


مقدّمة التّحقيق :
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والتسليم على نبيه المصطفى ، ورسوله المجتبى ، محمّد بن عبد
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعلى أهل بيته الأمناء المعصومين ، حجج الله
تبارك وتعالى على العالمين.
وبعد :
فإنّ من مسلّمات
القول وبديهياته ـ لدى عموم المتشرّعة ـ الايمان القطعي باعتبار الشريعة الاسلامية
المباركة ـ بأحكامها المختلفة ـ ذات سعة وكمال قادرين على استيعاب مطلق الأفعال
الاختيارية لبني الانسان منذ خلقه وحتى وفاته وإيداعه الثرى.
وهذه السعة
والاحاطة تنبعث أساسا من اعتماد القواعد الشرعية ـ أو الأدلة الشرعية ـ التي
تتلخّص بالكتاب والسنّة والاجماع والعقل كأدوات يستفرغ الأصولي جهده في استنباط
الحكم الشرعي لجميع تلك الأفعال بواسطتها ، وهي مهمة شاقة تتطلّب من الفقيه احاطة
بالكثير من العلوم ذات التماس المباشر بعملية الاستنباط تلك :
وتكمن أهمية هذه
الجهود في ترجمة الصلة الموضوعية بين الانسان والدين ، أو بالاحرى بين المخلوق
وخالقه ، من خلال رسم الخط البياني الموضّح لمسيرة ذلك الإنسان وفق الارادة
السماوية ومشيئتها ، وحيث تختلط من دونها الموازين ، وتتداخل أبعادها ، فينحدر من
خلالها ذلك المخلوق نحو الحضيض والاضمحلال.
ولقد كان حضور
المعصوم عليه السلام ـ منذ بدء الدعوة الاسلامية وحتى ابتداء الغيبة الكبرى للامام
المهدي عليه السلام ـ مغنيا عن الحاجة لمثل هذه العملية الشاقة ، بيد أنّ وقوع
الغيبة الكبرى فرضت الحاجة الالزامية لاعتماد الأصول الشرعية من أجل استنباط
الأحكام الشرعية التي تفرزها الحاجات المتجددة للمجتمع الاسلامي مع مرور الزمان.
ولا نغالي إذا
قلنا بأنّ فقهاء الشيعة قد وفقوا على مدّ هذه العصور في تجاوز هذه العقبات من خلال
اعتماد الأصول التي وضعها أئمة أهل البيت : ، واغنوا المكتبة
الاسلامية ببحوثهم ومؤلّفاتهم الثرة والغنية التي لا عدّ لها ولا احصاء.
والكتاب الماثل
بين يدي القارئ الكريم هو ثمرة طيبة من تلك الثمار المباركة لفقهاء الطائفة
الاعلام ، حيث عمد فيه مؤلّفه الشيخ الاصفهاني قدّس سرّه إلى شرح كتاب ( كفاية
الأصول ) للشيخ الخراساني رحمة الله عليه شرحا وافيا مزج فيه بين
الفلسفة والأصول ممّا جعله من أهم الشروح الكثيرة لهذا الكتاب النفيس الذي يعد ـ بلا
شك ـ من أوسع المباحث التي دارت عليها رحى الدراسات العالية الأصولية في الحوزات
العلمية.
__________________
ترجمة
المؤلف :
فربما يكون
التعرّض لترجمة أي علم من الاعلام البارزين من الامور التي تعد بحق من الميادين
الحساسة والدقيقة التي قد يخفق الكثيرون في استيعابها وادراك جم دقائقها رغم سعيهم
ومثابرتهم في تجاوز الانزلاق في هذا الامر والسقوط في ملابساته.
ومن هنا فان المرء
لا يعسر عليه ان يتبين بوضوح هذه الحقائق الشاخصة من خلال مطالعته المتأنية للعديد
من تلك التراجم التي ينبغي ان تكون صورة صادقة عن الشخص المترجم ، وحيث يجد ذلك
التعثر دعوة صادقة لا عادة النظر وتجاوز هذا القصور ، والذي تبدو ابرز علله في
الفهم الخارجي ، والدراسة السطحية لتلك الشخصيات باعتماد التراجم التي تطفح
بالعبارات المكررة والعامة التي لا تلامس الابعاد الذاتية الحقيقية لتلك الشخصية
محل الترجمة.
نعم ، واعتمادا
على هذا التشخيص السليم لهذا السرد وفهم علله المضعفة نجد ان البعض من الباحثين
يركز كثيرا في كتابة وصياغة اي ترجمة على ما سطّره ابناء وتلامذة وملاصقو تلك
الشخصية ، ممّن عايشوا الكثير من الآنات المختلفة ، والنكات الدقيقة الخاصة التي
تخفى قطعا على الكثيرين من الذين تبعد دائرة اتصالهم عن القطب محل البحث.
ومن ثم فانّنا عند
محاولتنا للخوض في غمار الحديث عن واحد من الشخصيات الفذة لعلمائنا الابرار ، من
الذين تركوا الكثير من الآثار الخالدة التي يزدان بها التراث الشيعي الكبير ، وهو
الآية العظمى الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمه الله تعالى سنحاول ان نعتمد كثيرا
على ما كتبه عنه تلامذته والمقرّبون اليه ، مع بعض التصرف الذي يتناسب وموضع
الحاجة والبحث.
قال عنه تلميذه
الحجة الشيخ المظفر رحمه الله تعالى معرّفا اياه : هو
الشيخ محمّد حسين
الاصفهاني ابن الحاج محمّد حسن بن علي اكبر بن آقا بابا ابن آقا كوچك ابن الحاج
محمّد إسماعيل ابن الحاج محمّد حاتم النخجواني.
واضاف رحمه الله
تعالى : ولد استاذنا الشيخ قدّس سرّه في ثاني محرم الحرام سنة ١٢٩٦ في النجف
الاشرف من ابوين كريمين ، وكان ابوه رحمه الله تعالى الحاج محمّد حسن من مشاهير
تجار الكاظمية الاتقياء الذين يشار لهم بالانامل ، المحبين للعلم والعلماء ، فعاش
في كنفه عيشة ترف ونعمة ، وخلّف له من التراث الكثير الذي انفقه كلّه في سبيل طلب
العلم ، فنشأ نشأة المعتز بنفسه ، المترفّع عما في أيدي الناس ، وهذا ما زاده عزّا
وإباء.
واضاف ايضا : وقد
حدب والده على تربيته تربية علمية صالحة ، ومهّد له السبيل الى تحصيل العلم فظهرت
معالم النبوغ الفطري على هذا الطفل الوادع حين تعلّم الخط ، فأظهر في جميع أنواعه
براعة فائقة ، حتى أصبح من مشاهير الخط البارعين.
وطلب العلم رحمة
الله تعالى في سن مبكرة ، وانتقل الى النجف الاشرف في اخريات العقد الثاني من عمره
فحضر في الاصول والفقه على علاّمة عصره المحقق الآخوند
محمّد كاظم الخراساني رحمه الله تعالى واختص به وكان من
__________________
مشاهير تلامذته ، وحيث امتدت صحبته له ثلاثة عشر عاما .
منزلته العلمية :
يصف منزلته
العلمية تلميذه الشيخ المظفر : كان من زمرة النوابغ القلائل الذين يضنّ بهم الزمان
إلاّ في الفترات المتقطعة ، ومن اولئك المجددين للمذهب الذين يبعث الله تعالى
واحدا منهم في كل قرن ، ومن تلك الشخصيات اللامعة في تاريخ قرون علمي الفقه
والأصول .
ولقد كان المصنف
قدّس سرّه محط اكبار العظماء في عصره كما يظهر من كلمة آية الله السيد حسن الصدر
في اجازته له المثبتة في آخر مقدمة التحقيق ، فقد جاء فيها : الشيخ الفقيه
العلاّمة المجتهد حجة الاسلام الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الغروي الفوز بفضيلة
الشركة في النظم في سلسلة اهل العصمة فكتب إلى في طلب ذلك فزاد الله جل جلاله في
شرفه ، فأجزته بكل طرقي في الرواية ... وقد حررت لك هذه الاجازة يوم الاربعاء ثامن
عشر شعبان يوم ورود كتابك الشريف فأسرعت في الكتابة امتثالا لامرك الشريف رجاء
الفوز بدعائك.
واحتل المصنف قدّس
سرّه مكانة مرموقة ومنزلة عظيمة « فكان نابغة الدهر وفيلسوف الزمن وفقيه الأمة »
كما جاء في وصفه على لسان تلميذه الشيخ
__________________
محمّد علي الغروي
الاردوبادي .
ولو قدّر لهذا
النابغة العظيم ان يمد في عمره إلى حيث تثنى له الوسادة ، ويتربّع على كرسي الرئاسة
العامة لقلب اسلوب البحث في الفقه والأصول رأسا على عقب ، وتغير مجرى تأريخهما بما
يعجز عن تصويره البيان ، ولعلم الناس ان في الثريا منالا للنوابغ تقرّبه البشر إلى
حيث يحسون ويلمسون.
فلسفته :
تظهر براعة الشيخ
الاصفهاني رحمه الله تعالى في العلوم الفلسفية من خلال مطالعة آرائه وابحاثه
المختلفة ، ولا غرو في ذلك ، فقد أخذ هذه العلوم على الفيلسوف الشهير الميرزا
محمّد باقر الاصطهباناتي رحمه الله تعالى ، والذي كان يعد من كبار الفلاسفة
والحكماء العارفين.
قال عن ذلك الشيخ
المظفر رحمه الله تعالى : لقد استبطن كل دقائق الفلسفة ، ودقق في كل مستبطناتها ،
وله في كل مسألة رأي محكم ، وفي كل بحث تنقيح رائع ، وتظهر آراؤه وتحقيقاته
الفلسفية على جميع آثاره وابحاثه حتى في ارجوزته مع مدح النبي المختار وآله
الاطهار عليهم جميعا الصلاة والسلام ، والتي يقول فيها :
لقد تجلى مبدئ
المبادي
|
|
من مصدر الوجود
والايجاد
|
من أمره الماضي
على الاشياء
|
|
أو علمه الفعلي
والقضائي
|
__________________
رقيقة المشيئة
الفعلية
|
|
أو الحقيقة
المحمدية
|
أو هو نفس النفس
الرحماني
|
|
بصورة بديعة
المعاني
|
شعره وأدبه :
لقد تحدث معاصروا
الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمه الله تعالى عن الموهبة التي منّ الله تعالى عليه
بها من حس مرهف ، وملكة قوية ، وقدرة بينة على خوض غمار الادبين العربي والفارسي
بشكل ملفت للانظار.
قال عنه الخاقاني
في معجم شعراء الغري : والغريب ان من يشاهد هذه الشخصية لا يحسب انها وقفت على
اسرار الادب الفارسي والعربي كأديب تخصص بهما ، وان القطع الشعرية التي كان ينشدها
بالفارسية ـ والتي يصغي لها أعلام الأدب ـ كانت مثار الاعجاب ، خاصة وانها تصدر من
شخص تجرد عن المجتمع بقابلياته وورعه ، واتصل به عن طريق تفهيمه وتوجيهه.
وصلاته بالادب
العربي لا تقلّ عن سابقه ، فقد ابقى لنا آثارا دلّت على تمكنه من هذه الصناعة التي
لا يتقنها إلا ابناؤها ممّن مارسوها. انتهى.
ثم اورد بعض ذلك
نماذج من اشعاره تلك نورد قسما منها :
فمن قوله في مولد
الرسول الاكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
أشرق كالشمس
بغير حاجب
|
|
من مشرق الوجود
نور الواجب
|
أو من سماء عالم
الاسماء
|
|
نور المحمدية
البيضاء
|
وقوله في وصف
القرآن الكريم :
دلائل الاعجاز
في آياته
|
|
بذاته مصدّق
لذاته
|
يزداد في مرّ
الدهور نورا
|
|
وزاده خفاؤه
ظهورا
|
وفيه من جواهر
الاسرار
|
|
ما لا تمسه يد
الافكار
|
وقوله في الامام
علي عليه السلام :
عيد الغدير اعظم
الاعياد
|
|
كم فيه لله من
الأيادي
|
أكمل فيه دينه
المبينا
|
|
ثمّ ارتضى
الاسلام فيه دينا
|
بنعمة وهي أتمّ
نعمه
|
|
منا على الناس
به الائمة
|
بنعمة الإمرة
والولاية
|
|
أقام للدين
الحنيف راية
|
وفاته :
ابتلي الشيخ
الاصفهاني رحمه الله تعالى في أواخر حياته بمرض ألمّ به ، واستمر يعاني منه لمدة
عام توفي في آخره في فجر اليوم الخامس من شهر ذي الحجة عام ( ١٣٦١ ه ) بعد حياة
كريمة أمضاها في خدمة هذا الدين الحنيف واعلاء شأنه ، جزاه الله تعالى عن الاسلام
واهله خير الجزاء واجزل العطاء ، واسكنه فسيح جنانه انه نعم المولى ونعم النصير.
مؤلّفاته :
خلّف الشيخ محمّد
حسين الاصفهاني رحمه الله تعالى جملة متعددة من الكتب القيمة الدالة على علو شأنه
وعظم منزلته العلمية ، لا سيما اذا عرفنا بان معاصريه وتلامذته ينقلون عنه انه كان
ذو قلم سيال ، دقيق الكلمة ، رصين العبارة لم يعرف عنه انه كتب كتابا فاتخذ مسودات
له يراجعها ويعيد ترتيبها ونظمها وتشذيبها ، بل كان ما يخرج منه من المؤلّفات
المختلفة يكون تاما ونهائيا وجاهزا ، وتلك نعمة لا حدود لها.
والحق يقال : ان
العمر لو امتد به لأغنى المكتبة الاسلامية بالكثير من
__________________
المؤلّفات القيمة
، ولا سيّما في علم الأصول ، ولكن المنية عاجلته وانطفأ ذلك السراج الوهّاج
المبارك بعد سني متواصلة من الكتابة والبحث والتأليف.
ومن مؤلّفاته التي
تم حصرها وتعدادها :
١ ـ تعليقة على
كتاب المكاسب للشيخ الانصاري رحمه الله تعالى ( طبع في طهران ).
٢ ـ تعليقة على
رسالة القطع للشيخ الانصاري ايضا.
٣ ـ رسالة في
الاجتهاد والتقليد ( مطبوع ).
٤ ـ ورسالة في العدالة
( مطبوع ).
٥ ـ رسالة في
موضوع العلم.
٦ ـ رسالة في
الطهارة.
٧ ـ رسالة في صلاة
الجماعة ( مطبوع ).
٨ ـ رسالة في صلاة
المسافر ( مطبوع ).
٩ ـ حاشية على
كتاب الكفاية والموسومة بنهاية الدراية ، وهو الكتاب الماثل بين يدي القارئ
الكريم.
١٠ ـ رسالة في
الصحيح والاعم.
١١ ـ رسالة في
الطلب والارادة.
١٢ ـ رسالة في أخذ
الاجرة على الواجبات.
١٣ ـ منظومة في
الاعتكاف.
١٤ ـ منظومة في
الصوم.
١٥ ـ منظومة تحفة
الحكيم ، في الفلسفة العالية ( مطبوع ).
١٦ ـ رسالتان في
المشتق.
١٧ ـ رسالة في
تحقيق الحق والحكم ( مطبوع ).
١٨ ـ الانوار
القدسية ، وهي اراجيز في مدح ورثاء أهل البيت عليهم
السلام ( طبع
لاكثر من مرة ).
١٩ ـ ديوان شعر
باللغة الفارسية وهو مختص بمدح ورثاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته
المعصومين :.
٢٠ ـ رسالة في
الحروف.
٢١ ـ رسالة في
قواعد التجاوز والفراغ واصالة الصحة واليد.
٢٢ ـ رسالة في
تقسيم الوضع إلى الشخصي والنوعي.
٢٣ ـ رسالة في
اطلاق الامر.
وغير ذلك فراجع
التراجم الخاصة به والمفصلة لهذا الموضوع.
منهجية التحقيق :
اعتمدنا في
تحقيقنا لهذا السفر الأصولي المهم على جملة من النسخ الحجرية والحروفية المهمة ،
وهي :
أ ـ النسخة
المطبوعة على الحجر بتاريخ ١٣٤٣ ه ، وهي بخط محمود علي شمس الكتّاب ، والتي رمزنا
لها بالحرف « ن » ، وهي نسخة نفيسة تمكن أهميتها بكونها مزدانة بتصحيحات المصنّف
قدّس سرّه وحواشيه عليها ، وبضمنها قصاصات بقلمه الشريف اضيفت في مواضعها.
ب ـ النسخة المطبوعة
عام ١٣٤٤ ه بالتصوير على الأولى ورمز لها بحرف « ق ».
ج ـ النسخة
الحروفية المطبوعة عام ١٣٧٩ ه في المطبعة العلمية قم وهي على ما ذكر في مقدمتها
مقابلة ومصححة على نسخة مصححة على نسخة مقابلة على نسخة المصنف رحمه الله ورمز لها
بحرف « ط ».
هذا وقد بذلنا
غاية جهدنا في تنفيذ المراحل التحقيقية المختلفة لهذا الكتاب.
ثم إنّنا أضفنا ما
وجدناه ضروريا لضبط النص بين معقوفين ، دون الاشارة إلى ذلك لمعلوميته.
ونحن إذ نقدّم هذا
الكتاب الجليل إلى القارئ الكريم معتذرين عمّا رافقته من فترة تأخير قهرية مبعثها
:
حرصنا على إخراج
الكتاب بالشكل الذي يتناسب وأهميته العلمية الكبيرة والحاجة إليه.
وتفضّل سماحة حجة
الاسلام الشيخ محمّد الغروي نجل المصنف قدّس سرّه مشكورا بالنسخة الأولى والتي
تقدّم التعريف بها بعد أن كنّا قد انهينا
المراحل التحقيقية
وأغلب المراحل الفنية ، فأعدنا مراجعة عملنا عليها من الأول. فله شكرنا ودعائنا.
وأخيرا فإنّا لا
يسعنا إلاّ أن نتوجّه بالشكر الجزيل لجميع الجهود التي ساهمت في انجاز هذا العمل ،
ونخصّ بالذكر منهم حجج الاسلام الشيخ رمضان علي العزيزي ، والشيخ سامي الخفاجي ،
اذ قاما بتقويم نص الجزءين الأول والثاني ، فلله درّهما وعليه أجرهما.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
|
مؤسسة
آل البيت ( ع ) لاحياء للتراث
|
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وسيد رسله محمد صلّى الله عليه وآله
وعترته الطيبين الطاهرين.
موضوع العلم
١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( موضوع كل علم ـ وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ؛ أي
بلا واسطة في العروض ـ ... الخ ) .
تعريف الموضوع
بذلك ، وتفسير العرض الذاتي بما فسّره ـ مدّ ظله ـ هو المعروف المنقول عن أهالي فن
المعقول ، فإنه المناسب لمحمولات قضايا العلم ، دون العرض الذاتي المنتزع عن مقام
الذات ، فإن التخصيص به بلا موجب ـ كما هو واضح ـ مع أنهم صرحوا أيضا : بأن العارض
للشيء بواسطة أمر أخصّ أو أعمّ ـ داخليا كان ، أو خارجيا ـ عرض غريب ، والأخص
والأعم واسطة في العروض.
فيشكل حينئذ : بأن
أغلب محمولات العلوم عارضة لأنواع موضوعاتها ؛
__________________
فتكون أعراضا
غريبة لها ، كما أنّ جلّ مباحث هذا العلم يبحث فيها عما يعرض لأمر أعمّ من موضوع
هذا العلم ، كما لا يخفى.
وقد ذهب القوم في
التفصّي عن هذه العويصة يمينا وشمالا ، ولم يأت أحد منهم بما يشفي العليل ، ويروي
الغليل.
وأجود ما افيد في
دفع الاشكال ما أفاده بعض الأكابر في جملة من كتبه
، وهو : أن الأعراض الذاتية للأنواع وما بمنزلتها ربما تكون أعراضا ذاتية للأجناس
وما بحكمها ، وربما لا تكون ، بل تكون غريبة عنها.
__________________
ووجّهه بعض المحققين لمرامه ، والشارحين لكلامه : بأخذ الجنس لا بشرط ، فأعراض
أنواعه أعراضه حقيقة ، وبشرط لا فأعراض أنواعه غريبة عنه.
وهو منه غريب ؛ إذ
كون التعجب والضحك ، عرضا غريبا للحيوان مبني على اللابشرطية ، وإلا فيكون الحيوان
مباينا لمعروضهما ، ولا يكونان عارضين له أصلا ؛ إذ المباينة تعاند العروض.
بل الوجه فيه ما
أفاده المجيب في مواضع عديدة من كتبه ، وهو : أنّ ميزان العرض الذاتي أن لا يتوقف لحوقه لموضوع العلم على صيرورة الموضوع نوعا
متهيّئ الاستعداد لقبوله ، لا أن لا يتوقف لحوقه له على سبق اتصافه بوصف
__________________
مطلقا ، ولو كان
سبقا ذاتيا رتبيا.
توضيحه : أن الموضوع في علم المعقول ـ مثلا ـ هو الموجود أو
الوجود ، وهو ينقسم أولا : إلى الواجب ، والممكن.
ثم الممكن : إلى
الجوهر ، والمقولات العرضية.
ثم الجوهر : إلى
عقل ، ونفس ، وجسم.
ثم العرض كل مقولة
منه إلى أنواع.
والكل من مطالب
ذلك العلم ومن لواحقه الذاتية ، مع أن ما عدا التقسيم الأول يتوقف على تخصص
الموضوع بخصوصية أو خصوصيات ، إلاّ أنّ جميع تلك الخصوصيات مجعولة بجعل واحد ،
وموجودة بوجود فارد ، فليس هناك سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر ؛ كي
يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيّؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض تقدمه
رتبة ، فإنّ الموجود لا يكون ممكنا أوّلا ، ثم يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية ،
بل إمكانه بعين جوهريته وعرضيته ، كما أن جوهريته بعين العقلية أو النفسية أو
الجسمية ، ففي الحقيقة لا واسطة في العروض ، والحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ـ بل
الامكان ـ يتحد مع الوجود بعين اتحاد الجوهر العقلي أو النفسي أو الجسماني في
الوجود ، فليس هناك عروضان حتى يكون أحدهما بالذات ، والآخر بالعرض ، بخلاف لحوق
الكتابة والضحك للحيوان ، فانه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصّصا بالنفس الإنسانية
تخصّصا وجوديا حتى يعرضه الضحك والكتابة ، وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى
الإنسان كالعقلية والنفسية بالإضافة إلى الجوهر ؛ بداهة أنّ إنسانية الإنسان ليست
بضاحكيته وكاتبيّته.
نعم تجرّد النفس
وما يماثله ـ مما يكون تحققه بتحقق النفس الانسانية ـ من الأعراض الذاتية للحيوان
كالنفس.
فإن
قلت : ليس مناط
العروض هو العروض بحسب الوجود حتى يقال بأنه : لا تعدد للعوارض في الوجود ليلزم
توسط بعضها لبعض ، بل مفاد الكون الرابط ، المتعدد بتعدّد العوارض التحليلية ،
وحيث إنها مترتبة ـ والمفروض عدم ترتبها بما هي ؛ حيث إنه لا ترتب في الطبائع بما
هي ، وعدم الترتب العلّي والمعلولي ـ فلا محالة يكون الترتب بلحاظ العروض على
الموضوع ، فلا يمكن فرض جوهرية الموجود ، إلاّ بعد فرض كونه ممكنا ، وإلا فلا
ينقسم الموجود ـ بما هو ـ إلى الجوهر والعرض ، وإنما هو تقسيم للموجود الإمكاني.
قلت : نعم ، المراد من العروض مفاد الكون الرابط ، إلا أنه كما
أن العوارض التحليلية ـ بحسب الوجود الخارجي ـ كونها النفسي واحد ، وكونها الرابط
لموضوعها ومعروضها واحد ، كذلك بحسب الفرض ، فان فرض إمكان الموجود فرض جوهريته
وجسميته مثلا ، كما أن فرض البياض لموضوع فرض ثبوت اللون والمفرقية للبصر بفرض
واحد ، وإن كان بين الجزءين ـ بل بين كل جزء والكلّ ـ سبق ولحوق بالتجوهر في مرحلة
الماهية ، وسبق ولحوق بالطبع في مرتبة الوجود ، ومنه علم أن فرض الجوهر يستلزم فرض
الامكان بفرضه ، لا بفرض قبله ، فتأمّل جيّدا.
ومما ذكرنا تعرف :
أن الأعمّ والأخصّ ـ سواء كانا داخليين أو خارجيين ـ على نهج واحد ، فلا بد من
ملاحظة العارض وعارضه من حيث اتحادهما في الوجود ، لا العارض ومعروضه الأوّلي ،
كما مال إليه بعض الأعلام ممن قارب عصرنا (ره) ، فجعل ملاك
الذاتية كون العارض والمعروض الأوّلي متحدين في
__________________
الوجود حتى يكون
العارض الثاني عارضا لكليهما ، ولذا التجأ إلى الالتزام بكون الضاحك مثلا عرضا
ذاتيّا للحيوان ؛ لأن معروضه ـ وهو الانسان ـ متحد الوجود مع الحيوان ، ولم يبال
بتسالم القوم على كونه عرضا غريبا للحيوان قائلا : إن الاشتباه من غير المعصوم غير
عزيز ، وهو كما ترى.
وهذا الجواب وإن
كان أجود ما في الباب ، إلا أنه وجيه بالنسبة إلى علم المعقول ، وتطبيقه على سائر
الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلّف ، فان موضوع علم الفقه هو فعل المكلف ،
وموضوعات مسائله الصلاة والصوم والحج إلى غير ذلك ، وهذه العناوين نسبتها إلى
موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس ، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له ، إلا أنه لا
يبحث عن ثبوتها له ، والحكم
__________________
الشرعي ليس
بالاضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى الجوهرية ، بل هما موجودان متباينان ، وكذا
الأمر في النحو والصرف.
ويمكن الجواب عن
موضوعات سائر العلوم بما محصله : أن الموضوع لعلم الفقه ليس فعل المكلف بما هو ،
بل من حيث الاقتضاء والتخيير ، وكذا موضوع علم النحو ليس الكلمة والكلام بما هما ،
بل من حيث الإعراب والبناء.
والحيثيات
المذكورة لا يمكن أن تكون عبارة عن الحيثيات اللاحقة لموضوعات المسائل ؛ لما سيجيء
ـ إن شاء الله ـ : أنّ مبدأ محمول المسألة لا يمكن أن يكون
قيدا لموضوع العلم ، وإلاّ لزم عروض الشيء لنفسه ، بل المراد استعداد ذات الموضوع
لورود المحمول ، وهذه حيثية سابقة لا لاحقة ، فالكلمة من حيث الفاعلية ـ مثلا ـ مستعدة
للحوق المرفوعية ، ومن حيث المفعولية للمنصوبية ، وهكذا ، وفعل المكلف من حيث
الصلاتية والصومية ـ مثلا ـ مستعد للحوق التكليف الاقتضائي أو التخييري ، وإلا
فنفس الاقتضائية والتخييرية لا يمكن أن تكون قيدا لموضوع العلم ، ولا لموضوع
المسألة ، كما عرفت.
إذا
عرفت ذلك تعرف : من الصلاة والصوم وغيرهما ، لا أنه كلّي يتخصص في مراتب
تنزّله بخصوصيات تكون واسطة في عروض لواحقه له. ومن الواضح أن المحمولات الطلبية
والاباحية تحمل على معنون هذا العنوان الانتزاعي بلا توسط شيء في اللحوق والصدق.
ومما ذكرنا تعرف :
أن الأمر في موضوعات سائر العلوم أهون من موضوع علم الحكمة ؛ حيث لا تخصص
لموضوعاتها من قبل موضوعات مسائلها أصلا ،
__________________
بخلاف موضوع علم
الحكمة ، فلذا لا يتوقّف دفع الإشكال عنها على مئونة إثبات اتحاد العارض لموضوع
العلم مع العارض لموضوع المسألة ، على نحو ما عرفته في موضوع علم الحكمة.
هذا
، والتحقيق : أنّ الالتزام
بعدم الواسطة في العروض من رأس من باب لزوم ما لا يلزم ، والسر فيه : أن حقيقة كل
علم عبارة عن مجموع قضايا متفرقة يجمعها الاشتراك في ترتب غرض خاص ، ونفس تلك
القضايا مسائل العلم ، ومن الواضح أن محمولات هذه المسائل أعراض ذاتية لموضوعاتها
، وبهذا يتم أمر العلم ، ولا يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع دائما في نفس العلم
، فلا ملزم بما ذكروا : من كون محمولات القضايا أعراضا ذاتية للموضوع الجامع.
نعم ، ربما يبحث
عن ثبوت شيء للموضوع الجامع أحيانا ، ولذا قالوا : إن موضوع المسألة : تارة يكون
عين موضوع العلم ، واخرى نوعا منه. إلا أنه في مثله يكون المبحوث عنه عرضا ذاتيا
له كسائر المسائل ، لكنه لمّا أرادوا أن يكون الطالب للعلم على بصيرة من أمره من
أوّل أمره ، انتزعوا جامعا قريبا من موضوعات مسائله ، كالكلمة والكلام في النحو
مثلا ؛ ليكون مميّزا له عن غيره من العلوم ، وإلاّ فما يترتب عليه غرض مخترع العلم
ومدوّنه نفس مجموع القضايا المشتركة في ترتّب الغرض المهم ، فاللازم ان تصدق محمولات
القضايا على موضوع العلم صدقا حقيقيا بلا مجاز ، لا أن تكون الأعراض أعراضا ذاتية
بالمعنى المصطلح ، بل بحيث لا يرى اللاحق لا حقا لغيره ، وإن كان بالنظر الدقيق ذا
واسطة في العروض.
وبعبارة اخرى :
يكون الوصف وصفا له بحال نفسه ـ لا بحال متعلّقه ـ بالنظر العرفي المسامحي. فافهم
واغتنم.
ثم
اعلم : أنّ جعل
الموضوع ـ بحيث تكون أعراض موضوعات المسائل أعراضا له ـ لا يتوقف على جعل الكلي
بنحو الماهية المهملة عن حيثية
الاطلاق
واللابشرطية ؛ نظرا إلى أنه لو لوحظ بنحو الاطلاق لا يكون ـ بما هو مطلق ـ معروضا
لحكم من الأحكام ، بخلاف الماهية المهملة ، فإنها متحدة مع الفرد ، فيعرضها ما
يعرضه. وأنت خبير بأن اللابشرط القسمي وإن كان ـ بحسب التعيّن في ظرف اللحاظ ـ مغايرا
للبشرط شيء ، إلا أن ملاحظة الماهية مطلقة ليس لأجل دخل الاطلاق في موضوعيته ، بل
لتسرية حكم الماهية إلى أفرادها ، كما هو كذلك في ( اعتق رقبة ) ، وإلا لم تصدق
الرقبة المطلقة ـ بما هي ـ على فرد من الرقبة ، مضافا إلى أنه لا بدّ من ذلك ،
وإلا فالمهملة في قوة الجزئية ، فلا موجب لاندراج جميع موضوعات المسائل تحتها ،
ولا ملزم بعروض أعراضها عليها.
وأما ما ربما يقال
أيضا : من أن ملاحظة الكلي بنحو السريان توجب أن تكون نسبته إلى موضوعات المسائل
نسبة الكل إلى أجزائه ، وأعراض أجزائه أعراضه ، كما في علم الطب ، فانه يبحث فيه
عن أعراض أجزاء البدن.
فمدفوع : بأنّ الكلّي الساري واحد وجودا وماهية ، لا أنه عبارة عن
مجموع وجودات الكلي بما هي متكثرة ، وإلا فلا سريان ؛ فانه فرع الوحدة ، غاية
الأمر أن قطع النظر عن الكثرات ، ولحاظ نفس الطبيعة التي هي واحدة ذاتا ، وإضافة
وجود واحد إليها يوجب أن يكون كل واحد من الكثرات متشعبا منه تشعب الفرد من الكلي
، لا الجزء من الكل ؛ ولذا لم يتوهم أحد : أن الحصة جزء الكلي بأيّ لحاظ كان ، بل
مما يصدق عليها الكلي ، وملاحظة الطبيعة سارية مساوقة لملاحظتها لا بشرط قسميا لا
مقسميا ، وإن كان اعتبار السريان اعتبار بشرط شيء ، فإنّه لا منافاة بينه وبين كل
لا بشرط. فتدبّر.
٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فلذا قد يتداخل
بعض العلوم ... الخ ) .
__________________
وجه
الترتّب : أن امتياز
مسائل علم عن مسائل علم آخر لو كان بنفسها لما صح التداخل ؛ حيث لا اثنينية ،
بخلاف ما لو كان الامتياز بالغرض الذي لأجله دوّن العلم ، فإن الاثنينية محفوظة ،
والامتياز ثابت ، ويصح التداخل.
والغرض من هذا البيان دفع الاشكال على جعل علم الاصول علما برأسه بتوهم اشتراك
مسائله مع مسائل سائر العلوم ، وسيجيء ـ إن شاء الله ـ تحقيقه .
٣
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( مضافا إلى
بعد ذلك مع
امتناعه عادة ... الخ ) .
كون العلمين مشتركين في تمام المسائل وان كان بعيدا ، إلا أن اشتراك علم واحد مع جملة من العلوم
ـ كما في علم الاصول بالنسبة الى جملة من العلوم ـ غير بعيد ، بل لعل الأمر كذلك
بالإضافة إلى جل مباحث علم الاصول ، ومع ترتب
__________________
الغرض على تدوينها
قهرا ـ وإن لم يكن المدوّن بصدده ـ لا يبقى مجال لتدوين علم الاصول ، فإنه تحصيل
للحاصل ، والالتزام بالاستطراد في جلّ المسائل باطل.
وقد ذكرنا وجه
التفصّي عن الاشكال في أوائل مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فراجع .
وأما امتناعه ـ عادة
ـ فلعل الوجه فيه : إما أن القضايا المتحدة موضوعا ومحمولا لا يترتب عليها غرضان
متلازمان ؛ للزوم تأثير الواحد أثرين متباينين ، أو لأنّ العلوم المدوّنة متكفّلة
لأيّة جهة كانت ، ولا شيء من العلوم بحيث يترتب عليه غرضان ،
فالبحث عن جهة اخرى مجرد فرض يمتنع وقوعه عادة ؛ حيث إنّه لا مجال لجهة غير تلك
الجهات المبحوث عنها ، إلاّ أنّ الوجه الأوّل غير تام ـ كما سيجيء إن شاء الله ـ ، وعلى فرض التمامية فهو امتناع عقلي.
والوجه
الثاني يناسب الامتناع
العادي إلا أنّ عهدته على مدّعيه ، فإن الجهات المبحوث عنها وان كانت مستوفاة ،
فلا جهة اخرى ، إلا أن فروعها غير مستوفاة ، فلعله يمكن فرض جهة اخرى تكون من
جزئيات إحدى تلك الجهات. فتدبر.
٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وقد انقدح بما
ذكرنا : أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض ... الخ ) .
المشهور : أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ولو بالحيثيات ؛ بمعنى
أن موضوعي العلمين قد يتغايران بالذات ، وقد يتغايران بالاعتبار.
__________________
وليس الغرض من
تحيّث الموضوع ـ كالكلمة والكلام بحيثية الاعراب والبناء في النحو ، وبحيثية الصحة
والاعتلال في الصرف ـ أن تكون الحيثيات المزبورة حيثية تقييدية لموضوع العلم ؛ إذ
مبدأ محمول المسألة لا يعقل أن يكون حيثية تقييدية لموضوعها ، ولا لموضوع العلم ،
وإلا لزم عروض الشيء لنفسه ، ولا يجدي جعل التحيث داخلا والحيثية خارجة ؛ لوضوح أن
التحيث والتقيد لا يكونان إلا بملاحظة الحيثية والقيد ، فيعود المحذور.
بل الغرض من أخذ
الحيثيات ـ كما عن جملة من المحققين من أهل المعقول ـ هو حيثية استعداد ذات
الموضوع لورود المحمول عليه ؛ مثلا الموضوع في الطبيعيات هو الجسم الطبيعي لا من
حيث الحركة والسكون. كيف؟ ويبحث عنهما فيها ، بل من حيث استعداده لورودهما عليه ؛
لمكان اعتبار الهيولى فيه ، وفي النحو والصرف الموضوع هي الكلمة ـ مثلا ـ من حيث
الفاعلية المصححة لورود الرفع عليها ، ومن حيث المفعولية المعدة لورود النصب عليها
، أو من حيث هيئة كذا المصححة لورود الصحة أو الاعتلال عليها ، وجميع هذه الحيثيات
سابقة ـ لا لاحقة ـ بالإضافة إلى الحركات الاعرابية والبنائية ونحوهما.
وأما ما عن بعض
المدققين من المعاصرين ـ من أن الموضوع في النحو هو المعرب والمبني ، وفي الصرف
هو الصحيح والمعتل ـ فقد عرفت ما فيه فإن
__________________
المعرب ـ بما هو
معرب ـ لا يعقل أن تعرض عليه الحركات الاعرابية ، وهكذا.
هذا هو المشهور في
تمايز العلوم ، وقد يشكل ـ كما في المتن ـ بلزوم كون كل باب من أبواب علم واحد ـ بل
كل مسألة منه ـ علما برأسه لتمايز موضوعاتها.
ولا يندفع بما في
الفصول : من جعل الحيثية قيدا للبحث ( وهي عند
__________________
التحقيق عنوان
إجمالي للمسائل التي تقرر في العلم ) ـ انتهى ـ إذ مراده من البحث معناه المفعولي
، لا المصدري ، ومن المسائل محمولات قضايا العلم ، لا نفس القضايا ، وإلا فلا معنى
محصل له ، فيرجع الأمر إلى أن تمايز العلوم : إما بتمايز الموضوعات ، أو بتمايز
المحمولات الجامعة لمحمولات العلم.
فيرد عليه عين ما
أورد على جعل التمايز بتمايز الموضوعات : من لزوم كون كل باب ـ بل كل مسألة ـ علما
على حدة لتغاير محمولاتها ، ولذا جعل ـ دام ظله ـ ملاك التعدد والوحدة تعدد الغرض
ووحدته ، مع أنك قد عرفت الإشكال عليه في الحاشية السابقة بالنسبة إلى فن الاصول.
والتحقيق : أن العلم عبارة عن مركّب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها
غرض واحد ، وتمايز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر بالموضوع الجامع في مقام
المعرفية ـ كما عرفت سابقا ـ فلا ينافي كون معرفة باب وامتيازه عن باب آخر كذلك ،
كما أن كون وحدة الموضوع الجامع موجبة لوحدة القضايا ذاتا ـ في قبال الوحدة
العرضية الناشئة من وحدة الغرض ؛ حيث إنه خارج عن ذات القضية ـ لا ينافي كون وحدة
الموضوع في الأبواب موجبة لوحدة قضايا الباب ذاتا ، لكن تسمية بعض المركبات
الاعتبارية علما دون مركب اعتباري آخر ـ كباب من علم واحد ـ بملاحظة تعدد الغرض
ووحدته.
فقولهم : ( تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ) إنما هو في مقام امتياز مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر في مقام التعريف.
كما أنّ تعدّد الغرض ووحدته إنّما هو في مقام إفراد مركب اعتباري عن غيره ، وجعله
فنا وعلما برأسه ، دون مركب اعتباري آخر كباب واحد من علم واحد.
ومن الواضح أنّ
فنّ الاصول بنفسه يمتاز عن سائر الفنون لامتياز كل
__________________
مركب عن مركب آخر
بنفسه ، وبموضوعهما الجامع في مقام التعريف للجاهل ، لكن كون المجموع فنا واحدا ـ دون
فنون متعددة ـ لوحدة الغرض.
ومنه ظهر أن تعدد
الغرض إنما يوجب تعدد العلم في مورد قابل كمركبين اعتباريين لا مركب واحد.
بل يمكن أن يقال ـ
بناء على مذاق القوم في كون محمولات القضايا أعراضا ذاتية للموضوع ـ ما محصله :
أن الموضوع الجامع
ـ كما هو معرّف للعلم وموجب لوحدة القضايا ذاتا ـ كذلك موجب لكونها فنا واحدا
منفردا عن غيره من الفنون ؛ إذ ليس مناط موضوعية الموضوع مجرد جامعيته لجملة من
الموضوعات ، بل بحيث لا يندرج تحت جامع آخر تكون محمولات القضايا أعراضا ذاتية له
، فخرج بهذا القيد موضوعات الأبواب لاندراجها تحت جامع تكون المحمولات أعراضا
ذاتية له ، ودخل به موضوعا العلمين لعدم اندراجهما تحت جامع كذلك ؛ وإن اندرجا تحت
جامع مطلق كعلمي النحو والصرف ، فإنّ موضوعهما وإن اندرجا تحت الكيف المسموع ، لكن
محمولات قضايا العلمين ليست أعراضا ذاتية للكيف المسموع ، بل للكلمة والكلام بما
لهما من الحيثية المتقدّمة ، فافهم واستقم.
٥ ـ قوله [ قدس سره ] : (
كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد ... الخ ) .
كبابين من علمين
إذا كانا متحدي الموضوع والمحمول ، فان هذه الوحدة لا تجعل البابين من علم واحد ؛
لتعدد الغرض الموجب لاندراجهما في علمين ، وإلاّ فالمركّب الاعتباري المترتب عليه
غرضان لا يصح أن يدون علمين ، ويسمى باسمين كما صرح ـ مد ظله ـ به.
__________________
وفي قوله دام ظلّه
: ( من الواحد ) إشارة إلى أن فرض الكلام ما ذكرنا ، فلا تغفل.
٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ثم إنه ربما لا
يكون لموضوع العلم ، وهو الكلي ... الخ ) .
قد عرفت سابقا :
أن العلم عبارة عن مجموع قضايا متشتتة يجمعها الاشتراك في غرض خاص دوّن لأجله علم
مخصوص ، فلا محالة ينتهي الأمر إلى جهة جامعة بين تلك القضايا موضوعا ومحمولا ،
والموضوع الجامع لموضوعات القضايا موضوع العلم ، والمحمول الجامع لمحمولاتها
محموله.
وقد
عرفت سابقا أيضا : أن أمر العلم يتم بتدوين جملة من القضايا المتحدة في الغرض ، ولا يتوقف
حقيقته على تعيين حقيقة الموضوع ، إلا أنه لا برهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة
القضايا موضوعا ومحمولا ، إلاّ أنّ الامور المتباينة لا تؤثر أثرا واحدا بالسنخ ،
وأنّ وحدة الموضوع أو وحدة المحمول تقتضي وحدة الجزء الآخر.
مع أن البرهان
المزبور لا يجري إلا في الواحد بالحقيقة ، لا الواحد بالعنوان ، وما نحن فيه من
قبيل الثاني ، بداهة أن صون اللسان عن الخطأ في المقال ـ في علم النحو مثلا ـ ليس
واحدا بالحقيقة والذات ، بل بالعنوان ، فلا يكشف عن جهة وحدة ذاتية حقيقية.
كما أن اقتضاء
القضايا للغرض واقتضاء الموضوعات لمحمولاتها ، ليس على حد اقتضاء المقتضي لمقتضاه
والسبب لمسببه ؛ حتى تكون وحدة أحدهما كاشفة عن وحدة الآخر ، بل في الاولى من قبيل
اقتضاء الشرط لمشروطه ؛ حيث
__________________
إن المريد للتكلم
على طبق القانون لا يتمكن منه إلا بمعرفته له ، فمعرفة القانون شرط في تأثير
الإرادة في التكلم على طبق القانون.
وفي الثانية من
قبيل اقتضاء الغاية الداعية لما تدعو إليه ، فاقتضاء الصلاة لوجوبها باعتبار ما
فيها من الغاية الداعية اليه ، فلا يكون الوجوب أثرا للصلاة ؛ ليكشف وحدة الوجوب
في الصوم والصلاة عن وحدتهما.
مضافا
إلى : أن فائدة
التعيين أن يكون الطالب على بصيرة من أمره من أول الأمر ، فعدم كون الجامع معلوم
الاسم والعنوان ، مع كونه محققا بالبرهان ، وإن لم يوجب كون العلم بلا موضوع
، أو عدم وحدة الفن ، إلا أن الفائدة المترقبة من الموضوع لا تكاد توجد إلا إذا
كان معلوم الاسم والعنوان ، ولا يكفي العلم بوجوده بحسب البرهان.
وجعل الموضوع لعلم
الاصول خصوص الأدلّة الأربعة ، وإن لم يكن فيه محذور من حيث عدم وحدة الفن ؛
لانحفاظ وحدته بوحدة الغرض ، لكن إذا جعل الموضوع أعم منها ، كي يعم الظنّ
الانسدادي على الكشف ـ بل على الحكومة ـ والشهرة ، والاصول العملية ـ من العقلية
والشرعية ـ الى غير ذلك من دون جامع يعبر به عنها ، فانتفاء الفائدة واضح.
٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ البحث عن
ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان التامة ... الخ ) .
إرجاع البحث إلى
ما ذكر وان كان غير صحيح ، كما سيتضح ـ إن شاء الله ـ إلا أنه يمكن دفع الايراد
المزبور بدعوى : أنّ المراد وساطة الخبر ثبوتا أو إثباتا ، ضرورة أن الغرض ليس
الحكم بثبوت السنة خارجا ، بل ثبوتها بالخبر ، ووساطة الخبر ـ إثباتا أو ثبوتا ـ لا
تنافي الفراغ عن ثبوت السنة :
__________________
أما وساطة الخبر
إثباتا ، فمعنى ذلك انكشاف السنة بالخبر ، كما تنكشف بالمحفوف بالقرينة وبالتواتر
، وأين التصديق بانكشاف شيء بشيء من التصديق بثبوت الشيء ، وما هو اللازم في
الهليّة المركبة هو الثاني دون الأول ؛ بداهة أن انكشاف شيء بشيء لا ينافي الفراغ
عن ثبوته ، وانكشاف السنة ـ المفروغ عن ثبوتها ـ من لواحقها وعوارضها بعد ثبوتها.
وأما وساطة الخبر
ثبوتا ، فمرجعها إلى معلولية السنة للخبر ، ومن البين أن الكلام في معلولية شيء
لشيء وكونه ذا مبدأ لا ينافي الفراغ عن أصل تحققه وثبوته ؛ ألا ترى أنّ الموضوع في
علم الحكمة هو الوجود أو الموجود ، مع أن البحث عن كونه ذا مبدأ من أهمّ مسائله
وأعظم مقاصده ؛ فالبحث عن معلولية السنة لشيء ـ يكون ذلك الشيء واسطة في ثبوتها
واقعا ـ بحث عن ثبوت شيء لها ، لا عن ثبوتها.
فاتضح : أن إرادة الثبوت الواقعي على أي تقدير لا تنافي كون
البحث عنه من المسائل.
نعم أصل ثبوت
السنة بالخبر ، وكون الخبر واسطة في ثبوتها أو إثباتها واقعا غير معقول ؛ إذ ليس
الخبر واقعا في سلسلة علل السنة ، بل يستحيل وقوعه في سلسلة عللها ؛ لأن حكاية
الشيء متفرعة عليه ، فلا يعقل أن تكون من مباديه ، فيستحيل وساطة الخبر ثبوتا. كما
أن الخبر ـ بما هو خبر ـ يحتمل الصدق والكذب ، فلا يعقل انكشاف السنة به واقعا ،
فيستحيل وساطة الخبر إثباتا. فإرادة الثبوت الواقعي بأيّ معنى كان غير معقولة ، لا
أن البحث عن ثبوتها بشيء ليس من المسائل. فافهم جيّدا.
٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم لكنه مما لا
يعرض السنة بل الخبر الحاكي لها ... الخ ) .
__________________
يمكن
أن يقال : إن حجية الخبر
ـ على المشهور ـ وان كان مرجعها إلى إنشاء الحكم على طبق الخبر ـ وهو من عوارضه ـ إلا
أنه بعناية أنه وجود تنزيلي للسنة ، وهذا المعنى كما أن له مساسا بالخبر ، كذلك
بالسنة.
فحاصل
البحث : إثبات وجود
تنزيلي للسنة ، وبهذا الاعتبار يقال بثبوت السنة تعبدا ، وإلا فالحكم على طبق
المحكي له ثبوت تحقيقي لا تعبدي ، وكونه عين التعبّد لا يقتضي أن يكون تعبّديا ،
بل هو كنفس المحكي له ثبوت تحقيقي فتأمل.
وربما
يتخيل : إمكان جعل
الموضوع نفس السنة الواقعية ، بالبحث عن تنجزها بالخبر ، لكنه كالثبوت التعبدي
إشكالا وجوابا ، من حيث إن المنجزية ـ وهي صفة جعلية ـ قد اعتبرت في الخبر ، فهي
من حيثيات الخبر ، لا من حيثيات السنة الواقعية ، ومن حيث أن المنجزية والمتنجزية
متضايفتان ، فجعل الخبر منجزا يلازم جعل السنة متنجزة به ، فيصح البحث عن كل منهما
، بل الثبوت التعبدي أكثر مساسا بالسنة من التنجز ؛ حيث إن اعتبار الثبوت هو
اعتبار كون الخبر وجود السنة ، فيكون بالاضافة إلى السنة كالوجود بالنسبة إلى
الماهية ، بخلاف التنجز فإنه وصف زائد على السنة ، مجعول تبعا بجعل المنجزية للخبر
استقلالا ، فهو أشد ارتباطا بالخبر من السنة. فتدبر جيدا.
٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( المراد من السنة ما يعمّ حكايتها ...
الخ ) .
بأن يراد من السنة
ـ الواقعة في كلماتهم ـ طبيعي السنة بوجودها العيني أو الحكائي ، فإن الشيء له
انحاء من الوجود بالذات وبالعرض ، ومنها وجودها في الحكاية ، أو أن يراد الأعمّ
بغير ذلك.
__________________
١٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إلاّ أنّ البحث
في غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ ... الخ ) .
إن كان الغرض ـ كما
هو ظاهر سياق الكلام ـ أعمّية موضوعات المباحث المزبورة من الألفاظ الواردة في
الكتاب والسنة ، فيمكن دفعه : بأن قرينة المقام شاهدة على إرادة خصوص ما ورد في
الكتاب والسنة.
وإن كان الغرض :
أنّ عوارض هذه الموضوعات الخاصة تلحقها بواسطة أمر أعمّ ـ وهو كون صيغة ( افعل )
مثلا من دون دخل لورودها في الكتاب والسنة ـ فالاشكال في محلّه.
ولا يندفع : بأنّ
البحث ليس باعتبار نفس الأمر الأعم ، بل بلحاظ اندراج الأخصّ تحته. وذلك لأن هذا
الاعتبار إن لم يكن دخيلا في عروض العارض ، لم يكن لحاظه مخرجا له عن كونه عرضا
غريبا.
كما أن الالتزام
بكون موضوع العلم أعم من الادلة بالمعنى الأعم مع قيام الغرض بخصوصها بلا وجه ،
وهو من القضايا التي قياساتها معها.
كما لا يندفع
الاشكال بما ذكرناه ـ في تصحيح العارض لأمر أخصّ أو أعمّ ـ من : أن مجرد الصدق ـ بلا
تجوز عرفا ـ كاف في كون العرض ذاتيا ، ولا يتوقف على عدم الواسطة في العروض حقيقة
ودقة. وذلك لأنا وإن قلنا بعدم اعتبار كون العرض ذاتيا لموضوع العلم حقيقة ، إلا
أنه لا بد من كونه عرضا ذاتيا لموضوع المسألة عقلا.
ومع تخصيص موضوع
المسألة بحيثية الورود في الكتاب والسنة ـ حتى لا يلزم إشكال اندراج الأعم تحت
الأخص ـ يلزم كون العرض غريبا عن موضوع المسألة.
__________________
ومنه تبين عدم
المناص عن أحد المحاذير الثلاثة :
إما لزوم اندراج
الأعم تحت الأخص لو أبقينا موضوع العلم على خصوصه وموضوع المسألة على عمومه ، وإما
لزوم كون العرض غريبا إذا خصّصنا موضوع المسألة ، وإما لزوم أخصية الغرض إذا
عمّمنا موضوع العلم ، بحيث يعم موضوعات مسائله العامة.
ولا يخفى أن عدم
الالتزام بموضوع جامع يدفع المحذورين الأوّلين ـ دون الأخير ـ كما هو واضح.
١١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وجملة من غيرها
... الخ ) .
كالمسائل الاصولية
العقلية ، فإنّ الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ـ مثلا ـ لا اختصاص لها
بالوجوب الشرعي ، ولا بما يقع في طريق الاستنباط.
والدليل العقلي ـ الواقع
موضوعا للعلم ـ هي القضية العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي ـ دون الأعم ـ مع
أنّ العقل يحكم بالملازمة لا من هذه الحيثية.
١٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويؤيد ذلك تعريف
الاصول ... الخ ) .
وجه التأييد ظاهر
؛ حيث لم يقيد القواعد الممهدة بكونها باحثة عن الأدلّة ، وقولهم في تتمّة التعريف
: ( عن أدلّتها ) غير مناف لذلك كما يتخيل ؛ إذ كون المستنبط منه هي الأدلّة ، لا
ربط له بكون القواعد باحثة عن الأدلة.
__________________
١٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن كان الأولى
تعريفه : تعريف علم الأصول بأنه
صناعة يعرف بها القواعد ... الخ ) .
الأولويّة من وجوه
:
منها : تبديل تخصيص القواعد بكونها واسطة في الاستنباط ـ كما عن
القوم ـ بتعميمها لما لا تقع في طريق الاستنباط ، بل ينتهي إليه الأمر في مقام
العمل.
وجه
الأولوية : أنّ لازم
التخصيص خروج جملة من المسائل المدوّنة في الاصول عن كونها كذلك ، ولزوم كونها
استطرادية ؛ مثل الظن الانسدادي على الحكومة ؛ لأنه لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن
به أبدا ، وإنما يستحق العقاب على مخالفته عقلا كالقطع. ومثل الاصول العملية في
الشبهات الحكمية ؛ فإنّ مضامينها بأنفسها أحكام شرعية ، لا أنها واسطة في
استنباطها في الشرعية منها. وأما العقلية فلا تنتهي إلى حكم شرعي أبدا.
فهذه المسائل بين
ما تكون مضامينها أحكاما شرعية ، وبين ما لا تنتهي إلى حكم شرعي ، وجامعها عدم
إمكان وقوعها في طريق الاستنباط وما يرى من إعمال الاصول الشرعية في الموارد
الخاصة ، إنما هو من باب التطبيق. لا التوسيط. بل يمكن الاشكال في جلّ مسائل
الاصول ، فان الامارات الغير العلمية ـ سندا أو دلالة ـ يتطرق فيها هذا الاشكال ،
وهو أن مرجع حجيتها : إمّا إلى الحكم الشرعي ، أو غير منته إليه أبدا ، وعلى أيّ
تقدير ليس فيها توسيط للاستنباط.
توضيحه : أن مفاد دليل اعتبار الامارات الغير العملية سندا ـ كخبر
الواحد ـ إما إنشاء أحكام مماثلة لما أخبر به العادل من ايجاب أو تحريم ، فنتيجة
البحث عن حجيّتها حكم شرعي ، أو جعلها منجزة للواقع بحيث يستحق
__________________
العقاب على
مخالفتها للواقع ، فحينئذ لا ينتهي إلى حكم شرعي أصلا.
