل الأمر الواقع في حيّز الشرط على الأعم من الوجوب والندب لكي يستفاد منه حكم المستحبّات ـ وإن كان خارجا عن محل البحث ـ يمكن استفادة حكم المقام منه بملاحظة الخارج لا من نفس الرواية ؛ ضرورة عدم دلالة العامّ على الخاص بعنوانه كما هو ظاهر هذا.

وأمّا في العلوي الأول فيما حكاه شيخنا قدس‌سره ملخّصا عن « الفصول » والأولى نقل كلامه بألفاظه : قال قدس‌سره في مسألة اقتضاء الموقّت إيجاب الفعل في خارجه ـ بعد جملة كلام له والاستدلال للقول بالاقتضاء للنّبوي والعلويّ والجواب عن النّبوي بما عرفت حاصله ـ ما هذا لفظه :

« وأمّا عن الثانية : فبأن الظاهر من نفي السقوط نفي سقوط الحكم السابق ، فيكون المراد من الميسور الواجب الميسور أو فرده ، وكذا المعسور دون جزئه ، أو ما بحكمه إذا لم يجب مستقلاّ ، فيكون الرواية واردة على حسب الضابطة ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال ولو سلّم تناوله للجزء وما بحكمه فلا اختصاص له بالواجب ، فيتعيّن حمل عدم سقوطه على الأعمّ من الوجوب والندب أعني : مطلق المطلوبيّة ليستقيم في المندوب فلا يدلّ على الوجوب في الواجب ، ومع


ذلك ينافيه لفظ السقوط ؛ فإنّ مقتضى نفيه بقاء الحكم السابق لا حدوثه غالبا ولا سبيل إلى حمله على عدم سقوط حكمه السّابق من مطلوبيّته مقيّدا أو في ضمن الكل أو للكلّ ؛ لأنّ ذلك مقطوع السقوط.

أمّا الأوّلان : فواضح ، وأما الثالث : فلما نبّهنا عليه في مبحث المقدّمة : من أن وجوب المقدّمة بدون وجوب ذيها غير معقول ، مع أنه لا يفيد مقصود المستدلّ.

ومن هنا تبيّن وجه التفريع على الظهور الذي ادّعيناه أوّلا. نعم ، للخصم أن يتفصّى عن الإشكال الأوّل : بعدم القول بالفصل ؛ فإن من قال برجحان قضاء الواجب قال بوجوبه ، وعن الثاني : بجعل نفي السقوط بمعنى عدم خلوّه عن مثل الحكم السابق ؛ لأنه أقرب المجازات إلى نفي السقوط أو يمنع سقوط أصل الحكم السابق وإن سقط كيفيّته ولو على حسب متفاهم العرف ، ولا يخفى ما فيهما من التكلّف المستغني عنه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلا : أن الظاهر من الرواية على ما عرفت الإنشاء وحمل عدم السقوط على نفس الميسور كما هو ظاهر. مضافا إلى أن الحمل على الإنشاء لا يجامع الحمل على الحكم عقلا كما هو ظاهر. ومن هنا يظهر : عدم إمكان حمل الرواية على المعنى الأعمّ الشامل للأفعال المستقلّة إلاّ بجعل فائدته التأكيد بالنسبة إليها لدفع توهم السقوط ، والظاهر من الإنشاء الوجوب على ما بيّن في

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١١٥.


محلّه : من أن القضايا الجزئية المحمولة على الإنشاء ظاهرة في الطلب الإلزامي ، مع أنه على تقدير الحمل على مطلق الرجحان يكفي في إثبات المدّعى بضميمة عدم القول بالفصل.

وممّا ذكرنا يظهر : توجّه كلام على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بعد حمل الرواية على ما ذكرنا بقوله : « وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى : جريان الإيراد المذكور على تقدير تعلق (١) السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن يقال : إن سقوط المقدّمة لمّا كان لازما لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر لا بد أن يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب ؛ لدفع توهّم السقوط الناشىء عن إيجابها بخطاب واحد » (٢) ضرورة أن التلازم إنّما هو بين الحكمين ، وليس المدّعى بعد حمل الرواية على الإنشاء كون المقدور من المركّب واجبا بالوجوب الغيري ، أو واجبا بالوجوب النفسي : من حيث كونه مقدّمة ، فكلّ من الإيراد والدفع ساقط لا تعلّق له على هذا المعنى.

كما أنّه يظهر فساد ما سبق إلى بعض الأوهام من طلبة عصرنا : من أن حمل عدم السقوط على الميسور لما كان كذبا فلا بد أن يحمل على حكمه بدلالة

__________________

(١) وفي نسخة من الفرائد : على تقدير عدم السقوط ... إلى آخره ، أنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٢.

(٢) نفس المصدر.


الاقتضاء ، كما في حديث الرفع ؛ فإنه بعد الحمل على الإنشاء لا وقع للتوهّم المذكور أصلا كما لا يخفى.

نعم ، التعبير بعدم السقوط فيه إشعار بثبوت ما حكم بعدم سقوطه في السابق ويكفي فيه كونه مطلوبا في السابق وعند التمكّن من الجميع في الجملة ، ولا يلزم أن يكون محكوما في السابق بما هو من جنس الحكم اللاحق ومن سنخه كما هو ظاهر.

وثانيا : أنه على تقدير الحمل على الإخبار عن بقاء الحكم السابق يمكن جعل المخبر به الوجوب الجامع القدر المشترك ، وإن كان تحقّقه في اللاحق في ضمن الوجوب النفسي على ما عرفت في توجيه الاستصحاب ، ولا يحتاج على هذا إلى ارتكاب تكلف المسامحة العرفيّة حتى يطالب بدليل كفايته ، أو نمنع منها كما ارتكبه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فتأمل.

ثمّ إن الإخبار عن بقاء الحكم السابق وعدم سقوطه لمّا كان في معنى الإخبار عن وجوده الإنشائي في مرحلة الواقع والنفس الأمر فلا محالة يستلزم الإخبار عن تحقّقه في ضمن الوجوب النفسي فيكشف عن إنشائه ، وليس مثله مثل الاستصحاب ، حتى يقال : بأن إنشاء الكلي في مرحلة الظاهر لا يثبت إنشاء الجزئي فيجمع بين الحكم بثبوت الكلّي والحكم بعدم فرده ظاهرا فتدبّر.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أن حمل الرّواية على الإخبار موجب لشمول الواجب والمستحبّ ، ففي الواجب إخبار عن بقاء وجوبه وفي المستحبّ إخبار


عن بقاء استحبابه وليس فيه محذور أصلا ، فما ذكره في « الفصول » : من أنه على تقدير شمول الرواية للجزء لا تدلّ على بقاء الوجوب في الواجب مع حملها على الإخبار ، كما ترى.

وأمّا في العلويّ الثاني فبأمور :

أحدها : أنه جملة خبريّة لا صارف لها عن معنى الإخبار في المقام فيحمل على الحكاية عمّا عليه بناء الناس.

وفيه ما فيه : من كمال بعده عن طريقة الشارع سيّما في المقام ، خصوصا مع لزوم الكذب ؛ فإن المقامات مختلفة عندهم ، فلا بدّ أن يحمل القضيّة على المهملة.

ثانيها : أنه بعد الحمل على الإنشاء لا دليل على ظهوره في خصوص الإلزام ، سلّمنا ظهوره في نفسه فيه ، إلاّ أنه لا يمكن الأخذ بظاهره ؛ لأن الموصول أعمّ من المستحبّات ، فلا بدّ أن يحمل على إرادة مطلق الطلب فلا يثبت المدّعى ، وإخراج المستحبّات لا دليل عليه. وهذا هو المراد بقوله في « الكتاب » : « مع أنه لو أريد منها الحرمة لزم مخالفته الظاهر فيها » (١) (٢) فإن المراد منه هو الظهور في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٣.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« يعني لو سلّم ظهور الجملة الخبريّة في الحرمة للزم إرتكاب مخالفة الظاهر فيها في المقام » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٧٧.


إرادة الحرمة نوعا لا الإرادة فعلا ، وإلاّ لم يجامع قوله بعده كما هو ظاهر.

وفيه : أن القرينة على إرادة الواجبات قوله : « لا يترك » بعد تسليم ظهوره في الحرمة ؛ ضرورة حكومة ظهور المحمول على ظهور الموضوع. ومن هنا يلتزم بأن الموصول متخصّص بما يكون مطلوبا للشارع ، ولا يكون خروج المباحات والمكروهات والمحرمات على وجه التخصيص ، فيكون الأمر بالنسبة إلى المستحبّ كذلك هذا. مع أن ثبوت الرجحان كاف بعد ملاحظة عدم الفصل.

ثالثها : أنه لا دليل على إرادة الفعل المركب من الموصول فلعلّ المراد الأفعال المستقلّة المطلوبة بخطاب واحد بل هو المتعيّن ؛ نظرا إلى ظهور لفظ الكلّ في العموم الأفرادي لا المجموعي ، فيكون المراد : أن الأفعال المستقلّة التي لا يدرك كل واحد منها بل يدرك بعضها دون بعض لا يترك كلّها أي : جميعها ، بل يجب الإتيان بما يمكن إدراكه ، فلا تعلّق للحديث بالمقام أصلا.

وفيه : أنه لا شاهد لرفع اليد عن عموم الموصول ولا صارف له أصلا ؛ إذ

__________________

* وقال السيد المحقق اللاري قدس‌سره :

« لا يخفى أن بين إرادة الحرمة والحمل على مطلق المرجوحيّة تهافت ناشيء عن التسامح في نقل عبارة المورد في العوائد وهي : « لو قلنا بدلالته على الحرمة ... إلى آخره » [ العائدة :

٢٧ ].

ولا منافاة بين الدلالة والحمل على المرجوحيّة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ٤٥٢.


السلب متعلّق بالمقام بالعموم على كلّ تقدير ؛ إذ لا يمكن إرادة عموم السلب فالمسلوب سواء كان الموضوع هو الفعل المركّب ، أو خصوص الأفعال ، أو الأعم هو المجموع لا محالة ، فالمراد : أن ما لا يدرك مجموعه على وجه العموم لا يترك رأسا ، بل يجب الإتيان بما أمكن منه فتدبّر.

وأمّا في الرابع ، أي : رواية عبد الأعلى ؛ فإن المستفاد بحكم متفاهم العرف من الآية الشريفة وغيرها ممّا دلّ على نفي الحكم الحرجي : هو مجرّد النّفي لا الإثبات ، وليس المستفاد من آية الوضوء كون المسح مطلوبا ووقوعه على البشرة مطلوبا آخر ، فكيف يمكن استفادة الحكم الإثباتي من الآية الشريفة حتى يرجع الإمام عليه‌السلام إليها فيها؟ فلا بد أن يكون المراد عرفان سقوط المسح على البشرة ، وأمّا عرفان ثبوت المسح على المرارة فلا بدّ أن يكون بإنشاء الإمام عليه‌السلام وإن كان خلاف ظاهره في باديء النظر ، فلا تدلّ الرواية على الضّابطة والكليّة المدعاة : من إثبات المشروط بعد تعذّر شرطه أو المركّب بعد تعذّر بعض أجزائه.

وفيه : أن المستفاد من الرواية المفروغيّة والتسالم سؤالا وجوابا عن عدم سقوط الوضوء بتعذّر المسح ، وهذا المقدار كاف في إثبات المدعى ؛ لأن الوضوء مركّب فتأمّل.

(٦٢) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ الرواية الأولى والثانية ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٩٤ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بمطالبة وجه المناط ، مضافا إلى عدم عموم في تحرير المسألة والتزام باتحاد الحكم فتدبّر.


وأمّا الرواية الثانية : فهي متكفّلة لبيان حكم العبادات المستحبّة عند تعذّر بعض أجزائها أو شرائطها على تقدير حملها على الأخبار ، وأمّا على تقدير حملها على الإنشاء كما استظهره قدس‌سره فسبيلها سبيل الروايتين كما هو ظاهر.

(٦٣) قوله قدس‌سره : ( فنقول : إن الأصل فيها ما مرّ في الأجزاء ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٩٥ )

أقول : لا يخفى عليك أن حق التحرير في المقام أن يقول : إن الأصل فيها ما مرّ : من الرجوع إلى البراءة أو الاستصحاب على الوجهين ، فيرجع إليه إذا لم يكن لدليل المشروط إطلاق يرجع إليه ، أو كان له إطلاق لا يرجع إليه من جهة إطلاق دليل الشرط ، فإنه لا يرجع إلى الأصل في الصورتين ؛ فإن ما أفاده بقوله : « من كون (١) دليل الشرط ... إلى آخره ) (٢) لا يمكن أن يجعل بيانا للأصل ، إلاّ أن يجعل المراد من الأصل الأصل الثانوي المستفاد من دليل المشروط فلا بدّ أن يعتدّ بالأصل الثانوي.

(٦٤) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الثانية ، فلاختصاصها كما عرفت سابقا ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٩٥ )

أقول : قد عرفت : أن الثبوت في الجملة كاف في صدق الرواية بناء على حملها على الإنشاء والمشروط كان واجبا عند التمكّن من شرطه بالوجوب

__________________

(١) كذا والصحيح : ( من أن دليل الشرط ... إلى آخره ).

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٥.


الغيري أو القدر المشترك ، وإن كان واجبا بالوجوب النفسي من حيث كونه مشروطا وهذا المقدار كاف ، مع أنه لم يعلم المراد من الاختصاص الذي أفاده.

فإن كان المراد من المقتضي للثبوت : هو الدليل عليه ، فلا بدّ من أن يحمل الرواية على ما إذا كان لدليل المشروط ظهور : من عموم أو إطلاق يقتضي ثبوته مع تعذّر الشرط بشرط عدم ظهور الدليل الشرط يقتضي شرطيّته مع التعذّر أيضا.

وإن كان المراد منه : المصلحة المقتضية لإيجابه مع تعذّر الشرط ، فلا يعلم به مع قطع النظر عن إعلام الشارع حتّى في تعذّر الجزء كما هو ظاهر.

وإن كان المراد منه : ما أرادوا منه في باب الاستصحاب : من اختصاصه عند جمع من المحققين ، منهم : شيخنا قدس‌سره بما إذا كان المقتضي موجودا في الزمان اللاّحق ووقع الشكّ في بقاء المستصحب : من جهة الشكّ في رافعه.

ففيه : أن المقتضي بهذا المعنى غير متحقّق حتى في تعذّر الجزء.

وإن كان المراد : اتحاد ما حكم بثبوته سابقا ولاحقا ، فإن أريد الإتّحاد بحسب الدقّة العقليّة فهو غير متحقّق في المقامين مع ملاحظة اعتبار المتعذّر في السابق ، وإن أريد بالإتّحاد بحسب العرف ولو مسامحة فهو غير مطّرد في الموضعين ، وهذا هو المراد ظاهرا كما يكشف عنه قوله : « ولكن الإنصاف جريانها في بعض الشروط ... إلى آخر ما أفاده » (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٥ ، أقول : وللمحقق الهمداني هنا تعليقة لا تخلو من فائدة ، أنظر


(٦٥) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الرياض ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٩٦ )

نقل كلام صاحب الرّياض وما يرد عليه

أقول : لا بدّ من نقل كلام السيّد قدس‌سره في « الرياض » حتى يبيّن مرامه ، ويظهر توجّه ما أفاده شيخنا قدس‌سره عليه وعدمه ، قال فيه ـ ما هذا لفظه ـ :

« ولو تعذّر السدر والكافور كفت المرّة بالقراح عند المصنّف وجماعة ؛ لفقد

__________________

حاشيته على الفرائد : ٢٧٩.

(١) قال المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« يعني مما ذكرنا من الفرق في المشروط ـ بين ما كان الفاقد للشرط هو الواجد له بالمسامحة العرفيّة كالصّلاة الفاقدة للساتر بالنسبة إلى الواجدة له فيجري فيه قاعدة الميسور وبين ما كان الفاقد له مباينا للواجد حتى في نظر العرف كالرّقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ؛ فإنهما أمران متباينان ولا يكون مما يتسامح فيه العرف ، فلا يجري فيه القاعدة ـ يظهر ما في كلام صاحب الرّياض حيث بنى وجوب غسل الميّت بماء القراح بدل ماء السدر عند تعذّره على ماء السدر الذي تعلّق به الحكم هو من قبيل المركّب الخارجي فيجب الغسل بماء القراح بقاعدة الميسور ، أو من قبيل التقييد فلا يجري فيه القاعدة أيضا ، لأنه ممّا يتسامح فيه العرف ، فيكون الماء القراح ميسور ماء السدر ، ولا يذهب عليك ان هذا كلام على ما فهمه من الكلام وفيه الف كلام » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّي : ٢٩٦.


المأمور به بفقد جزئه ، وهو كذلك إذا دلت الأخبار على الأمر بالمركب وليس كذلك لدلالة أكثرها وفيها الصحيح وغيره على الأمر بتغسيله بماء وسدر ، فالمأمور به شيئان متمايزان وإن امتزجا في الخارج ، وليس الاعتماد في إيجاب الخليطين على ما دل على الأمر بتغسيله بماء السدر خاصّة حتى يرتفع الأمر بارتفاع المضاف إليه ، وبعد تسليمه لا نسلّم فوات الكلّ بفوات جزئه بعد قيام المعتبرة بإتيان الميسور وعدم سقوطه بالمعسور » (١) (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل ج ٢ / ١٥٣ ط جماعة المدرسين وج ١ / ٣٦٤ ط آل البيت.

(٢) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« وظاهره على ما لا يخفى انه بنى أوّلا وجوب الغسل بالماء القراح بدل ماء السدر ، على ان الواجب هاهنا أمران مستقلاّن حيث تغسيله في الأخبار بشيئين :

الماء والسدر ، وليس من قبيل ما إذا كان الواجب أمرا مركّبا بفقد جزءه ثم منع على تقدير تسليمه ذلك من فقدان المركّب بفقدان جزءه لمكان قاعدة الميسور ولا يخفى انه لا يرد عليه إلاّ ان توهّمه ان الواجب في الأمر بالتغسيل بالماء والسدر شيئان فاسد ؛ فإن الواجب ليس إلاّ شيئا واحدا وهو الغسل ، ومتعلّقه أيضا واحد مقيد أو مركّب من شيئين ممتزجين.

نعم ، لو كان مفاد قوله عليه‌السلام : « إغسله بماء وسدر » إغسله بماء واغسله بسدر كان الواجب شيئين وليس كما هو واضح ، ومن المعلوم انه لا مدخليّة في توجيه ذلك عليه ، لما حقّقه في قاعدة الميسور من جريانها في الأجزاء والشرائط وعدم اختصاصها بالواجبات المتعدّدة


وأنت خبير : بأن ظاهره كون التكليف بجعل السدر في الماء أو الكافور فيه

__________________

التي جمعها خطاب واحد ، أو مع عمومها للمركّب من أجزاء خارجيّة حسب ما لا يخفى على المتأمل ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٦٩.

* وقال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« وفيه : انه لا فرق بين العبارتين ، أي : بين ان يقال : « إغسله بماء السدر » وبين « إغسله بماء وسدر » أو « ليكن في الماء شيء من السدر » ؛ لأن التكليف بإدخال السدر إمّا نفسي أو مقدّمي لأجل التوصّل بحصول الغسل بماء السدر أو إرشادي إلى أنّ المراد من الأمر بالغسل المطلق هو المقيّد بماء السدر والأوّل باطل ؛ لاستلزامه إجزاء الغسل بماء القراح بدلا عن الخليط ، وإن عصى بترك الخليط عند التمكّن منه ـ كما هو الشأن في سائر التكاليف النفسيّة المستقلّة ؛ حيث انّ ترك أحدها لا يقدح في امتثال الآخر ، بل واستلزامه إجزاء القاء السدر والكافور على الميّت عند تعذّر الماء ، بل وعند التمكّن منه ـ غاية الأمر تحقّق العصيان مع الإمكان ـ واللوازم كلّها باطلة ، فالملزوم مثلها ، وعلى الأخيرين يكون المكلّف به واحدا لا متعدّدا على كلّ من عبارتي الغسل بماء السدر والغسل بماء وسدر.

ويمكن الجواب عن بطلان اللوازم المذكورة : بانه من مقتضى الدليل الخارج فلا يقتضى بطلان اللازم بطلان الملزوم ؛ ضرورة الفرق الواضح بين خواص الغسل بالماء القراح وبالقاء السدر والكافور على الميّت ، فمطلوبيّة الغسل بالماء القراح نفسا لا يستلزم مطلوبيّة السدر والكافور نفسا وعدم مطلوبيّة السدر والكافور وحده لا يستلزم عدم مطلوبيّة الماء القراح وحده » إنتهى. أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ٤٥٣.

* أقول : وللمحقق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي هنا تعليق طويل لا بد من اغتنام مراجعته أنظر أوثق الوسائل : ٣٩١ ـ ٣٩٢.


تكليفا مستقلاّ لا أن يكون تكليفا غيريّا متعلّقا بجزء المركب المأمور به ، فإذا تعذّر امتثال أحد التكليفين لم يسقط التكليف الآخر.

وهو كما ترى ، لا تعلّق له بما حكاه شيخنا قدس‌سره عنه واستفاده من كلامه ؛ فإنه في مقام الردّ على المصنف وجماعة القائلين : بأن الغسل بماء السدر من التكليف بالمركّب فقد تعذّر جزؤه فينتفي أصل التكليف ، وهو كما عرفت صريح في ذلك سيّما بملاحظة قوله : « وبعد تسليمه ... إلى آخره » (١).

والالتزام في المقام بالتكليفين المستقلين وإن كان بعيدا بل خلاف إجماعهم ظاهرا. مضافا إلى عدم إمكان الأمر بالغسل بالسدر مستقلاّ ؛ لعدم إمكان تحقّق مفهوم الغسل بدون الماء ، إلاّ أن كلامه قدس‌سره كالصريح في ذلك إن أغمضنا عن صراحته فيه ، وليس في كلامه كما ترى احتمال التقييد في قبال الجزئيّة على تقدير تسليمه ، بل هو صريح في الجزئيّة كما يستفاد من قوله : ( وبعد تسليمه ... إلى آخره ) (٢).

فهو يسلّم عدم الدليل على الغسل بماء القراح بدل السدر لو لا المعتبرة ، والأمر كذلك ؛ لعدم ثبوت الجزئيّة من الدليل الخارج حتى تفرض هناك مطلق ومقيّد يعتبر تقييده بحال التمكّن ويرجع إلى المطلق عند تعذّره ، بل التقييد استفيد

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.


من نفس الأمر الوارد بالغسل بالماء ، فلا يفرض هناك إطلاق حتى يتوجّه عليه : أن الأمر بالمقيّد لما كان غيريّا فاختصاصه بحال التمكّن يكشف عن اختصاص الأمر بذي المقدّمة بحال التمكن أيضا ، وإن كان أمره مطلقا وفرض الأمر بالمقدّمة مفاد الدليل الخارجي فلا يبقى مطلق حتى يرجع إليه من غير فرق بين كون المقدّمة جزءا أو شرطا.

فما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : « ودعوى : أنه من المقيّد (١) ... » (٢) لا تعلّق له بكلامه ؛ لأنه صريح في تسليم حصر الدليل على تقدير التركيب أو التقييد في المعتبرة. مع أن ما أفاده قدس‌سره محلّ مناقشة لما عرفت سابقا : من تعيّن الرجوع إلى الأمر بالمركّب والمشروط إذا فرض لهما إطلاق معتبر وكان دليل الجزء والشرط المتعذّرين من مقولة التكليف الغيري.

فإنه إن أريد من الأمر بذي المقدّمة ـ المختص بحال التمكّن بعد اختصاص الأمر بالمقدّمة ـ هو الأمر بالمشروط مع الشرط المتعذّر أو الأمر بالمركب من الجزء المتعذّر فلا كلام فيه أصلا.

وإن أريد منه الأمر النفسي بقول مطلق ولو كان متعلّقه المركب الخالي عن

__________________

(١) قال الشيخ المحقق الكرماني قدس‌سره :

« يعني من التركيب العقلي الإشتراطي لا الخارجي الإنضمامي » إنتهى.

الفرائد المحشى : ٢٩٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٦.


الجزء المتعذّر ، أو ذات المشروط بدون شرطه المتعذّر ، فلا يكشف الأمر الغيري المختصّ بحال التمكّن عن انتفاء الأمر المذكور أصلا ؛ لعدم ارتباط بينهما ، وهو مع كمال وضوحه قد تقدّم شرح القول فيه فراجع إليه.

فظهر مما ذكرنا كله : أن كلاّ مما أفاده السيّد وشيخنا قدس‌سرهما محل مناقشة ونظر ، إلاّ أن النظر في كلام السيّد ليس ما ناقشه شيخنا في « الكتاب » والله الموفق للصّواب.

(٦٦) قوله قدس‌سره : ( لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٩٨ )

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : دوران الأمر بين ترك الجزء والشرط يتصوّر على صور :

منها : ما لو دار الأمر بين ترك جزء من المركّب أو ما هو شرط في جزء آخر كما لو دار الأمر بين ترك السورة في الصلاة أو ترك الطمأنينة في الرّكوع.

ومنها : ما لو دار الأمر بين ترك جزء أو ترك ما هو شرط في جميع أجزاء المركّب ، كما لو دار الأمر بين ترك السورة أو الطهارة أو الإستقبال أو الستر أو غيرها من الشرائط المعتبرة في الصّلاة واتحاد المجلس في زيارة عاشوراء على القول باعتباره من هذا القبيل.

ومنها : ما لو دار الأمر بين ترك جزء أو الشرط المعتبر في نفس هذا الجزء كما لو دار الأمر بين ترك السورة رأسا أو ايجادها بدون شرطها المعتبر في صحّتها.

ولا يخفى عليك أنّ الأولويّة التي ادّعاها ترجيحا لتقديم ترك الشرط على ترك الجزء إنّما


لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره من وجه تقديم ترك الشرط : بأن ملاحظة الوصف في مقام الأمر والحكم وإن كانت متأخّرة عن ملاحظة الموصوف إلاّ أن ترك الجزء لا يوجب خلوّ الوصف عن الموصوف ، فلا بدّ في الحكم بالتقديم من التماس دليل على الأهميّة في نظر الشارع قرب شرط يكون أهمّ في نظره الشريف المقدّس الأعلى من الجزء كما وقع في الشرعيّات في الجملة عن الموصوف ، وفيما لم يقم دليل على الأهميّة وكان احتمالها في كلّ منهما متطرّقا على وجه التسوية يحكم بالتخيير فافهم.

(٦٧) قوله قدس‌سره : ( ويدلّ عليه : رواية عبد الأعلى المتقدّمة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٣٩٨ )

__________________

هي في الصورة الأخيرة لا غير ؛ لأن حكم العقل بالأولويّة فرع إحراز المصلحة في فاقد الشرط وعدم ترتّب مفسدة فائقة على ما يترتّب على ترك الجزء ، مع انه لا طريق للعقل إلى ذلك ، والأدلّة الشرعيّة لا تساعد على إثباته ، فالمتعيّن هو التخيير لو لم يعلم من الشارع أهميّة أحدهما كالطهارة في الصلاة وإلاّ فالأهم مقدّم.

وأمّا الصورة الأخيرة فهي أجنبيّة عن موضوع هذه المسألة ؛ لأن الدوران إنّما هو بين ترك الجزء رأسا وإيجاده بلا شرط فهي من جزئيّات المسألة السابقة التي عرفت حكمها » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٧٩.


أقول : لا يخفى عليك أن جميع ما دل على مشروعيّة الناقص والأمر به حاكم على دليل البدل ـ من غير فرق بين إطلاق دليل العبارة فيما كان له إطلاق ولم يكن لدليل المتعذّر إطلاق والأخبار الأربعة المتقدّمة ـ وهو أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

* * *


التنبيه الثالث :

(٦٨) قوله قدس‌سره : ( لو دار الأمر بين الشرطية والجزئية ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٣٩٩ )

في دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة

أقول : لا إشكال فيما أفاده : من عدم وجود أصل كلي يقتضي الجزئيّة أو الشرطيّة عند الدوران حتى يكون مرجعا عند الشك ، كما أنه لا إشكال فيما أفاده : من تعيّن الرجوع إلى الأصل في الآثار المترتبة على كل واحد فيما كان على خلاف الأصل ولم يلزم من الرجوع إليه مخالفة قطعيّة عمليّة.

فلو قلنا : بأن الرياء في الجزء مبطل للعمل دون الشرط لم يحكم بإبطالها في الفرض ، وكذا إذا تحقق مجامعا لمحرّم كالنّصب مثلا لم يحكم بالبطلان بناء على ما

__________________

(١) قال المحقق الكرماني قدس‌سره :

« كما اذا شككنا مثلا في ان الإستقبال جزء للصّلاة أو شرط للشك في ان الصّلاة هل هي مركبة من أمور : أحدها تحويل الوجه نحو القبلة ، أو مركّبة من أمور يكون فعلها في حال كون الوجه نحو القبلة ، فعلى الأوّل جزء وعلى الثاني شرط.

ويظهر الثمرة في الأحكام المختصّة دون المشتركة وكذا النذر وشبهه » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّي : ٢٩٧.


عرفت : من توصّليّة الشرط اللهم إلاّ أن يقال : إنه يجب على المكلف بعد العلم بالاعتبار والشكّ في المعتبر تحصيل العلم بإحراز ما كلّف به ، فلا بد أن يعامل معاملة الجزء حتى يحصل البراءة اليقينيّة فتأمّل.

إنّما الكلام في المقام في تصوّر الدوران مع أن الجزء من مقولة الفعل والكمّ ، والشرط من مقولة الكيف والوصف ، ولا بد في تصويره من أن يكون للأمر المعتبر في المأمور به جهتان : جهة فعل ، وجهة حالة حاصلة من الفعل المفروض ، فلا يعلم أن المعتبر الفعل المبدأ للحالة أو نفس الحالة المحصّلة منه.

ألا ترى أن الشرط في مسألة القبلة مثلا هو مواجهة المصلّي وإن كانت حاصلة من التوجيه والاستقبال؟ وكذا في الساتر يكون الستر هو تسترّ العورة وإن كان حاصلا من الستر الذي هو من مقولة الفعل؟ وهكذا الأمر في سائر الشروط ، كالطهارة الحاصلة من الغسل في الطهارة الخبثيّة ، والحاصلة من الوضوء والغسل في الطهارة الحدثيّة.


التنبيه الرّابع

(٦٩) قوله قدس‌سره : ( الأمر الرابع : لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٠٠ )

دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة

أقول : لا يخفى عليك أن في دوران الأمر بين الشرطية والمانعيّة كما في المثالين الأولين المذكورين في « الكتاب » ، أو الجزئية والمانعيّة وجوها.

والمثال الثالث في « الكتاب » للدوران الثاني ؛ حيث إنه بعد الالتفات بالشكّ وتدارك المشكوك كما يحتمل كونه جزءا يحتمل كونه زيادة مبطلة بناء على تردّد الفقيه في جريان قاعدة حكم الشك بعد التجاوز في المثال : من حيث تردّده بين كون القراءة الشاملة للحمد والسورة فعلا واحدا ، فيكون الشكّ في الحمد بعد الدخول في السورة من الشكّ قبل التجاوز وقبل الدخول في الغير ، أو كون كلّ منهما فعلا فيكون الشكّ المزبور من الشكّ بعد التجاوز والشكّ في الشيء بعد الدخول في غيره.

وأولى منه في التمثيل ما إذا شكّ في آية من آيات الحمد أو السّورة بعد الدخول في آية أخرى ، كما أن الأظهر منهما : ما إذا شكّ في كلمة من آية بعد


الدخول في كلمة أخرى ؛ فإنه بناء على الاعتبار باستقلال العقل وإناطة حكم التجاوز يكون الغير المعتبر دخوله من الأفعال المستقلّة للصّلاة لا بدّ من الالتفات بالشكّ ، وهذا بخلاف الشك في الحمد بعد الدخول في السورة ؛ فإنه يمكن جعل السورة فعلا للصلاة في قبال الحمد وإن وقع التعبير عنهما بالقراءة كما ستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الثالث من التعليقة.

وإن كان الأولى بل المتعيّن التمثيل بالجزء الذي لا يجوز الإتيان به بغير عنوان الجزئيّة في الصّلاة ، كما إذا شكّ في السجود أو السجدة بعد النهوض للقيام بناء على عدم الجزم بأحد القولين في المسألة ، وأما المثال المذكور فليس أمره دائرا بين الجزئيّة والزيادة المبطلة ؛ لأن الإتيان بالحمد بقصد الجزئيّة والأمر المتعلّق بالجزء لا يمكن مع الشكّ والتردّد بعنوان الاحتياط ، والقربة المطلقة لا يحتمل المانعية ولو على القول بعدم الالتفات بالشكّ ؛ فإن الحكم عنده ترخيص لا عزيمة في مقابل الاحتياط فتأمّل. ولعلّنا نتكلّم في تحقيق الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الثالث من التعليقة عند البحث في حكم تعارض القاعدة مع الاستصحاب (١).

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ١٩٥.


الوجوه المحتملة عند دوران الأمر

بين الشرطيّة والجزئيّة

أحدها : الرجوع إلى البراءة وعدم الالتفات إلى العلم الإجمالي باعتبار واحد من الفعل والترك في العبادة ولو قلنا بالاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر بالنسبة إلى الكثرة الخارجيّة فضلا عن الذهنيّة.

ثانيها : الالتزام بالاحتياط في المقام وتكرار العبادة ، وفعلها تارة : مع فعل الأمر المردّد ، وأخرى : مع تركه ولو قلنا بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر مطلقا حتى بالنسبة إلى الكثرة الذهنيّة بأقسامها.

ثالثها : الحكم بالتخيير والالتزام بأحد الاحتمالين في مرحلة الظاهر والبناء على أحد الحكمين المحتملين ، سواء كان الدوران بين الشرطيّة والمانعيّة ، أو الجزئيّة والمانعيّة نظير دوران الأمر بين الوجوب والتحريم.

رابعها : ابتناء حكم المسألة : من حيث الرجوع إلى البراءة أو الاحتياط على المختار في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، أو من حيث الحكم بالتخيير والاحتياط على المختار في تلك المسألة.


ووجه الأول :

أمّا على القول بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر : فلأن كلاّ من الاحتمالين سبب لحكم العقل والنقل بالبراءة فيه ، بمعنى كون الشكّ في كلّ منهما موردا لدليل البراءة من غير تأثير لانضمام الآخر إليه أصلا ؛ فإن غاية ما يحصل من الانضمام هو العلم الإجمالي باعتبار واحد من الفعل والترك ، وهو غير مؤثر في وجوب الاحتياط من حيث عدم خلو المكلّف عنه قهرا ، فلا يقاس بالعلم الإجمالي الحاصل في المتباينين ، فلا يمنع من الرجوع إلى البراءة بعد عدم إمكان المخالفة القطعية العملية ، ولا يلزم منه المخالفة الالتزاميّة أيضا ؛ فإن الالتزام بالبراءة في مرحلة الظاهر لا ينافي الالتزام بأحد المحتملين في مرحلة الواقع على نحو ثبوته ، ولا دليل على وجوب الالتزام في مرحلة الظاهر بما يحتمل موافقته للواقع ، بل هو تشريع محرم فيما لم يقم هناك دليل عليه.

وأمّا على القول بالاحتياط في تلك المسألة : فلأن إيجابه في المقام موجب للحكم بتكرار العبادة ، وهو موجب لإلقاء نيّة الوجه المعتبرة في العبادة ، فلا يتحقّق موضوع الاحتياط في المقام حقيقة.

فإن شئت قلت : إن رعاية الشرط المحتمل في المقام وكذا المانع موجب لرفع اليد عن الشرط المحتمل الآخر والمحقق ، فلا بدّ من رفع اليد عن شرطيّته. ومن هنا التزم « الحلّي » في مسألة اشتباه الساتر بسقوط شرطيّة الستر والصلاة


عريانا (١) ، وهذا بخلاف الاحتياط في مسألة الأقلّ والأكثر ؛ فإنه لا يوجب التكرار فيقصد الوجه بما يأتي به من الأكثر ؛ فإنه فرد للواجب قطعا هذا.

ووجه الثاني : أن العلم الإجمالي باعتبار واحد من الفعل والترك وأخذه في ماهيّة المأمور به يقتضي في حكم العقل وجوب الاحتياط وتحصيل البراءة اليقينية ولو بالتكرار ، وليس هناك قدر متيقّن معلوم الوجوب حتى ينفي وجوب الزائد عليه بالفرض ، والمخالفة القطعيّة العملية التي لا يلزم من الرجوع إلى الأقلّ مع عدم اختصاص الكلام بالتوصليّين إنّما هي بالنسبة إلى الواقعة الواحدة. وأما بالنسبة إلى الواقعتين فتجويز الرجوع إليه تجويز للمخالفة القطعية العمليّة ، وقد مرّ القول مرارا في عدم الفرق في حكم العقل بقبحها بين كونها في واقعة أو واقعتين مع عدم الالتزام بالحكم الظاهري في كل واقعة فالمقام نظير المتباينين حقيقة.

ومنه يظهر : أنه لا دخل للمقام بدوران الأمر بين الوجوب والتحريم حقيقة ؛ فإن الأمر فيه دائر بين المحذورين فلا يمكن الاحتياط فيه أصلا ، فلا بدّ فيه من الالتزام بأحد الحكمين مخيّرا ؛ فرارا عن لزوم تجويز المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعتين ولو كانا توصّليين على ما عرفت.

وهذا بخلاف المقام فإن المنع عن الصلاة الفاقدة للشرط أو المجامعة مع

__________________

(١) السرائر الحاوي للفتاوي لإبن إدريس الحلّي قدس‌سره : ج ١ / ١٨٥.


المانع من جهة لزوم إيجاد العمل الباطل ، فتحريمه تشريعيّ يرتفع موضوعه بالاحتياط ، كما هو الشأن في جميع موارد تكرار العبادة من جهة الاحتياط في دوران الأمر بين المتباينين في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة : من جهة تردّد ذات الواجب ، أو تردّد شرطه كالقبلة والسّاتر مثلا.

وأما إيجاب الاحتياط في المقام لسقوط قصد الوجه التفصيلي فهو مسلّم ، إلاّ أنه لا محظور فيه أصلا ، حتى على القول باعتبار قصد الوجه ؛ فإنه فيما أمكن إحراز الوجه ولو بالدليل الظنّي ، والمفروض عدم إمكانه.

فإن شئت قلت : إن قصد الوجه التفصيلي (١) العقلي الواقعي غير ممكن في جميع موارد الاحتياط حتى في الأقلّ والأكثر بل جميع موارد الأصول ، وقصد الوجه الظاهري ولو من جهة حكم العقل بالوجوب ممكن في المقام كسائر موارد وجوب الاحتياط ، وإن لم يساعد دليلهم على كفايته على ما عرفت سابقا وستعرفه إن شاء الله تعالى ، فالفرق تحكّم. ومن هنا نقول : بوجوب الاحتياط في جميع موارد تردّد شرط الواجب.

والحاصل : أن القول برعاية قصد الوجه الواقعي مع عدم التمكّن منه موجب للحكم بعدم مشروعية الاحتياط في الشرع مطلقا ، وهو خلاف الإجماع بل

__________________

(١) وفي نسخة : « العقلي » والصحيح هو ما استظهرناه.


الكتاب والسنة والعقل.

ووجه الثالث : هو أنه بعد لزوم المحذور عن تكرار العبادة ووجوب الاحتياط لا بد عند كل واقعة من الالتزام بأحد الحكمين ؛ من حيث إن تجويز الرجوع إلى الأصل تجويز لأمر قبيح وهو المخالفة القطعيّة العمليّة ولو في واقعتين ، كما إذا كانا توصّليّين كما عرفت تفصيل القول فيه في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم في مسائل الشكّ في التكليف.

ووجه الرابع : إلقاء العلم الإجمالي في المقام ؛ نظرا إلى ما عرفت : من إيجاب تأثيره في الاحتياط إلقاء قصد الوجه مع دعوى : عدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ، فيلاحظ الشك في الشرطيّة والمانعيّة مستقلاّ ، فيرجع إلى الأصل فيه كل على مذهبه.

والمتعيّن من هذه الوجوه الثاني منها ويظهر وجه تعيّنه بأدنى تأمّل فيما عرفت من وجوهها. ثمّ الثالث وهو : التخيير بين الحكمين المحتملين.

ولا يكاد تعجّبي ينقضي من اختيار شيخنا قدس‌سره رابع الوجوه كما يدلّ عليه قوله : « والتحقيق ... إلى آخره (١) » (٢) مع ظهور تعيّن الوجه الثاني بالنظر إلى ما

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :


أفاده في مطاوي كلماته في « الكتاب » بحيث لا يكاد أن يرتاب فيه أصلا ، مع أن عبارته في المقام لا تخلو عن تشويش واضطراب ؛ حيث إن ظاهرها بل صريحها في عنوان المسألة ـ كما يدلّ عليه قوله : « ففي التخيير ... إلى آخره » (١) ـ : هو التخيير بين الاحتمالين ؛ من حيث إن جعل المقام من جزئيّات دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، وتوجيهه له بقوله : « فقد يرجّح الأول ... إلى آخره » (٢) يدلّ على الرّجوع إلى أصالة البراءة ، وهو الوجه الأوّل كما هو ظاهر.

فلا بد من أن يكون المراد من التخيير هو التخيير بين الفعل والترك الثابت في موارد الحكم بالبراءة الذي لا يخلو المكلف عنه ، الرجوع فيكون من الأمر القهري الذي لا يكون من قبيل الحكم والإنشاء حقيقة ، فيكون هو المراد بالتخيير

__________________

« بل التحقيق هو وجوب الإحتياط مطلقا فإن المقام من قبيل المتباينين ؛ فإن الواجب إنّما هو أحد الخاصّين اللذين لا جامع بينهما بحسب الخارج وإن كان أجزاءهما مندرجة تحت حقيقة واحدة ؛ حيث إن المعتبر منها في كلّ بحسب خصوصيّاتها غير المعتبر في الآخر ؛ حيث انها في أحدهما مقيّدة بوجود ما شك في شرطيّته ومانعيّته ، وفي الآخر بعدمه فلا يتحقق في الخارج منها في واقعة واحدة إلا ما يعتبر في أحدهما كما لا يخفى ، فليتأمل » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٧٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٠٢.

(٣ و ٤) نفس المصدر : ج ٢ / ٤٠٠.


المستفاد من قوله أخيرا : « والتحقيق ... إلى آخره » ؛ لأن التخيير بين الاحتمالين لا تعلّق له باختيار الرجوع إلى البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وبالجملة : تحرير المقام بما في « الكتاب » لا يخلو عن اضطراب ، مضافا إلى توجّه المناقشة إلى ما أفاده في تحقيق المقام والله العالم بحقيقة الأحكام ، وإن كان التحقيق في نظر القاصر ما عرفت : من خروج المسألة موضوعا عن دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، وعن دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، ودخوله موضوعا في المتباينين من جهة الترديد فيما يعتبر في الواجب ، فهو من هذه الجهة نظير التردّد في الواجب من جهة تردّد شرطه.

* * *



المطلب الثالث :

دوران الأمر بين الواجب

والحرام



المطلب الثالث :

(٧٠) قوله قدس‌سره : ( في اشتباه الواجب بالحرام ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٠٣ )

دوران الأمر بين الواجب والحرام

أقول : افتراق المسألة من دوران الأمر في فعل واحد بين الوجوب والتحريم أمر ظاهر لا سترة فيه ، كظهور الفرق بين التخيير فيهما.

ثمّ إن الحكم في جميع صور الدوران من حيث الشبهة الحكميّة بأقسامها والشبهة الموضوعيّة لمّا كان واحدا من حيث الأصل الأولي ـ كما هو المقصود بالبحث ـ لم يجعل في المقام مواضع للكلام ، وإن افترقا من حيث إمكان الرجوع إلى القرعة في بعض صور الشبهة الموضوعية ، وتقديم الموافقة القطعيّة في الأهم من الواجب والحرام المردّدين على غير الأهم منهما ، كما هو الشأن في المعلومين منهما تفصيلا عند التزاحم وإن لم نقف على مثال للشبهة الحكمية لمفروض البحث.

ثمّ إن ما أفاده قدس‌سره في حكم المقام من حيث الأصل الأوّلي وأن مقتضاه تعيّن الحكم بالتخيير ، بمعنى البناء على فعل أحدهما وترك الآخر مخيّرا فيه : من جهة أن


الممكن من مراتب الإطاعة هي الإطاعة الاحتماليّة بالنسبة إلى الحكمين ؛ لمزاحمة الإطاعة القطعيّة بالنسبة إلى كل منهما بالمخالفة القطعيّة في الآخر ، فتعيّن الموافقة الاحتماليّة بالنسبة إليهما.

فلا معنى للحكم بالتخيير بين الإطاعة الاحتمالية بالنسبة إلى كلّ منهما والإطاعة القطعيّة بالنّسبة إلى أحدهما وإن ترتّب عليه المخالفة القطعيّة ؛ فإن مبنى حكم العقل بتحصيل الموافقة القطعيّة على دفع الضرر المحتمل المترتّب على تركه ، ولا معنى لحكمه به بعد فرض إيجابه الوقوع في الضرر المقطوع من جهة أخرى فتدبّر.

* * *


خاتمة في شرائط

العمل بالأصول

وفيها مقامان :

المقام الأول : ما يعتبر في العمل بالإحتياط

المقام الثاني : ما يعتبر في العمل بالبراءة

وفيه مقامان :

الأوّل : في وجوب أصل الفحص

الثاني : في مقدار الفحص

الفاضل التوني وشرطان آخران للبراءة :

١ ـ ألاّ يكون موجبا لثبوت حكم آخر

٢ ـ عدم تضرّر آخر

قاعدة لا ضرر



فيما يعتبر في العمل بالأصل

(٧١) قوله قدس‌سره : ( والكلام تارة : في البراءة ، وأخرى : في الاحتياط ... إلى آخره ) (١) (٢). ( ج ٢ / ٤٠٥ )

__________________

(١) وفي الكتاب تقديم الإحتياط وتأخير البرائة في التعبير وهو من اختلاف النسخة.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« إنّما خصّ الكلام بالبراءة والإحتياط ؛ لكون أصالة التخيير في مواردها قسما من أصالة البراءة ، والإستصحاب إن كان مثبتا فهو في معنى الإحتياط ، وإن كان نافيا فهو في حكم البراءة من حيث جواز العمل به قبل الفحص وعدمه ، هكذا قيل.

ولا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ الفحص قد اشترط في الإستصحاب من حيث جواز العمل به وفي الإحتياط من حيث عدم تحقّق موضوعه بدونه ـ كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ـ ومقتضى الحاق المثبت منه بالإحتياط كون الفحص شرطا في تحقّق موضوعه أيضا لا في جواز العمل به.

فالأولى أن يقال : إن عدم تعرّضه لأصالة التخيير ؛ لما عرفت ، وللإستصحاب إمّا لعدم كونه مقصودا بالبحث في هذا المقصد ، وإمّا لما سيشير إليه عند الفراغ من الكلام في وجوب الفحص في العمل بأصالة البراءة من حكم سائر الأصول العمليّة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٩٨.


__________________

* وقال الأصولي المؤسّس الشيخ محمد هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه الشريف : مع تحقّق موضوعه [ الإحتياط ] لا إشكال في حسنه ، وتوهّم : اعتبار قصد الوجه واضح الفساد ؛ فإنه ان كان بمعنى إعتبار كونه داعيا على العمل حتى يحكم ببطلان الواجب لو كان الباعث على الإتيان به كونه محبوبا وإن لم يوجبه المولى عليه كالصبي بل من يقدّم عليه لعلوّ مقامه في العبوديّة ولو لم يكن مكلّفا به فهو بديهيّ الفساد ؛ فإنه أولى بالصحّة والمقرّبيّة ممّا لا يأتي الشخص به ، إلاّ على تقدير إلزامه لضعف عبوديّته ، مع انّ مدخليّة الوجوب في الإتيان بالواجب والإستحباب في الإتيان بالمستحب تناقض واضح ؛ فإن المعلول يدور مدار علّته ، فالإتيان بكل من الفعلين والإمتثال على كلا التقديرين إلقاء لكلّ من الخصوصيّتين.

وإن كان بمعنى إعتبار التميّز عند القائل كما يظهر من تصريحاتهم وإن أباه التعبير عنه بالقصد فهو جزاف حتى إذا توقّف على التكرار ؛ فإنّ دعوى الإجماع من الرّضى قدس‌سره لو كان لها أصل لا حجّيّة فيها.

وتوهّم : اعتباره في تحقّق الإطاعة واضح الفساد.

وكون التكرار في بعض مراتبه مع التمكّن من العلم لعبا من جهة انّه تضييع للوقت وتحمّل تعب وتكلّف عبث ، ومثل هذا الشخص ملحق بالسفهاء لا ينافي صحّة ما صادف من عمله للواقع ؛ فإنّ الإكثار بما لا يصادف من غير إلجاء إليه ناش من الحماقة ، وأين هذا من بطلان المصادف؟

وكيف يتوهّم اشتراك جميع مراتب التكرار في ذلك وعدم الفرق؟


المقام الأوّل :

فيما يعتبر في العمل بالإحتياط

أقول : وإنّما أهمل قدس‌سره التخيير في المقام مع أنه من الأصول أيضا : من جهة اتّحاد حكمه مع البراءة ، مضافا إلى تصريحه بعد ذلك بعدم الفرق بينهما بقوله : « ثم إن في حكم أصل البراءة كلّ أصل عملي خالف الاحتياط » (١) وإن أمكن حمله على الاستصحاب النافي للتكليف ، فلو أبدل قوله : « خالف الاحتياط » بقول : « غير الاحتياط » كان أولى حتى يشمل التخيير والاستصحاب مطلقا فتدبّر.

كما أنه عمّم الاحتياط وجعل موضوع البحث الأعمّ من الاحتياط اللازم الشامل للاحتياط مع تحصيل الطريق الشرعي على حكم الواقعة لمزيد الفائدة وإن كان الاحتياط الذي يبحث عنه في قبال الأصول الثلاثة هو اللازم منه فتدبّر.

__________________

ولقد أفرط الحلّي قدس‌سره ؛ إذ حكم بسقوط التكليف بما لا يتمكّن من معرفة وجهه ؛ فإنه مقتضى تصريحه بسقوط الشرط المجهول وإن تمكّن من إحرازه بالإحتياط كالستر مع التردّد بين الثوبين ، والقبلة مع التردّد بين الجهتين ، مع انه خلاف النصوص ، بل خلاف الضرورة في الجملة ، فظهر فساد ما يتوهّم : من بطلان عمل تارك الطريقين العامل بالإحتياط » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٥٩.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٦.


مع أن الاحتياط مع وجود ما يشخّص حكم الواقعة لا إشكال ، بل لا خلاف في حسنه ورجحانه وتحقّق موضوعه ، وإن ذهب الوهم إلى عدم مشروعيّته في العبادات الصحيحة ظاهرا : من حيث توقّف مشروعيّة العبادة على العلم بالأمر الشرعي ، ولا يكفي حسن الاحتياط والأمر المتعلّق به من حيث توقّف الاحتياط موضوعا على الأمر في العبادات ، فلا يمكن إثباته بأمر الاحتياط. مضافا إلى كونه إرشاديا كما تقدّم شرح القول فيه وفي فساده في مطاوي كلماتنا السابقة.

ثمّ إن ما أفاده في حكم الاحتياط : من أنه ليس له شرط أصلا حيث إن حسنه العقلي والشرعي ورجحانه الذاتي لا ينفكّ عن موضوعه ، وهو إحراز الواقع على تقدير ثبوته ، أو التحرّز عن مخالفة الواقع الذي يرجع إلى الأول باعتبار ، وأنه لو قيل بتقدّم تحصيل الطريق الشرعي عليه ، أو تحصيل العلم عليه مطلقا أو في الجملة في العبادات ، فإنّما هو من جهة أخذ ما يوجب إعماله إلقاءه في العبادة ، فليس هنا احتياط وإحراز للواقع حقيقة مما لا يعتريه شكّ وريب أصلا.

ومن هنا وقع الاتفاق عليه بالنسبة إلى التوصّليات حتى مع التمكّن من العلم التفصيلي فضلا عن الطريق الشرعي ، ولو بالنسبة إلى التعبّديات ـ من غير الحلّي (١) ـ فيما لا يتمكن من الطريق أصلا ، وإن توقف على التكرار. وهذا بخلاف

__________________

(١) في السرائر الحاوي للفتاوي : ج ١ / ١٨٥.


سائر الأصول ؛ فإنّها مشروطة بالفحص عن الطريق في الشبهات الحكميّة على ما ستقف عليه ، وإن كان مفاد بعض ما أقاموا عليه : عدم جريانها من دون فحص على ما يشير إليه.

وإن كان ربّما يتوهّم المتوهّم : أن الدليل على وجوب تحصيل العلم في الأحكام الإلهيّة وعلى وجوب العمل بالطرق الشرعيّة يمنع من الأخذ بالاحتياط مع التمكّن من تحصيلهما.

لكنه فاسد من حيث إن مفاد لزوم تحصيل العلم بالفروع ، وكذا لزوم العمل بالطريق إنّما هو من حيث التوصّل بهما إلى الحكم الفرعي والأخذ به والعمل عليه ، فلا يمنع من الأخذ بما يوجب تحصيل الواقع والعمل عليه.

نعم ، وجوب تحصيل العلم بالحكم الإلهي من حيث حفظه وصيانته عن الاندراس ـ على تقدير ثبوته ـ ربّما يمنع من الرجوع إلى الاحتياط في الأحكام الشرعيّة مع التمكّن من العلم التفصيلي من جهة صيرورته بهذه الملاحظة واجبا نفسيّا.

لكن يمكن أن يقال : إنه على تقدير ثبوته لا يوجب بطلان العمل المأتي به بعنوان الاحتياط وإن عصى المكلف بترك تحصيل العلم ، فالاحتياط من حيث ترتب الأثر عليه غير مشروط بالعجز عن تحصيل العلم والطريق الشرعي ، فتصحّ المقالة المذكورة على هذا التقدير أيضا فتدبّر.


(٧٢) قوله قدس‌سره : ( ثم إن هذه المسألة أعني بطلان عبادة التارك للطريقين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٠٦ )

حكم المحتاط التارك لطريقي الإجتهاد والتقليد

أقول : من المحتمل قريبا إرادة أكثر القائلين ببطلان عبادة تارك الطريقين لبيان حكم القسم الثاني لا ما يعمّه والقسم الأوّل ، أي : الجاهل بالواقع الباني على إحراز الواقع بالاحتياط ، فما ذكروه لا محيص عنه بالنسبة إلى الملتفت من حيث عدم إمكان قصد التقرب والامتثال مع التردّد كما ستقف على تفصيل القول فيه. نعم ، في كلام بعض السادة المتأخرين ممن قارب عصرنا : التصريح بالتعميم كما هو صريح « الكتاب ».

والكلام في تحقيق ما يتعلّق بالمقام وإن تقدّم في الجزء الأوّل من التعليقة في فروع العلم (١) ، إلاّ أنا نعيد الكلام فيه تبعا لشيخنا قدس‌سره لمزيد الاهتمام بشأن المسألة وكثرة الحاجة إليها ، ونحن نحرّر الكلام في المقام في جواز الاكتفاء بالاحتياط مع توقّفه على التكرار فيما تمكّن من تحصيل العلم بالواقع في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، ويعلم جواز الاكتفاء به في سائر الصور بالأولويّة ، وإن كان موضوع البحث في « الكتاب » التكلم في جواز الاحتياط مع

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٤٩.


التمكن من سلوك الطريق الشرعي بالاجتهاد أو التقليد.

فنقول : إنه كما يحكم العقل والعقلاء بحصول الامتثال والإطاعة إذا كان داعي الفاعل من إيجاد الفعلين التقرّب إلى المولى بفعل أحدهما من حيث العلم بكونه مطلوبا له في العرفيّات والشرعيّات مع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالمطلوب تفصيلا كما هو المتفق عليه بينهم وإلاّ لم يكن الاحتياط فيه مشروعا وحسنا وهو خلاف العقل والنقل ، كذلك يحكمان بحصولهما في الفرض مع التمكّن والقدرة على تحصيل العلم بالمطلوب تفصيلا ، كما نشاهد ذلك بالرجوع إلى عقولنا.

ودعوى : الفرق بينهما في حكمهما مجازفة صرفة لا شاهد لها أصلا ، بل الشاهد على خلافها من غير فرق في ذلك بين التوصليّات والتعبّديات ؛ لأن الفرق بينهما إنّما هو في اشتراط صحة الواجب بحصول الامتثال في الثاني دون الأول ، وإن توقّف ترتّب الثواب فيه على حصول الامتثال ، لا في حصول الامتثال بالإطاعة الإجمالية مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة.

نعم ، لو شكّ في حكمهما بحصول الامتثال بالإطاعة الإجمالية مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة لم يكن إشكال في عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر في المكلف به بين الأقلّ والأكثر ؛ ضرورة ثبوت الفرق بينه وبين المقام الذي لا تعلق له ببيان الشرع على ما صرّح به قدس‌سره في « الكتاب ».


وأمّا ما ذكر مانعا وفارقا فوجوه لا يصلح للمنع والفرق بين الموضعين ، استدل بأكثرها للمنع من الاكتفاء بالاحتياط عند التمكّن من سلوك الطريق الشرعي حتى فيما لا يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، وإن كان بعضها مختصّا بخصوص محل البحث : كلزوم مقارنة فعل الواجب بقصد الوجه المتحقّق بنيّة الوجوب ، أو وجهه وعنوانه الذي أوجب انطباقه على الواجب وعروضه عليه تعلّق الطلب الإلزامي به من الشارع ككونه لطفا مثلا.

ومن هنا قالوا : إن الواجبات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ؛ إذ لم يلتزم أحد من العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح وكون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد بلزوم وجود المصلحة في الواجبات الشرعيّة مثلا في ذواتها من غير أن يعرضها من جهة العنوانات المنطبقة عليها.

لأنه إذا لم يقصد الواجب بالوجه المذكور لم يكن تحقّق الفعل المعنون اختياريا ، وإن كان ذات الفعل المقصود اختياريّا ؛ ضرورة توقّف اختيارية عنوان الفعل على قصده عند الفعل ولو على وجه الإجمال ، وقصد ما يكون مسبّبا عنه ومن عوارضه. وإذا لم يكن ترتّب العنوان اختياريّا لم يعقل حصول الامتثال والإطاعة ، فيكون العبادة فاسدة : من حيث توقّفها على حصول الإطاعة والامتثال.

ومن هنا اتّفق المتكلّمون على لزوم مقارنة فعل الواجب لقصد الوجوب ، أو وجه الوجوب ، أو لزوم معرفة الوجه ، وتميز الواجب من حيث ذاته وأجزائه


وشرائطه عن غيره وإن لم يقصد الوجه حين الإتيان ، كما يظهر الاكتفاء به عن بعضهم.

