
٥ ـ باب
احتجاج أمير المؤمنين عليهالسلام
على أبي بكر وغيره في أمر
البيعة
١
ـ ل : القطان ، عن
محمد بن عبد الرحمن بن محمد الحسني ، عن محمد بن حفص الخثعمي ، عن الحسن بن عبد
الواحد ، عن أحمد بن محمد الثعلبي ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن حفص بن منصور ، عن
أبي سعيد الوراق ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ـ عليهمالسلام قال :
لما كان من أمر
أبي بكر ـ وبيعة الناس له ، وفعلهم بعلي بن أبي طالب عليهالسلام ـ ما كان ، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه
انقباضا ، فكبر
__________________
ذلك على أبي بكر ،
فأحب لقاءه واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه مما اجتمع الناس عليه
، وتقليدهم إياه أمر الأمة وقلة رغبته في ذلك وزهده فيه.
أتاه في وقت غفلة
وطلب منه الخلوة ، وقال له : والله يا أبا الحسن ما كان هذا الأمر مواطاة مني ،
ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصا عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة ، ولا
قوة لي بمال ، ولا كثرة العشيرة ، ولا استئثار به دون غيري ، فما
لك تضمر علي ما لم أستحقه منك ، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه ، وتنظر إلي بعين
السآمة مني؟!
قال : فقال له عليهالسلام : فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام
به وبما يحتاج منك فيه؟!
فقال أبو بكر :
حديث سمعته من رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : إن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، ولما رأيت
اجتماعهم اتبعت حديث النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى ، فأعطيتهم قود الإجابة ،
ولو علمت أن أحدا يتخلف لامتنعت!
قال : فقال علي عليهالسلام : أما ما ذكرت من حديث النبي صلىاللهعليهوآله : أن الله لا يجمع أمتي على ضلال ، أفكنت من الأمة أو لم
أكن؟!
قال : بلى.
قال : وكذلك
العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد
__________________
وابن عبادة ومن
معه من الأنصار؟
قال : كل من
الأمة.
فقال علي عليهالسلام : فكيف تحتج بحديث النبي صلىاللهعليهوآله وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك ، وليس للأمة فيهم طعن ، ولا
في صحبة الرسول ونصيحته منهم تقصير؟!
قال : ما علمت
بتخلفهم إلا من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن دفعت عني الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع
الناس مرتدين عن الدين ، وكان ممارستكم إلى أن أجبتم أهون مؤنة على الدين وأبقى له
من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعوا كفارا ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم
وعلى أديانهم!.
قال علي عليهالسلام : أجل ، ولكن أخبرني عن الذي يستحق هذا الأمر ، بما يستحقه؟
فقال أبو بكر :
بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة ، والمحاباة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنة
وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، وإنصاف المظلوم من الظالم
للقريب والبعيد .. ثم سكت.
فقال علي عليهالسلام : والسابقة والقرابة؟!
فقال أبو بكر :
والسابقة والقرابة.
قال : فقال علي عليهالسلام : أنشدك بالله يا أبا بكر أفي نفسك تجد
__________________
هذه الخصال ، أو
في؟!
قال أبو بكر : بل فيك يا أبا
الحسن.
قال : أنشدك بالله
أنا المجيب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل ذكران المسلمين ، أم أنت ؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الأذان لأهل الموسم ولجميع الأمة بسورة براءة ، أم أنت ؟!
__________________
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا وقيت رسول الله بنفسي يوم الغار ، أم أنت ؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك بالله ألي الولاية من الله
مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم ، أم لك ؟
__________________
قال : بل لك.
قال : فأنشدك بالله أنا المولى
لك ولكل مسلم بحديث النبي صلىاللهعليهوآله يوم الغدير ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك بالله ألي الوزارة من رسول
الله صلىاللهعليهوآله والمثل من هارون وموسى ، أم لك ؟
قال : بل لك.
قال : فأنشدك
بالله أبي برز رسول الله صلىاللهعليهوآله وبأهل بيتي
__________________
وولدي في مباهلة
المشركين من النصارى ، أم بك وبأهلك وولدك ؟
قال : بكم.
قال : فأنشدك
بالله ألي ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس ، أم لك ولأهل بيتك؟
قال : بل لك ولأهل
بيتك.
قال : فأنشدك
بالله أنا صاحب دعوة رسول الله صلىاللهعليهوآله وأهلي وولدي يوم الكساء : اللهم هؤلاء أهلي إليك لا إلى
النار ، أم أنت؟
قال : بل أنت
وأهلك وولدك.
قال : فأنشدك
بالله أنا صاحب الآية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الفتى الذي نودي من السماء : لا سيف إلا ذو
__________________
الفقار ولا فتى
إلا علي ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي ردت له الشمس لوقت صلاته فصلاها ثم توارت ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي حباك رسول الله صلىاللهعليهوآله برايته يوم خيبر ففتح الله له ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي نفست عن رسول الله صلىاللهعليهوآله كربته
__________________
وعن المسلمين بقتل
عمرو بن عبد ود ، أو أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي ائتمنك رسول الله صلىاللهعليهوآله على رسالته إلى الجن فأجابت ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي طهرك رسول الله صلىاللهعليهوآله من السفاح من آدم إلى أبيك بقوله صلىاللهعليهوآله : أنا وأنت من نكاح لا من سفاح ، من آدم إلى عبد المطلب ، أم أنا ؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الذي اختارني رسول الله صلىاللهعليهوآله وزوجني ابنته فاطمة عليهاالسلام وقال : الله زوجك ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا والد الحسن والحسين ريحانتيه اللذين قال فيهما : هذان سيدا
__________________
شباب أهل الجنة وأبوهما خير
منهما ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أخوك المزين بجناحين في الجنة يطير بهما مع الملائكة ، أم أخي؟
قال : بل أخوك.
قال : فأنشدك
بالله أنا ضمنت دين رسول الله صلىاللهعليهوآله وناديت في المواسم بإنجاز موعده ، أم أنت؟! قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الذي دعاه رسول الله صلىاللهعليهوآله لطير عنده يريد أكله ، فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
بعدي ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الذي بشرني رسول الله صلىاللهعليهوآله بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين على تأويل القرآن ، أم أنت؟
__________________
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الذي شهدت آخر كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله ووليت غسله ودفنه ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنا الذي دل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله بعلم القضاء بقوله : « علي أقضاكم » ، أم أنت؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك الله أنا الذي أمر لي رسول الله صلىاللهعليهوآله أصحابه بالسلام علي بالإمرة في حياته ، أم أنت؟
__________________
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أم أنا؟.
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي حباك الله عز وجل بدينار عند حاجته ، وباعك جبرئيل عليهالسلام ، وأضفت محمدا صلىاللهعليهوآله ، وأضفت ولده أم أنا ؟
قال : فبكى أبو
بكر! [ و ] قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي حملك رسول الله صلىاللهعليهوآله على كتفه في طرح صنم الكعبة وكسره حتى لو شاء أن ينال أفق السماء
لنالها ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنت صاحب لوائي في الدنيا والآخرة ، أم أنا؟
__________________
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله بفتح بابه في مسجده حين أمر بسد جميع بابه ـ [ أبواب
أصحابه وأهل بيته ] ـ وأحل له فيه ما أحله الله له ، أم أنا؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي قدم بين يدي نجواه لرسول الله صلىاللهعليهوآله صدقة فناجاه ، أم أنا ـ إذ عاتب الله عز وجل قوما فقال : ( أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) الآية ـ؟
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي قال فيه رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ لفاطمة :
__________________
زوجك أول الناس
إيمانا وأرجحهم إسلاما. في كلام له ، أم أنا؟ .
قال : بل أنت.
قال : فأنشدك
بالله أنت الذي قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : الحق مع علي وعلي مع الحق ، لا يفترقان حتى يردا علي
الحوض ، أم أنا؟
قال : بل أنت .
قال : .. فلم يزل عليهالسلام يعد عليه مناقبه التي جعل الله عز وجل له دونه ودون غيره.
ويقول له أبو بكر
: بل أنت.
قال : فبهذا وشبهه
يستحق القيام بأمور أمة محمد صلىاللهعليهوآله.
فقال له علي عليهالسلام : فما الذي غرك عن الله وعن رسوله وعن دينه وأنت
__________________
خلو مما يحتاج
إليه أهل دينه؟
قال : فبكى أبو
بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني يومي هذا فأدبر ما أنا فيه وما سمعت منك.
قال : فقال له علي
عليهالسلام : لك ذلك يا أبا بكر.
فرجع من عنده وخلا
بنفسه يومه ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي
عليهالسلام.
فبات في ليلته ،
فرأى رسول الله صلىاللهعليهوآله في منامه ممثلا له في مجلسه ، فقام إليه أبو بكر ليسلم عليه ، فولى وجهه ،
فصار مقابل وجهه ، فسلم عليه فولى عنه وجهه .
فقال أبو بكر : يا
رسول الله! هل أمرت بأمر فلم أفعل؟
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أرد السلام عليك وقد عاديت الله ورسوله وعاديت من والاه الله ورسوله! رد
الحق إلى أهله.
قال : فقلت : من
أهله؟
قال : من عاتبك
عليه ، وهو علي.
قال : فقد رددت
عليه يا رسول الله بأمرك.
قال : فأصبح وبكى
، وقال لعلي عليهالسلام : ابسط يدك ، فبايعه وسلم إليه الأمر.
وقال له : أخرج
إلى مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأخبر الناس بما رأيت في ليلتي وما جرى بيني وبينك ،
فأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلم عليك
__________________
بالإمرة؟
قال : فقال علي عليهالسلام : نعم.
فخرج من عنده
متغيرا لونه عاليا نفسه ، فصادفه عمر وهو في طلبه.
فقال : ما حالك يا
خليفة رسول الله ..؟
فأخبره بما كان
منه وما رأى وما جرى بينه وبين علي عليهالسلام.
فقال عمر : أنشدك
بالله يا خليفة رسول الله أن تغتر بسحر بني هاشم! فليس هذا بأول سحر منهم ..
فما زال به حتى
رده عن رأيه وصرفه عن عزمه ، ورغبه فيما هو فيه ، وأمره بالثبات [ عليه ] والقيام به.
قال : فأتى علي عليهالسلام المسجد للميعاد ، فلم ير فيه منهم أحدا ، فأحس بالشر منهم ،
فقعد إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فمر به عمر فقال : يا علي دون ما تروم خرط القتاد ، فعلم
بالأمر وقام ورجع إلى بيته.
٢
ـ ج : وروى مرسلا
مثله.
بيان
: قوله : ولا ابتزاز ..
الابتزاز : الاستلاب والأخذ بالغلبة .
وفي بعض النسخ :
ولا استيثار به ، يقال : استأثر فلان بالشيء : أي
__________________
استبد به .
قوله : بعين
السآمة مني .. في الإحتجاج قوله : بعين الشتاءة لي .. ، أي : العداوة.
والقتاد : شجر له
شوك كثير ، وخرطه : هو أن تمر يدك من أعلاه إلى أسفله حتى ينتشر
شوكه ، وهذا مثل يضرب للأمر الشاق .
٣
ـ فس : أحمد بن إدريس
، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن ابن العباس بن الجريش ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام ـ بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله في المسجد والناس مجتمعون ـ بصوت عال : ( الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) .
__________________
فقال ابن عباس : يا
أبا الحسن لم قلت ما قلت؟!
قال : قرأت شيئا
من القرآن.
قال : لقد قلته
لأمر؟
قال : نعم ، إن
الله يقول في كتابه : ( وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، فتشهد على رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه استخلف أبا بكر ؟
قال : ما سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآله أوصى إلا إليك.
قال : فهلا
بايعتني؟! قال : اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : كما اجتمع أهل العجل على العجل ، هاهنا فتنتم ، ومثلكم ( كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ ) .
٤
ـ ير : محمد بن عيسى ،
عن ابن أبي عمير وعلي بن الحكم ، عن الحكم بن مسكين ، عن أبي عمارة ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام.
__________________
وعثمان بن عيسى ،
عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : أن أمير المؤمنين عليهالسلام لقي أبا بكر ، فاحتج عليه.
ثم قال له : أما
ترضى برسول الله صلىاللهعليهوآله بيني وبينك؟!
قال : وكيف لي به؟
فأخذ بيده وأتى
مسجد قبا ، فإذا رسول الله صلىاللهعليهوآله فيه ، فقضى على أبي بكر.
فرجع أبو بكر
مذعورا ، فلقي عمر فأخبره ، فقال : ما لك؟! أما علمت سحر بني
هاشم.
٥
ـ يج : سعد ، عن محمد
بن عيسى ، مثله.
٦
، ٧ ـ ختص ، ير : بعض أصحابنا ، عن محمد بن حماد ،
__________________
عن أخيه أحمد ، عن أحمد بن
موسى ، عن زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : لقي أمير المؤمنين عليهالسلام أبا بكر في بعض سكك المدينة.
فقال : ظلمت وفعلت.
فقال : ومن يعلم ذلك؟
قال : يعلمه رسول
الله صلىاللهعليهوآله.
قال : وكيف لي
برسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ حتى يعلمني ذلك؟ لو أتاني في المنام فأخبرني لقبلت ذلك.
قال علي عليهالسلام : فأنا أدخلك على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، [ فأدخله ] مسجد قبا ، فإذا برسول الله صلىاللهعليهوآله في مسجد قبا.
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوآله : اعتزل عن ظلم أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ.
فخرج من عنده ، فلقيه
عمر ، فأخبره بذلك ، فقال له : اسكت!
__________________
أما عرفت سحر بني عبد
المطلب ...
٨
ـ ير : الحجال ، عن
اللؤلؤي ، عن ابن سنان ، عن البطائني ، عن عمران الحلبي ، عن أبان
بن تغلب ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن عليا عليهالسلام لقي أبا بكر.
فقال : يا أبا بكر
ما تعلم أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أمرك أن تسلم علي بإمرة المؤمنين ، وأمرك باتباعي؟
قال : فأقبل يتوهم
عليه.
فقال له : اجعل
بيني وبينك حكما.
قال : قد رضيت
فاجعل من شئت.
قال : أجعل بيني
وبينك رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قال : فاغتنمها
الآخر وقال : قد رضيت.
قال : فأخذ بيده
فذهب إلى مسجد قبا.
قال : فإذا رسول
الله صلىاللهعليهوآله قاعد في موضع المحراب.
فقال له : هذا
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يا أبا بكر.
فقال رسول الله :
يا أبا بكر! ألم آمرك بالتسليم لعلي واتباعه؟
قال : بلى يا رسول
الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ.
__________________
قال : فادفع الأمر إليه.
قال : نعم يا رسول
الله.
فجاء وليس همته إلا ذلك ،
وهو كئيب.
قال : فلقي عمر ،
قال : ما لك يا أبا بكر؟
قال : لقيت رسول
الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ وأمرني بدفع هذه الأمور إلى علي.
فقال : أما تعرف
سحر بني هاشم؟ هذا سحر.
قال : فقلب الأمر على ما
كان.
٩
ـ يج : عن الصفار ،
مثله.
بيان : يتوهم عليه
.. أي : يلقي الشكوك ويدفع حججه عليهالسلام بالأوهام ، وفي الخرائج : يتشكك عليه .
١٠
ـ ير : أحمد بن محمد ،
عن بعض أصحابنا ، عن القاسم بن محمد عن إسحاق بن إبراهيم ، عن هارون ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام لأبي بكر : هل أجعل بيني وبينك رسول الله صلى
__________________
الله عليه وآله؟
فقال : نعم.
فخرجا إلى مسجد
قبا ، فصلى أمير المؤمنين عليهالسلام ركعتين ، فإذا هو برسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال : يا أبا بكر على
هذا عاهدتك ، فصرت به؟!
فرجع وهو يقول : والله
لا أجلس هذا المجلس.
فلقي عمر ، فقال : ما لك ؟
قال : قد والله
ذهب بي فأراني رسول الله.
فقال عمر : أما تذكر
يوما كنا معه ، فأمر شجرتين فالتقتا ، فقضى حاجته خلفهما ، ثم أمرهما فتفرقتا ؟
قال أبو بكر : أما
إذا قلت ذا ، فإني دخلت أنا وهو في الغار فقال بيده فمسحها عليه فعاد ينسج
العنكبوت كما كان ، ثم قال : ألا أريك جعفرا وأصحابه تعوم بهم سفينتهم في البحر؟ قلت : بلى ، قال : فمسح يده على وجهي ،
فرأيت جعفرا وأصحابه تعوم بهم سفينتهم في البحر ، فيومئذ عرفت أنه
__________________
ساحر ، فرجع إلى
مكانه.
١١
، ١٢ ـ ختص ، ير : عباد بن سليمان ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه سليمان ، عن عيثم بن أسلم ، عن
معاوية الدهني قال : دخل أبو بكر على علي عليهالسلام فقال له : إن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ ما تحدث إلينا في أمرك حديثا بعد يوم الولاية ، وأنا أشهد أنك مولاي ، مقر لك بذلك ، وقد سلمت عليك على عهد
رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله بإمرة المؤمنين ، وأخبرنا رسول الله : أنك وصيه ووارثه
وخليفته في أهله ونسائه ، ولم يحل بينك وبين ذلك ، وصار ميراث رسول الله صلىاللهعليهوآله إليك وأمر نسائه ، ولم يخبرنا بأنك خليفته من بعده ، ولا جرم لنا في ذلك فيما
بيننا
__________________
وبينك ، ولا ذنب بيننا وبينك وبين الله تعالى .
قال : فقال علي عليهالسلام : إن أريتك رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ حتى يخبرك أني أولى بالأمر الذي أنت فيه منك ومن غيرك وإن لم ترجع عما أنت فيه فتكون
كافرا.
قال أبو بكر : إن رأيت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى يخبرني ببعض هذا لاكتفيت به .
قال : فوافني إذا صليت المغرب .
قال : فرجع إليه بعد المغرب ،
فأخذ بيده وخرج به إلى مسجد قبا ، فإذا رسول الله صلىاللهعليهوآله جالس في القبلة.
__________________
فقال : يا عتيق وثبت على علي ـ عليهالسلام ـ وجلست مجلس النبوة ، وقد تقدمت إليك في ذلك ، فانزع هذا
السربال الذي تسربلته ، فخله لعلي وإلا فموعدك النار.
قال : ثم أخذ
بيديه فأخرجه ، فقام النبي صلىاللهعليهوآله ومشى عنهما.
قال فانطلق أمير المؤمنين عليهالسلام إلى سلمان فقال : يا سلمان أما علمت أنه كان من الأمر كذا وكذا.
فقال : ليشهرن بك ، وليأتين صاحبه ، وليخبرنه
بالخبر.
قال : فضحك أمير
المؤمنين عليهالسلام وقال : إما أن يخبر صاحبه
__________________
فيفعل ثم لا والله لا
يذكر أبدا إلى يوم القيامة ، هما أنظر لأنفسهما من ذلك.
قال : فلقي أبو بكر
عمر ، فقال له : أراني علي .. كذا وكذا ، وصنع كذا وكذا .
فقال له عمر :
ويلك ما أقل عقلك ، فو الله ما أنت فيه الساعة ليس إلا من بعض سحر ابن أبي كبشة ، قد نسيت سحر
بني هاشم ، ومن أين يرجع محمد؟ ولا يرجع من مات ، إن ما أنت فيه أعظم من سحر بني
هاشم ، فتقلد هذا السربال ومر فيه .
__________________
١٣
ـ يج : عن الصفار ،
مثله.
١٤
ـ ير : أحمد بن إسحاق
، عن الحسن بن عباس بن جريش ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : سأل أبا عبد الله عليهالسلام رجل من أهل بيته عن سورة ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ).
فقال : ويلك! سألت
عن عظيم ، إياك والسؤال عن مثل هذا ، فقام الرجل.
قال : فأتيته يوما
، فأقبلت عليه فسألته ، فقال : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ ) نور عند الأنبياء
والأوصياء ، لا يريدون حاجة من السماء ولا من الأرض إلا ذكروها لذلك النور فأتاهم
بها.
وإن مما ذكر علي بن
أبي طالب عليهالسلام له من الحوائج : أنه قال لأبي بكر يوما ( لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ) ... :فأشهد أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مات شهيدا ، فإياك أن تقول : إنه ميت ، والله ليأتينك ،
فاتق الله إذا جاءك الشيطان غير متمثل به.
فعجب به أبو بكر
فقال : إن جاءني والله أطعته وخرجت مما أنا فيه.
قال : فذكر أمير
المؤمنين لذلك النور ، فعرج إلى أرواح النبيين ، فإذا محمد
__________________
صلىاللهعليهوآله قد ألبس وجهه ذلك النور ، وأتى وهو يقول : يا أبا بكر آمن
بعلي وبأحد عشر من ولده ، إنهم مثلي إلا النبوة ، وتب إلى الله برد ما في يديك
إليهم ، فإنه لا حق لك فيه.
قال : ثم ذهب فلم
ير.
فقال أبو بكر :
أجمع الناس فأخطبهم بما رأيت ، وأبرأ إلى الله مما أنا فيه إليك يا علي ، على أن
تؤمنني؟
قال : ما أنت
بفاعل ، ولو لا أنك تنسى ما رأيت لفعلت.
قال : فانطلق أبو
بكر إلى عمر ، ورجع نور ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ ) إلى علي ، فقال
له : قد اجتمع أبو بكر مع عمر.
فقلت : أوعلم
النور؟
قال : إن له لسانا
ناطقا وبصرا نافذا يتجسس الأخبار للأوصياء عليهمالسلام ، ويستمع الأسرار ، ويأتيهم بتفسير كل أمر يكتتم به
أعداؤهم.
فلما أخبر أبو بكر
الخبر عمر ، قال : سحرك ، وإنها لفي بني هاشم لقديمة.
قال : ثم قاما
يخبران الناس ، فما دريا ما يقولان.
قلت : لما ذا؟
قال : لأنهما قد
نسياه.
وجاء النور فأخبر
عليا عليهالسلام خبرهما ، فقال : بعدا لهما ( كَما بَعِدَتْ
ثَمُودُ ).
بيان
: لعل المراد بنور ( إِنَّا
أَنْزَلْناهُ ) : الروح المذكور في تلك السورة الكريمة.
١٥
ـ يج : روي عن سلمان :
أن عليا عليهالسلام بلغه عن عمر ذكر
__________________
شيعته ، فاستقبله في
بعض طرقات بساتين المدينة ، وفي يد علي عليهالسلام قوس عربية.
فقال : يا عمر ، بلغني
عنك ذكرك لشيعتي .
فقال : اربع على
ظلعك.
فقال عليهالسلام : إنك لهاهنا ، ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان
كالبعير فاغر فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه.
فصاح عمر : الله
الله يا أبا الحسن ، لا عدت بعدها في شيء ، وجعل يتضرع إليه ، فضرب يده إلى الثعبان
، فعادت القوس كما كانت ، فمر عمر إلى بيته مرعوبا.
قال سلمان : فلما
كان في الليل دعاني علي عليهالسلام فقال : صر إلى عمر ، فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق
ولم يعلم به أحد ، وقد عزم أن يحتبسه ، فقل له : يقول لك علي : أخرج إليك مال من
ناحية المشرق ، ففرقه على من
__________________
جعل لهم ، ولا
تحبسه فأفضحك.
قال سلمان : فأديت
إليه الرسالة.
فقال : حيرني أمر
صاحبك ، من أين علم به ؟
فقلت : وهل يخفى
عليه مثل هذا؟
فقال لسلمان :
اقبل مني أقول لك ، ما علي إلا ساحر ، وإني لمشفق عليك منه ، والصواب أن تفارقه
وتصير في جملتنا.
قلت : بئس ما قلت
، لكن عليا ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه.
قال : ارجع إليه
فقل له : السمع والطاعة لأمرك.
فرجعت إلى علي عليهالسلام ، فقال عليهالسلام : أحدثك بما جرى بينكما؟
فقلت : أنت أعلم
به مني.
فتكلم بكل ما جرى
بيننا ، ثم قال : إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت.
بيان
: قال الجوهري :
ربع الرجل يربع : إذا وقف وتحبس ، ومنه قولهم اربع على نفسك واربع على ظلعك ، أي :
ارفق بنفسك وكف ولا تحمل عليها أكثر مما تطيق.
١٦
ـ قب : عبد الله بن
سليمان وزياد بن المنذر والحسن بن العباس
__________________
ابن جريش ، كلهم عن أبي
جعفر عليهالسلام.
وأبان بن تغلب
ومعاوية بن عمار وأبو سعيد المكاري ، كلهم عن أبي عبد الله عليهالسلام : أن أمير المؤمنين عليهالسلام لقي الأول فاحتج عليه.
ثم قال : أترضى
برسول الله صلىاللهعليهوآله بيني وبينك؟
فقال : وكيف لي
بذلك؟
فأخذ بيده فأتى به
مسجد قبا ، فإذا رسول الله فيه ، فقضى له على الأول .. القصة.
١٧
ـ كشف : عن عبد خير ،
قال : اجتمع عند عمر جماعة من قريش ، فيهم علي بن أبي طالب ، فتذاكروا الشرف ،
وعلي عليهالسلام ساكت ، فقال عمر : ما لك يا أبا الحسن ساكتا؟ وكان علي عليهالسلام كره الكلام ، فقال عمر :
لتقولن يا أبا الحسن ، فقال علي عليهالسلام :
الله أكرمنا
بنصر نبيه
|
|
وبنا أعز شرائع
الإسلام
|
في كل معترك تزيل سيوفنا
|
|
فيه الجماجم عن
فراخ الهام
|
ويزورنا جبريل
في أبياتنا
|
|
بفرائض الإسلام
والأحكام
|
فنكون أول مستحل
حله
|
|
ومحرم لله كل
حرام
|
نحن الخيار من
البرية كلها
|
|
ونظامها وزمام
كل زمام
|
إنا لنمنع من
أردنا منعه
|
|
ونقيم رأس
الأصيد القمقام
|
وترد عادية
الخميس سيوفنا
|
|
فالحمد للرحمن
ذي الإنعام
|
بيان
: قال الفيروزآبادي
: الفرخ : مقدم الدماغ .
__________________
وقال الجوهري :
وقول الفرزدق :
ويوم جعلنا
البيض فيه لعامر
|
|
مصممة تفأى فراخ
الجماجم
|
يعنى به : الدماغ .
والزمام ككتاب :
ما يجعل في أنف البعير فينقاد به ، ولعل المراد : زمام كل ذي زمام.
وقال الفيروزآبادي
: الأصيد : الملك ، ورافع رأسه كبرا .
وقال : القمقام ـ ويضم
ـ : السيد .
والخميس : الجيش .
١٨
ـ إرشاد القلوب : روي عن الصادق عليهالسلام : أن أبا بكر لقي أمير المؤمنين عليهالسلام في سكة بني النجار ، فسلم عليه وصافحه وقال
__________________
له : يا أبا الحسن!
أفي نفسك شيء من استخلاف الناس إياي ، وما كان من يوم السقيفة ، وكراهيتك البيعة ؟ والله ما كان
ذلك من إرادتي ، إلا أن المسلمين اجتمعوا على أمر لم يكن لي أن أخالف عليهم فيه ، لأن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لا تجتمع أمتي على الضلال .
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : يا أبا بكر ، أمته الذين أطاعوه في عهده من بعده ، وأخذوا بهداه ،
وأوفوا ب ( ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ
) ، ولم يبدلوا ولم يغيروا .
قال له أبو بكر :
والله يا علي لو شهد عندي الساعة من أثق به أنك أحق بهذا الأمر سلمته إليك ، رضي
من رضي وسخط من سخط.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : يا أبا بكر! فهل تعلم أحدا أوثق من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقد أخذ بيعتي عليك في
أربعة مواطن ـ وعلى جماعة معك فيهم : عمر وعثمان ـ : في يوم الدار ، وفي بيعة الرضوان تحت
الشجرة ، ويوم جلوسه في بيت أم سلمة ، وفي يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع؟
فقلتم بأجمعكم :
سمعنا وأطعنا الله ورسوله .
__________________
فقال لكم : الله
ورسوله عليكم من الشاهدين.
فقلتم بأجمعكم :
الله ورسوله علينا من الشاهدين.
فقال صلىاللهعليهوآله : فليشهد بعضكم على بعض ، وليبلغ شاهدكم غائبكم ، ومن سمع منكم فليسمع من لم
يسمع.
فقلتم : نعم يا
رسول الله ، وقمتم بأجمعكم تهنون رسول الله وتهنوني بكرامة الله لنا ، فدنا عمر وضرب على
كتفي وقال بحضرتكم : بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى المؤمنين .
فقال أبو بكر :
لقد ذكرتني يا أمير المؤمنين أمرا ، لو يكون رسول الله صلىاللهعليهوآله شاهدا فأسمعه منه.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : الله ورسوله عليك من الشاهدين ، يا أبا بكر إذا رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله حيا ويقول لك إنك ظالم لي في أخذ حقي الذي جعله الله لي ورسوله دونك ودون
المسلمين
__________________
أتسلم هذا الأمر إلي
وتخلع نفسك منه؟.
فقال أبو بكر : يا
أبا الحسن! وهذا يكون؟ أرى رسول الله حيا بعد موته ويقول لي ذلك !
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : نعم يا أبا بكر.
قال : فأرني ذلك
إن كان حقا .
فقال علي عليهالسلام : الله ورسوله عليك من الشاهدين إنك تفي بما قلت؟
قال أبو بكر :
نعم.
فضرب أمير
المؤمنين عليهالسلام على يده وقال : تسعى معي نحو مسجد قبا ، فلما ورداه تقدم أمير
المؤمنين عليهالسلام فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه ، فإذا برسول الله صلىاللهعليهوآله في قبلة المسجد ، فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه.
فناداه رسول الله صلىاللهعليهوآله : ارفع رأسك أيها الضليل المفتون.
فرفع أبو بكر رأسه
وقال : لبيك يا رسول الله ، أحياة بعد الموت يا رسول الله؟
__________________
فقال : ويلك يا
أبا بكر ( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى
إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
قال : فسكت أبو
بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال له : ويلك يا
أبا بكر نسيت ما عاهدت الله ورسوله عليك في المواطن الأربعة لعلي عليهالسلام؟
فقال : ما أنساها يا رسول الله.
فقال : ما بالك
اليوم تناشد عليا ـ عليهالسلام ـ عليها ، ويذكرك وتقول : نسيت ..؟! وقص عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله ما جرى بينه وبين علي عليهالسلام .. إلى آخره ، فما نقص منه كلمة ولا زاد فيه كلمة.
فقال أبو بكر : يا
رسول الله فهل من توبة؟ وهل يعفو الله عني إذا سلمت هذا الأمر إلى أمير المؤمنين؟
قال : نعم يا أبا
بكر ، وأنا الضامن لك على الله ذلك إن وفيت.
قال : وغاب رسول
الله صلىاللهعليهوآله عنهما ، فتشبث أبو بكر بأمير المؤمنين عليهالسلام وقال : الله الله في يا علي ، صر معي إلى منبر
رسول الله
__________________
حتى أعلو المنبر
فأقص على الناس ما شاهدت وما رأيت من رسول الله وما قال لي وما قلت له وما أمرني به ، وأخلع نفسي
عن هذا الأمر وأسلمه إليك.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : أنا معك إن تركك شيطانك.
فقال أبو بكر : إن
لم يتركني تركته وعصيته.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : إذا تطيعه ولا تعصيه ، وإنما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة
عليك.
وأخذ بيده وخرجا
من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأبو بكر يتلون ألوانا ، والناس ينظرون إليه ولا يدرون ما الذي كان.
حتى لقيه عمر ،
فقال له : يا خليفة رسول الله ما شأنك ، وما الذي دهاك؟
فقال أبو بكر : خل
عني يا عمر ، فو الله لا سمعت لك قولا.
فقال له عمر :
وأين تريد يا خليفة رسول الله؟
فقال أبو بكر :
أريد المسجد والمنبر.
فقال : هذا ليس وقت صلاة ومنبر!.
قال : خل عني ولا
حاجة لي في كلامك.
فقال عمر : يا
خليفة رسول الله أفلا تدخل قبل المسجد منزلك فتسبغ
__________________
الوضوء؟
قال : بلى ، ثم
التفت أبو بكر إلى علي عليهالسلام وقال له : يا أبا الحسن تجلس إلى جانب المنبر حتى أخرج
إليك.
فتبسم أمير
المؤمنين عليهالسلام ، ثم قال له : يا أبا بكر ، قد قلت لك إن شيطانك لا
يدعك أو يرديك ، ومضى أمير المؤمنين عليهالسلام وجلس بجانب المنبر.
فدخل أبو بكر منزله ،
ومعه عمر ، فقال : يا خليفة رسول الله لم لا تنبئني بأمرك ، وتحدثني بما
دهاك به علي بن أبي طالب؟
فقال أبو بكر : ويحك
يا عمر! يرجع رسول الله بعد موته حيا فيخاطبني في ظلمي لعلي ، برد حقه عليه وخلع
نفسي من هذا الأمر.
فقال عمر : قص علي
قصتك من أولها إلى آخرها.
فقال له أبو بكر :
ويحك يا عمر! قد قال لي علي : إنك لا تدعني أخرج من هذه المظلمة ، وإنك شيطاني
، فدعني عنك ، فلم يزل يرقبه إلى أن حدثه بحديثه كله.
__________________
فقال له : بالله
عليك يا أبا بكر ، أنسيت شعرك [ في ] أول شهر رمضان الذي فرض علينا صيامه ، حيث جاءك حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف ونعمان
الأزدي وخزيمة بن ثابت في يوم جمعة إلى دارك ليقضين [ ليتقاضوك ] دينك عليك ، فلما
انتهوا إلى باب الدار سمعوا لك صلصلة في الدار ، فوقفوا بالباب ولم يستأذنوا عليك
، فسمعوا أم بكر زوجتك تناشدك وتقول : قد عمل حر الشمس بين كتفيك ، قم إلى داخل
البيت وأبعد من الباب لا يسمعك بعض أصحاب محمد فيهدروا دمك ، فقد علمت أن محمدا أهدر دم من أفطر يوما
من شهر رمضان من غير سفر ولا مرض خلافا على الله وعلى محمد رسول الله .
فقلت لها : هات ـ لا
أم لك ـ فضل طعامي من الليل ، وأترعي الكأس من الخمر ، وحذيفة ومن معه بالباب يسمعون محاورتكما
، فجاءت بصحفة فيها طعام من الليل وقصب [ قعب ] مملوء خمرا ،
فأكلت من الصحفة وكرعت الخمر ،
__________________
فأضحى النهار وقد
قلت لزوجتك :
ذريني أصطبح يا أم بكر
|
|
فإن الموت نفث
عن هشام
|
إلى أن انتهيت في
قولك
يقول لنا ابن
كبشة سوف نحيا
|
|
وكيف حياة أشلاء
وهام
|
ولكن باطلا قد
قال هذا
|
|
وإفكا من زخاريف
الكلام
|
ألا هل مبلغ
الرحمن عني
|
|
بأني تارك شهر
الصيام
|
وتارك كل ما
أوحى إلينا
|
|
محمد من أساطير
الكلام
|
فقل لله :
يمنعني شرابي
|
|
وقل لله :
يمنعني طعامي
|
ولكن الحكيم رأى
حميرا
|
|
فألجمها فتاهت باللجام
|
فلما سمعك حذيفة
ومن معه تهجو محمدا ، قحموا عليك في دارك ، فوجدوك وقعب الخمر في يديك ، وأنت تكرعها ،
فقالوا لك : يا عدو الله خالفت الله ورسوله ، وحملوك كهيئتك إلى مجمع الناس بباب
رسول الله ، وقصوا عليه قصتك ، وأعادوا شعرك ، فدنوت منك وساررتك وقلت لك في ضجيج
الناس : قل إني شربت الخمر ليلا ، فثملت فزال عقلي ، فأتيت ما أتيته نهارا ،
__________________
ولا علم لي بذلك ،
فعسى أن يدرأ عنك الحد.
وخرج محمد ونظر إليك ، فقال :
أيقظوه ، فقلن [ فقلنا ] : رأيناه وهو ثمل يا رسول الله لا يعقل ، فقال : ويحكم الخمر يزيل العقل
، تعلمون هذا من أنفسكم وأنتم تشربونها؟ فقلنا : يا رسول الله وقد قال فيها
إمرؤ القيس شعرا :
شربت الخمر حتى
زال عقلي
|
|
كذاك [ الخمر
يفعل ] بالعقول
|
ثم قال محمد :
أنظروه إلى إفاقته من سكرته.
فأمهلوك حتى
أريتهم أنك قد صحوت ، فساءلك محمد ، فأخبرته بما أوعزته إليك : من شربك بها بالليل.
فما بالك اليوم
تؤمن بمحمد وبما جاء به ، وهو عندنا ساحر كذاب.
فقال : ويحك يا أبا حفص! لا
شك عندي فيما قصصته علي ، فاخرج إلى ابن أبي طالب فاصرفه عن المنبر.
قال : فخرج عمر ـ وعلي
عليهالسلام جالس تحت المنبر ـ فقال : ما
__________________
بالك يا علي! قد
تصديت لها ؟ هيهات هيهات ، والله دون ما تروم من علو هذا
المنبر خرط القتاد.
فتبسم أمير
المؤمنين عليهالسلام حتى بدت نواجده ، ثم قال : ويلك منها والله يا عمر إذا أفضيت إليك ، والويل
للأمة من بلائك!
فقال عمر : هذه
بشرى يا ابن أبي طالب ، صدقت ظنونك وحق قولك.
وانصرف أمير
المؤمنين عليهالسلام إلى منزله ، وكان هذا من دلائله عليهالسلام :
بيان
: الصلصلة : الصوت .
قوله : نفث عن
هشام ، لعل المعنى نفخ عن جود النفس ، قال الفيروزآبادي : الهشام ككتاب : الجود ، وفي بعض النسخ
: نقب بالقاف والباء الموحدة ، فلعله جمع هشيم ، أي : يوضح عن العظام المتكسرة.
__________________
وأشلاء الإنسان :
أعضاؤه بعد البلى والتفرق
وأوعزت إليه في
كذا : أي تقدمت .
أقول
: أوردت هذا الخبر
ـ ولا أعتمد عليه كل الاعتماد ـ لموافقته في بعض المضامين لسائر الآثار ، والله
أعلم بحقائق الأخبار.
١٩
ـ وروي أيضا في الإرشاد : بحذف الإسناد ، مرفوعا إلى جابر الجعفي قال : قلد أبو بكر الصدقات بقرى المدينة وضياع فدك رجلا من
ثقيف يقال له : الأشجع بن مزاحم الثقفي ـ وكان شجاعا ، وكان له أخ قتله علي بن
أبي طالب في وقعة هوازن وثقيف ـ فلما خرج الرجل عن المدينة جعل أول قصده
ضيعة من ضياع أهل البيت تعرف ببانقيا ، فجاء بغتة واحتوى عليها وعلى صدقات كانت لعلي عليهالسلام ، فتوكل بها وتغطرس على أهلها ، وكان الرجل زنديقا منافقا.
__________________
فابتدر أهل القرية
إلى أمير المؤمنين عليهالسلام برسول يعلمونه ما فرط من الرجل.
فدعا علي عليهالسلام بدابة له تسمى السابح ـ وكان أهداه إليه ابن عم لسيف بن ذي يزن ـ وتعمم
بعمامة سوداء ، وتقلد بسيفين ، وأجنب دابته المرتجز ، وأصحب معه الحسين عليهالسلام وعمار بن ياسر والفضل بن العباس وعبد الله بن جعفر وعبد
الله بن العباس ، حتى وافى القرية ، فأنزله عظيم القرية في مسجد يعرف
بمسجد القضاء ، ثم وجه أمير المؤمنين عليهالسلام الحسين عليهالسلام يسأله المصير إليه .
فصار إليه الحسين عليهالسلام فقال : أجب أمير المؤمنين.
فقال : ومن أمير
المؤمنين.
فقال : علي بن أبي
طالب .
فقال : أمير
المؤمنين أبو بكر خلفته بالمدينة.
فقال له الحسين عليهالسلام : أجب علي بن أبي طالب.
فقال : أنا سلطان وهو
من العوام ، والحاجة له ، فليصر هو إلي.
__________________
فقال له الحسين :
ويلك! أيكون مثل والدي من العوام ، ومثلك يكون السلطان ؟!
فقال : أجل ، لأن
والدك لم يدخل في بيعة أبي بكر إلا كرها ، وبايعناه .
طائعين ، وكنا له غير كارهين ، فشتان بيننا وبينه .
فصار الحسين عليهالسلام إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فأعلمه ما كان من قول الرجل.
فالتفت إلى عمار
فقال : يا أبا اليقظان صر إليه والطف له في القول ، واسأله أن يصير إلينا ، فإنه لا يجب
لوصي من الأوصياء أن يصير إلى أهل الضلالة ، فنحن مثل بيت الله
يؤتى ولا يأتي.
فصار إليه عمار ، وقال : مرحبا يا أخا
ثقيف ، ما الذي أقدمك على أمير المؤمنين في حيازته ، وحملك على الدخول في مساءته ،
فصر إليه ، وأفصح عن حجتك.
فانتهر عمارا ، وأفحش له في
الكلام ، وكان عمار شديد الغضب ،
__________________
فوضع حمائل سيفه
في عنقه ، فمد يده إلى السيف.
فقيل لأمير
المؤمنين عليهالسلام : الحق عمارا ، فالساعة يقطعونه ، فوجه
أمير المؤمنين عليهالسلام الجمع ، فقال لهم : لا تهابوه وصيروا به إلي.
وكان مع الرجل
ثلاثون فارسا من خيار قومه ، فقالوا له : ويلك! هذا علي بن أبي طالب قتلك وقتل أصحابك عنده دون
النطفة ، فسكت القوم جزعا من أمير المؤمنين عليهالسلام ، فسحب الأشجع إلى أمير المؤمنين عليهالسلام على حر وجهه سحبا.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : دعوه ولا تعجلوا ، فإن العجلة والطيش لا تقوم بها حجج
الله وبراهينه.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : ويلك! بما استحللت ما أخذت من أموال أهل البيت؟ وما
حجتك على ذلك ؟
فقال له : وأنت
فبم استحللت قتل هذا الخلق في كل حق وباطل ، وأن مرضاة صاحبي لهي أحب إلي من اتباع
موافقتك.
__________________
فقال علي عليهالسلام : أيها عليك! ما أعرف من نفسي إليك ذنبا إلا قتل أخيك يوم هوازن ، وليس بمثل هذا القتل تطلب الثارات ،
فقبحك الله وترحك.
فقال له الأشجع :
بل قبحك الله وبتر عمرك ـ أو قال : ترحك ـ فإن حسدك للخلفاء لا يزال بك حتى
يوردك موارد الهلكة والمعاطب ، وبغيك عليهم يقصر بك عن مرادك.
فغضب الفضل بن
العباس من قوله ، ثم تمطى عليه بسيفه فحل عنقه ورماه عن جسده بساعده اليمنى ، فاجتمع أصحابه على الفضل ،
فسل أمير المؤمنين عليهالسلام سيفه ذا الفقار ، فلما نظر القوم إلى بريق عيني
الإمام ولمعان ذي الفقار في كفه رموا سلاحهم وقالوا : الطاعة الطاعة .
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : أف لكم ، انصرفوا برأس صاحبكم هذا الأصغر إلى صاحبكم الأكبر ، فما بمثل
قتلكم يطلب الثار ، ولا تنقضي الأوتار
__________________
فانصرفوا ومعهم
رأس صاحبهم ، حتى ألقوه بين يدي أبي بكر.
فجمع المهاجرين
والأنصار ، وقال : يا معاشر الناس ، إن أخاكم الثقفي أطاع الله ورسوله ( وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، فقلدته صدقات المدينة وما يليها ، ففاقصه ابن أبي طالب ،
فقتله أخبث قتلة ، ومثل به أخبث مثلة ، وقد خرج في نفر من أصحابه إلى قرى الحجاز ، فليخرج
إليه من شجعانكم وليردوه عن سنته ، واستعدوا له من الخيل والسلاح وما
يتهيأ لكم ، وهو من تعرفونه : الداء الذي لا دواء له
، والفارس الذي لا نظير له.
قال : فسكت القوم
مليا كأن الطير على رءوسهم.
فقال : أخرس أنتم
أم ذوو ألسن؟!
فالتفت إليه رجل
من الأعراب يقال له الحجاج بن الصخر ، فقال له :
إن صرت إليه سرنا معك ، فأما لو سار جيشك هذا
لينحرنهم عن آخرهم كنحر البدن.
ثم قام آخر فقال :
أتعلم إلى من توجهنا؟! إنك توجهنا إلى الجزار
__________________
الأعظم الذي يختطف
الأرواح بسيفه خطفا ، والله إن لقاء ملك الموت أسهل علينا من لقاء
علي بن أبي طالب.
فقال ابن أبي
قحافة : لا جزيتم من قوم عن إمامكم خيرا ، إذا ذكر لكم علي بن أبي طالب دارت أعينكم في وجوهكم
، وأخذتكم سكرة الموت ، أهكذا يقال لمثلي؟!
قال : فالتفت إليه
عمر بن الخطاب فقال : ليس له إلا خالد بن الوليد.
فالتفت إليه أبو
بكر فقال : يا أبا سليمان ، أنت اليوم سيف من سيوف الله ، وركن من
أركانه ، وحتف الله على أعدائه ، وقد شق علي بن أبي طالب عصا هذه الأمة ، وخرج في نفر من أصحابه إلى
ضياع الحجاز ، وقد قتل من شيعتنا ليثا صئولا وكهفا منيعا ، فصر إليه في كثيف من
قومك وسله أن يدخل الحضرة ، فقد عفونا عنه ، فإن نابذك الحرب
فجئنا به أسيرا.
فخرج خالد بن
الوليد في خمسمائة فارس من أبطال قومه ، قد أشخنوا
__________________
سلاحا ، حتى قدموا
على أمير المؤمنين عليهالسلام.
قال : فنظر الفضل
بن العباس إلى غبرة الخيل ، فقال : يا أمير المؤمنين! قد وجه إليك ابن أبي قحافة بقسطل يدقون
الأرض بحوافر الخيل دقا.
فقال : يا ابن
العباس! هون عليك ، فلو كان صناديد قريش وقبائل حنين وفرسان هوازن لما استوحشت إلا من
ضلالتهم.
ثم قام أمير
المؤمنين عليهالسلام فشد محزم الدابة ، ثم استلقى على قفاه نائما تهاونا بخالد ،
حتى وافاه ، فانتبه لصهيل الخيل.
فقال : يا أبا
سليمان! ما الذي عدل بك إلي؟
فقال : عدل بي
إليك من أنت أعلم به مني.
فقال : فأسمعنا
الآن.
فقال : يا أبا الحسن!
أنت فهم غير مفهم ، وعالم غير معلم ، فما هذه اللوثة التي بدرت منك ، والنبوة التي
قد ظهرت فيك ، إن كنت كرهت
__________________
هذا الرجل فليس
يكرهك ، ولا تكونن ولايته ثقلا على كاهلك ، ولا شجا في حلقك ، فليس بعد
الهجرة بينك وبينه خلاف ، ودع الناس وما تولوه ، ضل من ضل ، وهدى من هدى ، ولا تفرق بين
كلمة مجتمعة ، ولا تضرم النار بعد خمودها ، فإنك إن فعلت ذلك وجدت غبه غير محمود.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : أتهددني يا خالد بنفسك وبابن أبي قحافة؟! فما بمثلك ومثله تهديد ، فدع عنك
ترهاتك التي أعرفها منك واقصد نحو ما وجهت له.
قال : فإنه قد
تقدم إلي إن رجعت عن سننك كنت مخصوصا بالكرامة والحبو ، وإن أقمت على
ما أنت عليه من خلاف الحق حملتك إليه أسيرا.
__________________
فقال له عليهالسلام : يا ابن اللخناء ، وأنت تعرف الحق من الباطل ، ومثلك يحمل مثلي أسيرا ، يا
ابن الرادة عن الإسلام ، أتحسبني ويلك مالك بن نويرة حيث قتلته ونكحت امرأته ،
يا خالد جئتني برقة عقلك واكفهرار وجهك وتشمخ أنفك ، والله لئن تمطيت بسيفي هذا عليك وعلى أوغارك لأشبعن من لحومكم
جوع الضباع وطلس الذئاب ، ولبست [ لست ] ويلك ممن يقتلني أنت ولا صاحبك ،
وإني لأعرف
__________________
قاتلي ، وأطلب
منيتي صباحا ومساء ، وما مثلك يحمل مثلي أسيرا ، ولو أردت ذلك لقتلتك في فناء هذا المسجد.
فغضب خالد وقال :
توعد وعيد الأسد وتروغ روغان الثعالب ، ما أعداك في
المقال ، وما مثلك إلا من اتبع قوله بفعله.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : إذا كان هذا قولك فشأنك ، وسل أمير المؤمنين عليهالسلام على خالد ذا الفقار ، وخفق عليه .
فلما نظر خالد إلى
بريق عيني الإمام ، وبريق ذي الفقار في يده ، وتصممه عليه ، نظر إلى الموت عيانا
، وقال : يا أبا الحسن! لم نرد هذا.
فضربه أمير
المؤمنين عليهالسلام بقفار رأس ذي الفقار على ظهره ، فنكسه عن دابته ، ولم يكن أمير المؤمنين عليهالسلام ليرد يده إذا رفعها ، لئلا ينسب إلى الجبن.
__________________
فلحق أصحاب خالد من
فعل أمير المؤمنين عليهالسلام هول عجيب وخوف
عنيف.
ثم قال عليهالسلام : ما لكم لا تكافحون عن سيدكم؟ والله لو كان أمركم إلي لتركت رءوسكم ، وهو أخف
على يدي من جنى الهبيد على أيدي العبيد ، وعلى هذا السبيل تقضمون مال الفيء؟! أف
لكم.
فقام إليه رجل من
القوم يقال له المثنى بن الصياح ـ وكان عاقلا فقال : والله ما جئناك لعداوة بيننا وبينك ،
أو عن غير معرفة بك ، وإنا لنعرفك كبيرا وصغيرا ، وأنت أسد الله في أرضه ، وسيف
نقمته على أعدائه ، وما مثلنا من جهل مثلك ، ونحن أتباع مأمورون ، وجند موازرون ، وأطواع غير
مخالفين ، فتبا لمن وجه بنا إليك! أما كان له معرفة بيوم بدر وأحد وحنين؟
فاستحى أمير
المؤمنين عليهالسلام من قول الرجل ، وترك الجميع ، وجعل أمير المؤمنين عليهالسلام يمازح خالدا لما به من ألم الضربة ، وهو ساكت.
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : ويلك يا خالد! ما أطوعك
__________________
للخائنين الناكثين!
أما كان لك بيوم الغدير مقنع إذ بدر إليك صاحبك في المسجد حتى كان منك ما كان ، فو
الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو كان مما رمته أنت وصاحباك ـ ابن أبي قحافة وابن
صهاك شيء لكانا هما أول مقتولين بسيفي هذا ، وأنت معهما ، (
وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ )
ولا يزال يحملك
على إفساد حالتك عندي ، فقد تركت الحق على معرفة وجئتني تجوب مفاوز البسابس ،
لتحملني إلى ابن أبي قحافة أسيرا ، بعد معرفتك أني قاتل عمرو بن عبد ود ومرحب ،
وقالع باب خيبر ، وإني لمستحيي منكم ومن قلة عقولكم.
أوتزعم أنه قد خفي
علي ما تقدم به إليك صاحبك حين أخرجك إلي ، وأنت تذكر ما كان مني إلى عمرو بن معديكرب وإلى أصيد بن سلمة المخزومي
، فقال لك ابن أبي قحافة : لا تزال تذكر له ذلك ، إنما كان ذلك من دعاء
النبي صلىاللهعليهوآله ، وقد ذهب ذلك كله ، وهو الآن أقل من ذلك ، أليس كذلك يا
خالد؟! فلو لا ما تقدم به إلي رسول الله صلىاللهعليهوآله لكان مني إليهما ما هما أعلم به منك.
يا خالد! أين كان
ابن أبي قحافة وأنت تخوض معي المنايا في لجج الموت
__________________
خوضا ، وقومك
بادون في الانصراف كالنعجة القوداء والديك النافش ، فاتق الله يا خالد ، ( وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) ، ولا للظالمين ظهيرا.
فقال خالد : يا أبا الحسن!
إني أعرف ما تقول ، وما عدلت العرب والجماهير عنك إلا طلب ذحول آبائهم قديما ،
وتنكل رءوسهم قريبا ، فراغت عنك كروغان الثعلب فيما بين الفجاج والدكادك ، وصعوبة إخراج
ملك [ الملك ] من يدك ، وهربا من سيفك ، وما دعاهم إلى بيعة أبي بكر إلا
استلانة جانبه ، ولين عريكته ، وأمن جانبه ، وأخذهم الأموال فوق استحقاقهم ، ولقل اليوم من يميل إلى الحق ، وأنت قد بعت
الدنيا بالآخرة ، ولو اجتمعت أخلاقهم إلى أخلاقك لما خالفك خالد.
فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : والله ما أتى خالد إلا من
__________________
جهة هذا الخئون
الظلوم المفتن ابن صهاك ، فإنه لا يزال يؤلب على القبائل ويفزعهم مني ويؤيسهم من عطاياهم ،
ويذكرهم ما أنساهم الدهر ، وسيعلم غب أمره إذا فاضت نفسه.
فقال خالد : يا
أبا الحسن! بحق أخيك لما قطعت هذا من نفسك ، وصرت إلى منزلك مكرما ، إذا كان القوم رضوا
بالكفاف منك.
فقال له أمير
المؤمنين : لا جزاهم الله عن أنفسهم ولا عن المسلمين خيرا.
قال : ثم دعا عليهالسلام بدابته فاتبعه أصحابه ، وخالد يحدثه ويضاحكه ، حتى دخل المدينة ، فبادر خالد
إلى أبي بكر فحدثه بما كان منه.
فصار أمير
المؤمنين عليهالسلام إلى قبر النبي صلىاللهعليهوآله ، ثم صار إلى الروضة فصلى أربع ركعات ودعا ، وقام يريد
الانصراف إلى منزله ، وكان أبو بكر جالسا في المسجد والعباس جالس إلى جنبه.
فأقبل أبو بكر على
العباس فقال : يا أبا الفضل! ادع لي ابن أخيك عليا لأعاتبه على ما كان منه إلى
الأشجع.
فقال له العباس : أوليس قد تقدم
إليك صاحبك بترك معاتبته؟ وإني أخاف عليك منه إذا عاتبته أن لا تنتصر
منه.
فقال أبو بكر :
إني أراك ـ يا أبا الفضل ـ تخوفني منه ، دعني وإياه ، فأما ما كلمني خالد بترك
معاتبته فقد رأيته يكلمني بكلام خلاف الذي خرج به إليه ، ولا أشك إلا أنه قد كان
منه إليه شيء أفزعه.
__________________
فقال له العباس : أنت
وذاك يا ابن أبي قحافة.
فدعاه العباس ،
فجاء أمير المؤمنين عليهالسلام فجلس إلى جنب العباس.
فقال له العباس :
إن أبا بكر استبطأك ، وهو يريد أن يسألك بما جرى.
فقال : يا عم ، لو
دعاني لما أتيته.
فقال له أبو بكر :
يا أبا الحسن! ما أرضى لمثلك هذا الفعال .
قال : وأي فعل؟
قال : قتلك مسلما
بغير حق ، فما تمل من القتل قد جعلته شعارك ودثارك.
فالتفت إليه أمير
المؤمنين عليهالسلام فقال : أما عتابك علي في قتل مسلم فمعاذ الله أن أقتل
مسلما بغير حق ، لأن من وجب عليه القتل رفع عنه اسم الإسلام.
وأما قتلي الأشجع
، فإن كان إسلامك كإسلامه فقد فزت فوزا عظيما!!
أقول : وما عذري
إلا من الله ، وما قتلته إلا عن بينة من ربي ، وما أنت أعلم بالحلال والحرام مني ،
وما كان الرجل إلا زنديقا منافقا ، وإن في منزله صنما من رخام يتمسح به ثم يصير
إليك ، وما كان من عدل الله أن يؤاخذني بقتل عبدة الأوثان والزنادقة.
وافتتح أمير المؤمنين عليهالسلام بالكلام ، فحجز بينهما
المغيرة بن شعبة
__________________
وعمار بن ياسر ،
وأقسموا على علي عليهالسلام فسكت ، وعلى أبي بكر فأمسك.
ثم أقبل أبو بكر على
الفضل بن العباس وقال : لو قدتك بالأشجع لما فعلت مثلها ، ثم قال : كيف أقيدك بمثله وأنت
ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وغاسله؟!
فالتفت إليه
العباس فقال : دعونا ونحن حكماء أبلغ من شأنك ، إنك تتعرض بولدي وابن أخي ، وأنت
ابن أبي قحافة بن مرة! ونحن بنو عبد المطلب ابن هاشم أهل بيت النبوة ، وأولو
الخلافة ، تسميتم بأسمائنا ، ووثبتم علينا في سلطاننا ، وقطعتم أرحامنا
، ومنعتم ميراثنا ، ثم أنتم تزعمون أن لا إرث لنا ، وأنتم أحق وأولى بهذا
الأمر منا ، فبعدا وسحقا لكم أنى تؤفكون.
ثم انصرف القوم ،
وأخذ العباس بيد علي عليهالسلام ، وجعل علي يقول :
أقسمت عليك يا عم لا تتكلم ، وإن تكلمت لا تتكلم إلا بما يسر ، وليس لهم عندي
إلا الصبر ، كما أمرني نبي الله صلىاللهعليهوآله ، دعهم وما كان لهم يا عم بيوم الغدير مقنع ، دعهم يستضعفونا جهدهم ،
فإن الله مولانا وهو خير الحاكمين.
فقال له العباس :
يا ابن أخي ، أليس قد كفيتك ، وإن شئت أعود إليه
__________________
فأعرفه مكانه ،
وأنزع عنه سلطانه.
فأقسم عليه علي عليهالسلام فأسكته .
بيان
: قال الجوهري :
الغطريس : الظالم المتكبر ، وقد تغطرس فهو متغطرس .
وقال : ترحه
تتريحا : أحزنه .
وقال : التمطي :
التبختر ومد اليدين في المشي .
وقال : غافصت
الرجل : أخذته على غرة .
وقال الميداني :
شق فلان عصا المسلمين : إذا فرق جمعهم ، قال أبو عبيد : معناه فرق جماعتهم ، قال :
والأصل في العصا الاجتماع والائتلاف ، وذلك أنها لا تدعى عصا حتى تكون جميعا ،
فإذا انشقت لم تدع عصا ، ومن ذلك قولهم للرجل إذا قام بالمكان واطمأن به واجتمع له
فيه أمره : قد ألقى عصاه ، قالوا : وأصل هذا أن الحاديين يكونان في رفقة ، فإذا
فرقهم الطريق شقت العصا التي معهما ، فأخذ هذا نصفها وذا نصفها ، فضرب مثلا لكل فرقة .
والقسطل : الغبار ، وهو كناية عن
الجم الغفير.
__________________
واللوثة ـ بالضم ـ
: الاسترخاء والبطء ، ومس الجنون .
ويقال : نبا الشيء
عني ينبو أي : تجافى وتباعد ، وأنبيته أنا أي : دفعته عن نفسي ، والنبوة :
الرفعة.
قوله : عرج الضبع
، قال الفيروزآبادي : عرج وعراج معرفتين ممنوعتين :
الضباع يجعلونها بمنزلة القبيلة ، والعرجاء : الضبع .
وفي بعض النسخ :
جوع : جمع جائع كركع.
والذباب في بعض
النسخ بالهمزة ، وفي بعضها بالباء الموحدة.
وفي القاموس :
الطلس : العدد الكثير ، أو هو خلق كثير النسل كالذباب والنمل والهوام ، أو كثرة كل
شيء .
وقال : خفق فلانا
بالسيف : ضربه ضربة خفيفة ، وأخفق الرجل بثوبه :
لمع به .
والهبيد : الحنظل
أو حبه .
والبسبس : القفر
الخالي .
__________________
وبدا القوم :
خرجوا إلى البادية .
والقوداء : الطويل
الظهر ، وفي بعض النسخ بالعين المهملة أي :
المسنة .
وقد مر تفسير
النافش.
والتأليب :
التحريض .
ولم نبالغ في
تفسير هذا الحديث وشرحه ، لعدم اعتمادنا عليه لما فيه مما يخالف السير وسائر
الأخبار.
٢٠
ـ ختص : محمد بن الحسين
بن أبي الخطاب ، عن الحكم بن مسكين ، عن أبي سعيد المكاري ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن أمير المؤمنين عليهالسلام لقي أبا بكر فقال له : أما أمرك رسول الله صلىاللهعليهوآله أن تطيع لي ؟
قال : لا ، ولو أمرني
لفعلت.
__________________
فقال : سبحان الله!
أما أمرك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تطيع لي؟
فقال : لا ، ولو
أمرني لفعلت.
قال : فامض بنا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فانطلق به إلى مسجد قبا ، فإذا رسول الله صلىاللهعليهوآله يصلي ، فلما انصرف قال له علي عليهالسلام : يا رسول الله! إني قلت لأبي بكر : أما أمرك رسول الله صلىاللهعليهوآله أن تطيعني ، فقال : لا.
فقال رسول الله : قد أمرتك
فأطعه.
قال : فخرج ولقي عمر ، وهو ذعر ،
فقام عمر وقال له : ما لك ؟
فقال له : قال
رسول الله كذا ... وكذا.
فقال عمر : تبا
لأمة ولوك أمرهم أما تعرف سحر بني هاشم .
__________________
٦ ـ باب
منازعة أمير المؤمنين صلوات
الله عليه
العباس في الميراث
١
ـ ج : عن محمد بن عمر بن علي ، عن أبيه ، عن أبي رافع قال :
قال ، إني لعند أبي بكر إذ اطلع علي والعباس يتدافعان ويختصمان في ميراث النبي (ص).
فقال أبو بكر :
يكفيكم القصير الطويل ، يعني بالقصير : عليا ، وبالطويل : العباس.
فقال العباس : أنا
عم النبي ووارثه ، وقد حال علي بيني وبين تركته.
قال أبو بكر :
فأين كنت يا عباس حين جمع النبي بني عبد المطلب وأنت أحدهم ، فقال : أيكم يوازرني
ويكون وصيي وخليفتي في أهلي ، ينجز عدتي ، ويقضي ديني ، فأحجمتم عنها إلا عليا ، فقال النبي (ص)
: أنت كذلك.
__________________
قال العباس : فما
أقعدك مجلسك هذا؟ تقدمته وتأمرت عليه.
قال أبو بكر :
أعذرونا بني عبد المطلب .
توضيح
وتفضيح : لعله كان أغدرونا
بني عبد المطلب ـ بتقديم المعجمة على المهملة ـ أي : أتنازعون وترفعون إلي للغدر ، وليس غرضكم
التنازع .
وظاهر أن
منازعتهما كان لذلك ، ولم يكن عباس ينازع أمير المؤمنين عليهالسلام فيما أعطاه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بمحضره ومحضر غيره.
__________________
ويؤيده : ما روي أن يحيى
بن خالد البرمكي سأل هشام بن الحكم بمحضر من الرشيد.
فقال : أخبرني يا
هشام ، هل يكون الحق في جهتين مختلفتين؟
قال هشام : الظاهر
لا.
قال : فأخبرني عن
رجلين اختصما في حكم في الدين ، وتنازعا واختلفا ، هل يخلو من أن يكونا محقين ، أو
مبطلين ، أو أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا؟
فقال هشام : لا
يخلو من ذلك.
قال له يحيى بن
خالد : فأخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث ، أيهما كان
المحق ومن المبطل؟ إذ كنت لا تقول أنهما كانا محقين ولا مبطلين!.
قال هشام : فنظرت
فإذا إنني إن قلت إن عليا عليهالسلام كان مبطلا كفرت وخرجت من مذهبي ، وإن قلت إن العباس كان
مبطلا ضرب الرشيد عنقي ، ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ، ولا
أعددت لها جوابا ، فذكرت قول أبي عبد الله عليهالسلام : يا هشام ، لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ،
فعلمت أني لا أخذل ، وعن لي الجواب في الحال.
فقلت له : لم يكن
لأحدهما خطأ حقيقة ، وكانا جميعا محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود
عليهالسلام ، يقول الله عز وجل : ( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) إلى قوله : ( خَصْمانِ بَغى
بَعْضُنا عَلى
__________________
بَعْضٍ
) ، فأي الملكين كان مخطئا وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول : إنهما كانا مخطئين ،
فجوابك في ذلك جوابي.
فقال يحيى : لست
أقول : إن الملكين أخطئا ، بل أقول : إنهما أصابا ، وذلك أنهما لم يختصما في
الحقيقة ولم يختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك لينبها داود عليهالسلام في الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال هشام : قلت له
: كذلك علي عليهالسلام والعباس ، لم يختلفا في الحكم ولم يختصما في الحقيقة ،
وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على خطئه ، ويدلاه على أن لهما في
الميراث حقا ، ولم يكونا في ريب من أمرهما ، وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من
الملكين.
فاستحسن الرشيد
ذلك الجواب.
ثم اعلم أن بعض
الأصحاب ذكر أن أبا بكر ناقض روايته التي رواها في الميراث ، حيث
دفع سيف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبغلته وعمامته وغير ذلك إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد نازعه العباس فيها ، فحكم بها لأمير المؤمنين عليهالسلام.
إما لأن ابن العم
إذا كان أبوه عم الميت من الأب والأم أولى من العم الذي كان عم الميت من جانب الأب
فقط ، لأن المتقرب إلى الميت بسببين أولى من المتقرب إليه بسبب واحد.
وإما لعدم توريث
العم مع البنت ، كما هو مذهب أهل البيت عليهمالسلام.
__________________
وقد تنازعا عند
عمر بن الخطاب فيما أفاء الله تعالى على رسوله وفي سهمه من خيبر وغيره ، فدفعها
إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، أو دفعها إليهما وقال :
اقتصلا أنتما فيما بينكما ، فأنتما أعرف بشأنكما .
ثم إن أزواج النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسلن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ، وقد كان عثمان في زعمهم أحد الشهود على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة . كما سبق.
وحكى قاضي القضاة
، عن أبي علي أنه قال : لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين عليهالسلام على جهة الإرث.
قال : وكيف يجوز
ذلك مع الخبر الذي رواه؟ وكيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك ،
ولا إرث له مع العم لأنه عصبة ، فإن كان وصل إلى فاطمة
عليهاالسلام فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك وأزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهودا ، ليعرف أنهم أخذوا
__________________
نصيبهم من غير ذلك
أو بدله ، ولا يجب إذا لم يدفع إليه أبو بكر على جهة الإرث أن لا يحصل في يده ،
لأنه قد يجوز أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحله ويجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في
ذلك أن يكون في يده ، لما فيه من تقوية الدين ، وتصدق ببدله بعد التقويم ،
لأن للإمام أن يفعل ذلك .
قال : وأما البردة
والقضيب فلا يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين ، فتداولته الأئمة ، لما فيه من
التقوية ، ورأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه عليهالسلام لم يكن قد نحله غيره في حياته .
ثم أجاب قاضي
القضاة من طلب الأزواج الميراث وتنازع أمير المؤمنين عليهالسلام والعباس بعد موت فاطمة : بأنه يجوز أن يكونوا لم يعرفوا
رواية أبي بكر وغيره للخبر.
قال : وقد روي أن
عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن ، وقد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من
يستحق الإرث ويعرفه من يتقلد الأمر ، كما يعرف العلماء والحكام من أحكام المواريث
ما لا يعرفه أرباب الإرث .
__________________
وقال السيد الأجل
المرتضى رضياللهعنه : أما قول أبو علي : وكيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه .. إلى آخره.
فما نراه زاد على
التعجب ، ومما عجب منه عجبنا! ، ولم نثبت عصمة أبي بكر فتنفى عن أفعاله التناقض.
وقوله : ويجوز أن
يكون رأى الصلاح في أن يكون ذلك في يده ، لما فيه من تقوية الدين ، أو أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحله .
فكل ما ذكره جائز
، إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها والحجة عليها ، ولم يظهر
شيء من ذلك فنعرفه.
ومن العجائب أن
تدعي فاطمة عليهاالسلام فدك نحلة وتستشهد على قولها أمير المؤمنين عليهالسلام وغيره ، فلا يصغى إليها وإلى قولها ، ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد
أمير المؤمنين عليهالسلام على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت ، على أنه
كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك ويذكر وجهه بعينه أي شيء كان لما نازع العباس فيه
، فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت.
والقول في البردة
والقضيب إن كان نحلة أو على الوجه الآخر يجري مجرى
__________________
ما ذكرناه : في
وجوب الظهور والاستشهاد ، ولسنا نرى أصحابنا يطالبون نفوسهم في هذا الموضع بما يطالبونا بمثله إذا
ادعينا وجوها وأسبابا وعللا مجوزة ، لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن ، بل
يوجبون فيما ندعيه الظهور والاشتهار وإذا كان ذلك عليهم نسوه أو تناسوه.
فأما قوله : ـ إن
أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما طلبن الميراث لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر ،
وكذلك إنما نازع العباس أمير المؤمنين عليهالسلام بعد موت فاطمة عليهاالسلام في الميراث لهذا الوجه ـ فمن أقبح ما يقال في هذا الباب
وأبعده من الصواب.
وكيف لا يعرف أمير
المؤمنين عليهالسلام رواية أبي بكر وبها دفعت زوجته عن الميراث؟!
وهل مثل ذلك
المقام الذي قامته وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد
، فضلا عمن هو في المدينة شاهدا حاضرا يعتني بالأخبار ويراعيها؟! إن هذا [ لخروج ] في المكابرة عن
الحد.
وكيف يخفى على
الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى ، ويكون عثمان المترسل لهن ، والمطالب عنهن؟
وعثمان ـ على زعمهم ـ أحد من شهد أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يورث ، وقد سمعن ـ على كل حال ـ أن بنت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم تورث ماله ، ولا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها ، فذكر
__________________
لهن الخبر ، فكيف
يقال : [ إنهن ] لن يعرفنه؟
والإكثار في هذا
الموضع يوهم أنه موضع شبهة ، وليس كذلك ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.
__________________
٧ ـ باب
نوادر الاحتجاج على أبي بكر
١
ـ ج : روى رافع بن
أبي رافع الطائي ، عن أبي بكر ـ وقد صحبه في سفر ـ قال : قلت له : يا أبا بكر!
علمني شيئا ينفعني الله به.
قال : كنت فاعلا ولو لم
تسألني : لا تشرك بالله شيئا ، وأقم الصلاة ، وآت الزكاة ، وصم شهر رمضان ، وحج
البيت ، واعتمر ، ولا تتأمرن على اثنين من المسلمين.
قال : قلت له :
أما ما أمرتني به من الإيمان والصلاة والحج والعمرة والزكاة فأنا أفعله ،
وأما الإمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى والعز والمنزلة عند
رسول الله إلا بها.
قال : إنك
استنصحتني فأجهدت نفسي لك.
__________________
فلما توفي رسول
الله واستخلف [ أبو ] بكر جئته وقلت له : يا أبا بكر! ألم تنهني أن أتأمر على
اثنين؟
قال : بلى.
قلت : فما لك تأمرت على أمة
محمد؟
قال : اختلف الناس
، وخفت عليهم الضلالة ، ودعوني فلم أجد من ذلك بدا!.
__________________
٨ ـ باب
احتجاج سلمان وأبي بن كعب
وغيرهما على القوم
١
ـ ج : عن جعفر بن
محمد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهمالسلام قال : خطب الناس سلمان الفارسي رحمة الله عليه ـ بعد أن
دفن النبي عليه وآله السلام بثلاثة أيام ـ فقال فيها : .. ألا أيها الناس اسمعوا
عني حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا إني أوتيت علما كثيرا ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضائل أمير
المؤمنين عليهالسلام [ لقالت ] طائفة منكم : هو مجنون ، [ وقالت ] طائفة أخرى :
اللهم اغفر لقاتل سلمان.
ألا إن لكم منايا
تتبعها بلايا ، ألا وإن عند علي بن أبي طالب عليهالسلام المنايا والبلايا ، وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب
على منهاج هارون بن عمران من موسى عليهماالسلام ، إذ يقول له رسول الله صلى الله عليه
__________________
وآله وسلم : أنت
وصيي في أهلي وخليفتي في أمتي وبمنزلة هارون من موسى .
ولكنكم أخذتم سنة
بني إسرائيل ، فأخطأتم الحق ، تعلمون فلا تعملون ، أما والله ( لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) على سنة بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة .
أما والذي نفس
سلمان بيده لو وليتموها عليا عليهالسلام لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم ، ولو دعوتم
الطير في جو السماء لأجابتكم ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي
الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله.
ولكن أبيتم
فوليتموها غيره ، فابشروا بالبلاء ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت
العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
__________________
عليكم بآل محمد عليهمالسلام ، فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة ، عليكم بأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فو الله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مرارا
جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا ، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟!
وقد حسد قابيل هابيل فقتله ، وكفارا قد ارتدت أمة موسى بن عمران عليهماالسلام ، فأمر هذه الأمة [ كأمر ] بني إسرائيل ، فأين يذهب بكم أيها الناس؟! ويحكم ما أنا وأبو فلان وفلان؟!
أجهلتم أم تجاهلتم ، أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة.
ألا وإني أظهرت
أمري ، وسلمت لنبيي ، وتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة عليا أمير المؤمنين ، وسيد
الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام ( الصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ).
بيان
: عال : أي افتقر .
وطاش السهم : أي
زال ومال عن الهدف .
وقال في النهاية :
في حديث سلمان : وإن أبيتم نابذناكم على سواء ، أي :
__________________
كاشفناكم
وقاتلناكم على طريق مستو في العلم بالمنابذة منا ومنكم ، بأن نظهر لهم العزم على
قتالهم ، ونخبرهم به إخبارا مكشوفا .
وقوله : وكفارا ،
حال عن فاعل ارتدت.
٢
ـ ج : عن محمد ويحيى
ابني عبد الله بن الحسن ، عن أبيهما ، عن جدهما ، عن علي بن أبي طالب عليهالسلام قال : لما خطب أبو بكر قام أبي بن كعب ، وكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان.
فقال : يا معاشر المهاجرين الذين
اتبعوا مرضاة الله وأثنى الله عليهم في القرآن ، ويا معاشر الأنصار ( الَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ) وأثنى الله عليهم في القرآن ، تناسيتم أم نسيتم ، أم بدلتم
أم غيرتم ، أم خذلتم أم عجزتم؟!.
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قام فينا مقاما أقام فيه عليا ، فقال : من كنت مولاه فهذا
مولاه ـ يعني عليا ـ ومن كنت نبيه فهذا
__________________
أميره ؟!.
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، طاعتك واجبة
على من بعدي كطاعتي في حياتي ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟!.
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، فقدموهم ولا تتقدموهم ، وأمروهم ولا
تتأمروا عليهم؟!.
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أهل بيتي منار الهدى والدالون على الله؟!.
ألستم تعلمون أن رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال لعلي عليهالسلام :
أنت الهادي لمن ضل ؟!.
__________________
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : علي المحيي لسنتي ومعلم أمتي ، والقائم بحجتي ، وخير
من أخلف من بعدي ، وسيد أهل بيتي ، أحب الناس إلي ،
طاعته كطاعتي على أمتي؟!.
ألستم تعلمون أنه
لم يول على علي أحدا منكم ، وولاه في كل غيبته عليكم؟!.
ألستم تعلمون أنه
كان منزلهما في أسفارهما واحدا ، وارتحالهما وأمرهما واحدا ؟!.
ألستم تعلمون أنه
قال : إذا غبت فخلفت فيكم عليا فقد خلفت فيكم رجلا كنفسي؟!.
ألستم تعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته فاطمة عليهاالسلام فقال لنا :
إن الله أوحى إلى
موسى بن عمران عليهالسلام أن اتخذ أخا من أهلك فاجعله نبيا ، واجعل أهله لك ولدا ،
أطهرهم من الآفات ، وأخلصهم من الريب ، فاتخذ موسى هارون أخا ، وولده أئمة لبني إسرائيل من بعده ، يحل لهم في مساجدهم
ما يحل لموسى.
__________________
وإن الله أوحى إلي أن اتخذ
عليا أخا ، كموسى اتخذ هارون أخا ، واتخذ ولده ولدا ، فقد طهرتهم كما طهرت
ولد هارون ، إلا أني ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك ، فهم الأئمة الهادية؟!.
أفما تبصرون؟! أفما
تفهمون؟! أما تسمعون؟! ضربت عليكم الشبهات.
فكان مثلكم كمثل
رجل في سفر ، فأصابه عطش شديد حتى خشي أن يهلك ، فلقي رجلا هاديا في الطريق فسأله
عن الماء ، فقال له : أمامك عينان :
أحدها مالحة والأخرى عذبة ، فإن أصبت المالحة ضللت ، وإن أصبت العذبة هديت ورويت.
فهذا مثلكم أيتها
الأمة المهملة ـ كما زعمتم ـ ، وايم الله ما أهملتم ، لقد نصب لكم علم يحل لكم
الحلال ويحرم عليكم الحرام ، لو أطعتموه ما اختلفتم ، ولا تدابرتم ، ولا تقاتلتم ،
ولا برئ بعضكم من بعض.
فو الله! إنكم
بعده لمختلفون في أحكامكم ، وإنكم بعده لناقضوا عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإنكم على عترته لمختلفون.
إن سئل هذا عن غير
من يعلم أفتى برأيه ، فقد أبعدتم وتجاريتم
__________________
وزعمتم الاختلاف
رحمة ، هيهات! أبى الكتاب ذلك عليكم ، يقول الله تبارك وتعالى : ( وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ، ثم أخبرنا
باختلافكم فقال : ( وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) ، أي : للرحمة ، وهم : آل محمد.
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : يا علي! أنت وشيعتك على الفطرة والناس [ منها ] براء.
فهلا قبلتم من
نبيكم صلىاللهعليهوآله؟! كيف وهو [ خبركم بانتكاصتكم ] عن وصيه عليهالسلام وأمينه ووزيره وأخيه ووليه دونكم أجمعين .
أطهركم قلبا ،
وأعلمكم علما ، وأقدمكم سلما ، وأعظمكم غناء عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أعطاه تراثه ، وأوصاه بعداته ، واستخلفه على
__________________
أمته ، وضع عنده
سره ، فهو وليه دونكم أجمعين ، وأحق به منكم على التعيين ، سيد الوصيين ،
وأفضل المتقين ، وأطوع الأمة لرب العالمين ، سلمتم عليه بخلافة المؤمنين في حياة سيد
النبيين وخاتم المرسلين .
فقد أعذر من أنذر
، وأدى النصيحة من وعظ ، وبصر من عمى ، فقد سمعتم كما سمعنا ، ورأيتم كما رأينا ،
وشهدتم كما شهدنا.
فقام عبد الرحمن بن
عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل فقالوا :
يا أبي! أصابك خبل أم بك جنة؟!.
__________________
فقال : بل الخبل
فيكم ، كنت عند رسول الله صلىاللهعليهوآله يوما ، فألفيته يكلم رجلا أسمع كلامه ولا أرى وجهه .
فقال فيما يخاطبه
: ما أنصحه لك ولأمتك ، وأعلمه بسنتك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أفترى أمتي تنقاد له من بعدي؟
قال : يا محمد!
تتبعه من أمتك أبرارها ، وتخالف عليه من أمتك فجارها ، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك ، يا
محمد! إن موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ـ وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله
وأطوعهم له وأمره الله عز وجل أن يتخذه وصيا كما اتخذت عليا وصيا ، وكما
أمرت بذلك ، فحسده بنو إسرائيل سبط موسى خاصة ، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا له ، فإن أخذت أمتك
سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك ، وجحدوا أمره ، وابتزوا خلافته ، وغالطوه في علمه.
فقلت : يا رسول
الله! من هذا؟.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : هذا ملك من ملائكة الله ربي عز وجل ، ينبئني أن أمتي تختلف على وصيي علي بن
أبي طالب عليهالسلام.
وإني أوصيك يا أبي
بوصية إن حفظتها لم تزل بخير ، يا أبي عليك بعلي ، فإنه الهادي المهدي ، الناصح
لأمتي ، المحيي لسنتي ، وهو إمامكم بعدي ،
__________________
فمن رضي بذلك
لقيني على ما فارقته عليه ، يا أبي ومن غير وبدل لقيني ناكثا
لبيعتي ، عاصيا أمري ، جاحدا لنبوتي ، لا أشفع له عند ربي ، ولا أسقيه من حوضي.
فقامت إليه رجال
من الأنصار فقالوا : اقعد ـ رحمك الله ـ يا أبي ، فقد أديت ما سمعت [ و ] وفيت بعهدك.
٣
ـ شف : الحسن بن محمد
بن الفرزدق ، عن محمد بن أبي هارون ، عن مخول بن إبراهيم ، عن
عيسى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده .. مثله ، مع اختصار.
وقد أوردته في باب
النصوص على أمير المؤمنين عليهالسلام .
بيان :
قال الجوهري :
أغنيت عنك مغنى فلان .. أي : أجزأت عنك مجزأة ، ويقال ما يغني عنك هذا .. أي : ما
يجدي عنك وما ينفعك .. ، والغناء
__________________
بالفتح .. النفع .
قوله : وبصر ـ على
بناء التفعيل ـ معطوف على وعظ.
ويقال : وضع منه
فلان أي : حط من درجته .
__________________
٩ ـ باب
ما كتب أبو بكر إلى جماعة
يدعوهم إلى البيعة
وفيه بعض أحوال أبي قحافة
١
ـ ج : روي عن الباقر عليهالسلام : أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : اكتب إلى أسامة يقدم عليك ، فإن
في قدومه قطع الشنعة عنا .
فكتب أبو بكر إليه
: من أبي بكر خليفة رسول الله إلى أسامة بن زيد ، أما بعد : فانظر إذا أتاك كتابي
فأقبل إلي أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا [ علي ] وولوني أمرهم ،
فلا تتخلفن فتعصي ويأتيك مني ما تكره ، والسلام.
قال : فكتب إليه
أسامة جواب كتابه : من أسامة بن زيد عامل رسول الله (ص) على غزوة الشام ، أما بعد ،
فقد أتاني [ منك ] كتاب ينقض أوله آخره
__________________
ذكرت في أوله أنك
خليفة رسول الله ، وذكرت في آخره أن المسلمين اجتمعوا عليك فولوك
أمورهم ورضوا بك .
واعلم ، أني ومن معي من جماعة
المسلمين والمهاجرين ، فلا والله ما رضينا بك ولا وليناك أمرنا ، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله ، وتخليهم
وإياه ، فإنهم أحق به منك.
فقد علمت ما كان
من قول رسول الله صلىاللهعليهوآله في علي عليهالسلام يوم غدير خم ، فما طال العهد فتنسى.
انظر بمركزك ، ولا
تخلف فتعصي الله ورسوله وتعصي [ من ] استخلفه رسول الله صلىاللهعليهوآله عليك وعلى صاحبك ، ولم يعزلني حتى قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأنك وصاحبك رجعتما وعصيتما ، فأقمتما في المدينة بغير إذني .
قال : فهم أبو بكر أن
يخلعها من عنقه ، قال : فقال له عمر : لا تفعل قميص قمصك الله لا تخلعه فتندم ،
ولكن ألح على أسامة بالكتب ، ومر فلانا وفلانا وفلانا يكتبون إلى أسامة أن لا يفرق
جماعة المسلمين ، وأن يدخل يده
__________________
فيما صنعوا.
قال : فكتب إليه
أبو بكر ، وكتب إليه أناس من المنافقين : أن ارض بما اجتمعنا عليه ، وإياك أن تشمل المسلمين فتنة من
قبلك ، فإنهم حديثو عهد بالكفر.
فلما وردت الكتب على
أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة ، فلما رأى اجتماع الناس على أبي بكر
انطلق إلى علي بن أبي طالب فقال : ما هذا؟
فقال له علي : هذا ما ترى!
قال له أسامة : فهل بايعته؟
فقال : نعم.
فقال له أسامة : طائعا
أو كارها ؟
قال : لا ، بل
كارها قال : فانطلق أسامة فدخل على أبي بكر ، فقال : السلام عليك يا
خليفة المسلمين.
قال : فرد أبو بكر وقال :
السلام عليك أيها الأمير.
بيان
: انظر بمركزك ، أي
: إلى مركزك ومحلك الذي أقامك فيه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من عسكري ، وأمرك أن تكون فيهم ، أو من كونك رعية لأمير
__________________
المؤمنين عليهالسلام ، أو انظر في أمرك ، في مركزك ومقامك .
.
٢ ـ جا : علي بن محمد
البصري ، عن أحمد بن إبراهيم ، عن زكريا بن يحيى ، عن عبد الجبار ، عن سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن ابن
الصياد ، عن سعيد بن المسيب قال : لما قبض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ارتجت مكة بنعيه.
فقال أبو قحافة :
ما هذا؟
قالوا : قبض رسول
الله.
قال : فمن ولي
الناس بعده؟
قالوا : ابنك.
قال : فهل رضيت
بنو عبد شمس وبنو المغيرة؟
قالوا : نعم.
قال : لا مانع لما
أعطى الله ولا معطي لما منع الله ، ما أعجب هذا الأمر يتنازعون النبوة ويسلمون الخلافة ، ( إِنَّ هذا
لَشَيْءٌ يُرادُ )
بيان
: أي : ما أعجب
منازعة بني عبد شمس وبني المغيرة في النبوة الحقة وتسليمهم الخلافة الباطلة.
( إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ ) ، أي : هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد
__________________
له ، أو إن تولي
أمر الخلافة شيء يتمنى ، أو يريده كل أحد ، أو إن دينكم يطلب ليؤخذ منكم كما قيل
في الآية ، والأخير هنا أبعد.
٣
ـ ج : روي أن أبا قحافة كان
بالطائف لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وبويع لأبي بكر ، فكتب إلى أبيه كتابا عنوانه :
من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة ، أما بعد ، فإن الناس قد تراضوا بي ، فأنا اليوم خليفة الله
، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك.
فلما قرأ أبو قحافة
الكتاب قال للرسول : ما منعهم من علي؟
قال الرسول : هو حدث السن ،
وقد أكثر القتل في قريش وغيرها ، وأبو بكر أسن منه.
قال أبو قحافة :
إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحق من أبي بكر ، لقد ظلموا عليا حقه ، ولقد بايع له النبي وأمرنا
ببيعته.
ثم كتب إليه : من
أبي قحافة إلى أبي بكر أما بعد ، فقد أتاني كتابك ، فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه
بعضا ، مرة تقول : خليفة الله ، ومرة تقول :
خليفة رسول الله ، ومرة تراضى بي الناس ، وهو أمر ملتبس ، فلا تدخلن
__________________
في أمر يصعب عليك
الخروج منه غدا ، ويكون عقباك منه إلى الندامة ، وملامة النفس اللوامة ، لدى الحساب يوم القيامة ، فإن
للأمور مداخل ومخارج ، وأنت تعرف من هو أولى منك بها ، فراقب الله
كأنك تراه ، ولا تدعن صاحبها ، فإن تركها اليوم أخف عليك وأسلم لك ..
٤
ـ شف : من كتاب البهار
للحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن رئاب ، عن فضيل الرسان
والحسن بن السكن ، عمن أخبره ، عن أبي أمامة قال : لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله كتب أبو بكر إلى أسامة بن زيد : من أبي بكر خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى أسامة بن زيد ، أما بعد ، فإن المسلمين اجتمعوا علي لما أن قبض رسول الله
ـ صلىاللهعليهوآله فإذا أتاك كتابي هذا فأقبل.
قال : فكتب إليه أسامة بن زيد :
أما بعد ، فإنه جاءني كتاب لك ينقض آخره أوله ، كتبت إلي : من أبي بكر خليفة رسول
الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته ، ثم أخبرتني أن المسلمين اجتمعوا عليك.
قال : فلما قدم
عليه قال له : يا أبا بكر! أما تذكر رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله حين
أمرنا أن نسلم على علي بإمرة المؤمنين ، فقلت : أمن الله ومن رسوله؟!
فقال لك : نعم ، ثم قام عمر فقال : أمن الله ومن رسوله؟! فقال :
نعم ، ثم قام القوم فسلموا عليه ، فكنت أصغركم سنا ، فقمت فسلمت بإمرة
المؤمنين؟!
فقال : إن الله لم
يكن ليجمع لهم النبوة والخلافة.
__________________
١٠ ـ باب
إقرار أبي بكر بفضل أمير
المؤمنين وخلافته بعد الغصب
١
ـ ج : عن عامر الشعبي
، عن عروة بن الزبير ، عن الزبير بن العوام قال : لما قال المنافقون : إن أبا بكر تقدم عليا
وهو يقول : أنا أولى بالمكان منه.
قام أبو بكر خطيبا
فقال : صبرا على من ليس يئول إلى دين ، ولا يحتجب برعاية ، ولا يرعوي لولاية ، أظهر
الإيمان ذلة ، وأسر النفاق علة ، هؤلاء عصبة الشيطان ، وجمع الطغيان ..
تزعمون أني أقول : إني
أفضل من علي ، وكيف أقول ذلك؟ وما لي سابقته ولا قرابته ولا خصوصيته ، وحد الله
وأنا ملحده ، وعبده قبل أن أعبده ، ووالى
__________________
الرسول وأنا عدوه
، وسبقني بساعات لو تقطعت لم ألحق ثناءه ، ولم أقطع غباره.
إن علي بن أبي طالب
فاز ـ والله ـ من الله بمحبته ، ومن الرسول بقربة ، ومن الإيمان برتبة ، لو جهد الأولون والآخرون ـ إلا
النبيين ـ لم يبلغوا درجته ، ولم يسلكوا منهجه.
بذل لله مهجته ، ولابن
عمه مودته ، كاشف الكرب ، ودافع الريب ، وقاطع السبب إلا سبب الرشاد ، وقامع الشرك ، ومظهر
ما تحت سويداء حبة النفاق ، مجنة هذا العالم ، لحق قبل أن يلاحق ، وبرز قبل أن يسابق ، جمع
العلم والحلم والفهم ، فكأن جميع الخيرات كانت لقلبه كنوزا ، لا يدخر منها مثقال ذرة إلا أنفقه في بابه.
فمن ذا يأمل أن ينال درجته
وقد جعله الله ورسوله للمؤمنين وليا ، وللنبي
__________________
وصيا ، وللخلافة
واعيا ، وبالإمامة قائما؟! أفيغتر الجاهل بمقام قمته إذ أقامني وأطعته إذ أمرني؟
سمعت رسول الله
يقول : الحق مع علي وعلي مع الحق ، من أطاع عليا رشد ، ومن عصى عليا فسد ، ومن أحبه سعد ،
ومن أبغضه شقي.
والله لو لم نحب ابن أبي طالب إلا
لأجل أنه لم يواقع لله محرما ، ولا عبد من دونه صنما ، ولحاجة الناس إليه بعد نبيهم ، لكان في ذلك
ما يجب.
فكيف لأسباب أقلها
موجب ، وأهونها مرغب! له الرحم الماسة بالرسول ، والعلم بالدقيق والجليل ، والرضا بالصبر
الجميل ، والمواساة في الكثير والقليل ، وخلال لا يبلغ عدها ، ولا يدرك مجدها.
ود المتمنون أن لو
كانوا تراب ابن أبي طالب ، أليس هو صاحب لواء الحمد ، والساقي يوم
الورود ، وجامع كل كرم ، وعالم كل علم ، والوسيلة إلى الله وإلى
رسوله؟!.
بيان
: قوله : لم ألحق
ثناءه ، كذا في بعض النسخ ، أي : لا أطيق أن
__________________
أثنى عليه كما هو
أهله ، وفي بعضها : شأوه : وهو الغاية والأمد والسبق ، يقال : شأوت القوم شأوا ،
أي : سبقتهم ، وفي بعضها : شاره ، ولعله من الشارة ، وهي الهيئة الحسنة
والحسن والجمال والزينة ، ولا يبعد أن يكون في الأصل : ناره ، لاستقامة السجع
وبلاغة المعنى.
وأما قوله : ولم
أقطع غباره ، فهو مثل ، يقال : فلان ما يشق غباره إذا سبق غيره في الفضل ، أي : لا
يلحق أحد غباره فيشقه ، كما هو المعروف في المثل بين العجم : أو ليس له غبار
لسرعته ، واختار الميداني الأخير ، حيث قال :
يريد : أنه لا غبار له فيشق ، وذلك لسرعة عدوه وخفة وطئه ، وقال :
مواقع وطئه فلو
أنه
|
|
يجزي برملة عالج لم يرهج
|
وقال النابغة :
أعلمت يوم عكاظ
حين لقيتني
|
|
تحت العجاج فما
شققت غباري
|
يضرب لمن لا يجارى
، لأن مجاريك يكون معك في الغبار ، فكأنه قال :
__________________
لا قرن له يجاريه .
وقال الجوهري :
سواد القلب وسويداؤه : حبته .
__________________
١١ ـ باب
نزول
الآيات في أمر فدك وقصصه
وجوامع الاحتجاج فيه
وفيه قصة
خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين عليهالسلام بأمر
المنافقين
١
ـ ن : فيما احتج
الرضا عليهالسلام في فضل العترة الطاهرة.
قال : والآية
الخامسة : قال الله عز وجل : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) خصوصية خصهم العزيز الجبار بها ، واصطفاهم على الأمة.
فلما نزلت هذه
الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ادعوا إلي فاطمة.
__________________
فدعيت له ، فقال :
يا فاطمة!
قالت : لبيك يا
رسول الله.
فقال صلىاللهعليهوآله : فدك هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وهي لي خاصة دون المسلمين ، وقد جعلتها لك ،
لما أمرني الله به ، فخذيها لك ولولدك.
بيان
: نزول هذه الآية في فدك
رواه كثير من المفسرين ، ووردت به الأخبار من طرق الخاصة والعامة .
__________________
قال الشيخ الطبرسي
رحمهالله :
قيل : إن المراد
قرابة الرسول.
عن السدي قال : إن
علي بن الحسين قال لرجل من أهل الشام ـ حين بعث به عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن
معاوية عليه اللعنة ـ : أقرأت القرآن؟
قال : نعم.
قال : أما قرأت ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ ) ؟
قال : وإنكم ذو القربى
الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟
قال : نعم ..
وهو الذي رواه
أصحابنا رضاللهعنهم عن الصادقين عليهمالسلام.
وأخبرنا السيد
مهدي بن نزار الحسني ـ بإسناد ذكره ـ عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت قوله : ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ ) أعطى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة فدك.
قال عبد الرحمن بن
صالح : كتب المأمون إلى عبيد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك ، فكتب إليه عبيد الله
بهذا الحديث ، رواه عن الفضيل بن مرزوق عن عطية ، فرد المأمون فدك على ولد فاطمة ،
انتهى.