ومفاد دليل اعتبار
الامارة الغير العلمية دلالة ـ كظواهر الألفاظ ـ كذلك ، بل يتعين فيها الوجه
الثاني ، فان دليل حجية الظواهر بناء العقلاء ، ومن البيّن أنّ بناءهم في اتباعهم
على مجرد الكاشفية والطريقية ، فالظاهر حجة عندهم ؛ أي مما يصحّ للمولى أن يؤاخذ
به عبده على مخالفته لمراده ، لا أنّ هناك حكما من العقلاء مماثلا لما دل عليه
ظاهر اللفظ ؛ حتى يكون إمضاء الشارع أيضا كذلك.
وأما مباحث
الألفاظ فهي وإن كانت نتائجها غير مربوطة ابتداء بهذا المعنى ، لكن جعل تلك النتائج في طريق الاستنباط لا يكاد يكون إلا بتوسط حجية الظهور ، وقد
عرفت حالها ، فلا ينتهي الأمر من هذه الجهة إلى حكم شرعي أبدا ، فلا مناص من
التوسعة والتعميم ؛ بحيث يعم موضوع فن الاصول ما يمكن أن يقع في طريق الاستنباط ،
وما ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام العمل.
والغرض من تدوين
فن الاصول لا بد من أن يجعل أعم ـ لا بأن يجعل الغرض الانتفاع بقواعدها في مقام
الاستنباط وفي مقام العمل ؛ فإنّ تعدّد الغرض يوجب تعدّد العلم في المورد القابل ؛
حيث إن القواعد التي ينتفع بها في مقام الاستنباط غير القواعد التي ينتهي إليها
الأمر في مقام العمل ـ بل بأن يجعل الغرض أعمّ من الغرضين ؛ ليرتفع التعدد من
البين ؛ لئلا يلزم كون فن الاصول علمين ، إلا أن يوجه مباحث الامارات الغير
العلمية ـ بناء على إنشاء الحكم المماثل ـ بأن الأمر بتصديق العادل ـ مثلا ـ ليس
عين وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلك. كما أن حرمة نقض اليقين بالشك
ليست عين
__________________
وجوب ما أيقن
بوجوبه سابقا ، بل لازمه ذلك. والمبحوث عنه في الاصول بيان هذا المعنى الذي لازمه
الحكم المماثل ، واللازم والملزوم متنافيان ، وهذا القدر كاف في التوسيط في مرحلة
الاستنباط. بل يمكن التوجيه ـ بناء على كون الحجية بمعنى تنجيز الواقع ـ بدعوى :
أن الاستنباط لا يتوقف على احراز الحكم الشرعي ، بل يكفي الحجة عليه في استنباطه ؛
إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلا تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، ومن الواضح
دخل حجيّة الأمارات ـ بأي معنى كان ـ في إقامة الحجة على حكم العمل في علم الفقه.
وعليه فعلم الاصول
: ما يبحث فيه عن القواعد الممهّدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، من دون لزوم
التعميم إلا بالإضافة إلى ما لا بأس بخروجه ؛ كالبراءة الشرعية التي معناها حلية
مشكوك الحرمة والحلية ، لا ملزومها ، ولا المعذّر عن الحرمة الواقعية.
وأما الالتزام
بالتعميم على ما في المتن ففيه محذوران :
أحدهما : لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين لئلا يكون فن الاصول
فنين.
ثانيهما : أنّ مباحث حجية الخبر وأمثاله ليست مما يرجع إليها بعد
الفحص واليأس عن الدليل على الحكم العمل ؛ إذ لا يناط حجية الامارات بالفحص واليأس
عن الدليل القطعي على حكم الواقعة ، نظير حلية المشكوك ؛ حيث إنها لا يرجع إليها
إلا بعد الفحص واليأس عن الدليل على حرمة شرب التتن. وأما جعلها مرجعا ـ من دون
تقييد بالفحص واليأس ـ فيدخل فيها جميع القواعد العامة الفقهية ؛ فإنها المرجع في
جزئياتها كما لا يخفى.
ثم
لا يخفى عليك : أنّ الالتزام
بأعمّية الغرض إنما يجدي بالإضافة إلى ما لا يقع في طريق الاستنباط ، وكان ينتهي
إليه الأمر في مقام العمل ، لا بالنسبة إلى ما كان بنفسه حكما مستنبطا ـ من غير
مرجعية للمجتهد بعد الفحص
واليأس عن الحجية
على حكم العمل ـ فانه داخل في القواعد الفقهية الباحثة عن عوارض أفعال المكلفين.
واختصاصها أحيانا بالمجتهد ليس من حيث كونها واسطة في الاستنباط المختص بالمجتهد.
كيف؟ والمفروض كونها أحكاما مستنبطة ، بل من حيث إن تطبيق القواعد الكلية على
مواردها موقوف على الخبرة بالتطبيق.
١٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( في الشبهات
الحكمية ... الخ ) .
لأنها القابلة
للمرجعية بعد الفحص واليأس عن الدليل ، دون الجارية في الشبهة الموضوعية ؛ فان
مفادها حكم عملي محض ، وحال المجتهد فيها والمقلد على السوية.
__________________
الوضع
١٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الوضع : هو نحو
اختصاص اللفظ بالمعنى ، وارتباط خاص ... الخ ) .
لا ريب في ارتباط
اللفظ بالمعنى واختصاصه به ، وإنما الإشكال في حقيقة هذا الاختصاص والارتباط ،
وأنه معنى مقولي ، أو أمر اعتباري.
وتحقيق
الكلام فيه : أن حقيقة
العلقة الوضعية لا يعقل أن تكون من المقولات الواقعية ـ لا ما له مطابق في الأعيان
، ولا ما كان من حيثيات ما له مطابق في الأعيان ـ لأن المقولات العرضية ـ سواء
كانت ذات مطابق في الخارج ، أو ذات منشأ لانتزاعها واقعا ـ مما تحتاج إلى موضوع
محقق في الخارج ؛ بداهة لزومه في العرض ، مع أنّ طرفي الاختصاص والارتباط ـ وهما
اللفظ والمعنى ـ ليسا كذلك ، فإنّ الموضوع والموضوع له طبيعي اللفظ والمعنى ، دون
الموجود منهما ، فإنّ طبيعيّ لفظ الماء موضوع لطبيعي ذلك الجسم السيال ، وهذا
الارتباط ثابت حقيقة ، ولو لم يتلفظ بلفظ الماء ، ولم يوجد مفهومه في ذهن أحد.
ومنه
يظهر : أنه ليس من
الامور الاعتبارية الذهنية ؛ لأن معروضها ذهني ، بخلاف الاختصاص الوضعي ، فان
معروضه نفس الطبيعي ، لا بما هو موجود ذهنا كالكلية ، والجزئية ، والنوعية ،
والجنسية ، ولا بما هو موجود خارجا كالمقولات العرضية ، فتدبر.
وتوهم : أن صيغة ( وضعت ) منشأ للانتزاع ، فقد وجد الاختصاص
والارتباط بوجود المنشأ ، نظير ثبوت الملكية ـ مثلا ـ بالعقد أو المعاطاة.
__________________
مدفوع : بأن الأمر الانتزاعي مما يحمل العنوان المأخوذ منه على
منشئه ، والحال أن الاختصاص والارتباط بنحو الاشتقاق لا يحملان على صيغة ( وضعت )
، كما لا يحمل الملك بالمعنى الفاعلي أو المفعولي على صيغة ( بعت ) ، بل اللفظ هو
المختص بالمعنى ، وأحدهما مربوط بالآخر ، كما أن الملك بالمعنى الفاعلي يحمل على
المالك ، وبالمعنى المفعولي يحمل على المملوك ، فلا وجه لدعوى : أن الانشاء في
الملك وفي الوضع وغيرهما منشأ الانتزاع.
ومما يشهد لما
ذكرنا ـ من عدم كون الاختصاص معنى مقوليا ـ أن المقولات امور واقعية لا تختلف
باختلاف الأنظار ، ولا تتفاوت بتفاوت الاعتبار ، ومع أنه لا يرتاب أحد في أن طائفة
يرون الارتباط بين لفظ خاصّ ومعنى مخصوص ، ولا يرونه بينهما طائفة اخرى ، بل يرونه
بين لفظ آخر وذلك المعنى.
ومما
يؤكد ذلك أيضا : أن المقولات الحقيقة أجناس عالية للماهيات ، ولا تصدق المقولة صدقا خارجيا
إلا إذا تحققت تلك الماهية في الخارج. وقد عرفت : أن وجود معنى مقولي في الخارج لا
يكون إلا إذا كان له مطابق فيه ، أو كان حيثية وجودية لما
كان له مطابق فيه ، ويسمى بالأمر الانتزاعي ، ومن الواضح أن مفهوم الاختصاص ـ بعد
عمل الواضع ـ لم يوجد له مطابق في الخارج ، ولم يختلف اللفظ والمعنى حالهما ، بل
هما على ما كانا عليه من الذاتيات والأعراض ، وما لم ينضمّ إلى اللفظ ـ مثلا ـ حيثية
عينية لا يعقل الحكم بوجود الاختصاص فيه وقيامه عينا به قيام العرض بموضوعه.
فان
قلت : لا ريب في صدق
حدّ مقولة الاضافة على الملكية
__________________
والاختصاص ونحوهما
من النسب المتكررة.
قلت : فرق بين كون المفهوم من المفاهيم الاضافية ، وبين صدق حد
مقولة الإضافة على شيء ، والمسلّم هو الأول ، والنافع للخصم هو الثاني.
ومن
الواضح : أن كون المفهوم
من المفاهيم الإضافية لا يستدعي وجود مطابق له في الخارج بحيث يصدق عليه حد
المقولة ، والشيء لا يعقل أن يكون فردا من المقولة ومصداقا لها ، إلا إذا وجد في
الخارج على نحو ما يقتضيه طبع تلك المقولة ؛ ألا ترى صدق العالمية والقادرية عليه
تعالى ، مع تقدس وجوده عن الاندراج في العرض والعرضي ؛ لمنافاة العروض مع وجوب
الوجود ، بل تلك الإضافات إضافات عنوانية لا إضافات مقولية ، فكذا الملكية
والاختصاص ، فان مفهومهما من المفاهيم الاضافية المتشابهة الأطراف ؛ بحيث لو وجدا
في الخارج حقيقة كانا من حيثيات ما له مطابق في الأعيان.
فالتحقيق في أمثال هذه المفاهيم أنها غير موجودة في المقام وأشباهه بوجودها الحقيقي ،
بل بوجودها الاعتباري بمعنى : أنّ الشارع أو العرف أو طائفة خاصة يعتبرون هذا
المعنى لشيء أو لشخص ؛ لمصلحة دعتهم إلى ذلك ، كما في التنزيلات ، والحقيقة
الادعائية. أما نفس الاعتبار فهو أمر واقعي قائم بالمعتبر ، وأما المعنى المعتبر فهو
على حدّ مفهوميته وطبيعته ، ولم يوجد في الخارج ، وإنما وجد بمعنى صيرورته طرفا
لاعتبار المعتبر ، فينسب إليه الوجود ، فالموجب والقابل ـ مثلا ـ ما لكان ،
والعوضان مملوكان في عالم اعتبار الشارع أو العرف ، لا في الخارج مع قطع النظر عن
اعتبارهما.
ثم إن هذا المعنى
: قد يكون من الامور التسبيبية ، فيتسبب المتعاقدان
__________________
بالإيجاب والقبول
اللّذين جعلهما الشارع سببا يتوصل به إلى اعتبار الشارع للملكية. فالملكية توجد
بوجودها الاعتباري من الشارع بالمباشرة ، ومن المتعاقدين بالتسبيب.
وقد لا يكون
المعنى المعتبر تسبيبيا ؛ كالاختصاص الوضعي ، فإنّه لا حاجة في وجوده إلا إلى
اعتبار من الواضع. ومن الواضح أن اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة ، لا بالتسبيب
كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله : ( وضعت ) ونحوه ، فتخصيص الواضع ليس إلا اعتباره
الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص.
ثم إنه لا شبهة في
اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه ، وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه ، مع
حيثية دلالة سائر الدوالّ ، كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فإنه أيضا ينتقل من
النظر إليه إلى أن هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أن الوضع فيه حقيقي ، وفي
اللفظ اعتباري.
بمعنى : أن كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار
معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع
اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص.
ومنه
ظهر : أن الاختصاص
والارتباط من لوازم الوضع ، لا عينه.
وحيث عرفت اتحاد
حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوالّ تعرف : أنه لا حاجة إلى الالتزام
بأن حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ـ كما عن بعض أجلة العصر ـ فانك قد عرفت : أن كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوالّ على نهج
واحد بلا إشكال ، فهل ترى تعهدا من
__________________
ناصب العلم على
رأس الفرسخ. بل ليس هناك إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، فكذلك
فيما نحن فيه ، غاية الأمر أن الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري.
ولا
يخفى عليك : أن من يجعل الوضع
عبارة عن التعهد ، لا يدعي أنه عين الارادة المقومة لتفهيم المعنى باللفظ ؛ حتى
يتخيل أنها إرادة مقدمية توصلية ، فلا يعقل أن تتعلق بما لا يكون مقدمة لتفهيم
المعنى إلا بنفس هذه الارادة.
بل المراد من
التعهد هو : الالتزام والبناء الكلي على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى به في
مرحلة الاستعمال ، وتلك الارادة الاستعمالية وان كانت تتوقف على سبق العلم بالوضع
من المخاطب ، إلا أن هذا التوقف ليس من خصوصيات التعهد ، بل الوضع ـ بأي معنى كان
ـ لا بد فيه من العلم به في مرحلة انفهام المعنى من اللفظ ، فالارادة المفهمة
المقومة للاستعمال وإن كانت تتوقف على سبق الوضع والعلم به ، إلاّ أن ذلك التعهد
والالتزام غير موقوف على كون اللفظ مفهما فعلا ؛ حيث إنه لم تتعلّق الإرادة
الفعلية بالتفهيم به.
فالتعهّد ـ المعبّر
عنه في كلام مدّعيه بالإرادة الكلية ـ قد تعلق بأمر مقدور في موطنه وإن كان
التعهّد والعلم به دخيلا في إمكانه. فتدبّر جيّدا.
١٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وبهذا المعنى صح
تقسيمه إلى التعييني
__________________
والتعيني ... الخ ) .
وأما على ما ذكرنا
ـ من أن حقيقة الوضع اعتبار الواضع ـ فلا جامع بينهما ، بل الوضع التعيني يشترك مع
التعييني في نتيجة الأمر ؛ إذ كما أن اعتبار الواضع يوجب الملازمة بين اللفظ
والمعنى من حيث الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ، كذلك كثرة الاستعمال توجب
استيناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ، فلا حاجة إلى
دعوى اعتبار أهل المحاورة على حد اعتبار الواضع فانه لغو بعد حصول النتيجة.
١٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الملحوظ حال
الوضع إما يكون ... الخ ) .
لا يخفى عليك : أن
الغرض من الملحوظ حال الوضع ما لا بد من لحاظه ؛ حيث إن العلقة الوضعية نسبة بين
طرفيها ، فلا بد من ملاحظة طرفيها إما بالكنه والحقيقة ، أو بالوجه والعنوان.
ومنه يظهر فساد
القسم الرابع ؛ لأن الوضع للكلي لا يحتاج إلا إلى ملاحظته ، بخلاف الوضع للأفراد
الغير المتناهية ، فان لحاظ الغير المتناهي غير معقول ، فلا بد من لحاظها بجامع
يجمع شتاتها ، ويشمل متفرّقاتها ، وهو الكلي المنطبق عليها ، فان لحاظها بالوجه لحاظها بوجه.
فما أفاده بعض
الأعلام ( قده ) : من معقولية القسم الرابع ؛ نظرا إلى أنه كالمنصوص العلة
، فان الموضوع للحكم فيه شخصي ، ومع ذلك يسري الى كل ما فيه العلة. وكذلك إذا وضع
لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة ، فان الوضع
__________________
يسري إلى كل ما فيه
تلك الفائدة ، فيكون الموضوع له عامّا ، مع كون آلة الملاحظة خاصا.
مدفوع : بأنّ اللحاظ الذي لا بد منه ولا مناص عنه في الوضع
للكلّي لحاظ نفسه ، ولحاظ الفرد من حيث فرديته أو لحاظ الكلّي الموجود فيه لا دخل
له بلحاظ الكلي بما هو كلّي.
وربما يتخيّل
انقسام الوضع العام والموضوع له العام إلى قسمين ؛ نظرا إلى أن الواضع ربما يلاحظ
المعنى العام مستقلا ، فيضع اللفظ بإزائه ، وربما يلاحظ المعنى المنتزع عن الجهة
المشتركة بين الأفراد الذهنية ، فيضع اللفظ بمرآتية العنوان المنتزع لمنشئه ، وهي
الجهة المشتركة بين الافراد الذهنية ؛ لبداهة أن الأفراد الذهنية ـ كالأفراد
الخارجية ـ ذات جهة جامعة مشتركة لكل فرد منها حصة متقررة في مرتبة ذاتها. ويترتب
على هذا القسم من الوضع : أن إفادة الجهة المشتركة بنفس الدالّ عليها غير ممكن ؛
لأن الايجاد الذهني للطبيعة ـ كالخارجي ـ بايجاد فردها ، فالخصوصية المفرّدة لا بد
من إحضارها بما يدل عليها ؛ حتى يعقل إحضار الجهة المشتركة بإحضارها.
وهو
تخيل فاسد من حيث
المبنى والبناء :
أمّا من حيث
المبنى : فان الموجودات ـ خارجية كانت ، أو ذهنية ـ ليس فيها بما هي موجودات ، جهة
واحدة مشتركة ، إلا بناء على وجود الطبيعي بوجود واحد عادى ، يتوارد عليه المشخصات
، وهو بديهي البطلان ، فاعتبار الاشتراك والكلية ليس للمعنى بما هو هو ؛ لأنّ
الماهية في حد ذاتها غير واجدة إلا لذاتها وذاتياتها ، ولا لها بما هي موجودة
خارجا أو ذهنا ؛ إذ هي بهذا القيد شخص لا كلي ولا جزئي ، فان مقسمهما المعنى ، لا
الموجود بما هو موجود ، بل الكلية والاشتراك من اعتبارات الماهية حين كونها في
الذهن ، فاذا كان النظر مقصورا عليها ، ولوحظت مضافة إلى الافراد الخارجية أو
الذهنية ، وكانت غير آبية عن الصدق
عليها ، يقال :
إنها جهة جامعة مشتركة ، فالمنتزع عن الأفراد هي الجهة المشتركة ، وهي واحدة بوحدة
طبيعية ، لا بوحدة وجودية عددية.
وصحة انتزاع هذا
الواحد من كل واحد من الوجودات هو معنى وجود الطبيعي بالعرض في الخارج ـ بناء على
أصالة الوجود ـ وهو معنى أن الطبيعي كالآباء بالإضافة إلى الأبناء ، في قبال
القائل : بأنه واحد عددي ، فإنه كالأب الواحد ، والمشخصات كالأبناء.
وأما من حيث
البناء : فلأن مفرد الجامع في الذهن هو الوجود الذهني ، فايجاده في الذهن باللفظ
عين تفريده وجعله فردا ، والمفروض عدم الاختصاص في المفردات ، ومنها وجوده في ذهن
المخاطب. فافهم ولا تغفل.
١٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فقد توهم أنه
وضع الحروف وما الحق بها من الأسماء ... الخ ) .
تحقيق المقام
يتوقف على تحقيق المعاني الحرفية والمفهومات الأدويّة ، وبيان المراد من عدم
استقلالها في المفهومية ، فنقول : الذي ينساق اليه النظر الدقيق بعد الفحص
والتدقيق : أن المعنى الحرفي والاسمى متباينان بالذات لا اشتراك لهما في طبيعي
معنى واحد.
والبرهان
على ذلك هو : أن الاسم
والحرف لو كانا متحدي المعنى ، وكان الفرق بمجرد اللحاظ الاستقلالي والآلي ، لكان
طبيعي المعنى الوحداني قابلا لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على
طورين ، مع أن المعنى الحرفي ـ كأنحاء النسب والروابط ـ لا يوجد في الخارج إلا على
نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه ، ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي
، فإن
__________________
القابل لهذا النحو
من الوجود ما كان له ماهية تامة ملحوظة في العقل كالجواهر والاعراض ، غاية الأمر
أنّ الجوهر يوجد في نفسه لنفسه ، والعرض يوجد في نفسه لغيره.
ومنه
ظهر : أن تنظير المعنى
الاسمي والحرفي بالجوهر والعرض ، غير وجيه ، فان العرض موجود في نفسه لغيره.
والصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط ـ لا الرابطي ـ كما لا يخفى على
العارف بالاصطلاح المرسوم في تقسيم الوجود. فراجع.
وبالجملة : لا
شبهة في أن النسبة لا يعقل أن توجد في الخارج إلا بوجود رابط لا في نفسه ، مع أن
طبيعي معناها لو كان قابلا للّحاظ الاستقلالي ، لكان من الماهيات التامة في اللحاظ
، وهي قابلة للوجود النفسي.
فعدم قابلية الربط
والنسبة للوجود النفسي المحمولي كاشف عن انه لا يتصور أن يكون للنسبة في حد ذاتها
قبول اللحاظ الاستقلالي ، وإلا كان في تلك الحال ماهية تامة في اللحاظ ومثلها إذا
كان قابلا للوجود العيني كان قابلا للوجود النفسي.
وقد
عرفت آنفا : أن مجرّد لزوم
القيام بالغير لا ينافي الوجود النفسي ، كيف؟ والعرض من أنحاء الموجود في نفسه ،
مع أن وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، فكون النسبة حقيقة أمرا قائما بالمنتسبين ـ
لو لم يكن نقصان في حد ذاتها ـ لم يكن مانعا عن وجودها في نفسها ، مع أنّ من
البديهي أن حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين من دون نفسية
واستقلال أصلا ، فهي متقومة في ذاتها بالمنتسبين ، لا في وجودها فقط. بخلاف العرض
، فان ذاته غير متقومة بموضوعه ، بل لزوم القيام بموضوعه ذاتي وجوده ، فان وجوده
في نفسه وجوده لموضوعه.
وإذا كانت النسبة
بذاتها وحقيقتها متقومة بالطرفين ، فلا محالة يستحيل اختلافها باختلاف الوجودين من
الذهن والعين.
ومنه
ظهر : أن الأمر كذلك
في جميع أنحاء النسب ، سواء كان بمعنى ثبوت شيء لشيء ، كما في الوجود الرابط
المختص بمفاد الهليات المركبة الايجابية ، أو بمعنى ( كون هذا ذاك ) الثابت حتى في
مفاد الهلية البسيطة ، وهو ثبوت الشيء ، أو كان من النسب الخاصة المقومة للأعراض
النسبية ، ككون الشيء في المكان ، أو في الزمان أو غير ذلك.
فإن
قلت : إذا لم يكن بين
الاسم والحرف قدر جامع ، فما المحكيّ عنه بلفظ الربط والنسبة والظرفية وأشباهها من
المعاني الاسمية؟
قلت : ليس المحكي عنه بتلك الألفاظ إلا
مفاهيم وعناوين ، لا حقيقة الربط والنسبة ، كما في لفظ العدم ، فانه لا يحكي إلا
عن عنوان موجود في ظرف الذهن ، لا عما هو بالحمل الشائع عدم ، وليس العدم كالماهية
يوجد بنحوين من الوجود ، بل وكذلك الأمر في لفظ الوجود بناء على أصالة الوجود ،
فان حقيقة الوجود ليست كالماهية ؛ حتى توجد تارة في الذهن ، واخرى في العين.
وبالجملة : مفاهيم هذه الالفاظ ما هو ربط ونسبة وعدم ووجود بالحمل
الأوّلي ، لا بالحمل الشائع ، وإلا فهي غير ربط ولا نسبة بالحمل الشائع. وما هو
ربط ونسبة بالحمل الشائع نفس ذلك الأمر المتقوّم بالمنتسبين المحكيّ عنه بالأدوات
والحروف.
وأما الظرفية
والاستعلاء والابتداء فهي معان اسمية ، وليس معنونها معنى حرفيا ، بل كلمة ( في )
ـ مثلا ـ معنى رابطة للظرف والمظروف ، وكلمة ( على ) رابطة
__________________
للمستعلي
والمستعلى عليه ، وكلمة ( من ) رابطة للمبتدا به والمبتدأ من عنده ، وهكذا ، لا أن
الظرفية مشتركة مع أداتها في معنى ، أو أحدهما عنوان والآخر
معنون كمفهوم الرابطة ومصداقها. فتدبره ، فانه حقيق به.
وما ذكرناه في
تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدويّة ، هو الذي صرّح به أهل التحقيق والأكابر
من أهل فن المعقول.
نعم بعض المعاني
الاسمية ربما يكون آلة لتعقّل حال الغير ، وحينئذ يكون كالمعنى الحرفي في عدم
الاستقلال في القصد واللحاظ ، فيتخيل أن مجرد عدم الاستقلال في اللحاظ ملاك
الحرفية ومناط الأدويّة ، مثلا الإمكان والوجوب والامتناع معان اسمية ، إلاّ أنّا
إذا حكمنا على الانسان بالإمكان فالمحكوم به معنون هذا العنوان لا نفسه ، فمفهوم
الامكان ـ مع كونه بحسب الاستعمال ملحوظا بالاستقلال ـ مقصود بالتبع ، وكالآلة
للقوة العاقلة يتعرف بها حال الانسان ، فهو ملحوظ بالاستقلال في مرتبة الاستعمال ،
وملحوظ آلي في مرحلة الحكم ، فيكون كالمعنى الحرفي. وقد يلاحظ الإمكان بماله من
العنوان ، وهو ليس من أحوال الماهيات الإمكانية حقيقة ، بل هو موجود من الموجودات
الذهنية. فحقيقة الامكان لها وجود رابط للانسان ، وعنوانه له وجود محمولي رابطي ؛
حيث إنه موجود في الذهن ، والعرض وجود في نفسه وجوده لموضوعه ، وهو معنى كونه
رابطيا.
وأما حقيقة المعنى
الحرفي والمفهوم الأدويّ فهو : ما كان في حدّ ذاته غير استقلالي بأيّ وجود فرض.
فعدم استقلاله
باللحاظ كعدم استقلاله في الوجود العيني ، من جهة
__________________
نقصان ذاته عن
قبول الوجود النفسي في أي وعاء كان ، لا أن اتصافه بعدم الاستقلال بلحاظ اللحاظ ؛
حتى يكون الوصف المذكور وصفا له بحال متعلقه لا بحال نفسه.
وتفاوت المعاني
ليس أمرا مستنكرا ، والوجود مبرز ومظهر لما هي عليه ، لا أن المعنى في حد ذاته
كسائر المعاني ، ويعرضه الآلية والاستقلال في مرحلة اللحاظ والاستعمال.
فان
قلت : ما برهنت عليه
وركنت اليه ـ من أنّ النسبة غير قابلة للوجود النفسي ـ غير مسلّم ، كيف؟ والأعراض
النسبية ـ كمقولة الأين ومتى والوضع وأشباهها ـ من انحاء النسب ، مع أنها موجودات
في نفسها ، وان كان وجودها لموضوعاتها.
قلت : التحقيق كما عليه أهله : أن الأعراض النسبية ليست نفس
النسب ، بل هيئات وأكوان خاصة ذات نسبة ، فمقولة الأين ليست نسبة الشيء في المكان
، بل الهيئة القائمة بالكائن في المكان ، غاية الأمر أن الأعراض النسبية أضعف
وجودا من غيرها ، كما أن مقولة الاضافة أضعفها جميعا ؛ حيث إن وجودها في الخارج
ليس إلا كون الشيء في الخارج بحيث إذا عقل عقل شيء آخر معه ، إلا أن هذه الحيثية
زائدة على نفس الشيء ؛ إذ ذات الأب له وجود غير متحيث بتلك الحيثية ، وله وجود
متحيث بالحيثية ، ومنشأ هذا التفاوت ليس إلا أمر وجوديّ.
وأما النسب
والروابط الصرفة ، فوجوداتها أضعف جميع مراتب الوجود ، حيث لا يمكن وجودها ـ لا في
الخارج ، ولا في الذهن ـ من حيث هي هي مع قطع النظر عن الطرفين ، فلذا لا تندرج
تحت مقولة من المقولات ؛ لأن المقولة لا بد من أن تكون طبيعية محمولة.
إذا عرفت ما
حققناه ـ في حقيقة المعنى الحرفي ـ تعرف : أنه لا يعقل
الوضع لها ـ من
حيث هي هي ـ إلا بتوسط العناوين الاسمية ، كالابتداء الآلي ونحوه.
وميزان عموم الوضع
وخصوص الموضوع له ، ليس الوضع للجزئيات الحقيقية ؛ حتى يورد علينا : بأن مجرد
الوضع لحقيقة الابتداء النسبي بتوسط عنوان الابتداء الآلي ، لا يوجب خصوص الموضوع
له ؛ لبقاء المعنون على كليته وشموله الذاتي ، بل الميزان في العموم والخصوص : أن
نسبة الموضوع له والملحوظ حال الوضع : إن كانت نسبة الاتحاد والعينية ـ كما إذا
لاحظ أمرا عامّا أو خاصّا ، فوضع اللفظ بازاء نفس ذلك الملحوظ ـ كان الوضع
والموضوع له عامين أو خاصين. وإن كان الموضوع له غير الملحوظ حال الوضع ـ بأن كان
الملحوظ ما هو ابتداء آلي بالحمل الأوّليّ ، والموضوع له ما هو ابتداء نسبي بالحمل
الشائع ـ فلا محالة يكون نسبة الموضوع له إلى الملحوظ حال الوضع نسبة الأخص إلى
الأعم ، وسرّه أن أنحاء النسب ليس لها جامع ذاتي ، بل جامع عنواني ، وهذا شأن كل
أمر تعلّق في حد ذاته.
لا
يقال : الابتداء
النسبي الملحوظ بتبع لحاظ طرفيه ، يصدق على الابتداءات الخاصة النسبية الخارجية ،
فهي كلي ذاتي يصدق على أفراده.
لأنا
نقول : قد عرفت سابقا
أن الابتداء معنى اسمي من مقولة الإضافة ، وما هو معنى حرفي هو نسبة المبتدأ به
بالمبتدإ منه ، كما أن الظرفية والمظروفية أيضا كذلك. ونسبة الكون
في المكان ـ المقومة لمقولة الأين تارة ، ولمقولة الاضافة اخرى ـ معنى حرفي ،
ونسبة شيء إلى شيء ليست شيئا من الأشياء ، ولا مطابق لها في الخارج ، بل ثبوتها
الخارجي على حد ثبوت المقبول بثبوت القابل على نهج القوة لا الفعل. وهكذا ثبوتها
الذهني ، فلا ثبوت فعلي
__________________
للنسبة إلا هكذا ،
وهي دائما متقومة بطرفين خاصين ـ بحيث لو لوحظ ثانيا كان ثبوتا فعليا آخر للنسبة ـ
فلا ثبوت فعلي للنسب خارجا ؛ حتى يكون النسبة الذهنية بالاضافة إليها كالطبيعي
بالاضافة إلى أفراده ، وإن كانت النسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ، فان
المطابقة تتحقق بين جزءين ، وهي غير الصدق ، وأما مفهوم النسبة فقد عرفت سابقا :
أن نسبتها إلى النسب الحقيقية نسبة العنوان إلى المعنون. فتدبّر جيّدا.
١٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وذلك لأنّ
الخصوصية المتوهمة إن كانت ... الخ ) .
حاصله : أن الماهية ـ مقولية كانت أو اعتبارية ـ في حد ذاتها
كلية ، وصيرورتها جزئية لا تكون إلا بالوجود ـ سواء كان عينيا حقيقيا أو ذهنيا
ظلّيّا ـ إذ التشخص كما حقق في محله بالوجود.
فإن اريد بالجزئي
ما هو جزئي عيني ، ففيه : أن المستعمل فيه ربما كان كليّا كما في قولك : ( سر من
البصرة إلى الكوفة ).
وإن اريد بالجزئي
ما هو جزئي ذهني ؛ حيث إن الموجود في الذهن ، وإن كان في حد ذاته ومفهومه كليّا ،
إلا أنه بحسب وجوده الذهني جزئي ؛ إذ التشخص بالوجود ، بل هو عين التشخص.
ففيه : أن هذا الوجود المأخوذ في الموضوع له أو المستعمل فيه :
إن كان نفس اللحاظ المقوم للاستعمال فاستعمال اللفظ فيما هو جزئي بهذا المعنى محال
؛ إذ المفروض أنه مقوم للاستعمال ، فكيف يعقل أخذه فيما هو مقدم عليه طبعا؟! وإن
كان أعم ؛ كي يعم لحاظا آخر فالمستعمل فيه أمر عقلي لا موطن له إلا في الذهن ،
فانطباقه على الخارج إنشاء وإخبارا محال ، فلا بد من التجوّز الدائمي
__________________
بإلغاء الخصوصية ،
فيلغو الوضع المتخصّص بهذه الخصوصية.
مضافا إلى أن
الجزئية ـ على أي تقدير ـ بنفس اللحاظ لا بآليته كي تختصّ بالحروف ، فما المخصّص
للوضع للملحوظ بما هو ملحوظ في الحروف دون الأسماء؟
والجواب ما أسمعناك
في الحاشية المتقدمة من أن أنحاء النسب الحقيقة في حد ذاتها ـ مع قطع النظر عن أحد
الوجودين من الذهن أو العين ـ تعلقية ، ولا يعقل انسلاخها عن هذا الشأن ، والوجود
ـ ذهنيا كان أو عينيا ـ مبرز لأحكامها ومظهر لأحوالها ، لا أن النسبية والتعلّقية
بأحد الوجودين ؛ كي لا يكون فرق بين الاسم والحرف في حد ذات المعنى ، وحيث إن ذات
النسبة تعلقية ، فلا جامع ذاتي بين أنحائها ؛ لأن إلغاء التعلق منها إخراج لها عن
النسبية ، فلا بد من الوضع لانحائها بجامع عنواني يجمع شتاتها ، بل تلاحظ به. وحيث
إن النسبة بين عنوان النسبة الكذائية ومعنوناتها نسبة الأعم والأخص ، كان الوضع
عامّا والموضوع له خاصّا ، من دون لزوم الالتزام بالجزئية الحقيقية ـ عينية كانت أو
ذهنية ـ فإنه من باب لزوم ما لا يلزم. فافهم واستقم.
٢٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ولذا التجأ بعض
الفحول إلى جعله
__________________
جزئيّا إضافيا ...
الخ ) .
قد عرفت وجهه ،
وأنّ ميزان العموم والخصوص مجرد كون النسبة نسبة الأخصّ إلى الأعمّ ، لا نسبة
الكلي والفرد فلا تغفل.
٢١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويكون حاله كحال
العرض ... الخ ) .
قد
عرفت : أن الأنسب
تنظيره بالوجود الرابط ، لا العرض الذي هو وجود محمولي رابطي ، وذلك لأن العرض
موجود في نفسه ، إلا أنه لغيره في قبال الجوهر حيث إنه موجود في نفسه لنفسه ،
وأنحاء النسب الحقيقية لا نفسية لها أصلا ـ لا خارجا ولا ذهنا ـ فالمعنى الحرفي
ليس موجودا ذهنيا قائما بموجود
__________________
ذهني آخر ، بل
ذاته وحقيقته متقوّمة بمتعلّقه ، لا موجود لمتعلّقه.
٢٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ما دلّ على معنى
في غيره ... الخ ) .
أي على معنى هو في
حدّ ذاته في غيره ، لا أنه موجود في غيره ، فإنّ النسبة في حدّ ذاتها متقومة
بغيرها ، لا في وجودها ، كالعرض في الجوهر ، فلا دلالة لهذه العبارة المعروفة على
كون المعنى الحرفي ـ بحسب وجوده الذهني ـ موجودا قائما بموجود آخر ، كالعرض في
الجوهر خارجا.
وأما جعله آلة
وحالة في غيره فبملاحظة أن وقوع السير مبتدأ به ، والبصرة مبتدأ من عندها ؛ بلحاظه
مضافا إلى البصرة ، فالإضافة المزبورة آلة لتعرف حال السير والبصرة من حيث
المبتدئية بالمعنيين ، وحيث إن نفس الإضافة متقومة بهما ، فهي حالة للغير.
وبهذين الوجهين
تارة يقال : إن الحرف ما أوجد معنى في غيره ، فإنه بلحاظ الآلية المزبورة. واخرى
يقال : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ، فانه باعتبار كون اللفظ بالوضع حاكيا
عن الإضافة المزبورة. فلا تنافي بين الكلامين المنسوبين إلى الرواية ، كما لا موجب
لجعلهما بلحاظ موردين من موارد استعمالهما.
٢٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بينهما
إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع ... الخ ) .
محصله : أن العلقة الوضعية ـ في كل منهما ـ على نهج خاص ؛
لتقيدها في أحدهما بما ذا أريد منه المعنى استقلاليا ، وفي الآخر بما ذا أريد
آليّا. فاستعمال الأول في مورد الثاني استعمال في ما لا علقة وضعية له.
لكنه لا يذهب عليك
أن لحاظ المعنى وإرادته من شئون المعنى وأحواله ،
__________________
ووصف الاختصاص
الوضعي بهما من باب الوصف بحال متعلقه لا بحال نفسه ، وقيديّة شيء لشيء وصيرورته
مكثرا له لا تكون جزافا.
ومن يلتزم باتحاد
المعنى ذاتا في الاسم والحرف لا مناص له عن الالتزام بامتياز كل منهما بما هو من
شئونهما بأن يقال : إن الحرف ـ مثلا ـ موضوع للمعنى الذي يتعلق به اللحاظ الآلي
والارادة التبعية ، فهو إشارة إلى ذات المعنى الخاص وإن كانت الخصوصية غير مقومة ،
إلا أن المعنى في غير هذه الحال لا اختصاص وضعي له. وهذا المقدار كاف في الامتياز
وعدم صحة استعمال كل منهما في مورد الآخر ، إلا أن المعنى ـ حينئذ ـ بالاضافة إلى
الملحوظ حال الوضع ، كالحصة بالاضافة إلى الكلي ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له
خاصّا ، فان الطبيعي له اعتباران :
أحدهما : ملاحظته موجودا بأنحاء وجوداته الذهنية بنحو الاشارة إلى
الموجود بالعرض ، لا إلى نفس الوجودات الموجودة بالذات ؛ بناء على أصالة الوجود.
ثانيهما : ملاحظته بنفسه من غير ملاحظته موجودا بالعرض ، وفي هذا
النظر يكون كليّا يشترك فيه الحصص ، ويكون في هذا النظر واحدا بوحدة عمومية ، وليس
ـ مع قطع النظر عن هذا النظر ـ جهة جامعة ذاتية بين الموجودات الذهنية ؛ حتى يكون
هو الموضوع له ؛ حتى يكون الوضع عامّا والموضوع له عامّا أيضا ، مع التحفظ على ما
يوجب امتيازه عن الموجودات الذهنية بالاستقلال ، فانه لا يكون إلا بالإشارة إلى
الموجودات بالعرض التي لا جامع لها إلا نفس المعنى الذي كان النظر مقصورا على نفسه
، فتدبر جيّدا.
٢٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ثم لا يبعد أن
يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء ... الخ ) .
أما إن الإخبار
والإنشاء من شئون الاستعمال ، وما كان كذلك لا يعقل
__________________
دخله في المستعمل
فيه ، فواضح جدّا.
وأما وحدة
المستعمل فيه ـ في الجمل الخبرية والانشائية ـ ففيه تفصيل :
أما الجمل المتحدة
لفظا وهيئة ـ نحو ( بعت ) الاخباري والانشائي ـ فالمستعمل فيه نفس نسبة إيجاد
المضمون إلى المتكلم. وهذه النسبة الايجادية الواقعة بين المضمون ـ أعني المادة ـ والمتكلم
قد يقصد الحكاية عنها ، وقد لا يقصد الحكاية عنها ، بل يقصد ثبوتها على نحو سيأتي
الكلام فيه إن شاء الله .
وأما مثل صيغة (
افعل ) ، واشباهها ـ مما لا اشتراك له لفظا وهيئة مع جملة خبرية ـ فالمستعمل فيه
في كل من الخبر والانشاء ، غير المستعمل فيه الآخر ، وذلك لأن صيغة ( اضرب ) ـ مثلا
ـ مفادها بعث المخاطب نحو الضرب ، لكن لا بما هو بعث ملحوظ بذاته ، بل بما هو نسبة
بين المتكلم والمخاطب والمادة ، فكما أن الشخص إذا حرك غيره خارجا ـ نحو القيام أو
القعود ـ تحريكا خارجيا ، لا يكون الملحوظ ـ في حال تحريكه ـ إلا المادة من
المخاطب ، ونفس تحريكه غير ملحوظ ولا مقصود بالذات ، فكذلك صيغة ( افعل ) موضوعة
بإزاء هذا البعث الغير الملحوظ استقلالا ، ولذا مثل هذه النسبة لا خارج لها
يطابقها أو لا يطابقها ، بل حالها حال التحريك الخارجي الذي هو فعل من الأفعال ،
وكونه نسبة بين الاطراف بملاحظة عدم لحاظ نفسه ، كما أسمعناك سابقا من أن بعض
المعاني الاسمية ربما يكون كالآلة لتعرّف حال غيره ، فيكون كالمعنى الحرفي.
وأما في الجملة
الخبرية المتضمنة لمضمون البعث والتحريك ـ كقولك : ( أبعثك نحو الضرب ، أو أحرّكك
نحوه ) إذا اريد الإخبار ـ فمن الواضح أن مضمون الهيئة ليس نفس البعث حتى يقال :
إنّ البعث معنى واحد ، والتفاوت
__________________
باللحاظ الغير
المقوم للمستعمل فيه ، بل مضمون الهيئة ـ كما هو واضح ـ نسبة البعث إلى المتكلم
نسبة صدورية ، وكم فرق بين نسبة البعث والبعث الواقع نسبة ، فتدبره ، فإنه دقيق ،
وبه حقيق.
٢٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( حيث إن أسماء الإشارة
وضعت ليشار بها ... الخ ) .
كما هو ظاهر كلام
بعض النحويين ، وقال ابن مالك :
( بذا لمفرد مذكّر أشر
|
|
..... ).
|
وعليه فالتشخّص
الناشئ من قبل الإشارة التي هي نحو استعمال اللفظ في معناه ، لا يعقل أن يكون
موجبا لتشخّص المستعمل فيه.
إلاّ
أن التحقيق : أن وجود اللفظ
دائما وجود بالذات لطبيعة الكيف المسموع ، ووجود بالعرض للمعنى المستعمل فيه ،
فقولك : ( هذا ) إن كان وجودا لفظيا لنفس المفرد المذكر ، فاستعماله فيه إيجاد
المفرد المذكر خارجا بوجوده الجعلي اللفظي ، فمن أين الإشارة حينئذ؟
وإن كان وجودا
لفظيا للمفرد المشار إليه بنفس اللفظ ، فمن الواضح أن اللفظ لا يعقل أن يصير
بالاستعمال ـ الذي هو نحو من الايجاد ـ وجودا للمشار إليه بنفس اللفظ.
وان كان وجودا
لفظيا لآلة الإشارة ، فهو وجود بالعرض لآلة الإشارة ، لا للمعنى المشار إليه ،
وليست الإشارة كاللحاظ والقصد المقوم للاستعمال ، بل لو اعتبرت لاعتبرت جعلا
وبالمواضعة ، فيجري فيها ما ذكرناه من الشقوق
__________________
المتقدمة.
بل
التحقيق : أن أسماء الإشارة
والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلّق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الأنحاء
، فقولك : ( هذا ) لا يصدق على زيد ـ مثلا ـ إلا إذا صار مشارا إليه باليد أو
بالعين ـ مثلا ـ فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ ( هذا ) هو الفرق بين
العنوان والحقيقة ، نظير الفرق بين لفظ ( الربط ) و ( النسبة ) ، ولفظ ( من ) و (
في ) وغيرهما. وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له ، بل الوضع ـ حينئذ ـ عام
والموضوع له خاص ، كما عرفت في الحروف.
٢٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بيان ذلك أنّه
إن اعتبر دلالته ... الخ ) .
بيانه : أن في مثل الكلام المزبور : إما أن يفرض الدلالة على شيء
والحكاية عنه ، فيلزم المحذور الأوّل ؛ إذ لا مدلول وراء نفسه ، ولا محكيّ غير
شخصه ، ووصفا الدالّ والمدلول من الأوصاف المتقابلة ، واتصاف الواحد بوصفين
متقابلين محال.
وإما أن لا يفرض
الدلالة والحكاية ـ بل كان حال موضوع القضية حال سائر الأفعال الخارجية والإنشاءات
الفعلية ـ فيلزم المحذور الثاني ؛ إذ المفروض عدم الموضوع لحقيقة القضية الواقعية
قبالا للقضية اللفظية ، وإنما هناك بحسب الاعتبار محمول ونسبة ، مع أنّ قيام
النسبة بطرف واحد محال ، فهذان محذوران على فرضين وتقديرين.
٢٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( يمكن أن يقال :
يكفي تعدّد
الدالّ والمدلول اعتبارا ... الخ ) .
__________________
حاصله : أن الصدور والمراديّة حيثيتان واقعيتان موجودتان في
الكلام المفروض ، فلم يلزم اتصاف الواحد بما هو واحد بوصفين متقابلين.
بل التحقيق أن
المفهومين المتضايفين ليسا متقابلين مطلقا ، بل التقابل في قسم خاص من التضايف ،
وهو ما إذا كان بين المتضايفين تعاند وتناف في الوجود ، كالعلية والمعلولية مما
قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد ، لا في مثل العالمية والمعلومية ،
والمحبّية والمحبوبية ؛ فإنهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى.
والحاكي والمحكي ـ والدال والمدلول ـ كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني ؛ حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه.
هذا ، ويمكن
الخدشة في الجواب المزبور عن المحذور المذكور : بأن إرادة شخص نفسه هنا ـ على حد
الارادة المتعلقة بسائر الأفعال الخارجية ـ لا دخل لها بالإرادة المدلول عليها
بالدلالة الكلامية ، ودلالته على كون نفسه مرادا على حدّ دلالة سائر الأفعال الخارجية
على القصد والارادة.
وبالجملة : إرادة شخص نفسه في قوة عدم إرادة إرادة شيء به ، فلم يبق
إلا كونه أمرا اختياريا ، يتوقف صدوره على إرادته. فتدبر جيّدا.
__________________
ويمكن تصحيح ما في
المتن بتقريب دقيق : وهو أن متعلّق الإرادة والشوق ـ كما سيجيء إن شاء الله في
محلّه ـ ليس هو الموجود الخارجي ؛ لأن الشوق المطلق لا يوجد في النفس ، بل يوجد
متقوما بمتعلقه ، ولا يعقل أن يكون الخارج عن افق النفس مقوما لما في النفس ، وليس
هو الموجود الذهني أيضا لتباين صفتي العلم والشوق ، وكل فعلية تأبى عن فعلية اخرى
، بل المتعلق والمقوم لصفة الشوق نفس الماهية ـ كما في صفة العلم ـ فالماهية
موجودة في النفس بثبوت شوقي ، كما توجد في الخارج بثبوت خارجي. وعليه فللمتكلم أن
يقصد إحضار المعنى بماله من الثبوت في موطن الشوق بتوسطه بما له من الثبوت في موطن
الخارج. فالماهية الشخصية دالة بثبوتها الخارجي على نفسها الثابتة بالثبوت الشوقي.
نعم لا بد من إرادة
اخرى مقومة للاستعمال ، وجعل اللفظ بوجوده الخارجي فانيا في اللفظ بوجوده الشوقي ،
وإلا فالإرادة المتقوّمة بنفس الماهية الشخصية ـ كما ذكرنا ـ مقوّمة لاختياريتها ،
ولا تكون دلالة الصادر عليها دلالة كلامية ، بل دلالة عقلية ، ونفس هذه الارادة لا
يعقل أن تكون مصححة لفناء اللفظ في نفسه ؛ للزوم الدور على المشهور ، والخلف على
التحقيق.
ولا ينافي ما
ذكرنا إرادة شخص نفسه ؛ لأنّ المراد بالذات والصادر ماهية شخصية من غير جهة
الإرادة ، في قبال ما إذا اريد إفناء اللفظ في طبيعة. المطلقة أو المقيدة.
كما أنّ فرض إرادة
اخرى ـ مصححة للدلالة الكلامية ـ لا ينافي فرض إرادة شخصه وعدم إراءة غيره به ،
فإنّ المرئيّ ـ حينئذ ـ نفس الماهية الشخصية ، غاية الأمر : ثبوتها في موطن دالّ
على ثبوتها في موطن آخر ، ولا ينافي ترتب الحكم
__________________
على الثابتة بثبوت
شوقي ؛ لأن الماهية واحدة ، فصح أن يحكم عليها بأنها لفظ أو ثلاثي أو غير ذلك.
٢٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع أنّ تركب القضية من جزءين ... الخ ) .
بيانه : أن الموضوع في القضية الحقيقية : قد يحتاج في وجوده إلى
الواسطة بتنزيل شيء آخر منزلة وجوده ، كاللفظ بالنسبة إلى المعنى ، فإنّ موضوعيته
للقضية بلحاظ كونه وجودا لما هو الموضوع.
وقد لا يحتاج في
وجوده إلى الواسطة ؛ لإمكان إيجاده على ما هو عليه في الخارج وترتيب الحكم عليه ـ كما
فيما نحن فيه ـ حيث إن المحمول سنخ حكم يترتب على نفس الموضوع الذي اريد به شخص
نفسه ، فالقضية الحقيقية ـ حينئذ ـ ذات أجزاء ثلاثة ، ودليل صحة هذا الإطلاق حسنه
عند الذوق السليم والطبع المستقيم.
قلت : ملاك الحمل ومصححه وإن كان قيام مبدأ المحمول بالموضوع ـ
وهو ثابت هنا ـ إلا أنّ ملاك كون القضية قضية كلامية حملية ، كون أجزائها ـ المعقولة
المستكشفة بالكواشف ـ ثلاثة.
ومن الواضح ـ كما
قدمناه آنفا ـ أن إرادة شخص نفسه في قوة عدم إراءة شيء به ، فيكون حاله حال سائر
الأفعال الخارجية ، غاية الأمر أن سنخ هذا الفعل من مقولة الكيف المسموع ، فإن صحّ
الحمل على الضرب الخارجي ـ بقولك : ( ضرب ) ـ صحّ الحمل على اللفظ المراد به شخص
نفسه ، وإلاّ فلا ؛ لعدم الفارق أصلا.
٢٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بما هو مصداق
لكلّيّ اللفظ ، لا بما هو
__________________
خصوص ... الخ ) .
إلاّ أن الحكم
المرتب عليه لا يكاد يتعداه ، فانه تمام موضوع الحكم ، والطبيعي وإن وجد بوجود
فرده ، إلاّ أنّ نسبته مع الافراد نسبة الآباء مع الأولاد ، لا نسبة أب واحد مع
الأولاد ، فالطبيعي موجود بوجودات متعددة ، وترتيب الحكم على بعض وجوداته ـ من حيث
إنه وجود الطبيعي ـ لا يقتضي السريان إلى سائر وجوداته ، فلا بد من الحكاية عنه ،
فتأمل .
٣٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم فيما إذا
اريد به فرد آخر مثله ... الخ ) .
لأنّ الفرد
المماثل مأخوذة فيه الخصوصية ، والمباين لا يتحقق بالمباين.
٣١
ـ قوله : [ قدّس سرّه ] ( كما في مثل
: ضرب فعل ماض ... الخ ) .
لأن ما يمكن
إيجاده بوجود فرده نفس طبيعي اللفظ لا الطبيعي بما له من المعنى ؛ إذ الطبيعي بما
له من المعنى إنما يوجد فيما إذا استعمل في معناه ، وهو مما لا يخبر عنه.
٣٢
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فلا يكاد يكون
من قيود المستعمل فيه ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أن دخل الارادة
ـ بحيث يوجب انحصار الدلالة الوضعية في الدلالة التصديقية ـ لا يكون متوقفا على
صيرورة الإرادة قيدا في
__________________
المستعمل فيه ، بل
يمكن الدخل بأحد وجهين :
إما على نحو
تصوّره شيخنا العلامة ـ أدام الله أيامه ـ في الفرق بين الاسم والحرف ؛ بأن يقال :
إن الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني لا مطلقا ، بل لأن يراد بها معانيها ، كما قال
دام ظله : إن الاسم موضوع لأن يراد به المعنى استقلالا ، والحرف لأن يراد به
المعنى حالة وآلة للغير ، فيتقيد العلقة الوضعية بصورة الارادة الاستعمالية ، وفي
غيرها لا وضع. وما يرى من الانتقال إلى المعنى بمجرد سماع اللفظ ـ من وراء الجدار
، أو من لافظ بلا شعور وغير اختيار ـ فمن جهة انس الذهن بالانتقال من سماعه عند
إرادة معناه هذا.
وإما على نحو
تصوّرناه في الفرق بين الاسم والحرف ـ بناء على اتحاد معناهما ذاتا ـ بأن يكون
اللفظ موضوعا للمعنى الذي يتعلّق به الإرادة الاستعمالية ، فهو إشارة إلى ذات
الخاص لا بوصف الخصوصية ، وفائدته عدم الاختصاص الوضعي بين اللفظ والمعنى الذي لا
يتخصص بالمراديّة.
وقد
عرفت : أن الثاني أقرب
إلى الاعتبار ؛ لأن اللحاظ والقصد من شئون المعنى والاستعمال ، فيصح جعلهما قيدا
للمعنى ، ولا يصح جعلهما قيدا لما لا يكونان من شئونه وأحواله ؛ أعني الوضع ،
فتدبّر جيّدا.
ولا يخفى أنّ
لازمه ـ كما مر سابقا ـ وضع اللفظ للحصص المتعيّنة بالإرادة ، فيكون الوضع عامّا
والموضوع له خاصّا.
وأما توهم منافاة
الوضع للمعنى حال كونه مرادا ، لما وقع النزاع فيه من : أن الظهور حجة مع الظن
الشخصي ، أو النوعي بالمراد ، أو لا ، بل يكون حجة تعبّدا.
فمندفع بالفرق بين
الظهور الذاتي ـ وهو كون اللفظ قالبا بالقوة للمعنى ـ والظهور الاستعمالي الفعلي ـ
وهو كونه قالبا له بالفعل ـ فالقطع بكون اللفظ
قالبا بالقوة
للمعنى المراد لا ينافي الشك في كونه قالبا له بالفعل ، كما أنه ربما يقطع بكونه
قالبا بالفعل ، لا مجرد التلفظ ، لكنه يشك في كونه قالبا بالفعل لما هو قالب له
بالذات ، كالفرق بين الارادة الاستعمالية أو التفهيمية ، والارادة الجدية
المتعلّقة بمضمون الكلام ، فلا منافاة بين القطع بالارادة الاستعمالية والتفهيمية
، وعدم الظن بالإرادة الجديّة ؛ لامكان الاستعمال بداع آخر.
وأما ما في بعض
الكلمات ـ من أن الارادة : إن اخذت على وجه الحرفية ، فلا محذور فيها ، وإن اخذت
على وجه الاسميّة ، ففيها محذور ـ فالغرض منه أنّ الإرادة الاستعمالية حال تعلقها
بالمعنى غير مقصودة بالذات ، بل المقصود بالذات إيجاد المعنى ، ومعنى اعتبارها على
وجه الآلية ، اعتبار العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى المتخصص بها بذاته ، بخلاف
ما إذا اخذت على وجه الاسمية ، فان مقتضاه دخل الارادة في الموضوع له ـ على حد دخل
المعنى ـ فلا بد من إرادة اخرى استعمالية ، وإلاّ لزم أن يكون الارادة المقوّمة
للاستعمال آلية واستقلالية معا ، فتدبر جيدا.