وكون الاكتفاء بالاحتياط مع التمكّن من تحصيل العلم خلاف الإجماع المنقول في كلام أهل المعقول وبعض أهل المنقول كالسيّد الرضي قدس‌سره ؛ فإنه ادّعى الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، في قبال أخيه الأجلّ علم الهدى بعد قوله بصحّة صلاة الجاهل بالحكم في موضعين ـ على ما سيأتي ذكره ـ وقد قرّر الدعوى المذكورة (١) ولكن أجاب عن أصل الشبهة بما لا يخلو عن مناقشة سنشير إليها ، ومنع حصول الإطاعة عند العقلاء بالتكرار فيما يتمكّن من تحصيل المأمور به سيّما بالعلم التفصيلي ، وعدّهم المحتاط لاعبا بأمر المولى لا مطيعا كما يظهر من المثال المذكور في « الكتاب ».

فإن الأوّل : مندفع أوّلا : بأنّ الاكتفاء بالإشارة الإجمالية إلى عنوان المأمور به وقصده الإجمالي بقصد ما ينطبق عليه ـ كما هو قضيّة صريح كلماتهم ـ يوجب بطلان ما اقتصروا عليه ، والاكتفاء بقصد كل عنوان ينطبق عليه المذكور ، ولو لم يكن خصوص الوجوب والاستحباب كعنوان الظهر والعصر مثلا.

وثانيا : بأن قصد العنوان المذكور يتأتّى من المحتاط المتكرّر للعمل ، كما

__________________

(١) أنظر رسائل الشريف المرتضى : ج ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ وقد مرّت إشارة إلى ذلك في مبحث القطع من الفرائد : ج ٢ / ٧٢.


يتأتّى قصد التقرّب منه ، فلا يوجب اعتباره بطلان الاحتياط بالتكرار ؛ فإن المدّعى اعتبار القصد التفصيلي بحيث يقصد إتيان الواجب الواقعي حين الإتيان به كونه لوجوبه ، أو وجه وجوبه فلا بد من تميز الواجب ، والدليل المذكور لا يفي بإثبات هذا المدعى.

وثالثا : أنه لا فرق في مفاد هذا الوجه بين ما يتوقّف على التكرار وغيره ؛ فإن الآتي بالأكثر احتياطا لا يتمكّن من القصد التفصيلي بالمعنى المذكور ، وإلاّ لم يكن الواجب مردّدا والقصد إلى وجوب الواجب في الجملة على تقدير كفايته يوجب هدم ما بنوا عليه الأمر. ومن هنا لم نجد في كلمات الأكثر الفرق بين ما يتوقّف على التكرار وغيره ، بل ظاهرهم الاستدلال على لزوم قصد الوجه وبطلان الاحتياط عند التمكّن من تحصيل ماهيّة المأمور به بالطريق الشرعي أيضا حتى فيما لا يتوقّف على التكرار.

وإن كان الإطلاق المذكور وتسرية الدليل بالنسبة إلى صورة التمكّن من تحصيل المأمور به بالطرق الشرعيّة لا يخلو عن نظر ، بل منع ؛ حيث إن قصد الوجه الظاهري المعلوم تفصيلا الذي يقتضيه حجّية الطرق الشرعيّة لا يجدي بالنسبة إلى وجه العبادة الواقعية أصلا.

ضرورة كونه حكما ظاهريّا غير الحكم المعلوم إجمالا بعنوان التعبّد للواقعة في نفس الأمر المعتبر قصده في صحة العمل ، وقصد الوجه الواقعي بعنوان الاحتمال يتأتّى من المحتاط أيضا ، فلا فرق بينه وبين العامل بالطريق الشرعي.


وقصد الوجه الواقعي بعنوان الإجمال لو كان كافيا يتأتّى منهما أيضا فلا فرق بين المحتاط والعامل بالطريق الشرعي.

والثاني مندفع : بعدم الشاهد عليه أصلا ، بعد عدم جعله مقدّمة لقصد الوجه.

والثالث مندفع : بأن إجماع المتكلّمين إذا كان محقّقا لا يكشف عن شيء ، فضلا عما إذا كان منقولا. ومن هنا ذكر المحقق قدس‌سره : بأن ما ذكره المتكلّمون : من وجوب إيقاع الواجب لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعريّ (١). ونقل الإجماع من أهل المنقول لا يفيد سيّما في المقام ؛ من حيث قوّة احتمال استناده إلى ما زعموا : من حكم العقل بذلك على ما ذهب إليه المتكلمون ، مضافا إلى احتمال إرادة البطلان فيما كان العمل الصادر عن الجاهل مخالفا للواقع كما هو الشأن في محل كلام المدّعي ، فلا تعلّق له بمحلّ الكلام وعمل المحتاط المطابق للواقع.

والرابع مندفع : بما نشاهد من حكم العقلاء بحصول الامتثال والإطاعة. ودعوى : حكمهم بكون المحتاط لاعبا بأمر المولى لا مطيعا له ، ممنوعة. غاية ما هناك كونه لاعبا في ضمن الإطاعة لو لم يكن له غرض في ترك تحصيل الواقع تفصيلا ولو كان سهولة الأمر ويسره ، بل ربّما يحكم بكون الاحتياط أولى من تحصيل الواقع تفصيلا إذا كان مبناه الظن المعتبر ؛ نظرا إلى تحصيل المصلحة الواقعيّة بفعل الاحتياط.

__________________

(١) الرسائل التسع للمحقّق الحلّي : ٣١٧.


وإن كنت في ريب من ذلك فقس المقام بحال العبد الذي أمره المولى بإيجاد شيء له طريقان ، أو المشي إلى موضع لشغل له طريقان إحداهما أبعد من الأخرى ، فاختار العبد من غير غرض عقلائي سلوك الأبعد وأتى بالمأمور به ؛ فإنه لا إشكال في حكم العقلاء بكونه مطيعا وإن لغى باختيار الأبعد.

ودعوى : الفرق بين المقام والأوامر الصادرة من الموالي العرفيّة من حيث كونها توصّليّة صرفة بخلاف المقام.

فاسدة جدّا ؛ إذ لا فرق في التوصّلي والتعبّدي من حيث الإطاعة والامتثال ، وإن لم يكن حصول الإطاعة معتبرا في الصحّة في التوصّلي ، وإن كان معتبرا في استحقاق الأجر من الموالي والمدح من العقلاء على ما عرفت الإشارة إليه ، فخروج التوصّلي عن محلّ البحث إنّما هو من جهة أن الكلام في صحة العمل من المحتاط.

فقد تبيّن مما ذكرنا كلّه : عدم قادح لترك الطريقين والأخذ بالاحتياط مطلقا وإن تعيّن في حقّ العامي الغير القاطع بما ذكرنا إذا أراد الاحتياط الرجوع إلى الفقيه المفتي بذلك ، وإلاّ فلا يجوز له الأخذ به من حيث استقلاله بوجوب الأخذ بما يعلم اعتباره وحرمة الأخذ بما يشكّ في اعتباره كما هو ظاهر.

كما أنه قد ظهر منه : جواز العمل بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فإن طابق الواقع اقتصر عليه وإلاّ أعاده ، كما أن الأولى بالجواز ما لو أتمّ العمل بهذا العنوان إذا حصل ما يوجب التردّد في الصحة والفساد في الأثناء.


ومن هنا يمكن الحكم بجواز الاكتفاء على القول بعدم جواز الاحتياط إذا توقّف على التكرار أيضا كما ذكره في « الكتاب » ، وإن قيل بعدم الجواز في الصورة السّابقة كما يلزم على القول بالمنع في أصل المسألة ، وإن أمكن التفصيل أيضا على القول بالمنع في الفرض كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » وإلى وجهه وإن كان ضعيفا عند التأمل ، كضعف القول بتعيّن العمل فيما إذا حصل التردّد في الأثناء بما يظنّ صحّته مع البناء على تبين الحال بعد الفراغ محافظة على عدم قطع العمل بقدر الإمكان ؛ لعدم دليل على حجيّة الظن في المقام بعد عدم قيام الدليل على بطلان الرجوع إلى الأصل المقتضي لجواز القطع.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا كلّه : أن الأمر في التعبّديات من حيث جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا حال الأمر في التوصّليّات التي وقع الاتفاق فيها على جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا. وممّا يرشدك إلى ذلك ـ مضافا إلى ما أسمعناك ـ اتفاقهم على ما عرفت ، كما قضى به النصّ في الجملة أيضا على حصول الامتثال والإطاعة بالاحتياط فيما لا يتمكّن من تحصيل الطريق أصلا ؛ فإن اعتبار نيّة الوجه أو غيرها في حصول الإطاعة لا معنى للفرق فيه بين صورتي العجز والإمكان. ألا ترى أنه لا يمكن الفرق في اعتبار قصد القربة بين الصورتين؟ فتدبّر.

فالأقوى جواز الاكتفاء بالاحتياط مطلقا ، وإن كان الأولى ترك الاحتياط في جميع موارد إمكان إحراز الواقع تفصيلا ولو بالطريق الشرعي ، ولو كان هو


الظنّ المطلق ـ على القول به ـ خروجا عن الخلاف في المسألة ، من غير فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

نعم ، لو احتاط على وجه لا ينافي العمل بالطريق كان محمودا مشكورا منه على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التعليقة.

* * *


المقام الثاني :

فيما يعتبر في العمل بالبراءة



(٧٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا البراءة فإن كان الشكّ الموجب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤١١ )

__________________

(١) قال الأصوليّ المؤسس الشيخ محمد هادي الطهراني أعلى الله تعالى درجاته الشريفة :

« العمل بالبراءة في الشبهات الحكميّة يتوقّف على العلم بعدم بيان المولى واليأس منه فلا يعذر مع احتمال البيان على تقدير السؤال أو النظر فيما أعدّ لضبط أحكامه ؛ فإنّ وظيفة الجاهل السؤال والفحص والتفتيش ، ولا يعذر بمجرّد الجهل وإن لم يتمكّن من الإستعلام ، بل إنّما يعذر بعد اليأس وإحراز انّه لا بيان ، فتكليفه الإحتياط قبل التبيّن ، ولهذا قال عليه‌السلام في رواية ابن الحجّاج : « إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالإحتياط حتى تسألوا وتعلموا » وعلى هذا الأصل يتفرّع قوله عزّ من قائل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ؛ فانه إلزام وإتمام للحجّة.

ومحصّله ـ والله العالم ـ : ان العقل لا يعذر الجاهل إلاّ بعد الفحص والسؤال ، إن لم يكن من أهل العلم فوظيفتكم في هذا الحال السؤال من أهل الذكر ، لا المبادرة بالإنكار ، فإن لم يتبيّن لكم بعد السؤال شيء فإنكاركم لا يوجب اللّوم والعقاب.

وبما حقّقناه ظهر فساد كثير ممّا صدر في المقام ، وما تكلّفوه من التمسّك بالإجماع والعلم الإجمالي بيّن الوهن.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب الفحص ليس تكليفا يثبت بالإجماع وما يضاهيه ؛ بل مرجعه الى انّ قبح العقاب إنّما يترتّب على الجهل المستند إلى عدم البيان لا مجرّد الجهل وإلاّ لم يكن للمولى سبيل إلى الإلزام والإفحام ، لتمكّن العبد من إبقاء جهله بترك السؤال والإصغاء.

والحاصل : ان العلم الحادث يتوقّف على النظر ، أو ما يوجب العلم الضروري في الضّروريّات كالإحساس والتجربة والإستماع في المتواترات إلى غير ذلك ولا يكفي فيه مجرّد العلّة


__________________

الفاعليّة ، فعدم الإستعلام يوجب استحالة الإعلام ، فلهذا استقلّ العقل بأنّ العبد وظيفته الإستعلام وإنّما يعذر بعد العمل بهذه الوظيفة وإعذار قبلها من قبيل نفي الحجّيّة عن العلم مناقض للمولويّة وصدور الأحكام.

نعم ، له تنجيز أحكامه على الجاهل مطلقا ؛ لشدّة الإهتمام كما في النفوس والأعراض ، فالجهل يمكن ان لا يكون عذرا أصلا ، وأمّا كونه عذرا مطلقا فهو محال ، كاعذار العالم وإن لم يكن بهذه المثابة من الوضوح.

وأمّا الثاني : فلعدم زوال أثره بالفحص ، ضرورة ان عدم الوجدان لا يدل على العدم.

ودعوى : حصر المعلوم فيما بايدينا جزاف ناشئة عن ضيق الخناق.

ومن يقول : بان جميع الأحكام بيّنها الشارع وأمر بضبطها وحفظها ، وأنّ العلماء الأجلاّء من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام حفظوا جميع ما استودعوا وبلّغوه إلينا فمن أراد الإطلاّع مع خبرته ظهر له الواقع على ما هو عليه بالنظر في الآثار وعدم الوجدان دليل على العدم لا يعتمد إلاّ على العلم ولا معنى للعمل بالإصل بالنسبة إليه إلا على بعض التقادير.

فظهر : ان البرهان على توقّف الإعذار على الفحص ان العبد بمقتضى عبوديّته في وثاق المولى فليس له الإستقلال في شيء من الأفعال ، بل عليه أن يكون كالميّت بين يدي الغسّال ، فما لم يعثر على الترخيص لا مناص له عن الإحتياط وإن كان جاهلا قاصرا وإلاّ لجاز له العمل بالأصل حال البحث ، بل وإن لم يتفحّص حيث لا يتمكّن منه.

مع ان من المعلوم ان العامي يجب عليه الإحتياط قبل السؤال والعالم قبل النّظر والإجتهاد ، ولم يتوهّم ذو مسكة جواز العمل بالأصل حال النّظر والفحص فلا يدور الإعذار مدار


__________________

القصور أيضا ، بل لا بد من تحصيل الإذن أو ما نزّل منزلته وهو اليأس من ظهور ما يخالف الأصل من ناحية المولى وهذا يتوقّف على السؤال وما بمنزلته من النّظر إلى ما فيه أحكامه وما أشبهها وليس هذا تكليفا كي يسقط بالعجز.

فتبيّن : ان البيان عبارة عن انكشاف الحكم في نفسه بمعنى كونه بحيث لو عثر الشخص على ما يدلّ عليه انكشف له فالخفاء مستند إلى عدم وصول الشخص إلى البرهان ، وإحراز هذا المعنى يتوقّف على الوصول إلى المولى والسؤال ، أو ما هو بهذه المثابة.

ومن المعلوم ان البحث إنّما ينفع بالإستقراء التام فلو لم نعلم باشتمال كتب الأخبار على جميع ما كان بناء على الشارع على إظهاره لم يؤثر الفحص ، إلاّ عدم الوجدان السابق عليه ، بل ليس هذا أثر له.

نعم ، كثيرا ما يحصل العلم بالعدم وهذا فيما يعمّ به البلوى في تلك الأزمنة فيحتاج في مثل شرب التتن إلى الأصل وكذا ما يحتمل خفاءه لتقيّة أو قصور في الرّاوي أو اشتباه منه والنقل بالمعنى أو لغير ذلك من وجوه الإختلال كالغلط في النسخة وما أشبهها مما لا ينافي صدور جلّ الأحكام وشدّة الإهتمام بالضبط والحفظ والإيصال وعدم ما يوجبه الإحتجاب لبقاء الآثار. هذه جملة القول في عدم جواز الركون إلى الأصل قبل الفحص ومحصّله :

عدم تحقّق موضوع الأصل ومجراه إلاّ بعد اليأس عن صدور التكليف من ناحية المولى فهذا القسم من الجاهل وظيفته الإحتياط وليس معذورا في مخالفة الواقع وإن لم يتمكّن من الفحص ، وكذا في حال بذل الوسع والإجتهاد.

وأمّا من لم يتمكّن من الإحتياط لدوران أمره بين المحذورين ، أو لعدم علمه بالمكلّف به ولو


__________________

على سبيل الإجمال أو عدم خطور الحكم بالبال كما هو الحال في غرايب الأحكام بالنسبة إلى الأكثر ، فالوجه في كونه مستحقّا للعقاب على مخالفة الواقع ـ مع ان كثيرا من التكاليف لا تتحقّق موضوعاتها أو عللها إلاّ حال غفلته أو عجزه عن الإستعلام كاليوميّة والصّيام والحج والآيات ـ : ان وظيفة العبد تحصيل التمكّن من الإمتثال من هذه الجهة وإن كان معذورا إذا عجز لا على هذا الوجه ، والوجه فيه : عدم انتظام أمر العبوديّة إلاّ بتعلّم العبد للنّواميس المولويّة والتهيّأ للإمتثال على تقدير التعلّق والإرتباط.

والحاصل : انّ وظيفة العبد إحراز ما عند المولى من الأحكام التي يحتمل ارتباطها به قبل التعلّق وإلاّ فربّما ضاق المجال ، فالجاهل باحكام الشكوك لا يسعه السؤال في حال الإشتغال بالصّلاة فيكفي في وجوب تعلّمها قبل الإبتلاء احتمال الحدوث وكذا احكام الحجّ فربّما يستطيع بعد حضور الإمام ولا يسعه تعلّم الأحكام ، بل هذا هو الحال في الصيّام وما لا تحصى من الأحكام ، بل لا يعذر العاجز حال التكليف بترك تحصيل التمكّن وإبقاءه قبل ان يكلّف إذا احتمل ذلك ؛ فإن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار وما يرجع بالأخرة إلى الإختيار إختياري ، فيجب رفع الحدث قبل الوقت إن لم يتمكّن بعده في الصلاة والصيام ووجوب البدار في رفع الحدث الأكبر في الصّيام من هذا الباب ، أترى أنّ من احتمل الإبتلاء بالجهاد أو الإجتهاد يعذر إذا عجز في وقته لترك تحصيل المقدّمات وعدم التهيّؤ قبل الإبتلاء أو من يرجع اليه علاج المريض والمجروحين يعذر بالعجز بعد الوقوع مع توقّف التمكّن على تمهيد المقدّمات في سنين متطاولة؟! كلاّ ثمّ كلاّ.

بل وجوب التهيّؤ للمقاصد قبل الإبتلاء بها هو الذي به قوام العالم وأساس عيش بني آدم ، بل


عدم إعتبار الفحص في الشبهات الموضوعيّة

ووجوبه في الشبهات الحكميّة

__________________

الحيوانات ، بل الحشار يدركون هذا المعنى ويستعدّون لما يحتملون الإحتياج اليه قبل الوقوع ؛ فإنه مقتضى كون الأمر بحيث لا يحصل إلاّ بترتيب المقدّمات في أزمنة متطاولة.

والحاصل : ان المقدّمة لا تتّصف بالوجوب أصلا لا قبل وجوب ذيها ولا بعده ، فكما انه لا إشكال في عدم الإعذار بالعجز الذي يتمكّن من إزالته بعد وجوب ذي المقدّمة فكذا قبله ؛ فانّه ليس مستندا إلى تكليف مولوي ، وكون التهيؤ لامتثال أحكام المولى لو اتفقت وظيفة العبد بحيث لا يعذر بالعجز على تقدير الوقوع ومتحقق قبل الوجوب ويكفي فيه احتمال التوجّه إليه في وقت لا يتمكّن من امتثاله لتوقّفه على ما فاته من المقدّمات فما يعتبر في تحقق الموضوع لا يجب تحصيله كملك النّصاب في الزّكاة.

وأمّا ما ليس كذلك فإن استند العجز إلى مجرّد التسامح وعدم المبالات فلا إشكال في انّه ليس عذرا ، بل الإعذار من هذه الجهة مستحيل ، بل قد يؤدّي التّهاون إلى الارتداد وبه علّل كفر تارك الصّلاة في الأخبار.

وأمّا إن كان من جهة الإشتغال بالغير فإن علم الإهتمام بالحكم قدّم عليه ووجب الصفح عنه وإلاّ فلا ، واختلاف الفروع في الفقه مستند إلى هذا الإختلاف.

ولا يخفى انّ غاية ما علم مما حقّقنا : ان الإنتهاء إلى الإختيار يجامع عدم الإعذار وإن صادف العجز أصل التكليف ، وهذا بالنسبة إلى العلم بالأحكام غير قابل للتخصيص ، وأمّا في سائر المقدّمات فلا مانع من الإعذار بالعجز المصادف وإن استند إلى الإختيار كما هو الحال في اختلاف الموضوع » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٥٩ ـ ٦١.


أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره من عدم اشتراط الفحص في الرجوع إلى البراءة ، بل غيرها من الأصول في الشبهات الموضوعيّة لدلالة النقل بل العقل عند التأمّل على عدم اعتباره فيه ، بل كلماتهم ظاهرة في الاتفاق عليه في الجملة ، إلاّ أنّ في كلماتهم سيما المتأخرين ما ربّما يوهم خلاف ذلك في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة في بعض الموارد.

كما إذا شكّ في وصول ماله بقدر الاستطاعة ، أو نصاب الزكاة ونحوهما ، وإن كان الظاهر منهم الاتفاق على عدمه في غيره ، ولعلّ نظرهم ـ كما صرّح به بعضهم ـ إلى لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة من العمل بالأصل فيه على تقدير عدم الفحص كما في الشبهات الحكميّة ، فيخرج عن محلّ البحث حقيقة ، وإن كان محل مناقشة عندنا كما سيأتي الكلام فيه عند بحث شيخنا قدس‌سره عنه ؛ فإنه يعيد الكلام فيه بعد ذلك.

وعلى ما ذكر : لو علم المكلف بأنه يحصل له العلم بحال الموضوع المردّد ويرتفع ترديده على تقدير الفحص ، أو يطّلع على الطريق الشرعي المبيّن لحال الموضوع على ذلك التقدير يجوز له الرجوع إلى الأصل من دون فحص ؛ لأنه لازم إطلاق اعتبار الأصل في الموضوع وعدم اشتراطه بالفحص كما هو ظاهر.

كما أن لازم اشتراط الفحص في العمل بالأصل ـ كما في الشبهة الحكميّة على ما ستقف عليه ـ عدم جواز الرجوع إليه قبل الفحص ، وقد احتمل الوقوف


على الواقع أو الطريق إليه على تقدير الفحص ، وإن كان في علم الله تعالى عاجزا عنهما فهو غير معذور في مخالفة الواقع عند ترك الفحص ، وإن لم يطّلع عليه أو على طريقه في علم الله تعالى على تقدير الفحص وهذا ممّا لا سترة فيه أصلا.

وأمّا اشتراط أصل الفحص في العمل بأصل البراءة في الشبهات الحكميّة من غير فرق بين الشبهة التحريمية والوجوبيّة فممّا لا إشكال ، بل لا خلاف فيه أيضا. واستدلّ عليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ـ بعد الإجماع المحقّق الذي لا ريب فيه كما يظهر أمره بأدنى فحص في كلماتهم ، بل الحق إجماع علماء الإسلام عليه ـ بوجوه :

الأوّل : ما دلّ من الكتاب والسنّة على وجوب تحصيل العلم بأحكام الله تعالى ، وهو لا يحصى كثرة كتابا وسنّة ، ودلالته على الاشتراط إنّما هي من جهة أن جواز الرجوع إلى أصالة البراءة مع القدرة على تحصيل العلم لا يجامع إيجاب الشارع لتحصيل العلم في حق المتمكّن منه ، أو المحتمل لحصوله له وإن لم يعلم بالحصول. ومنه يظهر : أنه يجوز الاستدلال عليه بإطلاق أدلة اعتبار الطرق الشرعيّة ؛ فإن اعتبارها بقول مطلق لا يجامع تجويز الرجوع إلى البراءة فتأمّل (١).

__________________

(١) وجه التأمّل : أنّ ما دلّ على حجّيّة الطّرق الظنّيّة في الأحكام لا دلالة فيه على وجوب


الثاني : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذم بفعل المعاصي المجهولة ، وهو أيضا لا تحصى كثرة. منها : ما في « الكتاب » ودلالته على المدّعى في كمال الوضوح ؛ فإن العقاب على الواقع المجهول يلازم عدم جواز الرجوع إلى الأصل عند الشكّ ومعذوريّة الجاهل عند الشارع ، وإلاّ قبح عقابه. وهو بتمامه وإن لم يكن مختصّا بالجاهل البسيط إلاّ أنه يشمله قطعا.

هذا وإن كان ملازما لحكم العقل بوجوب تحصيل العلم على الجاهل الغير المريد للاحتياط من جهة استقلاله في الحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إلاّ أن الاستدلال به ليس مبنيّا عليه ، كما ربّما يتوهّمه المتوهّم من ظاهر عبارة « الكتاب » ، بل على ما ذكرنا من التقريب.

وليس المقصود مما أفاده قدس‌سره بقوله المستلزم لوجوب تحصيل العلم بحكم العقل بوجوب التحرز عن مضرّة العقاب ابتناء الدليل عليه ، بل بيان اللازم الواقعي

__________________

الفحص وشرطيّته في العمل بالأصل وإن هو من هذه الجهة إلاّ مثل ما دلّ على حجّيّة الأمارات في الموضوعات الخارجيّة.

نعم ، ما دلّ منه على وجوب السؤال عن الرّواة وأصحابهم والعلماء عند الجهل بحكم الواقعة يدلّ على المنع عن الرّجوع إلى الأصل قبل الفحص كما هو ظاهر.

فالإستدلال يستقيم ببعض ما دلّ على حجّيّة الطرق الظنّيّة لا بتمامه فتدبّر.

« منه دام ظلّه العالي »


له كما عرفت ، وهذا أمر ظاهر عند من له أدنى تأمّل.

الثالث : حكم العقل بعدم معذورية الجاهل في مخالفة الحكم الواقعي المجهول قبل الفحص عنه ، ولا إشكال في استقلال العقل في ذلك بعد العلم بأن بناء الشارع على تبليغ الأحكام وبيانها للمكلّفين على الوجه المتعارف المقتضي لاختفائها لو لا الفحص.

وعدم جريان عادة الله « تبارك وتعالى » على إفاضة العلم بالأحكام على قلب كل مكلّف قهرا بالإلهام ونحوه ، وإلاّ لما جهل أحد بالحكم الشرعي. وهو باطل بالضرورة والوجدان ، وعدم أمره الوسائط من الأنبياء والأوصياء والحجج بتبليغ الأحكام إليهم بمقتضى قدرة النبوّة والولاية ، بل أمرهم ببيانها لهم على النحو المعتاد حسبما يقتضيه المصلحة بحسب الأزمنة ، وإيجابهم تبليغ الحاضرين الغائبين ومن وصلت إليهم بالوسائط غيرهم وهكذا بحيث لو لم يقصّر أحد في تكليفه بالتعليم والتعلّم لم يبق جاهل بحكم الله تعالى وإن اختلف كيفيّة الفحص قبل إكمال الدين وبعده.

فإنها قبل إكمال الدين يكون بحضور مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعدّ لبيان الأحكام ، فإن بيّن حكم الواقعة على خلاف البراءة فهو ، وإلاّ فيرجع إلى البراءة ؛ حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا ببيان الأحكام تدريجا حسب اقتضاء المصلحة ـ على


ما عرفت في مطاوي كلماتنا ـ فما لم يبيّن الحكم الإلزامي فالناس في سعة منه ولو كان الحكم الثابت في اللوح أو المنزل على قلبه الشريف هو الإلزام.

وبعد الإكمال يكون بحضور مجلس الحكم والسؤال عن الوليّ أو من أمر الناس بالسؤال عنه ولا يكفي مجرّد الحضور ، كما هو قضيّة ما دل على وجوب السؤال عن أهل الذكر ، بل قد يقال : بعدم كفاية مجرّد الحضور في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا.

وهذا الحكم العقلي كما ترى ، ليس مبنيّا على العلم الإجمالي بصدور الأحكام الإلزاميّة أصلا ، بل هو ثابت على تقدير عدمه. ومن هنا اتفقت كلمتهم على وجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوة ؛ لاحتمال صدقه من حيث حكم العقل الضروري بوجوب دفع الضرر المحتمل مع عدم علم هناك أصلا ، وإن لم يكن في المسألة مورد للرجوع إلى البراءة أصلا ، لا قبل النظر ولا بعده ؛ لحصول العلم بعد النظر بصدق المدّعي بإظهاره المعجزة وكذبه بعجزه عنه.

وهذا بخلاف المقام ؛ فإنه كثيرا ما لا يحصل من الفحص علم بالحكم ولا يقدر معه على طريق معتبر حاك عنه في جميع الموارد فيرجع إلى البراءة ، وإنّما الغرض من تشبيه المقام بالمسألة انحصار طريق العلم عادة فيهما بالفحص والنظر ؛ حيث إنه لم يجر عادة الله على إفاضة العلم قهرا بصدق مدّعي النبوّة وكذبه من


دون أن يكون لإظهار المعجزة مدخل أصلا كما في المقام.

وبالجملة : الفرق بين المقام والمسألة المذكورة من الجهة التي عرفتها ليس محلاّ للإنكار أصلا ، كالفرق بينهما في عدم إمكان الوجوب الشرعي للنظر بخلاف الفحص في الأحكام الفرعيّة ، ومن هنا استدلّ له بالأدلّة السّمعيّة. ولعلّه الوجه في أمره قدس‌سره بالتأمل (١) بعد تنظير المقام (٢) بقوله : ( الذي نظيره في العرفيّات ...

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى إمكان الفرق بين مثال النظير وما نحن فيه ؛ فإنه لو لم يجب النّظر في الطومار في مثال النظير لزم منه إفحام الأنبياء عليهم‌السلام.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، ولكن التحقيق عدم الفرق بينهما وأنّ المناط فيهما واحد وهو عدم قبح العقاب على مخالفة الواقع المجهول عقلا إذا لم يتفحّص عنه مع إمكانه بل يحكم العقل بصحّة العقاب عليه.

فإن قيل : إن حكم العقل بصحّة العقاب على المجهول من غير فحص معلّق على عدم ترخيص الشارع للعمل على البراءة وقد رخّصه بعموم أخبار البراءة.

أجاب المصنّف عنه : بأن أخبار البراءة معارضة بأخبار الإحتياط فيجمع بينهما بحمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص وأخبار الإحتياط على ما قبله.

وفيه : أنه رحمه‌الله حمل أخبار الإحتياط في غير موضع في المتن وغيره على الإرشاد ، بل بيّن انه لا يمكن حملها على غيره بأوفى بيان وهو الموافق للتحقيق.

وعليه فلا تعارض أخبار البراءة البتة حتى يجمع بالوجه المذكور الذي لا شاهد عليه.


__________________

والتحقيق في الجواب : أنّ أخبار البراءة منصرفة عمّا قبل الفحص » إنتهى.

حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٨٩.

* وقال السيّد الفقيه اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى أن لزوم الفحص عن الطومار إنّما هو من جهة تعلّقه بالأصول التي هي مجرى الحظر قبل الشريعة ، لا الفروع التي هي محلّ النزاع في مجرى البراءة بعد الشريعة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٧.

* وقال المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى الفرق بين المثال وما نحن فيه ؛ لأنّ المثال من قبيل دعوى النّبوّة ؛ فإن من ادّعى الرسالة من الله تعالى ودعى الناس إلى النظر إلى معجزته ، فعدم جواز العمل بأصالة البراءة عن وجوب تصديقه من دون فحص عن صدقة بالنظر في معجزته إنّما هو لاستلزامه لإفحام الانبياء ، لا لعدم جواز العمل بها قبل الفحص ؛ لأنا لو قلنا بجواز العمل بها قبله في الأحكام الفرعيّة لا يلزم منه القول بها قبله في مسألة النظر إلى المعجزة لما ذكرناه من المحذور فيها » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٣٩٩.

(٢) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان هذا ليس نظير المقام بل هو من باب وجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ؛ حيث انهم حكموا باستقلال العقل به وبعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل.

ومن المعلوم انه لا ملازمة بين ذلك وبين عدم معذوريّة الإنسان بعد الإيمان والمعرفة ،


إلى آخره ) (١) أو الوجه الأول وإن كان الفرق من الجهتين لا يمنع من التشبيه من الجهة المقصودة.

وهنا وجه آخر له غير ما عرفت من الوجهين وهو :

أنه كثيرا ما يحصل العلم بالفروع من الضرورة ونحوها من الأسباب القهريّة دون إعمال قوّة نظرية ، أو الفحص عن الحكم ، وهذا بخلاف مسألة النبوّة ؛ فإن طريقها منحصر في الإعجاز ولا يحصل العلم به إلاّ بعد النظر ، فلا يمنع العقل من الترخيص والرجوع إلى البراءة في حق الجاهل في المقام ، بخلاف مسألة الجهل بالنبوّة ؛ فإن ترخيص الرجوع إلى البراءة فيها موجب لسدّ باب إثبات النبوّات ، وهذا الوجه من الفرق وإن كان جيّدا كالفريقين السّابقين ، إلاّ أنه يمكن القول بعدم منعه عن تشبيه المقام بالمسألة المذكورة أيضا ؛ فإن الغرض كون مبنى حكم العقل

__________________

والإذعان بكثير من الأحكام فيما شك فيه منها كما في المقام على ما لا يخفى ولعلّه أشار إليه بأمره بالتأمّل.

لكن مع ذلك كلّه كانت قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الملتفت غير جارية إلاّ فيما إذا تفحّص ولم يطّلع على برهان ولا بيان ، ولا مجال بدون ذلك كما يظهر من مراجعة الوجدان وإتفاق العقلاء على استحقاق العبد للعقاب فيما إذا خالف مولاه في واحد من أوامره ، أو نواهيه قد شك فيه ولم يتفحّص عنه أصلا فليراجع » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٧١.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٤.


في المقامين على وجوب دفع الضرر المحتمل لا الحكم باتحادهما من جميع الجهات فتأمل.

لا يقال : ادّعاء عدم جريان عادة الله على خلق العلم القهري في نفوس الخلائق بصدق مدّعي النّبوّة وانحصار الطريق في الإعجاز إنّما يتم بالنسبة إلى من تأخّر من الأنبياء ، لا بالنسبة إلى النّبي السابق وأول الأنبياء ؛ ضرورة أنه لا يتصوّر هنا تكرّر حتى يدّعى بالنسبة إلى عادة ، فكيف تصح الدعوى المذكورة بإطلاقها؟

لأنّا نقول : المراد من العادة في المقام ليس ما سبق إلى بعض الأوهام من معناها المعروف الحاصل من التكرّر ، بل المراد منها عدم تعلق إرادة الله تعالى على خلق العلم القهري في النفوس بصدق مدّعي النبوة أو كذبه ، وإلاّ لم يجهل أحد بخلافه ، وهو خلاف المعلوم بالضرورة والوجدان.

لا يقال : إن معاصري النبي السّابق لا طريق لهم في الحكم بالانحصار أصلا ، لاحتمال كون الطريق لهم خلق العلم القهري ؛ إذ لم يثبت لهم نبوة أحد حتى يستدلّ بجهلهم بحال مدّعي النبوة على نفي الطريق المذكور وكونه منحصرا في الإعجاز.

لأنا نقول : ـ بعد استقلال العقل في الحكم بعدم جواز خلوّ الزمان من حجة نبيّ ، أو وليّ شاهد ، أو غائب بمقتضى اللطف الواجب على الحكيم تعالى. ومن هنا جعل أوّل خلقه نبيّا وخليفة في الأرض ( على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسّلام ) ـ :


لا سبيل إلى السؤال المذكور أصلا ، كما لا يخفى فتأمّل (١).

ثمّ إن مبنى الوجه المذكور وهو حكم العقل بعدم معذوريّة الجاهل في المقام كما عرفت لمّا كان على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وكان حكم الشارع بالترخيص الظاهري عند اشتباه الحكم الشرعي ـ على تقدير شموله لما قبل الفحص ـ رافعا لموضوع الحكم العقلي المزبور لم يكن بدّ من إثبات عدم شمول الدليل النقلي على البراءة للمقام ، ومن هنا قال شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : « والنقل الدال على البراءة في الشبهة الحكميّة معارض ... إلى آخره » (٢).

وما أفاده قدس‌سره : من حمل الدليل النقلي على البراءة على صورة العجز عن تعلّم حكم الواقعة ، فلا يدل على البراءة قبل الفحص بقرينة ما دل على وجوب الاحتياط عند التمكّن من سؤال حكم الواقعة وإزالة الشبهة ، مثل صحيحة عبد الرحمن (٣) المتقدّمة ونحوها بناء على بعض الاحتمالات التي عرفتها سابقا ،

__________________

(١) وجه التأمّل : ان مبنى الجواب عن السؤال المذكور على العلم الإجمالي وهو ينافي مبنى تشبيه المقام بالمسألة كما لا يخفى فتدبّر ( منه دام ظلّه ).

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٤.

(٣) الكافي الشريف : ج ٤ / ٣٩٤ باب ١١١ « القوم يجتمعون على الصيد وهو محرمون » ـ ح ١ والتهذيب : ج ٥ / ٤٦٥ باب « في الزيادات في فقه الحج » ـ ح ١٦٣١ ـ ٢٧٧ عنهما الوسائل ج ٢٧ / ١٥٤ ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ـ ح ١.


وما دلّ على وجوب التوقّف بظاهره بناء على ما أفاده من الجمع ، وإن كان في كمال الجودة إلاّ أنه لمّا كان مبنيّا على وجه غير نقي عن المناقشة كان الأولى منه منع شموله لما قبل الفحص بعد ملاحظة كون بناء الشارع على تبليغ الأحكام على الوجه المتعارف على ما عرفت ومن هنا وقع التصريح في غير واحد من الأخبار بالطلب والبحث ، فتأمل.

الرّابع : حصول العلم الإجمالي لكل مكلّف بالواجبات والمحرّمات في الوقائع المحتملة للتكاليف الإلزاميّة التي هي موارد الرجوع إلى البراءة على وجه شبهة الكثير في الكثير الملحقة بالشبهة المحصورة حكما ، وإن خرجت عنها موضوعا فلا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص عن حال الواقعة.

لا يقال : مقتضى ما ذكر من الوجه وجعل كل شبهة ابتدائيّة من الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بالملاحظة المذكورة ، فيدخل في الشكّ في المكلّف به حقيقة مع دوران الأمر بين المتباينين ، ومن المعلوم ضرورة عدم الجدوى للفحص فيه ؛ إذ حكمه قبل الفحص وبعده لزوم الاحتياط من غير فرق بينهما ، فيخرج عن موضوع البراءة بهذه الملاحظة ، ولذا يحكم بالاحتياط في دوران الأمر بين القصر والإتمام ونظائره من غير فرق بين قبل الفحص وبعده.

فإن شئت قلت : إن مجرى البراءة الشك في التكليف لا المكلّف به ، فالعلم الإجمالي المذكور يوجب خروج الوقائع المشتبهة عن مجرى البراءة لحصول


الغاية وهي العلم بالتكليف ، لا الفحص عن الإلزام حتى يرجع بعد اليأس عنه إلى البراءة ، فهذا الوجه أجنبيّ عن المقام أصلا ورأسا ، بل هو قادح ومضرّ بالمدّعى كما لا يخفى.

لأنّا نقول : المعلوم بالإجمال وجود الواجبات والمحرّمات فيما بأيدينا من الأدلّة بحيث يعلم بالوقوف عليها بعد الفحص عنها فيها لا وجودهما في الواقع كيف ما اتّفق ؛ لأن العلم به إنّما حصل من ملاحظة الأدلّة ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص عن الحكم الإلزامي في مضامين الأدلّة ؛ لاحتمال الاطلاع عليه بعد الفحص فيها ، وأمّا بعد الفحص فلا مانع من الرجوع إليها كما هو واضح.

لا يقال ـ بعد تخصيص المعلوم بالإجمال بما ذكر ـ إن حصل من الفحص العلم بعدم تعلّق الحكم الإلزامي بالواقعة التي تفحص عن حكمها فلا معنى للرجوع إلى البراءة فيها ، وإن لم يحصل العلم منه بعدم تعلّقه بل كان المكلّف شاكّا في حكم الواقعة المذكورة ، فلا معنى للرجوع إلى البراءة أيضا ـ بعد كون الواقعة من أطراف العلم الإجمالي ، وإلاّ جاز الرجوع إليها قبل الفحص أيضا وهو خلف ، فيرجع الأمر إلى ما ذكرنا : من عدم كون الوجه المذكور من وجوه المدّعى بل هو قادح فيه.

لأنا نقول : الرجوع إلى البراءة بعد الفحص فيما بقي بعده شكّ ، إنّما هو من جهة الاحتمال الخارج عن أطراف العلم الإجمالي ، فالفحص إنّما يوجب خروج الواقعة عن أطراف العلم الإجمالي ، لا العلم بعدم تعلّق الحكم الإلزامي بها في


نفس الأمر حتى يخرج عن مورد البراءة.

هذه غاية ما يقال في تقريب الاستناد إلى الوجه المذكور في المقام ، ولكنّه كما ترى ، غير نقيّ عن المناقشة جدّا.

أمّا أوّلا : فلأن العلم بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة كيف يقيّد بالقيد المذكور على تقدير تسليمه بعد استثناء المعلومات التفصيليّة؟ إذ لا شاهد للتقييد المذكور أصلا ، على تقدير تسليم استناد العلم إلى الأدلّة ، مع أنه لا معنى له أصلا ؛ إذ ليس مفاد كل ما دل على وجوب شيء أو حرمته إلاّ تعلق الحكم الإلزامي به بالخصوص ، فكيف يحصل العلم الإجمالي من ملاحظة الأدلّة الحاكية عن الأحكام التفصيليّة فيها علم إجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع من غير مدخل للتمكّن من الوصول إليها بعد الفحص؟

ومن هنا يدّعى العلم الإجمالي بوجودهما مع القطع بانسداد باب العلم والظن الخاصّ إليهما على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأول من التعليقة ، فهذا العلم حاصل لكل أحد من غير فرق بين الحالات والأزمنة والأمكنة.

وأمّا ثانيا : فلأن الوجه المذكور على تقدير الإغماض عن المناقشة السّابقة أخصّ من المدعى جدّا ؛ لأنّه إنّما يقتضي وجوب الفحص قبل الوقوف على ما يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه من الواجبات والمحرّمات التفصيليّة ؛ لرجوع الشكّ بعد الاطّلاع عليه إلى الشكّ الغير المقرون بالعلم الإجمالي ؛ فإن المعلوم بالإجمال إذا كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر لم يؤثّر العلم بالنسبة إلى الزائد


على الأقلّ حسبما عرفت في محلّه ، فلا مقتضى للفحص بعده على تقدير الاستناد إلى الوجه المذكور.

ومن هنا أوردنا على القائل بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة الحكميّة ـ استنادا إلى العلم الإجمالي بوجود المحرّمات الكثيرة بين الوقائع المحتملة للتحريم ـ بعد النقض بالشبهة الوجوبيّة : إن هذا الوجه إنّما يقتضي وجوب الاحتياط على تقدير تماميّته قبل الاطلاع على ما يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه من المحرّمات التفصيليّة لا بعده ، فهو أخصّ من المدّعى فلا يجوز الاستناد إليه في الموضعين.

نعم ، هنا كلام آخر قد أشرنا إليه عند الكلام في حكم الشبهة التحريميّة.

وحاصله : أن عدم جواز الاستناد إلى الوجه المذكور في الموضعين ـ لما عرفت من الوجه ولغيره مما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ وإن كان ممّا لا غبار فيه أصلا ، ولا ينبغي الارتياب فيه جزما ، إلاّ أنه لا بدّ من معالجة العلم الإجمالي لمن يريد الرجوع إلى الأصول في مجاريها المنطبقة على موارد العلم الإجمالي عند من يجعله مانعا من الرجوع إليها في أطرافه ، إذا فرض عدم حصول العلم التفصيلي بالمقدار المتيقّن من المعلومات الإجماليّة بعد الرجوع إلى الأدلّة العلميّة.

وقد ذكرنا العلاج على طريقة كلّ من القائلين بالظنّ الخاص والظنّ المطلق ، وأنّه بعد قيامهما على تعيين المقدار المتيقّن منها يكون في حكم العلم التفصيلي به


فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في موارد فقدهما ، وذكرنا أيضا ما يتوجّه عليه من المناقشة فيما قدّمناه في الجزء الأوّل من التعليقة وفي هذا الجزء فليراجع إليه.

(٧٤) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إن في حكم أصل البراءة كل أصل عمليّ خالف الاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤١٦ )

أقول : لا ينبغي الارتياب في قيام الإجماع على اشتراط الفحص في الرجوع إلى غير الاحتياط من الأصول في الشبهات الحكميّة ، سواء خالفت الاحتياط : بأن كان مفادها نفي الحكم الإلزامي ، أو وافقته : بأن كان مفادها إثباته تعيينا أو تخييرا ، بل هو مقتضى أكثر الوجوه المتقدّمة إن لم يكن مقتضى جميعها ، فالأولى في تحرير المقام أن يذكر بدل قوله : « خالف الاحتياط » « غير الاحتياط » وإن أمكن إرجاعه إلى ما يطابقه بتمحّل بعيد.

(٧٥) قوله قدس‌سره : ( أمّا الأول : فلعدم المقتضي للمؤاخذة عدا ما يتخيّل ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤١٦ )

في الإشارة إلى كيفيّة اعتبار العلم وحجّيّته

أقول : العلم في نفسه وإن كان خلقا كريما يستقلّ العقل بحسنه الذاتي كالشرع ، وقد تواترت به الأخبار والآثار من النبي المختار والأئمة الأطهار « صلوات الله عليهم أجمعين » إلاّ أنّ وجوب تحصيله بالنسبة إلى الأحكام الفرعيّة


على كل مكلّف ـ في حكم الشارع ـ إنّما هو من باب الإرشاد والطريقيّة ، كحكم العقل بوجوبه بالنسبة إليها كيلا يفوت منه الواقع ، وإن كانت له جهة نفسيّة كفائيّة من حيث حفظ الأحكام عن الاندراس وإن كان الغرض منه التعليم وإرشاد الجاهلين.

وهذا المعنى وإن كان خلاف ظاهر جملة مما ورد فيه في باديء النظر ، إلاّ أنّه يعلم إرادته من ملاحظة مجموع ما ورد فيه سيما ما ورد في تفسير قوله تعالى :

( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (١) وقد تقدّم نقله في « الكتاب » فلا بد من صرف ما يظهر منه خلافه ، وقد تقدّم منّا شطر من الكلام في وجوه مطلوبيّة العلم وعنواناته في الجزء الأوّل من التعليقة فلا نعيد القول فيه.

كما أنه تقدّم الكلام من شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره ومنّا في قبح التجرّي أيضا وأن الذمّ فيه يرجع إلى الفاعل لا إلى الفعل حتى في التجرّي على المعصية مع العلم فضلا عن الاحتمال الذي لا يعذر فيه الفاعل.

وأمّا ما ذكره الشيخ وأبو المكارم وغيرهما « قدّس الله أسرارهم » : « من أن الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة في حكم العقل كالإقدام على ما يعلم فيه المضرّة (٢) » فهو صحيح لا ريب فيه أصلا في الجملة ، إلاّ أن حكم العقل بعدم جواز

__________________

(١) الأنعام : ١٤٩.

(٢) عدّة الأصول : ج ٢ : ٧٤٢ ـ ٧٤٣ والغنية ( الجوامع الفقهيّة ) ٤٨٦.


الإقدام على محتمل الضرر الأخروي ووجوب دفعه حكم إرشاديّ صرف ، لا يترتّب على مخالفته وموافقته غير الضرر المحتمل على تقدير ثبوته وعدمه على هذا التقدير ، بل الأمر كذلك في الضرر الأخروي المقطوع ، بل حكم الشارع فيهما أيضا لا يمكن إلاّ أن يكون إرشاديا.

وليس مراد الشيخ ومن وافقه من القضية المذكورة إلاّ ما ذكرنا : من إثبات أصل حكم العقل بعدم جواز الإقدام ، فينفع في الحكم بعدم المعذوريّة على تقدير ثبوت الضرر في نفس الأمر. وأين هذا من الحكم باستحقاق المؤاخذة على مجرّد مخالفة الحكم المذكور؟

نعم ، يثمر في تحقّق التجري ؛ فإن الجاهل لو كان معذورا في مخالفة الواقع لم يتحقّق في حقه التجرّي ، بخلاف ما لو لم يكن معذورا ، هذا إذا أريد من الضرر ما يتعلّق بالآخرة كما هو الظاهر.

وإن أريد منه الضّرر الدنيوي وإن لم يكن له تعلّق بالمقام على هذا التقدير : فيتوجّه عليه ـ بعد تسليم الصغرى والكبرى مع تطرق المنع إليهما في الجملة ـ : إن حكم العقل في المحتمل منه أيضا إرشاديّ لا يترتّب على مخالفته عقاب ، وهذا بخلاف حكمه في المقطوع ؛ فإنه وإن كان إرشاديّا أيضا كما هو الشأن في جميع أحكامه ، إلاّ أنه مستتبع لحكم شرعيّ مولويّ والفرق بينهما ظاهر فتأمل.

فلا بدّ أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره وتابعيه أيضا من المقايسة إثبات أصل الحكم لا كيفيّته ، هذا مع إمكان أن يقال : إن الإقدام على الضرر المعلوم إذا فرض


خطأ العلم لا يكون حراما شرعيّا إلاّ على القول بحرمة التجريّ هذا. وقد مضى شرح الكلام فيما يتعلّق بتحرير المقام في مطاوي كلماتنا السّابقة سيّما في الجزء الأوّل من التعليقة عند الكلام في الاستدلال على حجيّة مطلق الظنّ بقاعدة دفع الضرر المظنون فليراجع إليه.

وممّا ذكرنا كله يظهر لك : أن ما أفاده شيخنا قدس‌سره غير واف بالمراد فليته حرّر المقام بمثل ما حرّرناه.

(٧٦) قوله قدس‌سره : ( وأما الثاني : فلوجود المقتضي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤١٧ )

أقول : بعد إثبات شرطية الفحص في الرجوع إلى البراءة ، وعدم جواز الاستناد إليها قبل الفحص ، لا يبقى هنا محلّ للتكلّم في معذوريّة الجاهل التارك للفحص العامل بالبراءة مع مخالفة عمله للواقع ؛ ضرورة منافاة معذوريّته في مخالفة الواقع مع فرض تركه الفحص الواجب عليه بالمعنى المتقدّم ، فلا ينبغي تحرير الكلام في إثبات عدم المعذوريّة والفرض هذا كما لا يخفى.

بل التحقيق : الحكم باستحقاقه للمؤاخذة على مخالفة الواقع المجهول على القول بوجوب تحصيل العلم نفسا أيضا ؛ لأنه لا ينكر شرطية الفحص في العمل بالأصل في الشبهة الحكميّة ، وإن قال بوجوب تحصيل العلم نفسا أيضا ؛ لعدم التّنافي بين وجوب الشيء لنفسه وشرطيّته لشيء آخر ، كغسل الجنابة على مذهب بعض الأصحاب.


نعم ، لا بدّ من قيام الدليل على الشرطيّة على مذهبه ، غير ما دلّ على وجوب تحصيل العلم المحمول عنده على الأمر النفسي ، وإن لم يجامع عندنا مع جواز الرجوع إلى الأصل قبل الفحص على ما أسمعناك سابقا ، فيستحقّ على مذهبه عقابان : أحدهما : على مخالفة الواقع. ثانيهما : على ترك التعلّم ، اللهم إلاّ أن يقول باختصاص وجوب تحصيل العلم نفسا بصورة العلم بالتمكّن من تحصيل العلم بحكم الواقعة ، فيفترق مع اشتراط الفحص في العمل بالأصل ، فيقول هنا بمقالة المشهور فتأمل.

(٧٧) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن معقد الإجماع تساوي الكفار ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤١٨ )

أقول : قد عرفت : أن عدم معذوريّة الجاهل في مخالفة الواقع بعد البناء على اشتراط الفحص من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إلى الاستدلال بالإجماع المذكور وبغيره ، إلاّ أن الاستدلال به أيضا لا غبار عليه بعد تعميم كلامهم لما يشمل الجاهل البسيط ، ولو بفحوى حكمهم بالمؤاخذة في الجاهل المركّب من الكفار.

والوجه في ذلك : أن الإجماع المذكور ليس كالإجماع على مشاركة المعدومين مع الموجودين في التكليف ، أو مشاركة الغائبين مع الحاضرين فيه حتى يقال : بأن مرجعه إلى إثبات الكبرى ، فإذا شكّ في مورد فيما كان حكما في أصل الشرع وتكليفا للمخاطبين من جهة الشكّ في شرطيّة شيء للتكليف والحكم الكلّي الإلهي ، لم ينفع الإجماع المذكور ولا غيره من أدلّة الاشتراك في رفع الشكّ


المزبور أصلا ، بل لا بدّ من التماس دليل آخر ؛ فإنه إجماع على المؤاخذة مع فرض جهلهم ، فينا في شرطيّة العلم في استحقاق المؤاخذة.

نعم ، لا ينافي شرطيّة أمور أخر في التكليف الإلهي على المسلم والكافر كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا.

(٧٨) قوله قدس‌سره : ( وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي ). ( ج ٢ / ٤١٨ )

نقل كلمات المقدّس الأردبيلي وصاحب

المدارك قدس‌سرهما في مسألة العلم

أقول : وقد مال إلى القول بكون العلم واجبا نفسيّا بعض الميل المحقّق المحشّي في بحث مقدمة الواجب ، ولكن لم يعلم من كلامهم معذوريّة الجاهل البسيط في مخالفة الواقع على ما هو المقصود بالبحث في المقام ؛ فإن الجاهل المركّب والغافل لا يتصوّر في حقّه الرجوع إلى البراءة ، فالبحث معهم في مسألة أخرى ، كما أن بحثهم في وجوب تحصيل العلم بحكم الله تعالى.

وأمّا تحصيل العلم بإتيان المأمور به في الخارج بعد العلم به فهو خارج عن محل كلامهم ؛ فإن كون وجوبه إرشاديّا صرفا وعقليّا محضا وكذا حال مقدّمته ليس محلاّ لإنكار أحد. فهنا مسائل فالتكلم في المسألة الثانية إنّما هو من جهة جر


الكلام إليها هذا. ولكن يمكن تعميم البحث بالنسبة إليها بأن يقال : إن الجاهل البسيط غير معذور في مخالفة الواقع قبل الفحص وإن عرض له الغفلة بعد الشكّ.

ودعوى : تعميم كلامهم للشاكّ من جهة إطلاق السّهو والغفلة في جملة من الأخبار وكلماتهم في باب الشكّ في الصلاة على الشكّ كما في قوله : « ألا أجمع لك السهو كله في كلمتين؟ متى شككت فابن علي الأكثر » (١).

بعيدة جدّا بل فاسدة جزما ؛ لإباء التعليل المذكور في كلماتهم عن الحمل المذكور ؛ لأن تكليف الشّاك بالواقع ليس تكليفا بما لا يطاق ، فالأولى نقل كلامهم حتى يتضح حقيقة مرامهم.

قال في « المدارك » ـ في مسألة الإخلال بإزالة النجاسة في الصلاة ذاكرا لها ـ ما هذا لفظه :

« إن إطلاق كلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق في العالم بالنّجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا ، بل صرّح العلامة وغيره ، بأن جاهل الحكم عامد ؛ لأن العلم ليس شرطا في التكليف. وهو مشكل لقبح تكليف الغافل ، والحقّ : أنهم إن أرادوا ـ بكون الجاهل كالعامد ـ : أنه مثله في وجوب الإعادة في الوقت مع الإخلال بالإعادة فهو حقّ ؛ لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء التكليف تحت

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣٤٠ ـ ح ٩٩٢ ، عنه الوسائل : ج ٨ / ٢١٢ باب « وجوب البناء على الأكثر عند الشك في عدد الأخيرتين ... إلى آخره » ـ ح ١.


العهدة. وإن أرادوا : أنه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل ؛ لأن القضاء فرض مستأنف فيتوقف على الدليل ، فإن ثبت مطلقا أو في بعض الموارد ثبت الوجوب ، وإلاّ فلا. وإن أرادوا : أنه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل ؛ لأن تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق. نعم ، هو مكلّف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح » (١) (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى وعرفت ، آب عن الحمل على المعنى الشامل للجهل البسيط ؛ لأن تكليف الجاهل البسيط بما هو جاهل به ليس تكليفا بما لا يطاق حتى لو أريد منه التكليف بامتثاله ؛ فإن الأمر بعنوان الاحتياط ـ ولو ندبا ـ متعلّق بالشاك

__________________

(١) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام : ج ٢ / ٣٤٤.

(٢) قال في الذخيرة بعد نقل ما عرفته من المدارك :

« وبالجملة : الظاهر أن التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلاّ لزم تكليف الغافل ، أو التكليف بما لا يطاق ، والعقاب يترتّب على ترك النّظر ، لكن لا يبعد ان يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم.

ولا يخفى انه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام وإنّما يكونون مخاطبين بمقدمات الأحكام وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب وتحقيق هذا المقام من المشكلات ، والغرض الفقهي متعلّق بحال الإعادة والقضاء وهما ثابتان في المسألة المذكورة بعموم الأخبار السابقة » إنتهى. ذخيرة المعاد : ١٦٧.


إجماعا ، مع أنه لا فرق في امتناع التكليف بما لا يطاق بين التكليف الوجوبي والندبي ، بل التحقيق ـ كما برهن عليه في محلّه مع وضوحه ـ : امتناع تعلّق الإباحة بغير المقدور.

نعم ، امتثال التكليف من الغافل به محال وإن كان ذات الفعل مقدورا وإن لم يكن الاستحالة المذكورة مفيدة في المقام.

نعم ، يمكن القول بشمول كلامه للمقام مع الالتزام بخطأه في الاستدلال ، وإن هو إلاّ نظير استدلال السيّد أبو المكارم على البراءة في الشبهة الحكميّة : بأن التكليف مع الجهل تكليف بما لا يطاق (١). وقد تقدّم مع توجيهه وتضعيفه في كلماتنا السابقة.

وأمّا كلام المحقّق الورع الأردبيلي قدس‌سره في تلك المسألة فليس له صراحة فيما نسبه شيخنا قدس‌سره إليه ، فلعلّه أخذه من موضع آخر (٢) قال في « شرح الإرشاد »

__________________

(١) غنية النّزوع إلى علمي الأصول والفروع ( الجوامع الفقهيّة ) ٤٦٤.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« قال المقدّس الأردبيلي في شرح الإرشاد : [ مجمع الفائدة والبرهان : ج ٢ / ١١٠ ]

( واعلم أيضا أن سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مثلا هو النهي عن الصلاة فيها المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير ، وأن النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ، بل ولا الجاهل ؛ لعدم النهي حين الفعل ولأن الناس في سعة ما لا


في مسألة الصلاة مع النجاسة : « وإن كان جاهلا بالمسألة فقيل : حكمه حكم العامد وفيه تأمّل ؛ إذ الإجماع فيه غير ظاهر ، والأخبار ليست بصريحة في ذلك ، والنهي الوارد بعدم الصلاة مع النجاسة أو الأمر الوارد بالصلاة مع الطهارة المستلزم له غير واصل إليه ، فلا يمكن الاستدلال بالنهي المفسد للعبادة ؛ لعدم علمه به ، ولما هو المشهور من الخبر : « النّاس في سعة ما لم يعلموا » (١) وما علم شرطيّة الطهارة في الثوب والبدن مطلقا حتى ينعدم بانعدامه ، مع أن الإعادة يحتاج إلى دليل جديد.