وروى العياشي حديث عبد الرحمن
بن صالح ، إلى آخره.
٢
ـ جا : الجعابي ، عن
محمد بن جعفر الحسني ، عن عيسى بن مهران ، عن يونس ، عن عبد الله بن محمد بن
سليمان الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن زينب بنت علي بن أبي طالب ـ عليهالسلام ـ قالت : لما اجتمع رأي
__________________
أبي بكر على منع
فاطمة عليهاالسلام فدك والعوالي ، وأيست من إجابته لها ، عدلت إلى قبر أبيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فألقت نفسها عليه ، وشكت إليه ما فعله القوم بها ، وبكت حتى بلت تربته صلىاللهعليهوآله بدموعها عليهاالسلام ، وندبته.
ثم قالت في آخر
ندبتها :
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت شاهدها
لم يكبر الخطب
|
إنا فقدناك فقد
الأرض وابلها
|
|
واختل قومك
فاشهدهم فقد نكبوا
|
قد كان جبريل
بالآيات يؤنسنا
|
|
فغبت عنا فكل
الخير محتجب
|
وكنت بدرا ونورا يستضاء به
|
|
عليك تنزل من ذي
العزة الكتب
|
__________________
تجهمتنا رجال
واستخف بنا
|
|
بعد النبي وكل
الخير مغتصب
|
سيعلم المتولي
ظلم حامتنا
|
|
يوم القيامة أنى
سوف ينقلب
|
فقد لقينا الذي
لم يلقه أحد
|
|
من البرية لا
عجم ولا عرب
|
فسوف نبكيك ما
عشنا وما بقيت
|
|
لنا العيون
بتهمال له سكب
|
بيان
: الحامة : خاصة
الرجل ، والتخفيف لضرورة الشعر ، قال في النهاية : في الحديث : اللهم إن هؤلاء أهل بيتي
وحاميتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .. حامة الإنسان خاصته ومن
يقرب منه ، وهو الحميم أيضا ، انتهى.
والتهمال من الهمل
، وإن لم يرد في اللغة ، قال الجوهري : هملت عينه تهمل وتهمل هملا وهملانا : أي
فاضت ، وانهملت مثله .
وقال : سكبت الماء
سكبا أي : صبيته ، وسكب الماء نفسه سكوبا وتسكابا وانسكب بمعنى
وسيأتي شرح باقي
الأبيات في بيان خطبتها.
٣
ـ فر : زيد بن محمد بن
جعفر العلوي ، عن محمد بن مروان ، عن
__________________
عبيد بن يحيى ، عن
محمد بن علي بن الحسين عليهمالسلام قال : لما نزل جبرئيل عليهالسلام على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، شد رسول الله صلىاللهعليهوآله سلاحه وأسرج دابته ، وشد علي عليهالسلام سلاحه وأسرج دابته ، ثم توجها في جوف الليل ـ وعلي عليهالسلام لا يعلم حيث يريد رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ حتى [ انتهيا ] إلى فدك.
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوآله : يا علي! تحملني أو أحملك؟.
فقال علي عليهالسلام : أحملك يا رسول الله.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي! بل أنا أحملك ، لأني أطول بك ولا تطول بي.
فحمل عليا عليهالسلام على كتفيه ، ثم قام به ، فلم يزل يطول به حتى علا على سور الحصن ، فصعد علي عليهالسلام على الحصن ومعه سيف رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأذن على الحصن وكبر.
فابتدر أهل الحصن
إلى باب الحصن هرابا ، حتى فتحوه وخرجوا منه ، فاستقبلهم رسول الله صلىاللهعليهوآله بجمعهم ، ونزل علي إليهم ، فقتل علي عليهالسلام ثمانية عشر من عظمائهم وكبرائهم ، وأعطى الباقون بأيديهم ،
وساق رسول الله صلىاللهعليهوآله ذراريهم ومن بقي منهم وغنائمهم يحملونها على
__________________
رقابهم إلى
المدينة .
فلم يوجف فيها غير
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فهي له ولذريته خاصة دون المؤمنين.
٤
ـ كنز : محمد بن العباس
، عن علي بن العباس المقانعي ، عن أبي كرب ، عن معاوية بن هشام ، عن فضيل بن مرزوق ، عن
عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة ـ عليهاالسلام ـ وأعطاها فدكا.
٥
ـ مد : بإسناده إلى
البخاري من صحيحه ، عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل بن شهاب ، عن عروة ، عن
عائشة : أن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلىاللهعليهوآله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.
فقال أبو بكر : إن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا
المال ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله
__________________
عليه وآله ،
ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا.
فوجدت فاطمة على
أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ستة أشهر ، فلما
توفيت دفنها زوجها علي عليهالسلام ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلى عليها علي عليهالسلام .
٦ ـ وروى مثل ذلك من صحيح
مسلم بسنده ..
٧
ـ مصباح الأنوار : عن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عليهماالسلام قال : قالت فاطمة عليهاالسلام لعلي عليهالسلام :
إن لي إليك حاجة يا أبا الحسن.
فقال : تقضى يا بنت رسول الله
صلىاللهعليهوآله.
فقالت : نشدتك بالله وبحق محمد
رسول الله أن لا يصلي علي أبو بكر ولا عمر ، فإني لأكتمك حديثا ، فقالت :
قال لي رسول الله صلى الله عليه
__________________
وآله : يا فاطمة!
إنك أول من يلحق بي من أهل بيتي ، فكنت أكره أن أسوءك.
قال : فلما قبضت
أتاه أبو بكر وعمر وقالا : لم لا تخرجها حتى نصلي عليها؟
فقال : ما أرانا
إلا سنصبح ، ثم دفنها ليلا ، ثم صور برجله حولها سبعة أقبر.
قال : فلما أصبحوا
أتوه فقالا : يا أبا الحسن! ما حملك على أن تدفن بنت رسول الله (ص)
ولم نحضرها؟
قال : ذلك عهدها
إلي.
قال : فسكت أبو
بكر ، فقال عمر : هذا والله شيء في جوفك.
فثار إليه أمير
المؤمنين عليهالسلام فأخذ بتلابيبه ، ثم جذبه فاسترخى في يده ، ثم قال : والله لو لا كتاب سبق
وقول من الله ، والله لقد فررت يوم خيبر وفي مواطن ، ثم لم ينزل الله لك توبة حتى
الساعة.
فأخذه أبو بكر
وجذبه وقال : قد نهيتك عنه.
٨
ـ فس : ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) يعني :
قرابة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ونزلت في فاطمة عليهاالسلام ، فجعل لها فدك.
والمسكين من ولد
فاطمة ، وابن السبيل من آل محمد وولد فاطمة.
٩
ـ فس : ( مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ ) ، قال : المناع : الثاني ، والخير : ولاية
__________________
أمير المؤمنين
وحقوق آل محمد عليهمالسلام.
ولما كتب الأول
كتاب فدك بردها على فاطمة منعه الثاني ، فهو ( مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) .
١٠
ـ يج : روي عن أبي عبد
الله عليهالسلام : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله خرج في غزاة ، فلما انصرف راجعا نزل في بعض الطريق ،
فبينما رسول الله صلىاللهعليهوآله يطعم والناس معه إذ أتاه جبرئيل فقال : يا محمد! قم فاركب.
فقام النبي فركب
وجبرئيل معه ، فطويت له الأرض كطي الثوب حتى انتهى إلى فدك.
فلما سمع أهل فدك
وقع الخيل ظنوا أن عدوهم قد جاءهم ، فغلقوا أبواب المدينة ودفعوا المفاتيح إلى
عجوز لهم في بيت لهم خارج من المدينة ، ولحقوا برءوس الجبال.
فأتى جبرئيل
العجوز حتى أخذ المفاتيح ، ثم فتح أبواب المدينة ، ودار النبي صلىاللهعليهوآله في بيوتها وقراها.
فقال جبرئيل : يا
محمد! هذا ما خصك الله به وأعطاكه دون الناس ، وهو قوله تعالى : ( ما أَفاءَ
اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
__________________
الْقُرْبى
) [ في ] قوله : ( فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ
يَشاءُ ) ، ولم يعرف المسلمون ولم يطئوها ، ولكن الله أفاءها على
رسوله ، وطوف به جبرئيل في دورها وحيطانها ، وغلق الباب ودفع المفاتيح إليه.
فجعلها رسول الله صلىاللهعليهوآله في غلاف سيفه ـ وهو معلق بالرحل ثم ركب ، وطويت له الأرض كطي الثوب ، ثم
أتاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله وهم على مجالسهم ولم يتفرقوا ولم يبرحوا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قد انتهيت إلى فدك ، وإني قد أفاءها الله علي.
فغمز المنافقون
بعضهم بعضا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : هذه مفاتيح فدك ، ثم أخرج من غلاف سيفه ، ثم ركب رسول الله صلىاللهعليهوآله وركب معه الناس.
فلما دخل المدينة
دخل على فاطمة عليهاالسلام فقال : يا بنية! إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصه بها
، فهي له خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء ، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر ،
وإن أباك قد جعلها لك
__________________
بذلك ، وأنحلتكها
لك ولولدك بعدك.
قال : فدعا بأديم ، ودعا علي بن
أبي طالب ، فقال : اكتب لفاطمة عليهاالسلام بفدك نحلة من رسول الله ، فشهد على ذلك علي بن
أبي طالب عليهالسلام ومولى لرسول الله وأم أيمن ، فقال رسول الله إن أم أيمن
امرأة من أهل الجنة.
وجاء أهل فدك إلى
النبي ، فقاطعهم على أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة .
بيان
: آية الفيء في
موضعين :
إحداهما : ( ما أَفاءَ
اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .
ثانيتهما : ( وَما
أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
والفيء : الرجوع أي أرجعه الله
ورده على رسوله.
والمشهور أن
الضمير في منهم راجع إلى بني النضير.
والإيجاف : من
الوجيف وهو السبر السريع .
__________________
والركاب من الإبل
ما يركب ، والواحدة راحلة .
١١
ـ قب : نزل النبي صلىاللهعليهوآله على فدك يحاربهم.
ثم قال لهم : وما
يأمنكم أن تكونوا آمنين في هذا الحصن وأمضي إلى حصونكم فأفتحها.
فقالوا : إنها
مقفلة ، وعليها من يمنع عنها ، ومفاتيحها عندنا.
فقال عليهالسلام : إن مفاتيحها دفعت إلي ، ثم أخرجها وأراها القوم.
فاتهموا ديانهم أنه صبا إلى دين محمد ،
ودفع المفاتيح إليه.
فحلف أن المفاتيح
عنده ، وأنها في سفط في صندوق في بيت مقفل عليه ، فلما فتش عنها ففقدت.
فقال الديان : لقد
أحرزتها وقرأت عليها من التوراة وخشيت من سحره ، وأعلم الآن أنه ليس بساحر ، وإن
أمره لعظيم.
فرجعوا إلى النبي صلىاللهعليهوآله وقالوا : من أعطاكها؟
قال : أعطاني الذي
أعطى موسى الألواح : جبرئيل.
__________________
فتشهد الديان ، ثم
فتحوا الباب وخرجوا إلى رسول الله ، وأسلم من أسلم منهم ، فأقرهم في
بيوتهم وأخذ منهم أخماسهم.
فنزل : ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ ) .
قال : وما هو؟
قال : أعط فاطمة
فدكا ، وهي من ميراثها من أمها خديجة ، ومن أختها هند بنت أبي هالة ، فحمل إليها
النبي صلىاللهعليهوآله ما أخذ منه ، وأخبرها بالآية.
فقالت : لست أحدث
فيها حدثا وأنت حي ، أنت أولى بي من نفسي ومالي لك.
فقال : أكره أن
يجعلوها عليك سبة فيمنعوك إياها من بعدي.
فقالت : أنفذ فيها
أمرك ، فجمع الناس إلى منزلها وأخبرهم أن هذا المال لفاطمة عليهاالسلام ، ففرقه فيهم ، وكان كل سنة كذلك ، ويأخذ منه قوتها ، فلما دنا وفاته دفعه
إليها.
بيان
: السبة ـ بالضم ـ :
العار ، أي : يمنعونها منك فيكون عارا عليك .
ويحتمل أن يكون
شبهة ، أو نحوها.
١٢
ـ شي ، تفسير العياشي : عن أبي جميلة
المفضل بن صالح ، عن بعض أصحابه ،
__________________
عن أحدهما قال :
إن فاطمة صلوات الله عليها انطلقت إلى أبي بكر فطلبت ميراثها من نبي الله صلىاللهعليهوآله.
فقال : إن نبي
الله لا يورث.
فقالت : أكفرت
بالله وكذبت بكتابه؟ قال الله : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .
١٣
ـ شي ، تفسير العياشي : عن محمد بن حفص بن
عمر ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما أنزل الله تعالى : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ) قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا جبرئيل! قد عرفت المسكين ، فمن ذوو القربى ؟
قال : هم أقاربك.
فدعى حسنا وحسينا
وفاطمة فقال : إن ربي أمرني أن أعطيكم ما أفاء علي ، قال : أعطيتكم فدك.
١٤_شي : عن أبان بن تغلب قال : : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام :
__________________
كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطى فاطمة عليهاالسلام فدكا؟
قال : كان وقفها ،
فأنزل الله : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) ، فأعطاها فدكا .
١٥
ـ شي ، تفسير العياشي : عن ابن تغلب
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطى فاطمة عليهاالسلام فدكا؟
قال : كان لها من
الله تعالى .
١٦
ـ شي ، تفسير العياشي : عن جميل بن
دراج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : أتت فاطمة أبا بكر تريد فدك.
فقال : هاتي أسود أو
أحمر يشهد بذلك.
قال : فأتت بأم
أيمن.
فقال لها : بم
تشهدين؟
قالت : أشهد أن
جبرئيل أتى محمدا فقال : إن الله تعالى يقول ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) ، فلم يدر محمد صلىاللهعليهوآله من هم؟ فقال : يا جبرئيل! سل ربك من هم؟ فقال : فاطمة ذو
القربى ، فأعطاها فدكا.
__________________
فزعموا أن عمر محا
الصحيفة وقد كان كتبها أبو بكر.
١٧
ـ شي ، تفسير العياشي : عن عطية العوفي
قال : لما افتتح رسول الله صلىاللهعليهوآله خيبر ، وأفاء الله عليه فدك ، وأنزل عليه : ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ ) .
قال : يا فاطمة!
لك فدك.
١٨
ـ شي ، تفسير العياشي : عن أبي الطفيل
، عن علي عليهالسلام قال : قال يوم الشورى : أفيكم أحد تم نوره من السماء حين
قال : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ) ؟
قالوا : لا ..
١٩
ـ فر : جعفر بن محمد
بن سعيد الأحمسي ، معنعنا عن أبي مريم قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : لما نزلت الآية : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) أعطى رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة فدكا.
فقال أبان بن تغلب
: رسول الله أعطاها؟!
قال : فغضب أبو
جعفر عليهالسلام ، ثم قال : الله أعطاها .
٢٠
ـ فر : فرات بن
إبراهيم الكوفي ، معنعنا عن أبي سعيد الخدري قال :
__________________
لما نزلت الآية
دعا النبي صلىاللهعليهوآله فاطمة عليهاالسلام فأعطاها فدكا.
فقال : هذا لك
ولعقبك بعدك ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) .
٢١
ـ فر : الحسين بن
الحكم ، معنعنا عن عطية قال : لما نزلت هذه الآية ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) دعا النبي صلىاللهعليهوآله فاطمة عليهاالسلام فأعطاها فدكا.
فكل ما لم يوجف
عليه أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله ب ( خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) فهو لرسول الله صلىاللهعليهوآله يضعه حيث يشاء ، [ و ] فدك مما لم يوجف عليه ب ( خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ).
٢٢
ـ فر : جعفر بن محمد
الفزاري ، معنعنا عن ابن عباس في قوله تعالى :
( وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) ، وذلك حين جعل رسول الله صلىاللهعليهوآله سهم ذي القربى لقرابته ، فكانوا يأخذونه على عهد النبي صلى
الله عليه
__________________
وآله حتى توفي ، ثم
حجبوا الخمس عن قرابته فلم يأخذوه.
أقول
: : روى السيد ابن
طاوس في كتاب سعد السعود من تفسير محمد ابن العباس بن علي بن مروان ، قال : روي
حديث فدك في تفسير قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) عن عشرين طريقا.
٢٣ ـ فمنها : ـ ما رواه عن محمد بن محمد بن سليمان الأعبدي ،
وهيثم ابن خلف الدوري ، وعبد الله بن سليمان بن الأشعب ، ومحمد بن القاسم بن زكريا
، قالوا : حدثنا عباد بن يعقوب قال : أخبرنا علي بن عابس ..
٢٤ ـ وحدثنا جعفر بن محمد الحسيني ، عن علي بن المنذر الطريفي
، عن علي بن عابس ، عن فضل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال :
لما نزلت : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة وأعطاها فدكا.
٢٥ ـ وقال رحمه الله في كشف المحجة فيما أوصى إلى
ابنه : قد وهب جدك محمد صلىاللهعليهوآله أمك فاطمة صلوات الله عليها فدكا والعوالي .
وكان دخلها في
رواية الشيخ عبد الله بن حماد الأنصاري أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة ، وفي
رواية غيره سبعين ألف دينار.
__________________
٢٦
ـ ع : أبي ، عن علي ، عن أبيه ، عن
ابن أبي عمير ، عمن ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما منع أبو بكر فاطمة عليهاالسلام فدكا وأخرج وكيلها ، جاء أمير المؤمنين عليهالسلام إلى المسجد ، وأبو بكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار.
فقال : يا أبا بكر!
لم منعت فاطمة ما جعله رسول الله صلىاللهعليهوآله لها ووكيلها فيه منذ سنين؟!
فقال أبو بكر :
هذا فيء للمسلمين ، فإن أتت بشهود عدول ، وإلا فلا حق لها فيه.
قال : يا أبا بكر!
تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين؟! قال : لا.
قال : أخبرني لو
كان في يد المسلمين شيء فادعيت أنا فيه ، من كنت تسأل البينة؟
قال : إياك كنت
أسأل.
قال : فإذا كان في
يدي شيء فادعى فيه المسلمون ، تسألني فيه البينة؟
قال : فسكت أبو
بكر ، فقال عمر : هذا فيء للمسلمين ، ولسنا من خصومتك في شيء.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام لأبي بكر : يا أبا بكر! تقر بالقرآن؟
قال : بلى.
__________________
قال : أخبرني عن قول الله عز
وجل : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) فينا أو في غيرنا نزلت؟
قال : فيكم .
قال : فأخبرني لو أن شاهدين من
المسلمين شهدا على فاطمة عليهاالسلام بفاحشة ما كنت صانعا؟
قال : كنت أقيم
عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين!!! قال : كنت إذا عند الله من الكافرين.
قال : ولم؟
قال : لأنك كنت
ترد شهادة الله وتقبل شهادة غيره ، لأن الله عز وجل قد شهد لها بالطهارة ، فإذا
رددت شهادة الله وقبلت شهادة غيره كنت عند الله من الكافرين.
قال : فبكى الناس
، وتفرقوا ، ودمدموا.
فلما رجع أبو بكر
إلى منزله بعث إلى عمر فقال : ويحك يا ابن الخطاب! أما رأيت عليا وما فعل بنا؟ والله
لئن قعد مقعدا آخر ليفسدن هذا الأمر علينا
__________________
ولا نتهنأ بشيء ما
دام حيا.
قال عمر : ما له
إلا خالد بن الوليد.
فبعثوا إليه ،
فقال له أبو بكر : نريد أن نحملك على أمر عظيم.
قال : احملني على
ما شئت ولو على قتل علي.
قال : فهو قتل
علي.
قال : فصر بجنبه ،
فإذا أنا سلمت فاضرب عنقه.
[ فبعثت ] أسماء بنت عميس ـ
وهي أم محمد بن أبي بكر ـ خادمتها فقالت : اذهبي إلى فاطمة فأقرئيها السلام ، فإذا
دخلت من الباب فقولي : ( إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) ، فإن فهمتها
وإلا فأعيديها مرة أخرى.
فجاءت فدخلت ،
وقالت : إن مولاتي تقول يا بنت رسول الله كيف أنت ؟ ثم قرأت هذه
الآية : ( إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ ) ، فلما أرادت أن تخرج قرأتها.
فقال لها أمير المؤمنين
عليهالسلام : أقرئيها السلام وقولي لها : إن الله عز وجل يحول بينهم وبين ما
يريدون إن شاء الله.
فوقف خالد بن
الوليد بجنبه ، فلما أراد أن يسلم لم يسلم ، [ و ] قال :
يا خالد! لا تفعل ما أمرتك ، السلام عليكم .
__________________
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : ما هذا الذي أمرك به ثم نهاك قبل أن يسلم؟
قال : أمرني بضرب
عنقك ، وإنما أمرني بعد التسليم.
فقال : وكنت فاعلا؟
فقال : إي والله ،
لو لم ينهني لفعلت.
قال : فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام فأخذ بمجامع ثوب خالد ، ثم ضرب به الحائط ، وقال لعمر : يا
ابن الصهاك ! والله لو لا عهد من رسول الله و ( كِتابٌ
مِنَ اللهِ سَبَقَ ) لعلمت أينا ( أَضْعَفُ جُنْداً
وَأَقَلُّ عَدَداً ).
أقول
: : الدمدمة : الغضب
، ودمدم عليه : كلمه مغضبا .
٢٧
ـ ج : عن حماد بن
عثمان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع
المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله منها.
فجاءت فاطمة عليهاالسلام إلى أبي بكر فقالت : يا أبا بكر! لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأخرجت وكيلي من فدك؟! وقد جعلها لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر الله تعالى.
فقال : هاتي على
ذلك بشهود.
فجاءت بأم أيمن ،
فقالت : لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما
__________________
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إن أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟
فقال : بلى.
قالت : فأشهد أن
الله عز وجل أوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) فجعل فدك لفاطمة بأمر الله.
وجاء علي فشهد بمثل
ذلك.
فكتب لها كتابا
ودفعه إليها.
فدخل عمر ، فقال :
ما هذا الكتاب؟
فقال : إن فاطمة
ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبته .
فأخذ عمر الكتاب
من فاطمة فمزقه .
فخرجت فاطمة عليهاالسلام تبكي.
فلما كان بعد ذلك
جاء علي عليهالسلام إلى أبي بكر ـ وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار ـ فقال
: يا أبا بكر! لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد ملكته في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله؟
فقال أبو بكر : إن
هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهودا أن رسول الله جعله لها ، وإلا فلا حق لها
فيه .
فقال أمير
المؤمنين صلوات الله عليه وآله : يا أبا بكر! تحكم فينا بخلاف
__________________
حكم الله في
المسلمين؟
قال : لا.
قال : فإن كان في
يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادعيت أنا فيه ، من تسأل البينة؟
قال : إياك كنت أسأل البينة.
قال : فما بال
فاطمة سألتها البينة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوها شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟!
فسكت أبو بكر ،
فقال عمر : يا علي! دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول
، وإلا فهو فيء للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمة فيه.
فقال علي عليهالسلام : يا أبا بكر! تقرأ كتاب الله؟
قال : نعم.
قال : أخبرني عن
قول الله عز وجل : ( إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
) فينا نزلت أو في غيرنا ؟! قال : بل فيكم.
قال : فلو أن
شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله بفاحشة ما كنت صانعا بها؟!
__________________
قال : كنت أقيم
عليها الحد كما أقيم على سائر نساء العالمين !!!
قال : كنت إذا عند
الله من الكافرين.
قال : ولم؟
قال : لأنك رددت
شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله
أن جعل لها فدك وقبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها ،
وأخذت منها فدكا ، وزعمت أنه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، فرددت قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه.
قال : فدمدم الناس
وأنكر بعضهم وقالوا : صدق والله علي ، ورجع علي عليهالسلام إلى منزله.
قال : ودخلت فاطمة عليهاالسلام المسجد ، وطافت على قبر أبيها ، وهي تقول :
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت شاهدها
لم تكثر الخطب
|
__________________
إنا فقدناك فقد
الأرض وابلها
|
|
واختل قومك
فاشهدهم فقد نكبوا
|
قد كان جبريل
بالآيات يؤنسنا
|
|
فغاب عنا فكل
الخير محتجب
|
قد كنت بدرا ونورا يستضاء به
|
|
عليك تنزل من ذي العزة الكتب
|
تهجمتنا رجال
واستخف بنا
|
|
إذ غبت عنا فنحن
اليوم نغتصب
|
فسوف نبكيك ما
عشنا وما بقيت
|
|
منا العيون
بتهمال لها سكب
|
قال : فرجع أبو
بكر وعمر إلى منزلهما ، وبعث أبو بكر إلى عمر ثم دعاه ، فقال : أما رأيت مجلس
علي منا في هذا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا مثله ليفسدن أمرنا ، فما الرأي؟.
قال عمر : الرأي أن
نأمر بقتله.
قال : فمن يقتله؟
__________________
قال : خالد بن
الوليد. فبعثا إلى خالد فأتاهم .
فقالا له : نريد
أن نحملك على أمر عظيم.
فقال : احملوني
على ما شئتم ، ولو على قتل علي بن أبي طالب.
قالا : فهو ذاك .
قال خالد : متى
أقتله؟
قال أبو بكر :
احضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة ، فإذا سلمت قم إليه واضرب عنقه.
قال : نعم.
فسمعت أسماء بنت
عميس ـ وكانت تحت أبي بكر ـ فقالت لجاريتها :
اذهبي إلى منزل
علي وفاطمة عليهماالسلام وأقرئيهما السلام ، وقولي لعلي : ( إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ ) .
فجاءت الجارية
إليهم فقالت لعلي : إن أسماء بنت عميس تقرأ عليك السلام وتقول : ( إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ ) .
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : قولي لها : إن الله يحول بينهم وبين ما يريدون.
__________________
ثم قام وتهيأ
للصلاة ، وحضر المسجد ، وصلى لنفسه خلف أبي بكر ، وخالد بن الوليد بجنبه ومعه السيف ،
فلما جلس أبو بكر للتشهد ندم على ما قال وخاف الفتنة ، وعرف شدة علي وبأسه ، فلم
يزل متفكرا لا يجسر أن يسلم ، حتى ظن الناس أنه سها .
ثم التفت إلى خالد
وقال : يا خالد! لا تفعلن ما أمرتك ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : يا خالد! ما الذي أمرك به؟.
قال : أمرني بضرب
عنقك.
قال : أوكنت فاعلا؟.
قال : إي والله لو
لا أنه قال لي : لا تفعله قبل التسليم لقتلتك.
قال : فأخذه علي
فجلد به الأرض ، فاجتمع الناس عليه.
فقال عمر : يقتله
ورب الكعبة.
فقال الناس : يا
أبا الحسن! الله الله ، بحق صاحب القبر.
فخلى عنه ، ثم
التفت إلى عمر فأخذ بتلابيبه فقال : يا ابن صهاك! والله لو لا عهد من رسول الله و ( كِتابٌ
مِنَ اللهِ سَبَقَ ) لعلمت أينا ( أَضْعَفُ ناصِراً
وَأَقَلُّ عَدَداً )
__________________
ودخل منزله.
٢٨
ـ فس : أبي ، عن ابن
أبي عمير ، عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : مثله.
وفيه : فأخذ عمر
الكتاب من فاطمة عليهاالسلام فمزقه ، وقال : هذا فيء المسلمين ، وقال : أوس بن الحدثان
وعائشة وحفصة يشهدون على رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ بأنه قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة
، وأن عليا زوجها يجر إلى نفسه ، وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها
لنظرنا فيه.
فخرجت فاطمة صلوات
الله عليها من عندهما باكية حزينة ، فلما كان بعد هذا جاء علي.
وفيه بعد قوله لها
: نغتصب :
فكل أهل له قربى
ومنزلة
|
|
عند الإله على
الأدنين يقترب
|
أبدت رجال لنا
نجوى صدورهم
|
|
لما مضيت وحالت
دونك الكتب
|
فقد رزينا بما
لم يرزه أحد
|
|
من البرية لا
عجم ولا عرب
|
__________________
وقد رزينا به
محضا خليقته
|
|
صافي الضرائب
والأعراق والنسب
|
فأنت خير عباد
الله كلهم
|
|
وأصدق الناس حين
الصدق والكذب
|
وفيه بعد البيت
الأخير :
سيعلم المتولي
ظلم حامتنا
|
|
يوم القيامة أنا
كيف ننقلب
|
بيان
: تجهمتنا ، في بعض
النسخ : تهضمتنا ، يقال : تهضمه أي : ظلمه .
وفي ( فس ) [
تفسير علي بن إبراهيم ] فغمصتنا ، من غمصت الشيء احتقرته ، والتشديد
للتكثير والمبالغة ، ويقال : رزأه ماله كجعله وعمله رزءا ـ بالضم ـ أصاب منه شيئا.
والرزيئة :
المصيبة .
والضريبة :
الطبيعة .
والعرق : أصل كل
شيء ، والجمع عروق وأعراق .
وفي ( فس ) [
تفسير علي بن إبراهيم ] مكان قوله : بتهمال : بهمال كشداد.
وفي بعض الروايات
مكان العيون : الشئون.
__________________
والتلبيب : ما في
بعض اللبب من الثياب ، واللبب موضع القلادة .
٢٩
ـ ج : روي أن أبا بكر
وعمر بعثا إلى خالد بن الوليد ، فواعداه وفارقاه على قتل علي عليهالسلام ، فضمن ذلك لهما.
فسمعت أسماء بنت عميس امرأة
أبي بكر وهي في خدرها ، فأرسلت خادمة لها وقالت : ترددي في دار علي عليهالسلام وقولي : ( إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) .
ففعلت الجارية ،
وسمعها علي عليهالسلام فقال : رحمها الله ، قولي لمولاتك : فمن يقتل الناكثين
والقاسطين والمارقين ؟
ووقعت المواعدة
لصلاة الفجر ، إذ كان أخفى وأخوت للسدفة والشبهة ، ولكن ( اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ ) ، وكان أبو بكر قال لخالد بن الوليد : إذا انصرفت من الفجر
فاضرب عنق علي.
فصلى إلى جنبه لأجل
ذلك ، وأبو بكر في الصلاة يفكر في العواقب ، فندم ، فجلس في صلاته حتى كادت الشمس
تطلع ، يتعقب الآراء ويخاف الفتنة ولا يأمن على نفسه ، فقال قبل أن يسلم في صلاته
: يا خالد! لا تفعل ما أمرتك
__________________
به ، ثلاثا.
وفي رواية أخرى :
لا يفعلن خالد ما أمرته .
فالتفت علي عليهالسلام ، فإذا خالد مشتمل على السيف إلى جانبه ، فقال : يا خالد ! أوكنت فاعلا؟!
فقال : إي والله ،
لو لا أنه نهاني لوضعته في أكثرك شعرا.
فقال له علي عليهالسلام : كذبت لا أم لك ، من يفعله أضيق حلقة است منك ، أما والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة لو لا ما سبق من القضاء لعلمت أي الفريقين ( شَرٌّ مَكاناً
وَأَضْعَفُ جُنْداً )
وفي رواية أبي ذر رحمه الله : أن
أمير المؤمنين عليهالسلام أخذ خالدا بإصبعيه ـ السبابة والوسطى ـ في ذلك الوقت ،
فعصره عصرا ، فصاح خالد صيحة منكرة ، ففزع الناس ، وهمتهم أنفسهم ، وأحدث خالد في
ثيابه ، وجعل يضرب برجليه ولا يتكلم.
فقال أبو بكر لعمر
: هذه مشورتك المنكوسة ، كأني كنت أنظر إلى هذا وأحمد الله على سلامتنا.
وكلما دنا أحد
ليخلصه من يده عليهالسلام لحظه لحظة تنحى عنه راجعا .
فبعث أبو بكر عمر إلى العباس ،
فجاء وتشفع إليه وأقسم عليه ، فقال :
__________________
بحق القبر ومن فيه ،
وبحق ولديه وأمهما إلا تركته.
ففعل ذلك ، وقبل
العباس بين عينيه.
بيان
: وأخوت ، قال
الفيروزآبادي : خات الرجل ماله : تنقصه ، والخوات ـ بالتشديد ـ الرجل الجريء ،
وخات الرجل : اختطف ، واختات الذئب الشاة : ختلها فسرقها ، وخاوت طرفه دوني : سارقه .
وفي أكثر النسخ :
واختيرت السدفة ، والسدفة ـ بالضم ـ : الظلمة ، أو اختلاط الضوء والظلمة معا لوقت ما بين
طلوع الفجر إلى الإسفار .
في أكثر شعرا ، أي
: في رأسك ، فإنه أكثر أجزاء البدن شعرا.
والاست ـ بالكسر ـ
: الدبر ، ويحتمل أن يكون ضيقه كناية عن الجرأة والشجاعة.
ثم اعلم : أن هذه
القصة من المشهورات بين الخاصة والعامة ، وإن أنكره بعض المخالفين.
وقال ابن أبي
الحديد في شرحه على نهج البلاغة : سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد فقلت له : إني
لأعجب من علي عليهالسلام كيف بقي تلك المدة
__________________
الطويلة بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله؟! وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله مع
تلظي الأكباد عليه؟!
فقال : لو لا أنه
أرغم أنفه بالتراب ، ووضع خده في حضيض الأرض ، لقتل ، ولكنه أخمل نفسه ، واشتغل
بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن ، وخرج عن ذلك الزي الأول وذلك الشعار ، ونسي
السيف ، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال ، فلما أطاع القوم الذين
ولوا الأمر وصار أذل لهم من الحذاء ، تركوه وسكتوا عنه ، ولم تكن العرب لتقدم عليه
إلا بمواطأة من متولي الأمر ، وباطن في السر منه ، فلما لم يكن لولاة الأمر باعث
وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه ، لو لا ذلك لقتل ، ثم الأجل بعد معقل حصين.
فقلت له : أحق ما
يقال في حديث خالد؟.
فقال : إن قوما من
العلوية يذكرون ذلك .
وقد روي أن رجلا
جاء إلى زفر بن الهذيل ـ صاحب أبي حنيفة ـ فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز
الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث؟.
فقال : إنه جائز ،
قد قال أبو بكر في تشهده ما قال.
فقال الرجل : وما
الذي قاله أبو بكر؟.
قال : لا عليك.
قال : فأعاد عليه
السؤال ثانية وثالثة.
__________________
فقال : أخرجوه
أخرجوه ، قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب.
قلت له : فما الذي
تقوله أنت؟.
قال : أنا أستبعد
ذلك ، وإنه روته الإمامية .. إلى آخر ما قال.
٣٠
ـ ج : رسالة أمير
المؤمنين عليهالسلام إلى أبي بكر ، لما بلغه عنه كلام بعد منع الزهراء عليهاالسلام فدك : شقوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النجاة ، وحطوا تيجان أهل الفخر
بجميع أهل الغدر ، واستضيئوا بنور الأنوار ، واقتسموا مواريث الطاهرات الأبرار ،
واحتقبوا ثقل الأوزار ، بغصبهم نحلة النبي المختار.
فكأني بكم تترددون
في العمى كما يتردد البعير في الطاحونة ، أما والله لو أذن لي بما ليس لكم به علم
لحصدت رءوسكم عن أجسادكم كحب الحصيد بقواضب من حديد ، ولقلعت من جماجم شجعانكم ما
أقرح به آماقكم ، وأوحش به محالكم.
فإني منذ عرفتموني
مردي العساكر ، ومفني الجحافل ، ومبيد خضرائكم ، ومحمد ضوضائكم ، وجزار الدوارين إذ أنتم
في بيوتكم معتكفون ، وإني لصاحبكم بالأمس ، لعمر أبي لن تحبوا أن تكون
فينا الخلافة والنبوة وأنتم
__________________
تذكرون أحقاد بدر
وثارات أحد.
أما والله لو قلت
ما سبق من الله فيكم لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم كتداخل أسنان دوارة الرحى ، فإن
نطقت تقولون حسد ، وإن سكت فيقال جزع ابن أبي طالب من الموت ، هيهات
هيهات.
أنا الساعة يقال لي
هذا ، وأنا الموت المميت ، خواض المنيات في جوف ليل خامد ، حامل السيفين الثقيلين ، والرمحين الطويلين ، ومكسر الرايات في غطامط
الغمرات ، ومفرج الكربات عن وجه خيرة البريات ، إيهنوا فو الله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمه
، هبلتكم الهوابل!.
لو بحت بما أنزل
الله فيكم في كتابه لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة ، ولخرجتم من
بيوتكم هاربين ، وعلى وجوهكم هائمين ، ولكني أهون وجدي حتى ألقى ربي بيد جذاء
صفراء من لذاتكم ، خلوا من طحناتكم.
فما مثل دنياكم
عندي إلا كمثل غيم علا فاستعلى ، ثم استغلظ فاستوى ، ثم تمزق فانجلى.
__________________
رويدا! فعن قليل ينجلي
لكم القسطل ، فتجدون ثمر فعلكم مرا أم تحصدون غرس أيديكم ذعافا ممزقا ، وسما قاتلا.
وكفى بالله حكما ، وبرسول الله
خصيما ، وبالقيامة موقفا ، ولا أبعد الله فيها سواكم ، ولا أتعس فيها غيركم ، (
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ) فلما أن قرأ أبو بكر الكتاب رعب من ذلك رعبا شديدا ، وقال
: يا سبحان الله! ما أجرأه علي ، وأنكله عن غيري.
معاشر المهاجرين
والأنصار! تعلمون أني شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول الله فقلتم : إن الأنبياء لا
يورثون ، وإن هذه أموال يجب أن تضاف إلى مال الفيء ، وتصرف في ثمن الكراع والسلاح
وأبواب الجهاد ومصالح الثغور ، فأمضينا رأيكم ولم يمضه من يدعيه.
وهو ذا يبرق وعيدا
، ويرعد تهديدا ، إيلاء بحق نبيه أن يمضخها دما ذعافا.
والله! لقد استقلت
منها فلم أقل ، واستعزلتها عن نفسي فلم أعزل ، كل ذلك احترازا من كراهية ابن أبي
طالب ، وهربا من نزاعه ، وما لي لابن أبي
__________________
طالب! هل نازعه أحد ففلج
عليه؟!.
فقال له عمر : أبيت
أن تقول إلا هكذا ، فأنت ابن من لم يكن مقداما في الحروب ، ولا سخيا في الجدوب ،
سبحان الله! ما أهلع فؤادك ، وأصغر نفسك [ قد صفيت ] لك سجالا لتشربها
، فأبيت إلا أن تظمأ كظمائك ، وأنخت لك رقاب العرب ، وثبت لك إمارة أهل الإشارة
والتدبير ، ولو لا ذلك لكان ابن أبي طالب قد صير عظامك رميما ، فاحمد الله على ما
قد وهب لك مني ، واشكره على ذلك ، فإنه من رقي منبر رسول الله كان حقيقا عليه أن
يحدث لله شكرا.
وهذا علي بن أبي
طالب الصخرة الصماء التي لا ينفجر ماؤها إلا بعد كسرها ، والحية الرقشاء التي لا
تجيب إلا بالرقى ، والشجرة المرة التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلا مرا ،
قتل سادات قريش فأبادهم ، وألزم آخرهم العار ففضحهم.
فطب نفسا ، ولا تغرنك
صواعقه ، ولا تهولنك رواعده ، فإني أسد بابه قبل أن يسد بابك.
فقال أبو بكر : ناشدتك
الله يا عمر لما تركتني من أغاليطك وتربيدك ، فو الله لو هم بقتلي وقتلك
لقتلنا بشماله دون يمينه ، ما ينجينا منه إلا ثلاث
__________________
خصال :
إحداها : أنه واحد
لا ناصر له .
والثانية : أنه
يتبع فينا وصية رسول الله.
والثالثة : فما من هذه القبائل
أحد إلا وهو يتخضمه كتخضم ثنية الإبل أوان الربيع .
فتعلم لو لا ذلك
لرجع الأمر إليه ولو كنا له كارهين ، أما إن هذه الدنيا أهون عليه من لقاء أحدنا
الموت .
أنسيت له يوم أحد
وقد فررنا بأجمعنا وصعدنا الجبل ، وقد أحاطت به ملوك القوم وصناديدهم ، موقنين
بقتله ، لا يجد محيصا للخروج من أوساطهم ، فلما أن سدد القوم رماحهم ، نكس
نفسه عن دابته حتى جاوزه طعان القوم ، ثم قام قائما في ركابه وقد طرق عن سرجه
وهو يقول : يا الله يا الله! يا جبريل يا جبريل! يا محمد يا محمد! النجاة النجاة!.
ثم عهد إلى رئيس القوم
فضربه ضربة على رأسه فبقي على فك ولسان ، ثم عمد إلى صاحب الراية العظمى فضربه ضربة على
جمجمته ففلقها ،
__________________
فمر السيف يهوي في
جسده فبراه ودابته نصفين.
فلما أن نظر القوم إلى
ذلك انجفلوا من بين يديه ، فجعل يمسحهم بسيفه مسحا ، حتى تركهم جراثيم
خمودا على تلعة من الأرض يتمرغون في حسرات المنايا ، ويتجرعون كئوس الموت ، قد
اختطف أرواحهم بسيفه ، ونحن نتوقع منه أكثر من ذلك.
ولم نكن نضبط
أنفسنا من مخافته ، حتى ابتدأت أنت منك إليه ، فكان منه إليك ما تعلم.
ولو لا أنه أنزل الله إليه آية من كتاب الله لكنا من الهالكين ، وهو قوله [ تعالى ] : ( وَلَقَدْ
عَفا عَنْكُمْ ) .
فاترك هذا الرجل
ما تركك ، ولا يغرنك قول خالد إنه يقتله ، فإنه لا يجسر على ذلك ، وإن رامه كان
أول مقتول بيده ، فإنه من ولد عبد مناف ، إذا هاجوا أهيبوا ، وإذا غضبوا
أذموا ، ولا سيما علي بن أبي طالب ، فإنه بابها الأكبر وسنامها الأطول ، وهمامها
الأعظم ، ( وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ).
__________________
تبيين
: قوله عليهالسلام : شقوا.
أقول
: روى في نهج البلاغة تلك الفقرات في موضع آخر يناسبها ، حيث قال : لما قبض رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له
بالخلافة ، قال : أيها الناس! شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن
طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح.
وما هنا يحتمل أن
يكون بصيغة الماضي ، فيكون بيان حالهم أولا ، أي :
إنهم في زمن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ركبوا سفن النجاة وخرجوا من بين الفتن ، فشبه الفتن
بالأمواج ، لاشتراكهما في اضطراب النفس بهما ، وكونهما سبب الهلاك.
والحيازيم : جمع
الحيزوم ، وهو : ما استدار بالظهر والبطن ، أو ضلع الفؤاد ، وما
اكتنف الحلقوم من جانب الصدر ، والغليظ من الأرض والمرتفع ، ذكرها الفيروزآبادي ، ولعل المراد
هنا صدر السفينة ، فإنه يشق الماء ، ولا يبعد أن يكون تصحيف المجاذيف جمع المجذاف : الذي به تحرك
السفينة .
وكذا حط تيجان أهل
الفخر كناية عن اتباع أهل الحق ، وترك المفاخرة التي تدعو إلى ترك اتباع الحق.
وجمع أهل الغدر :
مجمعهم ، أي : تركوا المفاخرة الواقعة في مجامع أهل
__________________
الغدر ، وهو : ضد المتفرق ،
والجيش ، والحي المجتمع ، ذكرها الفيروزآبادي
والحاصل : أنهم
كانوا في حياة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ظاهرا على الحق وتابعين لأهله ، وآل أمرهم بعده إلى أن
اقتسموا مواريث العترة الطاهرة.
ويحتمل أن يكون
الجميع بصيغة الأمر ، كما أن في بعض النسخ :
واستضيئوا ، فيكون أولا أمرهم بمتابعة أهل الحق ، ثم بين حالهم بقوله :
واقتسموا ، على سبيل الالتفات.
ويحتمل على الأول
أن يكون الجميع مسوقا للذم ، فالمعنى : أنهم دخلوا في غمرات الفتنة وتشبثوا ظاهرا
بما يوهم أنه من وسائل النجاة ، وتركوا المفاخرة واستسلموا ، بأن جمعوا أهل الغدر
، وأظهروا للناس النصح وترك الأغراض ، ليتمشى لهم ما دبروا ، فيكون قوله :
واستضاءوا .. واقتسموا .. ، بمنزلة فقرة واحدة ، أي : تمسكوا في اقتسام مواريث
الطاهرات بالاستضاءة بنور الأنوار ، وبخبر وضعوه وافتروه على سيد الأبرار.
وكل من الوجوه لا
يخلو من بعد ، والظاهر أنه سقط شيء من الكلام أو زيد فيه ، ولعل الأبرار على
التغليب.
وقال الجوهري :
الحقب ـ بالتحريك ـ حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير .. والحقيبة : واحدة الحقائب
، واحتقبه واستحقبه بمعنى ، أي : احتمله ، ومنه قيل : احتقب فلان الإثم كأنه جمعه
واحتقبه من خلفه .
وقال : سيف قاضب
وقضيب أي : قطاع ، والجمع قواضب وقضب .
__________________
وقال : الجمجمة :
عظم الرأس المشتمل على الدماغ .
وقال : مؤق العين
: طرفها مما يلي الأنف ، والجمع آماق وأمآق ، مثل آبار وأبآر .
وأرداه : أهلكه .
وقال : والجحفل :
الجيش ، ورجل جحفل أي : عظيم القدر .
قال : وقولهم :
أباد الله خضراءهم ، أي : سوادهم ومعظمهم ، وأنكره الأصمعي وقال : إنما يقال :
أباد الله خضراءهم أي : خيرهم وغضارتهم .
وفي النهاية :
الضوضاة : أصوات الناس وغلبتهم ، وفي أكثر النسخ بالمد ، بدون التاء.
قوله عليهالسلام : وجزار الدوارين ، لعل المراد بالدوارين : الدهور والأزمنة على التخفيف ، قال الجوهري : الدواري :
الدهر يدور بالإنسان
__________________
دهرا ، أو الشجعان ، أي : أنا قاتل
الذين يدورون ويجولون في المعركة لطلب المبارزة ، وفي بعض النسخ : وجرار الداوئر
بالراءين المهملتين ـ أي :
كنت أجر الدولة والغلبة للمسلمين على الكافرين ، قال في النهاية فيه : فيجعل
الدائرة عليهم ، أي : الدولة بالغلبة والنصر .
قوله عليهالسلام : وإني لصاحبكم ، أي : إمامكم الذي بايعتموني يوم الغدير.
والثأر ـ بالهمزة
ـ طلب الدم ، يقال : ثأرت القتيل وبالقتيل ثأرا وثؤرة ، أي :
قتلت قاتله .
قوله عليهالسلام : ما سبق من الله فيكم ، أي : من العذاب والنكال في الآخرة.
قوله عليهالسلام : خواض المنيات .. الخوض في الشيء : الدخول فيه ، وخضت الغمرات : اقتحمتها ، والمنية :
الموت ، أي : بادرت بالدخول فيما هو مظنة الموت ، وفي بعض النسخ : خواض الغمرات ،
والغمرات ، والغمرة : الكثيرة من الناس والماء ، وغمرات الموت شدائده .
قوله عليهالسلام : ليل خامد ، أي : ساكن نام الناس فيه فلا تسمع
__________________
أصواتهم ، يقال :
خمدت النار إذا سكن لهبها .
وقال الجوهري :
التغطمط : صوت معه بحح ، والغطامط ـ بالضم ـ :
صوت غليان القدر
وموج البحر ، ولا يخفى مناسبتهما للمقام.
قوله عليهالسلام : إيهنوا .. المذكور في كتب اللغة : أن إيه كلمة يراد بها الاستزادة ، وهي
مبنية على الكسر ، فإذا وصلت نونت فقلت : إيه حدثنا ، وإذا قلت : إيها
بالنصب فإنما تأمره بالكف والسكوت ، ولم أر فيها تجويز التثنية والجمع ، ويظهر من الخبر
جوازهما إن لم يكن فيه تصحيف .
والمحالب : جمع
المحلب ـ بالفتح ـ وهو موضع الحلب أي : الثدي أو رأسه.
وهبلته أمه ـ بكسر
الباء ـ أي : ثكلته .
وباح بالشيء يبوح
به أعلنه وأظهره .
والرشاء ـ بالكسر
والمد ـ : الحبل ، والجمع أرشية .
والطوي : البئر
المطوية ، وهو في الأصل صفة ، ولذا يجمع على
__________________
أطواء كأشراف وأيتام ،
ثم نقل إلى الاسمية ، وتأنيث الصفة باعتبار البئر.
وهام على وجهه
يهيم هيما وهيمانا : ذهب من العشق وغيره .
قوله عليهالسلام : بيد جذاء ، أي : مقطوعة أو مكسورة .
والصفر ـ بالكسر ـ
: الخالي كالخلو بالكسر .
والطحنات لعله جمع
الطحنة أي : البر المطحونة وأشباهها.
قوله عليهالسلام : فاستعلى أي : اشتد علوه .
والتمزق : التفرق .
قوله عليهالسلام : رويدا ، أي : اصبروا وأمهلوا قليلا .
فعن قليل ، أي :
بعد زمان قليل.
والقسطل ـ بالسين
والصاد ـ : الغبار .
__________________
وقال الجوهري :
الذعاف : السم ، وطعام مذعوف ... وموت ذعاف ..
أي : سريع يعجل القتل ، وفي بعض النسخ بعده : ممزقا ، أي : يفرق الأعضاء ويقطع
الأمعاء .
ولا أبعد الله
فيها ، أي : في القيامة.
وأتعسه الله ، أي
: أهلكه .
قوله : يا سبحان الله! أي : يا
قوم تعجبوا وسبحوا الله تعجبا.
وقال الجوهري :
نكل عن العدو وعن اليمين ينكل ـ بالضم ـ أي : جبن ، والناكل : الجبان الضعيف ، وفي أكثر النسخ
: على غيري ، ولعله بتضمين معنى الشفقة ونحوها.
و قال في النهاية
فيه : لا يحبسون إلا الكراع والسلاح. والكراع ـ بالضم اسم لجمع الخيل .
وقال الجوهري :
أرعد الرجل وأبرق : إذا تهدد وأوعد .
والإيلاء : الحلف .
__________________
قوله : أن يمضخها
، يقال : مضخ ـ كمنع بالضاد والخاء المعجمتين ـ أي لطخ الجسد بالطيب ، وفي بعض النسخ
بالصاد المهملة من المصخ ، وهو :
انتزاع الشيء وأخذه ، والأول أظهر.
والفلج : الظفر
والفوز .
والمقدام ـ بالكسر
ـ : الرجل الكثير الإقدام على العدو .
والجدوب جمع الجدب
: وهو نقيض الخصب .
والهلع : أفحش
الجزع .
والسجال ـ بالكسر
ـ جمع السجل بالفتح ، وهو : الدلو إذا كان فيه ماء .
والظمأ ـ بالتحريك
ـ العطش .
وأنخت الجمل
فاستناخ ، أي : أبركته فبرك .
والصماء : المصمتة
الصلبة .
ويقال : حية رقشاء
: إذا كان فيها نقط سواد وبياض ، وفي بعض
__________________
النسخ : الرقطاء ،
والرقطة : سواد يشوبه نقط بياض .
والرقى بضم الراء
جمع رقية بالضم ، وهي : التعويذات والطلسمات وأشباهها ، وفي أكثر النسخ
: التي لا تجيب إلا بالرقى ، وفي بعضها : التي لا تؤثر فيها الرقى.
قوله : وتر بيدك ،
في أكثر النسخ بالراء والدال المهملتين من ربد ربودا :
أقام وحبس ، وتربد : تغير ، ولعل الأصوب : تدبيرك ، أو تدابيرك.
وقال في النهاية ـ
في حديث علي عليهالسلام : يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ـ الخضم : الأكل
بأقصى الأضراس ، والقضم : بأدناها ، خضم يخضم خضما .
قوله : وقد طرق عن
سرجه ، وفي بعض النسخ : اطرق ، يقال : اطرق جناح الطائر ـ على افتعل ـ ، أي : التف
، وطرق يطرق كنصر : أتى أهله ليلا ، وأطرق على بناء الإفعال : سكت فلم يتكلم
، أو أرخى عينيه ينظر إلى الأرض ، ولعله تصحيف طال.
قوله عليهالسلام : يا الله! في بعض النسخ بتثليث كل من الثلاثة ،
__________________
وتقديم : ـ يا
محمد على يا جبرئيل.
والبري : النحت ، استعير هنا
للشق والقطع.
وانجفل القوم ، أي
: انقلعوا كلهم ومضوا ، ذكره الجوهري .
وقال : مسحه
بالسيف : قطعه .
وقال الفيروزآبادي
: جرثومة الشيء ـ بالضم ـ : أصله ، أو هي التراب المجتمع في أصول الشجر ، والذي
تسفيه الريح ، وقرية النمل ، وقال الجزري في حديث ابن الزبير : كانت في المسجد جراثيم
، أي : كان فيه أماكن مرتفعة عن الأرض مجتمعة من تراب أو طين ، فالمعنى : أنه عليهالسلام جعلهم كأصول الشجر المقطوعة بغير حياة ، أو أحدث من القتل في الأرض تلالا
مرتفعة.
والخمود ـ جمع
الخامد ـ أي ميتين ، يقال خمد المريض .. أي مات .
والتلعة ـ بفتح
التاء وسكون اللام ـ ما ارتفع من الأرض .
والتمرغ : التقلب
في التراب .
قوله تعالى : ( وَلَقَدْ
عَفا عَنْكُمْ ) ... هو ما ذكره تعالى في طي ما لام أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وغيرهم على وهنهم وانهزامهم في غزوة أحد ، حيث قال : ( وَلَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) ، إلى قوله تعالى
: ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .
__________________
قوله : أهبوا ،
يقال : هب فلان ، أي : غاب دهرا ، وفي الحرب :
انهزم ، والأظهر أنه أهموا ـ بالميم ـ ، وهو أنسب بالفقرة التالية ، يقال : أهمه
الأمر : إذا أقلقه وحزنه ، وفي أكثر النسخ ، أهيبوا ، ولا يمكن أن يكون على بناء
المعلوم ، لأن ترك القلب نادر مسموع في مواضع معدودة ، ولا على بناء المجهول إلا
بالحذف والإيصال .
قوله أذموا ، قال
في القاموس : أذمه : وجده ذميما ، وأذم : تهاون بهم وتركهم مذمومين في الناس
، وفي بعض النسخ : دمروا ، أي : أهلكوا .
والهمام ـ بالضم ـ
: الملك العظيم الهمة والسيد الشجاع
السخي .
٣١
ـ ب : عنهما ، عن
حنان قال : سأل صدقة بن مسلم أبا عبد الله عليهالسلام وأنا عنده ، فقال : من الشاهد على فاطمة بأنها لا ترث
أباها؟
فقال : شهدت عليها عائشة وحفصة ورجل من العرب يقال له أوس بن الحدثان من بني نضر ،
شهدوا عند أبي بكر بأن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال :
__________________
لا أورث ، فمنعوا
فاطمة عليهاالسلام ميراثها من أبيها صلىاللهعليهوآله ..
٣٢
ـ مصباح الأنوار : لبعض علمائنا الأخيار ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : دخلت فاطمة عليهاالسلام بنت محمد صلىاللهعليهوآله على أبي بكر ، فسألته فدكا ، قال : النبي لا يورث ، فقالت
: قد قال الله تعالى ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ ) .
فلما حاجته أمر أن
يكتب لها ، وشهد علي بن أبي طالب عليهالسلام وأم أيمن.
قال : فخرجت فاطمة
عليهاالسلام ، فاستقبلها عمر ، فقال : من أين جئت يا بنت رسول الله؟
قالت : من عند أبي بكر من شأن فدك ، قد كتب لي بها.
فقال عمر : هاتي
الكتاب ، فأعطته ، فبصق فيه ومحاه ، عجل الله جزاه.
فاستقبلها علي عليهالسلام فقال : ما لك يا بنت رسول الله غضبى ؟! فذكرت له ما صنع عمر ، فقال : ما ركبوا مني ومن أبيك
أعظم من هذا.
فمرضت فجاءا
يعودانها فلم تأذن لهما ، فجاءا ثانية من الغد ، فأقسم عليها أمير المؤمنين عليهالسلام فأذنت لهما ، فدخلا عليها ، فسلما ، فردت ضعيفا.
ثم قالت لهما :
سألتكما بالله الذي لا إله إلا هو أسمعتما يقول رسول الله صلىاللهعليهوآله في حقي : من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله.
قالا : اللهم نعم ، قالت : فاشهد أنكما قد آذيتماني .
__________________
٣٣
ـ و عن أسماء بنت عميس قالت : طلب إلي أبو بكر أن أستأذن له
على فاطمة يترضاها ، فسألتها ذلك ، فأذنت له ، فلما دخل ولت وجهها الكريم إلى
الحائط ، فدخل وسلم عليها ، فلم ترد ، ثم أقبل يعتذر إليها ويقول : ارضي عني يا
بنت رسول الله.
فقالت : يا عتيق!
أتيتنا من ماتت [ ماتة ] أو حملت الناس على رقابنا ، اخرج فو الله ما كلمتك أبدا حتى ألقى
الله ورسوله فأشكوك إليهما.
٣٤
ـ و عن جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهمالسلام قال : بينما أبو بكر وعمر عند فاطمة عليهاالسلام يعودانها ، فقالت لهما : أسألكما بالله الذي لا إله إلا هو هل سمعتما رسول الله
صلىاللهعليهوآله يقول : من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ؟ فقالا : اللهم
نعم ، قالت : فأشهد أنكما آذيتماني .
٣٥
ـ و عن زيد بن علي قال : قدمت مع أبي مكة وفيها مولى
لثقيف
__________________
من أهل الطائف ،
فكان ينال من أبي بكر وعمر ، فأوصاه أبي بتقوى الله ، فقال له : ناشدتك الله ورب هذا البيت هل صليا على
فاطمة عليهاالسلام؟
فقال أبي : اللهم لا ، قال : فلما افترقنا سببته ، فقال لي أبي :
لا تفعل فو الله ما صليا على رسول الله صلىاللهعليهوآله فضلا عن فاطمة عليهاالسلام ، وذلك أنه شغلهما ما كانا يبرمان .
٣٦
ـ يج : روي أن عليا عليهالسلام امتنع من البيعة على أبي بكر فأمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يقتل عليا إذا
سلم من صلاة الفجر بالناس.
فأتى خالد وجلس
إلى جنب علي عليهالسلام ومعه سيف ، فتفكر أبو بكر في صلاته في عاقبته ذلك ، فخطر بباله
أن بني هاشم يقتلونني إن قتل علي عليهالسلام ، فلما فرغ من التشهد التفت إلى خالد قبل أن يسلم وقال :
لا تفعل ما أمرتك به ، ثم قال : السلام عليكم.
فقال علي عليهالسلام لخالد : أوكنت تريد أن تفعل ذلك؟ قال : نعم ، فمد يده إلى عنقه وخنقه بإصبعه
وكادت عيناه تسقطان ، وناشده بالله أن
__________________
يتركه ، وشفع إليه
الناس ، فخلاه .
ثم كان خالد بعد
ذلك يرصد الفرصة والفجأة لعله يقتل عليا عليهالسلام غرة ، فبعث بعد ذلك عسكرا مع خالد إلى موضع
، فلما خرجوا من المدينة ـ وكان خالد مدججا وحوله شجعان قد أمروا أن
يفعلوا كل ما أمرهم خالد فرأى عليا عليهالسلام يجيء من ضيعة له منفردا بلا سلاح ، [ فقال خالد في نفسه :
الآن وقت ذلك ] ، فلما دنا منه فكان في يد خالد عمود من حديد ، فرفعه
ليضربه على رأس علي ، فانتزعه عليهالسلام من يده وجعله في عنقه وفتله كالقلادة.
فرجع خالد إلى أبي
بكر ، واحتال القوم في كسره فلم يتهيأ لهم ، فأحضروا جماعة من الحدادين ، فقالوا :
لا يمكن انتزاعه إلا بعد حله في النار ، وفي ذلك هلاكه ، ولما علموا بكيفية حاله ،
قالوا إن عليا عليهالسلام هو الذي يخلصه من ذلك كما جعله في جيده ، وقد ألان الله
له الحديد كما ألانه لداود ، فشفع أبو بكر إلى علي عليهالسلام ، فأخذ العمود وفك بعضه من بعض بإصبعه .
بيان
: قال الجوهري : رجل
مدجج ومدجج أي : شاك في السلاح ، تقول منه تدجج في شكته أي : دخل في سلاحه كأنه
تغطى بها .
__________________
٣٧
ـ إرشاد القلوب : عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس قالا : كنا جلوسا عند
أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار ، وإذا بخالد ابن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره
وكثر صهيل أهل خيله وإذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلا.
فأقبل حتى نزل عن
جواده ودخل المسجد ، ووقف بين يدي أبي بكر ، فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره.
ثم قال : أعدل يا ابن
أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل؟! وما ارتفعت إلى هذا المكان
إلا كما يرتفع الطافي من السمك على الماء ، وإنما يطفو ويعلو حين لا حراك به ، ما
لك وسياسة الجيوش وتقديم العساكر ، وأنت بحيث أنت ، من لين الحسب ، ومنقوص النسب ، وضعف
القوى ، وقلة التحصيل ، لا تحمي ذمارا ، ولا تضرم نارا ، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك
خيرا.
إني رجعت منكفئا
من الطائف إلى جدة في طلب المرتدين ، فرأيت علي بن
__________________
أبي طالب ومعه
عتاة من الدين حماليق ، شزرات أعينهم من حسدك بدرت حنقا عليك ، وقرحت
آماقهم لمكانك.
منهم ابن ياسر ،
والمقداد ، وابن جنادة أخو غفار ، وابن العوام ، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه ، وغلام
أسمر لعله من ولد عقيل أخيه.
فتبين لي المنكر
في وجوههم ، والحسد في احمرار أعينهم ، وقد توشح علي بدرع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولبس رداءه السحاب ، ولقد أسرج له دابته العقاب ، وقد نزل علي على عين ماء اسمها روية .
فلما رآني اشمأز
وبربر ، وأطرق موحشا يقبض على لحيته.
فبادرته بالسلام
استكفاء واتقاء ووحشة ، فاستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزلة ، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته.
فبدأني ابن ياسر بقبيح
لفظه ومحض عداوته ، فقرعني هزوا بما تقدمت به إلي بسوء رأيك.
فالتفت إلي الأصلع
الرأس ، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد ،
فقال لي بغضب منه : أوكنت فاعلا يا أبا سليمان؟! فقلت
__________________
له : إي والله ، لو أقام على
رأيه لضربت الذي فيه عيناك.
فأغضبه قولي إذ
صدقته ، وأخرجه إلي طبعه الذي أعرفه به عند الغضب ، فقال : يا ابن اللخناء! مثلك من يقدر على مثلي
أن يجسر؟! أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟! ويلك إني لست من
قتلاك ولا من قتلى صاحبك ، وإني لأعرف بمنيتي منك بنفسك.
ثم ضرب بيده إلى
ترقوتي فنكسني عن فرسي ، وجعل يسوقني ، فدعا إلى رحى للحارث
بن كلدة الثقفي ، فعمد إلى القطب الغليظ فمد عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي ،
ينفتل له كالعلك المستخن .
وأصحابي هؤلاء
وقوف ، ما أغنوا عني سطوته ، ولا كفوا عني شرته ، فلا جزاهم الله
عني خيرا ، فإنهم لما نظروا إليه كأنهم نظروا إلى ملك موتهم.
فو الذي رفع السماء بلا
أعماد ، لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشد العرب فما قدروا على فكه ، فدلني عجز
الناس عن فتحه أنه سحر منه أو قوة ملك قد ركبت فيه.
__________________
ففكه الآن عني إن
كنت فاكه ، وخذ لي بحقي إن كنت آخذا ، وإلا لحقت بدار عزي ومستقر مكرمتي ، قد ألبسني ابن أبي
طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الديار.
فالتفت أبو بكر
إلى عمر وقال : ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟! كأن ولايتي ثقل على كاهله ، وشجا
في صدره.
فالتفت إليه عمر
فقال : فيه دعابة لا تدعه حتى تورده فلا تصدره ، وجهل وحسد قد استحكما في خلده ،
فجريا منه مجرى الدماء لا يدعانه حتى يهينا منزلته ، ويورطاه ورطة
الهلكة.
ثم قال أبو بكر
لمن بحضرته : ادعوا إلي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، فليس لفك هذا
القطب غيره.
قال : وكان قيس
سياف النبي ، وكان رجلا طويلا ، طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار ، وكان أشد
الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليهالسلام.
فحضر قيس فقال له
: يا قيس! إنك من شدة البدن بحيث أنت ، ففك
__________________
هذا القطب من عنق أخيك خالد ، فقال
قيس : ولم لا يفكه خالد عن عنقه؟! قال : لا يقدر عليه ، قال : فما لا يقدر عليه أبو
سليمان ـ وهو نجم عسكركم ، وسيفكم على أعدائكم ـ كيف أقدر عليه أنا ؟.
قال عمر : دعنا من هزئك وهزلك
وخذ فيما حضرت له ، فقال :
أحضرت لمسألة تسألونها طوعا ، أو كرها تجبروني عليه؟ فقال له : إن كان طوعا وإلا
فكرها ، قال قيس : يا ابن صهاك! خذل الله من يكرهه مثلك ، إن بطنك لعظيمة وإن كرشك لكبيرة ، فلو فعلت أنت
ذلك ما كان منك [ عجب ، قال : ] فخجل عمر من قيس بن سعد ، وجعل ينكث
أسنانه بأنامله.
__________________
فقال أبو بكر :
وما بذلك منه ، اقصد لما سألت ، فقال قيس : والله لو أقدر على ذلك
لما فعلت ، فدونكم وحدادي المدينة ، فإنهم أقدر على ذلك مني.
فأتوا بجماعة من
الحدادين ، فقالوا : لا ينفتح حتى نحميه بالنار.
فالتفت أبو بكر
إلى قيس مغضبا فقال : والله ما بك من ضعف عن فكه ، ولكنك لا تفعل فعلا يعيب عليك فيه
إمامك وحبيبك أبو الحسن ، وليس هذا بأعجب من أن أباك وام [ رام ] الخلافة ليبتغي
الإسلام عوجا فحصد الله شوكته ، وأذهب نخوته ، وأعز الإسلام بوليه ، وأقام
دينه بأهل طاعته ، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.
قال : فاستشاط قيس
بن سعد غضبا وامتلأ غيظا ، فقال : يا ابن أبي قحافة! إن لك عندي جوابا حميا ،
بلسان طلق ، وقلب جري ، ولو لا البيعة التي لك في عنقي لسمعته مني ، والله لئن بايعتك يدي
لم يبايعك قلبي ولا لساني ، ولا حجة لي في علي بعد يوم الغدير ، ولا كانت بيعتي لك
إلا ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) ، أقول قولي هذا غير هائب منك ولا خائف
__________________
من معرتك ، ولو سمعت هذا
القول منك بدأة لما فتح لك مني صلحا .
إن كان أبي رام
الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته ، لأنه رجل لا يقعقع بالشنان ، ولا يغمز جانبه كغمز
التينة ، ضخم صنديد ، وسمك منيف ، وعز بازخ أشوس ، بخلافك والله أيتها النعجة العرجاء ، والديك النافش ، لا عز صميم ، ولا حسب
كريم ، وايم الله لئن عاودتني في أبي لألجمنك بلجام من القول يمج فوك منه دما ،
دعنا نخوض في عمايتك ، ونتردى في غوايتك ، على معرفة منا بترك الحق واتباع الباطل.
وأما قولك إن عليا
إمامي ، ما أنكر إمامته ولا أعدل عن ولايته ، وكيف أنقض وقد أعطيت الله
عهدا بإمامته وولايته ، يسألني عنه؟! فأنا أن ألقى الله بنقض بيعتك أحب
إلي [ من ] أن أنقض عهده وعهد رسوله وعهد وصيه وخليله ، وما أنت إلا أمير قومك
، إن شاءوا تركوك وإن شاءوا عزلوك.
__________________
فتب إلى الله مما اجترمته ، وتنصل إليه مما ارتكبته
، وسلم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك ، فقد ركبت عظيما بولايتك دونه ، وجلوسك في
موضعه ، وتسميتك باسمه ، وكأنك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب ،
وتعلم أي الفريقين ( شَرٌّ مَكاناً
وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .
وأما تعييرك إياي
فإنه مولاي ، هو والله مولاي ومولاك ومولى المؤمنين أجمعين ، آه .. آه ..
أنى لي بثبات قدم ، أو تمكن وطء حتى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة ، ولعل ذلك يكون قريبا ،
ونكتفي بالعيان عن الخبر.
ثم قام ونفض ثوبه
ومضى ، وندم أبو بكر عما أسرع إليه من القول إلى قيس ، وجعل خالد يدور
في المدينة والقطب في عنقه أياما .
ثم أتى آت إلى أبي
بكر فقال له : قد وافى علي بن أبي طالب الساعة من سفره ، وقد عرق جبينه ، واحمر
وجهه ، فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه
المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله.
__________________
فأتياه فقالا : يا
أبا الحسن! إن أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه ، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلم يجبهما ، فقالا : يا أبا الحسن! ما ترد علينا فيما
جئناك له؟ فقال : بئس والله الأدب أدبكم ، أليس يجب على القادم
أن لا يصير إلى الناس في أجلبتهم إلا بعد دخوله في منزله ، فإن كان لكم حاجة فأطلعوني عليها في منزلي
حتى أقضيها إن كانت ممكنة إن شاء الله تعالى.
فصار [ فصارا ] إلى أبي بكر
فأعلماه بذلك ، فقال أبو بكر : قوموا بنا إليه ، ومضى الجمع بأسرهم إلى منزله
، فوجدوا الحسين عليهالسلام على الباب يقلب سيفا ليبتاعه ، قال له أبو بكر : يا
أبا عبد الله! إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك ، فقال : نعم.
ثم استأذن للجماعة
فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد ، فبدأ به الجمع بالسلام ، فرد عليهمالسلام مثل ذلك ، فلما نظر إلى خالد قال : نعمت
__________________
صباحا يا أبا
سليمان! نعم القلادة قلادتك.
فقال : والله يا
علي لا نجوت مني إن ساعدني الأجل.
فقال له علي عليهالسلام : أف لك يا ابن دميمة ، إنك ـ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ عندي لأهون ، وما روحك في
يدي لو أشاء إلا كذبابة وقعت على إدام حار فطفقت منه ، فاغن عن نفسك غنائها ، ودعنا بحالنا حكماء ، وإلا لألحقنك بمن أنت أحق
بالقتل منه ، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى ، وخذ فيما بقي ، والله لا تجرعت من
الجرار المختمة إلا علقمها ، والله لقد رأيت منيتي ومنيتك وروحي
وروحك ، فروحي في الجنة وروحك في النار.
قال : وحجز الجميع
بينهما وسألوه قطع الكلام.
فقال أبو بكر لعلي عليهالسلام : إنا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان ، وإنما حضرنا لغيره ، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيما على
خلافي
__________________
والاجتراء على
أصحابي ، وقد تركناك فاتركنا ، ولا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك
ويزيدك تنويما إلى تنويمك .
فقال علي عليهالسلام : لقد أوحشني الله منك ومن جمعك ، وآنس بي كل مستوحش ، وأما ابن الوليد الخاسر ، فإني
أقص عليك نبأه ، إنه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه
، فأراد الوضع مني في موضع رفع ومحل ذي جمع ، ليصول بذلك عند أهل الجمع ، فوضعت عنه عند
ما خطر بباله ، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته ، وما كان الله ليرضى بفعله.
فقال له أبو بكر :
فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام ، وقلة رغبتك في الجهاد ، فبهذا أمرك الله
ورسوله ، أم عن نفسك تفعل هذا؟!.
فقال علي عليهالسلام : يا أبا بكر! وعلى مثلي يتفقه الجاهلون؟ إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أمركم ببيعتي ، وفرض عليكم طاعتي ، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا
يأتي ، فقال : يا علي! ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء
بأوصيائها إلا قليل ، وسيكون لك ولهم
__________________
بعدي هناة وهناة ،
فاصبر ، أنت كبيت الله : ( مَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً ) ومن رغب عنه كان كافرا ، قال الله عز وجل : ( وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ) ، وإني وأنت سواء
إلا النبوة ، فإني خاتم النبيين وأنت خاتم الوصيين ، وأعلمني عن ربي سبحانه بأني
لست أسل سيفا إلا في ثلاثة مواطن بعد وفاته ، فقال : تقاتل الناكثين ، والقاسطين ،
والمارقين ، ولم يقرب أوان ذلك بعد ، فقلت : فما أفعل يا رسول الله بمن
ينكث بيعتي منهم ويجحد حقي؟ قال : فاصبر حتى تلقاني ، وتستسلم لمحنتك حتى تلقى ناصرا عليهم. فقلت :
أفتخاف علي منهم أن يقتلونني ؟! فقال : تالله لا أخاف عليك منهم قتلا ولا جراحا ، وإني عارف بمنيتك
وسببها ، وقد أعلمني ربي ، ولكني خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين ، وهو حديث ،
فيرتد القوم عن التوحيد.
ولو لا أن ذلك
كذلك ، وقد سبق ما هو كائن ، لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن ، ولرويت أسيافا ،
وقد ظمئت إلى شرب الدماء ، وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزري ، ونعم الخصم
محمد والحكم الله.
فقال أبو بكر : يا
أبا الحسن! إنا لم نرد هذا كله ، ونحن نأمرك أن تفتح لنا الآن عن عنق خالد هذه الحديدة ، فقد
آلمه بثقله وأثر في حلقه بحمله ، وقد
__________________
شفيت غليل صدرك
منه .
فقال علي عليهالسلام : لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء وأقرب للفناء ، ولو قتلته
والله ما قدته برجل ممن قتلهم يوم فتح مكة وفي كرته هذه ، وما يخالجني الشك في أن خالدا
ما احتوى قلبه من الإيمان على قدر جناح بعوضة ، وأما الحديد الذي في
عنقه فلعلي لا أقدر على فكه ، فيفكه خالد عن نفسه أو فكوه أنتم عنه ، فأنتم أولى
به إن كان ما تدعونه صحيحا.
فقام إليه بريدة
الأسلمي وعامر بن الأشجع فقالا : يا أبا الحسن! والله لا يفكه عن عنقه إلا من حمل
باب خيبر بفرد يد ، ودحا به وراء ظهره ، وحمله وجعله جسرا تعبر الناس عليه وهو فوق زنده ، وقام إليه عمار بن
ياسر فخاطبه أيضا فيمن خاطبه ، فلم يجب أحدا ، إلى أن قال له أبو بكر : سألتك
بالله وبحق أخيك المصطفى رسول الله إلا ما رحمت خالدا وفككته من عنقه .
فلما سأله بذلك
استحيا ، وكان عليهالسلام كثير الحياء ، فجذب خالدا
__________________
إليه ، وجعل يخذف من الطوق قطعة
قطعة ويفتلها في يده ، فانفتل كالشمع.
ثم ضرب بالأولى
رأس خالد ، ثم الثانية ، فقال : آه يا أمير المؤمنين ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : قلتها على كره منك ، ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك ، ولم
يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله عن عنقه.
وجعل الجماعة
يكبرون ويهللون ويتعجبون من القوة التي أعطاها الله سبحانه أمير
المؤمنين عليهالسلام ، وانصرفت شاكرين .
إيضاح
: رأيت هذا الخبر
في بعض الكتب القديمة بأدنى تغيير.
والطافي : الحوت
الميت الذي يعلو الماء ولا يرسب فيه ، يقال : طفى الشيء فوق الماء : أي : علاه .
ويقال : ما به
حراك ـ بفتح الحاء ـ أي : حركة .
وقال الجوهري :
فلان حامي الذمار أي : إذا ذمر وغضب حمي ، وفلان أمنع ذمارا من فلان ، ويقال :
الذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه وسمي ذمارا لأنه يجب على أهله التذمر
له .
__________________
والضرام ـ بالكسر
ـ اشتعال النار ، يقال : ما بها نافخ ضرمة أي أحد ، وأضرمت النار :
ألهبتها .
والمراد بأخي ثقيف
: المغيرة بن شعبة ، وقيل : أريد به عمر أيضا ، كناية عن الخلل في
نسبه ، ويؤيده أن في الرواية الأخرى : فلا جزاك الله من ابن صهاك وأخي ثقيف ،
أجلسك مجلسا لست له بأهل.
والانكفاء الرجوع .
والحماليق : جمع
الحملاق ـ بالكسر ـ ، وحملاق العين : باطن أجفانها الذي يسوده الكحل ، أو ما غطته
الأجفان من بياض المقلة .
ويقال : نظر إليه
شزرا ، وهو : نظر الغضبان بمؤخر العين ، وفي لحظه شزر بالتحريك ، وتشازر القوم ..
أي : نظر بعضهم إلى بعض شزرا وفي بعض النسخ : معه رهط عتاة من الذين شزرت حماليق أعينهم من حسدك وبدرت حنقا
عليك.
وقرح جلده كعلم :
خرجت به القروح .
وفي الرواية
الأخرى مكان وغلام أسمر : وأخوه عقيل ، وهو أظهر.
__________________
وقال الفيروزآبادي
: الروية كسمية : ماء .
والبربرة : الصوت
وكلام في غضب ، تقول : بربر فهو بربار .
وفي الرواية
الأخرى : وأطرق موشحا وقبض على لحيته ، فبدأته بالسلام لأستكفي شره وأنفي وحشته.
وراغ إلى كذا : أي
مال إليه سرا وحاد ، وقوله تعالى : ( فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) أي : أقبل ، وقيل : مال ، والمراوغة ـ أيضا ـ المصارعة ،
قالها الجوهري .
وبعد قوله : عند
الغضب في الرواية الأخرى : ونفرت عيناه في أم رأسه وقام عرق الهاشمي بين عينيه
ككراع البعير فعلمت أنه قد غرب عقله.
ثم قال : ويقال
لخن السقاء ـ بالكسر ـ أي : أنتن ، ومنه قولهم : أمة لخناء ، ويقال اللخناء التي لم تختن .
وقال : دععته أدعه
دعا أي : دفعته .
وفي الرواية
الأخرى : فمد عنقي بيد وأخذ القطب بيد أخرى .. إلى قوله :
ما كفوني شره ، فلا جزاهم الله خيرا ، فإنهم لما نظروا إلى بريق عينيه استخذلوا
فرقا ، وسالت وجوههم عرقا ، وخمدت أرواحهم فكأنهم نظروا إلى ملك موتهم.
__________________
وفتلت الحبل :
لويته .
ويقال : ما أغنى
فلان شيئا ـ بالعين والغين ـ أي : لم ينفع في مهم ، ولم يكف مئونة .
وشرة الشباب ـ بكسر
الشين وتشديد الراء ـ : حرصه ونشاطه ، والشرة أيضا مصدر الشر.
قوله : أو قوة ملك
ـ بالتحريك أو بالضم ـ والثاني أنسب بكفره.
والشجا : ما ينشب
في الحلق من عظم وغيره والهم والحزن.
والدعابة ـ بالضم
ـ : المزاح ، وفي بعض النسخ : زعامة ، وهي بالفتح :
السيادة .
والخلد ـ بالخاء
المعجمة محركة ـ : القلب ، وفي أكثر النسخ بالجيم ، ولعله تصحيف.
وفي الرواية
الأخرى : فقال عمر : فيه دعابة لا يدعها حتى تهتك منزلته ، وتورطه ورطة الهلكة ،
وتبعده عن الدنيا ، فقال له أبو بكر : دعني من تمردك وحديثك هذا ، فو الله لو هم بقتلي
وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه ، ثم قال أبو بكر .. إلى قوله : وكان قيس سياف
النبي وكان طوله سبعة أشبار في عرض ثلاثة أشبار.
قوله : لمسألة
تسألونها .. أي : أحضرتموني لتلتمسوا مني ذلك لأفعله طوعا
__________________
أو تجبروني عليه
كرها.
قوله : ما كان منك
.. أي : لا تقدر عليه ، أو المعنى : لو جبرتني عليه كان من أعوانك وليس منك.
وفي الرواية
الأخرى : فقال له عمر : اقصد لما أمرت به يا قيس وإلا أكرهت ، فقال قيس : يا ابن
صهاك! خذل الله من يكرهه شرواك ، إن بطنك لكبير ، وإن كيدك لعظيم ، فلو فعلت أنت
ذلك ما كان بعجيب.
وشروى الشيء :
مثله .
قوله : فاستشاط :
أي احتدم والتهب في غضبه .
قوله : حميا ـ على
فعيل ـ أي : حاميا للحق.
والمعرة : الإثم
والأذى .
قوله : لا يقعقع
بالشنان .. القعقعة : حكاية صوت السلاح ، والشنان ـ بالكسر ـ جمع الشن ، وهو : القربة الخلق .
قال الزمخشري والميداني : إذا أرادوا حث
الإبل على السير يحركون القربة اليابسة لتفزع فتسرع.
قال النابغة :
كأنك من جمال
بني أقيس
|
|
يقعقع خلف رجليه
بشن
|
يضرب للرجل الشرس
الصعب الذي لا يتفزع لا ينزل به من حوادث
__________________
الدهر ، ولا يروعه
ما لا حقيقة له.
قال الحجاج على منبر
الكوفة : إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ، ولا يغمز جانبي كتغماز
التين. انتهى .
وغمز التين :
كناية عن سرعة الانقياد ، ولين الجانب ، فإنه إذا غمز في ظرف أو غيره انغمز سريعا.
والضخم : الغليظ
من كل شيء ، والمراد هنا شدته في الأمور وفخامته عند الناس.
والصنديد ـ بالكسر
ـ : السيد الشجاع .
وسمك البيت : سقفه
.
والمنيف : المشرف
المرتفع .
والباذخ : العالي .
والشوس ـ بالتحريك
ـ : النظر بمؤخر العين تكبرا وتغيظا ، والرجل أشوس .
قوله : والديك
النافش .. في بعض النسخ بالقاف والشين المعجمة ، والنقش : استخراج الشوك
واستقصاؤك الكشف عن الشيء والجماع ، وفي
__________________
بعض النسخ بالفاء
، وقال الفيروزآبادي : النفوش : الإقبال على الشيء تأكله ..
وتنفش الطائر : نفض ريشه كأنه يخاف أو يرعد ، وفي بعض النسخ : النافر بالفاء والراء المهملة ، أو
بالقاف والراء ـ.
وصميم الشيء :
خالصه ، يقال هو في صميم قومه . ويقال : مج الرجل الشراب من فيه إذا رمى به .
وتنصل فلان من
ذنبه أي تبرا واعتذر.
قوله عليهالسلام : يا ابن دميمة .. الدميم : الحقير ، والدمامة الإساءة .
قوله عليهالسلام : فطفقت .. يقال : طفق الموضع كفرح لزمه ، وهو هنا كناية عن الموت. وفي بعض النسخ فطفئت ـ بالهمزة
ـ وهو أيضا كناية عن الموت.
ويقال : أغنيت عنك مغنى فلان .. أي : أجزأت عنك مجزأة ، ويقال : ما
يغني عنك هذا أي : ما يجدي عنك وما ينفعك .
وفي الرواية
الأخرى : فأعز نفسك عنا هباء ودعنا عنك حلماء . ولعله من قولهم هبا : إذا فر أو مات .
__________________
قوله عليهالسلام : بمن أنت أحق .. أي بمن قتلهم من الكفار وأنت أحق بالقتل منهم.
قوله عليهالسلام : لا تجرعت .. أي لم أشرب من الكيزان التي ختمت رءوسها ولم يعلم ما فيها إلا علقمها .. أي مرها
، وكل شيء مر علقم ، ولعله مثل ، والغرض أني لا أبالي بالشدائد والفتن ، ولم يقدر لي في
الدنيا من الأمور إلا شدائدها.
والزهو : التكبر
والفخر .
قوله عليهالسلام : في موضع رفع .. أي من جهة الترفع علي ، وفي الرواية الأخرى : أراد الوضع مني ليسمو بذلك عند أهل
الجهل ، وهم بي وهو عارف بي. وقال الجوهري : يقال في فلان هنات أي خصلات شر . وقال الجزري :
قيل واحدها هنة ، .. وهو كناية عن كل اسم جنس ، ومنه حديث سطيح « ثم تكون هنات
وهنات » أي شدائد وأمور عظام .
وفي الرواية الأخرى
زيادة ، وهي هذه : فانصرفت الجماعة شاكرين له وهم متعجبون من ذلك ، فقال أبو بكر :
لا تعجبوا من أبي الحسن ، والله لقد كنت بجنب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
يوم قلع علي باب خيبر ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قد ضحك حتى بدت
ثناياه ، ثم بكى حتى اخضلت لحيته ،
__________________
فقلت : يا رسول
الله! أضحك وبكاء في ساعة واحدة؟!.
قال : نعم ، أما
ضحكي ففرحت بقلع علي باب خيبر ، وأما بكائي فلعلي عليهالسلام ، فإنه ما قلعه إلا وهو صائم مذ ثلاثة أيام على الماء
القراح ، ولو كان فاطرا على طعام لدحا به من وراء السور.
٣٨
ـ ما : هذا حديث وجدته
بخط بعض المشايخ رحمهم الله ، ذكر أنه وجده في كتاب لأبي غانم الأعرج ـ وكان مسكنه
بباب الشعير ـ وجد بخطه على ظهر كتاب له حين مات ، وهو :
أن عائشة بنت طلحة
دخلت على فاطمة عليهاالسلام فرأتها باكية ، فقالت لها : بأبي أنت وأمي ما الذي يبكيك؟
فقالت لها : أسائلتي عن هنة حلق بها الطائر وحفي بها السائر ، ورفعت إلى السماء أثرا ورزئت في الأرض
خبرا : إن قحيف تيم وأحيول عدي جاريا أبا الحسن في السباق ، حتى إذا تفريا بالخناق أسرا له
الشنآن ، وطوياه الإعلان ، فلما خبا نور الدين وقبض النبي الأمين نطقا بفورهما ،
ونفثا بسورهما ، وأدلا بفدك ، فيا لها كم من ملك ملك ، إنها عطية الرب
الأعلى للنجي الأوفى ، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي ، وإنها لبعلم
الله وشهادة أمينه ، فإن انتزعا مني البلغة ومنعاني اللمظة
__________________
فأحتسبها يوم الحشر زلفة ،
وليجدنها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم.
توضيح
: عن هنة ، أي :
شيء يسير قليل ، أو قصته منكرة قبيحة .
حلق بها الطائر ..
تحليق الطائر : ارتفاعه في الهواء ، أي : انتشر خبرها ، إذ كان الغالب في تلك الأزمنة إرسال
الأخبار مع الطيور.
وحفي بها السائر
.. أي : أسرع السائر في إيصال هذا الخبر حتى حفي وسقط خفه ونعله ، أو رق رجله أو
رجل دابته ، يقال : حفي ـ كعلم ـ إذا مشى بلا خف ولا نعل ، أو رقت قدمه أو حافره ،
أو هو من الحفاوة وهي المبالغة في السؤال ، وفي بعض النسخ : وخفي بها الساتر .. أي لم يبق ساتر لها
ولم يقدر الساترون على إخفائها.
ورفعت إلى السماء
أثرا ... أي ظهرت آثاره في السماء عاجلا وآجلا من منع الخيرات وتقدير شدايد
العقوبات لمن ارتكبها.
ورزئت في الأرض
خبرا ... يقال : رزأه كجعله وعمله أصاب منه شيئا ، ورزأه رزءا أو مرزأة أصاب منه
خيرا ، والشيء نقصه ، والرزيئة المصيبة ، فيمكن أن يقرأ على بناء المعلوم .. أي أحدثت من جهة
خبرها في الأرض مصائب ، أو
__________________
المجهول بالإسناد
المجازي ، والأول أنسب معنى ، والثاني لفظا ، ويمكن أن يكون بتقديم المعجمة على
المهملة ، يقال : زري عليه زريا : عابه وعاتبه فلا يكون مهموزا.
وفي بعض النسخ ربت
ـ بالراء المهملة والباء الموحدة ـ : أي نمت وكثرت. وفي بعضها : رنت .. من الرنين ، وفي نسخة قديمة :
ورويت ـ من الرواية ـ.
إن قحيف تيم ..
لعلها صلوات الله عليها أطلقت على أبي بكر قحيفا ، لأن أباه أبو قحافة ، والقحف ـ بالكسر
ـ العظم فوق الدماغ ، والقحف ـ بالفتح قطع القحف أو كسره ، والقاحف : المطر يجيء
فجأة فيقتحف كل شيء .. أي يذهب به ، وسيل قحاف ـ كغراب ـ جزاف .
والأحيول ـ تصغير
ـ الأحول ، وهو لو لم يكن أحول ظاهرا فكان أحول باطنا لشركه ، بل أعمى ، ويقال : ـ
أيضا ـ ما أحوله .. أي ما أحيله .
جاريا أبا الحسن عليهالسلام في السباق .. يقال : جاراه أي جرى معه .
والسباق :
المسابقة ، أي كانا يريدان أن يسبقاه في المكارم والفضائل في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
حتى إذا تفريا
بالخناق أسرا له الشنآن .. يقال : تفرى أي انشق ، والخناق ـ ككتاب
ـ الحبل يخنق به ، وكغراب داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرية والقلب . وفي بعض النسخ
بالحاء المهملة وهو بالكسر جمع الحنق ـ بالتحريك وهو الغيظ أو شدته .
والشنان : العداوة
.. أي لما انشقا بما خنقهما من ظهور مناقبه وفضائله وعجزهما عن أن يدانياه في
شيء منها ، أو من شدة غيظه أكمنا له العداوة في قلبهما منتهضين للفرصة ، وفي بعض
النسخ : تعريا ـ بالعين والراء المهملتين ـ فلعل المعنى بقيا مسبوقين في
العراء وهو الفضاء والصحراء متلبسين بالخناق والغيظ.
وفي بعض النسخ : ثغرا .. أي توقرا وثقلا. وفي بعضها : تغرغرا .. من الغرغرة وهي
تردد الروح في الحلق ، ويقال : يتغرغر صوته في حلقه .. أي
__________________
يتردد ، وهو مناسب
للخناق. وفي بعضها : تقررا .. أي ثبتا ولم يمكنهما الحركة ، وفي بعضها :
تعزبا ـ بالمهملة ثم المعجمة ـ أي بعدا ولم يمكنهما الوصول إليه ، وكان يحتمل تقديم المعجمة أيضا ، والمعنى قريب
من الأول.
وفي بعضها تقربا ـ بالقاف والباء الموحدة ـ ويمكن توجيهه بوجه ، وكان يحتمل النون
، وهو أوجه فالخناق ـ بالخاء المكسورة ـ أي اشتركا فيما يوجب عجزهما كأنهما
اقترنا بحبل واحد في عنقهما ، وفي بعضها تفردا ـ بالفاء والراء المهملة والدال وهو
أيضا لا يخلو من مناسبة.
وطوياه الإعلان ..
أي أضمرا أن يعلنا له العداوة عند الفرصة ، وفي الكلام حذف وإيصال .. أي طويا أو
عنه ، يقال : طوى الحديث أي كتمه ، ويقال خبت النار أي سكنت وطفئت .
نطقا بفورهما ..
أي تكلما فورا ، أي بسبب فورانهما ، وفي بعض النسخ :
نطفا ـ بالفاء ـ أي صبا ما في صدورهما فورا ، أو بسبب غليان حقدهما وفوران حسدهما
، ويحتمل أن تكون الباء زائدة ، يقال نطف الماء أي صبه ، وفلانا قذفه بفجور ، أو
لطخه بعيب . وفي الحديث : رأيت سقفا تنطف سمنا وعسلا .. أي
__________________
تقطر ، وفي قصة
المسيح عليهالسلام : ينطف رأسه ماء ، وفار القدر فورا وفورانا غلا وجاش ، وأتوا من فورهم
... أي من وجههم ، أو قبل أن يسكنوا .
ونفثا بسورهما ..
نفثه ـ كضرب ـ : رمى به ، والنفث : النفخ والبزق .
وسورة الشيء :
حدته وشدته ، ومن السلطان : سطوته وإعتداؤه. وسار الشراب في رأسه سورا : دار و ارتفع ، والرجل
إليك : وثب وثار .
وأدلا بفدك .. قال
الجوهري : الدل : الغنج والشكل ، .. وفلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل
على صيده ، وهو يدل بفلان : أي يثق به ، والحاصل أنهما أخذا فدك بالجرأة من غير خوف ، وفي بعض
النسخ : وا ذلا بفدك ـ بالذال المعجمة ـ على الندبة ، ولعله تصحيف.
فيا لها كم من ملك
ملك .. من قبيل يا للماء ... للتعجب ، أي يا قوم تعجبوا لفدك. وقولها : كم من ملك
بيان لوجه التعجب ، وفي بعض النسخ :
فيا لها لمن ملك تيك ... وفي بعضها : فيا لها لمزة لك تيك. واللمزة ـ بضم اللام
وفتح الميم ـ : العياب . وتيك : اسم إشارة ، والظاهر أن الجميع تصحيف.
والنجي .. هو
المناجي المخاطب للإنسان أي لمن خصه الله بنجواه
__________________
وسره وكان أوفى
الخلق بعهده وأمره.
والصبية ـ بالكسر
ـ : جمع الصبي .
والسغب : الجوع .
والنجل : الولد .
والبلغة ـ بالضم ـ
: ما يتبلغ به من العيش .
واللماظة ـ بالضم
ـ : ما يبقى في الفم من الطعام. وقال الشاعر في وصف الدنيا :
لماظة أيام
كأحلام نائم
|
|
...................
|
ويقال : ما ذقت
لماظا ـ بالفتح ـ أي شيئا ، .. واللمظة ـ بالضم ـ كالنكتة من البياض ، واللماظة هنا
أنسب.
والزلفة ـ بالضم ـ
كالزلفى : القرب والمنزلة .. أي اعلم أنها سبب لقربي يوم الحشر ، أو اصبر عليها
ليكون سببا لقربي.
قال في النهاية : وفيه من صام
إيمانا واحتسابا .. أي طلبا لوجه الله وثوابه ، والاحتساب من الحسب
كالاعتداد من العد ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه ، لأن له حينئذ أن
يعتد عمله ، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به .. والاحتساب في الأعمال
الصالحات وعند المكروهات هو البدار إلى
__________________
طلب الأجر وتحصيله
بالتسليم والصبر ، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها
طلبا للثواب المرجو منها .. ، ومنه الحديث : من مات له ولد فاحتسبه .. أي احتسب
الأجر بصبره على مصيبته.
وسعر النار ..
كمنع : أوقدها .
والحميم : الماء
الحار .
واللظى ـ كفتى ـ النار
أو لهبها ، ولظى ـ معرفة ـ جهنم ، أو طبقة منها ، أعاذنا الله تعالى منها ومن طبقاتها
ودركاتها.