ثم
لا يذهب عليك : أن الارادة الاستعمالية بالدقة إرادة إيجاد المعنى باللفظ بالعرض ، والارادة
التفهيمية إرادة احضار المعنى في موطن فهم المخاطب مثلا ، وكل من الارادة
الاستعمالية والتفهيمية متأخر بالطبع عن الاستعمال والتفهيم ، فضلا عن ذات المعنى
، فلا يعقل أخذها في المستعمل فيه أو المراد إفهامه ، إلا أن تقدم الاستعمال على
التفهيم المتولد منه وجودا وطبعا لا يمنع من أخذ الارادة التفهيمية في المراد الاستعمالي
؛ لأن. الإرادة التفهيمية مقدّمة على الإرادة الاستعمالية ، لا أنها متأخّرة عنها
وجودا أو طبعا ؛ حتى لا يعقل أخذ المعنى متقيدا بها في مرحلة الاستعمال ، بل
المحذور ـ حينئذ ـ أن الارادة التفهيمية سبب للاستعمال في ذات ما يراد تفهيمه لا
غير ، فلو كان المستعمل فيه متقيدا بالارادة
التفهيمية ، لزم
تعلق الارادة التفهيمية بالمعنى المراد تفهيمه ، فيلزم الدور على المشهور ، والخلف
على التحقيق ، فتدبره ، فإنّه دقيق.
٣٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل ناظر إلى أن
دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية ... الخ ) .
ما أفاده ـ من أن
مرادهما تأخّر مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، وتبعية خصوص الدلالة التصديقية
للإرادة ، لا تبعية الدلالة الوضعية للارادة ـ لا يوافق صريح هذين العظيمين
وغيرهما من الأعاظم ؛ من انحصار الدلالة الوضعية في التصديقية.
قال العلامة ( قده
) في شرح منطق التجريد ـ بعد ما أورد إشكال
__________________
انتقاض الدلالات
الثلاث ـ : ( ولقد أوردت عليه ـ قدّس الله روحه ـ هذا الإشكال علامه على المحقق
طوسى بانتقاض الدلالات الثلاث ، فاجاب : بأن اللفظ لا يدّل على معناه بذاته ، بل
باعتبار الإرادة والقصد ، واللفظ حين يراد منه معناه المطابقي لا يراد منه معناه
التضمني ، فهو لا يدلّ إلاّ على معنى واحد لا غير. وفيه نظر .. الخ ).
وأصرح منه ما
أفاده العلامة الطوسي ( قده ) في شرح منطق الإشارات ـ في دفع انتقاض تعريف المفرد والمركب ـ حيث قال ( قده ) : ( دلالة اللفظ لما
كانت وضعية ، كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفّظ
به ، ويراد منه معنى ما ، ويفهم عنه ذلك المعنى ، يقال : إنه دالّ على ذلك المعنى.
وما سوى ذلك
المعنى ـ مما لا يتعلّق به إرادة المتلفظ ، وإن كان ذلك اللفظ ـ أو جزء منه ـ بحسب
تلك اللغة أو لغة اخرى أو بإرادة اخرى ـ يصلح لأن يدل عليه ـ فلا يقال : إنه دالّ
عليه .. الخ ).
__________________
ولذا أورد عليه
العلامة قطب الدين في محاكماته ، وغيره في غيرها : بعدم انحصار الدلالة الوضعية في
الدلالة التصديقية.
__________________
ونحوه ـ أيضا ـ ما
ذكره في شرح حكمة الاشراق في باب الدلالات الثلاث ؛ حيث قال : ( الدلالة الوضعية
تتعلق بارادة اللافظ الجارية على قانون الوضع ، حتى أنه لو اطلق واريد منه معنى
وفهم منه لقيل : إنه دالّ عليه ، وإن فهم منه غيره فلا يقال : إنه دالّ عليه ، وإن
كان ذلك الغير ـ بحسب تلك اللغة أو غيرها أو بارادة اخرى ـ يصلح لأن يدل عليه ..
الخ ) ، ثم قال : ( والمقصود هي الوضعية : وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه عند سماعه
أو تخيّله بتوسّط الوضع معنى هو مراد اللافظ ). انتهى.
وبعد التدبّر في
هذه الكلمات ـ الظاهرة أو الصريحة في حصر الدلالة
__________________
الوضعية في
التصديقية ، مع استحالة أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له بنحو القيدية ـ لا مناص
من تصحيحها بأحد الوجهين المتقدّمين ، وإلاّ فلا يكاد يخفى استحالة دخل الارادة
بنحو القيدية على هؤلاء الأكابر ، بل بملاحظة الباعث للحكيم على الوضع ـ وهو
التوسعة في ابراز المقاصد ـ تعلم أن الأمر كما ذكروه ، والعلقة الوضعية جعلية تتبع
مقدار الجعل والاعتبار سعة وضيقا.
ودعوى : مصادمة الحصر في الدلالة التصديقية للبداهة ؛ حيث إن
الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ بديهي وإن لم يكن هناك إرادة.
مدفوعة : بما تقدم من أن الانتقال بواسطة اعتياد الذهن ،
فالانتقال عادي لا وضعي ، فتدبر جيّدا.
٣٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم لا يكون
حينئذ دلالة ... الخ ) .
فإن
قلت : لا واقع للكشف
وراء نفسه ، فما معنى عدم الدلالة مع عدم الإرادة واقعا؟
نعم ، الدلالة تتبع إحراز الإرادة ، وكون المتكلم في مقام
الإفادة.
قلت : المنكشف بالذات المتقوم به الكشف والمتحقق في مرتبته ،
هو الذي يستحيل تخلّفه عنه ، دون المنكشف بالعرض ، فمع عدمه يكون المنكشف صورة
مثله ، لا صورة شخصه ، فتدبره ، فإنه حقيق به.
٣٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا وجه لتوهّم
وضع للمركبات غير وضع المفردات ... الخ ) .
لا ريب في أن المركبات ليس لها
موادّ غير موادّ مفرداتها. نعم ، ربما يكون لها هيئة زائدة على هيئات مفرداتها ،
فإن هيئات المفردات ـ بما هي مفردات ـ
__________________
لا تتفاوت
بالتقديم والتأخير ـ مثلا ـ مع أن التقديم والتأخير يوجب تفاوتا في هيئة المجموع
بما هو مجموع. ولا أظن بمن يدعي الوضع للمركبات أزيد من وضع هيئاتها الزائدة على
مفرداتها مادة وهيئة لفوائد خاصة ، فإنّ أمثال تلك المزايا والفوائد لا يعقل أن
تكون إلا بالجعل والمواضعة.
وعليه
فلا معنى لدعوى : كفاية وضع المفردات ـ بجزءيها المادي والصوري ـ عن وضع هيئة المركبات لتلك
الخصوصيات ، ولا وجه لدرج مثل هذه الهيئة القائمة بالمجموع في هيئة المفردات ؛
بداهة أن هيئات المفردات قائمة بموادّها كل على حياله ، والهيئة التركيبية قائمة
بالمجموع ، وتوصيف المفردات بها من باب وصف الشيء بحال متعلقه لا بحال نفسه. وأما
إدراج الهيئة التركيبية في المفردات نظرا إلى أنّها جزء صوري آخر للكلام ـ فيؤول
إلى عدم تعقّل المركب حتى يكون له وضع أو لا.
نعم
يظهر من بعض النافين : أنّ محلّ النزاع ـ بينه وبين خصمه ـ دعوى الوضع للمركب بعد الوضع للمفردات
منفردة ومنضمة ، كما عن ابن مالك في شرح المفصل على ما حكي عنه ، حيث قال ما ملخصه
: إنّ المركبات لو كان لها وضع ، لما كان لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه ؛ إذ
المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد ، فكيف وضعه الواضع؟
فإنه ظاهر في أن
محلّ النزاع هذا الأمر البديهي بطلانه ، وإلاّ فلا يخفى على مثل ابن مالك أن الوضع
نوعي لا شخصي. وعليه فالنزاع لفظي نشأ من إسناد الوضع إلى المركبات ، فتوهّم
النافي أن الهيئة التركيبية المفيدة للخصوصية من أنحاء هيئات المفردات ، فلم يبق
ما يتكلم فيه إلا ذلك الأمر الواضح فساده. وقد عرفت أن هيئات المركبات لا دخل لها بهيئات المفردات ،
وأن الحق ـ حينئذ ـ مع المثبت.
وأما ما في المتن
ـ من استلزام الدلالة على المعنى تارة بنفسها ، واخرى بمفرداتها ـ فغير ضائر ؛ حيث
لا يلزم منه محذور اجتماع السببين على مسبب واحد ؛ لأن معاني المفردات ملحوظة بنحو
الانفراد ، ومعنى المركب ملحوظ بنحو الجمع واللف ، كما في مفهوم الدار بالاضافة
إلى مفاهيم السقف والجدران والبيت ـ مثلا ـ فلكلّ دالّ مدلول على حياله.
وتوهم : لزوم لحاظ المعنيين في آن واحد ؛ لأن الجزء الأخير من
الكلام علة لنفس حضور معناه ، ومتمم لعلة حضور معنى آخر للمركب.
مدفوع : بما تقرر في محله من امكان اجتماع لحاظين لملحوظين في آن
واحد.
ثم إنه ربما أمكن
الإشكال على جعل وضع الموادّ شخصيّا ووضع الهيئات نوعيّا ـ كما هو المعروف ـ بما
محصله : أن شخصية الوضع في الموادّ إن كانت بلحاظ وحدتها الطبيعية وشخصيتها
الذاتية ، فالهيئات أيضا كذلك ؛ فإن هيئة فاعل ـ مثلا ـ ممتازة بنفسها عن سائر
الهيئات ، فلها وحدة طبيعية ونوعية الوضع في الهيئات ، إن كانت بلحاظ عدم اختصاص
زنة فاعل بمادة من المواد ، فالمواد كذلك ؛ لعدم اختصاص المادة بهيئة من الهيئات ،
فلا امتياز مادة عن مادة ملاك الشخصية لامتياز كل زنة عن زنة اخرى ، ولا عدم
اختصاص زنة بمادة ملاك النوعية لعدم اختصاص مادة بهيئة.
والتحقيق : أن جوهر الكلمة ومادتها ـ أعني الحروف الأصلية المترتبة
الممتازة عن غيرها ذاتا او ترتيبا ـ أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه ، فيلاحظ بوحدته
الطبيعية وتوضع لمعنى ، بخلاف هيئة الكلمة فإنّ الزنة لمكان اندماجها في المادة لا
يعقل ان تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادة ، فلا استقلال لها في
الوجود اللحاظي ـ كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي ـ فلا يمكن تجريدها ـ ولو
في الذهن ـ عن الموادّ ، فلذا لا جامع ذاتي لها
كحقائق النسب ،
فلا محالة يجب الوضع لاشخاصها بجامع عنواني ـ كقولهم : كلما كان على زنة فاعل .. ـ وهو معنى نوعية الوضع ؛ أي
الوضع لها بجامع عنواني ، لا بشخصيتها الذاتية.
أو
المراد : أن المادة حيث
يمكن لحاظها فقط ، فالوضع شخصي ، والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط ـ بل في ضمن مادة
ـ فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها ، فيجب أن يقال : هيئة فاعل وما يشبهها .. ، وهذا
معنى نوعية الوضع ؛ أي لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية ، بل لها ولما يشبهها.
فتدبّر.
٣٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يقال : كيف
يكون علامة مع توقفه على العلم ... الخ ) .
ربما
يقال : معنى كون التبادر علامة ، كونه دليلا إنّيّا على الوضع ؛ حيث إنّه معلول له
، وهو لا يقتضي الا كون الوضع مقتضيا ، والعلم به شرط تأثيره ، فلا مجال لتقرير
الدور ؛ حيث أنّ صفة الاقتضاء والمعلولية غير موقوفة على العلم ، كما لا مجال
لدفعه بأنه علامة للجاهل عند العالم ، فان صفة المعلولية بالمعنى المذكور ثابتة في
حد ذاتها من غير نظر إلى العالم والجاهل.
وفيه ـ مضافا إلى
لزوم الدور ، من ناحية توقف المشروط على شرطه ، والشرط على مشروطه ـ أن الانتقال
إلى المعنى لا يعقل أن يكون معلولا للوضع ومن مقتضياته ؛ لأن حقيقة الوضع جعل
طبيعيّ اللفظ وجودا تنزيليا لطبيعي المعنى بالقوة ، وبالاستعمال يكون وجود اللفظ
خارجا وجودا بالذات لنفس طبيعة اللفظ ، ووجودا بالعرض لنفس المعنى بالفعل ، وهذا
هو مقتضى الوضع الذي لا يتفاوت العلم والجهل به ؛ حتى أنه لو وجد اللفظ ذهنا كان
هذا الوجود الواحد وجودا بالذات للّفظ حقيقة ، ووجودا بالعرض لنفس المعنى ، سواء
علم السامع
__________________
بأنه وجود تنزيلي
له أم لا.
وأما وجود المعنى
في الذهن ـ كوجوده بعد وجود اللفظ خارجا ـ فهو يتبع وجود علته لذلك السنخ من
الوجود ؛ إذ من البديهي أن وجود المعنى في الذهن وجود بالذات له ، لا وجود بالعرض
بتبع وجود اللفظ في الذهن ، بل هذا الوجود معلول للعلم بالملازمة الجعلية بين
اللفظ والمعنى ـ عند تحقق العلم باللفظ ـ كما في جميع موارد الملازمة ، وليس وجود
المعنى ذهنا معلولا لوجود اللفظ ذهنا بشرط العلم بالملازمة ؛ إذ الانتقال من أحد
المتلازمين إلى الآخر غير مخصوص بأحدهما فقط. فيلزم أن يكون كل واحد صالحا للعلية
والمعلولية معا.
مضافا إلى أن
العلية ليست جزافية ، والعلم بأمر مباين لا معنى لأن يكون علة لأمر مباين آخر
بمجرد الاشتراك في العلمية ، بخلاف ما إذا جعلنا العلم بالملازمة علة ، فان معنى
العلم بالملازمة العلم بتحقق المعنى عند تحقق اللفظ ، فقهرا ينتج العلم باللفظ
العلم بالمعنى ، وليس العلم بالملازمة معلولا لها حتى ينتهي أمر الانتقال إلى
الوضع بالواسطة ؛ لأن المعلوم لا يكون علة للعلم ، بل الانتقال إلى المعنى عند
العلم بالوضع من فوائد جعل الملازمة ، لا من معلولاته ، فحينئذ يصحّ تقرير الدور.
وجوابه ما في المتن. فتدبر جيّدا.
٣٧
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : (
وصحة الحمل عليه بالحمل الأوّليّ الذاتيّ ... الخ ) .
وهو أن يتصور
المعنى المقصود كشف حاله ، ويحمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي عليه ، أو يجد
صحة حمل اللفظ بمعناه ـ عند العارفين ـ عليه ، وصحة الحمل كاشفة عن أن المعنى
المتصور هو معنى اللفظ ، وإلا لم يصح الحمل.
واعلم أنه لا بد
من فرض اللفظ مجردا عن القرينة ، وإلا لما كان الحمل فقط ـ أو عدم صحة سلب المعنى
عنه ـ علامة للحقيقة ؛ إذ لا يزيد الحمل على
__________________
اتحاد المعنيين ،
ولا يزيد التعبير عنه باللفظ على مجرّد الاستعمال ، وشيء منهما لا يثبت الوضع.
كما أن التحقيق
يقضي بجعل الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز ، فيما إذا كان صحة الحمل وعدمها
عند العرف ؛ لأنّ العلم بأن اللفظ بما له من المعنى ـ بحيث يصح أن يحمل ـ لا بد له
من سبب آخر من تنصيص أهل اللسان ، أو التبادر ، أو الحمل المقيد ، والمفروض كون
هذه العلامة علامة ابتدائية مستقلة ، بخلاف نفس الحمل والسلب ، فإنه بنفسه علامة
الاتحاد والمغايرة من دون سبق أمر آخر.
ومنه تعرف : أن علامة المجاز
هو السلب ، دون صحته ، ودون عدم الحمل ؛ لأن عدم الحمل ليس أمرا محقّقا من العرف ؛
حتى يكون دليلا على المجاز ، وكونه بحيث لا يحمل راجع إلى حيثية عدم صحة الحمل ،
وقد عرفت أنه يتوقف على العلم بسبب آخر.
فإن
قلت : إن كان المحمول
غير المحمول عليه ، لم يصح الحمل ؛ لأن مفاد الحمل هو الاتحاد ، وإن كان عينه لم
يصح أيضا ؛ إذ لا اثنينية حتى يتصور محمول ومحمول عليه. وهذا غير جار في الحمل
الشائع ؛ لأنّ مغايرتهما بالمفهوم يصحّح الاثنينية ، واتحادهما في الوجود يصحح
الحمل ، لكنه بنفسه غير مفيد لاستعلام الحقيقة ، لفرض تغاير المفهومين.
قلت : هذا الإشكال هو الباعث لإنكار جماعة للحمل الذاتي
لاستعلام الحقيقية والمجازية ، وإثبات أصل الوضع ، بل لاسقاط هذه العلامة عن
الاعتبار مطلقا.
والتحقيق : أن الحمل لا بدّ فيه من مغايرة من جهة واتحاد من جهة
اخرى ، والمغايرة قد تكون بالمفهوم ، كما في الحمل الشائع بأنحائه ، وقد تكون
بالاعتبار ،
والمراد به الاعتبار الموافق للواقع ، كاعتبار الاجمال والتفصيل في حمل الحدّ على
المحدود ، فان ذات الانسان والحيوان الناطق ـ مثلا ـ ، وإن كانت واحدة إلا أن هذه
الحقيقة الواحدة ـ المركبة مما به الاشتراك وما به الامتياز ـ ملحوظة بجهة الوحدة
والجمع في الانسان ، وبجهة الكثرة والفرق في الحيوان الناطق ، وجهة الوحدة في
الانسان كجهة الكثرة ، وانطواء المعاني في المركب موافقة للواقع. ومن الواضح : أنّ
هذه الحقيقة بتلك الجهة غيرها بتلك الجهة الاخرى غيرية واقعية لا بالفرض ، وإلاّ
لجاز حمل الشيء على نفسه بمجرّد فرض أنه غير نفسه.
ومن غريب الكلام
ما عن بعض الأعلام من مقاربي عصرنا (رحمه الله) ؛
حيث دفع الإشكال : بأن مفاد الحمل اتحاد الحيوان الناطق مع مفهوم مسمّى الإنسان ،
أو ما وضع له الإنسان فيتغايران بالمفهوم ، ومرجع الحمل إلى حمل العام على الخاصّ.
وهو إنكار للحمل
الذاتي مطلقا ، مع رجوعه الى تنصيص أهل اللسان ، لا إلى الحمل بما هو ، مع أن
الغرض في الحمل الذاتي شرح الماهية ، لا شرح الحقيقة ، وانما يستفاد المعنى
الحقيقي بسبب تجرد اللفظ بضميمة الاتحاد ، مع أن اعتبار المسمى ونحوه مصحح للحمل
كما سمعت ، لا أنه مأخوذ في المحمول.
ومنه
تعرف : أن الغرض هنا
مجرّد إثبات اتحاد المعنيين ذاتا ، لا بما لهما من الحيثيات الاعتبارية ، فإنها
مصحّحة للموضوعية والمحمولية ، لا مأخوذة في المحمول والموضوع ، وإن كان مقتضى
وحدة اللفظ والوضع اعتبار المعنيين بنحو الجمع هنا ، فافهم واستقم.
٣٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وبالحمل الشائع
الصناعي الذي ملاكه
__________________
الاتحاد وجودا ...
الخ ) .
تحقيقه : أن الحمل : إما أن يكون حمل الكلي على الفرد ، أو كليين
متساويين ، أو أعم وأخص ، وعلى أيّ حال فالمقصود في الحمل الشائع اتحاد المفهومين
في الوجود ؛ بأن يكون وجود واحد وجودا لهما بالذات أو بالعرض ، أو لأحدهما بالذات
وللآخر بالعرض.
فإن كان الحمل من
قبيل حمل الكلي على الفرد ، فصحته كاشفة عن كون اللفظ حقيقة في المعنى الموجود
بوجود الفرد ، فيلاحظ ـ مثلا ـ معنى الحيوان الخاص الموجود بوجود زيد ، ويحمل عليه
لفظ الانسان بماله من المعنى عرفا أو ارتكازا ، فان وجد صحة الحمل عرفا أو تفصيلا
، كشف عن اتحاد المعنى الموجود بوجود زيد ، مع ما للإنسان من المعنى ، وإلا فلا.
وما عن بعض
الأعلام ـ قدّس سرّه ـ من إرجاعه إلى الحمل الأوّلي ؛ نظرا إلى أن
الفرد مع قطع النظر عن الخصوصية عين الكلي.
مدفوع : بأن قطع النظر عن الخصوصية في مرحلة استعلام الحقيقية
والمجازية ، لا دخل له بقطع النظر عن الخصوصية في مرحلة الحمل.
وبعبارة
واضحة : ليس الغرض في
مقام الاستعلام كون معنى زيد ـ بما هو هو ـ عين معنى الانسان ، بل الغرض اشتمال
لفظ زيد على معنى هو متحد مع ما للانسان من المعنى ، لتقرّر حصة من ماهية الانسان
في مرتبة ذات زيد ، ففي هذه المرحلة لا يلاحظ إلا ذلك المعنى المتقرر في مرتبة ذات
زيد ، لاتمام معناه.
وأما ملاك صحة
الحمل في مثل ( زيد إنسان ) ، فليس قطع النظر عما به زيد يكون زيدا ، بل زيد ـ بما
هو زيد ـ إنسان ، بمعنى أن هذين المعنيين موجودان بوجود واحد ، وهذا الوجود ينسب
إلى كليهما بالذات : أما إلى زيد
__________________
فواضح ، وأما إلى
الانسان فلما سمعت من تقرر حصة منه في مرتبة ذات زيد ، وليس ملاك الحمل الشائع إلا
كون النظر في الحمل إلى الاتحاد في الوجود. هذا كله فيما إذا كان المحمول والمحمول
عليه من قبيل الكلي والفرد.
وأما إذا كانا
كليين متساويين ، أو أعمّ [ و ] أخصّ ، فلا يثبت الحقيقية والمجازية مطلقا ـ ولو في الجملة
ـ بمجرد الحمل والتساوي في الصدق أو الأعمّية والأخصّية ؛ لما عرفت أن كون الحمل
علامة ليس لمجرّد الحمل ، بل لأن الحمل : تارة بحسب نفس المفهوم والذات ، فاتحادهما دليل قطعي على
الحقيقية ، كما أن عدمه دليل قطعي على المجازية ؛ إذ الشيء لا يسلب عن نفسه. واخرى
بحسب اتحاد المعنى الموجود بوجود زيد ، مع ما لمحموله من المعنى. ومثل هذين
الأمرين لا يجري في الكليين المتساويين ، والأعمّ والأخصّ ، ففي قولنا : ( الناطق
ضاحك ، والناطق حيوان ) لا اتّحاد مفهومي ؛ كي يكون الحمل ذاتيا ، كما أنه ليس
وجود الناطق ـ بما هو وجود الناطق ـ وجودا للضاحك كزيد وإنسان ، بل متصادقان في
وجود واحد. والفرق : أن زيدا لا وجود له إلا وجود الانسان متشخّصا بالمشخصات ،
فيعلم منه : أن المعنى الموجود بوجود زيد معنى الانسان ، بخلاف الذاتيات ـ كالناطق
والحيوان مثلا ـ فإنّ مبدأ الفصل غير مبدأ الجنس وإن كان التركيب بينهما اتحاديا
على التحقيق. ولذا لا إشكال عند المحققين : أن حمل ذاتي على ذاتي أو على ذي الذاتي
، حمل شائع ، لا ذاتي ، فلا محالة ليس وجود الناطق ـ بما هو وجود الناطق ـ وجود
الحيوان.
نعم ، يستثنى من
الأعم والأخص حمل الجنس على نوعه ، فإنه كالكلي على فرده ، إذا كان النظر إلى
المعنى الموجود في ضمن النوع. كما يستثنى من المتساويين في الصدق حمل الفصل على
نوعه ، إذا كان النظر إلى المعنى المميز لهذا النوع من غيره.
__________________
وبالجملة : ففي كليهما يكون المحمول متقرّرا في مرتبة ذات الموضوع ،
فيكون الحكم باتحادهما مفيدا.
وأما في غير هذه
الأقسام المسطورة ، فلا يفيد الحمل إلا إذا رجع إلى أحدهما ، كحمل الأبيض على
الجسم ، فانه لا شك في معنى هيئة أبيض ، بل في مفاد مادّته ، وحيث إن كلّ ما
بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، فلا محالة ينتهي الأمر إلى الحمل على تلك الصفة
القائمة بالجسم ، وهو من حمل الكلّي على فرده ، وبتبعه يعلم أن الأبيض معناه ما له
تلك الصفة المسماة بالبياض.
وأما
السلب : فان كان في
قبال الحمل الشائع ـ بمعنى مجرد اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود ، بحيث يصح حمل
الانسان على البشر أيضا بهذا الحمل ؛ نظرا إلى أن المتغايرين بالاعتبار ، كما
أنهما متحدان ذاتا متحدان وجودا ـ فلا محالة يكون السلب دليلا على أن المسلوب لا
عين ذات المسلوب عنه ، ولا متقرر في مرتبة ذاته.
وإن كان في قبال
الحمل الشائع ـ بمعنى كون الموضوع مطابق مفهوم المحمول ومندرجا تحته ـ فلا محالة
لا يكون السلب علامة المجازية ؛ لصحة سلب الانسان بهذا الوجه عن الحيوان الناطق مع
اتحادهما ذاتا ، وبهذا الاعتبار يقال : الجزئي ليس بجزئي بل كلي ، مع أن مفهوم الموضوع والمحمول
واحد ، فتدبّر جيّدا.
٣٩
ـ قوله [ قدس سره ] : (
قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز ... الخ ) .
ليس الغرض تكرر
استعمال لفظ في معنى وعدمه ، بل مورد هاتين العلامتين ما إذا اطلق لفظ باعتبار
معنى كلّيّ على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفردية من المعاني الحقيقية ، لكنّه
يشكّ أنّ ذلك الكلي كذلك أم لا ، فاذا وجد صحة الاطلاق مطّردا باعتبار ذلك الكلي ،
كشف عن كونه من المعاني الحقيقية ؛
__________________
لأنّ صحة
الاستعمال فيه ـ وإطلاقه على أفراده مطردا ـ لا بد من أن تكون معلولة لأحد أمرين :
إما الوضع ، وإما العلاقة. وحيث لا اطراد لأنواع العلائق المصححة للتجوز ، ثبت
الاستناد إلى الوضع ، فنفس الاطراد دليل على الحقيقة ، وإن لم يعلم وجه الاستعمال
على الحقيقة.
كما أن عدم
الاطراد في غير مورد ، يكشف عن عدم الوضع له ، وإلا لزم تخلّف المعلول عن العلة ؛
لأن الوضع علة صحة الاستعمال مطردا ، وهذه العلامة علامة قطعية لو ثبت عدم اطراد
علائق المجاز ، كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد.
فإن
قلت : هذا بحسب
العلائق المعهودة ، وأما بحسب الخصوصية الواقعية المصححة للاستعمال ، فالمجاز مطرد
كالحقيقة ؛ لعدم إمكان تخلّف المعلول عن العلة التامة.
قلت : الكلام في عدم اطراد المعاني المجازية المتداولة بين أهل
المحاورة ، وان كان المعنى المجازي المناسب للحقيقي واقعا أخصّ مما هو المتداول ؛
لتخلّفه في بعض الموارد ، فاذا اطرد استعمال لفظ في معنى بحدّه ، فهو علامة الوضع
؛ إذ ليس في المعاني المتداولة بحدها ما هو كذلك إلا في الحقائق ، فافهم جيّدا.
نعم لو فرض
التناسب بين معنيين من جهات عديدة لم يكن الاطراد دليلا ، وان لم تكن العلائق
مطردة ؛ لإمكان الاطلاق في كل مورد بجهة من تلك الجهات ، لا بجهة واحدة ؛ حتى يقال
: إنها غير مطردة ، ولعله فرض محض.
٤٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وهو أن الوضع
التعييني كما يحصل بالتصريح ... الخ ) .
قد سمعت في تحقيق حقيقة
الوضع : أن الوضع ليس إلا نحو اعتبار من الواضع ، والاعتبار أمر مباشري للمعتبر لا
تسبيبي إنشائي.
__________________
٤١
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( كذلك يحصل
باستعمال اللفظ فى غير ما وضع له ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أن الحكاية ـ والدلالة
والمرآتية وأشباهها ـ مقصودة في الاستعمال على الوجه الآلي دون الاستقلالي ، من
دون فرق بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.
وما به يمتاز
الوضع عن الاستعمال كون الحكاية مقصودة على وجه الاستقلال ؛ إذ الوضع ليس فعلية
حكاية اللفظ عن المعنى ، بل جعل اللفظ بحيث يحكى به عن المعنى عند الاستعمال. ومن
البين أن الجمع بينهما في لحاظ واحد جمع بين اللحاظين ، وهو محال ، وعلى هذا فلا
يتخصص اللفظ بالمعنى بمجرد الاستعمال ، بل لا بد من إنشائه بالاستقلال.
والتحقيق : أن إنشاء الوضع حقيقة ـ بمعنى جعل اللفظ بحيث يحكي بنفسه
بجعل لازمه ، وهو جعله حاكيا فعلا بنفسه ـ معقول. فالحكاية وإن كانت مقصودة
وملحوظة آليّا في الاستعمال ، إلا أنها مقصودة بالاستقلال في مرحلة التسبّب إليها
بإنشاء لازمها وجعله ، فتدبر.
وأما على ما عرفت
ـ من أن حقيقة الوضع نحو اعتبار من الواضع ـ فيكفي في حصول الاختصاص مجرد سبق
الاستعمال بالبناء على اختصاص اللفظ بالمعنى ، وهو وإن كان خفيف المئونة ـ بل أخفّ
مئونة من قصد حصوله بالاستعمال ؛ حيث إنه لا حاجة إلى التسبّب إلى حصوله بوجه من
الوجوه ـ إلا أنه يحتاج إلى دليل.
فان
قلت : بعد ما كان
الحكيم في مقام إفادة المراد ـ دون التوصل إلى مزايا المجاز ـ فلا محالة يبني على
التخصيص ويستعمل ، ولا يتكلف نصب القرينة.
قلت : لو سلم ذلك لا يقتضي ترجيح التخصيص على التجوز ؛ لأنّ
مجرد
__________________
الوضع لا يقتضي
سقوط كلفة نصب القرينة ؛ لعدم هجر المعنى الأصلي بمجرد طروّ وضع آخر ، غاية الأمر
أن القرينة في المجاز تتصف بعنوانين من الصارفية والمعيّنيّة ، وفي المشترك
بالأخير فقط ، وهو غير فارق قطعا ، فتأمل.
٤٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( والدلالة عليه
بنفسه لا بالقرينة ... الخ ) .
هذا بناء على ما
هو المشهور من أن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه إخراجا بالقيد
الأخير للمجاز ؛ حيث إن الدلالة فيه بالقرينة. فاذا استعمل الشارع ـ مثلا ـ اللفظ
في غير ما وضع له قاصدا به الحكاية عنه بنفسه ، فقد خصصه به ؛ حيث لا حقيقة للوضع
إلا ذلك.
ويمكن
أن يقال : إن نحو حكاية
اللفظ عن معناه الحقيقي والمجازي واحد.
توضيحه : أن الدلالة كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى ، وهذه
الحيثية مكتسبة : تارة من الوضع بمعنى أن وضع الواضع يوجب كون اللفظ بحيث يفهم منه
المعنى إن التفت إلى الوضع. واخرى من القرينة ، فاللفظ المستعمل في معناه المجازي بحيث يفهم منه ذلك المعنى إن التفت إلى القرينة.
فكما أن وضع
الواضع يوجب تحيث اللفظ بهذه الحيثية ، وهو واسطة لثبوتها له ، كذلك القرينة توجب
تحيث اللفظ بهذه الحيثية ، وهي واسطة في ثبوتها له ، وإلا فالدلالة ـ على أيّ حال
ـ قائمة باللفظ المستعمل في المعنى ، لا به وبالقرينة معا في المجاز ، كما لا قيام
لها باللفظ والوضع في الحقيقة.
والتحقيق : أن تعيين اللفظ لمعنى يوجب تعينه ـ تبعا ـ لما يناسبه ،
فان مناسب المناسب مناسب ، فاللفظ بواسطة الوضع له صلوح الحكاية به عن
__________________
المعنى الموضوع له
بالاصالة ، وعما يناسبه بالتبع ، وحيث إن فعلية دلالته على الأصل لا مانع لها ،
فلا محالة لا تصل النوبة إلى الدلالة على المعنى المجازي ، إلا بعد نصب القرينة
المعاندة لإرادة المعنى الحقيقي ، فالقرينة المعاندة حيث إنها رافعة للمانع عن
فعلية الدلالة على المعنى المجازي فهي موجبة لفعلية الدلالة عليه. فيصح ان يقال
حينئذ : إن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، بخلاف المجاز ، فان
التعيين فقط لا يكفي في فعلية دلالة اللفظ بنفسه ، بل فعلية الدلالة متوقفة على ضم
الضميمة ، وإن كان ذات الدال هو اللفظ دائما ، فتدبّر.
٤٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فلا يكون بحقيقة
ولا مجاز ... الخ ) .
إن
قلنا : بأن الاستعمال
عين الوضع ـ كما هو ظاهر المتن ـ فحقيقة الاستعمال حقيقة الوضع.
أو
قلنا : بأنّ الوضع
يتحقق مقارنا للاستعمال من باب جعل الملزوم بجعل لازمه ، فلا مانع من كونه حقيقة ؛
لأن غاية ما يقتضيه الحقيقية عدم تأخر الوضع عن الاستعمال ـ لا تقدمه عليه زمانا ـ
فيكفي مقارنة الوضع مع الاستعمال زمانا ، فضلا عن عينيته له ؛ حيث لا تقدّم
للاستعمال ـ حينئذ ـ ولو بالعلية ، فتدبّر.
٤٤
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فأيّ علاقة
بين الصلاة والدعاء
... الخ ) .
هذا بناء على ما
هو المعروف من كونها بمعنى الدعاء لغة يصح جدلا وإلزاما.
وأما على ما هو
الظاهر بالتتبّع في موارد استعمالاتها من كونها بمعنى
__________________
الصلاة بمعنى
العطف والميل ، فإطلاقها على هذا المعنى الشرعي من باب إطلاق الكلي على الفرد ؛
حيث إنه محقق لطبيعي العطف والميل ، فإن عطف المربوب إلى ربه والعبد إلى سيده
بتخضّعه له ، وعطف الرب على مربوبه بالمغفرة والرحمة ، لا أن الصلاة بمعنى الدعاء
في العبد ، وبمعنى المغفرة فيه تعالى.
وعليه فلا تجوز
حتى يجب ملاحظة العلاقة ، بل تستعمل في معناها اللغوي ، ويراد محققه الخاص بقرينة
حال أو مقال.
٤٥ ـ قوله [ قدس سره ] :
( بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا ... الخ ) .
ربما يعبر عن هذه
المعاني بالماهيات الجعلية والمخترعة ، فيظن الغافل تعلق نوع جعل واختراع بها ، مع
قطع النظر عن جعلها في حيّز الطلب ، مع أن تعلق الجعل البسيط بها في ذاتها محال ،
فإن الماهية في حد ذاتها لا مجعولة ولا لا مجعولة.
وتعلق الجعل
التأليفي التركيبي بين الماهية ونفسها كذلك ؛ لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وتحصيل
الحاصل محال ، وان قلنا بتعلق الجعل التكويني بالماهية ـ دون الوجود ـ فان الجاعل
بهذا الجعل هو المصلي دون الآمر والشارع.
وأما جعل الهيئة
التركيبية معنونة بعنوان الصلاة ـ بمعنى جعلها عطفا من المربوب إلى الرب وتذلّلا
منه إليه ـ قياسا بجعل الشارع للشيء مالا أو ملكا .
فمدفوع : بأن كون الشيء تذلّلا وعطفا وتعظيما ـ مثلا ـ وإن كان
مما يتفاوت فيه الأنظار ـ كما هو المشاهد من أنحاء التذلّلات والتعظيمات في الرسوم
__________________
والعادات ـ لكن
التفاوت بالخصوصيات الملحوظة لطائفة دون طائفة ، فحقيقة التعظيم كون الفعل بحيث
يمكن أن يقصد به إعظام الغير ، وإن كان تلك الحيثية مختلفة باختلاف الأنظار ، فهذه
الحيثية بإزاء الجهة الباعثة على اعتبار المالية والملكية ، لا بإزاء نفس
اعتبارهما.
فلا
معنى ـ حينئذ ـ لجعل
الهيئة التركيبية معنونة بعنوان الصلاة ، بل هذه الهيئة التركيبية ، كما أن لها
خواصّ وآثارا واقعية ، وليست بجعل جاعل ، كذلك ذات خصوصية في نظر الشارع ـ بحيث
يمكن أن يتذلل العبد بهذا العمل لمولاه ، وأن يعظمه به ـ فيأمر به الشارع ، بخلاف
المالية والملكية ، فان كون الفعل ذا خصوصية مقتضية لاعتبار الملكية ، لا يوجب
اتصافه بعنوان الملك قبل اعتبار المعتبر للملكية.
٤٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( واما بناء على
كونها ثابتة في الشرائع السابقة ... الخ ) .
مجرد الثبوت في
الشرائع السابقة ، لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ الخاصة ، والتعبير بها عنها
لاقتضاء مقام الإفادة ، كما هو كذلك بالإضافة إلى جميع القصص والحكايات القرآنية ،
مع أن جملة من الخطابات المنقولة كانت بالسريانية أو العبرانية.
ودعوى : تديّن
العرب بتلك الأديان ، وتداول خصوص هذه الألفاظ ؛ إذ لو تداول غيرها لنقل إلينا ؛
ولأصالة عدم تعدد الوضع.
مدفوعة : بعدم
لزوم النقل لو كان ؛ لعدم توفر الدواعي على نقل تعبيرات العرب المتدينين بتلك
الأديان ، وأصالة عدم تعدد الوضع لا تثبت الوضع لخصوص هذه الألفاظ لا تعيينا ولا
تعينا.
٤٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فالإنصاف أنّ
منع حصوله في زمان
__________________
الشارع ... الخ ) .
حتى على ما
احتملناه : من استعمال الصلاة ـ مثلا ـ في العطف والميل ، وإرادة محقّقه الخاص ،
نظير إطلاق الكلي على الفرد ، وإرادة الخصوصية بدالّ آخر.
وكذا على قول
الباقلاّني ؛ إذ التحقيق ـ كما في محله ـ إمكان النقل في المطلقات ، مع أنها
مستعملة في الماهية المهملة ؛ إذ لا ريب في أن كثرة إفادة الخاصّ بدالّين ـ في
مقام الطلب وبيان الخواصّ والآثار والحكاية والمحاورات المتعارفة ـ توجب اختصاص
اللفظ بالمعنى الخاص في أيام قلائل ، ومنع بلوغ الكثرة في لسان الشارع ومتابعيه
إلى حد يوجب الاختصاص ، مكابرة واضحة.
٤٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم حصوله في
خصوص لسانه ... الخ ) .
لكنه لا حاجة إلى
الالتزام به مع ترتب الأثر على تحققه في لسانه ولسان متابعيه ، وتسميته حقيقة
شرعية مع تحقق الوضع باستعمال الجميع بملاحظة تبعية تابعيه في الاستعمال ، فيصح
تمام الانتساب إليه.
٤٩
ـ قوله [ قدس سره ] : (
وأما الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظ ... الخ ) .
الأنسب أن يقرر
الثمرة هكذا : وهو لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع على معانيها الشرعية
بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعدمه بناء على عدمه ؛ لأنها وإن لم تبلغ مبلغا
يوجب الوضع تعيّنا ، إلا أن معانيها من المجازات الراجحة جزما.
والمشهور في
المجاز المشهور هو التوقّف ، بل الأمر كذلك على ما ينسب إلى الباقلاّني ، أو على
ما احتملناه ؛ إذ كما أن كثرة الاستعمال في معنى خاص ربما
__________________
توجب التردّد ،
كذلك غلبة إفادة الخاصّ باللفظ والضميمة ربما توجب التردّد ، كما ربما تبلغ حدا
يكفي نفس اللفظ لإفادة ذاك الخاص ، ولذا يعقل النقل فيما لا يستعمل فيه اللفظ ،
كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه.
٥٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفي جريانه على
القول بالعدم إشكال ... الخ ) .
لا شبهة في قصور
عنوان البحث وادلة الطرفين عن الشمول ، إلا أن تسرية النزاع لا تدور مدار العنوان
والأدلة ، بل ربما يجب تسريته مع عموم الثمرة لغيره ـ كما في ما نحن فيه ـ فإنه لو
ثبت أصالة الاستعمال في الصحيحة أو الأعمّ لترتّب عليه ثمرة النزاع من التمسك
بالاطلاق على الأعم ، وعدمه على الصحيحة.
٥١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( في أن الأصل
في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ... الخ ) .
تقريبه على ما في
تقريرات بعض الاعاظم (رحمه الله) : أن اللفظ قد
__________________
استعمل عند
الصحيحي في الصحيحة لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، وفي الفاسدة لا لعلاقة
بينها وبين المعنى الأصلي ، ولا للمشاكلة بينها وبينه أو بين الصحيحة ، بل من جهة
التصرّف في أمر عقلي ، وتنزيل المعدوم من الأجزاء والشرائط منزلة الموجود ؛ لئلا
يلزم سبك المجاز من المجاز ، فلا مجاز أصلا من حيث المعنى ، إلا في استعمال اللفظ
في الصحيحة ، وحيث إن الاستعمال دائما في الصحيحة من حيث المفهوم والمعنى ، فمع
عدم القرينة على التصرف في أمر عقلي يحمل على الصحيحة ، ويترتّب عليه ما يترتب على
الوضع للصحيحة من الثمرة.
__________________
وأما الأعمّي فهو
ـ على ما ذكره المقرّر (قدس سره) ـ يدّعي تساوي الصحيحة والأعم في المجازية ، إلا
أن لازمه التوقف ، وهو ينافي غرضه.
بل الصحيح في
تقريب مقالة الأعمّي : أن اللفظ دائما مستعمل في الأعم ، وإفادة خصوصية الصحيحة
والفاسدة بدالّ آخر ، فمع عدم الدالّ الآخر يحمل اللفظ على ظاهره ويتمسك باطلاقه.
وعلى هذا البيان
لا يرد شيء إلا عدم الدليل على ملاحظة العلاقة ابتداء بين الصحيحة أو الأعم
والمعنى اللغوي. ولا حاجة إلى إثبات أن عدم نصب القرينة على إرادة ما عدا الصحيحة
دليل على إرادة الصحيحة ، وذلك لأن المفروض على الصحيحة استعمال اللفظ في الصحيحة
بحسب المفهوم والمعنى دائما. والظهور اللفظي حجة على المراد الجدّي ، ما لم تقم
حجة اخرى على خلافها ، وكذا بناء على استعماله في الأعم.
وأما ما في المتن
ـ من الحاجة إلى إثبات استقرار بناء الشارع في محاوراته على إرادة ما لوحظ العلاقة
بينه وبين المعنى اللغوي عند عدم نصب قرينة معيّنة للمعنى الآخر ـ فإنّما يتّجه
على وجه آخر ، لا على ما مر ، وذلك بأن يكون المستعمل فيه ـ على تقدير إرادة
الفاسد أو الأعمّ ـ غير ما هو المستعمل فيه ، على تقدير إرادة الصحيحة ، فإنّ
مجرّد وجود القرينة ـ الصارفة عن المعنى اللغوي ، لا يكفي في إرادة خصوص الصحيحة ؛
لإمكان إرادة ما يناسبها ، لا ما يناسب اللغويّ ، ولا ظهور في مرحلة المراد
الاستعمالي ؛ كي يكون حجة على المراد الجدي ، فتدبّر.
فظهر أنّ ما يرد
على التقريب المزبور : عدم الدليل على ملاحظة العلاقة بين الصحيحة والمعنى الأصيل
، مضافا إلى : أن الاستعمال في الأعم ممكن ، مع أن الجامع ـ بما هو جامع ـ غير فاقد لشيء حتى ينزل منزلة الواجد ، فلا بد من
__________________
أن يلتزم باعتبار
العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، وهو خلف.
ودعوى الغلبة تغني
عن أصل هذا التكلّف ، أو يلتزم باعتبار العلاقة بينه وبين الصحيحة ، فيلزم سبك
المجاز من المجاز ، وهو مما يفرّ عنه هذا المقرّر ، فراجع وتأمل. إلا أن يلتزم بأن
الحقيقة الادعائية لا تتوقف على ادعاء دخول المراد الجدي في جنس المراد الاستعمالي
؛ حتى لا يعقل دخول الجامع تحت الصحيح ، بل يمكن مع ادعاء الاتحاد بينهما. واتحاد
الجامع والصحيح مما لا ريب فيه.
٥٢
ـ قوله [ قدس سره ] :
[ ( إن الظاهر أن
الصحة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية ]
... الخ ) .
لا إشكال في ذلك ،
إلا أن حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ، ليست من لوازم التمامية
بالدقّة ، بل من الحيثيات التي يتمّ بها حقيقة التمامية ؛ حيث لا واقع للتمامية
إلا التمامية من حيث إسقاط القضاء أو من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث ترتب الأثر
، إلى غير ذلك ، واللازم ليس من متمّمات معنى ملزومه ، فتدبّر .
ثم إن المهم في
هذا الأمر تحقيق أن الصحة والفساد ـ المبحوث عنهما في هذا البحث ـ هل التمامية
وعدمها ، من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط
__________________
القضاء ، أو من
حيث استجماع الأجزاء والشرائط ، أو من حيث ترتب الثمرة إلى غير ذلك؟
والتحقيق : عدم كونهما ـ من حيث موافقة الأمر واسقاط القضاء ـ محلاّ
للبحث ، لا من حيث إن موافقة الأمر وإسقاط الاعادة والقضاء لا يكونان إلاّ مع
الإتيان بداعي الأمر ، ومثله كيف يقع في حيّز الأمر ، فإنّ هذا الإشكال مختصّ
بالتعبديات ، ولا يعمّ التوصّليّات ، بل من حيث إن الشيء لا يتّصف بأحد العنوانين
ـ من كونه موافقا للأمر ، ومسقطا للإعادة والقضاء ـ إلاّ بعد الأمر به وإتيانه ـ تعبّديّا
كان أو توصّليّا ـ ومثله لا يمكن أن يقع في حيّز الأمر. ومن البين أن المراد من
الوضع للصحيح أو للأعمّ ـ بهذا المعنى وغيره ـ هو الوضع لما هو صحيح بالحمل
الشائع.
فان
قلت : الصحيح ـ بهذا
المعنى بالحمل الشائع ـ لا تحقّق ولا ثبوت له حقيقة ، إلا بعد الأمر وإتيانه ، فلا
ثبوت للموضوع له بما هو طرف للعلقة الوضعية في مرتبة الوضع ، فلا يعقل الوضع له ؛
إذ لا بدّ في كل نسبة من ثبوت طرفيها على ما هما عليه ـ من القابلية للطرفية ـ في
مرحلة ثبوت النسبة ، وهذا بخلاف الوضع لعنوان ( موافق الأمر ) ولعنوان ( المسقط
للإعادة والقضاء ) ، وسائر عناوين المشتقات ، فان العنوان ـ في مرتبة العنوانية ـ لا
يستدعي ثبوت الذات وفعلية التلبّس بالمبدإ.
قلت : كما يمكن ملاحظة الشيء بالحمل الأوّلي ، كذلك يمكن
ملاحظة الشيء بالحمل الشائع بنحو المحاكاة لما في الخارج ، سواء كان موجودا حال
لحاظه أو لا.
وأما الصحيح بمعنى
التام ـ من حيث ترتّب الأثر ـ فربما يتوهم عدم إمكان الوضع له ؛ نظرا إلى أنه
عنوان منتزع عن الشيء بعد ترتّب الأثر عليه ، والأثر ـ حيث إنه خارج عن حقيقة ذات
مؤثّرة ـ لا يعقل أخذه فيه.
نعم يعقل الوضع
للحصة الملازمة للأثر ـ كما بيّنّا نظائره سابقا ـ فاللفظ على القول بالصحيح بهذا
المعنى ، كما لم يوضع لمفهوم التام كذلك لمصداقه ، بل هو موضوع لما يلازم التمامية
من حيث ترتب الأثر.
وهذا توهم فاسد ؛
لأن خروج الأثر عن مرتبة ذات المؤثر ووجوده ، واستحالة دخله فيه ، لا يوجب استحالة
دخله في التسمية بأن يكون اللفظ موضوعا للفعل القائم به الأثر ، كما إذا وضع لفظ الصلاة
لما هو ناه عن الفحشاء بالحمل الشائع. نعم لا يعقل أخذ الصلاة ـ بهذا المعنى ـ موضوعا
في قضية ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) للزوم حمل الشيء على نفسه ، وعروض الشيء لنفسه
، فيكون نظير الاشكال المتقدم في جعل الصحيح ـ بمعنى موافق الأمر ـ في حيز الأمر ،
من دون لزوم الاستحالة في مرحلة الوضع. مع أن التمامية ـ من حيث ترتب الأثر ـ لا
تنتزع عن الشيء المرتّب عليه الأثر بهذا القيد ؛ ليكون نظير عنوان المؤثر أو عنوان
الكلي والجزئي ، فان التام ـ بالحمل الشائع ـ متقوّم بالتمامية بلحاظ ترتب الأثر ،
فالمبدأ القائم بذات التام ـ المصحّح لانتزاع عنوانه ـ حيثية التمامية ، لا حيثية
الأثر ـ كما في عنوان المؤثّر بزعم هذا المتوهم ـ وإن كان التمامية ـ من حيث ترتب
الأثر ـ لا تنفكّ عنه كالعلة والمعلول ، فان عنوان العلة منتزع من ذات العلة حيث
بلغت حدّا يجب بها ذات المعلول ، لا من العلة المترتب عليها المعلول.
وكون حقيقة
التمامية متعينة بلحاظ ترتب الأثر مثلا ـ نظير تعين الجنس بفصله ـ لا يقتضي دخول
الأثر وترتّبه في حقيقة التمامية ، كما أن تعيّن الجنس وتحصّله بفصله ، ومع ذلك
فحقيقة الجنس غير حقيقة الفصل ، ومبدأ الجنس الطبيعي غير مبدأ الفصل الطبيعي.
ومنه تبيّن أن
مصداق الصحيح ـ بمعنى التام من حيث ترتّب الأثر ـ ذات ما يترتب عليه الأثر ؛ أي
هذه الحصة لا بوصف الترتب حتى يقال : إنه لم
يوضع اللفظ لمصداق
الصحيح ، بل لما يلازمه.
إذا
عرفت هذا فاعلم : أن ما تضاف إليه التمامية يختلف باختلاف الأقوال :
فمن ذهب إلى الوضع
للمرتبة العليا والتوسّع في البواقي ، فغرضه التمامية من حيث استجماع جميع الأجزاء
والشرائط.
ومن ذهب إلى الوضع
لجامع يجمع جميع المراتب ، فان صحح دخول القربة في متعلق الأمر ، فغرضه التمامية
من حيث فعلية ترتب الأثر مطلقا وإلا فالترتب بشرط ضم القربة.
ومن ذهب إلى
التفصيل بين الأجزاء والشرائط ، فغرضه التمامية من حيث ترتّب الأثر بضم الشرائط ،
والوجه في الجميع واضح فلا تغفل.
٥٣
ـ قوله [ قدس سره ] : (
لا بد على كلا القولين من قدر جامع ... الخ ) .
وجه اللابدّيّة :
أن الأعمّيّ غرضه التمسك بالاطلاق ، وينافيه الاشتراك اللفظي ، والصحيحي يدّعي
الإجمال من حيث المفهوم لا من حيث المراد ، مضافا إلى محاذير أخر يأتي الإشارة
إليها في طيّ الكلام إن شاء الله تعالى.
٥٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ولا إشكال في
وجوده بين الأفراد الصحيحة وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره ... الخ ) .
تحقيق المقام
يستدعي زيادة بسط في الكلام ، فنقول :
الجامع : إما أن يكون جامعا ذاتيا مقوليا ، أو جامعا عنوانيا
اعتباريا ، والالتزام بهما مشكل.
أما الجامع
العنواني ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء ، ونحوه ـ فالوضع بإزائه وإن كان ممكنا
لإمكانه ، إلا أن لازمه عدم صحة استعمال الصلاة ـ مثلا ـ
__________________
في نفس المعنون
إلاّ بعناية ؛ لأنّ العنوان غير المعنون ، وليس كالجامع الذاتي بحيث يتحد مع جميع
المراتب ، مع أن استعمال الصلاة في نفس الهيئة التركيبية بلا عناية صحيح. مضافا
إلى سخافة القول بوضع الصلاة لعنوان ( الناهي عن الفحشاء ) كما لا يخفى.
وأما الجامع
المقولي الذاتي فهو غير معقول ؛ لأن الصلاة مؤلّفة وجدانا من مقولات متباينة ـ كمقولة
الكيف والوضع ونحوهما ـ ولا تندرج تحت مقولة واحدة لأن المقولات أجناس عالية ، فلا
جنس لها ، ولا يمكن أن يكون المركب مقولة برأسها لاعتبار الوحدة في المقولات ؛
وإلا لما أمكن حصرها ، ولذا يسمى هذا المركب وشبهه بالمركب الاعتباري ، وإذا لم
يكن جامع ذاتي مقولي لمرتبة واحدة من الصلاة فعدم الجامع للمراتب المختلفة ـ كمّا
وكيفا ـ بطريق أولى.
ومنه يظهر أنه لو
فرض ظهور دليل في ترتب أثر واحد بسيط على الصلاة ـ بحيث يكشف عن جهة جامعة ذاتية ـ
لزم صرفه إلى بعض الوجوه للبرهان القطعي على أن المقولات المتباينة لا تندرج تحت
مقولة واحدة ، مضافا إلى أن وحدة الأثر وبساطته تكشفان كشفا قطعيا عن وحدة المؤثر وبساطته ، والحال أن اتحاد البسيط مع المركب محال
، ولو كان جميع الأجزاء من أفراد مقولة واحدة وإمكان التشكيك في الماهية لا يصلح
اتحاد البسيط مع المركب.
وبالجملة : يمكن أن يكون للبسيط شدة وضعف ، وتفاوت في أفراده طولا
وقصرا ، ولكن لا يعقل أن يكون المركب فردا للبسيط. وقيام الكم المنفصل بالكثير ـ من
باب قيام العرض بموضوعه ـ لا دخل له باتحاد البسيط مع المركب من باب اتحاد الطبيعي
وفرده ، والكلام في الثاني.
وائتلاف حقيقة
الكمّ المنفصل من الوحدات مخصوص به ، فلا يتصور في
__________________
مقولة اخرى حتى
يجعل طبيعة الصلاة كذلك. ووضع لفظ الصلاة للكم المنفصل القائم باجزاء الصلاة لا
يتفوّه به عاقل ؛ ضرورة أن الصلاة أمر متكمّم ، لا أنّ حقيقتها حقيقة الكم
المنفصل.