إلاّ أن يقال : إن وصل إليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور ، فهو لغفلته مكلّف بالتفحّص والتحقيق والصلاة مع الطهارة. وقالوا : شرط التكليف إمكان العلم ، فهو مقصّر ومسقط عن نفسه بأنه لم يعلم ، فلو كان معذورا للزم فساد عظيم في الدين فتأمل ؛ فإن هذه من المبطلات ولا يبعد الإعادة في الوقت من غير كلام

__________________

يعلمون وإن كان في الواقع مقصرا ومعاقبا بالتقصير ولعلّ قول المصنّف ; : ( وإن جهل ) المراد به عدم علمه بالبطلان لا التحريم وان كان ظاهر كلامه غير ذلك وفهم من غير هذا المحلّ ) إنتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهو صريح في كون الجاهل المقصّر معاقبا من جهة ترك الفحص والسؤال » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٠٠.

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ٤٢٤ ـ ح ١٠٩ عنه مستدرك الوسائل : ج ١٨ / ٢٠ باب : « ان من فعل ما يوجب الحد جاهلا بالتحريم لم يلزمه شيء من الحد » ـ ح ٤.


فتأمّل » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وتمسّكه برواية السعة وإن كان كما ترى إلاّ أنه يكشف عن كون محلّ كلامه هو الجاهل المتردّد ولا معنى للحكم بصحّة عمله كما هو ظاهر وربّما يستظهر من هذا الاستدلال كون مراده تقييد دليل الشرائط والأجزاء بالعلم وهو أيضا كما ترى.

ثمّ إنه أوضح الفريد البهبهاني عدم قبح تكليف الجاهل في المقام في هامش « المدارك » : بأنه ليس حال هذا المكلّف إلا حال عبد أعطاه سيّده طومارا وقال أمرتك فيه بأوامر لو تركتها عاقبتك على كل واحد واحد وكذلك نهيتك عن أمور ولا يفتح العبد الطومار ولا يعتني بشأنه استنادا إلى أني جاهل بما في الطومار وتكليف الجاهل قبيح (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في الردّ على ما ذكره في « المدارك » من التكليف بما لا يطاق بعد ذكر وجوه : « على أنه لو تمّ ما ذكره لزم أن لا يكون الكفار مكلفين بالفروع ، على ما ذهب إليه بعض العامة (٣) وشنّع عليه باقي العامّة وجميع الخاصّة ، والخاصة مطبقون على تكليفهم بها (٤). انتهى كلامه رفع مقامه وجزاه الله وجميع المشايخ وعلمائنا عن الإسلام خير الجزاء.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان : ج ١ / ٣٤٢.

(٢) حاشية المدارك : ج ٢ / ٢٤٠.

(٣) بدائع الصّنائع : ج ٢ / ٥ و ٦٩.

(٤) حاشية المدارك : ج ٢ / ٢٤٠.


الحكومة بين رأي المشهور ومختار الأردبيلي ومن تبعه

ثمّ إن تنقيح القول في المقام وتوضيحه بحيث يرفع غواشي الأوهام عن تمام ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في الحكومة بين قول المشهور وقول صاحب « المدارك » وشيخه قدس‌سرهما ، أو توجيه أحدهما بحيث يرجع إلى الآخر فيرفع الخلاف من البين يتوقّف على رسم أمور ، وإن كان النّاظر الراجع إلى مجامع ما قدّمنا في هذا الجزء والجزء السابق من التعليقة يقف عليها ولو على سبيل الإجمال.

ثبوت الحكم التكليفي في نفس الأمر

غير منوط بالعلم به

الأوّل : أن ما أنشأه الشارع من الأحكام التكليفيّة الخمسة ثبوته في نفس الأمر لا يمكن أن يكون منوطا بالعلم به ، وإلاّ لزم الدور الظاهر. وكذا تنجّزه وفعليّته الذي هو من شؤونه ومراتبه بحسب حكم العقل ليس مشروطا بالعلم به ، بل نفس الالتفات إليه موجب لتنجزه.

ومن هنا حكمنا وحكموا بوجوب الفحص على الجاهل بالحكم الملتفت إليه ، وعدم كونه معذورا في مخالفة الواقع ، من غير فرق في ذلك بين القول بكون


وجوب تحصيل العلم وطلبه نفسيّا كما سبق إلى بعض الأوهام (١) ، أو للوصلة إلى الواقع وحفظه عن الفوت أحيانا على تقدير عدم الأخذ به ـ على ما عرفت تحقيقه ـ فيصرف ما دلّ بظاهره على خلافه ، أو يحمل على العقائد على تقدير إبقائه على ظاهره ؛ فإن قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار : « طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة » (٢) لا يجامع بظاهره أكثر الأخبار الدالة على كونه مطلوبا للعمل في الفروع ، وما دلّ من الأدلّة القاطعة على مشروعيّة التقليد والعمل بالطرق الغير العلميّة في الأحكام الفرعيّة.

لما عرفت : من أن القول بكون العلم واجبا نفسيّا لا يستلزم معذوريّة الجاهل قبل الفحص في مخالفة الواقع ، فما أفاده العلامة وغيره « قدس‌سرهما » :

« من عدم اشتراط التكليف بالعلم » ممّا لا محيص عنه. كما أنه لا فرق في ذلك بين الشاكّ والجاهل المركّب والغافل إذا فرض عروض الجهل والغفلة بعد الالتفات والتقصير. وأما إذا فرض عروضهما قبل الالتفات أو بعده وقبل التقصير فالتكليف لا يتنجّز معه وإن كان موجودا في نفس الأمر فيهما ، كالشكّ بعد الفحص واليأس.

نعم ، يفترقان عنه في عدم إمكان تحقّق الامتثال معهما مطلقا وإمكانه معه

__________________

(١) كما مرّ من ميل صاحب الهداية اليه.

(٢) لم نجد الخبر بهذا اللفظ والموجود في المجاميع كالكافي الشريف : ج ١ / ٣٠ باب « فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه » ـ ح ١ هكذا : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، ألا إن الله يحب بغاة العلم ».


كذلك ، هذا بالنسبة إلى نفس الأحكام الشرعية التكليفيّة ، وأما موضوعاتها الاختراعيّة فربّما يكون وجودها الخارجي في العبادة من المكلّف موقوفا على تعلّمها كالقراءة الصحيحة مثلا ؛ فإنها متوقّفة على تعلّمها فتحصيل العلم مقدّمة وجوديّة لها في العادة ، لكنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ، كما لا يخفى.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أن العلم ليس شرطا في التكليف أصلا ، لا في تحقّقه في نفس الأمر ، ولا في تنجّزه على المكلّف ، ولا في امتثاله ؛ لأن نفس الالتفات كاف في التنجز ، وإمكان الامتثال ما دام موجودا وإن لم يمكن الامتثال مع عروض الغفلة ، لكن تنجّزه لا يرتفع إذا كان عروضها من سوء اختيار المكلّف هذا بالنسبة إلى نفس التكليف.

وأمّا ما يعتبر في عبادة جزءا وشرطا أو مانعا فلا معنى لارتباط اعتباره بالعلم بالحكم ، واعتباره وفساد العبادة الخالية عنه أيضا سواء كان دليله من قبيل الجملة الخبريّة كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٢) أو الجملة الطلبيّة الإنشائيّة ولو قيل بعدم توجّه الخطاب بالصّلاة

__________________

(١) الفقيه : ١ / ٥٨ ـ ح ١٢٩ ، والتهذيب : ١ / ٤٩ باب « آداب الأحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٨٣ ، وكذا الإستبصار : ١ / ٥٥ باب « وجوب الإستنجاء من الغائط والبول » ـ ح ١٥ ـ عنها الوسائل : ١ / ٣١٥ باب « وجوب الإستنجاء وإزالة النجاسات للصلاة » ـ ح ١.

(٢) غوالي اللئالي : ١ / ١٩٦ وج ٢ / ٢١٨ وج ٣ / ٨٢ ، عنه مستدرك الوسائل : ٤ / ١٥٨ « باب وجوب قراءة الفاتحة في الثنائية وفي الأوّليتين من غيرها » ـ ح ٥.


المشتملة على الجزء مثلا بالجاهل به أو الغافل عنه ؛ فإنه لا يثبت الأمر بالخالية عنه.

ومن هنا التزم صاحب « المدارك » واعترف بوجوب الإعادة على من صلّى في النجاسة جاهلا بحكم الإزالة ، وأمّا الحكم بصحّة صلاة الجاهل بحكم الجهر والإخفات ، أو المتمّم في السفر جهلا بالحكم فليس من جهة كون العلم بالحكم مأخوذا في الموضوع كما قال به علم الهدى فيما سيجيء من كلامه ، بل من جهة ما ستقف عليه ممّا لا ينافيه ، وكذا الحكم بصحّة صلاة الجاهل بحكم الغصب في الجملة ليس من جهة كون حرمة الغصب تابعة للعلم بل من جهة ما سيجيء الإشارة إليه أيضا. وهذا كلّه مما لا يعتريه ريب إن شاء الله تعالى ، ومنه يظهر النظر في مواضع من كلام صاحب « المدارك ».

مانعيّة شيء للعبادة أو شرطيّة عدمه لها

الثّاني : أنا قد ذكرنا لك سابقا في طي الكلام فيما يتعلّق بالأقلّ والأكثر : أنه قد يحكم بمانعيّة شيء للعبادة ، أو شرطيّة عدمه لها : من جهة تعلّق النهي النفسي بعنوانه المتّحد مع العبادة في الخارج أحيانا كالغصب ؛ فإنه قد يتّحد مع العبادات من الصّلاة والغسل والوضوء وغيرها ، فيحكم من جهة تحريمه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي بشرطيّة إباحة المكان واللباس والماء ونحو ذلك ، فيحكم بفسادها لكن لا مطلقا بل في الجملة.


وتوضيح ذلك : أن الغاصب في ضمن العبادة المتّحدة معه في الخارج : إمّا أن يكون عالما بالموضوع والحكم معا ذاكرا لهما حال العبادة ، أو يكون جاهلا بالموضوع وإن كان عالما بالحكم ، أو يكون جاهلا بالحكم مع العلم بالموضوع ، أو يكون ناسيا للموضوع مع الالتفات إلى الحكم ، أو يكون ناسيا للحكم مع الالتفات إلى الموضوع. ثم الجاهل بالحكم : إما أن يكون بسيطا أو شاكّا ، أو يكون جاهلا مركّبا ، ويلحق به الغافل كمال يلحق بالجاهل بالموضوع الغافل عنه. وكل من الجاهل بالحكم بأقسامه والناسي له : إمّا أن يكون قاصرا أو مقصّرا فهذه صور المسألة لا تزيد عليها بحيث توجب اختلاف الحكم وإن زادت أصل الصّور على ما ذكر.

أمّا الصورة الأولى : فلا ينبغي التكلم في حكمها بعد القول بامتناع الاجتماع وتقديم النهي واقتضائه الفساد على ما فصّل في محلّه.

وأما الجاهل بالموضوع : فقد اتّفقوا على القول بصحّة عبادته مطلقا.

وأمّا ناسي الموضوع : فالمشهور على صحّة صلاته ، وخالف فيه العلامة قدس‌سره وبعض من تأخّر عنه.

وأمّا جاهل الحكم : فالذي يظهر من كلماتهم التفصيل في الحكم بالصحّة والفساد فيه بين القاصر والمقصّر سواء كان جاهلا بسيطا أو مركّبا ، وإن كان في كلام بعضهم : إطلاق القول بالفساد ولو مع القصور.


وأمّا ناسي الحكم فحكمه عندهم حكم الجاهل بالحكم بقسميه. والوجه في هذا التفصيل : هو بناؤهم في مسألة امتناع الاجتماع على كون المزاحم للأمر الغير المجامع معه للتضادّ هو النهي الواقعي المنجّز على المكلّف ، فلو لم يكن هناك نهي واقعا ـ وإن كان الفعل مما يعاقب عليه ويكون مبغوضا ويوجد فيه جهة النهي ـ لا يحكم بفساد العبادة.

ومن هنا حكموا بصحّة صلاة المتوسّط في المغصوب في حال الخروج ، وبصحّة غسل المرتمس في الماء المغصوب إذا قصده حال إخراج البدن عن الماء ، إلى غير ذلك فيما إذا فرض كونه عاصيا بالغصب ؛ لانتفاء النهي واقعا : من جهة امتناع الجمع بين فعل الشيء وتركه ، فيمتنع تعلّق الخطاب بهما ، وإن كان السبب سوء اختيار المكلّف ـ على ما برهن عليه في محلّه ـ فيعاقب على تفويت التكليف الذي تمكن من امتثاله.

وإن خالف فيما ذكر فقيه عصره قدس‌سره في « كشفه » قال قدس‌سره ـ في بحث مقدمة الواجب في مقدمات الكتاب ـ ما هذا لفظه :

« ثمّ المقدمة من شرط أو رفع مانع يتعلّق بهما الوجوب قبل دخول وقت الغاية موسّعا حتى تضيق وقتها ؛ لأن خطاب المعلّق كخطاب المنجّز ما لم يقم دليل على الخلاف كما في الطهارة. وأمّا المشي إلى الحجّ وغسل الصوم الواجب فيتعلّق الوجوب بهما على وفق القاعدة قبل دخول الوقت ، وخصّ نسبة الاستطاعة وتأهّب القافلة وتخصيص الليل في شهر رمضان للدليل ، ولا يلزم تكليف بالممتنع


بعد إهمال المقدّمة حتى يقصر الوقت لاستناده إلى الاختيار ، وإلاّ لكان التكليف بحفظ النفس المحترمة مثلا بعد انفصال السهم والرمح والحجر مثلا من التكليف بالمحال.

والفرق بين صريح الخطاب وحكمه واضح ، فاجتماع الوجوب والحرمة في خروج الغاصب المختار ، وفي عمل المرتد الفطري لا مانع منه ، بخلاف الداخل في مكان الغير جهلا بالموضوع أو نسيانا أو جبرا ؛ فإنه لا إثم عليه ويصحّ صلاته دون القسم الأوّل ؛ فإن الظاهر عدم قبول توبته عند الخروج ، كما لا يقبل توبة الزاني حال النّزع فيعاقب على الإدخال والاستقرار والنّزع في وجه قويّ (١) ».

انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى مخالفته لما ذكرنا في حكم المتوسّط في الأرض المغصوبة ، وأولى منه في الصحّة ما لم يكن هناك نهي ولا عقاب ، كالمأذون عن المالك في الصلاة في مكانه الذي غصبه الغير خلافا لبعض من توهّم بطلان صلاته ، بل بطلان صلاة المالك في الفرض أيضا : من جهة توهّم كون الغصب بما هو غصب من موانع الصّلاة.

كما أنه لو كان هناك نهي واقعا ولكن لم يتنجّز على المكلّف من جهة جهله بالموضوع ، أو نسيانه له ، أو جهله بالحكم ، أو نسيانه له ، مع كونه معذورا فيها لم

__________________

(١) كشف الغطاء : ج ١ / ١٦٩ وفي ( ط ق ) ٢٦.


يحكم بفساد العبادة أيضا ؛ لانتفاء النهي الفعلي ، وإن لم يكن هناك إباحة وترخيص عن الشارع بالنسبة إلى الفعل كناسي الموضوع ؛ فإن المانع هو النهي الفعلي ، فإذا انتفى يحكم بالصحّة ولا يكون الإباحة شرطا حتى لا يحكم بالصحّة في ناسي الموضوع ، خلافا لمن جعل الإذن والترخيص شرطا على ما يحكى عن العلامة.

وإن كان النهي موجودا واقعا مع تنجّزه على المكلّف يحكم بفساد العبادة ، كالجاهل بالحكم مع التقصير بقسميه ، والناسي للحكم مع التقصير ؛ فإنّ النهي موجود فيهما مع تنجّزه على المكلّف ؛ فإن الجهل بالحكم ، أو نسيانه لا يوجب سلب القدرة عن الفعل على ما عرفت.

وهذا المعنى وإن كان محلّ مناقشة عندنا على ما فصّلنا القول فيه في المسألة المذكورة وأشرنا إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة : من أن التضادّ بين الحكمين إنما هو بينهما بأنفسهما من غير فرق بين تنجّزهما وعدمه ، إلاّ أنه لا إشكال في صحة الابتناء بعد الإغماض عما في المبنى كما هو ظاهر.

ومن هنا قد يؤاخذ شيخنا قدس‌سره بقوله : « نعم ، يبقى الإشكال في ناسي الحكم ... إلى آخر ما ذكره » (١) ؛ فإن الظاهر منه ذهاب المشهور إلى القول بالصحّة في الناسي مطلقا وليس الأمر كذلك ، مع أنه قد يناقش فيما أفاده من الإشكال ؛ فإن الناسي إذا كان قاصرا لم يكن إشكال في صحّة عبادته ، وإن كان مقصّرا تاركا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٠.


لحفظ الحكم الذي تعلّمه بحسب تكليفه لم يكن إشكال في بطلان عبادته.

والإشكال في الصحة في ناسي الموضوع من جهة توهّم : كون الترخيص والإباحة شرطا في صحّة الصّلاة على ما عرفت الإشارة إليه ؛ والمفروض وجود الترخيص في ناسي الحكم مع عدم التقصير ، بخلاف ناسي الموضوع.

وممّا ذكرنا كله يعلم : أن حكم المشهور بالصحّة فيما حكموا بصحّة العبادة المتّحدة مع الغصب ليس من جهة كون حرمة الغصب تابعة للعلم بها شرعا ، بل من جهة ما عرفت : من انتفاء النهي الفعلي في بعض أقسام الجهل والنسيان ، وإن كان حكم العقل بالقبح تابعا للعلم بعنوان الغصب ، كما هو الشأن في سائر أحكامه في مواضع التحسين والتقبيح.

العلم بالحكم الشرعي ليس مقدّمة للوجوب ولا شرطا له

الثّالث : أنك قد علمت من مطاوي كلماتنا السابقة : أن العلم بالحكم الشرعي كما لا يكون مقدمة للوجوب وشرطا له ، كذلك لا يكون مقدّمة لوجود الواجب وشرطا له بالمعنى المعروف للمقدّمة ، وإن كان وجوب تحصيله إرشاديّا وللتوصّل إلى فعل الواجب وعدم فوته عن المكلّف ، ويشترك مع الأمر المتعلّق بالمقدّمة والواجب الغيري في كونه تبعا للأمر النفسي المتعلّق بالواجب ومعلولا لأمره.

وهذا بخلاف ما لو قيل بوجوبه النفسي ؛ فإنه من جهة ذاته وإن كانت


الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلف قابلا لتوجّه التكليف بالمعلومات إليه ، وعدم فوت مصالحها عنه ؛ فإن هذا المعنى لا ينافي الوجوب النفسي ، كما هو الشأن في كثير من الواجبات النفسيّة ، كالأمر بالمعروف ووجوب التبليغ والإرشاد وغير ذلك ، بل تمام الواجبات السمعيّة على ما تسالموا عليه : من كون وجوبها من حيث كونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فملاحظة الغير لا ينافي النفسيّة.

ثمّ على القول بوجوبه النفسي لا إشكال في ترتّب استحقاق العقاب على تركه من حيث هو ، وإن كان هناك استحقاق آخر على ترك المعلومات فيما لو فرض عدم معذوريّة المكلف في تركها. وأمّا على القول بوجوبه الغيري بالمعنى الذي عرفته فيمكن أن يلتزم باستحقاق العقاب على تركه على القول باستحقاق العقاب على ترك المقدّمة زائدا على الاستحقاق المترتّب على مخالفة الأمر المتعلق بذي المقدّمة المترتّبة على تركها. ويمكن القول بعدم استحقاق عقاب على تركه على هذا القول ؛ نظرا إلى كون وجوبه إرشاديّا محضا.

ثمّ إن لهم كلاما في بحث وجوب المقدّمة على القول بعدم تحقّق العقاب فيما أفضى تركها إلى ترك ذيها بحيث لا يقدر على فعله بإتيانها ، وهو : أن العصيان للمولى متقوّم حقيقة بترك المقدّمة ، وإن كان العقاب على مخالفة الأمر بذيها الحاصلة بتركها.

ثمّ على القول : بأن المعاقب عليه هو ترك ذي المقدّمة ، اختلفوا في زمان الاستحقاق ، وأنه هل زمان ترك المقدّمة ، أو ينتظر زمان ترك ذي المقدّمة فيما كان


متأخّرا عن زمان ترك المقدّمة؟

والذي عليه المحقّقون : كون العقاب على ترك ذي المقدّمة عند ترك المقدّمة وإن تأخّر زمان ترك الواجب ، كما إذا ترك السفر مع الرّفقة الأخيرة إلى الحج من البلد النّائي مع العلم بعدم التمكّن من إدراك الحج في زمانه ؛ لحكم العقلاء بالاستحقاق ، وحصول المعصية عند ترك المقدّمة وإن تأخّر زمان فعل ذي المقدّمة من زمان المقدّمة ، فكلّما ينقطع الخطاب عن الواجب بسوء اختيار المكلّف يحكم فيه بالاستحقاق من غير ترقّب لزمان الفعل.

وحمل كلام صاحب « المدارك » على هذا المعنى ، أي : على القول باستحقاق العقاب على ترك الواجبات التي غفل عنها حين ترك التعلّم ـ مع كمال بعد إرادته عن كلامه ـ مبني على ما ذكرنا سابقا : من التزامه بتنجّز الخطاب بالواجبات عند الالتفات ، وانقطاع الخطاب عنها بسوء اختيار المكلّف بترك التعلّم.

وأبعد منه ما حكى شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره عن بعض المحقّقين (١) : من حمل كلامه على إرادة استحقاق العقاب دائما على ترك المقدّمة : من حيث استناد العصيان إليه ، وإن كان مبنيّا أيضا على التزامه بما ذكرنا : من تنجّز الخطاب بالواجبات بمجرّد الالتفات ، وإلاّ لم يكن معنى للعصيان فتدبّر.

__________________

(١) يريد به المحقّق آغا جمال الخوانساري في حاشيته الشريفة على الروضة البهيّة : ٣٤٥.


جملة من أحكام مقدّمة الواجب

الرّابع : أنه قد برهن في بحث وجوب المقدّمة : أن الوجوب التّبعي الغيري الثابت لها عند المحقّقين لا يعقل انفكاكه عن الخطاب المتعلق بذيها بعد الحكم بثبوت التلازم بينهما ، فهو تابع لثبوته على النحو الذي ثبت بمقتضى دليله ؛ فإن كان ثبوته على كلّ تقدير حكم بثبوته كذلك. وإن كان ثبوته على بعض التقادير حكم بثبوته على ذاك التقدير أيضا.

فكما أن المقدّمات الوجوديّة للواجب المطلق واجبة على وجه الإطلاق ، فكذلك المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط واجبة على وجه الاشتراط على النحو الذي يحكم بوجوب الواجب ؛ ضرورة أن الطلب على تقدير نحو من الطلب متحقّق من الطالب في مرتبته في مقابل عدمه رأسا ، وإن لم يتحقّق التقدير والشرط ؛ لأن صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ولا يتفاوت حالها بين صدقه وكذبه.

ومن هنا حكمنا بكون استعمال الواجب فيه حقيقة وإن كان لفظة كل من « الأمر » و « صيغته » ظاهرا عند الإطلاق في الواجب المطلق ؛ لعدم التنافي بين الأمرين أصلا ، كما فصّل في محلّه ، وقلنا ببقائه على الاشتراط بعد وجود شرط الواجب كقبله ؛ ضرورة استحالة الانقلاب في قبال من زعم صيرورته واجبا مطلقا بعد الوجود.


ولذا أوردنا على من حكم في المسألة بخروج مقدّمات الواجب المشروط عن حريم البحث : بأنه تخصيص في غير محلّه بعد حكم العقل بالتلازم بين الأمرين ؛ لأنه قضيّة عدم انفكاك وجوبها عن وجوبه.

وعلى من استدلّ على بطلان التعليق في العقود بكونه منافيا للإنشاء ـ زعما منه : أن الإنشاء لا يحصل إلا بعد وجود الشرط والمعلّق عليه ـ بعدم التنافي بينهما ؛ لفساد الزعم المذكور.

نعم ، لا إشكال في كون شرط الوجوب خارجا عن حريم البحث ؛ ضرورة عدم إمكان اقتضاء الوجوب على تقدير إيجاب التقدير. ومن هنا حكمنا بعدم وجوب تحصيل الاستطاعة ومقدار النصاب. وذكرنا وذكروا : أن قبول هبة مقدار الاستطاعة غير لازم ، وفرّقوا بينها وبين البذل وإن كان الفرق غير نقيّ عن الإشكال كما فصّل في محلّه.

وهذا كلّه لا إشكال فيما التزم به غير واحد : من إيجاب فعل المقدّمة الوجوديّة للواجب المشروط قبل وجود شرط وجوبه بعنوان التنجّز ، بحيث يترتّب على ترك الواجب المترتّب على تركها ـ بعد وجود شرط الوجوب ـ عقاب فيما علم بعدم التمكّن من فعل المقدّمة بعد وجود شرط الوجوب ، مع العلم بأنه يوجد قهرا من غير اختيار المكلّف كالوقت.

ومن هنا حكموا بحرمة إتلاف الماء على المحدث بحدث الأكبر أو الأصغر قبل الوقت فيما علم بعدم التمكّن منه بعد دخول الوقت ، إلاّ فيما توقّف عليه حفظ


النفس المحترمة ، بل التزم بعض : بأن الموقّت مطلقا يقتضي إيجاب مقدّماته الوجوديّة قبل الوقت من حيث إن تنجّز الوجوب في الآن الأوّل من الوقت يقتضي ذلك ، بل ربّما يقال بالتزام الكلّ به فيما كان الوقت بقدر الواجب ، كالصّوم الواجب في أوّل جزء من النهار إلى الليل.

ومن هنا اتفقوا على وجوب الغسل على المحدث بحدث الجنابة قبل الصبح ، وبوجوب نيّة الصّوم في الليل ، وبوجوب تعلّم القراءة قبل الوقت على من لم يحسنها إذا علم بعدم التمكّن منه بعد الوقت ، وهكذا.

وقد ضاق الأمر عليهم في هذه المواضع ووقعوا في حيص وبيص من جهة أن قضيّة تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها على ما عرفت كون ثبوت وجوبها على نحو ثبوته ، فلا معنى لتنجّزه مع عدم تنجّزه.

ومن هنا التجأ بعض أفاضل مقاربي عصرنا وزاد في بحث المقدّمة تقسيما غير ما هو المعروف من الأقسام ، وجعل الواجب المطلق قسمين منجّزا ومعلّقا وجعل الجميع الواجبات المشروطة بالأوقات من الواجب المعلّق ، والتزم بإطلاق وجوبها بالنسبة إلى الوقت ، وجعله مقدّمة وجوديّة محضة للواجب لا وجوبية ووجوديّة (١).

وتفصّى بعض : بأن الشرط هو الأمر الانتزاعي الاعتباري وهو حاصل قبل

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧٩.


تحقّق الوقت ، كما التزم به بعض في مسألة الإجازة على القول بالكشف الحقيقي.

وزعم بعض : بأن المتأخّر شرط في هذه الموارد وهو متحقّق فعلا في مرتبته فلم يتأخّر الشرط حتى يتوجّه الإشكال ، وقد مال إليه بعض الميل شيخنا قدس‌سره في بحث وجوب المقدّمة وأطال القول فيه (١) ، وإن لم يحصل من إفاداته ـ شكر الله سعيه ـ ما يطمئنّ به نفسي.

والمستفاد ممّا أفاده في « الكتاب » بقوله : « ويمكن أن يلتزم حينئذ : باستحقاق العقاب ... إلى آخره » (٢) (٣) ـ وفصّل الكلام فيه في بحث المقدّمة ـ :

__________________

(١) أنظر مطارح الأنظار.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٢.

(٣) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان في العبارة قصورا والمراد هو الإلتزام باستحقاق العقاب على نفس التكاليف ولو كانت مشروطة بسبب ترك التعلّم حسب ما يظهر من السوق وصريح ما ذكره من استقرار بناء العقلاء دليلا فيه ، وأشار قدس‌سره بقوله قدس‌سره : ( فتأمّل ) إلى أجنبيّة مثال الطومار عن المقام.

لكنك عرفت : ان الوجه في ذلك هو كون الشرط في الواجبات المشروطة ليس بشرط التكليف ، بل المكلف به ، فيكون نسبة الواجبات مطلقا ، مطلقها ومشروطها إلى المعرفة على نهج واحد ، فافهم واغتنم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٧٣.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« الظاهر انّ مراده حمل كلام المشهور على الوجه الأخير من الوجوه المتقدّمة المحتملة في


__________________

كلامهم من الإلتزام بترتب عقاب الواجبات المشروطة حين ترك الفحص المفضي إلى تركها وإن كان ترك الفحص قبل زمان تحقّق شرط وجوبها.

وفي كلامه نوع مسامحة ؛ إذ لا بد حينئذ أن يقول : « عند ترك تعلم » بدل : « على ترك تعلّم ».

اللهم إلاّ أن يريد بترتّب العقاب على ترك التعلّم ترتّبه عليه من حيث إفضاءه إلى ترك التكاليف لا من حيث نفسه نظير قوله في توجيه كلام الاردبيلي رحمه‌الله : « فإذا ترك المعرفة عوقب عليه من حيث إفضاءه ... إلى آخره ».

ثم إن الوجه فيما ذكره هو قبح تفويت المكلّف للخطابات الواقعيّة بسوء إختياره وإن لم تكن منجّزه حين تفويتها بشهادة بناء العقلاء كما ذكره من مثال الطومار.

وانت خبير بإمكان منعه ؛ إذ لو صحّ ذلك لوجب تحصيل شرائط الوجوب أيضا على فاقدها كالإستطاعة والنّصاب في الحج والزكاة ؛ لوضوح عدم الفرق بينها وبين شرائط تنجّزه كالعلم والإلتفات فيما نحن فيه ؛ إذ الباعث على بناءهم أنهم على تقبيح تفويت الواقع هو تفويت مصالح الواقع وهو مشترك الورود ، فكما يقبح ترك الفحص المؤدّي إلى عدم تنجّز التكليف بالحج بعد حصول الإستطاعة لأجل عروض الغفلة عن وجوبه كذلك لو ترك تحصيل الإستطاعة ممن قدر عليه ، أن شربت المرأة دواء صارت به حائضا وهو خلاف الإجماع مع ان ثبوت بناءهم على وجه يكشف عن حقّيّة ما بنوا عليه في الواقع على سبيل القطع أو عن تقرير المعصوم عليه‌السلام كذلك قابل للمنع.

نعم لا تبعد دعوى قبح تفويت الشرط فيما كان شرطا للفعل دون الوجوب كما في الواجب المعلّق على ما ذكره صاحب الفصول ، وإلاّ لزم لغويّة توجيه الخطاب قبل زمان الفعل فتأمّل.


الالتزام بتنجّز الوجوب بالنسبة إلى المقدّمة في حكم العقل ، مع عدم تحقّق شرط الوجوب في الصورة المذكورة بشهادة العقلاء على الذّمّ بترك المقدّمة فيما فرض ، كما فيما ذكره من مثال الطومار ، وكلامه في « الكتاب » إن كان مطلقا لا بدّ من حمله على ما ذكرنا من الصورة.

ثمّ إن هذا لمّا كان نظريّا قابلا للنقض والإبرام منافيا لقضيّة التبعيّة الثابتة بحكم العقل لوجوب المقدّمة ـ وإن كان لا يخلو عن الوجه بعد كون الحاكم في المسألة العقل وكشف بناء العقلاء عنه على ما فصّلنا القول فيه في بحث المقدّمة ـ أمر قدس‌سره بالتأمّل فيه (١).

__________________

وأمّا ما ذكره من مثال الطومار فيمكن أن يمنع كون الذمّ فيه لتفويت الواجبات المشروطة قبل زمان تحقّق شرط وجوبها كما يظهر ممّا ذكرناه ولعلّه إلى ما ذكرناه أشار المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالتأمّل » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٠٤.

(١) أقول : قد تقدم في التعليق السابق لصاحب الأوثق الوجه في أمره قدس‌سره بالتأمل فراجع.

* وقال سيّد العروة في ضمن كلام له في المقام :

« لا يخفى ان تفويت التكليف بمعنى إدخال النفس في موضوع يسقط به التكليف لا ينبغي الإشكال في جوازه كأن يختار السفر فرارا عن الصوم أو ينفق المال فرارا عن الزكاة والخمس والحج قبل تعلّق وجوبها ونحوها.

إنّما الإشكال في تفويت التكليف بمعنى تعجيز النفس عن توجه التكليف اليها كما مثل به صاحب الجواهر رحمه‌الله [ ج ٥ / ٨٦ ـ ٩١ ] : من تفويت كلا الطهورين قبل الوقت ، ولا يبعد دعوى


__________________

حكم العقل بقبحه ووجوب تحصيل مقدمات التكليف الكذائي سيّما الصلاة وسيّما اذا كان غرضه من ترك المقدمة هو الإحتيال لإسقاط الواجب.

والظاهر ان هذا وجوب عقلي غيري لا يتوقّف على فعليّة الخطاب ، بل يكفي فيه ترقّبه لا وجوب نفسي كما توهّم ، ومرادنا بالوجوب الغيري هاهنا كون تركه موجبا لعدم قبح العقاب على مخالفة الواجب الواقعي عند وجوبه في وقته ، وفي الحقيقة يرجع هذا إلى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل.

وسرّ الفرق بينه وبين القسم الأوّل : أن مصلحة المأمور به في القسم الأوّل مقيّدة بمحل الشرط ؛ فإن وجوب الصوم لا مصلحة فيه في السفر ، بل فيه مفسدة أوجبت الحرمة ، فإدخال النفس في موضوع المسافر لم يوجب تفويت مصلحة واقعيّة ، وهذا بخلاف القسم الثاني ؛ فإنّ مصلحة الصلاة أو إنقاذ الغريق من باب حفظ النفس المحترمة مطلقة ، إلاّ ان المكلّف لو عجز عن تحصيلها يقبح تكليفه فلا يطلب منه إحرازها فتفوت المصلحة عن ضرورة وإلجاء ، وإذا كان كذلك فلو تسبب المكلّف لتعجيز نفسه عن إدراك تلك المصلحة ولو قبل حصول شرط وجوبه عن اختيار يحكم العقل بحسن عقابه على فوات الواقع منه.

والحاصل : أنّ محلّ الإشكال يحتمل وجوها :

الأوّل : ان يحكم باستحقاق العقاب على تفويت الواجب المشروط قبل شرطه مطلقا ، ووجهه ما أشرنا اليه آنفا وهو الأوجه.

الثاني : عدم الإستحقاق مطلقا ، ووجهه ما ذكره في المتن في أوّل الكلام.

الثالث : الفرق بين ما علم إهتمام الشارع بشأنه كالصلاة ونحوها وبين غيره فلا يجوز التعجيز


نعم هنا كلام في ابتناء حكم الجاهل المقصّر على ما ذكر على تقدير صحّته

__________________

في الأوّل دون الثاني.

الرابع : الفرق بين ما إذا كان غرضه من تعجيز نفسه الإحتيال للفرار عن التكليف وبين غيره فيعاقب في الأوّل دون الثاني.

هذا كلّه ، إذا لم نقل برجوع الواجبات المشروطة والموقته إلى الواجب المطلق المعلّق كما احتمله الماتن على ما حكي عنه وإلاّ فالأمر أوضح ؛ فإن المكلّف بناء على هذا الإحتمال إذا بلغ يتعلّق به جميع التكاليف الإلهيّة التي يبتلي بها طول عمره بمجرّد البلوغ والعقل ، وليس الوقت شرطا للوجوب ، بل هو زمان للعمل ، فتعجيز النفس قبل الوقت حاله حال ما بعد الوقت يتحقّق به المعصية باختيار سبب الفوات ، ولعلّ قوله : « فتأمّل » في آخر كلامه إشارة إلى بعض ما ذكرنا فتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٠ ـ ٥١٣.

* وقال الشيخ الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« لعلّه للإشارة إلى ان الجمع بين القول بكون وجوب التعلّم غيريا تبعا لوجوب الغير ، والقول باستحقاق العقاب على ترك التعلّم حين الترك يعني ترك التعلّم مع عدم تنجّز وجوب ما هو واجب له كالجمع بين المتناقضين بل نفسه ؛ لإن استحقاق العقاب عليه مع عدم وجوب الغير ملزوم كونه واجبا نفسيّا ، فكيف يجمع مع كونه واجبا غيريّا ، بل لا يتصوّر ذلك فضلا عن كونه صحيحا وعدم فرق العقلاء في مثال الطومار بين التكاليف المطلقة والمشروطة في توجّه الذم الإدّعاء.

وبالجملة : لا يصح لعاقل ان يعاقب عبده على تركه نصب السلّم للصعود على السطح قبل ايجابه الصعود عليه وذلك واضح » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله الكرماني على الفرائد المحشّي : ٣٠٣.


على ما يستفاد من « الكتاب » ؛ حيث إنك قد عرفت : أن الجهل بالحكم لا يوجب سلب القدرة عن الفعل مطلقا ، وإنّما يوجب سلب القدرة عن الامتثال فيما إذا فرض عروض الغفلة عن الحكم ، ففي هذه الصورة الخاصة إذا كان الواجبات المشروطة من العبادات ، وعرض للجاهل الغفلة عن الحكم ، أو اعتقد عدمه قبل وجود شرط الوجوب ، كان حكمه مبنيّا على ما ذكر لا مطلقا.

ولكن يمكن أن يقال ـ علي القول بوجوب تحصيل العلم نفسا على المكلّف ـ : إنه يجب عليه تعلّم ما كان محلاّ لابتلائه وحاجته لا مطلقا ، فلا يجب على غير المستطيع تعلّم أحكام الحجّ على هذا القول أيضا ، فلا مدفع للإشكال على هذا القول أيضا فتأمل.

إذا عرفت ما ذكرنا لك من الأمور لم يبق لك إشكال في فهم المراد مما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا المقام ، فلا يحتاج إلى ذكر كل جزء منه والإشارة إلى المراد منه إن شاء الله تعالى.

(٧٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا المعاملات فالمشهور فيها ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٢٢ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« ما ذكره من أن العبرة بمطابقة الواقع أو مخالفته حق إذا انكشف الواقع بطريق العلم سواء وقعت المعاملة عن اجتهاد أو تقلييد أو عن جهل ، وكذا لو وقعت عن جهل ثم انكشف حالها بالظن الإجتهادي او التقليد الصحيح ، وأمّا إذا وقعت المعاملة عن إجتهاد أو تقليد صحيح من


__________________

حين وقوعه ثم تبدّل رأي المجتهد أو عدل المقلّد إلى مجتهد يخالف رأيه لرأي من قلّده أوّلا في تلك المعاملة ، فالحق ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من عدم نقض آثار المعاملة السابقة نعم ، لا بد من إيقاع مثل تلك المعاملة بعد التبدّل على رأيه الثاني دون الأوّل.

والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى وهي انكشاف الواقع بالقطع واضح ؛ لأن الأثر إنما يترتّب على المعاملة الصحيحة الواقعيّة ، والأمارة الشرعيّة لو كانت إنّما تعتبر بدلا عن الواقع ما دام مجهولا ، على أنّ مؤدّاها الواقع ، فلمّا علم عدم مصادفتها الواقع كشف عن أنّ مؤدّاها لم يكن حكما شرعيّا بناء على كون اعتبارها من باب الطريقيّة على ما هو التحقيق.

وأمّا الفرق بينها وبين الصورة الثانية وهو ما لو وقعت المعاملة عن جهل ثم انكشف حالها بالظن الإجتهادي أو التقليد حيث قلنا فيها بترتيب أحكام تلك المعاملة على طبق الظن الإجتهادي اللاحق أو التقليد اللاحق أنه في حال الجهل لم يكن ما أوقعه من المعاملة مبنيّا على حجّة شرعيّة واجبة الإتباع من حين وقوعه ، فإذا حصلت الحجّة الشرعيّة من الظن الإجتهادي أو التقليد لوحظ كونها موافقة أو مخالفة لها وتبنى عليه ، وهذا بخلاف ما لو أوقعها مبنيّة على إجتهاد أو تقليد صحيح ، فإنه حجّة شرعيّة يجب اتّباعها ما لم يظهر خلافها.

ودعوى : انه قد ظهر خلافها حيث تبدّل رأيه وبنى على أنّ رأيه السابق كان باطلا.

مدفوعة : بأن دليل حجّيّة مذهبه اللاحق وهو الإجماع والآيات والأخبار ، كما انه يدل على حجّيّة رأيه اللاحق كذلك يدلّ على حجّيّة رأيه السابق في زمانه على نسق واحد لم يخرج رأيه السابق عن تحت عمومه بالنسبة إلى الزمان السابق وإن كان لا يجوز العمل به الآن بالنسبة إلى الوقائع الآتية بعد تبدّل الرأي ، وهذا نظير المجتهدين المختلفين في الرأي في


حكم المعاملات وافتراقها عن العبادات فيما تقدّم

أقول : مراده قدس‌سره من العبادة : المعنى الظاهر منها عند الإطلاق ، وهو ما يتوقّف وجوده على مذهب الصّحيح ، أو صحّته على مذهب الأعمّي على قصد التقرّب والامتثال. وهذا هو المعنى الأخصّ عندهم ، كما أن المراد من المعاملة ما يقابله ، فيشمل الأقسام الثلاثة. أي : العقود ، والإيقاعات ، والأحكام.

__________________

عصر واحد وزمان واحد ؛ فإنّ كلاّ منهما وإن كان يخطّيء صاحبه بحسب ظنّه لكنّه يحكم بحجّيّة ظنّه في حقّه وحقّ مقلّده كما يحكم بحجّيّة ظنّ نفسه لنفسه ومقلّديه من غير فرق.

فإن قلت : قضيّة حجّيّة ظنّه اللاحق تنافي ترتيب الآثار على ظنّه السابق حتى بالنسبة إلى المعاملات السابقة على الظن اللاحق ؛ لأن مؤدى هذا الظن أنّ الحكم الواقعي كذلك أزلا وأبدا ولا معنى لحجّيّته إلاّ ترتيب آثار الواقع على هذا المظنون مطلقا سواء كان متعلّقا بالأعمال السابقة على هذا الظن أو بالأعمال اللاّحقة.

قلت : نعم ، وكذلك قضيّة حجّيّة ظنّه السابق تنافي ترتيب الآثار على ظنّه اللاحق حتى بالنسبة إلى المعاملات اللاحقة فيتعارضان ويجمع بينهما باختصاص كل منهما بزمانه دون الآخر ؛ لعدم إمكان العكس أو غير ذلك من الإحتمالات لعدم الترجيح ، وهو من قبيل المتعارضين اللذين يطرح ظاهر كلّ منهما بنص الآخر وتتمة الكلام موكولة إلى محلّها من مسألة الإجزاء وباب الإجتهاد والتقليد وكتاب القضاء من الفقه فتبصّر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٥١٣.


فالمعاملة ـ التي نتكلّم في حكمها إذا صدرت من الشاكّ من حيث الحكم الوضعي ، أعني : الصحّة والفساد ـ هي ما يقابل العبادة بالمعنى الأخصّ ، ولمّا كانت المعاملة بهذا المعنى ممّا لا تصرّف للشارع فيه أصلا ، وإنّما هو موضوع خارجيّ وفعل إنشائي للمكلّف ، أو غير إنشائي تعلّق به الحكم الشرعي ، فهو موضوع حقيقة للحكم الشرعي غاية ما هناك : أن الشارع اعتبر في ترتيب حكمه عليه شروطا ، فإن كانت موجودة ، يحكم بترتّب الآثار الشرعيّة عليه ، وهذا معنى صحّته. وإن لم يكن موجودة بل كانت المعاملة فاقدة لها يحكم بعدم ترتّب الآثار الشرعيّة عليها ، وهو معنى فساده.

وهذا هو المراد بما اشتهر في الألسنة : من عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة لألفاظ المعاملات وإنّما اعتبر الشارع في ترتيب الآثار عليها شروطا ، وإن الحكم الشرعي في العقود والإيقاعات يرجع إلى الإمضاء ، أي : يتعلّق بالموضوع الإنشائي العرفيّ ؛ فإنه لا يعقل معنى للإمضاء ، إلاّ ذلك.

بل منه يعلم : أن ما ذكره المحقّقون : من عدم جريان البحث في الصحيح والأعمّ في ألفاظ المعاملات ـ وإن لم يكن النّزاع مبنيّا على ثبوت الحقيقة الشرعيّة ؛ لأن ابتناءه على استعمال اللفظ في المعنى الشرعي ـ ممّا ليس محلاّ للإنكار ، والمفروض عدم المعنى الشرعي لألفاظ المعاملات.

فعلى هذا لو كانت المعاملة الصادرة من المكلّف واجدة للشرائط الشرعيّة وموضوعا للحكم الشرعي ، لزمها تعلّق الحكم الشرعي به من غير فرق بين كون


الفاعل في زمان إيجاده معتقدا بوجود الشرط ، أو معتقدا بعدمه ، أو شاكّا فيه.

وإن لم يكن واجدة لها لم يكن معنى لتعلّق الحكم الشرعي به في نفس الأمر وإن اعتقد الفاعل وجودها ، فضلا عمّا إذا كان شاكّا فيه. وهذا معنى كونها من قبيل الأسباب للأمور الشرعيّة ؛ لأنّ ترتّب المسبّب على السبب لا يعقل الفرق فيه بين كون المكلّف معتقدا بسببيّته وبين كونه معتقدا بعدمها ، ألا ترى أنّ وجود النار يؤثّر في الإحراق وإن لم يعتقد المكلّف تأثيرها ، أو اعتقد عدم تأثيرها أو اعتقد عدم وجودها؟ وهكذا الأمر في المعاملات بالنسبة إلى ما يترتّب عليها من الأحكام والآثار الشرعيّة ، فلا معنى لاعتبار قيام الطريق على كونها واجدة للشرائط في تأثيرها في نفس الأمر. ومن هنا ذكرنا سابقا : أنّ الاكتفاء بالاحتياط فيها اتّفاقي مع الخلاف الشائع في الاكتفاء به في العبادات.

ويترتّب على ما ذكرنا ما أفاده : من أن العبرة في الصحّة والفساد في المعاملات على مطابقة الواقع ومخالفته ، فلو تبيّن بعد صدور المعاملة من الشاكّ أنها كانت واجدة للشرائط لزم الحكم بصحّتها من حين وجودها من أوّل الأمر ، بل قد عرفت : أنه لو اعتقد عدم وجودها ثم تبيّن وجودها لزم ترتّب الآثار عليها من أوّل الأمر ، فإذن لا معنى لدخل الاجتهاد والتقليد فيها أصلا.

نعم ، ما دام المكلّف باقيا على شكّه في وجود الشرائط المعتبرة لا بدّ من أن يبني في مرحلة الظاهر على عدم وجود ما هو الموضوع للآثار الشرعيّة وعدم وجود الشرائط المعتبرة ، ويترتّب ما كان يترتّب قبل إيجاد هذه المعاملة ، وهذا


معنى البناء على الفساد عند الشكّ في المعاملات.

فالشاك وإن كان مكلّفا في الظاهر ما دام شاكّا على البناء على الفساد من حيث عدم طريق له للحكم بصحّة المعاملة ، إلاّ أنّ الحكم بالفساد في مرحلة الواقع مراعى بعدم عثوره على ما هو طريق بنفسه ، أو بجعل الشارع من الطريق الاجتهادي أو التقليد يقتضي الصحّة ، أو عثوره على ما يقتضي الفساد.

فإذا عثر عليه يبنى على مقتضاه من حين الوقوع ؛ ضرورة كونه مفاد الطريق وإن كان ظنّا كما ستقف على شرح القول فيه من غير فرق في ذلك بين أقسام المعاملات ، فلو ترتّب معاملات على فعله مثل أن باع ما اقتصر في ذبحه على قطع الحلقوم مع الشك في كفاية ذلك في التذكية في حكم الشارع حكم بفساد بيعه في مرحلة الظاهر وكان حكمه الواقعي مراعى وهكذا.

لا يقال : كيف يحكم في حق الشاك قبل الفحص بأصالة الفساد ولزوم الرجوع إليها مع أنها أصل في الشبهة الحكميّة ـ ومن شرطه الفحص مطلقا من غير فرق بين أصالة البراءة وغيرها من الأصول الحكميّة سوى أصالة الاحتياط على ما اعترفت به سابقا ـ؟

لأنا نقول : عدم جواز الرجوع إلى الأصل قبل الفحص إنّما هو من جهة رعاية الواقع المحتمل ولذا جاز الرجوع إلى الاحتياط مطلقا ، ومعنى أصالة الفساد : الحكم بعدم ترتّب الآثار لرعاية احتمال عدم وجود السّبب ، ففيه رعاية للواقع فتأمل.


ولعلّه لم يتعرّض شيخنا قدس‌سره لحكم الأصل المذكور من حيث توجّه السؤال المزبور ، ويمكن أن يكون الوجه في عدم تعرّضه له عدم كونه مقصودا بالبحث ؛ فإن كلامه إنّما هو في إثبات كون الصحة الواقعيّة تابعة للواقع. وأمّا بيان حكمه الظاهري من حيث التكليف فليس مقصودا بالكلام.

وتوهّم : أن المعاملة إذا كانت من قبيل الإنشاء كما في العقود والإيقاعات لا يمكن أن يتحقّق من الشاك في الصحّة كما يوهمه كلام بعض من تأخّر.

فاسد جدّا ؛ ضرورة أن الإنشاء من فعل المنشي وهو إنّما يوجد بإنشائه المطلب الإنشائي الذي لا تعلّق له بالشرع ولا يريد بإنشائه إيجاد الحكم الشرعي حتّى يوجب الشكّ فيه منع تحقق الإنشاء منه كما أوضحناه لك سابقا. بل قد عرفت : أنه قد يتحقق الإنشاء من الفاعل مع (١) القطع بالفساد في حكم الشارع.

نعم ، لو شكّ في تحقّق ما هو المعتبر في تحقّق الإنشاء عرفا حكم بمنعه عن الإنشاء فضلا عما إذا قطع بعدم تحقّقه فلو قيل : بأن ملكيّة المنشي معتبرة في إنشاء التمليك عرفا ، كما أن أصل الملكيّة معتبرة فيه جزما لم يتحقّق إنشاء التمليك مع عدم مالكيّة المنشي ، إلاّ إذا بنى في نفسه على مالكيّته. ومن هنا قيل بفساد بيع الغاصب بحيث لا يفيده إجازة المالك كما بنى عليه الأمر في « الرّياض » (٢) ، وقلنا

__________________

(١) في نسخة الفرائد المحشى : « مع بعد القطع » والصحيح ما ذكرناه.

(٢) لم نجده في الرياض في مظانّه وانظر مستند الشيعة : ١٤ / ٢٧٩.


في دفعه : بأن البناء والتنزيل يكفي في تحقّق الإنشاء والتمليك وتفصيل ذلك يطلب من البيع الفضولي.

ثمّ إن للمعاملة المشكوكة جهة حرمة تشريعيّة غير حرمة ترتيب الآثار عليها في مرحلة الظاهر من جهة أصالة الفساد ؛ إذ هي حرمة واقعيّة مترتّبة على عنوان التشريع ، لكن البحث عن حجيّتها ليس مقصودا بالكلام كالبحث من جهة الحرمة الظاهريّة.

نقل كلام الفاضل النراقي وبيان المراد منه

وهذا الذي ذكرنا وذكره شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره هو الذي اختاره المشهور [ و] قد خالف فيه فيما أعلم جماعة فيما كان مبنى المعاملة على الدّوام كالزوجيّة والملكيّة فيما إذا وقعت عن الطريق على ما سيأتي الإشارة إليه وبعض مشيخة (١) شيخنا قدس‌سره في « مناهجه » في كلام حكاه في « الكتاب » (٢) ملخّصا في بعضه وبعينه في بعض آخر ، ونحن نتعرّض أوّلا لبيان مراده ممّا ذكره ، ثم نعقّبه ببيان ما يتوجّه عليه.

فنقول : أمّا مراده من كون العقود والإيقاعات بل كلّما جعله الشارع سببا لها

__________________

(١) الشيخ الفاضل النراقي أعلى الله تعالى مقامه في كتابه مناهج الأحكام : ٣١٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٣.


حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة ، وكذا الشرط والمانع ليس التقسيم بحسب مورد الأحكام الوضعيّة ـ على ما يتراءى من ظاهر العبارة يعني : نفس فعل المكلف المحمول عليه عنوان السببيّة مثلا ، أو غير فعل المكلّف ممّا حمل عليه العنوان المذكور ـ بل هو باعتبار وصفه العنواني أي : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ؛ ضرورة عدم جريان التقسيم المذكور بالنسبة إلى مواردها وعدم تصوّر الجعل بالنسبة إليها ، وعلى القول بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة لا إشكال في كونها كالأحكام التكليفيّة ينقسم إلى القسمين أي : الواقعي والظاهري.

كما أنه لا إشكال في عدم سبيل لنا إلى القسم الأوّل في المسائل الاجتهاديّة التي يعمل فيها بالظنّ ـ على القول بالظنّ المطلق المبنى على انسداد باب العلم ، بل على القول بالظن الخاصّ كما هو مذهبه في الأمارات ؛ حيث إنّ أهل الظنون الخاصّة لا ينكرون انسداد باب العلم في الأحكام ، وإنّما يمنعون عن العمل بالظن المطلق : من جهة وجود الأمارات الخاصّة ـ كوضوح ما ذكره : من التصويب في الأحكام الظاهريّة ؛ فإنّا وإن لم نقل بعدم تصوّر الخطأ في الأحكام الظاهريّة ، إلاّ أن التصويب فيها في الجملة في مورد الاختلاف مما لا مجال لإنكاره أصلا كما لا يخفى. ومن هنا جعله واضحا وإجماعيّا وضروريّا عند الفقهاء ؛ فإنه المراد من كلامه ، لا الضرورة عند أهل الدين حتى يكون منكره منكرا للضّروري الديني كما لا يخفى.

والمراد من تعيّن القسم الثاني في حقّنا فيما لا سبيل فيه إلى الأوّل ـ أي :


المسائل الاجتهاديّة ـ ليس هو تعيّنه بحسب الواقع ؛ ضرورة منافاته لفرض كونه ظاهريّا ، بل تعيّنه بحسب الظاهر مع بقاء الواقع على ما هو عليه.

والمراد من الأوّل ـ أي : الغافل ـ : هو الجاهل المركب كما هو صريح تعليله بعد ذلك ، فهو غافل عن كون اعتقاده مخالفا للواقع ، كما أن المراد من إلحاقه بالمجتهد والمقلّد ـ لأنه يتعبّد باعتقاده ـ هو الإلحاق بحسب أصل وجوب العمل لا كونه مجعولا من الشارع كما يستظهر من لفظ التعبّد فتأمل.

اللهمّ إلاّ أن يكون بناؤه على جعل العلم شرعا كالظّنّ ، كما هو ظاهر جملة من كلماته ، بل الظاهر من قياسه عند زوال الاعتقاد بالمجتهد المتبدّل رأيه كونه حجة من جانب الشارع فتدبّر ، بل هو الظاهر من قوله بعده : « وليس معتقدا بخلافه حتى نتعبّد بخلافه » (١).

والمراد من قوله : « وليس معتقدا بخلافه حتى نتعبّد بخلافه » بيان الفرق بين المعتقد والشاكّ عند تبيّن حال المعاملة بعدها على وجه الجزم.

ومن قوله : « ولا دليل على التعبّد بمثله بعلم واعتقاد » (٢) الفرق بين المعاملة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٤ وفيه : حتّى يتعبّد بخلافه.

(٢) نفس المصدر وفيه : لا دليل على التقييد في مثله بعلم واعتقاد وانظر في الموضعين مناهج الأحكام : ٣١٠.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره في توضيحه :


والعبادة ؛ حيث إنه يحكم بفسادها مع التردّد وإن طابقت الواقع ، بخلاف المعاملة ؛ فإن التردّد في ترتّب الأثر عليها شرعا لا يمنع من إيجادها.

ومن قوله : « ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانّا به ؛ لأنه مأمور بالفحص والسؤال » (١) :

__________________

أي لا دليل على التقييد لا في تأثير المعاملة في صورة الموافقة ولا في عدم تأثيرها في صورة المخالفة بالعلم بأنّها مؤثرة شرعا أو ليس بمؤثرة ، كي لا يؤثّر في الصّورة الأولى ، أو يؤثر في الثانية ، واحتماله الخلاف أو ظنّه به انّها يقدح في ذلك لو لم يكن مأمورا بالفحص والسؤال وقد أمر به ، فلا يمنع من التأثير في الصّورة الأولى ولا يقتضيه في الثانية ، كما ان احتمال الحلّيّة في الخمر لا يورث المعذوريّة عن الحرمة الواقعيّة قبل الفحص والسؤال لانّهما مأمور بهما.

قلت : ظاهره ان عدم قدح الإحتمال هاهنا إنما كان لمكان الأمر بالسؤال بحيث لولاه لكان قادحا ، كما انه لو لا الأمر به في مثل المثال كان احتمال عدم التكليف مورثا للعذر.

وانت خبير : بان الإحتمال لم يكد أن يكون مؤثّرا هاهنا شيئا وإن لم يكن أمر بالسؤال بداهة عدم تأثير الإحتمال في الواقع برفع التأثير عن المؤثّر بحسبه واقتضاءه في غير المؤثّر كذلك.

هذا مع ان الأمر بالسؤال إنّما هو بحسب ما يترتّب في البين من التكليف لا الوضع ، وأمّا تأثير الأمر بالسؤال في المثال في رفع تأثير الإحتمال فهو لأجل أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يتحقق حقيقة وواقعا ، مع لزوم عقلا أو شرعا كما بيّن في محلّه فليس الإحتمال هنا وهناك من باب واحد فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٤٧.

(١) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.