٣٩
ـ ختص : عن عبد الله بن
سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وجلس أبو بكر مجلسه ، بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها
فأخرجه من فدك.
فأتته فاطمة عليهاالسلام فقالت : يا أبا بكر! ادعيت أنك خليفة أبي وجلست مجلسه ، وأنت بعثت إلى وكيلي
فأخرجته من فدك ، وقد تعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوآله صدق بها علي ، وأن لي بذلك شهودا. فقال : إن النبي (ص) لا
يورث.
فرجعت إلى علي عليهالسلام فأخبرته ، فقال : ارجعي إليه وقولي له :
زعمت أن النبي صلىاللهعليهوآله لا يورث ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ ) ، وورث يحيى زكريا ، وكيف لا أرث أنا أبي؟! فقال عمر : أنت
معلمة ، قالت : وإن كنت معلمة فإنما علمني ابن عمي وبعلي.
__________________
فقال أبو بكر :
فإن عائشة تشهد وعمر أنهما سمعا رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يقول : النبي لا يورث.
فقالت : هذا أول
شهادة زور شهدا بها ، وإن لي بذلك شهودا بها في الإسلام ، ثم قالت : فإن فدك
إنما هي صدق بها علي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولي بذلك بينة.
فقال لها : هلمي
ببينتك. قال : فجاءت بأم أيمن وعلي عليهالسلام ، فقال أبو بكر : يا أم أيمن! إنك سمعت من رسول الله (ص)
يقول في فاطمة؟ فقالت :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، ثم قالت أم
أيمن : فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها؟! وأنا امرأة من أهل الجنة
ما كنت لأشهد بما لم أكن سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال عمر : دعينا يا أم أيمن من هذه القصص ، بأي شيء
تشهدين؟.
فقالت : كنت جالسة
في بيت فاطمة عليهاالسلام ورسول الله صلىاللهعليهوآله جالس حتى نزل عليه جبرئيل ، فقال : يا محمد! قم فإن الله
تبارك وتعالى أمرني أن أخط لك فدكا بجناحي ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوآله مع جبرئيل
__________________
عليهالسلام ، فما لبث أن رجع ، فقالت فاطمة عليهاالسلام : يا أبت! أين ذهبت؟ فقال : خط جبرئيل عليهالسلام لي فدكا بجناحه وحد لي حدودها ، فقالت : يا أبت! إني أخاف
العيلة والحاجة من بعدك ، فصدق بها علي ، فقال : هي صدقة عليك ، فقبضتها ، قالت :
نعم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا أم أيمن! اشهدي ، ويا علي! اشهد.
فقال عمر : أنت
امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها ، وأما علي فيجر إلى نفسه.
قال : فقامت مغضبة
وقالت : اللهم إنهما ظلما ابنة نبيك حقها ، فاشدد وطأتك عليهما ، ثم خرجت وحملها علي على أتان
عليه كساء له خمل ، فدار بها أربعين صباحا في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن
والحسين عليهماالسلام معها ، وهي تقول : يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا
الله وابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول
الله صلىاللهعليهوآله ببيعتكم ، قال : فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها.
قال : فانتهت إلى
معاذ بن جبل فقالت : يا معاذ بن جبل! إني قد جئتك مستنصرة ، وقد بايعت رسول الله صلىاللهعليهوآله على أن تنصره وذريته وتمنع مما تمنع منه نفسك وذريتك ، وإن أبا بكر قد غصبني
على فدك وأخرج وكيلي منها ، قال : فمعي غيري؟ قالت : لا ، ما أجابني أحد ، قال :
فأين أبلغ أنا من نصرك؟ قال : فخرجت من عنده. ودخل ابنه ، فقال : ما جاء بابنة
محمد إليك؟ قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنه أخذ منها فدكا ، قال : فما
أجبتها به؟ قال : قلت : وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي ، قال : فأبيت أن تنصرها؟
__________________
قال : نعم ، قال :
فأي شيء قالت لك؟ قال : قالت لي : والله لا نازعتك الفصيح من رأسي
حتى أرد على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : فقال : أنا والله لا نازعتك الفصيح من رأسي
حتى أرد على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إذ لم تجب ابنة محمد.
قال : وخرجت فاطمة
صلوات الله عليها من عنده وهي تقول : والله لا أكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم انصرفت.
فقال علي عليهالسلام لها : ائتي أبا بكر وحده فإنه أرق من الآخر ، وقولي له : ادعيت مجلس
أبي وأنك خليفته وجلست مجلسه ، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردها علي ،
فلما أتته وقالت له ذلك ، قال : صدقت ، قال :
فدعا بكتاب فكتبه لها برد فدك .
فخرجت والكتاب
معها ، فلقيها عمر فقال : يا بنت محمد! ما هذا الكتاب الذي معك؟ فقالت : كتاب كتب
لي أبو بكر برد فدك ، فقال : هلميه إلي ، فأبت أن تدفعه إليه ، فرفسها برجله ـ وكانت
عليهاالسلام حاملة بابن اسمه : المحسن فأسقطت المحسن من بطنها ، ثم
لطمها ، فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نقف ، ثم أخذ الكتاب
فخرقه.
فمضت ومكثت خمسة
وسبعين يوما مريضة مما ضربها عمر ، ثم قبضت.
فلما حضرتها الوفاة دعت عليا
صلوات الله عليه فقالت : إما تضمن وإلا
__________________
أوصيت إلى ابن
الزبير ، فقال علي عليهالسلام : أنا أضمن وصيتك يا بنت محمد ، قالت : سألتك بحق رسول
الله صلىاللهعليهوآله إذا أنا مت أن لا يشهداني ولا يصليا علي ، قال : فلك ذلك .
فلما قبضت صلوات
الله عليها ، دفنها ليلا في بيتها ، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها ، وأبو
بكر وعمر كذلك ، فخرج إليهما علي عليهالسلام ، فقالا له : ما فعلت بابنة محمد؟! أخذت في جهازها يا أبا
الحسن؟ فقال علي عليهالسلام : قد والله دفنتها ، قالا : فما حملك على أن دفنتها ولم
تعلمنا بموتها؟ قال :
هي أمرتني.
فقال عمر : والله
لقد هممت بنبشها والصلاة عليها ، فقال علي صلوات الله عليه : أما والله ما دام
قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي فإنك لا تصل إلى نبشها ، فأنت أعلم ، فقال أبو بكر : اذهب ،
فإنه أحق بها منا ، وانصرف الناس.
بيان
: قال في النهاية : الوطء في الأصل
: الدوس بالقدم ، فسمي به الغزو والقتل ، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى
في إهلاكه وإهانته ، ومنه
الحديث : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، أي : خذهم أخذا شديدا ،
انتهى.
والخمل ـ بالتحريك
ـ : هدب القطيفة ونحوها .
__________________
قولها عليهاالسلام : لا نازعتك الفصيح .. أي : لا أنازعك بما يفصح عن المراد ، أي بكلمة
من رأسه ، فإن محل الكلام في الرأس ، أو المراد بالفصيح :
اللسان.
قوله : حين نقف ـ على
بناء المجهول أي ـ .. كسر من لطم اللعين.
والجوانح : الضلوع
تحت الترائب مما يلي الصدر ، واحدتها جانحة .
٤٠ ـ وروى العلامة في كشكوله ـ المنسوب إليه ـ عن المفضل بن
عمر قال : قال مولاي جعفر الصادق عليهالسلام : لما ولي أبو بكر بن أبي قحافة قال له عمر : إن الناس
عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ، فامنع عن علي وأهل بيته الخمس ، والفيء ، وفدكا ،
فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليا وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا ومحاباة عليها ، ففعل أبو
بكر ذلك وصرف عنهم جميع ذلك .
فلما قام ـ أبو
بكر بن أبي قحافة ـ أمر مناديه : من كان له عند رسول الله (ص) دين أو عدة فليأتني حتى
أقضيه ، وأنجز لجابر بن عبد الله ولجرير بن عبد الله البجلي.
__________________
قال : [ قال ] علي عليهالسلام لفاطمة عليهاالسلام : صيري إلى أبي بكر وذكريه فدكا ، فصارت فاطمة إليه وذكرت
له فدكا مع الخمس والفيء ، فقال : هاتي بينة يا
بنت رسول الله . فقالت : أما فدك ، فإن الله عز وجل أنزل على نبيه قرآنا
يأمر فيه بأن يؤتيني وولدي حقي ، قال الله تعالى : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) فكنت أنا وولدي أقرب الخلائق إلى رسول الله (ص) فنحلني
وولدي فدكا ، فلما تلا عليه جبرئيل عليهالسلام : ( وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ ) ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما حق المسكين وابن السبيل؟
فأنزل الله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ، فقسم الخمس على
خمسة أقسام ، فقال : ( ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِياءِ ) فما لله فهو لرسوله ، وما لرسول الله فهو لذي القربى ، ونحن ذو
القربى. قال الله تعالى :
__________________
( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) . فنظر أبو بكر بن
أبي قحافة إلى عمر بن الخطاب وقال : ما تقول؟ فقال عمر : ومن اليتامى
والمساكين وأبناء السبيل؟ فقالت فاطمة (ع) : اليتامى الذين يأتمون بالله وبرسوله
وبذي القربى ، والمساكين الذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي
يسلك مسلكهم. قال عمر : فإذا الخمس والفيء كله لكم ولمواليكم وأشياعكم؟! فقالت
فاطمة عليهاالسلام : أما فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ،
وأما الخمس فقسمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله.
قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ؟ قالت فاطمة :
إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسمها الله وأوجبها في كتابه ، فقال
الله عز وجل : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقابِ ) .. إلى آخر القصة ، قال عمر : فدك لك خاصة والفيء لكم
ولأوليائكم؟ ما أحسب أصحاب محمد يرضون بهذا!! قالت فاطمة : فإن الله عز وجل رضي بذلك ، ورسوله
رضي به ، وقسم على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة
، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن خالفنا فقد خالف الله ، ومن
__________________
خالف الله فقد
استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة. فقال عمر : هاتي
بينة يا بنت محمد على ما تدعين؟! فقالت فاطمة (ع) : قد صدقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البينة! وبينتي في كتاب
الله ، فقال عمر : إن جابرا وجريرا ذكرا أمرا هينا ، وأنت تدعين أمرا عظيما يقع به
الردة من المهاجرين والأنصار!. فقالت عليهاالسلام : إن المهاجرين برسول الله وأهل بيت رسول الله هاجروا إلى
دينه ، والأنصار بالإيمان بالله ورسوله وبذي القربى أحسنوا ، فلا هجرة إلا إلينا ، ولا نصرة إلا
لنا ، ولا اتباع بإحسان إلا بنا ، ومن ارتد عنا فإلى الجاهلية. فقال لها عمر : دعينا من
أباطيلك ، وأحضرينا من يشهد لك بما تقولين!!. فبعثت إلى علي والحسن والحسين وأم
أيمن وأسماء بنت عميس ـ وكانت تحت أبي بكر بن أبي قحافة ـ فأقبلوا إلى أبي بكر وشهدوا لها بجميع
ما قالت وادعته. فقال : أما علي فزوجها ، وأما الحسن والحسين ابناها ، وأما أم أيمن
فمولاتها ، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر ابن أبي طالب فهي تشهد لبني
هاشم ، وقد كانت تخدم فاطمة ، وكل هؤلاء يجرون إلى أنفسهم!. فقال علي (ع) : أما
فاطمة فبضعة من رسول الله (ص) ، ومن آذاها فقد آذى رسول الله (ص) ، ومن كذبها فقد
كذب رسول الله ، وأما الحسن
__________________
والحسين فابنا
رسول الله (ص) وسيدا شباب أهل الجنة ، من كذبهما فقد كذب رسول الله (ص) إذ كان أهل الجنة صادقين
، وأما أنا فقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنت مني وأنا منك ، وأنت أخي في الدنيا والآخرة ، والراد عليك هو
الراد علي ، ومن أطاعك فقد أطاعني ، ومن عصاك فقد عصاني ، وأما أم أيمن
فقد شهد لها رسول الله صلىاللهعليهوآله بالجنة ، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها. قال عمر : أنتم كما وصفتم
أنفسكم ، ولكن شهادة الجار إلى نفسه لا تقبل. فقال علي عليهالسلام : إذا كنا كما نحن كما تعرفون ولا
__________________
تنكرون ، وشهادتنا
لأنفسنا لا تقبل ، وشهادة رسول الله لا تقبل ، فـ ( إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، إذا ادعينا لأنفسنا تسألنا البينة؟! فما من معين
يعين ، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله ، فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره
من غير بينة ولا حجة : ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) . ثم قال لفاطمة :
انصرفي ( حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ )
قال المفضل : قال
مولاي جعفر عليهالسلام : كل ظلامة حدثت في الإسلام أو تحدث ، وكل دم مسفوك حرام ،
ومنكر مشهور ، وأمر غير محمود ، فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما
أو تابعهما ورضي بولايتهما إلى يوم القيامة .
بيان :
يظهر من هذا الخبر
أن لذي القربى حقين : حقا مختصا وحقا مشتركا ، وأشار سبحانه مع الآية الأولى
إليهما جميعا ، فلما سألوا عن حق المسكين وابن السبيل أنزل آية الخمس لبيان أن
اشتراكهما إنما هو في الخمس لا في سائر الفيء ، فلا ينافي اختصاص فدك بهم عليهمالسلام ، وأما تفسيرها عليهاالسلام اليتامى بالذين يأتمون ، فلعل المعنى أن المراد بهم يتامى
الشيعة لا مطلق الأيتام ، فلا يكون الغرض بيان أن اليتيم مشتق من الائتمام ،
لاختلاف بناء الكلمتين ، مع أنه يحتمل أن يكون مبنيا على الاشتقاق الكبير ، ويحتمل
أن يكون تأويلا لبطن الآية بأن المراد باليتيم من انقطع عن والديه الروحانيين ـ أي
النبي والإمام عليهما
__________________
السلام ـ من
الشيعة موافقا للأخبار الكثيرة الواردة في ذلك ، وأما ما فسرت به المسكين فلا ينافي البناء ، لأن المسكين
والمسكن والسكنى متساوقة في الاشتقاق ، وهو على وزن مفعيل ، يقال تمسكن كما يقال
تمدرع وتمندل .
وابن السبيل :
أظهر ، فإنه فسرته بسبيل الحق والصراط المستقيم ، ثم إنه يدل ظاهرا على عدم اختصاص
الخمس ببني هاشم ـ كما هو مذهب أكثر العامة فيمكن أن يكون هذا على سبيل التنزل ،
أو يكون المراد أنه غير شامل لجميع بني هاشم بل مختص بمن كان منهم تابعا للحق.
٤١
ـ قب : في كتاب أخبار
الخلفاء : أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكا حتى أردها
إليك ، فيأبى حتى ألح عليه ، فقال عليهالسلام : لا آخذها إلا بحدودها ، قال : وما حدودها؟ قال : إن
حددتها لم تردها.
قال : بحق جدك إلا فعلت. قال : أما الحد الأول فعدن ، فتغير وجه الرشيد وقال :
إيها !. قال : والحد الثاني سمرقند ، فأربد وجهه. قال : والحد الثالث إفريقية ، فاسود وجهه وقال :
هنيه هيه !. قال : والرابع سيف البحر ما يلي
__________________
الخزر وإرمينية. قال
الرشيد : فلم يبق لنا شيء ، فتحول إلى مجلسي. قال موسى : قد أعلمتك أنني إن حددتها
لم تردها ، فعند ذلك عزم على قتله.
وفي رواية ابن
أسباط أنه قال : أما الحد الأول فعريش مصر ، والثاني : دومة الجندل ، والثالث :
أحد ، والرابع : سيف البحر ، فقال : هذا كله هذه الدنيا!.
فقال (ع) : هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله ورسوله بلا ( خَيْلٍ
وَلا رِكابٍ ) ، فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة (ع).
بيان :
هذان التحديدان
خلاف المشهور بين اللغويين ، قال الفيروزآبادي :
فدك ـ محركة ـ موضع بخيبر. وقال في مصباح اللغة : بلدة بينها وبين مدينة النبي (ص)
يومان وبينهما وبين خيبر دون مرحلة ، وهي مما ( أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ) وتنازعها علي والعباس في خلافة عمر ، فقال علي (ع) : جعلها النبي (ص) لفاطمة
وولدها ، وأنكره العباس فسلمها عمر لهما . انتهى.
ولعل مراده عليهالسلام أن تلك كلها في حكم فدك ، وكأن الدعوى على جميعها ، وإنما ذكروا فدك على
المثال أو تغليبا.
٤٢
_كشف : روى الحميدي في
الجمع بين الصحيحين ، السادس :
عن عمر عن أبي بكر المسند منه فقط ، وهو : لا نورث ما تركنا صدقة. لمسلم من
__________________
رواية جويرية بن
أسماء عن مالك وعن عائشة بطوله : أن فاطمة (ع) سألت أبا بكر أن يقسم لها ميراثها. وفي
رواية أخرى : أن فاطمة (ع) والعباس أتيا أبا بكر .. يلتمسان ميراثهما من رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من
خيبر ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قال : لا نورث
ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال ، وإني والله لا أدع
أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] يصنعه فيه إلا صنعته.
زاد في رواية صالح
بن كيسان : إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
، قال :فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس فغلبه عليها علي.
، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآله كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر.
، قال : فهما على ذلك اليوم.
قال غير صالح في
روايته في حديث أبي بكر : فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي عليهالسلام ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر ، قال : وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما توفيت
فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي عليهالسلام ، ومكثت فاطمة عليهاالسلام بعد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ستة أشهر ثم توفيت ،
فقال رجل للزهري : فلم يبايعه علي ستة أشهر؟
قال : لا والله ، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي.
__________________
في حديث عروة :
فلما رأى علي عليهالسلام انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، فأرسل إلى
أبي بكر : ائتينا ولا تأتنا معك بأحد ، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة
عمر. فقال عمر : لا تأتهم وحدك. فقال أبو بكر : والله لآتينهم وحدي ، ما عسى أن
يصنعوا بي؟!. فانطلق أبو بكر فدخل على علي عليهالسلام وقد جمع بني هاشم عنده ، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فلم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك
ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا
الأمر حقا ، فاستبددتم علينا .. ثم ذكر قرابتهم من رسول الله صلىاللهعليهوآله وحقهم .. فلم يزل علي عليهالسلام يذكر حتى بكى أبو بكر وصمت علي ، وتشهد أبو بكر فحمد الله
وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فو الله لقرابة رسول الله صلىاللهعليهوآله أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وإني والله ما لكأت في هذه الأموال
التي كانت بيني وبينكم عن الخير ، ولكني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد (ص) في هذا المال ، وإني
والله لا أدع أمرا صنعه رسول الله صلىاللهعليهوآله إلا صنعته إن شاء الله ، وقال علي : موعدك للبيعة العشية ،
فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس يعذر عليا ببعض ما اعتذر به ، ثم قام علي
فعظم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته ، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه ، فأقبل
الناس على علي فقالوا : أصبت وأحسنت ، وكان المسلمون إلى علي رضي الله عنه قريبا
حين راجع الأمر بالمعروف ... هذا آخر ما ذكره الحميدي.
__________________
وقد خطر لي عند
نقلي لهذا الحديث كلام أذكره على مواضع منه ، ثم بعد ذلك أورد ما نقله أصحابنا في
المعنى ، ملتزما بما اشترطه من العدل في القول والفعل ، ( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ )
قول أبي بكر ـ في
أول الحديث وآخره ـ : وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه [ وآله
] يصنعه فيه إلا صنعته .. وهو لم يرد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صنع فيها إلا أنه اصطفاها ، وإنما سمع سماعا أنه بعد وفاته
لا يورث ، كما روى ، فكان حق الحديث أن يحكى ويقول وإني والله لا أدع أمرا سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقوله إلا عملت بمقتضى قوله ، أو ما هذا معناه.
وفيه : فأما صدقته
بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي.
أقول
: حكم هذه الصدقة
التي بالمدينة حكم فدك وخيبر ، فهلا منعهم الجميع كما فعل صاحبه إن كان العمل على
ما رواه ، أو صرفهم في الجميع إن كان الأمر بضد ذلك ، فأما تسليم البعض ومنع البعض
فإنه ترجيح من غير مرجح ، اللهم إلا أن يكونوا فعلوا شيئا لم يصل
إلينا في إمضاء ذلك.
وفي قوله : فغلبه
عليها علي .. دليل واضح على ما ذهب إليه أصحابنا من توريث البنات دون الأعمام ،
فإن عليا عليهالسلام لم يغلب العباس على الصدقة من جهة العمومة ، إذ كان العباس
أقرب من علي (ع) في ذلك ، وغلبه إياه على سبيل الغلب والعنف مستحيل أن يقع من علي في حق
العباس ، ولم يبق إلا أنه غلبه عليها بطريق فاطمة وبنيها عليهمالسلام.
وقول علي عليهالسلام : كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم
__________________
علينا ..فتأمل
معناه يضح لك مغزاه ، ولا حاجة إلى كشف مغطاه.
وروى أحمد بن حنبل
.. في مسنده ما يقارب ألفاظ ما رواه الحميدي ، ولم يذكر حديث علي (ع) وأبي بكر
ومجيئه إليه في هذا الحديث.
روى ابن بابويه
مرفوعا إلى أبي سعيد الخدري ، قال : لما نزلت : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا فاطمة! لك فدك، وفي رواية أخرى عن أبي سعيد مثله.
وعن عطية قال :
لما نزلت : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) ، دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة عليهاالسلام فأعطاها فدك.
وعن علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب (ع) قال : أقطع رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة عليهاالسلام فدك.
وعن أبان بن تغلب
، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطى فاطمة (ع) فدك؟ قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله وقفها ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ ) ، فأعطاها رسول الله صلىاللهعليهوآله حقها. قلت : رسول الله (ص) أعطاها؟ قال : بل الله تبارك
وتعالى أعطاها.
وقد تظاهرت
الرواية من طرق أصحابنا بذلك ، وثبت أن ذا القربى : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، وعلى هذا فقد كان أبو بكر وعمر لما وليا
__________________
هذا الأمر يرتبان
في الأعمال والبلاد القريبة والنائية من الصحابة والمهاجرين والأنصار من لا يكاد يبلغ مرتبة علي
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ولا يقاربها ، فلو اعتقداهم مثل بعض الولاة وسلما إليهم
هذه الصدقة التي قامت النائرة في أخذها ، وعرفاهم ما روياه وقالا لهم : أنتم أهل
البيت وقد شهد الله لكم بالطهارة ، وأذهب عنكم الرجس ، وقد عرفناكم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ، وقد سلمناها إليكم ، وشغلنا ذممكم بها ، والله من وراء
أفعالكم فيها ، والله سبحانه بمرأى منكم ومسمع ، فاعملوا فيها بما يقربكم منه ويزلفكم عنده ، فعلى
هذا سلمناها إليكم وصرفناكم فيها ، فإن فعلتم الواجب الذي أمرتم به وفعلتم فيها
فعل رسول الله (ص) فقد أصبتم وأصبنا ، وإن تعديتم الواجب وخالفتم ما حده رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد أخطأتم وأصبنا فإن الذي علينا الاجتهاد ولم نأل في
اختياركم جهدا ، وما علينا بعد بذل الجهد لائمة ، وهذا الحديث من الإنصاف كما يروى
، والله الموفق والمسدد.
وروي أن فاطمة عليهاالسلام جاءت إلى أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالت : يا أبا بكر! من يرثك إذا مت؟ قال : أهلي وولدي ، قالت :
فما لي لا أرث رسول الله (ص)؟. قال : يا بنت رسول الله! إن النبي لا يورث ، ولكن
أنفق على من كان ينفق عليه رسول الله ، وأعطي ما كان يعطيه.
قالت : والله لا أكلمك بكلمة ما حييت ، فما كلمته حتى ماتت .
__________________
وقيل : جاءت فاطمة
عليهاالسلام إلى أبي بكر فقالت : أعطني ميراثي من رسول الله صلىاللهعليهوآله. قال : إن الأنبياء لا تورث ما تركوه فهو صدقة ، فرجعت إلى علي عليهالسلام فقال : ارجعي فقولي : ما شأن سليمان عليهالسلام وورث داود عليهالسلام ، وقال زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ؟! فأبوا وأبى.
وعن جابر بن عبد
الله الأنصاري عن أبي جعفر عليهالسلام : أن أبا بكر قال لفاطمة عليهاالسلام : النبي (ص) لا يورث ، قالت : قد ( وَرِثَ
سُلَيْمانُ داوُدَ ) ، وقال زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، فنحن أقرب إلى
النبي من زكريا إلى يعقوب ..
وعن أبي جعفر عليهالسلام قال : قال علي (ع) لفاطمة عليهاالسلام :
انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فجاءت إلى أبي بكر فقالت : أعطني ميراثي من أبي رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : النبي (ص) لا يورث ، فقالت : ألم يرث سليمان داود؟!
فغضب وقال : النبي لا يورث ، فقالت عليهاالسلام : ألم يقل زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ؟. فقال : النبي
لا يورث. فقالت عليهاالسلام : ألم يقل : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ؟! فقال : النبي
لا يورث.
وعن أبي سعيد
الخدري قال : لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله جاءت فاطمة عليهاالسلام تطلب فدكا ، فقال أبو بكر : إني لأعلم ـ إن شاء الله ـ أنك
__________________
لن تقولي إلا حقا
، ولكن هاتي بينتك ، فجاءت بعلي عليهالسلام فشهد ، ثم جاءت بأم أيمن فشهدت ، فقال : امرأة أخرى أو
رجلا فكتبت لك بها .
٤٣
، ٤٤ مصباح الأنوار ، كشف : مثل الأحاديث الثلاثة الأخيرة.
أقول
: هذا الحديث عجيب ،
فإن فاطمة عليهاالسلام كانت مطالبة بميراث فلا حاجة بها إلى الشهود ، فإن المستحق
للتركة لا يفتقر إلى الشاهد إلا إذا لم يعرف صحة نسبه واعتزائه إلى الدارج ، وما أظنهم شكوا
في نسب فاطمة عليهاالسلام ، وكونها ابنة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإن كانت تطلب فدكا وتدعي أن أباها (ص) نحلها إياها احتاجت إلى
إقامة البينة ، ولم يبق لما رواه أبو بكر من قوله : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث
).معنى ، وهذا واضح جدا ، فتدبر.
وروى مرفوعا : أن عمر
بن عبد العزيز لما استخلف قال : يا أيها الناس! إني قد رددت عليكم مظالمكم ، وأول
ما أرد منها ما كان في يدي ، قد رددت فدك على ولد رسول الله صلى الله عليه [ وآله
] وسلم وولد علي بن أبي طالب (ع) فكان أول من ردها.
__________________
وروى أنه ردها
بغلاتها منذ ولي ، فقيل له : نقمت على أبي بكر وعمر فعلهما ، وطعنت عليهما ،
ونسبتهما إلى الظلم والغصب ، وقد اجتمع عنده في ذلك قريش ومشايخ أهل الشام من
علماء السوء. فقال عمر بن عبد العزيز : قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ادعت فدك ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله مع شهادة علي وأم أيمن وأم سلمة ، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي وإن لم تقم
البينة ، وهي سيدة نساء أهل الجنة ، فأنا اليوم أرد على ورثتها أتقرب بذلك إلى
رسول الله (ص) وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين (ع) يشفعون لي يوم القيامة ، ولو
كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمة كنت أصدقها على دعواها ، فسلمها إلى محمد بن علي الباقر عليهماالسلام ، فلم تزل في أيديهم إلى أن مات عمر بن عبد العزيز.
وروي أنه لما صارت
الخلافة إلى عمر بن العزيز رد عليهم سهام الخمس :
سهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسهم ذي القربى ، وهما من أربعة أسهم ، رد على جميع بني
هاشم ، وسلم ذلك إلى محمد بن علي وعبد الله بن الحسن ، وقيل : إنه جعل من بيت ماله سبعين
حملا من الورق والعين من مال الخمس ، فرد عليهم ذلك ، وكذلك كل ما كان لبني فاطمة
وبني هاشم مما حازه أبو بكر وعمر وبعدهما عثمان ومعاوية ويزيد وعبد الملك رد عليهم
، واستغنى بنو هاشم في تلك السنين وحسنت أحوالهم ، ورد عليهم المأمون والمعتصم والواثق ،
وقالا : كان المأمون أعلم منا به فنحن نمضي على ما مضى هو عليه ، فلما ولي
__________________
المتوكل قبضها
وأقطعها حرملة الحجام ، وأقطعها بعده لفلان النازيار [ البازيار ] من أهل طبرستان ،
وردها المعتضد ، وحازها المكتفي ، وقيل : إن المقتدر ردها عليهم.
قال شريك : كان
يجب على أبي بكر أن يعمل مع فاطمة بموجب الشرع ، وأقل ما يجب عليه أن يستحلفها على
دعواها أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطاها فدك في حياته ، فإن عليا وأم أيمن شهدا لها ، وبقي
ربع الشهادة فردها بعد الشاهدين لا وجه له ، فإما أن يصدقها أو يستحلفها ويمضي
الحكم لها ، قال شريك : الله المستعان! مثل هذا الأمر يجهله أو يتعمده؟!.
وقال الحسن بن علي
الوشاء : سألت مولانا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهماالسلام : هل خلف رسول الله (ص) غير فدك شيئا؟ فقال أبو الحسن عليهالسلام : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله خلف حيطانا بالمدينة صدقة ، وخلف ستة أفراس وثلاث نوق : العضباء والصهباء
والديباج ، وبغلتين : الشهباء والدلدل ، وحماره : اليعفور ، وشاتين حلوبتين ،
وأربعين ناقة حلوبا ، وسيفه ذا الفقار ، ودرعه ذات الفضول ، وعمامته السحاب
، وحبرتين يمانيتين ، وخاتمه الفاضل ، وقضيبه الممشوق ، وفراشا من ليف ، وعباءتين
وقطوانيتين ، ومخادا من أدم صار ذلك إلى فاطمة عليهاالسلام ما خلا درعه وسيفه وعمامته وخاتمه ، فإنه جعله لأمير المؤمنين عليهالسلام .
إيضاح :
قال في النهاية في
حديث أبي بكر .. : أن أزيغ .. أي أجور وأعدل عن الحق وقال في حديث ..
: فدك لحقوق رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم
__________________
التي تعروه .. أي
تغشاه وتنتابه .
وقال : المنافسة :
الرغبة في الشيء والانفراد به ، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه ، .. ونفست به
ـ بالكسر ـ أي بخلت ، ونفست عليه الشيء نفاسة إذا لم تره له أهلا .
قوله : لكأت ..
قال الفيروزآبادي : لكأ ـ كفرح ـ أقام ولزم ، وتلكأ عليه اعتل ، وعنه أبطأ .
قوله : يضح لك
مغزاه .. أي يتبين لك معناه .
والدارج : الميت .
ويقال : نقمت عليه
ومنه ـ من باب ضرب وعلم ـ إذا عابه وكرهه أشد الكراهة ، وفي التنزيل : ( وَما
تَنْقِمُ مِنَّا ) .
وقال في النهاية : الحلوب أي ذات
اللبن ، يقال : ناقة حلوب أي هي مما يحلب ، وقيل الحلوب والحلوبة سواء ، وقيل
الحلوب الاسم ، والحلوبة الصفة ، وقيل الواحدة والجماعة.
وقال : القطوانية
عباءة بيضاء قصيرة الخمل ، والنون زائدة.
__________________
أقول
: روى السيد في
الشافي عن محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن
زياد مولى آل عثمان قال : لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فرد فدك على ولد
فاطمة عليهاالسلام ، وكتب إلى واليه على المدينة : أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك ،
فكتب إليه : أن فاطمة (ع) قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وآل فلان ، فكتب إليه :
أما بعد ، فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لسألتني جماء أو قرناء؟ ، أو كتبت
إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها بين ولد
فاطمة عليهاالسلام من علي (ع) .
قال أبو المقدام :
فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه ، وقالوا له : قبحت فعل الشيخين ،
وخرج إليه عمرو بن عبيس في جماعة من أهل
الكوفة ، فلما عاتبوه على فعله قال : إنكم جهلتم وعلمت ، ونسيتم وذكرت ، إن أبا
بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : فاطمة بضعة مني يسخطني ما يسخطها ويرضيني ما يرضيها ، وإن فدك كانت
صافية في عهد أبي بكر وعمر ، ثم صار أمرها إلى مروان ، فوهبها لأبي عبد
العزيز فورثتها أنا وإخوتي فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها ، ومنهم
__________________
من باعني ومنهم من
وهب لي حتى استجمعتها ، فرأيت أن أردها على ولد فاطمة (ع). فقالوا : إن أبيت إلا
هذا فأمسك الأصل واقسم الغلة ، ففعل.
أقول
: سيأتي في أبواب
تاريخ أبي جعفر الباقر عليهالسلام رد عمر بن عبد العزيز فدكا إليه عليهالسلام .
__________________
فصل
نورد فيه : خطبة خطبتها
سيدة النساء فاطمة الزهراء
صلوات الله عليها
احتج
بها على من غصب فدك منها.
اعلم أن هذه
الخطبة من الخطب المشهورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متضافرة.
١ ـ قال عبد
الحميد بن أبي الحديد في شرح كتابه عليهالسلام إلى عثمان ابن حنيف عند ذكر الأخبار الواردة في فدك ، حيث
قال : الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث
وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم. وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر
أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك ـ وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث
كثير الأدب ثقة
__________________
ورع أثنى عليه
المحدثون ورووا عنه مصنفاته وغير مصنفاته ـ.
ثم قال :قال أبو
بكر : حدثني محمد بن زكريا ، عن جعفر بن محمد بن عمارة ، عن أبيه ، عن الحسن بن
صالح قال : حدثني ابن خالات من بني هاشم عن زينب بنت علي بن أبي طالب عليهالسلام.
قال : وقال جعفر
بن محمد بن عمارة : حدثني أبي ، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
، عن أبيه.
قال أبو بكر :
وحدثني عثمان بن عمران العجيفي ، عن نائل بن نجيح ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر
الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهالسلام.
قال أبو بكر :
وحدثني أحمد بن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الحسن.
قالوا جميعا : لما
بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها وأقبلت في
لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى دخلت على أبي بكر ـ وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار ـ فضربت بينهم
وبينها ريطة بيضاء ، وقال بعضهم :
__________________
قبطية ، وقالوا :
قبطية ـ بالكسر والضم ـ .. ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ، ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ،
ثم قالت :
أبتدئ بحمد من هو
أولى بالحمد والطول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم .. وذكر
خطبة طويلة جدا ثم قالت في آخرها : فـ ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ ) وأطيعوه فيما أمركم به .. إلى آخر الخطبة. ، انتهى كلام
ابن أبي الحديد .
٢
ـ وقد أورد الخطبة علي بن عيسى الإربلي في كتاب كشف الغمة ، قال : نقلتها
من كتاب السقيفة تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على
مؤلفها المذكور ، قرئت عليه في ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة ، روى عن
رجاله من عدة طرق : أن فاطمة عليهاالسلام لما بلغها إجماع أبي بكر .. إلى آخر الخطبة.
وقد أشار إليها
المسعودي في مروج الذهب .
وقال السيد
المرتضى رضي الله عنه في الشافي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن عمران المرزباني ، عن محمد
بن أحمد الكاتب ، عن أحمد بن عبيد الله
__________________
النحوي ، عن الزيادي ،
عن شرفي بن قطامي ، عن محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة
عن عائشة.
قال المرزباني :
وحدثني أحمد بن محمد المكي ، عن محمد بن القاسم اليماني ، قال : حدثنا
ابن عائشة قالوا : لما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله أقبلت فاطمة عليهاالسلام في لمة من حفدتها إلى أبي بكر ..
وفي الرواية
الأولى : قالت عائشة : لما سمعت فاطمة (ع) إجماع أبي بكر على منعها فدك لاتت [
لاثت ] خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمة من
حفدتها ـ ثم اتفقت الروايتان من هاهنا ـ ونساء قومها .. وساق الحديث نحو ما مر إلى
قوله : افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم قالت : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) ... إلى آخرها.
أقول
: وسيأتي أسانيد
أخرى سنوردها من كتاب أحمد بن أبي طاهر.
٣ ـ وروى الصدوق
رحمه الله بعض فقراتها المتعلقة بالعلل في علل الشرائع عن ابن المتوكل
عن السعدآبادي ، عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن أحمد بن محمد بن جابر عن زينب
بنت علي عليهالسلام.
٤ ـ قال : وأخبرنا
علي بن حاتم عن محمد بن أسلم عن عبد الجليل
__________________
الباقطاني عن الحسن بن موسى
الخشاب عن عبد الله بن محمد العلوي عن رجال من أهل بيته عن زينب بنت علي عن فاطمة عليهاالسلام بمثله.
٥ ـ وأخبرني علي بن حاتم عن
ابن أبي عمير عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم المصري عن هارون بن
يحيى عن عبيد الله بن موسى العبسي عن حفص الأحمر عن زيد بن علي عن عمته زينب بن [ بنت ] علي
عن فاطمة عليهاالسلام ، وزاد بعضهم على بعض في اللفظ.
أقول
: قد أوردت ما رواه
في المجلد الثالث ، وإنما أوردت الأسانيد هنا ليعلم أنه روى هذه الخطبة
بأسانيد جمة.
٦ ـ وروى الشيخ
المفيد الأبيات المذكورة فيها بالسند المذكور في أوائل الباب .
٧ ـ وروى السيد
ابن طاوس رضي الله عنه في كتاب الطرائف موضع الشكوى والاحتجاج من هذه الخطبة عن الشيخ أسعد بن
شفروة في كتاب الفائق عن الشيخ المعظم عندهم الحافظ الثقة بينهم أحمد بن موسى بن
مردويه
__________________
الأصفهاني في كتاب
المناقب قال : أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم عن شرفي بن قطامي عن
صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة ..
٨ ـ ورواها الشيخ
أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الإحتجاج مرسلا ، ونحن نوردها بلفظه ، ثم نشير إلى موضع التخالف بين
الروايات في أثناء شرحها إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله
تعالى : روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهمالسلام : أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليهاالسلام فدك ، وبلغها ذلك لاتت [ لاثت ] خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من
حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى دخلت على أبي بكر ـ وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ـ فنيطت
دونها ملاءة ، فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس ، ثم أمهلت
هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء
عليه والصلاة على رسول الله (ص) ، فعاد القوم
في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها.
فقالت عليهاالسلام : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدم من عموم
نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن والاها ،
__________________
جم عن الإحصاء
عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها
بالشكر لاتصالها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن
القلوب موصولها ، وأنار في الفكرة معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ،
ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء
أمثلة امتثلها ، كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ،
ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، وإظهارا
لقدرته ، و تعبدا لبريته ، وإعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته
، ووضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده عن نقمته وحياشة منه إلى جنته ، وأشهد أن أبي محمدا (ص) عبده ورسوله ، اختاره
وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتبله ، واصطفاه قبل أن
ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة
، علما من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله
تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ،
__________________
وإنفاذا لمقادير
حتمه ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة
لله مع عرفانها ، فأنار الله بمحمد صلىاللهعليهوآله ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ،
وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم
، ودعاهم إلى الطريق المستقيم ، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة
وإيثار بمحمد [ فمحمد ] صلىاللهعليهوآله عن تعب هذه الدار في راحة ، قد حف بالملائكة الأبرار ، ورضوان
الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه وأمينه على الوحي
وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس ،
وقالت : أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على
أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم ، وزعمتم حق لكم لله فيكم عهد قدمه إليكم ،
وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ،
والضياء اللامع ، بينة بصائره ،
__________________
منكشفة سرائره ،
متجلية ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائد إلى الرضوان اتباعه ، مؤد إلى النجاة
إسماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه
المحذرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه
الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة ، فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة
تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتا
للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملة ،
وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزا للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ،
والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منماة
للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية
المكاييل والموازين تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس ، واجتناب
القذف حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة إيجابا للعفة ، وحرم الله
الشرك إخلاصا له بالربوبية ، فـ ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، وأطيعوا الله
فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه ( إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .
ثم قالت : أيها
الناس! اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلىاللهعليهوآله ، أقول عودا وبدءا ، ولا أقول ما أقول غلطا ، ولا أفعل ما أفعل شططا ( لَقَدْ
__________________
جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي
دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فبلغ الرسالة ، صادعا بالنذارة ، مائلا عن مدرجة
المشركين ، ضاربا ثبجهم ، آخذا بأكظامهم ، داعيا إلى سبيل ربه (
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ، يكسر الأصنام ، وينكث
الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن
محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلت عقد
الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص ، (
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ) ، مذقة الشارب ،
ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين ، ( تَخافُونَ
أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلىاللهعليهوآله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل
الكتاب ( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللهُ ) ، أو نجم قرن للشيطان ، وفغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا
ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، و مجتهدا في أمر
الله ، قريبا من رسول الله ، سيد أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا كادحا ،
__________________
وأنتم في رفاهية من
العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون
عند النزال ، وتفرون عند القتال ، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، ومأوى
أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ
خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من
مغرزه هاتفا بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم
استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد
قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف
الفتنة ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) ، فهيهات منكم! وكيف بكم؟! وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين
أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره
واضحة ، قد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ..؟ ، أم بغيره
تحكمون؟! ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) ، ( وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخاسِرِينَ ) ، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ،
__________________
ثم أخذتم تورون
وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين
الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي ، تسرون حصوا في ارتغاء ،
وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على مثل حز المدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم تزعمون ألا إرث
لنا ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أفلا تعلمون؟!
بلى ، تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته أيها المسلمون ، أأغلب على
إرثيه ؟!.
يا ابن أبي قحافة
، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت ( شَيْئاً فَرِيًّا ) أفعلى عمد تركتم
كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول :
( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) ؟! وقال فيما اقتص
من خبر يحيى بن زكريا (ع) إذ قال :رب هب ( لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، وقال : ( وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) ، وقال : (
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، وقال : ( إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ
__________________
وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، وزعمتم ألا حظوة لي ولا أرث
من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي (ص)؟! أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟! ، أولست أنا وأبي من أهل
ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟! فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوم
حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة ما تخسرون
، ولا ينفعكم إذ تندمون ، و ( لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ ) وسوف ( تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) .
.. ثم رمت بطرفها
نحو الأنصار فقالت : يا معاشر الفتية وأعضاد الملة ، وأنصار الإسلام ، ما هذه الغميزة
في حقي ، والسنة عن ظلامتي ، أما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان ما أحدثتم ، وعجلان
ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون
__________________
مات محمد صلىاللهعليهوآله ، فخطب جليل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ،
وكسفت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت
الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى
، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ،
هتافا وصراخا ، وتلاوة وإلحانا ، ولقبله ما حل بأنبياء الله
ورسله ، حكم فصل وقضاء حتم : ( وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) .
إيها بني قيلة! أأهضم
تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومبتد [ منتدى ] ومجمع؟ ، تلبسكم
الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذا العدد والعدة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنة ،
توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ،
معروفون بالخير والصلاح ، والنجبة التي
__________________
انتجبت ، والخيرة التي
اختيرت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الأمم ،
وكافحتم البهم ، فلا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى
الإسلام ، ودر حلب الأيام ، وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران
الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنى حرتم بعد البيان ،
وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ( أَلا
تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ
بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض
، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوغتم ، فـ : ( إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ ) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها
فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ،
__________________
وخور القنا ، وبثة الصدر ،
وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ،
موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة ب : ( نارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) فبعين الله ما
تفعلون ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
وأنا ابنة نذير ( لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) فـ : ( اعْمَلُوا ) ... ( إِنَّا
عامِلُونَ ) ( وَانْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ ) .
فأجابها أبو بكر
عبد الله بن عثمان فقال : يا ابنة رسول الله (ص)! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما ،
رءوفا رحيما ، وعلى الكافرين عذابا أليما ، وعقابا عظيما ، فإن عزوناه وجدناه أباك
دون النساء ، وأخا لبعلك دون الأخلاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبكم
إلا كل سعيد ، ولا يغضكم [ يبغضكم ] إلا كل شقي ، فأنتم عترة
رسول الله (ص) الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلتنا ، وإلى الجنة
مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك ، سابقة في وفور
عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا
__________________
مصدودة عن صدقك ،
و والله ما عدوت رأي رسول الله صلىاللهعليهوآله ولا عملت إلا بإذنه ، وإن الرائد لا يكذب
أهله ، وإني أشهد الله وكفى به شهيدا أني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما
نورث الكتب والحكمة والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر
بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون
ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة ، ثم الفجار ، وذلك بإجماع من المسلمين ، لم أتفرد به وحدي ، ولم أستبد
بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا نزوي عنك ولا ندخر
دونك ، وأنت سيدة أمة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع ما لك من فضلك ،
ولا يوضع من فرعك وأصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أن
أخالف في ذلك أباك صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!.
فقالت عليهاالسلام : سبحان الله! ما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله عن كتاب الله صارفا ، ولا لأحكامه مخالفا ، بل كان يتبع أثره ، ويقفو
__________________
سوره ، أفتجمعون
إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في
حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، وناطقا فصلا ، يقول :
( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( وَوَرِثَ
سُلَيْمانُ داوُدَ ) فبين عز وجل فيما وزع عليه من الأقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظ
الذكران والإناث ما أزاح علة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغابرين ، كلا! ( بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ
عَلى ما تَصِفُونَ ) .
فقال أبو بكر :
صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ،
وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك
، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلدوني ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير
مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة عليهاالسلام الناس وقالت : معاشر الناس! المسرعة إلى قيل الباطل ،
المغضية على الفعل القبيح الخاسر ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ، كلا بل ران على قلوبكم ، ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ
__________________
بسمعكم وأبصاركم ،
ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه اعتضتم ، لتجدن والله
محمله ثقيلا ، وغبه وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراءه الضراء ، وبدا
لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ( وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ ) .
ثم عطفت على قبر النبي صلىاللهعليهوآله وقالت :
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت شاهدها
لم تكبر الخطب
|
إنا فقدناك فقد
الأرض وابلها
|
|
واختل قومك فاشهدهم
وقد نكبوا
|
وكل أهل له قربى
ومنزلة
|
|
عند الإله على
الأدنين مقترب
|
أبدت رجال لنا
نجوى صدورهم
|
|
لما مضيت وحالت
دونك الترب
|
تجهمتنا رجال
واستخف بنا
|
|
لما فقدت وكل
الأرض مغتصب
|
وكنت بدرا ونورا
يستضاء به
|
|
عليك تنزل من ذي العزة الكتب
|
وكان جبريل
بالآيات يؤنسنا
|
|
فقد فقدت فكل الخير محتجب
|
فليت قبلك كان
الموت صادفنا
|
|
لما مضيت وحالت
دونك الكثب
|
إنا رزينا بما
لم يرز ذو شجن
|
|
من البرية لا
عجم ولا عرب
|
__________________
ثم انكفأت عليهاالسلام ـ وأمير المؤمنين عليهالسلام يتوقع رجوعها إليه ويتطلع طلوعها عليه ـ فلما استقرت بها
الدار ، قالت لأمير المؤمنين عليهالسلام :
يا ابن أبي طالب عليك السلام : اشتملت شملة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة
الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحيلة أبي وبلغة ابني ، لقد أجهر في خصامي ،
وألفيته ألد في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضت الجماعة
دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، أضرعت خدك يوم أضعت
حدك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلا ، ولا خيار لي ،
ليتني مت قبل هنيئتي ، ودون زلتي ، عذيري الله منك عاديا ، ومنك حاميا ، ويلاي! في كل شارق ، مات العمد ،
ووهت العضد ، شكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربي ، اللهم أنت أشد قوة وحولا ، وأحد
بأسا وتنكيلا.
__________________
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : لا ويل عليك ، الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة
الصفوة ، وبقية النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين
البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك ، فاحتسبي
الله.
فقالت : حسبي الله
.. وأمسكت.
أقول
: : وجدت هذه الخطبة
في كتاب بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر ، فأحببت إيرادها
لما فيه من الاختلاف ، مع ما أوردنا سابقا.
٩ ـ قال أبو الفضل : ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة عليهاالسلام عند منع أبي بكر إياها فدك ، وقلت له : إن هؤلاء يزعمون
أنه مصنوع ، وأنه من كلام أبي العيناء ـ الخبر منسوق على البلاغة على
الكلام ـ فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ، ويعلمونه أبناءهم ،
وقد حدثنيه أبي عن جدي يبلغ به فاطمة (ع) على هذه الحكاية ، ورواه مشايخ الشيعة
وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء ، وقد حدث به الحسن بن علوان عن عطية
العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن يذكر عن أبيه ، ثم قال أبو الحسين : وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة
فينكر ، وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ،
فيحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ...ثم ذكر الحديث ، قال :
__________________
لما أجمع أبو بكر
على منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وعليها فدك ، وبلغ ذلك
فاطمة (ع) لاثت خمارها على رأسها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما
تخرم من مشية رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم شيئا حتى دخلت على أبي بكر ـ وهو
في حشد من المهاجرين والأنصار فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنت أنة أجهش القوم لها
بالبكاء ، وارتج المجلس ، وأمهلت حتى سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، فافتتحت
الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم
، فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت : ( لَقَدْ
جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) فإن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم
، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، فبلغ النذارة ، صادعا بالرسالة ، ماثلا على مدرجة المشركين ،
ضاربا لثبجهم ، آخذا بكظمهم ، يجذ الأصنام ، وينكث الهام ، حتى هزم الجمع وولوا الدبر ، وتفرى الليل عن صبحه ،
وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين : (
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ) مذقة الشارب ،
ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ،
أذلة
__________________
خاشعين ( تَخافُونَ
أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) من حولكم ، فأنقذكم الله برسوله صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم بعد اللتيا والتي ، وبعد ما مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، كلما حشوا نارا
للحرب ونجم قرن للضلال ، وفغرت فاغرة من المشركين ، قذف بأخيه في لهواتها ، ولا
ينكفي حتى يطأ سماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في
أولياء الله ، وأنتم في بلهنية وادعون آمنون ، حتى إذا اختار الله لنبيه صلى الله عليه [
وآله ] دار أنبيائه ، ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبع خامل الأقلين ، وهدر فنيق
المبطلين ، يخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ،
فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ،
فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتموها غير شربكم ، هذا والعهد قريب ،
__________________
والكلم رحيب ،
والجرح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ، ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) فهيهات منكم وأنى
بكم وأنى تؤفكون ، وهذا كتاب الله بين أظهركم ، زواجره بينة ، وشواهده لائحة ،
وأوامره واضحة ، أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون ( بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) ( وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ ) ، ثم لم تريثوا أختها إلا ريث أن تسكن نفرتها ، تسرون حسوا في
ارتقاء ، ونصبر منكم على مثل حز المدى ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث
لنا ، ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ، ويها! يا معشر
المهاجرة أبتز إرث أبيه؟!.
أفي الكتاب أن ترث
أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت ( شَيْئاً فَرِيًّا ) فدونكها مخطومة
مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند
الساعة ( يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) و ( لِكُلِّ
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ
__________________
تَعْلَمُونَ
) .
ثم انحرفت إلى قبر
النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وهي تقول :
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت شاهدها لم
تكثر الخطب
|
إنا فقدناك فقد
الأرض وابلها
|
|
واختل قومك
فاشهدهم ولا تغب
|
قال : فما رأينا
يوما كان أكثر باكيا ولا باكية من ذلك اليوم .
ثم قال أحمد بن
أبي طاهر : حدثني جعفر بن محمد ـ رجل من أهل ديار مصر لقيته
بالرافقة ـ قال : حدثني أبي قال : أخبرنا موسى بن عيسى قال : أخبرنا
عبد الله بن يونس قال : أخبرنا جعفر الأحمر عن زيد بن علي رحمة الله عليه عن عمته
زينب بنت الحسين عليهماالسلام ، قالت : لما بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وخرجت في
حشدة نسائها ولمة من قومها ، تجر أدراعها ، ما تخرم من مشية رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] شيئا ، حتى وقفت على أبي
بكر ـ وهو في حشد من المهاجرين والأنصار ـ فأنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ، فلما
سكنت فورتهم قالت :
أبدأ بحمد الله ـ ثم
أسبلت بينها وبينهم سجفا ـ ثم قالت : الحمد لله
__________________
على ما أنعم ،
ولها [ له ] الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها
، وسبوغ آلاء أسداها ، وإحسان منن والاها ، جم عن الإحصاء عددها ، ونأى عن المجازاة أمدها ، وتفاوت
عن الإدراك آمالها ، واستثنى الشكر بفضائلها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى
بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن
القلوب موصولها ، وأنار في الفكرة معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن
الأوهام الإحاطة به ، ابتدع الأشياء لا من شيء قبله ، واحتذاها بلا مثال لغير
فائدة زادته ، إلا إظهارا لقدرته ، وتعبدا لبريته ، وإعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته
، والعقاب على معصيته ، زيادة لعباده عن نقمته ، وحياشا لهم إلى جنته ، وأشهد أن
أبي محمدا عبده ورسوله ، اختاره قبل أن يجتبله ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، وسماه قبل أن
استنجبه ، إذ الخلائق بالغيوب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم
مقرونة ، علما من الله عز وجل بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة
بمواضع المقدور ، ابتعثه الله عز وجل إتماما لأمره وعزيمة على إمضاء حكمه ، فرأى الأمم صلى الله عليه [ وآله
] فرقا في أديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ،
__________________
منكرة لله مع
عرفانها ، فأنار الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه [ وآله ] ظلمها ، وفرج عن القلوب
بهمها ، وجلا عن الأبصار غممها ، ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه [ وآله ] قبض
رأفة واختيار ، رغبة بأبي صلى الله عليه [ وآله ] عن هذه الدار ،
موضوع عنه العبء والأوزار ، محتف بالملائكة الأبرار ، ومجاورة الملك الجبار ، ورضوان الرب
الغفار ، صلى الله على محمد نبي الرحمة وأمينه على وحيه ، وصفيه من الخلائق ،
ورضيه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ورحمة الله وبركاته.
ثم أنتم عباد الله
ـ تريد أهل المجلس ـ نصب أمر الله ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على
أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم ، زعمتم حق لكم لله فيكم عهد قدمه إليكم ، ونحن بقية استخلفنا
عليكم ، ومعنا كتاب الله ، بينة بصائره ، وآي فينا منكشفة سرائره ، وبرهان منجلية ظواهره ، مديم للبرية إسماعه ، قائد
إلى الرضوان اتباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه ، فيه بيان حجج الله المنورة
، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المحذرة ، وبيناته الجالية ، وجمله
الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة ، ففرض الله الإيمان تطهيرا لكم من
الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والزكاة تزييدا في
الرزق ، والحج تسلية للدين ، والعدل تنسكا للقلوب ، وطاعتنا
__________________
نظاما للملة ، وإمامتنا لما من الفرقة ،
وحبنا عزا للإسلام ، والصبر منجاة ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعرضا
للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخسة ، والنهي عن شرب
الخمر تنزيها عن الرجس ، وقذف المحصنات اجتنابا للعنة ، وترك السرق إيجابا للعفة ،
وحرم الله عز وجل الشرك إخلاصا له بالربوبية فـ : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه ( إِنَّما
يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .
ثم قالت : أيها
الناس! أنا فاطمة ، وأبي محمد صلى الله عليه [ وآله ] أقولها بدءا على عودي ( لَقَدْ
جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ). .. ثم ساق الكلام على ما رواه زيد بن علي عليهالسلام في رواية أبيه.
ثم قالت ـ في متصل
كلامها ـ : أفعلى محمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول الله
تبارك وتعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) ، وقال الله عز
وجل ـ فيما قص من خبر يحيى بن زكريا : رب هب ( لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، وقال عز ذكره :
( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
__________________
الْأُنْثَيَيْنِ
) ، وقال : ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) وزعمتم ألا حظوة
لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله بآية أخرج نبيه صلى الله
عليه [ وآله ] منها؟! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون؟! أولست أنا وأبي من أهل
ملة واحدة؟ أم لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي صلى الله عليه [
وآله ]؟! ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أأغلب على إرثي
ظلما وجورا ؟! ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
وذكر أنها لما
فرغت من كلام أبي بكر والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار ، فقالت : معشر البقية ،
وأعضاء الملة ، وحصون الإسلام : ما هذه الغميرة في حقي والسنة عن ظلامتي؟ أما كان
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] يقول : المرء يحفظ في ولده؟!
سرعان ما أجدبتم فأكديتم ، وعجلان ذا إهالة ، أتقولون مات رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] فخطب جليل استوسع وهيه ، واستنهر فتقه ، وبعد وقته ، وأظلمت
الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، وأضيع
الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته صلى الله عليه [ وآله ]؟
__________________
وتلك نازلة علن [
أعلن ] بها كتاب الله في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ، يهتف بها في أسماعكم ،
ولقلبه [ قبله ] ما حلت بأنبياء الله عز وجل ورسله ( وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) إيها بني قيلة! أأهضم
تراث أبيه وأنتم بمرأى منه ومسمع؟! تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الحيرة ، وفيكم
العدد والعدة ، ولكم الدار ، وعندكم الجنن ، وأنتم الأولى يحبه [ نخبة ] الله التي انتجب لدينه وأنصار
رسوله ، وأهل الإسلام ، والخيرة التي اختار لنا أهل البيت ، فباديتم العرب ،
وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح نأمركم وتأتمرون ، حتى دارت لكم
بنا رحى الإسلام ، ودر حلب الأنام ، وخضعت نعرة الشرك ، وباخت
نيران الحرب ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، فأنى جرتم بعد البيان ،
ونكصتم بعد الإقدام ، وأسررتم بعد الإعلان ، لقوم نكثوا أيمانهم : ( أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) . ألا قد أرى أن
قد أخلدتم إلى الخفض ، وركنتم إلى الدعة ، فعجتم
__________________
عن الدين ، ومججتم
الذي وعيتم ، ووسعتم الذي سوغتم فـ : ( إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) . ألا وقد قلت
الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم ، واستشعرته قلوبكم ، ولكن
قلته فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وبثة الصدر ، ومعذرة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها
مدبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار ، موسومة بشنار الأبد ، موصولة ب : ( نارُ
اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) . فبعين الله ما
تفعلون : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ ) ! وأنا ابنة نذير ( لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
عَذابٍ شَدِيدٍ ) ، فـ ( اعْمَلُوا ) ... ( إِنَّا
عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) .
قال أبو الفضل :
وقد ذكر قوم أن أبا العيناء ادعى هذا الكلام ، وقد رواه قوم وصححوه وكتبناه على ما
فيه.
وحدثني عبد الله
بن أحمد العبدي عن الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع أبا بكر يومئذ يقول
لفاطمة عليهاالسلام : يا بنت رسول الله! لقد كان صلى الله عليه [ وآله ] وسلم
بالمؤمنين رحيما ، وعلى الكافرين عذابا أليما ، وإذا عزوناه كان أباك دون
النساء ، وأخا ابن عمك دون الرجال ، آثره على كل حميم ، وساعده على الأمر العظيم ،
لا يحبكم إلا العظيم السعادة ، ولا يبغضكم إلا
__________________
الردي الولادة ،
وأنتم عترة الله الطيبون ، وخيرة الله المنتجبون ، على الآخرة
أدلتنا ، وباب الجنة لسالكنا ، وأما منعك ما سألت فلا ذلك لي ، وأما فدك وما جعل أبوك
لك ، فإن منعتك فأنا ظالم ، وأما الميراث فقد تعلمين أنه صلى الله عليه [ وآله ]
قال : لا نورث ما أبقيناه صدقة.
قالت : إن الله
يقول عن نبي من أنبيائه : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، وقال : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ ) ، فهذان نبيان ، وقد علمت أن النبوة لا تورث وإنما يورث ما دونها ،
فما لي أمنع إرث أبي؟! أأنزل الله في الكتاب إلا فاطمة (ع) بنت محمد صلى الله عليه
[ وآله ] فتدلني عليه فأقنع به؟
فقال : يا بنت
رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]! أنت عين الحجة ، ومنطق الرسالة ، لا يد لي
بجوابك ، ولا أدفعك عن صوابك ، ولكن هذا أبو الحسن بيني وبينك هو الذي أخبرني بما
تفقدت ، وأنبأني بما أخذت وتركت.
قالت : فإن يكن
ذلك كذلك فصبر لمر الحق ، والحمد لله إله الحق .
وما وجدت هذا
الحديث على التمام إلا عند أبي هفان .
أقول
: لا يخفى على ذي
عينين أن ما ألحقوه في آخر الخبر لا يوافق شيئا من الروايات ، ولا يلائم ما مر من
الفقرات والتظلمات والشكايات ، وسنوضح القول في ذلك إن شاء الله تعالى.
ولنوضح تلك الخطبة
الغراء الساطعة عن سيدة النساء صلوات الله عليها
__________________
التي تحير من
العجب منها والإعجاب بها أحلام الفصحاء والبلغاء ، ونبني الشرح على رواية الإحتجاج
ونشير أحيانا إلى الروايات الأخر.
قوله
: أجمع أبو بكر ..
أي أحكم النية والعزيمة عليه .
لاثت خمارها على
رأسها .. أي عصبته وجمعته ، يقال : لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا أي شدها
وربطها. .
والجلباب ـ بالكسر
ـ يطلق على الملحفة والرداء والإزار والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة ، والثوب
كالمقنعة تغطي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها ، والأول هنا أظهر.
أقبلت في لمة من
حفدتها .. اللمة ـ بضم اللام وتخفيف الميم ـ الجماعة ، قال في النهاية
: في حديث فاطمة (ع) أنها خرجت في لمة من نسائها تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته
.. أي في جماعة من نسائها ، قيل : هي ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : اللمة :
المثل في السن والترب.
و قال الجوهري :
الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطة ، وهو مما
__________________
أخذت عينه كسر ومذ وأصلها فعلة
من الملاءمة ، وهي الموافقة. انتهى .
أقول
: ويحتمل أن يكون
بتشديد الميم. قال الفيروزآبادي : اللمة بالضم ـ الصاحب والأصحاب في السفر والمونس للواحد
والجمع .
والحفدة ـ بالتحريك
ـ : الأعوان والخدم .
تطأ ذيولها .. أي
كانت أثوابها طويلة تستر قدميها ، وتضع عليها قدمها عند المشي ، وجمع الذيل باعتبار
الأجزاء أو تعدد الثياب.
ما تخرم مشيتها
مشية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .. وفي بعض النسخ :
من مشي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والخرم : الترك ، والنقص والعدول ، والمشية ـ بالكسر ـ الاسم من مشى يمشي مشيا ، أي لم تنقص
مشيها من مشيه صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا كأنه هو بعينه ، قال في النهاية : فيه ما خرمت من
صلاة رسول الله .. شيئا : أي ما تركت ، ومنه الحديث : « لم أخرم منه حرفا » أي لم
أدع.
والحشد ـ بالفتح
وقد يحرك ـ : الجماعة .
وفي الكشف : إن فاطمة عليهاالسلام لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكا لاثت خمارها وأقبلت في لميمة من
حفدتها ونساء قومها ، تجر أدراعها ، وتطأ في
__________________
ذيولها ، ما تخرم
من مشية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ... حتى دخلت على أبي بكر ـ وقد حشد المهاجرين والأنصار ـ فضرب
بينهم بريطة بيضاء ، وقيل قبطية ... فأنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ، ثم أمهلت
طويلا حتى سكنوا من فورتهم ... ، ثم قالت (ع) : أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد
والطول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم ..
فنيطت دونها ملاءة
.. الملاءة ـ بالضم والمد ـ الريطة والإزار ، ونيطت بمعنى علقت أي ضربوا بينها عليهاالسلام وبين القوم سترا وحجابا ، والريطة ـ بالفتح ـ الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ،
ولم تكن لفقين ، أو هي كل ثوب لين رقيق .
والقبطية ـ بالكسر
ـ : ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر ، وقد يضم لأنهم يغيرون في النسبة .
والجهش : أن يفزع
الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيأ للبكاء ، يقال : جهش
إليه كمنع وأجهش .
والارتجاج :
الاضطراب .
قوله : هنيئة ..
أي صبرت زمانا قليلا .
__________________
والنشيج : صوت معه
توجع وبكاء كما يردد الصبي بكاءه في صدره .
وهدأت ـ كمنعت ـ :
أي سكنت .
وفورة الشيء شدته
، وفار القدر أي جاشت .
قولها صلوات الله
عليها : بما قدم .. أي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها ، ويحتمل أن يكون
المراد بالتقديم الإيجاد والفعل من غير ملاحظة معنى الابتداء ، فيكون تأسيسا.
والسبوغ : الكمال .
والآلاء : النعماء
جمع ألى ـ بالفتح والقصر وقد يكسر الهمزة ـ.
وأسدى وأولى وأعطى
بمعنى واحد .
قولها : والاها ..
أي تابعها ، بإعطاء نعمة بعد أخرى بلا فصل.
وجم الشيء أي كثر ، والجم : الكثير
، والتعدية بعن لتضمين معنى التعدي والتجاوز.
قولها عليهاالسلام : ونأى عن الجزاء أمدها .. الأمد ـ بالتحريك ـ :
الغاية المنتهى ، أي بعد عن الجزاء بالشكر غايتها ، فالمراد بالأمد إما
الأمد المفروض ، إذ لا أمد لها على الحقيقة ، أو الأمد الحقيقي لكل حد من حدودها
__________________
المفروضة ، ويحتمل
أن يكون المراد بأمدها ابتداؤها ، وقد مر في كثير من الخطب بهذا المعنى.
وقال في النهاية
في حديث الحجاج : « قال للحسن : ما أمدك؟ قال :
سنتان من خلافة عمر » ، أراد أنه ولد لسنتين من خلافته ، وللإنسان أمدان ،
مولده وموته. انتهى . وإذا حمل عليه يكون أبلغ ، ويحتمل ـ على بعد ـ أن يقرأ
بكسر الميم ، قال الفيروزآبادي : الأمد : المملو من خير وشر ، والسفينة المشحونة .
وتفاوت عن الإدراك
أبدها .. التفاوت : البعد ، والأبد : الدهر والدائم والقديم الأزلي ،
وبعده عن الإدراك لعدم الانتهاء.
وندبهم لاستزادتها
بالشكر لاتصالها .. يقال : ندبه للأمر وإليه فانتدب ..
أي دعاه فأجاب ، واللام في قولها : لاتصالها .. لتعليل الندب .. أي رغبهم
في استزادة النعمة بسبب الشكر لتكون نعمة متصلة لهم غير منقطعة عنهم ، وجعل اللام
الأولى للتعليل والثانية للصلة بعيد ، وفي بعض النسخ : لإفضالها ، فيحتمل تعلقه
بالشكر.
واستحمد إلى
الخلائق بإجزالها .. أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم ، يقال :
أجزلت له من العطاء .. أي أكثرت ، وأجزاك
__________________
النعم كأنه طلب
الحمد أو طلب منهم الحمد حقيقة لإجزال النعم ، وعلى التقديرين : التعدية بإلى
لتضمين معنى الانتهاء أو التوجه ، وهذه التعدية في الحمد شائع بوجه آخر ، يقال :
أحمد إليك الله ، قيل : أي أحمده معك ، وقيل :أي أحمد إليك نعمة الله بتحديثك
إياها ، ويحتمل أن يكون استحمد بمعنى تحمد ، يقال : فلان يتحمد علي .. أي يمتن ، فيكون إلى
بمعنى على ، وفيه بعد.
وثنى بالندب إلى
أمثالها .. أي بعد أن أكمل لهم النعم الدنيوية ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم
الأخروية أو الأعم منها ومن مزيد النعم الدنيوية ، ويحتمل أن يكون المراد بالندب
إلى أمثالها أمر العباد بالإحسان والمعروف ، وهو إنعام على المحسن إليه وعلى
المحسن أيضا ، لأنه به يصير مستوجبا للأعواض والمثوبات الدنيوية والأخروية.
كلمة جعل الإخلاص
تأويلها .. المراد بالإخلاص جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى ، وعدم شوب الرياء
والأغراض الفاسدة ، وعدم التوسل بغيره تعالى في شيء من الأمور ، فهذا تأويل كلمة
التوحيد ، لأن من أيقن بأنه الخالق والمدبر ، وبأنه لا شريك له في الإلهية فحق له
أن لا يشرك في العبادة غيره ، ولا يتوجه في شيء من الأمور إلى غيره.
وضمن القلوب
موصولها .. هذه الفقرة تحتمل وجوها :
الأول
: أن الله تعالى
ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركبه تعالى ، وعدم زيادة
صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد.
الثاني
: أن يكون المعنى
جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكلمة مدرجا
__________________
في القلوب مما
أراهم من الآيات ( فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) ، أو بما فطرهم عليه
من التوحيد.
الثالث
: أن يكون المعنى
لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقائق كلمة التوحيد وتأويلها ، بل إنما كلف عامة
القلوب بالإذعان بظاهر معناها ، وصريح مغزاها ، وهو المراد بالموصول.
الرابع
: أن يكون الضمير
في موصولها راجعا إلى القلوب ، أي لم يلزم القلوب إلا ما يمكنها الوصول إليها من
تأويل تلك الكلمة الطيبة ، والدقائق المستنبطة منها أو مطلقها ، ولو لا التفكيك
لكان أحسن الوجوه بعد الوجه الأول ، بل مطلقا.
وأنار في الفكر
معقولها .. أي أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة بالتفكر في الدلائل
والبراهين ، ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب أو الفكر ـ بصيغة الجمع ـ أي أوضح
بالتفكر ما يعقلها العقول ، وهذا يؤيد الوجه الرابع من وجوه الفقرة السابقة.
الممتنع من
الأبصار رؤيته .. يمكن أن يقرأ الأبصار ـ بصيغة الجمع والمصدر ـ ، والمراد
بالرؤية العلم الكامل والظهور التام.
ومن الألسن صفته
.. الظاهر أن الصفة هنا مصدر ، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير أي بيان صفته.
لا من شيء .. أي
مادة.
بلا احتذاء أمثلة
امتثلها .. احتذى مثاله اقتدى به وامتثلها .. أي تبعها .
__________________
ولم يتعد عنها ..
أي لم يخلقها على وفق صنع غيره.
وتنبيها على طاعته
.. لأن ذوي العقول يتنبهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب ، أو
أن خالقها مستحق للعبادة ، أو بأن من قدر عليها يقدر على الإعادة والانتقام.
وتعبدا لبريته ..
أي خلق البرية ليتعبدهم ، أو خلق الأشياء ليتعبد البرايا بمعرفته والاستدلال بها
عليه.
وإعزازا لدعوته.
أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء إليه بالاستدلال بها.
ذيادة لعباده عن
نقمته ، وحياشة لهم إلى جنته ..
الذود والذياد ـ بالذال
المعجمة ـ .. السوق والطرد والدفع والإبعاد.
وحشت الصيد أحوشه
إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة .
ولعل التعبير بذلك
لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة.
قبل أن اجتبله ..
الجبل : الخلق ، يقال : جبلهم الله .. أي خلقهم ، وجبله على الشيء .. أي طبعه عليه
، ولعل المعنى أنه تعالى سماه لأنبيائه قبل أن يخلقه ، ولعل زيادة البناء
للمبالغة تنبيها على أنه خلق عظيم ، وفي بعض النسخ ـ بالحاء المهملة ـ يقال :
احتبل الصيد .. أي أخذه بالحبالة ، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازا ، وفي بعضها : قبل
أن اجتباه .. أي اصطفاه بالبعثة ، وكل منها لا يخلو من تكلف.
__________________
وبستر الأهاويل مصونة .. لعل
المراد بالستر ستر العدم أو حجب الأصلاب والأرحام ، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق
الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه ، ويحتمل أن يكون المراد أنها
كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم ، إذ هي إنما تلحقها بعد الوجود ، وقيل :
التعبير من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات.
بمآئل الأمور ـ على
صيغة الجمع ـ .. أي عواقبها ، وفي بعض النسخ بصيغة المفرد.
ومعرفة بمواقع
المقدور .. أي لمعرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الأمور الممكنة المقدور
وأمكنتها ، ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور : المقدر ، بل هو أظهر.
إتماما لأمره ..
أي للحكمة التي خلق الأشياء لأجلها ، والإضافة في مقادير حتمه من قبيل إضافة
الموصوف إلى الصفة .. أي مقاديره المحتومة.
وقولها عليهاالسلام : عكفا على نيرانها .. تفصيل وبيان للفرق بذكر بعضها ، يقال : عكف على الشيء
ـ كضرب ونصر ـ أي أقبل عليه مواظبا ولازمه فهو عاكف ، ويجمع على عكف ـ بضم العين وفتح الكاف
المشددة ـ كما هو الغالب في فاعل الصفة نحو شهد وغيب.
والنيران .. جمع
نار ، وهو قياس مطرد في جمع الأجوف ، نحو : تيجان وجيران.
منكرة لله مع
عرفانها .. لكون معرفته تعالى فطرية ، أو لقيام الدلائل
__________________
الواضحة الدالة
على وجوده سبحانه ، والضمير ( في ظلمها ) راجع إلى الأمم ، والضميران التاليان له
يمكن إرجاعهما إليها وإلى القلوب والأبصار.
والظلم ـ بضم
الظاء وفتح اللام ـ جمع ظلمة استعيرت هنا للجهالة.
والبهم جمع بهمة ـ
بالضم ـ وهي مشكلات الأمور .
وجلوت الأمر ..
أوضحته وكشفته .
والغمم جمع غمة
يقال أمر غمة أي مبهم ملتبس ، قال الله تعالى : ( ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) ، قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق ، وتقول :
غممت الشيء : إذا غطيته وسترته .
والعماية :
الغواية واللجاج ، ذكره الفيروزآبادي .
واختيار .. أي من
الله له ما هو خير له ، أو باختيار منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ورضى وكذا الإيثار ، والأول أظهر فيهما.
بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تعب هذه الدار .. لعل الظرف متعلق بالإيثار بتضمين معنى الضنة أو نحوها ،
وفي بعض النسخ : محمد ـ بدون الباء فتكون الجملة استئنافية أو مؤكدة للفقرة
السابقة ، أو حالية بتقدير الواو ، وفي بعض كتب المناقب القديمة : فمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو أظهر ، وفي رواية
كشف الغمة : رغبته بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تعب هذه الدار ، وفي رواية
__________________
أحمد بن أبي طاهر
: بأبي صلىاللهعليهوآله عزت هذه الدار .. وهو أظهر ، ولعل المراد بالدار : دار
القرار ، ولو كان المراد الدنيا تكون الجملة معترضة ، وعلى التقادير لا يخلو من
تكلف.
نصب أمره .. قال
الفيروزآبادي : النصب ـ بالفتح ـ : العلم المنصوب ويحرك .. وهذا نصب
عيني ـ بالضم والفتح ـ .. أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه ، وهو خبر الضمير ، وعباد
الله منصوب على النداء.
وبلغاؤه إلى الأمم
.. أي تؤدون الأحكام إلى سائر الناس لأنكم أدركتم صحبة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
زعمتم حق لكم ..
أي زعمتم أن ما ذكر ثابت لكم ، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق ، ويمكن أن
يقرأ على الماضي المجهول ، وفي إيراد لفظ الزعم إشعار بأنهم ليسوا متصفين بها
حقيقة ، وإنما يدعون ذلك كذبا ، ويمكن أن يكون حق لكم .. جملة أخرى مستأنفة .. أي
زعمتم أنكم كذلك وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم ، وفي بعض النسخ :
وزعمتم حق لكم فيكم وعهد ، وفي كتاب المناقب القديم : زعمتم أن لا حق لي
فيكم عهدا قدمه إليكم ... فيكون عهدا منصوبا ب اذكروا ونحوه ، وفي الكشف : إلى
الأمم خولكم الله فيكم عهد.
قولها عليهاالسلام : لله فيكم عهد وبقية .. العهد : الوصية ، وبقية الرجل ما يخلفه في أهله ، والمراد بهما القرآن ،
أو بالأول ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته ، وبالثاني القرآن.
__________________
وفي رواية أحمد بن
أبي طاهر : وبقية استخلفنا عليكم ، ومعنا كتاب الله ..
فالمراد بالبقية أهل البيت عليهمالسلام ، وبالعهد ما أوصاهم به فيهم.
والبصائر ـ جمع
بصيرة ـ وهي الحجة ، والمراد بانكشاف السرائر :
وضوحها عند حملة القرآن وأهله.
مغتبط به أشياعه
.. الغبطة أن يتمنى المرء مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها منه ، تقول :
غبطته فاغتبط ، والباء للسببية .. أي أشياعه مغبوطون بسبب اتباعه ، وتلك
الفقرة غير موجودة في سائر الروايات.
مؤد إلى النجاة
إسماعه .. ـ على بناء الإفعال ـ .. أي تلاوته ، وفي بعض نسخ الإحتجاج وسائر
الروايات : استماعه.
والمراد بالعزائم
: الفرائض ، وبالفضائل : السنن ، وبالرخص : المباحات ، بل ما يشمل المكروهات ،
وبالشرائع : ما سوى ذلك من الأحكام كالحدود والديات أو الأعم ، وأما الحجج
والبينات والبراهين فالظاهر أن بعضها مؤكدة لبعض ، ويمكن تخصيص كل منها ببعض ما
يتعلق بأصول الدين لبعض المناسبات ، وفي رواية ابن أبي طاهر : وبيناته الجالية ،
وجمله الكافية ... فالمراد بالبينات : المحكمات ، وبالجمل : المتشابهات ، ووصفها
بالكافية لدفع توهم نقص فيها لإجمالها ، فإنها كافية فيما أريد منها ، ويكفي معرفة
الراسخين في العلم بالمقصود منها ، فإنهم المفسرون لغيرهم ، ويحتمل أن يكون المراد
بالجمل العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة.
تزكية للنفس .. أي
من دنس الذنوب ، أو من رذيلة البخل ، إشارة إلى قوله تعالى : (
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) .
__________________
ونماء في الرزق ..
إيماء إلى قوله تعالى : ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) على بعض التفاسير
.
تثبيتا للإخلاص ..
أي لتشييد الإخلاص وإبقائه ، أو لإثباته وبيانه ، ويؤيد الأخير أن في بعض الروايات
: تبيينا ، وتخصيص الصوم بذلك لكونه أمرا عدميا لا يظهر لغيره تعالى ، فهو أبعد من
الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، وهذا أحد الوجوه في تفسيرالحديث المشهور : الصوم لي
وأنا أجزي به ، وقد شرحناه في حواشي الكافي ، وسيأتي في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى .
تشييدا للدين ..
إنما خص التشييد به لظهوره ووضوحه وتحمل المشاق فيه ، وبذل النفس والمال له ،
فالإتيان به أدل دليل على ثبوت الدين ، أو يوجب استقرار الدين في النفس لتلك العلل
وغيرهما مما لا نعرفه ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في
الأخبار الكثيرة من أن علة الحج التشرف بخدمة الإمام وعرض النصرة عليه ، وتعلم
شرائع الدين منه ، فالتشييد لا يحتاج إلى تكلف.
وفي العلل ورواية
ابن أبي طاهر : تسلية للدين ، فلعل المعنى تسلية
للنفس ، بتحمل المشاق وبذل الأموال بسبب
التقيد بالدين ، أو المراد بالتسلية :
الكشف والإيضاح ، فإنها كشف الهم ، أو المراد بالدين : أهل الدين ، أو
__________________
أسند إليه مجازا ،
والظاهر أنه تصحيف : تسنية ، وكذا في الكشف. وفي بعض نسخ العلل أي يصير سببا لرفعة
الدين وعلوه.
والتنسيق :
التنظيم .
وفي العلل : مسكا
للقلوب أي ما يمسكها ، وفي القاموس : المسكة بالضم ـ : ما يتمسك به وما يمسك
الأبدان من الغذاء والشراب ، .. والجمع كصرد .. والمسك ـ محركة ـ الموضع يمسك
الماء . وفي رواية ابن أبي طاهر والكشف : تنسكا للقلوب .. أي عبادة لها ، لأن العدل أمر
نفساني يظهر آثاره على الجوارح.
والصبر معونة على
استيجاب الأجر .. إذ به يتم فعل الطاعات وترك السيئات.
وقاية من السخط ..
أي سخطهما ، أو سخط الله تعالى ، والأول أظهر.
منماة للعدد ..
المنماة : اسم مكان أو مصدر ميمي .. أي يصير سببا لكثرة عدد الأولاد والعشائر كما
أن قطعها يذر الديار بلاقع من أهلها.
تغييرا للبخس ..
وفي سائر الروايات : للبخسة .. أي لئلا ينقص مال من ينقص المكيال والميزان ، إذ
التوفية موجبة للبركة وكثرة المال ، أو لئلا ينقصوا أموال الناس فيكون المقصود أن
هذا أمر يحكم العقل بقبحه.
عن الرجس .. أي
النجس ، أو ما يجب التنزه عنه عقلا ، والأول أوضح
__________________
في التعليل ،
فيمكن الاستدلال على نجاستها.
حجابا عن اللعنة
.. أي لعنة الله ، أو لعنة المقذوف أو القاذف ، فيرجع إلى الوجه الأخير في السابقة
، والأول أظهر ، إشارة إلى قوله تعالى : ( لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .
إيجابا للعفة ..
أي للعفة عن التصرف في أموال الناس مطلقا ، أو يرجع إلى ما مر ، وكذا الفقرة
التالية. وفي الكشف ـ بعد قوله ـ للعفة : والتنزه عن أموال الأيتام ، والاستئثار
بفيئهم إجارة من الظلم ، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية ، والتبري من الشرك
إخلاصا للربوبية.
عودا وبدءا .. أي
أولا وآخرا ، وفي رواية ابن أبي الحديد وغيره : أقول عودا على بدء ..
والمعنى واحد.
والشطط ـ بالتحريك
ـ البعد عن الحق ، ومجاوزة الحد في كل شيء .
وفي الكشف : ما أقول ذلك سرفا ولا شططا من أنفسكم .. أي لم يصبه شيء من ولادة
الجاهلية بل عن نكاح طيب ، كما روي عن الصادق عليهالسلام ، وقيل :
أي من جنسكم من البشر ثم من العرب ثم من بني إسماعيل .
__________________
( عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ ). أي شديد شاق عليه عنتكم ، وما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان أو مطلقا.
( حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ). أي على إيمانكم
وصلاح شأنكم.
( بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ ). أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم ، والرأفة :
شدة الرحمة ، والتقديم
لرعاية الفواصل.
وقيل : رءوف بالمطيعين
رحيم بالمذنبين.
وقيل : رءوف
بأقربائه رحيم بأوليائه.
وقيل : رءوف بمن
رآه رحيم بمن لم يره ، فالتقديم للاهتمام بالمتعلق.
فإن تعزوه .. يقال
: عزوته إلى أبيه .. أي نسبته إليه ، أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا ابن عمي ،
فالأخوة ذكرت استطرادا ، ويمكن أن يكون الانتساب أعم من النسب ، ومما طرأ أخيرا ،
ويمكن أن يقرأ : وآخى ـ بصيغة الماضي ـ ، وفي بعض الروايات : فإن تعزروه وتوقروه.
صادعا بالنذارة ..
الصدع : الإظهار ، تقول : صدعت الشيء ، أي أظهرته ، وصدعت بالحق : إذا تكلمت به
جهارا ، قال الله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ ) . والنذارة ـ بالكسر ـ الإنذار وهو الإعلام على
وجه التخويف .
__________________
والمدرجة : المذهب
والمسلك ، وفي الكشف : ناكبا عن سنن مدرجة المشركين ، وفي رواية ابن أبي طاهر : ماثلا
على مدرجة .. أي قائما للرد عليهم ، وهو تصحيف .
ضاربا ثبجهم آخذا
بأكظامهم .. الثبج ـ بالتحريك ـ وسط الشيء ومعظمه ، والكظم ـ بالتحريك
ـ مخرج النفس من الحلق .. أي كان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة.
داعيا إلى سبيل
ربه .. كما أمره سبحانه : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ ) .
وقيل : المراد
بالحكمة : البراهين القاطعة وهي للخواص ، وبالموعظة الحسنة : الخطابات المقنعة
والعبر النافعة ، وهي للعوام ، وبالمجادلة بالتي هي أحسن .. إلزام
المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلمة ، وأما المغالطات والشعريات فلا
يناسب درجة أصحاب النبوات.
يكسر الأصنام
وينكث الهام .. النكث : إلقاء الرجل على رأسه ،
__________________
يقال : طعنه فنكثه
، والهام جمع الهامة ـ بالتخفيف فيهما ـ وهي الرأس ، والمراد قتل
رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم ، أو المشركين مطلقا ، وقيل : أريد به إلقاء
الأصنام على رءوسها ، ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده ، وفي بعض النسخ :
ينكس الهام ، وفي الكشف وغيره : يجذ الأصنام ، من قولهم : جذذت الشيء .. أي كسرته ، ومنه قوله
تعالى : ( فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً ) .
حتى تفرى الليل عن
صبحه ، وأسفر الحق عن محضه .. والواو مكان حتى ـ كما في رواية ابن أبي طاهر ـ أظهر
، وتفرى الليل .. أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح ، وأسفر الحق عن محضه وخالصه ، ويقال : أسفر
الصبح .. أي أضاء .
ونطق زعيم الدين
.. زعيم القوم سيدهم والمتكلم عنهم ، والزعيم أيضا ـ الكفيل والإضافة لامية ،
ويحتمل البيانية ..
وخرست شقاشق
الشياطين .. خرس ـ بكسر الراء ـ والشقاشق جمع شقشقة ـ بالكسر ـ وهي شيء كالرية
يخرجها البعير من فيه إذا هاج ، وإذا قالوا للخطيب ذو شقشقة ، فإنما يشبه بالفحل ، وإسناد الخرس
إلى الشقاشق مجازي.
__________________
وطاح وشيظ النفاق
.. يقال : طاح فلان يطوح إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الأرض وسقط ، والوشيظ ـ بالمعجمتين
ـ : الرذل والسفلة من الناس ، ومنه قولهم : إياكم والوشائظ ، وقال الجوهري : الوشيظ : لفيف
من الناس ليس أصلهم واحدا ، وبنو فلان وشيظة في قومهم .. أي هم حشو فيهم.
والوسيط ـ بالمهملتين
ـ : أشرف القوم نسبا وأرفعهم محلا ، وكذا في بعض النسخ ، وهو أيضا مناسب.
وفهتم بكلمة
الإخلاص في نفر من البيض الخماص .. يقال : فاه فلان بالكلام كقال .. أي لفظ به
كتفوه .
وكلمة الإخلاص :
كلمة التوحيد ، وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم ، والبيض جمع أبيض وهو
من الناس خلاف الأسود ، والخماص ـ بالكسر ـ جمع خميص ، والخماصة تطلق على دقة
البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام ، يقال : فلان خميص البطن من أموال الناس أي عفيف
عنها ، وفي الحديث : كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا .
والمراد بالبيض
الخماص : إما أهل البيت عليهمالسلام ـ ويؤيده ما في كشف الغمة : في نفر من البيض الخماص ،
الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ـ ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم ، أو هو من قبيل وصف
__________________
الرجل بالأغر ،
وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل ، أو لعفتهم عن أكل أموال
الناس بالباطل ، أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان رضياللهعنه وغيره ، ويقال لأهل فارس : بيض ، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم ، إذ
الغالب في أموالهم الفضة ، كما يقال لأهل الشام : حمر ، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب
في أموالهم ، والأول أظهر. ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين ، فيكون المراد
بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان ، وبالبيض الخماص : الكمل منهم.
( وَكُنْتُمْ عَلى شَفا
حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ .. ) شفا كل شيء طرفه وشفيره ..
أي كنتم على شفير جهنم مشرفين على دخولها لشرككم وكفركم.
مذقة الشارب ونهزة
الطامع .. مذقة الشارب : شربته ، والنهزة ـ بالضم الفرصة .. أي محل نهزته
.. أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة ، وكذا قولها عليهاالسلام :
وقبسة العجلان
وموطئ الأقدام .. والقبسة ـ بالضم ـ شعلة من نار يقتبس من معظمها ، والإضافة إلى
العجلان لبيان القلة والحقارة ، ووطء الأقدام مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.
تشربون الطرق
وتفتانون الورق .. الطرق ـ بالفتح ـ : ماء السماء
__________________
الذي تبول فيه
الإبل وتبعر ، والورق ـ بالتحريك ـ ورق الشجر ، وفي بعض النسخ
: وتفتاتون القد ، وهو ـ بكسر القاف وتشديد الدال ـ سير يقد من جلد غير مدبوغ ، والمقصود وصفهم
بخباثة المشرب وجشوبة المأكل ، لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم ، ولفقرهم
وقلة ذات يدهم ، وخوفهم من الأعادي.
أذلة خاسئين ( تَخافُونَ
أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) من حولكم .. الخاسئ : المبعد المطرود ، والتخطف :
استلاب الشيء وأخذه بسرعة ، اقتبس من قوله تعالى :
( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
) .
وفي نهج البلاغة :
عن أمير المؤمنين عليهالسلام : أن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة ، والمراد بالناس
سائر العرب أو الأعم.
واللتيا .. بفتح
اللام وتشديد الياء تصغير التي ، وجوز بعضهم فيه ضم اللام ، وهما كنايتان
عن الداهية الصغيرة والكبيرة .
__________________
وبعد أن مني ببهم
الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب .. يقال :
مني بكذا ـ على صيغة المجهول ـ أي ابتلي ، وبهم الرجال ـ كصرد ـ الشجعان منهم لأنهم لشدة بأسهم لا
يدري من أين يؤتون ، وذوبان العرب : لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم
ولا اعتماد عليهم ، والمردة : العتاة المتكبرون المجاوزون للحد.
أو نجم قرن للشيطان ،
وفغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها .. نجم الشيء ـ كنصر ـ نجوما : ظهر
وطلع ، والمراد بالقرن : القوة ، وفسر قرن الشيطان بأمته ومتابعيه ، وفغرفاه .. أي
فتحه ، وفغرفوه .. أي انفتح ـ يتعدى ولا يتعدى ـ ، والفاغرة من
المشركين : الطائفة العادية منهم تشبيها بالحية أو السبع ، ويمكن تقدير الموصوف
مذكرا على أن يكون التاء للمبالغة.
والقذف : الرمي ، ويستعمل في الحجارة كما أن الحذف يستعمل في الحصا ، يقال هم بين
حاذف وقاذف . واللهوات ـ بالتحريك ـ جمع لهاة ، وهي اللحمة في أقصى سقف
الفم ، وفي بعض الروايات : في مهواتها ـ بالضم ـ وهي
__________________
بالتسكين : الحفرة
وما بين الجبلين ونحو ذلك . وعلي أي حال ، المراد أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث
عليها عليهالسلام لدفعها وعرضه للمهالك.
وفي رواية الكشف
وابن أبي طاهر : كلما حشوا نارا للحرب ، ونجم قرن للضلال.
قال الجوهري : حششت النار ..
أوقدتها.
فلا ينكفئ حتى يطأ
صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه .. انكفأ ـ بالهمزة ـ أي رجع ، من قولهم : كفأت
القوم كفأ : إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه إلى غيره فانكفئوا .. أي رجعوا .
والصماخ ـ بالكسرة
ـ ثقب الأذن ، والأذن نفسها ، وبالسين ـ كما في بعض الروايات ـ لغة فيه .
والأخمص : ما لا
يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي ، ووطء الصماخ بالأخمص عبارة عن القهر والغلبة
على أبلغ وجه ، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شائعة.
مكدودا في ذات
الله .. المكدود : من بلغه التعب والأذى ، وذات الله :
أمره ودينه ، وكلما يتعلق به سبحانه ، وفي الكشف : مكدودا دءوبا في ذات الله.
سيد أولياء الله
.. ـ بالجر ـ صفة الرسول (ص) أو بالنصب عطفا على
__________________
الأحوال السابقة ،
ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر : سيدا في أولياء الله.
والتشمير في الأمر
: الجد والاهتمام فيه .
والكدح : العمل
والسعي ، وقال الجوهري : الدعة : الخفض .. ، تقول : منه ودع الرجل .. فهو وديع أي
ساكن ووادع أيضا ، .. يقال : نال فلان المكارم وادعا من غير كلفة.
وقال : الفكاهة ـ بالضم
ـ المزاح ، .. وبالفتح ـ مصدر ـ فكه الرجل بالكسر ـ فهو فكه إذا كان طيب النفس
مزاحا ، والفكه ـ أيضا ـ الأشر و البطر ، وقريء : ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرين ، و ( فاكِهِينَ
). أي ناعمين ، والمفاكهة : الممازحة .
وفي رواية ابن أبي
طاهر : وأنتم في بلهنية وادعون آمنون .. قال الجوهري : هو في بلهنية
من العيش أي سعة ورفاهية ، وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره ، وإنما صارت ياء لكسرة
ما قبلها ، وفي الكشف : وأنتم في رفهنية .. وهي مثلها لفظا ومعنى .
تتربصون بنا
الدوائر .. الدوائر : صروف الزمان وحوادث الأيام
__________________
والعواقب المذمومة
، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة ، أي كنتم تنتظرون نزول
البلايا علينا وزوال النعمة والغلبة عنا.
تتوكفون الأخبار
.. التوكف : التوقع ، والمراد أخبار المصائب والفتن ، وفي بعض النسخ : تتواكفون
الأخيار ، يقال : واكفه في الحرب أي واجهه .
وتنكصون عند
النزال .. النكوص : الإحجام والرجوع عن الشيء ، والنزال ـ بالكسر ـ أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى
خيلهما فيتضاربا ، والمقصود من تلك الفقرات أنهم لم يزالوا منافقين لم
يؤمنوا قط.
ظهر فيكم حسيكة
النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق
المبطلين .. الحسيكة : العداوة ، قال الجوهري : الحسك : حسك السعدان ، الواحدة حسكة ، .. وقولهم في صدره
علي حسيكة وحساكة .. أي ضغن وعداوة .. وفي بعض الروايات : حسكة النفاق .. فهو على
الاستعارة.
وسمل الثوب ـ كنصر
ـ صار خلقا .
والجلباب ـ بالكسر
ـ الملحفة ، وقيل : ثوب واسع للمرأة غير الملحفة .
__________________
وقيل : هو إزار
ورداء.
وقيل : هو
كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها .
والكظوم : السكوت .
ونبغ الشيء ـ كمنع
ونصر ـ أي ظهر ـ ونبغ الرجل : إذا لم يكن في إرث الشعر ، ثم قال وأجاد .
والخامل : من خفي
ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له .
والمراد بالأقلين
: الأذلون ، وفي بعض الروايات : الأولين.