وأما حديث تأثير
الصلاة بمراتبها المختلفة ـ كمّا وكيفا ـ في الانتهاء عن الفحشاء ، فلا يكشف عن
وحدة حقيقية ذاتية بين مراتب الصلاة ؛ لأنّ جهة النهي عن الفحشاء والمنكر واحدة
بالعنوان ، لا واحدة بالذات والحقيقة ، والواحد بالعنوان لا يكشف إلا عن واحد
بالعنوان ، وهو عنوان ( الناهي عن الفحشاء والمنكر ) ، وإن كان ذات المنكر في كل
مرتبة مباينا للمنكر الذي تنهى عنه مرتبة اخرى.
وأما تصور كيفية
تأثير مراتب الصلاة في الانتهاء عن الفحشاء ، فيمكن توجيهه وتقريبه بما لا ينافي
البراهين القاطعة ؛ بأن يقال : إن مجموع الأجزاء بالأسر مؤثرة في صرف النفس عن
جملة من المنكرات ، أو في استعداد النفس للانتهاء عنها ، لمكان مضادة كل جزء لمنكر
بإزائه ، وما دون المرتبة العليا تؤثر في صرف النفس عن جملة أقل من الاولى. هذا في
المراتب المختلفة بالكمية.
وأما المختلفة
بالكيفية فيمكن الالتزام بتأثير إحداها في صرف النفس عن جملة ، وتأثير الاخرى في
جملة اخرى. وعلى هذا فلا حاجة إلى الالتزام بجامع ذاتي في مرتبة فضلا عن المراتب :
أما في مرتبة واحدة ؛ لأن أثر كل جزء غير ما هو أثر الآخر ، واما في المراتب
المختلفة كمّا وكيفا ، فلاتحاد طبائع الاجزاء في الأولى ، واختلاف الآثار ـ كالمؤثرات
ـ في الثانية ، ومع هذا صحّ أن الصلاة بمراتبها تنهى عن المنكر والفحشاء. كما يمكن
أن يجعل كل مرتبة ناهية عن منكر خاص ، من دون الالتزام بتأثير كل جزء في النهي عن
منكر.
وبالجملة : الاتحاد بالعنوان لا يكشف عن الاتحاد في الحقيقة.
__________________
ثم إنه لو كان
الجامع المقولي الذاتي معقولا لم يكن مختصا بالصحيحي بل يعم الأعمّي ؛ لأن مراتب
الصحيحة والفاسدة متداخلة ، فما من مرتبة من مراتب الصحيحة إلا وهي فاسدة من طائفة
حتى المرتبة العليا ، فإنها فاسدة ممن لم يكلف بها ، وإذا كان لجميع هذه المراتب جامع
ذاتي مقولي ، فقد كان لها جامع بجميع حيثياتها واعتباراتها ؛ ضرورة استحالة أن
يكون الشيء فردا ـ بالذات ـ لمقولة باعتبار ، وفردا ـ بالذات ـ لمقولة اخرى
باعتبار آخر ؛ إذ المقولات امور واقعية لا تختلف باختلاف الاعتبارات ، وحيثية
الصدور من طائفة دون اخرى وإن أمكن دخلها في انطباق عنوان على الفعل ، إلاّ أنّ
دخلها في تحقّق الجامع المقولي غير معقول ، وحينئذ فاذا فرض استكشاف الجامع
المقولي العيني بين هذه المراتب ـ الصحيحة من طائفة ، والفاسدة من طائفة اخرى ، من
دون دخل لحيثيات الصدور مع القطع بأن كل مرتبة لا تؤثر في حق كل أحد ـ لزم القطع
بأنّ لكل مرتبة اقتضاء الأثر ، غاية الأمر أن حيثية الصدور شرط لفعلية التأثير. وليكن هذا على ذكر
منك ؛ لعلك تنتفع به فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والتحقيق : أن سنخ المعاني والماهيات ، وسنخ الوجود العيني ـ الذي
حيثية ذاته حيثية طرد العدم ـ في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان ؛ فإنّ سعة سنخ
الماهيات من جهة الضعف والابهام ، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية ، فلذا
كلّما كان الضعف والابهام في المعنى أكثر ، كان الاطلاق والشمول أوفر ، وكلما كان
الوجود أشد وأقوى ، كان الاطلاق والسعة أعظم وأتم.
فان كانت الماهية
من الماهيات الحقيقة كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطوارئ وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها
، كالانسان ـ مثلا ـ فإنه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقومين لحقيقته ،
وإنما الإبهام فيه من حيث الشكل وشدة القوى وضعفها وعوارض النفس والبدن ، حتى عوارضها
اللازمة لها ماهية ووجودا.
وإن كانت الماهية
من الامور المؤتلفة من عدة امور ـ بحيث تزيد وتنقص كمّا وكيفا ـ فمقتضى الوضع لها
ـ بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها ـ أن تلاحظ على نحو مبهم ـ في غاية الإبهام ـ بمعرّفية
بعض العناوين الغير المنفكّة عنها ، فكما أنّ الخمر ـ مثلا ـ مائع مبهم من حيث
اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن حيث اللون والطعم والريح ، ومن حيث مرتبة
الإسكار ؛ ولذا لا يمكن وصفه إلا بمائع خاص بمعرّفية
المسكرية ، من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا ، بحيث إذا أراد المتصور تصوره لم يوجد في
ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات ، إلا حيثية المائعية بمعرّفية المسكرية.
كذلك لفظ الصلاة ـ مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّا وكيفا ـ لا بدّ من أن
يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء ، أو غيره من المعرّفات ، بل العرف لا
ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلا إلى سنخ عمل خاص مبهم ، إلا من حيث كونه مطلوبا في
الأوقات الخاصة.
ولا دخل لما
ذكرناه بالنكرة ؛ فانه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية كما اخذت فيها.
وبالجملة : الإبهام غير الترديد ، وهذا الذي تصورناه ـ في ما وضع له
الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي ، وجامع عنواني ، ومن دون
الالتزام بالاشتراك اللفظي ـ مما لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعينا.
وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية جوابا عن تصور
شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة
__________________
والناقصة ؛ حيث
قال : ( نعم الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الابهام [ وهو الابهام ] بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ونقصها وراء الابهام الناشئ فيه عن الاختلاف في
الافراد ، بحسب هوياتها ). انتهى.
مع أن ما ذكرناه
أولى به مما ذكره في الحقائق المتأصّلة والماهيّات الواقعية كما لا يخفى ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ هذا البيان يجدي للأعمّي أيضا.
وأنّ إمكان
التمسّك بالإطلاق وعدمه على أي وجه فانتظر.
٥٥
ـ قوله [ قدس سره ] : (
والإشكال فيه بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا ... الخ ) .
هذا ما أشكله بعض
الأعاظم ( رحمهم الله ) في تقريراته لبحث شيخنا
العلامة الأنصاري ـ قدّس الله تربته ـ ولقد أجاد في ابتناء الإشكال على عدم جامع
مقولي ، ولذا جعل الأمر مردّدا بين الجامع التركيبي ـ من نفس المراتب المركبة في
الخارج من مقولات متعددة ـ وبين جامع بسيط منتزع عنها باعتبار الحكم المتعلق بها ،
أو الأثر المترتب عليها ، فانهما جهة وحدة عرضية لتلك المراتب.
وتحقيق القول في
بيان الاشكال ، وما يمكن أن يقال في دفعه : هو أنّ الجامع إذا كان مركبا ، فلا
محالة لا يكون جامعا للمراتب الصحيحة من وجهين :
أحدهما ـ أن الجامع التركيبي ، وإن اخذ ما اخذ فيه من القيود ،
لكنه غير
__________________
متمحّض في الصحيح
؛ لإمكان اتصافه بالفساد بحسب صدوره ممن كان مكلفا بغيره ، كالمرتبة العليا من
الصلاة ، فإنها لا تصح في غير حالة من الأحوال ، وما كان حاله كذلك لا يكون جامعا
للمراتب الصحيحة.
ثانيهما ـ أن المراتب متداخلة صحة وفسادا ، فلا يعقل أن يؤخذ منها
جامع تركيبي لخصوص مراتب الصحيحة ، فما فرض جامعا لمراتب الصحيحة لم يكن بجامع.
هذا ، إلا أنّ تعقّل الجامع التركيبي بين تمام المراتب ـ مع قطع النظر عن الاشكال
ـ مشكل ، فهو أولى بالايراد.
وربما
يتخيل : أنه لا زيادة ،
ولا نقص في مراتب الصلاة من حيث الأجزاء ، بل الصلاة موضوعة لحد خاص ، وإنما
التفاوت نشأ : اما من قيام حيثيات متعددة ـ هي من أجزاء الصلاة ـ بفعل واحد ،
وربما تقوم كل حيثية بفعل آخر. وإما من قيام حيثية واحدة بأفعال متعددة ، وربما
تقوم بفعل واحد غيرها ، فتلك الحيثيات ـ المجتمعة في واحد ، والمتفرقة في المتعدد
ـ هي المقوّمة لحقيقة الصلاة ، وهي لا تزيد ولا تنقص ، وإن كانت الأفعال تزيد
وتنقص.
والجواب
عنه : أن قيام تلك
الحيثيات : إما بنحو قيام الطبيعي بأفراده ، أو بنحو قيام العرض بموضوعه ـ انضماما
أو انتزاعا ـ أو بنحو قيام الأثر بمؤثّره والمعلول بعلّته. لا مجال للأول ؛ إذ لا
يعقل فردية شيء واحد لأنواع من مقولة أو لمقولتين ، كما لا يعقل فردية امور متعددة
في الوجود لمقولة واحدة ، وقد عرفت سابقا أن ائتلاف حقيقة
شيء من الوحدات مخصوص بالكم المنفصل ، فلا يعقل مقولة تقوم بالمتعدد تارة وبالواحد
اخرى.
ولا مجال للثاني
لأنّ العرض ـ انضماميّا كان أو اعتباريا ـ يباين موضوعه بحسب المفهوم ، بل بحسب
الوجود أيضا على المشهور. مع أنك عرفت سابقا :
__________________
أن إطلاق الصلاة
وإرادة نفس هذه الأفعال لا يحتاج إلى عناية أصلا ، والوضع للمتحيث بتلك الحيثيات ـ
لا لها ـ لا يفيد ؛ لأن المتحيث ـ بملاحظة تفرّق الحيثيات واجتماعها ـ يزيد وينقص
، فيعود إشكال الجامع بين الزائد والناقص.
ولا مجال للثالث
لمباينة الأثر مع مؤثّره مفهوما ووجودا ، فيرد عليه ما يرد على الثاني ، مع أن
الظاهر ـ مما ورد في تحديد الصلاة : من أن أولها التكبير وآخرها التسليم ـ انها هذه الأفعال ،
لا أن الأفعال محققات لها ، وهي مباينة الوجود والذات عنها ، فاتضح عدم معقولية
الجامع التركيبي ، وتصحيحه بمعقولية التشكيك في الماهية ـ كما ربما يسبق إلى بعض
الأوهام ـ كأصل إمكان التشكيك في ذلك المقام غير خال عن ثبوت الابهام ، وذلك لأن
التشكيك ـ الذي يقول بإمكانه أهله ـ اختلاف قول الماهية على أفرادها بالاشدية
والأضعفية وغيرهما من انحاء التفاوت ، وقد سمعت منا سابقا : تركب الصلاة من مقولات
متباينة ، بل لو كانت مركبة من أفراد مقولة واحدة ، لم يكن مجال للتشكيك ؛ إذ مراتب
الصلاة ليست أفراد مقولة واحدة ؛ حتى يقال : بأن تفاوتها غير ضائر لمكان إمكان
التشكيك ، بل كل مرتبة مركبة من أفراد ، فلا وحدة حتى يجري فيها التشكيك.
والتحقيق : أنه إن اريد من الجامع التشكيكي ـ من حيث الزيادة والنقص
ـ ما يكون كذلك بذاته ، فهو منحصر في حقيقة الكم المتصل والمنفصل ، ولا مجرى له في
سواهما إلا بنحو آخر أجنبي عما نحن فيه. ومن البديهي أن حقيقة الصلاة غير حقيقة
الكم ، وإن كانت متكممة.
وإن اريد من
الجامع التشكيكي ـ ما كان كذلك ولو بالعرض ـ أي باعتبار كمه المتصل أو المنفصل ،
فحينئذ إن كان المتكمم من أفراد مقولة واحدة صح أن يوضع لفظ الصلاة ـ مثلا ـ لتلك
الطبيعة الواحدة المتكممة ـ القابلة باعتبار تكمّمها للزيادة والنقص ـ إلا أن
حقيقة أجزاء الصلاة ـ وجدانا ـ ليست
من أفراد مقولة
واحدة ، وهي مع ذلك وإن كانت متكممة ، لكنه ليس هناك جامع يكون تشكيكيا بالعرض ،
مع أنه ليس بجامع تركيبي حقيقة.
ومما
ذكرنا ظهر : أن الإيراد على
الجامع التشكيكي ـ بأن الزائد هنا ليس من جنس المزيد عليه ـ لا وقع له ، فان
الزائد وإن كان من جنس المزيد عليه ، [ لكن ] لا مجال للتشكيك
بالذات هنا كما عرفت ، وهذا في غاية الوضوح للمطلع ، فالبحث عن إمكان التشكيك
وامتناعه ـ كما صدر عن بعض ـ في غير محلّه.
كما أن تطبيق
التشكيك ـ الذي وقع البحث عنه في فن الحكمة ـ على بعض العناوين الاعتبارية
المنطبقة على الزائد والناقص ـ كما صدر عن غير واحد في المقام وغيره ـ غفلة عن
حقيقة الأمر : فان مجرى التشكيك ـ واختلاف قول الطبيعة المرسلة على أفرادها ـ في
الماهيات الحقيقة دون العناوين الاعتبارية ، بل جريانه فيها يتبع منشأها ومعنونها
، فإن كان من مقولة يجري فيها الاشتداد ـ ويتفاوت قول الماهية فيها ـ كان العنوان
الانتزاعي تابعا له ، وإلا فلا.
وقد عرفت حال
الصلاة ، سواء لوحظ تركبها من مقولات متعددة أو من أفراد مقولة واحدة ، فافهم
جيّدا.
وقد اتضح ممّا
بيّنّاه : أن تعقّل الجامع التركيبي ـ بين تمام المراتب المختلفة كمّا وكيفا ـ مشكل
، وتصحيحه بالتشكيك أشكل.
وغاية ما يمكن أن
يقال في تقريبه على ما سنح بالبال : هو أن كيفية الوضع في الصلاة على حدّ وضع سائر
ألفاظ المركّبات كالمعاجين ، فكما أن مسهل الصفراء ـ مثلا ـ لو كان موضوعا لعدة
أجزاء فلا يتفاوت المسمى بالزيادة والنقصان في تلك الأجزاء كمّا ـ فتراهم يقولون :
إن مسهل الصفراء كذا وكذا ، إلى آخر طبائع الأجزاء ، من غير تعيين المقدار ، وإن
كان المؤثّر الفعلي في حق
__________________
كل أحد غير ما هو
المؤثر في حق الآخر ، ومع ذلك فلا تفاوت في نفس طبائع الأجزاء ـ فكذلك الصلاة
موضوعة لطبيعة التكبير ، والقراءة ، والركوع ، والسجود ، وغيرها الملحوظة بلحاظ
وحداني. غاية الأمر أن المطلوب من هذه الطبيعة المركبة تارة ركعة ، واخرى ركعتان ،
وهكذا ، كما أن المطلوب من طبيعة الركوع ركوع واحد ، ومن طبيعة السجود سجودان في
كل ركعة ، وهكذا ، فجميع مراتب صلاة المختار ـ حتى صلاة المسافر ـ مندرجة في ذلك
من دون التزام بجامع وراء نفس طبائع الأجزاء.
نعم ، لا بد من
الالتزام بكون ما عداها أبدالا للصلاة ، بل جعل التسبيحة بدلا عن القراءة في صلاة
المختار أيضا ، وهو مشكل. والتفصّي عن هذه العويصة وغيرها منحصر فيما أسمعناك في
الحاشية المتقدمة : من الوضع بإزاء سنخ عمل مبهم في غاية الإبهام بمعرفية النهي عن
الفحشاء فعلا وغيرها من الخواص المخصصة له بمراتب الصحيحة فقط.
وأما إذا كان
الجامع بسيطا ـ كالمطلوب ونحوه ، أو ملزومه كالناهي عن الفحشاء ـ فقد أورد عليه
المقرّر المذكور (رحمه الله) بوجوه من الايراد.
والتحقيق : أن الجامع : إن كان المطلوب بالحمل الشائع بإلغاء
الخصوصيات ، وعلى نهج الوحدة في الكثرة : فإن اريد المطلوب بنفس الطلب المتعلق به
لزم الدور على المشهور ، والخلف علي التحقيق ؛ لعدم تعدد الوجود في الطلب والمطلوب
المقوم له في مرتبة تعلقه ، كما حققناه في محلّه.
وإن اريد المطلوب
بطلب آخر فلا خلف كما لا دور ، وإنّما هو تحصيل للحاصل ؛ لأن البعث بعد البعث
الجدي تحصيل لما حصل بالبعث السابق ؛ حيث إن البعث لجعل الداعي ، وقد حصل ، فإيراد
الدور على المطلوب بالحمل الشائع ـ مع عدم صحته في نفسه ـ ليس على إطلاقه.
مضافا
إلى : أن ملاحظة
المطلوبات بالحمل الشائع على نهج الوحدة في
الكثرة وإلغاء
الخصوصيات إنما تجدي في غير المقام ؛ بأن يلاحظ وجود طبيعي الطلب ، ووجود طبيعي
ذات المطلوب ، وأما ما نحن فيه ـ فحيث إنه ذو مراتب ، ولا جهة جامعة ذاتية ـ فإلغاء
الخصوصيات لا يوجب وحدة المراتب وحدة طبيعية عمومية ، فتدبر جيّدا.
وإن كان المطلوب
بالحمل الأوّلي ، فهو بنفسه وإن لم يستلزم الدور مطلقا ، بل الترادف فقط ، إلا أن
الأمر بالمطلوب العنواني لا يرجع إلى محصل ، إلا إذا رجع الأمر الى المطلوب بالحمل
الشائع بملاحظة العنوان ـ في مرحلة الإرادة ـ فانيا في المعنون ؛ بحيث يكون الاستعمال
في نفس العنوان ، إلا أنه بنحو الآليّة لمعنونه في مرحلة الحكم ، فالعنوان ملحوظ
استقلالي في مرحلة الاستعمال ، وملحوظ آلي في مرحلة الحكم كما مر نظيره سابقا ،
وعليه فيجري فيه ما أجريناه في المطلوب بالحمل الشائع من الدور أو الخلف تارة ،
وتحصيل الحاصل اخرى.
وما قلنا : ـ من
أن الأمر بعنوان المطلوب راجع إلى الأمر بمعنونه ـ ليس لكون إيجاد العنوان بإيجاد
معنونه ، ومعنون العنوان المزبور الصلاة التي تعلّق بها الطلب الحقيقي ؛ لأنّ
إيجاد عنوان المطلوب في الخارج ليس بإيجاد الصلاة ، فإنه يسقط الطلب ، بل يجعل
الصلاة مطلوبة حتى يصدق إيجاد العنوان. ومن البيّن أن جعل الصلاة مطلوبة ليس تحت
اختيار المكلّف حتى يكلّف به ، فلا محالة يرجع الأمر بعنوان المطلوب أو بالمطلوب
بالحمل الشائع إلى الأمر بذات المطلوب لمطابقته للمطلوب بالحمل الشائع في مرتبة
تعلّق الطلب به ، لا بمرآتية العنوان لذات المطلوب ، من دون نظر الى حيثية
المطلوبية ، وإلا فلا دور ، بل إلى ذات الصلاة المطابقة للمطلوب بشخص هذا الطلب
بما هي كذلك. فتدبر جيّدا.
٥٦
ـ قوله [ قدس سره ] : (
مدفوع بأنّ الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع ... الخ ) .
__________________
قد عرفت الإشكال
في الجامع المقوليّ والجامع العنوانيّ ، ولا ثالث حتى يوضع له اللفظ.
فان
قلت : لا حاجة إلى
المقوليّ والعنوانيّ ، بل يوضع لفظ الصلاة لما هو بالحمل الشائع ناه عن الفحشاء ،
لا لذوات المراتب الناهية عن الفحشاء حتى يلزم الاشتراك اللفظي ، بل لها بما لها
من الجهة الموجبة لاجتماع شتاتها ، واحتواء متفرقاتها بنحو الوحدة في الكثرة ،
وإلغاء خصوصيات المراتب.
قلت : الواحد بالعرض غير الواحد العرضي ، كما أن الواحد بالنوع
غير الواحد النوعي ، والوحدة الحقيقية ـ التي يوصف بها الشيء حقيقة وبالذات ـ هي
الوحدة الثانية ، وإلا فالوحدة بالعرض وبالنوع من باب وصف الشيء بحال متعلقه ، ففي
الحقيقة ليس للمراتب المختلفة وحدة على الحقيقة ، وإنما الوحدة للعرض القائم بها ،
أعني المطلوبية ، والنهي عن الفحشاء ، والكلام في وضع اللفظ للمراتب ـ التي يجمعها
جهة وحدة ـ لها حقيقة ، لا لنفس تلك الجهة التي هي واحدة حقيقة. فتدبّر جيّدا.
فإن
قلت : لا يجب أن تكون
الوحدة حقيقية ، بل يكفي أن تكون اعتبارية ، بأن يلاحظ المراتب التي هي واحدة
باعتبار الغرض الواحد بالحقيقة ، بناء على الصحيح ، أو بأن يلاحظ المراتب التي هي
واحدة بالقصد ، بناء على الأعمّ ، فإنّ كل مرتبة تنبعث عن قصد واحد ، فالمراتب
واحدة باعتبار وحدة القصد طبيعيا ، فليست جهة الوحدة مقومة للمسمّى ، ولا عينه ،
بل موحدة للمسمّى ، وخارجة عنه ، كما إذا وضع اللفظ لمركب اعتباري ، فان اللفظ لا
يقع بإزاء المتعدّد بذاته ، بل بإزائه بجهة وحدة له ، وهي إما الغرض ، أو القصد ،
أو اللحاظ ، أو شيء آخر ، فكما أن الموضوع له هناك واحد بالاعتبار ، لا بالحقيقة ،
فكذلك فيما نحن فيه.
قلت : نعم ، الواحد بالاعتبار ـ كما في المركب الاعتباري ـ يمكن
أن يوضع
له اللفظ ، إلا
أنّ الواحد بالاعتبار هنا مجموع المراتب باعتبار وحدة الغرض أو القصد وحدة طبيعية
عمومية ، ومن البديهي أن كل مرتبة صلاة ، لا جزء مسمّى الصلاة ، فلا يقاس ما نحن
فيه بالواحد بالاعتبار عليه ، فلا بدّ من الوضع : إما لذوات المراتب المتحدة ـ في
طبيعي الغرض ، أو القصد ، وهو يوجب الاشتراك اللفظي. وإما لها بمجموعها ؛ فانها
الواحد بالاعتبار. وهو خلف. وإما للجهة الموحدة لها ـ التي هي واحد بالحقيقة. وهو
أيضا خلف ؛ لأن الغرض وضع لفظ الصلاة لما يترتب عليه الغرض لا للغرض. وإما الوضع
لجامع ذاتيّ أو عنوانيّ يجمعها.
والأوّل محال ،
والثاني غير صحيح ، كما قدمناه.
وأما تخيّل ـ أن
الوحدة الاعتبارية هنا ذهنية ، فيستحيل اتحادها مع الكثرات الخارجية ـ فخطأ ، بل
الوحدة عرضية بالاضافة الى المراتب ذاتية بالاضافة إلى القصد والغرض.
وعلى أيّ حال فهي
خارجية ؛ لأنّ الواحد بالحقيقة خارجيّ ، فالاعتبار وارد على الوحدة ، لا مقوم لها.
٥٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفي مثله تجري
البراءة وإنما لا تجري فيما إذا كان ... الخ ) .
إذ لو كان بينهما
اتحاد ـ على نحو اتحاد المنتزع والمنتزع عنه ـ فالاجمال فيما هو ناه عن الفحشاء
بالحمل الشائع ـ وهو المأمور به ـ ثابت ، بخلاف ما لو كان بينهما السببية
والمسببية كالوضوء والطهارة ، فان ما هو وضوء بالحمل الشائع غير ما هو طهارة بذلك
الحمل ، فلا ربط للإجمال في أحدهما بالإجمال في الآخر.
قلت : الغرض : إن كان مترتّبا على ذات المأمور به ـ كإسهال
الصفراء المترتّب على الأدوية الخاصة ـ فهو عنوان المأمور به ، فكأنه أمر بمسهل
__________________
الصفراء.
وإن كان مترتبا
على المأمور به ـ إذا قصد له إطاعة الأمر ـ فمثله لا يعقل أن يكون عنوانا لذات
المأمور به ، كيف؟! ومرتبته متأخرة عن الأمر ، بل هو غرض من الأمر ، وهو معنى : أن
المصالح : إما هي عناوين للمأمور به ، أو أغراض من الأوامر.
فظهر : أن عنوانية المصلحة والفائدة ـ بلحاظ أنها مبدأ ـ عنوان
منتزع عن الفعل بلحاظ قيامها به ـ بنحو من أنحاء القيام ـ وإلاّ فكلّ فائدة من
فوائد الفعل القائمة به ـ بنحو من أنحاء القيام ـ نسبتها إلى الفعل المحصّل لها ،
نسبة المسبّب إلى السبب ، كما أن كل عنوان منتزع عن الفعل ـ بلحاظ تأثيره في وجود
الفائدة ـ له نحو اتحاد مع الفعل ، فإذا لوحظت الأفعال الصلاتية بالإضافة إلى نفس
الفائدة ـ أعني النهي عن الفحشاء ـ كانت كالوضوء بالنسبة إلى الطهارة ، وإذا لوحظت
بالإضافة إلى العنوان المنتزع عنها ـ أعني عنوان ( الناهي عن الفحشاء ) ـ كانت
كالوضوء بالنسبة إلى عنوان الطهور المنطبق عليه ، فكما لا فرق في وجوب الاحتياط
بين ما إذا تعلّق الأمر بالوضوء لغرض الطهارة ، وبين ما إذا تعلّق بعنوان الطهور
ابتداء ـ بل الثاني أولى ؛ لرجوع الأوّل إليه أيضا ، كما عرفت في مثال اسهال
الصفراء ، فالأمر يتعلّق بالعنوان في الأوّل بالواسطة ، وفي الثاني بلا واسطة ـ فكذلك
لا فرق بين ما إذا أمر بالأفعال الخاصّة لتحصيل الانتهاء عن الفحشاء ، وبين ما إذا
أمر ابتداء بالناهي عن الفحشاء.
ومن هذا البيان
تبين : أن ما ذكره المقرّر (رحمه الله) إنما يصحّ في مثل عنوان ( الناهي عن الفحشاء )
ـ من العناوين المنتزعة عن الأفعال بلحاظ قيام مبادئها التي هي من فوائدها بها ـ لا
في مثل عنوان المطلوب ، فإنّ مبدأه ليس من فوائد ذات المأمور به ، ولا من فوائد
إتيان المأمور به بقصد الإطاعة ، فلا
__________________
يجري فيه ما ذكرنا
من تعلّق الأمر به حقيقة من طريق الغرض ، وإن كان بلحاظ الوضع لعنوان المطلوب
كذلك.
وبالجملة : كون النسبة اتحادية أو بنحو السببية والمسببية ، لا دخل
له بلزوم الاحتياط وعدمه ، بل الملاك أنّ ما هو مأمور به بالحمل الشائع : إذا كان
مجملا ينحلّ إلى معلوم ومشكوك ، فهو محل الخلاف من حيث البراءة والاحتياط. وإذا
كان مبيّنا كان الاحتياط معيّنا ، [ و ] كان الاجمال في سببه ومحققه ، أو في
مطابقه ومصداقه ؛ حيث إنّ المأمور به لا ينحلّ إلى معلوم يتنجز ، ومشكوك يجري فيه
البراءة.
وعليه فإن كان
مسمّى لفظ الصلاة عنوان ( الناهي عن الفحشاء ) ـ كما هو الظاهر ممن يأخذ الجامع
عنوانا بسيطا منتزعا عن الأفعال الصلاتية ـ فلا مناص عن الاحتياط ؛ لأنّ المسمّى
عنوان مبيّن وقع في حيّز الأمر ؛ لمكان القدرة على إيجاده بالقدرة على ايجاد
معنونه ، ولا ينحلّ إلى معلوم ومجهول ، وانحلال مطابقه إلى معلوم ومجهول أجنبي عن
انحلال متعلّق التكليف.
وإن كان المسمّى
ما هو بالحمل الشائع ناه عن الفحشاء ـ على الوجه الذي أشكلنا عليه ـ أو قلنا
بالوضع للعنوان ، لكنه لوحظ في مقام التكليف فانيا في معنونه ، فما هو مأمور به
بالحمل الشائع إن كان الناهي فعلا ، فهو غير قابل للانحلال بلحاظ حيثيّة الانتهاء
عن الفحشاء ، وإن كان الناهي اقتضاء فكل مرتبة ناهية كذلك ، فمرجع الشك إلى أن
المقتضي بتلك المرتبة مطلوب أم لا ، مع القطع بمطلوبية المقتضي بمرتبة الأقل.
نعم إن كان
الانتهاء عن الفحشاء فعلا ذا مراتب ـ كما هو كذلك قطعا ـ أمكن الانحلال ؛ نظرا إلى
أنّ هذه المرتبة من الانتهاء عن الفحشاء متحققة بالأقلّ ، وإنما الشك في مطلوبية
مرتبة اخرى لا تتحقق إلا بإتيان الأكثر ، فافهم وتدبّر.
٥٨
ـ قوله [ قدس سره ] : (
وأما على الأعم فتصوير الجامع في غاية الاشكال ... الخ ) .
وأما على تصورنا
الجامع فالصحيحي والأعمّي ـ في إمكان الجامع ـ على حدّ سواء ؛ لما عرفت : أن مراتب
الصحيحة والفاسدة متداخلة ، والصحة الفعلية وعدمها في كل مرتبة ، بلحاظ صدورها من
أهلها وعدمه. وحينئذ فإن وضع لفظ الصلاة بإزاء ذاك العمل المبهم من جميع الجهات ،
إلا من حيثية كونه ناهيا عن الفحشاء فعلا ـ بأن تكون هذه الحيثية معرّفة ، لا
حيثية تقييدية مأخوذة في الموضوع له ـ فلا محالة يختصّ الوضع بخصوص الصحيحة ، وإن
وضع بإزاء المبهم ـ إلا من حيث اقتضاء النهي عن الفحشاء دون الفعلية ـ عمّ الوضع ،
وكان الموضوع له هو الأعمّ ؛ إذ من البيّن : أنّ حيثيّة الصدور ليست من أجزاء
الصلاة ، فليست مما يقوم به الأثر ، فكل مرتبة من مراتب الصلاة لها اقتضاء النهي
عن الفحشاء ، لكن فعلية التأثير موقوفة على صدورها من أهلها ، لا ممن هو أهل
لمرتبة اخرى ، بل سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ أن الشرائط كلها كذلك.
وحيث إنّ الموضوع
له على الصحيح ، هو العمل الناهي ، فعلا ، وهو مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فلذا لا
مجال للتمسك بإطلاقه ؛ إذ ليس في البين معنى محفوظ يشك في لواحقه وأحواله ، بل كلّما
كان له دخل في فعلية النهي عن الفحشاء ، فقد اخذ في مدلول الصلاة بالالتزام على ما
يقتضيه معرّفه.
وحيث إنّ الموضوع
له على الأعمّ هو العمل المقتضي للنهي عن الفحشاء ، والمفروض اقتضاء جميع المراتب
، وعدم تعلق دخل حيثية الصدور في اقتضائها ـ وإلا كان من أجزائها ، وهو بديهيّ
الفساد ـ فاذا تحقّقت شرائط التمسك بالإطلاق ، صحّ للأعمّي نفي ما يتصوّر من
المراتب التي تزيد جزءا
__________________
وشرطا على ما صحّ
عنده من المرتبة المقتضية للنهي عن الفحشاء ؛ بصدق معنى الصلاة حقيقة على ما بيده.
نعم بناء على ما
ذكرنا آنفا ـ من احتمال كون الانتهاء عن الفحشاء فعلا ذا مراتب ، وكان كل مرتبة من
الصلاة ناهية ـ بمرتبة من النهي فعلا من أيّ شخص صدرت ـ فعليه لا بأس بالتمسّك
بالإطلاق حتى على الصحيح ؛ إذ المفروض وضع الصلاة لما يكون ناهيا بجميع مراتب
النهي ، ويشكّ في مطلوبية الصلاة بمرتبة اخرى على النهي زائدا على ما بأيدينا ، فيصحّ التّمسك بإطلاقه ، كما على الأعمّ ،
فتدبره ، فإنه حقيق به.
٥٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل وعدم الصدق
عليها ... الخ ) .
فإنّ جعل الأركان
جامعا بلحاظ أن تركها مضر عمدا وسهوا ، مع أن الأجزاء الغير الأركانية مشتركة معها
في الإضرار عمدا ، فلا بد أن لا يصدق على الفاقد لها عمدا ، وعليه يحمل العبارة ،
فتدبّر.
٦٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع أنه يلزم أن
يكون الاستعمال فيما هو المأمور به ... الخ ) .
لا يخفى عليك عدم
ورود نظيره ـ على الصحيح ـ فيما إذا استعمل اللفظ كذلك ، مع أن الاستعمال في كل
مرتبة بحدها مجاز أيضا ؛ لأنه من استعمال الكلي في الجزئي.
والسر في عدم
الورود : أن الاستعمال في الجامع وإرادة فرده أو حصته ـ بنحو إطلاق الكلي على فرده
وحصته ـ صحيح لصدقه عليهما ، بخلاف
__________________
الاستعمال في
الجزء وإرادة الكلّ إطلاقا ، فإنه غير صحيح لعدم صدق الجزء على الكل ، فلا محالة
تنحصر إرادة الكلّ في استعمال اللفظ فيه. مع أن استعمال اللفظ الموضوع للجزء في
الكل مجاز ، ولا يلتزم القائل بالأعم أن يكون الاستعمال المفيد لإرادة الكلّ
مجازا. وعليه ينبغي حمل ما أفاده ـ مدّ ظلّه ـ هنا. وإن كان الاستدلال بصدق الصلاة
على المجموع ، فيكشف عن أن معناها كلّي منطبق عليه ، وعدم صدق الجزء على الكل
أولى.
أما صدق الصلاة ـ بلا
عناية ـ على مراتبها المتفاوتة كمّا وكيفا ـ على الصحيح ـ فلابتنائه على وجود
الجامع الذاتي بينها ، وكونها من الطبائع المشككة المقتضية لدخول المراتب بحدودها
فيها ، ولا يقتضي ذلك صحة استعمالها في مراتبها بحدودها ؛ لأن المسمّى نفس الجامع
، مع عدم لحاظ الحدود ، فاستعمال اللفظ في المراتب بحدودها ، استعمال في غير ما
وضع له ، ودخول الحدود في الطبائع المشكّكة ، وإن كان بلحاظ نفس الطبيعة النوعية
لفرض تعقل التشكيك في الذاتيات ، إلا أنه يصحح صدق الطبيعة النوعية على مراتبها ؛
لأنّها أشدّ اتحادا معها من اتحاد الطبيعي مع فرده ؛ لأنّ المشخّصات خارجة عن
الطبيعة النوعية ، وحدود المراتب هنا داخلة في الطبيعة النوعية ، ولكن لا يصحح
استعمال اللفظ الموضوع للجامع التشكيكي في مراتبه ؛ لأن عمومه المنطقي بلحاظ
إهماله من حيث المراتب ، وإن كان قابلا للعموم الاصوليّ من حيث نفس ذاته أيضا ؛
لكونه في حدّ ذاته ذا مراتب. والوضع له باللحاظ الأوّل ـ لا باللحاظ الثاني ـ فلا
محالة يصحّ الصدق ، ولا يصحّ الاستعمال.
واما عدمه على الأعمّ فلأن المفروض هو الوضع للأركان ، ولا اتحاد للصلاة بهذا المعنى مع
الأركان وغيرها كما عرفت.
__________________
فإن
قلت : كما تصدق
الطبيعة على الفرد بمشخصاته الحقيقية ، فلتصدق على الفرد بمشخصاته الاعتبارية.
قلت : لا ريب في أن الأجزاء الغير الأركانية داخلة في المأمور
به ، وإنما لم تدخل في المسمى على هذا الوجه ، [ لأنها ] أجزاء طبيعة المأمور به ، ولا يعقل أن يكون جزء المأمور به من مشخصات جزء آخر
، فإنّ نسبة الأركان وغيرها إلى المأمور به ـ من حيث الجزئية ـ على حد سواء ، وليس
لمقام التسمية ـ من حيث التسمية ـ اعتبار جزء الفرد ، فلا يعقل أن تكون الأجزاء
الغير الاركانية جزء للطبيعة من حيث المأمور به ، وجزء للفرد من حيث المسمى.
مضافا إلى أن في
صدق الطبيعة على الفرد بمشخّصاته كلاما ، فإن زيدا ـ مثلا ـ من حيث نفسه وبدنه
مطابق للإنسان في الخارج ، لا من حيث كمّه وكيفه ووضعه وغيرها من لوازم وجوده ؛
بداهة أنّ انتزاع مفهوم واحد عن أشياء متخالفة ـ بما هي متخالفة ـ محال ، فكيف
يعقل انتزاع مفهوم واحد ـ وهو الانسان ـ عن زيد وعمرو وبكر مع تخالفها في
المشخّصات؟! فليس ذلك إلا أن مطابقة هذه المتخالفات لمفهوم الانسان بجهة وحدتها ، وهي
كونها ذوات نفس وبدن لا بجهات تخالفها.
والحق : أن الماهية الشخصية بالإضافة إلى الماهية النوعية ،
كالفصل بالإضافة إلى الجنس ، بمعنى أنها مجرى فيض الوجود لها ، كما أن فيض الوجود
يمرّ من الفصل إلى الجنس ، فلو الغي خصوصية درجة الوجود من الماهية الشخصية ـ ولوحظ
الوجود الساري منها إلى الطبيعة النوعية الكلية ـ كانتا متحدتين في هذا الوجود
الساري ، فيصح الحمل بهذه الملاحظة ، لا أن المحمول عليه في ( زيد إنسان ) خصوص
النفس والبدن ؛ حتى يؤول إلى الحمل الأوّلي ، وهذا معنى صدق الطبيعي على فرده ، لا
من حيث لوازمه ، فتدبره ، فإنه حقيق به.
__________________
ومن المعلوم أنّ
هذا الوجه لا يجري إلاّ فيما كان بين الموضوع والمحمول هذا النحو من الاتحاد ، لا
كلّ جزء وكلّ.
٦١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( انه عليه يتبادل
ما هو المعتبر في المسمّى ... الخ ) .
لا
يذهب عليك : أن إشكال تبادل
أجزاء ماهية واحدة ، إنما يرد إذا لوحظت الأجزاء معينة ، لا مبهمة ، والابهام غير
الترديد ، فلا يرد عليه لزوم كون معاني العبادات نكرة.
فلو أرجعنا هذا
الوجه إلى ما وجهنا به الجامع ـ من الوضع لسنخ عمل مبهم بمعرّفية
كذا وكذا بزيادة ( معظم الأجزاء بنحو الإبهام ) ـ لما ورد عليه شيء ، إلاّ صدق
الصلاة الصحيحة على فاقد المعظم فضلا عن صدق مطلقها.
٦٢
ـ قوله [ قدس سره ] : (
وفيه أنّ الأعلام إنما تكون موضوعة للأشخاص ... الخ ) .
إن
قلت : لا ريب في أن
زيدا ـ مثلا ـ مركب من نفس وبدن ، وأعضاء ولحوم وعظام وأعصاب ، فهو واحد بالاجتماع
طبيعيا ، لا صناعيا كالدار ، وليس بواحد بالحقيقة ، فهناك بالحقيقة وجودات. ووحدة
جسمه بالاتصال لا تجدي إلا في النموّ والذبول ، لا في نقص يده ورجله واصبعه وغير
ذلك. وجعله لا بشرط بالإضافة إلى أعضائه مشكل ، فان ذلك الواحد ـ الذي هو لا بشرط
ـ إما نفسه فقط فيشكل ـ حينئذ ـ بأن زيدا من المجردات ، أو مع بدنه فأيّ مقدار من
البدن ملحوظ معه؟
__________________
قلت : ليس المراد من البدن ـ الملحوظ مع النفس ـ جسمه بما له
من الأعضاء ، بل الروح البخاري الذي هو مبدأ الحياة السارية في الأعضاء ؛ فانه
مادة النفس ، وهو الجنس الطبيعي المعبّر عنه بالحيوان ، وهو المتّحد مع النفس
اتّحاد المادّة مع الصورة ، كما أنّ هذا الروح البخاري متّحد مع الأعضاء ، فإنّها
مادّة إعدادية لحدوث الروح البخاري.
فظهر : أن الموضوع له هو النفس المتعلّقة بالبدن ، وتشخّص البدن
ووحدته محفوظ بوحدة النفس وتشخّصها ؛ إذ المعتبر مع النفس مطلق البدن. وكذا الأمر في
النباتات ـ أيضا ـ فإنّ تشخّصها بتشخّص القوّة النباتية ، فالجسم ، وان لم يبق ـ بما
هو جسم ـ لكنه باق بما هو جسم نام ببقاء القوة النباتية. فالتسمية مطابقة للواقع ونفس الأمر ؛ حيث إن المادّة ـ وما
يجري مجراها ـ معتبرة في الشيء على نحو الإبهام ؛ إذ شيئية الشيء بصورته لا
بمادّته.
ومما ذكرنا ظهر :
أن وضع الأعلام ـ على الوجه المقرّر في المقام ـ لا يوجب أن يكون زيد من المجرّدات
، كما يوهمه كلام بعض الأعلام. نعم إنما يلزم ذلك إذا قيل بوضعها للنفس مع قطع
النظر عن تعلّقها بالبدن.
والتحقيق : أن الأمر في الوحدة وإن كان كذلك ، إلاّ أن وضع الأعلام
مما يتعاطاه العوامّ ، ولا يخطر ببالهم ما لا تناله إلاّ أيدي الأعلام ، وظني أن
وضع الأعلام ـ على حدّ ما ذكرناه سابقا ـ من الوضع لهذه الهوية الممتازة عن سائر
الهويات ، مع الإبهام من سائر الجهات.
٦٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إنّ ما وضعت له
الألفاظ ... الخ ) .
مبنى هذا الوجه
على الاكتفاء بجامع الصحيحي ، لا بيان الجامع للاعمّي ، فلا يرد عليه غير ما يرد
على الصحيحي.
__________________
نعم ، يمكن أن
يورد عليه : بمنافاته لغرض الأعمّي على أيّ حال ؛ إذ لو لم يصل الاستعمال إلى حدّ
التعيّن ، كان الظهور الاستعمالي في الصحيح حجة. فالأعمّي كالصحيحي ، ولو وصل إليه لزم الاشتراك اللفظي.
والالتزام بهجر المعنى الصحيح ـ مع أنه أولى بالصدق ـ باطل.
٦٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفيه أنّ الصحيح
، كما عرفت في الوجه السابق ... الخ ) .
مع أن المسلّم ـ في
أمثال المقادير والأوزان ـ صدقها على الناقص بيسير ، لا على الناقص بكثير ـ كما
فيما نحن فيه ـ فالدليل ـ على فرض الصحة ـ أخصّ من المدّعى.
٦٥
ـ قوله [ قدس سره ] : (
إنّ ثمرة النزاع إجمال الخطاب على قول ... الخ ) .
تحقيق
القول في ذلك : أن ظاهر شيخنا
العلامة الأنصاري ـ قدّس سرّه ـ في ثمرة النزاع ، هو إجمال المسمّى على الصحيح ،
وإمكان البيان على الأعمّ .
وربما
يورد عليه : بأن إمكان
البيان ذاتا مع امتناعه فعلا عنده (قدس سره) ـ لذهابه إلى ورود مطلقات العبادات في
غير مقام البيان ـ لا يمكن أن يقع ثمرة للخلاف في المسألة الاصولية ، وهو موجه لو
كان الامر كذلك عند الجميع ، وفي جميع المطلقات ، أما لو لم يكن كذلك ـ كما هو
واضح ـ فلا مانع من جعله ثمرة ، كما هو الشأن في جميع موارد تأسيس الأصل.
بل
الذي ينبغي أن يورد عليه : هو أن إجمال المسمى مستند إلى عدم الطريق إلى ما وضع له لفظ الصلاة مثلا ،
لا إلى الوضع للصحيح ، وإلا
__________________
فالموضوع له بنفسه
مجمل على الأعم أيضا ، وإن كان مبيّنا ـ من حيث الصدق ـ كما سيأتي ـ إن شاء الله
تعالى ـ فجعل إجمال المسمى من آثار الوضع للصحيح غير صحيح.
كما أن إمكان
البيان ـ سواء اريد منه إمكان قيام المولى مقام البيان ، أو إمكان إحراز مقام
البيان ـ معناه سلب ضرورة الطرفين ، وهو مستند إلى عدم ما يوجب الاستحالة أو
الوجوب ، لا إلى الوضع للأعم. ومنه ظهر حال جعل الثمرة الاجمال وعدمه.
وأما ما يورد على
دعوى الاجمال على الصحيح : بأن الأخبار البيانية ـ بعد ما وردت في مقام بيان مفهوم
الصلاة ، مع علم المولى بإجمال مفهوم الصلاة ـ فحينئذ كل جزء أو شرط شك في اعتباره
يرجع في دفعه باطلاق كلامه ، فهذه مقدمات القطع بأن المأمور به هي هذه الامور
المبيّنة ، من دون حاجة إلى أصل ينفي المشكوك ؛ ليقال : إنه دليل الاجمال حتى
بالنظر إلى الأخبار.
فمدفوع : بأنه نظير الاشكال على إمكان البيان ، وقد سمعت جوابه ،
وهو : أن الطرفين في مقام تأسيس الأصل ، وهو إنما يكون لغوا لو كانت العبادات
جميعها عند الجميع مبيّنة بالأخبار البيانية ، وأما لو لم تكن كذلك ـ كما هو ظاهر
ـ فلا إشكال.
فالتحقيق
في بيان الثمرة : أنه لا ريب في أنّ إحراز الوضع للأعمّ ـ بضميمة العلم بأن ما بأيدينا من أفراد
مطلق الصلاة ـ يوجب العلم باتحاد مفهوم الصلاة حقيقة مع هذا الفرد ، فيصح التمسك
بإطلاقها عند اجتماع الشرائط. ومن الواضح انتفاء العلم بالاتحاد بانتفاء أحد جزئي
العلة ، وهو إحراز الوضع للاعمّ ـ سواء أحرزنا الوضع للصحيح ، أو لم نحرز شيئا من
الأمرين ـ فالشاك في
__________________
المسألة حاله حال
الصحيحي.
فاتضح : أن الأثر لإحراز الوضع للأعمّ ، وليس لإحراز الوضع
للصحيح أثر مرغوب.
وبالجملة : فالغرض
كله تأسيس أصل للتمسك بالإطلاق وعدمه وهو مترتب على هذا النهج.
٦٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( قلت : وإن كان
تظهر فيما لو نذر لمن صلّى ... الخ ) .
أي لمن أتى بمسمّى
لفظ الصلاة ، فإنّ صدق المسمّى على الأعمّ مقطوع به ، وعلى الصحيح مشكوك ، وأصالة
الصحّة لا تثبت أن المأتيّ به مسمى لفظ الصلاة.
وأما لو نذر لمن
صلّى ، فيرد عليه ما أورده بعض الأعاظم ( رحمهم الله ) في تقريراته : من أن النذر : إن تعلق بالمطلق فالصحيحي كالأعمّي ، غاية الأمر أن الصلاة
مستعملة في الأعم مجازا على الصحيح ، وإن تعلق بخصوص الصحيحة ، فالأعمّي كالصحيحي
في لزوم إحراز الصحة باصالة الصحة.
٦٧
ـ قوله ـ [ قدّس سرّه ] : ( أن تكون
نتيجتها واقعة في طريق ... الخ ) .
ومسألة النذر من
تطبيق الحكم الكلي ـ المستنبط في محلّه ـ على المورد ، وأين هذا من ذاك؟!
٦٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وقد عرفت كونها
مبينة بغير وجه ... الخ ) .
فلا ندّعي تبادر
المعنى بنفسه وبشخصه ، ليقال : إنه مناف للاجمال بل
__________________
تبادره بوجهه
وبعنوانه ، كعنوان الناهي والمعراج ، ونحوهما من الوجوه والعناوين.
قلت : الانسباق : إما إلى ذهن المستعلم ، أو إلى أذهان
العارفين ، ولا بدّ من رجوع الأوّل إلى الثاني ؛ لأن الارتكاز في ذهن المستعلم
معلول قطعا لتنصيص الواضع أو لغيره من العلائم ، والثاني لا مسرح له في زماننا وما
ضاهاه إلى زمان معاصري الشارع وعترته ـ : ـ إذ المفروض جهل الجميع بما وضع له ، وإحراز انسباق
الصحيحة أو الأعمّ إلى أذهان المحاورين للشارع وعترته ـ : ـ منحصر طريقه في نقل موارد استعمالات الطرفين ، والمقطوع من الانسباق عندهم
انسباق معنى آخر غير المعنى اللغوي. أما انسباق الموجّه بأحد الوجوه والعناوين
المزبورة فغير معلوم ، بل مقطوع العدم ، وتطبيق أحد هذه الوجوه على المعنى المنسبق
إلى أذهانهم اجتهاد منا ، لا أن المتبادر هو المعنى بما له من الوجه حتى ينفعنا.
فتدبره ، فإنه حقيق به.
٦٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( صحة السلب عن الفاسد بسبب الاخلال ... الخ ) .
هذا إن اعتبرت
بالحمل الشائع ؛ بداهة صحة حمل الجامع على فرده ، فلو كان موضوعا للأعمّ ؛ لما صحّ
سلبه عن مصداقه.
وأما إن اعتبرت
بالحمل الأوّلي فلا ؛ إذ عدم اتحاد الصلاة ـ مفهوما ـ مع الفاسدة ـ مفهوما ـ يدل
على عدم الوضع لها ، لا على عدم الوضع لجامع يعمها وغيرها ؛ بداهة أن كل لفظ وضع
لكلّيّ يصح سلبه مفهوما عن مفهوم فرده.
وإنّما اقتصر ـ دام
ظله ـ في المتن على خصوص صحة السلب عن الفاسد ، ولم يتعرض لعدم صحة السلب عن
الصحيح ؛ لأنّ صحّة الحمل على الصحيحة ـ بالحمل الشائع ـ لا يدلّ على الوضع لها ؛
لإمكان استناده إلى الوضع
__________________
لجامع يعمّها
وغيرها. نعم صحة الحمل على الصحيحة ـ بالحمل الأوّلي ـ كافية للصحيحي ؛ إذ لو كان
لفظ الصلاة موضوعا لمفهوم الصحيحة والأعم ، لزم الاشتراك اللفظي الذي لا يلتزم به
الأعمّي ، فهذا المقدار من إثبات صحة الحمل على الصحيحة ـ حملا أوليا ـ كاف في عدم
الوضع للأعمّ عند الخصم.
ثم إن الصحيحي
إنما لا يدعي صحة السلب عن الأعم ـ مع أنه أنسب ـ إما لعدم تعقّل الجامع على الأعم
، أو لأن موارد صحة السلب منحصرة في الفاسدة.
٧٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الأخبار الظاهرة
في إثبات بعض الخواصّ ... الخ ) .
إلاّ أن الفرق ـ بين
الطائفة الاولى والثانية ـ اقتضاء الطائفة الثانية للوضع لخصوص المرتبة العليا ـ لا
لجميع مراتب الصحيحة ـ بخلاف الاولى فإنها آثار كل صلاة صحيحة. فالدليل على
الثانية أخصّ من المدعى ، بل مناف له على بعض الوجوه ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى
ـ ما يمكن الجواب به عن الأخبار مطلقا.
٧١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين ... الخ ) .
نتيجة
هاتين المقدمتين : هو الوضع لخصوص المرتبة العليا ، فالأولى في تقريب المقدّمة الاولى أن يقال
:
نحن ـ معاشر العرف
والعقلاء ـ إذا أردنا الوضع لمركب اخترعناه بلحاظ أثر ، فإنما نضع اللفظ بإزاء ما
يؤثّر ذلك الأثر وإن نقص منه شيء ، فينتج الوضع لما يعمّ جميع مراتب الصحيحة.
وتحقيق
الحال : أنّ المركّب
على قسمين : حقيقي ، واعتباري. والأوّل ما كان
__________________
بين الامور التي
تركّب منها المركّب جهة افتقار لكل من تلك الامور بالنسبة إلى الآخر ، حتى يتحقق
جهة وحدة حقيقية بينها ، وإلا فمجرّد انضمام شيء إلى شيء لا يوجب التركّب الحقيقي.
وإذا كان التركّب حقيقيا ، كانت الجزئية حقيقية ؛ لأنّ كلّ واحد مرتبط بالآخر
ومفتقر إليه حقيقة ، فكل واحد بعض حقيقي لذلك المركب.
والثاني ما لم يكن
كذلك ، وكان كل واحد من المسمى بالجزء موجودا مباينا للآخر ، مستقلا في الفعلية
والتحصّل ، من دون افتقار وارتباط ، ولا جهة اتحاد حقيقة ، لكن ربما يعرض لهذه
الامور المتباينة ـ الموجود كلّ منها على حياله ـ جهة وحدة بها يكون مركبا
اعتباريا ، فالكثرة حقيقية ، ومن باب الوصف بحال نفسها ، والوحدة اعتبارية ، ومن
باب الوصف بحال متعلّقها ، وتلك الجهة كجهة وحدة اللحاظ فيما إذا لوحظ المجموع
بلحاظ واحد ، فإنّ المجموع في حد ذاته متكثر ، واللحاظ في حد ذاته واحد ، لكنه
ينسب إليه هذه الوحدة بنحو من الاعتبار.
وكجهة الوفاء بغرض
واحد ، فإنّ جهة الوحدة حقيقية قائمة بالغرض ، إلا أنّ هذا الواحد ـ حيث إنه قائم
بالمجموع ـ فينسب إليه الوحدة بالعناية.
وكجهة الطلب
والأمر فان الطلب الواحد إذا تعلق بامور متكثرة ، فلا محالة يكون هذا الواحد ـ كالوحدات
السابقة ـ جامعا لشتاتها وموجبا لاندراجها تحت الواحد ، إلا أن جميع هذه الوحدات
والتركيب لما كانت ـ بالاضافة إلى تلك الامور ـ غير حقيقية ، فلذا كان المركب
اعتباريا ، وكانت الجزئية المنتزعة عن كل واحد من تلك الامور اعتبارية ، غاية
الأمر أنها اعتبارية باعتبار موافق للواقع ونفس الأمر ، لا بفرض الفارض.
ثم إن هذه الامور
ـ الملحوظة بلحاظ واحد ، القائمة بغرض واحد ، المطلوبة بطلب واحد ـ ربما تكون نفس
التكبيرة ، والقراءة ، والركوع ، والسجود ،
وغيرها ، فالجزئية
تنتزع عن نفس ذواتها ، واخرى تكون التكبيرة المقارنة لرفع اليد الواقعة حال القيام
، والقراءة المسبوقة أو الملحوقة أو المقارنة لكذا ، فهذه الخصوصيات مقومات للجزء
ـ بمعنى أن بعض ما يفي بالغرض هذا الخاص ـ فالجزء أمر خاص لا أنها خصوصيات في
الجزء المفروغ عن جزئيته.