أن الحكم بتأثير الواقع وتبعيّة الآثار له لا ينافي كون الفاعل شاكّا أو ظانّا بالظن الغير المعتبر في حال المعاملة ، بعد فرض الحكم بعدم معذوريّة الشاكّ والظانّ : من حيث كونه مأمورا بالفحص والسؤال معهما ، كما أنّ من ظنّ حليّة الخمر مع عدم اعتبار ظنّه يتنجّز عليه الواقع ويحرم عليه من حيث كونه غير معذور ومأمورا بالفحص والسؤال.

والحاصل : أن الشكّ إنّما يمنع من ترتيب آثار الواقع بعد تبيّن الخلاف إذا كان في مورد الشك حكم ظاهريّ للشارع على خلاف الواقع ، وكذا الظنّ إنّما يمنع منه إذا كان معتبرا شرعا والمفروض خلاف ذلك ، كما يكشف عنه وجوب الفحص معهما ؛ فإنه تلازم بين إلقائهما شرعا وكون الآثار مترتّبة على الواقع كما هو ظاهر.

ومراده من قوله : « وأمّا الثاني : فالحق عدم ترتّب الأثر في حقّه ما دام باقيا على عدم التقليد » (١) الإشارة إلى ما عرفت سابقا : من لزوم الرجوع إلى أصالة الفساد ما دام شاكّا ، وإن طابقت المعاملة في الخارج أحد الأقوال في المسألة ؛ من حيث إن طريقية قول المفتي إنّما هي في حق مقلّده ومن استند في العمل إلى رأيه ، والمفروض عدم استناده إليه. وليس الحكم الظاهري كالحكم الواقعي في ثبوته في حق كلّ أحد حتّى يؤثّر موافقته الواقعيّة كما في الفرض الأوّل.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٤٢٥ والحظ في الموضعين مناهج الأحكام : ٣١٠.


ومراده مما لم يختص أثره بمعيّن أو معيّنين ـ في قبال ما اختصّ أثره بأحدهما ـ هو ما كان أثره قائما بعين خارجيّ من غير إضافة إلى مكلّف خاصّ وإن كان الفعل المؤثر فيه مؤثرا من حيث صدوره من أيّ مكلف كقطع الحلقوم المؤثّر في حلّيّة الحيوان والغسل مرّة المؤثّر في طهارة المغسول ـ وهذا بخلاف العقد المؤثّر في ملكيّة العين أو زوجيّة المرأة مثلا ؛ فإن الملكيّة إضافة بين الملك والمالك ، وكذا الزوجيّة علاقة بين الزوجين وإن ترتّب عليهما آثار في حق غير المالك والزوج.

ومراده من عدم ترتّب الأثر المستصحب الثابت قبل التقليد هو الذي حكم به في مرحلة الظاهر بأصالة الفساد لا عدمه الثابت في نفس الأمر قبل المعاملة ؛ فإنّه بهذا المعنى عين أصالة الفساد كما لا يخفى ، هذا بعض الكلام في شرح مراده ممّا لخّصه شيخنا قدس‌سره في المقام.

كلام آخر للفاضل النراقي في مسألة تبدّل رأي المجتهد

وقال في باب تبدّل رأي المجتهد الذي أحال حكم بعض شقوق المسألة وصورها إليه ما يطول المقام بذكره بتمامه بألفاظه وعباراته ، ونحن نتعرّض له بتلخيص في بعضه.

قال قدس‌سره ـ بعد جملة كلام له في المسألة ـ :


« إن نقض فتوى المجتهد التي عمل نفسه أو مقلده بها في الزمان الأوّل بالفتوى الثانية في الزمان الثاني ، بمعنى إبطالها من رأس والحكم بعدم كونها حكم الله تعالى فيما مضى ، وجعلها لاغية بالمرة لا خلاف في عدم جوازه ، والإجماع ، بل الضرورة ، ولزوم الجرح ، واستصحاب عدم شغل ذمّته ، وعدم البطلان يدلّ عليه.

ونقضها بمعنى إبطال المتقدّمة في الزمان الثاني : بأن لا يعمل بالأولى فيه ، ويبنى أعماله المستحدثة على الثانية ، لا خلاف في جوازه ، بل وجوبه ؛ فإنه لازم تغيير الرأي وحجيّة الاجتهاد ، وهو ضروريّ مطلقا.

ونقضها بمعنى إبطال الآثار المترتّبة على عمل صادر في الزمان الأوّل بفتواه الأولى ـ التي لو لا تغيير الرأي لقطع بترتّب تلك الآثار على ذلك العمل مثل : أن ينكح بالفتوى الأولى باكرة (١) بغير إذن المولى ؛ فإنه يقطع بترتّب آثاره عليه لو لا تغيير الرأي ـ يظهر عدم جوازه : من عدم جواز النقض بالمعنى الأول ؛ لأن العمل الصادر في الزمان الأول كان صحيحا مستتبعا للآثار ، وبعد تجدّد الرأي لا يجوز الحكم ببطلانه في الزمان الأوّل ، وليس موجودا في الزمان الثاني حتى يصير موردا للفتوى الثانية ؛ فما وقع لا يرد عليه البطلان فلم لا يترتّب عليه أثره؟

__________________

(١) لا يخفى ان الموجود في الاستعمالات العربيّة هو البكر لا الباكرة إذ هو تعبير فارسي جري على لسانهم سهوا كثيرا ، فهو غلط مشهور.


والحاصل : أن المفروض كون العمل مستتبعا لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه. أمّا في السّابق فظاهر ، وأمّا في اللاّحق فلعدم وجوده.

وأيضا لم يحدث في اللاّحق إلاّ استقرار الرأي بأنّ هذا العمل لو وقع في هذا الزمان لم يترتّب عليه الأثر ، ولا تأثير لذلك في ارتفاع أثر العمل السّابق ، بل يدلّ على بقائه استصحاب الاستتباع أيضا ؛ فإنا نقطع بترتيب هذه الآثار على ذلك العمل في السابق كحليّة البضع ووجوب الإنفاق والتمكين وغير ذلك ممّا يترتّب سابقا على النكاح بدون إذن الوليّ بمقتضى الاجتهاد الأوّل ، ويشكّ في أنّ تجدّد الرأي تزيل الاستتباع المذكور أم لا؟ والأصل عدمه ، بل يدلّ عليه استصحاب نفس الأثر أيضا كالزوجيّة في المثال.

فإن قلت : إن أثر عقد الباكرة بدون إذن الوليّ حال اعتقاد جوازه الآثار المذكورة ما دام باقيا على الاعتقاد فكيف يحكم بثبوتها مع زوال الاعتقاد الذي هو بمنزلة الموضوع لها.

قلت : إن هنا أمرين :

أحدهما : كون العقد المذكور كلّما وقع سببا للزوجيّة الدائمة.

ثانيهما : سببيّة العقد الواقع حال ظنّ جوازه للزوجيّة الدائمة.

والأوّل مقيّد بحال بقاء الظنّ بكونه سببا دون الثاني ؛ لأن مظنونه حين إيقاعه كونه سببا للزوجيّة المستمرّة ، وظنّه حينئذ حجّة عليه في حقّه ، ولازمه


ترتيب الزوجية المستمرّة ، وإلاّ لزم أن لا يكون ظنّه حجّة عليه ، وهو خلف باطل ، فبعد الشكّ يستصحب.

هذا كله في الأفعال الجزئيّة المتحقّقة حال الرأي الأول من الأسباب والشروط والموانع ممّا كان تأثيره وعدم تأثيره بالنسبة إلى شخص خاصّ ، أو أشخاص معينين من غير تجاوز عنه أصلا ، كالعقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمّة وأمثالها ؛ فإن العقد الواقع على امرأته إنّما يصير سببا لحلّيّتها على الزّوج المعيّن من غير مدخليّة غيره أصلا.

وأما ما ليس كذلك كغسل الثّوب المعيّن من البول مرّة ؛ فإنه يصير سببا لطهارة هذا الثوب لكلّ من يرى الاكتفاء به مرّة ، وغير مؤثّر في حق من لا يراه كذلك. وكذا قطع الحلقوم في التذكية ، فالحكم فيه ليس كذلك ، فيقال : إن من يرى غسل المرّة غير كاف إذا غسل الثوب مرّة فيكون نجسا ما دام على ذلك الرّأي.

وأمّا إذا تبدّل رأيه ورأى كفاية المرّة فيطهر له هذا الثوب ؛ لأنّ هذا الغسل الجزئي لذلك الثوب المعيّن حال ظنّ عدم كفايته كان غير مؤثر في حقّه ؛ لأجل أن هذا الشخص مندرج تحت عنوان من يظنّ عدم كفايته ، ولذا كان نجسا في حقّ كلّ من يظن كذلك ، وهذا الغسل بعينه لهذا الثّوب بعينه في هذا الحال سبب للطهارة في حقّ كل من يرى الكفاية بالإجماع والضرورة ؛ لأنه لا يشترط في تطهير الثوب كون الغسل صادرا ممّن يرى كفاية المرّة ، ولا كون الثوب ملكا له.

وإذا تعيّن الرأي الأوّل واندرج تحت العنوان الثاني لا بدّ وأن يكون الثوب


طاهرا في حقّه ولا يشترط صدور الغسل في حال تغيّر الرأي أيضا : لأن ظنّه حينئذ حجّة في حقّه ومظنونه الحاصل بسبب من الأدلّة الشرعيّة أن الغسل مرّة سبب للتطهير مطلقا وليس مقيّدا بكون الغسل متحقّقا حال هذا الظن إذ لا تقييد في شيء من الأدلّة الظنيّة بذلك أصلا.

ولذا ترى المجتهدين إذا حدثت الوقائع قبل اجتهادهم فيها واستفتي منهم يتأمّلون في حكم المسألة بعد حدوثها ، ويحكمون على الحادثة السابقة بما استقرّت عليه آراؤهم بعد الاجتهاد ، وليس المراد أن الغسل السابق صار سببا حينئذ ، بل سببيته تحقّقت أوّلا ، ولكن لم يكن هذا الشخص داخلا في عنوان من تحقّقت في حقّه السببيّة ودخل فيه حينئذ.

كما أن من وقف شيئا على ضيفه فصار شخص ضيفا له بعد مدّة ؛ فإن الوقفيّة عليه لا يتحقّق حينئذ ، بل الدخول في العنوان يتحقّق في هذه الحالة ، وعلى هذا لا أثر للاستصحاب في هذا الفرض ؛ لثبوت السببيّة في حقّ من دخل في هذا العنوان ؛ لأن عدم السببيّة أوّلا كان لمن كان داخلا في عنوان آخر ، فقد تغيّر الموضوع.

وأما الإجماع فاختصاصه بالأول ظاهر ، بل يمكن دعوى الإجماع على النقض في الثاني ، وربّما يتوهّم عدم النقض في الثاني أيضا فيقال : إن الطين مثلا قد طهر بالطبخ الواقع في زمان كان الطبخ مطهّرا وطهارته أثر لذلك الطبخ ، وهذا الطبخ الواقع لم يصر موردا لفتوى عدم كونه مطهّرا ، فقد طهر ذلك الآجر. فما وجه تنجّسه بعد؟


وظنّ أن الطبخ لا يطهر إنّما هو في الزمان اللاحق ، ولازمه : أن الواقع فيه غير مطهّر ، وهذا لا يرفع طهارة شيء.

وأمّا توهّم : أنّ هذا الطبخ لم يصر موردا لفتوى عدم كونه مطهّرا.

ففيه : منع ذلك ، بل كان في الأصل موردا للمطهّرية في حقّ من يرى مطهّريته وغير مطهّر في حقّ من لا يراها ، فهو في الأول مورد للحكمين بالإجماع ، ولا نقول : إنه صار نجسا حينئذ حتى يقال : ما وجه تنجّسه؟ بل نقول :

إنه كان نجسا في الأوّل في حقّ كل من يندرج تحت ذلك العنوان (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه ملخّصا في بعضه وبعبارته في بعض آخر.

مناقشة كلام الفاضل النراقي قدس‌سره

وأنت خبير بأن ما ذكره قدس‌سره لا يخلو عن مناقشات :

منها : أن اعتبار الجعل الواقعي والظاهري بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة لا بدّ وأن يبتني على القول بالجعل التشريعي بالنسبة إليها ، على خلاف ما هو الحقّ عند المحققين بل المشهور : من كونها أمورا اعتباريّة انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة إذا قيست بالنسبة إليها ، وإذا قيست بالنسبة إلى غيرها كنسبة البيع إلى

__________________

(١) مناهج الأحكام في الأصول : ٣١٠.


الملكيّة ، والنكاح للزوجيّة ، وهكذا.

فإن قلنا بكونها أمورا واقعيّة تعلّق بها الأحكام الشرعيّة ـ كما هو الظاهر ـ فيكون حالها حال مسبّباتها ، فلا يكون من الأمور الجعليّة.

وإن قلنا بكونها أمورا اعتباريّة كسببيّة الغسل للطّهارة ، والملاقاة للنجاسة ـ بناء على كون الطهارة والنجاسة من الأمور الاعتباريّة على ما ذكره الشهيد قدس‌سره ـ فيكون حالها حال مسبّباتها أيضا ، فعلى كلّ تقدير لا جعل فيها.

ثمّ بعد الابتناء على القول المذكور مع فساده عندنا ـ على ما ستقف على شرح الكلام فيه في الجزء الثالث من التعليقة تبعا لشيخنا قدس‌سره ـ نقول : إنه على القول بتعلّق الجعل الشرعي بالأحكام الوضعيّة يكون حالها كحال الأحكام التكليفية التي لا خلاف في كونها مجعولة للشارع ، في قبال الأمور الخارجيّة الغير المجعولة بالاتّفاق ، كحياة زيد وموته ونحوهما في أنّ وجودها الجعلي في نفس الأمر والواقع تابع لجعل الشارع لها في نفس الأمر من غير فرق بين حالات المكلّف من حيث العلم والشكّ والظنّ في وجودها بحسب نفس الأمر.

كما لا دخل لها في الأمور الخارجيّة بحسب وجودها الواقعي ، غاية الأمر : كون وجود الأحكام بحسب التشريع ووجودها بحسب التكوين ، وهو لا يؤثّر فرقا فيما نحن بصدده ؛ لأنّ التشريع أيضا نوع من التكوين كما هو واضح ، ولا


يمكن توقّف وجوده التشريعي على تعلّق بعض الحالات المزبورة به من غير فرق بين الحكم التكليفي والوضعي ، فوجودها الواقعي تابع لنفس الجعل بحسب الواقع.

ثمّ إن مفاد الطريق القائم على الحكم للموضوعات الكليّة ـ سواء فرض الحكم تكليفيّا أو وضعيّا ـ حكايته وكشفه عن كون الحكم ثابتا لنفس فعل المكلّف والموضوع الكلّي ، بحيث لا يتخلّف عن وجوده من غير فرق بين وجود بعض أشخاصه في زمان قيام الطريق على ثبوت الحكم الكذائي له وعدمه ؛ ضرورة أن قيام الطريق على الحكم في الموضوعات الكليّة يرجع إلى الطريق إلى الكبرى الكليّة ، فلا يتوقّف على وجود بعض الصغريات.

نعم ، لا بدّ من وجوده عند إرادة التطبيق وأخذ النتيجة ، مثلا إذا قام طريق على سببيّة العقد الفارسي للملكيّة ، أو الزوجيّة كان مفادها كون العقد المزبور مؤثّرا فيهما بحيث لا ينفكّ وجوده عنهما في الخارج ، من غير توقّف له على وجود عقد فارسيّ في الخارج قبله أو معه أو بعده.

نعم ، عند إرادة الحكم بملكيّة عين في الخارج لشخص بموجب العقد الفارسي ، أو زوجيّة امرأة له لا بدّ من إثبات تحقّق العقد المذكور في حقّه ، ولو كان تحقّقه قبل قيام الطريق على حكم العقد الفارسي بمدّة مديدة ، ولو كان العاقد في زمان العقد شاكّا في كونه مؤثرا وظانّا بعدم التأثير أو قاطعا بعدمه.


لا يقال : ما ذكر إنّما يستقيم ويسلّم بالنسبة إلى العلم الحاصل بالحكم الشرعي الكلّي دون الظنّ المعتبر القائم عليه ؛ فإن تأثيره إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الظاهري وهو تابع لزمان وجود الظن ، فإذا فرض المكلّف شاكّا في التأثير فضلا عمّا إذا كان ظانا بعدمه ، أو قاطعا بالعدم فأوقع البيع الفارسي مثلا في هذه الحالة ، ثم حصل في المستقبل ظنّ معتبر بتأثيره فلا يثبت هذا الظنّ اللاحق ، إلاّ التأثير في حق العاقد الظان بالتأثير لا مطلقا ، والمفروض عدم دخوله في هذا العنوان في زمان العقد ، ودخوله بعده في العنوان المذكور لا يجدي في تصحيح العقد الموجود منه قبل صدق العنوان عليه.

لأنّا نقول : ما ذكر من تبعيّة الحكم الظاهري لموضوعه ، وهو الظن بالواقع أمر مسلّم لا شبهة فيه أصلا ، إلاّ أنّه تابع لمفاده بعد الوجود ، وقد عرفت : أنّ مفاده كون التأثير لا ينفكّ عن العقد الفارسي أينما وجد ، فالمكلّف العاقد في الفرض وإن دخل في موضوع الحكم الظاهري بعد العقد ، إلاّ أنّ مفاد ظنّه وطريقه عدم الفرق في تأثير العقد الفارسي بحسب الأزمنة ، فهو مكلّف بترتيب آثار الصحّة بعد وجود الظنّ على ما أوجده سابقا.

إذا عرفت ذلك نقول : إن الملكيّة والزوجيّة وإن كانتا من الإضافات الخاصة ، إلاّ أن مفاد قيام الطريق القائم على حصولهما بالعقد الفارسي كونهما مترتّبين على العقد الموجود من الشاكّ في التّأثير في زمان إيجاده عقيبه من دون


فصل بينهما ، ولا نقول : بالسببيّة المنفصلة ، وإن كان زمان الحكم بالتأثير منفصلا عن العقد ، بل نحكم ببطلانه في زمان صدوره بالنظر إلى الأصل ، ويحكم بصحّته بعد قيام الطريق على الصحّة من غير أن يكون هناك تناف بينهما أصلا على ما عرفت سابقا.

وممّا ذكرنا كله يظهر : أن ما أفاده قدس‌سره : من الفرق بين ما اختصّ بشخص أو أشخاص ، وما لا يختصّ بأحد لا محصّل له أصلا.

لا يقال : على ما ذكرت يلزم نقض الآثار السّابقة على ما رتّبه من المعاملات والعبادات التي وقعت حال قيام الطريق على صحّتها مع تبيّن الخلاف لاحقا بحسب قيام الطريق عليه في الزمان المتأخّر ، مع أنه خلاف الإجماع ظاهرا على ما عرفت : من مطاوي كلمات الفاضل النّراقي بل الضرورة على ما حكاه ويلزم الحرج بل الهرج والمرج.

لأنّا نقول : ما ذكر من اللازم لا شبهة فيه ، إلاّ أن الخروج عن مقتضى الأصول والقواعد في مورد لقيام الدليل عليه لا يقتضي الخروج عنه في جميع الموارد ، مع أنّ في الدعاوي المذكورة بإطلاقها ما لا يخفى ، وتفصيل البحث في ذلك يطلب : من مسألة « تبدّل الرأي في بحث الاجتهاد » و « في مسألة الإجزاء »


وقد أسمعناك في مطاوي الجزء الأوّل من التعليقة (١) عند البحث في « كيفيّة جعل الطريق » كلام ثاني الشهيدين قدس‌سره في « تمهيده » (٢) ، وأنه جعل من فروع التخطئة : عدم الإجزاء.

ومن هنا يعرف الوجه فيما اختاره جماعة في تلك المسألة : من أن ما كان مبناه على الدوام لا ينتقض بالرأي الثاني على البطلان كالملكيّة والزوجيّة ، بخلاف ما لا يكون مبناه عليه.

والجواب عنه ـ مع أن الابتناء على الدوام لم يعلم له معنى محصّل ؛ إذ كثيرا مّا يكون مبنى تحصيل الملكيّة على التبديل ، كما في أمر التّجار وكذا الزوجيّة في حق بعض الأشخاص ـ ولو كان المراد الدوام ما لم يوجد الرافع لم يكن هناك فرق بين الطهارة والملكيّة فتدبّر.

لا يقال : على ما ذكرت يلزم هناك محذور أشدّ وآكد ممّا ذكر ؛ فإنه يلزم عليه عند اختلاف المجتهدين في الرّأي أو المقلّدين في التقليد جواز نكاح امرأة معيّنة لشخصين إذا رأى أحدهما فساد العقد الآخر وهكذا ، مع أنه يلزم عليه من المفاسد ما لا يحتاج إلى البيان.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٧٤.

(٢) تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


لأنّا نقول : الجواب هو الجواب ، مضافا إلى ما قيل : من أن موضوع الأحكام المضافة إلى الغير كالزوجيّة والملكيّة ونحوهما واقعا تحقّقها في تكليف الغير واعتقاده ومقتضى طريقه ولو في مرحلة الظاهر ، فإذا كان هناك طريق يقضي بتحقّق الزّوجيّة من الشخصين ـ ولو في مرحلة الظاهر ـ يلزم على غيرهما ترتيب أحكام الزوجيّة بينهما في مرحلة الواقع ؛ لأن الموضوع في تحريم نكاح زوجة الغير واقعا من كانت زوجة له ولو بحسب تكليفه الظاهري ، فهي زوجة له ظاهرا.

وهذه الزوجيّة الظاهريّة موضوعة لأحكام الغير في مرحلة الواقع.

وهذا نظير ما قيل ـ في باب الجماعة في صحّة الائتمام بواجدي المني في الثوب المشترك ـ : من أن الموضوع في صحة الائتمام واقعا كون الإمام متطهّرا في تكليفه ولو في مرحلة الظاهر ، فيجوز الائتمام بهما في صلاة فضلا عن صلاتين ، وهذا وإن كان محلّ نظر ، بل منع عندنا على ما فصّلنا القول فيه في « باب التقليد » ، إلاّ أن احتماله يمنع من قياس المقام به ، مضافا إلى ما قيل : من لزوم اختلال النظام من الالتزام بما ذكر فيه.

ومنها : أن ما ذكره في طيّ كلامه : من إلحاق الجاهل المعتقد بمن سلك من الطريق الشرعي من حيث كونه متعبّدا باعتقاده ، كتعبّد المجتهد باجتهاده والمقلّد بتقليده مما لا محصّل له أيضا ، على ما عرفت استظهاره من كلامه : من إرادة تعلّق الجعل من الشارع بالاعتقاد الجزميّ.


فإنك عرفت مرارا : أنه لا معنى له أصلا ؛ فإن المعتقد وإن كان معذورا عند العقل على تقدير الخطأ في الاعتقاد إذا كان قاصرا ، إلاّ أنّه لا يتعلّق به أمر من الشارع والعقل في حقّه أصلا ، والمختار عندنا ـ على ما عرفت ـ وإن كان عدم اقتضاء سلوك الأمر الظاهري الشرعي للإجزاء بالنسبة إلى الواقع ، إلاّ أن احتمال ما زعمه بعض الأصحاب من البدليّة ؛ نظرا إلى كونه مجعولا من الشارع متطرّق بالنسبة إليه ، فلا يقاس الاعتقاد به.

ومنها : أن الجمع بين أصالة الفساد والاستصحاب المقتضي للصحّة وبين زمان الإطلاع على الطريق في ذيل كلامه لا محصّل له أيضا ؛ حيث إن مرجع أصالة الفساد إلى الاستصحاب ، ولا فرق في جريانها بين زمان الشكّ قبل الاطلاع على الطريق بعد الإغماض عمّا ذكرنا في اقتضاء الطريق وفرض الشّكّ في الصحّة ؛ لأن الحكم الظاهري ثابت لموضوعه ما دام موجودا ما لم ينسخ في الشريعة ، وليس الشكّ في اللاّحق في نسخ الحكم حتى يثبت باستصحابه ، فاستصحاب عدم الأثر عين أصالة الفساد فافهم.

إلى غير ذلك مما يتوجّه عليه مما طوينا ذكره كما طوينا ذكر ما يتوجّه على ما ذكره في مسألة تبدّل الرّأي خوفا من الإطالة.


(٨٠) قوله قدس‌سره : ( وأما العبادات : فملخّص الكلام فيها ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٢٩ )

أقول : الكلام في المسألة قد يقع في عبادة المتردّد الشاكّ الذي هو المقصود بالبحث ومحلّ الكلام ، وقد يقع في عبادة الغافل عن صورة المعتقد بها من غير طريق كقول أبويه أو معلّمه أو نحوهما.

أمّا الكلام في الموضع الأول فملخّصه :

أنه لا إشكال بل لا خلاف في بطلان عبادته فيما كان بانيا على الاقتصار عليه على ما هو محل البحث ، وإن انكشف بعد العمل كونها مطابقة للواقع على وجه القطع واليقين ؛ لعدم إمكان حصول الامتثال الذي هو شرط في صحّة العبادة مع التردّد ، فعمله دائما مخالف للواقع من هذه الجهة ، وهذا هو الفارق بين العبادة والمعاملة على ما عرفت : من تحقّق الإنشاء من الشاكّ في تأثيره عند الشارع بالوجدان.

والوجه في عدم تأتّي قصد التقرّب من الشاكّ المتردّد في المأمور به مع وضوحه كون الامتثال عبارة عن الإتيان بما أمر به المولى بداعي موافقته وإطاعته ، فلا بدّ أوّلا من إحراز المأمور به ، ثم القصد إلى إتيانه بداعي التقرّب ، ومع التردّد في المأمور به لا يمكن قصد التقرّب وهذا أمر لا سترة فيه أصلا.

وممّا ذكرنا يظهر : فساد استظهار حكم المقام ممّا يؤتى به احتياطا باحتمال


تعلّق الأمر به في الشريعة مع كونه غير واجب في مرحلة الظاهر في الشبهات الحكميّة ، من غير فرق بين ما يجري فيه دليل التسامح وما لا يجري فيه ، أو الموضوعيّة كإعادة الصلاة لاحتمال خلل فيها حكم في الشرع بعدم الالتفات إليه لكونه بعد العمل ؛ فإن ما ذكر من المناط موجود فيه ، غاية الأمر : عدم الجزم بالأمر ، وامتثاله ليس إلاّ بإتيان الفعل بداعي احتمال تعلق الأمر به ، ولا نقول : بتوقّف الامتثال على العلم بالأمر أو قيام طريق شرعيّ عليه مطلقا. كيف؟ وهو خلاف ما نجد في وجداننا من كون الاحتمال محرّكا وداعيا على الفعل أو الترك كثيرا ما هذا.

مضافا إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من أن اللازم عليه القول بعدم مشروعيّة الاحتياط في موارد احتمال الأمر ولا يظنّ أن يلتزم به أحد.

لا يقال : كيف ينوي الشاكّ المتردّد في المأمور به ـ إذا كان دائرا بين الأقلّ والأكثر بعد الفحص ـ التقرّب على العمل بجريان البراءة في ماهيّات العبادات؟ مع أن مقتضاها مجرّد المعذوريّة لا تشخيص المأمور به وتعيينه في ضمن الأقلّ على ما اعترفت به ومضى تفصيل القول فيه ، فهو ينوي التقرّب مع الشكّ والتردّد في المأمور به ، فإذا التزمت بإمكانه في حقّ المتردّد بعد الفحص مع بقاء تردّده فلتلزم بإمكانه في حقّه قبل الفحص أيضا ؛ إذ لا فارق هناك بينهما مع بقاء التردّد بالفرض.


لأنا نقول : الفرق بين المقامين ظاهر ؛ لأن مقتضى البراءة بعد الفحص بحكم الشارع والعقل عدم الالتفات والاعتناء باحتمال اعتبار الزائد في المأمور به ، فيتبيّن المأمور به في مرحلة الظاهر بالمعنى الذي عرفت ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإن مقتضى العقل والنقل فيه وجوب الالتفات إلى الاحتمال المزبور ، فحاله حال الشاكّ في المأمور به على القول بوجوب الاحتياط في ماهيّات العبادات.

لا يقال : على ما ذكرت : من المناط لا يمكن تحقّق قصد التقرّب ممّن يجب عليه الاحتياط عند دوران الأمر في المكلّف به بين المتباينين ؛ ضرورة عدم علمه عند إتيانه بكلّ منهما كونه مأمورا به ، وإلاّ لم يكن متردّدا.

لأنا نقول : تحقّق قصد التقرّب من المحتاط في الفرض المزبور إنّما هو من جهة قصده الإتيان بهما معا الذي هو مشتمل على الإتيان بالمأمور به قطعا. ومن هنا نقول : بعدم إمكان تحقّق قصد التقرّب منه لو كان بانيا من أول الأمر على الاقتصار بأحدهما هذا. ولكن المختار عند شيخنا في « الرسالة المعمولة في التقليد » صحّة عبادة المتردّد فراجع إليها. هذا بعض الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الكلام في الموضع الثاني فحاصله :

أنه لا إشكال في تحقق قصد التقرّب منه ولو كان مقصّرا في ترك الفحص عن الواقع فأمره لا يخلو : إمّا أن يعلم ، أو يظنّ بالطريق المعتبر ـ بعد التبيّن


والرجوع ـ كون ما أتى به مخالفا للواقع ، أو كون ما أتى به موافقا للواقع ، أو يجهل الأمران من جهة عروض الغفلة عن صورة العمل السابق. فهذه صور ثلاث لا رابع لها.

أمّا الصورة الأولى : فمقتضى القواعد أن يحكم فيها بالفساد مطلقا.

نعم ، من زعم كون اعتقاد الأمر مؤثّرا في الإجزاء وعبّر عنه بالأمر العقلي كالمحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » يلزمه الحكم بالصحّة في هذه الصورة ، لكن رأينا منه في الفقه في مواضع من أجوبة مسائله : عدم التزامه بهذا وحكمه بالفساد ووجوب الإعادة عند تبيّن الخلاف في بعض جزئيّات هذه الصّورة.

وأمّا الصّورة الثانية : فلا إشكال في الحكم بالصحّة فيها لكون العمل مطابقا للواقع بالفرض وقد قصد التقرب أيضا ، فيلزمه سقوط الأمر بحكم العقل. واعتبار استناد العمل إلى الطريق المعتبر عند وجوده في صحّته ممّا لم يقم عليه دليل ، بل الدليل على خلافه بعد حمل أوامر الطرق على الإرشاد إلى تحصيل الواقع ، وهذا أمر لا سترة فيه أصلا.

ثمّ إنّ تبيّن المطابقة قد يكون بالعلم ، وقد يكون بالطريق الشرعي من الاجتهاد والتقليد.

وتوهّم : عدم تأثير الطريق الشرعي بالنسبة إلى الوقائع الماضية ، قد عرفت


وضوح فساده ، وأن مفاده الكشف عن الواقع من غير فرق فيه بين الوقائع أصلا ، كعدم الفرق في مفاد دليل اعتباره فراجع.

وأمّا الصّورة الثالثة : فلا إشكال أيضا في كون الحكم فيها البناء على الصحة ، من جهة قاعدة الشكّ بعد التجاوز والفراغ وخروج الوقت كما فصّل القول فيه في محلّه.

* * *



[ تنبيهات ضمن الفصل السابق ]

التنبيه على أمور في الجاهل

العامل قبل الفحص

الأوّل : هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟

الثاني : معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات

الثالث : عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة


التنبيه الأوّل :

هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟

(٨١) قوله قدس‌سره : ( وجوه : من أن التكليف الأوّلي إنّما هو بالواقع ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٣٣ )

__________________

(١) قال المحقّق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لأن المقصود الاوّلي من تكليف العباد إمتثال الأحكام الواقعيّة الأوّليّة والطرق الشرعيّة إنّما اعتبرت لكونها غالبة الإيصال إليها لا من حيث الموضوعيّة وموافقة هذه الطرق إنّما تجدي بالنسبة إلى من سلك بها لا بالنسبة إلى من أهملها وسلك في امتثال الأحكام الشرعيّة سبيل هواه.

وهو كما ترى في غاية من الضعف ؛ لأن الكلام في عمل الجاهل على طبق البراءة من دون فحص أعم ممّا أمكن بعد الفحص في مورد العمل للوصول إلى الواقع على سبيل القطع وإلى طريق شرعي معتبر ومما لم يمكن فيه ذلك لأجل عدم وجود طريق قطعي وظنّي في الواقع ومما أمكن فيه أحدهما دون الآخر ، وعلى الأوّل أعم ممّا وافق الطريق للواقع ومما خالفه ، وعلى جميع التقادير أمكن فيه الإحتياط أم لا.

كما إذا دار الأمر بين المحذورين كما دار الأمر بين وجوب فعل وحرمته ولا ريب أيضا انّه لا فرق في مؤدّيات الأدلّة الدالّة على وجوب العمل بمقتضى الطرق الشرعيّة بين من كان طالبا


الوجوه الأربعة في المسألة وإلحاق خامس بها

أقول : لا يخفى عليك أن هنا وجها خامسا قد سبق إلى بعض الأوهام ، وهو : التفصيل في إناطة المؤاخذة بمخالفة الطريق بين كونه مما اعتبره الشارع من حيث

__________________

للوصول إليها والعمل بمؤدّاها ومن أعرض عنها وأخذ في عمله سبيل هوى نفسه.

نعم ، لا يجب الأخذ بها تعيينا على من تمكّن من تحصيل العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا بالإحتياط ، وحينئذ فدعوى عدم ثبوت التكليف بالطرق الظاهريّة إلاّ لمن عثر عليها واضحة الفساد ؛ لأنه إن أريد بنفي التكليف عمّن لم يعثر عليها نفيه عمّن لم يعثر عليها بعد الفحص فهو خارج ممّا نحن فيه ، وإن أريد نفيه عمّن لم يعثر عليها قبل الفحص فهو مناف لمقتضى أدلّتها كما عرفت سيّما فيما لا يمكن تحصيل الواقع فيه تفصيلا ولا إجمالا بالإحتياط ، إمّا لعدم كون الواقعة موردا له بالذات كما عرفت ، أو لعروض المانع منه مع فرض التمكّن من الفحص ووجود الطريق الشرعي في الواقع بحيث يصل إليه بعد الفحص.

نعم ، تسليم ثبوت التكليف بها مع وجودها في الواقع وإمكان العثور عليها بعد الفحص ومنع تأثير الموافقة الإتفاقيّة لها حينئذ مع مخالفة العمل للواقع في إسقاط العقاب كلام آخر سيوضّحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان ما قوّاه ، ومما قدمناه من تعميم محل الكلام لما قدمناه يظهر أن قوله في بيان الوجه الثاني : ( أن الواقع إذا كان في علم الله سبحانه ... إلى آخره ) وكذا قوله في بيان الوجه الثالث : ( فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالإحتياط ) وكذلك قوله في بيان الوجه الرابع : ( ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ) أخصّ من المدّعى مضافا إلى ضعف الوجوه المذكورة كما يظهر بالتأمّل في بيان ما قوّاه » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٠٦.


ملاحظة المصلحة في الجملة ، وكونه معتبرا من حيث الكشف والطريقيّة المحضة كالظنّ المطلق على القول به من جهة دليل الانسداد ونحوه ـ مما تقدّم تفصيل الكلام فيه ـ فيناط بمخالفته في الأول دون الثاني ، وستقف على وجهه في طيّ بيان الوجه للوجوه الأربعة.

ثمّ إن ما أفاده قدس‌سره في بيان الوجه الأول المختار عندنا وعند المحققين ظاهر ، وإن كانت العبارة لا تخلو عن قصور في بيانه.

وتوضيحه : أنا قد أسمعناك مرارا كثيرة : أن تنجّز الخطابات الإلزاميّة الواقعيّة في حقّ القادر على موافقتها ولو بالاحتياط إنّما هو بمجرّد الالتفات والاحتمال ، وليس المعذور في مخالفتها إلاّ الصنفين :

أحدهما : المتفحّص عنها بقدر وسعه بحيث يحصل شرط الرجوع إلى البراءة.

ثانيهما : من استند في مخالفتها إلى العمل بالطريق المعتبر من جميع الجهات ، فمجرّد وجود الطريق المخالف للحكم الواقعي في الواقع لا يجدي في المعذوريّة وإن كان حكما ظاهريّا ثابتا في حقّه مع جهله به ، بل الطريق المعثور عليه المخالف له لا يجدي في المعذوريّة أيضا وإن كان حكما له ، بل الطريق المخالف له المعثور عليه إذا كان العمل مطابقا له من دون استناد إليه لا يجدي أيضا ؛ لأن الموجب للمعذوريّة في حكم العقل هو العمل بالطريق بمعنى الاستناد إليه على ما عرفته مرارا فيما حكم بحجيّته من الظنون وما حكم بحرمته ؛ فإنك قد عرفت ثمّة : أن مجرّد الموافقة الاتفاقيّة لا يعدّ عملا بالظّنّ أصلا هذا.


وأمّا وجه الثاني : فهو مبنيّ على منع تنجّز التكليف بالواقع الذي ليس هناك طريق في علم الله لمعرفته ، وإنّما المنجّز في حقّه مفاد الطريق الذي يعثر عليه بعد الفحص في علم الله ؛ حيث إن مفاده حكم شرعي إلهيّ وإن كان ظاهريّا ؛ لعدم الفرق في وجوب إطاعة الله بين أحكامه الإلزامية.

ومنه يظهر الوجه لخامس الوجوه ؛ حيث إن ما كان من الطريق مبناه على الطريقيّة المحضة يكون الأمر بالعمل به ممحّضا في الإرشاد ، فلا أثر لمخالفته إلاّ من حيث مخالفة الواقع المتحققة بسببها ، بخلاف ما كان مبناه على ملاحظة المصلحة ؛ فإن له مطلوبيّة حسب اقتضاء المصلحة فيكون سلوكه مطلوبا في نفسه ، فلا محالة يكون لمخالفته تأثير مع قطع النظر عن مخالفة الواقع.

وأمّا وجه الثالث : فهو كون كل من التكليف الفرعي المتعلّق بنفس الواقع والتكليف الأصولي المتعلّق بالطريق الذي يعبّر عنه بالحكم الظاهري حكما إلزاميّا إلهيّا منجّزا على المكلّف بمجرّد الالتفات والقدرة على الفعل ولو بالاحتياط ، أو الاطلاع عليه بالفحص عنه والعمل بمقتضاه. فإذا خالف أحدهما فيلزمه استحقاق العقاب عليه. كما أنه لو فرض مخالفتهما استحقّ عقابين ، ولو فرض عدم مخالفة شيء منهما لم يستحق عقابا أصلا.

وهذا معنى كفاية مخالفة أحدهما في استحقاق المؤاخذة ، ولا ينافي الحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الأصولي كونه ظاهريّا ومجعولا في موضوع الجهل بالواقع ؛ فإنه وإن كان ظاهريّا بهذه الملاحظة ، إلاّ أنّه واقعي ومتحقّق في موضوعه في نفس الأمر أيضا كالواقع الأوّلي.


وأمّا وجه الرابع : فهو المنع من تنجّز الواقع الذي لم يقم عليه طريق فإذا كان هنا حرمة للفعل بحسب نفس الأمر ، ولم يكن هناك طريق على حرمته ، أو كان هناك طريق على نفيها لم يكن ثمة عقاب ، والمنع من كون الخطاب المتعلق بالطريق مؤثّرا في نفسه في استحقاق العقاب على مخالفته ، فإذا كان مفاده الإلزام ولم يكن هناك إلزام في الواقع لم يكن هناك مقتض لاستحقاق العقوبة أصلا.

نعم ، لو كان الفعل في الواقع حراما مثلا وكان مفاد الطريق الذي يطّلع عليه بعد الفحص الحرمة أيضا حكم بتنجّز الحرمة الواقعيّة وهذا معنى كفاية موافقة أحدهما في عدم الاستحقاق.

نعم ، لو قيل باستحقاق العقوبة على التحريم لزم الحكم باستحقاق العقاب من جهة في جميع صور عدم العذر سواء اطّلع على الطريق مخالفها أم لا ، غاية ما هناك : تعدّد العقاب عند تنجّز الواقع.

وبمثل ما ذكرنا لا بدّ أن يحرّر الوجه الرابع لا بما أفاده ؛ فإنه مضافا إلى ما فيه : من تخصيص التكليف المتعلّق بالطريق بمن علم به كما ذكره في وجه الوجه الأوّل أيضا ـ مع أنه غير معقول بظاهره ـ يقتضي انتفاء العقاب رأسا ولو خالفهما جميعا كما يشعر به قوله : « من باب حرمة التجرّي » (١) (٢) فإنه ظاهر في كون عقابه

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : يعني في صورته تأديته إلى إثبات حكم مخالف للواقع » إنتهى. ـ حاشية فرائد الأصول : ٢٩١.


عند مخالفة الطريق بعد الاطّلاع مبنيّا على حرمة التجرّي ، وإن كانت العبارة لا يخلو عن شيء مع وضوح المراد هذا.

مضافا إلى ما عرفت : من ثبوت حرمة التجرّي على القول بها مطلقا من غير فرق بعد الحكم بعدم معذورية الجاهل في محلّ البحث كما هو المفروض ، فالتجرّي حقيقة إنّما هو بالإقدام على محتمل المخالفة للواقع لا على مخالفة الواقع من حيث إنه واقع ، ولا على مخالفة الطريق من حيث هو هو كذلك ، فما أفاده محلّ مناقشة من وجوه.

فقد تبيّن مما ذكرنا : أن الأوجه هو الوجه الأوّل وحاصله : تنجّز التكليف بالواجب والحرام الواقعيّين في حق الجاهل في مفروض البحث وعدم المانع من تنجّزه أصلا ؛ إذ ليس إلاّ عدم الاطّلاع عليه بعد الفحص ، وقد عرفت : أنه لا يصلح للمانعيّة بعد فرض قدرة المكلّف على الامتثال ولو بالاحتياط ، والمفروض أيضا عدم فحصه عن الواقع وسلوكه لطريق معتبر بنفسه حتى يكون معذورا في حكم

__________________

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« متعلّق بقوله : ( ثابتا ) ثبوت التكليف بالطرق إنما هو من باب كون حرمة مخالفته من باب حرمة التجرّي فلا يثبت على مخالفتها عقاب من حيث هو لا قبل العثور عليها ولا بعده » إنتهى.

أوثق الوسائل : ٤٠٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٤.


العقل ، هذا إذا كان التكليف الإلزامي ثابتا في الواقع. وأما إذا لم يكن ثابتا في الواقع وكان هناك طريق يقتضيه فلا مقتضى للعقاب أصلا.

أمّا على الواقع : فلأنه ليس هناك إلزام على ما يقتضيه الفرض.

وأمّا على الطريق : فلأن مفاده وإن كان هو الحكم الإلزامي ، إلاّ أنه لا يؤثّر في العقاب من حيث كون الأمر المتعلّق به إرشاديّا ، وإن فرض ملاحظة المصلحة في الأمر ؛ حيث إنها تعتبر في فعل الشارع من حيث امتناع صدور القبيح منه فيما كان الأمر بسلوكه مع التمكّن من تحصيل الواقع المفقود في الفرض ، مع أن فرض المصلحة في الأمر إنّما هو في فرض تفويت الواقع ، والمفروض عدمه ؛ من حيث إن الواقع ليس فيه إلزام ومصلحة توجبه هذا. مع أنه على تقدير التمكّن لا يؤثّر في حكم العقل شيئا حتى يلزم التصويب.

نعم ، قد عرفت : أنه على القول بحرمة التجرّي يحكم باستحقاق العقاب عليه من حيث عدم معذوريّة الجاهل في الفرض لا من حيث مخالفة الطريق ، سواء اطّلع عليه وخالفه ، أم لم يطّلع عليه أصلا ، وإن كان صريح شيخنا تخصيص التجرّي بالصورة الثانية ، فكأنه مبنيّ على ملاحظة التجرّي بالنسبة إلى الأمر بالطريق مع تخصيص الأمر بصورة الاطلاع ، مع أنّك قد عرفت استحالته.

وكيف ما كان : لا مناص عن المصير إلى ما عرفت ، ومن هنا بنينا على كون مقتضى القاعدة عدم الإجزاء في سلوك الطرق الظاهريّة عند تبين مخالفتها للواقع.


التنبيه الثاني :

معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( الثاني : قد عرفت : أن الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٣٧ )

عمل الجاهل إذا خالف الواقع

أقول : لا يخفى عليك أن الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص في زمان مع مخالفة عمله للواقع ، قد يكون شاكّا متردّدا وهو الجاهل البسيط. وقد يكون معتقدا غافلا عن مخالفة اعتقاده للواقع.

والمقصود بالبحث في هذا الأمر الثاني ـ باعتبار الاستثناء لا المستثنى منه ـ الثاني لا الأول ، وإن كان المقصود بالبحث أوّلا وبالذّات هو الأول في أصل عنوان المسألة واشتراط الفحص.

ضرورة أن استثناء الموضعين إنّما هو من الثاني لا الأوّل ؛ فإن الشاكّ المتردّد لو أتى بالتمام في السفر حكم ببطلانه إتّفاقا ، كما أنه لو أتى بالقصر مع التردّد حكم ببطلانه أيضا إتفاقا ، وكذا بالنسبة إلى الجهر في موضع الإخفات أو


العكس فيقال : إن الجاهل العامل بخلاف الواقع غير معذور مطلقا مع التقصير لا من حيث التكليف ولا من حيث الوضع إلاّ في موضعين ؛ فإن الجاهل بقول مطلق ـ ولو كان هو خصوص الجاهل المركب ـ معذور فيهما من حيث الوضع ، فلا يحتاج إلى جعل العنوان خصوص الجاهل المركّب ؛ نظرا إلى فساد عمل الشاكّ مطلقا ولو وافق الواقع على ما عرفت.

وكيف كان : لا إشكال في أن استثناء الإتمام في موضع القصر ، وكذا استثناء كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر في كلماتهم وكلمات شيخنا قدس‌سره إنّما هو بالنسبة إلى الجاهل المركّب كما يفصح عنه تصريحاتهم وتصريحه قدس‌سره في التعليل للوجوه المذكورة في رفع التنافي والإشكال.

ثمّ إن ظاهر ما أفاده بل صريحه ابتناء الإشكال (١) على عدم معذوريّة

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى انه ليس منشأ أصل الإشكال هاهنا هو عدم المعذوريّة بحسب الحكم التكليفي دون الوضعي ـ كما هو ظاهر العبارة ـ وإن كان يزيد به قوة فيما اذا انكشف الإختلاف في الوقت ؛ حيث انّه يتمكّن حينئذ من إمتثال ما هو تكليفه بحسب الواقع من دون لزوم تفويت أصلا بسبب جهله السابق ، فكيف يحكم عليه باستحقاق العقاب على ما حكم بسقوطه عنه مع بقاء وقته وغاية تمكّنه من إتيانه.

وأمّا أصل الإشكال فتوضيحه : انه لما كان ظاهر الأصحاب كما هو ظاهر أخبار الباب ان


__________________

الإتمام في مقام القصر أو الإخفات في موضع الجهر وبالعكس لا يكون مخلاّ بالصلاة في صورة الجهل ولو عن تقصير ، بل يكون الصلاة المأتي بها كذلك صحيحة تامة ، كما ورد في الجهر والإخفات تمت صلاته ، ومع ذلك كان القصر أو الجهر مثلا عليه واجبا فعلا بحيث يعاقب على الإخلال به بتقصيره حسبما هو بناءهم في الجاهل المقصّر ، قد أشكل بانّه إذا لم يكن الإخلال به جهلا مخلاّ بالصحّة وحصول الإمتثال ولا يكاد أن يكون ذلك إلاّ إذا كان المأتيّ به موافقا للأمر ومعه كيف يكون الواجب الواقعي عليه فعلا منجّزا وليس على الإنسان إلاّ صلاة واحدة في حال من الأحوال ، مع انه لو كان عليه صلاتان فلا وجه للحكم بسقوطهما بفعل أحدهما سيّما إذا انكشف الحال في الوقت وكان متمكّنا من الإمتثال ، وكيف يعاقب مع ذلك ولم يلزم من تقصيره في هذه الصورة إخلال بعد بالواجب أصلا ، بل كان سقوطه بحكم الشارع بالإجزاء.

ثم لا يخفى انه لو كان المأتيّ به غير موافق للأمر كان مسقطا مع ذلك لم يكن إشكال إلاّ في الحكم بعدم المعذوريّة بحسب الحكم التكليفي فيما اذا انكشف الخلاف في الوقت ولم يكن إشكال بحسب الحكم الوضعيّ لإمكان أن يكون غير الواجب مسقطا عنه ، بل وقوعه في الشريعة ، ومن هنا ظهر ما في كلامه في تقريب الإشكال من الإخلال بما هو ملاكه.

ثم التحقيق في حل الإشكال بحذافيره هو أن يقال : إن الواجب فعلا ليس إلاّ صلاة القصر او الجهر ، إلاّ ان صلاة الإتمام أو الإخفات في مقامهما لمّا كانت قائمة ببعض ما هما عليه من المصلحة بحيث لا يبقى مع استيفاء هذا المقدار من مصلحتهما مجال لإستدراك ما لم يستوف منها ، كان سقوط الواجب فعلا عليه لأجل إتيانه جهلا بما لا يقدر معه من استيفاء


الجاهل في الموضعين من حيث التكليف والمؤاخذة على ما استظهره من كلماتهم ، مع عدم منافاته لدليل المعذورية في الموضعين ؛ فإنه ساكت عن بيان المعذوريّة من الحيثية المذكورة لا أنه ناطق بعدم معذوريّته من الحيثيّة المزبورة ، كما ربّما يتوهّم من ظاهر كلام شيخنا قدس‌سره ، ولكن ستقف في مطاوي كلماتنا على عدم ابتناء توجّه الإشكال على عدم معذوريّة الجاهل في محلّ الاستثناء من

__________________

تمام المصلحة التامة فيسقطان بذلك فيعاقب عليه ، ولو انكشف الحال في الوقت لتفويته عليه بتقصيره ما لزم عليه استيفاءه وهو بعض تلك المصلحة التامّة ولمّا لم يكن المأتي به مسقطا صرفا كالسفر ، بل قائما بمعظم ما يقوم الواجب به بحيث لم يكن مانع عن ايجابه إلاّ قيام الواجب بمصلحته مع الزيادة اللازمة ، كان اتصافه بالصحّة والتماميّة في محله.

إن قلت : فعلى هذا يكون ما أتى به مبغوضا فيما إذا انكشف الحال في الوقت لتفويته الواجب عليه ومعه لا يكون مقرّبا وهو ممّا لا بد منه في صحّة ما يكون مطلوبا على نحو العبادة.

قلت : ليس التفويت في هذه الصورة أيضا بسببه لما حقّق في محلّه : من انتفاء التوقّف والعلّيّة بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر وقضيّة التضاد إنما هو التلازم بين وجود احدهما وعدم الآخر ، فيكون عدم الواجب كوجود المأتي به في هذه الصورة كسائر الصور مستندا إلى تقصيره ، فلا يقع المأتي به إلاّ محبوبا لما هو عليه من المصلحة التامّة في نفسها ولو انكشف الخلاف في الوقت.

وبذلك قد ارتفع الإشكال وحصل التوفيق بين استحقاق العقاب على القصر أو الجهر في مقامهما إذا صلّى إتماما أو إخفاتا ولو انكشف الخلاف في الوقت ، وبين صحّة ما أتى به من الصلاة مع عدم كونه مأمورا به فعلا وعليك بالتأمّل التام في المقام » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٧٦.


حيث المؤاخذة كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره في بيان بعض وجوه الدفع أيضا.

نعم ، الجاهل في الموضعين من حيث المؤاخذة كالجاهل بسائر الأحكام الشرعيّة ، فإن كان قاصرا لم يستحق العقاب بمخالفة الواقع فيهما ، وإن كان مقصّرا استحقّ العقاب على مخالفة الواقع فيهما كسائر المواضع ، ولا يبعد أن يكون مرادهم من معذورية الجاهل فيهما هو ما ذكرنا. كيف؟ ولا معنى للحكم بعدم معذوريّته وإن كان قاصرا ؛ ضرورة مخالفته لقضيّة حكم العقل ، كما أنه لا معنى لمعذوريّته وإن كان مقصّرا.

ودعوى : كون كل جاهل فيهما لا بدّ وأن يكون مقصّرا سيّما بالنسبة إلى التمام في موضع القصر ؛ لوضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل ، كما ترى.

ثمّ إن مدرك المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي في الموضعين ـ مضافا إلى الإجماع ـ الأخبار الصحيحة.

ففي صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : « فيمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال عليه‌السلام : إن قرئت عليه آية التقصير وصلى أربعا أعاد وإن لم يكن قرئت عليه ». ولم يعلمها فلا إعادة عليه » (١). وفي بعض صحاح (٢)

__________________

(١) لم نجد في كتب الحديث أثرا لهذا الخبر بهذا اللفظ. نعم ، ورد قريب منه في دعائم الإسلام


زرارة زيادة قوله : « وفسّرت له » عقيب قوله : « إن كانت قرئت عليه آية التقصير ».

وفي صحيحة أخرى لزرارة أيضا قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال عليه‌السلام : أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة وإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا

__________________

ج ١ / ١٩٥ عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما‌السلام انه قال : من صلّى أربعا في السفر أعاد إلاّ أن يكون لم [ تقرأ عليه الآية ] ولم يعلمها فلا إعادة عليه.

وعليه : فما أورده الميرزا رحمه‌الله هاهنا لا يعدوا أن يكون صورة مشوّهة لخبر زرارة المعروف الذي ورد في كل من تفسير العيّاشي والفقيه والتهذيب من أصل كتاب حريز رضوان الله تعالى عليه ، بل الحق ان ما أورده صاحب الدعائم أيضا هو صورة ملخّصة منه :

ومنه تعرف : أن تعبيره قدس‌سره عن هذا الخبر بصحاح زرارة ليس في محلّه إذ هو خبر واحد ليس أكثر فلا معنى لتوهّم تعدّده وأمّا الكلام عن صحّته وعدمها فهو موكول إلى محلّه.

أضف إلى ذلك ان الزيادة المتوهّمة في كلمة الميرزا قدس‌سره إنّما هي بالنسبة إلى الحديث الوهمي المشوّه المزبور وإلاّ فإن المصادر التي ذكرت الخبر كلّها أوردت هذه الكلمة وهذا مما لا غبار عليه.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٤٣٤ ـ ح ١٢٦٥ ، والتهذيب : ج ٣ / ٢٢٦ أبواب الزيادات في الجزء الثاني من كتاب الصلاة باب « الصلاة في السفر » ـ ح ٨٠ ، وتفسير العيّاشي : ج ١ / ٢٩٧ ـ ح ٢٥٣ ، عنهما الوسائل : ج ٨ / ٥٠٦ باب : « ان من أتم في السفر عامدا وجب عليه الاعادة في الوقت وبعده ومن أتمّ ناسيا وجب عليه الإعادة في الوقت لا بعده ... إلى آخره » ـ ح ٤ و ٥.


أو لا يدري فلا شيء عليه فقد تمّت صلاته » (١).

تقرير الإشكال على الحكم بالمعذوريّة

ثمّ إن مبنى الإشكال في المقام حقيقة على توقف سقوط الأمر في العبادات على تعلّق الأمر بما يحكم بكونه مسقطا وليس أمرها كأمر الواجبات التوصّليّة حتى يحكم بكون الحرام مسقطا فضلا عن غير الحرام الذي لم يتعلّق به الأمر ، وفرض العلم بكون الواجب في الشريعة على كل مكلّف صلاة واحدة تماما أو قصرا على التعيين إلاّ فيما استثنى ، وإلاّ لم يكن معنى لكون التمام مسقطا للقصر كما هو ظاهر ، فلا يجامع الأمر بالقصر مع الأمر بالتمام فلا بد من الالتزام بأحدهما.

فحينئذ : يقال إن لم يكن التمام مأمورا به فكيف يسقط الواجب التعبّدي؟ وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع الأمر بالقصر مع العلم ببقاء التكليف بالقصر؟ ولذا لا يعذر الجاهل فيه في الجملة ولو مع التقصير ، ومع العلم بأنه ليس

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣٤٤ ـ ح ١٠٠٣ والإستبصار : ج ١ / ٣١٣ باب « وجوب الجهر بالقراءة » ـ ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ٨٦ باب « وجوب الإعادة على من ترك الجهر والإخفات في محلها عمدا وعدم وجوب الإعادة على من تركهما نسيانا أو سهوا أو جهلا » ـ ح ٢٦.


هنا إلاّ تكليف واحد : إمّا بالقصر ، أو بالتمام.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا في تقرير الإشكال : أن مجرّد رفع الأمر عن القصر فعلا بل شأنا لا يكفي في دفع الإشكال ، بل لا بدّ من إثبات أحد الأمرين : إمّا الأمر بالتمام ، أو إثبات إمكان إسقاط المأمور به بغيره في العبادات أيضا في الجملة.

فما يتفصّى به عن الإشكال ـ إذا لم يرجع إلى إثبات أحد الأمرين ـ لا فائدة فيه أصلا ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الجهر والإخفات ، وليكن هذا في ذكر منك لينفعك بعد ذلك.

وجوه في دفع الإشكال

إذا عرفت ذلك فنقول : قد يدفع الإشكال كما في « الكتاب » بمنع تعلّق التكليف فعلا بالمتروك سواء يمنع من تعلّقه شأنا أيضا أم لا. وتقرير هذا بوجوه :

أحدها : ما عن السيّد علم الهدى قدس‌سره في الجواب عن أخيه السيّد الرضي قدس‌سره (١) حيث اعترض عليه بعد الجواب عن سؤال ـ من صلّى في السفر تماما جهلا بصحّة صلاته ـ : بأنه لا يجامع مع ما أجمعنا عليه من بطلان صلاة من لا يعرف أحكامها ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا يكون الصلاة صحيحة مجزية بعد تسليم الإجماع وتقريره : من جواز تغيّر الحكم بسبب الجهل ،

__________________

(١) أنظر رسائل الشريف المرتضى : ج ٢ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤.


فوجوب القصر على المسافر إنّما هو إذا كان عالما بحكم السفر ، وأما إذا كان جاهلا فلا يجب عليه القصر ، فلا يكون جاهلا بحكم الصلاة.

وهذا كما ترى ، يرجع إلى أخذ اشتراط العلم بالحكم في موضوع التكليف في الموضعين ، فعلى هذا يشكل الاعتراف بعدم معذوريّة الجاهل من حيث الحكم التكليفي فتأمل.

ولمّا كان مرجع الوجه المزبور إلى ما عرفت : من أخذ العلم بالحكم في موضوعه ، فلا محالة يتوجّه عليه ما سمعته مرارا : من عدم إمكانه من حيث لزوم الدور عليه فلا يصحّ الاعتماد عليه.