وفي الكشف : فنطق
كاظم ونبغ خامل ، وهدر فنيق الكفر ، يخطر في عرصاتكم .. والهدر : ترديد البعير
صوته في حنجرته .
والفنيق : الفحل المكرم
من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله .
فخطر في عرصاتكم ،
وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزة فيه
ملاحظين .. يقال : خطر البعير بذنبه يخطر بالكسر ـ خطرا وخطرانا إذا رفعه مرة بعد
مرة وضرب به فخذيه ، ومنه قول الحجاج ـ لما نصب المنجنيق على الكعبة ـ ..
خطارة كالجمل الفنيق ..... ،
__________________
شبه رميها بخطران
الفنيق .
ومغرز الرأس ـ بالكسر ـ : ما
يختفي فيه ، وقيل : لعل في الكلام تشبيها للشيطان بالقنفذ ، فإنه إنما يطلع رأسه
عند زوال الخوف ، أو بالرجل الحريص المقدم على أمر فإنه يمد عنقه إليه.
والهتاف : الصياح .
وألفاكم .. أي
وجدكم .
والغرة ـ بالكسر ـ
الاغترار والانخداع ، والضمير المجرور راجع إلى الشيطان.
وملاحظة الشيء :
مراعاته ، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين ، وهو إنما يكون
عند تعلق القلب بشيء ، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع كالذي كان مطمح نظره
أن يغتر بأباطيله.
ويحتمل أن يكون
للعزة ـ بتقديم المهملة على المعجمة ـ. وفي الكشف :
وللعزة ملاحظين .. أي وجدكم طالبين للعزة.
ثم استنهضكم
فوجدكم خفاقا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير
__________________
إبلكم ، وأوردتم
غير شربكم .. النهوض : القيام ، واستنهضه لأمر .. أي أمره بالقيام إليه . فوجدكم خفافا ..
أي مسرعين إليه.
وأحمشت الرجل :
أغضبته ، وأحمشت النار ألهبتها ، أي حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه أو من
عند أنفسكم ، وفي المناقب القديم :
عطافا ـ بالعين المهملة والفاء ـ من العطف بمعنى الميل والشفقة ، ولعله أظهر
لفظا ومعنى.
والوسم : أثر الكي
، يقال وسمته ـ كوعدته ـ وسما .
والورود : حضور
الماء للشرب ، والإيراد : الإحضار .
والشرب ـ بالكسر ـ
: الحظ من الماء ، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة
وميراث النبوة. وفي الكشف : وأوردتموها شربا ليس لكم.
هذا والعهد قريب ،
والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ..
الكلم : الجرح .
والرحب ـ بالضم ـ السعة
.
والجرح ـ بالضم ـ الاسم
، وبالفتح : المصدر ، ولما يندمل .. أي لم يصلح بعد.
__________________
وقبرته : دفنته .
ابتدارا زعمتم خوف
الفتنة ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .. ابتدارا مفعول له للأفعال السابقة ، ويحتمل المصدر
بتقدير الفعل ، وفي بعض الروايات : بدارا زعمتم خوف الفتنة .. أي ادعيتم وأظهرتم
للناس كذبا وخديعة إنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعا للفتنة مع أن
الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها ، وهو عين الفتنة.
والالتفات في ـ سقطوا
ـ لموافقة الآية الكريمة.
فهيهات منكم ،
وكيف بكم ، وأنى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم .. :
هيهات للتبعيد وفيه معنى التعجب كما صرح به الشيخ الرضي ، وكذلك كيف وأنى تستعملان في
التعجب .
وأفكه ـ كضربه ـ :
صرفه عن الشيء وقلبه ، أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال إن كتاب الله
بينكم ، وفلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم .. أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من
جوانبه بهم .
والزاهر :
المتلألئ المشرق .
__________________
وفي الكشف : بين
أظهركم قائمة فرائضه ، واضحة دلائله ، نيرة شرائعه ، زواجره واضحة ، وأوامره
لائحة.
أرغبة عنه ، ( بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) .. أي من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل.
ثم لم تلبثوا إلا
ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ،
وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي
الصفي ..
ريث ـ بالفتح ـ بمعنى
قدر وهي كلمة يستعملها أهل الحجاز كثيرا ، وقد يستعمل مع ما يقال : لم يلبث إلا
ريثما فعل كذا ، وفي الكشف هكذا : ثم لم تبرحوا ريثا ، وقال بعضهم : هذا ولم تريثوا إلا ريث. وفي رواية ابن أبي طاهر :
ثم لم تريثوا .. أختها ، وعلى التقديرين ضمير المؤنث راجع إلى فتنة وفاة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وحت الورق من
الغصن : نثرها .. أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة.
ونفرت الدابة ـ بالفتح
ـ : ذهابها وعدم انقيادها.
__________________
والسلس ـ بكسر
اللام ـ : السهل اللين المنقاد ، ذكره الفيروزآبادي . وفي مصباح اللغة
: سلس سلسا من باب تعب : سهل ولان.
والقياد ـ بالكسر
ـ : ما يقاد به الدابة من حبل وغيره.
وفي الصحاح : ورى الزند يري
وريا : إذا خرجت ناره ، وفيه لغة أخرى : وري الزند يري ـ بالكسر ـ فيهما وأوريته
أنا وكذلك وريته تورية وفلان يستوري زناد الضلالة.
ووقدة النار ـ بالفتح
ـ : وقودها ، ووقدها : لهبها ، الجمرة : المتوقد من الحطب ، فإذا برد فهو
فحم ، والجمر ـ بدون التاء ـ جمعها [ كذا ].
والهتاف ـ بالكسر
ـ الصياح ، وهتف به .. أي دعاه ، وإهماد النار إطفاؤها بالكلية.
والحاصل ، أنكم
إنما صبرتم حتى استقرت الخلافة المغصوبة عليكم ، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن
واتباع الشيطان ، وإبداع البدع ، وتغيير السنن.
تسرون حسوا في
ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر
__________________
منكم على مثل حظ
المدى ، ووخز السنان في الحشا .. الإسرار ضد الإعلان .
والحسو ـ بفتح
الحاء وسكون السين المهملتين ـ : شرب المرق وغيره شيئا بعد شيء .
والارتغاء : شرب
الرغوة ، وهو زبد اللبن ، قال الجوهري : الرغوة ـ مثلثة ... زبد اللبن .. وارتغيت شربت الرغوة.
وفي المثل ـ يسر حسوا في ارتغاء يضرب لمن يظهر أمرا ويريد غيره ، قال الشعبي ـ لمن
سأله عن رجل قبل أم امرأته قال : يسر حسوا في ارتغاء ، وقد حرمت عليه امرأته. وقال
الميداني : قال أبو زيد والأصمعي : أصله الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة
خاصة ولا يريد غيرها فيشربها وهو في ذلك ينال من اللبن ، يضرب لمن يريك أنه يعينك
وإنما يجر النفع إلى نفسه .
والخمر ـ بالتحريك
ـ : ما واراك من شجر وغيره ، يقال توارى الصيد عني في خمر الوادي ، ومنه قولهم دخل
فلان في خمار الناس ـ بالضم ـ أي ما يواريه ويستره منهم .
والضراء ـ بالضاد
المعجمة المفتوحة والراء المخففة ـ : الشجر الملتف في الوادي ، ويقال لمن ختل
صاحبه وخادعه : يدب له الضراء ويمشي له الخمر ، وقال الميداني : قال ابن الأعرابي : الضراء ما انخفض من
الأرض .
__________________
والحز ـ بفتح
الحاء المهملة ـ : القطع ، أو قطع الشيء من غير إبانة .
والمدى ـ بالضم ـ :
جمع مدية وهي السكين والشفرة ، والوخز : الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذا ، يقال وخزه
بالخنجر .
وفي رواية ابن أبي
طاهر : ويها معشر المهاجرة! ابتز إرث أبيه؟ ... قال الجوهري : إذا أغريته
بالشيء قلت ويها يا فلان وهو تحريض ، انتهى .
ولعل الأنسب هنا
التعجب. والهاء في ( أبيه ) في الموضعين. وإرثيه ـ بكسر الهمزة ـ بمعنى الميراث للسكت ، كما في
سورة الحاقة : « كِتابِيَهْ
» و «
حِسابِيَهْ
» و «
مالِيَهْ
» و «
سُلْطانِيَهْ
» ، تثبت في الوقف
وتسقط في الوصل ، وقرئ بإثباتها في الوصل أيضا.
وفي الكشف : ثم
أنتم أولا تزعمون أن لا إرث ليه ... فهو أيضا كذلك.
كالشمس الضاحية ..
أي الظاهرة البينة ، يقال : فعلت ذلك الأمر ضاحية .. أي علانية .
__________________
( شَيْئاً فَرِيًّا ). أي أمرا عظيما بديعا ، وقيل :
أي أمرا منكرا قبيحا ، وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب .
واعلم
: أنه قد وردت
الروايات المتضافرة ـ كما ستعرف ـ في أنها عليهاالسلام ادعت أن فدكا كانت نحلة لها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلعل عدم تعرضها صلوات الله عليها في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها عن
قبولهم إياها ، إذ كانت الخطبة بعد ما رد أبو بكر شهادة أمير المؤمنين عليهالسلام ومن شهد معه ، وقد كانت المنافقون الحاضرون معتقدين لصدقه ، فتمسكت بحديث الميراث
لكونه من ضروريات الدين.
وزعمتم أن لا حظوة
لي .. الحظوة ـ بكسر الحاء وضمها وسكون الظاء المعجمة ـ : المكانة والمنزلة ، ويقال : حظيت
المرأة عند زوجها إذا دنت من قلبه .
وفي الكشف :
فزعمتم أن لا حظ لي ولا إرث لي من أبيه ، أفحكم الله بآية أخرج أبي منها؟! أم
تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي؟! ( أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ ) ... الآية.
إيها معاشر
المسلمة ، أأبتز إرثيه! الله أن ترث أباك ولا أرث أبيه ( لَقَدْ
جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ) .
فدونكها مخطومة
مرحولة .. الضمير راجع إلى فدك المدلول عليها بالمقام ،
__________________
والأمر بأخذها
للتهديد.
والخطام ـ بالكسر
ـ كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به .
والرحل ـ بالفتح ـ
للناقة كالسرج للفرس ، ورحل البعير ـ كمنع ـ شد على ظهره الرحل . شبهتها عليهاالسلام في كونها مسلمة لا يعارضه في أخذها أحد بالناقة المنقادة المهيأة للركوب.
والزعيم محمد ـ في بعض
الروايات ـ والغريم .. أي طالب الحق .
وعند الساعة ما
تخسرون .. كلمة ( ما ) مصدرية .. أي في القيامة يظهر خسرانكم.
و : ( لِكُلِّ
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ .. ) ، أي لكل خبر ، ـ يريد نبأ العذاب أو الإيعاد به ـ وقت استقرار ووقوع.
وسوف تعلمون ـ عند
وقوعه ـ من يأتيه عذاب يخزيه .. الاقتباس من موضعين :
أحدهما : سورة
الأنعام ، والآخر : في سورة هود في قصة نوح عليهالسلام حيث قال : ( إِنْ تَسْخَرُوا
مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) ، فالعذاب الذي
يخزيهم الغرق ،
__________________
والعذاب المقيم
عذاب النار.
ثم رمت بطرفها ..
الطرف ـ بالفتح ـ مصدر طرفت عين فلان : إذا نظرت وهو أن ينظر ثم
يغمض ، والطرف ـ أيضا ـ العين .
والمعشر : الجماعة
.
والفتية ـ بالكسر
ـ : جمع فتى وهو الشاب والكريم السخي .
وفي المناقب : يا
معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحصنة الإسلام ..
وفي الكشف : يا
معشر البقية ، ويا عماد الملة ، وحصنة الإسلام.
والأعضاد : جمع
عضد ـ بالفتح ـ الأعوان ، يقال : عضدته كنصرته لفظا ومعنى .
ما هذه الغميزة في
حقي والسنة عن ظلامتي .. قال الجوهري : ليس في فلان غميزة أي مطعن ، ونحوه ذكر الفيروزآبادي ، وهو لا يناسب
المقام إلا بتكلف.
وقال الجوهري : رجل غمز أي
ضعيف.
وقال الخليل في
كتاب العين : الغميزة ـ بفتح الغين المعجمة والزاي ضعفة في العمل
وجهلة في العقل ويقال : سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله أي علمت أنه أحمق. وهذا
المعنى أنسب.
__________________
وفي الكشف : ما
هذه الفترة ـ بالفاء المفتوحة وسكون التاء ـ وهو السكون ، وهو أيضا
مناسب.
وفي رواية ابن أبي
طاهر بالراء المهملة ، ولعله من قولهم غمر على أخيه ..
أي حقد وضغن ، أو من قولهم : غمر عليه .. أي أغمي عليه ، أو من الغمر بمعنى الستر ، ولعله كان
بالضاد المعجمة فصحف ، فإن استعمال إغماض العين ـ في مثل هذا المقام ـ شائع.
والسنة ـ بالكسر ـ
مصدر وسن يوسن ـ كعلم يعلم ـ وسنا وسنة ، والسنة : أول النوم أو النوم الخفيف ،
والهاء عوض عن الواو .
والظلامة ـ بالضم
ـ كالمظلمة ـ بالكسر ـ ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده ، والغرض تهييج
الأنصار لنصرتها أو توبيخهم على عدمها.
وفي الكشف ـ بعد
ذلك ـ : أما كان لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحفظ ...؟!.
سرعان ما أحدثتم
وعجلان ذا إهالة ... سرعان ـ مثلثة السين ـ وعجلان ـ بفتح العين ـ كلاهما من أسماء
الأفعال بمعنى سرع وعجل ، وفيهما معنى التعجب أي ما أسرع وأعجل .
وفي رواية ابن أبي
طاهر : سرعان ما أجدبتم فأكديتم ، يقال : أجدب القوم
__________________
أي أصابهم الجدب ، وأكدى الرجل
إذا قل خيره والإهالة ـ بكسر الهمزة الودك وهو دسم اللحم ، وقال
الفيروزآبادي : قولهم سرعان ذا إهالة أصله أن رجلا كانت له نعجة عجفاء وكانت ، رعامها يسيل من
منخريها لهزالها ، فقيل له : ما هذا الذي يسيل ؟ فقال : ودكها ، فقال السائل : سرعان ذا إهالة ، ونصب إهالة على
الحال ، وذا إشارة إلى الرعام ، أو تمييز على تقدير نقل الفعل ، كقولهم تصبب زيد عرقا ،
والتقدير سرعان إهالة هذه ، وهو مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته ، انتهى.
والرعام ـ بالضم ـ
: ما يسيل من أنف الشاة والخيل ، ولعل المثل كان بلفظ عجلان فاشتبه على الفيروزآبادي أو
غيره ، أو كان كل منهما مستعملا في هذا المثل ، وغرضها صلوات الله عليها التعجب من
تعجيل الأنصار ومبادرتهم إلى إحداث البدع وترك السنن والأحكام ، والتخاذل عن نصرة
عترة سيد الأنام مع قرب عهدهم به ، وعدم نسيانهم ما أوصاهم به فيهم ، وقدرتهم على
نصرتها وأخذ حقها ممن ظلمها ، ولا يبعد أن يكون المثل إخبارا مجملا بما يترتب على
هذه البدعة
__________________
من المفاسد
الدينية وذهاب الآثار النبوية.
فخطب جليل استوسع
وهيه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، واظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت النجوم لمصيبته
.. : الخطب ـ بالفتح ـ : الشأن والأمر عظم أو صغر .
والوهي ـ كالرمي ـ
: الشق والخرق ، يقال : وهي الثوب إذا بلي وتخرق .
واستوسع واستنهر ـ
استفعل ـ من النهر ـ بالتحريك ـ بمعنى السعة أي اتسع .
والفتق : الشق والرتق ضده ، وانفتق .. أي
انشق ، والضمائر المجرورات الثلاثة راجعة إلى الخطب بخلاف المجرورين بعدها فإنهما
راجعان إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكسف النجوم :
ذهاب نورها ، والفعل منه يكون متعديا ولازما ، والفعل كضرب.
وفي رواية ابن أبي
طاهر مكان الفقرة الأخيرة : واكتأبت خيرة الله لمصيبته ..
والاكتئاب ـ افتعال ـ من الكآبة بمعنى الحزن .
وفي الكشف :
واستنهر فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض واكتابت لخيرة الله .. إلى قولها :
__________________
وأديلت الحرمة ـ من
الإدالة بمعنى الغلبة ـ وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت
الحرمة عند مماته ... : يقال : أكدى فلان أي بخل أو قل خيره ، وحريم الرجل ما يحميه ويقاتل عنه ، والحرمة ما لا يحل
انتهاكه ، وفي بعض النسخ : الرحمة مكان الحرمة.
فتلك ـ والله ـ النازلة
الكبرى والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل
ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا .. : النازلة :
الشديدة .
والبائقة :
الداهية .
وفناء الدار ـ ككساء
ـ : العرصة المتسعة أمامها .
والممسى والمصبح ـ
بضم الميم فيهما ـ مصدران وموضعان من الإصباح والإمساء.
والهتاف ـ بالكسر
ـ : الصياح .
والصراخ كغراب :
الصوت أو الشديد منه .
والتلاوة ـ بالكسر
ـ القراءة .
والإلحان :
الإفهام ، يقال : ألحنه القول .. أي أفهمه إياه ، ويحتمل أن
__________________
يكون من اللحن
بمعنى الغناء والطرب ، قال الجوهري : اللحن واحد الألحان واللحون ، ومنه الحديث : ( اقرءوا
القرآن بلحون العرب ). وقد لحن في قراءته إذا طرب بها وغرد ، وهو ألحن الناس إذا
كان أحسنهم قراءة أو غناء ، انتهى. ويمكن أن يقرأ على هذا بصيغة الجمع أيضا ،
والأول أظهر.
وفي الكشف : فتلك
نازلة أعلن بها كتاب الله في قبلتكم ، ممساكم ومصبحكم ، هتافا هتافا ، ولقبله ما
حل بأنبياء الله ورسله ..
حكم فصل وقضاء حتم
( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ... الحكم الفصل : هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مرد
له ، وقد يكون بمعنى القاطع الفارق بين الحق والباطل .
والحتم ـ في الأصل
ـ : إحكام الأمور . والقضاء الحتم : هو الذي لا يتطرق إليه التغيير.
وخلت .. أي مضت .
والانقلاب على
العقب : الرجوع القهقرى ، أريد به الارتداد بعد الإيمان ، والشاكرون المطيعون
المعترفون بالنعم الحامدون عليها .
قال بعض الأماثل :
واعلم أن الشبهة العارضة للمخاطبين بموت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله لغيبته ،
فإن العقول الضعيفة مجبولة على رعاية الحاضر أكثر من الغائب ، وأنه إذا غاب عن
أبصارهم ذهب كلامه عن أسماعهم ، ووصاياه عن قلوبهم ، فدفعها ما أشارت
__________________
إليه صلوات الله
عليها من إعلان الله جل ثناؤه وإخباره بوقوع تلك الواقعة الهائلة قبل وقوعها ، وإن
الموت مما قد نزل بالماضين من أنبياء الله ورسله عليهمالسلام تثبيتا للأمة على الإيمان ، وإزالة لتلك الخصلة الذميمة عن
نفوسهم.
ويمكن أن يكون
معنى الكلام أتقولون مات محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عما نريد ، ولا نخاف أحدا
في ترك الانقياد للأوامر وعدم الانزجار عن النواهي ، ويكون الجواب ما يستفاد من
حكاية قوله سبحانه :
( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ ) ... الآية ، لكن لا
يكون حينئذ لحديث إعلان الله سبحانه وإخباره بموت الرسول مدخل في الجواب إلا
بتكلف.
ويحتمل أن يكون
شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما أفصح عنه عمر بن الخطاب ـ وسيأتي في مطاعنه ـ فبعد
تحقق موته عرض لهم شك في الإيمان ووهن في الأعمال ، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها
، وحينئذ مدخلية حديث الإعلان وما بعده في الجواب واضح.
وعلى التقادير لا
يكون قولها صلوات الله عليها : فخطب جليل .. داخلا في الجواب ، ولا مقولا لقول
المخاطبين على الاستفهام التوبيخي ، بل هو كلام مستأنف لبث الحزن والشكوى ، بل
يكون الجواب بما بعد قولها : فتلك والله النازلة الكبرى .. ويحتمل أن يكون مقولا
لقولهم ، فيكون حاصل شبهتهم أن موته صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي هو أعظم الدواهي قد وقع ، فلا يبالي بما وقع بعده من
المحظورات ، فلذلك لم ينهضوا بنصرها والإنصاف ممن ظلمها ، ولما تضمن ما زعموه كون
مماته (ص) أعظم المصائب سلمت عليهاالسلام أولا في مقام جواب تلك المقدمة ، لكونها محض الحق ، ثم نبهت على خطئهم في
أنها مستلزمة لقلة المبالاة بما وقع ، والقعود عن نصرة الحق ، وعدم اتباع أوامره
صلى
__________________
الله عليه وآله
بقولها : أعلن بها كتاب الله .. إلى آخر الكلام ، فيكون حاصل الجواب أن الله قد
أعلمكم بها قبل الوقوع ، وأخبركم بأنها سنة ماضية في السلف من أنبيائه ، وحذركم
الانقلاب على أعقابكم كي لا تتركوا العمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها ، ولا تهنوا
عن نصرة الحق وقمع الباطل ، وفي تسليمها ما سلمته أولا دلالة على أن كونها أعظم
المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي ، فإني أنا المصاب بها حقيقة ، وإن شاركني فيها غيري
، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية أحق وأحرى.
ويحتمل أن يكون
قولها عليهاالسلام : فخطب جليل .. من أجزاء الجواب ، فتكون شبهتهم بعض الوجوه
المذكورة ، أو المركب من بعضها مع بعض ، وحاصل الجواب حينئذ أنه إذا نزل بي مثل
تلك النازلة الكبرى ـ وقد كان الله عز وجل أخبركم بها وأمركم أن لا ترتدوا بعدها
على أعقابكم ـ فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي ، ولعل الأنسب بهذا
الوجه ما في رواية ابن أبي طاهر من قولها : وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله ..بالواو
دون الفاء ، ويحتمل أن لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على أحد الوجوه
المذكورة ، بل تكون الشبهة لبعضهم بعضها وللآخر أخرى ، ويكون كل
مقدمة من مقدمات الجواب إشارة إلى دفع واحدة منها.
أقول
: ويحتمل أن لا
تكون هناك شبهة حقيقة ، بل يكون الغرض أنه ليس لهم في ارتكاب تلك الأمور الشنيعة
حجة ومتمسك ، إلا أن يتمسك أحد بأمثال تلك الأمور الباطلة الواهية التي لا يخفى
على أحد بطلانها ، وهذا شائع في الاحتجاج.
إيها بني قيلة! أأهضم
تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومبتدأ ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة
... أيها ـ بفتح الهمزة والتنوين ـ بمعنى
__________________
هيهات .
وبنو قيلة : الأوس
والخزرج ـ قبيلتا الأنصار ، ـ وقيلة ـ بالفتح ـ اسم أم لهم قديمة : وهي قيلة بنت
كاهل .
والهضم : الكسر ،
يقال : هضمت الشيء .. أي كسرته ، وهضمه حقه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه .
والتراث ـ بالضم ـ
الميراث ، وأصل التاء فيه واو .
وأنتم بمرأى مني
ومسمع .. أي بحيث أراكم وأسمعكم كلامكم [ كذا ].
وفي رواية ابن أبي
طاهر : منه ـ أي من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ، والمبتدأ في أكثر النسخ بالباء الموحدة مهموزا ، فلعل
المعنى أنكم في مكان يبتدأ منه الأمور والأحكام ، والأظهر أنه تصحيف المنتدى ـ بالنون
غير مهموزة ـ بمعنى المجلس ، وكذا في المناقب القديم ، فيكون المجمع كالتفسير له ،
والغرض الاحتجاج عليهم بالاجتماع الذي هو من أسباب القدرة على دفع الظلم ، واللفظان غير
موجودين في رواية ابن أبي طاهر.
وتلبسكم ـ على
بناء المجرد ـ أي تغطيكم وتحيط بكم.
والدعوة : المرة
من الدعاء أي النداء كالخبرة ـ بالفتح ـ من الخبر ـ بالضم
__________________
بمعنى العلم ، أو الخبرة ـ بالكسر
ـ بمعناه ، والمراد بالدعوة : نداء المظلوم للنصرة ، وبالخبرة علمهم
بمظلوميتها صلوات الله عليها ، والتعبير بالإحاطة والشمول للمبالغة ، أو للتصريح
بأن ذلك قد عمهم جميعا ، وليس من قبيل الحكم على الجماعة بحكم البعض أو الأكثر.
وفي رواية ابن أبي
طاهر : الحيرة ـ بالحاء المهملة ـ ولعله تصحيف ، ولا يخفى توجيهه.
وأنتم موصوفون
بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح والنجبة التي انتجبت ، والخيرة التي اختيرت .. الكفاح : استقبال
العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة ، ويقال : فلان يكافح الأمور .. أي يباشرها بنفسه .
والنجبة ـ كهمزة ـ
النجيب الكريم ، وقيل : يحتمل أن يكون بفتح الخاء المعجمة أو سكونها
بمعنى المنتخب المختار ، ويظهر من ابن الأثير أنها بالسكون تكون جمعا .
والخيرة ـ كعنبة :
المفضل من القوم المختار منهم .
__________________
قاتلتم العرب ـ في
المناقب : لنا أهل البيت قاتلتم ـ وناطحتم الأمم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح أو
تبرحون نأمركم فتأتمرون ..
ناطحتم الأمم ..
أي حاربتم الخصوم ودافعتموهم بجد واهتمام كما يدافع الكبش قرنه بقرنه .
والبهم : الشجعان ـ كما مر ـ.
ومكافتحتها :
التعرض لدفعها من غير توان وضعف.
وقولها عليهاالسلام : أو تبرحون .. معطوف على مدخول النفي ، فالمنفي أحد الأمرين ، ولا ينتفي إلا
بانتفائهما معا ، فالمعنى لا نبرح ولا تبرحون نأمركم فتأتمرون .. أي كنا لم نزل
آمرين وكنتم مطيعين لنا في أوامرنا.
وفي كشف الغمة :
وتبرحون ـ بالواو ـ فالعطف على مدخول النفي أيضا ويرجع إلى ما مر ، وعطفه على
النفي ـ إشعارا بأنه قد كان يقع منهم براح عن الإطاعة كما في غزوة أحد وغيرها ،
بخلاف أهل البيت عليهمالسلام إذ لم يعرض لهم كلال عن الدعوة والهداية ـ بعيد عن المقام
، والأظهر ما في رواية ابن أبي طاهر من ترك المعطوف رأسا.
لا نبرح نأمركم ..
أي لم يزل عادتنا الأمر وعادتكم الائتمار.
وفي المناقب : لا
نبرح ولا تبرحون نأمركم .. فيحتمل أن يكون أو في تلك النسخة أيضا بمعنى الواو ..
أي لا نزال نأمركم ولا تزالون تأتمرون ، ولعل ما في المناقب أظهر النسخ وأصوبها.
حتى إذا دارت بنا
رحى الإسلام ، ودر حلب الأيام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت
نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين .. دوران الرحى كناية عن
انتظام أمرها ، والباء للسببية.
__________________
ودر اللبن :
جريانه وكثرته .
والحلب ـ بالفتح ـ
استخراج ما في الضرع من اللبن ، وبالتحريك اللبن المحلوب ، والثاني أظهر
للزوم ارتكاب تجوز في الإسناد وفي المسند إليه على الأول.
والنعرة ـ بالنون
والعين والراء المهملتين ـ مثال همزة : الخيشوم والخيلاء والكبر أو بفتح النون من
قولهم : نعر العرق بالدم .. أي فار ، فيكون الخضوع بمعنى السكون ، أو بالغين المعجمة من نغرت
القدر .. أي فارت .
وقال الجوهري :
نغر الرجل ـ بالكسر ـ أي اغتاض ، قال الأصمعي : هو الذي يغلي جوفه من الغيظ. وقال ابن السكيت : يقال : ظل فلان يتنغر على
فلان .. أي يتذمر عليه ، وفي أكثر النسخ
بالثاء المثلثة المضمومة والغين
المعجمة ، وهي نقرة النحر بين الترقوتين ، فخضوع ثغرة
الشرك كناية عن محقه
وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض ، نظيره
قول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وآله : أنا وضعت ، كلكل العرب ـ أي صدورهم .
__________________
والإفك ـ بالكسر ـ
الكذب ، وفورة الإفك غليانه وهيجانه .
وخمدت النار .. أي
سكن لهبها ولم يطفأ جمرها ، ويقال : همدت ـ بالهاء إذا طفئ جمرها ، وفيه إشعار
بنفاق بعضهم وبقاء مادة الكفر في قلوبهم.
وفي رواية ابن أبي
طاهر : وباخت نيران الحرب .. قال الجوهري : باخ الحر والنار والغضب والحمى .. أي
سكن وفتر ، وهدأت أي سكنت .
والهرج : الفتنة
والاختلاط ، وفي الحديث : الهرج : القتل .
واستوسق .. أي
اجتمع وانضم من الوسق ـ بالفتح ـ وهو ضم الشيء إلى الشيء ، واتساق الشيء : انتظامه
.
وفي الكشف :
فناويتم العرب وبادهتم الأمور .. إلى قولها عليهاالسلام :
حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام ، ودر حلب البلاد ، وخبت نيران الحرب ..
يقال : بدهه بأمر .. أي استقبله به ، وبادهه : فاجأه .
فأنى حرتم بعد
البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان .. كلمة :
أنى ، ظرف مكان بمعنى أين ، وقد يكون بمعنى كيف أي من أين حرتم ،
وما كان منشؤه.
__________________
وجرتم : إما ـ بالجيم
ـ من الجور وهو الميل عن القصد والعدول عن الطريق ، أي لما ذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم؟ ، أو بالحاء
المهملة المضمومة من الحور بمعنى الرجوع أو النقصان ، يقال : نعوذ
بالله من الحور بعد الكور .. أي من النقصان بعد الزيادة ، وأما بكسرها من
الحيرة.
والنكوص : الرجوع
إلى خلف .
( أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ) . نكث العهد ـ بالفتح نقضه .
والأيمان ـ جمع
اليمين ـ وهو القسم .
والمشهور بين
المفسرين أن الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهودهم وخرجوا مع الأحزاب وهموا
بإخراج الرسول من المدينة ، وبدءوا بنقض العهد والقتال.
وقيل : نزلت في مشركي
قريش وأهل مكة حيث نقضوا أيمانهم التي عقدوها مع الرسول والمؤمنين على أن لا
يعاونوا عليهم أعداءهم ، فعاونوا بني بكر على خزاعة ، وقصدوا إخراج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، وأتاهم إبليس بصورة شيخ نجدي .. إلى آخر ما
مر من القصة ،
__________________
فهم بدءوا
بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت ، أو يوم بدر ، أو بنقض العهد ، والمراد بالقوم
الذين نكثوا أيمانهم في كلامها صلوات الله عليها ، أما الذين نزلت فيهم الآية
فالغرض بيان وجوب قتال الغاصبين للإمامة ولحقها ، الناكثين لما عهد إليهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في وصيه عليهالسلام وذوي قرباه وأهل بيته ، كما وجب بأمره سبحانه قتال من نزلت
الآية فيهم ، أو المراد بهم الغاصبون لحق أهل البيت عليهمالسلام ، فالمراد بنكثهم أيمانهم : نقض ما عهدوا إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حين بايعوه من الانقياد له في أوامره والانتهاء عند نواهيه وأن لا يضمروا له
العداوة ، فنقضوه وناقضوا ما أمرهم به ، والمراد بقصدهم إخراج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عزمهم على إخراج من هو كنفس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقائم مقامه بأمر الله وأمره عن مقام الخلافة وعلى إبطال
أوامره ووصاياه في أهل بيته النازل منزلة إخراجه من مستقره ، وحينئذ يكون من قبيل
الاقتباس.
وفي بعض الروايات
: لقوم ( نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ ) .. فقوله : لقوم
متعلق بقوله : تخشونهم.
ألا قد أرى أن قد
أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من
الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوغتم فـ ( إِنْ
تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ
حَمِيدٌ ) .. الرؤية هنا بمعنى العلم أو النظر بالعين .
وأخلد إليه : ركن
ومال .
والخفض ـ بالفتح ـ
: سعة العيش .
__________________
والمراد بمن هو
أحق بالبسط والقبض أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وصيغة التفضيل مثلها في قوله
تعالى : ( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) .
وخلوت بالشيء :
انفردت به واجتمعت معه في خلوة .
والدعة : الراحة
والسكون .
ومج الشراب من فيه
: رمى به .
ووعيتم .. أي
حفظتم .
والدسع ـ كالمنع ـ
الدفع والقيء ، وإخراج البعير جرته إلى فيه .
وساغ الشراب يسوغ
سوغا .. إذا سهل مدخله في الحلق ، وتسوغه :
شربه بسهولة.
وصيغة تكفروا في
كلامها عليهاالسلام إما من الكفران وترك الشكر ـ كما هو الظاهر من سياق الكلام
المجيد حيث قال تعالى : ( إِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي
لَشَدِيدٌ وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ـ ، أو من الكفر بالمعنى الأخص ، والتغيير في المعنى لا
ينافي الاقتباس ، مع أن في الآية أيضا يحتمل هذا المعنى ، والمراد إن تكفروا أنتم
ومن في الأرض جميعا من الثقلين فلا يضر ذلك إلا أنفسكم فإنه
__________________
سبحانه غني عن
شكركم وطاعتكم ، مستحق للحمد في ذاته ، أو محمود تحمده الملائكة بل جميع الموجودات
بلسان الحال ، وضرر الكفران عائد إليكم حيث حرمتم من فضله تعالى ومزيد إنعامه
وإكرامه.
والحاصل
، أنكم إنما تركتم
الإمام بالحق وخلعتم بيعته من رقابكم ورضيتم ببيعة أبي بكر لعلمكم بأن أمير
المؤمنين عليهالسلام لا يتهاون ولا يداهن في دين الله ، ولا تأخذه في الله لومة
لائم ، ويأمركم بارتكاب الشدائد في الجهاد وغيره ، وترك ما تشتهون من زخارف الدنيا
، ويقسم الفيء بينكم بالسوية ، ولا يفضل الرؤساء والأمراء ، وإن أبا بكر رجل سلس
القياد ، مداهن في الدين لإرضاء العباد ، فلذا رفضتم الإيمان ، وخرجتم عن طاعته
سبحانه إلى طاعة الشيطان ، ولا يعود وباله إلا إليكم.
وفي الكشف : ألا
وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وركنتم إلى الدعة ، فمججتم الذي أوعيتم ،
ولفظتم الذي سوغتم.
وفي رواية ابن أبي
طاهر : فعجتم عن الدين ... يقال : ركن إليه ـ بفتح الكاف وقد يكسر ـ أي مال إليه وسكن . وقال الجوهري : عجت بالمكان
أعوج .. أي أقمت به وعجت غيري .. يتعدى ولا يتعدى ، وعجت البعير ..
عطفت رأسه بالزمام .. والعائج : الواقف .. وذكر ابن الأعرابي : فلان ما يعوج من شيء : أي ما يرجع عنه .
ألا وقد قلت ما
قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها
فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القنا ، وبثة الصدر ، وتقدمة الحجة .. الخذلة : ترك
النصر .
__________________
وخامرتكم .. أي
خالطتكم .
والغدر : ضد
الوفاء .
واستشعره : أي لبسه ،
والشعار : الثوب الملاصق للبدن .
والفيض ـ في الأصل
ـ كثرة الماء وسيلانه ، يقال : فاض الخبر .. أي شاع ، وفاض صدره بالسر .. أي باح
به وأظهره ، ويقال : فاضت نفسه .. أي خرجت روحه ، والمراد به هنا
إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهم وغلبة الحزن.
والنفث بالفم شبيه
بالنفخ ، وقد يكون للمغتاظ تنفس عال تسكينا لحر القلب وإطفاء
لنائرة الغضب.
والخور ـ بالفتح
والتحريك ـ : الضعف .
والقنا : جمع قناة
وهي الرمح ، وقيل كل عصا مستوية أو معوجة قناة ، ولعل المراد
بخور القنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة وكتمان الضر ، أو ضعف ما يعتمد عليه في
النصر على العدو ، والأول أنسب.
والبث : النشر
والإظهار ، والهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه ..
أي يفرقه .
__________________
وتقدمة الحجة :
إعلام الرجل قبل وقت الحاجة قطعا لاعتذاره بالغفلة.
والحاصل ، أن
استنصاري منكم ، وتظلمي لديكم ، وإقامة الحجة عليكم ، لم يكن رجاء للعون والمظاهرة
بل تسلية للنفس ، وتسكينا للغضب ، وإتماما للحجة ، لئلا تقولوا يوم القيامة : ( إِنَّا
كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) .
فدونكموها
فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ،
موصولة ب ( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) ، فبعين الله ما تفعلون ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ..
والحقب ـ بالتحريك
ـ حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير ، يقال : احقبت البعير .. أي شددته به ، وكل ما شد في
مؤخر رحل أو قتب فقد احتقب ، ومنه قيل : احتقب فلان الإثم كأنه جمعه واحتقبه من
خلفه ، فظهر أن الأنسب في هذا المقام أحقبوها ـ بصيغة الإفعال ـ أي شدوا عليها ذلك
وهيئوها للركوب ، لكن فيما وصل إلينا من الروايات على بناء الافتعال.
والدبر ـ بالتحريك
ـ الجرح في ظهر البعير ، وقيل : جرح الدابة مطلقا .
والنقب ـ بالتحريك
ـ : رقة خف البعير .
والعار الباقي :
عيب لا يكون في معرض الزوال.
ووسمته وسما وسمة
: إذا أثرت فيه بسمة وكي .
__________________
والشنار : العيب
والعار .
و ( نارُ
اللهِ الْمُوقَدَةُ ). المؤججة على الدوام.
والاطلاع على
الأفئدة .. إشرافها على القلوب بحيث يبلغها ألمها كما يبلغ ظواهر البدن ، وقيل
معناه : أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر بخلاف نيران الدنيا.
وفي الكشف : ( إِنَّها
عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) ـ والموصدة : المطبقة ـ.
وبعين الله ما
تفعلون .. أي متلبس بعلم الله أعمالكم ، ويطلع عليها كما يعلم أحدكم ما يراه
ويبصره ، وقيل في قوله تعالى : ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا
) أن المعنى تجري بأعين أوليائنا من الملائكة والحفظة.
والمنقلب : المرجع
والمنصرف ، وأي منصوب على أنه صفة مصدر محذوف والعامل فيه ينقلبون ،
لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، وإنما يعمل فيه ما بعده ، والتقدير سيعلم
الذين ظلموا ينقلبون انقلابا أي انقلاب؟.
وأنا ابنة نذير
لكم .. أي أنا ابنة من أنذركم بعذاب الله على ظلمكم ، فقد تمت الحجة عليكم ،
والأمر في اعملوا وانتظروا للتهديد.
وأما قوله الملعون
:
والرائد لا يكذب
أهله .. فهو مثل استشهد به في صدق الخبر الذي افتراه على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والرائد : من يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث ، جعل نفسه ـ لاحتماله
الخلافة التي هي الرئاسة العامة ـ بمنزلة
__________________
الرائد للأمة الذي
يجب عليه أن ينصحهم ويخبرهم بالصدق.
والمجالدة :
المضاربة بالسيوف .
واستبد فلان
بالرأي .. أي انفرد به واستقل.
ولا نزوي عنك ..
أي لا نقبض ولا نصرف .
ولا نوضع من فرعك
وأصلك .. أي لا نحط درجتك ولا ننكر فضل أصولك وأجدادك وفروعك وأولادك.
وترين ـ من الرأي
ـ بمعنى الاعتقاد .
وقولها صلوات الله
عليها : سبحان الله! ما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله عن كتاب الله صادفا ، ولا لأحكامه مخالفا ، بل كان يتبع
أثره ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ..؟!.
الصادف عن الشيء :
المعرض عنه .
والأثر ـ بالتحريك
وبالكسر ـ : أثر القدم .
والقفو : الاتباع .
والسور ـ بالضم ـ كل
مرتفع عال ، ومنه سور المدينة ، ويكون جمع سورة ، وهي كل منزلة من البناء ومنه سورة
القرآن ، لأنها منزلة بعد منزلة ،
__________________
وتجمع على : سور ـ بفتح
الواو ـ. وفي العبارة يحتملها ، والضمائر المجرورة تعود إلى الله تعالى أو إلى كتابه ،
والثاني أظهر.
والاعتلال : إبداء
العلة والاعتذار .
والزور : الكذب .
وهذا بعد وفاته
شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ..
البغي : الطلب .
والغوائل :
المهالك والدواهي ، أشارت عليهاالسلام بذلك إلى ما دبروا ـ لعنهم الله ـ في إهلاك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واستئصال أهل بيته عليهمالسلام في العقبتين وغيرهما مما أوردناه في هذا الكتاب متفرقا .
هذا كتاب الله
حكما عدلا ، وناطقا فصلا ، يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) و ( وَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ ) فبين عز وجل فيما وزع عليه من
__________________
الأقساط ، وشرع من
الفرائض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والإناث ، ما أزاح علة المبطلين ، وأزال
التظني والشبهات في الغابرين ، كلا ( بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما
تَصِفُونَ ) .
أقول
: سيأتي الكلام في
مواريث الأنبياء في باب المطاعن ـ إن شاء الله تعالى ـ.
والتوزيع :
التقسيم .
والقسط ـ بالكسر ـ
الحصة والنصيب .
والإزاحة :
الإذهاب والإبعاد .
والتظني : إعمال
الظن ، وأصله : التظنن .
والغابر : الباقي .
وقد يطلق على
الماضي .
والتسويل : تحسين
ما ليس بحسن وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله ، وقيل : هو
تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه.
( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ). أي فصبري جميل ،
أو الصبر الجميل أولى من الجزع الذي لا يغني شيئا ، وقيل : إنما يكون الصبر جميلا
إذا قصد به وجه الله تعالى ، وفعل للوجه الذي وجب ، ذكره السيد المرتضى رضياللهعنه ، وخطابك ـ في قول أبي
__________________
بكر ـ من المصدر
المضاف إلى الفاعل ـ ومراده بما تقلدوا ما أخذ فدك أو الخلافة .. أي أخذت الخلافة بقول المسلمين واتفاقهم
فلزمني القيام بحدودها التي من جملتها أخذ فدك ، للحديث المذكور.
والمكابرة :
المغالبة .
والاستبداد :
الاستئثار . والانفراد بالشيء .
قولها صلوات الله
عليها : معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، ( أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى
قُلُوبٍ أَقْفالُها ) .
( كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ) ، ما أسأتم من
أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء به ما أشرتم ، وشر ما
منه اعتضتم ..
القيل : بمعنى
القول وكذا القال .
وقيل : القول في
الخير ، والقيل والقال في الشر.
وقيل : القول مصدر
والقيل والقال اسمان له .
والإغضاء : إدناء
الجفون ، وأغضى على الشيء أي سكت ورضي به ،
وروي عن الصادق والكاظم عليهماالسلام في الآية أن المعنى ( أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ
__________________
الْقُرْآنَ
) فيقضوا بما عليهم من الحق .
وتنكير القلوب
لإرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم.
والرين : الطبع ،
والتغطية وأصله : الغلبة .
والتأول والتأويل
: التصيير والإرجاع ونقل الشيء عن موضعه ، ومنه تأويل الألفاظ .. أي نقل اللفظ عن
الظاهر .
والإشارة : الأمر
بأحسن الوجوه في أمر .
وشر ـ كفر ـ بمعنى
ساء .
والاعتياض : أخذ
العوض والرضا به ، والمعنى ساء ما أخذتم منه عوضا عما تركتم.
لتجدن والله محمله
ثقيلا ، وغبه وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء ، وبدا لكم من ربكم
ما لم تكونوا تحتسبون ، ( وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ ).
المحمل ـ كمجلس ـ مصدر.
والغب ـ بالكسر ـ :
العاقبة .
والوبال ـ في
الأصل ـ : الثقل والمكروه ، ويراد به في عرف الشرع : عذاب
__________________
الآخرة ، والعذاب الوبيل
: الشديد .
والضراء ـ بالفتح
والتخفيف ـ : الشجر الملتف ـ كما مر ـ يقال : توارى الصيد مني في ضراء .
والوراء : يكون
بمعنى قدام كما يكون بمعنى خلف وبالأول فسر قوله تعالى : ( وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) ويحتمل أن تكون الهاء زيدت من النساخ أو الهمزة ، فيكون على الأخير بتشديد الراء
من قولهم : ورى الشيء تورية .. أي أخفاه ، وعلى التقادير فالمعنى : وظهر لكم ما ستره عنكم الضراء.
وبدا لكم من ربكم
ما لم تكونوا تحتسبون .. : أي ظهر لكم من صنوف العذاب ما لم تكونوا تنتظرونه ، ولا تظنونه واصلا
إليكم ، ولم يكن في حسبانكم.
والمبطل : صاحب
الباطل من أبطل الرجل إذا أتى بالباطل .
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت شاهدها
لم يكبر الخطب.
|
إنا فقدناك فقد
الأرض وابلها
|
|
واختل قومك
فاشهدهم فقد نكبوا
|
__________________
في الكشف : ثم
التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة أثاثة .. ثم ذكر الأبيات.
وقال في النهاية :
الهنبثة واحدة الهنابث وهي الأمور الشداد المختلفة ، والهنبثة : الاختلاط في القول
والنون زائدة ، وذكر فيه : أن فاطمة (ع) قالت بعد موت النبي صلى الله
عليه [ وآله ] : قد كان بعدك أنباء .. إلى آخر البيتين ، إلا أنه قال :
فاشهدهم ولا تغب .
والشهود : الحظور .
والخطب ـ بالفتح ـ
: الأمر الذي تقع فيه المخاطبة ، والشأن والحال .
والوابل : المطر
الشديد .
ونكب فلان عن
الطريق كنصر ـ وفرح ـ أي .. عدل ومال .
وكل أهل له قربى
ومنزلة
|
|
عند الإله على
الأدنين مقترب
|
القربى ـ في الأصل
ـ القرابة في الرحم .
والمنزلة :
المرتبة والدرجة ولا تجمع .
__________________
والأدنين : هم
الأقربون ، واقترب أي تقارب .
وقال في مجمع
البيان : في اقترب زيادة مبالغة على قرب ، كما أن في اقتدر زيادة
مبالغة على قدر.
ويمكن تصحيح تركيب
البيت وتأويل معناه على وجوه :
الأول
: وهو الأظهر ، أن
جملة ( له قربى ) صفة لأهل ، والتنوين في ( منزلة ) للتعظيم ، والظرفان متعلقان
بالمنزلة لما فيها من معنى الزيادة والرجحان ، و ( مقترب ) خبر لكل ، أي ذو القرب
الحقيقي ، أو عند ذي الأهل ، كل أهل كانت له مزية وزيادة على غيره من الأقربين عند
الله تعالى.
والثاني
: تعلق الظرفين
بقولها : ( مقترب ) ، أي كل أهل له قرب ومنزلة من ذي الأهل ، فهو عند الله تعالى
مقترب مفضل على سائر الأدنين.
والثالث
: تعلق الظرف الأول
ب ( المنزلة ) والثاني ( بالمقترب ) ، أي كل أهل اتصف بالقربى بالرجل وبالمنزلة
عند الله ، فهو مفضل على من هو أبعد منه.
والرابع
: أن يكون جملة : (
له قربى ) خبرا للكل ، ( ومقترب ) خبرا ثانيا ، وفي الظرفين يجري الاحتمالات
السابقة ، والمعنى أن كل أهل نبي من الأنبياء له قرب ومنزلة عند الله ، ومفضل على
سائر الأقارب عند الأمة.
أبدت رجال لنا
نجوى صدورهم
|
|
لما مضيت وحالت
دونك الترب
|
بدا الأمر بدوا :
ظهر ، وأبداه أظهره .
والنجوى : الاسم
من نجوته إذا ساورته ، ونجوى صدورهم : ما أضمروه في نفوسهم من العداوة ولم
يتمكنوا من إظهاره في حياته صلى الله عليه
__________________
وآله ، وفي بعض
النسخ : فحوى صدورهم ، وفحوى القول : معناه ، والمآل واحد.
وقال الفيروزآبادي
: الترب والتراب والتربة .. معروف ، وجمع التراب :
أتربة وتربان ، ولم يسمع لسائرها بجمع ، انتهى . فيمكن أن يكون بصيغة المفرد ، والتأنيث بتأويل الأرض كما
قيل ، والأظهر أنه ـ بضم التاء وفتح الراء جمع تربة ، قال في مصباح اللغة : التربة
: المقبرة ، والجمع ترب مثل غرفة وغرف .
وحال الشيء بيني
وبينك .. أي منعني من الوصول إليك .
ودون الشيء : قريب
منه ، يقال : دون النهر جماعة .. أي قبل أن تصل إليه.
والتهجم :
الاستقبال بالوجه الكريه .
__________________
والمغتصب ـ على
بناء المفعول ـ المغصوب .
والمحتجب ـ على
بناء الفاعل ـ.
وصادفه : وجده
ولقيه .
والكثب ـ بضمتين ـ
: جمع كثيب وهو التل من الرمل .
والرزء ـ بالضم
مهموزا : المصيبة بفقد الأعزة . ورزئنا ـ على بناء
المجهول ـ.
والشجن ـ بالتحريك
ـ : الحزن .
وفي القاموس :
العجم ـ بالضم وبالتحريك ـ خلاف العرب .
قوله : ثم انكفأت
..
أقول
:وجدت في نسخة
قديمة لكشف الغمة منقولة من خط المصنف مكتوبا على هامشها بعد إيراد خطبتها صلوات
الله عليها ما هذا لفظه : وجد بخط السيد المرتضى علم الهدى الموسوي قدس الله روحه
أنه لما خرجت فاطمة عليهاالسلام من عند أبي بكر ـ حين ردها عن فدك ـ استقبلها أمير
المؤمنين عليهالسلام فجعلت تعنفه ، ثم قالت : اشتملت .. إلى آخر كلامها عليهاالسلام.
والانكفاء :
الرجوع .
وتوقعت الشيء
واستوقعته .. أي انتظرت وقوعه .
__________________
وطلعت على القوم :
أتيتهم ، وتطلع الطلوع : انتظاره.
فلما استقرت بها
الدار .. أي سكنت كأنها اضطربت وتحركت بخروجها ، أو على سبيل القلب ، وهذا
شائع ، يقال : استقرت نوى القوم واستقرت بهم النوى .. أي أقاموا .
اشتملت شملة
الجنين وقعدت حجرة الظنين ..
اشتمل بالثوب ..
أي أداره على جسده كله ، والشملة ـ بالفتح ـ كساء يشتمل به ، والشملة ـ بالكسر ـ هيئة
الاشتمال ، فالشملة إما مفعول مطلق من غير الباب كقوله تعالى : ( نَباتاً ) أو في الكلام حذف
وإيصال.
وفي رواية السيد :
مشيمة الجنين .. وهي محل الولد في الرحم ، ولعله أظهر.
والجنين : الولد
ما دام في البطن .
والحجرة ـ بالضم ـ
حظيرة الإبل ، ومنه حجرة الدار .
والظنين : المتهم ، والمعنى اختفيت
عن الناس كالجنين ، وقعدت عن طلب الحق ، ونزلت منزلة الخائف المتهم.
وفي رواية السيد :
الحجزة. ـ بالزاء المعجمة ـ ، وفي بعض النسخ : قعدت
__________________
حجزة الظنين، وقال
في النهاية : الحجزة : موضع شد الإزار ، ثم قيل للإزار :
حجزة للمجاورة ، وفي القاموس : الحجزة ـ بالضم ـ معقد الإزار .. ومن الفرس مركب مؤخر
الصفاق بالحقو ، وقال : شدة الحجزة : كناية عن الصبر.
نقضت قادمة الأجدل
فخانك ريش الأعزل.
قوادم الطير :
مقاديم ريشه وهي عشر في كل جناح ، واحدتها قادمة .
والأجدل : الصقر .
والأعزل : الذي لا
سلاح معه .
قيل : لعلها صلوات
الله عليها شبهت الصقر الذي نقضت قوادمه بمن لا سلاح له ، والمعنى تركت طلب
الخلافة في أول الأمر قبل أن يتمكنوا منها ويشيدوا أركانها ، وظننت أن الناس لا
يرون غيرك أهلا للخلافة ، ولا يقدمون عليك أحدا ، فكنت كمن يتوقع الطيران من صقر
منقوضة القوادم.
أقول
: ويحتمل أن يكون
المراد أنك نازلت الأبطال ، وخضت الأهوال ، ولم تبال بكثرة الرجال حتى نقضت شوكتهم
، واليوم غلبت من هؤلاء الضعفاء والأرذال ، وسلمت لهم الأمر ولا تنازعهم ، وعلى
هذا ، الأظهر أنه كان في الأصل : خاتك ـ بالتاء المثناة الفوقانية ـ فصحف ، قال
الجوهري : خات البازي واختات أي انقض .. ليأخذه ، وقال الشاعر :
يخوتون أخرى
القوم خوت الأجادل
|
|
...................
|
__________________
والخائتة : العقاب
إذا انقضت فسمعت صوت انقضاضها ، والخوات ..
دوي جناح العقاب .. والخوات ـ بالتشديد ـ الرجل الجري ، وفي رواية
السيد : نفضت. ـ بالفاء ـ وهو يؤيد المعنى
الأول.
هذا ابن أبي قحافة
يبتزني نحيلة أبي ، وبلغة ابني ، لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألد في كلامي ...
قحافة ـ بضم القاف
وتخفيف المهملة ـ.
والابتزاز :
الاستلاب ، وأخذ الشيء بقهر وغلبة من البز بمعنى السلب .
والنحيلة ـ فعيلة
بمعنى مفعول ـ من النحلة ـ بالكسر ـ بمعنى الهبة والعطية عن طيبة
نفس من غير مطالبة أو من غير عوض .
والبلغة ـ بالضم ـ
ما يتبلغ به من العيش ويكتفى به ، وفي أكثر النسخ : بليغة ـ بالتصغير ـ فالتصغير في
النحيلة أيضا أنسب.
وابني إما بتخفيف
الياء فالمراد به الجنس ، أو تشديدها على التثنية.
وإظهار الشيء :
إعلانه .
__________________
والخصام ـ مصدر ـ كالمخاصمة
، ويحتمل أن يكون جمع خصم أي أجهر العداوة أو الكلام لي بين الخصام ، والأول أظهر.
وألفيته .. أي
وجدته .
والألد : شديد
الخصومة ، وليس فعلا ماضيا ، فإن فعله على بناء المجرد ، والإضافة
في ( كلامي ) إما من قبيل الإضافة إلى المخاطب أو إلى المتكلم ، وفي :
للظرفية أو السببية.
وفي رواية السيد :
هذا بني أبي قحافة .. إلى قوله : لقد أجهد في ظلامتي وألد في خصامتي.
قال الجزري : يقال
جهد الرجل في الأمر : إذا جد وبالغ فيه ، وأجهد دابته : إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها .
حتى حبستني قيلة
نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ..
قيلة ـ بالفتح ـ اسم
أم قديمة لقبيلتي الأنصار ، والمراد : بنو قيلة.
وفي رواية السيد :
حين منعتني الأنصار نصرها ... وموصوف المهاجرة :
الطائفة أو نحوها ، والمراد بوصلها : عونها.
والطرف ـ بالفتح ـ
العين .
__________________
وغضه : خفضه .
وفي رواية السيد ـ
بعد قولها : ولا مانع ـ : ولا ناصر ولا شافع.
خرجت كاظمة وعدت
راغمة ..
كظم الغيظ : تجرعه
والصبر عليه .
ورغم فلان ـ بالفتح
ـ : إذا ذل ، وعجز عن الانتصاف ممن ظلمه ، والظاهر من
الخروج : الخروج من البيت وهو لا يناسب كاظمة ، إلا أن يراد بها الامتلاء من الغيظ
فإنه من لوازم الكظم ، ويحتمل أن يكون المراد الخروج من المسجد المعبر عنه ثانيا
بالعود ، كما قيل.
و في رواية السيد
مكان عدت : رجعت.
أضرعت خدك يوم
أضعت حدك ، افترست الذئاب ، وافترشت التراب .. :
ضرع الرجل ـ مثلثة
ـ خضع وذل وأضرعه غيره ، وإسناد الضراعة إلى الخذلان أظهر أفرادها وضع الخد على
التراب ، أو لأن الذل يظهر في الوجه.
وإضاعة الشيء
وتضييعه : إهماله وإهلاكه .
وحد الرجل ـ بالحاء
المهملة ـ : بأسه وبطشه ، وفي بعض النسخ
__________________
بالجيم .. أي تركت
اهتمامك وسعيك.
وفي رواية السيد :
فقد أضعت جدك يوم أصرعت خدك.
وفرس الأسد فريسته
ـ كضرب ـ وافترسها : دق عنقها ، ويستعمل في كل قتل ، ويمكن أن يقرأ
بصيغة الغائب ، فالذئاب مرفوع ، والمعنى : قعدت عن طلب الخلافة ولزمت الأرض مع أنك
أسد الله ، والخلافة كانت فريستك حتى افترسها وأخذها الذئب الغاصب
لها ، ويحتمل أن يكون بصيغة الخطاب .. أي كنت تفترس الذئاب واليوم افترشت التراب ،
وفي بعض النسخ : الذباب ـ بالباءين الموحدتين ـ جمع ذبابة ، فيتعين الأول ،
وفي بعضها : افترست الذئاب وافترستك الذئاب.
وفي رواية السيد
مكانهما : وتوسدت الوراء كالوزغ ومستك الهناة والنزغ ..
والوراء بمعنى خلف
.
والهناة : الشدة
والفتنة .
والنزغ : الطعن والفساد .
ما كففت قائلا ،
ولا أغنيت باطلا ولا خيار لي ، ليتني مت قبل هينتي ودون
__________________
زلتي.
الكف : المنع .
والإغناء : الصرف
والكف ، يقال : أغن عني شرك .. أي أصرفه وكفه ، وبه فسر قوله سبحانه : ( إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) .
وفي رواية السيد :
ولا أغنيت طائلا .. وهو أظهر ، قال الجوهري : يقال :
هذا أمر لا طائل فيه ، إذا لم يكن فيه غناء ومزية . فالمراد بالغناء
: النفع ، ويقال : ما يغني عنك هذا .. أي ما يجديك وما ينفعك .
والهينة ـ بالفتح
ـ : العادة في الرفق والسكون ، ويقال : امش على هينتك .. أي على رسلك ، أي ليتني مت
قبل هذا اليوم الذي لا بد لي من الصبر على ظلمهم ، ولا محيص لي عن الرفق.
والزلة ـ بفتح
الزاي ـ كما في النسخ : الاسم من قولك : زللت في طين أو منطق : إذا زلقت ، ويكون بمعنى
السقطة ، والمراد بها عدم القدرة على دفع الظلم ، ولو كانت الكلمة
بالذال المعجمة كان أظهر وأوضح ، كما في رواية السيد ،
__________________
فإن فيها :
وا لهفتاه! ليتني مت قبل
ذلتي ، ودون هينتي ، عذيري الله منك عاديا ، ومنك حاميا ..
العذير : بمعنى
العاذر كالسميع ، أو بمعنى العذر كالأليم.
وقولها : منك ..
أي من أجل الإساءة إليك وإيذائك.
وعذيري الله ..
مرفوعان بالابتدائية والخبرية.
وعاديا .. إما من
قولهم : عدوت فلانا عن الأمر .. أي صرفته عنه ، أو من العدوان بمعنى تجاوز الحد ، وهو حال عن
ضمير المخاطب .. أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني ، أو حال
تجاوزك الحد في القعود عن نصري .. أي عذري
في سوء الأدب أنك قصرت في
إعانتي والذب عني ، والحماية عن الرجل :
الدفع عنه ، ويحتمل أن يكون عذيري منصوبا ـ كما هو الشائع في هذه الكلمة ـ ، و ( الله ) مجرورا بالقسم ،
يقال : عذيرك من فلان .. أي هات من يعذرك
فيه ، ومنه قول أمير المؤمنين عليه السلام حين نظر إلى ابن ملجم لعنه الله :عذيرك من خليلك من مراد .. ،
__________________
والأول أظهر.
ويلاي في كل شارق
، مات العمد ، ووهت العضد ، شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربي اللهم أنت أشد قوة وحولا
، وأحد بأسا وتنكيلا ..
قال الجوهري : ويل
: كلمة مثل : ويح ، إلا أنها كلمة عذاب يقال : ويله وويلك وويلي ، وفي الندبة
ويلاه . ولعله جمع فيها بين ألف الندبة وياء المتكلم ، ويحتمل أن يكون بصيغة التثنية
فيكون مبتدأ والظرف خبره ، والمراد به تكرر الويل.
وفي رواية السيد :
ويلاه في كل شارق ، ويلاه في كل غارب ، ويلاه! مات العمد وذل العضد .. إلى قولها عليهاالسلام : اللهم أنت أشد قوة وبطشا.
والشارق : الشمس
.. أي عند كل شروق وطلوع صباح كل يوم. قال الجوهري : الشرق : المشرق
، والشرق : الشمس ، يقال طلع الشرق ولا آتيك ما ذر شارق .. وشرقت الشمس تشرق شروقا
وشرقا ـ أيضا ـ أي طلعت ، وأشرقت أي .. أضاءت.
والعمد ـ بالتحريك
وبضمتين ـ : جمع العمود ، ولعل المراد هنا ما يعتمد
__________________
عليه في الأمور.
والشكوى : الاسم
من قولك : شكوت فلانا شكاية .
والعدوى : طلبك
إلى وال لينتقم لك ممن ظلمك .
والحول : القوة
والحيلة والدفع والمنع ، والكل هنا محتمل.
والبأس : العذاب .
والتنكيل :
العقوبة ، وجعل الرجل نكالا وعبرة لغيره .
الويل لشانئك ..
أي العذاب ، والشر لمبغضك ، والشناءة :
البغض .
وفي رواية السيد :
لمن أحزنك.
ونهنهت الرجل عن
الشيء فتنهنه .. أي كففته وزجرته فكف .
والوجد : الغضب . أي امنع نفسك عن
غضبك.
وفي بعض النسخ :
تنهنهي ، وهو أظهر.
__________________
والصفوة ـ مثلثة ـ
خلاصة الشيء وخياره .
والونى ـ كفتى ـ الضعف
والفتور والكلال ، والفعل ـ كوقى يقي .. أي ما عجزت عن القيام بما أمرني به ربي وما تركت ما دخل
تحت قدرتي.
والبلغة ـ بالضم ـ
ما يتبلغ به من العيش .
والضامن والكفيل
للرزق هو الله تعالى ، وما أعد لها هو ثواب الآخرة.
والاحتساب :
الاعتداد ، ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى :
احتسبه .. أي اصبري وادخري ثوابه عند الله تعالى.
وفي رواية السيد :
فقال لها أمير المؤمنين عليهالسلام : لا ويل لك بل الويل لمن أحزنك ، نهنهي عن وجدك يا بنية
الصفوة ، وبقية النبوة ، فما ونيت عن حظك ، ولا أخطأت فقد ترين مقدرتي ، فإن ترزئي حقك
فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما عند الله خير لك مما قطع عنك.
فرفعت يدها
الكريمة فقالت : رضيت وسلمت.
قال في القاموس :
رزأه ماله كجعله وعمله رزأ ـ بالضم ـ : أصاب منه شيئا. .
أقول
: روى الشيخ كلامها الأخير مع
جوابه قريبا مما رواه السيد ،
__________________
ولنذكره بسنده :
٩ ـ قال : أخبرنا
محمد بن أحمد بن شاذان ، عن محمد بن علي بن المفضل ، عن محمد بن علي بن معمر ، عن محمد بن
الحسين الزيات ، عن أحمد بن محمد ، عن أبان بن عثمان ، عن أبان بن
تغلب ، عن جعفر بن محمد عليهماالسلام قال :
لما انصرفت فاطمة عليهاالسلام من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين عليهالسلام.
فقالت له : يا ابن أبي
طالب! اشتملت مشيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش
الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحيلة أبي وبليغة ابني ، والله لقد أجد في
ظلامتي ، وألد في خصامي ، حتى منعتني قيلة نصرها ، والمهاجرة
وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا مانع ولا دافع ، خرجت ـ والله ـ كاظمة ،
وعدت راغمة ، وليتني لا خيار لي ، ليتني مت قبل ذلك مت قبل ذلتي! وتوفيت قبل منيتي! عذيري فيك الله حاميا ، ومنك عاديا ،
ويلاه في كل شارق! ويلاه! مات المعتمد ووهن العضد! شكواي إلى ربي ، وعدواي إلى أبي
، اللهم أنت أشد قوة.
__________________
فأجابها أمير
المؤمنين عليهالسلام : لا ويل لك ، بل الويل لشانئك ، نهنهي من غربك يا بنت الصفوة
وبقية النبوة ، فو الله ما ونيت في ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت ترزءين
البلغة فرزقك مضمون ، ولعيلتك مأمون ، وما أعد لك خير مما قطع عنك ، فاحتسبي.
فقالت : حسبي الله
( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ).
ولندفع الإشكال
الذي قلما لا يخطر بالبال عند سماع هذا الجواب والسؤال ، وهو :
أن اعتراض فاطمة عليهاالسلام على أمير المؤمنين عليهالسلام في ترك التعرض للخلافة ، وعدم نصرتها ، وتخطئته فيهما ـ مع
علمها بإمامته ، ووجوب اتباعه وعصمته ، وأنه لم يفعل شيئا إلا بأمره تعالى ووصية
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مما ينافي عصمتها وجلالتها.
فأقول
: يمكن أن يجاب عنه
: بأن هذه الكلمات صدرت منها عليهاالسلام لبعض المصالح ، ولم تكن واقعا منكرة لما فعله ، بل كانت
راضية ، وإنما كان غرضها أن يتبين للناس قبح أعمالهم وشناعة أفعالهم ، وأن سكوته عليهالسلام ليس لرضاه بما أتوا به.
ومثل هذا كثيرا ما
يقع في العادات والمحاورات ، كما أن ملكا يعاتب بعض خواصه في أمر بعض الرعايا ، مع
علمه ببراءته من جنايتهم ، ليظهر لهم عظم جرمهم ، وأنه مما استوجب به أخص الناس
بالملك منه المعاتبة.
ونظير ذلك ما فعله
موسى عليهالسلام ـ لما رجع ( إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً ) من إلقائه الألواح ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ـ ولم يكن
غرضه الإنكار على هارون ، بل أراد بذلك أن يعرف القوم عظم جنايتهم ، وشدة جرمهم ،
كما مر الكلام فيه .
__________________
وأما حمله على أن
شدة الغضب والأسف والغيظ حملتها على ذلك ـ مع علمها بحقية ما ارتكبه عليهالسلام ـ فلا ينفع في دفع الفساد ، وينافي عصمتها وجلالتها التي عجزت عن إدراكها
أحلام العباد.
بقي هاهنا إشكال
آخر ، وهو :
أن طلب الحق
والمبالغة فيه وإن لم يكن منافيا للعصمة ، لكن زهدها صلوات الله عليها ، وتركها
للدنيا ، وعدم اعتدادها بنعيمها ولذاتها ، وكمال عرفانها ويقينها بفناء الدنيا ،
وتوجه نفسها القدسية ، وانصراف همتها العالية دائما إلى اللذات المعنوية والدرجات
الأخروية ، لا تناسب مثل هذا الاهتمام في أمر فدك ، والخروج إلى مجمع الناس ،
والمنازعة مع المنافقين في تحصيله.
والجواب عنه من
وجهين :
الأول
: أن ذلك لم يكن
حقا مخصوصا لها ، بل كان أولادها البررة الكرام مشاركين لها فيه ، فلم يكن يجوز
لها المداهنة والمساهلة والمحاباة وعدم المبالاة في ذلك ، ليصير سببا لتضييع حقوق
جماعة من الأئمة الأعلام والأشراف الكرام نعم لو كان مختصا بها كان لها تركه
والزهد فيه وعدم التأثر من فوته.
الثاني
: أن تلك الأمور لم تكن لمحبة فدك وحب الدنيا ، بل كان
الغرض إظهار ظلمهم وجورهم وكفرهم ونفاقهم ، وهذا كان من أهم أمور الدين وأعظم
الحقوق على المسلمين.
ويؤيده أنها صلوات
الله عليها صرحت في آخر الكلام حيث قالت : قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة ..
وكفى بهذه الخطبة
بينة على كفرهم ونفاقهم.
ونشيد ذلك بإيراد
رواية بعض المخالفين في ذلك :
١٠ ـ روى ابن أبي
الحديد ـ في سياق أخبار فدك ـ عن أحمد بن
__________________
عبد العزيز
الجوهري :
أن أبا بكر لما
سمع خطبة فاطمة عليهاالسلام في فدك شق عليه مقالتها ،
فصعد المنبر فقال : أيها الناس! ما هذه
الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني
في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ألا من سمع فليقل ، ومن شهد
فليتكلم ، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مرب
بكل فتنة ، هو الذي يقول : كروها جذعة بعد ما هرمت ، تستعينون بالضعفة وتستنصرون بالنساء ، كأم
طحال
أحب أهلها إليها البغي. ألا إني لو أشاء
أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إني
ساكت ما تركت.
ثم التفت إلى
الأنصار فقال : قد بلغني يا معاشر الأنصار مقالة سفهائكم ، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا وإني لست باسطا يدا ولسانا على من لم يستحق ذلك منا .. ثم نزل.
فانصرفت فاطمة عليهاالسلام إلى منزلها.
ثم قال ابن أبي
الحديد : قرأت هذا الكلام على النقيب يحيى بن أبي زيد البصري.
فقلت له : بمن يعرض؟.
فقال : بل يصرح.
قلت : لو صرح لم
أسألك؟.
__________________
فضحك وقال : بعلي
بن أبي طالب عليهالسلام.
قلت : أهذا الكلام
كله لعلي عليهالسلام؟!.
قال : نعم إنه الملك
يا بني!.
قلت : فما مقالة
الأنصار؟.
قال : هتفوا بذكر
علي فخاف من اضطراب الأمر عليه فنهاهم.
فسألته عن غريبه.
فقال : ما هذه
الرعة ـ بالتخفيف ـ أي : الاستماع والإصغاء .
والقالة : القول .
وثعالة : اسم
للثعلب علم غير مصروف ، مثل ذؤالة للذئب.
وشهيده ذنبه .. أي
: لا شاهد على ما يدعي إلا بعضه وجزء منه ، وأصله مثل ، قالوا : إن الثعلب أراد أن
يغري الأسد بالذئب ، فقال : إنه أكل الشاة التي أعددتها لنفسك ، قال : فمن يشهد لك
بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم ، وكان
__________________
الأسد قد افتقد
الشاة ، فقبل شهادته وقتل الذئب.
ومرب : ملازم ،
أرب ، لازم بالمكان.
وكروها جذعة :
أعيدوها إلى الحال الأولى ، يعني : الفتنة والهرج.
وأم طحال : امرأة
بغي في الجاهلية ، فضرب بها المثل ، يقال : أزنى من أم طحال ، انتهى.
أقول
: الرعة ـ بالراء ـ
كما في نسخ الشرح ، بمعنى : الاستماع ، لم نجده في كلام اللغويين ، ويمكن أن يكون
بالدال المهملة بمعنى السكون ، ويكون الغلط من النساخ ، ويكون تفسير النقيب بيانا لحاصل
المعنى.
١١ ـ وروى أيضا عن أحمد بن
عبد العزيز الجوهري ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه قال :
قالت فاطمة عليهاالسلام لأبي بكر : إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطاني فدك.
فقال لها : يا بنت
رسول الله ، والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه أبيك ،
ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، والله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من
أن تفتقري ، أتراني أعطي الأسود والأحمر حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! إن هذا المال لم يكن
__________________
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما كان من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله
، فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وليته كما كان يليه.
قالت : والله لا
كلمتك أبدا.
قال : والله لا
هجرتك أبدا.
قالت : والله
لأدعون الله عليك.
قال : والله
لأدعون الله لك.
فلما حضرتها
الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها ، فدفنت ليلا ، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ،
وكان بين وفاتها ووفاة أبيها اثنتان وسبعون ليلة.
ومن رواياتهم
الصحيحة الصريحة في أنها صلوات الله عليها استمرت على
الغضب حتى ماتت :ما رواه مسلم وأبو داود في صحاحهما ،
وأورده في جامع الأصول في الفصل الثالث من كتاب المواريث في حرف الفاء ، عن عائشة
قالت :
إن فاطمة (ع) بنت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله (ص) أن يقسم لها
ميراثها مما ترك رسول الله (ص) مما أفاء الله عليه.
فقال لها أبو بكر : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة.
__________________
فغضبت فاطمة
فهجرته ، فلم تزل بذلك حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ستة أشهر إلا ليالي.
وكانت تسأله أن
يقسم لها نصيبها مما ( أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ) من خيبر وفدك ، ومن صدقته بالمدينة.
فقال أبو بكر :
لست بالذي أقسم من ذلك ، ولست تاركا شيئا كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يعمل به فيها إلا عملته ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
ثم فعل ذلك عمر ،
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس ، وأمسك خيبر وفدك ، وقال : هما
صدقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانتا لحقوقه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر.
قال : فهما على
ذلك إلى اليوم.
وقال في جامع
الأصول : أخرجه مسلم ، ولم يخرج منه البخاري إلا
قوله : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة. ولقلة
ما أخرج منه لم تعلم له علامة ، وأخرج
أبو داود نحو مسلم ، انتهى.
تبيين
: اعلم أن المخالفين في صحاحهم رووا أخبارا كثيرة : في أن
من خالف الإمام ، وخرج من طاعته ، وفارق الجماعة ، ولم يعرف إمام زمانه مات
__________________
ميتة جاهلية .
روى في جامع
الأصول من صحيح مسلم والنسائي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله
] : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية.
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما [
صحيحيهما ] ، وروى في جامع الأصول أيضا عنهما ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] : من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من طاعة السلطان شبرا مات
ميتة جاهلية.
وفي رواية أخرى : فليصبر عليه ،
فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية.
__________________
وروى مسلم في
صحيحه وذكره في جامع الأصول أيضا ، عن نافع قال : لما خلعوا يزيد واجتمعوا على ابن
مطيع أتاه ابن عمر ، فقال عبد الله :
اطرحوا لأبي عبد الرحمن
وسادة ، فقال له عبد الله بن عمر : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، يقول : من خلع يدا من طاعة لقي الله
يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ..
وأما من طرق
أصحابنا فالأخبار فيه أكثر من أن تحصى ، وستأتي في مظانها .
فنقول
: لا أظنك ترتاب
بعد ما أسلفناه من الروايات المنقولة من طريق المخالف والمؤالف في أن فاطمة صلوات
الله عليها كانت ساخطة عليهم ، حاكمة بكفرهم وضلالهم ، غير مذعنة بإمامتهم ولا
مطيعة لهم ، وأنها قد استمرت على تلك الحالة حتى سبقت إلى كرامة الله ورضوانه.
فمن قال بإمامة
أبي بكر لا محيص له عن القول بأن سيدة نساء العالمين ومن طهرها الله في كتابه من
كل رجس ، وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في فضلها ما قال ، قد ماتت ميتة جاهلية! وميتة كفر وضلال
ونفاق!.
ولا أظن ملحدا
وزنديقا رضي بهذا القول الشنيع.
ومن الغرائب أن
المخالفين لما اضطروا وانسدت عليهم الطرق ، لجئوا إلى
__________________
منع دوام سخطها عليهاالسلام على أبي بكر ، مع روايتهم تلك الأخبار في كتبهم المعتبرة.
وروايتهم : أن أمير
المؤمنين عليهالسلام لم يبايع أبا بكر في حياة فاطمة
عليهاالسلام ، ولا بايعه أحد من بني هاشم إلا بعد موتها ، وأنه كان
لعلي عليه السلام وجه في الناس حياة
فاطمة عليهاالسلام ، فلما توفيت انصرفت وجوه الناس عن علي عليهالسلام ، فلما رأى ذلك ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، روى ذلك مسلم في صحيحه ، وذكره في جامع الأصول في الباب الثاني من كتاب الخلافة في حرف
الخاء.
ولا يخفى وهن هذا
القول بعد ملاحظة ما تقدم على ذي مسكة.
__________________
فصل
في الكلام على ما يستفاد من
أخبار الباب
والتنبيه على ما ينتفع به
طالب الحق والصواب
وهو مشتمل على فوائد :
الأولى :
نقول
: لا شك في عصمة
فاطمة عليهاالسلام ، أما عندنا فللإجماع القطعي المتواتر ، والأخبار
المتواترة الآتية في أبواب مناقبها عليهاالسلام ، وأما الحجة على المخالفين فبآية التطهير الدالة على
عصمتها ، وسيأتي إثبات نزول الآية في جماعة كانت داخلة فيهم ، ودلالة الآية على
العصمة في المجلد التاسع ، وبالأخبار المتواترة الدالة على أن إيذاءها إيذاء الرسول
صلوات الله عليهما ، وأن
__________________
الله تعالى يغضب
لغضبها ويرضى لرضاها ، وسيأتي في أبواب فضائلها صلوات الله عليها ، ولنذكر هنا بعض
ما رواه المخالفون في ذلك ، فمنها :
١ ـ ما رواه
البخاري في صحيحه في باب مناقبها عليهاالسلام عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني.
٢ ـ وروى أيضا في أبواب النكاح
عن المسور بن مخرمة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول ـ وهو على المنبر ـ : إن بني هاشم بن المغيرة
استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ، ثم لا
آذن لهم .
إلا أن يريد علي بن أبي
طالب (ع) أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما هي بضعة مني ، يريبني
ما رابها ويؤذيني من آذاها .
٣ ـ وقد روى
الخبرين مسلم في صحيحه ، وروى مسلم والبخاري
__________________
أن رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] قال : إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها .
٤ ـ وروى الترمذي
في صحيحه عن ابن الزبير ، قال : إن عليا (ع) ذكر بنت أبي جهل فبلغ
ذلك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما
أنصبها.
وقد ذكر الروايات
المذكورة ابن الأثير في جامع الأصول ، مع روايات أخرى تؤيدها .
٥ ـ وروى في
المشكاة عن المسور أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] قال :
فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني. قال : وفي رواية : يريبني ما أرابها ويؤذيني ما
آذاها.ثم قال : متفق عليه.
وروى ابن شهرآشوب
في المناقب ، والسيد في الطرائف ، وابن بطريق في العمدة والمستدرك ، وعلي بن عيسى
في كشف الغمة وغيرهم أخبارا كثيرة في هذا المعنى من أصول المخالفين
أوردتها في أبواب فضائلها.
ووجه الاستدلال
بها على عصمتها صلوات الله عليها أنه إذا كانت فاطمة عليهاالسلام ممن تقارف الذنوب وترتكبها لجاز إيذاؤها ، بل إقامة الحد
عليها لو
__________________
فعلت معصية أو ارتكبت ما يوجب
حدا ، ولم يكن رضاها رضى لله سبحانه إذا رضيت بالمعصية ، ولا من سرها في معصية سارا لله
سبحانه ومن أغضبها بمنعها عن ارتكابها مغضبا له جل شأنه.
فإن
قيل : لعل المراد من
آذاها ظلما فقد آذاني ، ومن سرها في طاعة الله فقد سرني .. وأمثال ذلك ، لشيوع
التخصيص في العمومات.
قلنا
: أولا : التخصيص
خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، فمن أراد التخصيص فعليه إقامة الدليل.
وثانيا : أن فاطمة
صلوات الله عليها تكون حينئذ كسائر المسلمين لم تثبت لها خصوصية ومزية في تلك
الأخبار ، ولا كان فيها لها تشريف ومدحة ، وذلك باطل بوجوه :
الأول
: أنه لا معنى
حينئذ لتفريع كون إيذائها إيذاء الرسول على كونها بضعة منه ، كما مر فيما صححه البخاري
ومسلم من الروايات وغيرها.
الثاني
: أن كثيرا من
الأخبار السالفة المتضمنة لإنكاره صلىاللهعليهوآلهوسلم على بني هاشم في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب عليهالسلام أو إنكاح بنت أبي جهل ليس من المشتركات بين المسلمين ، فإن ذلك النكاح كان
مما أباحه الله سبحانه ، بل مما رغب فيه وحث عليه لو لا كونه إيذاء لسيدة النساء ،
وقد علل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عدم الإذن كونها بضعة منه يؤذيه ما آذاها ويريبه ما يريبها
، فظهر بطلان القول بعموم الحكم لكافة المسلمين.
الثالث
: أن القول بذلك
يوجب إلقاء كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلوه عن
__________________
الفائدة ، إذ
مدلوله حينئذ أن بضعته كسائر المسلمين ، ولا يقول ذلك من أوتي حظا من الفهم والفطانة
، أو اتصف بشيء من الإنصاف والأمانة ، وقد أطبق محدثوهم على إيراد تلك الروايات في
باب مناقبها صلوات الله عليها.
فإن
قيل : أقصى ما يدل عليه
الأخبار هو أن إيذاءها إيذاء للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن جوز صدور الذنب عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يأبى عن إيذائه إذا فعل ما يستحق به الإيذاء.
قلنا
: بعد ما مر من
الدلائل على عصمة الأنبياء عليهمالسلام ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ، وقال سبحانه : ( وَما كانَ
لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) ، وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) ، فالقول بجواز إيذائه صلىاللهعليهوآلهوسلم رد لصريح القرآن ، ولا يرضى به أحد من أهل الإيمان.
فإن
قيل : إنما دلت الأخبار
على عدم جواز إيذائها ، وهو إنما ينافي صدور ذنب عنها يمكن للناس الاطلاع عليه حتى
يؤذيها نهيا عن المنكر ، ولا ينافي صدور معصية عنها خفية فلا يدل على عصمتها
مطلقا.
قلنا
: نتمسك في دفع هذا
الاحتمال بالإجماع المركب على أن ما جرى في قصة فدك وصدر عنها من الإنكار على أبي
بكر ، ومجاهرتها بالحكم بكفره وكفر طائفة من الصحابة وفسقهم تصريحا وتلويحا ،
وتظلمها وغضبها على أبي بكر وهجرتها وترك كلامها حتى ماتت لو كانت معصية لكانت من
المعاصي الظاهرة التي قد أعلنت بها على رءوس الأشهاد ، وأي ذنب أظهر وأفحش من مثل
هذا الرد والإنكار على الخليفة المفترض الطاعة على العالمين بزعمهم ، فلا محيص لهم
عن
__________________
القول ببطلان
خلافة خليفتهم العظمى تحرزا عن إسناد هذه المعصية الكبرى إلى سيدة النساء.
ونحتج أيضا في
عصمتها صلوات الله عليها بالأخبار الدالة على وجوب التمسك بأهل البيت عليهمالسلام ، وعدم جواز التخلف عنهم ، وما يقرب من هذا المعنى ، ولا ريب في أن ذلك لا
يكون ثابتا لأحد إلا إذا كان معصوما ، إذ لو كان ممن يصدر عنه الذنوب لما جاز
اتباعه عند ارتكابها ، بل يجب ردعه ومنعه وإيذاؤه ، وإقامة الحد عليه ، وإنكاره
بالقلب واللسان ، وكل ذلك ينافي ما حث عليه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصى به الأمة في شأنهم ، وسيأتي من الأخبار في ذلك ما
يتجاوز حد التواتر ، ولنذكر فيها قليلا مما أورده المخالفون في صحاحهم :
٦ ـ روى في جامع
الأصول عن الترمذي مما رواه في صحيحه عن جابر ابن عبد
الله الأنصاري قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع يوم عرفة ـ وهو على ناقته القصواء ـ يخطب فسمعته
يقول : إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي.
٧ ـ وروى ـ أيضا ـ ، عن
الترمذي ، عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، أحدهما أعظم من
الآخر ، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ،
__________________
وعترتي أهل بيتي
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما!.
٨ ـ وروى في
المشكاة عن أبي ذر أنه قال ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ :
سمعت النبي صلى الله عليه
[ وآله ] يقول : ألا إن مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها
هلك.
٩ ـ وروى في جامع
الأصول والمشكاة من صحيح الترمذي ، عن زيد بن أرقم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لعلي وفاطمة والحسن والحسين : أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم .
١٠ ـ وروى البخاري
ومسلم في صحيحهما [ صحيحيهما ] ، وأحمد في مسنده عن ابن عباس قال
: لما نزل : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قالوا : يا رسول الله! من قرابتك الذين وجب علينا مودتهم؟
، قال : علي وفاطمة وابناهما ... .
__________________
وسيأتي من الأخبار
في ذلك ما يشبعك ويغنيك ، وفيما ذكرنا كفاية للمنصف إن لم يكن يكفيك. :
الثانية :
في بيان ما يدل
على كونها صلوات الله عليها محقة في دعوى فدك ، مع قطع النظر عن عصمتها ، فنقول :
لا ريب على من له أدنى تتبع في
الآثار ، وتنزل قليلا عن درجة التعصب والإنكار في أن أمير المؤمنين صلوات الله
عليه كان يرى فدكا حقا لفاطمة عليهاالسلام ، وقد اعترف بذلك جل أهل الخلاف ، ورووا أنه عليهالسلام شهد لها ، ولذلك تراهم يجيبون تارة بعدم قبول شهادة الزوج ، وتارة بأن أبا
بكر لم يمض شهادة علي عليهالسلام وشهادة أم أيمن لقصورها عن نصاب الشهادة ، وقد ثبت
بالأخبار المتظافرة عند الفريقين أن عليا عليهالسلام لا يفارق الحق والحق لا يفارقه ، بل يدور معه حيث ما دار ،
وقد اعترف ابن أبي الحديد بصحة هذا الخبر .
__________________
١١ ـ وروى ابن
بطريق عن السمعاني في كتاب فضائل الصحابة بإسناده عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
١٢ ـ وروى ابن
شيرويه الديلمي في الفردوس ، بالإسناد عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : رحم الله
عليا ، اللهم أدر الحق معه حيث دار.
وقد روى علي بن
عيسى في كشف الغمة ، وابن شهر آشوب في المناقب ، وابن بطريق في
المستدرك والعمدة ، والعلامة رحمهالله في كشف الحق .. وغيرهم في غيرها أخبارا كثيرة من كتب المخالفين في ذلك
، وسنوردها بأسانيدها في المجلد التاسع .
فهل يشك عاقل في
حقية دعوى كان المدعي فيها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين باتفاق
المخالفين والمؤالفين ، والشاهد لها أمير المؤمنين الذي قال
النبي صلىاللهعليهوآله فيه : إن الحق لا يفارقه ، وإنه الفاروق بين الحق والباطل
، وإن من اتبعه اتبع الحق ومن تركه ترك الحق و .. غير ذلك مما
سيأتي
__________________
في أبواب فضائله
ومناقبه عليهالسلام .
وأما فضائل فاطمة عليهاالسلام فتأتي الأخبار المتواترة من الجانبين في المجلد التاسع والمجلد العاشر .
١٣
ـ وروى في جامع الأصول من صحيح الترمذي ، عن أنس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت
محمد ، وآسية امرأة فرعون.
١٤
ـ وروى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود في صحاحهم على ما رواه في جامع الأصول ـ في حديث طويل ـ قال في آخره : قال النبي صلى الله عليه
وسلم لفاطمة عليهاالسلام : يا فاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو
سيدة نساء الأمة ؟!.
وفي رواية أخرى
رواها البخاري ومسلم : أما ترضين أن تكوني
__________________
سيدة نساء أهل
الجنة؟ وأنك أول أهلي لحوقا بي.
١٥ ـ وروى ابن عبد
البر في الإستيعاب في ترجمة خديجة عليهاالسلام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
خير نساء العالمين أربع :
مريم بنت عمران ، وابنة
مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس :
أنهن أفضل نساء أهل الجنة.
وعن أنس : أنهن
خير نساء العالمين
١٨ ـ وعن ابن عباس
قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ثم قال : أتدرون ما هذا؟
قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل نساء أهل
الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد (ص) ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم
امرأة فرعون .
١٩ ـ وروى في ترجمة فاطمة عليهاالسلام ـ بالإسناد ـ عن عمران بن حصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة رض
الله عنها ـ وهي مريضة فقال لها : كيف تجدينك يا بنية؟ قالت : إني
لوجعة ، وإني ليزيدني أني ما لي طعام آكله ، قال : يا بنية! ألا ترضين أنك سيدة نساء
العالمين؟ فقالت : يا أبه! فأين مريم بنت عمران؟ قال : تلك سيدة نساء عالمها ،
وأنت سيدة نساء عالمك ،
__________________
أما والله لقد
زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة.
٢٠
ـ وقال البخاري في عنوان باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه [ وآله ]
وسلم أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
٢١
ـ وروى من طريق أصحابنا الكراجكي في كنز الفوائد ، عن أبي الحسن
محمد بن أحمد بن شاذان ، عن أبيه ، عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن الصفار ، عن
محمد بن زياد ، عن المفضل بن عمر ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال جدي رسول الله صلىاللهعليهوآله : ملعون ملعون من يظلم بعدي فاطمة ابنتي ويغصبها حقها
ويقتلها ، ثم قال : يا فاطمة! أبشري فلك عند الله مقام محمود تشفعين فيه لمحبيك
وشيعتك فتشفعين ، يا فاطمة! لو أن كل نبي بعثه الله وكل ملك قربه شفعوا في كل مبغض
لك غاصب لك ما أخرجه الله من النار أبدا.
الثالثة :
في أن فدكا كانت
نحلة لفاطمة عليهاالسلام من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
وأن أبا بكر ظلمها بمنعها.
قال أصحابنا رضوان
الله عليهم : كانت فدك مما ( أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ) بعد فتح خيبر ، فكانت خاصة له صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ لم يوجف عليها ب ( خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) ، وقد وهبها
لفاطمة صلوات الله عليها وتصرف فيها وكلاؤها ونوابها ، فلما
__________________
غصب أبو بكر
الخلافة انتزعها ، فجاءته فاطمة عليهاالسلام مستعدية فطالبها بالبينة فجاءت بعلي والحسنين صلوات الله
عليهم وأم أيمن المشهود لها بالجنة ، فرد شهادة أهل البيت عليهمالسلام بجر النفع ، وشهادة أم أيمن بقصورها عن نصاب الشهادة ، ثم
ادعتها على وجه الميراث فرد عليها بما مر وسيأتي ، فغضبت عليه وعلى عمر فهجرتهما ،
وأوصت بدفنها ليلا لئلا يصليا عليها ، فأسخطا بذلك ربهما ورسوله واستحقا أليم
النكال وشديد الوبال ، ثم لما انتهت الإمارة إلى عمر ابن عبد العزيز ردها على بني
فاطمة عليهاالسلام ، ثم انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك ، ثم دفعها السفاح
إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، ثم أخذها المنصور ، ثم أعادها المهدي ، ثم قبضها الهادي
، ثم ردها المأمون لما جاءه رسول بني فاطمة فنصب وكيلا من قبلهم وجلس محاكما
فردها عليهم ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :
أصبح وجه الزمان
قد ضحكا
|
|
برد مأمون هاشما
فدكا
|
__________________
ولنبين خطأ أبي
بكر في تلك القضية مع وضوحها بوجوه :
أما أن فدكا كان
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فمما لا نزاع فيه ، وقد أوردنا من رواياتنا وأخبارنا
لمخالفين ما فيه كفاية ، ونزيده وضوحا بما رواه في :
٢٢
ـ جامع الأصول مما أخرجه من صحيح أبي داود عن عمر قال : إن
أموال بني النضير مما ( أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ) مما لم يوجف المسلمون عليه ب ( خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) ، فكانت لرسول
الله صلى الله عليه [ وآله ] خاصة قرى عرينة وفدك وكذا وكذا .. ينفق على أهله منها نفقة سنتهم ، ثم
يجعل ما بقي في السلاح والكراع عده في سبيل الله ، وتلا : ( ما أَفاءَ
اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) ... الآية .
٢٣
ـ وروى أيضا عن مالك بن أوس قال : كان فيما احتج عمر أن قال :
كانت لرسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] ثلاث صفايا : بنو النضير وخيبر وفدك ..
إلى آخر الخبر.
٢٤
ـ وروى ابن أبي الحديد في شرح كتاب أمير المؤمنين عليهالسلام إلى عثمان بن حنيف ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز
الجوهري ، قال : حدثني أبو إسحاق عن الزهري قال : بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ،
فسألوا رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يحقن دماءهم ويسيرهم ، ففعل ذلك ، فسمع أهل فدك
__________________
فنزلوا على مثل
ذلك ، فكانت للنبي صلىاللهعليهوآله خاصة ، لأنه لم يوجف عليها بخَيْلٍ
وَلا رِكابٍ.
قال : وقال أبو بكر :
وروى محمد بن إسحاق أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فبعثوا
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله يصالحونه على النصف من فدك
، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق أو بعد ما قدم المدينة فقبل ذلك منهم ،
فكانت فدك لرسول الله صلىاللهعليهوآله خاصة لأنه لم يوجف عليها بخَيْلٍ
وَلا رِكابٍ.
قال : وقد روي أنه
صالحهم عليها كلها ، والله أعلم أي الأمرين كان ، انتهى.
وسيأتي اعتراف عمر
بذلك في تنازع علي عليهالسلام والعباس.
وأما أنه وهبها
لفاطمة عليهاالسلام ، فلأنه لا خلاف في أنها صلوات الله عليها ادعت النحلة مع
عصمتها الثابتة بالأدلة المتقدمة ، وشهد له من ثبتت عصمته بالأدلة الماضية والآتية ، والمعصوم لا يدعي
إلا الحق ، ولا يشهد إلا بالحق ، ويدور الحق معه حيثما دار.
وأما أنها كانت في
يدها صلوات الله عليها فلأنها ادعتها بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على وجه الاستحقاق ، وشهد المعصوم بذلك لها ، فإن كانت
الهبة قبل الموت تبطل بموت الواهب ـ كما هو المشهور ـ ثبت القبض ، وإلا فلا حاجة
إليه في إثبات المدعى ، وقد مر من الأخبار الدالة على نحلتها ، وأنها كانت في يدها
عليهاالسلام ما يزيد على كفاية المصنف ، بل يسد طريق إنكار
__________________
المتعسف.
ويدل على أنها
كانت في يدها صلوات الله عليها ما ذكر أمير المؤمنين عليه
السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف حيث قال : بلى
كانت في أيدينا فدك ، من كل ما أظلته السماء ،
فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ،
ونعم الحكم الله.
وأما أن أبا بكر
وعمر أغضبا فاطمة عليهاالسلام ، فقد اتضح بالأخبار المتقدمة.