وعليه فالشرط
المقابل للجزء ليس مطلق الخصوصية ، بل خصوصية خاصة لها دخل في فعلية تأثير تلك
الامور القائمة بغرض واحد ، وليكن على ذكر منك لعلك تنتفع به فيما بعد إن شاء الله تعالى.
إذا
عرفت ما تلونا عليك فاعلم : أن الظاهر من الطريقة العرفية خروج ما له دخل في فعلية التأثير عن المسمّى في
أوضاعهم ، فتراهم يضعون اللفظ بإزاء معجون خاص مركب من عدة أشياء ، من دون أخذ ما
له دخل في فعلية تأثيرها ـ من المقدمات ، والفصول الزمانية ، وغيرها ـ في المسمّى
بل يضعون اللفظ لذات ما يقوم به الأثر ، وهذا أمر لا يكاد يدانيه ريب من ذي بصيرة.
والظاهر أن الشارع لم يسلك في أوضاعه مسلكا آخر ، كما يشهد له ما ورد في تحديد
الوضوء أنه « غسلتان ومسحتان » من دون أخذ شرائطه في حده ، بل وكذا قوله ـ عليه السلام ـ :
« أوّلها التكبير وآخرها التسليم » . ويشهد له أيضا
جميع الأخبار الواردة في بيان الخواصّ والآثار ، فان الظاهر من هذه التراكيب ـ الواردة
في مقام
__________________
إفادة الخواصّ ـ سوقها
لبيان الاقتضاء ـ لا الفعلية ـ نظير قولهم : السنا مسهل ، والنار محرقة ، والشمس مضيئة. إلى غير ذلك ، فإن هذه التراكيب ظاهرة
في بيان المقتضيات ، فيعلم منها أن موضوع هذه القضايا المسمى بلفظ ( الصلاة والصوم
) نفس ما يقتضي هذه الخواصّ ، ويؤيّده قوله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، فانّ الظاهر اتحاد المراد من الصلاة عقيب الأمر ،
والصلاة المؤثّرة في النهي عن الفحشاء ، مع أن فعلية النهي عن الفحشاء موقوفة على
قصد الامتثال الذي لا يمكن أخذه فيما وقع في حيّز الأمر ، مع أنه من الواضح عدم
التجوّز بالتجريد كما لا يخفى.
ومما ذكرنا ظهر
إمكان استظهار اتحاد طريقتي الشارع والعرف في الأوضاع ، وأن لازمه الوضع لذات ما
يقتضي الأثر ، فالشرائط خارجة عن المسمّى.
ومنه ظهر أن أخبار
الخواصّ تجدي للصحيحي من حيث الأجزاء ، بل مقتضى النظر الدقيق هو الوضع للأعم ؛
لأنّ المقتضي لتلك الآثار نفس المراتب المتداخلة ، وحيثية الصدور غير دخيلة في
الاقتضاء ، فالأخبار المتقدمة بالأخرة دليل للأعمّي ، كما قد اتضح أن هذا الدليل
بالأخرة دليل للأعمّي ، فتدبّر.
٧٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ومنها : صحة
التقسيم إلى الصحيح والسقيم ... الخ ) .
اعلم أن صحة
التقسيم لها جهتان :
الاولى ـ أنّ حقيقة المعنى ـ في حد ذاته ـ لها فردان ، نظير
النزاع المعروف
__________________
في اشتراك الوجود
معنى ، فان صحة التقسيم هناك بلحاظ أن هناك حقيقة واحدة لها أفراد متحدة الحقيقة ؛
نظرا إلى أن المفهوم الواحد لا ينتزع عن المتعدد بلا جهة وحدة ، ومن الواضح أن هذه
الجهة لا ربط لها بالوضع للمقسم ، بل الغرض اتحاد حقيقة المقسم بأيّ لفظ عبّر عنها
مع الأقسام.
الثانية ـ أنّ حقيقة المعنى ـ بما هي مسمّاة بلفظ كذا ـ منقسمة إلى
أمرين ، فلو صحّ لدلّ على أن المسمّى هو الجامع ، فلا بد أن ينظر إلى أن هذا
المعنى هل هو معنى اللفظ ومفاده بلا عناية ، أم لا؟
فنفس صحة التقسيم
ـ بما هي هي ـ لا دلالة لها على الوضع ، بل الأمر بالأخرة يرجع إلى استعمال اللفظ
في المقسم ، ومجرّد الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة. مع أن صحّة الاستعمال بلا ضم
ضميمة عندنا لا عبرة بها ، وعند الشارع ومعاصريه لا طريق إليها ، كما عرفت سابقا.
٧٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( منها استعمال
الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة ... الخ ) .
الأولى
أن يقال : بالاستعمال في
الأعم ؛ لأن الاستعمال في الفاسدة مجاز على أي حال ، بل المستعمل فيه هو الأعم ،
واريد خصوصية الفاسدة بدالّ آخر.
٧٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ الأخذ
بالأربع ... الخ ) .
فان مقتضى العهد
الذكري استعمال المذكورات في صدر الخبر ـ وهي الأربعة المأخوذة ، وهي لا محالة
فاسدة ـ في الأعم.
وأما على ما في
غير واحد من الكتب ـ المشتملة على الخبر المزبور ـ
__________________
من تنكير الأربع ،
فلا دلالة على ذلك ، بل فيه إشارة إلى أنهم ـ بسبب ترك الولاية ـ لم يأخذوا بحقيقة
تلك الأربع ، بل بأربع تشاكلها وتشابهها في الصورة دون المعنى.
٧٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لعدم قدرة
الحائض على الصحيحة منها ... الخ ) .
إذ الصحيحة مشروطة
بالطهارة عن الحيض ، وهي غير مقدورة للحائض لا لاشتراط الصحيحة بالقربة وهي غير
مقدورة لها في ظرف الامتثال ؛ حيث لا أمر ، ولا لاستلزام إرادة الصحيحة دلالة
النهي على الصحة دون الفساد ؛ إذ لا تعلق لكليهما بالوضع للصحيحة ، بل الأول إشكال
على تعلق الحرمة الذاتية بالعبادة ، والثاني على تعلق النهي المولوي بالصحيحة ،
فالوضع والاستعمال كلاهما أجنبيّان عن مرحلة الاشكال ، ودفعه في محلّه.
٧٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( للإرشاد إلى عدم
القدرة على الصلاة ... الخ ) .
هكذا أجاب بعض
المحقّقين (رحمه الله) وأورد عليه بعض الأعلام من مقاربي عصرنا (رحمه الله) : بأن النهي الإرشادي ـ أيضا ـ يستدعي محلاّ
قابلا ، كالنهي الشرعي ؛ إذ الارشاد إنشاء من المرشد متعلق بترك المنهي عنه ، ولذا
يقبح أن يقال للأعمى : لا تبصر ، ولو على وجه الإرشاد.
ولا يخفى عليك أنّ
هذا الإيراد لا يندفع بمجرّد دعوى أن النهي
__________________
الإرشادي نهي
إنشائي إيقاعي يتعلّق بالمحال بداعي الإرشاد إلى استحالة صدوره ، وليس نهيا
حقيقيّا يطلب فيه ترك المنهيّ عنه حقيقة ؛ حتى يجب كونه مقدورا.
وجه
عدم الاندفاع : أن الموضوع إن
كان الصلاة عن طهارة من الحيض كان النهي الإرشادي لغوا ، بل ولو لم يكن إلا مجرّد
الإخبار ؛ بداهة لغوية الإخبار بعدم القدرة على الصلاة عن طهارة من الحيض في حال
الحيض ، فحاله بعينه حال إخبار الأعمى بعدم القدرة على الإبصار.
فالوجه في دفع
الإشكال أن يقال : المراد من استعمال الصلاة في الصحيحة استعمالها في تامّ الأجزاء
والشرائط المجعولة حال الاستعمال. ومن الواضح أن الطهارة عن الحيض إنما جعلت شرطا
بمثل هذا الدليل ، فالصلاة المستعملة في المستجمع للأجزاء والشرائط غير الطهارة عن
الحيض ؛ قد استعملت في الصحيحة حال جعل الشرط ، فصح حينئذ أن ينهى عن الصلاة بذاك
المعنى إرشادا إلى عدم ترتب فائدة عليها لفقد شرطها ـ أعني الطهارة عن الحيض ـ فهو
جعل لشرطية الطهارة ببيان لازمها ، وهو الفساد حال الحيض.
هذا إذا كان
اعتبار الشرائط على التدريج ، ومع عدمه يمكن أن يقال أيضا : بأن المأخوذ في
المسمّى ـ على الصحيح ـ هو مطلق الطهارة ـ على وجه الابهام ـ وإن كان متعينا في
حقيقة الصلاة شرعا ، فيكون هذا الدليل تعيينا لتلك الطهارة المبهمة ببيان لازم
تعينها ـ وهو الفساد لولاها ـ هذا على ما هو المتداول عندهم في الوضع للصحيح من
حيث ملاحظة الأجزاء والشرائط بعينها تفصيلا.
وأما على ما
اخترناه ـ من الوضع لسنخ عمل مبهم من حيث تعيّنات الأجزاء والشرائط بمعرّفية النهي
عن الفحشاء بالفعل ـ فالإرشاد إلى عدم القدرة على فعله في حال الحيض ، لا يكون
لغوا ، كما هو واضح.
وأما توهّم صحة
النهي المولوي بتقريب : أن المنهيّ عنه ما هو صلاة في غير حال الحيض ، ومثله محفوظ
في حال الحيض ، غاية الأمر أن قصد التقرّب به على وجه التشريع فمبني على توهم بناء
الاستدلال على عدم القدرة من حيث القربة ، وقد عرفت أنه أجنبي عن المقام.
وأما من حيث فقد
الطهارة فلا معنى لهذا الجواب ؛ لأن الصلاة المتقيّدة بالطهارة عن الحيض لا يعقل
تحقّقها في حال الحيض حتى ينهى عنها ، وجعل حال الحيض وحال عدمه من أحوال الصلاة
خلف واضح ، وتسليم للوضع للأعم.
٧٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإلاّ كان
الإتيان بالأركان ... الخ ) .
الوجه واضح إلا أن
يقال : إن الصلاة وإن استعملت في الأعمّ ، إلا أنه اريدت خصوصية التمامية ـ من حيث
ما عدا الطهارة من الحيض ـ بدالّ آخر ؛ بداهة أن المراد النهي عما كان مقتضى
الأدلة لزوم الاتيان به ، فلا يقتضي تحريم كل ما يصدق عليه الأعم ذاتا.
٧٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إنه لا شبهة في
صحة تعلّق النذر وشبهه ... الخ ) .
تقريب هذا
الاستدلال بوجهين :
أحدهما ـ بنحو القضايا المسلمة : وهو أنه مما تسالم عليه الكل صحة
تعلّق النذر بترك الصلاة ، وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت صحيحة لم يكن لها حنث ؛
حيث لا صلاة صحيحة بعد الحلف أو النذر لحرمتها.
ثانيهما ـ بنحو القضايا البرهانية : وهو أنه مقتضى تعلّق النذر
بالصحيحة تعلّق النهي بها ؛ إذ ذاك مقتضى انعقاد النذر ونفوذه ، ومقتضى تعلّق
النهي بها عدم
__________________
تعلّق النهي بها ؛
إذ مقتضى النهي عن العبادة عدم وقوعها صحيحة ؛ حيث إنها مبغوضة لا يمكن التقرب بها
، ومقتضى عدم وقوعها صحيحة عدم صحة تعلّق النهي بها ؛ إذ المنهيّ عنه لا بدّ من أن
يكون مطابقا لما تعلق به النذر ، وهي الصحيحة على الفرض ، مع أنها غير مقدورة في
ظرف الامتثال ، وكما أن عدم القدرة على الصحيحة ـ حال النذر أو النهي ـ يمنع عن
تعلق النهي بها ، كذلك عدم القدرة عليها بعد النهي ؛ لأنّ الملاك هي القدرة في ظرف
الامتثال ؛ حيث إن الغرض من البعث والزجر هو الامتثال ، وظرفه عقيبهما. وإن كان
منشأ عدم القدرة تعلق النهي ، فلا يكاد ينقدح في نفس العاقل النهي عما لا قدرة
عليه في ظرف الامتثال بأي سبب كان.
وحيث ظهر أن تعلق
النهي بالصحيحة لازمه عدم تعلقه بها ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، تعرف عدم
الوضع للصحيحة والاستعمال فيها.
٧٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يخفى أنه لو
صح ذلك لا يقتضي إلا ... الخ ) .
الوجه واضح ، ولذا
لو كانت موضوعة للأعمّ ، ومع ذلك حلف على ترك الصحيحة لزم المحذور ، كما أنه لو
كانت موضوعة للصحيحة ، ومع ذلك حلف على ترك الأعمّ ، لما لزم منه محذور ، فيعلم
منه أن هذا الاشكال أجنبي عن الوضع والاستعمال.
٨٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع أن الفساد من
قبل النذر ... الخ ) .
ليس الغرض أنّ
تعلّق النذر الموجب لتعلّق النهي ، لا يوجب خروج
__________________
المتعلق عن القدرة
لمكان فساده ؛ لأجل أن مقتضي الشيء لا ينافيه ، فلا يعقل أن يؤثّر الفساد من قبل
النذر والنهي في عدمها ؛ لأنك عرفت أن المعتبر من القدرة هي القدرة في ظرف
الامتثال ، وزوالها فيه بلا إشكال.
بل الغرض أن الصحة
ـ التي تعتبر في متعلّق النهي والنذر ـ لا تزول بالفساد الآتي من قبل النذر
والنهي.
وتوضيحه ـ على وجه
الاستيفاء لجميع الأنحاء ـ : هو أن النذر : إن تعلّق بترك الصلاة المطلوبة بعد النذر
والنهي ؛ بحيث تكون مقرّبة فعلية بعدهما ، فهو الذي يلزم من وجوده عدمه ، ولم يذهب
إلى انعقاد هذا النذر ذو مسكة.
وإن تعلّق بترك
الصلاة المأتيّ بها بأحد الدواعي التي لا تتوقف على الطلب والأمر ، ولا ينافي
تحقّقها مع المبغوضية الفعلية أيضا ـ كالصلاة بداعي حسنها الذاتي ، أو بداعي
التعظيم لله ، أو بداعي التخضّع له تعالى ـ فالصلاة بهذا المعنى تامّة الأجزاء
والشرائط حتى بعد النذر والنهي ـ سواء قلنا بالحرمة المولوية أم لا ـ لأن هذه
الدواعي لا تنافي المبغوضية الفعلية ، وما هو المسلّم من انعقاد النذر ، وإمكان
حنثه لا بد من أن يصرف إلى هذا الوجه.
وإن تعلق النذر
بترك مسمّى الصلاة شرعا من غير تعيين من قبل الناذر فصحته وفساده يدوران مدار
أقوال المسألة :
فان
قلنا : بالأعم صح
النذر.
وإن
قلنا : بالصحيحة من
حيث الاجزاء فقط ، أو ما عدا القربة صح النذر أيضا.
وإن
قلنا : بالصحيحة بقول
مطلق ، فإن اقتصرنا في القربة على الإتيان بداعي الأمر بطل النذر ، وإن جوّزنا
الاتيان بسائر الدواعي ـ الغير الموقوفة على الأمر ، بل الغير المنافية للحرمة
المولوية ـ صح النذر.
نعم
إن قلنا : بأن القربة
إتيان العمل بداعي الأمر ، فالناذر الملتفت لا بد
من أن يقصد الصلاة
الصحيحة لو لا تعلق النهي والنذر ، فمتعلق النذر هو الصحيح بهذا المعنى.
ولو فرض كون
الاستعمال ـ في الصحيح بهذا المعنى مجازا ، لم يكن به بأس ، إذ لزوم التجوز في
مورد لا يكشف عن الوضع له كما لا يخفى ، وظاهر المتن في الجواب عن الاشكال هذا
الوجه الأخير.
٨١
ـ قوله [ قدس سره ] : [ ( إن أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع ...
الخ ) .
توضيحه : أن الإيجاب والقبول المستجمعين للشرائط ، إذا حصلا حصلت
الملكية الحقيقية.
والعقد المزبور ـ بلحاظ
تأثيره في وجود الملكية ، وقيام الملكية به قيام المعلول بالعلة ـ محقق للتمليك
الحقيقي ، والتمليك فعل تسبيبي ، ولا يصدق على نفس العقد ؛ إذ التمليك والملكية من
قبيل الايجاد والوجود ، فهما متحدان بالذات ، ومختلفان بالاعتبار ، فكما أن وجود
الملكية ليس متحدا مع العقد ، كذلك المتحد معه ذاتا. فافهم جيّدا.
فحينئذ
إن قلنا : بأن البيع
موضوع للتمليك الحقيقي ـ أي ما هو بالحمل الشائع تمليك ـ أو للتمليك الذي لا يصدق
في الخارج إلا على المتحد مع وجود الملكية ذاتا ـ كما هو الظاهر ـ فلا محالة لا يجري فيه النزاع ؛ لما سمعت من أن التمليك والملكية الحقيقية
من قبيل الإيجاد والوجود ، وهما متحدان بالذات
__________________
متفاوتان
بالاعتبار ، ولذا اطلق عليه المسبب المعبر به عرفا عن الأثر ، وليس لمثله أثر كي
يتصف بلحاظ ترتبه عليه بالصحة ، وبلحاظ عدم ترتبه عليه بالفساد.
ومنه علم أن
توصيفه بالصحة مسامحة ، لا لأن الصحة والفساد متضايفان ، فيجب قبول المورد
لتواردهما. كيف؟ والعلية والمعلولية من أوضح أنحاء التضايف ، وليس كلّما صحّ أن
يكون علة صحّ أن يكون معلولا ، وبالعكس ـ كما في الواجب تعالى شأنه بالنسبة إلى
معاليله ـ بل لأنهما من المتقابلين بتقابل العدم والملكة ، فلا يصدق الفاسد إلا
على ما من شأنه ترتب الأثر ، وهو السبب ، دون نفس المسبب ، بل المسبب يتصف بالوجود
والعدم.
وبعبارة
اخرى : الشيء لا يكون
أثرا لنفسه ، ولا لما هو متحد معه ذاتا.
ومنه علم أنهما
متقابلان لا متضايفان ، فإن التضايف قسم خاص من التقابل ، ولا بد فيه من كون كل من
المفهومين بحيث لا يعقل إلا بالقياس إلى غيره ، ويلزمه التكافؤ في القوة والفعلية
ـ كالفوقية والتحتية ـ مع أن الصحيح والفاسد ليسا كذلك ـ بحيث لو وجد الصحيح وجد
الفاسد ـ بل متقابلان بنحو لا يجتمعان لكنهما يرتفعان في قبال السلب والايجاب.
وأما
توهّم : أن نفوذه لازم
وجوده باعتبار ترتب الآثار التكليفية والوضعية على الملكية ، فلا توجد إلاّ
مترتّبة عليها آثارها فيتصف بالصحة دون الفساد.
فمدفوع : بأن نسبة تلك الآثار إلى الملكية نسبة الحكم إلى موضوعه
، لا نسبة المسبب إلى سببه ـ فضلا عن نسبة المسبب إلى الأمر التسبيبي ـ فلا تتصف
الملكية ـ مع عدم كونها مؤثّرة في تلك الأحكام ـ بالصحة.
فان
قلت : سلمنا أن البيع
هو ايجاد الملكية الحقيقية ، إلا أن ايجاد الملكية أمر ، وإمضاء العرف أو الشرع أمر
آخر ، فإن أمضاه الشارع أو العرف اتصف بالصحة ، وإلاّ فبالفساد.
قلت : الملكية الشرعية او العرفية ليست من المقولات الواقعية ،
بل
المعقول نفس
اعتبار الشرع أو العرف هذا المعنى لمن حصل له السبب ، كما أشرنا إليه في تحقيق حقيقة الوضع وبيّنّاه بما لا مزيد عليه في محلّه.
ومن
الواضح : أن اعتبار كل
معتبر لا واقع له وراء نفسه ، وهو أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة ، وليس من حقيقة
البيع في شيء ؛ حيث إنه من الامور التسبيبية ، بل الشارع والعرف المعتبران للملكية
ربما يجعلان سببا ليتوسّل به إلى اعتبارهما ، فاذا تسبّب الشخص بما جعله الشارع ـ مثلا
ـ سببا لاعتباره ، فقد أوجد الملكية الاعتبارية بالتسبيب ، ولا حالة منتظرة بعد
حصول الملكية الشرعية بعلّتها التامة الشرعية ؛ كي يقال : بأن إيجاد الملكية أمر ،
وإمضاءه أمر آخر ، وإن أوجد ما هو سبب لاعتبار العرف فقط فالملكية الشرعية حقيقة
لم توجد بعدم سببها ، وليس التمليك العرفي سببا بالإضافة إلى الملكية الشرعية ؛
حتى يكون ترتّبها عليه مناط صحته ، وعدمه مناط فساده.
وعلى أيّ حال
فالقابل للتأثير وعدمه هو السبب دون المسبب عرفيا كان أو شرعيا.
٨٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما إن كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال ...
الخ ) .
الوجه واضح ، لا
يقال : لا مجال للنزاع أيضا ؛ اذ الصحيحيّ كالاعمّي من حيث التمسك بالإطلاق ،
فيلغو النزاع ، مع عدم ترتب الثمرة المهمة.
لأنّا
نقول : قد مرّ مرارا
أن مثله إنما يلغو إذا كان الأمر كذلك ـ في الجميع ـ عند الجميع ، وإلا فذهاب
طائفة في طائفة من ألفاظ المعاملات في بعض الحالات إلى التمسك بالاطلاق ، لا يقلع
مادة النزاع والشّقاق.
__________________
٨٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ولا يبعد دعوى
كونها موضوعة للصحيحة ... الخ ) .
قد عرفت سابقا :
أن الطريقة العرفية جارية على الوضع لذات المؤثر ، وعدم ملاحظة ما له دخل في فعلية
التأثير في المسمّى ، والمفروض عدم تصرّف الشارع في المسمّى من حيث التسمية ،
فيتعين القول بوضع ألفاظ المعاملات ـ على هذا الوجه ـ لذوات الأسباب ، لا للصحيح
المؤثر منها ، وليست كألفاظ العبادات ؛ حتى يتوقف على دعوى اتحاد طريقتي العرف
والشرع في الأوضاع.
٨٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( والاختلاف بين
الشرع والعرف فيما يعتبر ... الخ ) .
هذا إذا كان اللفظ
موضوعا لما يؤثّر في الملكية فعلا ، وأما إذا كان لما يؤثر فيها اقتضاء ،
فالاختلاف تارة في المصداق ، وهو ما إذا كان ذات السبب شرعا غير ما هو ذات السبب
عرفا ، واخرى ليس في المفهوم ولا في المصداق ، بل تقييد وتضييق لدائرة السبب
العرفي ، وهو ما إذا اتحد السبب ، وضمّ الشرع إليه ضميمة لها دخل في فعلية تأثيره
، وأما الضميمة التي لها دخل في اقتضائه ، فهي مقومة للسبب ، لا أنها شرط في
تأثيره ـ كما مرّ نظيره في العبادات ـ ومثل هذه
الخصوصية ترجع إلى الاختلاف في المصداق أيضا.
٨٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وتخطئة الشرع
العرف في تخيل ... الخ ) .
حاصله
: أن الحكم بعدم
نفوذ سبب عرفي ، ليس من أجل الاختلاف في
__________________
المفهوم ، ولا من
أجل التقييد في الحكم ، بل السبب حيث إنه ما يؤثّر في الملكية واقعا ، وكان نظر
الشرع والعرف طريقا إليه ، فلا محالة يكون نهي الشارع ـ الناظر إلى الواقع ـ تخطئة
لنظر العرف ؛ بحيث لو كشف الغطاء لوجدوا الأمر على ما يجده الشارع ، من عدم تأثير
السبب في الملكية في الواقع.
قلت : إن كانت الملكية من المقولات الواقعية ـ ولو كانت
انتزاعية ـ وأمكن اطلاع الشارع على خصوصية موجبة لعدم تحقق المقولة أو لتحققها ،
كانت التخطئة معقولة.
وأما إن كانت من
الاعتبارات ـ على ما قدمنا بيانه ، وشيدنا بنيانه
ـ فلا مجال للتخطئة والتصويب ؛ حيث لا واقع لاعتبار كل معتبر إلا نفسه ، فالملكية
الموجودة في اعتبار العرف بأسبابها الجعلية ، موجودة عند كل أحد ، ولا واقع لتأثير
السبب الجعلي إلا ترتب مسببه عليه ، والمفروض تحقق الاعتبار عند تحقق السبب الجعلي
في جميع الأنظار. كما أن الملكية الشرعية التي هي نحو من الاعتبار لم تتحقق لعدم
تحقق سببها ـ أيضا ـ في جميع الأنظار.
نعم اقتضاء
الأسباب لاعتبار المعتبر ليس جزافا ، فانه على حد المعلول بلا علة ، بل لمصالح
قائمة بما يسمّى سببا يقتضي عند حصول السبب اعتبار الشارع أو العرف للملكية لمن
حصل له السبب. والعقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد الباعثة على اعتبار
الملكية أو الزوجية وغيرهما ، فربما يدرك العرف مصلحة في المعاطاة ـ مثلا ـ فتدعوهم
تلك المصلحة إلى اعتبار الملكية ، مع عدم اطّلاعهم ـ لقصور عقولهم ـ على مفسدة
تقتضي عدم اعتبار الملكية ، وقد أدركها الشارع الناظر إلى الواقع ، فتجري التخطئة
والتصويب في هذه المرحلة ، لا في مرحلة الملكية ، فإنها اعتبارية لا واقعية ، ولا
في مرحلة الأسباب
__________________
فإنها جعلية ،
وبعد حصولها وترتب مسبباتها عليها ، فقد وجد مصداق ما يؤثر في اعتبار العرف في
جميع الانظار ، وإن لم يوجد مصداق ما يؤثّر في اعتبار الشارع في جميع الأنظار ،
فليس هنا أمر محفوظ أخطأ عنه العرف إلا المصالح والمفاسد المقتضية لجعل تلك الامور
أسبابا لاعتبار الملكية.
ولك أن تنزّل
عبارة الكتاب على ما هو الصواب من التخطئة في الوجه الباعث على جعل الشيء سببا ،
لا في السبب ولا في المسبب ، فتدبّره جيّدا.
٨٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها
... الخ ) .
إذ المانع هو
الاجمال من حيث الصدق ، وإن لم يكن مجملا من حيث المفهوم ، كما أن المصحح للتمسك
بالاطلاق عدم الاجمال من حيث الصدق ، وإن كان مجملا من حيث المفهوم ، كما عرفت في
الفاظ العبادات على الأعمّ .
والسر في عدم
إجمال ألفاظ المعاملات من حيث الصدق تعارف المعاملات وتداولها بأسبابها ، فلها بعض
ما يصدق عليه في نظر العرف أنه مؤثر في الملكية ، غاية الأمر أن نفوذ كل ما يصدق
عليه عرفا أنه مؤثر في الملكية ، يتوقف على الاطلاق.
وتقريب الاطلاق
على ما أفاده شيخ المحققين ـ في هداية المسترشدين ـ بتوضيح مني : هو أن ( البيع ) ـ لغة
ـ موضوع لما يؤثر في الملكية واقعا ، ونظر العرف والشرع طريق إليه ، فإذا كان المولى
في مقام البيان ، وحكم بنفوذ كل ما يؤثّر في الملكية واقعا ـ من دون أن يقيّده
بمصداق خاصّ ولا بمحقّق مخصوص ـ
__________________
فهو حجة على أنّ
ما هو مملّك في نظر العرف فهو مملك في نظر الشارع واقعا ، فاتباع نظر العرف في
تطبيق المفهوم على المصداق ، بالحجة الشرعية ـ وهو الاطلاق ـ فلا مجال لأن يقال :
العرف مرجع تشخيص المفاهيم دون المصاديق ، وموارد النهي ـ حينئذ ـ من باب التخطئة
لنظر العرف ، فهو تخصيص في حجية نظر العرف ، لا في موضوع الحكم ؛ لأن المملّك
الواقعي نافذ أبدا ، والمنهي عنه ما لا يؤثّر في الملكية واقعا وإن اعتقد تأثيره
العرف.
ولا يخفى عليك أنه
لا فرق بين القيد المغفول عنه عند العامة والملتفت إليه عندهم ، إلا في لزوم القيام
مقام البيان لو كان دخيلا في التأثير ؛ إذ لولاه لم يلتفت إليه العرف ؛ حتى يكون
مجرى أصالة الفساد مع عدم الاطلاق اللفظي ، بخلاف الملتفت إليه ، فانه لا يجب
التنبيه عليه إلا إذا فرض قيامه مقام بيان كل ما له
دخل في تأثير ما هو سبب بنظر العرف. فالإطلاق على الأوّل من مقدّماته لزوم القيام
مقام البيان ، وفي الثاني لزوم البيان لو كان في مقام البيان. وتخصيص الإطلاق
المقامي هنا بخصوص القيد المغفول عنه بلا وجه.
لكنك
قد عرفت : أن التخطئة في
المصداق تدور مدار كون الملكية من الامور الانتزاعية الواقعية ؛ حتى يتصور هناك
طريقية نظر العرف والتخطئة والتصويب. وأما بناء على كون الملكية من الاعتبارات فلا
، كما عرفت القول فيه مفصّلا .
والتحقيق : أن البيع وإن كان موضوعا لما هو المؤثر في الملك من دون
تقييد بكون الملك بحسب اعتبار الشارع أو العرف ، لكنه حيث لا واقع للملكية التي
يتسبب إليها بأسبابها إلا نفس اعتبار الشارع أو العرف ، فالموضوع للحكم لا بد
__________________
من أن يكون أحد
الأمرين : اما ما يؤثر في الملكية عرفا ، أو ما يؤثر في الملكية شرعا :
فان
كان الأوّل : صحّ التمسّك
بالإطلاق إلاّ أنّ لازمه الالتزام بالتخصيص الحكمي في موارد النهي ؛ إذ المفروض أن
الموضوع بحدّه هو المؤثّر عرفا ، وهو على حاله موجود في موارد النهي فهو من أفراد
البيع الحلال حقيقة ومع ذلك فقد حكم بعدم صحته تعبّدا.
وإن
كان الثاني : لم يصح ؛ إذ
المفروض أن الموضوع هو ما يؤثّر في الملك شرعا ، وهو مشكوك الانطباق على السبب
العرفي ، والاطلاق لا يكاد يشخّص المصداق.
والتحقيق في حل
الاشكال : اختيار الشق الثاني بمناسبة الحكم والموضوع ؛ إذ لو فرض إنفاذ المملّك
العرفي لكان راجعا إلى جعله مملّكا شرعا ؛ حيث لا أثر للسبب شرعا إلاّ اعتبار
الملكية شرعا.
وتقريب
الاطلاق : ان الاطلاق قد
يكون بلحاظ الكلام ، كما في ما لو كان الموضوع ما يؤثّر عرفا ، وقد يكون بلحاظ
المقام ، كما في ما لو كان الموضوع ما يؤثّر واقعا ، فان تعيين المصداق يضيق دائرة
الموضوع في الأول فيعلم أن التوسعة بلحاظ الكلام ، بخلاف الثاني ، فان تعيين
المصداق لا يضيّق دائرة ما يؤثّر واقعا ـ كما هو ظاهر ـ فيعلم أن التوسعة بلحاظ
المقام ، فكذا فيما نحن فيه ، فإنّ المولى بعد ما كان في مقام بيان الحكم الفعلي
وإنفاذ السبب شرعا ، ولم يعيّن محقّقا ولا مصداقا لما هو الموضوع لحكمه ، فنفس عدم
تعيين المصداق كاشف عن عدم تعيّن مصداق خاص لموضوع حكمه ، وأنّ ما هو المصداق لما
يؤثر في الملك عرفا مصداق لما يؤثر في الملك شرعا. فمرجع الاطلاق إلى التلازم بين
المحقق الجعلي الشرعي والمحقق الجعلي العرفي.
كما أن مرجع
التخصيص ـ في موارد النهي ـ إلى التخصيص في هذه
الملازمة
المستفادة من إطلاق المقام ، لا إلى تخصيص موضوع الحكم ؛ لأن السبب الشرعي باق على
نفوذه ـ بما هو سبب شرعي ـ من دون خصوصية اخرى ، ولا إلى تخصيص الحكم ؛ لأن النفوذ
لم يرتفع عن السبب الشرعي في مورد أصلا ، ولا إلى التخطئة لنظر العرف ؛ إذ لم يكن
هناك واقع محفوظ جعل نظرهم طريقا إليه ، فأفهم واغتنم.
٨٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( دخل شيء وجودي
أو عدمي في المأمور به ... الخ ) .
قد عرفت في ذيل
الدليل الرابع من أدلة الصحيحي تفصيل القول في حقيقة الجزء والشرط ، وأن الشرط ليس مطلق
ما يوجب خصوصية في ذات الجزء ، بل خصوصية خاصة ، وهي ما له دخل في فعلية تأثير
الأجزاء بالأسر. وأما الخصوصية المقوّمة للجزء ، فليست هي من عوارض الجزء ، بل
الجزء أمر خاص ، وتسمية مطلق الخصوصية شرطا ـ مع كون بعضها مقوّما للجزء ـ جزاف ،
فراجع.
إنما الكلام هنا في
تحقيق الفرق بين جزء الطبيعة وجزء الفرد ، والفرق بينهما في غير المركبات
الاعتبارية : أنّ ما كان من علل قوام الطبيعة ، وكان أصل الماهية ـ مع قطع النظر
عن الوجود ـ مؤتلفة منه ، فهو جزء الطبيعة. وما لم يكن من علل القوام وما يأتلف
منه الطبيعة ـ بل كان من لوازم وجود الطبيعة في الخارج بوجود فردها ـ فهو عند
الجمهور من مشخصات الطبيعة في الخارج ، وعند المحققين من لوازم التشخص ؛ حيث إن
التشخّص بالوجود يسمّى جزء الفرد ؛ لأن الفرد ـ بحسب التحليل العقلي الموافق
للواقع ـ مركب من الطبيعة
__________________
ومشخصاتها.
وأما المركبات
الاعتبارية فإجراء هذا البيان فيها لا يخلو عن شيء ، ومجرّد ملاحظة الطبيعة الواجبة
( لا بشرط ) لا يستدعي اعتبار مشخصية الزائد على أصل الطبيعة ، فإنّ الطبيعة ـ بالإضافة
إلى الخارج عنها ـ لا بشرط ، ومع ذلك فليس كل خارج من مشخصاتها ، بل المشخّصية من
أوصاف لوازم وجودها في الخارج ، وهذا المعنى غير قابل لاعتبار صحيح ، إلا أن يقال
:
فضيلة الطبيعة
وكمالها من شئونها وأطوارها ، لا أنها شيء بحيالها ، فيكون كالمشخصات التي لا
تلاحظ في قبالها. فالقنوت ليس بعض ما يفي بالغرض الأوفى ، بل القائم به نفس طبيعة
الصلاة ، لا مطلقا ، بل عند تحقق القنوت فيها ؛ حيث إن القنوت كمال للصلاة ، وقد
عرفت : أن كمال الشيء لا يحسب في قباله ، بل كالمشخص له ومن شئونه وأطواره.
فاتضح أن اعتبار
المشخصية على أي وجه ، وهو أن الشارع لم يأخذه في حيّز الطلب الوجوبي ، ولم يكن
مما يفي بالغرض ، بل إنما ندب إليه لكونه كمالا للصلاة ـ مثلا ـ فالصلاة المشتملة
عليه أفضل ؛ حيث إنها أكمل.
ثم لا يخفى أن مثل
هذا الجزء ـ المعبر عنه بجزء الفرد ـ خارج عن حقيقة المسمى ؛ لصدق الصلاة على
فاقده وإن صدقت على واجده ، كما هو شأن المشخّص ، فإنّ مشخّصات زيد خارجة عن حقيقة
الإنسان وعن مسمّاه ، ومع ذلك فزيد ـ بما هو زيد ـ إنسان ، لا إنه إنسان وزيادة ،
كما أشرنا إليه والى وجهه في بعض الحواشي المتقدمة .
وأولى منه بالخروج
عن المسمّى ما يستحب نفسا في أثناء العبادة ـ بحيث
__________________
كانت العبادة ظرفا
له ولو بنحو الظرفية المنحصرة ـ إذ المفروض أنه ليس مما يتقوّم به الطبيعة ، ولا
من شئونها وأطوارها ، ومجرد استحباب عمل في عمل لا يقتضي بالجزئية ولا بالمشخصية ،
وترشّح الاستحباب منه إلى العبادة إنما يكون إذا تمحضت العبادة ـ في المقدمية
لوجوده ، ولم تكن مقدمة لوجوبه أيضا بأن كان مستحبّا في الصلاة مطلقا ـ لا مشروطا
ـ وإلا فلا ترشح ؛ حيث لا استحباب قبل فعل الصلاة على الفرض.
ولغير واحد من
الأعلام كلام في المقام ـ في الفرق بين الجزء المفرّد والمستحبّ في أثناء العبادة
بما لا يخلو من شوب الإبهام ـ وهو :
سراية فساد الجزء
المفرّد إلى العبادة ، دون الآخر ؛ نظرا إلى أنه جزء لأفضل الأفراد ، ومن جملة
الأفعال الصلاتية دون الآخر.
وكذا يفرّق بينهما
في التسليم ـ بناء على استحبابه ـ فإنه إذا كان جزء الفرد كان الشكّ في حاله شكّا
قبل الفراغ عن الصلاة ، وإذا كان مستحبا بعد التشهد في نفسه ـ لا من حيث المشخّصية
ـ كان الشك في تلك الحال شكا بعد الفراغ.
وفي كلا الفرقين
نظر واضح ، فإنهما إنّما يتمّان إذا كان المسمّى بالمشخّص كالمشخّص الحقيقي الذي
يوجب زواله وانعدامه زوال الطبيعة وانعدامها ؛ لوجودها بوجود شخصها وفردها ، فتزول
بزواله ، وتنقطع بانقطاعه. وليس الأمر كذلك ؛ لما عرفت مفصّلا آنفا : أن اعتبار
المشخصية باعتبار أن مثل هذا الجزء كمال للطبيعة ، وكمالها ليس أمرا في قبالها ،
فيكون كالمشخّص الحقيقي الذي لا يعدّ موجودا مستقلا في قبال وجود الطبيعة ، بل هو
من أطوار وجودها وشئونه ، وإلا فتحقّق نفس الطبيعة بتحقّق التكبيرة والقراءة إلى
آخر الأجزاء الواجبة ، فالصلاة المشتملة على القنوت الفاسد ، كالتي لم تشتمل عليه
من حيث تحققها
بتحقق ما هو من
علل قوامها ، وكذلك تنقطع طبيعة الصلاة بالتشهّد ، والتسليم كمالها ، فإن وجد
صحيحا كانت الصلاة كاملة به ، وإلا فلا ، وليس مشخّصا حقيقيا كي يتخيل أن الطبيعة
لا توجد إلا بوجود شخصها ، فافهم جيدا.
* * *
الاشتراك
٨٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الحق وقوع الاشتراك للنقل ... الخ ) .
المراد من الموادّ
الثلاث ـ أعني الامكان وطرفيه ـ هو الوقوعي منها دون الذاتي ؛ ضرورة أنّ النظر إلى
ذات الاشتراك لا يقتضي ضرورة الوجود أو العدم ، بل المدّعى لزوم المحال من فرض
وقوعه أو لا وقوعه ، وعدمه. وكما أن إمكان الشيء ذاتا لا ينافي وجوبه أو امتناعه
الوقوعي ، فيصير واجبا أو ممتنعا بالعرض ، كذلك لا منافاة بين إمكان الشيء وقوعيا
ووجوبه بالغير ؛ ضرورة أن عدم الوجوب لعدم اللازم الممتنع لا وقوعه ، غير الوجوب
لوجود العلة التامة.
ثم إنّ أدلّ دليل
على إمكان الاشتراك وقوعه في اللغة ، كالقرء للحيض والطهر ، والجون للسواد والبياض
، وغير ذلك.
ومن غريب الكلام
ما عن بعض المدققين من المعاصرين حيث زعم : أن اللفظ في
المثالين غير موضوع للمعنيين ، بل للجامع الرابط بينهما ؛ نظرا إلى استحالة
التقابل بين معنيين لا جامع بينهما ، مستشهدا بعدم التقابل بين الظلمة والحمار ،
ولا بين العلم والحجر ، فالقرء موضوع للحالة الجامعة بين حالتي المرأة من الطهر
والحيض ، والجون لحال اللون من حيث السواد والبياض ، وظن أن خفاء الجامع أوهم
الاشتراك. ولعمري إنه من بعض الظن ، أما لزوم الجامع في المتقابلين : فإن أراد
المتقابلين بحسب الاصطلاح ـ وهما الأمران اللذان يمتنع
__________________
اجتماعهما في
موضوع واحد أو محلّ واحد بجهة واحدة ـ فمن الواضح عدم لزوم الجامع مطلقا ؛ إذ من
أقسام التقابل تقابل الايجاب والسلب ، وعدم الجامع بينهما بديهي.
وإن أراد
المتقابلين بتقابل التضادّ ، فلزوم اندراجهما تحت الجامع قول به في فن الحكمة ،
ولذا اعتبر امتناع اجتماعهما في المتعاقبين على موضوع واحد لا محلّ واحد. إلا أن
المتقابلين غير منحصرين في المتضادّين ، فإن العلم والجهل ـ عند هذا القائل ـ من
المتقابلين ، مع أنهما غير متقابلين بتقابل التضاد ، بل بتقابل العدم والملكة ،
ولا جامع بينهما ، ولم يذكر أحد من أرباب الفن لزومه في تقابلهما. وحيث إن اللازم في
تقابل العدم والملكة إضافة العدم الى ما يقبل الوجود كالعمى ، فإنه يوصف به من
يقبل البصر ، فلذا لا يطلق على الحجر : أنه جاهل أو أعمى.
وأما عدم التقابل
بين الظلمة والحمار والعلم والحجر ، فإن أراد عدم التقابل اصطلاحا ـ وان كان
بينهما التعاند والغيرية ـ فلو سلم لا يدلّ على لزوم الجامع بين المتقابلين بقول
مطلق ، مع أنه لو كان المتضادان ـ اصطلاحا ـ الوجوديين اللذين يمتنع اجتماعهما في
محل واحد ، يكون المثالان من المتقابلين بتقابل التضاد. نعم ، بناء على عدم تضادّ
الجواهر بعضها مع بعض ومع العرض ، لا تضادّ بينهم وإن كان متعاندين.
ثم لو أغمضنا
النظر عن كل ذلك ، فأيّ دليل دلّ على أن الامرين المندرجين تحت الجامع ، كالسواد
والبياض ، يجب الوضع للجامع بينهما دونهما ، وهل هو إلا تحكم بلا وجه.
هذا ، مع أن
الجامع بين السواد والبياض ليس إلا اللون ، ولازمه صحة
إطلاق الجون على كل
لون ، وإلا فخصوصية السواد والبياض المفرّقة بينهما لا يعقل أن يكون لها جامع. فتدبّر جيّدا.
٨٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن أحاله بعض
لإخلاله ... الخ ) .
ذكر بعض أجلّة
العصر برهانا على الاستحالة ـ إذا كان الوضع عبارة عن جعل
الملازمة الدهنية بين اللفظ والمعنى ، أو عما يستلزمها ـ ملخّصه بتوضيح مني :
أن الوضع لكل من
المعنيين ـ بحيث لم يكن هناك إلاّ معنى واحد ووضع واحد ـ وليس أحد الوضعين متمّما
للآخر ، ولا ناظرا إليه ، فعليه : إن كان اللفظ ملازما للمعنيين ـ دفعة واحدة
بانتقال واحد ـ لزم الخلف إذ المفروض جعل ملازمتين بالإضافة إلى معنيين ، وعدم كون
أحد الوضعين متمّما للآخر ولا ناظرا إليه.
وإن كان ملازما
لأحد المعنيين على الترديد ، فهو أيضا كذلك ، وهو واضح.
وان كان ملازما
للمعنيين بملازمتين مستقلتين وانتقالين حقيقيين ـ كما هو المفروض ـ فحيث لا ترتّب
بينهما ، فلا بد من تحقق انتقالين دفعة واحدة ـ من غير ترتب ـ بمجرّد سماع اللفظ ،
وهو محال.
وفيه : أن الوضع ليس جعل اللفظ علة تامة للانتقال ؛ كي يلزم هذا
__________________
المحال ، بل جعله
مقتضيا له ، فإن كان هناك اقتضاء واحد لمكان وحدة اللفظ والمعنى ، ولم يكن هناك
مانع ـ كقرينة المجاز ـ تحققت الملازمة الذهنية ، وخرجت من حد الاقتضاء إلى
الفعلية.
وإن كان هناك
اقتضاءات متعددة متساوية الأقدام ، أو كانت هناك قرينة المجاز ، فلا يتحقق المقتضي
، وهو معنى الإجمال إلى أن تقوم قرينة معينة ، وهي في الحقيقة من قبيل رفع المانع
عن تأثير المقتضي في المقتضى.
ومما
ذكرنا تعرف : أن الوضع
الثاني غير ناقض ولا مناقض للوضع الأول ، فإنه إنما يكون كذلك إذا كان جعل الوضع
اللفظ علة تامة ، وإلا فاللفظ باق على اقتضائه ، حتى مع القرينة المعينة لمعنى
آخر. هذا بالاضافة إلى الانتقال التصديقي.
وأما بالإضافة إلى
الانتقال التصوري ، أو الانتقال التصديقي بالإضافة إلى لفظين مقرونين بالقرينة
المعينة لمعنيين ، فنمنع استحالة انتقالين في آن واحد دفعة واحدة ؛ لمكان بساطة
النفس وتجرّدها ، فلا مانع من حصول صورتين في النفس في آن واحد ، والشاهد عليه
لزوم حضور المحمول والمحمول عليه عند النفس الحاكمة بثبوت أحدهما للآخر في آن
الحكم والاذعان ، كما هو واضح.
٩٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بأن يراد منه كل
واحد كما إذا ... الخ ) .
وعليه ينبغي تنزيل
ما قيل : من كون كل واحد مناطا للاثبات والنفي ومتعلقا للحكم ، وإلاّ فلا وجه له
لعدم الملازمة بين الاستقلال في الإرادة الاستعمالية ، والاستقلال في الحكم والنفي
والاثبات ، وإن أصرّ عليها بعض
__________________
الأعلام ممّن قارب عصرنا (رحمه الله).
توضيحه : أن مفاد لفظ العشرة ـ مثلا وإن كان وحدانيا ملحوظا بلحاظ
واحد ، ومرادا استعماليا بإرادة واحدة ـ لكنه مع ذلك : ربما يكون الحكم المرتّب
عليه ـ بلحاظ كل واحد ـ على نهج العموم الأفرادي ، كما إذا قيل : ( هؤلاء العشرة
علماء ، أو واجبو الاكرام ) ، وربما يكون الحكم المرتب عليه ـ بلحاظ المجموع ـ على
حد العموم المجموعي ، كما إذا قيل : ( هؤلاء العشرة يحملون هذا الحجر العظيم ، أو
واجبو الاكرام ) ، بنحو لو لم يكرم أحدهم لم يتحقق الامتثال من رأس ، وكذلك العام
الاستغراقي ـ كالعلماء ـ فإن الحكم المرتب عليه معقول على الوجهين.
وكما أن الجمع في
اللحاظ لا يقتضي وحدة الحكم ، كذلك التفريق في اللحاظ لا يستدعي تعدد الحكم
بالنسبة إلى كل ملحوظ ، كما إذا رتب حكما واحدا على زيد وعمرو معا ـ كما عرفت في
العام الاستغراقي ـ واستعمال اللفظ في المعنيين لا يزيد على استعماله فيهما مرتين.
ومما
ذكرنا يظهر : أن استعمال
اللفظ في معنيين بإرادتين ولحاظين مستقلّين وإن كان مغايرا لاستعماله في مجموع
المعنيين من حيث الإمكان والجواز ، لكنه يترتّب على الأخير ما يترتّب على الأول من
الفائدة والثمرة ، فاذا أردت الحكم على السواد والبياض بأنهما من عوارض الاجسام صح
لك ان تقول : الجون من عوارض الاجسام مريدا به السواد والبياض على وجه الجمع في
اللحاظ. وقد عرفت : أن الجمع في اللحاظ لا يستدعي الجمع في الحكم ؛ كي يكون خلاف
الفرض.
فإن
قلت : وعليه فلا ثمرة
عملية للنزاع.
__________________
قلت : أما على القول بصحة استعماله فيهما حقيقة فواضح ؛ لأنّ
الاستعمال في مجموع المعنيين بنحو الجمع في اللحاظ مجاز ، لا يصار إليه بلا قرينة.
وأما على القول بصحته مجازا ، فهما وإن تساويا في المجازية ، إلا أن ظاهر الحكم
المرتّب على مفهوم وحداني ـ وإن كان بنحو الجمع في اللحاظ ـ كون المعنى موضوعا
تامّا للحكم ، كما إذا حكم على الدار بشيء فإنّ أجزاء معناها ليس كل واحد منها
موضوعا له ، بخلاف ظاهر الحكم المرتب على مفهومين ـ سواء كان بلفظين او بلفظ واحد
ـ فان مقتضاه كون كل منهما موضوعا للحكم ، فإثبات الإمكان مقدمة لأحد الأمرين
بضميمة ما بيناه من الظهور ، فتدبر جيدا.
٩١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة على
إرادة المعنى ... الخ ) .
وإلا كان
الاستعمال في معنيين بمكان من الامكان ؛ إذ غاية ما يتخيّل في امتناعه على هذا
الوجه ما عن بعض المدقّقين من المعاصرين : من أن ذكر اللفظ
لتفهيم المعنى ، أو لكونه علامة عليه ـ بمعنى كونه مقتضيا للعلم به والانتقال إليه
؛ لمكان الملازمة الحاصلة بالوضع ـ نفس تفهيم المعنى ، ونفس المقتضي للعلم به
وكونه إعلاما تحصلا وتحقّقا ـ كما في سائر الامور التوليدية والتسبيبية ـ والوجود
الواحد يمتنع أن يكون إيجادين ، فيمتنع تحقق تفهيمين وإعلامين بوجود لفظ واحد
لوحدة الوجود والايجاد ذاتا ، وإن اختلفا اعتبارا.
ويندفع
أوّلا : بأنّ وحدة
الوجود والإيجاد تقتضي وحدة ما يضاف إلى شيء واحد ، وأي مساس لوجود اللفظ بايجاد المعنى
في ذهن المخاطب ، ولو اتحدا لما
__________________
كان اتحادهما
مستندا الى اقتضاء وحدة الوجود لوحدة الايجاد فايجاد اللفظ عين وجوده لا ايجاد شيء
آخر.
وثانيا : بأن حضور المعنى في الذهن مباين ـ تحقّقا وتحصّلا ـ لحضور
اللفظ فيه ، ومقتضى وحدة الوجود والإيجاد ذاتا كون إحضار المعنى مباينا ـ تحقّقا
وتحصلا ـ لإحضار اللفظ ، وليس معنى التفهيم والإعلام إلاّ إحضار المعنى في الذهن
بإحضار اللفظ فيه بذكر اللفظ الذي يدخل من طريق السمع فيه ، وحيث إن المعاني صارت
ملازمة بالوضع للألفاظ ، فأيّ مانع من إحضارها في الذهن برمّتها بسبب إحضار اللفظ
فيه بذكره خارجا ، فهناك بعدد المعاني حضورات وإحضارات وإرادات ، وحيث إنها غير
متحدة مع وجود اللفظ خارجا ، وحضوره وإحضاره ذهنا بل ملازمة له ، فلا يلزم اثنينية
الواحد وتعدّده.
وأما
الجواب عنه : بأن الإحراق
مترتّب على الإلقاء بمقدار تخلّل الفاء ؛ نظرا إلى أنّ وجود الحرقة مترتب على الملاقاة بمقدار تخلل الفاء.
فمندفع : بأن ترتب وجود الحرقة على الملاقاة من باب ترتب المشروط على شرطه ، وعلى وجود النار من باب ترتب
المسبّب على سببه ، بخلاف إحراق النار ، فإنه معنى تأثيرها أثرها ، والتأثير ليس
أثرا لمؤثّره ؛ كي يترتّب عليه ، بل التأثير والتأثّر متضايفان.
فالإحراق بالعرض
المنسوب إلى الشخص بالأولوية ، وتأثير النار أثرها ، أو وجود الأثر وإن كان مشروطا
، لكنه بالملاقاة لا بحيثية صدورها من الشخص التي هي معنى الالقاء ، فلا ترتب
للإحراق ولا لوجود الحرقة على الالقاء ، لا من باب ترتب المسبب على سببه ، ولا من
باب ترتب المشروط على شرطه ، مع أن مجرّد الترتّب الناشئ من التقدم والتأخر بالطبع
، لا يقتضي التقدم في الوجود ،
__________________
ولا عدم الاتحاد
في الوجود ، كما في تقدّم الواحد على الاثنين ، أو تقدم الجنس والفصل على النوع.
كما أنّ توهّم :
استحالة جعل اللفظ علامة ، كجعله فانيا ومرآة ؛ نظرا إلى امتناع لحاظين لمعنيين في
آن واحد ، كامتناع لحاظين في لفظ واحد.
مدفوع : بما تقدّم
من إمكان لحاظين في آن واحد ، بل الموجب للاستحالة ما سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ فتدبّره ، فإنه دقيق ، وبه حقيق.
٩٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل جعله وجها
وعنوانا له بل بوجه نفسه كأنه الملقى .. الخ ) .
والشاهد
عليه : عدم صحة الحكم
على اللفظ ـ بما هو ـ في حال الاستعمال ، فيعلم منه أن النظر بالذات إلى المعنى ،
وأن اللفظ آلة لحاظه ، ولا يعقل أن يكون آلة اللحاظ ـ في حال كونها كذلك ـ ملحوظة
بلحاظ آخر لا آليّا ولا استقلاليّا ؛ لامتناع تقوّم الواحد بلحاظين حيث إنه من
قبيل اجتماع المثلين ، أو لامتناع الجمع بين اللحاظين في لحاظ واحد للزوم تعدد
الواحد ووحدة الاثنين.
والتحقيق : أن الأمر في الاستحالة أوضح من ذلك. بيانه : أنّ حقيقة
الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ ؛ حيث إنّ وجود اللفظ في الخارج وجود
لطبيعي اللفظ بالذات ، ووجود لطبيعي المعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل لا بالذات ؛
إذ لا يعقل أن يكون وجود واحد وجودا لماهيتين بالذات ، كما هو واضح ، وحيث إن
الموجود الخارجي بالذات واحد ، فلا مجال لأن يقال : بأن وجود اللفظ وجود لهذا
المعنى خارجا ووجود آخر لمعنى آخر ؛ حيث لا وجود آخر كي ينسب إلى الآخر بالتنزيل ،
وليس الاستعمال إلاّ إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي
__________________
خارجا. وقد عرفت :
أن الإيجاد والوجود متحدان بالذات ، وحيث إن الوجود واحد فكذا الايجاد.
وبالجملة
الاستقلال في الايجاد التنزيلي ـ كما هو معنى الاستعمال الذي هو محل الكلام ـ يقتضي
الاستقلال في الوجود التنزيلي ، وليس الوجود التنزيلي إلا وجود اللفظ حقيقة ،
فالتفرد بالوجود التنزيلي والاختصاص به يقتضي التفرد بالوجود الحقيقي ، وإلا لكان
وجودا تنزيليا لهما معا ، لا لكل منفردا ، فتدبّره جيدا.