ثانيهما : كون الجاهل بهذه المسألة نظير الجاهل بالموضوع معذورا في مخالفة الواقع وإن كان الخطاب الواقعي موجودا إلاّ أنه يرتفع فعليته نظير الشاكّ في تحقق السفر من جهة الشبهة الموضوعيّة ؛ فإنه يعلم بوجوب التمام عليه في مرحلة الظاهر وإن كان الواجب عليه في الواقع القصر ، وإن كان بينهما فرق : من حيث إن الجاهل بالموضوع مخاطب بالخطاب الظاهري ، وهذا الجاهل لا يمكن أن يجعل في حقّه الحكم الظاهري.

لكنّه لا يقدح في المقام ؛ من حيث إن الحاجة إلى الحكم الظاهري إنّما هو لأجل التوصّل إلى قصد الامتثال ، وهذا الجاهل مستغن عنه : من جهة اعتقاده بالوجوب. والحكم بالمعذورية بهذا المعنى لا ينافي الحكم بعدم المعذوريّة من


حيث العقاب من حيث تنجّز الخطاب في حقّه قبل عروض الغفلة فتأمّل.

ثمّ إن الفرق بين هذا الوجه والوجه السابق لا يكاد أن يخفى.

وفيه : أن مجرّد الالتزام بارتفاع فعليّة خطاب القصر لا يوجب الحكم بصحّة التمام مع عدم تعلّق الأمر به من الشارع ، واعتقاد الوجوب لا يؤثّر فيه ، وستعرف عدم إمكان تعلّق الأمر ، والقول بصحّته مع عدم الأمر يرجع ، إلى ثاني الوجوه عن دفع الإشكال.

ثالثها : الالتزام بانقطاع الخطاب الواقعي عنه للغفلة مع كونه معاقبا على عدم إزالة الغفلة وترك التعلم ، كما تقدّم استظهاره من صاحب « المدارك » في مطلق الجاهل المركّب ، والفرق بينه وبين الوجهين لا يكاد أن يخفى. ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما عرفت : في ردّ صاحب « المدارك » ـ : إن رفع الخطاب بالقصر واقعا من جهة الغفلة لا يصحّح توجّه الخطاب بالتمام ، وصحّته ـ على ما عرفت ـ مبنيّة عليه لا على مجرّد رفع الخطاب بالقصر ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إن مبنى وجوه دفع الإشكال بالوجه الأول على عدم المانع من توجّه الأمر بالتمام إلاّ الأمر بالقصر ، وإن كان الابتناء في محلّ المنع فتأمل.

رابعها : الالتزام بانقطاع الخطاب واقعا بالقصر من جهة عدم القدرة عليه مع كونه معاقبا على مخالفته ؛ من حيث إن الامتناع منه ، فلا ينافي العقاب عليه وإن امتنع تعلّق الخطاب به ، والفرق بينه وبين الوجوه السابقة ظاهر لا سترة فيه.


وفيه ما عرفت : من أن ارتفاع الأمر بالمتروك لا يفيد في تصحيح المأتيّ به هذا.

وفي « الكتاب » بعد ذكر هذا الوجه : « لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور (١) ؛ حيث إن الظاهر منهم ـ كما تقدّم ـ بقاء التكليف بالواقع

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : مضافا إلى أن شيئا منها لا يجدي في حلّ الإشكال الناشيء من التنافي بين صحة صلاته واستحقاقه للمؤاخذة في مثل الفرض المتقدم آنفا وهو : ما لو حصل له العلم بتكليفه الواقعي قبل خروج الوقت هذا كله مع ضعف جميع هذه الوجوه بل فسادها :

أمّا الأوّل : وهو إدعاء كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم فواضح ؛ إذ لا مقتضي حينئذ لعقاب الجاهل مع ما في تخصيص الحكم بالعالم به من الدور الظاهر.

وأمّا الثاني : وهو كون الجهل بالحكم ـ في هذه المسألة ـ كالجهل بالموضوع عذرا.

ففيه : انه إن أريد به كون الجاهل بالحكم كالجاهل بالموضوع معذورا شرعا أو عقلا في مخالفة تكليفه الواقعي فلا يصح مؤاخذته كما في الجاهل بالموضوع.

وإن أريد به كونه معذورا في الإجتزاء بما صدر منه بدلا عمّا وجب عليه في الواقع ، أي : في الحكم الوضعي دون التكليفي فهو عين الإشكال.

وإن أريد به معنى آخر فلا نتعقّله.

وأمّا الثالث : وهو الإلتزام بعدم كون الغافل مكلّفا بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم فعلى تقدير صحّة الإلتزام به ، فهو لا يجدي في حلّ الإشكال في مثل الفرض المتقدّم ؛ إذ غاية ما يمكن الإلتزام به إنّما هو جواز مؤاخذة الجاهل بالحكم على ترك التعلّم فيما لو


المجهول ... إلى آخر ما أفاده » (١).

والمراد من البقاء ـ كما هو ظاهر ـ : هو المعنى المقابل للوجوه ، أعني : بقاء فعليه التكليف بالمتروك ، كما هو المراد من حكمهم بكون الجاهل بحكم الغصب كالعامد ، فحكموا ببطلان صلاته لا بقاء الشأنيّة ، وإلاّ لحكموا ببطلان صلاة الجاهل بالموضوع ولا بقاء مجرد أثر التكليف ، أعني : العقاب ، وإلاّ لم يحكموا بصحّة صلاة المتوسّط في الأرض المغصوبة على ما عرفت شرح القول فيه ، ولكن ستقف على

__________________

استمرّ جهله إلى أن خرج زمان الخروج عن عهدة الواجب ، والمفروض انه عرف تكليفه قبل فوات الوقت ، ولكن لم يعد صلاته ؛ حيث انّ الشارع أمضى ما صدر منه ، فأي فرق في استحقاق العقاب وحسن المؤاخذة على ترك التعلّم بين جاهلين حصل لهما العلم بوجوب القصر على المسافر قبل خروج وقت الصلاة ، وقد صلّى أحدهما تماما في أوّل الوقت فلم يعد تعويلا على إمضاء الشارع لفعله؟ فكيف يصحّ عقاب هذا الشخص دون الآخر الذي لم يصلّ في أوّل الوقت فصلّى قصرا؟ مع انّ ترك الأوّل للقصر نشأ من إمضاء الشارع لفعله ، وإلا لكان يخرج عن عهدة ما وجب عليه في الواقع قبل فوات وقته!

وبما ذكرنا ظهر لك ما يتوجّه على الوجه الأخير : وهو انقطاع الخطاب عند الغفلة مع كونه في حال غفلته مكلّفا بالواقع ومعاقبا على مخالفته.

توضيحه : إنّ مخالفته للواقع في الصورة المفروضة نشأ من إمضاء الشارع لفعله المستلزم للرّخصة في المخالفة فكيف يصحّ حينئذ مؤاخذته عليها! » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٩٣.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٩.


الفرق بين المقام والجاهل بالغصب وعدم إمكان بقاء التكليف في المقام بالمتروك وإمكانه في الجاهل بحكم الغصب هذا.

وقد يدفع الإشكال : بمنع تعلق التكليف والأمر من الشارع بالمأتي به مع إمكان كونه مسقطا للأمر بالقصر مثلا من حيث اشتماله على جهة الأمر والمصلحة والرجحان النفس الأمري من غير أن يتعلّق به أمر من الشارع أصلا ، وهذا الاشتمال يكفي في كونه مسقطا من حيث كونه موجبا لحصول الغرض من الأمر بالعبادة على ما عرفت في تصحيح عبادة ناسي بعض الأجزاء إذا لم يكن ركنا.

بل ربّما يقال : بكون المقام أولى منه ؛ من حيث إن الآتي بالتمام يقصد وجوبه ، والناسي إنّما يأتي بداعي الأمر المتعلق بالمركّب التام ، وبعد قيام الدليل في العبادات على إسقاط غير المأمور به للمأمور به لا مناص عن الالتزام بما ذكر ؛ لأنه الوجه في إمكانه.

لا يقال : أيّ مانع من الالتزام بتوجّه الأمر بالمأتي به بعد فرض اشتماله على المصلحة الملزمة المقتضية للأمر؟

لأنا نقول : المانع عدم تصوّر عنوان للمأتيّ به يصحّح تعلّق الأمر به وللمكلّف كذلك بحيث يرجع إلى التنويع ، كما في سائر حالات المكلّف الموجبة له من الحضر ، والسفر ، والاختيار ، والاضطرار ، والصحة ، والمرض ، والعلم ، والجهل بالنسبة إلى الموضوعات ونحو ذلك ؛ فإنّه لا يخلو الأمر : من أن يتعلّق التكليف


بالتمام في السفر على المكلّف البالغ العاقل القادر ، أو أن يتعلّق بالغافل عن حكم القصر في السفر ، أو يتعلّق بالغافل عنه المعتقد بوجوب التمام عليه.

وعلى الأوّل : يلزم عدم وجوب القصر على المسافر في الشرع أصلا ورأسا كما هو ظاهر ، وعلى الثاني : يلزم رفع وجوب التمام ، وما يستلزم وجوده عدمه محال ، مضافا إلى أنه لم يقل أحد : بأن كل من غفل عن وجوب القصر في السفر يجب عليه التمام. وعلى الثالث : يلزم الدور على ما أسمعناك مرارا وهو محال أيضا.

فإن قلت : المعتقد بوجوب التمام غافل عن حكم القصر في السفر دائما ، ولا يشترط الالتفات إلى الموضوع ، بل يكفي تحقّقه.

قلت : سلّمنا عدم اشتراطه لكن يعتبر أن لا يكون الالتفات إليه رافعا للموضوع.

فإن قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ بالنسبة إلى نسيان الحكم ؛ فإن الالتفات إليه رافع لموضوعه ، وأما الجهل به فلا يرتفع بالالتفات ؛ فإن المعتقد بوجوب التمام معتقد بعدم وجوب القصر.

قلت : الاعتقاد بعدم وجوب القصر إنّما نشأ من الاعتقاد بوجوب التمام ، فأخذه في موضوع التمام يرجع إلى أخذ اعتقاد وجوب التمام في الموضوع ، فيرجع إلى الدور لا محالة.


فإن قلت : إذا التزمت بوجود المصلحة في التمام في حقّ خصوص المعتقد بوجوب التمام مع قصوره عن توجيه الخطاب والتكليف إليه أو لزوم المحذور منه ، فهل للقصر مصلحة في حقّه أم لا؟ فإن كانت للقصر مصلحة ملزمة فيجب عليه صلاتان فلا يغني التمام عن القصر ، وإن لم يكن له مصلحة فكيف تلتزم بالعقاب على تركه مع التقصير؟

قلت : المصلحة الموجودة في التمام إنّما هي المصلحة المتداركة لمصلحة القصر بعد عروض العجز عنه ، وهذا لا ينافي وجود المصلحة الأوّليّة المطلقة في القصر للمسافر بحيث يعاقب المكلّف على تفويتها ، كما يلتزم بالعقاب على ترك الصلاة بالطهارة المائيّة مع كفاية الصلاة بالطهارة الترابيّة إذا كان تفويت الطهارة المائيّة بسوء اختيار المكلّف وهكذا في أمثاله.

فإن قلت : المستحيل توجيه الخطاب من جهة الخلف ، أو الدور ، أو غيرهما بالتمام إلى المسافر إذا كان على سبيل الإطلاق. وأما إذا كان بعنوان الاشتراط والتقييد بالعزم على معصية خطاب القصر فلا نسلّم استحالته.

قلت ـ مضافا إلى رجوع ما ذكر إلى دفع الإشكال بوجه آخر ستقف عليه ـ لا نسلّم إمكانه أيضا من جهة استلزامه لرفع الخطاب بالتمام كما ستقف على بيانه.

فإن قلت : ما ذكر من دفع الإشكال خلاف ما يستظهر من أخبار الباب ؛ فإن ظاهرها كون التمام مأمورا به وصلاة في حق الجاهل.


قلت ـ بعد تسليم الظهور ، مع أن منعه ظاهر : من حيث ظهورها في مجرّد عدم وجوب الإعادة ـ : أن الظاهر يدفع بالقاطع بعد انحصار وجه الإمكان في هذا الوجه كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر : ما يتوجّه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » من تبعيد هذا الوجه من ظاهر أخبار الباب.

فإن قلت : إنّما يستقيم ما ذكرته من الوجه في دفع الإشكال إذا أتى بالتمام قبل ضيق وقت القصر ، وأما إذا أتى به في آخر وقته بحيث يوجب فوته فلا يستقيم على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن أضداده الخاصّة ؛ فإنه يوجب امتناع التقرّب بفعل التمام ، ونمنع من القول بكفاية رجحانه النفسي في سقوط الأمر.

قلت ـ بعد تسليم الاقتضاء في المسألة ، مع أنه ممنوع كما حقق في محلّه ـ : أن النهي المتوجّه إلى الضّد الخاصّ على القول به إنّما يتولّد من الأمر النفسي المتعلّق بالمأمور به ويتبعه استفادة ووجودا ومستفادا ؛ حيث إنه من جهة الأمر التبعي المتعلّق بتركه من جهة كونه مقدّمة للمأمور به المضيّق ، وتعلّق الأمر بالقصر في مفروض البحث وهو المعتقد بوجوب التمام محال على ما عرفت الإشارة إليه سابقا : من حيث استحالة الامتثال بالنسبة إليه ، وهو شرط في صحّة القصر والقدرة على الشرط الوجودي ، مع إطلاق شرطيّته شرط في الوجود بالضرورة ؛ لرجوعه


إلى اشتراط القدرة بالنسبة إلى المأمور به وإن فرض كون عدم القدرة من سوء اختيار المكلّف على ما هو ظاهر وعرفت القول فيه ، فإذا لم يكن القصر واجبا عليه في نفس الأمر من جهة العجز عن الامتثال فلا يكون هناك نهي عن أضداده ؛ حيث إنّه يتبعه وجودا وعدما هذا ما يقتضيه التحقيق في المقام.

وإلاّ فعلى القول بانتفاء فعليّة الخطاب أيضا وإن كان موجودا في نفس الأمر يحكم بعدم تأثير النهي التبعي في المقام على ما قضت به كلماتهم : من إمكان اجتماع النهي الواقعي مع الأمر الفعلي ، كما في صلاة الجاهل بموضوع الغصب ؛ فإنه إذا كان اجتماعه مع الأمر ممكنا أمكن اجتماعه مع جهته بالأولوية القطعيّة فتأمّل (١).

وممّا ذكرنا كله يظهر : ما يتوجّه من المناقشة على ما أفاده شيخنا العلامة في مقام تضعيف الوجه المذكور بقوله : ( نعم ، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب (٢) فيحرم بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ ، كما في آخر

__________________

(١) الوجه في التأمّل : هو أن القول بالإمكان إنّما هو فيما إذا كان هناك مندوحة لا مطلقا وفي هنا التزموا بعدم النهي واقعا في المتوسط في الأرض المغصوبة مع التزامهم بالعقاب ، فالمتعيّن في الجواب عن السؤال هو الإلتزام بعدم النهي في مرحلة الواقع فتأمّل ( منه دام ظلّه العالي ).

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :


الوقت حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر ) (١).

كما أنه يظهر ممّا ذكرنا كله : ما في قوله قدس‌سره : « والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع من عدم وجوب البدل فيها ... إلى آخر ما أفاده » (٢) (٣) ؛

__________________

« يظهر منه قدس‌سره : أن فوات الواجب فيما نحن فيه بإتيان غيره إنّما يكون في بعض الصّور ، كما في آخر الوقت ، وظاهر الاصحاب وأخبار الباب فواته به ولو في أوّل الوقت » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٧٨.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٣٩.

(٢) فرائد الأصول : ٢ / ٤٣٩.

(٣) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : من أمثلته : مؤدّيات الطرق الظاهريّة كوجوب صلاة الظهر التي أخبر العادل بوجوبها على تقدير كون الواجب الواقعي صلاة الجمعة إن قلنا فيها بالإجزاء.

ومن أمثلته أيضا : الصلوات التي يأتي بها ناسي بعض أجزاءها أو شرائطها الغير المقوّمة على إحتمال رجّحه المصنف رحمه‌الله عند التكلم فيما يقتضيه الأصل عند الشك في إختصاص الجزء والشرط بحال العمد أو عمومها لحال النسيان فراجع.

وليس مسألة الإئتمام المسقط لوجوب القراءة وكذا السفر المباح المسقط لوجوب الصوم مثالا لما نحن فيه.

أمّا الأوّل : فلأن الإئتمام أفضل فردي الواجب وليس مباحا مسقطا للواجب ، وكيف لا وإلاّ لم يقصد بفعله إمتثال الواجب.

وأمّا الثاني : فلأن السفر موجب لتبدّل الموضوع ورافع لأصل الوجوب لا أنّه مسقط للواجب


فإنّك قد عرفت : أنه لا مناص عن الالتزام بعدم الأمر في موارد نسيان الأجزاء الغير المركّبة ، ولعلّه الوجه في أمره قدس‌سره بالتأمّل عقيب القول المذكور (١) ، بل هو

__________________

في مقام الإمتثال.

ثم لا يخفى عليك أن ثبوت الأمر بالبدل في الموارد التي أشرنا اليها بعنوان كونه بدلا عن الواقع غير معقول ؛ لجهله بهذا العنوان أو غفلته عنه وتعلّق الأمر به بغيره من العناوين ككونه ممّا أخبر العادل بوجوبه لا يقتضي سقوط الأمر الواقعي ، غاية الأمر أنّه يقتضي ـ على القول بالإجزاء ـ تدارك ما يفوته من مصلحة التكليف ، ومقتضاه سقوط الأمر الواقعي بإتيان هذا الفعل كما هو المدّعى ، لا سقوطه بمجرّد تعلّق الأمر به كما لا يخفى.

وهذا هو الفارق بين القول بالإجزاء والقول بالتصويب ولعلّه لذا أمر بالتأمل.

وكيف كان فهذا الوجه أيضا لا يجدي في رفع التنافي بين صحّة فعله واستحقاق المؤاخذة على ترك الواقع ، خصوصا في الصورة المفروضة أيضا كما لا يخفى » إنتهى.

انظر حاشية فرائد الأصول : ٢٩٥.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أن سقوط الواجب بغيره ولو كان حراما مما لا مجال لإنكاره كما في ركوب الدابّة المغصوبة المسقطة لوجوب ركوب المباحة ، لكنه غير سقوطه بقيام بدله مقامه كي يتوهّم منه سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ، ولعلّه أشار إليه بأمره بالتأمّل » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٧٨.

* وقال السيّد الفقيه اللاري قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى إمكان منع ثبوت الأمر بالبدل المسقط للواجب في مثل السفر المباح


الظاهر في وجهه ؛ لأن جعله إشارة إلى بعض ما ذكرنا من المناقشات السابقة فيما أفاده في المقام بعيد فتدبر.

وقد يدفع الإشكال بالالتزام بتعلق الأمر بالمأتي به والمتروك معا ، لكن

__________________

المسقط للصوم الواجب ، وبيع المملوك ، وطلاق الزوجة المباحين مع إسقاطهما وجوب النفقة إلاّ أن يلتزم بوجوب هذه الأبدال المسقطة للواجب من باب وجوب مقدّمة ترك الحرام » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٢.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لعل الأمر بالتأمل إشارة إلى منع تعلّق الأمر بالبدل في كل مورد لأن الفعل الإضطراري قد يسقط عن الواجب ، بل فعل الغير أيضا قد يسقط عنه كما صرّح به المحقّق القمي رحمه‌الله كما إذا وجب غسل الثوب للصّلاة فأطارته الريح إلى الماء فالغسل بنفسه ، أو وجب عليه تحصيل الماء للوضوء أو الغسل ففاجأه من أتاه به.

ولكنك خبير بانه تمكن دعوى الكلّيّة التي ادعاها المصنف رحمه‌الله في الأبدال الشرعيّة ، وما ذكر إنّما هو من قبيل الأبدال العقليّة لجواز حصول الغرض في الواجبات التوصّليّة بالفعل الإضطراري ، أو فعل الغير بخلاف الواجبات التعبّديّة.

ويحتمل أن يكون الأمر بالتأمل إشارة الى أنه إن اريد بالكلّيّة التي ذكرها الإستقراء التام المفيد للقطع في مورد الشك فهو ممنوع ، وإن اريد بها الإستقراء الناقص المفيد للظن فهو ليس بحجّة.

ويحتمل أن يكون أشار إلى انتقاض الكلّية بمثل السفر المسقط لوجوب الصوم مع عدم الأمر به يقينا » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٠٨.


لا على سبيل الإطلاق بالنسبة إلى كلّ منهما ، بل على وجه الإطلاق بالنسبة إلى المتروك والاشتراط بعزم معصية الأمر المطلق المتعلّق بصاحبه المتروك ، فلا يلزم الأمر بالمتنافيين ؛ فإنه إنما هو إذا كان الأمران على سبيل الإطلاق وفي مرتبة واحدة لا ما إذا كانا في مرتبتين.

نقل كلام المحقّق الكركي والشيخ الأكبر

وصهره في تصحيح أمر الضد

وقد سلكه غير واحد في المقام ـ وفي مسألة تصحيح ضدّ الخاصّ مع تسليم النهي عنه واقتضائه الفساد ، وفي المضيّقين إذا كان أحدهما أهمّ فاشتغل بغيره ـ أوّلهم فيما أعلم : ثاني المحققين في باب الجماعة.

حيث إنّه بعد الاعتراض على ما حكاه عن المشهور ـ من صحّة صلاة المأموم التارك للمتابعة عمدا من جهة ذهابهم إلى كون المتابعة واجبة نفسيّة ـ : بأن تركها والاشتغال بأفعال الصلاة موجب للنّهي عنها ، فلا بدّ من الحكم بفسادها من حيث كونها أضدادا للمتابعة ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فإذا تعلّق بها النهي لا يمكن أن يتعلّق بها الأمر فيحكم بالفساد.

أجاب عنه : بأنه يمكن تعلّق الأمر بها على تقدير العصيان ، وإنّما لا يمكن


إذا تعلّق الأمر بها على سبيل الإطلاق (١).

وأوضحه بعد الاختيار والمصير إليه فقيه عصره في « كشف الغطاء » حيث قال طيّب الله « رمسه الشريف » بعد جملة كلام له في مسألة الضدّ في مقدّمات الكتاب ما هذا لفظه :

« وتعلّق الأمر بالمتضادّين ابتداء غير ممكن للزوم التكليف بالمحال ، ولو أتي بفرد من الموسّع في وقت المضيّق لم يقم فيه دليل التخصيص صحّ. أما ما قام فيه دليل كرمضان لصومه ، ووقت صلاة الفرائض اليوميّة مع الضيق لغيرها من الصّلاة على الأقوى ، ولو تضيّقا معا بالعارض تخيّر مع المساواة ، وقدّم الرّاجح مع الترجيح بحقيّة المخلوق أو شدّة الطلب ، ويرجع الأوّل إلى الثاني ؛ لأن انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية. وأيّ مانع لأن يقول : الآمر المطاع لمأموره إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد » (٢). انتهى ما أردنا نقله.

__________________

(١) لم نجده في جماعة جامع المقاصد أنظر ج ٢ من الكتاب المزبور : ٥٠٣ ولعلّه ذكر ذلك في غير هذا الكتاب.

(٢) كشف الغطاء : ج ١ / ١٧٠ وفي ( ط ق ) : ٢٧.


وقد تبعه تلميذه وصهره المحقّق المحشّي قدس‌سره فيما علّقه على « المعالم » في ذلك وأوضحه غاية الإيضاح حيث قال ـ في ذيل بيان ثمرة مسألة « الأمر بالشيء » بعد جملة كلام له ـ ما هذا لفظه :

« إن استفادة الفساد في المقام إن كان من جهة امتناع تعلّق الطلب بالفعل بعد تعلّقه بتركه لكونه من التكليف بالمحال ، بل التكليف المحال ؛ لكون الترك حينئذ مطلوبا للآمر مرادا له ، فلا يكون الفعل مرادا ومطلوبا له أيضا ، فإذا انتفى الأمر لم يعقل الصحّة ؛ لكون الصحّة في العبادة عبارة عن موافقة الأمر ، فهو غير جار في المقام ؛ لأنه لمّا كان النهي المفروض في مسألة الضّدّ غيريّا لم يكن هناك مانع من اجتماعه مع الواجب ؛ فإن حرمة الشيء لتوقّف الواجب الأهمّ على تركه لا ينافي وجوبه ، وحرمة تركه على فرض ترك ذلك الأهمّ : بأن يكون ترك الأهمّ شرطا في وجوبه وتعلّق الطّلب به فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما ، فإذا لم يكن هناك مانع من اجتماع الأمر والنهي على الوجه المذكور ، فلا مجال لتوهّم دلالة النهي المفروض على الفساد.

فظهر ممّا قررنا : أنه لا مانع من تعلّق التكليف بالفعلين المتضادّين على الوجه المذكور ، ولا مجال لتوهّم : كونه من قبيل التكليف بالمحال ؛ إذ تعلّق التكليف بالمتضادّين إنّما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة : بأن يكون الآمر مريدا لإيقاعهما معا ؛ نظرا إلى استحالة اجتماعهما في الوجود بالنسبة إلى الزمان المفروض.


وأمّا إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب : بأن يكون مطلوب الآمر أوّلا : هو الإتيان بالأهمّ ، ويكون الثاني مطلوبا له على فرض عصيانه للأول وعدم إتيانه بالفعل ، فلا مانع منه أصلا ؛ إذ يكون التكليف بالثاني حينئذ منوطا بعصيانه للأوّل والبناء على تركه ، ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان.

فلا منافاة بين التكليفين ؛ نظرا إلى اختلافهما في الترتيب وعدم اجتماعهما في مرتبة واحدة ليكون من التكليف بالمحال ؛ لوضوح عدم تحقّق الثاني في مرتبة الأوّل ، وتحقق الأول في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مرتّبا على عصيان الأوّل.

ولا بين الفعلين ؛ إذ وقوع كلّ منهما على فرض إخلاء الزمان عن الآخر. ومن البيّن : أنه على فرض إخلاء الزمان عن الآخر لا مانع من وقوع ضدّه فيه.

فإن قلت : لو وقع التكليف مرتّبا على النحو المفروض لم يكن هناك مانع منه على حسب ما ذكر ، وليس الحال كذلك في المقام ؛ إذ المفروض إطلاق الأمرين المتعلّقين بالفعلين المفروضين ، وليس هناك دلالة فيهما على إرادة الترتيب المذكور ، فمن أين يستفاد ذلك حتى يقال بوقوع التكليفين على الوجه المذكور؟

قلت : ما ذكرنا هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل ؛ فإن إطلاق كلّ من الأمرين يقتضي مطلوبية الفعل على سبيل الإطلاق ، ولمّا لم يكن مطلوبيّة غير الأهمّ في مرتبة الأهمّ ـ لوضوح تعيّن الإتيان بالأهمّ وعدم


اجتماعه معه في الوجود ـ لزم تقييد الأمر المتعلق بغير الأهمّ بذلك ، فلا يكون غير الأهمّ مطلوبا مع الإتيان بالأهمّ.

وأمّا عدم مطلوبيّته على فرض ترك الأهمّ وعصيان الأمر المتعلق به فممّا لا دليل عليه ، فلا قاضي بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه. والحاصل : أنه لا بدّ من الاقتصار في التقييد على القدر الثابت ، وليس ذلك إلاّ بالتزام ارتفاع الطلب المتعلّق بغير الأهمّ على تقدير إتيانه بالأهمّ.

وأمّا القول بتقييد الطلب المتعلّق به بمجرّد معارضته بطلب الأهمّ مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عن الإتيان به فممّا لا داعي إليه ، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يقتضي ذلك ، فلا بدّ فيه من البناء على الإطلاق والاقتصار في الخروج عن مقتضى الأمر المتعلّق به على القدر اللازم » (١). انتهى كلامه رفع مقامه في هذا الموضع.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٢ / ٢٧٢ ـ ٢٦٩ ، وبين نسخة الأصل والمنقول هنا اختلاف واختصار في ابتداء المطلب بمقدار صفحة ولست أدري ان النسخة التي كانت عند الميرزا الآشتياني تختلف في الزيادة والنقيصة مع المطبوعة من الهداية إلى هذا الحد ، أو انه قدس‌سره أخذ موضع حاجته منه من دون إشارة ، وليس من دأبه ذلك حتى يشير بقوله : « إلى أن قال » كما هي عادته في هذا الكتاب وغيره.

وكيف كان : فالإختلاف بين النسختين أمر محرز قطعي كما هو مشاهد في غير مورد من منقولاته.


وله كلام آخر بعد نقل مقالة شيخنا البهائي قدس‌سره في المقام وأنه لو أبدل عنوان المسألة : « بأن الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه فيبطل » لكان أقرب ، وتوجيهه بسهولة الأمر حينئذ في مأخذ المسألة بظهور عدم جواز الأمر بالضدّين في آن واحد ، وترتّب الثمرة المطلوبة من تلك المسألة عليه وهي فساد الضّد إذا كان من العبادات لوضوح توقّف صحّتها على الأمر ما هذا لفظه :

« وأنت إذا أحطت خبرا بما قرّرناه تعرف ضعف ما ذكره « رحمه‌الله » ؛ فإنّ المسلّم من اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضده هو ما إذا كان الأمران في مرتبة واحدة ، فيريد من المكلّف الإتيان بهما معا. وأمّا لو كان التكليفان مرتّبين بأن يريد منه الإتيان بأحدهما على سبيل التعيين ، فإن أتى به المكلّف فلا يكلّف (١) عليه سواه ، وإن بنى على عصيانه (٢) وعلم بإخلائه ذلك الزمان عن ذلك الفعل تعلّق به الأمر الآخر ، فيكون تكليفه بالثاني على فرض عصيان الأوّل حسبما مرّ بيانه ، فلا مانع منه أصلا.

وكما يصحّ ورود تكليفين على هذا الوجه يصحّ ورود تكاليف شتّى على الوجه المفروض بالنسبة إلى زمان واحد ، فإن أتى بالأوّل فلا عصيان ، وإن ترك الأوّل وأتى بالثاني استحقّ عقوبة لترك الأوّل ، وصحّ منه الثّاني وأثيب عليه ، ولا

__________________

(١) كذا وفي الأصل : فلا تكليف.

(٢) كذا وفي الأصل : العصيان.


عصيان بالنسبة إلى البواقي (١) وهكذا ».

إلى أن قال :

« ثمّ لا يذهب عليك أنه وإن صحّ حصول التكليف على النحو المذكور ، إلاّ أنا لم نجد في أصل الشريعة ورود التكليف على هذا الوجه (٢) ، لكن ورود ذلك على المكلّف من جهة العوارض والطواريء مما لا بعد فيه ، ويجري ذلك في المضيّق ، والموسّع ، والمضيّقين ، وفي الواجب ، والمندوب.

وقد عرفت : أن قضيّة الأصل عند حصول التعارض بينهما هو الحمل على ذلك ، إلاّ أن يقوم دليل من الشرع على تعيين (٣) الأهمّ وسقوط التكليف بغيره رأسا ، كما في شهر رمضان حيث يتعيّن لصومه ولا يقع فيه صيام غيره ، حتى أنه لو بنى على ترك صومه لم يصحّ فيه صوم آخر ، وكالوقت المقرّر للصلاة اليوميّة عند تضيّقه وتفطّن المكلّف به ؛ فإن الظاهر من الشرع تعيّنه حينئذ لليوميّة وعدم وقوع صلاة أخرى فيه » (٤). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) وفي الأصل بعد ذلك : وإن عصى الأوّلين وأتى بالثالث استحق عقوبتين وصحّ منه الثالث وهكذا وهي ساقطة في المنقول هنا.

(٢) وفي الأصل : الوجه المذكور.

(٣) كذا وفي الأصل : تعيّن.

(٤) المصدر السابق : ج ٢ / ٢٧٦.


وهو كما ترى ، موافق لما أفاده الشيخ [ الأكبر ] في « كشفه » بتفاوت يسير ، ومراده (١) من استفادة ذلك من مقتضى الخطاب لا من نفسه هو : ما ذكره المحقّق المحشي من كون ذلك مقتضى الجمع بين الخطابين بدليل العقل ، لا أن الخطابات الشرعيّة وردت على الوجه المذكور.

كما أن مراده في أوّل كلامه : من امتناع تعلّق التكليف بالمتضادّين ابتداء امتناعه من غير اعتبار العزم على المعصية بالنسبة إلى أحدهما ، وإلاّ لم يجتمع مع كلامه أخيرا.

وأنت خبير بتطرّق المناقشة إلى أصل ما أفاده أوّلا : من إمكان تعلّق التكليفين على الوجه المذكور وإلى تطبيق المقام عليه وتفريعه عليه ثانيا ، واستفادة حكمه منه مع وضوح الفرق وعدم صحّة الابتناء وإن كان تفريع المقام في خصوص كلام الشيخ في « الكشف ».

__________________

(١) أي : مراد الشيخ الأكبر الشيخ جعفر من العبارة المزبورة في كشف الغطاء الّتي مرّت قبل قليل.


توضيح دفع ما أفادوه من التّرتّب القصدي

توضيح ذلك : أن التكليفين المتوجّهين إلى المكلّف في زمان واحد على وجه الترتيب الذي زعموه : قد يكونان بالضدّين سواء كانا مضيّقين ، أو كان أحدهما مضيقا والآخر موسّعا. وقد يكونان بالفعلين لا تنافي بينهما في حدّ أنفسهما في غير آخر الوقت ، ولكن يعلم بالتنافي من جهة العلم من الخارج بأن الواجب في الشرع أحدهما معيّنا لا هما جمعا ، ولا هما تخييرا ، كما في المقام.

ويتوجّه على ما ذكروه :

أوّلا : أنا لا نعقل الترتيب على الوجه المذكور بحيث يخرج عن التكليف بالمحال مطلقا ؛ فإن مقتضى صريح كلماتهم كون الشرط في تعلّق الأمر بالآخر هو العزم على معصية الأمر المطلق النفسي بصاحبه. ومن المعلوم ضرورة بقاء الأمر مع العزم على معصيته وعدم ارتفاعه بسببه ، فيكون الأمران متوجّهين إلى المكلّف بالنسبة إلى الفعلين في زمان واحد في مرتبة واحدة ، وإن هو إلاّ التكليف بالمحال وأين هذا من الترتّب؟

فإنه إنّما يتصوّر فيما كان الأمر بالآخر مترتّبا ومشروطا بتحقّق معصيته الأمر المطلق في الخارج بارتفاع موضوعه ، كما إذا فوّت الصلاة بالطهارة المائية ، فكلّف بعد العجز عنها بالطهارة الترابيّة وهكذا. وأين هذا من المقام؟


فإن هذا أمر واقع في الشرعيّات ولم يخالف فيه أحد ولا دخل له بمسألة تصحيح الضدّ ؛ فإن البحث فيما كان الأمر بالمضيق باقيا حتى يوجب النهي عن ضدّه ، فلو فرض عصيانه في أول أوقات إمكانه ، كما في الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ونحوه ممّا كان فورا ففورا.

وبالجملة : التّرتّب بتحقّق المعصية في الخارج لا مجال لإنكاره ووقوعه في الشرعيّات ، ولكنّه لا دخل له بما ذكره ولا ينفعهم في شيء.

وثانيا : أنه على فرض كفاية الترتّب القصدي في إمكان توجيه الأمرين ورفع قبحه بالنسبة إلى غير المقام من مسألة الضدّ ، أو الأهمّ وغيره ، لا يمكن إجراؤه في المقام وأشباهه ؛ ضرورة عدم إمكان أخذ العزم على معصية الخطاب بالقصر في الخطاب بالتمام في حق الجاهل بوجوب القصر في السفر ؛ فإنه يوجب رفع موضوع الخطاب وهو الجاهل ؛ فإنه لم يقل أحد بصحّة صلاة التمام في حقّ المسافر مع علمه بوجوب القصر في السفر إذا عزم على معصية الأمر بالقصر ، بل هو خلاف صريح أخباره أيضا حسبما عرفت.

فإن قلت : الجاهل العازم على التمام مثلا عازم على ترك القصر ومعصية الأمر المتعلّق به فيما كان مقصّرا في نفس الأمر ، وإن لم يكن ملتفتا إلى كون عزمه على تركه عرفا على معصية الأمر المتعلّق به من حيث اعتقاده بعدم وجوبه ، وهذا المقدار كاف في تحقّق شرط توجيه الأمر بالتمام.


قلت ـ بعد تسليم تحقّق العزم على معصية الأمر بالقصر في حقّ المعتقد بعدم وجوبه ـ : إنا ذكرنا سابقا : أن العنوان المأخوذ في موضوع الأمر لا بد أن يكون قابلا لأن يتحقّق في حق المكلّف مع التفاته إليه وإن لم يكن فعلية الالتفات شرطا ، والعزم على معصية الخطاب بالقصر ليس قابلا لذلك من حيث كون الالتفات إليه موجبا لرفع جهل المكلف على ما عرفت.

فإن قلت : قد ذكرت : أن الجاهل في الفرض عاص من جهة الأمر بالقصر من حيث عدم إمكان الامتثال منه ، فالأمر بالتمام إنّما يتوجّه إليه بعد تحقّق معصية الأمر بالقصر وارتفاعه ، وذكرت : أن التّرتب على الوجه المذكور لا قادح فيه أصلا.

قلت : تحقّق معصية الخطاب بالقصر من الجاهل إنّما هو من جهة تركه المستند إلى جهله ، فلا يمكن أن يؤخذ في عنوان الخطاب من حيث استلزامه لرفع الخطاب إذا التفت إليه على ما عرفت بيانه.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أن ما أفاده في رفع الإشكال من التّرتّب القصدي ـ مع كونه غير تامّ في نفسه ـ لا معنى لتفريع المقام عليه ، فانحصر دفع الإشكال بالالتزام بالوجه الثاني ، وهو : كشف الدليل القائم على الاجتزاء عن وجود المصلحة المحصّلة للغرض ، مع عدم تعلّق الأمر بالمأتي به أصلا على ما عرفت شرح القول فيه.


وأمّا مسألة الاشتغال بغير الأهمّ مع الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال عندنا في الحكم بالبطلان فيها بعد تضعيف ما ذكره هؤلاء الأساطين.

نعم ، إذا غفل عن الأهمّ واشتغل بغيره يمكن الحكم بصحّته بعد قيام الدليل ؛ نظرا إلى ما عرفت في حكم المقام ، بل يمكن الحكم بالصحّة عند الغفلة من دون حاجة إلى قيام الدليل عليه من الخارج ؛ نظرا إلى أن المزاحم هو الأمر بالأهمّ وقد ارتفع بالغفلة ، ولا قصور في فعل غير الأهمّ من جهة المصلحة ، فيكون الإتيان به مجزيا فتأمّل.

وأمّا مسألة الضدّ فالمصحّح لها تعلّق الأمر به وعدم اقتضاء الأمر بضدّه المضيق النهي عنه من حيث منع مقدميّة أحد الضدّين لوجود الآخر ، وإنّما المسلّم عندنا مقدّميّة رفع أحد الضدّين المتشاغل به المحلّ للضدّ الآخر ، وهو لا يجدي نفعا للحكم بفساد الضدّ في محلّ البحث أصلا على ما فصّلناه في محلّه ، فلا أمر هنا حتى يتولّد منه النهي عن الفعل وإن كان على تقدير تحقّقه مقتضيا للفساد ، وإن كان تبعا غيريّا.

لا يقال : إن الأمر بالشيء وإن لم يقتض النهي عن ضدّه ؛ نظرا إلى منع مقدميّة تركه للمأمور به بناء على المنع المذكور (١) ، إلاّ أنه يقتضي عدم الأمر به على ما ذكره الشيخ البهائي قدس‌سره ؛ نظرا إلى امتناع الجمع بينهما في زمان واحد من جهة تضادّهما وتمانعهما ، فلا يمكن تعلّق الأمر بهما معا في الزمان الواحد ، وإن كان أحدهما موسّعا والآخر مضيّقا ؛ لاشتراط القدرة في التكليف من غير فرق بين

__________________

(١) أي منع مقدّميّته أحد الضدّين لوجود الآخر ( منه دام ظلّه ).


أقسامه ، فإذا حكم بانتفاء الأمر فيحكم بفساده ؛ ضرورة كفاية انتفاء الأمر في الحكم بالفساد إذا كان الضدّ من العبادات على ما هو ظاهر.

لأنّا نقول : اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه ليس من جهة دلالته عليه بإحدى الدلالات اللفظيّة كما ربّما يتوهّم ، بل من جهة منع العقل عنه من حيث لزوم التكليف بالمحال ، فاستناد الاقتضاء إلى الأمر المذكور من جهة تعلّقه بالمكلّف جزما على سبيل التعيين ، فلو تعلّق الأمر بضدّه في زمان تعلّقه لزم التكليف بالمحال القبيح على الحكيم تعالى.

فإذ قد عرفت معنى الاقتضاء والمراد منه في المقام والسبب له نقول : نمنع كون الأمر بالموسع موجبا للتكليف بالمحال ؛ لقدرة المكلّف على امتثاله في غير الوقت المضروب للمضيّق ، فتوجيه الأمرين إليه على الوجه المذكور لا يوجب التكليف بالمحال ، وإن هو إلا كالتكليف بالموسعين.

فإن قلت : الأمر الشرعي بالموقّت الموسّع يرجع إلى التخيير بحسب أجزاء الوقت القابلة لإيقاع الفعل فيها ، ومن المعلوم ضرورة كون الوجوب التخييري كالوجوب التعييني مشروطا بالقدرة ، فإذا لم يكن إيجاد الضدين في الزمان الواحد ممكنا فكيف يتعلّق أمر الشارع به ولو كان الأمر بأحدهما تخييرا؟ إذ تخييريّة الأمر لا يوجب التصرف في قدرة المكلّف ، ولا في التمانع والتضادّ بين الشيئين.

قلت : ما قرع سمعك : من رجوع التوقيت بحسب أجزاء الوقت إلى التخيير الشرعي ، فممّا لا أصل له أصلا ؛ ضرورة عدم تحقّق التكليفين في الموقّت عن


الشارع أحدهما التعييني والآخر التخييري ، وإنّما المتحقّق بإنشائه الوجوب التعييني ليس إلاّ ، والمفروض قدرة المكلّف على امتثاله.

فإن قلت : سلّمنا عدم رجوع الأمر بالموقت إلى التخيير الشرعي حسبما ذكرت ، إلاّ أنه لا إشكال في التخيير العقلي بين أجزاء الوقت والتكليف عقليّا كان أو شرعيّا يتوقّف على القدرة ، فإذا لم يكن هناك تكليف بالموسّع لا من الشارع ، ولا من العقل ، لا تعيينا ولا تخييرا بالنسبة إلى الزمان المفروض ، فكيف يمكن تحقّق الامتثال من المكلّف؟

قلت : كما نمنع التخيير الشرعي نمنع التخيير العقلي أيضا ، بل نمنع من مطلق الحكم الإنشائي من الشارع والعقل بالنسبة إلى كل جزء من الوقت حتى الترخيص الإنشائي ، وإنّما المتحقق في المقام بالنسبة إلى أجزاء الوقت وغيره ـ ممّا تعلّق الأمر فيه بإيجاد الطبيعة الكلية المتساوية بالنسبة إلى الأفراد والجزئيّات ـ إدراك العقل بعدم الفرق بين الخصوصيّات في تحقق الطّبيعة الكليّة في ضمنها ، فيتحقّق امتثال الأمر بالطبيعة بإيجادها في ضمن أيّ خصوصيّة كانت.

وهذا هو المراد من التخيير العقلي في موارد الأمر بإيجاد الطبيعة الكليّة. كيف؟ والوجود الواحد لا يمكن أن يصير معروضا لحكمين أحدهما : الوجوب التعييني ، والآخر : التخييري ؛ ضرورة اتحاد الطبيعة المطلوب إيجادها للأشخاص في الخارج ، وليس هنا وجودان يتعلّق بأحدهما الوجوب التعييني وبالآخر الوجوب التخييري.

فاتضح ممّا قررنا : أنه لا وجه لما أفاده شيخنا البهائي من الاقتضاء أصلا ،


هذا بعض الكلام في هذا المقام وتمامه يطلب من محلّه وكان التعرّض لهذا المقدار من جهة التماس ولدي وقرّة عيني ( أطال الله عمره الشريف ) (١) ووفّقه لمرضاته ، وإلاّ فهو خارج عن المسألة المبحوث عنها وإنّما وقع الكلام فيه لمجرّد توضيح الفرق بينه وبين المقام.

__________________

(١) هو آية الله الشيخ مرتضى الآشتياني النجل الأكبر لصاحب البحر رضوان الله تعالى عليه.

ولد سنة ١٢٨١ ه‍ في يوم وفاة الشيخ الأعظم (*) أو عشيّتها ، ومن أجل ما كان يكنّه والده من إحترام وحبّ واعتزاز بالشيخ سماه باسم أستاذه.

ولما اشتدّ ساعده اشتغل بطلب العلم وأخذ عن والده والسيّد ابي الحسن جلوه الحكيم في طهران وعدّة آخرين من الأعلام.

تزوّج بالعلويّة خير النساء كريمة آية الله السيّد محمّد الطباطبائي قائد المشروطة آنذاك وحجّ بيت الله الحرام مع والده سنة ١٣١٢ ه‍ وتوجّه لزيارة العتبات المقدّسة عند رجوعه وأمره والده بالبقاء في النجف الأشرف لينهل من عذب زلالها فحضر عند الآخوند الخراساني والميرزا حسين الخليلي فقها وأصولا كما حضر لدى الشيخ عبد الحسين الصّالحي في المعقول ورجع سنة ١٣١٧ ه‍ إلى طهران واشتغل بالتدريس والتحقيق ، واحتل مكان والده بعد وفاته وقام بوظائفه الدينيّة أحسن قيام.

توفي رضوان الله تعالى عليه في يوم الإثنين ٢٣ ذي الحجة سنة ١٣٦٥ ه‍ ودفن عند مولانا الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله تعالى عليه (**).

(*) كانت وفاة الشيخ الأعظم ١ في ١٨ جمادي الثانية من تلك السنة.

(**) أنظر مكارم الآثار ج ٧ / ٢٣٤٢ عنه شميم روحاني در أحوال وآثار خاندان آشتياني ـ تأليف : مهدي سليماني الآشتياني.


التنبيه الثالث :

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة ). ( ج ٢ / ٤٤١ )

عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة

أقول : قد عرفت تصريحه قدس‌سره في أصل مسألة اشتراط الفحص في العمل بأصل البراءة بعدم اشتراطه في العمل به في الشبهة الموضوعيّة وبخروجه عن محلّ الكلام بقوله : « وأمّا البراءة : فإن كان الشكّ الموجب للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع فقد تقدّم ... إلى آخر ما أفاده » (١) فلعلّ الكلام ثمّة تخصيص بالشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، فلا يعمّ مطلق الشبهة الموضوعيّة فتأمل.

أو تحرير البحث وتجديده بالنسبة إليها من جهة الإشارة إلى وقوع الخلاف والاضطراب منهم في خصوص الشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة ، وإن كان الحق فيها أيضا عدم اشتراط الفحص.

ثمّ إن لازم اعتبار الفحص في العمل بالأصل مطلقا عدم جريانه فيما كان هناك طريق إلى تحصيل العلم بالواقع على خلاف الأصل أو على طبقه كما في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١١.


مسألة النظر إلى المعجزة ، والشكّ في بلوغ النصاب مع وجود المكيال والميزان إلى غير ذلك.

كما أن لازمه عند احتمال وجود الطريق إلى تحصيل الواقع الرجوع إليه بعد الفحص ، وعدم الاطلاع على الطريق وإن لم يتعيّن عليه الفحص في هذا القسم ، وجاز له الأخذ بالاحتياط ، كما التزموا به فيما علم بلوغ الخالص نصابا ولم يعلم مقداره.

ثمّ إنه لا إشكال في اضطراب كلماتهم في مصاديق الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة كما يعلم مما حكاه شيخنا قدس‌سره والرجوع إلى ما لم يحكيه من الكلمات حتى من الفقيه الواحد ، كما يعلم من نقل كلامي العلامة قدس‌سره في « الكتاب » وإن اتفقوا ظاهرا على عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، فلعلّه من جهة الإشارة في أخبارها إلى عدمه ، مضافا إلى الإطلاق كما في رواية مسعدة بن صدقة (١) وغيرها.

ومحلّ الكلام في المسألة حتى في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة على ما عرفت الكلام فيه مرارا : ما لم يكن هناك أصل موضوعيّ يبيّن حال الموضوع

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب ( النوادر » ـ ح ٤٠ ، عنه التهذيب ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الإتّفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


المردّد ، وإلاّ فهو خارج عن مجرى البراءة حقيقة.

والحق فيها عدم اشتراط الفحص لما أسمعناك مرارا ـ مضافا إلى إطلاق الأخبار ـ : من حكم العقل بالبراءة قبل الفحص من غير فرق بين الشبهتين ولم يقم فيهما دليل عليه كما قام عليه في الشبهة الحكميّة.

والقول : بأنّ مقتضى الخطاب الإلزامي المتعلّق بالواقع في حكم العقل الفحص عن مصاديقه حتى لا يقع في خلاف الواقع ؛ من حيث لزوم تحصيل العلم بالبراءة عمّا اشتغلت الذمّة به يقينا بقدر الإمكان ، لا محصّل له أصلا ؛ لأن نفس الدليل المثبت للحكم للموضوعات الواقعيّة النفس الأمريّة لا يمكن دلالته على وجوب الفحص عن حال المشكوك.

وحكم العقل بذلك إن كان من جهة توهّم جريان قاعدة الشغل اليقيني في المقام فهو ممنوع جدّا ؛ لأن العلم بالاشتغال مع الشكّ في أصل موضوع الخطاب ممّا لا يعقل له معنى ، إلاّ أن يريد تعلق الخطاب بذمّة المكلّف على تقدير ثبوت موضوعه في نفس الأمر ؛ فإنه غير منكر في المقام ، لكنّه لا يفيد في تنجز الخطاب والعلم بالاشتغال كما هو ظاهر.

مضافا إلى عدم جواز الفرق على تقدير تسليمه بين الشبهتين ، وإلى أن مقتضاه المنع من الرّجوع إلى البراءة مطلقا حتى بعد الفحص كما هو ظاهر. ومن هنا قالوا بوجوب الاحتياط في دوران الفائتة بين الأقلّ والأكثر على ما أسمعناك


سابقا ، وإن كان من جهة أخرى مختصّة بالشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة من غير أن يكون مبنيّا على جريان قاعدة الشغل فلا بدّ من بيانها حتى ينظر فيها.

ودعوى : بناء العقلاء على الفحص في بعض الموارد كالمثال الذي ذكره شيخنا قدس‌سره من الأمر بإحضار الأطبّاء ، أو ضيافة العلماء.

ممنوعة إلاّ فيما علم العبد بالوقوع في مخالفة الواقع على تقدير اقتصاره على المعلوم التفصيلي من العالم والطبيب ، فيرجع إلى العلم الإجمالي بوجود متعلّق الخطاب بين المشتبهات ، فيجب : إمّا الاحتياط فيما لم يكن هناك محذور منه ، أو رفع العلم الإجمالي بتشخيص المعلوم بالإجمال. وأين هذا من اعتبار الفحص في الشبهة الموضوعيّة البدويّة للعمل بأصل البراءة؟

والحاصل : أنّ مجرّد تعلّق الخطاب بالموضوع الكلّي النفس الأمري مع الشكّ في صدقه على بعض الأمور الخارجيّة لا يجدي في إثبات وجوب الفحص أصلا ، والعقل مستقلّ بجواز الأخذ بالبراءة مع هذا الشكّ ، وإن كان الحكم الواقعي تابعا لوجود موضوعه في نفس الأمر ومتعلّقا بالمكلّف في مرحلة الواقع على تقدير تحقق موضوعه ؛ فإنه لا ينافي معذوريّة المكلّف في مخالفته من دون فحص عن حال الموضوع ، كما أنه معذور في مخالفته مع الفحص عنه مع بقاء الشكّ.

ولا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي بوجود الموضوع في الخارج مع تردّده بين الأقلّ والأكثر ، والزائد والناقص ، وبين عدم العلم به أصلا ؛ فإن العلم


الإجمالي مع انحلاله إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي لا أثر له في تنجيز الخطاب بالنسبة إلى المشكوك أصلا في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، بل فيهما إذا كانا ارتباطيّين أيضا على ما أسمعناك في محلّه تبعا للمشهور ، مع أنه لو كان مؤثّرا لوجب الحكم بالاحتياط بعد الفحص وبقاء التردّد أيضا.

فما ذكره غير واحد في الفضّة المغشوشة ، وفي باب الغلاّت محلّ مناقشة ومنع كما لم يلتزموا به في نظائرهما ، مع أنّه لا فارق هناك أصلا. وهذا حقيقة مناقشة أخرى على ما ذكروه كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب ».

كما أنه لا فرق فيما ذكرنا بين علم المكلّف بوقوعه وقوع غالب المكلّفين في مخالفة الواقع في الجملة على تقدير الرجوع إلى الأصل قبل الفحص عن حال الموضوع ـ كما ادّعى بالنسبة إلى الشكّ في وجوب الحجّ من جهة الشكّ في كون ماله بقدر الاستطاعة من جهة عدم احتسابه ؛ فإن الرجوع إلى الأصل يوجب تأخيره عن السنة الأولى في حق غالب المكلّفين ـ وبين عدم علمه بذلك ؛ فإنّ العلم الإجمالي المذكور الذي أحد طرفيه غيره من المكلفين وغير الواقعة المشكوكة من الوقائع المستقبلة لا يجدي شيئا ، وإلاّ كان اعتبار الفحص في الرجوع إلى أصالة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة أولى من المقام كما هو ظاهر.

وأمّا ما أفاده شيخنا في « الكتاب » من توجيه الفرق فإنّما ذكره وجها لا اعتقادا كما هو ظاهر لمن له أدنى دراية هذا. مع أنّ هنا مناقشة في الصغرى أيضا


كما يشير إليه قوله قدس‌سره : « ولكن الشأن في صدق هذه الدعوى » (١) لكنّها ليس من دأب المحصّلين إلاّ أن يرجع إلى المنع الكلّي فتدبّر.

وأمّا ما أفاده في « الكتاب » وأوضحه في « القوانين » فكأنه مبنيّ على ما ذكروه في تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على حجيّة خبر العادل : من استفادة الوجوب النفسي من الأمر بالتبيّن على ما عرفته سابقا في الجزء الأوّل كما هو الأصل في باب الأوامر.

فإذا كان لأخبار الفاسق الواقعي سببا لتكليف شرعيّ إلهيّ وهو وجوب التثبّت في خبره ، فإذا شكّ في حال المخبر من حيث الفسق والعدالة فيجب الفحص عن حاله ، فلا يمكن نفي وجوب التثبت قبل الفحص عن حال المخبر على ما عرفت من التوهّم المزيف عندنا ، وإلاّ فعلى الوجوب الشرطيّ ليس هنا محلّ توهّم الرجوع إلى أصالة البراءة عند الشكّ في حال المخبر ؛ فإن الأصل المرجع في هذا الشك : أصالة عدم الحجيّة والحكم بالحرمة وإلحاق مشكوك الفسق بمعلومه فلا تعلّق له بالمقام أصلا. ومن هنا لا يفرّق في حكمه بين قبل الفحص وبعده مع بقاء الشكّ ؛ فإنّ الحكم فيهما البناء على الحرمة.

نعم ، يجب الفحص عن حال المخبر إذا كان في سند الروايات بعد البناء على حجيّة خبر العادل في الأحكام الشرعيّة من حيث لزوم الفحص عن الطريق

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٤٦.


الشرعي موضوعا وحكما ، فكما أنه لا يجوز الحكم بعدم حجيّة أمارة قبل الفحص عن حالها من حيث الحكم الكلّي الأصولي ، كذلك لا يجوز الحكم بعدم حجيّة ما كان مردّدا بين الحجّة وغيرها قبل الفحص ؛ فإنّ إجراء الأصل في الشبهة الحكميّة أو ما يؤول إليها مشروط بالفحص مطلقا من غير فرق بين أصالة البراءة وغيرها على ما عرفت سابقا ، فوجوب الفحص في مجهول الحال إنّما هو من حيث احتمال كونه عادلا وخبره حجّة لا من حيث كونه فاسقا يجب التبيّن نفسا في خبره والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

مع أن ما ذكرنا : من وجوب الفحص من الحيثيّة المذكورة ليس من مقتضيات تعلّق الخطاب بالواقع ، بل من جهة ما عرفت من الوجوه.

نعم ، مع تعلّق الخطاب بالواقع يحكم بوجوب الفحص من جهة الوجوه المذكورة ؛ فإنّه محلّ للفحص دون ما إذا تعلّق بالمعلوم.

والقول بوجوب الفحص عن حال المخبر على تقدير تعلّق حكم الحجيّة إلى معلوم العدالة أيضا ، اللهم إلاّ أن يستظهر من دليله كون الموضوع من علم عدالة من دون فحص ، كما ترى.

فما ذكره في « القوانين » تأييدا لما أفاده في « المعالم » لا يعتريه ريب أصلا ، إلاّ أنه لا ينتج وجوب الفحص أصلا على ما عرفت بيانه وتنزيله على ما ذكرنا : من الحيثيّة والبيان لوجوب الفحص عن حال مجهول الحال لا يساعد عليه كلامهما أصلا كما لا يخفى.


(٨٤) قوله قدس‌سره : ( وأما الكلام في مقدار الفحص (١) ، فملخّصه : أنّ حدّ الفحص (٢) ...

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : مقدار الفحص يتفاوت بالنسبة إلى الأدلّة الدالّة على وجوبه ، فإن اعتمدنا فيه على العلم الإجمالي بثبوت التكليف فيما بأيدينا من الأدلّة ، فحدّه الفحص إلى أن يحصل الجزم بعدم دليل مثبت للتكليف في أطراف الشبهة بحيث يندرج المورد في الشكوك الإبتدائيّة التي هي مجرى البراءة.

وإن اعتمدنا على الإجماع ونحوه من الأدلّة المجملة ، فغاية مفادها وجوب الفحص إلى أن يظن بعدم الدليل. وإن استندنا إلى حكم العقل بوجوب الفحص وعدم معذوريّة الجاهل المكلّف المتمكّن من الإستعلام فحدّه إلى أن يظهر له العجز ويكون فيما زاد عليه مشقّة منفيّة بعمومات نفي الحرج الواردة على حكم العقل بوجوب الفحص.

وإن عوّلنا على الأخبار وقلنا بدلالتها على الوجوب مطلقا فحدّه لزوم الحرج ؛ لحكومة أدلّة نفي الحرج على المطلقات المثبتة للتكاليف.