ثم اعلم أنا لم
نجد أحدا من المخالفين أنكر كون فدك خالصة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته ، ولا أحدا من الأصحاب طعن على أبي بكر بإنكاره ذلك ، إلا ما تفطن
به بعض الأفاضل من الأشارف ، مع أنه يظهر من كثير من أخبار المؤالف والمخالف ذلك ،
وقد تقدم ما رواه ابن أبي الحديد في ذلك عن أحمد ابن عبد العزيز الجوهري وغيرها من
الأخبار ، ولا يخفى أن ذلك يتضمن إنكار الآية وإجماع المسلمين ، إذ القائل بأن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصرف شيئا من غلة فدك وغيرها من الصفايا في بعض مصالح
المسلمين لم يقل بأنها لم تكن لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل قال : بأنه فعل ذلك على وجه التفضل وابتغاء مرضاة
الله تعالى ، وظاهر الحال أنه أنكر ذلك دفعا لصحة النحلة ، فكيف كان يسمع الشهود
على النحلة مع ادعائه أنها كانت من أموال المسلمين.
واعتذر المخالفون
من قبل أبي بكر بوجوه سخيفة ...
الأول
: منع عصمتها صلوات
الله عليها ، وقد تقدمت الدلائل المثبتة لها.
الثاني
: أنه لو سلم عصمتها
فليس للحاكم أن يحكم بمجرد دعواها وإن
__________________
تيقن صدقها.
وأجاب أصحابنا
بالأدلة الدالة على أن الحاكم يحكم بعلمه.
وأيضا اتفقت
الخاصة والعامة على رواية قصة خزيمة بن ثابت وتسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بدعواه ، ولو كان المعصوم كغيره لما جاز للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قبول شاهد واحد والحكم لنفسه ، بل كان يجب عليه الترافع إلى غيره.
وقد روى أصحابنا أن أمير
المؤمنين عليهالسلام خطأ شريحا في طلب البينة منه ، وقال : إن إمام
المسلمين يؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم من ذلك ، وأخذ ما ادعاه من درع طلحة بغير
حكم شريح ، والمخالفون حرفوا هذا الخبر وجعلوه حجة لهم.
واعتذروا بوجوه
أخرى سخيفة لا يخفى على عاقل ـ بعد ما أوردنا في تلك الفصول ـ ضعفها ووهنها ، فلا
نطيل الكلام بذكرها.
الرابعة
: في توضيح بطلان ما ادعاه أبو بكر من
عدم توريث الأنبياء عليهمالسلام
:
استدل أصحابنا على بطلان ذلك بآي من
القرآن :
__________________
الأولى
: قوله تعالى مخبرا
عن زكريا عليهالسلام : ( وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ
وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .
قوله تعالى :
« وَلِيًّا
» أي ولدا يكون أولى
بميراثي ، وليس المراد بالولي من يقوم مقامه ، ولدا كان أو غيره ، لقوله تعالى
حكاية عن زكريا : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً
طَيِّبَةً ) . وقوله : ( رَبِّ لا تَذَرْنِي
فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ) . والقرآن يفسر
بعضه بعضا.
واختلف المفسرون
في أن المراد بالميراث العلم أو المال؟.
فقال ابن عباس
والحسن والضحاك أن المراد به في قوله تعالى : «
يَرِثُنِي
.. » وقوله سبحانه : ( وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ). ميراث المال ، وقال أبو صالح :
المراد به في الموضعين
ميراث النبوة . وقال السدي ومجاهد والشعبي : المراد به في الأول ميراث
المال وفي الثاني ميراث النبوة ، وحكي هذا القول عن ابن عباس والحسن والضحاك ، وحكي عن مجاهد
أنه قال : المراد من الأول العلم ومن الثاني النبوة .
__________________
وأما وجه دلالة
الآية على المراد ، فهو أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا أطلق ولم
يقيد لا يفهم منه إلا الأموال وما في معناها ولا يستعمل في غيرها إلا مجازا ، وكذا
لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلا من ينتقل إليه أمواله وما يضاهيها دون
العلوم وما يشاكلها ، ولا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ وحقيقته إلا لدليل ، فلو لم
يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين لكفى في مطلوبنا ، كيف
والقرائن الدالة على المقصود موجودة في اللفظ؟!.
أما
أولا : فلأن زكريا عليهالسلام اشترط في وارثه أن يكون رضيا ، وإذا حمل الميراث على العلم والنبوة لم يكن
لهذا الاشتراط معنى ، بل كان لغوا عبثا ، لأنه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم
والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا وما هو أعظم منه فلا معنى لاشتراطه ، ألا ترى أنه
لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله مكلفا عاقلا؟!.
وأما
ثانيا : فلأن الخوف من
بني العم ومن يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم ، وكيف يخاف مثل زكريا عليهالسلام من أن يبعث الله تعالى إلى خلقه نبيا يقيمه مقام زكريا ولم يكن أهلا للنبوة
والعلم ، سواء كان من موالي زكريا أو من غيرهم؟ ، على أن زكريا عليهالسلام كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو
الغرض في بعثته.
فإن
قيل : كيف يجوز على مثل
زكريا عليهالسلام الخوف من أن يرث الموالي ماله؟ وهل هذا إلا الضن والبخل؟.
قلنا
: لما علم زكريا عليهالسلام من حال الموالي أنهم من أهل الفساد ، خاف أن ينفقوا أمواله في المعاصي
ويصرفوه في غير الوجوه المحبوبة ، مع أن في وراثتهم ماله كان يقوي فسادهم وفجورهم
، فكان خوفه خوفا من قوة الفساق
__________________
وتمكنهم في سلوك
الطرائق المذمومة ، وانتهاك محارم الله عز وجل ، وليس مثل ذلك من الشح والبخل.
فإن
قيل : كما جاز الخوف
على المال من هذا الوجه جاز الخوف على وراثتهم العلم لئلا يفسدوا به الناس ويضلوهم
، ولا ريب في أن ظهور آثار العلم فيهم كان من دواعي اتباع الناس إياهم وانقيادهم
لهم.
قلنا
: لا يخلو هذا
العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتبا علمية وصحفا حكمية ، لأن ذلك قد يسمى علما
مجازا ، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب وتعيه الصدور ، فإن كان الأول ، فقد
رجع إلى معنى المال وصح أن الأنبياء عليهمالسلام يورثون الأموال ، وكان حاصل خوف زكريا عليهالسلام أنه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعا خاصا من الانتفاع ، فسأل ربه أن
يرزقه الولد حذرا من ذلك ، وإن كان الثاني ، فلا يخلو ـ أيضا ـ من أن يكون هو
العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه إلى الخلق ، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق
لشريعة ولا يجب اطلاع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات .. ونحو
ذلك.
والقسم الأول : لا
يجوز أن يخاف النبي من وصوله إلى بني عمه ـ وهم من جملة أمته المبعوث إليهم لأن
يهديهم ويعلمهم ـ وكان خوفه من ذلك خوفا من غرض البعثة.
والقسم الثاني :
لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ كان أمره بيده ، ويقدر على أن يلقيه إليهم ، ولو صح
الخوف على القسم الأول لجرى ذلك فيه أيضا ، فتأمل.
هذا خلاصة ما ذكره
السيد المرتضى رضياللهعنه في الشافي عند تقرير هذا الدليل ، وما أورد عليه
من تأخر عنه يندفع بنفس التقرير ، كما لا يخفى على
__________________
الناقد البصير ،
فلذا لا نسود بإيرادها الطوامير.
الآية
الثانية : قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .
وجه الدلالة ، هو
أن المتبادر من قوله تعالى ـ ورثه ـ ، أنه ورث ماله كما سبق في الآية
المتقدمة ، فلا يعدل عنه إلا لدليل.
وأجاب قاضي القضاة
في المغني : بأن في الآية ما يدل على أن المراد وراثة العلم دون
المال ، وهو قوله تعالى : ( وَقالَ يا أَيُّهَا
النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) فإنه يدل على أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل
، وإلا لم يكن لهذا تعلق بالأول.
وقال الرازي في
تفسيره : لو قال تعالى : ورث سليمان داود ماله ، لم يكن لقوله تعالى : ( وَقالَ يا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) معنى ، وإذا قلنا
ورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك ، لأن علم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله : (
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) لأن وارث العلم يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه ،
وقوله : ( إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) يليق أيضا بما
ذكر
دون المال الذي يحصل للكامل والناقص ، وما ذكره
الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما
ذكرنا ، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لا يورث إلا المال ،
فأما إذا ورث المال والملك معا فهذا لا يبطل
بالوجوه الذي ذكرنا ، بل بظاهرقوله
صلىاللهعليهوآله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث .
__________________
ورد السيد المرتضى
رضياللهعنه في الشافي كلام المغني بأنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ، ثم
يقول مع ذلك : إنا ( عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ ) ، ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا ، فله في الأمرين جميعا فضل على من
لم يكن كذلك ، وقوله : ( وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ ) يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص لما ظنه ، ولو سلم
دلالة الكلام على العلم لما ذكره ، فلا يمتنع أن يريد أنه ورث المال بالظاهر ،
والعلم بهذا النوع من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على
المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب أن نحملها على الحقيقة ـ التي هي الأصل ـ إذا
لم يمنع من ذلك مانع.
وقد ظهر بما ذكره
السيد قدسسره بطلان قول الرازي أيضا ، وكان القاضي يزعم أن العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن
للمعطوف تعلق بما عطف عليه وانقطع نظام الكلام.
وما اشتهر من أن التأسيس
أولى من التأكيد من الأغلاط المشهورة ، وكأن الرازي يذهب إلى أنه لا معنى للعطف
إلا إذا كان المعطوف داخلا في المعطوف عليه ، فعلى أي شيء يعطف حينئذ قوله تعالى :
( وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) ؟فتدبر.
وأما قوله : إن
المال يحصل للكامل والناقص ، فلو حمل الميراث على المال لم يناسبه قوله : ( إِنَّ هذا
لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .
فيرد عليه أنه
إنما يستقيم إذا كانت الإشارة إلى أول الكلام فقط ـ وهو وراثة المال ـ وبعده ظاهر
، ولو كانت الإشارة إلى مجموع الكلام ـ كما هو الظاهر ـ أو إلى
__________________
أقرب الفقرات ـ أعني
قوله : ( وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) ـ لم يبق لهذا
الكلام مجال ، وكيف لا يليق دخول المال في جملة المشار إليه ، وقد من الله تعالى
على عباده في غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال ،
وأوجب على عباده الشكر عليه ، فلا دلالة فيه على عدم إرادة وراثة المال سواء كان
من كلام سليمان أو كلام الملك المنان.
وقد ظهر بذلك
بطلان قوله أخيرا : إن ما ذكره الله تعالى من جنود سليمان لا يليق إلا بما ذكرنا ،
بل الأظهر أن حشر الجنود من الجن والإنس والطير قرينة على عدم إرادة الملك من قوله
: ( وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) ، فإن تلك الجنود
لم تكن لداود حتى يرثها سليمان ، بل كانت عطية مبتدأة من الله تعالى لسليمان عليهالسلام ، وقد أجرى الله تعالى على لسانه أخيرا الاعتراف بأن ما ذكره لا يبطل قوله من
حمل الآية على وراثة الملك والمال معا ، فإنه يكفينا في إثبات المدعى ، وسيأتي
الكلام في الحديث الذي تمسك به.
الآية
الثالثة : ما يدل على وراثة الأولاد والأقارب ، كقوله تعالى : (
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) ، وقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، وقد أجمعت
الأمة على عمومها إلا من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسك بعمومها إلا إذا قامت
دلالة قاطعة ، وقد قال سبحانه
__________________
عقيب آيات الميراث
: ( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ) ، ولم يقم دليل
على خروج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن حكم الآية ، فمن تعدى حدود الله في نبيه يدخله
الله النار خالدا فيها وله العذاب المهين.
وأجاب المخالفون بأن
العمومات مخصصة بما رواه أبو بكر عن النبي صلى
الله عليه وآله من قوله : نحن معاشر الأنبياء لا
نورث ما تركناه صدقة .
قال صاحب المغني : لم يقتصر أبو
بكر على رواية حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد أو عبد الرحمن بن
عوف فشهدوا به ، فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا ،
وقد أخبر الرسول (ص) بأنها صدقة وليس بميراث ، وأقل ما في الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد
، فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث؟
فعلمه بما قال الرسول (ص) مع شهادة غيره أقوى ، ولسنا نجعله مدعيا ، لأنه لم يدع
ذلك لنفسه ، وإنما بين أنه ليس بميراث وأنه صدقة ، ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك
كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما.
ويرد عليه أن
الاعتماد في تخصيص الآيات إما على سماع أبي بكر ذلك الخبر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويجب على الحاكم أن يحكم بعلمه ، وإما على
__________________
شهادة من زعموهم
شهودا على الرواية ، أو على مجموع الأمرين ، أو على سماعه من حيث الرواية مع
انضمام الباقين إليه.
فإن كان الأول فيرد عليه وجوه من
الإيراد :
الأول
: ما ذكره السيد رضياللهعنه في الشافي من أن أبا بكر في حكم المدعي لنفسه والجار إليها نفعا في
حكمه ، لأن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل البيت عليهمالسلام تحل لهم الصدقة ، ويجوز أن يصيبوا منها ، وهذه تهمة في
الحكم والشهادة.
ثم قال رحمهالله تعالى : وليس له أن يقول هذا يقتضي أن لا تقبل شهادة شاهدين في تركة فيها
صدقة بمثل ما ذكرتم ، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة فحظهما منها كحظ صاحب
الميراث ، بل سائر المسلمين ، وليس كذلك حال تركة الرسول (ص) ، لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته ويبيحها لسائر
المسلمين ، انتهى.
ولعل مراده رحمهالله أن لحرمان الورثة في خصوص تلك المادة شواهد على التهمة ، بأن كان غرضهم إضعاف
جانب أهل البيت عليهمالسلام لئلا يتمكنوا من المنازعة في الخلافة ولا يميل الناس إليهم
لنيل الزخارف الدنيوية ، فيكثر أعوانهم وأنصارهم ، ويظفروا بإخراج الخلافة
والإمارة من أيدي المتغلبين ، إذ لا يشك أحد ممن نظر في أخبار العامة والخاصة في
أن أمير المؤمنين عليهالسلام كان في ذلك الوقت طالبا للخلافة مدعيا لاستحقاقه لها ،
وأنه لم يكن انصراف الأعيان والأشراف عنه وميلهم إلى غيره إلا لعلمهم بأنه لا يفضل
أحدا منهم على ضعفاء المسلمين ، وأنه يسوي بينهم في العطاء والتقريب ، ولم يكن
انصراف سائر الناس عنه إلا لقلة ذات يده ، وكون المال والجاه مع غيره.
__________________
والأولى أن يقال
في الجواب ، إنه لم تكن التهمة لأجل أن له حصة في التركة ، بل لأنه كان يريد أن يكون تحت يده ، ويكون
حاكما فيه يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
ويؤيده قول أبي بكر ـ فيما
رواه في جامع الأصول من سنن أبي داود عن أبي الطفيل قال : جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها
من أبيها ، فقال لها :
سمعت رسول الله صلى الله
عليه [ وآله ] يقول : إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهو للذي يقوم من بعده.
ولا ريب في أن ذلك
مما يتعلق به الأغراض ، ويعد من جلب المنافع ، ولذا لا تقبل شهادة الوكيل فيما هو
وكيل فيه والوصي فيما هو وصي فيه.
وقد ذهب قوم إلى
عدم جواز الحكم بالعلم مطلقا ، لأنه مظنة التهمة ، فكيف إذا قامت القرائن عليه من
عداوة ومنازعة وإضعاف جانب و .. نحو ذلك؟.
والعجب أن بعضهم
في باب النحلة منعوا ـ بعد تسليم عصمة فاطمة عليهاالسلام ـ جواز الحكم بمجرد الدعوى وعلم الحاكم بصدقها ، وجوزوا
الحكم بأن التركة صدقة للعلم بالخبر مع معارضته للقرآن ، وقيام الدليل على كذبه.
الثاني
: أن الخبر معارض للقرآن لدلالة الآية في شأن زكريا عليهالسلام وداود عليهالسلام على الوراثة ، وليست الآية عامة حتى يخصص بالخبر ، فيجب
طرح الخبر.
لا
يقال : إذا كانت الآية
خاصة فينبغي تخصيص الخبر بها ، وحمله على غير
__________________
زكريا وداود عليهماالسلام.
لأنا
نقول : الحكم بخروجهما
عن حكم الأنبياء مخالف لإجماع الأمة ، لانحصارها في الحكم بالإيراث مطلقا
وعدمه مطلقا ، فلا محيص عن الحكم بكذب الخبر وطرحه ..
الثالث
: أن أمير المؤمنين
صلوات الله عليه كان يرى الخبر موضوعا باطلا ، وكان عليهالسلام لا يرى إلا الحق والصدق ، فلا بد من القول بأن من زعم أنه
سمع الخبر كاذب.
أما
الأولى : فلما رواه مسلم في
صحيحه وأورده في جامع الأصول أيضا عن مالك بن أوس ـ في رواية طويلة ـ قال : قال عمر
لعلي عليهالسلام والعباس .. قال أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] : لا نورث ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا؟! ، والله
يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر فقلت : أنا ولي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وولي أبو [ أبي ] بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا؟! ،
والله يعلم إني لصادق بار تابع للحق فوليتها.
وعن البخاري في
منازعة علي عليهالسلام والعباس في ( ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ) صلىاللهعليهوآله من بني النضير أنه قال عمر بن الخطاب : فقال أبو بكر :
أنا ولي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقبضها فعمل فيها بما عمل رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنتما حينئذ ـ وأقبل على علي عليهالسلام والعباس ـ تزعمان أن أبا بكر فيها كذا ، والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد
تابع للحق ، وكذلك زاد في حق
__________________
نفسه قال : والله
يعلم أني فيها صادق بار راشد تابع للحق .. إلى آخر الخبر .
وقد روى ابن أبي
الحديد في شرح نهج البلاغة من كتاب السقيفة عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري مثله
بأسانيد.
وأما المقدمة
الثانية ، فلما مر وسيأتي من الأخبار المتواترة في أن عليا عليهالسلام لا يفارق الحق والحق لا يفارقه ، بل يدور معه حيث ما دار .
ويؤيده روايات
السفينة والثقلين وأضرابها ..
الرابع
: أن فاطمة صلوات الله عليها أنكرت رواية أبي بكر وحكمت بكذبه
فيها ، ولا يجوز الكذب عليها ، فوجب كذب الرواية وراويها.
أما المقدمة
الأولى ، فلما مر في خطبتها وغيرها وسيأتي من شكايتها في مرضها وغيرها ، وقد رووا
في صحاحهم أنها صلوات الله عليها انصرفت من عند أبي بكر ساخطة ، وماتت عليه واجدة ، وقد اعترف بذلك
ابن أبي
__________________
الحديد .
وأما
الثانية ، فلما مر وسيأتي
من عصمتها وجلالتها.
الخامس
: أنه لو كانت تركة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم صدقة ، ولم يكن لها صلوات الله عليها حظ فيها لبين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الحكم لها ، إذ التكليف في تحريم أخذها يتعلق بها ، ولو بينه لها لما طلبتها
لعصمتها ، ولا يرتاب عاقل في أنه لو كان بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهل بيته عليهمالسلام أن تركتي صدقة لا تحل لكم لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها
مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين والأنصار ، تعاتب إمام زمانها بزعمكم ،
وتنسبه إلى الجور والظلم في غصب تراثها ، وتستنصر المهاجرة والأنصار في الوثوب
عليه وإثارة الفتنة بين المسلمين ، وتهييج الشر ، ولم تستقر بعد أمر الإمارة
والخلافة ، وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين أن الخليفة غاصب
للخلافة ناصب لأهل الإمامة ، فصبوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور وقيام النشور
، وكان ذلك من آكد الدواعي إلى شق عصا المسلمين ، وافتراق كلمتهم ، وتشتت ألفتهم ،
وقد كانت تلك النيران تخمدها بيان الحكم لها صلوات الله عليها أو لأمير المؤمنين عليهالسلام ، ولعله لا يجسر من أوتي حظا من الإسلام على القول بأن فاطمة صلوات الله
عليها ـ مع علمها بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب ـ كانت تقدم على مثل ذلك
الصنيع ، أو كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه مع علمه بحكم الله لم يزجرها عن
التظلم والاستعداء ، ولم يأمرها بالقعود في بيتها راضية بأمر الله فيها ،
__________________
وكان ينازع العباس
بعد موتها ويتحاكم إلى عمر بن الخطاب ، فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم
الاعتناء بشأن بضعته التي كانت يؤذيه ما آذاها ، ويريبه ما رابها؟! أو بأمر زوجها وابن عمه
وأخيه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه؟! ، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام الله وأمر
أمته؟! وقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا للعالمين ..
السادس
: أنا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم نحكم قطعا بأن مدلول هذا
الخبر كاذب باطل ، ومن أسند إليه هذا الخبر لا يجوز عليه الكذب ، فلا بد من القول
بكذب من رواه والقطع بأنه وضعه وافتراه.
أما المقدمة
الثانية ، فغنية عن البيان.
وأما الأولى ،
فبيانها أنه قد جرت عادة الناس قديما وحديثا بالإخبار عن كل ما جرى بخلاف المعهود
بين كافة الناس وخرج عن سنن عاداتهم ، سيما إذا وقع في كل عصر وزمان ، وتوفرت
الدواعي إلى نقله وروايته ، ومن المعلوم لكل أحد أن جميع الأمم ـ على اختلافهم في
مذاهبهم ـ يهتمون بضبط أحوال الأنبياء عليهمالسلام وسيرتهم وأحوال أولادهم وما يجري عليهم بعد آبائهم ، وضبط
خصائصهم وما يتفردون به عن غيرهم ، ومن المعلوم أيضا أن العادة قد جرت من يوم خلق
الله الدنيا وأهلها إلى زمان انقضاء مدتها وفنائها بأن يرث الأقربون من الأولاد
وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم ، وينتفعوا بأموالهم وما خلفوه بعد موتهم ، ولا شك
لأحد في أن عامة الناس عالمهم وجاهلهم وغنيهم وفقيرهم وملوكهم ورعاياهم يرغبون إلى
كل ما نسب إلى ذي شرف وفضيلة ويتبركون به ، ويحرزه الملوك في خزائنهم ، ويوصون به
لأحب أهلهم ، فكيف بسلاح الأنبياء وثيابهم . وأمتعتهم؟ ألا ترى إلى الأعمى إذا أبصر في مشهد من
المشاهد المشرفة أو توهمت العامة أنه أبصر اقتطعوا ثيابه ، وتبركوا بها ، وجعلوها
حرزا من كل بلاء.
__________________
إذا تمهدت
المقدمات فنقول :
لو كان ما تركه
الأنبياء من لدن آدم عليهالسلام إلى الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم صدقة ، لقسمت بين الناس بخلاف المعهود من توارث الآباء
والأولاد وسائر الأقارب ، ولا يخلو الحال إما أن يكون كل نبي يبين هذا الحكم
لورثته بخلاف نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم أو يتركون البيان كما تركه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فجرى على سنة الذين خلوا من قبله من أنبياء الله عليهمالسلام ، فإن كان الأول فمع أنه خلاف الظاهر كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل
والأديان ، ولم يسمعه أحد إلا أبو بكر ومن يحذو حذوه ، ولم ينقل أحد أن عصا موسى عليهالسلام انتقل على وجه الصدقة إلى فلان ، وسيف سليمان عليهالسلام صار إلى فلان ، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم
فرقت بين الناس ولم يكن في ورثة أكثر من مائة ألف نبي قوم ينازعون في ذلك ، وإن
كان بخلاف حكم الله عز وجل وقد كان أولاد يعقوب عليهمالسلام ـ مع علو قدرهم ـ يحسدون على أخيهم ويلقونه في الجب لما رأوه أحبهم إليه
أو وقعت تلك المنازعة كثيرا ، ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير ـ مع
شدة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائصهم ـ وما جرى بعدهم كما تقدم.
وإن كان الثاني ،
فكيف كانت حال ورثة الأنبياء؟ أكانوا يرضون بذلك ولا ينكرون؟ فكيف صارت ورثة
الأنبياء جميعا يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء ولم يرض [ كذا ] به سيدة
النساء ، أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الأمم ولم ينقلها أحد ممن تقدم ولا
ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم ، ( إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عُجابٌ )!.
وأعجب من ذلك أنهم
ينازعون في وجود النص على أمير المؤمنين عليهالسلام مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلى الآن ، ووجود
الأخبار في
__________________
صحاحهم ، وادعاء
الشيعة تواتر ذلك من أول الأمر إلى الآن ، ويستندون في ذلك إلى أنه لو كان حقا لما
خفي ذلك لتوفر الدواعي إلى نقله وروايته.
فانظر بعين
الإنصاف أن الدواعي لشهرة أمر خاص ليس الشاهد له إلا قوم مخصوصون من أهل قرن معين
أكثر أم لشهرة أمر قل زمان من الأزمنة من لدن آدم عليهالسلام إلى الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم عن وقوعه فيه ، مع أنه ليس يدعو إلى كتمانه وإخفائه في
الأمم السالفة داع ، ولم يذكره رجل في كتاب ، ولم يسمعه أحد من أهل ملة.
ولعمري لا أشك في
أن من لزم الإنصاف ، وجانب المكابرة والاعتساف ، وتأمل في مدلول الخبر ، وأمعن
النظر ، يجزم قطعا بكذبه وبطلانه.
وإن كان القسم الثاني ـ وهو أن يكون اعتماد أبي بكر في تخصيص الآيات بالخبر من
حيث رواية الرواة له دون علمه بأنه من كلام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لسماعه بإذنه. ـ فيرد عليه أيضا
وجوه من النظر :
الأول
: أن ما ذكره قاضي
القضاة من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر : عمر وعثمان
وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق
أصحابنا ، وإنما المذكورفي رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم أن عمر بن الخطاب
لما تنازع عنده أمير المؤمنين عليهالسلام والعباس استشهد نفرا فشهدوا بصدق الرواية ، ولنذكر ألفاظ
صحاحهم في رواية مالك بن أوس ـ على اختلافها ـ حتى يتضح حقيقة الحال.
روى البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي
وحكاه في جامع الأصول
__________________
في الفرع الرابع
من كتاب الجهاد من حرف الجيم عن مالك أنه قال : أرسل إلي عمر فجئته حين تعالى
النهار قال : فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا على رماله متكئا على وسادة
من أدم ، فقال لي : يا مال ! إنه قد دف أهل أبيات قومك ، وقد أمرت فيهم
برضخ فخذه ، فاقسم بينهم.
قال : قلت : لو
أمرت بهذا غيري. قال : خذه يا مال. قال : فجاء يرفاه [ يرفأ ] ، فقال : هل لك
يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر : نعم ،
فأذن لهم ، فدخلوا ، ثم جاء ، فقال : هل لك في عباس وعلي؟ قال : نعم ، فأذن لهما ،
فقال العباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا؟
فقال القوم : أجل يا أمير
المؤمنين فاقض بينهم وارحمهم .
قال مالك بن أوس :
فخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر :
اتئد [ اتئدوا ] أنشدكم بالله
الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لا نورث ما تركنا صدقة؟! قالوا : نعم ، ثم أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما
بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالا :
نعم ... إلى آخر الخبر.
__________________
ثم حكى في جامع
الأصول عن البخاري ومسلم أنه قال عمر لعلي عليهالسلام : قال أبو بكر : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا نورث ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ... وتزعمان أنه
فيها كذا ..؟ .كما نقلنا سابقا.
وحكى في جامع
الأصول عن أبي داود أنه قال أبو البختري : سمعت حديثا من رجل فأعجبني ، فقلت :
اكتبه لي ، فأتى به مكتوبا مدبرا : دخل العباس وعلي على عمر ـ وعنده طلحة والزبير وعبد
الرحمن وسعد ـ وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد : ألم
تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل مال النبي صدقة إلا ما أطعمه
أهله أو كساهم ، إنا لا نورث؟! قالوا : بلى.
توضيح
: قوله : مفضيا إلى
رماله .. أي ملقيا نفسه على الرمال لا حاجز بينهما .
ورمال السرير ـ بالكسر
ـ : ما رمل أي نسج ـ جمع رمل ـ بمعنى مرمول
__________________
كالخلق بمعنى
المخلوق ، والمراد به أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطاء
سوى الحصير .
والوسادة : المخدة
.
ودف أهل أبيات ..
أي دخلوا المصر ، يقال : دف دافة من العرب .
والرضخ ـ بالضاد
والخاء المعجمتين ـ : العطاء القليل .
ويرفأ ـ بالراء
والفاء والهمزة ، على صيغة المضارع كيمنع ـ علم ، مولى عمر ابن الخطاب .
واتئد : أمر من
التؤدة أي التأني والتثبت .
ومدبرا أي مسندا ، وألفاظ باقي
الأصول مذكورة في جامع الأصول.
ولا يذهب على ذي
فطنة أن شهادة الأربعة التي تضمنتها الرواية الأولى والثانية على اختلافهما لم يكن
من حيث الرواية والسماع عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر ، بقرينة أن عمر
ناشد عليا عليهالسلام والعباس : أتعلمان أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ فقالا : نعم ، وذلك
لأنه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب
__________________
تلك الرواية ، وقد
قال عمر في آخر الرواية : رأيتماه ـ يعني أبا بكر ـ كاذبا آثما غادرا خائنا ..
وكذا في حق نفسه.
والعجب أن القاضي
لم يجعل عليا عليهالسلام والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدق الباقون ،
بل جميع الصحابة ، لأنهم يشهدون بصدقهما.
وقال ابن أبي
الحديد ـ بعد حكاية كلام السيد رضياللهعنه ـ في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر ، وأن
معول المخالفين على إمساك الأمة عن النكير على أبي بكر دون الاستشهاد ، ما هذا
لفظه ـ : قلت : صدق المرتضى رحمهالله فيما قال ، أما عقيب وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومطالبة فاطمة عليهاالسلام بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده ، وقيل إنه رواه
معه مالك بن أوس بن الحدثان ، وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد
شهدوا بالخبر في خلافة عمر ، وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال ـ في الموضع
المتقدم الذي أشار إليه وهو الفصل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري.على ما رواه
أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، بإسناده عنه قال : جاء علي والعباس إلى عمر وهما
يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد : أنشدكم الله! أسمعتم رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال :كل مال نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله ، إنا لا نورث؟!
فقالوا : نعم ، قال :فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يتصدق به ويقسم فضله ، ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع
فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما تقولان :إنه كان بذلك خاطئا؟
وكان بذلك ظالما؟ وما كان بذلك إلا راشدا ، ثم وليته بعد
__________________
أبي بكر فقلت لكما
: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده الذي عهد فيه ،
فقلتما : نعم ، وجئتماني الآن تختصمان ، يقول هذا : أريد نصيبي من ابن أخي ، ويقول
هذا : أريد نصيبي من امرأتي! والله لا أقضي بينكما إلا بذلك.
قال ابن أبي
الحديد : قلت : هذا مشكل ، لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر
وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم
بالخبر برواية الصحابي الواحد.
وقال شيخنا أبو
علي : لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون
والفقهاء كلهم ، واحتجوا عليه بقول الصحابة رواية أبي بكر وحده ، قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ،
حتى أن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا ، فقال : قد روي أن أبا بكر يوم حاج
فاطمة عليهاالسلام ، قال : أنشد الله امرأ سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا شيئا؟ فروى مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر طلحة والزبير وعبد الرحمن
وسعدا ، فقالوا :سمعناه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر؟! ما نقل أن أحدا
من هؤلاء يوم خصومة فاطمة عليهاالسلام وأبي بكر روى من هذا شيئا ، انتهى.
فظهر أن قول هذا
القاضي ليس إلا شهادة زور ، ولو كان لما ذكره من
__________________
استشهاد أبي بكر
مستند لأشار إليه كما هو الدأب في مقام الاحتجاج.
وأما هذه الرواية
التي رواها ابن أبي الحديد ، فمع أنها لا تدل على الاستشهاد في خلافة أبي بكر فلا
تخلو من تحريف ، لما عرفت من أن لفظ رواية أبي البختري ـ على ما رواه أبو داود ،
وحكاه في جامع الأصول ـ : ألم تعلموا أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : كل مال النبي صدقة ، لا : أسمعتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كما رواه الجوهري ـ على أنه لا يقوم فيما تفردوا به من الأخبار حجة علينا ،
وإنما الاحتجاج بالمتفق عليه ، أو ما اعترف به الخصم ، والاستشهاد على الرواية لم
يثبت عندنا لا في أيام أبي بكر ولا في زمن عمر.
ثم أورد السيد رحمهالله على كلام صاحب المغني : بأنا لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه
حجة ، لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار
الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأن المعلوم لا
يخص إلا بمعلوم ..
قال : على أنه لو
سلم لهم أن الخبر الواحد يعمل به في الشرع لاحتاجوا إلى دليل مستأنف
، على أنه يقبل في تخصيص القرآن ، لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا
الموضع ، كما لا يتناول جواز النسخ به .
وتحقيق هاتين
المسألتين من وظيفة أصول الفقه.
والثاني :
أن رواة الخبر كانوا
متهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حل الصدقة عليهم ـ كما تقدم في القسم الأول ـ
وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة ، وأن التهمة إنما تضر
في الشهادة دون الرواية ،
__________________
فسخيف جدا ، ولم
يقل أحد بهذا الفرق غيره.
الثالث
والرابع : ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأول ..
و
الخامس :
ما تقدم من وجوب البيان
للورثة.
السادس
: ما تقدم في السادس ..
وأما
القسم الثالث : وهو أن يكون مناط
الحكم على علم أبي بكر مع شهادة النفر ، وكذلك الرابع ، وهو أن يكون الاعتماد على
روايته معهم ، فقد ظهر بطلانهما مما سبق ، فإن المجموع وإن كان أقوى من كل واحد من
الجزءين إلا أنه لا يدفع التهمة ولا مناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه
السابقة.
وقد ظهر بما تقدم
أن الجواب عن قول أبي علي : أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقه؟ وقد علم أنه لا
شيء يعلم به كذبه قطعا ، فلا بد من تجويز كونه صادقا ـ كما حكاه في المغني ـ : هو
إنا نعلم كذبه قطعا ، والدليل عليه ما تقدم من الوجوه الستة المفصلة وإن تخصيص
الآيات بهذا الخبر ليس من قبيل تخصيصها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي
القضاة ، إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق ، والأول خبر معلوم الكذب ، وقد سبق
في خطبة فاطمة صلوات الله عليها استدلالها بقوله تعالى : ( وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) ، وبثلاث من الآيات
السابقة ، وهو يدل مجملا على بطلان ما فصلوه من الأجوبة.
ثم إن بعض الأصحاب
حمل الرواية على وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور ، وهو أن يكون ما تركنا صدقة
مفعولا ثانيا للفعل أعني نورث ، سواء كان بفتح الراء على صيغة المجهول من قولهم :
ورثت أبي شيئا ، أو بكسرها من قولهم :
أورثه الشيء أبوه ، وأما
بتشديد الراء ، فالظاهر أنه لحن ، فإن التوريث إدخال أحد
__________________
في المال على
الورثة ـ كما ذكره الجوهري ـ وهو لا يناسب شيئا من المحامل ، ويكون صدقة منصوبا على
أن يكون مفعولا لتركنا ، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات ، ويجوز
أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على الصدقة فتوهم أبو بكر أنه بالرفع ، وحينئذ يدل على
أن ما جعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة ، أي ما نووا فيه
الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لا يناله الورثة حتى يكون للحكم اختصاص
بالأنبياء عليهمالسلام ، ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقا ، والحق أنه
لا يخلو عن بعد ، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا
به وحكموا ببطلانه ، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر ، فهو إصلاح لم
يرض به أحد المتخاصمين ، ولا يجري في بعض رواياتهم.
واعلم : أن بعض
المخالفين استدلوا على صحة الرواية وما حكم به أبو بكر بترك الأمة النكير عليه ،
وقد ذكر السيد الأجل رضياللهعنه في الشافي كلامهم ذلك على وجه السؤال وأجاب عنه بقوله :
فإن
قيل : إذا كان أبو بكر
قد حكم بخطإ في دفع فاطمة عليهاالسلام من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم
، ولم تنكر عليه؟! وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه.
قلنا
: قد مضى أن ترك
النكير لا يكون دليل الرضا إلا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا ، وبينا
في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بيانا شافيا.
__________________
وقد أجاب أبو
عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا جيد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على
وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها ، قال : وقد زعم ناس أن الدليل
على صدق خبرهما ـ يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم النكير عليهما ، ثم قال : فيقال لهم : لئن كان ترك
النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجبين عليهما
والمطالبين لهما بدليل دليلا على صدق دعواهم ، واستحسان مقالتهم ، لا
سيما وقد طالت المشاحات ، وكثرت المراجعة والملاحات ، وظهرت الشكيمة ، واشتدت الموجدة
، وقد بلغ ذلك من فاطمة عليهاالسلام حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر ، وقد كانت قالت
له حين أتته طالبة بحقها ، ومحتجة برهطها : من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟ قال : أهلي وولدي. قالت :
فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه [ وآله ]؟! فلما منعها ميراثها ، وبخسها
حقها ، واعتل
__________________
عليها ، ولج في أمرها ،
وعاينت التهضم ، وأيست من النزوع ، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعون الله عليك. قال : والله
لأدعون الله لك. قالت : والله لا أكلمك أبدا. قال : والله لا أهجرك أبدا.فإن يكن
ترك النكير على أبي بكر دليلا
على صواب منعه ، إن في ترك النكير على فاطمة (ع) دليلا على صواب طلبها ،
وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن
الخطإ ، ورفع قدرها عن البذاء ، وأن تقول هجرا ، أو تجور عادلا ، أو تقطع واصلا ،
فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور ، واستوت الأسباب ،
والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم.
وإن
قالوا : كيف يظن ظلمها والتعدي
عليها! وكلما ازدادت فاطمة عليهاالسلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث تقول : والله لا
أكلمك أبدا! فيقول :
والله لا أهجرك أبدا ، ثم تقول :
والله لأدعون الله عليك ، فيقول : والله لأدعون الله لك.
ثم يحتمل هذا الكلام
الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، مع حاجة الخلافة
إلى البهاء والرفعة ، وما يجب لها من
__________________
التنويه والهيبة ، ثم لم
يمنعه ذلك أن قال ـ معتذرا أو متقربا ، كلام المعظم لحقها ، المكبر لقيامها ، والصائن لوجهها
، والمتحنن عليها ـ : ما أحد أعز علي منك فقرا ، ولا أحب إلي منك غنى ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا معاشر
الأنبياء لا نورث ، ما تركناه فهو صدقة!.
قيل
لهم : ليس ذلك بدليل
على البراءة من الظلم ، والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا
أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف ، وجدة الوامق ، ومقة المحق ، وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ، ودلالة
واضحة؟! وقد زعمتم أن عمر قال على منبره : متعتان كان على عهد رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : متعة النساء ومتعة الحج ، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، فما وجدتم أحدا
أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطأه في معناه ، ولا تعجب منه ولا استفهمه!.
__________________
وكيف تقضون بترك النكير؟ وقدشهد
عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : الأئمة من قريش ، ثم قال في مكانه
: لو كان سالم حيا ما يخالجني فيه شك ، حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم
شورى ، وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته ، وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك
من قريش قوله منكر ، ولا قابل إنسان بين قوليه ، ولا تعجب منه ،
وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وثواب عمله ، فأما ترك
النكير على من يملك الضعة والرفعة ، والأمر والنهي ، والقتل والاستحياء ، والحبس
والإطلاق ، فليس بحجة تشفي ، ولا دليل يغني .
قال
: وقال آخرون : بل
الدليل على صدق قولهما ، وصواب عملهما ، إمساك الصحابة عن خلعهما ، والخروج عليهما
، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من
__________________
جحد التنزيل ، ورد
النصوص ، ولو كانوا كما يقولون ويصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه ، وعثمان كان أعز
نفرا ، وأشرف رهطا ، وأكثر عددا وثروة ، وأقوى عدة.
قلنا
: إنهما لم يجحدا
التنزيل ، ولم ينكرا المنصوص ، ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه
الظاهر من الشريعة ادعيا رواية ، وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ، ولا يمتنع
في حجج العقول مجيئه ، وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه ، ولعل بعضهم
كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلا في رهطه ، مأمونا في ظاهره ، ولم يكن قبل ذلك
عرفه بفجرة ، ولا جرب عليه غدرة ، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد ،
ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج ، والذي يقطع بشهادته على الغيب ، وكان
ذلك شبهة على أكثرهم ، فلذلك قل النكير ، وتواكل الناس ، واشتبه الأمر ، فصار لا
يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله ، إلا العالم المتقدم ، والمؤيد المرشد ، ولأنه لم يكن
لعثمان في صدور العوام ، وفي قلوب السفلة والطغام ما كان لهما من الهيبة
والمحبة ، ولأنهما كانا أقل استئثارا بالفيء ، وأقل تفكها بمال
الله منه ، ومن
__________________
شأن الناس إهمال السلطان ما وفر
عليهم أموالهم ، ولا يستأثر بخراجهم ، ولم يعطل ثغورهم ، ولأن الذي صنع أبو بكر من منع
العترة حظها ، والعمومة ميراثها ، قد كان موافقا
لجلة قريش ، ولكبراء العرب ، ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه ، مستخفا
بقدره ، لا يمنع ضيما ، ولا يقمع عدوا ، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم
والقذف والتشنيع والنكير ، لأمور لو أتى عمر أضعافها ، وبلغ أقصاها ، لما
اجترءوا على اغتيابه فضلا عن مبادأته ، والإغراء به ومواجهته ، كما أغلظ عيينة بن حصين له ، فقال له :
أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك؟
فقال عيينة : إن عمر كان
خيرا لي منك ، أرهبني فأبقاني .
ثم
قال : والعجب أنا وجدنا
جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف
منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب استنادا ، وأوضح رجالا ، وأحسن
اتصالا ، حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم نسخوا الكتاب
، وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه ، وأكذبوا ناقليه ، وذلك إن كل إنسان منهم إنما يجري إلى
__________________
هواه ، ويصدق ما
وافق رضاه .. هذا آخر كلام الجاحظ .
ثم قال السيد رضياللهعنه : فإن قيل : ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير ، وقوله : كما
لم ينكروا على أبي بكر ، فلم ينكروا أيضا على فاطمة عليهاالسلام ولا غيرها من المطالبين بالميراث
كالأزواج وغيرهن معارضة صحيحة ، وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعه والاحتجاج عليه
يكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير ، ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره .
قلنا : أول ما
يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد احتجاجها بالخبر من
التظلم والتألم ، والتعنيف والتبكيت ، وقولها ـ على ما روي ـ : والله لأدعون الله عليك ... ،
ولا كلمتك أبدا ، و ... ما جرى هذا المجرى ، فقد كان يجب أن ينكره غيره ، فمن
المنكر الغضب على المنصف. وبعد ، فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا أو مغنيا عن إنكار
غيره من المسلمين ، فإنكار فاطمة عليهاالسلام حكمه ، ومقامها على التظلم منه يغني عن نكير غيرها ،
وهذا واضح لمن أنصف من نفسه. انتهى كلامه رفع الله مقامه ..
__________________
الخامسة
: قال ابن أبي الحديد : اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة (ع) أبا بكر كان في
أمرين : في الميراث والنحلة ، وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ، ومنعها
أبو بكر إياه أيضا ، وهو سهم ذي القربى.
روى أحمد بن عبد
العزيز الجوهري عن أنس : أن فاطمة عليهاالسلام لما أتت أبا بكر فقالت : قد علمت الذي حرم علينا أهل البيت (ع) من
الصدقات ، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى! ثم قرأت
عليه قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
) الآية ، فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأمي ووالد ولدك السمع والطاعة
لكتاب الله ، ولحق رسوله (ص) وحق قرابته ، وأنا أقرأ من كتاب الله الذي
تقرءين ، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا؟
قالت : أملك هو لك
ولأقربائك ؟! قال : لا ، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح
المسلمين. قالت : ليس هذا بحكم الله تعالى؟! فقال : هذا حكم الله ، فإن كان رسول
الله (ص) عهد إليك في هذا عهدا صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك. قالت : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يعهد إلي في
__________________
ذلك بشيء ، إلا
أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية : أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى !. قال أبو بكر :
لم يبلغ من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ، ولكن لكم
الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم ، وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما
فاسأليهم عن ذلك وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم؟ فانصرفت إلى عمر فقالت له
مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال لها أبو بكر ، فتعجبت فاطمة عليهاالسلام من ذلك وتظنت أنهما قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.
ثم قال : قال أحمد بن عبد
العزيز : حدثنا أبو زيد ـ بإسناده إلى عروة قال : أرادت فاطمة عليهاالسلام أبا بكر على فدك وسهم ذي القربى ، فأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى.
ثم روى عن الحسن
بن علي عليهماالسلام : أن أبا بكر منع فاطمة (ع) وبني هاشم سهم ذي القربى
وجعلها في سبيل الله في السلاح والكراع.
ثم روى بإسناده عن
محمد بن إسحاق قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهماالسلام قلت : أرأيت عليا (ع) حين ولي العراق وما ولي من أمر الناس
، كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال : سلك بهم طريق أبي بكر وعمر : قلت :
كيف؟ ولم؟ وأنتم تقولون
ما تقولون؟ قال : أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه. فقلت : فما منعه؟ قال
: يكره أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر وعمر. انتهى
__________________
ما أخرجه ابن أبي
الحديد من كتاب أحمد بن عبد العزيز .
وروى في جامع
الأصول من سنن أبي داود عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن
يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم ، قال : وكان أبو
بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي منه
قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه.
وروى مثله بسند
آخر عن جبير بن مطعم ..
ثم قال : وفي أخرى
له والنسائي : لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ]
سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب.
ثم قال : وأخرج
النسائي أيضا بنحو من هذه الروايات من طرق متعددة بتغيير بعض
ألفاظها واتفاق المعنى .
وروى أيضا عن أبي داود بإسناده عن يزيد
بن هرمز أن ابن الزبير
__________________
أرسل إلى ابن
العباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه؟ فقال له : لقربى رسول الله صلى الله عليه
[ وآله ] ، قسمه رسول الله لهم وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا
ورددناه عليه وأبينا أن نقبله .
وروى مثله عن
النسائي أيضا ، وقال :و في أخرى له مثل أبي داود ،
وفيه : وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ،
ويقضي عن غارمهم ، ويعطي فقيرهم ، وأبى أن يزيدهم على ذلك .
وروى العياشي في
تفسيره رواية ابن عباس ورويناه في موضع آخر.
وروى أيضا عن أبي جميلة عن
بعض أصحابه عن أحدهما عليهماالسلام قال : قد فرض الله الخمس نصيبا لآل محمد عليهمالسلام فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم حسدا وعداوة ، وقد قال الله : ( وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .
والأخبار من طريق
أهل البيت عليهمالسلام في ذلك أكثر من أن تحصى ، وسيأتي بعضها في أبواب الخمس
والأنفال إن شاء الله تعالى .
فإذا اطلعت على ما
نقلناه من الأخبار من صحاحهم نقول : لا ريب في
__________________
دلالة الآية على
اختصاص ذي القربى بسهم خاص سواء كان هو سدس الخمس ـ كما ذهب إليه أبو العالية
وأصحابنا ورووه عن أئمتنا عليهمالسلام ـ ، وهو الظاهر من الآية ـ كما اعترف به البيضاوي وغيره ـ ، أو خمس
الخمس لاتحاد سهم الله وسهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر الله للتعظيم كما زعم ابن عباس وقتادة وعطاء ، أو ربع الخمس
والأرباع الثلاثة الباقية للثلاثة الأخيرة كما زعمه الشافعي ، وسواء كان
المراد بذي القربى أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته وبعده الإمام من أهل البيت عليهمالسلام ـ كما ذهب إليه أكثر أصحابنا أو جميع بني هاشم كما ذهب إليه بعضهم .
وعلى ما ذهب إليه
الأكثر بكون دعوى فاطمة عليهاالسلام نيابة عن أمير المؤمنين عليهالسلام تقية ، أو كان المراد بني هاشم وبني المطلب كما زعمه
الشافعي ، أو آل علي وعقيل وآل عباس وولد الحارث بن عبد المطلب كما
قال أبو حنيفة .
وعلى أي حال ، فلا
ريب أيضا في أن الظاهر من الآية تساوي الستة في السهم ، ولم يختلف الفقهاء في أن
إطلاق الوصية والأقوال لجماعة معدودين يقتضي التسوية لتساوي النسبة ، ولم يشترط
الله عز وجل في ذي القربى فقرا أو مسكنة بل
__________________
قرنه بنفسه
وبرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم للدلالة على عدم الاشتراط ، وقد احتج بهذا الوجه الرضا عليهالسلام على علماء العامة في حديث
طويل بين فيه فضل العترة الطاهرة ، وسيأتي في محله .
وأما التقييد
اجتهادا فمع بطلان الاجتهاد الغير المستند إلى حجة فعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يدفع التقييد ، لدلالة خبر جبير وغيره على أنه لم يعطهم ما
كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يعطيهم ، وقد قال أبو بكر في رواية أنس : لكم الغنى الذي
يغنيكم ويفضل عنكم ، فما زعمه أبو بكر من عدم دلالة الآية على أن السهم مسلم لذي
القربى ووجوب صرف الفاضل من السهم عن حاجتهم في مصالح المسلمين مخالف للآية
والأخبار المتفق على صحتها ، وقد قال سبحانه في آخر الآية : ( إِنْ
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا ) ... . واعترف الفخر
الرازي في تفسيره بأن من لم يحكم بهذه القسمة فقد خرج عن الإيمان ، وقال تعالى :( وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ، وقال : ( هُمُ
الْفاسِقُونَ ) ، وقال : ( هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، فاستحق بما صنع
ما يستحقه الراد على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
السادسة
: ما دلت عليه الروايات السالفة وما سيأتي في باب شهادة فاطمة
عليهاالسلام من أنها أوصت أن تدفن سرا ، وأن لا يصلي
عليها أبو بكر وعمر
__________________
لغضبها عليهما في
منع فدك وغيره من أعظم الطعون عليهما.
وأجاب عنه قاضي
القضاة في المغني بأنه قد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليهاالسلام وكبر أربعا ، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على
الميت ، ولا يصح أنها دفنت ليلا ، وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلا ، وعمر دفن ليلا ، وقد كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل ، فما في هذا مما يطعن به ، بل
الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة .
ورد عليه السيد
الأجل في الشافي : بأن ما ادعيت من أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليهاالسلام وكبر أربعا ، وأن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت فهو شيء
ما سمع إلا منك ، وإن كنت تلقيته عن غيرك فممن يجري مجراك في العصبية ، وإلا
فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ، ولم يختلف أهل النقل في أن
أمير المؤمنين عليهالسلام صلى على فاطمة عليهاالسلام إلا رواية شاذة نادرة وردت بأن العباس صلى عليها .
روى الواقدي بإسناده عن عكرمة
قال : سألت ابن العباس : متى دفنت فاطمة عليهاالسلام؟ قال : دفناها بليل بعد هدأة. قال : قلت : فمن
__________________
صلى عليها؟ قال :
علي عليهالسلام.
وروى الطبري ، عن الحرث بن
أبي أسامة ، عن المدائني ، عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة عليهاالسلام عمل لها نعش قبل وفاتها ، فنظرت وقالت :
سترتموني ستركم الله ،
قال أبو جعفر محمد بن جرير : والثبت في ذلك أنها زينب ، لأن فاطمة عليهاالسلام دفنت ليلا ولم يحضرها إلا العباس وعلي والمقداد والزبير.
وروى القاضي أبو
بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري قال : حدثني عروة بن الزبير : أن عائشة أخبرته
أن فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليه وعليها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه
[ وآله ] ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها علي عليهالسلام ليلا ، وصلى عليها علي بن أبي طالب عليهالسلام.
وذكر في كتابه هذا
أن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهمالسلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها.
وروى سفيان بن
عيينة ، عن عمرو ، عن الحسن بن محمد : أن فاطمة عليهاالسلام دفنت ليلا.
وروى عبد الله بن
أبي شيبة ، عن يحيى بن سعيد العطار ، عن معمر ، عن الزهري مثل ذلك ..
__________________
وقال البلاذري في
تاريخه إن فاطمة عليهاالسلام لم تر متبسمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] ، ولم يعلم أبو
بكر وعمر بموتها.
والأمر في هذا
أوضح وأظهر من أن يطنب في الاستشهاد عليه ويذكر الروايات فيه.
فأما قوله : ولا
يصح أنها دفنت ليلا ، وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا .. فقد بينا أن دفنها ليلا
في الصحة كالشمس الطالعة ، وأن منكر ذلك كدافع المشاهدات ، ولم نجعل دفنها ليلا
بمجرده هو الحجة فيقال : فقد دفن فلان وفلان ليلا ، بل مع الاحتجاج
بذلك على.ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالمتواتر أنها عليهاالسلام أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي عليها الرجلان ، وصرحت بذلك ،
وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها ، فأبت أن تأذن لهما
، فلما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين عليهالسلام في أن يستأذن لهما ، وجعلاها حاجة إليه ، فكلمها أمير
المؤمنين عليهالسلام في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ، ثم أعرضت عنهما عند
دخولهما ولم تكلمهما ، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين عليهالسلام : قد صنعت ما أردت؟ قال : نعم. قالت : فهل أنت صانع ما آمرك؟ قال :
نعم. قالت : فإني أنشدك الله أن لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري.
وروي أنه عليهالسلام عمى على قبرها ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا
إليه ، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما
__________________
للصلاة عليها، فمن
هاهنا احتججنا بالدفن ليلا ، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه
وتأخر عنه لم يكن فيه حجة. انتهى كلامه رفع الله مقامه .
ومما يدل من صحاح
أخبارهم على دفنها ليلا ، وأن أبا بكر لم يصل عليها ، وعلى غضبها عليه وهجرتها
إياه ، ما رواه مسلم في صحيحه وأورده في جامع الأصول في الباب الثاني من كتاب الخلافة والإمارة من حرف الخاء عن
عائشة ـ في حديث طويل بعد ذكر مطالبة فاطمة عليهاالسلام أبا بكر في ميراث رسول الله صلىاللهعليهوآله وفدك ، وسهمه من خيبر ـ قالت : فهجرته فاطمة عليهاالسلام فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي (ع) ليلا ولم يؤذن بها أبا
بكر ، قالت : فكانت لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة عليهاالسلام انصرفت وجوه الناس عن علي عليهالسلام ، ومكثت فاطمة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله ستة أشهر ثم توفيت.
وروى ابن أبي
الحديد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن هشام بن محمد عن أبيه
قال : قالت فاطمة عليهاالسلام لأبي بكر : إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطاني فدك. فقال : يا بنت رسول الله! والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله (ص)
أبيك ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، والله لأن تفتقر عائشة أحب
إلي من أن تفتقري ، أتراني
__________________
أعطي الأسود
والأحمر حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله (ص)! إن هذا المال لم
يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وليته كما كان يليه! قالت : والله لا كلمتك أبدا!. قال :
والله لا هجرتك أبدا. قال : والله لأدعون الله عليك.
قال : والله لأدعون الله
لك. فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها ، فدفنت ليلا ، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، وكان
بين وفاتها ووفاة أبيها صلىاللهعليهوآله اثنتان وسبعون ليلة .
ومما يؤيد إخفاء
دفنها جهالة قبرها والاختلاف فيه بين الناس إلى يومنا هذا ، ولو كان بمحضر من
الناس لما اشتبه على الخلق ولا اختلف فيه.
السابعة
: مما يرد من الطعون على أبي بكر في تلك الواقعة أنه مكن
أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من التصرف في حجراتهن بغير خلاف ، ولم يحكم فيها بأنها
صدقة ، وذلك يناقض ما منعه في أمر فدك وميراث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن انتقالها إليهن إما على جهة الإرث أو النحلة ،
والأول مناقض لروايته في الميراث ، والثاني يحتاج إلى الثبوت ببينة ونحوها ، ولم
يطالبهن بشيء منها كما طالب فاطمة عليهاالسلام في دعواها ، وهذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة ، على
أنه لم يفعل ما فعل إلا عداوة لأهل بيت الرسالة ، ولم يقل ما قال إلا افتراء على
الله وعلى رسوله.
ولنكتف بما ذكرنا ، فإن
بسط الكلام في تلك المباحث مما يوجب كثرة حجم الكتاب وتعسر تحصيله على الطلاب.
__________________
فانظر أيها العاقل
المنصف بعين البصيرة! فيما اشتمل عليه تلك الأخبار الكثيرة التي أوردوها في كتبهم المعتبرة عندهم من
حكم سيدة النساء صلوات الله عليها ـ مع عصمتها وطهارتها ـ باغتصابهم للخلافة وأنهم
أتباع الشيطان ، وأنه ظهر فيهم حسيكة النفاق ، وأنهم أرادوا إطفاء نور الدين ،
وإهماد سنن سيد المرسلين صلوات الله عليه وآله أجمعين ، وأنهم آذوا أهل بيته
وأضمروا لهم العداوة .. وغير ذلك مما اشتملت عليه الخطبة الجليلة .. !.
فهل يبقى بعد ذلك
شك في بطلان خلافة أبي بكر ونفاقه ونفاق أتباعه؟!.
ثم إنها عليهاالسلام حكمت بظلم أبي بكر في منعها الميراث صريحا بقولها عليهاالسلام : لقد جئت ( شَيْئاً فَرِيًّا ) ، ودعت الأنصار
إلى قتاله ، فثبت جواز قتله ، ولو كان إماما لم يجز قتله.
ثم انظر إلى هذا
المنافق كيف شبه أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأخا سيد المرسلين وزوجه الطاهرة :
بثعالة شهيده ذنبه ، وجعله مربا لكل فتنة ، ثم إلى موت فاطمة صلوات الله عليها
ساخطة على أبي بكر مغضبة عليه منكرة لإمامته ، وإلى إنكار أبي بكر كون فدك خالصة
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مع كونه مخالفا للآية والإجماع وأخبارهم ، وإلى أنه انتزع
فدك من يد وكلاء فاطمة وطلب منها الشهود ، مع أنها لم تكن مدعية ، فحكم بغير حكم
الله وحكم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وصار بذلك من الكافرين بنص القرآن ، وإلى طلب الشاهد من
المعصومة ورد
__________________
شهادة المعصومين
الذين أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل ، وقال فيهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما قال ، ومنعها الميراث خلافا لحكم الكتاب ، وافترائه على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بما شهد الكتاب والسنة بكذبه ، فتبوأ مقعده من النار ، وظلمه عليها صلوات
الله عليها في منع سهم ذي القربى خلافا لله تعالى ، ومناقضته لما رواه حيث مكن الأزواج
من التصرف في الحجر وغيرها مما يستنبط من فحاوي ما ذكر من الأخبار ، ولا يخفى طريق
استنباطها على أولي الأبصار.
__________________
١٢ ـ باب
العلة
التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليهالسلام
فدك لما
ولي الناس
١
ـ ع : الدقاق ، عن
الأسدي ، عن النخعي ، عن النوفلي ، عن علي بن سالم ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : قلت له :
لم لم يأخذ أمير المؤمنين
عليهالسلام فدك لما ولي الناس؟ ولأي علة تركها؟ فقال له :
لأن الظالم والمظلومة قد
كانا قدما على الله عز وجل وأثاب الله المظلومة وعاقب الظالم ، فكره أن يسترجع
شيئا قد عاقب الله عليه غاصبه وأثاب عليه
__________________
المغصوبة .
٢
ـ ع : ابن هاشم ، عن
أبيه ، عن جده ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم الكرخي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام فقلت له : لأي علة ترك أمير المؤمنين عليهالسلام فدكا لما ولي الناس؟ فقال : للاقتداء برسول الله صلىاللهعليهوآله لما فتح مكة وقد باع عقيل بن أبي طالب داره ، فقيل له : يا رسول الله! ألا
ترجع إلى دارك؟ فقال (ص) : وهل ترك عقيل لنا دارا ، إنا أهل بيت لا نسترجع شيئا
يؤخذ منا ظلما ، فلذلك لم يسترجع فدكا لما ولي.
٣
ـ ن ، ع : القطان ، عن
أحمد الهمداني ، عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن عليهالسلام قال : سألته عن أمير المؤمنين عليهالسلام لم لم يسترجع فدك لما ولي الناس؟ فقال : لأنا أهل بيت ولينا الله عز وجل لا يأخذ لنا
حقوقنا ممن يظلمنا إلا هو ، ونحن أولياء المؤمنين ، إنما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن
يظلمهم ، ولا نأخذ لأنفسنا.
__________________
تبيين
: اعلم أن بعض المخالفين تمسكوا في تصحيح ما زعموه في أمر الميراث وقصة فدك بإمضاء
أمير المؤمنين عليهالسلام ما فعلته الخلفاء لما صار الأمر إليه ، وقد استدل قاضي
القضاة بذلك على أن أمير المؤمنين عليهالسلام لم يكن شاهدا في قضية فدك ، إذ لو كان هو الشاهد فيها لكان
الأقرب أن يحكم بعلمه ، وكذلك في ترك الحجر لنساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم قال : وليس لهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية التي هي مفزعهم عند لزوم
الكلام ، ولو علموا ما عليهم في ذلك لاشتد هربهم منه ، لأنه إن جاز للأئمة التقية
ـ وحالهم في العصمة ما يقولون ـ ليجوزن ذلك من رسول الله ، وتجويز ذلك فيه يوجب أن لا يوثق بنصه على
أمير المؤمنين عليهالسلام لتجويز التقية ، ومتى قالوا يعلم بالمعجز إمامته فقد
أبطلوا كون النص طريقا للإمامة ، والكلام مع ذلك لازم لهم ، بأن يقال : جوزوا مع
ظهور المعجز أن يدعي الإمامة تقية ، وأن يفعل سائر ما يفعله تقية ؟ وكيف يوثق مع
ذلك بما ينقل عن الرسول وعن الأئمة؟! وهلا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليهالسلام نبيا بعد الرسول وترك ادعاء ذلك تقية وخوفا؟! فإن الشبهة في ذلك أوكد من
النص ، لأن التعصب للنبي في النبوة أعظم من التعصب لأبي بكر وغيره في الإمامة! فإن
عولوا في ذلك على علم الاضطرار فعندهم أن الضرورة في
__________________
النص على الإمامة
قائمة ، وإن فزعوا في ذلك إلى الإجماع ، فمن قولهم أنه لا يوثق به ويلزمهم في
الإجماع أن يجوز أن يقع على طريق التقية لأنه لا يكون أوكد من قول الرسول وقول
الإمام عندهم ، وبعد ، فقد ذكر الخلاف في ذلك كما ذكر الخلاف في أنه إله ، فلا يصح
على شروطهم أن يتعلقوا بذلك .
وأجاب عنه السيد
الأجل رضياللهعنه في الشافي بما هذا لفظه : أما قوله : إن جازت
التقية للأئمة ـ وحالهم في العصمة ما يدعون ـ جازت على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالفرق بين الأمرين واضح ، لأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مبتدئ بالشرع ، ومفتتح لتعريف الأحكام التي لا تعرف إلا من جهته وبيانه ، فلو
جازت عليه التقية لأخل ذلك بإزاحة علة المكلفين ، ولفقدوا الطريق إلى معرفة
مصالحهم الشرعية ، وقد بينا أنها لا تعرف إلا من جهته ، والإمام بخلاف هذا الحكم ،
لأنه مفيد للشرائع التي قد علمت من غير جهته ، وليس يقف العلم بها
والحق فيها على قوله دون غيره ، فمن اتقى في بعض الأحكام بسبب يوجب ذلك لم يخل
تقيته بمعرفة الحق وإمكان الوصول إليه ، والإمام والرسول ـ وإن استويا في العصمة
ـ فليس يجب أن يستويا في جواز التقية للفرق الذي ذكرناه ، لا أن الإمام لم يجز التقية عليه لأجل
العصمة ، وليس للعصمة تأثير في جواز التقية ولا نفي جوازها.
__________________
فإن
قيل : أليس من قولكم إن
الإمام حجة في الشرائع وقد يجوز عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحق لا يعرف
إلا من جهته وبقوله ، بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلا من جهة من يقوم
الحجة بقوله وهذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرقتم بينهما فيه؟.
قلنا
: إذا كانت الحال
في الإمام ما صورتموه وتعينت الحجة في قوله ، فإن التقية لا تجوز عليه كما لا تجوز
على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فإن
قيل : فلو قدرنا أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بين جميع الشرائع والأحكام التي يلزمه بيانها حتى لم
يبق شبهة في ذلك ولا ريب ، لكان يجوز عليه والحال هذه ـ التقية في بعض الأحكام.
قلنا
: ليس يمنع عند قوة أسباب
الخوف الموجبة للتقية أن يتقي إذا لم يكن التقية مخلة بالوصول إلى الحق ولا منفرة عنه.
ثم يقال له : أليست التقية
عندك جائزة على جميع المؤمنين عند حصول أسبابها وعلى الإمام والأمير؟!.
فإن
قال : هي جائزة على
المؤمنين وليست جائزة على الإمام والأمير.
قلنا
: وأي فرق بين ذلك؟
والإمام والأمير عندك ليسا بحجة في شيء كما أن النبي (ص) حجة فيمنع من ذلك لمكان
الحجة بقولهما ، فإن اعترف بجوازها عليهما قيل له فإلا جاز على النبي (ص) قياسا
على الأمير والإمام.
فإن
قال : لأن قول النبي (ص)
حجة ، وليس الإمام والأمير كذلك.
__________________
قيل
له : وأي تأثير في
الحجة في ذلك إذا لم تكن التقية مانعة من إصابة الحق ، ولا بمخلة بالطريق إليه.
وخبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب الأخبار حجة لو ظفر بهم جبار ظالم متفرقين أو
مجتمعين فسألهم عن مذاهبهم ـ وهم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنهم متى ذكروها على
وجهها قتلهم وأباح حريمهم أليست التقية جائزة على هؤلاء مع الحجة في أقوالهم؟ فإن
منع من جواز التقية على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم.
وقيل
له : وأي فرق بين هذه
الجماعة وبين من نقص عن عدتها في جواز التقية؟ فلا يجد فرقا.
فإن
قال : إنما جوزنا
التقية على من ذكرتم لظهور الإكراه والأسباب الملجئة إلى التقية ومنعناكم من مثل
ذلك ، لأنكم تدعون تقية لم تظهر أسبابها ولا الأمور الحاملة عليها من إكراه وغيره.
قيل
له : هذا اعتراف بما
أردناه من جواز التقية عند وجود أسبابها ، وصار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة ،
ولسنا نذهب في موضع من المواضع إلى أن الإمام اتقى بغير سبب موجب لتقية ، وحامل
على فعله ، والكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة ، وليس كل الأسباب التي توجب
التقية تظهر لكل أحد ، ويعلمها جميع الخلق ، بل ربما اختلفت الحال فيها ، وعلى كل
حال فلا بد أن تكون معلومة لمن وجب تقيته ، ومعلومة أو مجوزة لغيره ، ولهذا قد نجد
بعض الملوك يسأل رعيته عن أمر فيصدقه بعضهم في ذلك ولا يصدقه آخرون ، ويستعملون
ضربا من التورية ، وليس ذلك إلا لأن من صدق لم يخف على نفسه ومن جرى مجرى نفسه ،
ومن ورى فلأنه خاف على نفسه وغلب في ظنه وقوع الضرر به متى صدق فيما سئل عنه ، وليس
يجب أن يستوي حال الجميع ، وأن يظهر لكل أحد
__________________
السبب في تقية من
اتقى ممن ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل ، وحتى يجري مجرى
العرض على السيف في الملإ من الناس ، بل ربما كان ظاهرا كذلك ، وربما كان خافيا .
فإن
قيل : مع تجويز التقية
على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه واعتقاده؟ وكيف يتخلص لنا ما يفتي به
على سبيل التقية من غيره؟.
قلنا
: أول ما نقوله في
ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم إلا من جهته ، والطريق إليه إلا من
ناحيته ، وقوله وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبينات ونصبت
عليه الدلالات حتى لا يكون تقيته فيه مزيلة لطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة ، ثم لا تبقى في شيء إلا ويدل
على خروجه منه مخرج التقية ، إما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو يتأخر عنه ، ومن
اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهمالسلام على سبيل التقية وجده لا يعرى مما ذكرناه.
ثم إن التقية إنما
تكون من العدو دون الولي ، ومن المتهم دون الموثوق به ، فما يصدر منهم إلى
أوليائهم وشيعتهم ونصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة
التقية ، وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الجور يجوز أن يكون على
سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها ، ثم يقلب هذا السؤال على
المخالف فيقال له : إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف الشديد وما يجري
مجراه ، فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟! وكيف تفصل
__________________
بين ما يفتي به
المفتي منهم على سبيل التقية وبين ما يفتي به وهو مذهب له يعتقد بصحته؟! فلا بد من
الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن
قال : أعرف مذهب غيري
وإن أجزت عليه التقية بأن يضطرني إلى اعتقاده ، وعند التقية لا يكون ذلك.
قلنا
: وما المانع لنا
من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه ، فأما ما تلا كلامه الذي حكيناه عنه
من الكلام في التقية ، وقوله : إن ذلك يوجب أن لا يوثق بنصه على أمير المؤمنين عليهالسلام ، فإنما بناه على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يجوز عليه التقية في كل حال ، وقد بينا ما في ذلك
واستقصيناه.
وقوله
: ألا جاز أن يكون
أمير المؤمنين عليهالسلام نبيا ، وعدل عن ادعاء ذلك تقية .. فيبطله ما ذكرنا من أن
التقية لا يجوز على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام عليهالسلام فيما لا يعلم إلا من جهته ، ويبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن وكل عاقل
ضرورة من نفي النبوة بعده على كل حال من دين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقوله
: إن عولوا على علم
الاضطرار فعندهم أن الضرورة في النص على الإمام قائمة ، فمعاذ الله أن ندعي
الضرورة في العلم بالنص على من غاب عنه فلم يسمعه ، والذي نذهب إليه أن كل من لم
يشهده لا يعلمه إلا باستدلال وليس كذلك نفي النبوة ، لأنه معلوم من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرورة ، ولو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلا اختلاف العقلاء في النص مع
تصديقهم بالرسول
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنهم لم يختلفوا في نفي النبوة لكفى ، ولا اعتبار
بقوله في ذلك خلاف ما قد ذكر كما ذكر في أنه عليهالسلام إله ، لأنه هذا الخلاف لا يعتد به ، والمخالف فيه خارج عن الإسلام فلا
يعتبر في إجماع المسلمين بقوله ، كما لا يعتبر في إجماع المسلمين بقول من خالف في
أنه إله ، على أن من خالف وادعى نبوته لا يكون مصدقا للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا عالما بنبوته ، ولا يدعي علم الاضطرار في أنه لا نبي بعده وإنما يعلم
ضرورة من دينه صلىاللهعليهوآلهوسلم نفي النبوة بعده من أقر بنبوته .
فأما
قوله : إن الإجماع لا يوثق
به عندهم ، فمعاذ الله أن نطعن في الإجماع وكونه حجة ، فإن أراد أن الإجماع الذي
لا يكون فيه قول إمام ليس بحجة فذلك ليس بإجماع عندنا وعندهم ، وما ليس بإجماع فلا
حجة فيه ، وقد تقدم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية.
وقوله
: يجوز أن يقع الإجماع على
طريق التقية لا يكون أوكد من قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أو قول الإمام عليهالسلام عندهم ، باطل ، لأنا قد بينا أن التقية لا تجوز على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام عليهالسلام على كل حال ، وإنما تجوز على حال دون أخرى ، على أن القول
بأن الأمة بأسرها مجتمع
__________________
على طريق التقية
طريف ، لأن التقية سببها الخوف من الضرر العظيم ، وإنما يتقي بعض الأمة من بعض
لغلبته عليه وقهره له ، وجميع الأمة لا تقية عليها من أحد.
فإن
قيل : يتقي من مخالفيها
في الشرائع.
قلنا
: الأمر بالضد من
ذلك ، لأن من خالطهم وصاحبهم من مخالفيهم في الحال أقل عددا وأضعف
بطشا منهم ، فالتقية لمخالفيهم منهم أولى ، وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطالة
والاستقصاء. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
ولنذكر
بعض ما يدل على جواز التقية لكثرة تشنيع
المخالفين في ذلك علينا مع كثرة الدلائل القاطعة عليها :
فمنها
: قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) .
ومنها :
قوله تعالى : ( لا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقاةً ) .
ومنها :
ما رواه الفخر الرازي وغيره من
المفسرين عن الحسن قال : أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوآله فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم. قال
: أفتشهد أني رسول الله؟
__________________
قال : نعم ، وكان
مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد صلىاللهعليهوآله رسول قريش ، فتركه ، ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا
رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم! قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ..
ثلاثا. فقدمه وقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه فهنيئا له ،
وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
ومنها : ما رواه الخاصة والعامة أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا
عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه
كان بقلبه مصرا على الإيمان منهم عمار وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب
وسالم عذبوا ، وأما سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجئت في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت
، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها
، فقيل يا رسول الله! إن عمارا كفر. فقال : كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى
قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يمسح عينيه يقول : ما لك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت .
__________________
ومنها
: خبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه فأسلم وحسن
إسلامهما وهاجرا .
وقال ابن عبد البر
في الإستيعاب في ترجمة عمار : إن نزول الآية فيهم مما أجمع أهل التفسير
عليه.
ويدل عليها أيضا
ما يدل على نفي الحرج نحو قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ولزوم الحرج في مواضع التقية ـ سيما إذا انتهت الحال إلى
القتل وهتك العرض ـ واضح ..
ويدل
عليها عموم قوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
وقد فسر مجاهد
الاضطرار في آية الأنعام باضطرار الإكراه خاصة .
ويدل عليه قوله
تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ) على بعض
__________________
التفاسير . ولا خلاف في
شرعيتها مع الخوف على النفس من الكفار الغالبين.
وقال الشافعي ـ من
العامة ـ بأن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المسلمين والمشركين حلت
التقية ، ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسير الآية الثانية ، وقال :
التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ، يحتمل أن يحكم فيها بالجواز
،لقوله صلى الله عليه وسلم : حرمة مال المسلم كحرمة دمه ،. ولقوله صلى الله عليه
وسلم : من قتل دون ماله فهو شهيد ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع
بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال ،
فكيف لا يجوز هاهنا ؟.
وقال في تفسير
الآية الأولى :اعلم أن للإكراه مراتب :
أحدها
: أن يجب
فعل المكره عليه ، مثل ما إذا
أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة ، فإذا أكرهه عليه بالسيف فهاهنا
يجب الأكل ، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا
بهذا الأكل ، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا إهانة بحق الله ، فوجب أن يجب ،
لقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ) .
المرتبة
الثانية : أن يكون ذلك الفعل مباحا ولا يصير واجبا ، ومثاله ما إذا
__________________
أكرهه على التلفظ
بكلمة الكفر مباح له ذلك ولكنه لا يجب .
قال : وأجمعوا على
أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه :
أحدها
: إنا روينا أن
بلالا صبر على ذلك العذاب وكان يقول : أحد ..
أحد ، ولم يقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم بئسما صنعت ، بل عظموه عليه ، فدل ذلك على
أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر.
وثانيها
: ما روي من قصة
المسيلمة ، التي سبق ذكرها ، قال :
المرتبة
الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم ، وهذا مثل ما أكرهه إنسان على
قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه ، فهاهنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية انتهى.
ولا خلاف ظاهرا في
أنه متى أمكن التخلص من الكذب في صورة التقية بالتورية لم يجز ارتكاب الكذب ،
واختلفوا فيما لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن
يصرح بأنه ما أراد شيئا منها ولا أراد إلا ذلك المعين ، ولم يتفطن في تلك الحال
بتورية يتخلص منه فالخاصة وأكثر
__________________
العامة ذهبوا إلى جواز
الكذب حينئذ.
وحكى الفخر الرازي
عن القاضي أنه قال : يجب حينئذ تعريض النفس للقتل ، لأن الكذب إنما يقبح لكونه
كذبا ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج من القبح لرعاية بعض المصالح لم
يمتنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح ، وحينئذ لا يبقى وثوق بعهد الله ولا بوعيده ،
لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى .
ويرد عليه : أن الكذب
وإن كان قبيحا إلا أن جواز ارتكابه في محل النزاع لأنه أقل القبيحين ، والتعريض للقتل ـ لو
سلمنا عدم قبحه لذاته جاز أن يغلب المفسدة العرضية فيه على الذاتية في الكذب ،
ويلزمه تجويز تعريض نبي من الأنبياء للقتل للتحرز عن الكذب في درهم ، وبطلانه لا
يخفى على أحد.
وأما ما تمسك به
من تطرق الكذب إلى وعد الله سبحانه ووعيده ، فيتوجه عليه :
__________________
أولا
: أن العقل يجزم
ببطلان الاحتمال المذكور ، لأن سبحانه هو الذي بيده أزمة الأمور ، وهو القادر الذي لا
يضاده في ملكه أحد ، والعالم بالعواقب ، فلا يجوز عليه نظم الأمور على وجه لا يمكن
فيه رعاية المصلحة إلا بالكذب.
وثانيا
: أن ذلك باطل
بالضرورة من الدين وإجماع المليين ـ لا من حيث عدم جواز الكذب ـ لرعاية المصالح ،
وهو واضح.
ثم إن الشهيد رحمهالله عرف التقية في قواعده بأنها : مجاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذرا من
غوائلهم ، قال : وأشار إليه أمير المؤمنين عليهالسلام وموردها الطاعة والمعصية غالبا ، فمجاملة الظالم فيما
يعتقده ظلما والفاسق المتظاهر بفسقه اتقاء شرهما من باب المداهنة الجائزة ولا تكاد
تسمى تقية.
وقسمها بانقسام
الأحكام الخمسة ، وعد من الحرام التقية في قتل الغير ، وقال : التقية تبيح
كل شيء حتى إظهار كلمة الكفر ولو تركها حينئذ أثم ، أما في هذا المقام ومقام
التبري من أهل البيت عليهمالسلام فإنه لا يأثم بتركها ، بل صبره إما مباح أو مستحب ، وخصوصا
إذا كان ممن يقتدى به ، انتهى.
وحكى الشيخ
الطبرسي رحمهالله في مجمع البيان عن الشيخ المفيد رضي
__________________
الله عنه أنه قال
: التقية قد تجب أحيانا وتكون فرضا ، وتجوز أحيانا من غير وجوب ويكون في وقت أفضل
من تركها ، وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه ، متفضلا عليه
بترك اللوم عليها .
وقال الشيخ أبو
جعفر الطوسي رحمهالله : ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ،
وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده .
وأنت إذا وقفت على
ما حكيناه ظهر لك أن القول بالتقية ليس من خصائص الخاصة حتى يعيروا به ـ كما يوهمه
كلام قاضي القضاة والفخر الرازي وغيرهما ـ وأكثر أحكامها مما قال به جل العامة أو
طائفة منهم.
ثم إن ما جعله
قاضي القضاة من مفاسد القول بجواز التقية على الإمام أعني لزوم جوازها على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مما رووه في أخبارهم واتفقوا على صحته.
روى البخاري في
صحيحه في باب فضل مكة وبنيانها بأربعة أسانيد ، ـ ومسلم في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، والترمذي والنسائي في صحيحيهما ، وذكرهما في جامع الأصول في فضل الأمكنة من حرف الفاء
بألفاظ مختلفة .
__________________
منها
: ـ وهو لفظ البخاري ومسلم
والموطأ والنسائي ـ أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عن عبد الله بن عمر
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال لها : ألم تري أن قومك حين
بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت : يا رسول الله! ألا تردها على قواعد
إبراهيم؟ قال : لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت.قال عبد الله : لئن كانت عائشة سمعت
هذا من رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه [
وآله ] وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد
إبراهيم .
ومن لفظ البخاري
ومسلم عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت : سألت النبي صلى الله عليه [ وآله ] عن الجدار ، أمن البيت هو؟ قال :
نعم. قلت :فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت : فما
شأن بابه مرتفعا؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولو لا
أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت
وأن ألصق بابه بالأرض ..
ومن لفظ البخاري ،
عن جرير ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه [ وآله
] قال لها : يا عائشة! لو لا أن قومك حديث عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت
فيه ما أخرج منه ، وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ، بابا شرقيا وبابا غربيا ،
فبلغت به أساس إبراهيم فذلك الذي
__________________
حمل ابن الزبير
على هدمه. قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر ، وقد
رأيت أساس إبراهيم عليهالسلام حجارة كأسنمة الإبل ، قال جرير : فقلت له أين موضعه؟ قال :
أريكه الآن ، فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان فقال : هاهنا. فخررت من الحجر ستة
أذرع أو نحوها .. . وباقي ألفاظ الروايات مذكورة في جامع الأصول .
ولا ريب في أن
الظاهر أن تعليق الإمضاء بحدثان عهد القوم وقربه من الكفر والجاهلية يستلزم خوفه صلىاللهعليهوآلهوسلم في ارتدادهم وخروجهم عن الإسلام أن يعود بذلك ضرر على نفسه صلىاللهعليهوآلهوسلم أو إلى غيره ، ويتطرق بذلك الوهن في الإسلام ، وذلك هو الذي جعله قاضي القضاة
مفزعا للشيعة عند لزوم الكلام.
ثم إن هذه
الروايات تدل دلالة ظاهرة على أن إيمان القوم لم يكن ثابتا مستقرا ، وإلا لما كان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم خائفا وجلا من تغيير ما أسسه أئمة القوم في الجاهلية
والكفر ، وإنهم ممن قال الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) . بل الظاهر من الكلام لمن أنصف وراجع الوجدان الصحيح أن
القوم لم يكونوا مذعنين لرسالته صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا بألسنتهم ، وإلا لما خاف ارتدادهم لأمر لا يعود
بإبقائه إليهم نفع في آخرتهم ودنياهم ، وكانوا يحبون بقاءه لكونه من قواعد
الجاهلية وأساس الكفر ، ولا ريب في أن توجيه الكلام إلى عائشة والتعبير عن القوم
بلفظ يفيد نوعا من الاختصاص
__________________
بها يقتضي كون
الحكم أخص وأقرب إلى من كان أقرب إليها وأخص بها ، لكونه متبعا في القوم أو أشد
عصبية منهم .. أو نحو ذلك ، وليس في القوم أقرب إلى عائشة من أبيها.
فإن قيل : تركه صلىاللهعليهوآلهوسلم لهدم ما أسسه القوم لم يكن لخوفه على نفسه أو غيره حتى يدخل في التقية ، بل
هو من قبيل رعاية المصالح في تأليف قلوب القوم وميلهم إلى الإسلام ، وذلك من قبيل
أمره سبحانه بمشاورة القوم والرفق بهم في قوله : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) .
قلنا
: أولا : هذا بعيد من
الظاهر ، إذ الخوف من إنكار قلوب عامة القوم ـ كما يظهر من إضافة ما يفيد مفاد
الجمع لحدثان عهدهم بالجاهلية والكفر مع الأمن من لحوق الضرر ولو إلى أحد من
المسلمين ـ مما لا معنى له عند الرجوع إلى فطرة سليمة.
وثانيا
: أنه يجوز أن يكون
المانع لأمير المؤمنين عليهالسلام من نقض أحكامهم مثل ذلك ، ولم يكن أئمة الكفر والجاهلية في
صدور قوم عائشة أمكن من أبي بكر وعمر في قلوب القوم الذين كانوا يبايعون أمير
المؤمنين (ع) على سيرتهما واقتفاء أثرهما ، وإذا لم يكن ذلك من التقية بطل قول
قاضي القضاة ، وليس لهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية التي هي مفزعهم عند لزوم
الكلام.
وثالثا
: إذا جاز على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ترك الإنكار على تغيير ما حرم الله خوفا من هذا النوع من
الضعف في الإسلام الذي يئول إلى خروج قوم منافقين أو متزلزلين في الإسلام عن
الإسلام من غير أن يعود به ضرر إلى المسلمين ولا إلى نفسه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فبالأولى أن يجوز لأمير المؤمنين إمضاء الباطل من أحكام القوم للخوف على
نفسه أو غيره من المسلمين ، لكون ذلك أضر في
__________________
الإسلام ، وكما لم
تمنع العصمة في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تركه إنكار المنكر لم تمنع في أمير المؤمنين عليهالسلام ، ويتوجه على قول قاضي القضاة : جوزوا مع ظهور المعجز أن يدعي الإمامة تقية
.. أنه إن كان المراد تجويز ظهور المعجز بعد ادعاء الإمامة مع كونه غير نبي ولا
إمام فبطلانه واضح.
وإن كان المراد
تجويز ادعاء الإمامة مع كونه نبيا حتى يكون ما بعده كالإعادة لهذا الكلام فيرد
عليه : أنه إن كان ذلك الادعاء على وجه الكذب فامتناع ظهور المعجز على طبقه واضح.
وإن كان على وجه
التورية حتى يكون المراد من الإمامة النبوة لكن لم يعرف ذلك أحد من الناس ، وكانوا
معتقدين لإمامته متدينين بها لا بنبوته فهو أيضا باطل ، إذ في ظهور المعجز ـ مع
تلك الدعوى ـ إغراء للمكلفين بالباطل ، وهو قبيح ..
__________________
١٣ ـ باب
علة قعوده عليهالسلام
عن قتال من تأمر عليه من الأولين ،
وقيامه إلى قتال من بغى عليه
من الناكثين والقاسطين والمارقين ،
وعلة إمهال الله من تقدم عليه
، وفيه علة قيام من قام
من سائر الأئمة وقعود من قعد
منهم عليهمالسلام.
١
ـ ج : روي أن أمير
المؤمنين عليهالسلام كان جالسا في بعض مجالسه بعد رجوعه عن النهروان فجرى الكلام حتى
قيل : لم لا حاربت أبا بكر وعمر كما حاربت طلحة والزبير ومعاوية؟.
فقال عليهالسلام : إني كنت لم أزل مظلوما مستأثرا على حقي ، فقام إليه أشعث
بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين! لم لم تضرب بسيفك وتطلب بحقك؟! فقال : يا أشعث!
قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه واستشعر الحجة ، إن لي أسوة بستة من الأنبياء صلوات
الله عليهم أجمعين :
__________________
أولهم
: نوح عليهالسلام حيث قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) ، فإن قال قائل :
إنه قال لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
وثانيهم : لوط عليهالسلام حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) . فإن قال قائل :
إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
وثالثهم : إبراهيم خليل الله حيث قال : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) . فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا
فالوصي أعذر.
ورابعهم : موسى عليهالسلام حيث قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ ) . فإن قال قائل : إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا
فالوصي أعذر.
وخامسهم : أخوه هارون عليهالسلام حيث قال : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) . فإن قال قائل :
إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
وسادسهم : أخي محمد سيد البشر صلىاللهعليهوآله حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشه ، فإن قال قائل : إنه
ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر ، وإلا فالوصي أعذر.
فقام إليه الناس
بأجمعهم فقالوا : يا أمير المؤمنين! قد علمنا أن القول قولك ونحن المذنبون التائبون
، وقد عذرك الله!.
__________________
٢
ـ ج : عن إسحاق بن
موسى ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهمالسلام قال : خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه خطبة بالكوفة فلما كان في آخر كلامه
قال : إني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقام الأشعث بن قيس لعنه الله فقال : يا أمير المؤمنين! لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا
وقلت : والله إني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم! ولما ولي تيم وعدي ، ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟! فقال له أمير المؤمنين
صلوات الله وسلامه عليه : يا ابن الخمارة! قد قلت قولا فاستمع ، والله ما منعني
الجبن ولا كراهية الموت ، ولا منعني ذلك إلا عهد أخي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، خبرني وقال : يا أبا الحسن! إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي ، وإنك مني
بمنزلة هارون من موسى. فقلت : يا رسول الله! فما تعهد إلي إذا كان كذلك؟ فقال : إن
وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق
بي مظلوما. فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ، ثم آليت يمينا أني لا أرتدي إلا
للصلاة حتى أجمع القرآن ، ففعلت ، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين ثم درت على أهل
بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصري ، فما أجابني
__________________
منهم إلا أربعة
رهط : سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل
بيتي ، وبقيت بين خفيرتين قريبي العهد بجاهلية : عقيل والعباس.
فقال له الأشعث :
يا أمير المؤمنين! كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل مظلوما ؟.
فقال أمير
المؤمنين : يا ابن الخمارة! ليس كما قست ، إن عثمان لما جلس جلس في غير مجلسه
، وارتدى بغير ردائه ، وصارع الحق فصرعه الحق ، والذي بعث محمدا بالحق لو وجدت يوم
بويع أخو تيم أربعين رهطا لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري. ثم أيها الناس! إن الأشعث
لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز ..
إيضاح
: قوله عليهالسلام : بين خفيرتين ـ بالخاء المعجمة والراء المهملة أي طليقين
معاهدين أخذا في الحرب وحقن دمهما بالأمان والفداء ، أو ناقضين للعهد ، قال في
القاموس : الخفير : المجار والمجير .. وخفره : أخذ منه جعلا ليجيره ، وبه خفرا
وخفورا : نقض عهده وغدركه كأخفره ، وفي بعض النسخ :بالحاء المهملة والزاي المعجمة من قولهم
: حفزه .. أي دفعه من خلفه ، وبالرمح :طعنه ، وعن الأمر : أعجله وأزعجه ، قاله
الفيروزآبادي .
وقال : أبلاه عذرا
: أداه إليه فقبله .
__________________
وعفطة العنز :
ضرطته .
٣
ـ ج : روي عن أم سلمة
زوجة رسول الله صلىاللهعليهوآله أنها قالت : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله تسع نسوة ، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأتيت الباب فقلت : أدخل يا رسول الله (ص)؟
فقال : لا. قالت : فكبوت
كبوة شديدة مخافة أن يكون ردني من سخطه ، أو نزل في شيء من السماء ، ثم لم ألبث أن
أتيت الباب ثانية فقلت : أدخل يا رسول الله؟
فقال : لا. قالت : فكبوت
كبوة أشد من الأولى ، ثم لم ألبث حتى أتيت الباب ثالثة فقلت : أدخل يا رسول الله؟
فقال : ادخلي يا أم سلمة ، فدخلت وعلي عليهالسلام جاث بين يديه ، وهو يقول : فداك أبي وأمي يا رسول الله إذا
كان ..
كذا وكذا فما تأمرني؟ قال
: آمرك بالصبر .. ثم أعاد عليه القول ثانية فأمره بالصبر .. ثم أعاد عليه القول
ثالثة ، فقال له : يا علي! يا أخي! إذا كان ذلك منهم فسل سيفك
وضعه على عاتقك واضرب قدما قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم ، ثم التفت إلي وقال :
ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ قلت : للذي كان من ردك إياي يا رسول الله. فقال لي :
والله ما رددتك إلا لشيء خير [ خبرت ] من الله ورسوله ، ولكن أتيتني وجبرئيل عليهالسلام يخبرني بالأحداث التي تكون بعدي ، وأمرني أن أوصي بذلك عليا (ع) ، يا أم سلمة!
اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب (ع) وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة ، يا أم
سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب (ع) وصيي وخليفتي من بعدي وقاضي عداتي
__________________
والذائد عن حوضي ،
اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين
، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. قلت : يا رسول الله! من الناكثون؟ قال :
الذين يبايعونه بالمدينة ويقاتلونه بالبصرة .
قلت : من القاسطون؟ قال :
معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت : من المارقون؟ قال : أصحاب النهروان.
٤
ـ لي : ابن الوليد ،
عن محمد بن أبي القاسم ، عن محمد بن علي الصيرفي ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل ،
عن الصادق ، عن آبائه عليهمالسلام مثله.
٥
ـ ما : الغضائري ، عن
الصدوق مثله.
بيان
: كبا كبوا : انكب
على وجهه ، ويقال : مضى قدما ـ بضمتين ـ أي لم يعرج ولم ينثن .
٦
ـ ج : روي أن أمير
المؤمنين عليهالسلام قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام حاكيا عن
النبي صلىاللهعليهوآله قوله : يا علي! إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ، ومخاصم
بين يدي الله ، فأعد للخصوم جوابا. فقلت : بأبي أنت وأمي بين لي ما هذه الفتنة
التي أبتلى بها؟ وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال لي :
__________________
إنك ستقاتل بعدي
الناكثة والقاسطة والمارقة .. وحلاهم وسماهم رجلا رجلا ، وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن
وسنتي ممن يعمل في الدين بالرأي ، فلا رأي في الدين ، إنما هو أمر الرب ونهيه. فقلت يا رسول الله!
فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة؟. فقال : نعم ، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى
إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى ، وعطفوا القرآن على الرأي فيتأولوه برأيهم بتتبع
الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الطارئة عند الطمأنينة إلى الدنيا ، فاعطف أنت الرأي على
القرآن إذا قومك حرفوا الكلم عن مواضعه عند الأهواء الناهية والآراء الطامحة ،
والقادة الناكثة ، والفرقة القاسطة ، والأخرى المارقة أهل الإفك المردي ، والهوى المطغي
، والشبهة الحالقة ، فلا تنكلن عن فضل العاقبة ، فإن العاقبة للمتقين.
٧
ـ ج عن ابن عباس رضي
الله عنه قال : لما نزلت : ( يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ... قال النبي صلىاللهعليهوآله : لأجاهدن العمالقة ـ يعني الكفار والمنافقين ـ فأتاه جبرئيل فقال : أنت أو علي؟.
__________________
٨
ـ ج : روى جابر بن عبد الله
الأنصاري قال : إني كنت لأدناهم من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع بمنى فقال : لأعرفتكم [ لأعرفنكم ] ترجعون بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وايم الله لو فعلتموها لتعرفني في الكتيبة التي
تضاربكم ، ثم التفت إلى خلفه فقال : أو عليا .. ثلاثا ، فرأينا أن جبرئيل عليهالسلام غمزه ، فأنزل الله تعالى : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) بعلي ( أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) .
بيان
: لعله صلىاللهعليهوآلهوسلم لما أخبر بما نزل عليه من أنه يقاتل المنافقين المرتدين
بعده ، نزل جبرئيل عليهالسلام فأخبره بالبداء فيه ، وأنه إنما يقاتلهم علي عليهالسلام ، فقال : أو عليا .. أي أو لتعرفن عليا عليهالسلام تبهيما عليهم ، أو كلمة ( أو ) بمعنى بل.