ومنه
تعرف : أن الاستعمال
لو فرض ـ محالا ـ تحقّقه بلا لحاظ لكان محالا ، وإنه لا يدور الامتناع والجواز
مدار امتناع تقوّم الواحد بلحاظين وعدمه.
وأما الامتناع
بواسطة الجمع بين لحاظين في لحاظ واحد ، فهو وإن كان حقا ، إلا أن اللفظ والمعنى
من أعظم أركان الاستعمال ، فالعدول عن التعليل بلزوم تعدّد الواحد في اللفظ إلى
مثله في اللحاظ ، بلا وجه بل يجب الاستناد في الاستحالة إلى ما ذكرنا ، لا إلى امتناع
تقوّم الواحد بلحاظين ؛ ضرورة أن اللفظ بوجوده الخارجي لا يقوّم اللحاظ ، بل
المقوّم له صورة شخصه في افق النفس ، فأي مانع من تصوّر شخص اللفظ الصادر بتصورين
في آن واحد مقدمة لاستعمال اللفظ الصادر في معنيين لو لم يكن جهة اخرى في البين.
وربما يورد على ما افيد في المتن : بالنقض بالعامّ الاستغراقي الملحوظ بنحو الكلّ
الأفرادي ؛ نظرا إلى أنّ أفراد العامّ ملحوظة كلّ على انفراده بلحاظ واحد. فكما أن
لحاظ كلّ من أفراده على انفراده يصحّح تعلّق الحكم بكل واحد من أفراده على انفراده
، كذلك لحاظ كلّ من المعاني على انفراده يصحّح استعمال اللفظ الواحد فيه على
انفراده.
__________________
ولا يندفع هذا
النقض : بأن لحاظ المتكثرات بالذات بلحاظ واحد والاستعمال فيها ، خارج عن محلّ
النزاع ، فإن المدّعى الاستعمال في كلّ من المعاني على انفراده مع وحدة اللفظ
واللحاظ ، لا في الكلّ بنحو الوحدة.
__________________
بل يندفع النقض :
بالفرق بين الاستعمال وتعلّق الحكم ، فإن المستعمل فان في المستعمل فيه ، وعين
وجوده تنزيلا ، بخلاف الحكم ، فإنه لا يكون فانيا في موضوعه ، ولا وجودا تنزيليا
له ، بل يتوقف تعلقه بموضوعه على لحاظ موضوعه بأيّ وجه كان فلا يلزم فناء الواحد
في الاثنين ، ولا تقوّم الواحد بلحاظين.
لا
يقال : لا بدّ في
الحكم على عنوان العام من ملاحظته فانيا في معنونه ، فاذا تعدّد المعنون ـ كما في
الملحوظ على نهج الكلّ الأفرادي ـ لزم فناؤه في المتعدد ، ولا فرق في الإمكان
والامتناع بين فناء مفهوم واحد في مطابقات متعددة ، وفناء لفظ واحد في مفاهيم
متعدّدة بما هي كذلك.
لأنا
نقول : أما مثل مفهوم
العشرة ـ وسائر المفاهيم التركيبية ـ فمطابقها واحد مشتمل على كثرة بالذات ، وكذا
مفهوم ( كل عالم ) فإن مطابقة الآحاد بالأسر ، لا كل واحد ؛ بداهة أنّ مفهوم ( كل
عالم ) لا يصدق على كل عالم.
وأما مفهوم (
العالم ) الصادق على المتكثّر بسبب أداة العموم ، فليس شأن أداة العموم التوسعة في
صدق مدخوله وجعله فانيا في المتكثر بعد ما لم يكن في حدّ ذاته كذلك ، بل مطابق
مفهوم ( العالم ) ـ بما هو مطابق له ـ واحد ، وإنما شأن أداة العموم التوسعة في
ذات المطابق ، فيفيد المطابق ـ بما هو مطابق ـ للمفهوم فانيا فيه. ويفيد تعدده
وتكثره الحاصل له بسبب المميزات والخصوصيات بأداة العموم ، لا أنها تجعل المدخول
فانيا في مطابقه ، وفيما هو خارج عن المطابق بما هو مطابق له.
ومما ذكرنا يندفع
نقض آخر بصورة عموم الوضع وخصوص الموضوع له ؛ نظرا إلى أنه ـ كما أنّ ملاحظة عنوان
واحد تصحح الوضع لخصوصيات مندرجة تحته ـ كذلك يصح ملاحظة عنوان عام والاستعمال في
كل واحد من الخصوصيات المندرجة تحته.
وجه الاندفاع : ما
تقدم من أن اللفظ يجب أن يكون فى مرحلة الاستعمال فانيا في
المعنى ، ولا يجب أن يكون كذلك حال الوضع ، ولا الوضع بنفسه يحتاج إلا إلى لحاظ
الموضوع له بأي وجه كان ، كما عرفت في الحكم بالإضافة إلى موضوعه.
٩٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإن اعتبار
الوحدة في الموضوع له ... الخ ) .
مجمل
القول فيه : أن المعنى له وحدة
ذاتية لا ينسلخ عنها أبدا ولو اجتمع مع غيره ، وله وحدة عرضية ، وهي كونه واحدا في
اللحاظ ، وما يعقل أن يكون قيدا هو الثاني.
وحينئذ فيشكل :
بأن الوحدة. اللحاظية مقوّمة للاستعمال ، فيستحيل أخذها في الموضوع له.
ويندفع بما عرفت
في نظائره : من أنّ اعتبار أمثال هذه الامور ـ بنحو الإشارة إلى ذات الموضوع له ـ معقول
، فيضع اللفظ بإزاء المعنى الذي يصير باللحاظ الاستعمالي موصوفا بصفة الوحدة في
قبال ما لا يصير كذلك.
نعم المتبادر من
مسمّيات الألفاظ نفس معانيها ، حتى أن أوصافها الذاتية غير ملحوظة بلحاظها ولا
متبادرة بتبادرها.
وأما قيدية الوحدة
للوضع ، فقد عرفت سابقا أنها جزاف ، وأن الاختصاص الوضعي لا يتخصّص ولا يتكثّر
حقيقة بقيود المستعمل فيه وخصوصياته ، وهو ظاهر لمن أمعن النظر.
__________________
٩٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وكون الوضع في
حال وحدة المعنى ... الخ ) .
تفصيله
: أن حال الوحدة :
تارة تضاف إلى المعنى ، ومن الواضح أن مجرّد وقوع اللفظ بإزاء المعنى في حال
تفرّده باللحاظ عند الوضع لا يقتضي تقيّد الموضوع له بها.
واخرى تضاف إلى نفس الوضع ، ويراد منها استقلال كل وضع ، وعدم كونه ناظرا إلى وضع آخر
ولا متمما له ، فالاستعمال الموافق للوضع يجب أن يكون كذلك بأن يقع كل استعمال
منفردا عن استعمال آخر ، وهو ظاهر بعض أجلّة العصر .
وفيه : أن مطابقة الاستعمال للوضع إنما تجب في الموضوع والموضوع
له بحدودهما وقيودهما ، ولا تجب في غير ذلك ، وملاك صحة الاستعمال الحقيقي جريه
على قانون الوضع ، وهو مطابقته له على الوجه المزبور.
وأما خصوصيات
الوضع ـ أعني عمل الواضع ـ فغير لازمة المراعاة ؛ لوضوح أن متابعة كل جعل من كل
جاعل إنما هي بملاحظة مجعوله ، لا بملاحظة نفس جعله ؛ إذ ليس للجعل جعل آخر.
وأما عدم كون أحد
الوضعين ناظرا إلى الآخر ولا متمّما له فمسلم ، إلا أن مرحلة الاستعمال ـ أيضا ـ كذلك
؛ حيث إن استعمال لفظ في معنى ليس متمّما للاستعمال الآخر ، فكما أن الوضعين لا
يرجعان إلى وضع واحد ، كذلك الاستعمالان ، فالجمع بين الاستعمالين ، لا بين
المعنيين كي يؤول إلى استعمال واحد ؛ لينافي تعدد الوضع. فافهم واستقم.
__________________
٩٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لأن الأكثر ليس
جزء المقيد بالوحدة ... الخ ) .
يمكن
أن يقال : ليس الغرض من
الاستعمال في الأكثر الاستعمال فيه على وجه الجمع في اللحاظ ، كيف؟ وهو خارج عن
محل الكلام ، بل الغرض استعماله في كل منهما كما [ لو ] لم يكن غيره ، فاللفظ وإن كان واحدا إلا أن المستعمل فيه متعدد ، لا أن
المستعمل فيه بذاته متعدد ، وبما هو مستعمل فيه واحد ليخرج عن محل البحث.
وسر الغاء الوحدة
ـ مع أن كلاّ من المعنيين ملحوظ بالاستقلال ، فهو متفرد باللحاظ ـ هو : أن الموضوع
له عند هذا القائل هو المعنى الملحوظ على وجه لا يكون معه ملحوظ آخر ، لا على وجه
لا يكون معه ملحوظ بلحاظه. وحينئذ فكلّ من المعنيين لملحوظين المجتمعين فاقد لهذه
الوحدة. ومن الواضح أن المستعمل فيه ـ حينئذ ـ جزء الموضوع له فتكون النسبة بين
المستعمل فيه والموضوع له نسبة ذات المطلق إلى المقيد. ومن المعلوم أن المطلق
بذاته هو اللابشرط المقسمي ؛ إذ ليس الأكثر ـ بما هو ـ مستعملا فيه باستعمال واحد
ليكون بينهما المباينة ، بل البائنة ـ بالنحو المذكور
في المتن ـ إنما تكون ـ أيضا ـ فيما إذا لوحظ لحاظ المعنى الآخر معه في المستعمل
فيه.
وإلا فمجرّد
الاستعمال في مجموع المعنيين ـ بنحو الجمع في اللحاظ ـ لا
__________________
يوجب المباينة
المزبورة ، بل المعنيان فاقدان لجزء من الموضوع له ، وكل واحد ـ بالاضافة إلى
اجتماع الآخر معه بذاته ـ لا بشرط ، بل هو استعمال في جزءين من معنيين ، لا في جزء
واحد من معنى واحد ، كما في صورة الجمع بين الاستعمالين. فافهم جيّدا.
٩٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لأن هيئتها إنما
تدل على إرادة المتعدد ... الخ ) .
لا يخفى عليك أنه
لا يتصور إلا إذا كان المراد من المادة ما يعبر عنه بلفظ كذا ـ حقيقة أو تأويلا ـ وإلا فلا يعقل تعدد
مرحلة الهيئة والمادة.
نعم
إذا قلنا : إنّ هذه المادة
المتهيئة بهيئة التثنية لها وضع واحد ، صحّ إرادة الباكية والجارية من العينين ، إلا أنه خارج عن محلّ البحث ، لاستعماله في المعنيين معا ، لا في كل منهما
بإرادتين ، وإلا لم يكن تثنية.
وأما
تصحيح تثنية الأعلام بدون
التأويل بالمسمّى ونحوه بدعوى : كفاية وحدة مادة اللفظ ـ الذي هو مرآة لمعناه ـ لسراية
أحكام المعنى إلى اللفظ وبالعكس ، فالتعدد المستفاد من الهيئة إذا اضيفت إلى مثل
هذه المادة يوجب صحّة إرادة المعنيين ؛ لأنهما كفردين من هذه المادة الملحوظة مرآة
لمعناها.
ففيه : أن الهيئة واردة على مادة اللفظ ، ويستحيل ورودها على
معناها ؛ لأنهما مقولتان متباينتان وكذلك يستحيل تعلق مفاد الهيئة الواردة على
المادة بنفس المادة ، لا بمعناها ، بل المعقول تعلق مفاد الهيئة بمفاد المادة ،
كعروض نفس الهيئة على نفس المادة ، فلحاظ المادة اللفظية مرآة لمعناها : إن أوجب
تعلق التعدد بمعناها ، فمعناها في الأعلام غير قابل له ؛ لعدم الوحدة الطبيعية
ليراد
__________________
منها فردان منها ،
وإن لم يوجب فالمادة غير قابلة بنفسها لتعلّق مفاد الهيئة بها بنفسها.
نعم يمكن تصحيح
التثنية والجمع في الأعلام بوجه آخر : وهو استعمال المادة في طبيعي لفظها ، لكن
بما له من المعنى بحيث لا يكون المعنى مرادا من المادة ليلزم المحذور ، بل بنحو
الاشارة إليه بما هو معنى لطبيعي اللفظ ، لا بما هو معنى اللفظ المستعمل ، فيكون
كقولك : ( ضرب : فعل مشتمل على النسبة ) ، فإنّ المعنى النسبي غير مراد من نفس لفظ
( ضرب ) ، بل المراد منه طبيعي لفظه ، ولكن لا بما هو ؛ اذ لا نسبة فيه ، بل بما
هو ذو معنى نسبي ، فيكون المراد من قولنا : ( زيدان ) فردين من لفظ ( زيد ) بما له
من المعنى ، والمفروض أنّ له معنيين. فتأمل.
* * *
تذييل
وتكميل
قد ظهر مما ذكرنا حال استعمال اللفظ في
معنييه ـ الحقيقي والمجازي ـ إمكانا وامتناعا ، منعا وجوازا.
وعن بعض المدقّقين
من المعاصرين : دعوى الاستحالة هنا ، وإن قلنا بالامكان هناك ؛ نظرا إلى
أن الحقيقية والمجازية وصفان متقابلان ، والاستعمال الواحد ـ واللفظ الواحد ـ لا
يتصف بوصفين متقابلين لاستحالة الجمع بين المتقابلين.
ويندفع : باختلاف الجهة
والحيثية ، فإنّ اللفظ ـ من حيث إنه يفيد المعنى الموضوع له ـ مطابق للوضع ، فمن
هذه الجهة يتصف بوصف اعتباري ، وهو كونه حقيقة ، ومن حيث إنه يفيد المعنى ـ الذي
لم يوضع له ـ غير مطابق للوضع ، فيتّصف من هذه الحيثية بالمجازية ، فهناك حيثيتان
حقيقيتان موافقتان لنفس الأمر ، وبهما يصحّ اتصاف اللفظ والاستعمال بالحقيقيّة
والمجازية.
ولا يجري هذا
الوجه في الأعراض المتأصّلة كالسواد والبياض حتى ينتقض بهما ؛ لما عرفت أنهما
وصفان انتزاعيان من اللفظ واقعا بملاحظة الحيثيتين المزبورتين الموجودتين في اللفظ
، مع أنه لو تمّ الإشكال لما اختصّ بالاستعمال في الحقيقي والمجازي ، بل يعمّ
الحقيقيين والمجازيين لامتناع اجتماع المتماثلين ، كامتناع اجتماع المتقابلين.
فافهم واغتنم.
٩٧
ـ قوله [ قدّس سره ] : (
أو كان المراد من البطون لوازم معناه ... الخ ) .
__________________
فتراد تلك اللوازم
على وجه الكناية أو على وجه آخر.
وربما يمكن إصلاح
تعدّد البطون بتعدّد المحقّقات والمصاديق لمعنى واحد ، مثلا : الطريق والميزان
لهما معنى معروف ، وهما ما يسلك فيه ويوزن به ومحقّقاتهما كثيرة : منها الطريق
الخارجي ، وما له كفتان ، ومنها الامام ـ عليه السلام ـ ؛ حيث إنه السبيل الأعظم
والصراط الأقوم الذي لا يضل سالكه ، وبه ـ عليه السلام ـ يعرف صحة الأعمال وسقمها
وخفتها وثقلها ، إلى غير ذلك من المصاديق المناسبة ، وإرادة المصاديق المتعددة ـ في
كل مورد بحسبه ـ لا تنافي الاستعمال في معنى واحد يجمع شتاتها ، ويحوي متفرّقاتها.
ونظير إشكال تعدّد
البطون ، ما ورد من طلب الهداية عند قراءة قوله عزّ من قائل : ( اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، ونحوه في غيره ، فإنّ محذور ـ الاستحالة تعدّد المحكيّ
عنه مع وحدة الحاكي ، وهو جار هنا ؛ لأن القراءة هي الحكاية عن اللفظ باللفظ
المماثل ، والإنشاء قصد ثبوت المعنى باللفظ ، ولا يمكن استعمال اللفظ في اللفظ وفي
المعنى.
وربما يجاب عنه :
بأنّ المعنى يقصد من اللفظ الذي هو المعنى ، كما في أسماء الأفعال عند من يجعلها
موضوعة لألفاظ الأفعال فلم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل استعمل كل لفظ
في معنى.
وفيه : أن قصد المعنى من اللفظ المحكي عنه باللفظ أوضح استحالة
من قصده من اللفظ الحاكي ؛ ضرورة أن الاستعمال كذلك غير معقول ـ سواء كان
الاستعمال بمعنى الإعلام والتفهيم ، أو بمعنى إيجاد المعنى باللفظ ، أو بمعنى
إفناء اللفظ في المعنى وجعله وجها وعنوانا له ـ فإنّ هذه الأوصاف لا يوصف بها ما
لا وجود لها خارجا ، بل جعلا وتنزيلا ، مع أنّ الفرض إنشاء المعنى باللفظ فاللفظ
مما ينشأ به ويتوسل به إلى ثبوت المعنى ، وهذا مع عدم تحقق ما ينشأ به ويتوسل به
غير معقول ؛ إذ ليس الانشاء مجرد قصد المعنى كما لا يخفى.
فالأولى أن يجاب
عن الاشكال : بحمل ما ورد من الأخبار في هذا المضمار على طلب الهداية مقارنا
لقراءة ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، لا طلب الهداية
بها.
ويمكن
أن يجاب أيضا : بأن القراءة
ليست الحكاية عن الألفاظ بالألفاظ ، واستعمالها فيها ، بل ذكر ما يماثل كلام الغير
من حيث إنه يماثله في قبال ذكره من تلقاء نفسه. وهذا المعنى غير مشروط بعدم إنشاء
المعنى به ؛ حتى يلزم الجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي فيما يماثل كلام الغير
من حيث إنه يماثله بقصد المعنى ، فإنّ من مدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء ، فقد قرأ
قصيدته ، ومدح محبوبه بها.
نعم ، لو لم يلتفت إلى ذلك ومدحه بما أنشأ من تلقاء نفسه ، لم
يصدق القراءة وإن كان مماثلا لما أنشأه الغير. فتدبر جيّدا.
الكلام في
مسألة المشتق
٩٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( اختلفوا في أن
المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال ... الخ ) .
ينبغي التنبيه على
أمر : وهو أن النزاع هنا في الوضع والاستعمال. أو في صحة الاطلاق وعدمها مع التسالم
على المفهوم والمعنى؟
الظاهر هو الأول ،
كما تفصح عنه كلمات القوم من قديم الزمان إلى اليوم. فإن الحقيقة والمجاز المذكورين في عنوان النزاع من شئون
الاستعمال ، ولا ربط لهما بالصدق والإطلاق ، ويشهد له استدلال العلامة ( قده ) في
التهذيب وغيره في غيره ، للقول بالأعم : بأن معنى الضارب من حصل
منه الضرب ، فيعم من انقضى عنه المبدأ ، إلى غير ذلك من الشواهد.
وأما ما تكرر في
كلماتهم في عنوان البحث ـ من اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق واطلاقه ـ فلا
ينافي ذلك ، فإن الصدق بلا عناية وعدمه ـ حيث كانا دالين على الخصوصية وعدمها ـ فلذا
عنونوا النزاع بذلك.
مضافا
إلى : أنه لو لا
الاختلاف في المفهوم والمعنى ، فما وجه هذا الخلاف العظيم في هذه السنين المتمادية؟
وصريح بعض
المدقّقين من المعاصرين هو الثاني بدعوى : أن وجه الخلاف ـ مع عدم الاختلاف في
المفهوم والمعنى ـ هو الاختلاف في الحمل ، فإنّ القائل بعدم صحة الإطلاق على ما
انقضى عنه المبدأ ، يرى وحدة سنخ الحمل في المشتقات والجوامد ، فكما لا يصح إطلاق
الماء على الهواء ـ بعد ما كان ماء ،
__________________
وزالت عنه صورة
المائية ، فانقلب هواء ـ كذلك لا يصحّ إطلاق المشتق على ما زال عنه المبدأ بعد
تلبّسه به ، فإن المعنى الانتزاعي تابع لمنشا انتزاعه حدوثا وبقاء ، والمنشأ مفقود
بعد الانقضاء ، والانتزاع بدونه على حد المعلول بلا علة ، والقائل بصحة الاطلاق
يدّعي تفاوت الحملين فإنّ الحمل في الجوامد حمل هو هو ، فلا يصح أن يقال للهواء
إنه ماء ، والحمل في المشتقات حمل ذي هو وحمل انتساب ، ويكفي في النسبة مجرّد
الخروج من العدم إلى الوجود ، فيصحّ الحمل على المتلبّس وعلى ما انقضى عنه ، دون
ما لم يتلبّس.
قلت : فيه من الخلط ما لا يخفى على من له خبرة بالاصطلاح
المرسوم في تقسيم الحمل إلى : ( هو هو ) ، و ( ذي هو ).
توضيحه : أن ما كان قابلا لأن يحمل على شيء من دون واسطة لفظة (
ذي ) ولا اشتقاق لغوي ، فهو المحمول مواطاة ، كما في ( الانسان جسم ) ، و ( هذا
حجر ).
وما لم يكن قابلا
للحمل إلا بأحد الأمرين المزبورين ، كالأعراض من السواد والبياض ـ مثلا ـ فهو
المحمول اشتقاقا ؛ إذ السواد ـ مثلا ـ لا يحمل على موضوعه بنفسه ، بل بواسطة لفظة (
ذي ) ، فيقال : ( الجسم ذو سواد ) ، أو بواسطة اشتقاق وصف منه ، فيقال : ( الجسم
أسود ). فالمحمول بالاشتقاق نفس العرض ، والوصف المشتق منه محمول مواطاة ، لعدم
الحاجة في حمله إلى شيء ، واشتقاقية الحمل بالإضافة إلى المبدأ ، دون الوصف ، فإنّ
حمله حمل بالمواطاة قطعا.
قال العلامة
الطوسي ـ قدّس سرّه القدوسي ـ في شرح منطق الإشارات بعد ما
بيّن حقيقة الحمل مواطاة ما لفظه (رحمه الله) : ( وهنا نوع آخر
__________________
من الحمل يسمّى
حمل الاشتقاق ، وهو حمل ( ذو هو ) ، وهو كالبياض على الجسم ، والمحمول بذلك الحمل
لا يحمل على الموضوع وحده بالمواطاة ، بل يحمل مع لفظة ( ذو ) ، كما يقال : ( الجسم
ذو بياض ) ، أو يشتقّ منه اسم كالابيض ، ويحمل بالمواطاة عليه ، كما يقال : (
الجسم أبيض ) ، والمحمول بالحقيقة هو الأوّل ). انتهى. وغرضه من ( الأوّل ) هو المحمول بالمواطاة.
فاتضح : أن حمل الأوصاف حمل هو هو وبالمواطأة ، لا حمل ذي هو ،
وبالاشتقاق كما تخيله المعاصر المتقدم ، واسناد اختلاف الحمل على الوجه المزبور
إلى العلماء من المتأخرين والقدماء ، وجعله منشأ لهذا الخلاف العظيم سخيف جدا ،
كما لا يخفى.
٩٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بملاحظة اتصافها
بعرض أو عرضي ... الخ ) .
مقتضى إطلاقه وقصر الخارج عن محلّ النزاع على الجامد المحض ، دخول كل ما لا يأتلف
منه الذات ، وإن كان ذاتيا بمعنى آخر ، وهو كفاية نفس الذات في انتزاعه عنها ، مع
عدم كونه من ذاتياتها وأجزائها الخارجية والعقلية : حتى يعم النزاع مثل الإمكان ، ومقابليه ، والوجود ، والعدم
، بل وجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا الجارية عليه تعالى ؛ حيث إن ذاته تعالى
ـ بذاته ولذاته ـ
__________________
مطابقة لصفاته بلا
حيثية تعليلية ولا تقييدية ، مع أنّ الذاتي ـ بهذا المعنى أيضا ـ خارج عن محلّ
النزاع لدوران التلبّس مدار بقاء الذات.
نعم هذه النعوت
الجلالية والجمالية ـ كبعض الأوصاف الأخر ، كالإمكان ونحوه ـ وإن لم يكن لها زوال
عن موردها ، فيلغو النزاع بالإضافة إليها ، إلا أن المفهوم ـ بما هو ـ غير مختصّ
بما لا زوال له كي يلغو النزاع ، فيصحّ النزاع باعتبار ما هو غير ذاتي له.
وأما ما لا مطابق
له إلا ما هو ذاتي له ـ كالموجود والمعدوم ، فان مطابقهما بالذات نفس حقيقة الوجود
والعدم ، دون الماهية ، فإنها موجودة أو معدومة بالعرض ـ فلا مجال للنزاع فيه حتى
بالإضافة إلى الماهية ، فإنّ الماهية إنما توصف بالموجودية بالعرض. فما لم يكن
الموجود بالذات ، لا موجود بالعرض ، ومع ثبوته لا انقضاء هناك. فتدبّر جيّدا.
١٠٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما أن الجملة
الاسمية كـ « زيد ضارب » ... الخ ) .
توضيحه : أن عموم النزاع وشموله لشيء لا يدور مدار صدق العنوان ، بل
لنا تسرية النزاع لعموم ملاكه ، أو لترتب ثمرته على شيء ، وكلاهما موجودان في هذا القسم من الجوامد :
أما ترتب الثمرة
فواضح ، كما يشهد له ما عن الإيضاح
__________________
والمسالك ، وإن كان تسليم حرمة المرضعة الاولى والخلاف في الثانية مشكلا ؛ لاتحادهما
في الملاك ، وذلك لأن امومة المرضعة الاولى وبنتية المرتضعة متضايفتان متكافئتان
في القوة والفعلية ، وبنتية المرتضعة وزوجيتها متضادتان شرعا ، ففي مرتبة حصول
امومة المرضعة ، تحصل بنتية المرتضعة ، وتلك المرتبة مرتبة زوال زوجية المرتضعة ،
فليست في مرتبة من المراتب امومة المرضعة مضافة إلى زوجية المرتضعة ؛ حتى تحرم
بسبب كونها ام الزوجة.
هذا ، وأما عموم
الملاك فإن بقاء الذات ـ كما كان موهما لصدق الوصف
__________________
عليها بعد زوال
تلبسها بمبدئه ـ كذلك يوهم صدق عنوان الزوج بعد زوال مبدئه وهي العلقة الخاصّة.
والفرق بينه وبين
سائر الجوامد : أن الذات فيها محفوظة بانحفاظ الذاتيات ، فاذا زالت صورة المائية
فقد زالت ذات الماء ؛ لأن شيئية الشيء بصورته النوعية وما يجري مجراها ، والمادة ـ
وما يجري مجراها ـ فعليتها عين القوة ، فليست هي شيئا من الأشياء حتى يكون بقاؤها
ـ بما هي ـ في نظر العرف موهما لصدق صورة المائية عليها بعد زوالها ، بخلاف مثل
الزوجية والرقية والحرية
__________________
ـ وغيرها من
الجوامد ـ لانحفاظ ذات متحصلة في الحالتين فيها.
١٠١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ربما يشكل بعدم
إمكان جريانه في اسم الزمان ... الخ ) .
لا يذهب عليك أن هويات أجزاء الزمان ، وان كانت واحدة بوحدة اتصالية دقة وعقلا ، إلا أن كل
هوية من تلك الهويات المتصلة مغايرة بنفس ذاتها لهوية اخرى. وما يصدق عليه حقيقة
وبلا عناية أنه تلبس بالمبدإ ، تلك الهوية الواقع فيها المبدأ ، وهذه الهوية هي
الذات اللازم بقاؤها في صدق الوصف عليها.
فما عن بعض
المدققين من المعاصرين جوابا عن الاشكال : من أنّ للزمان استمرارا وبقاء عرفا ،
والبقاء فرع الوحدة ، فاذا وقع في أول هذا الواحد حدث وانقضى صح لك أن تقول : إن
هذا الأمر الوحداني تلبّس بعنوان الظرفية لشيء وانقضى ، فبقي بلا تلبس ، وإلا لزم
الإشكال على الأوصاف الجارية على الزمان ، بل على مطلق الامور التدريجية الغير
القارة ، فإنّ ما صدق عليه في هذه الموارد ليس له بقاء ، فلا وجه لتخصيص الإشكال
باسم الزمان.
مدفوع
بما عرفت : من أن اتصال
الهويات المتغايرة لا يصحّح بقاء تلك الهوية ـ التي وقع فيها الحدث ـ حقيقة ، وإلا
لصحّ أن يقال : كلّ يوم مقتل
__________________
الحسين عليه
السلام للوحدة المزبورة ، مع أنه لا شبهة في عدم صحة اطلاق المقتل إلا على العاشر
من محرم وما يماثله.
نعم ، ربما يطلق
المقتل ويراد الساعة التي وقع فيها القتل ، وربما يطلق ويراد به اليوم الواقع فيه
، وربما يراد الشهر ، وربما يراد العام ، وهذا كله أجنبي عن الوحدة المزبورة ؛ إذ
على هذا الاطلاق لا انقضاء ما دامت الساعة ـ أو اليوم ، أو الشهر أو العام ـ باقية
، وبعد مضيّ أحدها لا بقاء لما اطلق المقتل بالإضافة إليه كي ينازع في الوضع له أو
للأعم.
فالبقاء : إن اضيف إلى أحد تلك الامور ـ المتصفة بنحو من الوحدة ـ فالتلبس
بحسبه باق ما دام باقيا ، وإلاّ فلا.
وإن اضيف إلى
الزمان ـ لا بلحاظ تلك الوحدات ، بل بلحاظ اتصالية الزمان ـ فمع فرض صحة هذا
الإطلاق ، فالدهر باق ، والتلبّس كذلك ، فالأمر دائما يدور بين البقاء والتلبس أو
عدمه وعدمه. فتدبره فإنه حقيق به.
وأما ما ذكره من
الأوصاف الجارية على الزمان والامور التدريجية ، فالجواب عن النقض بها : أن هذه
الأوصاف مشتركة بين الامور التدريجية وغيرها ، فلا وجه لإخراجها لأجل عدم بقاء ما
تصدق هي عليه ـ في بعض الموارد والأحيان ـ من دون فرق بين مثل السيال والمتصرم
ونحوهما وغيرها ، فإنّ السيلان والتصرم لا يختصّ بالتدريجيات كما لا يخفى ، بخلاف
اسم الزمان المأخوذ فيه الزمان. فافهم واستقم.
١٠٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويمكن حل
الاشكال بأن انحصار مفهوم عام ... الخ ) .
لا يخفى عليك انه لا
يتوقف على تعقل جامع مفهومي بين المتلبس بالظرفية للحدث وعدمه ؛ حتى لا يعقل ، بل
على الجامع المفهومي بين المتلبس
__________________
والمنقضي عنه.
فكما يقول القائل بالوضع للأعم : إن مفهوم اسم المكان ـ تحليلا ـ هو المكان الذي
وقع فيه الحدث ، فيعم المتلبس والمنقضي عنه ، فكذا هنا يقول : بأن مفهوم اسم
الزمان ـ تحليلا ـ هو الزمان الذي وقع فيه الحدث ، فهو بمفهومه يعمّهما ، لكنه
بحسب الخارج ـ حيث إن المكان قارّ الذات ـ فله مصداقان ، والزمان حيث إنه غير قارّ
الذات ، فله مصداق واحد.
ويؤيّده : أن المقتل والمغرب وغيرهما ـ من الألفاظ المشتركة بين
اسمي الزمان والمكان ـ لها مفهوم واحد ، وهو ما كان وعاء القتل أو الغروب ـ مثلا ـ
زمانا كان أو مكانا ، ولا إباء للمفهوم ـ من حيث هو مفهوم ـ للشمول والعموم
للمتلبس والمنقضي عنه ، وإن لم يكن له في خصوص الزمان إلا مصداق واحد.
قلت : الأمر في حلّ الإشكال على ما أفاده الاستاذ العلامة ـ أدام
الله أيامه ـ إلا أنّ تحرير النزاع في اسم الزمان لا يكاد يترتّب عليه ثمرة البحث
؛ إذ ثمرة البحث تظهر في ما انقضى عنه المبدأ ، وإلا فلا فارق في المتلبس بين
الطرفين ، وحيث لا مصداق لما انقضى عنه المبدأ في اسم الزمان ، فيلغو البحث عنه
جزما.
نعم
، لو قلنا : بأن المقتل
ونحوه موضوع لوعاء القتل مثلا ـ من دون ملاحظة خصوصية الزمان أو المكان ـ فعدم
صدقه على ما انقضى عنه في خصوص الزمان لا يوجب لغوية النزاع ، بخلاف ما إذا كان
موضوعا للزمان الأعمّ من المتلبّس وما انقضى عنه ، فإنّ البحث عن وضعه للأعمّ ـ مع
عدم المطابق إلاّ للأخصّ ـ لغو. فتدبّر.
١٠٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع أن الواجب
موضوع للمفهوم العامّ ... الخ ) .
فلا اختصاص
لانحصار المفهوم العام في فرد باسم الزمان ، بل يجري في
__________________
اسم الفاعل
كالواجب ، إلا أنه يمكن الخدشة فيه : بأنّ الواجب ـ بما هو ـ لا اختصاص له خارجا
به تعالى ، بل توصف به الأفعال الواجبة أيضا ، وكذلك واجب الوجود لا يختص به تعالى
؛ لأن كل موجود واجب الوجود حيث إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
نعم ، واجب الوجود
بذاته مختصّ به تعالى ، وهو أيضا مفهوم عام ، لكنه من المفاهيم المركّبة لا مما
وضع له لفظ مخصوص ؛ كي يكون نظيرا للمقام ، إلا أن لفظ الجلالة يكفي في صحة الوضع
للعام ، مع انحصاره في فرد بلا كلام.
__________________
١٠٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة في الدلالة ...
الخ ) .
هذا بناء على ما
هو المتعارف في حقيقة المصدر ؛ حيث يجعلونه أصلا للمشتقات.
والتحقيق : أن المصادر مطلقا لم توضع لنفس المعاني الخالية من جميع
أنحاء النسب ، بل المصدر من جملة المشتقات لاشتماله على نسبة ناقصة ومبدأ ، من دون
فرق بين المجرد والمزيد فيه ؛ بتخيل أن المزيد فيه مشتق من المجرد. ولذا خصّص
الإخراج عن عناوين النزاع هنا بالمزيد فيه دون المجرد.
والفرق بين المبدأ
والمصدر كالفرق بين ملاحظة ذات العرض وملاحظته بما هو عرض.
__________________
والنسبة المصدرية
في نقصها وعدم صحة السكوت عليها كالنسبة الحاصلة من إضافة الغلام إلى زيد ـ مثلا ـ
بل الفرق بين معاني المصادر المجردة والمزيد فيها المتحدة في المادة ، دليل على
اشتمال كل منهما على نسبة ناقصة مباينة للاخرى ، وإلا لزم أن لا يكون بينهما فرق
إلا بالهيئة اللفظية فقط ؛ إذ المفروض اتحادهما في المادة اللفظية المقتضية لوحدة
المعنى فتدبّر جيّدا.
وبالجملة : الاشتمال على النسبة معنى الاشتقاق المعنوي ، والمبدأ
الساري في جميع مراتب الاشتقاق هو المشتق منه ، وهو نفس المعنى
الخالي عن جميع أنحاء النسب في حد ذاته ، فهذا الإطلاق الذاتي للمبدا هو المصحّح
لأصالته وجعله مشتقّا منه ؛ فإن الاختصاص بالأصالة ـ والاشتقاق منه ـ معنى يقتضي
أن يكون المشتقّ بعض المشتق منه ، مع أنّ الأمر بالعكس في بادي النظر ، فان المبدأ
جزء سائر المشتقات ، لكن بعد ملاحظة لا بشرطيته وقبوله لكل صورة ـ بخلاف الموادّ
المتصوّرة بصورة خاصّة ، فإنّها لا تقبل ورود صورة اخرى عليها ـ تعرف أن المبدأ
أوسع دائرة من جميع المشتقات ، وأنها تنشعب منه ، وأن المصدر لاشتماله على نسبة
ناقصة أحد المشتقّات المنشعبة منه ، وأنه لا يعقل أن يكون المصدر مشتقّا منه وأصلا
لغيره ؛ إذ المادّة المتصوّرة لا تقبل صورة اخرى.
وحيث ان المصدر
مشتمل على نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليه ، ويكون مقدما في الرتبة على غيره ،
لتقدم الناقص على التام ، لزيادة التام عليه فالتحقيق في خروج المصادر مطلقا ـ مع
كونها من المشتقات ـ عدم الجري لها على الذات ، وعدم اتحادها معها ، كي يكون
بقاؤها موهما لصدقها. فافهم فاستقم.
__________________
١٠٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن الأفعال
إنما تدل على قيام المبادي ... الخ ) .
توضيحه : أنّ هيئات الأوصاف والأفعال ، وإن كانت مشتركة في
الدلالة على النسب ، وغيرها غير معقول ؛ لوضوح أن الهيئة ـ مطلقا ـ بعد وضع المادة
للمبدا لا يعقل أن تكون إلا لمعنى حرفي ـ وهي النسبة ـ غاية الأمر الاختلاف بين
أنحاء النسب ، فإنّ النسبة في الفعل لها جهة حركة من العدم إلى الوجود ، فيحضر في
الذهن من سماع ( ضرب زيد ) ـ مثلا ـ حركة الضرب حقيقة من العدم إلى الوجود بحقيقة
الحركة الصدورية ، فكأنّه يرى الحدث المخصوص متحركا من العدم إلى الوجود ، بخلاف
الضارب ، فان النسبة المأخوذة فيه نسبة الواجدية للمبدا ، ولها جهة ثبات وقرار ،
وبها يكون مفادها وجها وعنوانا للذات ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ فحيث إن مفاد الوصف أمر منتزع عن الذات متحد معها ، فلذا يكون بقاؤها موهما
لبقائه ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فانه لا موهم للبقاء.
١٠٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإلا لزم القول
بالمجاز والتجريد عند الاسناد إلى غيرها من الزمان (٣) والمجردات ... الخ ) .
بل ينتقض ـ أيضا ـ
بمثل ( علم الله تعالى ) ، و ( يعلم الله تعالى ) ونحوه من الصفات الذاتية لتقدّس
ذاته وصفاته تعالى عن الزمان ، بل ينتقض أيضا بمثل ( خلق الله تعالى ) ونحوه مما
كان مبدؤه من صفات الأفعال ؛ لما برهن عليه في محله من أنّ الفعل الزماني لا يكون
إلا لفاعل زماني.
__________________
ويمكن الجواب عن
الجميع عموما : بأن هذه المخاطبات حيث كانت مع المحبوسين في سجن الزمان ، فلا مانع
من اعتبار السبق واللحوق فيما لا يتطرق إليه سبق ولا لحوق.
ويمكن الجواب عن
خصوص الإسناد إلى نفس الزمان : أنّ المتقدّم والمتأخّر بالذات نفس أجزاء الزمان
والحوادث الأخر تتصف بهما بالعرض ؛ إذ ملاك التقدّم والتأخّر الزمانيين عدم مجامعة
المتقدّم والمتأخّر في الوجود ، وهو قد يكون ذاتيا كتقدّم بعض أجزاء الزمان على
البعض الآخر فما به التقدم وما فيه واحد ، وقد يكون عرضيا ، كتقدم بعض الزمانيات
على الآخر ، فالزمان زماني بنفسه ، وغيره زماني به ، والمدّعى وضع هيئة الماضي
مثلا لنسبة خاصة متصفة بخصوصية التقدم الذي لا يجامع
المتأخر في الوجود ، وهو على حد سواء في الزمان والزماني. فتدبره فانه حقيق به.
ويمكن الجواب عن
مثل ( علم الله ، وأراد الله ) فيما إذا تعلق العلم مثلا بالحوادث الزمانية ونحوها
: أنه تبارك وتعالى مع الزمان السابق معيّة قيّومية لا تنافي تقدّسه عن الزمان ،
فهو تعالى باعتبار المعية مع السابق سابق ، وباعتبار معيّته مع اللاحق لاحق.
فتوصيف شيء بالسبق
واللحوق الزمانيين بأحد اعتبارين : إما باعتبار وقوعه في الزمان السابق واللاحق ،
كالزمانيات ، وإما باعتبار المعية مع الزمان السابق أو اللاحق كما في المقام.
وبنظيره يمكن
الجواب عن الاسناد إلى المجردات والمفارقات ، فانها وإن لم تكن في الزمان إلا أنها
معه ، وكون عالمها في طول عالم الطبيعة لا ينافي معيتها لما في عالم الطبيعة في
الوجود ، كما لا يخفى.
__________________
وأما إذا نسب علمه
تعالى إلى ذاته وصفاته ـ جلت ذاته وعلت صفاته ـ فاتصافه بالسبق نظير اتصاف الزمان
به ، وهو عدم مجامعة المتقدم للمتأخر في الوجود.
وبالجملة
: المعلوم : إما أن يكون في
زمان النطق ـ مثلا ـ كالحادث اليومي ، وإما أن يكون سابقا على زمان النطق ،
كالحادث في الأمس ـ مثلا ـ ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل كان موجودا أزلا وأبدا :
فان كان من قبيل
الأول ، فالأمر كما مرّ من أن السبق واللحوق باعتبار معيّته القيومية مع الزمان
السابق واللاحق.
وإن كان من قبيل
الثاني ـ فمضافا إلى ما مرّ ـ يمكن الجواب عنه : بأن جميع الموجودات من مراتب علمه
تعالى ، وهي المرتبة الأخيرة من تلك المراتب ؛ إذ لا حيثية لها إلا حيثية الربط
الذاتي ، ولا حضور أقوى من هذه الحيثية والعلم عين الحضور ، فالموجودات علم ومعلوم
باعتبارين ، فكما أن المعلومات تتصف بالسبق واللحوق الزمانيين ، كذلك هذه المرتبة
من العلم فانه عينها.
وإن كان من قبيل
الثالث ، فليس هنالك إضافة للعلم إلى الزماني ، لكن توصيفه بالسبق الزماني لما
عرفت من أنّ ملاك السبق الزماني عدم مجامعة المتأخّر مع المتقدّم في الوجود ،
وجميع الموجودات بالإضافة إليه تعالى كذلك. فافهم أو ذره لأهله.
١٠٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم لا يبعد أن
يكون لكل من الماضي والمضارع ... الخ ) .
توضيحه : إنه لا ريب في غلطية ( زيد ضرب غدا ، ويضرب أمس ) ، فلا
بد من الالتزام باشتمال الفعلين على خصوصية تقتضي عدم جواز تقييد الماضي
__________________
بالحال والاستقبال
وتقييد المضارع بالمضي.
قلت : المعقول من مفادهما هو الحدث والربط ، وكونه في زمان كذا
، وأما وجود خصوصية اخرى تناسب الخارج عن افق الزمان والواقع فيه.
وكذا خصوصية مانعة
عن التقييد بـ ( غد ) في الماضي ، وب ( أمس ) في المضارع ، فلا طريق لنا إلى
تصديقه .
فإن
قلت : الخصوصية
المدّعاة خصوصية السبق واللحوق الحرفيّين ، والسبق واللحوق غير منحصرين في الزماني
، بل السبق بالزمان وبالطبع
__________________
وبالذات وغيرها.
فإن اسند الماضي والمضارع إلى الزماني ، كان زمانية ما اسندا إليه دالّة على أنّ
السبق واللحوق ـ الملحوظين في الهيئة ـ زمانيّان ، وإن اسندا إلى الزمان كان السبق
واللحوق ذاتيين وهكذا.
قلت
: لا ارتباط لما
عدا السبق الزماني بمداليل الأفعال ؛ ضرورة أنّ السبق بالعلية وبالطبع وبالرتبة
وبالشرف وبالماهية جميعا أجنبيّ عن مداليلها كما هو بديهي. والسبق بالذات هو
الجامع بين السبق بالعلية والسبق بالطبع ، الذي هو سبق العلة الناقصة على معلولها
، والسبق بالماهية الذي هو تقدّم علل القوام على المعلول في جوهر ذاته ، وعدم
ارتباطه بمداليل الافعال ـ حتى المسندة إلى نفس الزمان ـ واضح.
فاتّضح : أن أخذ مطلق السبق واللحوق ـ مع أن ما عدا الزماني أجنبي
عن مدلول الفعل ـ لغو صرف ، ودعوى خصوصية اخرى ـ غير السبق واللحوق ـ إحالة إلى
المجهول.
فالتحقيق : أن ملاك الفعلية ومناطها صحة السكوت وتمامية النسبة ،
فلا بد من التماس دليل آخر على مأخوذية الزمان في الفعل ، والقدر الذي لا مناص عنه
بشهادة العرف والعادة هيئة الماضي والمضارع ؛ لما عرفت من غلطية ( زيد ضرب غدا ،
ويضرب أمس ) ، فلا بد من أخذ السبق واللحوق الزمانيين بالمعنى المذكور سابقا فيهما
وقد عرفت ـ بحمد الله تعالى ـ اندفاع ما اورد على ذلك. فافهم جيدا.
١٠٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويؤيده أن
المضارع يكون مشتركا ... الخ ) .
توضيحه : أن المضارع عندهم مشترك بين الحال والاستقبال : فإن اريد
__________________
الاشتراك اللفظي
كان قولنا : ( زيد يضرب حالا وغدا ) استعمالا في أكثر من معنى ، وهو غير معقول ،
وعلى المشهور غير صحيح ، مع أن المثال المزبور لا شبهة في صحته.
وإن اريد الاشتراك
المعنوي ، فلا جامع بين الحال والاستقبال ، إلا غير الماضي ، وادراج هذا المفهوم
في المضارع سخيف جدا ، مضافا إلى لزوم غلطية ( كان زيد بالامس بضرب عمرا ) للتناقض
، ولا مدفع لكلّ ذلك إلاّ الالتزام بعدم اشتمال الفعل على الزمان بنحو من الانحاء
، مع الالتزام باشتماله على خصوصية تناسب المضيّ في الماضي ، وتناسب الحال
والاستقبال في المضارع.
قلت : قد سمعت الكلام في الخصوصية آنفا ، وأما كيفية اشتمال
الماضي والمضارع على الزمان ، فمجمل القول فيها : ان هيئة الماضي موضوعة للنسبة
المتقيدة بالسبق الزماني على ما اضيفت إليه ـ بالمعنى المتقدّم من السبق ـ بنحو
يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ، وهيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيدة بعدم
السبق الزماني على ما اضيفت إليه على الوجه المذكور ، لا أن الزمان الماضي أو الحال
أو الاستقبال أو غير الماضي ـ بهذه العناوين الاسمية ـ مأخوذ في الهيئة ؛ كي يقال
: إن الزمان عموما وخصوصا من المعاني المستقلّة بالمفهومية ، فلا يعقل أخذها في
النسبة التي هي من المفاهيم الأدويّة والمعاني الحرفية ، ولا يعقل لحاظها بنحو
الحرفية كي يجعل من جهات النسبة ، وقد عرفت الجواب عن الأول.
وأما عدم معقولية
لحاظها حرفيا ففيه : أن النسبة الواقعة في الزمان مقيّدة به قطعا ، فتلاحظ على هذا
النهج من دون عناية اخرى ، وهو معنى لحاظ الزمان بنحو المعنى الحرفي.
وأما حديث التناقض
في مثل ( كان زيد يضرب عمرا بالأمس ) فتوضيح الحال فيه وفي أمثاله : أن السبق
واللحوق قد يلحظان بالإضافة إلى زمان النطق ، كما إذا قيل من دون تقييد : ( ضرب
زيد ، أو يضرب ) ، وقد يلحظان بالإضافة إلى
أمر آخر كما يقال
: ( رأيته يصلي ، أو أراك خدعتني ) ، فان الغرض في الأول حينئذ الإخبار عن الصلاة
حال الرؤية ، والرؤية في زمان سابق على زمان النطق ، والغرض في الثاني الإخبار عن
سبق الخدعة بالإضافة إلى زمان الرؤية ، والرؤية في الحال ، وليس الغرض الإخبار عن
الرؤية والصلاة ، والرؤية والخدعة في عرض واحد ، وإلا لناسب أن يقال : رأيته وصلى
، وأراك وخدعتني ، وعليك بإرجاع ما يرد عليك من الأمثلة الموهمة للتناقض إلى ما
ذكرنا.
١٠٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما أن الجملة
الاسمية كـ « زيد ضارب » ... الخ ) .
نعم ، انطباقه على
الحال والاستقبال يمكن أن يكون على حد انطباق الجملة الاسمية لعدم الاشتمال على
خصوص زمان إلاّ أنّ الإشكال ـ الباعث على الالتزام باشتماله على الزمان ـ غلطية (
زيد يضرب أمس ، وضرب غدا ) ، فلولا خصوصية السبق الزماني وعدمه في الماضي والمضارع
، لما كان الاطلاق المزبور غلطا ، كما في الجمل الاسمية القابلة للتقييد بأي نحو
كان ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تحقيق حال الأوصاف .
١١٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وربما يؤيد ذلك
أن الزمان ... الخ ) .
قد عرفت وجه
التأييد والجواب عنه ، فلا نعيد.
١١١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فالمعنى في كليهما في نفسه كلّي طبيعي ... الخ ) .
اعلم أن الكلي
الطبيعي نفس معروض الكلية ، كالحيوان والانسان ،
__________________
والكلي العقلي هو
الحيوان بوصف الكلية ، وحيث إن الكلية من الاعتبارات العقلية ، فلا محالة لا موطن
للموصوف بها بما هو كذلك إلا في العقل ، ولذا وصف بالكلي العقلي ، لا أن كليته
العقلية بلحاظ تقيده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي ـ كما في المتن ـ كيف؟ واللحاظ ـ
الذي هو وجوده الذهني ـ مصحّح جزئيته في الذهن ، مع أن صيرورته جزئيا ذهنيا
بملاحظة تقيّده بالوجود الذهني مسامحة واضحة ؛ إذ الجزئية والكلية من اعتبارات
المعاني والمفاهيم ؛ لأن الإباء عن الصدق وعدمه ، إنما يعقل في المفهوم ، لا في
الموجود فالموجود مطلقا خارج عن المقسم ، ولذا لو قيد به شيء خرج عن قابلية الصدق
، لا لأنه كلي عقلي أو جزئي عقلي ، فإنّ الكلّي العقلي قابل للحمل على نفسه بالحمل
الذاتي الأوّلي ، بخلاف الوجود الحقيقي والمتقيّد به ، فإنهما غير قابلين للصدق
رأسا.
١١٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في
بعضها ... الخ ) .
تحقيق
القول فيه : أن عدم رجوع
الاختلاف إلى الجهة المبحوث عنها بأحد وجهين : إما بإشراب الجهات المذكورة في
المتن ـ من الفعلية والقوة والملكة والاستعداد ونحوها ـ في ناحية المبادي ،
فالتلبّس في كل واحد بحسبه ، كما هو ظاهر غير واحد من الأصحاب في مقام الجواب.
وإما بعدم الالتزام بالتصرف في ناحية المبادي أيضا ، بل بوجه آخر كما يساعده دقيق
النظر ، فنقول :
أما
في مثل : النار محرقة ،
والشمس مشرقة ، والسم قاتل ، والسنا مسهل ـ إلى غير ذلك مما يكون مسوقا لبيان
المقتضيات ـ فالجواب عنه : أن النظر فيها إلى مجرّد اتحاد الموضوع والمحمول في
الوجود ، لا إلى اتحادهما في حال ؛ ليقال : بأنه إطلاق على غير المتلبّس ، فالقاتل
في قضيتي ( زيد قاتل ) ، و ( السم قاتل ) على
__________________
نهج واحد من حيث
الاستعمال في معنى مطابقة الذات المتلبسة حقيقة بالقتل ، لا أن التلبس والنسبة أعم
من الاقتضاء والفعلية ، فإنه لا معنى محصل له ؛ إذ الخروج من العدم إلى الوجود ـ الذي
هو جامع جميع انحاء النسب والتلبسات ـ عين الفعلية فلا يجامع الاقتضاء.
نعم التلبس
بالاقتضاء أمر معقول ، فيرجع إلى إشراب الاقتضاء في ناحية المبدأ.
ومما
ذكرنا : يظهر الفرق بين
تعميم القيام في مثل : ( زيد ضارب ) إذا أمر بالضرب ، والتعميم في الاقتضاء ؛ إذ
القيام : تارة بنحو قيام العرض بموضوعه ، كما في صورة المباشرة ، فان الحركة
الخاصة من أعراضه القائمة به ، واخرى بنحو قيام المعلول بالعلة ، كقيام الضرب
بالآمر ، فإنه بأمره وتحريكه أوجده ، وهذا بخلاف المقتضي ، فانه وإن كان قائما بالمقتضي
عند اجتماع الشرائط ، لكن عند عدمها لا ثبوت حقيقي له أصلا ، فلا معنى لقيامه به
بأيّ معنى كان.
والتحقيق : أنه للمقتضى ثبوت في مرتبة ذات مقتضيه عرضا ، فوجود
المقتضي وجوده بالذات ، ووجود مقتضاه بالعرض ، فهو باعتبار ثبوت فعلي عرضي ،
وباعتبار ثبوت اقتضائي في قبال الثبوت المناسب للمقتضي في نظام الوجود.
فمن
يقول : بأعمية النسبة
من الاقتضاء والفعلية ، إن أراد ما ذكرنا ، فهو المطلوب ، وإلاّ فلا معنى محصّل
له.
وأما في مثل : (
الانسان كاتب بالقوة ) فمن الواضح أن الكاتب مستعمل في معناه لا فيما له الكتابة
بالقوة ، وإلا لم يصحّ أن يوجّه بالقوة ؛ إذ القوة بالفعل لا بالقوة.
وبالجملة : الكاتب مستعمل في معنى ثبوتي مطابقه حيثية ذاته حيثية
طرد العدم ، لكن الغرض بيان اقتضاء الانسان لهذا المعنى بالقوة لا بالفعل.
وكذا الكلام في
أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات : كـ ( هذا مذبح ، أو مسلخ أو مفتاح ) ، فإن الجري
فيها بلحاظ القابلية والاستعداد ، وإلا فالمفهوم مطابقه ما ذكرنا ؛ ضرورة أن
التصرف في المادة أو الهيئة غير ممكن فيها.
أما
في المادة : فلأن الآلة
مثلا فاعل ما به الفتح في المفتاح ، وفاعل ما به الكنس في المكنسة ، ولا معنى لكون الشيء فاعلا لقابلية الفتح أو الكنس أو لاستعدادهما ، فلا
معنى لإشراب القابلية والاعداد والاستعداد في المادة.
وأما
في الهيئة : فلان مفاد
الهيئة نسبة الفاعلية في اسم الآلة ، ونسبة الظرفية الزمانية والمكانية في اسمي
الزمان والمكان ، ولا معنى لا شراب الجهات المزبورة في النسب المذكورة ، إذ ليست
تلك الجهات جهات النسب ـ بحيث تلحظ النسبة مع احدى تلك الجهات ـ بطور المعنى
الحرفي والمفهوم الأدويّ.
فأما أن يلاحظ
الفاعل والأثر والظرف والمظروف على الوجه المصحح لانتزاع نسبة الفاعلية والظرفية
فقد لوحظت النسبة على وجه الفعلية ، وإلاّ فلا. فتدبّر جيدا.