وإن بنينا على جميع الأدلّة وجب الأخذ بمقتضيات الجميع كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٠.

(٢) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

لا يخفى ان في مقدار الفحص وجوها :

أحدها : وجوب الإنتهاء في الفحص إلى أن يحصل العلم بعد الدليل الناقل.

وثانيها : وجوبه إلى أن يحصل اليأس من وجدانه في الكتب المعتبرة التي بأيدينا اليوم وهو إختيار المصنّف قدس‌سره.


إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٤٧ )

__________________

وثالثها : جواز الإكتفاء فيه بمطلق الظن بعدم الدليل الناقل وتنشأ من حرمة العمل بما عدى العلم ومن انه إن أريد من العلم بعدمه في الواقع فهو متعذّر ، وإن أريد العلم بعدمه في الكتب التي يمكن الوصول اليها فهو متعسّر وموجب لتعطيل أكثر الأحكام فلا بد من التنزّل إلى اعتبار الظن ، ولكن الظن إذا اختلفت مراتبه قوّة وضعفا فالعقل لا يجوّز العدول عن القوي إلى الضعيف كما قرّر عند تقدير دليل الإنسداد ، ومن انه اذا إكتفى في إثبات أصل الأحكام بالظن ففي الفحص عن أدلّتها بطريق أولى.

وفيه : انه إن أريد هذا على القول بمطلق الظن ، يردّ عليه : انه لا وجه لإشتراط الفحص إلى ان يحصل الظن بالعدم على هذا القول ؛ لأنه مع حصول الظن بالعدم يكون هذا الظن دليلا على عدم الحكم فلا وجه معه للإستناد إلى أصالة البراءة اللهمّ إلاّ أن يريد إفادة الفحص مع ضميمة أصالة البراءة للظن بالعدم فتأمّل.

وإن أريد على القول بالظنون الخاصّة ، يرد عليه : ان هذه الظنون علوم شرعيّة ولا يلزم من الإكتفاء بها الإكتفاء بمطلق الظن ، وقد عرفت الدليل على الإكتفاء بالظن الأقوى ، مضافا إلى إمكان دعوى بناء العقلاء عليه في خصوص المقام ، اللهم إلاّ أن يدعى كون اعتبار الظن الأقوى أعني : الإطمئنان والوثوق بالعدم موجبا لتعطيل أكثر الأحكام نظير ما عرفته في اعتبار العلم وهو غير بعيد » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤١٠.

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

الوجوه المحتملة لأن تكون حدّا للفحص العلم بعد وجود الدليل واقعا ، والعلم بعدم وجوده فيما بأيدينا من الأدلّة والعلم بعدم وجدان الدليل وإن زاد الفحص بالغا ما بلغ ، والظن بالعدم


الكلام في مقدار الفحص اللاّزم

أقول : لا إشكال بل لا خلاف في أنّ حدّ الفحص سواء كان عن وجود الدليل على الحكم ، أو المعارض لما كان موجودا في المسألة من الدليل هو : التبيّن عن حالهما بحيث يحصل له الاطمئنان بعدهما ، ويحصل له البأس عن وجودهما ، كلّ على مذهبه فيما هو دليل على الحكم : من الظن الخاص ـ على اختلاف مذاهبهم ومسالكهم في الأخبار وغيرها ـ والظن المطلق.

__________________

بأحد الوجوه الثلاثة واليأس عن الوجدان ولعله يرجع إلى الظن الإطمئناني بعدم الوجدان.

وكيف كان : مقتضى الأصل الأوّلي لزوم الفحص إلى ان يحصل العلم بعدم الوجدان بعد ذلك لو كان دليل وجوب الفحص ما سوى الإجماع من الأدلّة المتقدّمة في المتن حتى يصدق العجز عن التوصّل إلى الحكم الواقعي لو كان ثابتا في الواقع فيسقط ، إلاّ ان الإكتفاء بالظن واليأس عن العثور ثابت لما ذكره المصنّف في المتن مفصّلا ، وأمّا إن كان دليل وجوب الفحص الإجماع على عدم جواز التمسّك بالأصل قبل الفحص فيمكن أن يقال : إن القدر المتيقّن منه ليس إلاّ ما قبل حصول الظن بالعدم وبعد حصوله لا إجماع على وجوب الفحص فيتمسّك بإطلاق أدلّة الأصل ولا حاجة إلى هذه المتعبة في إثبات الإكتفاء بالظن ، بل لا يبعد أن يقال بمثله لو كان دليل وجوب الفحص حكم العقل ؛ فإنه لا يحكم ببعد حصول اليأس فتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٤٣.


ولا يتوهّم : أنه على مذهب القائل بالظنّ المطلق في الأحكام يجوز الأخذ بكلّ ما يحصل الظنّ منه في المسألة في ابتداء النظر من دون استقصاء الفحص في مزاحماته وموانعه ، بل هو من هذه الجهة نظير القائل بحجّيّة الظّنون الخاصّة من حيث لزوم الفحص عليه بعد تحصيلها عن مزاحماتها في المسألة.

ولا يجوز الاقتصار على تتّبع كتب الأخبار من الأربعة وغيرها من الأصول المعروفة ، بل لا بدّ من التتبّع في تحصيل الدليل في كتب الفتاوي حتى يعرف مورد الخلاف والوفاق ، ويلاحظ مع ذلك الآيات المتعلّقة بالأحكام من كتاب العزيز ، بل ربّما يستغنى من تتّبع الكتب المبسوطة الاستدلاليّة المشتملة على ذكر تمام أدلّة المسألة عن الفحص في كتب الأخبار لعلمه أو اطمئنانه بنقل جميع ما له تعلّق بالمسألة من الأخبار فيها.

فغرض شيخنا قدس‌سره من كفاية تتبّع كتب الأربعة وغيرها من الكتب التي يسهل تناولها لنوع أهل عصر المستنبط ، إنّما هو كفايته من حيث التتبّع في الأخبار لا مطلقا بحيث يكفي الفحص فيها عن الفحص في دليل المسألة مطلقا ، ولو احتمل هناك إجماع على خلاف مقتضى الأصل في كتب الفتاوي ، أو احتمل وجود آية متكفّلة لحكم المسألة على خلاف الأصل.

والوجه فيما ذكرنا : من كفاية تحصيل الاطمئنان واليأس عن الدليل في المسألة ، وعدم لزوم تحصيل العلم بعدمه ـ مضافا إلى كونه مقتضى القاعدة بعد


لزوم الاقتصار في تقييد الإطلاقات على القدر الثابت ـ هو ما أشار إليه شيخنا قدس‌سره : من لزوم تعطيل استعلام حكم سائر المسائل على تقدير عدم كفايته ، مع أنه لا طريق له أصلا ؛ إذ احتمال وجوده فيما ليس بأيدينا من الكتب لا يرفعه شيء ، فكيف يمكن تحصيل العلم بالعدم مع هذا الاحتمال؟

والاحتياط الكلّي موجب للحرج يقينا ، والرجوع إلى من يدّعي العلم في المسألة لا معنى له أصلا في حقّ من له ملكة الاستنباط ، مضافا إلى أن الكلام في حكم المسألة من حيث هي فيفرض سدّ باب العلم في حقّ جميع المجتهدين.

وبالجملة : لا معنى لأن يكون الحكم في حق مجتهد الرجوع إلى غيره ، إلاّ إذا كان فتواه بمنزلة الرواية لهذا المجتهد من حيث العلم بكونه في الفتوى مقتصرا على نقل متون الأخبار بحيث لا يتجاوز عنه أصلا ، فيكون فتواه حينئذ من نقل الحديث ولو بالمعنى كما هو رسالة الشيخ علي بن بابويه (١).

وأمّا ما ذكره بعض المشايخ من المتأخّرين (٢) : من أن سيرة المجتهدين جرت في أوائل أمرهم على التقليد من جهة فقد أسباب للاجتهاد لهم في المسائل (٣) ، فهو في حيّز المنع ؛ إذ لم يعلم من أحد منهم ذلك ، فضلا عن

__________________

(١) الصّدوق الأوّل علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي المتوفي سنة ٣٢٩ ه‍.

(٢) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة ١٢٢٨ ه‍.

(٣) لم نعثر عليه عجالة.


جريان سيرة الكل عليه.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من اختلاف مقدار الفحص وكيفيّته بحسب الأعصار والأزمنة فهو مما لا شبهة فيه في الجملة ، بل قد يختلف بحسب الأمكنة واختلاف حالات الأشخاص على ما عرفت الإشارة إليه سابقا ؛ فإن الفحص في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الواقعة قبل تكميل الدين والشريعة في حق من كان في بلده إنّما هو بحضور مجلسه من دون سؤال ، إلاّ فيما علم ، أو احتمل تبليغه لحكمه مع عدم وصول البيان بالنسبة إليه ؛ فإنّه لا بدّ من السؤال إمّا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من الوسائط. وبعد تكميل الدين في أعصار الأئمة إنّما هو بالسؤال عن حكم الواقعة عن الإمام في حق من يتمكن من السؤال عنه ، أو الوسائط المعتبرة ، أو الرجوع إلى الأصول المعتبرة نظير فحص العامي عن فتوى المجتهد في الواقعة.

وفي زماننا هذا وأشباهه من أزمنة الحرمان عن التشرّف بلقائهم الشريف ولقاء المنصوب منهم بالخصوص وأصحابهم الذي يروون عنهم قبل تدوين كتب الفتاوي ، إنّما كان بالرجوع إلى كتب الروايات وكتاب العزيز ، وبعد تدوين كتب الفتاوي لا بدّ من الرجوع إليها أيضا في كل عصر وزمان بحسبه ، وفي حق كلّ شخص بحسبه من حيث قدرته على استقصاء تمام الكتب وعدم قدرته على ذلك. وهذا كله ممّا لا إشكال بل لا خلاف فيه أصلا ، هذا فيما لو تمكّن من الفحص بحسب حاله.


وأمّا لو فرض عدم تمكّنه من الفحص أصلا ، أو من المقدار الذي يعتبر في حقّه ، فلا إشكال في عدم سقوط شرطية الفحص في حقّه بحيث يجوز له الرجوع إلى البراءة حينئذ ؛ لأن شرطيّته بالنظر إلى دليله هي الشرطيّة المطلقة ، فإن تمكّن من تحصيل الظنّ بالحكم من أيّ سبب كان ، فهو المتعيّن في حقّه بعد فرض لزوم الحرج من الاحتياط ، وبعد اليأس عنه يرجع إلى البراءة.

وإن لم يتمكن من ذلك أيضا فيجب عليه الاحتياط في الوقائع ما لم يؤدّ إلى الحرج ، وبعد تأديته إليه يلزم عليه الموافقة الاحتماليّة على ما أسمعناك : من ترتيب مراتب الامتثال والإطاعة في الجزء الأول من التعليقة (١) ، هذا فيما لو فرض حصول العلم الإجمالي بالأحكام الإلزاميّة ، وإلاّ فيمكن القول بسقوط اعتبار الفحص عند العجز عنه ؛ لعدم الدليل عليه حتى في حقّ العاجز عنه مطلقا فتأمل.

* * *

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٤٤.


تذنيب

(٨٥) قوله قدس‌سره : ( ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٤٩ )

كلام الفاضل التوني في شروط الرجوع إلى البراءة

أقول : لا يخفى عليك أن المنقول في « الكتاب » وسائر كتب الأصحاب « رضوان الله عليهم » من كلام الفاضل التوني قدس‌سره ليس منقولا بلفظه بتمامه ، بل هو الملخّص عنه بحسب أنظارهم وإن كان مشتملا على بعض عباراته فربّما يتخيّل

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لا يخفى ان جعل ما ذكره من شروط العمل بأصل البراءة مبني على عدم الفرق بينها واستصحاب العدم عندهم وإلاّ فأصالة عدم بلوغ الماء كرّا وأصالة عدم تقدّم الكرّيّة من قبيل الثاني دون الأوّل وهو واضح ولكن صريح صاحب الوافية عدم اختصاص ما ذكره من الشروط بأصالة البراءة ؛ لأنه قال :

« إعلم : أن لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة وبأصالة العدم وبأصالة عدم تقدم الحادث شروطا ... إلى آخر ما ذكره ».

وما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه قد تبع فيه المحقق القمي ». أوثق الوسائل : ٤١٠.


الناظر إلى ما نقلوه صدور الاشتباه منه ، وجعل أصل البراءة أعمّ من أصالة النفي وأصالة عدم تقدّم الحادث ، أو أنه تمحّل وتكلّف وجعل أصالة عدم البلوغ أو عدم تقدّم الكرّ نظير أصل البراءة في كلامه ، فلا بدّ أولا من نقل كلامه المتعلّق بالمقام بألفاظه ، ثمّ بيان المراد منه ثم تعقيبه بذكر ما يتطرّق إليه من المناقشات.

قال قدس‌سره ـ بعد بيان معنى الأصل وإطلاقاته وذكر جملة من الأصول ـ ما هذا لفظه :

« واعلم : أنّ هنا قسما من الأصل ، كثيرا مّا يستعمله الفقهاء ، وهو : أصالة عدم الشيء ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل هما قسمان.

والتحقيق : أن الاستدلال بالأصل بمعنى النفي والعدم ، إنّما يصحّ على نفي الحكم الشرعي ، بمعنى : عدم ثبوت التكليف لا على إثبات الحكم الشرعي ، ولذا لم يذكره الأصوليّون في الأدلّة الشرعيّة. وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأصول المذكورة.

مثلا : إذا كان أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة أخرى ، فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين واشتبه بالآخر ؛ فإنّ الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب من أحدهما بعينه لو صحّ يستلزم وجوب الاجتناب من الآخر ، وكذا في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما ، والزوجة المشتبهة بالأجنبيّة ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور ونحو ذلك.


وكذا أصالة العدم كأن يقال : الأصل عدم نجاسته هذا الماء ، أو هذا الثوب فلا يجب الاجتناب عنه ، إلاّ إذا كان شاغلا للذمّة كأن يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك كريّته : الأصل عدم بلوغه كرّا فيجب الاجتناب عنه. وكذا في أصالة عدم تقدّم الحادث فيصحّ أن يقال في الماء الذي وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ولم يعلم هل وقعت النجاسة قبل الاستعمال أو بعده : الأصل عدم تقدّم النجاسة فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة ، ولا يصحّ إذا كان شاغلا للذمّة ، كما إذا استعملنا ماء ثمّ ظهر أن الماء كان قبل ذلك نجسا ، ثم طهر بإلقاء كرّ عليه دفعة ، ولم يعلم أن الاستعمال كان قبل تطهيره أو بعده ، فلا يصحّ أن يقال : الأصل

عدم تقدّم تطهيره ، فيجب إعادة غسل ما لاقى ذلك الاستعمال ؛ لأنه إثبات حكم بلا دليل ؛ فإن حجيّة الأصل في المنفي باعتبار قبح تكليف الغافل ووجوب إعلام المكلّف بالتكليف ، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدليل فلو ثبت حكم شرعيّ بالأصل لزم إثبات حكم شرعي من غير دليل وهو باطل إجماعا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه في المقام.

وقال في ذيل مسألة البراءة :

« واعلم أن لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث شروطا : أحدها : ما مرّ من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعي من

__________________

(١) الوافية : ١٨٦.


جهة أخرى » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع مقامه.

وجعله أصالة تقدّم الحادث قسما في مقابل أصل العدم إنّما هو بملاحظة كون جريان الأصل فيما كان الشكّ في أصل وجود الشيء ، وفي الثاني فيما كان الشكّ في صفته من حيث التقدّم والتأخر بحسب زمانه ، أو بالإضافة إلى موجود آخر وإن كان في الحقيقة قسما من الأوّل ؛ حيث إنّ الأصل يجري حقيقته في وجوده ، فيحكم بعدمه في زمان الشكّ.

ومراده ممّا أفاده قدس‌سره : من أن الثابت بالأصلين وبسائر الأصول العدميّة من البراءة وغيرها هو مجرّد النفي دون الإثبات ، هو : أن مفادها في حكم الوجدان والشرع ذلك ليس إلاّ ؛ حيث إن معنى حكم الشارع بالبناء على عدم الشيء عند الشكّ في وجوده هو الحكم بعدمه عند الشكّ ، لا الحكم بوجود شيء آخر وإن كان لازما له ، وكذلك حكمه بالبناء على براءته عن التكليف المشكوك ليس إلاّ مجرّد الحكم بعدم وجوبه على المكلّف ، لا وجوب شيء آخر عليه.

فلو كان الحكم بعدمه ملازما لوجود آخر ، فلا بدّ من عدم الحكم بالعدم كما في الشبهة المحصورة ، ولأجله لم يذكره الأصوليّون في عداد أدلّة الأحكام ؛ حيث إن عدم الأحكام ليس حكما شرعيّا حتى يجعل مثبتة دليلا على الحكم كما هو ظاهر.

__________________

(١) المصدر السابق : ١٩٣.


فالحكم بعدم تقدّم النجاسة على الاستعمال من جهة الأصل للحكم بعدم وجوب غسل الملاقي صحيح ، وأمّا الحكم بعدم تقدّم المتطهّر للحكم بوجوب إعادة غسل الملاقي فغير صحيح من حيث لزومه الإثبات وشغل الذمّة ، هذا كلامه ومحصّل مرامه.

ولكنك خبير بأن ما ذكره قدس‌سره بظاهره لا يخلو عن مناقشة ؛ فإنه إذا فرض هناك حكم شرعيّ مترتّب على مجرى الأصول المذكورة وغيرها من الأصول العدميّة ترتّبا أوّليّا بحيث كان محمولا عليه شرعا من دون توسيط أمر آخر فأيّ مانع من الحكم بترتيبه ظاهرا بعد البناء على العدم؟ وأيّ فرق بين الأصل الوجودي والعدميّ في ذلك؟

فإنه لا معنى لحكم الشارع بالبناء على عدم الشيء في مرحلة الظاهر إلاّ جعل آثاره الشرعيّة في هذه المرحلة ولم يكن له معنى غير ذلك كما أنه لا معنى لحكم الشارع بالبناء على وجود الشيء إلاّ جعل آثاره الشرعيّة في مرحلة الظاهر إذا لم يكن نفسه من المجعولات الشرعيّة ، وجعل نفسه في مرحلة الظاهر إذا كان منها ، وإلاّ فلو فرض هناك أمر عدميّ ليس له أثر شرعي أصلا لم يكن معنى لجريان الأصل فيه أصلا ، كما هو الشأن في الوجودي أيضا إذا لم يكن حكما شرعيّا.

نعم ، لو كان هناك حكم مترتّب على ما يلزم مجرى الأصل العدمي لم يحكم


بترتّبه عليه على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة سواء كان عدميّا كعدم وجوب الاجتناب أو وجوديّا كوجوب الاجتناب.

والحاصل : أنه إن أراد ممّا ذكره عدم ترتّب الحكم الشرعي الوجودي على الأصل العدمي مطلقا وإن كان من القسم الأوّل ـ كما يظهر من كلامه وتأييده ذلك بعدم ذكر الأصوليّين لها في عداد أدلّة الأحكام. نعم ، يترتّب عليه الأمر العدمي كعدم وجوب الاجتناب ـ.

ففيه : ما عرفت : من أنه لا محصّل له أصلا.

نعم ، لو كان هناك أصل في مرتبته بحيث يلزم من العمل بهما مخالفة عمليّة للخطاب المعلوم بالإجمال لم يحكم بجريانهما على أحد المسلكين في الشبهة المحصورة ، كما هو المختار عندنا على ما عرفته في محلّه ، أو يحكم بتعارضهما وتساقطهما والرجوع إلى غيرهما على المسلك الآخر. وهذا لا تعلّق له بعدم الجريان على الإطلاق ، ولم يفرّق فيما ذكر بين الأصل الوجودي والعدمي.

ومن هنا يحكم بعدم جريان استصحابي الطهارة في المشتبهين بالشبهة المحصورة فيما كانا مسبوقين بالطهارة ، أو يحكم بجريانهما وتساقطهما والرجوع إلى الاحتياط على الوجهين مع كونهما من الأصل الوجودي. فإذا أريد الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي للماء المشكوك كريّته مع العلم بعدم كريّته سابقا لم يفرّق فيه بين أن يحكم به من جهة استصحاب القلّة بناء على كونها وجوديّا ، أو


استصحاب عدم الكريّة.

كما أنّه لا يفرّق فيما أريد الحكم بعدم وجوب الاجتناب عنه فيما فرض الماء مسبوقا بالكريّة بين أن تسند إلى استصحاب الكريّة ، أو أصالة عدم أخذ ما يوجب نقصه عن الكريّة.

نعم ، هنا شبهة في بعض الصغريات والجزئيّات : من حيث إن الحكم الشرعي المترتّب على مجرى الأصل العدمي الجاري فيه هل هو مترتّب أوّلا وبالذات ، أو بواسطة أمر غير شرعي؟ وهو طلب آخر لا تعلّق له بما ذكرنا من الكلّيّتين.

مثلا قد يتوهّم : أنّ وجوب الحجّ المترتّب على أصالة البراءة عن الدّين من القسم الثاني ، وأنه نظير استصحاب بقاء الرّطوبة في الذّبابة الملاقية للثوب ، أو البدن ، أو غيرهما ، الذي لا يقتضي الحكم بتنجّسها من حيث ترتّب الحكم الشرعي على تأثّر الملاقى بالفتح ـ لا ـ على مجرّد ملاقاته مع الجسم الرطب النجس أو المتنجّس ، أو أصالة عدم المانع في محلّ الغسل والوضوء من حيث ترتّب الحكم الشرعي على إيصال الماء بالبشرة ، أو أصالة عدم المانع من وصول السّهم المرسل إلى الصيد أو الإنسان الثابتة بها التذكية ، أو القتل فيما لو علم بتحقّقهما على تقدير عدم المانع وهكذا.

فيقال في مثال الحجّ : إن الحكم مترتّب على المستطيع ، فإذا أريد إثبات


وجوب الحج بأصالة عدم الدّين والبراءة عنه فلا بدّ أوّلا : من إثبات الاستطاعة ثم وجوب الحج ، وهو ما ذكر : من كونه من القسم الثاني ، ويلحق به ما لو كان الشكّ في وجوب الحج على من كان له مال يكفيه للحج مسبّبا من الشكّ في موانع أخر غير الدّين ؛ فإنه لا يترتّب ابتداء على عدم الموانع ، بل إنّما يترتّب عليه بعد إثبات موضوع الاستطاعة بنفيها ولو بالأصل هذا.

ولكنك خبير بفساد التوهّم المذكور ، ووضوح الفرق بين النظائر والمقام ؛ فإنه إذا فرض كون الشكّ في وجوب الحج بعد وجدان المقدار الوافي من المال مسبّبا عن الشك في الدّين لم يكن معنى لحكم الشارع بعدم الالتفات إلى احتمال الدّين ، لا جعل وجوب الحجّ على المكلّف ولو في مرحلة الظاهر. وهكذا إذا كان وجوبه مسبّبا عن احتمال موانع أخر غير الدّين ؛ فإنه لا معنى لعدم الاعتناء باحتمالها إلاّ البناء على وجوب الحجّ.

فالمقام نظير ما لو كان الشكّ في بقاء الطهارة في المتطهّر مسبّبا عن وجود الرافع لها أو كان بقاء التغيير في الماء مسبّبا عن احتمال الرّافع الشرعيّ له وهكذا ؛ فإنه لا معنى لحكم الشارع بعدم الاعتناء باحتمال الرّافع للطهارة أو التغيّر ، إلاّ البناء على ترتيب أحكامهما عند الشكّ ؛ فإنّه في معنى الحكم ببقاء الطهارة أو التغيّر شرعا باستصحابهما ، بل قد يقال بعدم جريان الاستصحاب الوجودي في أمثال المقام ؛ من حيث كون الشكّ في مستصحبه مسبّبا عن الشكّ في مستصحب الاستصحاب العدمي ، وإن قيل بتعيّن جريان الاستصحاب الوجودي ؛ نظرا إلى ما


عرفت : من التوهّم وسيجيء تحقيق القول في ذلك وتفصيله في الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.

وهذا بخلاف النظائر ؛ فإن حكم الشارع ببقاء الرطوبة على الذبابة من جهة عمومات الاستصحاب لا يجدي شرعا ، إلاّ فيما يترتّب شرعا على نفس الرطوبة لا على تأثير الملاقي وهكذا ، إلاّ فيما فرض كون الواسطة خفيّة كاستصحاب عدم المانع في محلّ الغسل والوضوء. وهذا بخلاف أصالة عدم المانع عن وصول السهم المرميّ ؛ فإنه لا يثبت بها القتل أو التذكية يقينا ؛ لوضوح الواسطة وكون الحكم متعلّقا بها.

نعم ، هنا توهّم آخر في خصوص أصالة البراءة من حيث إنّ مقتضاها الحكم بعدم العقاب ليس إلاّ ، وإن لم يترتّب عليه حكم شرعيّ أصلا ، وإن كان فاسدا عند التأمّل : من حيث إن المانع من وجوب الحج هو فعليّة خطاب الدّين المنفيّة بأصالة البراءة ، لا مجرّد شأنيّته فتدبّر هذا.

وإن شئت قلت ـ في دفع الإشكال المتقدّم وعدم كون أصالة البراءة عن الدّين وأمثالها من الأصول المثبتة ـ : إن الأصل الجاري في موضوع الحكم الشرعي أو جزئه أو شرطه أو مانعه ـ بعد إحراز سائر ما له دخل فيه ـ لا تعلّق له بالأصول المثبتة أصلا ؛ فإن معنى الأصل الموضوعي الرّاجع إلى جعل حكم الموضوع شرعا في مرحلة الظاهر ليس إجراء الأصل في تمام الموضوع. كيف؟


وغالب الاستصحابات الموضوعيّة من الوجوديّة والعدميّة كاستصحاب الكريّة ، والعدالة ، والقلّة ، والطهارة ، والإطلاق ، والإضافة ، وغير ذلك يجري في قيد من قيود الموضوع.

نعم ، لو لم يجر الأصل في موضوع الحكم أصلا ، بل أريد من إجرائه في مفهوم كلّي ـ وجودي أو عدمي ـ تطبيقه على الموضوع الخارجي الجزئي أو الكلّي كان من الأصول المثبتة ، سواء كان وجوديّا كاستصحاب بقاء الكرّ في المحلّ الذي أريد به إثبات كرية الماء ، واستصحاب بقاء الوقت فيما كان مردّدا شرعا الذي يراد به إثبات كونه الزائد على المقدار المتيقّن ، أو عدميّا كاستصحاب عدم تحقق المانع الذي أريد به إثبات عدم مانعيّة الموجود المردّد. وليكن هذا في ذكر منك لينفعك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فقد ظهر مما ذكرنا كلّه : أن الحكم بوجوب الاجتناب عن الماء ونجاسته فيما كان مسبوقا بعدم الكريّة عند ملاقاته للنجس باستصحاب عدم الكريّة ممّا لا مناص عنه أصلا ، وإن أمكن فيه استصحاب القلّة أيضا على تقدير إناطة الانفعال بها ، وكونها أمرا وجوديّا ضدّ الكريّة ، ولا يعارضه استصحاب طهارة الماء من حيث كون الشك فيها مسبّبا عن الشكّ في حصول الكريّة. كما أنه لا يعارض أصل البراءة عن الدّين بأصل البراءة عن وجوب الحجّ من حيث كون الشكّ في وجوبه مسبّبا عن الشكّ في اشتغال الذمّة بالدّين.


هذا على القول بحكومة الأصل الحاكم على المحكوم وعدم التعارض بينهما أصلا ، كما هو الحق وعليه المشهور ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه في باب الاستصحاب ـ ظاهر لا سترة فيه.

وأمّا على القول بالعمل بهما كلّ في مورده ـ على ما زعمه المحقّق القمّي قدس‌سره ـ فاللازم الحكم بطهارة الماء ، وعدم وجوب الحجّ في المثال ، إلاّ أنّه لم يلتزم بمقتضى الأصل الذي بنى عليه في مثال الحجّ والتزم بوجوبه من جهة أصالة البراءة عن الدّين ، والتزم به في مثال استصحاب عدم الكريّة ، واستصحاب نجاسة الماء فيما كان مسبوقا بها وشكّ في ارتفاعها ، فحكم بطهارة الماء في الأول والملاقي في الثاني ، مع أنه ليس هنا فارق بينهما أصلا كما لا يخفى.

فالمتعيّن الحكم بنجاسة الماء في المسبوق بعدم الكريّة ، ونجاسة ملاقي المسبوق بالنجاسة ، كما أنه يتعيّن الحكم بطهارة المغسول بالماء المحكوم بالكريّة من جهة استصحابها فيما كان الماء مسبوقا بها ولا يعارضه استصحاب نجاسة المغسول به ، هذا فيما لو كانت الحالة السّابقة للماء معلومة.

وأمّا لو لم يكن معلومة فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إليه أصلا ، وأولى بعدم جريان الاستصحاب ما لو علم بعدم الحالة السابقة له أصلا ، كالماء الذي يوجد في المحل دفعة مع عدم العلم بمقداره ؛ فإنه لا شبهة في عدم تصوّر الاستصحاب بالنسبة إليه بعد فقد الحالة السّابقة له ، فهل يحكم بنجاسته على


تقدير ملاقاة النجس له ـ بناء على اعتبار سبق الكريّة في الاعتصام والمفروض عدمه ـ ولو بإعانة الأصل وكون الملاقاة مقتضية للانفعال ، أو طهارته من جهة أصالة الطهارة ، بل استصحابها فيما كان مسبوقا بالطهارة من جهة الشكّ في وجود العلّة التامّة للانفعال ؛ حيث إن مجرّد كون الملاقاة مقتضية له لا يقتضي بتحقق الانفعال إلاّ بعد إحراز عدم كريّة الماء ولو بالأصل ، والمفروض عدم جريان الأصل بالنسبة إليه لفقد الحالة السابقة أو عدم العلم بها ، وأصالة عدم تحقّق المانع لا يجدي في الحكم باتصاف المحلّ به على ما عرفت : من نفي الأصول المثبتة ، واحتمال الكرّيّة والقلّة في الفرض متساويان لا يمكن نفي واحد منهما بالأصل.

فإن شئت قلت : إن الشكّ في المقام في صدق مفهوم قوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثا » (١) أو « لم ينجّسه شيء » (٢) ؛ لأن المفروض عدم العلم بالحال لا العلم بأنّه غير كرّ هذا.

وأمّا لو علم بحدوث الكريّة وملاقاة الماء للنجاسة بحيث لا يرفعها كريّته

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ١ / ٧٦ ، ـ ح ١٥٦ وج ٢ / ١٦ ـ ح ٣٠ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ١ / ١٩٨ باب « عدم نجاسة الكر من الماء الراكد بملاقاة النجاسة بدون التغيير » ـ ح ٦.

(٢) الكافي الشريف : ج ٣ / ٢ باب « الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ ، أو الفقيه ج ١ / ٩ ـ ح ١٢ ، والتهذيب : ج ١ / ٣٩ باب « آداب الاحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٤٦ ، والإستبصار : ج ١ / ٦ باب « مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ١ / ١٥٨ باب « عدم نجاسة الكر من الماء الراكد بملاقاة النجاسة بدون التغيير » ـ ح ١.


على تقدير سبق النجاسة فهو من مسألة الشكّ في الحادثين من حيث التقدم والتأخّر ، وهو المراد من قول شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : ( ولو لم يكن مسبوقا بحال ... إلى آخره ) (١) فإن المراد به ما يقابل الصورتين ، أي : المسبوق بالكريّة أو عدمها الذي فرض فيه العلم بالحادثين مع الشكّ في التقدّم والتأخّر.

فأراد به بيان حكم ما ذكره الفاضل التوني في الصّورة الأخيرة على ما حكاه عنه : من جعله أصالة عدم تقدّم الكرّيّة مثبتة لنجاسة الماء ، فمنع من إجرائها بناء على أصله الذي أسّسه : من عدم جواز الإثبات بالأصل العدمي ؛ فإن الحالة السّابقة في الفرض وإن كانت عدم الكرّيّة ، لكنّها لا تجدي بعد العلم بزوالها فتدبّر.

ولا تغفل عن المراد من القول المذكور ؛ فإن في العبارة قرائن واضحة على ما ذكرنا في بيان المراد منها ، فلا بدّ أن يفرض انتفاء العلم بزمانهما وإلاّ فلا يفرض الشكّ في التقدّم والتأخّر كما هو ظاهر ، فله صور ثلاثة : أحدها : ما لو لم يعيّن زمان حدوث شيء منهما ، ثانيها وثالثها : ما لو عيّن زمان حدوث أحدهما بالخصوص وكان الآخر غير معيّن ، والصورة الأولى ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما لا يحتمل فيه تقارن الحادثين أي : الكرّيّة وورود النجاسة في الماء.

ثانيهما : ما يحتمل فيه تقارنهما وجودا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٢.


ثم إن قبل بيان حكم الأقسام لا بدّ من التعرّض لأمرين :

الأوّل : أنه لا ريب ولا إشكال في أنّ نفس التقدّم والتأخّر ليس مما يجري فيهما الأصل وجودا أو عدما ، فالمراد من أصالة تقدّم الحادث ـ سواء لوحظ بالنسبة إلى زمان وجوده أو بالنسبة إلى حادث آخر كما في المقام ـ عدم وجوده في زمان يشكّ في وجوده فيه ، فمرجع أصالة عدم تقدّم أحد الحادثين على صاحبه إلى أصالة عدم وجوده في زمان وجود الآخر ، فلا يخلو الأمر :

من أنه إمّا أن لا يكون هناك أثر شرعيّ بلا واسطة على هذا المنفي أصلا بالنسبة إلى شيء منهما فيما كانا مجهولي التاريخ ، أو بالنسبة إلى المجهول فقط فيما فرض الآخر معلوم التاريخ ، أو يكون هناك أثر شرعي بالنسبة إلى المنفي في الصورتين.

وإمّا أن يكون هناك أثر شرعيّ كذلك بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر فيما لو كانا مجهولي التاريخ.

وعلى الثاني : لا يخلو الأمر : إمّا أن يلزم من العمل بالأصلين طرح خطاب إلزاميّ منجّز بحسب العمل ، أو لا يلزم ذلك.

لا إشكال في عدم جريان الأصل في الصورة الأولى ، كما أنه لا إشكال في جريان الأصلين والعمل بهما في الثانية من الصورة الثانية. كما أنه لا إشكال عندنا في عدم جريانهما في الأولى من الصورة الثانية وتعارضهما وتساقطهما عند من


يقول بتعارض الأصول والتساقط فيما كان علم إجماليّ بالخطاب المنجّز على ما عرفت : من المسلكين في مطاوي كلماتنا ؛ لعدم الإشكال عند كلّ أحد في جريان ما له أثر لا غير في الصورة الثالثة.

الثاني : أن قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١) أو « لم يحمل خبثا » (٢) ـ كما في بعض الأخبار ـ مشتمل على قضيّتين منطوقيّة ومفهوميّة. والقاعدة في أخذ المفهوم من القضيّة الشرطيّة ـ على ما تقرّر في محلّه ـ تبديل الشرط بنقيضه لا بضدّه ، وتبديل الجزاء بنقيضه.

فالمفهوم من الحديث الشريف : أنه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء لا ما إذا كان قليلا كما توهّم ، ولمّا كان المعلول وهو الجزاء في القضيّة المنطوقيّة عدم الانفعال والتنجّس ، والعلّة وهي القضيّة الواقعة في حيّز الشرط التي علّل بها الجزاء أمرا وجوديّا وهو البلوغ قدر الكرّيّة فلا محالة يستفاد منه : كون الملاقاة مقتضية للانفعال ، والكرّيّة مانعة عنه ، وقد استفاد شيخنا قدس‌سره من القضيّة من حيث رجوع الضمير المنصوب في قوله عليه‌السلام : « لم ينجّسه شيء » إلى الكرّ المفروغ كريّته ، كون سبق الكرّيّة مانعا عن الانفعال لا مجرّد وجوده ولو مقارنا للنجاسة ، فوجودها الخاصّ مانع لا مطلق وجودها.

فعلى ما أفاده قدس‌سره يدخل صورة تقارن حدوث الكرّيّة وورود النجاسة على

__________________

(١ و ٢) مرّ تخريجهما آنفا.

(١ و ٢) مرّ تخريجهما آنفا.


الماء في المفهوم فيحكم بالانفعال ، وهذا بخلاف ما لو جعل الملاقاة مقتضية ووجود الكرّيّة مانعا ؛ فإن مقتضاه دخولها في المنطوق فيحكم بعدم الانفعال ؛ ضرورة استحالة تأثير السبب المجامع لوجود المانع وجودا في المسبّب كالسبب المسبوق بوجود المانع في المحلّ.

مع أنه على تقدير خروجها عن المنطوق والمفهوم معا وسكوتهما عن بيان حكمها لا بدّ من الحكم بالطهارة من جهة العمومات الاجتهاديّة المقتضية للطهارة الذاتيّة للماء من حيث كون الشبهة حكميّة ، أو الاستصحاب بعد الإغماض عن العمومات ، أو القاعدة بعد الإغماض عن الاستصحاب لجريانها في الشبهة الحكميّة أيضا على ما هو الحق وعليه المشهور.

وما أفاده لا يخلو من تأمّل ؛ لأن الظاهر من القضيّة إثبات التلازم بين الكرّيّة وعدم الانفعال أينما تحقّقت ولو تقارن وجودها لوجود الملاقاة.

إذا عرفت ما ذكرنا لك من الأمرين تمهيدا لبيان حكم المقام فنقول :

قد عرفت : أن الصّور المتصوّرة ثلاثة :

الأولى : ما لو كان حدوث كلّ من الكرّيّة في الماء وورود النجاسة مجهولا بحسب الزمان بحيث يحتمل تقدّم كلّ منهما على الآخر وتأخّره عنه ، وعرفت أيضا : أنّها تنقسم إلى قسمين أحدهما : ما لا يحتمل تقارنهما وجودا. ثانيهما : ما يحتمل فيه ذلك.

أمّا القسم الأوّل : فقد يقال : بأن مقتضى القاعدة الحكم فيه بالطهارة ، بل


نسب إلى الأكثر ؛ نظرا إلى عدم العلم بكون الملاقاة فيه مؤثّرة ؛ لاحتمال سبق الكريّة كاحتمال سبق الملاقاة ، فلا يعلم به تنجّس الماء ، فلا مقتضى لرفع اليد عن الطهارة الثابتة له. ونفي وجود الكريّة قبل الملاقاة بالأصل معارض بنفي وجود الملاقاة قبل الكريّة ، فيتساقطان فيرجع إلى استصحاب الطهارة ، أو القاعدة.

وهذا هو الذي ذكرنا : من أن مقتضى القاعدة الحكم بالطهارة وقد يقال بأن مقتضي القاعدة الحكم بالنجاسة ؛ نظرا إلى وجود المقتضي للانفعال أيضا على ما هو المفروض ، وإنّما الشك في وجود المانع وهو : تحقق الكريّة قبل الملاقاة ، ولا يلتفت إليه بعد إحراز المقتضي ، إمّا لبناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال المانع بعد إحراز المقتضى في أمورهم ، فهو في حكم العلم بالعدم. وإمّا لكونه مدفوعا بالأصل.

لا يقال : قد ذكرت أن إجراء الأصل في عنوان المانع لا يترتّب عليه شيء بناء على نفي الأصول المثبتة ، فلا بدّ من إجرائه في ذات المانع فيحتاج إلى إجراء أصالة عدم الكريّة ونفي وجودها قبل الملاقاة وفي زمان وجودها ، وهي معارضة بأصالة عدم تحقّق الملاقاة قبل الكريّة وفي زمان وجودها ، فالمانع من التمسّك بأصالة عدم تقدّم الكريّة في المقام هي المعارضة ، لا ما ذكره الفاضل التوني : من كونها مثبتة للحكم الوجودي ، فلا وجه لما ذكره من الأصل في المثال الأخير ؛ لما ذكرنا لا لما ذكره.


وهذا هو المراد بقول شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : « وأمّا أصالة عدم تقدّم الكرّيّة ... إلى آخره » (١) فقد أراد ـ بعد بيان أن التقدّم ليس مما يجري فيه الأصل كما هو مقتضى ظاهر كلام الفاضل ـ أن المانع من جريان الأصل المذكور في المقام هو التعارض لا ما ذكره من الإثبات من جهة أخرى.

لأنا نقول : إجراء الأصل بالنسبة إلى وجود الكريّة قبل الملاقاة وفي زمان حدوثها لا يعارض بأصالة عدم وجود الملاقاة قبلها ، إلاّ بناء على الأصول المثبتة ليثبت بها كون الملاقاة بعدها ليحكم بالطهارة سيّما على ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من لزوم إثبات سبق الكريّة في الحكم بعدم الانفعال ، وليس المقام إلاّ نظير ما لو علم بوقوع النجاسة في الماء وشكّ في أصل حدوث الكريّة قبله مع عدم العلم بالكرّيّة أصلا ، فكأن شيخنا قدس‌سره في المقام أغمض عمّا بنى عليه الأمر ، وعن التحقيق الذي عنده : من نفي اعتبار الأصول المثبتة ، وجرى الكلام على ما عليه بناء الأكثر : من اعتبارها من حيث ابتناء الأصول عندهم على الظّنّ لا التعبّد.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أن مقتضى القاعدة في هذا القسم هو الوجه الثاني ، كما أن مقتضاها عند العلم بتوارد الحدث والطهارة ، أو المطهّر والمنجّس على المحلّ مع الشّكّ في التقدّم والتأخّر الحكم بلزوم التطهير من جهة قاعدة الشغل على ما فصّلناه في كتاب الطهارة من الفقه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٣.


وأمّا القسم الثاني : فالحكم فيه هو الحكم في القسم الأوّل على القول بكون التقارن وجوديّا وعدم كونه واسطة خفيّة ، أو القول باعتبار سبق الكريّة في الاعتصام. وأمّا على القول بعدم اعتبار سبقه وكونه عدميّا ، وهو مجرّد عدم تقدّم أحد الحادثين على الآخر ، أو وجوديّا مع كونه واسطة خفيّة ، فحكمه تغاير الحكم في القسم الأوّل ، فيحكم فيه بالطهارة. نظير ما لو علم بتقارنهما ولعلّه الوجه فيما اختاره الشيخ قدس‌سره في « الفصول » : من إثبات التقارن بالأصل في الفرض والحكم بالطهارة ، مع مصيره إلى عدم اعتبار الأصول المثبتة (١). وقد أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « وقد يفصّل ... إلى آخر ما ذكره » (٢) فإن ظاهره كون التقارن أمرا عدميّا وإن كان خلاف ما يقتضيه التحقيق عندنا ، وإن تأملنا في كونه واسطة خفيّة أيضا. ولعلّنا نتكلّم في ذلك في الجزء الثالث من التعليقة.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا كلّه : الوجه فيما استظهره شيخنا من المشهور : من الحكم بالطهارة في مجهولي التاريخ من حيث إنّه لا يمكن نفي الكريّة في زمان الملاقاة وقبله ؛ لمكان المعارضة ، فلا يعلم بوجود سبب التنجّس للماء ؛ نظرا إلى كون السبب هي الملاقاة المقدّمة على الكريّة ، فيحكم بالطهارة لعدم العلم بوجود الرّافع لها. وهذا بخلاف ما لو تمّم الماء النجس كرّا بطاهر ؛ فإن الشكّ فيه في كفاية

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٦٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٣.


ذلك في رفع النجاسة ، فافترقت المسألتان فلا يقاس أحدهما بالأخرى ، فلو كان في المقام إجماع على الطهارة كما ادّعاه السيّد قدس‌سره لا يجوز إلحاق المسألة المذكورة به كما عن السيّد أيضا.

ومن هنا ردّه الفاضلان وغيرهما بإبداء الفرق بين المسألتين بما يرجع حاصله إلى ما ذكرنا : من كون الشك في المقام في وجود سبب التنجّس وفي المسألة في وجود سبب التطهير ، وإن استشكله شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « ولكنّه يشكل ؛ بناء على أن الملاقاة سبب ... إلى آخر ما أفاده » (١) الراجع إلى نفي الفرق بينهما ؛ من حيث العلم بوجود السبب للانفعال في المقام أيضا مع الشكّ في المانع ، فلا بدّ من الحكم بالمسبّب كما في المسألة ، فلا فرق بينهما.

فلا بدّ إمّا من الحكم بالطهارة في المسألتين ، أو الحكم بالنجاسة فيهما وإن تأمّل في الاستشكال ؛ من حيث عدم الجزم بكفاية مجرّد وجود السّبب مع الشكّ في المانع من دون إحراز عدمه ولو بالأصل في الحكم بوجود المسبّب بقوله :

( إلاّ أنّ الاكتفاء بوجود السبب ... إلى آخره ) (٢) (٣) فعلى هذا التأمّل يثبت

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٥.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« بل الإكتفاء مع الإحراز بالأصل ما لم يكن عدم المانع ممّا رتّب عليه المسبّب شرعا أيضا محلّ تأمّل إلاّ على القول بالأصل المثبت حيث ان ترتّب المقتضى على المقتضي عند عدم


الفرق بين المسألتين.

اللهم إلاّ أن يقال : بأنه بناء على تعارض الأصلين في المقام ـ على ما عرفت ـ يثبت الفرق بين المقامين من حيث عدم إمكان إحراز عدم المانع بالأصل على التقدير المذكور. وأمّا لو بنينا على عدم التعارض بينهما والعمل بأصالة عدم الكريّة على ما اخترناه فيحرز عدم المانع بالأصل فيحكم في المسألتين بالنجاسة ، فلا فرق بين المسألتين ، إلاّ أنه مبني كما ترى على نفي الفرق بينهما ، والحكم بالنجاسة على المختار من عدم التعارض بين الأصلين.

وأمّا على ما هو المشهور من تعارض الأصلين في المقام فاللازم عليه ثبوت الفرق بينهما ؛ فإنّ النجاسة الموجودة لا يرفع إلاّ بإلقاء الكرّ عليه ، والطهارة الثابتة أيضا لا يرفع إلاّ ملاقاة النجس للماء مع عدم الكريّة في زمان الملاقاة ، والمفروض عدم إمكانه لمكان المعارضة ، ولعلّ أمره بالتأمّل (١) إشارة إلى ما

__________________

المانع عقلي وكفاية إحرازه به في المقام بلا كلام فيما إذا لم يكن هناك تعارض ، إنّما هو لترتّبه عليه شرعا كما هو مقتضى مفهوم قوله عليه‌السلام : ( اذا بلغ ... إلى آخره ). » إنتهى.

انظر درر الفوائد : ٢٨٢.

نفس المصدر.

(٤) قال المحقّق الهمداني قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى ما يظهر من كلامه في الفقه : من ان الشك في المانع في مثل المقام مرجعه


__________________

إلى الشك في التخصيص فيرجع إلى أصالة العموم.

وفيه نظر كما تقرّر في محلّه ، بل الظاهر على ما هو ببالي أن المصنّف رحمه‌الله بنفسه تنظّر في مثل المثال مما يكون الشك فيه ناشئا من اشتباه الأمور الخارجيّة ، أعني الشبهات المصداقيّة ، ووجهه ظاهر.

إذ بعد تسليم كون الشك في الكرّيّة من قبيل الشك في التخصيص ، ومعه يرجع إلى عمومات أدلّة الإنفعال فهو إنّما يتّجه في الشبهات الحكميّة ـ كما في مسألة تتميم الماء النجس كرّا ـ لا في مثل المثال الذي نشأ الشك فيه من الجهل بتاريخ الحادثين ؛ إذ لا يصح التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة كما هو مختار المصنّف رحمه‌الله ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٢.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

« إشارة إلى وجه عدم إحراز عدم المانع بأصالة عدمه ، أعني عدم الكرّيّة حين الملاقاة هو معارضته بأصالة عدم الملاقاة حين عدم الكرّيّة ، مضافا إلى أن أصالة عدم الكرّيّة لا يترتّب عليه نجاسة الماء إلاّ بواسطة إثبات قلّته ، بخلاف أصالة عدم الملاقاة [ فإنه ] يترتّب عليه طهارة الماء من دون واسطة.

فاندفع إشكال المصنّف على إيراد الفاضلين [ في المعتبر والمختلف ] بالفرق المذكور على استدلال السيد بعدم الفرق بين تتميم النجس كرّا وبين إحتمال تتميمه في الحكم بالطهارة ، وحاصل الفرق : هو استناد طهارة الكرّ المحتمل تتميمه بالنجس إلى أصالة عدم تتميمه به التي لا مسرح لأن يستند إليها طهارة الكرّ المعلوم تتميمه بالنجس ، وتشكيك معارضة


ذكرنا. هذا بعض الكلام في الصورة الأولى.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو فرض معلوميّة زمان الملاقاة ؛ فالحكم فيها البناء على عدم وجود الكرّيّة في زمان الملاقاة ، وقبلها فيحكم فيها بنجاسة الماء على ما عرفت : من ترتّب الحكم الشرعي على نفس مجرى الأصل من دون واسطة ؛ إذ لا يريد بنفي الكرّيّة بالأصل في الفرض إثبات آخر وجودها عن الملاقاة حتى يكون من الأصول المثبتة ، بل المراد : إثبات مجرّد عدمها في زمان الملاقاة.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما لو فرض العلم بزمان الكرّيّة ويشكّ في زمان الملاقاة : فمقتضى الأصل فيها هو الحكم بعدم تحقّق الملاقاة في زمان الكريّة وقبلها ، ويترتّب عليه الحكم بعدم الانفعال والنجاسة من دون حاجة إلى إثبات تأخّرها عن زمان الكرّيّة ، وإن كان لازما عقليّا له إن كان المراد به هو الوجود المتأخّر ، فيحكم بطهارة الماء من حيث عدم تحقّق سبب رفعها وهي الملاقاة قبل الكريّة أو معها على احتمال ووجه هذا.

وقد يتوهّم : جريان الأصل بالنسبة إلى معلوم التاريخ ومعارضته مع الأصل في المجهول من حيث إنّه ذاتا وإن كان معلوما إلاّ أنه من حيث تقدّمه على

__________________

الأصل المذكور بمثله قد عرفت دفعه : بأن الأصل المثبت لا يصلح للمعارضة » إنتهى. انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٥.


المجهول أو تأخّره عنه غير معلوم ، فيقال : إن الأصل عدم تقدّمه على المجهول. كما يقال : إن الأصل عدم تقدّم المجهول عليه ، فيتعارضان.

ولكنك خبير بوضوح فساد هذا التوهّم لما عرفت : من أن نفس التقدّم والتأخّر ممّا لا يجري فيه الأصل. والوجود المتعيّن بحسب زمان وجوده لا يقع الشكّ فيه من حيث الزمان حتّى يقال : إن الأصل عدم وجوده في الزمان الكذائي والشكّ في كون زمانه المعيّن مقدّما على زمان المجهول أو مؤخّرا إنّما هو شكّ في تقدّم زمان المجهول أو تأخّره ، فلا يمكن أن يقال : الأصل عدم وجود الكرّيّة فيما كانت معلومة بحسب الزمان قبل وجود الملاقاة حتى يعارض الأصل في جانب الملاقاة. والحكم بعدم كون زمانه المعيّن قبل زمان الملاقاة بمقتضى الأصل لا معنى له بعد عدم الحالة السّابقة له كما هو ظاهر.

* * *



قاعدة لا ضرر ولا ضرار



(٨٦) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه (١) : أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة ...

__________________

(١) قال العلاّمة الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

« هذا الشرط أيضا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنه إمّا أن يسلّم قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر ويقول بكونها من القواعد المعتبرة المحكّمة على الأصل في إقتضاء ضمان الضارّ للمستضرّ أو لا ، فعلى الثاني لا أثر لتضرّر المسلم في منع العمل بالأصل ؛ لأنه على التقدير المذكور لا حكم له في نظر الشارع حتى يكون إعمال الأصل مشروطا بعدمه.

وعلى الأوّل فهما كسائر القواعد المحكّمة على الأصول ، فكما يقال : لا يجري أصل البراءة حيث تجري قاعدة الإشتغال أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فكذلك يقال : لا يجري حيث تجري قاعدة الإتلاف أو قاعدة نفي الضرر.

والسرّ في عدم جريانه مع جريانها ورودها عليه لما أخذ في موضوعه فقدان النص ، وليس المراد بالنص المأخوذ في موضوعه النص المصطلح بل مطلق الدليل.

والمراد بالدليل : ما يعم القواعد العامّة التي يستند إليها في الفروع ، وعليه : ففقدان نحو قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر مأخوذ في موضوع الأصل فلا يجري حيث تجريان.

وهذا يغني عن جعل العمل به مشروطا بعدم الضرر ؛ إذ مع حصول الضرر كانت القاعدتان دليلا على الضمان ومع وجوده لا أصل ليعمل به ؛ لإنتفاء موضوعه. هذا ولكن العبارة المتقدّمة لا تتحمّل شيئا من شقّي الترديد بل هي ظاهرة أو صريحة في أن وجه الإشتراط :

عدم كون فقدان النص ـ بمعنى عدم الدليل على الحكم المأخوذ في موضوع الأصل ـ محرزا مع تضرّر المالك ؛ لأن معنى إحرازه حصول القطع أو الظنّ بعدم وجوده وليس شيئا منهما حاصلا في المقام لاحتمال اندراجه في القاعدتين المفروض كون كلّ منهما دليلا على


__________________

الضمان.

وأورد عليه حينئذ [ والمورد هو الشيخ الأعظم في الفرائد : ج ٢ / ٤٥٦ ] :

بأنّ مجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ، والمعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير وإن كان متعمّدا ، وإلاّ فلا يعلم وجوب شيء عليه فلا وجه لتحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

والأولى أن يورد عليه : باندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف وهي مقتضية للضمان ومعه لا يجري الأصل كما عرفت » إنتهى.

أنظر تعليقة على معالم الأصول للسيّد على القزويني قدس‌سره : ج ٦ / ٢٤٨.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« وهذا الجواب مأخوذ من كلام صاحب القوانين رحمه‌الله ظاهرا وعبارته أوفى وأجمع للجواب حيث قال :

( وأمّا الثاني ، ففيه :

أن نفي الضّرر من الأدلّة الشرعيّة المجمع عليها ولا فرق بينه وبين غيره وقد عرفت : انه لا يجوز التمسّك بأصل البراءة مع ثبوت الدليل بل قبل التفحّص عن الدليل ، فإن ثبت الضّرر وتحقّق اندراج محلّ النزاع فيه فلا إشكال في عدم الجواز وإن ثبت عدمه فلا إشكال في الجواز ، وإن شك فيه فكذلك أيضا ؛ لعدم ثبوت الدليل فلا محصّل لما ذكره.

والمشهور دخول أمثال ذلك تحت قاعدة الإتلاف لصدقه عليه عرفا ، وأمّا شمول قوله عليه‌السلام :

( لا ضرر ولا ضرار ) لذلك فهو موقوف على فهم فقه الحديث ) إنتهى موضع الحاجة


إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٥٥ )

شرح القول في قاعدة نفي الضرر

أقول : ينبغي التعرض أوّلا : لبيان ما أفاده الفاضل التوني قدس‌سره في الشرط الثاني وشرح مرامه ، ثم تعقيبه بشرح ما أورده عليه شيخنا قدس‌سره والأولى : أن ننقل كلامه أوّلا بألفاظه قال قدس‌سره في « شرح الوافية » :

« ثانيها : أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم ، أو من في حكمه ، مثلا : إذا فتح إنسان قفصا لطائر فطار ، أو حبس شاتا فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت

__________________

[ القوانين : ٢ / ٤٧ ].

وأيضا قوله في المتن في ذيل الجواب : ( ومجرّد احتمال إندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر ... إلى آخره ) [ الفرائد : ٢ / ٤٥٦ ] كأنه مأخوذ من كلام صاحب الفصول رحمه‌الله ؛ فإنه تعرّض للجواب عما ذكره الفاضل التوني رحمه‌الله في آخر فصل « عدم الدليل دليل العدم » [ الفصول : ٣٦٦ ] فراجع فإنه لا يخلو عن فائدة قد أعرضنا عن نقله مخافة التطويل.

ثم لا يخفي ان مزاحمة الأصل لتضرّر المسلم المنفي بدليل قاعدة الإتلاف أو الضرر مبنيّة على أن يكون أصل البراءة نافيا للضمان كما انه ناف للإثم والعقاب بناء على نفيه للأحكام الوضعيّة أيضا وهو غير مختار المصنّف ، مع انه على تقدير التعميم قد خرج عنه الضمانات ؛ فإنها ثابتة مع الجهل على ما صرّح به المصنّف في ذيل حديث الرّفع.

ثمّ إن دلالة حديث الضرار على الضمان محل كلام وليس مسلّما » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٤٧.


دابّته وضلّت أو نحو ذلك ؛ فإنه لا يصحّ حينئذ التمسّك ببراءة الذمّة ، بل ينبغي للمفتي التوقف عن الإفتاء ولصاحب الواقعة الصّلح إذا لم يكن منصوصا بنصّ خاصّ أو عامّ ؛ لاحتمال اندراج مثل هذه الصور في قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (١) وفيما تدلّ على حكم « من أتلف مالا لغيره » (٢) ؛ إذ نفي الضرر غير محمول على حقيقته ؛ لأنه غير منفيّ ، بل الظاهر أن المراد به نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع.

والحاصل : أن في مثل هذه الصور لا يحصل العلم ، بل ولا الظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة.

وقد عرفت : أن شرط التمسّك بالأصل فقدان النصّ ، بل يحصل القطع حينئذ بتعلّق حكم شرعيّ بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنه مجرّد التعزير أو الضمان أو هما معا ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ / ٣٣٤ ـ ح ٥٧١٨ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٦ / ١٤ باب « ان الكافر لا يرث المسلم ولو ذميا والمسلم يرث المسلم والكافر » ـ ح ١٠.

(٢) هذه القاعدة لم يرد فيها نص بالتعبير المشهور : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وإنّما هي مصطادة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة أنظر الوسائل : ج ١٨ / ٣٩١ الباب ٧ من أبواب الرهن ـ ح ٢ والباب الخامس منه أيضا ـ ح ٢ وج ٩ / ١٤١ الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ـ ح ١ ـ ٨.

وانظر القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي ج ٢ / ٢٥ والقواعد الفقهيّة للشيخ الفاضل اللنكراني ج ١ / ٤٥ والقواعد الفقهيّة للشيخ مكارم الشيرازي : ج ٢ / ١٩٣.


فينبغي للضارّ أن يحصل العلم ببراءة ذمّته ، وللمفتي الكشف عن تعيين الحكم ؛ لأن جواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة والحال هذا غير معلوم.