٩
ـ ج : عن ابن عباس أن
عليا عليهالسلام كان يقول ـ في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : إن الله تعالى يقول : ( وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن
مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، لأني أخوه وابن عمه ووارثه ، فمن
أحق به مني؟.
__________________
١٠
ـ ج : عن أحمد بن
همام قال : أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت : يا أبا عمارة! كان الناس على تفضيل
أبي بكر قبل أن يستخلف؟
فقال : يا أبا ثعلبة! إذا
سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثوا ، فو الله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر
كما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أحق بالنبوة من أبي جهل قال : وأزيدك إنا كنا ذات يوم
عند رسول الله صلىاللهعليهوآله فجاء علي (ع) وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل علي (ع) على إثرهما فكأنما سفي على وجه
رسول الله صلىاللهعليهوآله الرماد ، ثم قال : يا علي! أيتقدمانك هذان وقد أمرك الله
عليهما؟! قال أبو بكر : نسيت يا رسول الله ، وقال عمر : سهوت يا رسول
الله. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما نسيتما ولا سهوتما ، وكأني بكما قد استلبتما ملكه وتحاربتما
عليه ، وأعانكما على ذلك أعداء الله وأعداء رسوله ، وكأني بكما قد تركتما
المهاجرين والأنصار بعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف على الدنيا ، ولكأني بأهل بيتي وهم
المقهورون المتشتتون في أقطارها ، وذلك لأمر قد قضي .. ثم بكى رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى سالت دموعه ، ثم قال : يا علي! الصبر .. الصبر .. حتى ينزل الأمر ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم ، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك ،
فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف ..
__________________
فالقتل القتل حتى يفيئوا إلى
أمر الله وأمر رسوله ، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل ، وكذلك ذريتك من بعدك
إلى يوم القيامة.
توضيح
: سفت الريح التراب
تسفيه سفيا .. أي أذرته .
١١
ـ فس : جاء رجل إلى
أمير المؤمنين عليهالسلام يوم الجمل فقال :
يا علي! على ما تقاتل
أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟! فقال
علي عليهالسلام : آية في كتاب الله أباحت لي قتالهم. فقال : وما هي؟ قال :
قوله : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى
بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ
اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ
وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) ، فقال الرجل :
كفر ـ والله ـ القوم ..
١٢
ـ فس : الحسين بن محمد
، عن المعلى ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن
سليمان الكاتب ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله : ( يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) قال :
هكذا نزلت ، فجاهد رسول
الله صلىاللهعليهوآله الكفار وجاهد علي عليهالسلام المنافقين ، فجاهد علي (ع) جهاد رسول الله صلىاللهعليهوآله.
تبيين
: أقول : قد أشكل على المفسرين ما ورد في الآية من الأمر بجهاد
__________________
المنافقين.
قال في مجمع
البيان : اختلفوا في كيفية جهاد المنافقين.
فقيل : إن جهادهم
باللسان والوعظ .
وقيل : جهادهم
بإقامة الحدود عليهم ، وكان ما يصيبهم من الحدود أكثر.
وقيل بالأنواع
الثلاثة بحسب الإمكان باليد ثم اللسان ثم القلب .
وروي في قراءة أهل
البيت عليهمالسلام جاهد الكفار بالمنافقين ، قالوا :لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن يقاتل المنافقين وإنما كان يتألفهم .. انتهى . وهذه الآية كررت
في القرآن في الموضعين : إحداهما في التوبة ، والأخرى في التحريم .
وقال علي بن
إبراهيم في الأولى : إنما نزلت بالمنافقين : لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يجاهد المنافقين بالسيف ، ثم روى عن أبيه
، عن ابن أبي عمير ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : ( جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ ) بإلزام الفرائض .
وروى في الثانية
هذه الرواية : وقوله عليهالسلام : هكذا نزلت .. يدل على عدم صحة القراءة الشاذة ، ويمكن الجمع بأن إحدى
الآيتين كانت بالباء والأخرى بدونها ، وفي توزيع علي بن إبراهيم رحمهالله النقل إشعار بذلك ، وفيه
__________________
فائدة أخرى وهي
عدم تكرار الآية بعينها.
١٣
ـ فس : أحمد بن علي ،
عن الحسين بن عبد الله السعدي ، عن الخشاب ، عن عبد الله بن الحسين ، عن بعض أصحابه ، عن فلان الكرخي
قال : قال رجل لأبي عبد الله عليهالسلام : ألم يكن علي قويا في بدنه قويا في أمر الله؟ فقال له أبو
عبد الله عليهالسلام : بلى. قال : فما منعه أن يدفع أو يمتنع؟
قال : قد سألت فافهم
الجواب : منع عليا من ذلك آية من كتاب الله. فقال : وأي آية؟ قال : فقرأ : ( لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، إنه كان لله
ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين ، فلم يكن علي صلوات الله عليه ليقتل
الآباء حتى يخرج الودائع ، فلما خرجت ظهر على من ظهر وقتله ، وكذلك قائمنا أهل
البيت لن يظهر أبدا حتى يخرج ودائع الله فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله.
تبيان
: هذا التأويل الجليل لم يذكره المفسرون ، وقالوا : أراد أنه
لو تميز المؤمنون المستضعفون بمكة من الكافرين لعذبنا الذين كفروا منهم بالسيف
والقتل بأيديكم ، وما ورد في الخبر أنسب من جهة لفظ التنزيل المشتمل على المبالغة
المناسبة لإخراج ما في الأصلاب ، فتأمل.
١٤
ـ فس : أبي ، عن محمد
بن الفضيل ، عن أبي الحسن (ع) قال : جاء العباس إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه
فقال : انطلق نبايع لك الناس. فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : أتراهم فاعلين ؟ قال : نعم. قال : فأين قول الله
__________________
تعالى : ( الم أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ـ أي اختبرناهم ـ ( فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) ..
١٥
ـ فس : قوله تعالى : ( وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ ) ... الآية فإنها نزلت في أصحاب الجمل ، وقال أمير المؤمنين
عليهالسلام يوم الجمل : والله ما قاتلت هذه الفئة الناكثة إلا بآية من
كتاب الله ، يقول الله : ( وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) . وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام في الخطبة الزهراء : والله لقد عهد إلي رسول الله صلىاللهعليهوآله غير مرة ولا ثنتين ولا ثلاث ولا أربع ، فقال : يا علي! إنك ستقاتل من بعدي
الناكثين والمارقين والقاسطين ، أفأضيع ما أمرني به رسول الله صلىاللهعليهوآله وأكفر بعد إسلامي؟!.
بيان
: قال في مجمع البيان : قال ابن عباس : أراد بأئمة الكفر رؤساء قريش مثل الحارث
بن هشام وأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد
، وكان حذيفة بن اليمان يقول : لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقال مجاهد : هم أهل
فارس والروم ، وقرأ علي عليهالسلام هذه الآية يوم البصرة ، ثم قال : أما والله لقد عهد إلي
رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال :يا علي! ستقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية
والفئة المارقة.
١٦
ـ ما : المفيد ، عن
علي بن محمد الكاتب ، عن الحسن بن علي
__________________
الزعفراني ، عن
إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن المسعودي ، عن محمد بن كثير ، عن يحيى بن حماد القطان
، عن أبي محمد الحضرمي ، عن أبي علي الهمداني : أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قام إلى
أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين! إني سائلك لآخذ عنك ، وقد
انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله ، ألا تحدثنا عن أمرك هذا؟ كان بعهد من
رسول الله صلىاللهعليهوآله أو شيء رأيته؟
فإنا قد أكثرنا فيك الأقاويل ، وأوثقه عندنا ما نقلناه عنك وسمعناه من فيك ، إنا
كنا نقول لو رجعت إليكم بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله لم ينازعكم فيها أحد ، والله ما أدري إذا سئلت ما أقول ، أأزعم
أن القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك؟ فإن قلت ذلك ، فعلام نصبك
رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد حجة الوداع فقال : أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه؟
وإن كنت أولى منهم بما كانوا فيه فعلام تتولاهم ؟!. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : يا عبد الرحمن! إن الله تعالى قبض نبيه صلىاللهعليهوآله وأنا يوم قبضه أولى بالناس مني بقميصي هذا ، وقد كان من نبي الله إلي عهد لو
خزمتموني بأنفي لأقررت سمعا لله وطاعة ، وإنا أول ما انتقصنا بعده إبطال حقنا
في الخمس ، فلما دق أمرنا طمعت رعيان قريش فينا وقد كان لي على الناس حق لو
ردوه إلي عفوا قبلته وقمت به ، وكان إلى أجل معلوم ، وكنت كرجل له على الناس حق
إلى أجل ، فإن عجلوا له ماله أخذه وحمدهم عليه ، وإن أخروه أخذه غير محمودين ،
وكنت كرجل يأخذ السهولة وهو
__________________
عند الناس محزون ، وإنما يعرف
الهدى بقلة من يأخذه من الناس ، فإذا سكت فأعفوني فإنه لو جاء أمر تحتاجون فيه إلى
الجواب أجبتكم ، فكفوا عني ما كففت عنكم.
فقال عبد الرحمن :
يا أمير المؤمنين! فأنت لعمرك كما قال الأول :
لعمري لقد أيقظت
من كان نائما
|
|
وأسمعت من كانت
له أذنان
|
توضيح
: قوله : خزمتموني ـ بالمعجمتين ـ من خزم البعير : إذا جعل في
جانب منخره الخزامة ، أو بإهمال الراء ـ من خرمه ـ أي شق وترة أنفه .
والرعيان ـ بالضم
وقد يكسر ـ : جمع الراعي
ويقال : أعطيته
عفوا .. أي بغير مسألة .
قوله : وهو عند
الناس محزون ، لعل الأصوب حرون : وهو الشاة السيئة الخلق .
ولما لم يمكنه عليهالسلام في هذا الوقت التصريح بجوز الغاصبين أفهم السائل بالكناية التي هي أبلغ ..
__________________
١٧
ـ ما : المفيد ، عن
المظفر بن محمد البلخي ، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج ، عن عيسى بن مهران ، عن
الحسن بن الحسين ، عن الحسن بن عبد الكريم ، عن جعفر بن زياد الأحمر ، عن عبد الرحمن
بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله قال : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليهالسلام ـ وقد بويع لعثمان بن عفان ـ فوجدته مطرقا كئيبا ، فقلت له
: ما أصابك ـ جعلت فداك ـ من قومك؟. فقال : صبر جميل. فقلت : سبحان الله! والله إنك لصبور. قال :
فأصنع ما ذا؟ .
قلت : تقوم في
الناس وتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلىاللهعليهوآله وبالفضل والسابقة ، وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين
عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة ، فإن دانوا لك كان ذلك ما
أحببت ، وإن أبوا قاتلهم ، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله الذي آتاه نبيه صلىاللهعليهوآله وكنت أولى به منهم ، وإن قتلت في طلبه قتلت إن شاء الله شهيدا ، وكنت أولى
بالعذر عند الله ، لأنك أحق بميراث رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : أتراه يا جندب كان يبايعني عشرة من
__________________
مائة؟ فقلت : أرجو
ذلك. فقال : لكني لا أرجو ، ولا من كل مائة اثنان وسأخبرك من أين
ذلك ، إنما ينظر الناس إلى قريش ، وإن قريشا يقول إن آل محمد يرون
لهم فضلا على سائر قريش ، وإنهم أولياء هذا الأمر دون غيرهم من قريش ، وإنهم إن
ولوه لم يخرج منهم هذا السلطان إلى أحد أبدا ، ومتى كان في غيرهم تداولوه بينهم ،
ولا والله لا تدفع إلينا ـ هذا السلطان ـ قريش أبدا طائعين.فقلت له : أفلا أرجع فأخبر الناس
بمقالتك هذه ، وأدعوهم إلى نصرك؟ فقال :يا جندب! ليس ذا زمان ذاك.
قال جندب : فرجعت
بعد ذلك إلى العراق ، فكنت كلما ذكرت من فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام شيئا زبروني ونهروني حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة ، فبعث إلي
فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي.
١٨
ـ شا : عبد الرحمن بن
جندب ، عن أبيه مثله.
بيان
: قوله عليهالسلام : على هؤلاء المتظاهرين .. في الإرشاد : على هؤلاء
المتمالين ـ بقلب الهمزة ثم حذف المقلوب ـ ، قال الجوهري : مالأته على الأمر
ممالاة : ساعدته عليه وشايعته. ابن السكيت : تمالوا على الأمر : اجتمعوا عليه .
قوله : كلما ذكرت
من فضل أمير المؤمنين عليهالسلام .. في الإرشاد : كلما
__________________
ذكرت للناس شيئا
من فضائله ومناقبه وحقوقه زبروني.
١٩
ـ ل : محمد بن الفضل
المذكر ، عن أبي عبد الله البراوستاني ، عن علي بن مسلمة ، عن محمد بن بشير ، عن قطر بن بي خليفة
، عن حكيم بن جبير ، عن إبراهيم قال : سمعت علقمة يقول : سمعت علي بن أبي
طالب عليهالسلام يقول : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
٢٠
ـ ن : بإسناد التميمي
، عن الرضا ، عن آبائه عليهمالسلام قال :
قال علي عليهالسلام : أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
٢١
ـ ن : بهذا الإسناد ،
عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها
ويتولى من غير مشورة فاقتلوه ، فإن الله عز وجل قد أذن في ذلك .
__________________
٢٢
ـ ع ، ن : الطالقاني ، عن
الحسن بن علي العدوي ، عن الهيثم بن عبد الله الرماني قال : سألت الرضا عليهالسلام فقلت له : يا ابن رسول الله! أخبرني عن علي عليهالسلام لم لم يجاهد أعداءه خمسا وعشرين سنة بعد رسول الله ثم جاهد
في أيام ولايته؟ فقال : لأنه اقتدى برسول الله صلىاللهعليهوآله في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة
وبالمدينة تسعة عشر شهرا وذلك لقلة أعوانه عليهم ، وكذلك علي عليهالسلام ترك مجاهدة أعدائه لقلة أعوانه عليهم ، فلما لم تبطل نبوة رسول الله صلىاللهعليهوآله مع تركه الجهاد ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهرا ، كذلك لم تبطل إمامة علي عليهالسلام مع تركه الجهاد خمسا وعشرين سنة ، إذا كانت العلة المانعة لهما من الجهاد
واحدة.
٢٣
ـ ع : أبي ، عن سعد ،
عن النهدي ، عن أبي محبوب ، عن ابن رئاب ، عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إنما أشار علي عليهالسلام بالكف عن عدوه من أجل شيعتنا ، لأنه كان يعلم أنه سيظهر
عليهم بعده ، فأحب أن يقتدي به من جاء بعده فيسير فيهم بسيرته ، ويقتدي بالكف عنهم
بعده.
٢٤
ـ ك ، ع : ابن مسرور ، عن
ابن عامر ، عن عمه ، عن ابن أبي عمير ،
__________________
عمن ذكره ، عن أبي
عبد الله عليهالسلام قلت له : ما بال أمير المؤمنين عليهالسلام لم يقاتل فلانا وفلانا وفلانا؟ . قال : لآية في كتاب الله عز وجل : ( لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) قال : قلت : وما
يعني بتزايلهم؟ قال :
ودائع مؤمنين في أصلاب قوم
كافرين ، وكذلك القائم عليهالسلام لن يظهر أبدا حتى تخرج ودائع الله عز وجل ، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء
الله فقتلهم.
٢٥
ـ ك ، ع : المظفر العلوي
، عن ابن العياشي ، عن أبيه ، عن علي بن محمد ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ،
عن إبراهيم الكرخي قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ـ أو قال له رجل ـ : أصلحك الله ألم يكن علي عليهالسلام قويا في دين الله عز وجل؟ قال : بلى. قال : فكيف ظهر عليه القوم؟ وكيف لم
يدفعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال : آية في كتاب الله عز وجل منعته. قال : قلت :
و أي آية؟ قال : قوله : ( لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) إنه كان لله عز
وجل ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علي عليهالسلام ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع ، فلما خرجت الودائع ظهر على من ظهر فقاتله ،
وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتى تظهر ودائع الله عز وجل ، فإذا ظهرت ظهر على من ظهر فقتله.
__________________
٢٦
ـ ك ، ع : المظفر العلوي
، عن ابن العياشي ، عن أبيه ، عن جبرئيل ابن أحمد ، عن اليقطيني ، عن
يونس ، عن ابن حازم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال في قول الله عز وجل : ( لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) : لو أخرج الله
ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذب الذين
كفروا.
٢٧
ـ ع : ـ الهمداني ،
عن علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، أنه سئل أبو عبد الله عليهالسلام : ما بال أمير المؤمنين عليهالسلام لم يقاتلهم؟ قال : للذي سبق في علم الله أن يكون ، وما كان
له أن يقاتلهم وليس معه إلا ثلاثة رهط من المؤمنين ..
٢٨
ـ غط : ابن أبي جيد ،
عن ابن الوليد ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن أبي سمينة ، عن حماد بن عيسى ، عن
إبراهيم بن عمر ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي ، عن جابر بن عبد
الله وعبد الله بن عباس قالا : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في وصيته لأمير المؤمنين عليهالسلام : يا علي ! إن قريشا ستظاهر عليك وتجتمع كلهم على ظلمك وقهرك ،
فإن وجدت أعوانا فجاهدهم وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك ، فإن الشهادة
__________________
من ورائك ، لعن
الله قاتلك .
٢٩
ـ ع : حمزة العلوي ،
عن ابن عقدة ، عن الفضل بن حباب الجمحي ، عن محمد بن إبراهيم الحمصي ، عن محمد بن أحمد بن موسى
الطائي ، عن أبيه ، عن ابن مسعود قال : احتجوا في مسجد الكوفة فقالوا : ما بال
أمير المؤمنين عليهالسلام لم ينازع الثلاثة كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟
فبلغ ذلك عليا عليهالسلام فأمر أن ينادى الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا صعد المنبر
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : معاشر الناس! إنه بلغني عنكم .. كذا وكذا؟
قالوا : صدق أمير المؤمنين عليهالسلام ، قد قلنا ذلك. قال : فإن لي بستة من الأنبياء أسوة
فيما فعلت. قال الله عز وجل في محكم كتابه : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) . قالوا : ومن هم يا أمير المؤمنين؟.
قال : أولهم
إبراهيم عليهالسلام إذ قال لقومه : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ، فإن قلتم إن إبراهيم عليهالسلام اعتزل قومه لغير مكروه أصابه منهم فقد كفرتم ، وإن قلتم
اعتزلهم لمكروه منهم فالوصي أعذر.
ولي بابن خالته
لوط أسوة إذ قال لقومه : ( لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) فإن قلتم إن لوطا
كانت له بهم قوة فقد كفرتم ، وإن قلتم لم يكن
__________________
له بهم قوة فالوصي أعذر.
ولي بيوسف عليهالسلام أسوة ، إذ قال : ( رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) فإن قلتم إن يوسف
دعا ربه وسأله السجن بسخط ربه فقد كفرتم ، وإن قلتم إنه أراد بذلك لئلا يسخط ربه
عليه فاختار السجن ، فالوصي أعذر.
ولي بموسى عليهالسلام أسوة إذ قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ ) فإن قلتم إن موسى عليهالسلام فر من قومه بلا خوف كان له منهم فقد كفرتم ، وإن قلتم إن
موسى (ع) خاف منهم فالوصي أعذر.
ولي بأخي هارون عليهالسلام أسوة ، إذ قال لأخيه يا ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) فإن قلتم لم
يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم ، وإن قلتم استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك
سكت عنهم فالوصي أعذر.
ولي بمحمد صلىاللهعليهوآله أسوة حين فر من قومه ولحق بالغار من خوفهم وأنامني على فراشه ، فإن
قلتم فر من قومه لغير خوف منهم فقد كفرتم ، وإن قلتم خافهم وأنامني على فراشه ولحق
هو بالغار من خوفهم فالوصي أعذر.
__________________
٣٠
ـ ع : أحمد بن حاتم ، عن أحمد بن
محمد بن موسى ، عن محمد ابن حماد الشاشي ، عن الحسين بن راشد ، عن علي بن إسماعيل
الميثمي ، عن ربعي ، عن زرارة قال : قلت : ما منع أمير المؤمنين عليهالسلام أن يدعو الناس إلى نفسه؟. قال : خوفا أن يرتدوا. قال علي : ـ وأحسب في
الحديث ـ : ولا يشهدوا أن محمدا رسول الله (ص).
٣١
ـ ع : أحمد بن الحسين
، عن أبيه ، عن محمد بن أبي الصهبان ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، قال : قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : لم كف علي عليهالسلام عن القوم؟. قال : مخافة أن يرجعوا كفارا.
٣٢
ـ ع : أبي ، عن سعد ،
عن ابن عيسى ، عن ابن معروف ، عن حماد ، عن حريز ، عن بريد ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن عليا عليهالسلام لم يمنعه من أن يدعو إلى نفسه إلا أنهم أن يكونوا ضلالا ، لا يرجعون عن الإسلام أحب
إليه من أن يدعوهم فيأبوا عليه فيصيرون كفارا كلهم.
٣٣
ـ ل : ماجيلويه وابن
المتوكل والعطار جميعا ، عن محمد العطار ، عن ابن أبي الخطاب ، عن النضر ، عن خالد
بن ماد ، عن جابر الجعفي ، عن أبي
__________________
جعفر الباقر عليهالسلام قال : جاء رجل إلى علي عليهالسلام ـ وهو على منبره فقال : يا أمير المؤمنين! ائذن لي أتكلم بما سمعت
من عمار بن ياسر يرويه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله؟. فقال : اتقوا الله ولا تقولوا على عمار إلا ما قاله ..
حتى قال ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : تكلم. قال : سمعت عمارا يقول :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : أنا أقاتل على التنزيل وعلي يقاتل على التأويل.
فقال (ع) : صدق عمار ورب الكعبة ، إن هذه عندي لفي ألف كلمة تتبع كل كلمة ألف كلمة
..
٣٤
ـ ما : المفيد ، عن
ابن قولويه ، عن علي بن حاتم ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن
أبي نجران ، ومحمد بن عمر بن يزيد معا ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي ، عن الفضيل
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : لمن كان الأمر حين قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قال : لنا أهل البيت. فقلت : كيف صار في تيم وعدي؟ قال : إنك سألت فافهم
الجواب! إن الله تعالى لما كتب أن يفسد في الأرض وتنكح الفروج الحرام ، ويحكم بغير ما
أنزل الله ، خلى بين أعدائنا وبين مرادهم من الدنيا حتى دفعونا عن حقنا
وجرى الظلم على أيديهم دوننا ..
بيان
: لعل الكتابة مؤولة
بالعلم ، أو هي كتابة تبيين لا كتابة تقدير.
٣٥
ـ ع : ابن الوليد ،
عن الصفار ، عن ابن يزيد ، عن ربعي ، عن
__________________
حماد ، عن الفضيل
بن يسار قال : قلت لأبي جعفر أو لأبي عبد الله عليهماالسلام حين قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله : لمن كان الأمر بعده؟ فقال : لنا أهل البيت. قلت : فكيف
صار في غيركم؟ قال : إنك قد سألت فافهم الجواب! إن الله عز وجل لما علم أن يفسد في الأرض ،
وتنكح الفروج الحرام ، ويحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى أراد أن يلي ذلك
غيرنا ..
٣٦
ـ قب : قال ضرار لهشام
بن الحكم : ألا دعا علي الناس عند وفاة النبي صلىاللهعليهوآله إلى الائتمام به إن كان وصيا؟. قال : لم يكن واجبا عليه ، لأنه
قد دعاهم إلى موالاته والائتمام به النبي صلىاللهعليهوآله يوم الغدير ويوم تبوك وغيرهما فلم يقبلوا منه ، ولو كان
ذلك جائزا لجاز على آدم عليهالسلام أن يدعو إبليس إلى السجود له بعد أن دعاه ربه إلى ذلك
، ثم إنه صبر ( كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
)
وسأل أبو حنيفة
الطاقي فقال له : لم لم
يطلب علي بحقه بعد وفاة الرسول إن كان له حق؟. قال : خاف أن يقتله الجن كما قتلوا
سعد بن عبادة بسهم المغيرة ابن شعبة!.
وقيل لعلي بن ميثم
: لم قعد عن قتالهم؟. قال : كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل قبلا فكان
ضعيفا . قال : كان كهارون حيث يقول : ( إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) ، وكنوح عليهالسلام إذ قال :
__________________
( أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ ) ، وكلوط إذ قال : ( لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ، وكموسى وهارون
إذ قال موسى : ( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي
وَأَخِي ) .
بيان
: قال الجوهري :
رأيته قبلا وقبلا ـ بالضم ـ أي مقابلة وعيانا ، ورأيته قبلا ـ بكسر القاف ـ .. أي
عيانا .
٣٧
ـ قب : وفي الخصال في
آداب الملوك أنه قال عليهالسلام : ولي في موسى أسوة وفي خليلي قدوة ، وفي كتاب الله عبرة ،
وفيما أودعني رسول الله صلىاللهعليهوآله برهان ، وفيما عرفت تبصرة ، إن يكذبوني فقد كذبوا الحق
من قبلي ، وإن أبتلى به فتلك سيرتي ، المحجة العظمى والسبيل المفضية لمن لزمها إلى النجاة لم أزل عليها لا
ناكلا ولا مبدلا ، لن أضيع بين كتاب الله وعهد ابن عمي به .. في كلام له ، ثم قال
:
لن أطلب العذر
في قومي وقد جهلوا
|
|
فرض الكتاب
ونالوا كل ما حرما
|
|
حبل الإمامة لي
من بعد أحمدنا
|
|
الأبيات
............ .
|
__________________
ومن كلام له عليهالسلام ـ رواه محمد بن سلام ـ : فنزل بي من وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله ما لم يكن الجبال لو حملته لحملته ، ورأيت أهل بيته بين جازع لا يملك
جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل
عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، وبين القول والاستماع. ثم قال : بعد كلام
ـ : وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، ولزمت الصمت والأخذ فيما أمرني به من تجهيزه
.. الخبر.
قوله تعالى : (
فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) كان قتل واحدا على وجه الدفع ( فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً ) ( فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً ) ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ ) ( رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ ) فكيف لا يخاف علي وقد وترهم بالنهب ، وأفناهم بالحصد ، واستأسرهم فلم
يدع قبيلة من أعلاها إلى أدناها إلا وقد قتل صناديدهم؟ .
قيل لأمير
المؤمنين عليهالسلام في جلوسه عنهم؟ قال : إني ذكرت قول النبي صلىاللهعليهوآله : إني رأيت القوم نقضوا أمرك ، واستبدوا بها دونك ، وعصوني فيك ، فعليك
بالصبر حتى ينزل الأمر ، فإنهم سيغدرون بك وأنت
__________________
تعيش على ملتي ،
وتقتل على سنتي ، من أحبك أحبني ، ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب من هذا ..
زرارة ، قال : قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : ما منع أمير المؤمنين عليهالسلام أن يدعو الناس إلى نفسه ، ويجرد في عدوه سيفه؟. فقال :
الخوف من أن يرتدوا فلا يشهدوا أن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله ...
وسأل صدقة بن مسلم
عمر بن قيس الماصر عن جلوس علي في الدار؟.
فقال : إن عليا في هذه الأمة كان فريضة من فرائض الله ، أداها نبي الله إلى قومه
مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج وليس على الفرائض أن تدعوهم إلى شيء إنما عليهم
أن يجيبوا الفرائض ، وكان علي أعذر من هارون لما ذهب موسى إلى الميقات ، فقال
لهارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فجعله رقيبا عليهم ، وإن نبي الله نصب عليا (ع) لهذه الأمة
علما ودعاهم إليه ، فعلي في عذر لما جلس في بيته ، وهم في حرج حتى يخرجوه فيضعوه في الموضع الذي
وضعه فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فاستحسن منه جعفر الصادق عليهالسلام .
ومن كلام لأمير
المؤمنين عليهالسلام ـ وقد سئل عن أمرهما ـ : وكنت كرجل له على الناس حق ، فإن
عجلوا له ماله أخذه وحمدهم ، وإن أخره أخذه غير محمودين ، وكنت كرجل يأخذ بالسهولة
وهو عند الناس حزون ، وإنما يعرف
__________________
الهدى بقلة من يأخذه من
الناس ، فإذا سكت فأعفوني.
وقال عليهالسلام لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى : إن لنا حقا إن أعطيناه أخذناه ، وإن منعناه
ركبنا أعجاز الإبل وإن طال بنا السرى.
وسئل متكلم : لم
لم يقاتل الأولين على حقه وقاتل الآخرين ؟! فقال :
لم لم يقاتل رسول الله صلىاللهعليهوآله على إبلاغ الرسالة في حال الغار ومدة الشعب وقاتل بعدهما؟!
...
وقال بعض النواصب
لشيطان الطاق ؟! : كان علي يسلم على الشيخين بإمرة المؤمنين ، أفصدق أم
كذب؟!. قال : أخبرني أنت عن الملكين اللذين دخلا على داود ، فقال أحدهما : ( إِنَّ هذا
أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ) ، كذب أم صدق؟.
فانقطع الناصبي.
وسأل سليمان بن
حريز هشام بن الحكم : أخبرني عن قول علي لأبي بكر :
يا خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله أكان صادقا أم كاذبا؟! فقال هشام : وما الدليل على أنه قال
؟ ثم قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وكقوله : ( بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ، وكقول يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) ....
وقيل لعلي بن ميثم
: لم صلى علي خلف القوم؟ قال : جعلهم بمنزلة
__________________
السواري. قيل :
فلم ضرب الوليد بن عقبة بين يدي عثمان؟. قال : لأن الحد له وإليه ، فإذا أمكنه
إقامته أقامه بكل حيلة. قيل : فلم أشار على أبي بكر وعمر؟.
قال : طلبا منه أن يحيي أحكام القرآن وأن يكون دينه القيم كما أشار يوسف عليهالسلام على ملك مصر نظرا منه للخلق ، ولأن الأرض والحكم فيها إليه ، فإذا أمكنه أن
يظهر مصالح الخلق فعل ، وإن لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا
منه لإحياء أمر الله. قيل : لم قعد في الشورى؟. قال : اقتدارا منه على الحجة وعلما
بأنهم إن ناظروه أو أنصفوه كان هو الغالب ، ومن كان له دعوى فدعي إلى أن يناظر عليه
فإن ثبتت له الحجة أعطيه ، فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق ، وقد
قال عليهالسلام يومئذ : اليوم أدخلت في باب إذا أنصفت فيه وصلت إلى حقي ،
يعني أن الأول استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره ، قيل : فلم زوج عمر ابنته؟. قال
: لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله صلىاللهعليهوآله وإرادته استصلاحه وكفه عنه ، وقد عرض نبي الله لوط عليهالسلام بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم ، فقال : ( هؤُلاءِ
بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ، ووجدنا آسية بنت مزاحم تحت فرعون.
وسئل الشيخ المفيد
: لم أخذ عطاءهم ، وصلى خلفهم ، ونكح سبيهم ، وحكم في مجالسهم؟. فقال : أما
أخذه العطاء فأخذ بعض حقه ، وأما الصلاة خلفهم فهو الإمام ، من تقدم بين يديه
فصلاته فاسدة ، على أن كلا مؤد حقه ، وأما نكاحه من سبيهم فمن طريق الممانعة ، إن
الشيعة روت أن الحنفية زوجها
__________________
أمير المؤمنين عليهالسلام محمد بن مسلم الحنفي ، واستدلوا على ذلك بأن عمر بن الخطاب لما رد من كان أبو
بكر سباه لم يرد الحنفية ، فلو كانت من السبي لردها ، ومن طريق المتابعة أنه لو
نكح من سبيهم لم يكن لكم ما أردتم ، لأن الذين سباهم أبو بكر كانوا عندكم قادحين
في نبوة رسول الله كفارا ، فنكاحهم حلال لكل أحد ، ولو كان الذين سباهم يزيد وزياد
، وإنما كان يسوغ لكم ما ذكرتموه إذا كان الذين سباهم قادحين في إمامته ثم نكح
أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأما حكمه في مجالسهم فإنه لو قدر أن لا يدعهم يحكمون
حكما لفعل ، إذ الحكم إليه وله دونهم.
وفي كتاب الكر
والفر : قالوا : وجدنا عليا عليهالسلام يأخذ عطاء الأول و لا يأخذ عطاء ظالم إلا ظالم؟.
قلنا
: فقد وجدنا دانيال
يأخذ عطاء بخت نصر.
وقالوا : قد صح أن
عليا عليهالسلام لم يبايع ثم بايع ، ففي أيهما أصاب و أخطأ في الأخرى؟.
قلنا
: وقد صح أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يدع في حال ودعا في حال ، ولم يقاتل ثم قاتل.
وقال رجل للمرتضى
: أي خليفة قاتل ولم يسب ولم يغنم؟. فقال : ارتد غلام في أيام أبي بكر
فقتلوه ولم يعرض أبو بكر لماله ، وروي مثل ذلك في مرتد قتل في أيام عمر فلم يعرض
لماله ، وقتل علي عليهالسلام مستورد العجلي ولم يتعرض لماله ، فالقتل ليس بأمارة على تناول المال.
وقال رجل لشريك :
أليس قول علي لابنه الحسين يوم الجمل : يا بني! يود
__________________
أبوك أنه مات قبل
هذا اليوم بثلاثين سنة .. يدل على أن في الأمر شيئا؟. فقال شريك : ليس كل حق يشتهى
أن يتعب فيه ، وقد قالت مريم في حق لا يشك فيه : ( يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ) . ولما قيل لأمير المؤمنين عليهالسلام في الحكمين : شككت؟.
قال عليهالسلام : أنا أولى بأن لا أشك في ديني أم النبي صلىاللهعليهوآله؟ أو ما قال الله تعالى لرسوله : ( قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ ) ..
٣٨
ـ شي : عن سليمان بن
خالد قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : قول الناس لعلي عليهالسلام إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟. قال : فقال :
إن الله لم يكلف هذا إلا إنسانا واحدا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال :
( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ
إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) فليس هذا إلا
للرسول. وقال لغيره : ( إِلاَّ مُتَحَرِّفاً
لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره ..
بيان
: لعل المعنى أنه
إذا كان مع وجود الجيش يجوز الفرار للتحيز إلى فئة أخرى أقوى ، فيجوز ترك الجهاد
مع عدم الفئة أصلا بطريق أولى ، وإن هذه الآية تدل على اشتراط الفئة التزاما.
٣٩
ـ شي : عن حريز ، عن
بعض أصحابه ، عن أبي جعفر عليه
__________________
السلام ، قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل
بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل ، ثم قال أبو
جعفر عليهالسلام : قال موسى لقومه ( يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) فردوا عليه ـ وكانوا
ستمائة ألف ـ فقالوا : ( يا مُوسى إِنَّ فِيها
قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ
يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) أحدهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، قال : وهما ابن
عمه فقالا : ( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا
دَخَلْتُمُوهُ ). إلى قوله : ( إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ ) قال : فعصى ستمائة ألف ، وسلم هارون وابناه ويوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، فسماهم الله
فاسقين ، فقال : ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) فتاهوا أربعين
سنة لأنهم عصوا ، فكان حذو النعل بالنعل ، إن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما قبض لم يكن على أمر الله إلا علي والحسن والحسين وسلمان والمقداد وأبو ذر
فمكثوا أربعين حتى قام علي فقاتل من خالفه .
__________________
بيان
: قوله : فمكثوا
أربعين .. كذا في النسخة التي عندنا ، وهو لا يوافق التاريخ ، إذ هو عليهالسلام قاتلهم بعد نحو من خمس وعشرين ، ولعله من تحريف النساخ ، وكون الأربعين من
الهجرة وإنه أريد هنا انتهاء غزواته عليهالسلام بعيد.
ويحتمل أن يكون
المراد نحوا من أربعين ، أي مدة مديدة يقرب منها ، ويكفي هذا للمشابهة.
٤٠
ـ شي : عن ابن نباتة
قال : كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليهالسلام يوم الجمل ، فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال : يا أمير
المؤمنين! كبر القوم وكبرنا ، وهلل القوم وهللنا ، وصلى القوم وصلينا ، فعلام
نقاتلهم؟! فقال : على هذه الآية : ( تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فنحن الذين من
بعدهم ( مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ
اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) فنحن الذين آمنا
وهم الذين كفروا ، فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة ، ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه
الله ..
٤١
ـ شي : عن أبي جعفر عليهالسلام : ما شأن أمير المؤمنين عليهالسلام حين ركب منه ما ركب ، لم يقاتل؟. فقال : للذي سبق في علم الله أن
يكون ، ما كان لأمير المؤمنين عليهالسلام أن يقاتل وليس معه إلا ثلاثة رهط ، فكيف يقاتل؟ ألم تسمع
قول الله عز وجل : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
__________________
كَفَرُوا
) ... إلى قوله : .. ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) فكيف يقاتل أمير
المؤمنين عليهالسلام بعد هذا؟. وإنما هو يومئذ ليس معه مؤمن غير ثلاثة رهط .
٤٢
ـ شي : عن زيد الشحام
قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام :
جعلت فداك! إنهم يقولون ما منع عليا إن كان له حق أن يقوم بحقه؟. فقال :
إن الله لم يكلف هذا أحدا إلا نبيه عليه وآله السلام ، قال له : ( فَقاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) ، وقال لغيره : ( إِلاَّ
مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ) فعلي لم يجد فئة
، ولو وجد فئة لقاتل ، ثم قال : لو كان جعفر وحمزة حيين ، إنما بقي رجلان .
بيان
: قوله عليهالسلام : لو كان .. كلمة لو للتمني أو الجزاء محذوف ..
أي لم يترك القتال ، أو يكون تفسير للفئة ، والمراد بالرجلين : الضعيفان ، عباس
وعقيل ، كما مر.
٤٣
ـ شي : عن حمران ، عن
أبي جعفر عليهالسلام قال : قلت له : يا ابن رسول الله! زعم ولد الحسن عليهالسلام أن القائم منهم وأنهم أصحاب الأمر ، ويزعم ولد ابن الحنفية مثل ذلك ، فقال :
رحم الله عمي الحسن (ع) ، لقد عمد الحسن أربعين ألف سيف حتى أصيب أمير المؤمنين عليهالسلام
__________________
وأسلمها إلى
معاوية ، ومحمد بن علي سبعين ألف سيف قاتلة لو حظر عليهم حظيرة ما خرجوا منها
حتى يموتوا جميعا ، وخرج الحسين صلىاللهعليهوآله فعرض نفسه على الله في سبعين رجلا ، من أحق بدمه منا؟! ،
نحن والله أصحاب الأمر وفينا القائم ومنا السفاح والمنصور ، وقد قال الله : ( وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) نحن أولياء الحسين
بن علي عليهماالسلام وعلى دينه .
٤٤
ـ قب : كتاب أبي عبد
الله محمد بن السراج ، عن النبي صلىاللهعليهوآله في خبر : من ظلم عليا مجلسي هذا كمن جحد نبوتي ونبوة من
كان قبلي.
عمران بن حصين ـ في
خبر ـ أنه عاد النبي صلىاللهعليهوآله عليا فقال عمر : يا رسول الله! ما علي إلا لما به. فقال
رسول الله : لا ، والذي نفسي بيده يا عمر ـ لا يموت علي حتى يملأ غيظا ، ويوسع
غدرا ويوجد من بعدي صابرا.
تاريخ بغداد وكتاب إبراهيم
الثقفي : روى عمرو بن الوليد الكرابيسي بإسناده عن أبي إدريس عن
علي عليهالسلام قال : عهد إلي النبي صلىاللهعليهوآله أن الأمة ستغدر بك.
وفي حديث سلمان ،
قال صلىاللهعليهوآله لعلي : إن الأمة ستغدر بك ، فاصبر لغدرها.
الحارث بن الحصين
، قال النبي صلىاللهعليهوآله : يا علي! إنك لاق بعدي كذا .. وكذا. فقال : يا رسول الله!
إن السيف لذو شفرتين وما أنا
__________________
بالفشل ولا الذليل. قال صلىاللهعليهوآله : فاصبر يا علي. قال علي : أصبر يا رسول الله .
٤٥
ـ قب : ابن شيرويه في
الفردوس ، عن وهب بن صيفي ، وروى غيره ، عن زيد بن أرقم قالا : قال النبي صلىاللهعليهوآله : أنا أقاتل على التنزيل وعلي يقاتل على التأويل ..
ومما يمكن أن
يستدل بالقرآن قوله تعالى : ( وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ ) ، والباغي من خرج على الإمام ، فافترض قتال أهل البغي كما
افترض قتال المشركين ، وأما اسم الإيمان عليهم فكقوله : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) .. أي الذين
أظهروا الإيمان بألسنتهم آمنوا بقلوبكم.
وقيل لزين
العابدين عليهالسلام : إن جدك كان يقول : إخواننا بغوا علينا. فقال : أما تقرأ
كتاب الله : ( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) فهم مثلهم أنجاه
الله والذين معه وأهلك عادا بالريح العقيم ، وقد ثبت أنه نزل فيه : ( يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) ... الآية ..
__________________
وفي حديث الأصبغ
بن نباتة ، قال رجل لأمير المؤمنين عليهالسلام هؤلاء القوم الذين نقاتلهم ، الدعوة واحدة ، والرسول واحد
، والصلاة واحدة ، والحج واحد ، فبم نسميهم؟. قال : سمهم بما سماهم الله في كتابه : ( تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله
وبالنبي وبالكتاب وبالحق ..
الباقرين عليهماالسلام في قوله : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ ) يا محمد! من مكة إلى المدينة فإنا رادوك منها ومنتقمون منهم
بعلي ..
أورده النطنزي في الخصائص ، والصفواني في الإحن والمحن عن السدي والكلبي
وعطاء وابن عباس والأعمش وجابر بن عبد الله الأنصاري أنها نزلت في علي عليهالسلام.
ابن جريح ، عن
مجاهد ، عن ابن عباس ، وعن سلمة بن كهيل ، عن عبد خير ، وعن جابر بن عبد الله
الأنصاري أنهم رووا ذلك على اتفاق واجتماع أن النبي صلىاللهعليهوآله خطب في حجة الوداع فقال : لأقتلن العمالقة في كتيبة.
فقال له جبرئيل عليهالسلام : أو علي بن أبي طالب عليهالسلام.
وفي رواية جابر
وابن عباس : ألا لألفينكم ترجعون بعدي كفارا يضرب
__________________
بعضكم رقاب بعض ،
أما والله لئن فعلتم ذلك لتعرفنني في كتيبة فأضرب وجوهكم فيها بالسيف فكأنه غمز من خلفه
فالتفت ثم أقبل علينا فقال : أو علي ، فنزل : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) بعلي بن أبي طالب عليهالسلام ، ثم نزل : ( قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ) .. إلى قوله : ( هِيَ أَحْسَنُ ) ، ثم نزل : (
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ) من أمر علي بن
أبي طالب عليهالسلام ( إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) ، وإن عليا عليهالسلام لعلم الساعة لك ولقومك وسوف تسألون عن محبة علي عليهالسلام.
أبو حرب بن أبي
الأسود الدؤلي ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لما نزلت : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال : أو بعلي ابن أبي طالب ، ثم قال : بذلك حدثني جبرئيل.
بيان
: قوله عليهالسلام : وإن عليا لعلم الساعة في القرآن : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ ) ولعله عليهالسلام فسر الذكر بعلم الساعة ، فإنه الدابة الذي هو من أشراط
الساعة.
__________________
٤٦
ـ فض : الحسين بن أحمد
المدني ، عن الحسين بن عبد الله البكري ، عن عبد الله بن هشام ، عن الكلبي ، عن
ميمون بن مصعب المكي بمكة قال : كنا عند أبي العباس بن سابور المكي فأجرينا
حديث أهل الردة ، فذكرنا خولة الحنفية ونكاح أمير المؤمنين عليهالسلام لها فقال : أخبرني عبد الله بن الخير الحسيني ، قال : بلغني أن
الباقر محمد بن علي عليهماالسلام ـ قال ـ : كان جالسا ذات يوم إذ جاءه رجلان ، فقالا : يا أبا جعفر! ألست
القائل إن أمير المؤمنين عليهالسلام لم يرض بإمامة من تقدمه؟. فقال : بلى. فقالا له : هذه خولة
الحنفية نكحها من سبيهم ولم يخالفهم على أمرهم مذ حياتهم ؟!. فقال الباقر عليهالسلام : من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله؟ ـ وكان محجوبا قد كف بصره فحضر وسلم على
الباقر عليهالسلام فرد عليه وأجلسه إلى جانبه ، فقال له : يا جابر! عندي رجلان ذكرا أن
أمير المؤمنين رضي بإمامة من تقدم عليه ، فاسألهما ما الحجة في ذلك؟ فسألهما فذكرا
له حديث خولة ، فبكى جابر حتى اخضلت لحيته بالدموع ، ثم قال : والله ـ يا
مولاي ـ لقد خشيت أن أخرج من الدنيا ولا أسأل عن هذه المسألة ، والله إني كنت
جالسا إلى جنب أبي بكر ـ وقد سبى بني حنيفة مع مالك بن نويرة من قبل
خالد بن الوليد ـ وبينهم جارية مراهقة ـ فلما
__________________
دخلت المسجد قالت
: أيها الناس! ما فعل محمد صلىاللهعليهوآله؟ قالوا :
قبض. قالت : هل له بنية فقصدها ؟ قالوا : نعم هذه تربته وبنيته . فنادت وقالت :
السلام عليك يا رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ أشهد أنك تسمع صوتي وتقدر على رد جوابي ، وإننا سبينا من بعدك ،
ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمدا رسول الله .. ثم جلست فوثب إليها رجلان
من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير وطرحا عليها ثوبيهما. فقالت :
ما بالكم ـ يا معاشر الأعراب ـ تغيبون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم؟. فقيل لها : لأنكم قلتم لا
نصلي ولا نصوم ولا نزكي ؟ فقال لها الرجلان اللذان طرحا ثوبيهما : إنا لغالون في ثمنك. فقالت :
أقسمت بالله وبمحمد رسول الله صلىاللهعليهوآله إنه لا يملكني ويأخذ رقبتي إلا من يخبرني
بما رأت أمي وهي حاملة بي؟ وأي
__________________
شيء قالت لي عند
ولادتي؟ وما العلامة التي بيني وبينها؟ وإلا بقرت بطني بيدي فيذهب
ثمني ويطالب بدمي. فقالوا لها : اذكري رؤياك حتى نعبرها لك .
فقالت : الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا مني؟ .. فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسوا ،
فدخل أمير المؤمنين عليهالسلام وقال : ما هذا الرجف في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين امرأة حنفية حرمت ثمنها على المسلمين
وقالت : من أخبرني بالرؤيا التي رأت أمي وهي حاملة بي يملكني. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : ما ادعت باطلا ، أخبروها تملكوها. فقالوا : يا أبا الحسن! ما منا من يعلم ، أما علمت أن
ابن عمك رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قبض وأخبار السماء قد انقطعت من بعده. فقال أمير المؤمنين
عليهالسلام : أخبرها بغير اعتراض منكم ؟ قالوا : نعم.
فقال عليهالسلام : يا حنفية! أخبرك وأملكك؟ فقالت : من أنت أيها المجتري دون أصحابه؟
فقال :أنا علي بن أبي طالب. فقالت : لعلك الرجل الذي نصبه لنا رسول الله صلىاللهعليهوآله في صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علما للناس؟. فقال : أنا ذلك الرجل.قالت : من
أجلك نهبنا ، ومن نحوك أتينا ، لأن رجالنا قالوا لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا
إلا لمن نصبه محمد صلىاللهعليهوآله فينا وفيكم علما.قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إن أجركم غير ضائع ، وإن الله يوفي كل نفس ما
__________________
عملت من خير. ثم قال :
يا حنفية! ألم تحمل بك أمك في زمان قحط قد منعت السماء قطرها ، والأرضون نباتها ،
وغارت العيون والأنهار حتى أن البهائم كانت ترد المرعى فلا تجد شيئا ، وكانت أمك
تقول لك إنك حمل مشوم في زمان غير مبارك ، فلما كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها
كأن قد وضعت بك ، وأنها تقول : إنك حمل مشوم في زمان غير مبارك ، وكأنك
تقولين : يا أمي لا تتطيرن بي فإني حمل مبارك أنشأ منشأ مباركا صالحا ، ويملكني سيد ،
وأرزق منه ولدا يكون للحنفية عزا ، فقالت : صدقت. فقال عليهالسلام : إنه كذلك وبه أخبرني ابن عمي رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقالت : ما العلامة التي بيني وبين أمي؟. فقال لها : لما
وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته عتبة الباب ، فلما كان بعد حولين
عرضته عليك فأقررت به ، فلما كان بعد ست سنين عرضته عليك فأقررت به ، ثم
جمعت بينك وبين اللوح وقالت لك :يا بنية إذا نزل بساحتكم سافك لدمائكم ، وناهب
لأموالكم ، وساب لذراريكم ، وسبيت فيمن سبي ، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك
من الجماعة إلا من عبرك بالرؤيا وبما في هذا اللوح. فقالت : صدقت ... يا أمير
المؤمنين (ع) ، ثم قالت : فأين هذا اللوح؟ فقال : هو في عقيصتك ، فعند ذلك دفعت
اللوح إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام فملكها
__________________
والله يا أبا جعفر
بما ظهر من حجته وثبت من بينته ، فلعن الله من اتضح له الحق ثم جحد حقه وفضله ، وجعل بينه
وبين الحق سترا.
بيان
: الرجف : الزلزلة
والاضطراب الشديد ، والعقيصة : الشعر المنسوج على الرأس عرضا .
٤٧
ـ يل ، فض : بالإسناد ..
يرفعه إلى ابن عباس قال : ما حسدت عليا عليهالسلام بشيء مما سبق من سوابقه بأفضل من شيء سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يقول : يا معاشر قريش! أنتم كفرتم فرأيتموني في كتيبة أضرب بها وجوهكم ،
فأتى جبرئيل عليهالسلام فغمزه وقال : يا محمد! قل إن شاء الله أو علي بن أبي طالب
، فقال محمد : إن شاء الله أو علي بن أبي طالب ..
٤٨
ـ يل ، فض : بالإسناد .. يرفعه إلى أبي الأسود الدؤلي ، عن عمه ، عن
النبي صلىاللهعليهوآله : قال : نزلت هذه الآية : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) بعلي بن أبي طالب ، بذلك أخبرني جبرئيل عليهالسلام.
٤٩
ـ يل ، فض : بالإسناد ..
يرفعه إلى سلمان الفارسي والمقداد وأبي ذر
__________________
قالوا : إن رجلا
فاخر عليا عليهالسلام فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي! فاخر أهل الشرق والغرب والعرب والعجم فأنت
أقربهم نسبا ، وابن عمك رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأكرمهم نفسا ، وأعلاهم رفعة ، وأكرمهم ولدا ، وأكرمهم أخا ، وأكرمهم
عما ، وأعظمهم حلما ، وأقدمهم سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم عزا في نفسك ومالك ،
وأنت أقرؤهم لكتاب الله عز وجل وأعلاهم نسبا ، وأشجعهم قلبا في لقاء الحرب ،
وأجودهم كفا ، وأزهدهم في الدنيا ، وأشدهم جهادا ، وأحسنهم خلقا ، وأصدقهم لسانا ،
وأحبهم إلى الله وإلي ، وستبقى بعدي ثلاثين سنة تعبد الله وتصبر على ظلم قريش لك ،
ثم تجاهد في سبيل الله إذا وجدت أعوانا تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على
تنزيله ثم تقتل شهيدا تخضب لحيتك من دم رأسك ، قاتلك يعدل قاتل ناقة صالح في
البغضاء لله والبعد من الله. يا علي! إنك من بعدي مغلوب مغصوب تصبر على الأذى في
الله وفي محتسبا أجرك غير ضائع ، فجزاك الله عن الإسلام خيرا.
٥٠
ـ فر : الحسين بن محمد
بن مصعب ـ معنعنا ـ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان علي بن أبي طالب عليهالسلام يقول في حياة النبي صلىاللهعليهوآله : إن الله تعالى يقول في كتابه : ( أَفَإِنْ
ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) ... ، والله لا ننقلب
على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه ،
ومن أولى به مني وأنا أخوه ووارثه وابن عمه عليهالسلام.
__________________
٥١
ـ فر : جعفر بن محمد
الفزاري ، عن محمد بن الحسين بن عمر ، عن محمد بن عبد الله بن مهران قال : أردت زيارة أبي عبد
الله الحسين عليهالسلام مع أبي عبد الله عليهالسلام فلما صرنا في الطريق إذا شيخ قد عارضنا عليه ثياب حسان.
فقال : لم لم يقاتل أمير المؤمنين .. فلانا وفلانا؟ فقال له عليهالسلام :لمكان آية في كتاب الله ، قال : وما هي؟ قال : قوله : ( لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا ) ...
الآية كان أمير المؤمنين عليهالسلام قد علم أن في أصلاب المنافقين قوما من المؤمنين فعند ذلك
لم يقتلهم ولم يستسبهم . قال : ثم التفت فلم أر أحدا.
٥٢
ـ فر : عبيد بن كثير
معنعنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي! كيف أنت إذا رأيت أزهد الناس في الآخرة
، ورغبوا في الدنيا ، وأكلوا ( التُّراثَ أَكْلاً
لَمًّا ) ، وأحبوا ( الْمالَ حُبًّا
جَمًّا ) واتخذوا دين الله دغلا ، ومال الله دولا؟ قال : قلت : أتركهم وما اختاروا ،
وأختار الله ورسوله والدار الآخرة وأصبر على مصائب الدنيا ولأواتها [ لأوائها ]
__________________
حتى ألقاك إن شاء
الله. قال : فقال : هديت ، اللهم افعل به ذلك .
٥٣ ـ وقال أبو عبد الله عليهالسلام نزلت الآية : ( يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) ... في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام.
٥٤
ـ نهج : من خطبة له عليهالسلام : ولعمري ما علي من قتال من خالف الحق ، وخابط الغي من إدهان ولا إيهان ،
فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى الله من الله وامضوا في الذي نهجه لكم وقوموا بما
عصبه بكم ، فعلي ضامن لفلجكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا.
بيان
: قيل : إنما قال عليهالسلام ذلك في رد قول من قال : إن مصانعته عليهالسلام لمحاربيه ومخالفيه ومداهنتهم أولى من محاربتهم.
قوله عليهالسلام : وخابطا الغي .. ذكر المخابطة هنا للمبالغة لكونه من الجانبين.
والإدهان :
المصانعة .
ونهجه : أوضحه .
قوله عليهالسلام : عصبه بكم .. أي ناطه وربطه بكم ، وجعله
__________________
كالعصابة التي تشد
بها الرأس .
والمنحة : العطية .
٥٥
ـ كتاب سليم بن قيس الهلالي : قال : كنا جلوسا حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام وحوله جماعة من أصحابه فقال له قائل : يا أمير المؤمنين! لو استنفرت الناس؟.
فقام وخطب فقال : أما إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ، ودعوتكم فلم تسمعوا ، فأنتم
شهود كغياب ، وأحياء كأموات ، وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة
وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية ، وأحثكم على جهاد أهل الجور ، فما آتي على آخر كلامي
حتى أراكم متفرقين حلقا شتى تتناشدون الأشعار ، وتضربون الأمثال ، وتسألون عن سعر
التمر واللبن ، تبت أيديكم! لقد دعوتكم إلى الحرب والاستعداد لها
وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها بالأباطيل والأضاليل ، اغزوهم قبل أن يغزوكم ،
فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، وايم الله ما أظن أن تفعلوا حتى
يفعلوا ، ثم وددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على بصيرتي ويقيني ، واسترحت من
مقاساتكم وممارستكم ، فما أنتم إلا كإبل جمة ضل راعيها ، فكلما ضمت من جانب انتشرت
من جانب ، كأني بكم والله فيما أرى لو قد حمس الوغى واحمر الموت قد انفرجتم
__________________
عن علي بن أبي
طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن قبلها لا تمنع عنها .
قال الأشعث بن قيس
: فهلا فعلت كما فعل ابن عفان؟!. فقال : أوكما [ كلما ] فعل ابن عفان
رأيتموني فعلت! أنا عائذ بالله من شر ما تقول ، يا ابن قيس! والله إن التي فعل ابن عفان لمخزاة
لمن لا دين له ولا وثيقة معه ، فكيف أفعل ذلك وأنا على بينة من ربي ، والحجة في يدي ،
والحق معي؟! والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يجز لحمه ، ويفري جلده ، ويهشم عظمه
، ويسفك دمه ، وهو يقدر على أن يمنعه لعظيم وزره ، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره ،
فكنت أنت ذاك يا ابن قيس! فأما أنا فو الله دون أن أعطي بيدي ضرب بالمشرفي تطير له فراش
الهام ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، ( وَيَفْعَلُ اللهُ ) بعد ذلك ( ما يَشاءُ
) ، ويلك ـ يا ابن قيس ـ إن المؤمن يموت كل ميتة غير أنه لا يقتل نفسه ، فمن
قدر على حقن دمه ثم خلى عمن يقتله فهو قاتل نفسه ، يا ابن قيس! إن هذه الأمة تفترق
على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار ، وشرها وأبغضها
وأبعدها منه السامرة الذين يقولون لا قتال وكذبوا ، قد أمر الله بقتال
الباغين في كتابه وسنة نبيه ، وكذلك المارقة.
فقال ابن قيس ـ وغضب
من قوله ـ : فما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع
__________________
أبو بكر أخو بني
تيم وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهم أن تقاتل وتضرب بسيفك؟! وأنت لم
تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر : والله
إني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله! فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟!.
قال عليهالسلام : يا ابن قيس! اسمع الجواب ، لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهة للقاء ربي ،
وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ، ولكن منعني من
ذلك أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله وعهده إلي ، أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوآله بما الأمة صانعة بعده فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ولا أشد استيقانا
مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله صلىاللهعليهوآله أشد يقينا مني بما عاينت وشهدت ، فقلت : يا رسول الله! فما
تعهد إلي إذا كان ذلك؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد
أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي
أعوانا ، وأخبرني صلىاللهعليهوآلهوسلم أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري ، وأخبرني صلىاللهعليهوآلهوسلم أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ومن
تبعه والعجل ومن تبعه ، إذ قال له موسى : ( يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ
يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وإنما يعني أن
موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم
__________________
وإن لم يجد أعوانا
أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ، وإني خشيت أن يقول ذلك أخي
رسول الله صلىاللهعليهوآله : لم فرقت بين الأمة ( وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي )؟ وقد عهدت إليك أنك إن لم تجد أعوانا أن تكف يدك وتحقن دمك
ودم أهلك وشيعتك ، فلما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله صلىاللهعليهوآله بغسله ، ثم شغلت بالقرآن فآليت يمينا بالقرآن أن لا أرتدي إلا
للصلاة حتى أجمعه في كتاب ففعلت ، ثم حملت فاطمة عليهاالسلام وأخذت بيد الحسن والحسين عليهماالسلام فلم أدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين
والأنصار إلا ناشدتهم الله وحقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب من جميع الناس إلا أربعة
رهط : الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا
أقوى به ، أما حمزة فقتل يوم أحد ، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة ، وبقيت بين جلفين خائفين ذليلين حقيرين :
العباس وعقيل ، وكانا قريبي عهد بكفر ، فأكرهوني وقهروني ، فقلت كما قال هارون
لأخيه : ـ ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) فلي بهارون أسوة حسنة ، ولي بعهد رسول الله صلىاللهعليهوآله حجة قوية.
قال الأشعث : كذلك
صنع عثمان : استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته فلم يجد أعوانا فكف يده حتى قتل
مظلوما.
قال : ويلك ـ يا
ابن قيس ـ! إن القوم حين قهروني و ( اسْتَضْعَفُونِي
وَكادُوا
__________________
يَقْتُلُونَنِي
) ولو قالوا لي : نقتلنك البتة لامتنعت من قتلهم إياي ، ولو لم أجد غير نفسي وحدي ،
ولكن قالوا : إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقربناك وفضلناك ، وإن لم تفعل قتلناك ،
فلما لم أجد أحدا بايعتهم ، وبيعتي لهم لما لا حق لهم فيه لا يوجب لهم حقا ولا يلزمني
رضا ، ولو أن عثمان لما قال له الناس اخلعها ونكف عنك خلعها لم يقتلوه ، ولكنه قال : لا
أخلعها. قالوا : فإنا قاتلوك ، فكف يده عنهم حتى قتلوه ، ولعمري لخلعه إياها كان
خيرا له ، لأنه أخذها بغير حق ، ولم يكن له فيها نصيب ، وادعى ما ليس له ، وتناول
حق غيره.
ويلك ـ يا ابن قيس
ـ! إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين ، إما أن يكون دعا الناس إلى نصرته فلم
ينصروه ، وإما أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته فلم يكن يحل له
أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا لم يحدث حدثا ولم يؤو محدثا ،
وبئس ما صنع حين نهاهم ، وبئس ما صنعوا حين أطاعوه ، فإما أن يكونوا لم يروه أهلا
لنصرته لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنة ـ وقد كان مع عثمان من أهل بيته ومواليه وأصحابه
أكثر من أربعة آلاف رجل ولو شاء الله أن يمتنع بهم لفعل ـ ولم ينههم عن نصرته ، ولو كنت
وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رجلا مطيعين لجاهدتهم ، فأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ،
لأني كنت بايعت ومثلي لا ينكث بيعته.
ويلك ـ يا ابن قيس
ـ! كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان ووجدت أعوانا؟
هل رأيت مني فشلا أو جبنا ، أو تقصيرا في وقعتي يوم البصرة وهم حول جملهم الملعون
من معه ، الملعون من قتل حوله ، الملعون من ركبه ، الملعون من بقي
__________________
بعده لا تائبا ولا
مستغفرا؟! فإنهم قتلوا أنصاري ، ونكثوا بيعتي ، ومثلوا بعاملي ، وبغوا علي ، وسرت
إليهم في اثني عشر ألفا ـ وفي رواية أخرى : أقل من عشرة آلاف ـ وهم نيف على عشرين
ومائة ألف ـ وفي رواية : زيادة على خمسين ألفا ـ فنصرني الله عليهم وقتلهم بأيدينا
وشفى ( صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ).
وكيف رأيت ـ يا
ابن قيس ـ وقعتنا بصفين ، وما قتل الله منهم بأيدينا خمسين ألفا في صعيد واحد إلى النار
ـ وفي رواية أخرى : زيادة على سبعين ألفا ـ ، وكيف رأيتنا يوم النهروان إذ لقيت
المارقين وهم مستبصرون متدينون؟! قد :
( ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) فقتلهم الله في
صعيد واحد إلى النار لم يبق منهم عشرة ولم يقتلوا من المؤمنين عشرة.
ويلك ـ يا ابن قيس
ـ هل رأيت لي لواء رد؟ أو راية ردت؟ إياي تعير يا ابن قيس؟!. وأنا صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله في جميع مواطنه ومشاهده ، والمتقدم إلى الشدائد بين يديه ، ولا أفر ولا ألوذ
ولا أعتل ولا أنحاز ولا أمنح اليهود دبري ، إنه لا ينبغي للنبي ولا للوصي إذا لبس لامته وقصد
لعدوه أن يرجع أو ينثني حتى يقتل أو يفتح الله له.
يا ابن قيس! هل
سمعت لي بفرار قط أو نبوة؟.
يا ابن قيس! أما
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو وجدت يوم بويع أبو بكر ـ الذي عيرتني بدخولي في بيعته ـ أربعين رجلا كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين وجدت لما كففت يدي
، ولناهضت القوم ، ولكن لم أجد خامسا!.
قال الأشعث : ومن
الأربعة يا أمير المؤمنين عليهالسلام؟.
__________________
قال : سلمان وأبو
ذر والمقداد والزبير بن صفية قبل نكثه بيعتي ، فإنه بايعني مرتين ، أما بيعته
الأولى التي وفى بها فإنه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلا من المهاجرين
والأنصار فبايعوني وفيهم الزبير ، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رءوسهم عليهم
السلاح ، فما وافى منهم أحد ولا صبحني منهم غير أربعة : سلمان وأبو ذر والمقداد
والزبير ، وأما بيعته الأخرى : فإنه أتاني هو وصاحبه طلحة بعد قتل عثمان فبايعاني
طائعين غير مكرهين ، ثم رجعا عن دينهما مرتدين ناكثين مكابرين معاندين حاسدين ،
فقتلهما الله إلى النار ، وأما الثلاثة : سلمان وأبو ذر والمقداد فثبتوا على دين
محمد صلىاللهعليهوآله وملة إبراهيم (ع) حتى لقوا الله ، يرحمهم الله.
يا ابن قيس! فو
الله لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوني وفوا لي وأصبحوا على بابي محلقين قبل أن
تجب لعتيق في عنقي بيعة لناهضته وحاكمته إلى الله عز وجل ، ولو وجدت قبل بيعة
عثمان أعوانا لناهضتهم وحاكمتهم إلى الله ، فإن ابن عوف جعلها لعثمان ، واشترط عليه
فيما بينه وبينه أن يردها عليه عند موته ، فأما بعد بيعتي إياهم فليس إلى مجاهدتهم
سبيل.
فقال الأشعث :
والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت الأمة غيرك وغير شيعتك! فقال : إن الحق
والله معي يا ابن قيس كما أقول ، وما هلك من الأمة إلا الناصبين والمكاثرين والجاحدين
والمعاندين ، فأما من تمسك بالتوحيد والإقرار بمحمد والإسلام ولم يخرج من الملة ،
ولم يظاهر علينا الظلمة ، ولم ينصب لنا العداوة ، وشك في الخلافة ، ولم يعرف أهلها
وولاتها ، ولم يعرف لنا ولاية ، ولم ينصب لنا عداوة ، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له
رحمة الله ويتخوف عليه ذنوبه.
__________________
قال أبان : قال
سليم بن قيس : فلم يبق يومئذ من شيعة علي عليهالسلام أحد إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته ، إذ شرح أمير المؤمنين عليهالسلام الأمر وباح به ، وكشف الغطاء ، وترك التقية ، ولم يبق أحد من القراء ممن كان
يشك في الماضين ويكف عنهم ويدع البراءة منهم ورعا وتأثما إلا استيقن واستبصر وحسن
وترك الشك والوقوف ، ولم يبق أحد حوله أتى بيعته على وجه ما بويع
عثمان والماضون قبله إلا رئي ذلك في وجهه وضاق به أمره ، وكره مقالته ، ثم إنهم
استبصر عامتهم وذهب شكهم.
قال أبان ، عن
سليم : فما شهدت يوما قط على رءوس العامة أقر لأعيننا من ذلك اليوم لما كشف للناس
من الغطاء ، وأظهر فيه من الحق ، وشرح فيه من الأمر ، وألقى فيه التقية والكتمان ، وكثرت الشيعة
بعد ذلك المجلس مذ ذلك اليوم ، وتكلموا وقد كانوا أقل أهل عسكره ، وصار الناس
يقاتلون معه على علم بمكانه من الله ورسوله ، وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل
الناس وأعظمهم ـ وفي رواية أخرى : جل الناس وأعظمهم ـ وذلك بعد وقعة النهروان ،
وهو يأمر بالتهيئة والمسير إلى معاوية ، ثم لم يلبث أن قتل صلوات الله عليه ، قتله
ابن ملجم لعنه الله غيلة وفتكا ، وقد كان سيفه مسموما قبل ذلك .
__________________
توضيح
: قوله عليهالسلام : تبت أيديكم .. التباب : الخسران والهلاك ، وفي بعض النسخ
ـ كما في النهج ـ تربت ، وهي كلمة يدعى على الإنسان بها ، أي لا أصبتم خيرا وأصل ترب :
أصابه التراب ، فكأنه يدعو عليه بأن يفتقر .
قوله عليهالسلام : حمس الوغاء .. أي اشتد الحرب ، وأصل الوغاء :
الصوت والجلبة ، سميت الحرب بها لما فيها من الأصوات والجلبة .
قوله عليهالسلام : واحمر الموت .. قال في النهاية : فيه .. الموت الأحمر يعني القتل لما فيه
من حمرة الدم أو لشدته ، يقال موت أحمر : أي شديد .
وفي النهج :
واستحر الموت .. قال في النهاية : أي اشتد وكثر ، وهو استفعل من الحر : الشدة ،
ومنه حديث علي عليهالسلام : حمس الوغا واستحر الموت .
وقيل : يحتمل أن
يكون المراد شدته الشبيهة بالحرارة مجازا أو خلوصه وحضوره ، فيكون اشتقاقه من
الحرية.
قوله عليهالسلام : انفراج الرأس .. أي تتفرقون عني أشد تفرق ، وهو مثل ، وقيل أول من
تكلم به أكثم بن صيفي في وصيته : يا بني! لا تتفرقوا في
__________________
الشدائد انفراج
الرأس ، فإنكم بعد ذلك لا تجتمعون على عسر. وفي معناه أقوال :
أحدها
: ما ذكره ابن دريد ، وهو أن المراد به انفراج الرأس عن
البدن ، فإنه لا يقبل الالتئام ولا يكون بعده اتصال.
ثانيها
: قال المفضل :
الرأس اسم رجل ينسب إليه قرية من قرى الشام ، يقال لها : بيت الرأس ، وفيها يباع
الخمر ، قال حسان :
كأن سبيئته من
بيت رأس
|
|
يكون مزاجها عسل
وماء [ كذا ]
|
وهذا الرجل كان قد
انفرج عن قومه ومكانه فلم يعد إليه ، فضرب به المثل في المفارقة .
ثالثها
: قال بعضهم معناه
أن الرأس إذا انفرج بعض عظامه عن بعض كان ذلك بعد الالتئام والعود إلى الصحة.
رابعها
: قال القطب
الراوندي رحمهالله : معناه : انفرجتم عني رأسا أي بالكلية .
واعترض عليه ابن
أبي الحديد بأنه لا يعرف ، وفيه نظر.
خامسها
: ما قاله الراوندي
ـ أيضا ـ أي انفراج من أدلى برأسه إلى غيره ثم حرف رأسه عنه .
__________________
واعترض ابن أبي
الحديد بأنه لا خصوصية للرأس في ذلك ، ولا يخفى ضعفه ، فإن وجه
التخصيص ظاهر ، وهو مثل مشهور بين العرب والعجم.
سادسها
: إن معناه انفراج
المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع ، فإنه يكون في غاية الشدة وتفرق الاتصال
والانفراج .
وأما انفراج
المرأة عن قبلها ، فقيل : انفراج المرأة البغية وتسليمها لقبلها.
وقيل : أريد
انفراجها وقت الولادة.
وقيل : وقت الطعان
، والأوسط أظهر. وعلى التقدير إنما شبه عليهالسلام هذا التشبيه ليرجعوا إلى الأنفة .
قوله عليهالسلام : يجز لحمه .. في النهج : يعرق لحمه ، يقال : عرق اللحم : إذا لم يبق على
العظم منه شيئا .
والفري : القطع .
والهشم : كسر العظام .
__________________
والجوانح :
الأضلاع مما يلي الصدر ، الواحد جانحة .
وفراش الهام :
العظام الرفيعة على القحف ، وهو ـ بالكسر ـ العظم فوق الدماغ .
وطاح يطوح ويطيح :
هلك وأشرف على الهلاك ، وذهب وسقط وتاه في الأرض .
والمعاصم ـ جمع
معصم ـ بالكسر ـ وهو موضع السوار من الساعد .
وفي النهج : تطيح
السواعد والأقدام.
ونابذه الحرب : كاشفه .
والنيف .. ـ ككيس
، وقد يخفف ـ : الزيادة : بين العددين .
قوله : أو نبوة ..
أي كلالا وتقصيرا ، يقال نبأ السيف عن الضريبة .. أي كل ، والسهم عن الهدف أي قصر .
__________________
وفي بعض النسخ :
أو سوأة .. أي قبيحا .
أقول
: أورده الديلمي في
إرشاد القلوب مع اختصار.
__________________
١٤ ـ باب
العلة التي من أجلها ترك
الناس عليا عليهالسلام
١
ـ ع ، لي : أحمد بن يحيى
المكتب ، عن أحمد بن محمد الوراق ، عن محمد بن الحسن بن دريد ، عن العباس بن
الفرج الرياشي ، عن أبي زيد النحوي قال : سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت : لم هجر الناس
عليا عليهالسلام وقرباه من رسول الله صلىاللهعليهوآله قرباه ، وموضعه من المسلمين موضعه ، وعناؤه في الإسلام
عناؤه؟!. فقال : بهر ـ والله ـ نوره أنوارهم ، وغلبهم على صفو كل منهل ، والناس
إلى أشكالهم أميل ، أما سمعت الأول حيث يقول :
وكل شكل لشكله
إلف
|
|
أما ترى الفيل
يألف الفيلا
|
قال : وأنشدنا
الرياشي في معناه عن العباس بن الأحنف :
__________________
وقائل كيف
تهاجرتما
|
|
فقلت قولا فيه
إنصاف
|
لم يك من شكلي
فهاجرته
|
|
والناس أشكال
وألاف
|
بيان
: القربى ـ بالضم :
مصدر ـ بمعنى القرابة .
والعناء : التعب
والنصب .
وبهره بهرا : غلبه
.
والمنهل : عين ماء
ترده الإبل في المراعي ، أي أخذ منهم من كل منهل من مناهل الخيرات والسعادات صفوه
وخالصه. والإلف ـ بالكسر ـ : الأليف ، والألاف ـ بالضم والتشديد ـ : جمع آلف ،
ككافر وكفار .
٢
ـ ن ، ع : الطالقاني ، عن
أحمد الهمداني ، عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن عليهالسلام قال : سألته عن أمير المؤمنين عليهالسلام كيف مال الناس عنه إلى غيره ، وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول الله صلىاللهعليهوآله؟. فقال : إنما مالوا عنه إلى غيره وقد عرفوا فضله لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم
وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم
__________________
وأقربائهم
المحادين لله ولرسوله عددا كثيرا ، وكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم
فلم يحبوا أن يتولى عليهم ، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك ، لأنه لم يكن له في الجهاد بين
يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله مثل ما كان ، فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى سواه .
٣
ـ قب : سأل أبو زيد
النحوي الخليل بن أحمد : ما بال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله كأنهم بنو أم واحدة وعلي عليهالسلام كأنه ابن علة؟!. قال : تقدمهم إسلاما ، وبذهم شرفا ، وفاقهم
علما ، ورجحهم حلما ، وكثرهم هدى ، فحسدوه ، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل ...
وقيل لمسلمة بن
نميل : ما لعلي عليهالسلام رفضه العامة وله في كل خير ضرس قاطع؟. فقال : لأن ضوء
عيونهم قصير عن نوره ، والناس إلى أشكالهم أميل ... .
قال الشعبي : ما
ندري ما نصنع بعلي بن أبي طالب (ع) ، إن أحببناه افتقرنا ، وإن أبغضناه
كفرنا؟!.
وقال النظام : علي
بن أبي طالب محنة على المتكلم ، إن وفى حقه غلا ، وإن بخسه حقه أساء ، والمنزلة
الوسطى دقيقة الوزن ، حادة الشاف ، صعب الترقي
__________________
إلا على الحاذق
الدين.
وقال أبو العيناء
لعلي بن الجهم : إنما تبغض عليا عليهالسلام لأنه كان يقتل الفاعل والمفعول وأنت أحدهما. فقال له : يا
مخنث! فقال أبو العيناء : ( وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) .
بيان
: قال في النهاية :
أولاد العلات : الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد .
٤
ـ قب : قال ابن عمر
لعلي عليهالسلام : كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأحد من ساداتهم
سبعين سيدا تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟!.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام :
ما تركت بدر لنا
مذيقا
|
|
ولا لنا من
خلفنا طريقا
|
وسئل زين العابدين
عليهالسلام وابن عباس أيضا : لم أبغضت قريش عليا عليهالسلام؟. قال : لأنه أورد أولهم النار وقلد آخرهم العار.
معرفة الرجال ، عن
الكشي : أنه كانت عداوة أحمد بن حنبل لأمير المؤمنين عليهالسلام أن جده ذا الثدية قتله أمير المؤمنين يوم النهروان .
__________________
كامل المبرد : أنه
كان أصمع بن مظهر جد الأصمعي قطعه علي عليهالسلام في السرقة ، فكان الأصمعي يبغضه ، قيل له : من أشعر الناس؟.
قال : من قال :
كأن أكفهم
الهمام تهوي
|
|
عن الأعناق تلعب
بالكرينا
|
فقالوا : السيد
الحميري. فقال : هو والله أبغضهم إلي! .
بيان
: شرب أنوفهم الماء
قبل شفاههم .. كناية عن طول أنوفهم لبيان حسنهم ، فإن العرب تمتدح بذلك ، وقد روى
نحوه في أوصاف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو لبيان شرفهم وفخرهم فإنهما مما ينسب إلى الأنف ،
والأول أظهر.
والمذيق : اللبن
الممزوج بالماء ، وقد مذقت اللبن فهو ممذوق ومذيق ، ورجل مماذق : غير مخلص في الود
. وفي الديوان : صديقا ، مكان : مذيقا .
والكرين ـ بضم
الكاف وكسرها ـ جمع كرة .
٥
ـ ع ، لي : الحسين بن عبد
الله العسكري ، عن إبراهيم بن رعد العبشمي ، عن ثبيت بن محمد
، عن أبي الأحوص المصري ، عن جماعة من
__________________
أهل العلم ، عن
الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده عليهمالسلام قال : بينما أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أصعب موقف بصفين إذ قام
إليه رجل من بني دودان فقال : ما بال قومكم دفعوكم عن هذا الأمر ،
وأنتم الأعلون نسبا ، وأشد نوطا بالرسول صلىاللهعليهوآله ، وفهما بالكتاب والسنة؟! فقال : سألت يا أخا بني دودان
ولك حق المسألة وذمام الصهر ، وإنك لقلق الوضين ترسل عن
ذي مسد ، إنها امرأة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم
الله ، فدع عنك نهبا صيح في حجراته ، وهلم الخطب في ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد
إبكائه .
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها
|
|
ألا هل لنا أهل سألت كذلك
|
بئس القوم من
خفضني وحاولوا الإدهان في دين الله ، فإن ترفع عنا محن
__________________
البلوى أحملهم من
الحق على محضه ، وإن تكن الأخرى ( فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) ، إليك عني يا أخى بني سيدان .
٦
ـ نهج : ومن كلام له (ع)
لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال :
يا أخا بني أسد!
إنك لقلق الوضين ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة
، وقد استعلمت فاعلم : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشد بالرسول صلىاللهعليهوآله نوطا ، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله ،
والمعود إليه القيامة .. : ودع عنك نهبا صيح في حجراته .. وهلم الخطب في ابن أبي
سفيان فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ، ولا غرو والله ، فيا له خطبا
يستفرغ العجب ويكثر الأود! حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ، وسد فواره من
ينبوعه ، وجدحوا بيني وبينهم شربا وبيئا ، فإن يرتفع عنا وعنهم محن
البلوى ، أحملهم من الحق على محضه ، وإن تكن الأخرى ، ( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) ..
__________________
ولنوضح روايتي
الصدوق والسيد رض الله عنهما : قال الفيروزآبادي :
دودان .. ابن أسد : أبو قبيلة فلا ينافي ما في النهج أنه كان من بني أسد.
وقال الجوهري :
ناط الشيء ينوطه نوطا : علقه .
قوله عليهالسلام : ذمام الصهر .. الذمام ـ بالكسر ـ الحرمة ، وأما كونه صهرا فقيل
لأن زينب بنت جحش زوجة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت أسدية ، ونقل الراوندي رحمهالله أنه كان متزوجا في بني أسد ، وأنكره ابن أبي
الحديد . وقال في النهاية ـ في
حديث علي عليهالسلام ـ « إنك لقلق الوضين » ... الوضين : بطان منسوج بعضه على
بعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج ، أراد به أنه سريع الحركة
، يصفه ، بالخفة وقلة الثبات ، كالحزام إذا كان رخوا .
قوله عليهالسلام : ترسل في غير سدد .. الإرسال : الإطلاق والإهمال والتوجيه ، والسدد والسداد
: الاستقامة والصواب .. أي تطلق عنان دابتك أو تهملها وتوجهها في غير مواضعها ،
أي تتكلم في غير موضع الكلام ، وتسأل مثل هذا الأمر الذي لا يمكن التصريح بمخ الحق
فيه في مجمع الناس.
__________________
وفي رواية الصدوق
: عن ذي مسد .. والمسد : الحبل الممسود ـ أي المفتول ـ من نبات أو لحاء شجرة ،
وقيل : المسد : المرود البكرة الذي تدور عليه ـ ذكرهما في النهاية ـ فيمكن أن يقرأ
على بناء المعلوم .. أي ترسل الكلام كما يرسل البكرة على المرود عند الاستقاء ، أو
المعنى تطلق حيوانا له مسد ربط به ، كناية عن التكلم بما له مانع عن التكلم به ، و
على المجهول .. أي تنطق بالكلام عن غير تأمل ثم تصير معلقا
بالحبل بين السماء والأرض لا تدري الحيلة فيه ، أو بتشديد الدال .. أي ترسل الماء
عن مجرى له محل سد أو وسد ، والأظهر أنه تصحيف ، وفيما سيأتي من رواية المفيد : من
غير ذي مسد ، وهو أظهر.
والاستبداد بالشيء
: التفرد به ، والضمير في قوله عليهالسلام : فإنها ..
راجعة إلى الخلافة أو الدنيا لظهورهما بقرينة المقام. وقيل : إلى الأثرة المفهومة
من الاستبداد ، وهو بعيد.
وفي الأمالي :
امرأة ، وكأنه تصحيف إمرة ـ بالكسر ـ أي إمارة .
قوله عليهالسلام : شحت .. أي بخلت ، والنفوس الشاحة : نفوس أهل السقيفة.
__________________
قوله عليهالسلام : والمعود إليه .. : اسم مكان ، ويروى يوم القيامة بالنصب ـ على أن يكون ظرفا ، والعامل فيه المعود
على أن يكون مصدرا.
قوله عليهالسلام :دع عنك نهبا صيح في حجراته .. البيت لإمرئ القيس وتمامه : ولكن حديثا ما حديث الرواحل ، وكان من قصة هذا الشعر أن إمرأ القيس لما انتقل في أحياء
العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طي يقال له : طريف ، فأحسن جواره ، فمدحه وأقام عنده ، ثم
إنه خاف أن لا يكون له منعة فتحول ونزل على خالد بن سدوس النبهاني فأغارت بنو
جديلة على إمرئ القيس ـ وهو في جوار خالد ـ فذهبوا بإبله ، فلما أتاه الخبر ذكر ذلك
لجاره فقال له : أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ففعل ، فركب
خالد في أثر القوم حتى أدركهم ، فقال : يا بني جديلة : أغرتم على إبل
جاري؟. فقالوا : ما هو لك بجار؟. قال : بلى والله وهذه رواحله. قالوا
:كذلك. قال : نعم. فرجعوا إليه وأنزلوه عنهن وذهبوا بهن وبالإبل. وقيل : بل انطوى
خالد على الإبل فذهب بها ، فقال إمرؤ القيس :
__________________
دع عنك .. إلى آخر
القصيدة ، والمعنى دع عنك نهبا .. أي اتركه .
والنهب : الغنيمة .
والحجرات :
النواحي جمع حجرة كجمرة وجمرات .
والصياح : صياح
الغارة.
والرواحل ـ جمع
راحلة ـ وهي الناقة التي تصلح لأن يشد الرحل على ظهرها ، وانتصب حديثا
بإضمار فعل .. أي حدثني أو هات أو اسمع ، ويروى بالرفع .. أي غرضي حديث فحذف
المبتدأ ، و ( ما ) هاهنا تحتمل أن تكون إبهامية ، هي التي إذا اقترنت بنكرة زادته إبهاما ، أو صلة
مؤكدة كما في قوله تعالى :
( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) .
وأما حديث الثاني
: فقد ينصب على البدل من الأول ، وقد يرفع على أن يكون ( ما ) موصولة وصلتها
الجملة .. أي الذي هو حديث الرواحل ، ثم حذف صدرها كما حذف في : ( تَماماً
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) ، أو على أن تكون استفهامية بمعنى أي.
وقوله عليهالسلام : وهلم الخطب .. يؤيد أنه عليهالسلام لم يستشهد إلا بصدر البيت ، فإنه قائم مقام قول إمرئ القيس
: ولكن حديثا ما.
__________________
وهلم يستعمل لازما
ومتعديا ، فاللازم بمعنى تعال ، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في لغة
أهل الحجاز ، وأهل نجد يقولون : هلما وهلموا ، والمتعدي بمعنى هات ، قال تعالى : ( هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ ) وهنا يحتمل الوجهين ، وإن كان الثاني أظهر ، أي لا تسأل عن
اللصوص الثلاثة الماضية ، فإنهم نهبوا الخلافة وصاحوا في حجراته ومضوا ، ولكن هات
ما نحن فيه الآن من خطب ابن أبي سفيان لنتكلم فيه ونشتغل بدفعه ، فإنه أعجب وأغرب
، والتعرض له أهم.
والخطب : الحادث
الجليل والأمر العظيم .
قوله عليهالسلام : بعد إبكائه .. قيل : الإبكاء إشارة إلى ما كان عليه من الكآبة لتقدم
الخلفاء ، والضحك للتعجب من أن الدهر لم يقنع بذلك حتى جعل معاوية منازعا له في
الخلافة ، والأظهر أن كليهما في أمر معاوية ، أو في أمره وأمر من تقدمه فإنها محل
للحزن والتعجب معا.
والغرو ـ بالغين
المعجمة المفتوحة والراء المهملة الساكنة ـ العجب أي لا عجب والله ، ثم فسره بما
بعده فقال : يستفرغ العجب .. أي لم يبق منه ما
__________________
يطلق عليه لفظ
التعجب ، وهذا من المبالغة في المبالغة ، أي هذا أمر يجل عن التعجب كقول ابن هاني
المغربي :
قد سرت في
الميدان يوم طرادهم
|
|
فعجبت حتى كدت
لا أتعجب
|
والأود : العوج ، ويحتمل أن يكون
لا غرو ، معناه : أن ما ورد علي ليس بعجب من تقلبات الدنيا وأحوالها ، وقوة الباطل
وغلبة أهله فيها ، فيكون قوله عليهالسلام : فيا له .. استئنافا لاستعظام الأمر ، أو المعنى : لا غرو
في أن أضحكني وأبكاني لأمر واحد.
وأما رواية الصدوق
، فلعل المعنى لا عجب إلا من جارتي ، وسؤالها عني لم لم تنتصر ممن
ظلمك؟ هل كان لي أهل يعينني فأسأل عن ذلك؟ أي مع علمك بتفردي وتخذل الناس عني ما
كنت تحتاج إلى السؤال عن علة الأمر.
وفوار الينبوع ـ بالفتح
وتشديد الواو ـ : ثقب البئر ، والفوار ـ بالضم والتخفيف ـ : ما يفور من حر القدر ، وقرئ بهما ، والأول
أظهر.
وجدحوا .. أي
خلطوا ومزجوا وأفسدوا.
والوبي : ذو
الوباء والمرض .
__________________
والشرب ـ بالكسر ـ
الحظ من الماء ، والشرب الوبي هو الفتنة الحاصلة من عدم انقيادهم له عليهالسلام كالشرب المخلوط بالسم.
قوله عليهالسلام : فإن يرتفع .. أي بأن يتبعوا أمري.
٧
ـ قل : حكى أبو هلال
العسكري في كتاب الأوائل عند ذكر أبي الهيثم بن التيهان : إنه أول من ضرب
على يد رسول الله صلىاللهعليهوآله في ابتداء أمر نبوته.
ثم قال ـ بإسناده
ـ : إن أبا الهيثم قام خطيبا بين يدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام فقال : إن حسد قريش إياك على وجهين : أما خيارهم ، فتمنوا أن يكونوا مثلك
منافسة في الملإ وارتفاع الدرجة ، وأما شرارهم ، فحسدوا حسدا أثقل القلوب
وأحبط الأعمال ، وذلك أنهم رأوا عليك نعمة قدمها إليك الحظ وأخرهم عنها الحرمان ، فلم يرضوا أن يلحقوا حتى طلبوا أن
يسبقوك ،
__________________
فبعدت ـ والله ـ عليهم
الغاية ، وقطعت المضمار ، فلما تقدمتهم بالسبق وعجزوا عن اللحاق بلغوا منك ما رأيت ، وكنت ـ والله
ـ أحق قريش بشكر قريش ، نصرت نبيهم حيا ، وقضيت عنه الحقوق ميتا ، والله ما بغيهم إلا على أنفسهم
، ولا نكثوا إلا بيعة الله ، ( يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ ) فيها ، ونحن معاشر الأنصار أيدينا وألسنتنا معك ، فأيدينا على من
شهد وألسنتنا على من غاب .
أقول
: روى ابن أبي
الحديد في شرح النهج : عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني ، عن
فضيل بن الجعد ، قال : آكد الأسباب كان في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين عليهالسلام أمر المال ، فإنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف ، ولا عربيا على عجمي ، ولا
يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك ، ولا يستميل أحدا إلى نفسه ، وكان
معاوية بخلاف ذلك ، فترك الناس عليا عليهالسلام والتحقوا بمعاوية ، فشكا علي عليهالسلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية ، فقال
الأشتر : يا أمير المؤمنين! إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي
الناس واحد ، وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النية وقل العدد ، وأنت تأخذهم بالعدل ، وتعمل فيهم بالحق
،
__________________
وتنصف للوضيع من
الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة ، فضجت طائفة ممن تبعك من الحق إذ عموا به واغتموا من الحق إذ صاروا فيه ،
ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف ، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا ، وقل من
ليس للدنيا ، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل ، ويؤثر الدنيا ، فإن تبذل المال ـ يا
أمير المؤمنين ـ تمل إليك أعناق الرجال وتصفو نصيحتهم ، ويستخلص ودهم لك يا أمير المؤمنين!
وكبت أعداؤك ، وفض جمعهم ، وأوهن كيدهم ، وشتت أمورهم ، ( إِنَّهُ
بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )
فقال علي عليهالسلام : أما ما ذكرت من علمنا وسيرتنا بالعدل ، فإن الله عز وجل يقول : ( مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ
__________________
لِلْعَبِيدِ
) ، وأما [ أنا ] من أن أكون مقصرا فيما ذكرت أخوف. وأما ما ذكرت من أن الحق
ثقيل عليهم ففارقوا بذلك ، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إذ
فارقونا إلى عدل ، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها ، وليسألن يوم
القيامة : أللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟.
وأما ما ذكرت من
بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقه ،
وقد قال الله سبحانه وقوله الحق : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقد بعث الله
محمدا صلىاللهعليهوآله وحده ، وكثره بعد القلة ، وأعز فئته بعد الذلة ، وإن يرد
الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه ، ويسهل لنا حزنه ، وأنا قابل من رأيك ما
كان لله عز وجل رضى ، وأنت من آمن الناس عندي ، وأنصحهم لي ، وأوثقهم في نفسي إن
شاء الله.
وروى أيضا في
الكتاب المذكور ، عن هارون بن سعد قال : قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي عليهالسلام : يا أمير المؤمنين! لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فو الله ما لي نفقة إلا أن
أبيع دابتي. فقال : لا والله ، ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك يسرق فيعطيك ..
٨
ـ ما : جماعة ، عن أبي
المفضل ، عن محمد بن العباس النحوي ، عن
__________________
الخليل بن أسد ،
عن محمد بن سلام ، قال : حدثني يونس بن حبيب النحوي ـ وكان عثمانيا ـ قال : قلت للخليل بن أحمد
: أريد أن أسألك عن مسألة فتكتمها علي؟ قال : إن قولك يدل على أن الجواب أغلظ من
السؤال ، فتكتمه أنت أيضا؟
قال : قلت : نعم أيام حياتك. قال : سل . قال : ما بال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ورحمهم كأنهم كلهم بنو أم واحدة وعلي بن أبي طالب عليهالسلام من بينهم كأنه ابن علة؟. قال : من أين لك هذا السؤال؟. قال : قلت :
قد وعدتني الجواب. قال : قد ضمنت لي الكتمان . قال : قلت أيام حياتك.
فقال : إن عليا عليهالسلام تقدمهم إسلاما وفاقهم علما ، وبذهم شرفا ، ورجحهم
زهدا ، وطالهم جهادا ، فحسدوه ، والناس إلى أشكالهم وأشباههم أميل منهم إلى من بان
منهم ، فافهم.
__________________
١٥ ـ باب
شكاية أمير المؤمنين صلوات
الله عليه عمن تقدمه
من المتغلبين الغاصبين
١
ـ مع ، ع : ماجيلويه ، عن
عمه ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبان
بن تغلب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليهالسلام ، فقال : والله لقد تقمصها أخو تيم وإنه ليعلم أن
محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها
ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية
عمياء ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر
__________________
على هاتى [ هاتا ]
أحجى ، فصبرت وفي القلب قذا ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها
إلى فلان بعده ، عقدها لأخي عدي بعده ، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر [
لآخر ] بعد وفاته ، فصيرها والله في حوزة خشناء ، يخشن مسها ، ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار
فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن عنف بها حرن
وإن أسلس بها غسق ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس ، وتلون واعتراض ، وبلوى
وهو مع هن وهني ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في
جماعة زعم أني منهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم
حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ؟
__________________
فمال رجل بضبعه ، وأصغى آخر
لصهره ، وقام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نشيله ومعتلفه ، وقاموا
معه بني [ بنو ] أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبت الربيع ، حتى أجهز عليه عمله ، وكسبت به مطيته ، فما راعني إلا
والناس إلي كعرف الضبع قد انثالوا علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ
الحسنان ، وشق عطفاي ، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وفسقت أخرى ، ومرق
آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله تبارك وتعالى يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ، بلى والله لقد سمعوها ووعوها لكن احلولت الدنيا في أعينهم
، وراقهم زبرجها ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة
بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقروا على كظة ظالم
__________________
ولا سغب مظلوم ،
لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه عندي
أزهد من خبقة عنز .. وناوله رجل من أهل السواد كتابا فقطع كلامه وتناول الكتاب ، فقلت : يا أمير
المؤمنين! لو أطردت مقالتك إلى حيث بلغت؟! فقال : هيهات هيهات يا ابن عباس ،
تلك شقشقة هدرت ثم قرت .. فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين عليهالسلام إذ لم يبلغ حيث أراد ..
قال الصدوق نور
الله ضريحه : سألت الحسين بن عبد الله بن سعيد العسكري عن تفسير هذا الخبر ففسره لي
قال : تفسير الخبر :
قوله عليهالسلام : لقد تقمصها .. أي لبسها مثل القميص ، يقال تقمص الرجل وتدرع وتردى وتمندل.
وقوله : محل القطب
من الرحى .. أي تدور علي كما تدور الرحى على قطبها.