وأما في مثل
الخياط والتمار والعطار ونحوها ـ من الأوصاف الدالّة على الصنعة والحرفة ـ فتوضيح
الحال فيها : أن ما كان مبدؤه قابلا للانتساب إلى الذات بذاته ـ كالخياط والنساج
والكاتب إذا كانت الكتابة حرفة ـ فسرّ
__________________
الإطلاق [ فيه ]
مع عدم التلبس بنفس المبدأ : أنه باتخاذه تلك المبادي حرفة فكأنه ملازم للمبدا
دائما ، وإلا فالوجدان أصدق شاهد على أن المتبادر من الكاتب في ( زيد كاتب ) وفي (
زيد كاتب السلطان ) معنى واحد ومفهوم فارد ، ومطابق كلّ واحد حيثية ذاته حيثية طرد
العدم ، لكن العناية المصحّحة للإطلاق ـ مع عدم المطابق له في ظرف الاتصاف ـ كون
المورد ـ باتخاذه المبدأ حرفة وشغلا ـ كالمطابق له.
وأما ما لم يكن
مبدؤه قابلا للانتساب بذاته ـ كالتامر واللاّبن والبقّال لان مباديها أسماء
الأعيان ـ فلا بدّ من الالتزام [ فيه ] بأن الربط الملحوظ بينها وبين الذات ربط
تبعي لا بالذات ، بمعنى أنّ حقيقة الربط ـ أوّلا وبالذات ـ بين الذات واتخاذ بيع
التمر واللبن والبقل حرفة وشغلا ، إلا أن التمر واللبن والبقل صارت مربوطة بالذات
بالتبع ، لا بالذات. وكذا الحدّاد ، فإن الحديد مربوط ـ بالذات ـ باتخاذ صنعة
الحديد حرفة ، لا بالذات ، فهذه الهيئة كسائر الهيئات ـ في أصل المفهوم والمعنى ـ غاية
الأمر أن الربط فيها ربط مخصوص من شأنه صدق الوصف على الذات ما دام الربط الذاتي
المصحّح لهذا الربط باقيا ، لا أن المبدأ اتخاذ الحرفة ، ولا أن الهيئة موضوعة
للأعمّ.
وأما ما عن المحقّق
الدواني : من عدم لزوم قيام المبدأ في صدق المشتقّ مستشهدا بمثل
المقام ، ولذا جعل الموجود بمعنى المنتسب إلى حقيقة الوجود ، لا ما له الوجود.
ففيه : أن الأوصاف الاشتقاقية من وجوه الذات وعناوينها ،
والمبدأ بلا
__________________
لحاظ القيام ، ليس
وجها ولا عنوانا لشيء بلا كلام ، وسيجيء ـ إن شاء الله
تعالى ـ تحقيقه.
كما انّ ما ذكرنا
ـ في تحقيق حال الحدّاد ونحوه ـ أولى مما ذكره بعض أكابر فن المعقول في جواب المحقّق الدواني حيث قال ـ ما ملخصه ـ :
إن المبدأ في
الحدّاد والمشمّس هو التحدّد أو الحديدية ، والتشمّس او الشمسية ، بدعوى : أن للحديد
حصولا في صانعه باعتبار مزاولته لصنعة الحديد ، فكأنه صار ذا قطعة منه ، خصوصا
بملاحظة قيام الحديد بذهنه من جهة كثرة المزاولة لا مجرد الملاحظة ، وكذا في
المشمّس ، فإنه لكثرة وقوع شعاع الشمس عليه ، كأنه صار ذا قطعة منها ، لكن ما
ذكرناه أقرب إلى الاعتبار العرفي ، كما هو غير خفي. فتدبّر في أطراف ما ذكرناه في
المقام.
١١٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( المراد بالحال في عنوان المسألة ، حال
التلبس ، لا حال النطق ... الخ ) .
تحقيق
المقام : أن المراد من
الوضع للمتلبّس في الحال أو للأعمّ هو أن مفهوم المشتقّ نحو مفهوم لا ينطبق إلا
على المتلبس بالمبدإ ـ في مرحلة الحمل والتطبيق ـ أو ينطبق عليه وعلى المنقضي عنه
المبدأ.
فزمان الحال ـ سواء
اضيف إلى النطق أو إلى النسبة الحكمية أو التلبس ـ أجنبي عن مفاد المشتقّ ومفهومه
، وعن مرحلة حمله وتطبيقه :
__________________
أما عدم أخذه في
مفهومه ؛ فلما تسالموا عليه من خروج الزمان مطلقا عن مداليل الأسماء ـ ومنها
الأوصاف ـ مضافا إلى ما سيجيء إن شاء الله تعالى .
وأما عدم أخذ أحد
الأزمنة في مرحلة الحمل والصدق ـ وإن لم يؤخذ في المدلول ـ فتوضيحه : أما عدم وضع
الوصف لمعنى ينطبق على المتلبس ـ في زمان النطق ـ فللزوم التجوّز في ( زيد ضارب
أمس ) إذا كان ظرف تلبّسه أمس ، وكذا في ( زيد كان ضاربا بالأمس ) ، مع أنه لا
منشأ صحيح للتجوز.
ودعوى العضدي ـ الاتفاق على المجازية في ( زيد ضارب غدا ) ـ اشتباه منه في تطبيق مورد
الاتفاق على المجازية بتخيل أن المراد من الحال حال النطق.
__________________
وأما عدم الوضع
للمتلبس في زمان النسبة فلأن الوصف ربما لا يكون لنسبته زمان ، كما في الخارج عن
افق الزمان ، فاللازم أن لا يصدق العالم بما له من المعنى عليه ـ تعالى ـ ؛ حيث إن
النسبة الاتحادية ـ بين ذاته المقدسة والوصف المزبور ـ غير واقعة في الزمان.
لا يقال : ما لم يقع في الزمان نفس التلبس بالمبدإ ، وأما النسبة
الحكمية فلا.
لأنا
نقول : الفرق بين
التلبّس والنسبة الاتحادية مطلقا ، أن قيام المبدأ بالذات تلبّسها به ، وهو منشأ
لانتزاع وصف عن الذات المتلبسة بالمبدإ ، فمطابقة الذات ـ خارجا ـ لهذا الوصف
العنواني ، هو معنى اتحادهما في الوجود ، والحمل ليس إلا الحكم بهذا الاتحاد
الوجودي بين العنوان والمعنون والوصف والموصوف.
ومن
الواضح : أن مطابقة ذاته
المقدّسة لوصف العالم غير واقعة في الزمان. هذا ، ولو كان الوصف والموصوف زمانيين
، لكن ربما لا يكون النظر في إجراء الوصف عليه إلى الزمان ، كما في حمل الذاتي على
ذي الذاتي ، كما في ( الانسان حيوان أو ناطق ) ، أو حمل لوازم الطبيعة عليها ، كما
في ( النار حارة ) ، فان النظر فيهما إلى مجرد اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود
من دون نظر إلى زمان ، لا أن مطلقه ملحوظ دون خصوص زمان ، كما يساعده الوجدان.
وأما عدم الوضع
بلحاظ زمان التلبس ، فلما سمعت في نظيره آنفا من أن الوصف ربما لا يكون لمبدئه
وتلبس الذات به زمان ، كما في الخارج عن أفق الزمان ، ولو كان التلبس في الزمان ،
لكن ربما لا يكون النظر إليه كما عرفت.
ومما ذكرنا تبين
وجه عدم أخذ أحد الأزمنة في مفهوم الوصف ، مضافا إلى أنّ النسبة الحكمية الاتحادية
متأخّرة عن مفهوم الوصف المحمول على موصوفه ، فلا يعقل تقيّد مفهوم الوصف بزمان
النسبة المتأخّرة عنه ، كما أن التلبس بالمبدإ إذا كان زمانيّا لا يعقل تخلّفه عن
زمانه ، فأخذ التلبس متقيدا بزمانه لغو ، لا يفيد
فائدة.
فالصحيح : أن الوصف موضوع لنحو مفهوم مطابقة المتلبّس بالمبدإ ،
دون غيره ، فلا يصدق إلا عليه من دون ملاحظة أحد الأزمنة ، كما سيأتي تحقيقه إن
شاء الله .
ثم لو أغمضنا عما
ذكرنا ، فالأنسب هو الثالث ، وهو الوضع للمتلبّس بلحاظ حال تلبّسه بالمبدإ ؛ بمعنى
الوضع لمعنى وصفيّ عنواني مطابقة الذات في زمان تلبّسها بالمبدإ ، لا مطابقه
المتلبّس بالمبدإ في زمان تلبّسه بالمبدإ. فإنه لغو محض ، دون الثاني ؛ لأن اتحاد
زماني النسبة والتلبس ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ ليس مستندا إلى ظهور الوصف في
معناه ، بل إلى ظهور قضية الحمل ؛ لأن مفاد الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود.
فظهور الحمل دالّ على اتحاد زماني النسبة وتلبس الموضوع بمبدإ المحمول ، وإلاّ لم
يكن اتحاد بينهما في الوجود ، ولذا ربما يتخلّف هذا الظهور فيما إذا كان الوصف
معرفا لا عنوانا ، فإنّ الوصف في حالتي العنوانية والمعرفية مستعمل في معنى مطابقة
المتلبّس بالمبدإ حقيقة ، إلا أن الغرض من الحمل عند المعرفية ليس إفادة اتحاد
الموضوع مع مفهوم المحمول في الوجود ، بل الغرض الإشارة إلى حقيقة الموضوع
بمعرّفية الوصف وطريقيّته ، كما في ( هذه زوجة زيد ) إذا كانت بائنة منه ، فزمان
النسبة الحملية غير زمان التلبّس ، مع أن الوصف على ما هو عليه من المعنى.
وأوضح
منه : ما إذا نسب إلى
الوصف شيء ، فان الظهور في الاتحاد بين الزمانين أضعف ؛ لاستناده إلى مجرّد عدم
التقييد ، وكونه في مقام البيان ، كما في ( جاءني الضارب ) ، فإنّ ظهور الضارب في
المتلبس بالضرب ـ حال إسناد المجيء إليه ـ مستند إلى ما ذكرنا ، لا إلى ظهور الوصف
في معناه ، ولذا يصح ( جاءني اليوم
__________________
الضارب بالأمس )
من دون تصرّف في الوصف ، ويؤيّده عدم ظهور الكلام في شيء إذا كان المتكلّم في مقام
الإهمال. فافهم جيّدا.
تنبيه
ربما
يتوهم : أن الوضع للمتلبّس بالمبدإ ينافي عدم التلبّس به في الخارج ، بل امتناع
التلبّس به ـ كما في المعدوم والممتنع ـ للزوم انقلاب العدم إلى الوجود ،
والامتناع إلى الإمكان ، ولذا يصحّح ذلك بإرادة الكون الرابطي من التلبّس ؛ نظرا
إلى ما عن أساطين فن الحكمة : من أنّ الوجود الرابط لا ينافي الامتناع الخارجي
للمحمول.
وهو غفلة عما
اصطلحوا عليه في الكون الرابط ، وأنه غير متحقّق إلا في الهليّات المركّبة الإيجابية دون
غيرها. فليراجع.
بل
التحقيق : أن صدق المشتقّ
على شيء بالحمل الشائع ـ الذي مفاده الاتحاد في الوجود ـ على أنحاء ، فإن الوجود :
خارجي ، وذهني. وكلّ منهما : بتي ، وتقديري ، ففي قولنا : ( زيد كاتب ) يكون
الاتحاد في الخارج بتا ، وفي قولنا :
__________________
( الإنسان نوع )
يكون الاتحاد في الذهن بتا ؛ حيث إن النوعية من الاعتبارات الذهنية ، وفي قولنا : (
كذا معدوم ) يكون الاتحاد في الخارج تقديرا إن كان النظر إلى الخارج ، وإلا ففي
الذهن تقديرا. وإنما كان هذا القسم بالتقدير دون البت ؛ لأن المعدوم المطلق ـ من
جميع الجهات ، وبتمام أنحاء الوجود ـ لا يعقل أن يحكم به وعليه ؛ إذ لا بدّ في
وقوعه طرفا للنسبة من تمثّله في الذهن ، وحضوره عند العقل ليحكم به وعليه.
وحيث إن الحكم به
وعليه ، ليس باعتبار المفهوم والعنوان ، لكونه موجودا بالحمل الشائع ، لا معدوما ،
والمفروض عدم وجود المطابق له في الخارج ، للزوم الخلف ، فلا محالة لا مناص من أن
يقال ـ كما عن بعض الأكابر ، ونعم ما قال ـ : إن العقل ـ بتعمّله واقتداره ـ يقدّر
ويفرض لعنوان المعدوم والممتنع وأشباههما فردا ما بحيث تكون ذاته محض الهلاك وعين
البطلان ، فيحكم عليه وبه بمرآتية العنوان ، فظهر أن المنافاة إنما هي بين الوجود
البتي والعدم والامتناع ، لا بينهما والتقديري الذي لا بد منه ، فالتلبس في كل
مورد بحسبه.
ومما
ذكرنا يظهر : أن النزاع
المعروف ـ بين المعلم الثاني والشيخ الرئيس
__________________
في الأوصاف
العنوانية المجعولة موضوعات في القضايا ؛ حيث اكتفى الأول بإمكان التلبّس ، وزاد
الثاني قيد الفعلية ـ لا ينافي كون الموضوع معدوما تارة ، وممتنعا اخرى ، وليس من
الخرافات ، كما زعمه المتوهم المتقدم.
١١٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ الظاهر أنه
فيما إذا كان الجري في الحال كما هو ... الخ ) .
لا يذهب عليك أن
تلبّس الذات بالمبدإ قيام المبدأ بها بنحو من أنحاء القيام ، وهو يصحّح انتزاع
الوصف العنواني الاشتقاقي عن الذات ومطابقتها له.
والنسبة الحكمية
الاتحادية عبارة عن مطابقة الموضوع لمفهوم المحمول في الوجود ، ومن البيّن : أنّ
مفاد القضيّة الحمليّة ـ بالأصالة ـ ثبوت مفهوم المحمول للموضوع ، ومطابقة الموضوع
لمفهوم المحمول في الوجود ، وتلبّس الذات بمبدإ المحمول ملزوم النسبة الحكمية
مطلقا ، أو في الجملة.
والظاهر من القيود
المأخوذة في القضية رجوعها إلى ما هو مفاد القضية بالأصالة ، وهي النسبة الحكمية ،
لا رجوعها الى ملزومها أو لازمها ، فإرجاع ( الغد ) إلى التلبّس المستفاد من
القضية بنحو التبعية للنسبة الحكمية ، دون مفادها بالأصالة ـ أعني النسبة الحكمية
ـ خلاف الظاهر جدّا.
ومنه
يظهر أيضا : أن ظهور القضية
في كون الجري في الحال إنما هو بالإطلاق ومع القرينة الصالحة لا وجه لاستظهار
الجري في الحال ، مع أن هذه الحال حال النطق ، واتحادها مع حال الجري والنسبة يقتضي
اتحادها مع حال
__________________
التلبّس ، وهو
إنّما يصحّ مع عدم المعيّن لحال التلبّس ، فمع فرض المعيّن لحال التلبّس لا وجه
لدعوى ظهور الجري في حال النطق فافهم جيّدا.
والعجب من بعض
الأعلام من مقاربي عصرنا (رحمه الله) حيث أفاد : أن ( الغد والأمس
) ليسا من الروابط الزمانية ، بل اسم لنفس الزمان ،
فلا يدلاّن على وقوع النسبة في الزمان.
وأنت خبير بأن عدم
كون شيء من الروابط الزمانية لا ينافي قيديته للنسبة المستفادة من القضية بما لها
من الربط الزماني أو غيره ، فكما أنّ القيد المكاني صالح لتقييد النسبة ، فيقال :
زيد ضارب في الدار ، كذلك القيد الزماني ، من دون فارق أصلا.
١١٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع معارضتها
باصالة عدم ملاحظة العموم ... الخ ) .
توضيحه
: أن المفاهيم ـ في
حدّ مفهوميتها ـ متباينات ، فالعموم والخصوص في مرحلة الصدق ، ومع دوران الأمر بين
الوضع لمفهوم أو لمفهوم آخر ليس أحدهما متيقنا بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ التيقّن
في مرحلة الصدق ـ لمكان العموم والخصوص ـ لا دخل له بمرحلة المفهوم الذي هو
الموضوع له. فتدبّر جيدا.
١١٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويدلّ عليه
تبادر خصوص المتلبس ... الخ ) .
تحقيق
المقام : أن مفهوم الوصف
ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ
__________________
بسيط ، سواء كانت البساطة
على ما يراه العلاّمة الدواني تبعا لبعض عبارات القدماء ـ من اتحاد المبدأ والمشتقّ ذاتا
واختلافهما اعتبارا ـ أو كانت البساطة على ما يساعده النظر من كون مفهوم المشتق
صورة مبهمة متلبّسة بالقيام على نهج الوحدانية كما هو كذلك في الخارج ، وسيجيء
تفصيل كل من النحوين إن شاء الله تعالى . ومع البساطة ـ بأحد
الوجهين ـ لا يعقل الوضع للأعمّ ، كما نقل الميل إليه عن شيخنا العلامة الأنصاري 1 في كلام بعض
أعلام تلامذته (رحمه الله) .
والوجه
فيه : أما على
البساطة التي ذهب اليها المحقق الدواني : فلما سيجيء ـ إن شاء الله ـ أنّ ـ الوجه ـ الوجيه ـ في تصحيح كلامه وتنقيح مرامه : هو
دعوى ملاحظة المبدأ من أطوار موضوعه وشئونه وكونه مرتبة منه ، فالوصف نفس المبدأ
ذاتا ، وغيره بهذه الملاحظة. ومن الواضح : أنه مع زوال المبدأ وانقضاء التلبس به
لا شيء هناك حتى يعقل لحاظه من أطوار موضوعه وشئونه ؛ فكيف يعقل الحكم باتحاد
المبدأ مع الذات في مرحلة الحمل مع عدم قيامه به؟
وأما على البساطة
التي ساعدها النظر القاصر : فلأن مطابق هذا المعنى الوحداني ليس إلا الشخص على ما
هو عليه من القيام ـ مثلا ـ ولا يعقل معنى بسيط يكون له الانتساب حقيقة إلى الصورة
المبهمة المقوّمة لعنوانيّة العنوان ، ومع ذلك يصدق على فاقد التلبّس.
بل
التحقيق : أنّ الأمر قريب
من ذلك في وضوح الفساد بناء على تركّب مفهوم المشتقّ حقيقة ، سواء كان مفهوم
المشتقّ من حصل منه الضرب ـ مثلا ـ
__________________
كما هو المتراءى
في بادي النظر عن العلامة (رحمه الله) في التهذيب وغيره في غيره ، أو كان من له الضرب ، كما عن آخرين ، فإن الصدق ـ على الأعم
ـ في الأوّل بملاحظة أنّ من زال عنه الضرب يصدق عليه أنه من حصل منه الضرب ، وفي الثاني
بلحاظ إهمال النسبة عن الفعلية والانقضاء ، كما إذا وقع التصريح به ، وقيل : ( زيد
من له سابقا الضرب فعلا ) بجعل الفعلية قيدا للنسبة الاتحادية بين الموضوع ومحموله
، وهو الموصول بما له من المتعلقات. ووجه وضوح الفساد :
أما في الأوّل :
فلأن لازمه تركّب الأوصاف عن فعل ماض وزيادة ، وهو بديهي فساده ، مع لزوم التجوز
في ( زيد ضارب الآن ) ؛ لمنافاة القيد لما اخذ في الوصف ، وكذا في ( ضارب غدا )
إلا بالتجريد ، وهو بعيد.
وأما
في الثاني : فلأن إهمال
النسبة لو كان منشأ للصدق على من زال عنه التلبّس ، فاللازم صدق الوصف على من لم
يتلبّس لمكان الإهمال ، فلا وجه للاتفاق على المجازية في الاستقبال. مضافا إلى ما
عرفت سابقا : أن النسبة حقيقتها الجامعة لجميع أنحائها ، هو الخروج من العدم إلى
الوجود ، وهو عين الفعلية ، فلا معنى لإهمالها ، ولا لكونها أعمّ من الوجود
والعدم.
وبالجملة : الربط المأخوذ في الأوصاف والأفعال ما هو ربط بالحمل
الشائع ، لا بالحمل الأوّلي ، فتصوّر مفاهيم المشتقات وان لم يتوقف على ذات وتلبس
ومبدأ ، إلا أن صدقها على شيء يتوقّف على أن يكون مطابقها على ما وصفناه.
فاتضح
من جميع ما ذكرناه : أن المدّعي للوضع للأعمّ ـ من المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس ـ لا يدّعي
أمرا معقولا أو قابلا لوجه وجيه ؛ كي يحتاج في
__________________
دفعه إلى إعمال
علائم الحقيقة والمجاز ، وأما تحقيق بساطة المشتق ، وتركبه ، فعلى عهدة ما سيأتي ـ
إن شاء الله ـ عما قريب فانتظر .
١١٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفيه إن اريد
تقييد المسلوب الذي
يكون سلبه أعم ... الخ ) .
توضيح المقام على
وجه الاستيفاء لتمام الأقسام :
أن
السلب : إن اعتبر بالحمل
الأوّلي الذاتي فاللازم سلب ما ارتكز في الأذهان أو تعارف في عرف أهل اللسان من
المعنى الجامع ، لا من خصوص ما انقضى عنه المبدأ ، فإن سلبه لا يستدعي السلب عن
الجامع ـ بخلاف السلب عن الجامع ـ لأن عدم تعدّد الوضع لعلّه مما لا ريب فيه ،
وحيث إن السلب بلحاظ المفهومين ، فلا حاجة إلى التقييد بالزمان كي يورد عليه بما
حكي في المتن.
وإن اعتبر السلب
بالحمل الشائع : فتارة يلاحظ الزمان قيدا للسلب ، وهو علامة عدم الوضع للجامع ،
وإلا لما صحّ سلبه عن مصداقه في حين من الأحيان ، واخرى يلاحظ المسلوب عنه في حال
الانقضاء ، ويسلب عنه مطلقا مطلق الوصف ، وثالثة يلاحظ المسلوب في حال الانقضاء ،
فيسلب عن الذات مطلقا ، فإنّ ما لا أمارية لصحة سلبه هي المادة المقيّدة ، فإنّ
عدم كونه ضاربا بضرب اليوم لا ينافي كونه فعلا ضاربا بضرب الأمس ، بخلاف الهيئة
المقيّدة ، فإنّ عدم كونه ضارب اليوم ـ ولو بضرب الأمس
ـ ينافي الوضع للأعمّ من المتلبّس.
فاتضح
بما ذكرنا : صحة أمارية صحة
السلب مقيدا للمجازية ، سواء كان القيد قيدا للسلب ، أو المسلوب أو المسلوب عنه.
__________________
وأما ما يقال : ـ من
أنّ سلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق ـ فإنما يسلّم فيما إذا كان للوصف بلحاظ حال
الانقضاء فردان ، فإنّ سلب أحد الفردين لا يستلزم [ سلب ] المطلق ؛ لإمكان وجوده في الفرد الآخر ، مع أنّ المدّعى كون الوصف في حال
الانقضاء فردا في قبال حال التلبّس ، فإذا صحّ سلبه في حال الانقضاء فقد صح سلبه
بقول مطلق لانحصاره فيه.
والتحقيق : عدم خلوص كلّ ذلك عن شوب الإشكال ، وذلك لأنّ زيدا ـ المسلوب
عنه ـ غير قابل لتقيّده بالزمان ؛ لعدم معنى لتقيّد الثابت وتحدّده
بالزمان ، فإنه مقدّر الحركات والمتحرّكات ، ولحاظه موصوفا بزوال المبدأ عنه لا
يصحّح سلب الوصف عنه مطلقا لصحة توصيفه به معه ، فيقال : زيد ـ الذي زال عنه الضرب
ـ ضارب بالأمس ، فمجرد لحاظ الموضوع في حال الانقضاء لا يصحح السلب مطلقا.
وأما تقييد السلب
فقط فغير سديد ؛ لأن العدم غير واقع في الزمان ولو كان مضافا إلى شيء. كيف؟ وقد
عرفت : أن التقيّد والتحدّد به ليس شأن كلّ
__________________
موجود كان ، بل القابل للتقيّد والتحدّد بالزمان نفس التلبّس بالضرب ـ الذي هو نحو حركة
من العدم إلى الوجود ـ فإنه واقع بنفسه في الزمان ، والنسبة الاتحادية بين الوصف
والموصوف ، موصوفة بالوقوع في الزمان بالتبع ، وإلا فالوصف ـ بما هو ـ غير واقع
فيه ؛ لأنه ـ بما هو ـ غير موجود إلا بتبع وجود زيد متلبّسا بالضرب.
ومنه
ظهر : أن تقييد
المسلوب ـ وهو الوصف بمعناه ـ بالزمان لا معنى له ، بل القابل هي النسبة الاتحادية
بتبع مبدئها ، وهو التلبس الواقع في الزمان بالاصالة ، وحيث إن التحقيق الذي ينبغي
ويليق ، كما عليه أهله : أن القضايا السلبية ليست ـ كالقضايا الايجابية ـ مشتملة
على نسبة ، بل مفادها سلب النسبة الايجابية ؛ بمعنى أنّ العقل يرى زيدا ، ويرى
الوصف ، فيرى عدم مصداقيته لمفهوم الوصف ، لا أنه يرى مصداقيته لعدم الوصف ؛ إذ
الوجود لا يكون مصداقا للعدم ، ولا أنه يرى قيام العدم به ؛ إذ لا شيء حتى يقوم
بشيء ، فنقول حينئذ : مفاد ( زيد ليس بضارب الآن ) سلب النسبة المتقيّدة بالآن ،
ولو كان الوصف موضوعا للأعمّ كان زيد مصداقا له الآن ، ولم يصحّ سلب مصداقيته
ومطابقته المزبورة ، كما لا يخفى.
فإن
قلت : النسبة في
السوالب نسبة سلبية بإزاء العدم الناعتي الرابطي ، كالنسبة في الموجبات بإزاء
الوجود الناعتي الرابطي ، وإلاّ ـ لو ورد السلب على النسبة لزم انقلاب المعنى
الحرفي اسميا ـ فلا يبتني التفصّي عن الإشكال على جعل السلب واردا على النسبة ،
فإن العدم الناعتي إذا كان في حال الانقضاء ، فلا محالة يستحيل أن يكون الوجود
الرابطي فيه ، ولو كان الوصف موضوعا للأعمّ لكان وجوده الناعتي الرابطي متحققا في
حال التلبس والانقضاء معا.
__________________
قلت : نعم ، لا فرق بين جعل النسبة في السالبة سلبية ، وجعل
السلب واردا عليها ، فيما هو المهم في المقام ، وإنما المهمّ عدم جعل الزمان قيدا
للسلب.
وأما تفسير النسبة
السلبية بالعدم الناعتي ، والنسبة الايجابية بالوجود الرابطي ، فقد مرّ سابقا : أن
النسبة الحكمية أعمّ من الوجود الرابط ، وهو أيضا أعم من الوجود الرابطي.
وأما جعل العدم
ناعتيا رابطيا ، فلا وجه له ؛ فإن الرابطية للوجود بلحاظ حلوله في الموضوع ، وأن
كونه في نفسه كونه لموضوعه ، وهذا شأن الوجود ، فإنه الحالّ ، وله الناعتية
والرابطية ، والعدم لا شيء حتى يحل في شيء ليكون ناعتيا رابطيا.
وأما لزوم انقلاب
المعنى الحرفي اسميا بورود السلب على النسبة ، فمدفوع : بأن العقل إذا وجد كون هذا
ذاك ، فقد وجد المطابقة وادركها بالعرض والتبع ، لا أنه وجد المطابقة ، وأدركها
بما هي مطابقة. فكذلك إذا أدرك أن هذا ليس ذاك ، فقد أدرك عدم مطابقة الذات لعنوان
الوصف بالتبع ، لا أن عدم المطابقة ـ بهذا العنوان ـ ملحوظ استقلالا.
هذا ، ويمكن إصلاح
قيدية الزمان للمسلوب عنه بتقريب : أن الثابت الذي له وحدة مستمرة بلحاظ الوجود ،
وإن لم يتقدر بالزمان ـ لأنه شأن الأمر الغير القارّ ـ لكنه مع كل جزء من أجزاء
الزمان ، وبهذا الاعتبار يقال بمرور الزمان عليه ، فصح أن يلاحظ ( زيد ) مع جزء من
الزمان الذي له المعية معه ، فيسلب عنه ـ مطلقا ـ مطلق الوصف.
وأما قيدية الزمان
للعدم ، ولو بهذا المعنى ، فلا معنى لها ؛ إذ العدم لا شيء حتى يكون له المعية مع
الزمان.
نعم مرجع معيّته
مع الزمان إلى عدم معيّة الوجود ـ الذي هو بديله مع الزمان ـ فتكون النسبة متقيّدة
بالزمان حقيقة ، لا السلب.
بل
نقول : لو صحّ تقييد السلب
بالزمان ـ مع عدم تقييد النسبة الحكمية ـ لزم صحة السلب حتى مع تقييد النسبة بحال
التلبس ؛ حيث يصح أن يقال : زيد ليس الآن ضاربا بالأمس ؛ بداهة أن النسبة المتقيدة
بالأمس لا وعاء لها إلا الأمس ، مع أن إطلاقه بلحاظ حال التلبس حقيقة عند الكل ،
فكما لا يكون صحة السلب في مثل المثال علامة المجاز ، فليكن فيما نحن فيه كذلك.
١١٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفيه أن عدم
السلب في مثلهما
إنما هو لأجل أنه اريد ... الخ ) .
اختصاص التمثيل
باسم المفعول ـ مع عدم الفرق بينه وبين اسم الفاعل ، إلا بالصدور في الفاعل ،
والوقوع في المفعول ، مع وحدة المبدأ الذي تتوارد عليه أنحاء النسب ـ كاشف عن
خصوصية في اسم المفعول في طرف مبدئه عرفا إن كان الاطلاق حقيقيا ، وإلا فتوسّعا
وتنزيلا ، وإلا فالفاعل والمفعول ـ كالضارب والمضروب ، والقاتل والمقتول ـ متضايفان
، والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية ، فصدق أحدهما دون الآخر غير ممكن ، إلا
بأخذ المبدأ على نحو يخرج عن التضايف.
١١٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فالجواب منع
التوقف على ذلك بل يتم ... الخ ) .
التحقيق
في الجواب : ما أشرنا إليه
في بعض الحواشي المتقدّمة من أن ظهور المشتقّ ـ في معناه الذي مطابقه المتلبّس
بالمبدإ على أنحائه ـ أمر ، وظهور اتحاد زماني التلبس والنسبة الحملية أو الاسناد
إليه ، أمر آخر.
__________________
وقد سمعت : أن
ظهور المشتق في ذلك ـ فيما إذا نسب إليه شيء ـ إنما هو لعدم كون المتكلم مهملا ،
وعدم التقييد بزمان خاص ، وعدم كون الوصف معرّفا ، فلو انتفى أحد هذه الامور لما
كان ظهور. وعلى أيّ حال فالمشتق في مرحلة الاستعمال مستعمل في معناه ، ومطابقة
المتلبس الحقيقي بالحمل الشائع.
وتوضيحه : أن
الوصف ربما يكون عنوانا محضا ، كما في ( صلّ خلف العادل ) ، و ( يقبل شهادة العادل
) ، وربما يكون معرّفا محضا ، كما في ( هذه زوجة زيد ) إذا كانت بائنة منه ، وأريد
تعريف شخصها لا الحكم على وصفها ، وربما يكون معرفا مشوبا بعنوانية لنكتة من مدح
أو ذم أو عليه لحدوث الحكم.
ومورد استدلال
الإمام عليه السلام من قبيل الأخير ، فإن مقتضى جلالة قدر الامامة والخلافة ـ وعظم
شأنها وعلو مكانها ـ عدم لياقة من عبد الصنم مدة ـ واتصف بالظلم في زمان ـ لعهد
الخلافة أبد الدهر ، وإلا لكانت الخلافة كسائر المناصب الشرعية ، فهذه القرينة
قرينة على عدم اتحاد زماني التلبّس والإسناد ، لا على استعمال الوصف في المنقضي
عنه المبدأ مجازا ، كما عن بعض الأعلام.
فإن
قلت : فعلى هذا
مخالفة الظاهر دائما مستندة إلى غير الجهة المبحوث عنها ، فما ثمرة البحث عن ظهور
المشتق في المتلبّس أو الأعم؟
قلت : أما القائل بالأعمّ فهو ليس له حالة منتظرة في إجراء
الحكم المترتّب على وصف اشتقاقي.
وأما القائل
بالوضع لخصوص المتلبس ، فاقتصاره على خصوص المتلبّس في ترتيب الحكم عليه ، يتوقّف
على إحراز الظهور في اتحاد زماني النسبة والتلبس ؛ بأن لا يكون الكلام مهملا ، أو
الزمان معينا ، أو الوصف معرّفا محضا ، أو مشوبا ـ في قبال التمحض في العنوانية ـ وهذا
لا يقتضي لغوية النزاع ـ كما ربما يتوهّم ـ اذ لزوم توسّط شيء في ترتيب الثمرة لا
ينفي الثمرة ، ولا يوجب لغوية النزاع في ثبوت ما يترتب عليه بلا واسطة أو معها.
فافهم واغتنم.
١٢٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل يكون حقيقة
لو كان بلحاظ حال التلبّس ... الخ ) .
والقرينة المزبورة
ليست قرينة على لحاظ حال التلبّس ؛ إذ لا شيء من الحقيقة كذلك ، بل قرينة على
انفكاك زمان التلبّس عن زمان الإسناد إليه ، وقد عرفت أن الظهور في الاتحاد ليس من
ناحية وضع المشتقّ للمتلبّس.
١٢١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وقد أفاد في وجه
ذلك أن مفهوم الشيء ... الخ ) .
توضيحه : أنه بعد عدم تعدّد الوضع في المشتقّات ، إما أن يكون
الملحوظ حال الوضع من المفاهيم العامة ـ كالذات والشيء ونحوهما ـ هو الموضوع له ،
أو مصاديقه :
فإن كان الأول لزم
دخول العرض العامّ في مثل الناطق من الفصول ، مع أن الشيئية من الأعراض العامة ،
وهي غير مقوّمة للجوهر النوعي ، والفصل هو الذاتي المقوّم.
وإن كان الثاني من
باب عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، لزم انقلاب مادّة الإمكان الخاص إلى الضرورة في
مثل ( الانسان كاتب ) ؛ إذ الكاتب ـ بما له من المعنى المرتكز في الأذهان ـ ممكن
الثبوت للإنسان ، ولو كان الإنسان الذي هو مصداق الشيء مأخوذا فيه كان ضروري
الثبوت للانسان ؛ لأن ثبوت الإنسان لنفسه ضروري.
١٢٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( والتحقيق : أن يقال : إنّ مثل الناطق ليس بفصل حقيقي ...
الخ ) .
__________________
توضيحه : أن المبدأ وهو النطق : إما أن يراد منه النطق الظاهري ،
وهو كيف مسموع ، فكيف يعقل أن يكون مقوّما للجوهر النوعي؟!
وإما أن يراد منه
النطق الباطني ـ أعني إدراك الكلّيات ـ وهو كيف نفساني ، أو إضافة ، أو انفعال ـ على
اختلاف الأقوال ـ وعلى أي حال فهو من الأعراض ، والعرض لا يقوّم الجوهر النوعي ،
ولا يحصّل الجوهر الجنسي ، وإنما يعرض الشيء بعد تقوّمه في أصله وتحصّله بفصله.
وسرّ جعل مثله في
مقام التحديد هو : أنّ الذاتي لمّا لم يعلم ، بل لا يكاد يعلم ـ كما عن الشيخ الرئيس في التعليقات على ما حكي عنه ـ لم يكن بدّ إلا التعريف باللوازم والخواصّ ، والناطق هو الشيء المتخصّص
بالنطق ، فلم يلزم دخول العرض في الذاتي ، وهذا الجواب وإن كان صوابا ـ كيف؟ وقد
صدر عن جملة من الأكابر ـ لكنه يمكن أن يجعل الناطق فصلا حقيقيا من دون محذور ؛
بأن يكون المراد منه ما له نفس ناطقة ، والنفس الناطقة ـ بما هي مبدأ لهذا الوصف ـ
فصل حقيقي للانسان ، لكن الجزء ما لم يلاحظ لا بشرط لا يقبل الحمل ، فلذا يجب في
تصحيح الحمل من إضافة لفظة ( ذي ) ، فيقال : ( الانسان ذو نفس ناطقة ) ،
أو من اشتقاق لغوي أصلي ، أو جعلي فيقال : ( الانسان ناطق ) أي ما له
__________________
نفس ناطقة ، فأخذ
الشيء في هذا المشتق الجعلي لا يوجب محذور دخول العرض في الذاتي ؛ بداهة أن الفصل
الحقيقي هو المبدأ ، وإلاّ فالمشتقّات غير موجودة بالذات ، ولذا لا تدخل تحت
المقولات. فتدبّره ، فإنه حقيق به.
والتحقيق : أن
توصيف النفس بالناطقة ـ بمعنى المدركة للكليات ـ يوجب أن لا يكون الفصل ذاتيا.
وبمعنى آخر ـ لا يعرفه العرف واللغة ـ مناف للتعريف ، فالصحيح في دفع الإشكال كلية
ما أشرنا إليه من أنّ أخذ الشيء والذات ونحوهما لتصحيح الحمل ، ولذا لا شبهة في أن
خاصّة الإنسان هو الضحك ، ومع ذلك لا يصح حمله ـ في مقام الرسم ـ ، إلاّ بعنوان
اشتقاقي ونحوه ، وأما صلوح المبدأ لكونه فصلا حقيقيا ، فهو مما لا محيص عنه ، سواء
اخذ فيه الشيء ونحوه أم لا. فافهم جيّدا.
فإن
قلت : حقائق الفصول ـ
كما عن بعض أكابر فن المعقول ـ هي أنحاء الوجودات الخاصة ، فإنّ بها تحصّل كلّ متحصّل ،
والحقيقة العينية ليست كالماهيات الطبيعية ، بحيث يتخذ الذهن موطنا كالخارج ،
وعليه فلا يعقل الحكاية عن حقيقة الفصل بمفهوم ، كي يلزم المحذور من أخذ الشيء في
الاشتقاقي منه ، بل نسبة كل مفهوم ـ يحكي عنه ـ إليه نسبة العنوان إلى المعنون ، والوجه إلى ذي الوجه.
قلت : لحاظ التقويم ـ وكون الشيء من علل القوام ـ غير لحاظ
التحصيل وكون الشيء من علل الوجود ، وحقيقة الفصل الحقيقي لا يعقل أن يكون بوجوده
من علل قوام الماهية النوعية ؛ ضرورة أن ما حيثيّة ذاته حيثيّة الإباء عن العدم
مغاير لما لا يأبى عن الوجود والعدم ، بل الفصل إنما يكون مقوّما بذاته وماهيته.
__________________
وبالجملة : وجود الفصل الأخير ـ وان كان بوحدته وجودا لجميع الأجناس
والفصول الطولية ، وكانت تلك برمتها مضمنة فيه ، لكن هذا الوجود الواحد ينتزع عنه
معان ذاتية ومعان عرضية. فكلّ ما انتزع عنه ـ بلا ملاحظة أمر خارج عن مرتبة ذاته ـ
يسمّى ذاتيا كالأجناس والفصول ، وكلّ ما انتزع عن مرتبة متأخرة عن ذاته يسمّى
عرضيا ، والفصل المحكيّ عنه بمثل ( الناطق ) إنما يكون ذاتيا ومن علل القوام إذا
كان كذلك ، والمفروض تركّبه من أمر عرضي ـ وهي الشيئية ـ فما فرضناه ذاتيا لم يكون
كذلك. فافهم جيّدا.
١٢٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ثم قال : يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا ، ويجاب
بأن المحمول ... الخ ) .
هذا الذي أجاب به
في الفصول مما قد سبقه إليه بعض أهل المعقول وسبقهما إليه نفس المورد
ـ أعني المحقق الشريف ـ في كلام آخر له ،
__________________
وحاصله : ان
المقيد بغير الضروري غير ضروري.
والذي يسنح بالبال
عدم سلامة هذا الجواب عن الاشكال ، لا لأن لازمه إمكان سلب الشيء عن نفسه عند
تقيده وهو محال ، لأن الشيء لا ينسلخ عن نفسه في جميع المراحل ، بل هو محفوظ في
جميع المراتب ؛ لأنّ ذلك يصحّ في الجزئيات الحقيقية ، فإنها غير قابلة للتقييد.
بخلاف الكليات
فإنها قابلة ، فتكون بذلك حصصا لها ، وثبوت الكلي للحصص وإن كان ضروريا ، إلاّ أن
ثبوت الحصة له ليس كذلك ، إذ ليس ورود كل قيد ضروريا ، بل لأن بعض الموضوعات ـ كالجزئيات
الحقيقية ـ غير قابلة للتقييد ؛ لأنها لا تتعدد بإضافة القيود ، فليست كالأجناس كي
تصير بالقيود أنواعا ، ولا كالأنواع كي تصير بالقيود أصنافا ، فلا معنى لقولك :
زيد زيد له الكتابة.
وأما بعض
الموضوعات الأخر القابلة للتقييد ، فلا تقبل الحمل ولا السلب ، لا لأن المفروض
أنها بنفسها مأخوذة في المحمول ـ وإثبات الشيء لنفسه ـ كسلبه عنه ـ محال ؛ لما
عرفت آنفا ـ بل لأن حمل الأخصّ على الأعم بحسب المفهوم غير صحيح ، فلا يصحّ أن
يقال : ( الحيوان إنسان ) إلا بنحو القضية الشرطية المنفصلة ، بأن يقال : (
الحيوان إما إنسان ، أو حمار ، أو غير ذلك ) ، وعليه فالحمل غير صحيح ، لا أنه
صحيح وانقلاب المادة مانع.
وبالجملة : الحصة لا تحمل على الكلي وإن صح تقسيم الكلي إليها والى
غيرها ، ومن الواضح أن حمل الكاتب بما له من المعنى صحيح ، من دون عناية زائدة ،
ولو كان مفهومه مركبا من نفس الإنسان وقيد الكتابة لكان حصة من الانسان. فيرد عليه
حينئذ ما أوردناه عليه ، لكن هذا الاشكال بناء على ما عن أهل الميزان من أن
الملحوظ في طرف الموضوع هي الذات ، وفي طرف المحمول
هو المفهوم ، وأن
الموضوع لا بد من اندراجه تحت مفهوم المحمول ، وصدق المحمول عليه.
وأما بناء على أن
ملاك الحمل الشائع ، هو الاتحاد في الوجود فكما أن الكلي يتحد مع الحصة في الوجود
فكذا العكس ، فصح حملها عليه.
١٢٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن كان ذات
المقيد ، وكان القيد خارجا ... الخ ) .
فيكون كالمركّب
التقييدي الذي لا نظر فيه إلى المقيّد ـ بما هو مقيّد ـ بل هو آلة لتعرّف حال ذات
المقيّد ، والغرض أنّ المحمول هو المقيّد بقيد غير ضروري ، ومع ذلك فهو ضروري إذا
لوحظ بنحو المعنى الحرفي. وأما جعل ( الكاتب ) ـ مثلا ـ عنوانا محضا وطريقا صرفا
إلى معنونه ، وحمل معنونه على الإنسان ، فهو وإن كان بمكان من الامكان ، والجهة ـ حينئذ
ـ هي الضرورة ـ دون الامكان ـ إلا أنه ليس لازم التركّب ، بل يجري على البساطة ـ أيضا
ـ كما هو واضح.
١٢٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن كان المقيد
ـ بما هو مقيد ـ على أن يكون القيد داخلا ... الخ ) .
توضيحه : إن لازم التركب انحلال قضية ( الانسان ضاحك ) إلى قضيتين
:
إحداهما ( الانسان
إنسان ) ، والاخرى ( الإنسان له الضحك ) ، والاولى ضرورية ، والثانية ممكنة ، مع
أنّ قضيّة ( الإنسان ضاحك ) ـ بما لها من المعنى المرتكز في الأذهان ـ موجّهة بجهة
الإمكان.
لا
يقال : ( له الضحك )
مأخوذ في المحمول على نحو التوصيف ، لا أنه خبر بعد خبر ؛ لتكون هناك قضيتان.
__________________
لأنا
نقول : الضاحك ـ بما
له من المعنى ـ خبر ، والقضية خبرية محضة ، وما هو انحلال للخبر يكون خبرا أيضا ،
وإن اخذ في مقام الجمع بنحو التوصيف ؛ لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار ، كما أن
الاخبار بعد العلم بها أوصاف ، فيكون ما نحن فيه نظير ما إذا قيل : ( زيد شاعر
ماهر ) ، فإنّ الماهر وإن كان صفة اصطلاحا للشاعر ، إلا أنه في الحقيقة قبل العلم
به ـ كما هو فرض الخبر ـ إخبار بشاعريته وبمهارته في الشعر ، وإن لم يكن خبرا بعد
خبر ، كقولنا : ( زيد كاتب شاعر ).
لكنه ـ لا يخفى
عليك ـ أن هذا الانقلاب ليس على حد ما أفاده الشريف ، وإن كان نحوا من الانقلاب
المصحح للإشكال على تركّب المشتقّ.
ولا يذهب عليك
أيضا : أن عقد الحمل لم ينحلّ إلى قضية ضروريّة كي يكون نظيرا لعقد الوضع المنحلّ إلى
قضيّة ممكنة أو فعلية ، بل عقد الحمل منحلّ إلى خبرين : بأحدهما تكون القضية
ضرورية ، وبالآخر تكون ممكنة ، مع أن القضية ـ بما له من المعنى ـ ممكنة.
__________________
وبالجملة : نتيجة ذلك انحلال القضية إلى قضيتين ، كما هو لازم
انحلال الخبر إلى خبرين ، لا انحلال عقد الحمل إلى قضية.
فما في المتن ـ من
التفريع على ما ذكر من أن انحلال عقد الحمل إلى قضية ، كانحلال عقد الوضع إلى قضية
ممكنة عند الفارابي ، أو إلى قضية فعلية عند الشيخ الرئيس ـ ليس في محلّه ، إلا أن
يراد من القضية الثانية نفس قولهم : ( له الضحك ) باعتبار الثابت ونحوه ، فإنه
قضية ممكنة اخذت في عقد الحمل.
فعقد الوضع
بانضمام جزء من عقد الحمل قضية ، وجزؤه الآخر قضية اخرى ، لكنه لا يوافق عبارته ـ مد
ظله ـ في بيان القضية الثانية ؛ حيث قال : « والاخرى قضية ( الانسان له النطق ) » ، فلا تنطبق إلا على انحلال الخبر إلى خبرين.
نعم ما ذكرنا من
التوجيه وجيه بالنسبة إلى عبارة المحقق السبزواري في تعليقاته على الأسفار ، فإنه
عبّر عن القضية الثانية بقوله : ( له الضحك ) فتدبّر جيدا.
نعم ، هاهنا وجه
آخر للانقلاب إلى الضرورة يصح تنظيره بانحلال عقد الوضع إلى قضية ، وهو أن نفس عقد
الحمل ينحلّ إلى قضية ، وهي ( إنسان له الكتابة ) ـ مثلا ـ ومادّة هذه القضيّة هي
الإمكان ؛ إذ كون القضية ذات مادّة نفس أمرية عبارة عن اقتضاء ذات الموضوع لذات
المحمول ، لا بما هما موضوع ومحمول ، فاقتضاء شيء لشيء إن كان على نحو يستحيل عدمه
فالمادة ضرورة ، وإلا فإمكان ، سواء كان هناك صورة القضية أم لا. فالإنسان المأخوذ
في المحمول ، إذا قيس إلى مبدأ المحمول كان لا محالة مقتضيا له بنحو من
__________________
الأنحاء وإن لم
يكن اقتضاؤه مقصودا بالذات ؛ إذ تعلق الغرض والقصد بالذات وبالعرض لا دخل له في
اقتضاء الواقعيات ، بل لا يعقل دخله فيها لتأخّر رتبته عنها.
وهذا بعينه نظير انحلال
عقد الوضع إلى قضية ممكنة عند المعلم الثاني ، وإلى فعلية عند الشيخ الرئيس ، مع
أن عقد الوضع غير مقصود اقتضاؤه ، ولا متعلق للغرض ، لا بالذات ولا بالعرض.
وعليه فالمحمول
على الإنسان هو الإنسان الذي مادّته الإمكان ، ولا يعقل أن يكون اقتضاء الإنسان
لمثل هذا المحمول بنحو الإمكان ، وإلا جاز ضرورية عدم الكتابة إن كان الإمكان
عامّا ، وضرورية ثبوتها إن كان خاصا ، مع أنّ المفروض عدم ضرورية الكتابة وعدمها.
فتدبّره ، فإنه دقيق ، وبه حقيق.
وليعلم : أن هذا الانقلاب لا دخل له بضرورية ثبوت الشيء لنفسه ،
ولا من جهة كون القيد ضروريا ؛ إذ المفروض كون المحمول ـ في حد ذاته ـ مادته
الامكان ، ولا من جهة أن جهة القضية جزء المحمول ، فانه يوجب الانقلاب ولو على
البساطة.
مضافا إلى أن
القابل لأخذه جزء للمحمول هي الجهة دون المادة ، فان مادة القضية هي كيفية النسبة
الواقعية بين شيئين وان لم تلحظ ، بخلاف الجهة ، فإنها ما يفهم ويتصور عند النظر
إلى تلك القضية سواء طابقت النسبة الواقعية ، أم لا.
ومن
الواضح : أن المادة حيث
إنها لم تلاحظ ، فلا وجه لتوهّم أخذها جزء للمحمول ، بل الانقلاب من جهة أخذ
الموضوع في المحمول ، فيتحقق هناك نسبة ومادة بين ما اخذ في عقد الحمل ومبدأ
المحمول ، وحينئذ فلا يعقل أن يكون نسبة المحمول ـ الذي مادته الامكان في حد ذاته
، بالاضافة إلى عقد الوضع ـ بالامكان.
والتحقيق : أن ثبوت إمكان الكتابة للإنسان ليس بالإمكان ، بل
بالضرورة لما ذكر آنفا ، وكذا ثبوت إمكان الإنسان الذي له الكتابة ـ أي إمكان هذه
الحصة ـ أيضا بالضرورة لا بالإمكان. وأما ثبوت نفس هذه الحصة الممكنة لطبيعي
الإنسان فهو بالإمكان ، لا بالضرورة ؛ لأن ورود هذا القيد على الإنسان ـ الموجب
لكونه حصّة ـ بالإمكان ، فثبوت هذه الحصة الممكنة للطبيعي بالإمكان ، ولازم حمل الإنسان
الذي له الكتابة على الإنسان ، إفادة كون الإنسان ذا حصّة خاصّة ، لا إفادة إمكان
الكتابة له ، ولا إمكان الحصّة له حتى يكون بالضرورة. فتدبّر جيّدا.
١٢٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكنه ـ قدس سرّه
ـ تنظر فيما أفاده بقوله ... الخ ) .
النسخة المصحّحة
بل المحكي عن النسخة الأصلية هكذا : « وفيه نظر لأن الذات المأخوذة ـ مقيّدة
بالوصف قوة أو فعلا ـ إن كانت مقيدة به واقعا ، صدق الإيجاب بالضرورة ، وإلاّ صدق
السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق ( زيد كاتب بالضرورة ) ، ولكن يصدق ( زيد زيد الكاتب بالفعل او بالقوة بالضرورة ) » انتهى.
وأما ما في النسخ
الغير المصحّحة في بيان المثال الثاني ـ ( ولكن يصدق زيد الكاتب كاتب بالفعل او
بالقوة بالضرورة ) ـ فهو غلط بالضرورة ؛ لأنّ لازم تركّب المشتقّ تكرّر الموضوع لا
تكرّر المحمول.
١٢٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يذهب عليك
أنّ صدق الإيجاب
__________________
بالضرورة بشرط كونه
مقيدا ... الخ ) .
تركّب المشتقّ لو
اقتضى انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة بشرط المحمول ـ ولو بملاحظة الجهة التي
ذكرناها أخيرا في تصحيح الانقلاب ، وإليه يرجع ما في الفصول لا إلى فرض الثبوت وفرض العدم ـ لكان ذلك من مفاسد الالتزام بتركّب المشتق ؛
اذ المفروض أن قضية ( الإنسان كاتب ) مادتها الامكان ، وتركب الكاتب من الانسان
ونسبة الكتابة التي هي متكيفة واقعا بالإمكان ، يقتضي ان يكون مادتها الضرورة وإن
كانت هذه الضرورة واقعا ضرورة بشرط المحمول ؛ حيث إن الجهة إذا صارت جزء المطلب
والمحمول كانت جهة القضية منحصرة في الضرورة إثباتا أو نفيا.
والفرق بين ما نحن
فيه وبين ما ذكره اهل الميزان في الضرورة بشرط المحمول : أنّ العبرة عندهم في
القضايا الموجّهة بالجهة ، والجهة غير المادة ، لكن المحذور الحقيقي لا يدور مدار
انقلاب جهة إلى جهة ، بل انقلاب مادة إلى مادة كذلك ، كما لا يخفى.
وما ذكره في
الفصول من المثالين ليس مثالا للشرطيتين الواقعتين في
__________________
كلامه ؛ إذ
الشرطية الثانية مقتضاها صدق السلب بالضرورة ، والمثال عدم الصدق بالضرورة ، وظني
أن مثاله الأول ناظر إلى البساطة وعدم اقتضائها الانقلاب ، والمثال الثاني ناظر
إلى التركّب واقتضائه الانقلاب لصيرورة المحمول ـ من حيث تركبه ـ ذا مادة.
والمراد
من الشرطيتين : موافقة الجهة
لمادّة القضية واقعا ـ كالمثال المزبور ـ وعدمها ، كما إذا قيل : ( الإنسان إنسان
له النطق بالإمكان ) ، فإنّ الجهة غير موافقة لمادة القضية ، فيصدق السلب بالضرورة
، فيقال : ( ليس الانسان بالضرورة إنسانا له النطق بالامكان ) ، فالمراد من
التقيّد بالوصف واقعا وعدمه هذا المعنى ، دون الثبوت
وعدمه. هذه غاية ما يمكن أن يوجه به كلامه ـ رفع مقامه ـ.
١٢٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فان لحوق مفهوم
الذات والشيء لمصاديقهما إنما يكون ضروريا ... الخ ) .
الأولى
أن يقال : إن إلزام الشريف
بالانقلاب : إن كان من باب ثبوت الشيء لنفسه ـ كما هو ظاهر الشريف ـ فمن البديهي أن مفهوم الشيء غير مفهوم الإنسان.
وإن كان من باب أن
الموجّهة بجهة الإمكان ليست بالإمكان ، بل
__________________
بالضرورة ، ففيه :
أن الإنسان بإنسانيّته يقتضي الكتابة ، لكنّ الشيء بشيئيّته لا يقتضي الكتابة ، بل
الشيء : إن كنّي به عن الإنسان كان مقتضيا بالإمكان ، فيرجع إلى مصداق الشيء. وإن
كنّي به عن غير الإنسان لم يكن هناك اقتضاء ، بل صح السلب بالضرورة ، فالشيء
بشيئيّته لا حكم له.
وإن كان إلزامه من
باب أن الإنسان شيء ، لا أنه لا شيء ، والشيئية لا تنسلخ عنه في جميع المراتب ،
ففيه : أنه قابل للتقييد بقيد لا يكون ـ بما هو ـ ضروريا للإنسان ، وليس كنفس
الانسان كي يكون محفوظا في جميع المراتب حتى يكون حمله غلطا ؛ للزوم حمل الأخصّ
مفهوما على الأعمّ ، بل مفهومه حينئذ أعمّ مفهوما من الموضوع.