وقد روى البرقي في كتاب « المحاسن » عن أبيه عن درست بن أبي منصور عن محمد بن حكيم : قال قال أبو الحسن عليه‌السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها ووضع يده على فيه. فقلت : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده وما يحتاجون إليه من بعده إلى يوم القيامة » (١).

ثم أورد سؤالا على التمسّك بالرواية في المقام بعدم الفرق عليها بين هذه الموارد وغيرها وجوابا عنه بثبوت الفرق بينهما من وجوه ، منها : علم المكلّف باشتغال ذمّته في المقام بشيء.

إذا عرفت ذلك من كلامه فنقول : إنّه لما كثر التمسّك في كلمات الفقهاء في باب الضمان والإتلاف في المصاديق المشتبهة سيّما في الإتلاف التسبيبي ، كالأمثلة المذكورة في كلام الفاضل رحمه‌الله بناء على عدم الجزم بشمول دليل الإتلاف ونفي الضرر لها فأراد جعل الشكّ في شمولها لها مانعا من التمسّك بالبراءة ، فالمانع

__________________

(١) المحاسن للبرقي : ج ١ / ٢١٣ عنه الفصول المهمّة في أصول الأئمّة للحر العاملي ج ١ / ٥١٤ باب « ان كل واقعة تحتاج اليها الأمّة لها حكم شرعي معيّن ولكلّ حكم دليل قطعي مخزون عند الأئمّة عليهم‌السلام يجب على النّاس طلبه منهم عند حاجتهم إليه » ـ ح ٧٢.


في الحقيقة عنده هو الشكّ في الشمول ؛ نظرا إلى ما بنى عليه الأمر : من اشتراط البراءة بالقطع بعدم النصّ في الواقعة ، أو الظنّ به من غير فرق بين الموارد ، إلاّ أنّ كثرة دوران التمسّك بها في خصوص المقام صارت نكتة التخصيص.

فهذا الشرط مأخوذ في الحقيقة عن اشتراط الفحص وليس شرطا مستقلاّ ؛ نظرا إلى تطابق كلماتهم في بيان مقداره على لزوم تحصيل الاطمئنان أو الظنّ بعدم الدليل في الواقعة ، فإذا شكّ في وجود الدليل ولو من جهة الشكّ في شمول الدليل الموجود لبعض المصاديق المشتبهة من غير جهة الشبهة الموضوعيّة الصرفة لم يجز التمسّك بالبراءة.

ومن هنا قال في وجه منع الرجوع : « فلا علم حينئذ ولا ظنّ بأن الواقعة غير منصوصة فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ » (١).

وإن كان ما أفاده لا يخلو عن مغالطة ؛ لأن في جميع صور إجمال النص مع احتمال الإرادة نقطع بفقدان الدليل بوصف الدليليّة ؛ نظرا إلى أن الحجة والدليل في باب الألفاظ الظهور ، فإذا قطع بانتفائه بحكم الوجدان فيقطع بعدم الدليل وإن احتمل الإرادة بحسب الواقع كما هو ظاهر.

وأمّا قوله : « بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعيّ بالضارّ » (٢) فليس المراد

__________________

(١) الوافية : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) المصدر السابق ، عنه فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٥.


منه القطع بتوجّه تكليف إلزاميّ إليه موجب لاشتغال ذمّته مع كونه مردّدا ، بل المراد القطع بثبوت حكم إلهيّ في موارد التعمّد بالأمور المذكورة له تعلّق بالضارّ ، وإن كان المكلّف بالتعزير غيره وإن لزم عليه التمكين ، فالنسبة مبنيّة على التوسّع.

ومن هنا قال : « فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح » (١) ولم يقل : فيجب عليه تحصيل العلم ؛ من حيث احتمال كون الحكم الثابت هو خصوص التعزير الذي لا يفيد الصلح ولا الإبراء له ، وإنّما يفيدان في الضمان المحتمل.

وهذا التوجيه كما ترى حسن ، إلاّ أنه ربّما ينافي الترقّي المذكور في كلامه ؛ فإن ظاهره إثبات العلم بالحكم ولو إجمالا ، المانع من الرجوع إلى البراءة ، اللهمّ إلاّ أن يجعل مطلق العلم بالحكم ولو مثل العلم في المقام مانعا ، لكنّه ينافيه ظاهر قوله : « فينبغي ... » إلاّ أن يحمل على خلاف ظاهره ، فيحكم بإرادة الوجوب منه. كما استفاده منه شيخنا قدس‌سره هذا.

ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما عرفت : من أن مجرّد احتمال إرادة الواقعة من الدليل الوارد من الشرع لا يوجب رفع اليد عن البراءة ، وإلاّ لزم رفع اليد عنها في جميع موارد إجمال الدليل وهو كما ترى ، فلا يجوز رفع اليد عن البراءة بمجرّد احتمال شمول دليل الإتلاف ونفي الضرر وإن كان احتمالا مساويا. نعم ، على تقدير شمولهما للأمثلة المذكورة ونحوها كما هو الظاهر ، يتعيّن رفع اليد عنها

__________________

(١) المصدر السابق.


لحكومتهما أو ورودهما عليها على ما هو شأن جميع الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول العمليّة ـ : أنه ليس في المقام علم إجماليّ أصلا حتى يكون بعض أطرافه وجوب الغرامة أو الضمان.

لأنّ كلاّ من الحرمة والتعزير ثابت في صورة العمد جزما وإنّما الشكّ في الغرامة ، وليس في الخطأ إلاّ احتمال الغرامة ليس إلاّ ، مع أن دوران الأمر بين التعزير والغرامة مع كون الأوّل متيقّنا على كل تقدير ورجوع الشكّ بالنسبة إلى الغرامة إلى الشكّ في التكليف النفسي الاستقلالي لا يفيد شيئا ، مع أنّه على تقدير لزوم الاحتياط بالنسبة إليه أيضا لا يفيد في المقام أصلا ؛ لدوران الأمر بين تكليف النفس والغير ؛ فإنّ وجوب التعزير إنّما هو تكليف الحكّام.

لكن ما ذكرنا إنّما يتوجّه عليه : إذا أريد من قوله : « ينبغي وجوب تحصيل العلم بالبراءة » (١) من الحق الاحتمالي كما هو لازم منعه من الرجوع إلى البراءة.

ومن هنا حمله شيخنا قدس‌سره على وجوب الاحتياط وتحصيل العلم بالبراءة لا استحبابه ، كما هو الظاهر من لفظة « ينبغي » سيّما في كلمات الفقهاء.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو على تقدير تسليم الشكّ في الحكم في الأمثلة المذكورة ونظائرها ، وإلاّ فالتحقيق : ثبوت الضمان فيها ؛ لقاعدة الإتلاف من حيث كونها أعمّ من المباشرة والتسبيب فيما يستند الفعل إلى فاعل السبب عرفا ونفي

__________________

(١) ـ المصدر السابق.


الضرر معا على ما ستقف عليه عند التكلّم في بيان قاعدة نفي الضّرر ، فما عسى ربّما يستظهر من السيّد الصّدر الشارح : من الحكم بعدم الضّمان في الأمثلة ونظائرها ليس ممّا ينبغي المصير إليه ، فلعلّ المراد مجرّد الفرض والتقدير كما ذكرنا قال قدس‌سره : « التمسّك بالبراءة بالنسبة إلى المكلّف ليس مرجعه إلاّ عدم إلزام المكلّف بفعل شيء أو تركه ، وكونه مخيّرا في اختيار ما شاء منهما » (١).

إلى أن قال :

« فعلى هذا نقول : لا شكّ في قبح الإضرار عقلا وشرعا إذا لم يكن له جهة محسّنة كالقصاص مثلا ، وإنّما الكلام في لزوم جبرانه على المكلّف ، وفي مقدار الجبران فإن كان عليهما أو على الأوّل دليل معتبر فلا يجوز التمسّك بالأصل ؛ إذ لا اعتداد به مع النّاقل ، وإلاّ فحكم الأصل جار ، وعلى المضرّ الندم وعلى المستضرّ الصبر والاحتساب ، وأمّا مجرّد احتمال أن يكون ما نحن فيه مندرجا تحت قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (٢) ، أو مندرجا تحت ما دلّ على حكم من أتلف مالا لغيره فلا يكفي ؛ لعدم إمضاء حكم الأصل الذي دلّ على حجيّة العقل

__________________

(١) شرح الوافية للسيّد الصدر مخطوط.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٨٠ باب « الشفعة » ـ ح ٤ وباب « الضرار » : ٢٩٢ ـ ح ٢ و ـ ح ٦ والتهذيب : ج ٧ / ١٤٧ باب « بيع الماء والمنع منه والكلاء والمراعى وحريم الحقوق وغير ذلك » ـ ح ٣٦ ، عنهما وسائل الشيعة : ج ١٨ / ٣٢ باب « ثبوت خيار للمغبون غبنا فاحشا مع جهالته » ـ ح ٣.


والنقل (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وليس الظاهر منه ـ كما ترى ـ بيان حكم المسألة الشخصيّة من حيث هي ، بل الظاهر منه على ما عرفت : من عدم المانع من الرجوع إلى الأصل على تقدير عدم ظهور دليل نفي الضرر وقاعدة الإتلاف وأنّ مجرّد احتمال الشمول لا يمنع منه.

وبالجملة : ما أفاده الفاضل التوني في الشرط الثاني لا يخلو عن مناقشة ، مثل ما أفاده في الشرط الثالث : من اعتبار أن لا يكون مجراه ممّا يشكّ في اعتباره في العبادة جزءا أو شرطا ؛ نظرا إلى أنّ المثبت لأجزاء العبادة إنّما هو النصّ ، فإثبات كون الماهيّة هي الأصل الخالي عن المشكوك بالأصل غير جائز. فكأنّه نظر إلى ما عرفت تضعيفه في محلّه من جماعة من المتأخّرين : من أنّ الأصل وإن جرى في نفي الوجوب الغيري كالنّفسي ، إلاّ أنّه ما لم يتعيّن الماهيّة يحكم العقل بالاحتياط ، وأصل البراءة لا يصلح للتعيين.

وقد أسمعناك ما يقتضيه التحقيق في ذاك المقام وأنّ القائل بالبراءة في الدوران المذكور لا يلزمه تعيين الماهيّة بالأصل ، وإنّما الغرض من الرجوع إليها مجرّد نفي وجوب المشكوك في مرحلة الظاهر ؛ نظرا إلى عدم اقتضاء العلم الإجمالي فيه وجوب الاحتياط في حكم العقل أو ورود الأخبار على حكمه.

__________________

(١) شرح الوافية للسيّد صدر الدّين مخطوط.


(٨٧) قوله قدس‌سره : ( وقد ادّعى فخر الدين في « الإيضاح » في باب الرهن تواتر الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٤٥٧ )

في تواتر أخبار القاعدة وعدمه

أقول : نقل غير واحد دعوى تواتر أخبار القاعدة عن الفخر (١) في « الإيضاح » ولكن ذكر قدس‌سره في « الرسالة » المستقلّة المعمولة في هذه القاعدة بعد حكاية دعوى تواتر الأخبار عن الفخر في محكيّ « الإيضاح » (٢) في باب الرهن : أنّه لم يعثر عليه (٣).

نعم ، عن الشيخ الحرّ قدس‌سره في كلماته : أنه عقد بابا لذلك وادّعى كثرة الأخبار الواردة فيه فقال :

« باب « أنه لا يجوز الإضرار بالمؤمن ولا يجب عليه تحمّل الضرر إلاّ ما استثني » ثم قال بعد نقل طائفة من الأخبار الواردة في ذلك أقول : والأحاديث في ذلك كثيرة ذكرنا بعضها في كتاب « وسائل الشيعة » في إحياء الموات وفي الشفعة

__________________

(١) هو فخر المحققين أبو طالب محمّد بن العلاّمّة الحلّي أعلى الله تعالى مقامهما الشريف المتوفي سنة ٧٧١ ه‍.

(٢) إيضاح الفوائد في شرح القواعد : ج ٢ / ٤٨.

(٣) الرسائل الفقهيّة « رسالة في نفي الضرر » : ١١٢.


وغيرهما (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره قدس‌سره من كثرة الأخبار الواردة في هذا الباب واستفاضتها ممّا لا يعتريه ريب أصلا ؛ فإنّها قد تجاوزت من العشرة يقينا. وأمّا دعوى : التواتر سواء أريد به التواتر اللفظي أو المعنوي فالعهدة على مدّعيها ، لكن لا حاجة إلى إثبات التواتر أو قطعيّة صدورها من جهة الاحتفاف بالقرينة ، إلاّ على مذهب من يدّعي عدم حجيّة أخبار الآحاد مطلقا.

وإلاّ فلا إشكال في حجيّتها لصحّة سند جملة منها واعتبار أسناد الباقي ، فلا إشكال في المقام من جهة سند الأخبار أصلا ، بل ربّما عمل بها القائل بحرمة العمل بأخبار الآحاد ، بل مضمونها ممّا انعقد عليه الإجماع وحكم به العقل المستقل ، بل دلّ عليه كتاب العزيز أيضا ، بل الإنصاف وضوح دلالتها على القاعدة كوضوح سندها ، غاية ما هناك : وقوع التأمّل في عمومها لما يأتي الإشارة إليه.

وأمّا بعض المناقشات الراجعة إلى منع دلالتها ولو من جهة دعوى إجمالها فإنّما حدث عن بعض متأخّري المتأخّرين ، وإلاّ فبناء الفقهاء « رضوان الله عليهم » على التمسّك بها في الفروع الفقهية والتسالم والمفروغيّة عن ظهورها فيها ممّا يعلم بأدنى تتبّع في كلماتهم في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات.

ومع ذلك ينبغي التّعرض لذكر الأخبار الواردة في الباب أوّلا ثم التعرّض

__________________

(١) الفصول المهمّة في أصول الأئمة للحر العاملي قدس‌سره : ج ١ / ٦٧١ و ٦٧٤.


لبيان معنى الضّرر في اللّغة والعرف العام وما هو الظاهر من أخبار الباب في المقام ، والإشارة إلى جملة من الإشكالات والشبهات الحادثة ودفعها بما يقتضيه الوسع والذهن القاصر.

إشارة إلى أخبار الباب

فنقول : قد عرفت : أن الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة.

منها : جملة من الأخبار الواردة في قضيّة سمرة بن جندب مع الأنصاري بألفاظ مختلفة في الجملة ، وقد اشتهر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أحدها : ما رواه قدس‌سره في « الكتاب » ،

ثانيها : ما روى ذيله في « الكتاب » وهو ما روى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام :

« أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة. فجاء الأنصاري إلى رسول الله فشكا إليه فأخبره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله وخبّره بقول الأنصاري وما شكاه ، وقال عليه‌السلام : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه. فقال : لك بها عذق في الجنّة فأبى أن يقبل. فقال رسول الله


للأنصاري : اذهب فاقعلها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار (١). الحديث.

ثالثها : ما في رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام نحو ذلك إلاّ أنه قال في ذيله لسمرة بن جندب بعد الامتناع : ما أراك يا سمرة إلاّ مضارّا إذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه (٢).

وفي القضيّة وإن كان إشكال من حيث حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق مع أن القواعد ربّما لا يقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجبه أيضا ، إلاّ أنه لمّا كان من فعله عليه‌السلام فعلم أنه بعد الامتناع عن المساومة كان له جهة مجوّزة له ولو بحسب الولاية المطلقة التي كانت له على الآفاق والأنفس كما قال الله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (٣) الآية.

وكيف كان : فعدم إدراكنا لجهة فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخلّ بالاستدلال قطعا.

رابعها : ما رواه عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٢ باب « الضرار » ـ ح ٢ ، والتهذيب : ج ٧ / ١٤٧ باب : « بيع الماء والمنع منه والكلاء والمراعي وحريم الحقوق وغير ذلك » ـ ح ٣٦ ، عنهما الوسائل : ج ٢٥ / ٤٢٨ باب : « عدم جواز الاضرار بالمسلم » ـ ح ٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ / ١٠٣ برقم ٣٤٢٣ باب « عدم جواز الإضرار بالمسلم » عنه الوسائل : ج ٢٥ / ٤٢٧ باب ١٢ « عدم جواز الإضرار بالمسلم ... » ـ ح ١.

(٣) الاحزاب : ٦.


بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن. قال : ولا ضرر ولا ضرار » (١).

خامسها : ما عن « التذكرة » و « نهاية ابن الأثير » مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (٢).

سادسها : ما رواه عقبة بن خالد أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نقع البئر ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء فقال : لا ضرر ولا ضرار (٣).

سابعها : ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في رجل شهد بعيرا مريضا يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضي أنّ البعير برأ فبلغ ثمنه دنانير. قال : فقال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ. فإن قال : أريد الرأس والجلد فليس له ذلك ، هذا الضرار

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٨٠ باب « الشفعة » ـ ح ٤ ، ومن لا يحضره الفقيه : ج ٣ / ٧٦ ـ ح ٣٣٦٨ ، وتهذيب الاحكام : ج ٧ / ١٦٤ باب « الشفعة » ـ ح ٤ ، عنهما الوسائل : ج ٢٥ / ٣٩٩ باب « ثبوت الشفعة في الارضين والدور والمساكن والامتعة وكل مبيع عدا ما استثني » ـ ح ١.

(٢) انظر تذكرة الفقهاء : ج ١١ / ٦٨ ونهاية ابن الاثير : ج ٣ / ٨١.

(٣) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٣ باب « الضرار » ـ ح ٦ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٥ / ٤١٩ باب « كراهة بيع فضول الماء والكلاء واستحباب بذلها لمن يحتاج إليها » ـ ح ٢.


قد أعطي حقّه إذا أعطي الخمس (١).

هذه ما وقفنا عليه من الأخبار العامة ، وأمّا الأخبار الخاصّة فجملة من الأخبار.

منها : ما رواه البزنطي في الصحيح عن حمّاد عن المعلّى بن خنيس عنه عليه‌السلام قال : « من أضرّ بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن » (٢).

ومنها : ما رواه الكناني (٣) في الصحيح ويقرب من رواية البزنطي.

ومنها : ما رواه طلحة بن زيد عن الصّادق عليه‌السلام قال : « إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم » (٤).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٣ باب « الضرار » ـ ح ٤ ، وتهذيب الأحكام ج ٧ / ٧٩ باب « ابتياع الحيوان » ـ ح ٥٥ ، عنهما الوسائل : ج ١٨ / ٢٧٥ باب « ان من شارك غيره في حيوان وشرط الرأس والجلد بماله ولم يرد الشريك ذبحه ... إلى آخره » ـ ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ٩ / ١٥٨ باب « النحل والهبة » ـ ح ٢٨ ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ٢٣٨ باب « عدم جواز الرجوع في الهبة لذي القرابة » ـ ح ٤.

(٣) الكافي الشريف : ج ٧ / ٣٥٠ ـ باب ٤١ « ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار » ـ ح ٣ ، والفقيه : ج ٤ / ١١٥ ـ باب ٥٠ « ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه أو في غير ملكه ... » ـ ح ٣٩٥ ، والتهذيب : ج ١٠ / ٢٣٠ باب ١٨ ـ « ضمان النفوس وغيرها » ـ ح ٩٠٥ / ٣٨ والوسائل : [ عن الفقيه والتهذيب ] ج ٢٩ / ٢٤١ ـ الباب ٨ من أبواب موجبات الضمان ـ ح ٢.

(٤) الكافي الشريف : ج ٢ / ٦٦٦ باب « حق الجوار » ـ ح ٢ وج ٥ / ٣١ باب « اعطاء الامان »


إلى غير ذلك مما ورد في الموارد الخاصة.

بيان معنى الضّرر والضّرار

وإذ قد عرفت ذلك فلا بدّ أوّلا : من التكلّم في معنى اللفظين الواقعين في أخبار الباب موضوعا للحكم ، أي : الضّرر والضّرار ، وإطلاقاتهما في اللغة والعرف والمراد منهما في الأخبار ، ثم تعقيبه ببيان الحكم المتعلّق بهما وبيان مراد الشارع من هذه القضيّة فنقول : الضّرر في العرف العام ـ كما يساعد عليه موارد الاستعمال ويقتضيه التبادر عند الإطلاق ـ ضد النفع ، ويوافقه اللغة كما يقتضيه ما حكاه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (١) عن « الصحاح » (٢) و « النهاية » (٣) و « القاموس » (٤)

__________________

ح ٥ وباب « الضرار » ص / ٢٩٢ ـ ح ١ ، وتهذيب الأحكام : ج ٦ / ١٤٠ باب « اعطاء الامان » ـ ح ٥ وج ٧ / ١٤٦ باب « بيع الماء والمنع منه والكلاء والمراعي وحريم الحقوق وغير ذلك » ـ ح ٣٥ ، عنهما الوسائل في عدّة مواطن منها » : ج ١٢ / ١٢٦ باب « وجوب كفّ الأذى عن الجار » ـ ح ٢ وج ١٥ / ٦٨ باب « جواز اعطاء الأمان ووجوب الوفاء وإن كان المعطي له من أدنى المسلمين ولو عبدا ... » ـ ح ٥.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥٩.

(٢) صحاح الجوهري : ج ٢ / ١٧٩ ـ ٧٢٠ ، مادّة « ضرر ».

(٣) النهاية لإبن الأثير : ج ٣ / ٨١ ـ ٨٢ ، مادّة « ضرر ».

(٤) القاموس المحيط : ج ٢ / ٧٥ ، مادّة « الضرّ ».


وإليه يرجع ما عن « المصباح » (١). وجعل الكراهة أعمّ من المعنى المذكور وإن كان ممكنا إلا أنه خلاف ظاهر كلامه ، كما أنه يحتمل إرجاع ما في « القاموس » :

من إطلاقه على سوء الحال ، إليه أيضا. وإن أمكن جعله إطلاقا آخر مجازا من جهة العلاقة ؛ فإنّ قوله في مقام بيان معنى الضرر : « ضدّ النفع وضارّه يضارّه ضرارا » مع قوله بعد ذلك : « الضرر سوء الحال » وإن كان ظاهرا في المغايرة ، إلاّ أن إرادة كونه حقيقة فيهما بعيد.

وأمّا إطلاقه على النقص في الأعيان ، كما عن « المصباح » فهو على خلاف وضعه قطعا. ومن هنا قال : وقد يطلق على النقص في الأعيان ، وقيل : الضرر بالفتح : ضدّ النفع ، وبالضم بمعنى الشدّة والكراهة وسوء الحال ، مستشهدا بالآية الشريفة : ربّ إنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين (٢).

وفيه ما لا يخفى.

وكيف ما كان : لا إشكال في ظهور لفظ الضّرر عند الإطلاق بلا قرينة فيما ذكرنا ، مع أن كونه بالمعنى الأعمّ أي : الكراهة وسوء الحال ، لا يضرّنا يقينا في المقام كما هو ظاهر.

وأمّا « الضّرار » فصريح جمع من اللغويّين كونه بمعنى الضّرر ، فالتكرار في

__________________

(١) المصباح المنير مادّة « ضرر » : ٣٦٠.

(٢) الأنبياء : ٨٣ والصحيح هكذا ( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ... ).


الحديث للتأكيد كما صرّح به في « المصباح » و « القاموس » ، وأطلقه على الضيق بعد إطلاق الضرر على سوء الحال في « الصّحاح » ، وإن ذكر أخيرا : إطلاق الضّرار على المضارة ، وظاهر « النهاية » كونه بمعنى المجازات على الضرر بإدخال الضّرر على من أضرّ به ، وأطلقه على فعل الاثنين أيضا كما يقتضيه وضع المفاعلة. واحتمل شيخنا قدس‌سره رجوع المعنى الأوّل الذي ذكر في « النهاية » إلى الثاني المذكور فيها. وكيف ما كان : ظاهرها مغايرة اللفظين بحسب المعنى. وقيل : إن الضرر والضرار من قبيل المسكين والفقير ، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. ولم يثبت ذلك من العرف واللغة بل ظاهرهم خلافه.

ولمّا لم يثبت كون الضرار مغايرا للضّرر ، بل ظاهر أكثرهم كما عرفت اتحاده معنى مع الضرر ، وليس هذا من قبيل الإثبات والنفي حتى يقال : إن المثبت مقدّم على النافي كما هو ظاهر ، فلا يدلّ الأخبار على نفي الغرامة والضمان والتدارك على المتلف بدعوى : كون أخذ الغرامة مجازاة ـ كما يستفاد من كلام شيخنا في « الكتاب » ـ مع أنه على تقدير تسليم ظهوره في نفي المجازاة لا نسلّم دلالته على نفي الضمان حيث إنه حكم شرعيّ يتعلّق بالضّارّ لا تعلّق له بفعل المتضرّر.

نعم ، ظاهره نفي القصاص ولا ضير فيه بعد قيام الأدلّة القطعيّة عليه فيخرج عنه بها ، بل الأمر كذلك على تقدير نفيه الضمان بالعموم ؛ لكون دليل الضمان بالإتلاف أخصّ منه.


وكيف ما كان : لا إشكال في عدم نفي المجازاة الضمان شرعا بالإتلاف ، مع أنّه على تقدير تسليم الدلالة يقع التعارض لا محالة بين الفقرة الأولى والثانية ؛ حيث إن مقتضى الفقرة الأولى : إثبات الضمان على ما ستقف عليه ، ومقتضى الفقرة الثانية : نفيه ، فيجب الرجوع إلى دليل الإتلاف ، ولا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة بعد وجوده كما هو ظاهر.

وبالجملة : الحقّ ما ذكره شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : من أن التباس الفرق بين الضّرر والضّرار لا يخلّ بما هو المقصود من التمسّك بنفي الضّرر في المسائل الفقهيّة ، فالمهمّ بيان المراد من النفي الوارد على الضّرر في الأخبار بعد صرفه عن ظاهره بحكم العقل من حيث لزوم الكذب بعد وقوع الضرر حسّا وبالمشاهدة والوجدان ، وأنّ الظاهر منه بعد القطع بعدم إرادة الظاهر بحكم دلالة الاقتضاء ما هو ؛ فإنه قد يتخيّل إجمال الروايات من حيث كثرة الاحتمالات المتطرّقة وعدم المعيّن لبعضها وقد أنهاها بعض من عاصرناه إلى سبعة أو ثمانية.

الاحتمالات المتطرّقة في الحديث ثلاثة

فنقول : الاحتمالات ثلاثة ، قال بكلّ قائل ، وأمّا سائر الاحتمالات فهي إمّا راجعة إليها أو سخيفة يجب الإعراض عنها.

أحدها : أن يراد من نفي الضّرر في الإسلام والشرع نفي تشريع الحكم


الضرري ، بمعنى : أنه لم يشرع في الإسلام حكم يلزم منه ضرر على العباد ، فكلّ حكم شرع في الإسلام لا بدّ أن يكون على وجه لا يلزم منه ضرر على أحد تكليفيّا كان أو وضعيّا من غير فرق بينهما.

فكما أنّ لزوم البيع مع الغبن والعيب وبدون الشفعة للشريك ، وكذلك وجوب الغسل والوضوء والحجّ والصّوم وغير ذلك من العبادات مع التضرّر ، وكذلك سلطنة سمرة على الدخول على عذقه بدون الاستئذان من الأنصاري ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور مع توقّف أخذ الحقّ عليه ، وهكذا كل حكم ضرريّ منفيّ بالروايات ، كذلك براءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر حكم ضرريّ منفيّ بها من غير فرق بينهما أصلا ، فهو نظير ما دلّ على نفي الحرج ، والسهو مع كثرته ، أو في النافلة ، أو في السّهو ، أو على المأموم مع حفظ الإمام ، أو العكس ، ورفع الخطأ والنسيان وأخواتهما إلى غير ذلك ممّا دلّ على نفي الذات المحمول على نفي الحكم.

ويدلّ على هذا المعنى ـ مضافا إلى فهم الفقهاء وظهور أمثالها من التراكيب الواردة في ذلك ـ قوله عليه‌السلام : « في الإسلام » (١) على رواية العلاّمة قدس‌سره وابن أثير

__________________

(١) قيد « في الإسلام » ورد في الفقيه للشيخ الصدوق قدس‌سره قبل العلاّمة كما مرّت الإشارة إليه وان كان الظنّ الغالب أن ذلك أيضا تسرّب إليه رحمه‌الله من العامّة على أنه رضوان الله تعالى عليه ذكره


و « على مؤمن » فإن الظرفية المذكورة يناسب كونه مفسّرا لأحكام الإسلام وشارحا لأدلّتها كما لا يخفى.

وبالجملة : لا إشكال في ظهور الروايات في هذا المعنى وإن كان اللازم حملها على الأخبار كما هو ظاهر القضيّة.

ثانيها : أن يراد من النّفي النهي والتحريم. فمعنى قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » كون الإضرار حراما سواء كان بالنفس أو بالغير ، وأنه لا يجوز الإضرار في الدّين وشرع الإسلام ، فلا ينافي وجود ذاته في الخارج ، ولا يلزم عليه كذب أصلا ؛ إذ المقصود ليس نفي وجوده بل نفي جوازه بالمعنى الأعمّ.

وهذا المعنى ـ مضافا إلى كونه خلاف الظاهر ـ ينافي ذكر القاعدة في النصّ والفتوى لنفي الحكم الوضعي ؛ فإن الحكم بأن المراد من النفي النهي وتحريم الإضرار ، وأنّه من المحرّمات الشرعيّة لا يجامع القول باستفادة الحكم الوضعي

__________________

في مقام الاستدلال ولم يورده في بابه عند مظانّه. نعم ، العلاّمة الحلّي أعلى الله تعالى مقامه الشريف أورده كذلك لكنّه واضح ان ايراده له ، إمّا اعتمادا على ما ورد في « الفقيه » أو على ما ورد في كتب العامّة لمكان اشتهاره عند الخاصّة والعامّة إجمالا. هذا كلّه في قيد « في الإسلام » وأمّا قيد « على مؤمن » فلم يرد إلاّ في كتبنا خاصّة ، ومصادرهم منها بلقع.

وقد وردت في الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٨٠ باب « الشفعة » الحديث رقم ٤ ومصادر أخرى مرّت الإشارة اليها سابقا.


من الأخبار كالضمان ونحوه ، وإن لزمه بحكم العقل الفساد إذا تعلّق بعبادة إذا اتحد معها وجودا كالوضوء الضرري ، إلاّ أنه لا تعلّق له بدلالته على الحكم الوضعي.

وبالجملة : فرق واضح بين جعل الروايات في مقام إنشاء حكم الإضرار ، وبيان أنه من المحرّمات الشرعيّة وبين جعلها إخبارا عن عدم جعل الحكم الضرري وضعيّا أو تكليفيّا في المجعولات الشرعيّة وشتّان بينهما هذا.

وممّا ذكرنا يظهر : ما يتوجّه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « ويحتمل أن يراد من النفي (١) : النهي عن ضرر النفس ، أو الغير ، ابتداء أو مجازاة ، لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم المعنى للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعيّ دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء بالشروط والعقود بجعل الإضرار بالنفس أو الغير محرّما غير ماض على

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« يعنى يحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : « لا ضرر » مثل ما لو قال : « لا بيع وقت النداء » إلاّ انّ ما نحن فيه يغاير المثال في أنّ الحرمة فيه تكليفي محض ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنه مستتبع للوضع نظير ما لو قال : « لا تتصرّف فيما يشترى بالخمر » مريدا به النهي.

وحيث ان الحرمة فيه مسبّبة عن بقاء المبيع في ملك مالكه ، فهذا النهي قريب من النفي في المعنى ، بل راجع اليه كما انّ النفي أيضا يستتبع النهي إذا كانت الحرمة من آثاره فتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٥.


من أضرّه. وهذا المعنى قريب من الأوّل بل راجع إليه » (١) (٢). هذا ما في « الكتاب ».

وقد أسمعناك : أن كون الإضرار من حيث هو حراما في الشرع لا تعلّق له بكون الحكم الضرري سواء كان تكليفيّا أو وضعيّا منفيا في الشرع ؛ فإنّ براءة ذمّة الضارّ من الغرامة لا ينافي كون فعله حراما ، بل المدعى نفي براءة ذمّته وإن لم يكن فعله حراما أيضا ، كما إذا صدر الإتلاف منه من دون التفات.

نعم ، لو كان المراد من النهي الإرشاد أمكن جعله إشارة إلى الحكم الوضعيّ ، لكنّه لا تعلّق له بتحريم الإضرار من حيث هو إضرار.

ومنه يظهر فساد التنظير بما دلّ على وجوب الوفاء بالعقد حيث يستلزم صحّته بحكم العقل ، بل ربّما يقال بدلالته عرفا عليها ؛ من حيث إن الأمر بالوفاء أمر بترتيب الآثار فهو كالنهي عن ترتيب الآثار كقوله : « ثمن العذرة سحت » (٣)

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قربه منه أو رجوعه إليه إنّما هو على تقدير أن يكون المراد هو النهي عن مطلق الإضرار بالنفس أو بالغير ولو بالضرر الناشيء من الأحكام الشرعيّة وإلاّ فهو قريب مما ذكرنا من المعنى كما لا يخفى فتدبّر » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٨٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦١.

(٣) التهذيب ج ٦ / ٣٧٢ باب « المكاسب » ـ ح ٢٠١ ـ والاستبصار : ج ٣ / ٥٦ باب « النهي عن ـ بيع العذرة » ـ ح ٢ ، عنهما الوسائل : ج ١٧ / ١٧٥ باب « حكم عذرة الإنسان وغيره وحكم الابوال » ـ ح ١.


ونحوه. نعم ، فيما كان متعلّق النهي عن الإضرار خصوص العبادة دلّ بحكم العقل على فسادها على ما أشرنا إليه ، وأين هذا ممّا أفاده؟

ولو لم يكن قوله : « وهذا قريب من الأوّل بل راجع إليه » (١) أمكن حمل ما أفاده على دلالة هذا المعنى على الحكم الوضعي فيما كان متعلّقه العبادة ، فيدلّ ـ زائدا على التحريم ـ على الفساد أيضا ، فيكون المراد من الحكم الوضعي خصوص الفساد في المورد الخاصّ لا الأعمّ منه ومن المعاملات ، لا الأعمّ منها ومن الغرامة ونحوها من الآثار الوضعيّة ، فلا فرق في الحكم بفساد الوضوء الضّرري بين القول بكون وجوب الوضوء منفيّا في الشريعة بالروايات وبين القول بكون الإضرار بالنفس ولو بالوضوء حراما ، فإذا كان حراما لم يكن واجبا فيكون فاسدا ، لكن ما أفاده خصوصا حكمه بالاتحاد والرجوع آب عن التوجيه المذكور فتدبّر.

ثالثها : كون المنفي الضّرر الغير المجبور والمجرّد عن التدارك ، فلا ينافي وجوده في الخارج ؛ إذ المنفيّ ليس الضّرر المطلق ، بل المقيّد بعنوانه التقييدي. وإليه يشير ما تقدّم عن الفاضل التوني قدس‌سره ، فإذا كان نفى الضرر بالملاحظة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ / ٤٦١.


المذكورة فكأنه ينفي وينزل عدمه.

إذ كما أن ما يحصل بإزائه نفع وعوض لا يسمّى ضررا عرفا كدفع مال بإزاء عوض مساو له أو زائد عليه ، كذلك الضرر المقرون بحكم الشارع بلزوم تداركه ينزّل منزلة عدم الضّرر عرفا ، فإتلاف مال الغير بلا تدارك ضرر عليه عرفا ، فهو منفيّ فإذا وجد في الخارج فلا بدّ أن يكون مقرونا ومحكوما بلزوم التدارك.

وكذلك تمليك الجاهل بالغبن ماله بما دون قيمته ضرر عليه ، فلا يوجد إلاّ محكوما ومقرونا بالخيار الموجب لتداركه ، وكذا تمليك الجاهل بالعيب ؛ فإنه ضرر عليه ، فلا بدّ أن يكون مقرونا بالخيار. وهكذا لو فرض الإضرار بالنفس أو الغير ممّا لا يكون له تدارك فلا بدّ أن يكون منفيّا. ومعنى نفيه شرعا نفي جوازه ، فيكون حراما ويلزمه الفساد إذا كان من العبادات.

فإن قلت : إذا كان المنفي الضّرر الغير المتدارك لم يجز الاستدلال بهذا الأصل على نفي الأحكام الضّرريّة في مقابل العمومات المثبتة لها ؛ ضرورة كشف ثبوت الحكم الضّرري عن التدارك بحكم العقل ، والنفع العائد في مقابل الضّرر الموجب لتداركه أعمّ من أن يكون دنيويّا أو أخرويّا.

ومن هنا قال الفاضل النراقي في « العوائد » : « إن الضّرر هو إخراج ما في يد شخص من الأعيان أو المنافع بلا عوض فكلّما كان صرفه وإتلافه لجلب النفع أو عوض حاصل لم يكن ضررا والنفع والعوض أعمّ من أن يكون دينيّا أو دنيويّا في


الآخرة أو الدنيا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فعلى هذا يسقط الاستدلال وهو خلاف قضيّة كلماتهم.

قلت : لا نعلم بل ولا نظن ترتّب النفع الأخروي على الأعمال ، ومجرّد الاحتمال لا يجدي في صدق التدارك ، وابتناء الأحكام على المصالح أو استلزامها في حكم العقل للأجر والثواب لا يكفي للتدارك بعد الحكم بثبوتهما في غير مورد الضرر أيضا.

قال الفاضل النراقي في ذيل المبحث :

« بقي هنا أمر آخر وهو : أن الضرر كما مرّ هو ما إذا لم يكن بإزائه عوض ، والعوض كما أشرنا إليه يعمّ الأخروي أيضا ، والعوض الدنيوي ممّا لا يمكن درك وجوده أو انتفائه بخلاف الأخروي ، وعلى هذا فكيف فهم أن الضرر الذي يتضمّنه الحكم الفلاني لا عوض له حتى يكون ضررا » (٢)؟ هذا كلامه.

ثمّ دفع السؤال :

« بأن الضرر هو الذي لا يكون بإزائه عوض معلوم ، أو مظنون ، واحتمال العوض لا ينفي صدق الضرر ، مع أنّ العوض الأخروي معلوم الانتفاء بالأصل ».

__________________

(١) عوائد الأيّام : العائدة ٤ ص ٤٩.

(٢) المصدر السابق.


ثمّ قال :

« فإن قيل : هذا ينفع إذا لم يكن الحكم المتضمّن للضرر داخلا في عموم دليل شرعيّ ، وأما إذا كان داخلا فيه سيّما إذا كان من باب الأوامر وأمثاله فيثبت العوض ويلزمه عدم تعارض نفي الضرر مع عمومه ، مع أنّه مخالف لكلام القوم ، مثلا : إذا ورد : « إذا استطعتم حجّوا » ، أو « إذا دخل الوقت صلّوا » فإنه يدلّ بعمومه على الأمر بالحجّ والصّلاة في كلّ وقت حصل الاستطاعة ، أو دخل الوقت ، وإن تضمّن ضررا كليّا ، والأمر يدلّ على العوض فلا يكون ضررا.

قلنا : الأمر تعلق بالحجّ والصّلاة ، ولازمه تحقق الأجر المقابل لماهيّة الحجّ والصلاة المتحقّقة في حالة عدم الضرر أيضا. وأمّا حصول عوض في مقابل الضرر وأجر له فلا دليل عليه.

نعم ، لو كان نفس الضرر مما أمر به يحكم بعدم التعارض وعدم كونه ضررا كما في قوله : « إذا ملكتم النصاب فزكّوا » وأمثاله » (١). انتهى كلامه رفع مقامه هذا.

ويتوجّه على هذا الوجه :

أنّ مناطه ومبناه على تعلّق النفي بالضرر المقيّد من غير أن يقدّر الحكم ويجعل المنفي الحكم المتعلّق بالموضوعات الضرريّة ، ومن المعلوم عدم جواز

__________________

(١) المصدر السابق : ٥٦.


التمسّك بهذا الأصل على هذا المعنى على نفي الحكم المتعلّق بالموضوع الضرري ؛ فإنّ حكم الشارع ليس ضررا أصلا وإن كان ضرريّا أي : متعلّقا بالضّرر ، وعلى تقدير إرادة الحكم يرجع إلى الوجه الأوّل ، فيغني عن هذا التكلّف البعيد ، بل الغير الجائز كما لا يخفى ؛ إذ حاصله يرجع إلى نفي القاعدة لا إثباتها كما هو ظاهر.

ومنه يظهر تطرّق المناقشة إلى ما أفاده في « الكتاب » : « من أنه لو لم يكن أخبار الباب ظاهرة في الحكومة على عمومات التكليف لكان له وجه » (١) فإنه بعد الإغماض عن الحكومة أيضا كيف يمكن جمع المعنى المذكور مع موارد الأخبار كالواردة في قضيّة سمرة وغيرها؟ فلا بدّ على هذا المعنى من الحكم باختصاص الروايات بباب الضمان والخيارات ونحو ذلك ، فلا تعرّض لها لتحريم الإضرار بالنفس أو بالغير ، فلا بدّ له التماس دليل آخر من عقل أو نقل كتاب أو سنّة.

كما أنه على الوجه الثاني يختصّ بإثبات التحريم للإضرار من غير أن يكون له تعرّض لإثبات الوضع على ما عرفت بيانه ، فلا بدّ من التماس دليل آخر ، فالمعنى الجامع للمقامين المنطبق على موارد تمسّكهم بالأصل المذكور هو الوجه الأوّل هذا.

مضافا إلى أن حكم الشارع بلزوم التدارك ودفع الغرامة في موارد الضمان

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٢*.


لا يمنع من صدق الضرر ؛ من حيث إن المانع من صدقه هو دفع الغرامة لا مجرّد حكم الشارع بوجوب الدفع ، فلا بد من الفرق بين الضّرر المتدارك والضرر المحكوم بتداركه هذا.

مضافا أيضا إلى أن الظرفيّة في قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » يقتضي كون الإسلام قيدا للمنفي ، وهذا يناسب إرادة الحكم لا الفعل المضرّ كما هو ظاهر ، وهذا الوجه وإن حكي عن بعض الفحول إلاّ أنّه في كمال البعد.

وأمّا ما ارتكبه الفاضل النّراقي من السؤال والجواب ، فيتوجّه عليهما ما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » و « الكتاب » : من منع مانعيّة الأجر الأخروي من صدق الضّرر عرفا ، فلعلّه من جهة ضعف النفوس وعدم اليقين الكامل بما أعدّ في الآخرة من الأجر الآجل ، أو كون المانع عندهم هو النفع العاجل ، أو كون محبّة الدنيا شاغلة لهم عن النّظر إلى الأجر (١).

ومن هنا ترى غالب الناس يفرّون عما فيه الضّرر بالأنفس والأموال في باب الجهاد والزكاة والخمس و

أمثالها ، مع أنّه ربّما يكون فيه نفع عاجل من تنمية المال وتكميل النفس ، إلاّ أنّ النفوس الضعيفة بمعزل من إدراك ما هو المكنون فيها هذا.

مضافا إلى أن التدارك إنّما هو في الأعمال لا في جعل الحكم ، مع أنه إذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٤ ورسالة « لا ضرر » ضمن الرسائل الفقهيّة : ١٢١.


التزم بكون النّفع الأخروي مانعا عن صدق الضّرر لم يكن وقع للدفع الذي ذكره أصلا : من كون الفعل ذا مصلحة وأجر مطلقا ولو في غير مورد الضّرر ؛ ضرورة أن عموم الحكم لمورد الضّرر يكشف عن زيادة الأجر ولو من جهة ما دلّ على أفضليّة الأجر على الأحمز (١) بمعنى : الأشق كما عن « المجمع » (٢) ، لا بمعنى الأتمّ والأوفى كما عن « الصحاح » (٣) و « القاموس ». ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره : أن الدفع أشنع من التوهّم هذا (٤).

مع أن الفعل المضر كالوضوء الضّرري مثلا حرام والموجود منه في الخارج لم يجعل له تدارك في الشرع إلى غير ذلك ممّا يتوجّه على هذا الوجه.

فالإنصاف أن هذا الوجه وإن ذكره بعض الفحول لا محصّل له فالمتعين هو الوجه الأوّل ولا يتوجّه عليه شيء.

__________________

(١) لم يرد نصّ معتبر بهذه العبارة « أفضل الأعمال أحمزها » رغم اشتهارها الواسع لدى الشيعة والسنّة حتى ملأوا الدفاتر وافنوا المحابر في شرحها. وهو في غاية من الغرابة. نعم هناك أخبار تؤدّي مؤدّى هذا الخبر إجمالا بغير هذه الألفاظ لكنّها أخص منها فلا بد ان تلحظ في مواردها وليس المقام مفسوحا لسرد مثل هذه المعاني.

(٢) مجمع البحرين مادّة « حمز » : ج ٤ / ١٦.

(٣) الصحاح مادّة « حمز » : ج ٢ / ١٧٩.

(٤) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٤.


تنبيهات

وينبغي التنبيه على أمور :

القاعدة حاكمة على العمومات المثبتة للتكليف (١)

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« حكومتها يتوقّف على أن يكون بصدد التعرّض لبيان أدلّة الأحكام المورثة للضّرر بإطلاقها أو عمومها على ما أفاده قدس‌سره ، أو حال الأدلّة على جواز الإضرار بالغير ، أو وجوب تحمّل الضّرر عنه بالإطلاق أو العموم على ما ذكرنا وإلاّ بأن يكون لمجرّد بيان ما هو الواقع من نفي الضّرر فلا حكومة لها بل حالها كسائر أدلّة الأحكام.

نعم ، لو كانت في مقام الإمتثال فربّما تقدّم عليها عند التعارض لذلك وهو فيما إذا لم يكن لما يعارضها جهة مرجّحة أقوى.

ومن هنا ربّما تظهر الثمرة فعلى الحكومة يقدّم مطلقا بخلاف ما إذا لم يكن حكومة في البين ولو مع كونها في مقام الإمتنان ». إنتهى أنظر درر الفوائد : ٢٨٢.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : لا ينبغي التأمّل في تقديم القاعدة على العمومات المثبتة للتكاليف وتخصيصها بغير موارد الضّرر لسوقها في مقام الإمتثال وضرب القاعدة الموجب لقوّة ظهورها في العموم واعتضادها بما هو المغروس في العقل : من ان الله تعالى لا يريد حكما ضرريّا ، ولذا يتردّد


__________________

المكلّف ـ ولو لم يلتفت أو يعلم بحديث نفي الضرر ـ في ثبوت التكاليف عند مصادفتها للضّرر ، فهذا الأمر الذهني يؤيّد ظهور « لا ضرر » ويوهن عموم سائر الأدلّة كما هو ظاهر.

ويكفي في تقديمها على سائر الأدلّة سياق الأخبار الواردة المستدلّ فيها بلا ضرر لرفع اليد عمّا يقتضيه عمومات بعض الأدلّة كسلطنة الناس على أموالهم وغيره ، ولكن كون « لا ضرر » حاكما على سائر الأدلّة بالمعنى الإصطلاحي أي : كونه بمدلوله اللفظي متعرّضا لحالها لا يخلو عن تأمّل ، بل منع.

لأن مفاد « لا ضرر » ـ على ما يظهر منه ـ أن الشارع لم يجعل حكما ضرريّا لا أن احكامه المجعولة مقصورة على غير موارد الضرر ، والفرق بين المعنيين ظاهر.

والمعنى الأوّل يعارضه إطلاق الأمر بالوضوء الشامل لمورد الضّرر فلا بد في تخصيصه من قرينة خارجيّة ، وهذا بخلاف المعنى الثاني ؛ فإنه بمدلوله اللفظي قرينة على صرف الإطلاق فتدبّر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٠٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« إعلم انه لو كان أصل الحكم حكما ضرريّا على الإطلاق كالخمس والزكاة والجهاد ونحوها ؛ فانه مخصّص لأخبار الضرر من غير إشكال وليس محلاّ للكلام في مزاحمة القاعدة لأدلّة الأحكام وحكومتها عليها أو تخصيصها بها ؛ فإنه يكون أخص مطلقا من أخبار الضّرار.

وكذا إذا كان دليل الحكم عامّا للأفراد الضرريّة وغيرها ولكن ورد نصّ بالخصوص على انّ الحكم ثابت في الأفراد الضرريّة ؛ فإنه أيضا مخصّص للقاعدة كما ورد وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته ولا شك في كون مثله ضررا ، وأمّا إذا كان دليل الحكم بعمومه


__________________

شاملا للأفراد الضرريّة وغيرها من غير نصّ على خصوص أفراده الضرريّة فإنه محلّ البحث هنا.

نعم ، هنا كلام للمحقق القمي رحمه‌الله وهو :

ان المراد بالضرر المنفي هو الضرر الزائد على ما هو لازم لماهيّة التكليف ؛ فإن مطلق التكاليف مشتمل على مقدار من الكلفة والضّرر ، وعلى هذا فأصل التكليف بالزكاة والجهاد مشتمل على مقدار من الضّرر لازم لماهيّته ولا ينافيه حديث لا ضرر بالمعنى المذكور.

ولكن لو فرض في بعض أفراده ثبوت ضرر زائد على ذلك المقدار فينافيه حديث لا ضرر ، فإذن يكون حال الزكاة ونحوها حال غيرها من سائر عمومات التكاليف ومزاحمة لقاعدة الضرار.

والجواب : ان ذلك خلاف ظاهر الأخبار وخلاف موضوع لفظ الضّرر ؛ فإنه موضوع عرفي صادق على مثل الخمس والزكاة والجهاد وغير صادق على مثل الصلاة والصوم.

ثم انه قد ذكرنا : ان تقديم الحاكم على المحكوم إنما هو فيما إذا كان الحاكم أقوى من حيث كونه ناظرا إلى المحكوم ، وبعبارة أخرى : تكون دلالته على الشرح وتفسير المحكوم أقوى من دلالة المحكوم على خصوص الفرد الضّرري وإلاّ فلا ، فتذكّر.

وقد ذكرنا أيضا : أن الحكومة تنقسم إلى حكومة قصديّة وحكومة قهريّة.

وحكومة الأدلّة الإجتهاديّة على الأصول العمليّة من قبيل الثاني ، وزعمها المصنّف من قبيل الأوّل بل يزعم إنحصار الحكومة في القسم الأوّل.

ولكن الحكومة فيما نحن فيه من الحكومة القصديّة كما لا يخفى سيّما بملاحظة النبويّ


الأوّل : أنا قد أشرنا في مطاوي ما أسمعناك من الكلام في بيان هذا الأصل إلى كونه حاكما على العمومات المثبتة للحكم الضّرري من التكليفيّات والوضعيّات وشارحا لها ومبيّنا لمقدار مدلولها ومفسّرا للمراد منها ، وأنّ المجعولات في الإسلام ، والشرع ليست بحيث توجب الضّرر على أهل الإسلام فهذه الأخبار المثبتة للأصل المذكور بمداليلها اللفظيّة ناظرة إلى العمومات المثبتة للأحكام وإطلاقاتها ومتعرّضة لها ومتفرّعة عليها كسائر ما يكون على هذا

__________________

المحكي عن التذكرة [ ج ١١ / ٦٨ ] : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » يعني أحكام الإسلام.

ثم اعلم انه قد نلتزم بحكومة أخبار الضرار على ما كان دليله أخص مطلقا من أخبار الضّرار لو كان ظاهرا بالنسبة إلى مدلوله لا نصّا ، مثل ما لو أمر الشارع مثلا بشيء ضرري في جميع أفراده ، والأمر ظاهر في الوجوب فنحمله على الإستحباب بمقتضى حكومة أخبار الضرار بناء على ان الحكم الإستحبابي لا يوجب الضّرر [ على كلام ].

واعلم أيضا : أن حكومة أخبار الضرار إنّما هي بالنسبة إلى غير الأدلة التي هي أيضا حاكمة على سائر الأدلة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي تسعة ... » وأدلّة الحرج وأمثالهما وأمّا بالنسبة إلى مثل هذه الأحكام فالتعارض ، ويعمل فيها بقواعد التعارض فقد يقدّم هذه على هذه وقد يقدّم هذه على هذه على ما يقتضيه قواعده ، وكذا حال سائر هذه الأحكام بعضها مع بعض وربّما يكون بعضها حاكما على بعض آخر ، وتشخيص مواردها موكول إلى نظر الفقيه » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧٢.


الشأن والنمط.

مثل ما دلّ على نفي الحرج والسهو لمن كثر عليه ، أو في النافلة ، وأمثالها ممّا ورد في الشرعيّات ، فهي بأنفسها مقدّمة عليها تقدّما ذاتيّا من غير أن يكون بينهما تعارض وترجيح فإن التماس الترجيح ؛ في التقديم فرع التعارض المفقود بين الحاكم والمحكوم ، مع أنّ سوقها في مقام الامتنان كحديث الرفع ودليل نفي الحرج الآبي عن التخصيص يكفي في قوّتها وتقديمها على تلك العمومات على تقدير تسليم التعارض والتنافي من غير أن يحتاج ترجيحها عليها إلى التشبّث بالمرجّحات الخارجيّة ، كالشهرة ، ونقل الإجماع ، والأصل على القول بجواز الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة بين العامّين من وجه ، مع كونه محلّ كلام ومناقشة.

فما يظهر من غير واحد من المتأخّرين منهم : السيد السند في « الرّياض » والفاضل النّراقي قدس‌سرهما تبعا لما عن المحقّق السبزواري : من الحكم بالتعارض بينهما والرجوع إلى المرجّحات فيما سيأتي من كلامهم ليس على ما ينبغي سيّما ما عن بعض (١) تبعا « للرّياض » (٢) من الترجيح بالسّند ، بل الحكم بضعف سند بعض أخبار المقام.

__________________

(١) هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة : ج ٧ / ٢٢.

(٢) أنظر الرياض : ج ١٤ / ١٢١ ط آل البيت.


مع أنك قد عرفت : أنه غير قادح بعد وجود الصحيح والموثّق فيها ، ودعوى الكثرة ، بل التواتر بالنسبة إليها مع ما في الترجيح بالصدور في العامّين من وجه من الإشكال الذي تقف عليه في الجزء الرابع من التعليقة (١) إن شاء الله تعالى.

قال في « العوائد » : « إن نفي الضّرر والضّرار في الأحكام الشرعيّة من الأصول والقواعد الثابتة بالأخبار المستفيضة ، المعتضدة بعمل الأصحاب ، الموافقة للاعتبار المناسبة للملّة السمحة ، المعاضدة بنفي العسر والحرج والمشقّة كما ورد في الكتاب والسنّة ، فهذا أصل من الأصول كسائر الأصول والقواعد الممهّدة ودليل شرعيّ يستدلّ به في موارده ، فإن لم يكن له معارض فالأمر واضح ، وإن كان : بأن يدلّ دليل آخر على ثبوت حكم شرعيّ يلزم منه ضرر ، فيعمل فيه بمقتضى التعارض والترجيح » (٢). انتهى ما أردنا نقله من كلامه في هذا المقام.

وقال في مقام آخر أيضا :

« إنّ من موارد تعارض نفي الضرر مع دليل آخر ما لو استلزم تصرّف أحد في ملكه تضرّر الغير ؛ فإنه يعارض ما دلّ على جواز التصرّف في المال مثل

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٤ / ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) عوائد الأيّام العائدة رقم : ٤ / ٥٣.


قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) بالتعارض العموم من وجه فقد ترجّح أدلّة نفي الضرر بما مرّ من المعاضدات وقد يرجّح الثاني » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

فقد اتضح مما ذكرنا ما يتوجّه عليه ؛ فإن المراد من التعارض تنافي الدليلين بالنظر إلى مدلوليهما من غير أن يكون لأحدهما نظر إلى الآخر بالدلالة اللفظيّة ، وإن حكم بتقديم أحدهما إلى الآخر ؛ لمكان الترجيح الدلالي كما في تعارض الظاهر والأظهر ، كالعام المعلّل على غير المعلّل في تعارض العامّين من وجه ، أو الأقلّ أفرادا على غيره ، أو الخاص الذي لا يكون نصّا على العام إلى غير ذلك من موارد الترجيح بقوّة الدلالة بحسب النوع ، أو الصنف.

فبعد عدم إمكان العمل بظاهرهما وعدم جواز طرحهما يلزم الأخذ بالأظهر وتقديمه على الظاهر ؛ لمكان الترجيح ، وهذا بخلاف الحاكم ؛ فإن الأخذ به ورفع اليد عن المحكوم من حيث كونه بنفسه مقدّما عليه ومفسّرا له بحسب دلالته اللفظيّة من غير أن يكون هناك دوران وترجيح.

ومن هنا يقدّمونه على العمومات المثبتة بعمومها للحكم الضّرري من غير

__________________

(١) غوالي اللئالي : ج ١ / ٢٢٢ ـ ح ٩٩ وص ٤٥٧ ـ ح ١٩٨ وج ٢ / ١٣٨ ـ ح ٣٨٣ ومواطن أخرى.

(٢) عوائد الأيّام العائدة : ٥٨.


ملاحظة ترجيح. والحكومة وإن كانت في الحقيقة راجعة إلى التخصيص وليست من الورود ، إلاّ أنّها تخصيص بعبارة التفسير ، ولذا لا يعدّ الحاكم والمحكوم من المتعارضين ، بخلاف العام والخاصّ الظنّيين.

فقد اتضح ممّا ذكرنا : الفرق بين الحكومة والتعارض وسيجيء تمام الكلام في ذلك في باب الاستصحاب والتعارض ، وحينئذ فلا يمكن تقديم شيء من عمومات التكليف على قاعدة نفي الضّرر ، وإن بلغت من القوّة ما بلغت بحسب المرجّحات بل كانت قطعيّة بحسب الصدور وجهته.

نعم ، لو كان هناك دليل مثبت لحكم في عنوان الضّرر مثل ما دلّ على القصاص والجهاد ونحوها خرجنا عن القاعدة بسببه لكونه أخصّ منها ، ولا يعقل حكومتها عليه ، كما هو ظاهر هذا.

وفي أكثر نسخ « الكتاب » بعد بيان الحكومة بقوله قدس‌سره : « والمراد بالحكومة :

أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظيّ متعرّضا لحال دليل آخر » إضافة هذا القول : [ من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه. فالأوّل : مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب ، أو شهادة العدلين ؛ فإنه حاكم على ما دلّ على أنه « لا صلاة إلا بطهور » فإنه يفيد بمدلوله اللفظي : أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل « لا صلاة إلاّ بطهور » وغيره ثابت للمتطهّر بالاستصحاب أو البيّنة. والثاني : في (١) مثل

__________________

( * ) لفظة « في » ليست موجودة في الأصل.


الأمثلة المذكورة ](١) وهذه الإضافة ليست في بعض النسخ (٢) وإن كان أصل التعميم المذكور للحكومة والتمثيل بما ذكر موجودا في كلماته قدس‌سره في غير هذا الموضع.