قوله عليهالسلام ينحدر عنه السيل ولا يرتقي إليه الطير .. يريد أنها
__________________
ممتنعة على غيري
ولا يتمكن منها ولا تصلح له .
وقوله : فسدلت
دونها ثوبا .. أي أعرضت عنها ولم أكشف وجوبها لي ، والكشح : الجنب والخاصرة.
فمعنى قوله : طويت عنها
كشحا .. أي أعرضت عنها ، والكاشح الذي يوليك كشحه .. أي جنبه.
وقوله : طفقت ..
أي أقبلت وأخذت أرتئي .. أي أفكر وأستعمل الرأي وأنظر في أن أصول بيد جذاء ـ وهي
المقطوعة ـ وأراد قلة الناصر.
وقوله : أو أصبر
على طخية .. فللطخية موضعان : فأحدهما الظلمة ، والآخر : الغم والحزن ، يقال : أجد على قلبي طخاء
.. أي حزنا وغما ، وهو هاهنا يجمع الظلمة والغم والحزن.
وقوله : يكدح مؤمن
.. أي يدأب ويكسب لنفسه ولا يعطى حقه.
وقوله : أحجى ..
أي أولى ، يقال : هذا أحجى من هذا وأخلق وأحرى وأوجب كله قريب المعنى.
وقوله : في حوزة
.. أي في ناحية ، يقال : حزت الشيء أحوزه حوزا إذا جمعته ، والحوزة ناحية
الدار وغيرها.
وقوله : كراكب
الصعبة .. يعني الناقة التي لم ترض.
إن عنف بها ،
العنف ضد الرفق.
__________________
وقوله : حرن .. أي
وقف فلم يمش ، وإنما يستعمل الحران في الدواب ، فأما في الإبل فيقال :
خلات الناقة وبها خلاء ، وهو مثل حران الدواب ، إلا أن العرب ربما تستعيره في
الإبل.
وقوله : وإن أسلس
بها غسق .. أي أدخله في الظلمة.
وقوله : مع هن
وهني .. يعني الأدنياء من الناس ، تقول العرب فلان هني وهو تصغير هن .. أي هو دون من الناس ..
ويريدون بذلك تصغير أموره .
وقوله : فمال رجل
بضبعه .. ويروى بضلعه ، وهما قريب ، وهو أن يميل بهواه ونفسه إلى الرجل بعينه.
وقوله : وأصغى آخر
لصهره .. فالصغو : الميل ، يقال : صغوك مع فلان أي .. ميلك معه.
وقوله : نافجا
حضينه .. يقال في الطعام والشراب وما أشبههما قد انتفج بطنه ـ بالجيم ـ ، ويقال في
كل داء يعتري الإنسان : قد انتفخ بطنه ـ بالخاء ـ ، والحضنان جانبا الصدر.
__________________
وقوله : بين ثيله
ومعتلفه .. فالثيل : قضيب الجمل
وإنما استعاره للرجل هاهنا ، والمعتلف : الموضع الذي يعتلف فيه .. أي يأكل ،
ومعنى الكلام بين مطعمه ومنكحه.
وقوله : يخضمون ..
أي يكثرون وينقضون ، ومنه قوله : خضمني الطعام .. أي نقض .
وقوله : أجهز .. أي أتى عليه
وقتله ، يقال : أجهزت على الجريح إذا كانت به جراحة فقتله .
وقوله : كعرف
الضبع .. شبههم به لكثرته ، والعرف : الشعر الذي يكون على عنق الفرس ، فاستعاره
للضبع.
وقوله : و قد انثالوا .. أي
انصبوا علي وكثروا ، ويقال : انتثلت ما في كنانتي من السهام إذا صببته .
وقوله : وراقهم
زبرجها .. أي أعجبهم حسنها ، وأصل الزبرج النقش ، وهو هاهنا زهرة الدنيا وحسنها.
وقوله : أن لا
يقروا على كظة ظالم .. فالكظة : الامتلاء ، يعني أنهم لا
__________________
يصبرون على امتلاء
الظالم من المال الحرام ولا يقاروه على ظلمه.
وقوله : ولا سغب
مظلوم .. فالسغب : الجوع ، ومعناه منعه من الحق الواجب له.
وقوله : لألقيت
حبلها على غاربها .. مثل تقول العرب ألقيت حبل البعير على غاربه ليرعى كيف شاء.
ومعنى قوله :
ولسقيت آخرها بكأس أولها .. أي لتركتهم في ضلالهم وعماهم.
وقوله : أزهد عندي
.. فالزهيد : القليل.
قوله : من حبقة عنز ..
فالحبقة ما يخرج من دبر العنز من الريح ، والعفطة ما يخرج من أنفها.
وقوله : تلك شقشقة
هدرت .. فالشقشقة : ما يخرجه البعير من جانب فيه إذا هاج وسكر.
٢
ـ مع ، ع : الطالقاني ، عن
الجلودي ، عن أحمد بن عمار بن خالد ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن عيسى بن
راشد ، عن علي بن حذيفة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله.
٣
ـ ما : الحفار ، عن
أبي القاسم الدعبلي ، عن أبيه ، عن أخي دعبل ،
__________________
عن محمد بن سلامة
الشامي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر ، عن أبيه ، عن جده عليهمالسلام ، والباقر عليهالسلام ، عن ابن عباس قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة .. وذكر نحوه بأدنى تغيير.
٤ـ
شا : روى جماعة عن
أهل النقل من طرق مختلفة ، عن ابن عباس قال : كنت عند أمير المؤمنين عليهالسلام بالرحبة فذكرت الخلافة وتقديم من تقدم عليه ، فتنفس الصعداء ثم قال : أم والله لقد
تقمصها ابن أبي قحافة .. وساق الخبر إلى آخره.
إيضاح
: هذه الخطبة من مشهورات خطبه صلوات الله عليه روتها الخاصة
والعامة في كتبهم وشرحوها وضبطوا كلماتها ، كما عرفت رواية الشيخ الجليل المفيد
وشيخ الطائفة والصدوق ، ورواها السيد الرضي في نهج البلاغة والطبرسي في
الإحتجاج قدس الله أرواحهم ، وروى الشيخ قطب الدين الراوندي قدسسره في شرحه على نهج البلاغة بهذا السند :
أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم ، عن الحاجب أبي
الوفا محمد بن بديع والحسين بن أحمد بن
__________________
بديع والحسين بن
أحمد بن عبد الرحمن ، عن
الحافظ أبي بكر بن مردويه الأصفهاني ، عن سليمان بن أحمد الطبراني ، عن أحمد بن
علي الأبار ، عن إسحاق ابن سعيد أبي سلمة الدمشقي ، عن خليد بن دعلج ، عن عطان [
عطاء ] بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : كنا مع علي عليهالسلام بالرحبة فجرى ذكر الخلافة ومن تقدم عليه فيها ، فقال : أما والله لقد تقمصها
فلان .. إلى آخر الخطبة .
ومن أهل الخلاف
رواها ابن الجوزي في مناقبه ، وابن عبد ربه في الجزء الرابع من كتاب العقد ، وأبو علي
الجبائي في كتابه ، وابن الخشاب في درسه ـ على ما حكاه بعض الأصحاب ـ والحسن بن عبد الله بن سعيد
العسكري في كتاب المواعظ والزواجر ـ على ما ذكره صاحب الطرائف ـ ، وفسر ابن
الأثير في النهاية لفظ الشقشقة ، ثم قال : ومنه حديث علي عليهالسلام في خطبة له : تلك
__________________
شقشقة هدرت ثم قرت
.. وشرح كثيرا من ألفاظها .
وقال الفيروزآبادي
في القاموس ـ عند تفسيرها ـ : الشقشقة ـ بالكسر ـ شيء ـ كالرئة ـ يخرجه البعير من
فيه إذا هاج ، والخطبة الشقشقية العلوية لقوله لابن عباس ـ لما قال : لو اطردت
مقالتك من حيث أفضيت ـ : يا ابن عباس! هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت .
وقال عبد الحميد
بن أبي الحديد ـ ردا على من قال إنها تأليف السيد الرضي ـ : قد وجدت أنا
كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ـ إمام البغداديين من
المعتزلة ـ ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق السيد الرضي بمدة طويلة ، ووجدت
أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية ، وكان من تلامذة
الشيخ أبي القاسم البلخي ، ومات قبل أن يكون الرضي موجودا ..
ثم حكى عن شيخه مصدق
الواسطي أنه قال : لما قرأت هذه الخطبة على
__________________
الشيخ أبي محمد
عبد الله بن أحمد المعروف ب : ابن الخشاب ، قلت له : أتقول إنها منحولة؟!. فقال :
لا والله! وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق .. قال :
فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي. فقال لي : أنى للرضي
ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته
وفنه في الكلام المنثور .. ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب قد صنفت
قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرف أنها خطوط من هي من العلماء وأهل
الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
وقال ابن ميثم
البحراني قدسسره : وجدت هذه الخطبة بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات
وزير المقتدر بالله ، وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة. انتهى .
ومن الشواهد على
بطلان تلك الدعوى الواهية الفاسدة أن القاضي عبد الجبار ـ الذي هو من متعصبي
المعتزلة ـ قد تصدى في كتاب المغني لتأويل بعض كلمات الخطبة ، ومنع دلالتها على الطعن في
خلافة من تقدم عليه ، ولم ينكر استناد الخطبة إليه.
وذكر السيد
المرتضى رضياللهعنه كلامه في الشافي وزيفه ، وهو أكبر من أخيه الرضي قدس الله روحهما ، وقاضي
القضاة متقدم عليهما ، ولو كان يجد للقدح في استناد الخطبة إليه عليهالسلام مساغا لما تمسك بالتأويلات الركيكة في مقام الاعتذار ، وقدح في صحتها كما فعل
في كثير من الروايات المشهورة ، وكفى
__________________
للمنصف وجودها في
تصانيف الصدوق رحمهالله ، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، وكان مولد الرضي
رضياللهعنه سنة تسع وخمسين وثلاثمائة .
ولنشرح الخطبة
ثانيا لمزيد الإيضاح والتبيين ، وللإشارة إلى ما ذكره في تفسيرها وشرحها بعض
المحققين ، ونبني الشرح على ما أورده السيد قدسسره في النهج ، ليظهر مواضع الاختلاف بينه وبين ما سلف من
الروايات ، مستعينا بخالق البريات.
٥ ـ قال السيد : ومن خطبته له عليهالسلام المعروفة ب : الشقشقية : أما والله لقد تقمصها فلان ... أي اتخذها قميصا ، وفي التشبيه
بالقميص الملاصق للبدن دون سائر الأثواب تنبيه على شدة حرصه عليها ، والضمير راجع
إلى الخلافة كما ظهر من سائر الروايات ، وفلان كناية عن أبي بكر ، وكان في نسخة
ابن أبي الحديد : ابن أبي قحافة ـ بضم القاف وتخفيف الحاء ـ كما في بعض
الروايات الأخر ، وفي بعضها أخو تيم ، والظاهر أن التعبير بالكناية نوع تقية
__________________
من السيد رحمهالله ، والنسخة المقروءة عليه كانت متعددة ، فلعله عدل في بعضها عن الكناية لزوال الخوف
، ويمكن أن تكون التقية من النساخ ، ويدل على أن الكناية ليست من لفظه عليهالسلام أن قاضي القضاة في المغني تصدى لدفع دلالة تعبيره عليهالسلام عن أبي بكر بابن أبي قحافة دون الألقاب المادحة على استخفاف به ، بأنه : قد
كانت العادة في ذلك الزمان أن يسمي أحدهم صاحبه ويكنيه ويضيفه إلى أبيه ، حتى
كانوا ربما قالوا لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] :يا محمد ! فليس في ذلك
استخفاف ولا دلالة على الوضع.
فأجاب السيد رضياللهعنه بما في الشافي عنه : بأنه ليس ذلك صنع من يريد التعظيم والتبجيل ، وقد
كانت لأبي بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه ، وقوله إن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان ينادي باسمه ، فمعاذ الله ، ما كان ينادي باسمه إلا شاك
فيه ، أو جاهل من طغام الأعراب . وقوله : إن ذلك عادة العرب .. فلا شك أن ذلك عادتهم فيمن لا يكون له من
الألقاب أفخمها وأعظمها كالصديق .. ونحوه.
وإنه ليعلم أن
محلي منها محل القطب من الرحى ... الواو للحال ، وقطب
__________________
الرحى : الحديدة
المنصوبة في وسط السفلى من حجري الرحى التي تدور حولها العليا ، أي تقمص
الخلافة مع علمه بأني مدار أمرها ، ولا تنتظم إلا بي ، ولا عوض لها عني ، كما أن
الرحى لا تدور إلا بالقطب ولا عوض لها عنه.
وقال ابن أبي
الحديد : عندي أنه أراد أمرا آخر ، وهو أني من الخلافة في الصميم
وفي وسطها وبحبوحتها ، كما أن القطب وسط دائرة الرحى.
ولا يخفى نقصان
التشبيه حينئذ.
وقال في المغني : أراد أنه أهل
لها وأنه أصلح منه للقيام بها ، يبين ذلك أن القطب من الرحى لا يستقل بنفسه ولا بد في
تمامه من الرحى ، فنبه بذلك على أنه أحق وإن كان قد تقمصها.
ورده السيد رضياللهعنه بأن هذا التأويل ـ مع أنه لا يجري في غير هذا اللفظ من الألفاظ المروية عنه عليهالسلام ـ فاسد ، لأن مفاد هذا الكلام ليس إلا التفرد في الاستحقاق ، وأن غيره لا
يقوم مقامه لا أنه أهل للأمر وموضع له ، وقوله : إن القطب لا يستقل بنفسه .. تأويل
على عكس المراد ، فإن المستفاد من هذا الكلام عند من يعرف اللغة عدم انتظام دوران
الرحى بدون القطب ، لا عدم استقلال القطب بدون الرحى .
__________________
ينحدر عني السيل
ولا يرقى إلي الطير ... انحدار السيل لعله كناية عن إفاضة العلوم والكمالات وسائر
النعم الدنيوية والأخروية على المواد القابلة.
وقيل : المعنى أني
فوق السيل بحيث لا يرتفع إلي ، وهو كما ترى.
ثم إنه عليهالسلام ترقى في الوصف بالعلو بقوله : ولا يرقى إلي الطير ، فإن مرقى الطير أعلى من
منحدر السيل فكيف ما لا يرقى إليه؟ والغرض إثبات أعلى مراتب الكمال للدلالة على
بطلان خلافة من تقمصها ، لقبح تفضيل المفضول.
فسدلت دونها ثوبا
وطويت عنها كشحا ... يقال : سدل الثوب يسدله بالضم ـ أي أرخاه وأرسله ، ودون الشيء :
أمامه وقريب منه ، والمعنى :
ضربت بيني وبينها حجابا وأعرضت عنها ويئست منها ، والكشح : ما بين الخاصرة إلى
أقصر الأضلاع ، ويقال : فلان طوى كشحه .. أي أعرض مهاجرا ومال عني.
وقيل : أراد غير
ذلك ، وهو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل وشبع فقد ملأ كشحه.
وطفقت أرتئي بين
أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء ..
يقال : طفق في كذا .. أي أخذ وشرع ، وأرتئي في الأمر .. أي أفكر في طلب
__________________
الأصلح ، وهو
افتعل من رؤية القلب أو من الرأي ، والصولة : الحملة والوثبة ، والجذاء ـ بالجيم
والذال المعجمة ـ المقطوعة والمكسورة أيضا ـ كما ذكره الجوهري ـ ، وقال في
النهاية : في حديث علي عليهالسلام :أصول بيد جذاء ... كنى به عن قصور أصحابه وتقاعدهم عن
الغزو ، فإن الجند للأمير كاليد ، ويروى بالحاء المهملة وفسره في موضعه
باليد القصيرة التي لا تمد إلى ما يراد. قال : وكأنها بالجيم أشبه .
والطخية ـ بالضم ،
كما صحح في أكثر النسخ ـ الظلمة أو الغيم ، وفي بعضها بالفتح : في القاموس : الطخية
.. : الظلمة ، ويثلث ، ولم يذكر الجوهري سوى الضم ، وفسره بالسحاب ، وفي النهاية :
الطخية : الظلمة والغيم ، والعمياء : تأنيث الأعمى ، ووصف الطخية
بها لأن الرائي لا يبصر فيها شيئا. يقال : مفازة عمياء .. أي لا يهتدي فيها الدليل
، وهي مبالغة في وصف الظلمة بالشدة ، وحاصل المعنى ، إني لما رأيت الخلافة في
يد من لم يكن
__________________
أهلا لها كنت
متفكرا مرددا بين قتالهم بلا أعوان وبين معاينة الخلق على جهالة وضلالة وشدة.
يهرم فيها الكبير
ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ..
يقال : هرم ـ كفرح ـ أي بلغ أقصى الكبر ، والشيب ـ بالفتح ـ بياض الشعر ، والكدح : الكد
والعمل والسعي ، والجمل الثلاثة أوصاف للطخية العمياء ،
وإيجابها لهرم الكبير وشيب الصغير إما لكثرة الشدائد فيها ، فإنها مما يسرع بالهرم
والشيب ، أو لطول مدتها وتمادي أيامها ولياليها ، أو للأمرين جميعا ، وعلى الوجهين
الأولين فسر قوله تعالى : ( يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً ) . وكدح المؤمن يمكن أن يراد به لازمه أعني التعب ومقاساة
الشدة في الوصول إلى حقه ..
وقيل : يسعى فلا
يصل إلى حقه ، فالكدح بمعناه.
وقيل : المراد به
أن المؤمن المجتهد في الذب عن الحق والأمر بالمعروف يسعى فيه ويكد ويقاسي الشدائد
حتى يموت.
وفي رواية الشيخ والطبرسي :
يرضع فيها الصغير
ويدب فيها الكبير ..
وهو كناية عن طول المدة ـ أيضا ـ أي يمتد إلى أن يدب كبيرا من كان يرضع صغيرا ،
يقال : دب يدب دبيبا : أي مشى على هنيئة .
فرأيت أن الصبر
على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق
__________________
شجا أرى تراثي
نهبا ... كلمة ( ها ) في هاتا للتنبيه ، وتا للإشارة إلى المؤنث ، أشير بها إلى
الطخية الموصوفة ، وأحجى .. أي أولى وأجدر وأحق ، من قولهم :حجى بالمكان إذا أقام
وثبت ، ذكره في النهاية .
وقيل : أي أليق
وأقرب بالحجى وهو العقل . والقذى : جمع قذاة وهي ما يسقط في العين وفي الشراب أيضا
من تبن أو تراب أو وسخ ، والشجا : ما اعترض في الحلق ونشب من عظم ونحوه ، والتراث : ما
يخلفه الرجل لورثته ، والتاء فيه بدل من الواو . والنهب : السلب والغارة والغنيمة ، والجملة بيان
لوجود القذى والشجا.
وفي رواية الشيخين
والطبرسي : فرأيت الصبر ..
وفي رواية الشيخ : تراث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم نهبا.
وفي تلخيص الشافي
: من أن أرى تراثي نهبا .
والحاصل أني بعد
التردد في القتال استقر رأيي على أن الصبر أجدر ، وذلك
__________________
لأداء القتال إلى
استئصال آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم واضمحلال كلمة الإسلام لغلبة الأعداء.
وقال بعض الشارحين
: في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ولا يرقى إلي الطير فطفقت أرتئي بين كذا .. وكذا ، فرأيت
الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وصبرت وفي العين قذى ..
إلى آخر الفصل ، لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا ويطوي عنها كشحا ، ثم
يرتئي .. والتقديم والتأخير شائع في لغة العرب ، قال الله تعالى : ( أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً ) . انتهى .
ويمكن أن يقال :
سدل الثوب وطي الكشح لم يكن على وجه البت وتصميم العزم على الترك ، بل المراد ترك
العجلة والمبادرة إلى الطلب من غير تدبر في عاقبة الأمر ، ولعل الفقرتين بهذا
المعنى أنسب.
حتى مضى الأول
لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ... قيل : تقديره مضى على سبيله وأدلى بها إلى
فلان .. أي ألقاها إليه ودفعها ، والتعبير بلفظ فلان كما مر ، وفي نسخة ابن أبي الحديد
بلفظ : ابن الخطاب ، وفي بعض الروايات :
إلى عمر ، وإدلاؤه إليه بها نصبه للخلافة.
__________________
وكان ابن الخطاب
يسمي نفسه خليفة أبي بكر ، ويكتب إلى عماله من خليفة أبي بكر حتى جاءه لبيد بن أبي
ربيعة وعدي بن حاتم فقالا لعمرو بن العاص : استأذن لنا على أمير المؤمنين ..
فخاطبه عمرو بن العاص بأمير المؤمنين فجرى ذلك في المكاتيب من يومئذ ، ذكر ذلك ابن عبد البر في
الإستيعاب .
ثم تمثل عليهالسلام بقول الأعشى :
شتان بما يومي على كورها
|
|
ويوم حيان أخي
جابر
|
تمثل بالبيت :
أنشده للمثل .
والأعشى : ميمون بن
جندل ، وشتان ـ اسم فعل ـ بمعنى بعد وفيه معنى التعجب ، والكور ـ بالضم ـ رحل البعير بأداته ، والضمير راجع
إلى الناقة ، وحيان كان صاحب حصن باليمامة ، وكان من سادات بني حنيفة ، مطاعا في
قومه يصله كسرى في كل سنة ، وكان في رفاهية ونعمة مصونا من وعثاء السفر ، لم يكن
يسافر أبدا ، وكان الأعشى ، ينادمه ، وكان أخوه جابر أصغر سنا منه ،
__________________
ويروى أن حيان
عاتب الأعشى في نسبته إلى أخيه فاعتذر بأن الروي اضطرني إلى ذلك فلم يقبل عذره .
ومعنى البيت ـ كما
أفاده السيد المرتضى رضياللهعنه ـ إظهار البعد بين يومه ويوم حيان لكونه في شدة من حر
الهواجر ، وكون حيان في راحة وخفض ، وكذا غرضه عليهالسلام بيان البعد بين يومه صابرا على القذى والشجا وبين يومهم فائزين بما طلبوا من
الدنيا ، وهذا هو الظاهر المطابق للبيت التالي له ، وهو مما تمثل به عليهالسلام ـ على ما في بعض النسخ ـ وهو قوله :
أرمي بها البيد
إذا هجرت
|
|
وأنت بين القرو
والعاصر
|
والبيد ـ بالكسر ـ
: جمع البيداء وهي المفازة ، والتهجير : السير في الهاجرة ، وهي نصف النهار عند شدة الحر
، والقرو : قدح من الخشب ، وقيل : إناء صغير أو إجانة للشرب ، والعاصر : الذي
يعصر العنب للخمر .. أي أنا في شدة حر الشمس أسوق ناقتي في الفيافي وأنت في عيش
__________________
وشرب.
وقال بعض الشارحين
المعنى : ما أبعد ما بين يومي على كور الناقة أدأب وأنصب وبين يومي منادما حيان أخي
جابر في خفض ودعة.
فالغرض من التمثيل
إظهار البعد بين يومه عليهالسلام بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مقهورا ممنوعا عن حقه وبين يومه في صحبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
فيا عجبا بينا هو
يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ..
أصل : يا عجبا :
يا عجبي ، قلبت الياء ألفا ، كأن المتكلم ينادي عجبه ويقول له احضر فهذا أوان
حضورك.
وبينا : هي بين
الظرفية أشبعت فتحتها فصارت ألفا ، وتقع بعدها إذا الفجائية غالبا ، والاستقالة :
طلب الإقالة وهو في البيع فسخه للندم ، وتكون في البيعة والعهد أيضا ، واستقالته
قوله بعد ما بويع : أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم.
وقد روى خبر
الاستقالة الطبري في تاريخه ، والبلاذري في أنساب
__________________
الأشراف ، والسمعاني في
الفضائل ، وأبو عبيدة في بعض مصنفاته ـ على ما حكاه بعض أصحابنا ـ ولم يقدح الفخر
الرازي في نهاية العقول في صحته ، وإن أجاب عنه بوجوه ضعيفة ، وكفى كلامه عليهالسلام شاهدا على صحته ، وكون العقد لآخر بين أوقات الاستقالة لتنزيل اشتراكهما في
التحقيق والوجود منزلة اتحاد الزمان ، أو لأن الظاهر من حال المستقبل لعلمه بأن
الخلافة حق لغيره بقاء ندمه وكونه متأسفا دائما خصوصا عند ظهور أمارة الموت.
وقوله : بعد وفاته
، ليس ظرفا لنفس العقد بل لترتب الآثار على المعقود بخلاف قوله : في حياته.
والمشهور أنه لما احتضر
أحضر عثمان وأمره أن يكتب عهدا ، وكان يمليه عليه ، فلما بلغ قوله : أما بعد ..
أغمي عليه ، فكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب .. فأفاق أبو بكر فقال :
اقرأ ، فقرأه فكبر أبو بكر وقال :
أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي؟! قال : نعم. قال : جزاك الله
__________________
خيرا عن الإسلام
وأهله .. ثم أتم العهد وأمره أن يقرأه على الناس.
وذهب في ليلة
الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة على ما ذكره ابن أبي الحديد
.
وقال في الإستيعاب
: قول الأكثر أنه توفي عشي يوم الثلاثاء المذكور ، وقيل ليلته ، وقيل عشي يوم
الإثنين ، قال : ومكث في خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال أو سبع ليال ،
وقيل : أكثر من ذلك إلى عشرين يوما .
والسبب ـ على ما
حكاه عن الواقدي ـ أنه اغتسل في يوم بارد ، فحم ومرض خمسة عشر
يوما.
وقيل : سل .
وقيل : سم ، وغسلته زوجته
أسماء بنت عميس ، وصلى عليه عمر بن الخطاب ، ودفن ليلا في بيت عائشة .
لشد ما تشطرا
ضرعيها ... اللام جواب القسم المقدر ، وشد .. أي صار شديدا ، وكلمة ما مصدرية ،
والمصدر فاعل شد ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا في التعجب.
__________________
وتشطرا : إما
مأخوذ من الشطر ـ بالفتح ـ بمعنى النصف ، يقال : فلان شطر ماله .. أي نصفه ، فالمعنى أخذ كل
واحد منهما نصفا من ضرعي الخلافة ، وأما منه بمعنى خلف الناقة ـ بالكسر ـ أي حلمة
ضرعها ، يقال : شطر ناقته تشطيرا : إذا صر خلفين من أخلافها .. أي شد عليهما
الصرار ، وهو خيط يشد فوق الخلف لئلا يرضع منه الولد ، وللناقة أربعة
أخلاف ، خلفان قادمان ـ وهما اللذان يليان السرة ـ ، وخلفان آخران .
وسمى عليهالسلام خلفين منها ضرعا لاشتراكهما في الحلب دفعة ، ولم نجد التشطر على صيغة التفعل
في كلام اللغويين.
وفي رواية المفيد رحمهالله وغيره : شاطرا ـ على صيغة المفاعلة ـ يقال :
شاطرت ناقتي ، إذا احتلبت شطرا وتركت الآخر ، وشاطرت فلانا مالي : إذا ناصفته .
وفي كثير من
روايات السقيفة أنه عليهالسلام قال ـ لعمر بن الخطاب بعد يوم السقيفة ـ : احلب حلبا لك
شطره ، اشدد له اليوم يرده عليك غدا .
__________________
وقد مهد عمر أمر
البيعة لأبي بكر يوم السقيفة ، ثم نص أبو بكر عليه لما حضر أجله ، وكان قد استقضاه
في خلافته وجعله وزيرا في أمرها مساهما في وزرها ، فالمشاطرة تحتمل الوجهين.
وفي رواية الشيخ والطبرسي ذكر التمثل في
هذا الموضع بعد قوله :
ضرعيها.
فصيرها في حوزة
خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها
والاعتذار منها .. وليست ( فيها ) في كثير
من النسخ .
والحوزة ـ بالفتح
ـ : الناحية والطبيعة . والغلظ : ضد الرقة ، والكلم بالفتح ـ الجرح ، وفي الإسناد
توسع ، وخشونة المس : الإيذاء والإضرار وهو غير ما يستفاد من الخشناء ، فإنها عبارة عن كون الحوزة
بحيث لا ينال ما عندها ولا يفوز بالنجاح من قصدها ، كذا قيل.
وقال بعض الشراح :
يمكن أن يكون ( من ) في « الاعتذار منها » للتعليل ، أي ويكثر اعتذار الناس عن
أفعالهم وحركاتهم لأجل تلك الحوزة .
وقال بعض الأفاضل
: الظاهر أن المفاد على تقدير إرادة الناحية تشبيه المتولي
__________________
للخلافة بالأرض
الخشناء في ناحية الطريق المستوي ، وتشبيه الخلافة بالراكب السائر فيها أو بالناقة
.. أي أخرجها عن مسيرها المستوي وهو من يستحقها إلى تلك الناحية الحزنة ، فيكثر
عثارها ، أو عثار مطيتها فيها ، فاحتاجت إلى الاعتذار من عثراتها الناشئة من خشونة
الناحية ، وهو في الحقيقة اعتذار من الناحية ، فالعاثر والمعتذر حينئذ هي الخلافة
توسعا ، والضمير المجرور في ( منها ) راجع إلى الحوزة أو إلى العثرات المفهومة من كثرة
العثار ، ومن صلة للاعتذار أو للصفة المقدرة صفة للاعتذار ، أو
حالا عن ( يكثر ) .. أي الناشئ أو ناشئا منها ، وعلى ما في كثير من النسخ يكون
الظرف المتضمن لضمير الموصوف أعني فيها محذوفا ، والعثار والاعتذار على النسختين
إشارة إلى الخطإ في الأحكام وغيرها ، والرجوع عنها كقصة الحاملة والمجنونة وميراث
الجد .. وغيرها .
وفي الإحتجاج : فصيرها والله في ناحية خشناء ،
يجفو مسها ، ويغلظ كلمها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها حزم ، وإن أسلس لها
تقحم ، يكثر فيها العثار ، ويقل فيها الاعتذار ...
فالمعنى أنه كان
يعثر كثيرا ولا يعتذر منها لعدم المبالاة ، أو للجهل ، أو لأنه لم يكن لعثراته عذر
حتى يعتذر ، فالمراد بالاعتذار إبداء العذر ممن كان معذورا ولم يكن مقصرا.
__________________
وفي رواية الشيخ رحمهالله : فعقدها والله في ناحية خشناء ، يخشن مسها ـ وفي بعض النسخ : يخشى مسها ـ ،
ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار والاعتذار فيها ، صاحبها منها كراكب الصعبة إن شنق لها
حزم ، وإن أسلس لها عصفت به .
فصاحبها كراكب
الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم ..
الصعبة من النوق :
غير المنقادة ، واشنق بعيره .. أي جذب رأسها بالزمام ، ويقال : اشنق
البعير بنفسه : إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى ، واللغة
المشهورة : شنق كنصر متعديا بنفسه ، ويستعملان باللام ، كما صرح به في النهاية .
قال السيد رحمهالله في النهج ـ بعد إتمام الخطبة ـ قوله عليهالسلام : في هذه الخطبة ـ كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم ... يريد أنه إذا
شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع
صعوبتها تقحمت به فلم يملكها ، يقال : أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه
وشنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق ، وإنما قال :
أشنق لها ولم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله : أسلس لها ، فكأنه عليه
__________________
السلام قال : إن
رفع لها رأسها بالزمام بمعنى أمسكه عليها ( انتهى ).
فاللام للازدواج ،
والخرم : الشق ، يقال : خرم فلانا ـ كضرب ـ .. أي شق وترة أنفه ، وهي ما بين
منخريه فخرم هو كفرح ، والمفعول محذوف وهو ضمير الصعبة كما يظهر من كلام بعض
اللغويين ، أو أنفها كما يدل عليه كلام السيد وابن الأثير وبعض الشارحين ، وأسلس
لها .. أي أرخى زمامها لها ، وتقحم .. أي رمى نفسه في مهلكة ، وتقحم الإنسان الأمر ..
أي رمى نفسه فيها من غير روية .
وذكروا في بيان
المعنى وجوها :
منها
: أن الضمير في
صاحبها يعود إلى الحوزة المكنى بها عن الخليفة أو أخلاقه ، والمراد
بصاحبها من يصاحبها كالمستشار وغيره ، والمعنى أن المصاحب للرجل المنعوت حاله في
صعوبة الحال كراكب الناقة الصعبة ، فلو تسرع إلى إنكار القبائح من أعماله أدى إلى
الشقاق بينهما وفساد الحال ، ولو سكت وخلاه وما يصنع أدى إلى خسران المال.
ومنها
: أن الضمير راجع
إلى الخلافة أو إلى الحوزة ، والمراد بصاحبها نفسه عليهالسلام ، والمعنى أن قيامي في طلب الأمر يوجب مقاتلة ذلك الرجل
وفساد أمر الخلافة رأسا ، وتفرق نظام المسلمين ، وسكوتي عنه يورث التقحم
في موارد
__________________
الذل والصغار.
ومنها
: أن الضمير راجع
إلى الخلافة ، وصاحبها من تولى أمرها مراعيا للحق وما يجب عليه ، والمعنى أن
المتولي لأمر الخلافة إن أفرط في إحقاق الحق وزجر الناس عما يريدونه بأهوائهم أوجب
ذلك نفار طباعهم وتفرقهم عنه ، لشدة الميل إلى الباطل ، وإن فرط في المحافظة على
شرائطها ألقاه التفريط في موارد الهلكة ، وضعف هذا الوجه وبعده واضح.
هذا ما قيل فيه من الوجوه ، ولعل
الأول أظهر .
ويمكن فيه تخصيص
الصاحب به عليهالسلام ، فالغرض بيان مقاساته الشدائد في أيام تلك الحوزة الخشناء
للمصاحبة ، وقد كان يرجع إليه عليهالسلام بعد ظهور الشناعة في العثرات ، ويستشيره في الأمور
للأغراض.
ويحتمل عندي وجها
[ كذا ] آخر وهو : أن يكون المراد بالصاحب عمر ، وبالحوزة سوء أخلاقه ، ويحتمل
إرجاع الضمير إلى الخلافة.
والحاصل : أنه كان
لجهله بالأمور ، وعدم استحقاقه للخلافة ، واشتباه الأمور عليه كراكب الصعبة ، فكان
يقع في أمور لا يمكنه التخلص منها أو لم يكن شيء من أموره خاليا عن المفسدة ، فإذا
استعمل الجرأة والجلادة والغلظة كانت على خلاف الحق ، وإن استعمل اللين كان
للمداهنة في الدين.
فمني الناس ـ لعمر
الله ـ بخبط وشماس وتلون واعتراض ..
مني ـ على المجهول
ـ أي ابتلي ، والعمر ـ بالضم والفتح ـ : مصدر عمر الرجل ـ بالكسر ـ إذا
عاش زمانا طويلا ، ولا يستعمل في القسم إلا العمر
__________________
ـ بالفتح ـ ، فإذا
أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء ، واللام لتوكيد الابتداء ، والخبر محذوف ،
والتقدير لعمر الله قسمي ، وإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر ، والمعنى على
التقديرين أحلف ببقاء الله ودوامه ، والخبط ـ بالفتح
ـ : السير على غير معرفة وفي غير جادة ، والشماس ـ بالكسر ـ النغار يقال : شمس الفرس
شموسا وشماسا .. أي منع ظهره ، فهو فرس شموس ـ بالفتح ـ وبه شماس ، والتلون في
الإنسان : أن لا يثبت على خلق واحد ، والاعتراض : السير على غير استقامة كأنه يسير عرضا .
والغرض بيان شدة
ابتلاء الناس في خلافته بالقضايا الباطلة لجهله واستبداده برأيه مع تسرعه إلى الحكم
وإيذائهم بحدته وبالخشونة في الأقوال والأفعال الموجبة لنفارهم عنه ، وبالنفار عن
الناس كالفرس الشموس ، والتلون في الآراء والأحكام لعدم ابتنائها على أساس قوي ،
وبالخروج عن الجادة المستقيمة التي شرعها الله لعباده ، أو بالوقوع في الناس في
مشهدهم ومغيبهم ، أو بالحمل على الأمور الصعبة ، والتكاليف الشاقة. ويحتمل أن يكون
الأربعة أوصافا للناس
__________________
في مدة خلافته ،
فإن خروج الوالي عن الجادة يستلزم خروج الرعية عنها أحيانا ، وكذا تلونه واعتراضه
يوجب تلونهم واعتراضهم على بعض الوجوه ، وخشونته يستلزم نفارهم ، وسيأتي تفاصيل
تلك الأمور في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.
فصبرت على طول
المدة وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ..
وفي تلخيص الشافي
: زعم أني سادسهم .
والمحنة : البلية
التي يمتحن بها الإنسان .
والزعم ـ مثلثة ـ قريب
من الظن . وقال ابن الأثير : إنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا
ثبت فيه . وقال الزمخشري : هي ما لا يوثق به من الأحاديث . وروي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : كل زعم في القرآن كذب .
وكانت مدة غصبه
للخلافة ـ على ما في الإستيعاب ـ عشر سنين وستة أشهر. وقال : قتل يوم الأربعاء
لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، وقال الواقدي وغيره : لثلاث بقين منه ،
طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة .
__________________
واشتهر بين الشيعة
أنه قتل في التاسع من ربيع الأول ، وسيأتي فيه بعض الروايات.
والجماعة الذين
أشار عليهالسلام إليهم أهل مجلس الشورى ، وهم ستة على المشهور ـ : علي عليهالسلام وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن
عوف.
وقال الطبري : لم يكن طلحة
ممن ذكر في الشورى ولا كان يومئذ بالمدينة.
وقال أحمد بن أعثم
: لم يكن بالمدينة. فقال عمر : انتظروا بطلحة ثلاثة أيام ، فإن جاء وإلا
فاختاروا رجلا من الخمسة.
فيا لله وللشورى
..
الشورى ـ كبشرى ،
مصدر ـ بمعنى المشورة ، واللام في فيا لله : مفتوحة لدخولها على المستغاث ،
أدخلت للدلالة على اختصاصها بالنداء للاستغاثة ، وأما في : وللشورى فمكسورة دخلت
على المستغاث له ، والواو زائدة أو عاطفة على محذوف مستغاث له أيضا ، قيل :
كأنه قال : فيا لعمر وللشورى .. أو : لي وللشورى .. ونحوه ، والأظهر فيا لله لما
أصابني عنه ، أو لنوائب الدهر عامة وللشورى خاصة ، والاستغاثة للتألم من الاقتران
بمن لا يدانيه في الفضائل ، ولا يستأهل للخلافة ، وسيأتي قصة الشورى في بابها.
متى اعترض الريب في
مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه
__________________
النظائر ..
وفي رواية الشيخ وغيره : فيا
للشورى والله ، متى اعترض الريب في مع الأولين ، فأنا الآن أقرن ..
وفي الإحتجاج : مع الأولين
منهم حتى صرت الآن يقرن بي هذه النظائر.
ويقال : اعترض الشيء ..
أي صار عارضا كالخشبة المعترضة في النهر ، والريب : الشك ، والمراد بالأول أبو بكر.
وأقرن إليهم ـ على
لفظ المجهول ـ أي أجعل قرينا لهم ويجمع بيني وبينهم.
والنظائر الخمسة :
أصحاب الشورى ، وقيل : الأربعة كما سيأتي ، والتعبير عنهم بالنظائر لأن عمر جعلهم
نظائر له عليهالسلام ، أو لكون كل منهم نظير الآخرين.
لكني أسففت أن أسفوا وطرت إذ
طاروا ..
وفي رواية الشيخ : و لكني أسففت مع
القوم حيث أسفوا وطرت مع القوم حيث طاروا ..
قال في النهاية ـ في
شرح هذه الفقرة ـ : أسف الطائر : إذا دنا من
__________________
الأرض ، وأسف
الرجل للأمر : إذا قاربه ، وطرت .. أي ارتفعت استعمالا للكلي في أكمل الأفراد
بقرينة المقابلة.
وقال بعض الشارحين
: أي لكني طلبت الأمر إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة لأنه
حقي ولم أستنكف من طلبه.
والأظهر أن المعنى
أني جريت معهم على ما جروا ، ودخلت في الشورى مع أنهم لم يكونوا نظراء لي ، وتركت
المنازعة للمصلحة أو الأعم من ذلك بأن تكلمت معهم في الإحتجاج أيضا بما يوافق
رأيهم ، وبينت الكلام على تسليم حقية ما مضى من الأمور الباطلة ، وأتممت الحجة
عليهم على هذا الوجه.
فصغى رجل منهم
لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن.
الصغي : الميل ،
ومنه أصغيت إليه : إذا ملت بسمعك نحوه . والضغن ـ بالكسر ـ الحقد والعداوة ، والصهر ـ بالكسر
ـ : حرمة الختونة . وقال الخليل : الأصهار : أهل بيت المرأة ، ومن العرب من
يجعل الصهر من الأحماء والأختان جميعا .
وهن على وزن أخ :
كلمة كناية ومعناه شيء وأصله هنو .
وقال الشيخ الرضي رضياللهعنه : الهن : الشيء المنكر الذي يستهجن
__________________
ذكره من العورة
والفعل القبيح أو غير ذلك ، والذي مال للضغن سعد بن أبي وقاص ، لأنه عليهالسلام قتل أباه يوم بدر ، وسعد أحد من قعد عن بيعة أمير المؤمنين عليهالسلام عند رجوع الأمر إليه ، كذا قال الراوندي رحمهالله .
ورده ابن أبي
الحديد بأن أبا وقاص ـ واسمه مالك بن وهيب ـ مات في
الجاهلية حتف أنفه ، وقال : المراد به طلحة ، وضغنه لأنه تيمي وابن عم أبي بكر ،
وكان في نفوس بني هاشم حقد شديد من بني تيم لأجل الخلافة وبالعكس ، والرواية التي
جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى ـ إن صحت فذو الضغن هو سعد ، لأن أمه حمنة بنت سفيان بن
أمية بن عبد شمس ، والضغنة التي كانت عنده من قبل أخواله الذين قتلهم علي عليهالسلام ، ولم يعرف أنه عليهالسلام قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه ، والذي مال لصهره
هو عبد الرحمن لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجة عبد الرحمن ، وهي أخت
عثمان من أمه أروى بنت كويز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
وفي بعض نسخ كتب
الصدوق رحمهالله : فمال رجل بضبعه.
ـ بالضاد المعجمة والباء ـ وفي بعضها : باللام .
وقال الجوهري :
الضبع : العضد .. وضبعت الخيل .. مدت أضباعها في
__________________
سيرها .. ، وقال
الأصمعي : الضبع : أن يهوي بحافره إلى عضده ، وكنا في ضبع فلان ـ بالضم ـ أي في
كنفه وناحيته . وقال : يقال ضلعك مع فلان ..
أي ميلك معه وهواك .. ويقال : خاصمت فلانا فكان ضلعك علي .. أي ميلك .
وفي رواية الشيخ : فمال رجل لضغنه
وأصغى آخر لصهره .. ولعل المراد بالكناية رجاؤه أن ينتقل الأمر إليه بعد عثمان ،
وينتفع بخلافته والانتساب إليه باكتساب الأموال والاستطالة والترفع على الناس ، أو
نوع من الانحراف عنه عليهالسلام ، وقد عد من المنحرفين ، أو غير ذلك مما هو عليهالسلام أعلم به ، ويحتمل أن يكون الظرف متعلقا بالمعطوف والمعطوف عليه كليهما ،
فالكناية تشتمل ذا الضغن أيضا.
إلى أن قام ثالث
القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم
الإبل نبتة الربيع.
وفي رواية الشيخ : إلى أن قام
الثالث نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه منها ، وأسرع معه بنو أبيه في مال الله
يخضمونه ..
والحضن ـ بالكسر ـ
ما دون الإبط إلى الكشح ، والنفج ـ بالجيم ـ :
الرفع يقال : بعير منتفج الجنبين : إذا امتلأ من الأكل فارتفع جنباه ، ورجل
__________________
منتفج الجنبين : إذا
افتخر بما ليس فيه ، وظاهر المقام التشبيه بالبعير. وقال ابن الأثير : كنى به
عن التعاظم والخيلاء ، قال : ويروى نافخا ـ بالخاء المعجمة ـ أي منتفخا مستعدا
لأن يعمل عمله من الشر ، والظاهر على هذه الرواية أن المراد كثرة الأكل.
والنثيل : الروث ـ
بالفتح ـ ، والمعتلف ـ بالفتح ـ موضع الاعتلاف ، وهو أكل الدابة
العلف .. أي كان همه الأكل والرجع كالبهائم ، وقد مر تفسير ما في
رواية الصدوق رحمهالله .
قال في القاموس :
النثيل ـ بالفتح والكسر ـ وعاء قضيب البعير .. أو القضيب نفسه ، والخضم : الأكل
بجميع الفم ويقابله القضم .. أي بأطراف الأسنان .
وقال في النهاية ـ
في حديث علي عليهالسلام ـ : فقام معه بنو
أبيه
__________________
يخضمون مال الله
خضم الإبل نبتة الربيع .. : الخضم : الأكل بأقصى الأضراس ، والقضم بأدناها ، ومنه
حديث أبي ذر : تأكلون خضما ونأكل قضما ، وقيل : الخضم خاص بالشيء الرطب والقضم باليابس ،
والفعل خضم ـ كعلم ـ على قول الجوهري وابن الأثير . وفي القاموس : كسمع وضرب ، وأعرب المضارع
في النسخ على الوجهين جميعا. وقالوا : النبتة بالكسر ـ ضرب من فعل النبات يقال :
إنه لحسن النبتة ، والكلام إشارة إلى تصرف عثمان وبني أمية في بيت مال
المسلمين وإعطائه الجوائز وإقطاعه القطائع كما سيأتي إن شاء الله.
إلى أن انتكث عليه
فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ..
وفي الإحتجاج : إلى أن كبت به بطنته وأجهز عليه
عمله ..
والانتكاث :
الانتقاض ، يقال : نكث فلان العهد والحبل فانتكث .. أي نقضه فانتقض ، وفتل الحبل :
برمه ولي شقيه . والإجهاز : إتمام قتل
__________________
الجريح وإسراعه ، وقيل : فيه إيماء إلى ما
أصابه قبل القتل من طعن أسنة الألسنة وسقوطه عن أعين الناس.
وكبا الفرس : سقط
على وجهه ، وكبا به : أسقطه.
والبطنة : الكظة ،
أي : الامتلاء من الطعام .
والحاصل أنه
استمرت أفعالهم المذكورة إلى أن رجع عليه حيله وتدابيره ولحقه وخامة العاقبة
فوثبوا عليه وقتلوه ، كما سيأتي بيانه.
فما راعني إلا
والناس ينثالون علي من كل جانب ..
وفي الإحتجاج : إلا والناس رسل
إلي كعرف الضبع يسألون أن أبايعهم وانثالوا علي حقي ..
وفي رواية الشيخ : فما راعني من
الناس إلا وهم رسل كعرف الضبع يسألوني أبايعهم وأبى ذلك ، وانثالوا علي
..
والروع ـ بالفتح ـ
الفزع والخوف ، يقال : رعت فلانا وروعته فارتاع .. أي أفزعته ففزع ، وراعني الشيء
أي أعجبني ، والأول هنا أنسب.
__________________
والثول : صب ما في
الإناء ، وانثال : انصب .
وفي بعض النسخ
الصحيحة : والناس إلي كعرف الضبع ينثالون ..
والعرف : الشعر الغليظ النابت على عنق الدابة ، وعرف الضبع مما يضرب به المثل في الازدحام.
وفي القاموس :
الرسل ـ محركة ـ القطيع من كل شيء .. والرسل ـ بالفتح ـ .. المترسل من الشعر ، وقد
رسل ـ كفرح ـ رسلا .. أي ما أفزعني حالة إلا حالة ازدحام الناس للبيعة ، وذلك
لعلمهم بقبح العدول عنه عليهالسلام إلى غيره.
حتى لقد وطئ
الحسنان وشق عطفاي ...
الوطء : الدوس
بالقدم ، والحسنان السبطان صلوات الله عليهما ، ونقل عن السيد
المرتضى رضي الله عنه أنه قال : روى أبو عمر : وأنهما
الإبهامان ، وأنشد للشفري :
__________________
مهضومة الكشحين
حزماء الحسن
وروى أنه صلوات
الله عليه كان يومئذ جالسا محتبيا ـ وهي جلسة رسول الله صلىاللهعليهوآله المسماة بالقرفصاء ـ فاجتمعوا ليبايعوه زاحموا حتى وطئوا إبهاميه ، وشقوا
ذيله، قال : ولم يعن الحسن والحسين عليهماالسلام وهما رجلان كسائر الحاضرين.
وعطفا الرجل ـ بالكسر
ـ جانباه ، فالمراد شق جانبي قميصه عليهالسلام أو ردائه عليهالسلام لجلوس الناس أو وضع الأقدام وزحامهم حوله.
وقيل : أراد خدش
جانبيه عليهالسلام لشدة الاصطكاك والزحام. وفي بعض النسخ الصحيحة : وشق عطافي
، وهو ـ بالكسر ـ الرداء ، وهو أنسب.
مجتمعين حولي
كربيضة الغنم ..
الربيض والربيضة :
الغنم المجتمعة في مربضها .. أي مأواها .
وقيل : إشارة إلى
بلادتهم ونقصان عقولهم ، لأن الغنم توصف بقلة الفطنة.
__________________
فلما نهضت بالأمر
نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وفسق آخرون ..
وفي رواية الشيخ والإحتجاج : وقسط آخرون.
نهض ـ كمنع ـ قام ، والنكث : النقض
، والمروق : الخروج ، وفسق الرجل ـ كنصر وضرب ـ فجر وأصله الخروج ، والقسط : العدل
والجور ، والمراد به هنا الثاني.
والمراد بالناكثة
: أصحاب الجمل ، وقد روى أنه عليهالسلام كان يتلو وقت مبايعتهم : و ( فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) .
وبالمارقة : أصحاب
النهروان .
وبالفاسقة أو
القاسطة : أصحاب صفين وسيأتي أخبار النبي صلى الله
__________________
عليه وآله بهم
وبقتاله عليهالسلام معهم.
كأنهم لم يسمعوا
الله سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) . الظاهر رجوع ضمير الجمع إلى الخلفاء
الثلاثة لا إلى الطوائف ـ كما توهم ـ إذ الغرض من الخطبة ذكرهم لا الطوائف ، وهو المناسب لما
بعد الآية ، لا سيما ضمير الجمع في سمعوها ووعوها . والغرض تشبيههم
في الإعراض عن الآخرة والإقبال على الدنيا وزخارفها للأغراض الفاسدة بمن أعرض عن
نعيم الآخرة لعدم سماع الآية وشرائط الفوز بثوابها ، والمشار إليها في الآية هي
الجنة ، والإشارة للتعظيم .. أي تلك الدار التي بلغك وصفها.
والعلو : هو
التكبر على عباد الله والغلبة عليهم ، والاستكبار عن العبادة.
والفساد : الدعاء
إلى عبادة غير الله ، أو أخذ المال وقتل النفس بغير حق ، أو العمل بالمعاصي والظلم
على الناس ، والآية لما كانت بعد قصة قارون وقبله قصة فرعون فقيل إن العلو إشارة
إلى كفر فرعون ، لقوله تعالى فيه : ( عَلا فِي الْأَرْضِ ) والفساد إلى بغي
قارون لقوله تعالى : ( وَلا تَبْغِ
الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ففي كلامه عليهالسلام يحتمل كون الأول إشارة إلى
__________________
الأولين ، والثاني
إلى الثالث ، أو الجميع إليهم جميعا ، أو إلى جميع من ذكر في الخطبة كما قيل.
بلى والله لقد
سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ..
وفي رواية الشيخ : بلى والله لقد
سمعوها ولكن راقتهم دنياهم وأعجبهم زبرجها ..
وعى الحديث ـ كرمى
ـ : فهمه وحفظه .
وحلي فلان بعيني
وفي عيني ـ بالكسر ـ : إذا أعجبك ، وكذلك حلى ـ بالفتح يحلو حلاوة .
وراقني الشيء :
أعجبني .
والزبرج : الزينة
من وشي أو جوهر أو نحو ذلك ، قال الجوهري : ويقال الزبرج : الذهب ، وفي النهاية :
الزينة والذهب والسحاب .
أما والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ..
وفي رواية الشيخ : لو لا حضور
الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله من
__________________
أولياء الأمر ..
الفلق : الشق ، وبرأ ... أي
خلق ، وقيل : قلما يستعمل في غير الحيوان ، والنسمة ـ محركة ـ الإنسان أو النفس والروح .
والظاهر أن المراد
بفلق الحبة شقها وإخراج النبات منها.
وقيل : خلقها .
وقيل : هو الشق
الذي في الحب .
وحضور الحاضر ..
أما وجود من حضر للبيعة فما بعده كالتفسير له ، أو تحقق البيعة ـ على ما قيل ـ ،
أو حضوره سبحانه وعلمه ، أو حضور الوقت الذي وقته الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للقيام بالأمر.
وما أخذ الله على
العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ..
كلمة ما مصدرية ،
والجملة في محل النصب لكونها مفعولا لأخذ أو موصولة والعائد مقدر ،
والجملة بيان لما أخذه الله بتقدير حرف الجر أو بدل منه أو عطف بيان له.
والعلماء : إما
الأئمة عليهمالسلام أو الأعم ، فيدل على وجوب الحكم بين الناس في زمان الغيبة
لمن جمع الشرائط.
وفي الإحتجاج : على أولياء
الأمر أن لا يقروا ..
__________________
والمقارة ـ على ما
ذكره الجوهري ـ : أن تقر مع صاحبك وتسكن . وقيل :
إقرار كل واحد صاحبه على الأمر وتراضيهما به.
والكظة : ما يعتري
الإنسان من الامتلاء من الطعام ، والسغب بالتحريك ـ الجوع .
لألقيت حبلها على
غاربها و لسقيت آخرها بكأس أولها ..
الضمائر راجعة إلى
الخلافة ، والغارب : ما بين السنام والعنق أو مقدم السنام ، وإلقاء الحبل ترشيح لتشبيه الخلافة بالناقة التي يتركها راعيها لترعى حيث تشاء
ولا يبالي من يأخذها وما يصيبها ، وذكر الحبل تخييل . والكأس إناء فيه
شراب أو مطلقا .
وسقيها بكأس أولها
تركها والإعراض عنها لعدم الناصر.
وقال بعض الشارحين
: التعبير بالكأس لوقوع الناس بذلك الترك في حيرة تشبه السكر .
__________________
ولألفيتم دنياكم
هذه أزهد عندي عن عفطة عنز ..
وفي الإحتجاج : ولألفوا دنياكم
أهون عندي ..
قوله عليهالسلام : ألفيتم .. أي وجدتم ، وإضافة الدنيا إلى المخاطبين لتمكنها في ضمائرهم ورغبتهم
فيها ، والإشارة للتحقير.
والزهد : خلاف
الرغبة ، والزهيد : القليل ، وصيغة التفضيل على الأول على خلاف القياس كأشهر وأشغل.
والعنز ـ بالفتح ـ
أنثى المعز ، وعفطتها : ما يخرج ما أنفها عند النثرة ، وهي منها شبه
العطسة ، كذا قال بعض الشارحين ، وأورد عليه أن
المعروف في العنز النفطة ـ بالنون ـ وفي النعجة : العفطة ـ بالعين ـ صرح به
الجوهري والخليل في العين . وقال بعض الشارحين : العفطة من الشاة كالعطاس من الإنسان
، وهو غير معروف ، وقال ابن الأثير : أي ضرطة عنز .
__________________
قالوا : وقام إليه
رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه
، فلما فرغ من قراءته ، قال له ابن عباس رحمة الله
__________________
عليه : يا أمير
المؤمنين عليهالسلام! لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت. فقال له : هيهات يا ابن
عباس ، تلك شقشقة هدرت ثم قرت.
أهل السواد :
ساكنو القرى ، وتسمى القرى سوادا لخضرتها بالزرع والأشجار ، والعرب
تسمي الأخضر : أسود.
وناوله : أعطاه .
ويحتمل أن يكون
اطردت ـ على صيغة الخطاب من باب الإفعال ـ ونصب المقالة على المفعولية أو على صيغة
المؤنث الغائب من باب الافتعال ، ورفع المقالة على الفاعلية ، والجزاء محذوف .. أي
كان حسنا ، وكلمة لو للتمني ، وقد مر
__________________
تفسير الشقشقة ـ بالكسر
ـ.
وهدير الجمل :
ترديده الصوت في حنجرته وإسناده إلى الشقشقة تجوز.
وقرت .. أي سكنت . وقيل : في
الكلام إشعار بقلة الاعتناء بمثل هذا الكلام إما لعدم التأثير في السامعين كما
ينبغي ، أو لقلة الاهتمام بأمر الخلافة من حيث إنها سلطنة ، أو للإشعار بانقضاء
مدته عليهالسلام ، فإنها كانت في قرب شهادته عليهالسلام ، أو لنوع من التقية أو لغيرها.
قال ابن عباس : فو
الله ما أسفت على كلام قط كأسفي على ذلك الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليهالسلام بلغ منه حيث أراد ..
الأسف ـ بالتحريك
ـ : أشد الحزن ، والفعل كعلم ، وقط من الظروف الزمانية بمعنى أبدا .
وحكى ابن أبي
الحديد ، عن ابن الخشاب أنه قال : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقي في
نفس ابن عمك أمر لم يبلغه لتتأسف ؟! والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين .
أقول
: إنما أطنبت
الكلام في شرح تلك الخطبة الجليلة لكثرة جدواها وقوة الاحتجاج بها على المخالفين ،
وشهرتها بين جميع المسلمين ، وإن لم نوف في كل فقرة حق شرحها حذرا من كثرة الإطناب
، وتعويلا على ما بينته في سائر الأبواب.
__________________
٦
ـ شف : من كتاب أحمد بن محمد الطبري
المعروف بالخليلي ، عن أحمد بن محمد بن ثعلبة الخماني [ الحماني ] ، عن مخول بن إبراهيم ، عن
عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام قال : قال ابن عباس : كنت أتتبع غضب أمير المؤمنين عليهالسلام إذا ذكر شيئا أو هاجه خبر ، فلما كان ذات يوم كتب إليه بعض
شيعته من الشام يذكر في كتابه أن معاوية وعمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان
والوليد بن عقبة ومروان اجتمعوا عند معاوية فذكروا أمير المؤمنين فعابوه وألقوا في
أفواه الناس أنه ينتقص أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ويذكر كل واحد منهم ما هو أهله ، وذلك لما أمر أصحابه بالانتظار له
بالنخيلة فدخلوا الكوفة فتركوه ، فغلظ ذلك عليه وجاء هذا الخبر فأتيته بابه في الليل ،
فقلت : يا قنبر! أي شيء خبر أمير المؤمنين؟ قال : هو نائم ، فسمع كلامي.
فقال (ع) : من هذا؟
قال : ابن عباس يا أمير المؤمنين.
قال : ادخل! فدخلت
، فإذا هو قاعد ناحية عن فراشه في ثوب جالس
__________________
كهيئة المهموم ،
فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين الليلة؟.
فقال : ويحك يا
ابن عباس! وكيف تنام عينا قلب مشغول ، يا ابن عباس! ملك جوارحك قلبك فإذا أرهبه أمر طار النوم
عنه ، ها أنا ذا كما ترى مذ أول الليل اعتراني الفكر و السهر لما تقدم من نقض عهد أول هذه الأمة المقدر عليها نقض
عهدها ، إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر من أمر من أصحابه بالسلام علي في حياته بإمرة المؤمنين فكنت أؤكد أن
أكون كذلك بعد وفاته.
يا ابن عباس! أنا
أولى الناس بالناس بعده ولكن أمور اجتمعت على رغبة الناس في الدنيا وأمرها ونهيها وصرف قلوب أهلها عني ،
وأصل ذلك ما قال الله تعالى في كتابه : ( أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ، فلو لم يكن
ثواب ولا عقاب لكان بتبليغ الرسول صلىاللهعليهوآله فرض على الناس اتباعه ، والله عز وجل يقول : ( ما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، أتراهم نهوا
عني فأطاعوه ! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وغدا بروح أبي القاسم
صلى الله
__________________
عليه وآله إلى
الجنة لقد قرنت برسول الله صلىاللهعليهوآله حيث يقول عز وجل : ( إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
) ، ولقد طال ـ يا ابن عباس ـ فكري وهمي وتجرعي غصة بعد غصة لأمر أو قوم على معاصي
الله وحاجتهم إلي في حكم الحلال والحرام حتى إذا أتاهم من الدنيا أظهروا الغنى عني
، كأن لم يسمعوا الله عز وجل يقول : ( وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) . ولقد علموا أنهم احتاجوا إلي ولقد غنيت عنهم ( أَمْ عَلى
قُلُوبٍ أَقْفالُها ) فمضى من مضى قال علي بضغن القلوب وأورثها الحقد علي ، وما
ذاك إلا من أجل طاعته في قتل الأقارب مشركين فامتلوا غيظا واعتراضا ، ولو صبروا
في ذات الله لكان خيرا لهم ، قال الله عز وجل : ( لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ ) فأبطنوا من ترك الرضا بأمر الله ، ما أورثهم النفاق! ،
__________________
وألزمهم بقلة
الرضا الشقاء ! وقال الله عز وجل : ( فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) فالآن ـ يا ابن
عباس ـ قرنت بابن آكلة الأكباد وعمرو وعتبة والوليد ومروان وأتباعهم ، فمتى اختلج في
صدري وألقي في روعي أن الأمر ينقاد إلى دنيا يكون هؤلاء فيها رؤساء يطاعون فهم في ذكر أولياء الرحمن يثلبونهم ويرمونهم بعظائم
الأمور من أنك [ إفك ] مختلف ، وحقد قد سبق وقد علم المستحفظون ممن بقي من أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوآله أن عامة أعدائي ممن أجاب الشيطان علي وزهد الناس
في ، وأطاع هواه فيما يضره في آخرته وبالله عز وجل الغنى ، وهو الموفق للرشاد
والسداد.
يا ابن عباس! ويل
لمن ظلمني ، ودفع حقي ، وأذهب عظيم منزلتي ، أين كانوا أولئك وأنا أصلي مع رسول
الله صلىاللهعليهوآله صغيرا لم يكتب علي صلاة وهم عبدة الأوثان ، وعصاة الرحمن ،
وبهم توقد النيران؟! فلما قرب إصعار الخدود ، وإتعاس الجدود ، أسلموا كرها ،
وأبطنوا غير ما أظهروا ، طمعا في ( أَنْ
__________________
يُطْفِؤُا
نُورَ اللهِ ) وتربصوا انقضاء أمر الرسول وفناء مدته ، لما أطمعوا أنفسهم في قتله ، ومشورتهم
في دار ندوتهم ، قال الله عز وجل : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) ، وقال : ( يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ ) ( وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ )
يا ابن عباس!
ندبهم رسول الله صلىاللهعليهوآله في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي ، فحمل القوم ما حملهم
مما حقد على أبينا آدم من حسد اللعين له ، فخرج من روح الله ورضوانه ، وألزم اللعنة
لحسده لولي الله ، وما ذاك بضاري إن شاء الله شيئا.
يا ابن عباس! أراد
كل امرئ أن يكون رأسا مطاعا يميل إليه الدنيا وإلى أقاربه فحمله هواه ولذة دنياه واتباع
الناس إليه أن يغصب ما جعل لي ، ولو لا اتقاي على الثقل الأصغر أن ينبذ فينقطع شجرة
العلم وزهرة الدنيا وحبل الله المتين ، وحصنه الأمين ، ولد رسول رب العالمين لكان
طلب الموت
__________________
والخروج إلى الله
عز وجل ألذ عندي من شربة ظمآن ونوم وسنان ، ولكني صبرت وفي الصدر بلابل ، وفي النفس
وساوس ، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى
ما تَصِفُونَ ) ، ولقديما ظلم الأنبياء ، وقتل الأولياء قديما في الأمم
الماضية والقرون الخالية ( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ، وبالله أحلف ـ يا ابن عباس ـ إنه كما فتح بنا يختم بنا ،
وما أقول لك إلا حقا.
يا ابن عباس! إن
الظلم يتسق لهذه الأمة ويطول الظلم ، ويظهر الفسق ، وتعلو كلمة
الظالمين ، ولقد أخذ الله على أولياء الدين أن لا يقاروا أعداءه ، بذلك أمر الله
في كتابه على لسان الصادق رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : ( تَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .
يا ابن عباس! ذهب
الأنبياء فلا ترى نبيا ، والأوصياء ورثتهم ، عنهم أخذوا علم الكتاب ،
وتحقيق الأسباب ، قال الله عز وجل : ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ) ، فلا يزال
الرسول باقيا ما نفدت [ ما نفذت ] أحكامه ، وعمل بسنته ، وداروا حول أمره ونهيه ، وبالله
أحلف ـ يا ابن عباس لقد نبذ الكتاب ، وترك قول الرسول إلا ما لا يطيقون تركه من
حلال وحرام ، ولم
__________________
يصبروا على كل أمر نبيهم : ( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ ) ( أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) ، فبيننا وبينهم
المرجع إلى الله : ( وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .
يا ابن عباس! عامل
الله في سره وعلانيته تكن من الفائزين ، ودع من ( اتَّبَعَ هَواهُ
وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) ، ويحسب معاوية ما عمل وما يعمل به من بعده ، وليمده ابن
العاص في غيه ، فكأن عمره قد انقضى ، وكيده قد هوى ، وسيعلم الكافر ( لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ ).
وأذن المؤذن فقال
: الصلاة! يا ابن عباس لا تفت ، أستغفر الله لي ولك و ( حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال ابن عباس :
فغمني انقطاع الليل وتلهفت على ذهابه.
بيان :
ثلبه : تنقصه وصرح
بعيبه .
قوله عليهالسلام : وبهم توقد النيران ... أي نيران الفتن والحروب. وفي القاموس : صعر خده
تصعيرا وصاعره وأصعره : أماله عن النظر إلى الناس تهاونا من كبر وربما يكون خلقة . وقال : التعس :
الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد
__________________
والانحطاط والفعل
: كمنع وسمع ، وتعسه الله وأتعسه . انتهى.
والجدود ـ جمع
الجد بالفتح ـ وهو الحظ والبخت ، أو بالكسر وهو الاجتهاد في الأمور ، فيمكن أن يكون
إصعار الخدود من المسلمين كناية عن غلبتهم ، وإتعاس الجدود للكافرين ، أو كلاهما
للكافرين .. أي اجتمع فيهم التكبر والاضطرار ، ويكون المراد بالإصعار صرف وجوههم عما
قصدوه على وجه الإجبار ، والأول أظهر. والوسنان عن غلبة النوم .
قوله عليهالسلام : فلا يزال الرسول .. يدل على عدم اختصاص الآية بزمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قوله : يحسب
معاوية .. أي يكفيه ، وفي بعض النسخ بالباء الموحدة فتكون زائدة ، قال في النهاية
: في قوله صلى الله عليه [ وآله ] : يحسبك أن تصوم في كل شهر ثلاثة
أيام .. أي يكفيك ، ولو روي ( بحسبك أن تصوم ) .. أي كفايتك أو كافيك كقولهم بحسبك
قول السوء ، والباء زائدة لكان وجها انتهى. والأمر في قوله وليمده للتهديد .
٧
ـ شا : روى العباس بن
عبد الله العبدي ، عن عمرو بن شمر ، عن رجاله قال : قالوا : سمعنا أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : ما رأيت منذ بعث الله
__________________
محمدا صلىاللهعليهوآله رخاء ، والحمد لله ، والله لقد خفت صغيرا وجاهدت كبيرا ، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين حتى قبض
الله نبيه صلىاللهعليهوآله فكانت الطامة الكبرى فلم أزل حذرا رجلا أخاف أن يكون ما لا
يسعني معه المقام ، فلم أر ـ بحمد الله ـ إلا خيرا ، والله ما زلت أضرب بسيفي صبيا
حتى صرت شيخا ، وإنه ليصبرني على ما أنا فيه إن ذلك كله في الله ، وأنا أرجو أن
يكون الروح عاجلا قريبا ، فقد رأيت أسبابه.
قالوا : فما بقي
بعد هذه المقالة إلا يسيرا حتى أصيب عليهالسلام.
٨
ـ شا : روى عبد الله
بن بكير الغنوي ، عن حكيم بن جبير ، قال :
حدثنا من شهد عليا بالرحبة يخطب ، فقال فيما قال : : أيها الناس! إنكم قد أبيتم
إلا أن أقول! أما ورب السماوات والأرض لقد عهد إلي خليلي أن الأمة ستغدر بك .
٩
ـ شا : روى نقلة
الآثار أن رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين علي عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين (ع)! العجب منكم يا بني هاشم ،
كيف عدل هذا الأمر عنكم وأنتم الأعلون نسبا ونوطا بالرسول
صلى الله عليه
__________________
وآله ، وفهما
للكتاب؟!. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : يا ابن دودان! إنك لقلق الوضين ، ضيق المخزم ، ترسل من
غير ذي مسد ، لك ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم ، كانت أثرة سخت
بها نفوس قوم وشحت عليها نفوس آخرين ( فدع عنك نهبا صيح في حجراته ) وهلم الخطب في
أمر ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ، ولا غرو ، بئس القوم ـ والله ـ من
خفضني وهيني وحاولوا الإدهان في ذات الله ، هيهات ذلك مني ! فإن تنحسر عنا
محن البلوى أحملهم من الحق على محضه ، وإن تكن الأخرى ( فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ) ولا ( تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ ) ..
١٠
ـ د : في كتاب
الإرشاد لكيفية الطلب في أئمة العباد تصنيف محمد ابن الحسن الصفار ، قال : وقد
كفانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه المئونة في خطبة خطبها ، أودعها من البيان والبرهان ما يجلي
الغشاوة عن أبصار متأمليه ، والعمى عن عيون متدبريه ، وحلينا هذا الكتاب بها ليزداد
المسترشدون في هذا الأمر بصيرة ، وهي منة الله جل ثناؤه علينا وعليهم يجب شكرها ..
خطب صلوات الله عليه فقال : ما لنا ولقريش! وما تنكر منا قريش غير أنا أهل بيت شيد
الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى فوق رءوسهم رءوسنا ، واختارنا الله عليهم ،
فنقموا على الله
__________________
أن اختارنا عليهم
، وسخطوا ما رضي الله ، وأحبوا ما كره الله ، فلما اختارنا
الله عليهم شركناهم في حريمنا ، وعرفناهم الكتاب والنبوة ، وعلمناهم الفرض والدين ، وحفظناهم الصحف
والزبر ، وديناهم الدين والإسلام ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا حقنا ،
وألتونا أسباب أعمالنا وأعلامنا ، اللهم فإني أستعديك على قريش فخذ لي بحقي منها ،
ولا تدع مظلمتي لديها ، وطالبهم ـ يا رب ـ بحقي ، فإنك الحكم العدل ، فإن قريشا
صغرت عظيم أمري ، واستحلت المحارم مني ، واستخفت بعرضي وعشيرتي ، وقهرتني
على ميراثي من ابن عمي وأغروا بي أعدائي ، ووتروا بيني وبين العرب والعجم ، وسلبوني ما مهدت
لنفسي من لدن صباي بجهدي وكدي ، ومنعوني ما خلفه أخي وجسمي وشقيقي ، وقالوا
: إنك لحريص متهم! أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر ، ومن عمى الضلالة وعي الظلماء ، أليس أنقذتهم من الفتنة الصماء
، والمحنة العمياء؟ ويلهم ! ألم أخلصهم من نيران الطغاة ، وكرة العتاة ،
__________________
وسيوف البغاة ،
ووطأة الأسد ، ومقارعة الطماطمة ، ومماحكة القماقمة ، الذين كانوا عجم العرب ، وغنم الحروب ، وقطب الإقدام ،
وجبال القتال ، وسهام الخطوب ، وسل السيوف ، أليس بي كان يقطع الدروع
الدلاص ، وتصطلم الرجال الحراص ، وبي كان يفري جماجم البهم ، وهام الأبطال ، إذا
فزعت تيم إلى الفرار ، وعدي إلى الانتكاص؟! أما وإني لو أسلمت قريشا للمنايا
والحتوف ، وتركتها فحصدتها سيوف الغوانم ، ووطأتها خيول الأعاجم ، وكرات
الأعادي ، وحملات الأعالي ، وطحنتهم سنابك الصافنات ، وحوافر الصاهلات ، في مواقف
الأزل والهزل في ظلال الأعنة وبريق الأسنة ، ما بقوا لهضمي ، ولا عاشوا لظلمي ، ولما قالوا
: إنك لحريص متهم! اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل ، اللهم ( افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ ) ، فإني مهدت مهاد نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ، ورفعت أعلام دينك ، وأعلنت منار رسولك ، فوثبوا علي
وغالبوني ونالوني وواتروني ..
فقام إليه أبو حازم
الأنصاري فقال : يا أمير المؤمنين (ع)! أبو بكر وعمر ظلماك؟ أحقك أخذا؟ وعلى
الباطل مضيا؟ أعلى حق كانا؟ أعلى صواب أقاما؟ أم ميراثك غصبا؟ أفهمنا لنعلم باطلهم
من حقك؟ أو نعلم حقهما من حقك؟
__________________
أبزاك أمرك؟ أم
غصباك إمامتك؟ أم غالباك فيها عزا ؟ أم سبقاك إليها عجلا فجرت الفتنة ولم تستطع منها استقلالا؟!
فإن المهاجرين والأنصار يظنان أنهما كانا على حق وعلى الحجة الواضحة مضيا.
فقال صلوات الله
عليه : يا أخا اليمن! لا بحق أخذا ، ولا على إصابة أقاما ، ولا على دين مضيا ، ولا
على فتنة خشيا ، يرحمك الله ، اليوم نتواقف على حدود الحق والباطل! أتعلمون ـ يا
إخواني ـ أن بني يعقوب على حق ومحجة كانوا حين باعوا أخاهم ، وعقوا أباهم ، وخانوا
خالقهم ، وظلموا أنفسهم؟!.
فقالوا : لا.
فقال : رحمكم الله
، أيعلم إخوانك هؤلاء أن ابن آدم ـ قاتل الأخ ـ كان على حق ومحجة وإصابة
وأمره من رضى الله؟.
فقالوا : لا.
فقال : أوليس كل
فعل بصاحبه ما فعل لحسده إياه وعدوانه وبغضائه له؟.
فقالوا : نعم.
قال : وكذلك فعلا
بي ما فعلا حسدا ، ثم إنه لم يتب على ولد يعقوب إلا بعد استغفار وتوبة ، وإقلاع
وإنابة ، وإقرار ، ولو أن قريشا تابت إلي واعتذرت من فعلها لاستغفرت الله لها.
ثم قال : إنما
أنطق لكم العجماء ذات البيان ، وأفصح الخرساء ذات
__________________
البرهان ، لأني
فتحت الإسلام ، ونصرت الدين ، وعززت الرسول ، وثبت أركان الإسلام ، وبينت أعلامه ، وعليت مناره ، وأعلنت أسراره ، وأظهرت آثاره وحاله ، وصفيت
الدولة ، ووطئت للماشي والراكب ، ثم قدتها صافية ، على أني بها مستأثرا.
ثم قال ـ بعد كلام
ـ : ثم سبقني إليه التيمي والعدوي كسباق الفرس احتيالا واغتيالا ، وخدعة وغلبة.
ثم قال ـ بعد كلام
ـ : اليوم أنطق الخرساء ذات البرهان ، وأفصح العجماء ذات البيان ، فإنه شارطني
رسول الله صلىاللهعليهوآله في كل موطن من مواطن الحروب ، وصافقني على أن أحارب لله وأحامي لله ،
وأنصر رسول الله صلىاللهعليهوآله جهدي وطاقتي وكدحي ، وكدي ، وأحامي عن حريم الإسلام ،
وأرفع عن إطناب الدين ، وأعز الإسلام وأهله ، على أن ما فتحت وبينت عليه دعوة الرسول
صلىاللهعليهوآله وقرأت فيه المصاحف ، وعبد فيه الرحمن ، وفهم به القرآن ،
فلي إمامته وحله وعقده ، وإصداره وإيراده ، ولفاطمة فدك ومما خلفه رسول الله صلىاللهعليهوآله النصف ، فسبقاني إلى جميع نهاية الميدان يوم الرهان ، وما شككت في الحق منذ
رأيته ، هلك قوم أرجفوا عني أنه لم يوجس موسى ( فِي
__________________
نَفْسِهِ
خِيفَةً ) ارتيابا ولا شكا فيما أتاه من عند الله ، ولم أشكك فيما أتاني من حق
الله ، ولا ارتبت في إمامتي وخلافة ابن عمي ووصية الرسول ، وإنما أشفق أخو موسى من غلبة الجهال ،
ودول الضلال ، وغلبة الباطل على الحق ، ولما أنزل الله عز وجل : ( وَآتِ ذَا
الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله فاطمة فنحلها فدك وأقامني للناس علما وإماما ، وعقد لي وعهد إلي فأنزل الله عز
وجل :
( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) فقاتلت حق القتال ، وصبرت حق الصبر ، على أنه أعز تيما
وعديا على دين أتت به تيم وعدي ، أم على دين أتى به ابن عمي وصنوي وجسمي ، على أن
أنصر تيما وعديا أم أنصر ابن عمي وحقي وديني وإمامتي؟ وإنما قمت تلك المقامات ،
واحتملت تلك الشدائد ، وتعرضت للحتوف على أن يصيبني من الآخرة موفرا
، وإني صاحب محمد وخليفته ، وإمام أمته بعده ، وصاحب رايته في الدنيا والآخرة.
اليوم أكشف
السريرة عن حقي ، وأجلي القذى عن ظلامتي ، حتى يظهر لأهل اللب والمعرفة أني مذلل
مضطهد مظلوم مغصوب مقهور محقور ، وأنهم ابتزوا حقي ، واستأثروا بميراثي!.
__________________
اليوم نتواقف على حدود الحق
والباطل ، من استودع خائنا فقد غش نفسه ، من استرعى ذئبا فقد ظلم ،
من ولي غشوما فقد اضطهد ، هذا موقف صدق ، ومقام أنطق فيه بحقي ، وأكشف الستر والغمة عن
ظلامتي!
يا معشر المجاهدين
المهاجرين والأنصار! أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟! ألا
كانت يوم الأبواء إذ تكانفت [ تكاثفت ] الصفوف ، وتكاثرت الحتوف ، وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم
ابن عبد ود وقد نفخ بسيفه ، وشمخ بأنفه ، وطمح بطرفه؟! ولم لم يشفقا على الدين
وأهله يوم بواط إذا اسود لون الأفق ، واعوج عظم العنق ، وانحل سيل الغرق ؟ ولم يشفقا يوم
رضوى إذ السهام تطير ، والمنايا تسير ، والأسد تزأر؟
و هلا بادرا يوم العشيرة إذا الأسنان تصطك ، والآذان تستك ، والدروع تهتك؟
و هلا كانت مبادرتهما يوم بدر ، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي ، والجياد بالصناديد
ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟ ولم لم يشفقا على الدين يوم بدر
__________________
الثانية ،
والرعابيب ترعب ، والأوداج تشخب ، والصدور تخضب ؟ أم هلا بادرا
يوم ذات الليوث ، وقد أبيح المتولب [ التولب ] ، واصطلم الشوقب ، وادلهم الكوكب؟! ولم لا كانت شفقتهما
على الإسلام يوم الكدر ، والعيون تدمع ، والمنية تلمع ، والصفائح تنزع ..
ثم عدد وقائع
النبي صلىاللهعليهوآله كلها على هذا النسق ، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها
كانا مع النظارة والخوالف والقاعدين ، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة وقد
توطأ الإسلام بسيفه ، واستقر قراره ، وزال حذاره .
ثم قال ـ بعد ذلك
كله ـ : ما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا من قريش؟! أنا صاحب هذه المشاهد
، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال. يا معشر المهاجرين والأنصار! إني على
بصيرة من أمري ، وعلى ثقة من ديني ، اليوم أنطقت الخرساء البيان ، وفهمت العجماء
الفصاحة ، وأتيت العمياء بالبرهان ، ( هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) قد توافقنا على حدود الحق والباطل ، وأخرجتكم من الشبهة
إلى الحق ، ومن الشك إلى اليقين ، فتبرءوا ـ رحمكم الله ممن نكث البيعتين ، وغلب الهوى به فضل ، وأبعدوا ـ رحمكم
الله ـ ممن
__________________
أخفى الغدر وطلب الحق من غير
أهله فتاه ، و العنوا ـ رحمكم الله ـ من انهزم الهزيمتين إذ يقول الله : ( إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) ، وقال : ( وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً
وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) . واغضبوا ـ رحمكم الله ـ على
من غضب الله عليهم ، وتبرءوا ـ رحمكم الله ـ ممن يقول فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله : يرتفع يوم القيامة ريح سوداء تختطف من دوني قوما من
أصحابي من عظماء المهاجرين ، فأقول : أصيحابي. فيقال : يا محمد! إنك لا تدري ما
أحدثوا بعدك. وتبرءوا رحمكم الله من النفس الضال من قبل أن يأتي : ( يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) فيقولوا : ( رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا
لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) ومن قبل أن يقولوا : ( يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) أو يقولوا : ( وَما
أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ) أو يقولوا : ( رَبَّنا إِنَّا
أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا
__________________
السَّبِيلَا
) ، إن قريشا طلبت السعادة فشقيت ، وطلبت النجاة فهلكت ، وطلبت الهداية فضلت. إن قريشا قد
أضلت أهل دهرها ومن يأتي من بعدها من القرون ، إن الله تبارك اسمه وضع إمامتي في
قرآنه فقال : ( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً
وَقِياماً ) ( وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) ، وقال : ( الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) .. و هذه خطبة
طويلة .
وقد قال صلوات
الله عليه في بعض مقاماته كلاما لو لم يقل غيره لكفى قوله صلوات الله عليه : أنا
ولي هذا الأمر دون قريش ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : الولاء لمن أعتق ، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآله بعتق الرقاب من النار ، وبعتقها من السيف ، وهذان لما اجتمعا كانا أفضل من
عتق الرقاب من الرق ، فما كان لقريش على العرب برسول الله صلىاللهعليهوآله كان لبني هاشم على قريش ، وما كان لبني هاشم على قريش برسول الله صلىاللهعليهوآله كان لي على بني هاشم ، لقول رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » ..
__________________
بيان :
ديناهم ـ على بناء
التفعيل ـ .. أي جعلنا الإسلام دينهم وقررناهم عليه.
قال الفيروزآبادي
: دان فلانا : حمله على ما يكره وأذله ، ودينه تديينا :
وكله إلى دينه .
وفي المناقب : وعلمناهم
الفرائض والسنن ، وحفظناهم الصدق واللين ، وورثناهم الدين .
قوله عليهالسلام : وألتونا .. أي نقصونا ومنعونا ما هو من أسباب قوتنا واقتدارنا.
وأعلامنا ـ بالفتح
ـ .. أي ما هو علامة لإمامتنا ودولتنا ، أو بالكسر .. أي ما هو سبب تعليمنا ، كما
قال تعالى : ( وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ ) .
وفي المناقب : والتوونا .. من
التوى عن الأمر .. أي تثاقل .
ولي الغريم معروف ، ويقال :
استعديت على فلان الأمير فأعداني ..
__________________
أي استعنت به عليه
فأعانني عليه .
قوله : ووتروا .. أي ألقوا
الجنايات والدخول بيني وبين العرب والعجم ، فإنهم غصبوا خلافتي وأجروا الناس
على الباطل ، فصار ذلك سببا للحروب وسفك الدماء ، والوتر ـ بالكسر ـ : الجناية ،
والموتور : الذي له قتيل فلم يدرك بدمه . والمتاه : اسم مكان ، أو مصدر ميمي من التيه : وهو الحيرة
والضلالة .
وقال في النهاية :
: فيه .. « الفتنة الصماء العمياء » .. أي التي لا سبيل إلى
تسكينها لتناهيها في رهانها ، لأن الأصم لا يسمع الاستغاثة ولا يقلع عما يفعله ،
وقيل : هي كالحية الصماء التي لا تقبل الرقى.
قوله عليهالسلام : ووطأة الأسد .. قال الجزري : الوطء ـ في الأصل ـ :
الدوس بالقدم فسمي به الغزو والقتل ، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في
هلاكه وإهانته .. ومنه الحديث : «اللهم اشدد وطأتك على
__________________
مضر » ... أي خذهم
أخذا شديدا .
والطمطام : معظم
ماء البحر ، وقد يستعار لمعظم النار ، واستعير هنا لعظماء أهل الشر والفساد.
وقال الجوهري :
المحك : اللجاج .. والمماحكة : الملاجة .
والقمقام : البحر
والأمر الشديد والسيد والعدد الكثير .
قوله عليهالسلام : وعجم العرب .. أي كانوا من العرب بمنزلة الحيوانات العجم .
قوله عليهالسلام : وغنم الحرب .. أي أهل غنم الحرب الذين لهم غنائمها أو يغتنمونها ، ويمكن أن
يقرأ الحرب ـ بالتحريك ـ وهو سلب المال ، وفي بعض النسخ الحروب.
قوله عليهالسلام : وقطب الإقدام .. لعله بكسر الهمزة .. أي كانوا كالقطب للإقدام على الحروب ،
أو بالفتح أي بهم كانت الأقدام تستقر في الحروب ، أو كانت أقدامهم بمنزلة القطب
لرحا الحرب ، والقطب أيضا : سيد
__________________
القوم وملاك الشيء
ومداره ، ذكره الفيروزآبادي .
قوله عليهالسلام : وسل السيوف .. الحمل على المبالغة أي سلال السيوف ، ولعله تصحيف ، وفي
بعض النسخ : سيل السيوف.
والدلاص ـ بالكسر
ـ : اللين البراق ، يقال : درع دلاص وأدرع دلاص .
قوله عليهالسلام : يفري جماجم البهم .. وفي بعض النسخ : يبرئ بالباء ـ الفري : الشق والبري : النحت ، والبهم ـ كصرد
ـ : جمع بهمة ، وهو الفارس الذي لا يدرى من أين يؤتى من شدة بأسه ، والجمجمة ـ بالضم
ـ :
القحف أو العظم فيه الدماغ ، والهام ـ جمع هامة ـ : وهو رأس كل شيء ، والأبطال :
الشجعان ، والنكص : الإحجام عن الأمر والرجوع عنه ، والحتوف ـ بالضم
ـ : جمع الحتف ـ بالفتح ـ وهو الموت ، والغوانم : الجيوش الغانمة ، وفي بعض النسخ
: العرازم : جمع عرزم وهو الشديد والأسد ، وفي
__________________
بعضها : الغراة ، والسنبك ـ بالضم
ـ : طرف الحافر ، وصفن الفرس : قام على ثلاثة قوائم وطرف حافر الرابعة ، والأذل : الضيق
والشدة .
قوله عليهالسلام : والهزل .. لعل المراد أنهم لم يكونوا يثبتون في مقام الهزل فكيف في مقام
الجد؟ ، وفي بعض النسخ : والزلزال.
قوله عليهالسلام : في ظلال الأعنة وفي بعض النسخ : في طلاب الأعنة .. أي مطالبتها ، وفي بعضها :
في إطلاق الأعنة ، وهو أصوب.
قوله عليهالسلام : نتواقف .. أي وقفت على حد الحق ووقفتم على حد الباطل.
قوله عليهالسلام : ونالوني .. أي أصابوني بالمكاره ، وفي بعض النسخ : قالوني .. من القلاء : وهو
البغض ، ويقال : بزه ثيابه وابتزه : إذا سلبه إياها .
قوله عليهالسلام : العجماء ذات البيان .. قيل : كنى عليهالسلام بها عن العبر الواضحة وما حل بقوم فسقوا عن أمر ربهم ،
وعما هو واضح من كمال فضله عليهالسلام ، وعن حال الدين ، ومقتضى أوامر الله تعالى ، فإن هذه
الأمور عجماء لا نطق لها.
__________________
بيانا .. ذات
البيان حالا [ كذا ] ، ولما بينها عليهالسلام فكأنه أنطقها لهم.
وقيل : العجماء
صفة لمحذوف .. أي الكلمات العجماء ، والمراد ما في هذه الخطبة من الرموز التي لا
نطق لها مع أنها ذات بيان عند أولي الألباب.
قوله عليهالسلام : على أني بها مستأثر .. على بناء المفعول ، والاستئثار :
الاستبداد والانفراد بالشيء ، والكلام مسوق على المجاز .. أي ثم تصرفوا في الخلافة على
وجه كأني فعلت جميع ذلك ليأخذوها مني مستبدين بها ، ويحتمل الاستفهام الإنكاري ،
ويمكن أن يقرأ على بناء اسم الفاعل.
والكدح : العمل
والسعي .
والغشم : الظلم .
واكتنفه : أحاط به
، وكانفه : عاونه . وقال الجوهري : نفحه بالسيف :
تناوله من بعيد .
قوله عليهالسلام : تزأر .. الزرء والزئير : صوت الأسد من صدره ، والفعل كضرب ومنع وسمع ، وفي بعض النسخ
بالياء ، ولعله على التخفيف بالقلب لرعاية السجع.
والاستكاك : الصمم
.
__________________
والصعدا : المشقة
، أو هو بالمد : بمعنى ما يصعد عليه .
قوله عليهالسلام : ترتدي .. لعله عليهالسلام شبه وقوعهم بعد القتل على أعناق الجياد بارتدائها بهم ، أو هو
افتعال من الردى وهو الهلاك وإن لم يأت فيما عندنا من كتب اللغة ، وفي بعض النسخ
: تردى ، فالباء زائدة أو بمعنى مع ، أو للتعدية إذا قرئ على بناء المجرد ، ويقال
: ردى الفرس ـ كرمى ـ : إذا رجمت الأرض بحوافرها ، أو بين العدو والمشي ،
والشيء : كسره ، وفلانا : صدمه وردى ردى : هلك .
قوله عليهالسلام : والرعابيب ترعب .. قال الفيروزآبادي : الرعبوب :
الضعيف الجبان ، وجارية رعبوبة ورعبوب ورعبيب ـ بالكسر ـ شطبة تارة أو بيضاء حسنة
رطبة حلوة أو ناعمة ، ومن النوق طياشة .
وفي المناقب :
والدعاس ترعب .. من الدعس وهو الطعن ، والمداعسة :
المطاعنة .
قوله عليهالسلام : وقد أبيح التولب .. التولب : ولد الحمار ، وهو كناية
__________________
عن كثرة الغنائم
أو الأسارى على الاستعارة.
وفي المناقب : وقد أمج التولب
.. أما بتشديد الجيم من أمج الفرس :
إذا بدأ بالجري قبل أن يضطرم ، وأمج الرجل : إذا ذهب في البلاد ، أو بالتخفيف من
أمج ـ كفرح ـ إذا سار شديدا ، ولعله على الوجهين كناية عن الفرار ، والنسخة الأولى
أظهر وأنسب.
والاصطلام :
الاستئصال .
والشوقب : الرجل الطويل ،
والواسع من الحوافر.
وخشبتا القتب
اللتان تعلق فيهما الحبال .
قوله عليهالسلام : والصفائح تنزع .. في بعض النسخ : تربع .. من ربع الإبل : إذا سرحت في
المرعى وأكلت حيث شاءت وشربت ، وكذلك الرجل بالمكان .
ثم إن غزوة
الأبواء وقعت بعد اثني عشر شهرا من الهجرة ، خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من المدينة يريد قريشا وبني ضمرة ، قالوا : ثم رجع ولم يلق كيدا.
، وغزوة بواط كانت في السنة الثانية في ربيع الأول وبعدها في جمادى الآخرة كانت غزوة
العشيرة ، والرضوى : جبل بالمدينة ، ولا يبعد كونه إشارة إلى
__________________
غزوة أحد ، وذات
الليوث إلى غزوة حنين ، والكدو ـ وفي بعض النسخ : الأكيدر إلى غزوة دومة الجندل ، وقد مر
تفصيلها في المجلد السادس .
وفي القاموس :
وطأه : هيأه ودمثه وسهله .. فاتطأ .. وواطأه على الأمر :
وافقه كتواطأه وتوطأه .. وايتطأ ـ كافتعل ـ : استقام وبلغ نهايته وتهيأ .
والدهماء : الفتنة
المظلمة ، والدهياء : الداهية الشديدة .
أقول
:أورد ابن شهرآشوب
في المناقب : الخطبة الأولى إلى قوله : وأين هذه الأفعال الحميدة ...
مع اختصار في بعض المواضع.
١١
ـ فس : قال أمير
المؤمنين عليهالسلام : أيها الناس! إن أول من بغى على الله عز وجل على وجه الأرض عناق بنت آدم عليهالسلام ، خلق الله لها عشرين إصبعا ، في كل إصبع منها ظفران طويلان كالمنجلين العظيمين ،
__________________
وكان مجلسها في
الأرض موضع جريب ، فلما بغت بعث الله لها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا كالحمار
وكان ذلك في الخلق الأول ، فسلطهم الله عليها فقتلوها ، ألا وقد قتل الله فرعون
وهامان وخسف بقارون ، وإنما هذا مثل لأعدائه الذين غصبوا حقه فأهلكهم الله.
ثم قال علي صلوات
الله عليه ـ على إثر هذا المثل الذي ضربه ـ : وقد كان لي حق حازه دوني من لم يكن
له ، ولم أكن أشركه فيه ، ولا توبة له إلا بكتاب منزل ، أو برسول مرسل ، وأنى له
بالرسالة بعد محمد صلىاللهعليهوآله ، ولا نبي بعد محمد صلىاللهعليهوآله ، وأنى يتوب وهم في برزخ القيامة غرته الأماني وغره ( بِاللهِ
الْغَرُورُ ) ، قد أشفى ( عَلى شَفا جُرُفٍ
هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .
١٢
ـ ما : أحمد بن محمد
بن موسى بن الصلت ، عن ابن عقدة ، عن أحمد بن القاسم ، عن عباد ، عن عبد الله بن الزبير ،
عن عبد الله بن شريك ، عن أبيه ، قال : صعد علي عليهالسلام المنبر يوم الجمعة فقال : أنا عبد الله وأخو رسول
__________________
الله لا يقولها بعدي
إلا كذاب ، ما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أمرني رسول الله صلىاللهعليهوآله بقتال الناكثين : طلحة والزبير ، والقاسطين : معاوية وأهل
الشام ، والمارقين : وهم أهل النهروان ، ولو أمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم.
١٣
ـ قب : البخاري ومسلم
بالإسناد ، قال قيس بن سعد : قال علي (ع) : إن [ أنا ] أول من يحثو [
يجثو ] للحكومة بين يدي الله .
١٤
ـ جا : الكاتب ، عن
الزعفراني ، عن الثقفي ، عن المسعودي ، عن الحسن بن حماد ، عن أبيه ، عن رزين بياع الأنماط ،
قال : سمعت زيد بن علي بن الحسين عليهماالسلام يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، قال : سمعت أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليهالسلام يخطب الناس قال في خطبته : والله لقد بايع الناس أبا بكر وأنا أولى الناس
بهم مني بقميصي هذا ، فكظمت غيظي ، وانتظرت أمر ربي ، وألصقت كلكلي بالأرض ، ثم إن
أبا بكر هلك واستخلف عمر ، وقد علم ـ والله ـ أني أولى الناس بهم مني بقميصي هذا ،
فكظمت غيظي ، وانتظرت أمر ربي ، ثم إن عمر هلك وقد جعلها شورى ، فجعلني سادس ستة ،
__________________
كسهم الجدة وقال :
اقتلوا الأقل وما أراد غيري ، فكظمت غيظي ، وانتظرت أمر ربي ، وألصقت كلكلي بالأرض
، ثم كان من أمر القوم بعد بيعتهم لي ما كان ، ثم لم أجد إلا قتالهم أو الكفر
بالله.
بيان
: الكلكل : الصدر .
١٥
ـ جا : ابن قولويه ،
عن أبيه ، عن سعد ، عن أحمد بن علوية ، عن الثقفي ، عن محمد بن عمرو الرازي ،
عن الحسن بن المبارك ، عن الحسن بن سلمة ، قال : لما بلغ أمير المؤمنين صلوات الله
عليه مسير طلحة والزبير وعائشة من مكة إلى البصرة نادى الصلاة جامعة ، فلما اجتمع
الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه
صلىاللهعليهوآله قلنا : نحن أهل بيته وعصبته وورثته وأولياؤه وأحق خلائق
الله به ، لا ننازع حقه وسلطانه ، فبينما نحن إذ نفر المنافقون
فانتزعوا سلطان نبينا صلىاللهعليهوآله منا وولوه غيرنا ، فبكت لذلك ـ والله ـ العيون والقلوب منا
جميعا ، وخشنت ـ والله الصدور ، وايم الله لو لا مخافة الفرقة من المسلمين أن
يعودوا إلى الكفر ، ويعود الدين ، لكنا قد غيرنا
ذلك ما استطعنا ، وقد ولي ذلك ولاة ومضوا لسبيلهم ورد الله الأمر إلي ، وقد
بايعاني وقد نهضا إلى البصرة ليفرقا جماعتكم ، ويلقيا بأسكم
__________________
بينكم ، اللهم
فخذهما لغشهما لهذه الأمة ، وسوء نظرهما للعامة.
فقام أبو الهيثم
ابن التيهان رحمه الله فقال : يا أمير المؤمنين! إن حسد قريش إياك على وجهين ، أما
خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل وارتفاعا في الدرجة ، وأما شرارهم فحسدوك حسدا أحبط
الله به أعمالهم وأثقل به أوزارهم ، وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدموك ،
فبعدت عليهم الغاية ، وأسقطهم المضمار ، وكنت أحق قريش بقريش ، نصرت نبيهم حيا ،
وقضيت عنه الحقوق ميتا ، والله ما بغيهم إلا على أنفسهم ، ونحن أنصارك وأعوانك ،
فمرنا بأمرك ، ثم أنشأ يقول :
إن قوما بغوا
عليك وكادوك
|
|
وعابوك بالأمور
القباح
|
ليس من عيبها
جناح بعوض
|
|
فيك حقا ولا
كعشر جناح
|
أبصروا نعمة
عليك من الله
|
|
وقوما [ قرما ] يدق قرن النطاح
|
وإماما تأوي
الأمور إليه
|
|
ولجاما لمن [
يلين ] غرب الجماح
|
كلما [ حاكما ] تجمع الإمامة فيه
|
|
هاشميا لها عراض
البطاح
|
حسدا للذي أتاك
من الله
|
|
وعادوا إلى قلوب
قراح
|
ونفوس هناك
أوعية البغض
|
|
على الخير
للشقاء شحاح
|
من مسير يكنه
حجب الغيب
|
|
ومن مظهر
العداوة لاح
|
يا وصي النبي نحن
من الحق
|
|
على مثل بهجة
الإصباح
|
__________________
فخذ الأوس
والقبيل من الخزرج
|
|
بالطعن في الوغا
والكفاح
|
ليس منا من لم يكن لك في الله
|
|
وليا على الهدى
والفلاح
|
فجزاه أمير
المؤمنين عليهالسلام خيرا ، ثم قام الناس بعده فتكلم كل واحد بمثل مقاله.
بيان :
القرم : السيد .
والنطاح ـ بالكسر
ـ : الكباش الناطحة بالقرن ، استعيرت هذا للشجعان.
وجماح الفرس :
امتناعه من راكبه .
قوله : قراح .. أي
مقروحة بالحسد .
قوله : على الخير
متعلق بالشحاح كقوله تعالى : ( أَشِحَّةً عَلَى
الْخَيْرِ ) ، واللاحي : اللائم ، والملاحي : المنازع ، ويقال :
كافحوهم : إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس ولا غيره .
__________________
١٦
ـ جا : الكاتب ، عن
الزعفراني ، عن الثقفي ، عن المسعودي ، عن محمد بن كثير ، عن
يحيى بن حماد القطان ، عن أبي محمد الحضرمي ، عن أبي علي الهمداني : أن عبد الرحمن
بن أبي ليلى قام إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال : يا أمير المؤمنين! إني سائلك لآخذ عنك ، وقد
انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله ، ألا تحدثنا عن أمرك هذا .. أكان بعهد
رسول الله صلىاللهعليهوآله أو شيء رأيته؟ فأما [ فإنا ] قد أكثرنا فيك
الأقاويل وأوثقه عندنا ما قبلناه عنك وسمعناه من فيك ، إنا كنا نقول لو رجعت إليكم بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله لم ينازعكم فيها أحد ، والله ما أدري إذا سئلت ما أقول؟
أزعم أن القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك؟ فإن قلت ذلك فعلام نصبك رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد حجة الوداع ، فقال : أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه؟!. وإن تك أولى
منهم بما كانوا فيه فعلام نتولاهم؟.
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : يا عبد الرحمن! إن الله تعالى قبض نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا يوم قبضه أولى بالناس مني بقميصي هذا ، وقد كان من نبي الله (ص) إلي عهد
لو خزمتموني بأنفي لأقررت سمعا لله وطاعة ، وإن أول ما انتقصناه بعده إبطال حقنا
في الخمس ، فلما رق أمرنا طمعت رعيان البهم
__________________
من قريش فينا ، وقد
كان لي على الناس حق لو ردوه إلي عفوا قبلته وقمت به ، فكان إلى أجل معلوم ،
وكنت كرجل له على الناس حق إلى أجل ، فإن عجلوا له ماله أخذه وحمدهم عليه ، وإن
أخروه أخذه غير محمود ، وكنت كرجل يأخذ السهولة وهو عند الناس محزون ، وإنما
يعرف الهدى بقلة من يأخذه من الناس ، فإذا سكت فأعفوني ، فإنه لو جاء أمر تحتاجون فيه إلى الجواب
أجبتكم ، فكفوا عني ما كففت عنكم.
فقال عبد الرحمن :
يا أمير المؤمنين! فأنت ـ لعمرك ـ كما قال الأول :
لعمري لقد أيقظت من كان نائما
|
|
وأسمعت من كانت
له أذنان
|
بيان :
خزمت البعير
بالخزامة وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه يشد فيها الزمام .
قوله عليهالسلام : رعيان البهم .. أي رعاة البهائم والأنعام .
وقال الجوهري :
يقال : أعطيته عفو المال : يعني بغير مسألة .
وقال في النهاية ـ
في حديث المغيرة ـ : محزون اللهزمة .. أي خشنها .. ومنه الحديث : أحزن بنا
المنزل .. أي صار ذا حزونة .. ويجوز أن يكون من قولهم
__________________
أحزن الرجل وأسهل
: إذا ركب الحزن والسهل .
١٧
ـ كا : في الروضة ،
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن علي بن رئاب ويعقوب السراج ، عن أبي
عبد الله عليهالسلام : أن أمير المؤمنين عليهالسلام لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر فقال : الحمد لله الذي
علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كل منظر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين ، وحجة الله على العالمين ،
مصدقا للرسل الأولين ، ( وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ ) رءوفا ( رَحِيماً ) ، فصلى الله
وملائكته عليه وعلى آله.
أما بعد ، أيها
الناس! فإن البغي يقود أصحابه إلى النار ، وإن أول من بغى على الله جل ذكره عناق
بنت آدم ، وأول قتيل قتله الله عناق ، وكان مجلسها جريبا من الأرض في جريب ، وكان
لها عشرون إصبعا في كل إصبع ظفران مثل المنجلين ، فسلط الله عز وجل عليها أسدا
كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا مثل البغل فقتلوها ، وقد قتل الله الجبابرة على أفضل
أحوالهم ، وآمن ما كانوا ، وأمات هامان ، وأهلك فرعون ، وقد قتل عثمان ، ألا وإن
بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلىاللهعليهوآله ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ،
ولتساطن سوطة القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا
قصروا ، وليقصرن سابقون كانوا سبقوا ، والله ما كتمت وشمة ، ولا كذبت كذبة ، ولقد
نبئت بهذا المقام وهذا اليوم ، ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل أهلها عليها ، وخلعت لجمها
فتقحمت بهم في النار ، ألا وإن التقوى مطايا
__________________
ذلل حمل عليها أهلها
وأعطوا أزمتها ، فأوردتهم الجنة ، وفتحت لهم أبوابها ، وجدوا ريحها وطيبها ، وقيل
لهم : ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) ، ألا وقد سبقني
إلى هذا الأمر من لم أشركه فيه ، ومن لم أهبه له ، ومن ليست له منه نوبة إلا نبي يبعث ، ألا ولا
نبي بعد محمد صلىاللهعليهوآله ، أشرف منه ( عَلى شَفا جُرُفٍ
هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ) حق وباطل ، ولكل أهل ، فلئن أمر الباطل لقديما ما فعل ، ولئن قل
الحق فلربما ولعل ولقلما أدبر شيء فأقبل ، ولئن رد عليكم أمركم إنكم سعداء ، وما
علي إلا الجهد ، وإني لأخشى أن تكونوا على فترة ملتم عني ميلة كنتم فيها عندي غير
محمودي الرأي ، ولو أشاء لقلت : ( عَفَا اللهُ عَمَّا
سَلَفَ ) ، سبق فيه الرجلان وقام الثالث كالغراب همه بطنه ، ويله!
لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيرا له ، شغل عن الجنة والنار أمامه ، ثلاثة واثنان ،
خمسة ليس لهم سادس ، ملك يطير بجناحيه ، ونبي أخذ الله بضبعيه ، وساع مجتهد ،
وطالب يرجو ، ومقصر في النار ، اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة ،
عليها يأتي الكتاب وآثار النبوة ، هلك من ادعى ، و ( خابَ مَنِ
افْتَرى ) ، إن الله أدب هذه الأمة بالسيف والسوط وليس لأحد عند
الإمام فيهما هوادة ، فاستتروا في بيوتكم ( وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ ) ، والتوبة من ورائكم ، من أبدى صفحته للحق هلك.
__________________
بيان :
قوله عليهالسلام : علا فاستعلى .. الاستعلاء هنا مبالغة في العلو ، أي علا عن رتبة المخلوقين
فاستعلى عن التشبه بصفاتهم ، أو كان عاليا بالذات والصفات فأظهر وبين علوه
بالإيجاد ، أو طلب علوه من العباد بأن يخضعوا عنده ويعبدوه ، وعلى الأخيرين يكون الاستفعال
للطلب بتقدير أو تجوز.
قوله عليهالسلام : ودنا فتعالى .. أي دنا من كل شيء فتعالى أن يكون في مكان ، إذ لا يمكن أن
يكون للمكاني الدنو من كل شيء ، أو دنوه دنو علم وقدرة وإيجاد وتربية ، وهو
عين علوه وشرافته ورفعته ، فليس دنوه دنوا منافيا للعلو ، بل مؤيد له ، ويحتمل في
الفقرتين أن يكون الفاء بمعنى الواو .. أي علا وكثر علاؤه ، ودنا وتعالى أن يكون
دنوه كدنو المخلوقين.
قوله عليهالسلام : وارتفع فوق كل منظر .. المنظر : النظر والموضع المرتفع وكل ما نظرت إليه فسرك أو ساءك ، فالمراد أنه ـ تعالى ـ ارتفع
عن كل محل يمكن أن ينظر إليه ، أي ليس بمرئي ولا مكاني ، أو ارتفع عن كل نظر فلا
يمكن لبصر الخلق النظر إليه ، أو ارتفع عن محال النظر والفكر فلا
يحصل في وهم ولا خيال ولا عقل ، ويحتمل معنى دقيقا بأن يكون المراد بالارتفاع فوقه
:الكون عليه والتمكن فيه مجازا .. أي ظهر لك في كل ما نظرت إليه بقدرته وصنعه
وحكمته.
__________________
قوله عليهالسلام : خاتم النبيين .. ـ بفتح التاء وكسرها ـ .. أي آخرهم .
قوله عليهالسلام : فإن البغي .. أي الظلم والفساد والاستطالة .
قوله عليهالسلام : وإن أول من بغى .. كأنها كانت مقدمة على قابيل.
قوله عليهالسلام : وأول قتيل قتله الله .. أي بالعذاب.
قوله عليهالسلام : في جريب .. لعل المراد أنها كانت تملأ مجموع الجريب بعرضها وثخنها.
وفي تفسير علي بن
إبراهيم : وكان مجلسها في الأرض موضع جريب .
، وفيما رواه ابن ميثم ـ بتغيير ما ـ : كان مجلسها من الأرض جريبا.
قوله عليهالسلام : مثل المنجلين .. المنجل ـ كمنبر ـ ما يحصد به .
قوله عليهالسلام : وأمات هامان .. أي [ رمع ] ، وأهلك فرعون .. يعني أبا [ فصيل ] ، ويحتمل
العكس. ويدل على أن المراد هذان الأشقيان :
قوله عليهالسلام : وقد قتل عثمان .. ويمكن أن يقرأ قتل ـ على بناء المعلوم والمجهول ـ ،
والأول أنسب بما تقدم.
قوله عليهالسلام : ألا وإن بليتكم .. أي ابتلاءكم وامتحانكم بالفتن .
قوله عليهالسلام : لتبلبلن بلبلة .. البلبلة : الاختلاط ، وتبلبلت الألسن .. أي اختلطت .
__________________
وقال ابن ميثم :
وكنى بها عما يوقع بهم بنو أمية وغيرهم من أمراء الجور من الهموم المزعجة ، وخلط
بعضهم ببعض ، ورفع أراذلهم ، وحط أكابرهم عما يستحق كل من المراتب .
وقال الجزري : فيه
: دنت الزلازل ، والبلابل : هي الهموم والأحزان ، وبلبلة الصدور : وسواسه .. ، ومنه
الحديث : « إنما عذابها في الدنيا البلابل والفتن ».يعني هذه الأمة ، ومنه خطبة
علي (ع) : « لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة » . انتهى. والأظهر أن المراد اختلاطهم واختلاف أحوالهم
ودرجاتهم في الدين بحسب ما يعرض لهم من الفتن.
قوله عليهالسلام : لتغربلن غربلة .. الظاهر أنها مأخوذة من الغربال الذي يغربل به الدقيق ،
ويجوز أن تكون من قولهم : غربلت اللحم .. أي قطعته ، فعلى الأول
الظاهر أن المراد تمييز جيدهم من رديهم ، ومؤمنهم من منافقهم ، وصالحهم من طالحهم
، بالفتن التي تعرض لهم ، كما أن في الغربال يتميز اللب من النخالة ، وقيل :
المراد خلطهم ، لأن غربلة الدقيق تستلزم خلط بعضه ببعض.
وقال ابن ميثم :
هو كناية عن التقاط آحادهم وقصدهم بالأذى والقتل ، كما فعل بكثير من الصحابة
والتابعين ، ولا يخفى ما فيه.
وعلى الثاني ،
فلعل المراد تفريقهم وقطع بعضهم عن بعض.
قوله عليهالسلام : ولتساطن سوط القدر .. قال الجزري : ساط القدر
__________________
بالمسوط والمسواط بسوط ، وهو خشبة
يحرك بها ما فيها ليختلط ، ومنه حديث علي (ع) : لتساطن سوط القدر .
قوله عليهالسلام : حتى يعود أسفلكم أعلاكم .. أي كفاركم مؤمنين ، وفجاركم متقين ، وبالعكس ،
أو ذليلكم عزيزا وعزيزكم ذليلا ، موافقا لبعض الاحتمالات السابقة.
قوله عليهالسلام : وليسبقن سابقون كانوا قصروا .. يعنى عليهالسلام به قوما قصروا في أول الأمر في نصرته ثم نصروه واتبعوه ،
أو قوما قصروا في نصرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعانوه صلوات الله عليه.
قوله عليهالسلام : وليقصرن سابقون كانوا سبقوا .. يجري فيه الاحتمالان السابقان ، والأول
فيهما أظهر كطلحة والزبير وأضرابهما ، حيث كانوا عند غصب الخلافة يدعون أنهم من
أعوانه صلوات الله عليه ، وعند البيعة أيضا ابتدوا بالبيعة وكان مطلوبهم الدنيا ،
فلما لم يتيسر لهم كانوا أول من خالفه وحاربه.
قوله عليهالسلام : والله ما كتمت وشمة .. أي كلمة مما أخبرني به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه الواقعة ، أو مما أمرت بإخباره مطلقا ، ويمكن أن
يقرأ على البناء للمجهول ، أي لم يكتم عني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا ، والأول أظهر.
قال الجزري : في
حديث علي (ع) : والله ما كتمت وشمة .. أي كلمة انتهى. وفي بعض
الروايات : وسمة ـ بالسين المهملة ـ ، أي ما كتمت علامة
__________________
تدل على سبيل الحق
، ولكن عميتم عنها ، ولا يخفى لطف ضم الكتم مع الوسمة ، إذ الكتم ـ بالتحريك ـ نبت
يخلط بالوسمة يختضب به .
قوله عليهالسلام : ولقد نبئت بهذا المقام .. أي أنبأني الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بهذه البيعة وبنقض هؤلاء بيعتي.
قوله عليهالسلام : شمس .. هو بالضم : جمع شموس ، وهي الدابة تمنع ظهرها ولا تطيع راكبها ، وهو
مقابل الذلول ، فشبه عليهالسلام الخطايا بخيل صعاب إذا ركبها الناس لا يستطيعون منعها عن
أن توردهم المهالك ، والتقوى بمطايا زلل مطيعة منقادة أزمتها بيد ركابها يوجهونها حيث ما
يريدون.
وقوله عليهالسلام : وأعطوا أزمتها .. على البناء المفعول [ كذا ] .. أي أعطاهم من أركبهم
أزمتها ، ويمكن أن يقرأ على البناء للفاعل .. أي أعطي الركاب أزمة المطايا إليها ،
فهن لكونهن ذللا لا يخرجن عن طريق الحق إلى أن يوصلن ركابهن إلى الجنة.
والتقحم : الدخول
في الشيء مبادرة من غير تأمل .
قوله عليهالسلام : بسلام .. أي سالمين من العذاب ، أو مسلما عليكم ،
__________________
آمنين من الآفة
والزوال.
قوله عليهالسلام : لم أشركه فيه ... أي في الخلافة ، ولم أهب كله له ، أو لم أهب جرم هذا
الغصب له.
قوله عليهالسلام : ومن ليست له توبة إلا بنبي يبعث ... أي لا يعلم قبول توبة من فعل مثل هذا الأمر القبيح
، وأضل هذه الجماعات الكثيرة إلا بنبي يبعث فيخبره بقبول توبته.
وفي بعض النسخ :
نوبة .. أي ليست له نوبة في الخلافة إلا بنبي يبعث فيخبر عن الله أن له حصة في
الخلافة.
وفي أكثر النسخ :
إلا نبي ـ بدون الباء ـ فالمراد بالتوبة ما يوجب قبولها ، أي ليس له سبب قبول توبة
إلا بنبي ، ولعله من تصحيف النساخ.
قوله عليهالسلام : أشرف منه ... أي بسبب غصبه الخلافة.
قوله عليهالسلام : على شفا جرف ... قال الجوهري : شفا كل شيء :حرفه ، قال الله تعالى : ( وَكُنْتُمْ عَلى شَفا
حُفْرَةٍ ) .
و قال : والجرف
والجرف مثل عسر وعسر : ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض ، ومنه قوله تعالى : ( عَلى شَفا
جُرُفٍ هارٍ ) .
وقال : هار الجرف
يهور هورا وهئورا فهو هائر ، ويقال ـ أيضا ـ جرف هار خفضوه في موضع الرفع وأرادوا
هائر ، وهو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي كما
__________________
قلبوا شائك السلاح إلى شاكي
السلاح ، وهورته فتهور : وانهار .. أي انهدم .
قوله عليهالسلام : حق وباطل ... أي في الدنيا ، أو هنا ، أو بين الناس حق وباطل.
قوله عليهالسلام : فلئن أمر الباطل ... أي كثر ، قال الفيروزآبادي :أمر ـ كفرح ـ أمرا وإمرة :
كثر .
قوله عليهالسلام : فلقديما فعل ... أي فو الله لقد فعل الباطل ذلك في قديم الأيام ، أي ليس
كثرة الباطل ببديع حتى تستغرب أو يستدل بها على حقية أهله.
قوله عليهالسلام : ولئن قل الحق فلربما ... أي فو الله كثيرا ما يكون الحق كذلك ، ولعل ، أي
لا ينبغي أن يؤيس من الحق لقلته ، فلعله يعود كثيرا بعد قلته ، وعزيزا بعد ذلته.
قوله عليهالسلام : ولقلما أدبر شيء فأقبل ... لعل المراد أنه إذا أقبل الحق وأدبر الباطل فهو
لا يرجع ، إذ رجوع الباطل بعد إدباره قليل ، أو المراد بيان أن رجوع الحق إلينا
بعد الإدبار أمر غريب يفعله الله بفضله ولطفه وحكمته ، أو المراد بيان أنه لا يرجع
عن قريب ، بل إنما يكون في زمن القائم عليهالسلام.
قوله عليهالسلام : ولئن رد إليكم أمركم ... أي في هذا الزمان.
قوله عليهالسلام : وما علي إلا الجهد ... أي بذل الطاقة ، قال الجوهري :الجهد والجهد : الطاقة
، وقرئ : ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ) و ( جهدهم ).
__________________
قال الفراء :
الجهد ـ بالضم ـ : الطاقة ، والجهد ـ بالفتح ـ من قولك اجهد جهدك في هذا الأمر ..
أي ابلغ غايتك ، ولا يقال : اجهد جهدك. والجهد :المشقة .
قوله عليهالسلام : أن تكونوا على فترة ... قال في النهاية : في حديث ابن مسعود : أنه مرض فبكى
، فقال : إنما أبكي لأنه أصابني على حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد .. أي في
حال سكون وتقليل من العبادات والمجاهدات ، والفترة في غير هذا : ما بين الرسولين
من رسل الله تعالى من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة انتهى ، فالمعنى
أخشى أن تكونوا على فترة وسكون وفتور عن نصرة الحق ، أو أن تكونوا كأناس كانوا بين
النبيين لا يظهر فيهم الحق ويشتبه عليهم الأمور.
قوله عليهالسلام : ملتم عني ميلة ... أي في أول الأمر بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قوله عليهالسلام : ولو أشاء لقلت ... أي بينت بطلان الرجلين اللذين اتبعتموهما وكفرهما ، لكن
لا تقتضيه مصلحة الحال.
قوله عليهالسلام : ( عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ ) .. أي لمن تاب في هذا الزمان.
قوله عليهالسلام : كان خيرا له ، قص الجناحين ... كناية عن منعه ورفع استيلائه وقبض يده عن
أموال المسلمين ودمائهم وفروجهم ، وقطع رأسه كناية عن قطع ما هو بمنزلة رأسه من
الخلافة ، أو المراد قتله ابتداء قبل ارتكاب هذه الأمور.
قوله عليهالسلام : شغل ... أي بالدنيا عن تحصيل الجنة والحال أن النار
__________________
كانت أمامه ، فكان
ينبغي أن لا يشتغل مع هذا بشيء آخر سوى تحصيل الجنة والتخلص من النار.
قوله عليهالسلام : ثلاثة واثنان ... الحاصل أن أحوال المخلوقين المكلفين تدور على خمسة ،
وإنما فصل الثلاثة عن الاثنين لأنهم من المقربين المعصومين الناجين من غير شك ،
فلم يخلطهم بمن سواهم.
الأول : ملك أعطاه
الله جناحين يطير بهما في درجات الكمال صورة ومعنى.
والثاني : نبي أخذ
الله بضبعيه ..
الضبع ـ بسكون
الباء ـ : وسط العضد ، وقيل : هو ما تحت الإبط ..
أي رفعه الله بقدرته وعصمته من بين الخلق واختاره وقربه كأنه أخذ بعضده وقربه إليه
، ويحتمل أن يكون كناية عن رفع يده وأخذها عن المعاصي بعصمته ، وأن يكون كناية عن
تقويته ، والأول أظهر.
والثالث : ساع
مجتهد في الطاعات غاية جهده .. والمراد إما الأوصياء عليهمالسلام أو أتباعهم الخلص ، فالأوصياء داخلون في الثاني على سبيل التغليب ، أو
المراد بالثالث أعم منهما.
والرابع : عابد
طالب للآخرة بشيء من السعي مع صحة إيمانه ، وبذلك يرجو فضل ربه.
والخامس : مقصر
ضال عن الحق كافر ، فهو في النار.
قوله عليهالسلام : اليمين والشمال مضلة ... أي كل ما خرج عن الحق فهو ضلال ، أو المراد
باليمين ما يكون بسبب الطاعات والبدع فيها ، وباليسار ما يكون بسبب المعاصي.
قوله عليهالسلام : عليها يأتي الكتاب ... أي على هذه الجادة أتى كتاب
__________________
الله وحث على
سلوكها ، وفي بعض النسخ : ما في الكتاب ، وفي نسخ نهج البلاغة : باقي الكتاب ،
ولعل المراد ما بقي من الكتاب في أيدي الناس.
قوله عليهالسلام : هلك من ادعى ... أي من ادعى مرتبة ليس بأهل لها كالإمامة.
قوله عليهالسلام : وليس لأحد عند الإمام فيها هوادة ... قال الجزري فيه :« لا تأخذه في الله
هوادة » أي لا يسكن عند وجوب حدود الله ولا يحابي فيه أحدا ، والهوادة : السكون والرخصة والمحاباة انتهى.
قوله عليهالسلام : والتوبة من ورائكم ... قال ابن ميثم : تنبيه للعصاة على الرجوع إلى التوبة
عن الجري في ميدان المعصية واقتفاء أثر الشيطان ، وكونها وراء ، لأن الجواذب
الإلهية إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتى أعرض عنها والتفت بوجه نفسه
إلى ما كان معرضا عنه من الندم على المعصية ، والتوجه إلى القبلة الحقيقية ، فإنه
يصدق عليه إذن أن التوبة وراءه ، أي وراء عقليا ، وهو أولى من قول من قال من
المفسرين : إن وراءكم بمعنى أمامكم .
قوله عليهالسلام : من أبدى صفحته للحق هلك ... قال في النهاية :صفحة كل شيء : وجهه
وناصيته .
أقول :
المراد ومواجهة
الحق ومقابلته ومعارضته ، فالمراد بالهلاك الهلاك في الدنيا والآخرة ، أو المراد
إبداء الوجه للخصوم ومعارضتهم لإظهار الحق في كل
__________________
مكان وموطن من غير
تقية ورعاية مصلحة فيكون مذموما ، والهلاك بالمعنى الذي سبق ، ويؤيد هذا قوله عليهالسلام : استتروا في بيوتكم .. أو المراد معارضته أهل الباطل على الوجه المأمور به ،
والمراد بالهلاك مقاساة المشاق والمفاسد والمضار من جهال الناس ، ويؤيده ما في نسخ
نهج البلاغة : هلك عند جهلة الناس.
١٨
ـ نهج : ومن خطبة له عليهالسلام : لا يشغله شأن ، ولا يغيره زمان ، ولا يحويه مكان ، ولا يصفه لسان ، و لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا
نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذر في الليلة
الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق ، وخفي طرف الأحداق ، وأشهد أن لا
إله إلا الله غير معدول به ولا مشكوك فيه ولا مكفور دينه ، ولا مجحود تكوينه ، شهادة
من صدقت نيته ، وصفت دخلته ، وخلص يقينه ، وثقلت موازينه ، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله ، المجتبى من خلائقه ، والمعتام لشرح حقائقه ، والمختص بعقائل كراماته ،
والمصطفى لكرائم
__________________
رسالاته ،
والموضحة به أشراط الهدى ، والمجلو به غربيب العمى.
أيها الناس! إن
الدنيا تغر المؤمل لها والمخلد إليها ، ولا تنفس بمن نافس فيها ، وتغلب من غلب
عليها ، وايم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها
، لأن الله تعالى ( لَيْسَ بِظَلاَّمٍ
لِلْعَبِيدِ ) ، ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم ،
فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لرد عليهم كل شارد ، وأصلح لهم
كل فاسد ، وإني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة وقد كانت أمور عندي مضت ، ملتم فيها
ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ، ولئن رد عليكم أمركم إنكم لسعداء ، وما علي إلا
الجهد ، ولو أشاء أن أقول لقلت : ( عَفَا اللهُ عَمَّا
سَلَفَ ) .
بيان
: قد مر شرح صدر الخطبة في كتاب التوحيد .
قوله عليهالسلام : غير معدول به .. أي لا يعادل ويساوي به أحد ، كما قال تعالى
: ( بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) .
والدخلة ـ بالكسر
والضم ـ : باطن الأمر .
والمعتام : أي
المختار ، والتاء تاء الافتعال ، ذكره في النهاية ، والعقائل جمع
عقيلة ـ وهي كريمة كل شيء .
__________________
والأشراط :
العلامات جمع شرط ـ بالتحريك ـ.
والغربيب ـ بالكسر
ـ : الأسود الشديد السواد .. أي المكشوف به ظلم الظلام .
وأخلد إليه : مال .
قوله عليهالسلام : ولا تنفس .. أي لا ترغب إلى من يرغب إليها بل ترميه بالنوائب.
قوله عليهالسلام : من غلب عليها ... أي من غلب إليها وأخذها قهرا فسوف تغلب الدنيا عليه ، أو
المراد بمن غلب عليها من أراد الغلبة عليها.
قوله عليهالسلام : في غض نعمة ... أي في نعمة غضة : طرية .
قوله عليهالسلام : ليس بظلام ... أي لو فعله الله بقوم لفعله بالجميع ، لأن حكمه في الجميع
واحد ، فيكون ظلاما ، أو المعنى إن ذلك ظلم شديد ، ويقال : فزعت إليه فأفزعني ..
أي استغثت إليه فأغاثني .
والوله : الحزن
والحيرة والخوف وذهاب العقل حزنا .
والشارد : النافر .
__________________
قوله عليهالسلام : في فترة ... الفترة : الانكسار والضعف وما بين الرسولين ، وكنى عليهالسلام بها هنا عن أمر الجاهلية .. أي إني لأخشى أن يكون أحوالكم في التعصبات
الباطلة والأهواء المختلفة كأحوال أهل الجاهلية.
قوله عليهالسلام : ملتم فيها ميلة ... إشارة إلى ميلهم عنه عليهالسلام إلى الخلفاء الثلاثة.
وقول ابن أبي
الحديد ـ إشارة إلى اختيارهم عثمان يوم الشورى ـ يبطله قوله عليهالسلام : أمور وغير ذلك.
قوله عليهالسلام : ولئن رد عليكم ... أي أحوالكم التي كانت أيام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قوله عليهالسلام : ولو أشاء ... أي لو أشاء أن أقول فيما ملتم عن الحق ونبذتم الآخرة وراء
ظهوركم بلفظ صريح لقلت ، لكني طويت عن ذكره وأعرضت عنه لعدم المصلحة فيه ، ولم أصرح
بكفركم وما يكون إليه مصير أمركم وما أكننتم وأخفيتم في ضمائركم لذلك.
وقوله عليهالسلام : ( عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ ) ... أي عفا عمن
تاب وأناب ورجع ، ويحتمل أن يكون من الدعاء الشائع في أواخر الخطب ، كقوله عليهالسلام : غفر الله لنا ولكم .. وأمثاله ، وهذه الأدعية مشروطة بشرائط ، وقيل :يحتمل
أن يكون المعنى لو أشاء أن أقول قولا يتضمن العفو عنكم لقلت ، لكني لا أقول ذلك ،
إذ لا مجال للعفو هنا ، ولا يخفى بعده ..
__________________
١٩
ـ نهج : قال عليهالسلام : لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى .
وهذا القول من لطيف الكلام
وفصيحه ، ومعناه إنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء ، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير ،
كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما .
٢٠
ـ نهج : ومن خطبة له عليهالسلام : وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده ، ويعرف غوره ونجده. داع دعا ، وراع رعى ،
فاستجيبوا للداعي ، واتبعوا الراعي ، قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع
دون السنن ، وأرز المؤمنون ، ونطق الضالون المكذبون ، نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة
والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ، فمن أتاها من غير
أبوابها سمي سارقا.
__________________
منها : فيهم كرائم
القرآن وهم كنز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا ، فليصدق
رائد أهله ، وليحضر عقله ، وليكن من أبناء الآخرة ، فإنه منها قدم وإليها ينقلب ،
فالناظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له؟ فإن كان له مضى فيه ، وإن
كان عليه وقف عنه ، فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزيده
بعده عن الطريق إلا بعدا من حاجته ، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق
الواضح ، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع؟ واعلم أن لكل ظاهر باطنا على مثاله ، فما
طاب ظاهره طاب باطنه ، وما خبث ظاهره خبث باطنه ، وقد قال الرسول الصادق صلىاللهعليهوآله : إن الله يحب العبد ويبغض عمله ، ويحب العمل ويبغض بدنه.
واعلم أن كل عمل
نبات ، وكل نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة ، فما طاب سقيه طاب غرسه ،
وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه خبث غرسه ، وأمرت ثمرته.
توضيح
: قال الجوهري : الناظر من المقلة : السواد
الأصغر الذي فيه إنسان العين .. أي أن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التي تجري
إليها ويعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا شريفا أو منخفضا ساقطا.
__________________
والنجد : المرتفع
من الأرض ، ولعل المراد بالداعي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبالراعي نفسه عليهالسلام.
وقوله عليهالسلام : قد خاضوا .. كلام منقطع عما قبله ومتصل بكلام أسقطه السيد رضياللهعنه تقية للتصريح بذم الخلفاء الثلاثة فيه.
وأرز ـ بالفتح
والكسر ـ : انقبض .
والمؤمنون : هو عليهالسلام وشيعته ، والضالون خلفاء الجور وأتباعهم.
وقال ابن أبي
الحديد في قوله عليهالسلام : والخزنة والأبواب .. أي خزنة العلم
وأبوابه ، أو خزنة الجنة وأبوابها.قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد الحكمة فليأت
الباب.
وقال فيه : خازن
علمي.
وتارة أخرى : عيبة
علمي.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم في الخبر المستفيض إنه : قسيم الجنة والنار ، يقول للنار هذا
لي فدعيه ، وهذا لك فخذيه.
ثم ذكر أربعة وعشرين
حديثا من فضائله صلوات الله عليه من طرق
__________________
المخالفين.
قوله عليهالسلام : فيهم كرائم القرآن ... ضمير الجمع راجع إلى آل محمد عليهمالسلام الذين عناهم عليهالسلام بقوله : نحن
الشعار ، والمراد بكرائم القرآن : مدائحهم التي ذكرها الله فيه ، أو علومه
المخزونة عندهم ، وهم كنوز الرحمن .. أي خزائن علومه وحكمه وقربه.
قوله عليهالسلام : لم يسبقوا ... أي ليس صمتهم عن عي وعجز حتى يسبقهم أحد ، بل لمحض الحكمة.
قوله عليهالسلام : فليصدق رائد أهله ... يحتمل أن يكون المراد بالرائد الإنسان نفسه ، فإنه
كالرائد لنفسه في الدنيا يطلب فيه لآخرته ماء ومرعى .. أي لينصح نفسه ولا يغشها
بالتسويف والتعليل ، أو المعنى ليصدق كل منكم أهله وعشيرته ومن يعنيه أمره ،
وليبلغهم ما عرف من فضلنا وعلو درجتنا .
قوله : فإنه منها
قدم ... لخلق روحه قبل بدنه من عالم الملكوت ، أو لخروج أبيهم من الجنة.
وقيل : الآخرة :
الحضرة الإلهية التي منها مبدأ الخلق وإليها معادهم.
فالناظر بالقلب ..
أي من لا يقتصر في نظره على ظواهر الأمور.
العامل بالبصر ..
أي من يعمل بما يبصر بعين بصيرة .. أي إذا علم الحق لا يتعداه.
ويروى : العالم
بالبصر .. أي من كان إبصاره سببا لعلمه.
قوله عليهالسلام : واعلم أن لكل ظاهر باطنا.
أقول
: قد يتوهم التنافي
بين هاتين الكلمتين وبين الخبر المروي ظاهرا ، ويخطر بالبال دفعه بوجوه :
__________________
الأول
: أن يكون الخبر في
قوة الاستثناء لبيان أن المقدمتين ليستا كليتين ، بل هما لبيان الغالب ، وقد يتخلف
كما ورد في الخبر.
الثاني
: أن يكون الخبر
استشهادا للمقدمتين ، وبيانه إن العمل ظاهرا وباطنا ، وللشخص ظاهرا وباطنا ، وظاهر
الشخص مطابق لباطنه ، ولذا يحب الله ظاهر الشخص لما يعلم من حسن باطنه وعاقبته ،
ويبغض ظاهر الشخص إذا علم سوء باطنه ورداءة عاقبته.
الثالث
: أن يكون المراد
أنه لا يمكن أن لا يظهر سوء الباطن من الأخلاق الردية والاعتقادات الباطلة
والطينات الفاسدة وإن كان في آخر العمر ، ولا حسن الباطن من الأخلاق الحسنة
والاعتقادات الحقة والطينات الطيبة ، فالذي يحبه الله ويبغض عمله ينقلب
حاله في آخر العمر ويظهر منه حسن العقائد والأعمال ، وكذا العكس ، فظهر أن حسن
الباطن والظاهر متطابقان وكذا سوؤهما ، ولعل ما يذكر بعده يؤيد هذا الوجه في
الجملة.
الرابع
: ما ذكره ابن أبي
الحديد ، حيث قال : هو مشتق من قوله تعالى :
( وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) ، والمعنى إن
لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة
أمرا باطنا يناسبها من أحواله ، والحالتان الظاهرتان : ميله إلى العقل وميله إلى
الهوى ، فالمتبع لعقله يرزق السعادة والفوز ، فهذا هو الذي طاب ظاهره وطاب باطنه
، والمتبع لمقتضى هواه .. يرزق الشقاوة والعطب ، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث
باطنه.
__________________
الخامس
: ما قيل : إن
المراد بطيب الظاهر حسن الصورة والهيئة وبخبثه قبحهما ، وقال : هما يدلان على حسن
الباطن وقبحه ، وحمل خبث العبد مع قبح الفعل على ما إذا كان مع حسن الصورة والآخر
على ما إذا كان مع قبح الصورة.
ولا يخفى بعد ولعل الأول أظهر
الوجوه.
وأمرت .. أي صارت
مرا ..
٢١
ـ نهج : من كلام له عليهالسلام وقد قال لي قائل : إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص!! فقلت : بل
أنتم والله أحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون
بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه. فلما قرعته بالحجة في الملإ الحاضرين بهت لا يدري
ما يجيبني به. اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم
منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا إن في الحق أن نأخذه وفي الحق أن
تتركه.
__________________
بيان :
قال ابن أبي
الحديد : هذا الفصل من خطبة يذكر فيها أمر الشورى ، والذي قال له :
إنك على هذا الأمر لحريص! هو سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه :
(
أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ، وهذا عجيب ، وقد رواه الناس كافة.
وقالت الإمامية :
هذا الكلام كان يوم السقيفة ، والقائل أبو عبيدة بن الجراح.
وقرعته بالحجة :
صدمته بها .
قوله عليهالسلام : بهت .. في بعض النسخ : هب .. أي استيقظ .
وقال الجوهري :
العدوى : طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك .. أي ينتقم منه ، يقال : استعديت على
فلان الأمير فأعداني : استعنت به فأعانني عليه .
فإنهم قطعوا رحمي
.. لأنهم لم يراعوا قربه عليهالسلام من رسول الله صلى
__________________
الله عليه وآله أو
منهم ، أو الأعم.
ألا إن في الحق أن
نأخذه ـ بالنون ـ وفي الحق أن تتركه ـ بالتاء ـ .. أي إنهم لم يقصروا على أخذ
حقي ساكتين عن دعوى كونه حقا لهم ، ولكنهم أخذوه مع دعواهم أن الحق لهم ، وأنه يجب
علي أن أترك المنازعة فيه ، فليتهم أخذوا معترفين بأنه حق لي ، فكانت المصيبة
أهون.
وروي بالنون فيهما
، فالمعنى إنا نتصرف فيه كما نشاء بالأخذ والترك دونك.
وفي بعض النسخ
فيهما بالتاء .. أي يعترفون أن الحق لي ثم يدعون أن الغاصب أيضا على
الحق ، أو يقولون لك الاختيار في الأخذ والترك ، وكذا في الرواية الأخرى قرئ
بالنون وبالتاء .
وقال القطب
الراوندي : إنها في خط الرضي رضياللهعنه بالتاء .. أي إن وليت كانت ولايتك حقا ، وإن ولي غيرك كانت حقا
على مذهب أهل الاجتهاد ..
٢٢
ـ نهج : ومن كلام له عليهالسلام : اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قد قطعوا رحمي ، وأكفئوا إنائي ، وأجمعوا على
منازعتي حقا كنت
__________________
أولى به من غيري ،
وقالوا : ألا إن في الحق أن نأخذه وفي الحق أن نمنعه ، فاصبر مغموما أو مت متأسفا ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا
ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنية ، فأغضيت على القذى ،
وجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم ، وألم للقلب من حز
الشفار.
بيان :
قال الجوهري :
كفأت الإناء : كببته وقلبته ، فهو مكفوء. وزعم ابن الأعرابي أن أكفأته لغة ، ويروى : كفوا ـ
بدون الهمزة ـ وهو أفصح.
وقال الجوهري :
رفدته أرفده رفدا : .. إذا أعنته .. ، والإرفاد ... الإعانة .
وقال : الذب :
الدفع والمنع .
وقال : ضننت
بالشيء .. : بخلت به ... وقال الفراء : ضننت ـ بالفتح ـ .. لغة فيه .
والإغضاء : أدناء
الجفون ، والقذى في العين : ما يسقط فيها فيؤذيها .
والشجا : ما ينشب
في الحلق من عظم وغيره .
__________________
والعلقم : شجر مر
، ويقال للحنظل ، وكل شيء مر : علقم .
والحز : القطع ،
حزه واحتزه : قطعه .
والشفرة ـ بالفتح
ـ السكين العظيم ، والجمع شفار ..
٢٣
ـ نهج : من كلامه عليهالسلام : وا عجباه أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة؟!.
قال السيد رضي
الله عنه : وروي له عليهالسلام شعر في هذا المعنى ، وهو قوله :
فإن كنت بالشورى
ملكت أمورهم
|
|
فكيف بهذا
والمشيرون غيب
|
وإن كنت بالقربى
حججت خصيمهم
|
|
فغيرك أولى
بالنبي وأقرب
|
بيان :
قوله عليهالسلام : فكيف بهذا .. أي كيف تملكها بهذا.
قوله عليهالسلام : خصيمهم .. أي من كان خصما لك منهم في دعوى الخلافة.
وقال ابن أبي
الحديد : حديثه عليهالسلام في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر وعمر ، أما النثر
فموجه إلى عمر لأن أبا بكر لما قال لعمر : امدد يدك.
__________________
قال له عمر : أنت
صاحب رسول الله (ص) في المواطن كلها شدتها ورخائها فامدد أنت يدك. فقال علي عليهالسلام : إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن .. فهلا سلمت الأمر إلى
من قد شركه في ذلك ، وقد زاد عليه بالقرابة؟!.
وأما النظم :
فموجه إلى أبي بكر ، لأنه حاج الأنصار في السقيفة فقال :
نحن عترة رسول الله (ص)
وبيضته التي تفقأت عنه ، فلما بويع احتج على الناس بالبيعة ، وأنها صدرت عن
أهل الحل والعقد ، فقال علي عليهالسلام : أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه ، وأما احتجاجك بالاختيار ورضى الجماعة ، فقد كان قوم من
أجلة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد ، فكيف ثبت ؟! ..
٢٤
ـ نهج : قال عليهالسلام : فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي : مستأثرا علي ، منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى يوم الناس هذا.
٢٥
ـ نهج : من كلامه عليهالسلام : فنظرت فإذا ليس معين إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى
، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم.
__________________
٢٦ ـ وقال رضي
الله عنه في موضع آخر : قالوا : لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليهالسلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال عليهالسلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير.
قال عليهالسلام : فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلىاللهعليهوآله وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا : وما
في هذا من الحجة عليهم؟.
قال عليهالسلام : لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم.
ثم قال عليهالسلام : فما ذا قالت قريش؟!. قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول (ص).
فقال عليهالسلام : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة! ..
بيان :
الكظم ـ بفتح
الظاء ـ مخرج النفس .
قوله عليهالسلام : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة .. المراد بالثمرة إما الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والإضاعة عدم اتباع نصبه ، أو أمير المؤمنين وأهل البيت عليهمالسلام تشبيها له صلىاللهعليهوآلهوسلم بالأغصان ، أو اتباع الحق الموجب للتمسك به دون غيره كما
قيل ، والغرض إلزام قريش بما تمسكوا به من قرابته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن تم فالحق لمن هو أقرب وأخص ، وإلا فالأنصار
__________________
على دعواهم.
٢٧
ـ نهج : من كلامه عليهالسلام ـ لما عزموا على بيعة عثمان ـ : لقد علمتم أني أحق بها من غيري ، وو
الله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة ، التماسا لأجر
ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه .
بيان :
قوله عليهالسلام : أني أحق بها .. أي بالخلافة والتفضيل ، كما في قوله تعالى : ( قُلْ أَذلِكَ
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) ، والجور عليه عليهالسلام خاصة غصب حقه ، وفيه دلالة على أن خلافة غيره جور مطلقا ،
والتسليم على التقدير المفروض ـ وهو سلامة أمور المسلمين ـ وإن لم يتحقق الفرض ـ لرعاية مصالح
الإسلام والتقية. والتماسا مفعولا له للتسليم.
والتنافس : الرغبة
في النفيس المرغوب للانفراد به .
والزخرف ـ بالضم ـ
: الذهب وكمال حسن الشيء .
والزبرج ـ بالكسر
ـ الزينة .
٢٨
ـ نهج : ومن خطبة له عليهالسلام : .. بعث رسله بما خصهم به
__________________
من وحيه ، وجعلهم
حجة له على خلقه ، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم ، فدعاهم بلسان الصدق
إلى سبيل الحق ، ألا إن الله قد كشف الحق كشفة ، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون
ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم ( أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً ) ، فيكون الثواب جزاء ، والعقاب بواء.
أين الذين زعموا
أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا؟! أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا
وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى : إن
الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة
من غيرهم.
منها : آثروا
عاجلا ، وأخروا آجلا ، وتركوا صافيا ، وشربوا آجنا ، كأني أنظر إلى فاسقهم وقد صحب
المنكر فألفه ، وبسئ به ووافقه حتى شابت عليه مفارقه ، وصبغت به خلائقه ، ثم أقبل
مزبدا كالتيار لا يبالي ما غرق ، أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق ، أين
العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ، والأبصار اللامحة إلى منار التقوى؟ أين القلوب
التي وهبت لله! وعوقدت على طاعة الله؟
ازدحموا على الحطام ،
وتشاحوا على الحرام ، ورفع لهم علم الجنة والنار فصرفوا عن الجنة وجوههم ، وأقبلوا
إلى النار بأعمالهم ، دعاهم ربهم فنفروا وولوا ، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا!.
إيضاح
: الكشف .. أريد به هنا الابتلاء الذي هو سببه. وقال في
النهاية :
الجراحات بواء .. أي سواء
في القصاص .. ومنه حديث علي عليهالسلام ،
__________________
والعقاب بواء ،
وأصل البواء : اللزوم .
أين الذين زعموا ..؟
أي الخلفاء الجائرون المتقدمون.
قوله عليهالسلام : إن رفعنا الله .. تعليل لدعوتهم الكاذبة .. أي كانت العلة الحاملة لهم على هذا الكذب أن
الله رفع قدرنا في الدنيا والآخرة وأعطانا ..
أي الملك والنبوة ،
وأدخلنا .. أي في دار قربه وعناياته الخاصة. وإن هاهنا للتعليل .. أي لأن ، فحذف
اللام ، ويحتمل أن يكون المعنى أين الذين زعموا عن أن يروا أن رفعنا الله وأورثنا
الخلافة ووضعهم بأخذهم بأعمالهم السيئة.
والبطن : ما دون
القبيلة وفوق الفخذ .
قوله عليهالسلام : لا تصلح على سواهم ... أي لا يكون لها صلاح على يد غيرهم ، ولا يكون الولاة
من غيرهم صالحين.
والآجن : الماء
المتغير .
قوله عليهالسلام : كأني أنظر ... قال ابن أبي الحديد : هو إشارة إلى قوم يأتي من الخلف بعد
السلف .
قيل : والأظهر أن
المراد بهم من تقدم ذكرهم من الخلفاء وغيرهم من ملاعين الصحابة ، كما قال عليهالسلام ـ في الفصل السابق ـ : أين الذين زعموا؟
فيكون قوله عليهالسلام : كأني أنظر .. إشارة إلى ظهور اتصافهم بالصفات حتى كأنه يراه عيانا.
__________________
وقال في النهاية :
بسأت ـ بفتح السين وكسرها ـ : أي اعتادت واستأنست .
شابت عليه مفارقه
.. أي ابيض شعره وفني عمره في صحبة المنكر.
وصبغت به خلائقه
.. أي صار المنكر عادته حتى تلونت خلائقه به .
والتيار : موج
البحر ولجته.
وكلمة ثم للترتيب
الحقيقي أو الذكرى ، ولعل المراد بالفاسق : عمر.
وقوله عليهالسلام : لا يحفل .. أي لا يبالي ، واللامحة : الناظرة .
٢٩
ـ نهج : من خطبة له عليهالسلام في الملاحم : وأخذوا يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغي ، وتركا لمذاهب الرشد ، فلا تستعجلوا ما هو
كائن مرصد ، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد ، فكم من مستعجل بما إن أدركه ود أنه لم
يدركه ، وما أقرب اليوم من تباشير غد. يا قوم! هذا إبان ورود كل موعود ،
__________________
ودنو من طلعة ما لا
تعرفون ، ألا وإن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير ، ويحذوا فيها على
مثال الصالحين ، ليحل فيها ربقا ، ويعتق رقا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا ، في سترة عن الناس ، لا يبصر
القائف أثره ولو تابع نظره ، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل ، تجلى بالتنزيل
أبصارهم ، ويرمى بالتفسير في مسامعهم ، ويغبقون كأس الحكمة بعد
الصبوح.
منها : وطال الأمد
بهم ليستكملوا الخزي ويستوجب [ يستوجبوا ] الغير ، حتى إذا اخلولق الأجل ، واستراح قوم إلى الفتن ،
واشتالوا عن لقاح حربهم ، لم يمنوا على الله بالصبر ، ولم يستعظموا
بذل أنفسهم في الحق ، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء ، حملوا بصائرهم على
أسيافهم ، ودانوا لربهم بأمر واعظهم ، حتى إذا قبض الله رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير
الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه فبنوه في غير
__________________
موضعه ، معادن كل
خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة . قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا عن السكرة على سنة
من آل فرعون من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين.
بيان :
نصب ( ظعنا ) و (
تركا ) على المصدر والعامل فيهما من غير لفظهما ، أو مصدران قاما مقام الفاعل.
قوله عليهالسلام : مرصد .. على المفعول .. أي مترقب معد لا بد من كونه.
وتباشير كل شيء :
أوائله .
وإبان الشيء ـ بالكسر
والتشديد ـ : وقته وزمانه ، ولعله إشارة إلى ظهور القائم عليهالسلام.
قوله عليهالسلام : إن من أدركها منا ... أي قائم آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وسرى ـ كضرب ـ وأسرى
.. أي سار بالليل .
والربق ـ بالفتح :
شد الشاة بالربق وهو الخيط .
__________________
والصدع : التفريق والشق .
والشعب : الجمع .
قوله عليهالسلام : في سترة ... أشار عليهالسلام به إلى غيبة القائم عليهالسلام.
والقائف : الذي
يتبع الآثار ويعرفها .
وشحذت السكين :
حددته .. أي ليحرصن في تلك الملاحم قوم على الحرب ، ويشحذ عزائمهم في قتل أهل
الضلال كما يشحذ القين ـ وهو الحداد النصل : كالسيف وغيره .
ويجلى بالتنزيل :
.. أي يكشف الرين والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وإلهامهم تفسيره
ومعرفة أسراره ، وكشف الغطاء عن مسامع قلوبهم.
والغبوق : الشرب
بالعشي ، تقول منه غبقت الرجل أغبقه ـ بالضم فاغتبق هو .. أي تفاض عليهم
المعارف صباحا ومساء ، والقوم : أصحاب القائم عليهالسلام.
قوله عليهالسلام : وطال الأمد بهم ... هذا متصل بكلام قبله لم يذكره
__________________
السيد رضياللهعنه ، والأمد : الغاية .
والغير : اسم من
قولك غيرت الشيء فتغير .. أي تغير الحال وانتقالها من الصلاح إلى الفساد .
واخلولق الأجل ..
أي قرب انقضاء أمرهم ، من اخلولق السحاب ..
أي استوى وصار خليقا بأن
يمطر ، واخلولق الرسم : استوى بالأرض .
واستراح قوم .. أي
مال قوم من شيعتنا إلى هذه الفئة الضالة واتبعوها تقية أو لشبهة
دخلت عليهم.
واشتالوا .. أي
رفعوا أيديهم وسيوفهم ، واستعار اللقاح ـ بفتح اللام لإثارة الحرب
لشبهها بالناقة.
وقوله عليهالسلام : حتى إذا قبض الله .. لعله منقطع عما قبله إلا أن يحمل ( من طال
الأمد بهم ) في الكلام المتقدم على من كان من أهل الضلال قبل الإسلام ، ولا يخفى
بعده.
وبالجملة ، الكلام
صريح في شكايته عليهالسلام عن [ كذا ] الذين غصبوا الخلافة منه.
__________________
وغالتهم السبل ..
أي أهلكتهم .
ووصلوا غير الرحم
.. أي غير رحم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والسبب الذي أمروا
بمودته أهل البيت عليهمالسلام كما قال النبي صلىاللهعليهوآله : خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي حبلان ممدودان من
السماء إلى الأرض لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .
كل ضارب في غمرة
.. أي سائر في غمرة الضلالة والجهالة.
قد ماروا في
الحيرة .. أي ترددوا واضطربوا فيها .
والمنقطع إلى
الدنيا : هو المنهمك في لذاتها والمفارق للدين هو الزاهد الذي يترك الدنيا للدنيا ، أو
يعمل على الضلالة والردى ، وسيأتي فيما سنورده من كتبه عليهالسلام وغيرها ما هو صريح في الشكاية.
٣٠
ـ منها : ما كتب عليهالسلام في كتاب له إلى معاوية : وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله سبحانه : ( وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
__________________
وَهذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) فنحن مرة أولى
بالقرابة وتارة بالطاعة ، ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله
صلىاللهعليهوآله فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم
، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم .
وقلت إني كنت أقاد
كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح
فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولا مرتابا
بيقينه ...
٣١
ـ ومنها : ما كتب عليهالسلام في جواب عقيل : .. فدع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال ،
وتجوالهم في الشقاق ، وجماحهم في التيه ، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلىاللهعليهوآله قبلي فجزت قريشا عني الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمي.
__________________
وفي كتاب الإمامة
والسياسة لابن قتيبة : فإن قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على حرب رسول الله صلى
الله عليه [ وآله ] قبل اليوم ..
٣٢
ـ ومنها : ما كتب عليهالسلام في كتاب له إلى أهل مصر ـ وهم العمدة في قتل عثمان ـ : من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه وذهب بحقه وضرب الجور سرادقه على البر
والفاجر والمقيم والظاعن ، فلا معروف يستراح إليه ولا منكر يتناهى عنه ..
٣٣
ـ ومنها : ما كتب عليهالسلام في كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري : .. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما
أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم
الله ...
٣٤
ـ ومنها : ما كتب عليهالسلام في كتاب له إلى أهل مصر : .. فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى في
روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعرج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني
من بعده ...
__________________
٣٥ ـ ثم كتب عليهالسلام بعد ما ذكر بيعة الناس له : .. فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن
الدين وتنهنه ...
٣٦
ـ ومنها : قوله عليهالسلام : قد طلع طالع ولمع لامع ولاح لائح ، واعتدل مائل ، واستبدل الله بقوم قوما
وبيوم يوما وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر ، وإنما الأئمة قوام الله على خلقه
وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل . الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من
أنكرهم وأنكروه ..
٣٧
ـ ومنها : قوله عليهالسلام في البيعة : .. فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي ، وإذا
الميثاق في عنقي لغيري.
وقد مر في هذا
الكتاب وسيأتي من تظلمه عليهالسلام منهم وشكايته عليهالسلام عنهم ، وقدحه فيهم ، لا سيما ما أوردناه في باب غصب
الخلافة ، وباب مثالب الثلاثة ، وباب ما جرى بينه وبين عثمان ، وما
ذكره في الإحتجاج على من يطلب ثاره ، وما ذكره لأبي ذر عند إخراجه .. ما لو أعدناه
لكان أكثر مما أوردنا بكثير ، لكن الأمر على الطالب يسير ، والجرعة تدل على الغدير
، والحبة على البيدر الكبير.
وقد قال ابن أبي
الحديد في شرح قوله عليهالسلام : اللهم إني أستعديك
__________________
على قريش .. قد
روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم واستنجد واستصرخ حتى
سئموه الحضور والبيعة ، وأنه قال ـ وهو يشير إلى القبر ـ :
ي : ( ابْنَ
أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) وأنه قال : وا
جعفراه! ولا جعفر لي اليوم ، وا حمزتاه! ولا حمزة لي اليوم.
وقال في شرح قوله عليهالسلام : وقد قال لي قائل : إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص ، وهو قوله عليهالسلام : إن لنا حقا ، إن نعطه نأخذه وإلا نركب له أعجاز الإبل وإن طال
السرى.
وقد ذكره الهروي
في الغريبين ، وفسره بوجهين .
وقال الجزري في
النهاية : منه حديث علي عليهالسلام : لنا حق .. وذكر الخبر ثم قال : الركوب على أعجاز الإبل
شاق .. أي منعنا حقنا ركبنا مركب المشقة صابرين عليها وإن طال الأمد.
__________________
وقال : ضرب أعجاز
الإبل مثلا لتأخره عن حقه الذي كان يراه له ، وتقدم غيره عليه ، وأنه يصير على ذلك
وإن طال أمده .. أي إن قدمنا للإمامة تقدمنا وإن أخرنا صبرنا على الأثرة وإن طالت
الأيام.
وقيل : يجوز أن
يريدوا إن تمنعه ببذل الجهد في طلبه فعل من يضرب في طلبته أكباد الإبل ولا
يبالي باحتمال طول السرى ، والأولان أوجه ، لأنه سلم وصبر على التأخر ولم يقاتل ،
وإنما قاتل بعد انعقاد الإمامة له . انتهى.
ورواه ابن قتيبة ، وقال : معناه
ركبنا مركب الضيم والذل ، لأن راكب عجز البعير يجد مشقة ، لا سيما إذا تطاول به
الركوب على تلك الحال ، ويجوز أن يكون أراد نصبر على أن نكون أتباعا لغيرنا ، لأن
راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره.
وروى ابن أبي
الحديد أيضا أن فاطمة صلوات الله عليها حرضته يوما على النهوض
والوثوب ، فسمع صوت المؤذن : أشهد أن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال لها : أيسرك زوال هذا النداء من الأرض؟! قالت : لا. قال :
فإنه ما أقول لك.
وروى ـ أيضا ـ ، عن جابر
الجعفي ، عن محمد بن علي عليهماالسلام قال : قال علي عليهالسلام : ما رأيت منذ بعث الله محمدا صلىاللهعليهوآله
__________________
رخاء ، لقد
أخافتني قريش صغيرا وأنصبتني كبيرا حتى قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وكانت الطامة الكبرى ، ( وَاللهُ
الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) ..
وروى ابن قتيبة ـ وهو
من أعاظم رواة المخالفين ـ في كتاب الإمامة والسياسة أن عليا عليهالسلام أتي به أبو بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله! فقيل له : بايع أبا
بكر ، فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، و لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من
الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلىاللهعليهوآله تأخذونه منا أهل البيت غصبا ، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا
الأمر منهم لمكان محمد (ص) منكم؟! فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم
الإمارة ، فأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى
برسول الله (ص) حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم ، وإلا فبوءوا
بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع!. فقال له علي (ع) :
احلب حلبا لك شطره اشدده له اليوم
__________________
يردده عليك غدا ، ثم
قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ، ولا أبايعه. فقال له أبو بكر : فإن لم تبايعني
فلا أكرهك. فقال علي عليهالسلام : يا معشر المهاجرين! الله .. الله لا تخرجوا سلطان
محمد صلىاللهعليهوآله في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ،
وتدفعوا أهله عن مقامه من الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين ـ لنحن أهل
البيت أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فيها القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله
، العالم بسنن رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ثم قال ابن قتيبة : وفي رواية أخرى
: أخرجوا عليا عليهالسلام فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع. فقال : إن أنا
لم أفعل فمه؟!. فقالوا : إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. قال : إذا تقتلون عبد
الله وأخا رسوله.
فقال عمر : أما عبد
الله فنعم ، وأما أخا رسول الله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : ألا
تأمر فيه بأمرك؟. فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي عليهالسلام بقبر رسول الله صلىاللهعليهوآله يصيح ويبكي وينادي ي : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ
الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) ..
ثم ذكر ابن قتيبة
: أنهما جاءا إلى فاطمة عليهاالسلام معتذرين ، فقالت :
نشدتكما بالله ألم تسمعا رسول
الله صلىاللهعليهوآله يقول : رضا فاطمة من
__________________
رضاي وسخط فاطمة
ابنتي من سخطي؟. ومن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟. قالا : نعم ، سمعناه . قالت :
فإني أشهد الله وملائكته
أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي صلىاللهعليهوآله لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله من سخطه
وسخطك يا فاطمة.
ثم انتحب أبو بكر
باكيا تكاد نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعون الله عليك في كل صلاة ،
وأبو بكر يبكي ويقول : والله لأدعون الله لك في كل صلاة أصليها .. ثم خرج
باكيا.
٣٨
ـ وروى أيضا ابن قتيبة أن عليا عليهالسلام قال : فاجز قريشا عني بفعالها ، فقد قطعت رحمي ، وظاهرت
علي ، وسلبتني سلطان ابن عمي ، وسلمت ذلك منها لمن ليس في قرابتي وحقي في الإسلام ، وسابقتي التي لا يدعي
مثلها مدع إلا أن يدعي ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه.
٣٩
ـ وروى أيضا أنه قال للحسن عليهماالسلام : وايم الله ـ يا بني ما زلت مظلوما مبغيا علي منذ
هلك جدك صلىاللهعليهوآله.
__________________
٤٠
ـ وروى ابن أبي الحديد أن عليا عليهالسلام قال : ـ وقد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم ـ ، فقال : هلم
فلنصرخ معا ، فإني ما زلت مظلوما.
٤١ ـ وقال : قال علي عليهالسلام : ما زلت مستأثرا علي مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه.
٤٢ ـ وقال عليهالسلام : اللهم اجز قريشا فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري .
٤٣ ـ وروى أيضا ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا عليهالسلام يقول : اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي ، وغصبوني حقي ، وأجمعوا
على منازعتي أمرا كنت أولى به.
٤٤
ـ و عن الشعبي ، عن شريح بن هانئ ، قال : قال علي عليهالسلام : اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي ووضعوا إنائي ، وصغروا
عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي.
٤٥
ـ وروى السيد ابن طاوس في كتاب الطرائف من الصحيحين
__________________
والجمع بينهما للحميدي بإسنادهم
عن مالك بن أوس قال : قال عمر للعباس وعلي عليهالسلام ما هذا لفظه : فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوآله قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله .. فجئتما ، أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ،
ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ..
فقال أبو بكر :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ،
فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق؟! ثم
توفي أبو بكر فقلت : أنا ولي رسول الله صلىاللهعليهوآله وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا؟!
والله يعلم إني لصادق بار تابع للحق! فوليتها ، ثم جئت أنت وهذا وأنتما جميع
وأمركما واحد فقلتما : ادفعها إلينا.
أقول: قد رأيت هذا الخبر في الصحيحين وحكاه في جامع
الأصول عنهما وعن الترمذي والنسائي وأبي داود ، عن الحميدي بألفاظ مختلفة ..
من أراد الاطلاع عليه
فليراجعه.
__________________
٤٦
ـ وقال السيد المرتضى علم الهدى رضي الله عنه في الشافي : قد روى جميع
أهل السير أن أمير المؤمنين عليهالسلام والعباس لما تنازعا في الميراث وتخاصما إلى عمر ، قال عمر
: من يعذرني من هذين ، ولي أبو بكر . فقالا : عق وظلم ، والله يعلم أنه كان برا تقيا ، ثم وليت
فقالا : عق وظلم . وغير خاف عليهم وإنما كانوا يجاملونه ويجاملهم .
٤٧
ـ وروى أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه ، قال : كتب
معاوية إلى علي عليهالسلام : أما بعد ، فإن الحسد عشرة أجزاء تسعة منها فيك وواحد
منها في سائر الناس ، وذلك أنه لم يل أمور هذه الأمة أحد بعد النبي صلى الله
عليه [ وآله ] إلا وله قد حسدت ، وعليه تعديت ، وعرفنا ذلك منك في النظر الشزر ، وقولك الهجر ،
وتنفسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى البيعة كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع وأنت
كاره ، ثم إني لا أنسى فعلك بعثمان بن عفان على قلة الشرح والبيان ، وو الله الذي
لا إله إلا هو لنطلبن قتلة
__________________
عثمان في البر والبحر
والجبال والرمال حتى نقتلهم أو لنلحقن أرواحنا بالله ، والسلام.
فكتب إليه علي عليهالسلام : أما بعد ، فإنه أتاني كتابك تذكر فيه حسدي للخلفاء ، وإبطائي عليهم ،
والنكير لأمرهم فلست أعتذر من ذلك إليك ولا إلى غيرك ، وذلك أنه لما قبض
النبي صلى الله عليه [ وآله ] واختلف الأمة ، قالت قريش : منا الأمير ، وقالت
الأنصار : بل منا الأمير ، فقالت قريش : محمد صلى الله عليه [ وآله ] منا ، ونحن أحق
بالأمر منكم ، فسلمت الأنصار لقريش الولاية والسلطان ، فإنما تستحقها قريش بمحمد
صلى الله عليه [ وآله ] دون الأنصار ، فنحن أهل البيت أحق بهذا من غيرنا .. إلى
قوله عليهالسلام :
وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني
في الوقت الذي بايع الناس فيه أبا بكر ، فقال لي : أنت أحق بهذا الأمر من غيرك ،
وأنا يدك على من خالفك ، وإن شئت لأملأن المدينة خيلا ورجلا على ابن أبي قحافة ،
فلم أقبل ذلك ، والله يعلم أن أباك قد فعل ذلك فكنت أنا الذي أبيت عليه مخافة
الفرقة بين أهل الإسلام ، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه لي فقد أصبت رشدك ،
وإن أبيت فها أنا قاصد إليك ، والسلام ..
٤٨
ـ وروى ابن أبي الحديد ، عن الكلبي قال : لما أراد علي عليهالسلام
__________________
المسير إلى البصرة
، قام فخطب الناس ، فقال ـ بعد أن حمد الله وصلى على رسوله صلىاللهعليهوآله ـ : .. إن الله لما قبض نبيه صلىاللهعليهوآله استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من
الناس كافة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ،
والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن ، ويعتكه أقل خلف ، فولي الأمر قوم
لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله ولي تمحيص سيئاتهم
، والعفو عن هفواتهم .
٤٩
ـ وروى ـ أيضا ـ ، عن علي بن محمد المدائني ، عن عبد الله بن جنادة ، قال
: قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي عليهالسلام ، فمررت بمكة فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة ، فدخلت مسجد رسول
الله صلىاللهعليهوآله إذا نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وخرج علي عليهالسلام متقلدا سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فحمد الله وصلى على رسوله صلى الله
__________________
عليه وآله ، ثم
قال :
أما بعد ، فإنه
لما قبض الله نبيه صلىاللهعليهوآله قلنا : نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس ، لا
ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انتزى لنا قومنا
فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الإمرة لغيرنا ، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف
ويتغزر علينا الذليل ، فبكت الأعين منا لذلك ، وخشنت الصدور ، وجزعت
النفوس ، وايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور
الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه ، فولي الناس ولاة لم يألوا
الناس خيرا ، ثم استخرجتموني ـ أيها الناس ـ من بيتي فبايعتموني ..
٥٠ ـ وقال السيد
الجليل ابن طاوس في كتاب الطرائف : روى أبو بكر أحمد بن مردويه في كتابه ـ وهو
من أعيان أئمتهم ـ ، ورواه أيضا المسمى عندهم صدر الأئمة أخطب خطباء خوارزم موفق
بن أحمد المكي ثم الخوارزمي في كتاب الأربعين ، قال : عن الإمام الطبراني ، عن سعيد الرازي
، عن محمد بن حميد ، عن زافر بن سليمان ، عن الحارث بن محمد ، عن أبي الطفيل ، قال : كنت على
الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم ، فسمعت عليا عليه
__________________
السلام يقول :
بايع الناس أبا بكر وأنا ـ والله ـ أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت
مخافة أن يرجع القوم كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم بايع أبا [ أبو ] بكر لعمر وأنا أولى
بالأمر منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع القوم كفارا ، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا
عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع .
٥١ ـ وفي رواية
أخرى رواها ابن مردويه أيضا .. وساق قول علي بن أبي طالب عليهالسلام عن مبايعتهم لأبي بكر وعمر كما ذكره في الرواية المتقدمة سواء ، إلا أنه قال
في عثمان : ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع ، إن عمر جعلني
في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا في الصلاح ولا يعرفونه لي ، كأنما نحن فيه
شرع سواء ، وايم الله لو أشاء أن أتكلم لتكلمت ثم لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم ولا
المعاهد منكم ولا المشرك رد خصلة منها ، ثم قال :
أنشدكم الله أيها الخمسة
أمنكم أخو رسول الله غيري؟! قالوا : لا .. .
،
ثم ساق الحديث في ذكر مناقبه عليهالسلام إلى آخر ما سيأتي في باب الشورى بأسانيد جمة وطرق مختلفة.
ثم قال السيد رضياللهعنه : ومن طرائف ما نقلوه في كتبهم المعتبرة برواية رؤسائهم من إظهار علي بن أبي
طالب عليهالسلام الكراهية من تقدم أبي بكر وعمر وعثمان في الخلافة ، وأنه كان أحق بها
منهم بمحضر الخلق الكثير على المنابر وعلى رءوس الأشهاد ما ذكره جماعة من
أهل التواريخ والعلماء .
__________________
٥٢ ـ وذكر ابن عبد
ربه في الجزء الرابع من كتاب العقد ، وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل في الخطبة التي
خطب بها علي بن أبي طالب عليهالسلام عقيب مبايعة الناس له ـ وهي أول خطبة خطبها ـ فقال ، بعد
إشارات ظاهرة وباطنة إلى التألم ممن تقدمه وممن وافقهم ـ ما هذا لفظه ـ : وقد كانت
أمور ملتم فيها عن الحق ميلا كثيرا كنتم فيها غير محمودين.
وقال ابن عبد ربه
: لم تكونوا فيها محمودين ،أما إني لو أشاء أن أقول لقلت ( عَفَا
اللهُ عَمَّا سَلَفَ ) ، سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه ، ويله! لو قص جناحاه وقطع رأسه
لكان خيرا له ، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فاعرفوا ..
ثم يقول في آخرها
ما هذا لفظه ـ على ما حكاه صاحب كتاب العقد ـ : ألا إن الأبرار من عترتي وأطايب
أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا ، ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ،
وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ،
معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا يرد ترة كل مؤمن ، وبنا
تخلع ربقة الذل من أعناقهم ، وبنا فتح ، وبنا يختم .
أقول
: : ومما يؤيد
شكايته عليهالسلام عنهم ما سيأتي من سوء معاشرتهم له عليهالسلام وسعيهم في إطفاء نوره وإضمار ذكره.
__________________
٥٣ ـ وروى ابن أبي
الحديد ، عن ابن عباس أنه قال : دخلت يوما على عمر ، فقال لي : يا
ابن عباس! لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلت [ نحلته ] رياء.
قلت : من هو؟.
قال عمر : الأجلح ـ يعني عليا عليهالسلام ـ.
قلت : وما يقصد
بالرياء يا أمير المؤمنين؟.
قال : يرشح نفسه بين الناس
للخلافة.
قلت : وما يصنع
بالترشيح؟! قد رشحه لها رسول الله صلىاللهعليهوآله فصرفت عنه.
قال : إنه كان
شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه ، وقد كمل الآن ، ألم تعلم أن الله لم يبعث نبيا إلا
بعد الأربعين؟!.
قلت : يا أمير
المؤمنين! أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار
الإسلام ، ولكنهم يعدونه محروما محدودا .
فقال : أما إنه سيليها
بعد هياط ومياط ، ثم تزل فيها قدمه ، ولا يقضي
__________________
فيها إربه ، ولتكونن شاهدا
ذلك يا عبد الله ، ثم يتبين الصبح لذي عينين ، ويعلم العرب صحة رأي المهاجرين
الأولين الذين صرفوكها عنه بادئ بدء ، فليتني أراكم بعدي ـ يا عبد الله ـ إن الحرص
محرمة ، وإن الدنيا كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا ..
قال : ونقلت هذا
الخبر من أمالي محمد بن حبيب .
وروى ـ أيضا ـ عن ابن عباس
أنه قال : خرجت مع عمر إلى الشام فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته ، فقال لي : يا ابن
عباس! أشكو إليك ابن عمك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولا أزال أراه واجدا ،
فبما تظن موجدته ؟.
قلت : يا أمير
المؤمنين! إنك لتعلم.
قال : أظنه لا
يزال كئيبا لفوت الخلافة.
قلت : هو ذاك ،
إنه يزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أراد الأمر له.
فقال : يا ابن
عباس! وأراد رسول الله صلىاللهعليهوآله فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا أراد أمر [ أمرا ] وأراد الله غيره ، نفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله
، أوكلما أراد رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
كان؟! إنه أراد
إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم!.
٥٤ ـ قال : وقد روي معنى
هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة
وانتشار أمر الإسلام ، فعلم رسول الله صلىاللهعليهوآله ما في نفسي وأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم.
أقول
: قد سبق وسيأتي
في أخبار فدك وغيرها ما يؤيد ذلك.
توضيح :
قوله عليهالسلام : وضعوا إنائي ... الظاهر : أكفئوا كما مر ، وعلى تقديره لعل المعنى وضعوا
عندهم للأكل أو ضيعوه وحقروه ، والأصوب : أصغوا ـ كما في بعض النسخ ـ .. أي أمالوه
لينصب ما فيه ، وهذا مثل شائع.
قال الجوهري :
أصغيت إلى فلان : إذا ملت بسمعك نحوه ، وأصغيت الإناء : أملته ، يقال : فلان مصغى
إناؤه : إذا نقص حقه .
وقال في النهاية :
الوطب : الزق الذي يكون فيه السمن واللبن .. ومنه الحديث والأوطاب تمخض
ليخرج زبدها .
__________________
وعتك : اللبن ـ كضرب
ـ : اشتدت حموضته .
والانتزاء : تسرع
الإنسان إلى الشر ، افتعال من النزو ، وهو الوثوب .
والسوقة ـ بالضم ـ
: الرعية ، ومن دون الملك من الناس ، وما يظن أنهم أهل الأسواق فهو وهم.
وقال الفيروزآبادي
: ما زال في هياط ومياط ـ بكسرهما ـ : دنو وتباعد.
وقال : تهايطوا : اجتمعوا
وأصلحوا أمرهم . وقال : المياط ـ ككتاب ـ : الدفع والزجر والميل والإدبار
، وأشد الشوق في الصدر .
تذييل :
أقول
: لا يخفى على
المنصف ـ بعد ما أوردناه من الأخبار. ـ بطلان خلافة الغاصبين زائدا على ما قدمناه
، ولنوضح ذلك بوجوه :
الأول
: إن الجمهور تمسكوا في ذلك بما ادعوه من الإجماع واعترفوا
بعدم النص ، فإذا ثبت تألمه وتظلمه عليهالسلام قبل البيعة وبعدها ثبت عدم انعقاد الإجماع على خلافة أبي
بكر ، وكيف يدعي عاقل ـ بعد الإطلاع على تظلماته عليهالسلام وإنكاره لخلافتهم قبل البيعة وبعدها ـ كونها على وجه الرضا
دون الإجبار والإكراه؟!.
الثاني
: إن إجباره صلوات الله عليه وآله على البيعة على الوجه
الشنيع الذي رويناه من طريق المؤالف والمخالف وتهديده بالقتل ، وتشبيهه عليهالسلام بثعلب يشهد له ذنبه ، وبأم طحال ، وإسناد ملازمة كل فتنة إليه على رءوس
الأشهاد و ..
__________________
غير ذلك من غصب حق
فاطمة عليهاالسلام وما جرى من المشاجرات بينه عليهالسلام وبينهم كما مر وسيأتي ، وأشباه ذلك إيذاء له عليهالسلام وإعلان لبغضه وعداوته وشتم له.
وسيأتي أخبار متواترة من
طرق الخاص والعام تدل على كفر من سبه ونفاق من أبغضه وعاداه ، وأنه عدو الله وعدو
رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا ريب أن الهم بدفع أحد عن مقامه اللائق به
وحطه عن درجته وإتيان ما ينافي احترامه من أشنع المعاداة ، مع أنه قال عمر : إذن
نضرب عنقك ، وكذبه عليهالسلام في دعوى المؤاخاة ..
ولا ريب ذو مسكة
من العقل في أن الكافر والمنافق ومن يحذو حذوهما لا يصلحان لخلافة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٥٥ ـ وقد روى في
المشكاة ـ الذي هو من أصولهم المتداولة اليوم ـ عن زر بن حبيش قال : قال لي علي رضي الله عنه
: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد إلي النبي الأمي صلىاللهعليهوآله أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق .
٥٦ ـ وروى ـ أيضا ـ بأسانيد ، عن
أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يحب عليا عليهالسلام منافق ولا يبغضه مؤمن.
__________________
قال : رواه أحمد والترمذي عنها رض الله عنها أيضا قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من سب عليا عليهالسلام فقد سبني ، قال :رواه أحمد .
٥٧ ـ وروى ابن
شيرويه الديلمي ـ وهو من مشاهير محدثيهم ـ في كتاب الفردوس في باب الميم ،
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من سب عليا عليهالسلام فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله أدخله نار
جهنم ، وله عذاب عظيم.
٥٨ ـ وعن سلمان ، قال : قال
النبي صلىاللهعليهوآله : يا علي! محبك محبي ومبغضك مبغضي.
٥٩ ـ وعن علي عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي! ما يبغضك من الرجال إلا منافق ومن حملته أمه وهي
حائض.
٦٠ ـ وروى أيضا في باب الثاء ،
عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ثلاث من كن فيه فليس مني ولا أنا منه : من أبغض عليا
__________________
ونصب لأهل بيتي ،
ومن قال : الإيمان كلام.
٦١ ـ وروى في جامع
الأصول ، عن أبي سلمة ، قال : إنا كنا لنعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن
أبي طالب [ عليهالسلام ] ،.
قال : أخرجه الترمذي .
٦٢ ـ وعن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يحب عليا [ عليهالسلام ] منافق ولا يبغضه مؤمن ، قال : أخرجه الترمذي .
وعن زر بن حبيش ، قال : سمعت
عليا [ عليهالسلام ] يقول : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي
الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق .
قال : أخرجه مسلم والترمذي والنسائي .
__________________
٦٣ ـ وقال ابن عبد
البر في الإستيعاب ـ وهو من كتبهم المعتبرة المتداولة التي عليها اعتمادهم ـ روت
طائفة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال لعلي عليهالسلام : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق .
٦٤ ـ قال : وكان علي عليهالسلام يقول : والله إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا
منافق .
٦٥ ـ وقال : قال رسول الله
صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني ،
ومن آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله .
٦٦ ـ وقال : روى عمار
الدهني ، عن الزبير ، عن جابر ، قال : ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن
أبي طالب ، ثم قال ـ بعد
ذكر أخبار كثيرة
__________________
أخرى في فضائله عليهالسلام ـ : ولهذه الأخبار طرق صحاح قد ذكرناها في موضعها .
٦٧ ـ روى ابن أبي
الحديد في شرح النهج ، عن شيخه أبي القاسم البلخي ، أنه قال : قد اتفقت الأخبار
الصحيحة التي لا ريب عند المحدثين فيها أن النبي صلىاللهعليهوآله قال لعلي عليهالسلام : لا يبغضك إلا منافق ولا يحبك إلا مؤمن .
أقول : سنورد في المجلد التاسع في أبواب
فضائل أمير المؤمنين عليهالسلام ومناقبه تلك الأخبار وغيرها مما يدل على ما نحن بصدده من طريق
الخاصة والعامة ، وإنما أوردت هاهنا قليلا منها من كتبهم المعتبرة المتداولة لئلا
يحتاج الناظر في هذا المجلد إلى الرجوع إلى غيره ، وكفى في ذلك مما ذكروه متواترا عن
النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال يوم غدير خم : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
الثالث
: إنه عليهالسلام
صرح في كثير من الروايات السالفة بأن الخلافة
__________________
كانت حقا له ،
وإنه كان مظلوما فيها ، فلو كان عليهالسلام يرى إمامتهم حقا وخلافتهم صحيحة ومع ذلك يتألم ويتظلم
ويقول إنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، ويصرح بأنه لو كان له أعوان
لقاتلهم ولم يقعد عن طلب حقه ، لزمه إنكار الحق والرد على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والحسد عليهم ب ( ما آتاهُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ ) ، والجمهور ـ مع علو درجتهم في النصب ـ لا يمكنهم التزام
ذلك ، فبعد ثبوت التألم والتظلم لا تبقى لأحد شبهة في أنه عليهالسلام كان معتقدا لبطلان خلافتهم ، وقد تواترت الأخبار بيننا وبينهم في أنه عليهالسلام لم يفارق الحق ولم يفارقه ـ كما سيأتي في أبواب فضائله عليهالسلام ـ وقد اعترف ابن أبي الحديد وغيره بصحة هذا الخبر بل تواتره.
وقال الشهرستاني في جواب استدلال
العلامة رحمه الله بقوله صلىاللهعليهوآله : اللهم أدر الحق معه حيث ما دار .. وغيره مما سبق
ما هذا لفظه : إن هذا شيء لا يرتاب فيه حتى يحتاج إلى دليل.
وحديث الثقلين
أيضا متواتر كما ستعرف في بابه ، وهو كاف في هذا الباب.
وهل كان غصبهم
الخلافة وصرفها عن أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
قبل دفنه ، وهمهم
بإحراق بيتهم ، وسوقهم لأمير المؤمنين عليهالسلام بأعنف العنف إلى البيعة ، وتكذيبه في شهادته ، ودعوى
المؤاخاة ، وتهديده بالقتل وإيذاءه في جميع المواطن ، وغصب حق فاطمة عليهاالسلام وتكذيبها وقتل ولدها ، وقتل الحسن والحسين صلوات الله عليهما .. من مقتضيات
وصية نبيهم صلىاللهعليهوآلهوسلم فيهم؟!!.
ولعمري ما أظن
عاقلا يرتاب بعد التأمل فيما جرى في ذلك الزمان في أن القول بخلافتهم وخلافته عليهالسلام متناقضان ، وكيف يرضى عاقل بإمامة إمامين يحكم كل منهما بضلال الآخر؟!.
وقد روى محمد بن
جرير الطبري في تاريخه : أن عمر بن الخطاب كان يقول يوم السقيفة : أيها الناس!
بايعوا خليفة الله ، فإن من بات ليلة بغير إمام كان عاصيا ، ولا ريب في تخلفه عليهالسلام عن بيعتهم مدة طويلة كما عرفت.
حكاية ظريفة تناسب المقام :
روى في كتاب
الصراط المستقيم وغيره أن ابن الجوزي قال يوما على منبره : سلوني قبل أن
تفقدوني ، فسألته امرأة عما روي أن عليا عليهالسلام سار في ليلة إلى سلمان فجهزه ورجع؟ فقال : روي ذلك ، قالت
: فعثمان ثم ثلاثة أيام منبوذا في المزابل وعلي عليهالسلام حاضر؟. قال : نعم. قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما. فقال : إن كنت خرجت من بيتك
بغير إذن زوجك فعليك لعنة الله ،
وإلا فعليه. فقالت : خرجت عائشة إلى حرب علي عليهالسلام بإذن النبي
__________________
صلىاللهعليهوآله أو لا؟ فانقطع ولم يحر جوابا.
حكاية أخرى :
قال ابن أبي
الحديد في شرح النهج : حدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية ، قال : كنت
حاضرا عند إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه ـ وكان مقدم الحنابلة ببغداد ـ إذ دخل رجل من
الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه فيه ، واتفق أن حضر
يوم زيارة الغدير ـ والحنبلي المذكور بالكوفة ـ ويجتمع بمشهد
أمير المؤمنين عليهالسلام من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حد الإحصاء.
قال ابن عالية :
فجعل الشيخ إسماعيل يسائل ذلك الرجل ما فعلت ..؟
ما رأيت ..؟ هل وصل مالك
إليك ..؟ هل بقي منه بقية عند غريمك ..؟
و ذلك الرجل يجاوبه ، حتى
قال له : يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر علي بن أبي
طالب من الفضائح والأقوال الشنيعة ، وسب الصحابة جهارا من غير مراقبة
ولا خيفة.
فقال له إسماعيل :
أي ذنب لهم ، والله ما جرأهم على ذلك ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر. فقال
ذلك الرجل : ومن هو صاحب القبر؟.
__________________
قال : علي بن أبي
طالب. قال : يا سيدي! هو الذي سن لهم ذلك وعلمهم إياه وطرقهم إليه؟!. قال : نعم
والله. قال : يا سيدي! فإن كان محقا فما لنا نتولى فلانا وفلانا ، وإن كان مبطلا
فما لنا نتولاه! ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما.
قال ابن عالية :
فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه وقال : لعن الله إسماعيل الفاعل بن الفاعل إن كان يعرف جواب
هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن فانصرفنا.
الرابع
: أن إيذاءه وغصب حقه عليهالسلام على الوجه الذي يكشف تظلماته عنه لا ريب في أنه تخلف عن
أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والروايات من الجانبين متواطئة
على أن المتخلف عنهم هالك ، وأنهم سفينة النجاة ، وسيأتي في بابه
نقلا من كتبهم المعتبرة كالمشكاة وفضائل السمعاني وغيرهما.
٦٨ ـ وقال العلامة
قدسسره في كشف الحق : روى الزمخشري وكان من أشد الناس عنادا لأهل البيت (ع) وهو الثقة المأمون
عند الجمهور بإسناده قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] : فاطمة مهجة قلبي
وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ، وحبل ممدود
بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلف عنهم هوى ..
__________________
تتميم :
ينبغي أن يعلم أن
من أقوى الحجج على خلفائهم الثلاثة إنكار أئمتنا عليهمالسلام لهم ، وقولهم فيهم بأنهم على الباطل ، لاعتراف جمهور علماء
أهل الخلاف بفضلهم وعلو درجتهم ، ولو وجدوا سبيلا إلى القدح فيهم والطعن عليهم
لسارعوا إلى ذلك مكافاة الطعن الشيعة في أئمتهم ، وذلك من فضل الله تعالى على أئمتنا
صلوات الله عليهم ، حيث أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، حتى أن الناصب المعاند
اللغوي الشهرستاني قال في مفتتح شرح كتاب كشف الحق بعد ما بالغ في
ذم المصنف قدس الله روحه ـ : ومن الغرائب أن ذلك الرجل وأمثاله ينسبون مذهبهم إلى
الأئمة الاثني عشر رضوان الله عليهم أجمعين وهم صدور إيوان الاصطفاء ، وبدور سماء
الاجتباء ، ومفاتيح أبواب الكرم ، ومجاريح هواطل النعم ، وليوث غياض البسالة ، وغيوث
رياض الأيالة ، وسباق مضامير السماحة ، وخزان نفوذ الرجاحة ،
والأعلام الشوامخ في الإرشاد والهداية ، والجبال الرواسخ في الفهم والدراية ..
__________________
ثم ذكر . أبياتا أنشدها
في مدحهم ، ثم ذكر أن الأئمة عليهمالسلام كانوا يثنون على الصحابة ، واستشهد برواية نقلها من كتاب
كشف الغمة ، وزعم أن الباقر عليهالسلام سمى فيها أبا بكر : صديقا .
٦٩ ـ وقال صاحب
إحقاق الحق رحمه الله تعالى : إن الحكاية عن كشف الغمة افتراء على صاحبه ، وليس
فيه من الرواية عين ولا أثر .. .
ثم نقل عن الكتاب
المذكور قول الصادق عليهالسلام : ولدني أبو بكر مرتين .
،
وزاد فيه لفظا : الصديق.
__________________
ولا يرتاب عاقل في
أن القول بأن أئمتنا سلام الله عليهم كانوا يرون خلافتهم حقا من الخرافات الواهية
التي لا يقبلها ولا يصغي إليها من له أدنى حظ من العقل والإنصاف ، ولو أمكن القول
بذلك لأمكن إنكار جميع المتواترات والضروريات ، ولجاز لليهودي أن يدعي أن عيسى عليهالسلام لم يدع النبوة بل كان يأمر الناس بالتهود ، وللنصراني أن يقول مثل ذلك في
نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعد ثبوت كون أهل البيت عليهمالسلام ذاهبين إلى بطلان خلافتهم ، وإلى أنهم كانوا ضالين مضلين ،
ثبت بطلان خلافتهم بالإجماع منا ومن الجمهور ، إذ لم يقل أحد من الفريقين بضلال
أهل البيت عليهمالسلام سيما في مسألة الإمامة ، وإذا ثبت بطلانهم ثبت خلافة أمير
المؤمنين عليهالسلام بالإجماع أيضا منا ومنهم ، بل باتفاق جميع المسلمين.
وأما ما حكي من
القول بخلافة العباس فقد صرح جماعة من أهل السير بأنه مما وضعه الجاحظ تقربا إلى
العباسيين ولم يقل به أحد قبل زمانهم ، ومع ذلك فقد انقرض القائلون به ولم يبق منهم
أحد ، فتحقق الإجماع على ما ادعيناه بعدهم.
ويدل على بطلانه ـ
أيضا ـ ما وعده الله على لسان رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم من بقاء الحق إلى يوم الدين ، كما هو المسلم
بيننا وبين المخالفين.
__________________
الفهرس [
الجزء :٢٩ ]
الباب الخامس احتجاج أمير المؤمنين عليهالسلام
على أبي بكر وغيره في أمر البيعة............ ٣
الباب السادس منازعة
أمير المؤمنين صلوات الله عليه العباس في الميراث............... ٦٧
الباب السابع نوادر
الاحتجاج على أبي بكر...................................... ٧٧
الباب الثامن احتجاج
سلمان وأبي بن كعب وغيرهما على القوم..................... ٧٩
الباب التاسع ما كتب
أبو بكر إلى جماعة يدعوهم إلى البيعة وفيه بعض أحوال أبي قحافة ٩١
الباب العاشر إقرار
أبي بكر بفضل أمير المؤمنين وخلافته بعد الغصب................ ٩٩
الباب الحادي العشر
نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل
أمير المؤمنين عليهالسلام بأمر المنافقين..................................................................... ١٠٥
فصل : نورد فيه خطبة
خطبتهاسيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها احتجت بها على من غصب فدك منها. ٢١٥
فصل : في الكلام على
ما يستفاد من أخبار الباب والتنبيه على ما ينتفع به طالب الحق والصواب وهو مشتمل
على فوائد ٣٣٥
الأولى : في عصمة
الزهراء سلام الله عليها................................... ٣٣٥
الثانية : أنها سلام
الله عليها محقة في دعوى فدك.............................. ٣٤٢
الثالثة : فدك نحلة
للزهراء عليهاالسلام ظلمت بمنعها................................ ٣٤٦
الرابعة : بطلان دعوى
أبي بكر من عدم توريث الأنبياء....................... ٣٥١
الباب الثاني عشر
العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليهالسلام فدك لما ولي الناس..... ٣٩٥
الباب الثالث عشر علة
قعوده عليهالسلام عن قتال من تأمر عليه من الأولين ، وقيامه إلى قتال من بغى
عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين ، وعلة إمهال الله من تقدم عليه ، وفيه علة
قيام من قام من سائر الأئمة وقعود من قعد منهم عليهمالسلام ٤١٧
الباب الرابع عشر العلة التي من
أجلها ترك الناس عليا عليهالسلام........................ ٤٧٩
الباب الخامس عشر شكاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه عمن تقدمه من
المتغلبين الغاصبين ٤٩٧
الخطبة الشقشقية............................................................ ٤٩٩
شكايته من الغاصبين......................................................... ٥٤٩
حكاية ظريفة تناسب
المقام.................................................... ٦٤٧
حكاية أخرى............................................................... ٦٤٨
تتميم....................................................................... ٦٥٠
الفهرس ..................................................................... ٦٥٣
|
عن الصادق عليهالسلام قال من جالس لنا عائبا أو مدح لنا قاليا أو واصل لنا قاطعا أو قطع لنا
واصلا أو والى لنا عدوا أو عادى لنا وليا فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني
والقرآن العظيم
بحار الأنوار ٢٧
/ ٥٢ ـ ٥٣ حديث (٤)
وصفحة ٥٥ / باب
١٣ ـ حديث (٧)
وأمالي الشيخ
الصدوق ٣٤ ـ ٣٥
|
|
|