وللقاصر (٣) في التمثيل بالاستصحاب والبيّنة وغيرهما مما يثبت الموضوعات أو الأحكام بحسب الظاهر من الأصول والأمارات مناقشة ، وإن كان أصل التعميم ممّا لا يتطرّق إليه مناقشة ؛ نظرا إلى أن الاستصحاب مثلا ليس في مرتبة قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » فإنّه مما يثبت الحكم ، أي : شرطيّة الطهارة للصلاة في مرحلة الواقع ، فكيف يمكن جعل الاستصحاب المثبت للطهارة في مرحلة الظاهر شارحا لها ومبيّنا للمراد بها بحيث يكون المراد من الأدلّة الواقعيّة الأعمّ من الواقع والظاهر؟

فإذا بني على وجود الركوع مثلا بعد الدخول في السجود عند الشكّ فيه ، أو على وجود السجود بعد الدخول في غيره إذا شكّ فيه فلا بدّ من أن يحكم بأن المراد ممّا دلّ على اعتبار الركوع والسّجود في الصّلاة أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة وهكذا. وهذا مضافا إلى لزومه الإجزاء في جميع موارد الأصول والأمارات ولو

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٢.

(٢) أقول : لكنها موجودة في نسخة الكتاب المطبوع بطبعة المؤتمر.

(٣) أقول : يقصد نفسه رضوان الله تعالى عليه.


في الموضوعات كما ترى.

فالذي يقتضيه التحقيق الذي لا بدّ منه ولا مناص عنه : البناء على كون مؤدّى الأمارة المعتبرة ومجرى الاستصحاب نفس الواقع الأوّلي بحسب الآثار والأحكام بجعل الشارع ، ما دامت الأمارة قائمة والأصل جاريا : بأن لا يعلم الخلاف ، وبعد تبيّن الخلاف والخطأ يبنى على ترتيب آثار الواقع من أوّل الأمر ، كما هو شأن الحكم الظاهري ، فليس هنا تخصيص لا بحسب الواقع ولا بحسب الظاهر ، ولا تصرّف في موضوع الخطاب الواقعي بتعميمه لما يشمل مفاد الأصل والأمارة أصلا ، وإنّما هنا حكم آخر ـ في مرحلة الظاهر والجهل بالواقع ـ بوجوب البناء على كون مؤدّى الأمارة مثلا عين الواقع ما دامت قائمة ، وأين هذا من الحكومة؟ وقد أشرنا إلى هذا في طيّ أجزاء الجزء الأوّل من التعليقة.

* * *


التنبيه الثاني :

تمسّك الفقهاء بالأدلّة الضرريّة

الثّاني : أنّك قد عرفت في طيّ الأمر الأوّل : أنه لا شبهة في لزوم الخروج عن مقتضى القاعدة مع حكومتها على العمومات المثبتة للحكم الضّرري بما يكون أخصّ منها ، كما ورد في الشرعيّات فإذا ورد فيها وجوب الغسل على المريض المجنب عمدا وإن أصابه من المرض ما أصابه بالطريق المعتبر ، فيلزم الإفتاء به كما أفتى به بعض ، وهذا ممّا لا إشكال فيه أصلا.

إنّما الإشكال في التمسّك بها فيما شكّ في ورود المخصّص عليها ؛ نظرا إلى ما يقال ـ بل قيل ـ : بأنها من العمومات التي خرجت أكثر أفرادها منها فيصير موهونة ؛ فإنه يظنّ بملاحظة أكثريّة الخارج ، بأن المراد منها ليس هو العموم ، بل المعنى المعهود عند التخاطب ، حتى لا يرد عليه ذلك سيّما مثل هذا العموم الوارد في مقام الامتنان وضرب القاعدة ، والأصل الآبي عن التخصيص فضلا عن كثرته فضلا عن أكثريّته هذا.

ولكن يمكن التفصّي عن الإشكال ـ كما في « الكتاب » بعد منع أكثرية التخصيص ؛ إذ المسلّم على تقدير الإغماض كثرته لا أكثريّته ؛ فإن الخارج منها محصور بباب النفقات التي لا يحصل بإزائها عوض دنيويّ كنفقة الحيوانات ، مثل


نفقة الوالدين والأولاد والزوجة على تأمّل ، والحقوق الماليّة كالزكاة والخمس والجهاد والحجّ ونحوها والحدود الإلهيّة ، لا مثل القصاص والديات ونحوهما التي شرّعت من جهة نفي الضّرر وحفظ النفوس ، والنّظام فهي نظير الضمان المشروع بنفي الضّرر ـ : بأن من المحتمل كون خروجها بعنوان واحد أو عناوين متعدّدة لا يبلغ الحدّ المذكور ؛ فإن الموهن كثرة الإخراج والتخصيص ، لا كثرة المخرج ولو كان بتخصيص أو تخصيصات قليلة كما يشهد له المثال الذي ذكره قدس‌سره في « الكتاب » ، فإذا جوّزنا ذلك وأنّ المخاطبين كانوا عالمين به وإن لم نعلم به لا يجوز الحكم بطروّ الوهن في العموم. ومن هنا ترى الفقهاء يتمسّكون بتلك الأخبار في المسائل الفقهيّة الضّرريّة ولا يرفعون اليد عنها إلاّ بمخصّص قويّ.

وبمثل ذلك يتفصّى عن ورود الإشكال المذكور على كثير من العمومات مثل عمومات نفي الحرج وإن تفصّى عنه في « العوائد » (١) ؛ بأنّ ملاحظة الأجر والثواب فيما نراه شاقّا يرفع المشقّة فلم يرد عليها تخصيص أصلا ، وهذا مثل ما قيل بالنسبة إلى عمومات نفي الضرر : من أنّ ملاحظة كثرة الأجر يوجب رفع الضرر فليس هناك تكليف ضرريّ أصلا. وفيه : ما فيه.

ومثل عموم الوفاء بالشرط بناء على عدم اختصاصه بالالتزام والإلزام في ضمن خصوص البيع كما عن « القاموس » ، وعمومه لكلّ إلزام والتزام ولو كان

__________________

(١) عوائد الأيّام : العائدة رقم : ٤ / ٢٠ ـ ٢١.


ابتدائيّا ؛ فإن الشروط الابتدائيّة في الجملة ، والشروط في ضمن العقود الجائزة كنفس العقود الجائزة ، وما يخالف الكتاب والسنّة ، وما يخالف مقتضى العقد خارجة عنها بالتخصيص.

ومثل عموم الوفاء بالعقد كقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) بناء على عدم إرادة العهد الذهني والخارجي من العقد وشموله لكل عهد ، ومن هنا ترى الفقهاء يتمسّكون بتلك العمومات في المسائل عند الشكّ في التخصيص من دون تأمّل ، وليس ذلك إلاّ من جهة منع أكثريّة المخرج ، أو منع العلم بأكثريّة الإخراج وتجويز كون إخراجها عند المخاطبين بتلك الخطابات العامّة بعنوان واحد أو عناوين قليلة.

__________________

(١) المائدة : ١.


التنبيه الثالث :

المنفي هو الضّرر الشخصي

الثالث : أنّ الظاهر من الأخبار المذكورة ـ كما لا يخفى على من راجع إليها ـ كون المنفي الضّرر الشخصي ، وعليه ينطبق كثير من كلماتهم في الفقه كما في باب « شراء الماء للوضوء أو الغسل » حيث اعتبروا فيه حال المكلّف ، وباب « الصوم » ونحوهما ، إلاّ أنّهم تمسّكوا بها أيضا فيما لا اطّراد فيها للضرر ، كما في باب « الخيارات » من الغبن والعيب والشفعة وغير ذلك ، فأثبتوا الخيار من جهة الأصل المذكور ، مع أن لزوم العقد ليس يلزمه الضّرر في هذه الموارد بالنسبة إلى جميع الأشخاص وجميع الحالات ، بل قد ينفكّ عنه كما في الموارد التي ذكرها قدس‌سره في « الكتاب ».

ويمكن التفصّي عنه : بأن تمسّكهم بالأصل المذكور فيما لا يطّرد فيه الضّرر لا بدّ من أن يحمل على التأييد للدليل القائم عندهم على الحكم في تلك الموارد ، وإن كان خلاف ظاهر كلماتهم فيها ؛ فإن مضايقتهم عن لحوق الحكم للضّرر الغالبي والنوعي في غير تلك الموارد دليل على كون الضّرر حكمة عندهم للحكم في تلك الموارد لا علّة حتى يلزم اطّراده ، وحمل كلامهم في مقام التوسعة على الغفلة عن المضايقة في مواردها لا يناسب ساحة شأنهم ، فلا بدّ من الحمل على ما ذكرنا وإن كان بعيدا في باديء النظر. وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بالنسبة إلى أخبار المقام كدليل نفي الحرج فلا ينطبق على كلماتهم في جميع الموارد فراجع.


التنبيه الرابع :

لا فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها بالنسبة إلى مفاد الأصل المزبور

الرّابع : أنه لا فرق في مفاد الأصل المذكور بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها من الأحكام الخمسة فكما أن وجوب الفعل منفي إذا كان ضرريّا ، وكذا تحريمه إذا ترتّب الضرر على تركه ، إلاّ فيما استثني من البراءة عن الأئمة عليهما‌السلام وقتل النفس المحترمة ، والتداوي بالمحرّمات على قول ، كذلك جوازه إذا كان ضرريّا وليس أمره كأمر نفي الحرج حتّى يقال بعدم رفعه لغير الإلزامات من حيث عدم استناد الوقوع في الحرج إلى حكم الشارع في غير الإلزامات ، فيفرّق بين الوضوء الضّرري والحرجي ، إلاّ فيما كان إقدام المكلّف رافعا لموضوع استناد الضّرر إلى الشارع.

فلو أقدم المكلّف لغرض عقلائي على المعاملة الغبنيّة مع علمه بالغبن لم يحكم بثبوت الخيار له ؛ من جهة أن الإقدام على الضرر أوجب عدم صدق الحكم الضرري على إيجاب الشارع للوفاء بالعقد ، وكذلك إقدامه على شراء مال الغير مع علمه بفساد المعاملة ، وأن المعوّض ليس ملك البائع أوجب عدم صدق الحكم الضرري على وجوب الغرامات والخسارات عليه ، وهكذا الأمر في نظائره مما لا يجري فيه قاعدة الغرور.


ويترتّب على ذلك ما أفاده شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره في « الرسالة » : من الحكم بصحّة العبادات التي يعتقد المكلّف عدم التضرّر بها مع كونها مضرّة في نفس الأمر ؛ فإن الأمر بالعبادة في الفرض وتجويزها للمكلّف لم يوقعه في الضّرر أصلا ، وإنّما الموقع له علمه بعدم تضرّره ، فلو حكمنا بفسادها والحال هذه لزم وقوعه في كلفة الإعادة والقضاء.

نعم ، لو علم بالضرر أو ظنّ به كان وقوعه في الضرر مستندا إلى أمر الشارع بالعبادة ، خلافا لمن حكم بالفساد في الفرض بزعم ، أن الضّرر مانع واقعيّ عن صحّة العبادة من غير فرق بين العلم بوجوده أو العلم بعدمه ، ولا فرق في الحكم بالصحّة في الفرض بين الاستناد في فساد العبادة مع التضرّر بها إلى الأصل المذكور ، أو النهي عن الإضرار بالنفس ؛ فإنّ المانع عن امتثال الأمر عندهم النهي الفعلي المنجّز في مسألة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة النهي عن العبادة ، لا النهي الشأني المعلّق.

قال قدس‌سره في « الرسالة » بعد جملة كلام له يتعلّق بالمقام ما هذا لفظه :

« فتحصّل : أنّ القاعدة لا تنفي إلا الوجوب الفعلي على المتضرّر العالم بتضرّره ؛ لأن الموقع للمكلّف في الضّرر هو هذا الحكم الفعلي دون الوجوب الواقعي الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على الضّرر ، بل نفيه مستلزم لإلقاء المكلّف في مشقّة الإعادة ، فالتمسّك بهذه القاعدة على فساد العبادة المتضرّر بها في دوران الفساد مدار اعتقاد الضّرر الموجب للتكليف الفعلي


بالتضرّر بالعمل ، كالتمسّك على فسادها على التحريم بالإضرار بالنفس في دورانه مدار الاعتقاد بالضّرر الموجب للتحريم الفعلي ؛ لأنه الذي يمتنع اجتماعه مع الأمر فلا يجري مع الضّرر الواقعي وإن سلم معه التحريم الشأني ، كما تسالموا عليه في باب اجتماع الأمر والنهي : من عدم الفساد مع الجهل بالموضوع أو نسيانه ، وأن المفسد هو التحريم الفعلي المنجّز » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا الكلام وإن أمكن توجيهه بالنظر إلى مفاد الأصل المذكور ؛ حيث إن الاعتقاد بعدم الضرر يوجب رفع الاستناد إلى الشارع ، إلاّ أنّ تسليمه بالنظر إلى ما دلّ على تحريم الإضرار بالنفس مثل قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢) ونحوه لا يخلو عن إشكال.

فإنهم وإن تسالموا في باب اجتماع الأمر والنهي على ما ذكره قدس‌سره إلاّ أنّك قد عرفت في مطاوي كلماتنا السابقة : أن الضدّ للأمر هو النهي من غير فرق بين العلم بوجوده والشكّ فيه والعلم بعدمه مع وجوده في نفس الأمر ؛ لأن الحكم الفعلي ليس وراء الحكم الواقعي ؛ ضرورة أنه ليس الموجود من الشارع في حقّ المكلّف حكمان شأني وفعليّ ، وإنّما يعذر العقل المكلّف في مخالفته مع عدم العلم به في الجملة.

__________________

(١) رسالة في قاعدة لا ضرر : ١١٨ ـ المطبوعة ضمن الرسائل الفقهيّة للشيخ الأعظم قدس‌سره.

(٢) البقرة : ١٩٥.


نعم ، لو لم يكن هناك تضادّ بين الحكمين وإنّما كان بين وجوب امتثالهما كان لما أفاده وجه ، لكنّه خلاف ما يقتضيه التحقيق ونطقت به كلمتهم : من ثبوت التضادّ بين نفس الأحكام الخمسة ولو لم يجب امتثال الحكم كالإباحة مثلا. والقول : بأن الحكم الشأني ليس من مقولة الحكم والإنشاء ، وإنّما هو عبارة عن مجرّد شأنيّة الإنشاء ، قد عرفت فساده ممّا قدّمنا لك سابقا كغيره من التوهّمات الموجبة لرفع الإشكال المذكورة.

فإنا قد ذكرنا لك ثمّة ونذكر هنا : أنّا لم نقف على ما يدفع به الإشكال المذكور عمّا تسالم عليه القوم ، بل كان ذلك عهدي واعتقادي من زمان قراءتي على شيخي المسألة المذكورة إلى زماني هذا مع تكرّر البحث منّي عن المسألة لجمع من فضلاء الأصحاب والله الهادي إلى طريق الصواب.

* * *


التنبيه الخامس :

المنفي بالأصل المذكور هو الحكم الضّرري

الخامس : أن المنفي بالأصل المذكور هو الحكم الضّرري ، وأمّا الخصوصيّات الوجوديّة التي يدفع بكلّ واحد منها الضّرر فلا يثبت به أصلا ، فإذا كان لزوم العقد مع العيب من دون أرش ضرريّا فيحكم بنفيه من جهة الأصل. وأمّا ثبوت التخيير بين الفسخ والأرش أو اختيار أحدهما معيّنا من حيث اندفاع الضّرر به فلا يثبت به أصلا كما لا يخفى. فلا بدّ لإثبات الخصوصيّات من التماس دليل آخر كما هو ظاهر.

* * *


التنبيه السادس :

الأحكام المجعولة في الاسلام ليست ضرريّة

السّادس : أنك قد عرفت : أن ما ينفي الضّرر من الأخبار المتقدّمة حاكم على العمومات المثبتة للأحكام الضّررية بعمومها فهو إخبار عن حال الأحكام المجعولة في الإسلام وأنه ليس فيها مجعول ضرريّ ، نظير حديث الرفع. فالأحكام الوجوديّة المجعولة من الشارع يستكشف حالها منه ، وأنه لم يجعل منها ما كان ضرريّا من الوضعيّات والتكليفيّات.

وأمّا الأحكام العدميّة الغير المجعولة من الشارع إذا كانت ضرريّة كعدم ضمان ما يفوت على الحرّ من عمله بسبب حبسه فيما لم يكن عمله ملكا للغير ؛ فإنه لا إشكال في الضمان في الصورة المفروضة من جهة قاعدة الإتلاف ، فلا يحكم بنفيها ؛ حيث إنها ليست مجعولة بالفرض ، فكيف يحكم بنفيها؟ اللهمّ إلاّ أن يرجع إلى حكم وجوديّ كحرمة مطالبة الحابس بالعوض ونحو ذلك ، لكنّه مشكل : من جهة أن نفي الحرمة إنّما هو فيما كان هناك دليل عليها.

وبالجملة : تأسيس الحكم بالضمان من جهة الأصل المذكور مع كونه إخبارا عن حال أدلّة الأحكام المجعولة فيما لم يكن هناك مقتض للضمان أصلا من اليد ، وقاعدة الإتلاف لا يجامع ما بنينا عليه في المراد من أخبار الباب فتأمّل.


التنبيه السابع :

عدم الفرق بين كون وجود الموضوع للحكم الضّرري اختياريا أو غيره

السّابع : أنه لا فرق في مفاد الأصل المذكور بين أن يكون وجود الموضوع للحكم الضرري اختياريا للمكلّف بحيث يستند إلى اختياره ، أو من غير اختياره.

كما أنه لا فرق فيما كان باختياره بين أن يكون حراما أو جائزا. فإذا صار المكلّف باختياره سببا لمرض يتضرّر به الصوم مثلا يحكم بعدم وجوبه عليه وإن فعل محرّما. وكذا إذا أجنب عمدا فيما يتضرّر به الغسل ، وكذا إذا ترك المسافرة إلى الحج وانحصر سفره في طريق يتضرّر به ، وهكذا وإن كان اختياره لما يتحقّق به الموضوع الضرري في جميعها حراما عليه.

ومن هنا قد يقع التأمّل فيما ذكروا في باب الغصب : من وجوب ردّ المغصوب على المغصوب منه وإن تضرّر به الغاصب (١). وإن ضعّفه شيخنا : بأنّ

__________________

(١) انظر المختصر النافع : ٢٤٨ وشرائع الإسلام : ج ٤ / ٧٦٤ وكشف الرموز للفاضل الآبي : ج ٢ / ٣٨١ وتحرير الاحكام ج ٤ / ٥٢٧ فرع ٦١٤٨ والدروس للشهيد الأوّل قدس‌سره ج ٣ / ١٠٩ واللمعة الدمشقيّة للشهيد الأوّل قدس‌سره : ٢٠٤ ، ومسالك الافهام : ج ١٢ / ١٧٥ ورياض المسائل : ج ١٢ / ١٢ والجواهر : ج ٣٧ / ٧٦ إلى غير ذلك.


المقام من تعارض الضّررين والمرجع قاعدة حرمة الإضرار بالغير نفسا ومالا ؛ ضرورة حرمة إلقاء الغصب كإحداثه هذا (١). مضافا إلى الرّواية المشهورة : « ليس لعرق ظالم حق » (٢) فإنها كناية عن كلّ موضوع بغير حقّ ، ولذا يجبر بقلع ما يتضرّر به من بنائه وسفينته إذا كان من مال الغير إذا كان نصبه من غير حق.

__________________

(١) رسائل فقهيّة للشيخ الانصاري : ١٢٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ٦ / ٢٩٤ باب « من الزيادات في القضايا والاحكام » ـ ح ٢٦ وج ٧ / ٢٠٦ باب « المزارعة » ـ ح ٥٥ ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ١٥٧ باب « حكم الزرع والغرس والبناء في الأرض المستأجرة وغيرها باذن المالك وغير اذنه » ـ ح ٣.


التنبيه الثامن :

النسبة بين قاعدة نفي الحرج وقاعدة نفي الضرر

الثامن : لا إشكال في حكومة الأصل المذكور على قاعدة السّلطنة المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) فإنه كسائر ما يثبت أحكام الإسلام.

نعم ، في مورد تعارض الضررين من غير مرجّح تصير مرجعا على ما تعرف تفصيل القولين فيه ، فهي من هذه الجهة نظير سائر القواعد التي ترجع إليها بعد تعارض الضررين ، بل قد يرجع إلى أصالة البراءة عند تعارضهما فيما لم يكن هناك أصل اجتهادي وهذا كله ممّا لا إشكال فيه أصلا.

إنّما الإشكال في أنه حاكم على قاعدة نفي الحرج أو القاعدة حاكمة عليه ، أو لا حكومة بينهما أصلا ، بل هما في مرتبة واحدة.

ومنشأ الإشكال : أن كلاّ منهما حاكم على عمومات الأحكام المجعولة في الشرع والدين والإسلام وشارح لها ومبيّن للمراد منها من غير أن يكون فيه تشريع وجعل أصلا ، فجعل أحدهما ناظرا إلى الآخر والحال هذه لا معنى له.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ٢٢٢ ـ ح ٩.


نعم ، يمكن ترجيح الأصل المذكور في مورد تعارضهما ؛ نظرا إلى موافقة القاعدة له في أكثر موارده ، فلو خصّ مورد التعارض بالقاعدة لزم كون تأسيسه كاللغو.

نعم ، لا إشكال في الأخذ بالقاعدة عند تعارض الضّررين كما ستقف عليه ، لكنّه لا تعلّق له بحكومتها عليه هذا. ولكن المستفاد ممّا أفاده شيخنا في « الكتاب » عند تعارض الضّررين : احتمال حكومتها عليه ولم يتبيّن لي الوجه فيه.

نعم ، لا إشكال في العمل بحديث الرفع فيما أكره على الإضرار بالغير في غير النفس على تقدير منع الأصل عنه لما ستقف عليه. كما أنه لا إشكال في العمل به أيضا فيما إذا اضطرّ إلى أكل مال الغير لكن مع الضمان ، وليكن هذه في ذكر منك لينفعك فيما بعد عند التكلم في حكم تعارض الضّررين.

* * *


التنبيه التاسع :

الضّرر المنفي أعمّ من ضرر النفس والعرض والمال

التاسع : أنه لا إشكال في أن المراد بالضّرر المنفي أعمّ من ضرر النفس والعرض ـ كما يشهد به ما ورد في قصّة سمرة بن جندب ـ والمال كما يشهد به مورد بعض الأخبار أيضا. وهذا مضافا إلى أنّه مما لا إشكال فيه بالنظر إلى الأخبار انعقد الإجماع عليه ، كما يظهر من استدلالهم بالأصل المذكور في جميع الأقسام المذكورة.

كما أنه لا إشكال في اختلاف الأشخاص في تحقّق الضّرر المالي في مقدار من المال ؛ فإن صرف الدرهم لا يكون ضررا في حق شخص ، ويكون ضررا في حق آخر. كما أنه قد يختلف بحسب حالات شخص واحد كما يشهد بذلك كلماتهم في باب شراء الماء للوضوء والغسل.

ثمّ إن المراد بالمال أعمّ من العين والمنفعة بل الحقوق الماليّة أيضا ، بل قد يتسرّى إلى الحقوق الغير الماليّة أيضا كحقّ الأولويّة بالنسبة إلى المدارس والمساجد وغيرهما من الموقوفة وإن لم يتعقّب الإضرار بها الضمان ، كما أن المراد بضرر النفس أعمّ من الطرف والعضو ونحوهما.


التنبيه العاشر

العاشر : أنه لا إشكال في أن مقتضى الأصل المذكور عدم جواز إضرار الغير لدفع الضّرر المتوجّه إلى المضرّ ، كما أنّ مقتضاه عدم وجوب تحمّل الضّرر ودفع الضّرر عن الغير بإضرار نفسه ؛ لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني حكمان ضرريّان.

ويترتّب على الأوّل : ما ذهب إليه المشهور : من عدم جواز استناد الحائط المخوف وقوعه إلى ضرع الجار (١) وجداره ، خلافا للشيخ قدس‌سره مدّعيا : عدم الخلاف فيه (٢) ، وقد حمل ـ جمعا بينه وما ذهب إليه المشهور ـ على ما إذا خيف من وقوعه إهلاك النفس المحترمة وإن ترتّب عليه أجرة المثل (٣) ، وإن هو إلاّ كأكل مال الغير لسدّ الرمق. واحتمل شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : حمله على ما إذا لم يتضرّر به الجار أصلا ، فيكون كالاستظلال بجداره والاستضاءة بناره (٤). لكنه ضعيف لثبوت الفرق

__________________

(١) كذا وفي الرسالة : جذع الجار.

(٢) المبسوط : ج ٣ / ٨٦ طبعة المكتبة المرتضويّة وج ٢ / ٥٠٤ طبعة جماعة المدرسين.

(٣) انظر مسالك الأفهام : ج ٢ / ٢١٥ طبعة دار الهدى وج ١٢ / ٢٤٤ تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة.

(٤) الرسائل الفقهيّة رسالة في قاعدة لا ضرر : ١٢٢.


بين المقام والمثالين. ومن هنا أمر بالتأمّل عقيب الاحتمال المذكور.

وعلى الثاني : جواز إضرار الغير إكراها بما دون النفس من حيث توجّه الإضرار ابتداء إلى الغير بمقتضى إرادة المكره ، ويترتّب على ذلك جواز التولّي من قبل الجائر ، وليكن هذا في ذكر منك عسى أن ينفعك بعد ذلك.

* * *


التنبيه الحادي عشر :

لا ضمان فيما جاز الإضرار بالغير من جهة الإكراه

الحادي عشر : أنه لا إشكال في أنّ مقتضي القاعدة الحكم بعدم الضمان فيما جاز الإضرار بالغير من جهة الإكراه ، أو التصرّف في الملك الموجب لتضرّر الجار فيما يجوز كما ستقف عليه.

نعم ، فيما جاز الإضرار بالغير من جهة توقّف حفظ النفس عليه ربّما يجمع بين الحكم بجوازه والضمان للغير جمعا بين الأصل المذكور وقاعدة الإتلاف ؛ من حيث إن الحفظ لا يقتضي إلاّ رفع سلطنة المالك عن خصوصيّة الرقبة ، فيجمع بينه وبين ما دلّ على احترام المال وكون تلفه موجبا للضمان ، إلاّ فيما علم كون إذن الشارع بعنوان المجانيّة كما في كثير من موارد التصرّف في أموال الناس المجوّزة شرعا.

نعم ، في خصوص أكل مال الغير لتوقّف سدّ الرمق حكم بأن مقتضى نفس الأصل المذكور جواز الأكل والضّمان ؛ من حيث إن منعه ضرر على الآكل ، ونفي الضّمان ضرر على المالك. والوجه في ذلك : عدم تجويز الشارع للإضرار بل الأكل فكلّما جوّز الشارع للإضرار لم يتعقّبه الضّمان فتدبّر.


التنبيه الثاني عشر :

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين

الثاني عشر : أنه لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بحيث لا محيص عن الوقوع في أحدهما فيكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر ، فإمّا أن يكون الضّرران متحدين نوعا من حيث النفس والعرض والمال. وإمّا أن يكونا مختلفين بحسب النوع. وعلى التقديرين : إمّا أن يكونا متحدين كمّا أو كيفا ، أو مختلفين. وعلى التقادير : إمّا أن يكونا بالنسبة إلى شخص واحد ، أو شخصين.

لا إشكال بل لا خلاف في لزوم الترجيح بحسب الاختلاف المزبور في الجملة ، إلاّ أنّه لا اطّراد له عندهم ؛ فإن كلماتهم في فروع هذا الأصل مختلفة مضطربة جدّا ، وإن جزم شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : بلزوم الترجيح فيما لو كان الدوران بالنسبة إلى شخص واحد ، واحتمل الترجيح فيما لو كان بالنسبة إلى الشخصين حيث قال ـ بعد عنوان المسألة والدوران ـ ما هذا لفظه الشريف :

« فإن كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا إشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر ؛ لأن هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد ؛ فإن من لا يرضى بتضرّر عبده لا يختار له إلاّ أقلّ الضررين عند عدم المناص عنهما.


وإن كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن أن يقال أيضا : بترجيح الأقلّ ضررا ؛ إذ مقتضى نفي الضّرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الآخر ؛ لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد. فإلقاء الشارع أحد الشخصين في الضّرر بتشريع الحكم الضّرري فيما نحن فيه نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته ، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك فيما نحن فيه. ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الأخر ، ومع عدمها فالقرعة.

لكن مقتضى هذا ملاحظة [ الضّررين ] الشخصين (١) المختلفين باختلاف الخصوصيّات الموجودة في كلّ منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم وضرر دينار مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه ، من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه ، وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر ، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ويشهد لما أفاده من الاضطراب : ما عن المشهور في الدابة الداخلة في الدّار بحيث لا يخرج منها إلاّ بهدمها ، من ترجيح الهدم مع الغرامة ؛ من حيث كونه أقلّ ضررا ، وكذا في الدابّة التي أدخلت رأسها في القدر بحيث لا يخرج رأسها عنه

__________________

(١) كذا وفي الرسالة المطبوعة : « الشخصيّين » وهو الصحيح.

(٢) المصدر السابق : ١٢٥.


إلاّ بكسرها ، من ترجيح الكسر من حيث كونه أقلّ ضررا.

وما في « المسالك » (١) من الاعتراض عليهم بما في محكي « الكتاب » ، وما عن العلاّمة في « التذكرة » في كتاب الغصب : « من أنه لو غصب دينارا فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب ، أو بغير فعله كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ؛ لأنّه السبب في كسرها وإن كان كسره أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ، ضمنه الغاصب ولم يكسر » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وعن « الدروس » في هذه المسألة : « لو أدخل دينارا في محبرته وكانت قيمتها أكثر ولم يمكن كسره ، لم يكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه » (٣). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وظاهر « التذكرة » كما ترى : كسر المحبرة مع تساوي الضّررين ؛ حيث إنّه لم يجوّز الكسر في صورة خاصّة وهي ما لو كان الكسر أكثر ضررا.

وعن « الدروس » في كتاب الغصب أيضا : « لو دخلت زهرة اليقطين في إناء الغير فعظمت اعتبر التفريط ، ومع انتفائه يتلف أقلّهما قيمة ويضمن صاحب الآخر ،

__________________

(١) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام : ج ١٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٢) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ٣٩١ ( تجرّية ) وانظر المبسوط : ج ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥ طبع جماعة المدرسين.

(٣) الدروس الشرعيّة : ج ٣ / ١١٠.


وإن تساويا فالأقرب أن الحاكم يجبرهما فإن تمانعا فالقرعة » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في محكي « جامع المقاصد » في شرح قول العلامة قدس‌سرهما في مسألة المحبرة : [ ولو نقصت قيمة الدينار عن قيمة المحبرة ، وأمكن إخراجه بكسره ، كسر ](٢) ؛ لوجوب ارتكاب أخفّ الضررين عند التعارض ، وهذا إذا لم تكن محبرة الغاصب. ولا يبعد أن يقال : إن الدينار يقبل العلاج والإصلاح بسهولة (٣) ؛ إذ ليس إلاّ تجديد السّكة بخلاف المحبرة ، فيكسر الدينار زادت قيمته أو نقصت. نعم ، لو زاد نقصه على قيمة نقصان المحبرة اتّجه كسرها وضمان الدينار (٤) » (٥). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذه الكلمات كما ترى تشهد بترجيح أقلّ الضررين في الجملة ، واختاره المحقق القمّي قدس‌سره وغير واحد من المتأخرين وهو الحق فيما كانا من سنخ واحد ؛ لأن إلقاء الضّرر الزائد لا وجه له أصلا ، فيتعيّن مراعاته ، كما أنه لا إشكال في تعيين القرعة عند التمانع كما صرّح به فيما عرفت من « الدروس ».

__________________

(١) المصدر السابق بالذات.

(٢) عبارة قواعد العلاّمة أعلى الله تعالى مقامه.

(٣) في الأصل : « بسرعة وسهولة ».

(٤) في الأصل : « ضمان الأرش ».

(٥) جامع المقاصد في شرح القواعد : ج ٦ / ٣٠٦.


وأولى منه : ما لو كان تزاحم الضررين بالنسبة إلى شخص واحد ؛ فإنه أولى بالترجيح بالقلّة والكثرة كما عرفته عن شيخنا قدس‌سره في « الرّسالة ». والوجه فيه ظاهر ، لكن في كل مورد حكمنا بتقديم أحد الضررين بالنسبة إلى شخصين لمكان الترجيح أو الإقراع لا بدّ فيه من الحكم بالضمان بالنسبة إلى الآخر ؛ لما فيه من الجمع بين الحقّين ، ويدلّ عليه الأصل المذكور كما عرفت الإشارة إليه سابقا.

* * *


التنبيه الثالث عشر :

تصرّف المالك في ملكه إذا أضرّ بجاره

الثالث عشر : أنه لو كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره فهل يجوز ولو لم يتضرّر من تركه ، أو لا يجوز إلاّ إذا تضرّر من تركه مطلقا ، أو فيما إذا كان ضرره أكثر فيدخل فيما عرفت من دوران الأمر بين الضّررين بالنسبة إلى شخصين في الأمر السّابق؟

ظاهر كلماتهم عدم ابتناء حكم المقام عليه ، وعن بعض المتأخرين ابتناؤه عليه ، وكلماتهم في المسألة وإن كانت مختلفة في الجملة إلاّ أنّها ينادي بأعلى صوتها بالفرق بين المسألتين ، ولا بدّ أوّلا من بيان وجوه التصرّف في الملك وصوره ، ثم نقل كلماتهم في المسألة ثانيا ، ثم تعقيبه ببيان ما هو المختار في صور المسألة.

صورة المسألة

فنقول : إن تصرّف المالك في ملكه فيما تضرّر جاره به قد يكون مع حاجته إليه بحيث يكون تركه موجبا لتضرّره بفوت الحاجة سواء كان تضرّره مساويا


لتضرّر الجار أو زائدا عليه أو ناقصا عنه ، مع كون الضّررين من سنخ واحد : بأن يكونا ماليّين.

وقد يكون من جهة قصد الانتفاع وتعلّق غرض عقلائي به من دون ترتّب ضرر على فوته غير نفس فوته إن كان ضررا.

وقد يكون عبثا ولغوا بحيث لا يترتّب عليه غرض عقلائي أصلا. وهذا على قسمين ؛ لأنه قد يقصد به مع ذلك تضرّر الجار ؛ لعناد ، وقد لا يقصد ذلك ولا يخطر بباله ، هذه صور المسألة.

كلماتهم في تعارض الضّررين

وأمّا كلماتهم فقال الشيخ رحمه‌الله في محكيّ « المبسوط » في كتاب إحياء الموات : « إن حفر رجل بئرا في داره وأراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر كنيف بقرب هذه البئر لم يمنع منه ، وإن أدّي ذلك إلى تغيير ماء البئر ، أو كان صاحب البئر يستقذر ماء بئره لقربه من الكنيف والبالوعة ؛ لأن له أن يتصرّف في ملكه بلا خلاف » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في محكيّ « التذكرة » في باب حريم الحقوق : « وإن أراد الإنسان أن يحفر في ملكه أو داره وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر لم يمنع من

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ / ٢٧٣ طبعة المكتبة المرتضويّة وج ٣ / ٨٧ طبعة جماعة المدرسين.


ذلك بلا خلاف ، وإن نقص بذلك ماء البئر الأوّلي ؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم » (١).

وقال في مسألة عدم الحريم في الأملاك من كتاب إحياء الموات « تنبيه : جميع ما فصّلناه في حريم الأملاك مفروض فيما إذا كان الملك مخصوصا بالموات ، أو مباحا له من بعض الجوانب. وأما إذا كانت الأرض محفوفة بالأملاك فلا حريم لها ؛ لأن الأملاك متعارضة » (٢).

إلى أن قال :

« وكل من الملاّك يتصرّف في ملكه على العادة كيف شاء ، ولا ضمان إن أفضى إلى تلف ، إلا أن يتعدّى. واختلف كلام الشافعي في أنه لو أعدّ داره المحفوفة بالمساكن حمّاما أو إصطبلا ، أو حانوته في صفّ العطّارين حانوت حدّاد ، أو قصّار على خلاف العادة على قولين : أحدهما : أنه يمنع ، وبه قال أحمد ؛ لما فيه من الضرر ، وأظهرهما عنده الجواز. وهو المعتمد ؛ لأنه مالك للتصرّف في ملكه ، وفي منعه من تعميم التصرفات إضرار به. هذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده ؛ فإن فعل ما يغلب على الظنّ أنّه يؤدّي إلى خلل في حيطان الجار ، فأظهر الوجهين عند الشافعيّة : عدم الجواز. وذلك كأن يدقّ في داره الشيء دقّا

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ٤١٤ ( ط ق ).

(٢) نفس المصدر.


عنيفا يزعج به حيطان الجار ، أو حبس الماء في ملكه بحيث ينشر النداوة إلى حيطان الجار ، فلو اتخذ داره مدبغة أو حانوته مجمرة حيث لا يعتاد ، فإن قلنا لا يمنع في الصورة السابقة فهنا أولى ، وإن قلنا بالمنع فيها يحتمل عدمه ؛ لأن الضرر هنا من حيث التأذّي بالدخان والرائحة الكريهة » (١).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« والأقوى أن لأرباب الأملاك أن يتصرّفوا في أملاكهم كيف شاءوا ، فلو حفر في ملكه بئر بالوعة ففسد ماؤها ماء بئر الجار لم يمنع منه ، ولا ضمان بسببه ، ولكن يكون قد فعل مكروها » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقريب منه ما عن « القواعد » و « السرائر ». وقال الشهيد قدس‌سره في محكيّ « الدروس » في كتاب إحياء الموات : « ولا حريم في الأملاك لتعارضها فلكل أحد أن يتصرّف في ملكه بما جرت العادة به وإن تضرّر صاحبه ولا ضمان » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال في « جامع المقاصد » على ما حكي عنه في شرح كلام المصنف في مسألة تأجيج النار وإرسال الماء في ملكه : « إنّه لمّا كان النّاس مسلّطين على أموالهم كان للإنسان الانتفاع بملكه كيف شاء ، وإذا دعت الحاجة إلى إضرام نار

__________________

(١ و ٢) نفس المصدر.

(١ و ٢) نفس المصدر.

(٣) الدروس الشرعيّة : ج ٣ / ٦٠.


وإرسال ماء جاز فعله وإن غلب على ظنّه التعدّي إلى الإضرار بالغير » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

إلى غير ذلك من كلماتهم المصرّحة بجواز التصرّف في الملك عند الحاجة وإن تضرّر به الجار ، بل عن غير واحد من القدماء دعوى الإجماع عليه ، وقد عرفت : نفي الخلاف عنه عن الشيخ قدس‌سره في « المبسوط » ، ومع ذلك استشكل في محكيّ « الكفاية » ـ بعد الاعتراف : بأنّه المعروف من مذهب الأصحاب (٢) بما في « الكتاب » ـ : من معارضة عموم السلطنة بعموم نفي الضّرر (٣) ، وإن ضعّف الإشكال غير واحد من المتأخرين تبعا « للرياض » (٤) بما حكاه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (٥).

إذا عرفت ذلك فنقول :

أمّا الصّورة الأولى : وهي ما يقصد المالك من التصرّف في ملكه دفع الضرر ، فلا ينبغي الإشكال في جوازها من دون ضمان ، وإن كان ضرر الجار

__________________

(١) جامع المقاصد في شرح القواعد : ج ٦ / ٢١٨.

(٢) أنظر مسالك الأفهام : ج ١٢ / ٤١٦ ، والدروس : ج ٣ / ٦٠ ، والسرائر : ج ٢ / ٣٨٢.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٤١.

(٤) رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل ( ط ق ) وج ١٤ / ١٢١ ط آل البيت وكذا ج ١٢ / ٣٥٩ ط جماعة المدرسين ج ٢ / ٣٢٠.

(٥) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦٩.


اللاّزم منه أكثر ، بل هو المتيقّن من معقد إجماعهم على الجواز ؛ لأنّ منعه عن التصرّف فيها ضرر وحرج ، مضافا إلى ما عرفت : من اقتضاء نفي الإكراه عدم تحمّل الضّرر لدفع الضّرر عن الغير ، وعلى فرض التصادم والتكافؤ لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة السلطنة ، وعلى تقدير الإغماض عنها لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الإباحة في المقام فتدبّر.

فالقاعدة مرجع بعد التعارض لا معارضة لنفي الضّرر ولا راجحة عليه من جهة الشهرة ونقل الإجماع والأصل كما قيل ؛ لما عرفت : من حكومة نفي الضّرر عليها.

ويظهر ممّا ذكرنا : تطرّق المناقشة إلى ما ذكره بعض المتأخّرين : من وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والجار وتقديم الجار على المالك فيما كان ضرره أعظم وأكثر من ضرر الجار ، وما عرفته من المحقّق السبزواري في « الكفاية » وما عرفته تبعا « للرياض » في ردّه ؛ لأن جميع ذلك منحرفة عن طريق السّداد والصّواب.

نعم ، لو لم يكن ضرر الجار من سنخ ضرر المالك ، بل كان من قبيل هلاك النفس المحترمة ممّا يجب على المالك حفظه أيضا ، فلا إشكال في تقديمه على ضرر المالك وهو خارج عن محل كلامهم.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في جواز تصرّف المالك في ملكه فيما تضرّر بتركه وإن تضرّر جاره من غير فرق بين مراتب الضرر ، ولعلّه الوجه ما عن


العلامة قدس‌سره في « التذكرة » : من التفصيل بين تصرّف الإنسان في المباح بإخراج روشن أو جناح ، وبين تصرّفه في ملكه بإخراجهما ؛ حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرّر الغير دون الثاني (١). هذا بعض الكلام في الصورة الأولي.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو قصد المالك من التصرّف في ملكه مجرّد جلب النفع وتوفير الفائدة والتوسعة في حاله ، من دون أن يترتّب على تركه ضرر. فظاهر كلمات الأكثر بل المشهور : الجواز فيها أيضا وهو الحقّ ولا ينافيه التقييد في كلام غير واحد بما جرت العادة عليه ؛ فإن هذا النوع من التصرّف ليس على خلاف العادة ولا خارجا عمّا يعتاده الملاّكون.

نعم ، تعليل الجواز في كلام من عرفت بنفي الضرر ممّا ينافيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حجر المالك عن الانتفاع بملكه في نفسه ضرر فتدبّر.

ويدلّ على ما ذكرنا من الجواز : ما دلّ على نفي الحرج والضيق ؛ ضرورة لزوم الحرج من لزوم ملاحظة عدم تضرّر الجار من الانتفاع بالملك ، فيقع التعارض بينه وبين ما دلّ على نفي الضرر ، فيرجع إلى قاعدة السّلطنة فتصير مرجعا لا مرجّحا ولا معارضا من حيث تأخّر مرتبتها عن مرتبة نفي الضرر فهي كالأصل بالنسبة إليه على ما عرفت.

ثمّ إنّه بعد البناء على الجواز لا إشكال في عدم ترتّب الضمان على التصرّف

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ١٨٢ ( ط ق ).


أيضا كما هو ظاهر قضيّة كلماتهم ؛ لأنّه مقتضى قاعدة السلطنة ، بل الأصل وإن كان ضعيفا من حيث إن الأصل لا يعارض ما يقتضي الضمان من قاعدة الإتلاف كما هو ظاهر.

وأمّا الصّورة الثالثة : وهي ما لو لم يقصد بالتصرّف دفع المضرّة وجلب المنفعة ، فالمستظهر من غير واحد : عدم جوازه وقد صرّح به جماعة واختاره شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الرسالة » ، وإن احتمل الجواز مع الضمان ، وهو الحق ؛ لسلامة دليل نفي الضرر وحرمة الإضرار من المعارضة بنفسه ودليل نفي الحرج ، وقاعدة السلطنة وإن اقتضت جوازها إلاّ أنّها على ما عرفت محكومة بدليل نفي الضرر ، والتقييد بما لا يتعدّى عن العادة في كلماتهم ، أو لا يتجاوز عنها (١) شاهد عليه.

نعم ، لازم من جعل القاعدة معارضة لدليل نفي الضّرر والأصل مرجّحا أو مرجعا بعد تعارضهما هو القول بالجواز في هذه الصورة أيضا كما هو الظاهر من إطلاق غير واحد منهم ، لكنك كما ترى ضعيف قولا ودليلا.

هذه صورة خط المصنّف دامت أيّام إفاضاته هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الجزء مع تشتّت البال وضيق المجال واختلال الأحوال ويتلوه الجزء الثالث والحمد لله على ما أنعم علينا أوّلا وآخرا والصّلاة على نبيّه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين دائما ،

__________________

(١) ـ أي : عن العادة.


ولعنة الله على أعدائهم ومنكري ولايتهم سرمدا أبدا أبديّة السماوات والأرضين وكان الفراغ منه في الثامن عشر من شهر ربيع الثاني من سنة ثمانية وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة عليه آلاف التحية.

وقد نمّقه بيمناه الدّاثرة أقلّ العباد علما وعملا وأكثرهم خطأ وزللا محمّد بن أحمد الخوانساري مولدا والطهراني مسكنا امتثالا لأمر أستاذنا الأجل ومولانا الأكرم أعلم العلماء العاملين وأفقه الفقهاء والمجتهدين حجة الإسلام والمسلمين الذي انتهت إليه رئاسة الإمامية في عصره وفاق فضله فضل العلماء في أوانه سيّدنا (١) المؤتمن الحاج ميرزا محمّد حسن الآشتياني مولدا ، والغروي منشأ ، والطهراني مسكنا أدام الله أيّام إفاداته وإفاضاته وضاعفه أجره ومثوباته.

وقوبل مع كمال الجهد في تصحيحه وطوبق مع أصله مع تمام بذل السّعي في تطبيقه وأرجو من الله أن ينفعني وسائر المشتغلين به ، وأن يمتّعني وجميع المسلمين بنعمة وجوده وطول بقائه بجاه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيرته من آله ، وكان ذلك في يوم

__________________

(١) والتعبير الصحيح : « شيخنا » بدل « سيّدنا » لأن المنصرف من هذه اللفظة ـ عند جمهور الإيرانيين من الإماميّة ـ من كان منتسبا إلى رسول الله وأهل بيته عليهما‌السلام من طريق أبيه في عموده النسبي دون من انتسب اليه من طريق الأم خاصة ، قال الله عزّ وجلّ ( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ) [ الأحزاب : ٥ ].

كما في مرسلة حماد المعروفة الواردة في أصول الكافي ج ١ : باب ١٣ ـ الفىء والأنفال ـ ح ٤ ـ. والكلام فيها طويل الذيل ليس هاهنا محلّه موعدنا فيه كتاب الخمس إن شاء الله تعالى.


السابع عشر من شهر جمادى الأولى في شهور سنة الخامس عشر وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة در دار الطباعة آقا سيّد مرتضى بمباشرة الأستاذ الماهر آقا ميرزا حسن اتمام يافت ١٣١٥ ه‍ (١).

انتهى الجزء الخامس من بحر الفوائد بحسب تجزئتنا للكتاب ويليه الجزء السادس أوله : المقام الثاني : في الإستصحاب.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

* * *

__________________

( * ) وقد وقع الفراغ من تحقيق هذا المجلّد ومراجعة مصادره وضبط نصوصه بتاريخ ٢ ربيع المولود من سنة ١٤٢٩ ه‍ وأعدنا فيه النظر وأضفنا إليه تعاليق جمهرة من أعلام الأصوليين على فرائد الشيخ الأعظم وكان الفراغ من النظرة النهائية على هذا الكتاب الشريف بتعجيل مجهد من الناشر سحر ليلة الجمعة ١٣ من شهر الله الأكبر سنة ١٤٣٠ ه‍ على يد الأقل السيّد محمّد حسن الموسوي العبّاداني آل العلاّمة الفقيه السيّد علي القارون الزاهد البحراني عفى الله عن جرائمه وجعل عاقبة أمره إلى خير حامدا مصلّيا على النّبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاعنا لأعدائهم وأشياع أعدائهم من الجنّة والنّاس أجمعين داعيا بتعجيل فرج مولانا ومولى العالمين السلطان الأكبر واسم الله الأعظم ناموس الدهر الحجة من آل محمّد أرواحنا لتراب مقدمه الفداء وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


الفهرس التفصيلي

الأبحاث المطروحة في هذا الفصل................................................ ٥

القسم الثاني من اشتباه الواجب بغير الحرام....................................... ٧

الأقلّ والأكثر في دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر............................. ١٠

القسم الأوّل : الشك في الجزء الخارجي........................................ ١٣

بيان حكم الأقلّ والأكثر والآراء فيه........................................... ١٥

وجوه الحكم بالإشتغال في الأقلّ والأكثر....................................... ١٦

إشارة إلى ضعف الوجوه المزبورة.............................................. ٢٤

في بيان القول المختار ومستنده................................................ ٣٩

في إبداء الفرق بين أوامر المقام وأوامر الأطباء................................... ٤٣

مناقشة ما أفاده المصنّف قدس‌سره.................................................. ٥٧

المثال المذكور في الكتاب للكليّة لا يخلو عن مناقشة.............................. ٦٦

توضيح ضعف التمسّك بأصالة العدم.......................................... ٧٠


توضيح الوجه الأوّل في الجواب عن الاستصحاب................................ ٧٨

أما الوجه الثاني حكومة اصالة البراءة على استصحاب الإشتغال في المقام............ ٨٢

جواب آخر عن الوجه المذكور................................................ ٨٩

وجه تأمّل المصنّف في الدليل العقلي على البراءة................................. ٩١

في امكان اجراء البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر............................... ٩٤

نقل كلام صاحب الفصول قدس‌سره............................................... ٩٧

نقل كلام آخر له في الأدلّة العقليّة........................................... ١٠٢

في التعرّض لما اعترضه المصنّف على الكلام المذكور............................ ١٠٦

لا معنى لحكومة قاعدة الإشتغال على اخبار البراءة............................. ١٠٧

الوجه الثاني : لا معنى للملازمة المزبورة....................................... ١١٥

الوجه الثالث : تمسّكه بالأخبار لنفي الحكم الوضعي أشدّ ضعفا من تمسّكه بها لنفي الحكم التكليفي ١١٧

محلّ النزاع في مسئلة مقدمة الواجب.......................................... ١٢٢

أصالة عدم الجزئيّة لا تنفع في المقام........................................... ١٢٧

المسألة الثانية : الشك في الجزئية من جهة إجمال الدليل......................... ١٣٦

في ان لازم قول الصحيحي الإجمال الذاتي وقول الأعمّي البيان الذاتي............. ١٣٧


إشكال آخر............................................................... ١٣٨

دفع الإشكال.............................................................. ١٣٩

في فساد ما ذكروه من ترتب الثمرة على القولين.............................. ١٤٨

شرائط التمسّك بالإطلاق.................................................. ١٥٣

« توهّمان ».............................................................. ١٥٧

المسألة الثالثة :.............................................................. ١٦٣

الشك في الجزئية من جهة تعارض النصّين .................................... ١٦٣

بيان تحكيم أخبار التخيير على أصالتي الإطلاق والعموم........................ ١٦٧

المسألة الرابعة : الشك في الجزئية من جهة اشتباه الموضوع...................... ١٧٣

مناقشة المثالين المذكورين في الكتاب للشبهة الموضوعيّة......................... ١٧٤

القسم الثاني : الشك في القيد................................................ ١٧٩

وجه إلحاق دوران الأمر بين التخيير والتعيين بالأقلّ والأكثر.................... ١٨١

المرجع عند الشك في القاطعيّة هو الإستصحاب مطلقا.......................... ١٨٥

الشرط قسمان............................................................ ١٨٩

القسم الأوّل لا يكون معلولا للخطاب النفسي................................ ١٩١

القسم الثاني من الشرط المستفاد من النهي النفسي وما يتفرّع عليه............... ١٩٤


تنبيهات الأقل والأكثر...................................................... ١٩٩

تنبيهات دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر...................................... ٢٠١

التنبيه الأوّل : الشك في الركنيّة.............................................. ٢٠٣

معنى الركن والمراد منه...................................................... ٢٠٦

المسألة الأولى في ترك الجزء سهوا............................................. ٢٠٨

عدم إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي........................................ ٢١٢

إشارة إلى أمّهات مطالب بحث الإجزاء....................................... ٢١٤

بيان المرفوع في حديث الرفع................................................ ٢٣٠

المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا........................................... ٢٣٥

في كيفيّة اعتبار الأجزاء في المركّب المأمور به.................................. ٢٣٦

فساد التمسّك باستصحاب صحّة الأجزاء السابقة عند الشك................... ٢٤١

في الفرق بين القاطعيّة والمانعيّة............................................... ٢٤٧

بيان محتملات قوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ )............................ ٢٥٤

مبنى الجواب عن حرمة الإبطال والمناقشة فيه.................................. ٢٥٩

المسألة الثالثة : في ذكر الزيادة سهوا.......................................... ٢٦٣

بيان حكم المسائل الثلاث من الأخبار الواردة في المقام.......................... ٢٦٤


التنبيه الثاني : هل يسقط التكليف بالكل أو المشروط إذا تعذّر الجزء أو الشرط؟. ٢٧٦

دوران الأمر بين الشرطيّة المطلقة وغيرها وكذا الجزئيّة......................... ٢٧٧

رواية عبد الاعلى والمناقشة في الإستشهاد بها.................................. ٢٨٩

نقل كلام الفصول وما يرد عليه............................................. ٢٩١

نقل كلام صاحب الرّياض وما يرد عليه...................................... ٣٠٣

لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط..................................... ٣٠٩

التنبيه الثالث : في دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة........................... ٣١١

التنبيه الرّابع : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة............................... ٣١٣

الوجوه المحتملة عند دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة......................... ٣١٥

المطلب الثالث : دوران الأمر بين الواجب والحرام............................. ٣٢٣

* المطلب الثالث : دوران الأمر بين الواجب والحرام........................... ٣٢٥

خاتمة في شرائط العمل بالأصول وفيها مقامان :................................ ٣٢٧

فيما يعتبر في العمل بالأصل................................................. ٣٢٩

المقام الأوّل : فيما يعتبر في العمل بالإحتياط................................... ٣٣١

حكم المحتاط التارك لطريقي الإجتهاد والتقليد................................. ٣٣٤


المقام الثاني : فيما يعتبر في العمل بالبراءة...................................... ٣٤٣

عدم إعتبار الفحص في الشبهات الموضوعيّة ووجوبه في الشبهات الحكميّة........ ٣٤٩

في الإشارة إلى كيفيّة اعتبار العلم وحجّيّته.................................... ٣٦٤

نقل كلمات المقدّس الأردبيلي وصاحب المدارك قدس‌سرهما في مسألة العلم............. ٣٦٩

الحكومة بين رأي المشهور ومختار الأردبيلي ومن تبعه........................... ٣٧٥

ثبوت الحكم التكليفي في نفس الأمر غير منوط بالعلم به....................... ٣٧٥

مانعيّة شيء للعبادة أو شرطيّة عدمه لها....................................... ٣٧٨

العلم بالحكم الشرعي ليس مقدّمة للوجوب ولا شرطا له....................... ٣٨٣

جملة من أحكام مقدّمة الواجب.............................................. ٣٨٦

حكم المعاملات وافتراقها عن العبادات فيما تقدّم.............................. ٣٩٦

نقل كلام الفاضل النراقي وبيان المراد منه..................................... ٤٠١

كلام آخر للفاضل النراقي في مسألة تبدّل رأي المجتهد.......................... ٤٠٦

مناقشة كلام الفاضل النراقي قدس‌سره............................................ ٤١١

تنبيهات ضمن الفصل السابق................................................ ٤٢٥

التنبيه الأوّل : هل العبرة في عقاب الجاهل بمخالفة الواقع أو الطريق؟............ ٤٢٦

الوجوه الأربعة في المسألة وإلحاق خامس بها................................... ٤٢٧


التنبيه الثاني : معذوريّة الجاهل بالقصر والإتمام والجهر والإخفات................ ٤٣٣

عمل الجاهل إذا خالف الواقع............................................... ٤٣٣

تقرير الإشكال على الحكم بالمعذوريّة........................................ ٤٣٩

وجوه في دفع الإشكال..................................................... ٤٤٠

كلام المحقّق الكركي والشيخ الأكبر وصهره في تصحيح أمر الضد............... ٤٥٣

توضيح دفع ما أفادوه من التّرتّب القصدي.................................... ٤٦١

التنبيه الثالث : عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة............. ٤٦٨

الكلام في مقدار الفحص اللاّزم............................................. ٤٧٧

تذنيب : كلام الفاضل التوني في شروط الرجوع إلى البراءة..................... ٤٨٢

قاعدة لا ضرر ولا ضرار..................................................... ٥٠٧

شرح القول في قاعدة نفي الضرر............................................ ٥١١

في تواتر أخبار القاعدة وعدمه............................................... ٥١٩

إشارة إلى أخبار الباب...................................................... ٥٢١

بيان معنى الضّرر والضّرار................................................... ٥٢٥

الاحتمالات المتطرّقة في الحديث ثلاثة........................................ ٥٢٨

تنبيهات................................................................... ٥٤٠


القاعدة حاكمة على العمومات المثبتة للتكليف................................ ٥٤٠

التنبيه الثاني : تمسّك الفقهاء بالأدلّة الضرريّة.................................. ٥٥٠

التنبيه الثالث : المنفي هو الضّرر الشخصي................................... ٥٥٣

التنبيه الرابع : لا فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها بالنسبة إلى مفاد الأصل المزبور ٥٥٤

التنبيه الخامس : المنفي بالأصل المذكور هو الحكم الضّرري..................... ٥٥٨

التنبيه السادس : الأحكام المجعولة في الاسلام ليست ضرريّة..................... ٥٥٩

التنبيه السابع : عدم الفرق بين كون وجود الموضوع للحكم الضّرري اختياريا أو غيره ٥٦٠

التنبيه الثامن : النسبة بين قاعدة نفي الحرج وقاعدة نفي الضرر................. ٥٦٢

التنبيه التاسع : الضّرر المنفي أعمّ من ضرر النفس والعرض والمال................ ٥٦٤

التنبيه العاشر.............................................................. ٥٦٥

التنبيه الحادي عشر : لا ضمان فيما جاز الإضرار بالغير من جهة الإكراه......... ٥٦٧

التنبيه الثاني عشر : لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين.......................... ٥٦٨

التنبيه الثالث عشر : تصرّف المالك في ملكه إذا أضرّ بجاره..................... ٥٧٣

صورة المسألة.............................................................. ٥٧٣

كلماتهم في تعارض الضّررين................................................ ٥٧٤


الفهرس التفصيلي.......................................................... ٥٨٣

بحرالفوائد في شرح الفرائد - ٥

المؤلف:
الصفحات: 591