نعم انحلال القضية
إلى ضرورية وممكنة ـ من باب انحلال الخبر إلى خبرين ـ جار بناء على إرادة مفهوم
الشيء ، وإن كان ظاهر كلام صاحب الفصول هو الشق الثالث .
١٢٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لزوم أخذ النوع
في الفصل ... الخ ) .
ليس المراد من
النوع هو النوع العقلي ؛ كي يقال : إن الإنسان الموجود بوجود أفراده ليس نوعا ، بل
المراد هو النوع الطبيعي ، وهو معروض النوعية ، والإنسان ـ بما هو ـ كما أنه كلّي
طبيعي ، كذلك نوع طبيعي ، كما أن الناطق ـ الموجود بوجود المصاديق ـ فصل طبيعي ،
فيلزم من أخذ الانسان في الناطق دخول النوع الطبيعي في الفصل الطبيعي ، بل لو لم
يكن الناطق فصلا ـ وكان
__________________
لازما له ـ كان
الإيراد واردا ؛ إذ لا يعقل دخول النوع في لازم فصله.
والتحقيق : أن النطق ـ وهو إدراك الكليات ـ ليس لازما لماهيّة
الإنسان ، بل لهويّة النفس الإنسانية ، فيلزم دخول الشيء في لازم وجوده.
ومن الواضح أنّ
الشيء لا يتأخّر ـ بالوجود ـ عن وجود نفسه ، إلا أن يقال ـ كما أشرنا إليه في بعض
الحواشي المتقدّمة ـ :
إن الناطق ما له
نفس ناطقة ، والفصل الحقيقي مبدأ هذا العنوان ، فدخول الانسان في هذا العنوان لا
يستلزم الدخول في الفصل الحقيقي ، وكذا لو قلنا : بأن الناطق لازم الفصل ، فإنّ
اللازم الحقيقي مبدؤه ، لا المعنى الاشتقاقي ، والاشتقاق لتصحيح الحمل في مقام
التعريف ، فلا يلزم دخول النوع في لازمه ، ولا في لازم وجوده.
١٣٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( إرشاد : لا يخفى
أنّ البساطة بحسب
المفهوم وحدته إدراكا ... الخ ) .
البساطة : إما لحاظيّة ، وإما حقيقية. أما البساطة اللحاظية :
فالمراد منها كون المعنى واحدا إدراكا ، وفاردا تصورا ، بحيث لا ينطبع في مرآة
الذهن إلا صورة علمية واحدة ، سواء كان ذو الصورة ـ وهو ذات ما تمثّل في الذهن ـ بسيطا
في الخارج كالأعراض ، أو مركّبا حقيقيّا كالإنسان ونحوه من الأنواع المركبة ،
__________________
__________________
أو مركّبا
اعتباريا ، سواء كان الافتقار ثابتا لأحد الجزءين إلى الآخر كالمركّب من العرض
وموضوعه ، أو لم يكن افتقار أصلا ، كالدار المركّبة من الجدران والسقف ونحوهما ،
فمناط البساطة اللحاظية وحدة الصورة الإدراكية ، سواء امكن تحليلها ـ عند العقل ـ إلى
معان متعدّدة تحليلا مطابقا للخارج كما في المركّبات مطلقا ، أو تحليلا مطابقا
للواقع ونفس الأمر ـ دون الخارج ـ كالبسائط الخارجية ، فإنّ اللونية ليست كالجسمية
ليتوارد عليها الصور ؛ كي يكون التحليل مطابقا للخارج ، بل اللونية حيث إنها تنتزع
عن البياض والسواد واقعا ، فلها نحو ثبوت واقعا ، وإن لم يكن [ لها ] ثبوت بحيث
تتوارد عليها الصور.
وإلى ما ذكرنا من
البساطة اللحاظية والتركيب اللحاظي يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان بين الحد
والمحدود ، فإنّ ذات الإنسان ـ مثلا ـ والحيوان الناطق ـ مثلا ـ واحدة ، لكن هذا
الواحد ـ بالمفهوم والحقيقة ـ ملحوظ على جهة الجمع ـ وانطواء المعاني المتكثّرة ـ في
الإنسان ، وعلى جهة الفرق ـ وتفصيل المعاني المنطوية ـ في الحيوان الناطق ، وإلاّ
لم يكن الحدّ حدّا لذلك المحدود ، ولما حمل الحدّ على المحدود حملا أوّليا ذاتيا ،
كما هو واضح.
ومما ذكرنا يظهر
أن تحليل المعاني الاشتقاقية في الأوصاف إلى ما اشتهر بينهم ـ من أن المشتقّ ما
ثبت له مبدأ الاشتقاق ، أو شيء له المشتقّ منه ـ غير ضائر بالبساطة اللحاظية ، بل
غير ضائر بالبساطة الحقيقية ، كما سيجيء إن شاء الله
تعالى.
فاذا عرفت ذلك
تعرف أن الاستدلال لمثل هذه البساطة اللحاظية بما استدلّ به المحقق الشريف ـ أو
بغير ذلك مما استدل به في إخراج الذات عن المشتقات ـ غير وجيه ؛ لأن البساطة
اللحاظية تجتمع مع تركب المفهوم حقيقة أو اعتبارا ، كما عرفت آنفا ، بل البساطة
اللحاظية في كل مدلول ومفهوم للفظ واحد ،
__________________
مما لا يكاد يشك
فيها ذو مسكة ؛ إذ البداهة قاضية بأن اللفظ وجود لفظي بتمامه لمفهومه ومعناه ـ لا
أنه وجود لفظي لكلّ جزء من اجزاء معناه بتمامه ـ وكون اللفظ وجودا لفظيا لمعنى
تركيبيّ ، لا يكون إلا مع جهة وحدة ، فلا محالة لا ينتقل إلى المعنى التركيبي إلاّ
بانتقال واحد ، كما هو المحسوس بالوجدان في الانتقال إلى معنى الدار المؤلّفة من
البيوت والسقف والجدران.
فاتّضح : أنّ البساطة اللحاظية مما لم يقع لأحد فيها شكّ وريب ،
إنما الكلام في البساطة الحقيقية من وجهين :
أحدهما ـ ما هو
المعروف الذي استدل له الشريف ، وهي البساطة من حيث خروج الذات عن المشتقات
وتمحّضها في المبدأ والنسبة.
ثانيهما ـ ما
ادعاه المحقّق الدواني : من خروج النسبة ـ كالذات ـ عن المشتقات ، وتمحضها في
المبدأ فقط ، وأن الفرق بين مدلول لفظ المشتقّ ومدلول لفظ المبدأ بالاعتبار.
__________________
والكلام في الثاني
سيجيء إن شاء الله تعالى ـ وسنحقّق فيه ما عندنا في محلّه.
إنما الكلام في
الأول ، وقد عرفت ما يتعلّق بما استدلّ به المحقّق الشريف من النقض والابرام.
وتحقيق الحق في
المقام والمحاكمة بين الاعلام : يقضي باعتبار أمر مبهم مقوّم لعنوانية العنوان
لمكان الوجدان والبرهان :
أما
الوجدان : فبانا لا نشك
عند سماع لفظ القائم في تمثل صورة مبهمة متلبسة بالقيام ، وهي تفصيل المعنى
الوحداني المتمثل في الذهن ، ووحدانيته في الذهن على حدّ وحدانيته في الخارج ،
فكأن الصورة الخاصة الخارجية انطبعت في مرآة الذهن.
وأما
البرهان : فبأن المبدأ
حيث إنه مغاير لذي المبدأ ، فلا يصح الحكم باتحاده معه في الوجود ، وان اعتبر فيه
ألف اعتبار ؛ إذ جميع هذه الاعتبارات لا توجب انقلاب حقيقة المبدأ عما هي عليه من
المباينة والمغايرة ، وليست المغايرة
__________________
بمجرّد الاعتبار ؛
كي ينتفي باعتبار طار.
وسيأتي لهذا مزيد
بيان إن شاء الله تعالى.
ومن المعلوم أن
نسبة الواجدية ـ ما لم يعتبر في طرفها الأمر المبهم المقوّم للعنوان ـ لم يصحّ حمل
نفسها على ما يقوم به المبدأ ، والمجموع من المبدأ والنسبة كذلك أيضا ، فلا مناص
من الالتزام بوضع هيئة ( ضارب ) و ( كاتب ) ونحوهما ـ بمرآتية الجامع الانتزاعي ـ للعنوان
البسيط المأخوذ من الموادّ التي وضعت للمبادي ، بحيث لو أردنا شرح ذلك العنوان
قلنا : إنها الصورة المتلبّسة بالضرب أو الكتابة ، فإنها القابلة للحكم بالاتحاد
وجودا مع الموضوع. فمفاد ( زيد قائم ) أنّ وجود الصورة الذاتية لزيد وجود للصورة
المنتزعة منه بالعرض ، فهذا الوجود الواحد وجود لصورة زيد المنطبعة في الذهن
بالذات ، ووجود لصورة متلبّسة بالقيام بالعرض. وأما أن هذه الخصوصية المقوّمة
للعنوان جوهر أو عرض أو أمر اعتباري فليست بشيء منها ، بل مبهم من جميع هذه الجهات
، وقابل للاتحاد مع الجواهر والأعراض وغيرهما ، بل هو مبهم من حيث إنها عين المبدأ
في الخارج. فالوجود موجود لهذا الوجه ، والبياض أبيض لهذا الوجه ؛ حيث لم يعتبر
فيها أن لا يكون عين المبدأ خارجا.
ومن جميع ما ذكرنا
اتضح : أن القول بعدم أخذ الذات ـ عموما أو خصوصا ـ في المشتقات لا ينافي ما ذكرنا
هنا ؛ حيث إن الأمر المبهم ـ المأخوذ لمجرد تقوّم العنوان ـ ليس من مفهوم الذات ،
ولا من المفاهيم الخاصة المندرجة تحتها في شيء ، بل مبهم من جميع هذه الجهات
والخصوصيات المميزة ، واعتبار هذا الأمر المبهم لا ينافي البساطة العنوانية ،
بمعنى تمثّل صورة وحدانية في الذهن على حد الوحدانية في الخارج. فالمشتقّ ـ بحسب
وجوده الجمعي ـ بسيط بهذا المعنى من البساطة ، وبحسب وجوده الفرقي التفصيلي ما له
مبدأ الاشتقاق.
وتفاوت الأوصاف
العنوانية مع سائر المشتقات في هذه الجهة ، لا دليل على عدمه ، بل الوجدان
والبرهان على ثبوته. ولا ينافي تعدد الوضع أيضا ؛ إذ المادّة موضوعة لنفس المبدأ ،
والهيئة ـ بمرآتية الجامع الانتزاعي ـ موضوعة لذلك المعنى الوحداني المناسب
لمادّتها.
وحاصل الوضعين :
أن الضارب مثلا وجود لفظي لمعنى وحداني ، مطابقة المتلبس بالضرب خارجا على نحو
الجمع والوحدة ، لا للذات والحدث والربط. فتدبّر في المقام ، فإنه من مزالّ
الأقدام.
١٣١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بين
المشتقّ ومبدئه مفهوما أنه بمفهومه ... الخ ) .
المحكيّ
عن العلاّمة الدواني : أنه لا
فرق بين المشتقّ ومبدئه الحقيقي دون مبدئه المشهوري ـ وهو المصدر ـ إلاّ بالاعتبار
، وقد صرّح بخروج الذات والنسبة معا عن مداليل المشتقّات ، فإنه قال ـ في تعليقاته
على شرح التجريد للقوشجي في مقام الردّ على من زعم أن الأجزاء المحمولة لا تكون
مفهومات المشتقّات لاشتمالها على النسبة ما لفظه ـ :
(
التحقيق : أنّ معنى
المشتقّ لا يشتمل على النسبة بالحقيقة ، فإن معنى الأبيض والأسود ونظائرهما ما
يعبر عنه في الفارسية بـ ( سفيد وسياه ) وأمثالهما ، ولا مدخل في مفهومهما للموصوف
لا عامّا ولا خاصا ؛ إذ لو دخل في مفهوم
__________________
الأبيض الشيء كان
معنى قولنا : ( الثوب الأبيض ) ( الثوب الشيء الأبيض ) ، ولو دخل فيه الثوب بخصوصه
كان معناه ( الثوب الثوب الأبيض ) ، وكلاهما معلوما الانتفاء ، بل معنى المشتقّ هو المعنى الناعت وحده ، ثم العقل يحكم ـ بديهة
أو بالبرهان ـ أن بعضا من تلك المعاني لا يوجد إلا بأن يكون ناعتا لحقيقة اخرى
مقارنا لها شائعا فيها ـ لا كجزئها ـ وتسميتها بالعرض ، وبعضها ليس كذلك ، ولو لا
تلك الخصوصية لم يلزم أن يكون هناك شيء هو أبيض أو أسود ، ـ إلى أن قال ـ : ومن
هنا يظهر أن الأعراض هي المشتقات وما في حكمها ، كما سبق التلويح إليه ، ولذا أمكن
النزاع بعد تصور بعضها بالكنه في عرضيته ، كما وقع لهم في الألوان ، فإنّ كنهها
عندهم بديهي ، ومع ذلك نازع العقلاء في عرضيتها ، ولو كان حقيقتها مبادي الاشتقاق
لم يتصور النزاع ، فإن العاقل لا يشكّ في أن التكمّم والتلون ـ بالمعنى الذي أخذوه ـ ليسا جوهرين قائمين بذاتهما ... الخ ).
وهذا الكلام صريح
في أن مبادئ الاشتقاق عندهم هي المعاني المصدرية ، وحيث لا واسطة بين المشتقّ
ومبدئه ، فلذا قالوا : الأعراض هي المشتقّات ، فهو قائل باتحاد المشتقّات مع
مبادئها الحقيقية ، دون مباديها المشهورية ـ أعني المعاني المصدرية ـ بمعنى اتحاد
المشتقّات مع العلم بمعنى الصورة ـ مثلا ـ والضرب
__________________
بمعنى الحركة
الخاصة ، مع خلوهما عن جميع انحاء النسب حتى النسبة الناقصة المصدرية ، كيف؟ وهو
بصدد إخراج النسبة عن مفهوم المشتق ، فنسبة اتحاد المشتقّ مع المصدر إليه ـ كما هو
ظاهر الفصول وغيره ـ لا وجه لها.
ومنه يظهر ما في
كلام المحقّق ـ الدواني ـ أيضا ـ حيث زعم عدم الواسطة بين المشتقات والمصادر ،
فحكم بأن نزاع القوم في عرضية الألوان كاشف عن أن الأعراض هي المشتقات ، مع أنك خبير بأن ملاحظة ذات العرض غير ملاحظته بما هو عرض ، فلا يكشف
النزاع في العرضية عن كون الأعراض هي المشتقات.
نعم ، نقل عنه بعض
المحققين وجهين آخرين :
أحدهما ـ أنا إذا
رأينا شيئا أبيض ، فالمرئيّ بالذات هو البياض ، ونحن نعلم بالضرورة أنّا ـ قبل
ملاحظة أن البياض عرض ، والعرض لا يوجد قائما بنفسه ـ نحكم بأنه بياض وأبيض ، ولو
لا الاتحاد بالذات بين الأبيض والبياض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة ، ولم
يجوّز قبل ملاحظة هذه المقدّمات كونه أبيض ، لكن الأمر خلاف ذلك.
وحاصل
الوجه الآخر : أن المعلّم الأوّل ومترجمي كلامه عبروا عن
__________________
المقولات
بالمشتقّات ، ومثلوا لها بها ، فعبّروا عن الكيف بالمتكيف ، ومثلوا له بالحارّ
والبارد ، ولو لا الاتحاد لم يصحّ ذلك.
هذا ، وهذان
الوجهان ـ أيضا ـ ظاهران في دعوى الاتحاد بين مفاهيم المشتقّات ومبادئها الحقيقية
ـ دون المشهورية ـ بل حاصلهما : دعوى الاتحاد بين خصوص العرض والعرضي ، لا كل
مشتقّ ومبدئه الحقيقي ، وإن كان ظاهر كلامه المتقدم هو الإطلاق ، كما يشهد له كونه
هناك في مقام الردّ على من زعم أن مفاهيم المشتقات ـ لاشتمالها على النسبة ـ لا
تكون أجزاء محمولة.
وبالجملة : غرض المحقق المزبور خروج النسبة إلى الموضوع عن مفهوم
المشتقّ ؛ بملاحظة أنّا إذا لاحظنا حقيقة البياض ، فهذا الملحوظ ـ بما هو بياض ،
وبما هو قائم بذاته ـ أبيض.
ولذا قال بهمنيار ـ تلميذ الشيخ الرئيس ـ : إن الحرارة لو كانت قائمة بذاتها ، لكانت حرارة
وحارة ، وبهذا الاعتبار تكون الحقيقة العينية ـ التي حيثيّة ذاتها حيثيّة طرد
العدم ـ وجودا وموجودا.
__________________
فاذا كانت حقيقة
البياض ـ الملحوظة بما هي قائمة بذاتها ـ أبيض ـ مع قطع النظر عن موضوعها ـ فلا
محالة لا دخل للنسبة في مفهوم الأبيض ، وإلاّ كان موقوفا على ملاحظة موضوعها
وقيامها به ، وهذا معنى بساطة المشتقّ بساطة حقيقية ، وكون الفرق بينه وبين مبدئه
الحقيقي باعتباري بشرط لا ولا بشرط ، فإن المراد من ملاحظته ( بشرط لا ) ملاحظته
باستقلاله ، وبما هو شيء على حياله ، ومن ملاحظته ( لا بشرط ) إلغاء كونه كذلك ،
وهو عين ملاحظته بما هو قائم بذاته.
ولكن لا يخفى عليك
أن غاية ما أفاده المحقق المزبور : اتحاد الأبيض الحقيقي والبياض ـ دون الأبيض
المشهوري ـ إذ من الواضح أن الابيض بالمعنى الذي تصوره المحقق لا يصدق على العاج ،
فإنهما موجودان متباينان ، فلم يثبت اتحاد المشتقّ ومبدئه مطلقا ، ولا العرض
والعرضي مطلقا.
نعم ، هنا وجه آخر
لتتميم الأمر وتسريته إلى الأبيض المشهوري ـ أيضا ـ وهو ما أفاده بعض المحققين ، وملخصه : أن نفس حقيقة البياض وغيرها من الأعراض تارة تلاحظ بما هي ، وأنها
موجودة في قبال موضوعها ، فهي بهذا
__________________
اللحاظ بياض ، ولا
يحمل على موضوعه. كيف؟ وقد لوحظ فيه المباينة مع موضوعه ، والحمل هو الاتحاد في
الوجود ، واخرى تلاحظ بما هي ظهور موضوعها ، وكونها مرتبة من وجود موضوعها ، وطورا
لوجوده ، وشأنا من شئونه ، وظهور الشيء ـ وطوره وشأنه ـ لا يباينه ، فيصحّ حملها
عليه ؛ إذ المفروض أن هذه المرتبة مرتبة من وجود الموضوع ، والحمل هو الاتحاد في
الوجود.
ولا يذهب عليك أن هذه الاعتبارات مصحّحة للحمل ، لا أنها جزء المحمول ليقال : إن المفهوم ـ حينئذ
ـ مركب لا بسيط ، وهل هي إلا كاعتبار الإجمال والتفصيل في حمل الحد على المحدود ،
فإنه مصحّح التغاير المعتبر في الحمل لا جزء مفهوم المحمول ، وما نحن فيه مصحح
الاتحاد المعتبر في الحمل ، وبهذا الوجه الذي صححنا به الحمل يمكن الجواب عما في
الفصول : من أن العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات ، وإن
اعتبرا لا بشرط ، حيث عرفت أن ملاحظتهما من أطوار الذات يصحح الحمل ؛ لأن طور
الشيء بما هو طوره لا يباينه ؛ لأنه نحو من أنحاء وجوده.
وأما ما أفاده
استاذنا العلامة ـ أدام الله أيامه ـ في المتن ـ من أن الفرق
بين المشتقّ ومبدئه أنه بمفهومه لا يأبى عن الجري والحمل ، بخلاف المبدأ فإنه يأبى
عنه ، وأنه إلى ذلك يرجع ما أفاده أهل المعقول من الفرق بينهما بلا شرط وبشرط لا ،
لا حفظ مفهوم واحد ، وملاحظة الطوارئ ـ فهو ، وإن كان صحيحا
__________________
في نفسه إنهما
كذلك ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ إلاّ أن إرجاع كلمات أهل المعقول إلى
ذلك لعلّه لحسن ظنّه بهم ، وإلاّ فكلماتهم صريحة فيما ذكرنا ، ويكفيك شاهدا عليه
ما ذكره بعض الأكابر في شواهده حيث قال : ( مفهوم المشتق عند جمهور علماء الكلام متحصل من
الذات والصفة والنسبة ، وعند بعض المحققين هو عين الصفة
لاتحاد العرض والعرضي عنده بالذات. والفرق بكون الصفة عرضا ـ غير محمول ـ إذا اخذ
في العقل بشرط لا شيء ، وعرضيا محمولا إذا اخذ لا بشرط ... ) إلى آخره.
ومن الغريب ما عن
بعض المدقّقين من المعاصرين حيث ذكر في بيان من جعل الفرق بينهما بالاعتبار ما محصله :
أن الحدث : قد
يلاحظ بنفسه ـ مع قطع النظر عن النسبة الآتية من قبل الهيئات ـ وهو بهذا الاعتبار
غير الذات وجودا ، فلا يحمل عليها. وقد يلاحظ في ضمن إحدى الهيئات من المشتقّات ،
وحينئذ يمكن الحمل إذا انتزع من الحدث مع النسبة عنوان مساو للذات ، فالمراد من (
لا بشرط ) و ( بشرط لا ) ملاحظة النسبة وعدمها.
وهو غفلة عن حقيقة
الأمر ، لما سمعت من أن العلاّمة الدّواني ينادي بخروج النسبة عن المشتقات ، مضافا
إلى أن القوم يقولون : بأن نفس الاعتبار اللابشرطي يصحح الحمل ، لا أنه مورد لانتزاع
عنوان مساو للذات يصحّ حمله عليها.
__________________
هذا ، والإنصاف أن
هذا الوجه الذي صححنا به الحمل ـ مع أنه لا يجري في جميع المشتقات ـ لا يكاد يجدي
في أنظار أهل النظر ، وإن كان كلاما مشهوريا ؛ إذ الاعتبار لا يجعل المتغايرين في
الوجود متّحدين فيه واقعا. والحمل هو الاتّحاد في الوجود بحيث ينسب ذلك
الوجود إلى كلّ منهما إما بالذات أو بالعرض في الطرفين أو في طرف واحد.
ومن الواضح أن طور
الشيء ليس نفس الشيء ، فلا وجه لدعوى أنه الشيء ، فملاحظة العرض من أطوار موضوعه لا تصحّح دعوى أن وجوده وجود موضوعه ، وإن كان وجوده في نفسه وجوده لموضوعه.
ومن الواضح ـ أيضا
ـ أن تعدّد العرض وموضوعه ليس بالاعتبار كي ينتفي بطروّ اعتبار آخر. فتدبّر جيدا.
فإن
قلت : فما وجه حمل
الجنس على الفصل ، والفصل على الجنس ، مع أن طبيعة الجنس في الخارج غير طبيعة
الفصل؟ وهل المصحّح إلاّ الاعتبار اللابشرطي؟
قلت : التحقيق فيه كما عن بعض الأكابر أنّ التركيب بينهما في المركّبات الحقيقية اتّحادي لا انضمامي ، بيانه على
وجه الاجمال :
أن المركبات
الحقيقية لا بد لها من جهة وحدة حقيقية ؛ بداهة أنه لولاها لكان التركب اعتباريا ،
والوحدة الحقيقية لا تكون إلا إذا كان أحد الجزءين بنحو
__________________
القوة والإبهام ،
والآخر بنحو الفعلية والتحصّل ؛ ضرورة أن كل فعلية ـ بما هي فعلية ـ فهي تأبى عن
فعلية اخرى.
وإذا كان أحد
الجزءين عين الفعلية ، والآخر عين القوة ، فلا محالة يكونان مجعولين بجعل واحد ،
وإلاّ لزم الخلف ؛ إذ الاستقلال في الجعل ينافي الوحدة الحقيقية.
ومن الواضح أنّ
كلّ مجعولين بجعل واحد لا بدّ من أن يكون أحدهما مجعولا بالذات والآخر بالعرض ؛
حتى يصح نسبة الجعل إليهما مع وحدة الجعل حقيقة ، وحينئذ لا بدّ من مرور فيض
الوجود من الأصل إلى التابع ، كالصورة بالنسبة إلى المادة ، وكالفصل بالنسبة إلى
الجنس ، فاذا لوحظ مبدأ الجنس الطبيعي ـ مثلا ـ بما له من الدرجة الخاصّة من
الوجود الساري ، لم يحمل على الفصل ؛ لتباين الدرجتين بما هما درجتان ، وإذا الغي
الخصوصية ، ولوحظ اتحادهما في الوجود الساري ، صحّ الحمل ، وهذا معنى اتحاد الجنس
والمادة واتحاد الفصل والصورة بالذات واختلافهما بالاعتبار. فتبين الفرق بين الجنس
والفصل ، وبين العرض وموضوعه ؛ حيث إن التركيب بين الأوّلين حقيقيّ اتحادي ، وبين
الأخيرين اعتباري لعدم الافتقار من الطرفين ، ولعدم اتحادهما في الوجود ، ومع
المغايرة الحقيقية بينهما ، لا يمكن حمل أحدهما على الآخر بأيّ اعتبار كان.
نعم بناء على
اتحاد الأعراض مع موضوعاتها في الوجود كما عن بعض أهل التحقيق .
__________________
ـ بل يستفاد من
بعض الأكابر ـ في مسألة إثبات الحركة الجوهرية ـ من أنّ التبدّل في
الأعراض تبدّل في موضوعاتها ، ولو لا الاتحاد لما صحّ ذلك ـ يصحّ حمل العرض على
موضوعه.
والمراد من
الاتحاد نظير اتحاد الجنس والفصل ، وهو أن إفاضة الوجود تتعلّق ـ أوّلا وبالذات ـ بالموضوع
وبعرضه ثانيا ، كما أن الوجود أوّلا للصورة بما هي صورة ، وثانيا للمادة بما هي
مادّة ، ولهذا الاتحاد في الوجود الساري في الموضعين يصحّ الحمل إذا اخذا لا بشرط
، لا إذا اخذا بحسب مرتبة من الوجود ودرجة من التحصّل ، ولا نعني بالحمل إلا
الاتحاد في الوجود فقط ، وعلى هذا المعنى ـ من اللابشرط وبشرط لا ـ لا بدّ من أن
يحمل ما يوجد في كلمات أهل النظر ، لا على الوجه المشتهر. فافهم وتدبّر.
تتمة :
كل ما ذكرنا إنما
يصحّح حمل العرض على موضوعه واتحاد العرض والعرضي بحسب الواقع ، لا أنّ مفهوم
الأبيض عرفا نفس حقيقة البياض المأخوذة لا بشرط ؛ إذ صحة الحمل لا ربط لها
بالعينية والاتحاد من حيث المفهوم في الأبيض والبياض.
وغرض العلامة
الدواني ـ كما هو صريح كلامه ـ والنافع للاصولي عينية
__________________
المفهومين ذاتا ،
ولا دليل عليها.
ومما يرشد إلى ما
ذكرنا ما عن بعض المحققين : أن المشتقّ عند الإلهيّين كلّ ما يحمل على غيره بالتواطؤ
من دون اشتقاق لغوي ولا إضافة كلمة ذي ، والمبدأ ما ثبت به مفهوم المحمول للموضوع.
ولا يخفى أن مثل
هذا المشتق يصدق على حقيقة البياض المأخوذ لا بشرط ، فلا مانع من دعوى الاتحاد بين
هذا المشتق ومبدئه ، لا المشتقّات اللغوية والعرفية ومباديها الحقيقية. فتدبّر في
أطراف ما ذكرنا في المقام ، فإنه حقيق بالتدبّر التام.
١٣٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما يظهر منه من بيان الفرق بين الجنس والفصل ، وبين المادّة والصورة
... الخ ) .
لعل نظره السامي ـ
دام ظلّه ـ إلى ما تكرّر في كلماتهم : من أن الأجزاء الخارجية في المركّبات
الحقيقية إذا لوحظت بشرط لا ـ وبما هي أجزاء متغايرة ـ يعبر عنها بالبدن والنفس ـ مثلا
ـ ، ومثلهما لا يحملان على الإنسان ، ولا يقعان في حده ، وإذا لوحظت لا بشرط ـ وبما
هي موجودة بوجود واحد ـ يعبّر عنها بالحيوان والناطق ، وهما يحملان على الانسان ،
ويقعان في حده. فالاولى أجزاء غير محمولة ، بخلاف الثانية ، فمرجع الاعتبار
اللابشرطي والبشرطلائي إلى ملاحظة حقيقة واحدة ؛ بحيث ينتزع عنها مفهومان غير
قابلين للحمل ، أو مفهومان قابلان للحمل ، فكذا الأمر في العرض والعرضي.
لكنك بعد الإحاطة
بما تلوناه عليك في الحاشية السابقة لا تكاد تشك في أن غرض المحقّق الدواني ـ المنسوب
إليه عدم الفرق بين المشتقّ ومبدئه إلاّ
__________________
بالاعتبار ـ ما
ذكرناه وما فهمه صاحب الفصول .
مع أن غرض القوم
من الاعتبارين ـ أيضا ـ هو الاعتبار الوارد على أمر واحد ، لكن لا نظر لهم إلى
اتحاد الجنس والمادة والفصل والصورة مفهوما ـ كما يراه الدواني في العرض والعرضي ـ
بل إلى وحدة المطابق ذاتا ، واختلافهما بالاعتبار المصحّح للمادّيّة والجنسية أو
الصورية والفصلية ، كما أشرنا إليه في آخر الحاشية السابقة.
١٣٣
ـ قوله [ قدّس سره ] : ( ملاك الحمل كما
أشرنا إليه هو الهوهوية والاتحاد ... الخ ) .
ملاك الحمل الذاتي
هو الهوهوية بالذات والحقيقة ، والمغايرة بالاعتبار الموافق للواقع ـ لا بالفرض ـ كما
سمعت غير مرة ، وملاك الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود والمغايرة بالمفهوم ، فلا
بد فيه من وجود واحد ينسب إلى صورتين معقولتين ـ بالذات أو بالعرض ـ في الطرفين أو
في طرف واحد. وعليه فلا يعقل حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر بنحو من
أنحاء الحمل.
وزعم في الفصول إمكان حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر بما محصله :
ملاحظة كل من
الجزءين لا بشرط حتى لا يتأبّيا عن اعتبار الوحدة
__________________
بينهما ،
وملاحظتهما من حيث المجموع واحدا كي يتحقق هناك وحدة مصحّحة للحمل ، وملاحظة الحمل
بالإضافة إلى المجموع من حيث الهيئة الاجتماعية ، حتى يكون الحمل بالإضافة إلى
المتحدين في الوجود بنحو من الاعتبار.
وفيه : كما أن اللابشرطية لا تصحّح حمل أحد المتغايرين في
الوجود على الآخر ، كذلك ملاحظتهما من حيث المجموع واحدا واعتبار الحمل بالنسبة
إليه ؛ إذ بناء على هذا لا اتحاد لأحد الجزءين مع الآخر في الوجود ، كما لا اتحاد
لأحدهما مع الكلّ ، بل الوحدة في الحقيقة وصف اللحاظ والاعتبار ، فلا يصحّ أن يقال
: هذا ذاك ، بل هذا ذاك في اللحاظ والاعتبار الذي مرجعه إلى أنه يجمعهما لحاظ واحد
لا وجود واحد ، والحمل هو اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود ، لا الجمع في لحاظ
واحد.
والعجب أنه (رحمه
الله) زعم أن حمل الناطق على الحيوان أو الانسان بهذه الملاحظة ، مع أن بعض
الأكابر جعل صحة الحمل فيه دليلا على التركيب الاتحادي.
لا
يقال : إذا كان الناطق
عبارة عن النفس الناطقة ، صح القول بأن الاعتبار اللابشرطي غير مصحّح للحمل ، وأن
صحّة الحمل دليل على التركيب الاتحادي. وأما إذا كان عنوانا منتزعا عن الذات ـ ولو
بمعنى ما له نفس ناطقة ـ فلا ، فإنّ هذا المعنى ينتزع من الإنسان لكونه واجدا
للنفس ، كما ينتزع عنوان الضارب لكونه متلبسا بالضرب.
لأنا
نقول : المنتزع عنه لو
لم يكن له جهة وحدة ، لم يصحّ الانتزاع عن مرتبة الذات والذاتيات ؛ إذ مجموع النفس
والبدن غير واجد للنفس.
وأما حمل أحد
الجزءين على الآخر بملاحظة العنوان المنتزع من كلّ منهما
__________________
بسبب قيام كل
منهما بالآخر ، لا بلحاظ اتحاد كل منهما مع الآخر ، فهو أيضا غير صحيح ؛ لأن قيام
النفس الناطقة بالبدن يصحح انتزاع الناطق من البدن ، وقيام البدن بالنفس الناطقة
يصحح انتزاع عنوان الحيوان من النفس الناطقة ، وكما أن المبدأين متغايران وجودا ،
كذلك المنشئان متغايران وجودا ، فلا يصح حمل الناطق على الحيوان لعدم اتحاد مطابقهما في الوجود ، مع أنه لا شبهة في صحة الحمل ، وليس الوجه
فيها إلا انتزاع كلّ من العنوانين من هويّة واحدة تسمّى بالانسان.
وأما عدم صحة حمل
الناطق على البدن ـ مع قيام الصورة بالمادة وبالعكس ـ فالوجه فيه : أنه ـ بعد عدم
الالتزام باتّحادهما في الوجود ـ ليس الناطق عنوان الفصل الطبيعي ؛ ليكون حمله على
البدن من باب حمل الفصل على الجنس ، وكذا العكس ، مع أنه لا قيام للمادّة والجنس
بالصورة والفصل إلا من باب قيام المعلول بالعلة ، وليس وجود المعلول نعتا للعلة ،
ولا وجود العلة ناعتا للمعلول ، فلا يحمل المعلول على علته ، وكذا العلة على
معلولها ، كما لا يحمل العنوان الذي كان مبدؤه ذات المعلول أو ذات العلة ، فتدبّره
، فإنه دقيق.
فلا بدّ من جهة
وحدة حقيقية بين مبادي الذاتيات ؛ حتى يصحّ حمل أحدها على الآخر ، أو على ذيها ،
والاعتبار اللابشرطي والبشرطلائي بعد الالتزام بالوحدة الحقيقية ؛ لما أشرنا إليه
في الحواشي المتقدّمة. فراجع .
وأعجب منه أنه (قدس
سره) زعم أن التغاير بين الناطق والحساس
__________________
اعتباري ، كما في (
هذا زيد ) ، مع أن التغاير في المثالين مفهومي ، وهو المعتبر في مرحلة الحمل
الشائع.
١٣٤
ـ قوله [ قدّس سره ] : ( لاستلزامه
المغايرة بالجزئية ... الخ ) .
هذا لو اريد حمل
أحد الجزءين على الآخر الملحوظ معه غيره ، وأما إذا كان الموضوع نفس الجزء ،
والغرض دعوى اتحادهما في الكلّ الملحوظ شيئا واحدا ـ نظير ما يقال : ( زيد وعمر
وواحد في الإنسانية ) ـ فلا مغايرة بالجزئية والكلية ، بل الكلّ ما به الاتحاد
وملاكه ، لا أنه المحمول عليه دائما ، وهو المراد من لحاظ الحمل بالقياس إلى
المجموع ، وإلا قال : على المجموع ، بل الأمر كذلك إذا حمل الجزء على المجموع أيضا
ـ كما صرح بصحته صاحب الفصول ـ وذلك لأن حمل الجزء على الكلّ إنّما لا يصحّ بلحاظ
الوعاء الذي يكون كل جزء [ منه ] مغايرا للآخر وجودا ، وأما بلحاظ الوعاء الذي فرض اتحادهما
في ذلك النحو من الوجود الاعتباري ، فلا مانع من صحّة الحمل لمكان الاتحاد في
الوجود الاعتباري ، فلا يرد عليه إلاّ ما أوردناه سابقا ، ومحصّله :
أن الاتحاد بلحاظ
وعاء والحمل بلحاظ وعاء آخر غير مفيد ؛ بداهة أنّ مفاد قولنا : ( الانسان حيوان ،
أو ناطق ) أن هذا ذاك في الخارج ، مع أنه لا اتحاد بينهما فيه ، بل في غير موطن
الحمل.
١٣٥
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( مع وضوح عدم
لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا ... الخ ) .
__________________
يمكن
الذبّ عنه : أما في
التحديدات ، فلأن الإشكال والكلام في حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر أو
على المجموع بالحمل الشائع ، والحمل في التحديدات حمل أوّلي ذاتي يصحّ اعتباره في
المركّب من أمرين ، فمرجع قضية ( الإنسان حيوان ناطق ) إلى أن معنى ذاك اللفظ
وحقيقته عين معنى هذين اللفظين وحقيقتهما ، كما إذا صرح بذلك وقال : حقيقة الانسان
مركبة من النفس والبدن مثلا.
وأما في سائر
القضايا ، فليس فيها حمل أحد المتغايرين في الوجود الخارجي على
الآخر ؛ لما عرفت غير مرة أن الضارب ـ مثلا ـ عنوان منتزع عن زيد بلحاظ قيام الضرب
به قيام الفعل بفاعله أو العرض بموضوعه ، وانطباقه على زيد ، وكون وجود زيد وجودا
له بالعرض ، بملاحظة أن معنى الضارب هو الصورة المبهمة المتلبّسة بالضرب ، ومن
الواضح انطباقها على زيد لانطباق الأمر المبهم على ذات زيد ، والربط المأخوذ في
العنوان على تلبس زيد ، والمادة على الضرب القائم به ، بخلاف الناطق بالإضافة إلى
الحيوان أو الى الإنسان ، كما
__________________
__________________
عرفت في الحاشية
السابقة آنفا فلا نقض لا بالتحديدات ، ولا بسائر القضايا الجارية في غير الذاتيات.
فافهم جيّدا.
١٣٦
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتقّ عليه مفهوما ...
الخ ) .
توضيحه : قد مر مرارا أن الحمل مطلقا لا بدّ فيه من مغايرة ما ،
ومن اتحاد ما : فإن كان الحمل أوّليا ذاتيا ، فالمغايرة المعتبرة فيه بالاعتبار ،
والاتحاد المعتبر فيه بالحقيقة والماهية ؛ إذ المفروض أن النظر فيه إلى الذات من
حيث هي ، لا من حيث الوجود الخارجي ، ومع فرض الاتحاد بالذات والحقيقة ، لا يبقى
مجال للمغايرة ، إلا المغايرة الاعتبارية الموافقة للواقع ، لا بفرض الفارض ، كحمل
الحد على المحدود ؛ حيث إن المحدود ملحوظ بنحو الجمع والانطواء والإجمال ، والحدّ
ملحوظ بنحو الفرق والكثرة والتفصيل ، وكحمل أحد المترادفين على الآخر ، فإنّ
المفهوم الواحد بما هو مسمّى هذا اللفظ ، غيره بما هو مسمى ذلك اللفظ ، واعتبار
المسمى ـ كاعتبار الاجمال والتفصيل ـ مصحّح للحمل ، لا مأخوذ في المحمول ، كما
ربما يتوهم.
وإن كان الحمل
حملا شائعا صناعيا ، فالاتحاد المعتبر فيه ـ كما عرفت غير مرة ـ هو الاتحاد في
الوجود ؛ إذ المغايرة في الوجود مخلّة بالحمل الذي حقيقته الهوهوية في الوجود ،
ولا يتصور الوحدة في الوجود مع تغاير الطرفين وجودا ؛ إذ الوحدة رفيق الوجود تدور
معه حيثما دار ، ومع الاتحاد الحقيقي في الوجود لا يبقى مجال للمغايرة المعتبرة في
صحّة الحمل إلا المغايرة المفهومية.
إذا
عرفت ذلك فاعلم : أن المغايرة المعتبرة في المفهوم في الحمل الشائع إنما هي بين الموضوع
والمحمول المحكومين بالاتحاد في الوجود ، والمبدأ ـ بما هو ـ
__________________
أجنبي عن الاتحاد
والمغايرة ، فكما أن الاتحاد في الوجود لا يلاحظ بين المبدأ والذات ، كذلك
المغايرة بين المفهومين لا تلاحظ بين المبدأ والذات ، فالبحث عن لزوم المغايرة
بينهما ـ فضلا عن دعوى الاتفاق على لزوم المغايرة ـ أجنبي عن مقتضيات الحمل ، بل
المغايرة بين المبدأ والموضوع ـ مفهوما ومصداقا ـ أمر اتفاقي ، لا تدور صحة الحمل
مدارها ، فاذا كان الحمل بين الوجود والموجود ، والسواد والاسود ، ونحوهما فلا
مغايرة مفهوما بين الموضوع ومبدأ المحمول مع ثبوت المغايرة المفهومية بين المحمول
والموضوع.
وأما ما عن شيخنا
الاستاذ في فوائده : من أن الموجود : إن حمل على الوجود المفهومي ـ أي المعنى
المصدري ـ فلا يصحّ الحمل ؛ لعدم المغايرة مفهوما بين الموضوع ومبدأ المحمول. وإن
حمل على الوجود العيني الطارد للعدم ، فلا مفهوم في طرف الموضوع ليوافق مبدأ
المحمول ليمنع عن الحمل ، بل المغايرة ثابتة بين العيني ومفهوم المبدأ بالحقيقة.
فما لا يصل إليه
فكري القاصر ؛ لأنّ عدم صحة حمل الموجود على الوجود المفهومي ليس لأجل عدم
المغايرة مفهوما ، بل لعدم الاتحاد مفهوما بين الموضوع ونفس المحمول إن كان الحمل
ذاتيا ، ولعدم الاتحاد وجودا بينهما إن كان الحمل شائعا.
وأما صحة الحمل
على الوجود العيني ، فليست من أجل كون الموضوع هو الوجود العيني ـ بما هو ـ ،
وإلاّ لما انعقدت قضية حملية ، بل بتوسّط مفهوم الوجود الفاني في مطابقه ، فعاد
عدم المغايرة المفهومية بين مفهوم الموضوع ومبدأ المحمول ، فالوجه في صحة الحمل ما
ذكرنا.
وإذا كان الحمل
بين الماهية والموجود ، والجسم والأسود ، كانت المغايرة المفهومية بين الموضوع
ومبدأ المحمول ثابتة قهرا ، إلا أنّ المعتبر من المغايرة غير
__________________
هذه.
وكذلك الأمر في
المغايرة مصداقا بين الموضوع ومبدأ المحمول ، فإنّ المحمول : إن كان منتزعا عن نفس
مرتبة ذات الموضوع ، فلا محالة مبدؤه كذلك ؛ إذ المفروض أنّ وضع ذات الموضوع ـ من
غير ملاحظة أمر خارج عن ذاته ـ كاف في صدق المحمول ، وهذا لا يعقل إلا مع تحقّق
مبدئه في ذات الموضوع ، وإلا لزم توقّف صدق المحمول على قيام مبدئه به خارجا ، وهو
خلف. وبهذا الاعتبار الباري ـ عزّ اسمه ـ عالم وعلم.
وإن كان المحمول
منتزعا عن الموضوع بلحاظ أمر خارج عن مرتبة ذات الموضوع ، كما في ( زيد قائم ) و (
الجسم أبيض ) ، فالمبدأ لا محالة مغاير مع ذي المبدأ مصداقا. هكذا ينبغي تحقيق
المقام.
١٣٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( التحقيق أنه لا
ينبغي أن يرتاب من كان من اولي الألباب في أنه يعتبر في صدق المشتق ... الخ ) .
لا يخفى عليك أن منشأ
صدق المشتقّ وحمله على شيء : إما قيام مبدئه به بقيام انضمامي ، كما في صدق الأسود
على الجسم ، وكما في صدق الكاتب والضارب ، فإنّ مباديها أعراض قائمة بقيام انضمامي
لها صورة في الأعيان بما تجري عليه. أو قيامه به بقيام انتزاعي ، كما في صدق الفوق
على شيء ، فإنّ مبدأه وهي الفوقية لا صورة لها في الاعيان ؛ كي تقوم بشيء على نحو
الانضمام ، بل هي من حيثيات وجود شيء في الخارج ، تنتزع عنه عند ملاحظته بما هو
متحيث بها. أو تقرّر حصة من المبدأ في ذات الموضوع على نحو الجزئية ، كما في تقرّر
حصّة من الإنسانية في ذات زيد المتشخّص بالوجود ولوازمه ؛ حيث إن نسبة الطبيعي إلى
الأفراد كنسبة الآباء ـ لا أب واحد ـ إلى الأولاد. أو اتحاد المبدأ مع الموضوع في
الوجود ، كما في
__________________
حمل الجنس على
الفصل ، وبالعكس ؛ لاتّحاد مبادي الذاتيات في الوجود ، كما هو التحقيق. أو اتحاد
المبدأ مع الموضوع بحيث يكون المبدأ هو نحو وجود الموضوع ، لا كالمثال السابق ،
وهذا كما في ( الإنسان موجود ) ، فإنّ الماهية والوجود متحدان في الوجود ، لكن
الوجود نفس كون الماهية في الخارج. أو عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع عينا ، كما
في صدق الأسود على السواد ، وصدق الموجود على الوجود ؛ إذ لو اتّصف الجسم بواسطة
أمر خارج عن ذاته بالأسود ، فالسواد أولى بأن يصدق عليه الأسود ؛ لأنّ وجدان الشيء
لنفسه ضروري ، وكذلك في الوجود والموجود.
ومن هذا الباب صدق
الصفات الكمالية ، والنعوت الجلالية والجمالية على ذاته الأقدس ـ تعالى وتقدس ـ فان مباديها عين ذاته المقدسة ، وهذا نحو من القيام ، بل هو
أعلى مراتب القيام ، وان لم يصدق عليه القيام في العرف العام ، ولا بأس به لعدم
انحصار مناط الصدق في ما هو قيام في العرف العام ، وتفاوت الموارد في وجه الصدق لا
يوجب تفاوتا في المفهوم كي يقال : إن العرف لا يراعي مثل هذه الامور الدقيقة ، فإن
العرف مرجع تشخيص المفاهيم ، والمفروض عدم اختلافها باختلاف وجه تطبيقها على
مصاديقها ، مثلا : العالم من ينكشف لديه الشيء ، وما به الانكشاف : تارة عرض كما
في علمنا بالامور الخارجة عن ذاتنا ، واخرى جوهر نفساني كما في علمنا بذاتنا ، فإن
مرجعه إلى حضور ذاتنا لذاتنا ، وعدم غيبة ذاتنا عن ذاتنا ، وثالثة جوهر عقلي كما
في علم العقل ، ورابعة وجود واجبي ـ لا جوهر ولا عرض ـ كما في علمه تعالى. وحقيقة
العلم في جميع الموارد نحو من الحضور ، وان كان ما به الحضور في كل مورد غير ما به
الحضور في مورد آخر.
__________________
فدعوى النقل أو
التجوّز في العالم وأشباهه من الأسماء الحسنى والصفات العليا الجارية عليه تعالى ـ
تارة من جهة عدم المغايرة بين المبدأ وذيه ، واخرى من جهة عدم قيام مباديها بذاته
المقدّسة لعينيتها له تعالى ـ كما عن صاحب الفصول ـ وصدقها عليه تعالى بمعنى آخر ـ
دعوى بلا شاهد ، وإحالة إلى المجهول ، بل كما قيل ـ ونعم ما قيل ـ : يؤدي إلى
الالحاد أو التعطيل ، كما اشير إليه في المتن .
وأوهن منه دعوى
مرادفة الصفات ، كما نسب إلى بعض أهل المعقول .
فان
قلت : فكيف ينتزع
مفاهيم متعددة عن مصداق واحد بلا جهة كثرة ، مع أنه كانتزاع مفهوم واحد عن المتعدد
بلا جهة وحدة في الاستحالة ، بل ادّعي أنه من الفطريات ، ولا يعقل تكثّر الجهات
والحيثيات في ذاته الأحدية ـ جلّت ذاته ـ فإنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من
جميع الجهات ، فكما أنه تعالى صرف الوجود ، كذلك صرف العلم وصرف القدرة وهكذا ،
ولذا قال أساطين
__________________
الحكمة : ( وجود
كلّه ، وجوب كله ، علم كله ، قدرة كله ) ، لا أن منه ما
هو علم ، ومنه ما هو قدرة.
قلت : المفاهيم وإن
كانت مثار الكثرة والمغايرة ، إلا أنها قسمان :
منها ـ ما هي
متباينة لا يعقل أن يكون مطابقها واحدا ، كالعلة والمعلول مثلا.
ومنها ـ ما لا
يأبى أن يكون مطابقها واحدا بالوجود ، كالعلم والقدرة ، فإنّ مفهومهما لا يقتضيان
تغاير ما تصدقان عليه ، بل المغايرة إنما تثبت من الخارج ، ففيما كان ذات الشيء
بذاته مطابقا ومصداقا للعلم والقدرة ، ـ لا في مرتبة متأخّرة عن ذاته ـ فلا محالة
تكون موجودة بوجود واحد ، بلا جهة وحيثية زائدة على حيثية الذات. وفيما إذا كان
الذات مصداقا لها في المرتبة المتأخّرة عن ذاتها ، فلا محالة يكون مطابق المبدأ ـ الذي
هو من المفاهيم الثبوتية ـ موجودا آخر غير الذات.
وأما تصور مطابقة
ذات واحدة لمفاهيم متعددة ، ورجوع حقائق صفاته ـ تعالى ـ الى حيثية
ذاته المقدّسة ، فهو وان كان له مقام آخر ، لكنه لا بأس بالإشارة الإجمالية إليه
تحقيقا لما حققناه ، وتثبيتا لما ذكرناه ، فنقول :
__________________
__________________
.............
__________________
...........
__________________
العلم ـ حقيقة ـ حضور شيء لشيء ، حتى في العلم الحصولي ، فإنّ حقيقته حضور الشيء بصورته
المجردة عند النفس.
ومن الواضح
البديهي أن ذاته ـ تعالى ـ حاضرة لذاته غير غائبة عن ذاته ، كما في علم غيره ـ تعالى
ـ بذاته ، والفرق أن علمه ـ تعالى ـ بذاته مناط علمه بمصنوعاته لأنه مبدؤها ،
ومبدأ الكل ينال الكل من ذاته ، لا بصور زائدة على ذاته ، كما في غيره ، ومن
البديهي أن حضور ذاته لذاته ـ الذي هو ملاك حضور مصنوعاته ـ ليس بأمر زائد على
ذاته ، فهو المعلوم بالذات ، وغيره معلوم بالعرض. وإلى هذه المرتبة اشير في قولهم
ـ : ـ : « عالم إذ لا معلوم » .
وهكذا الإرادة ،
فإنّ معناها العامّ هو الابتهاج والرضا ، وصرف الوجود صرف الخير ، والخير هو
الملائم والموجب للابتهاج ، فذاته ـ تعالى ـ بذاته صرف الوجود ، فهو صرف الخير ،
فيكون صرف الرضا وصرف الابتهاج. وكذا في سائر
__________________
__________________
صفاته ، فإنها
راجعة إلى حيثية وجوده الواجبي ـ جلّ ذكره ـ وتمام الكلام في محلّه.
فما أشد سخافة ووهنا
قول من ينفي الصفات بحقائقها ، ويثبت له ـ تعالى ـ آثارها ، ولم يتفطن بأن لازمه
خلوه ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته عن الصفات الكمالية والنعوت الجلالية والجمالية ، مع
أنه ـ بنفس ذاته المقدّسة ـ مبدأ كلّ وجود ، وكلّ كمال وجود ، ومنبع كلّ فيض وجود.
وأما ما عن أمير
المؤمنين وسيد الموحدين ـ عليه وعلى أولاده المعصومين أفضل صلاة المصلين ـ حيث قال
ـ عليه السلام ـ : « وكمال الاخلاص [ له ] نفي الصفات عنه »
:
فقد
يوجّه : بأن المراد نفي
مفاهيمها ، وهذا لا اختصاص له بالواجب ـ جلّ ذكره ـ إذ كل وجود حيثية ذاته حيثية
الإباء عن العدم ، والماهية ـ من حيث هي ـ لا تأبى عن الوجود والعدم ، فلا يتطرق
ما سنخه هكذا إلى ما سنخه كذلك ، وإلا لزم الخلف والانقلاب.
وقد
يوجه : بأن المراد نفي
حقائقها على وجه المباينة مع الذات ، كما في غيره تعالى ، إلا أنه يبعده أنّ نفي تعدّد
الواجب ، وإثبات وحدته أوّل مراتب التوحيد والإخلاص ، فلا يناسب جعله من كمال
الإخلاص.
ولذا ربّما يقوى
في النظر أن المراد هو الإلغاء في مقام المشاهدة ـ لا نفيها حقيقة عن الذات ـ فإنّ
أقصى مراتب شهود السالك المشاهد شهود الذات على وجه التجرّد ، والتنزّه عن شهود
تعيّنات الصفات ، وإن كانت الصفات مشهودة في مقام شهود الذات ، ودون هذه المرتبة
شهود الذات في مقام مشاهدة الصفات.
إلا أن بعد تلك
الفقرة الشريفة ما يعين الوجه الثاني ؛ حيث قال ـ عليه
__________________
السلام ـ : «
لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف » ، فالمراد بكمال الإخلاص هو الكمال الأوّل الذي
ينتفي ذو الكمال بانتفائه ، كما يقال : النفس كمال أول ، ويشهد له قوله ـ عليه
السلام ـ في أوّل الخطبة : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به » .
__________________
المقصد
الأوّل : في الأوامر
في معاني
لفظ الأمر :
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وسيّد رسله محمد وعترته الطاهرين.
١٣٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إنّ عدّ بعضها
من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أنّ عدّ بعضها
من معانيه إنما يدخل تحت عنوان اشتباه المصداق بالمفهوم ، إذا كان اللفظ موضوعا للمصداق من حيث أنه مصداق للمعنى الذي عدّ من معانيه ، مثلا : اللفظ :
تارة يوضع للغرض بالحمل الأولي ، واخرى للغرض بالحمل الشائع.
وأما إذا كان معنى
من المعاني مصداقا لمعنى آخر ، ولم يلاحظ مصداقيته له في وضع لفظ له أصلا ، فليس
من الخلط بين المفهوم والمصداق ، كما هو كذلك في هذه المعاني المنقولة في المتن ؛
حيث لم تلاحظ مصداقية الموضوع له لها قطعا.
مضافا إلى أنّ
الفعل الذي يتعلق به الغرض ـ لما فيه من الفائدة الملاءمة للطبع ـ ليس مصداقا
للغرض ، بل مصداقه تلك الفائدة ، فليس مدخول اللام دائما مصداقا للغرض.
ولعله ـ دام ظله ـ
أشار إليه بقوله : ( فافهم ).
__________________
بل ذكر بعضها في
عداد معانيه غفلة واضحة ، كما في جعل الأمر في قوله تعالى (وَما
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) تارة بمعنى الفعل ، واخرى بمعنى الشأن ؛ حيث إنّ الآية
هكذا : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ * وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ، ولا شك أن الأمر هنا بمعناه المعروف.
وكما في جعل الأمر
في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بمعنى الفعل العجيب ، فإنه لا موهم لمصداقيّته للفعل
العجيب ـ بما هو عجيب ـ فضلا عن الوضع لمفهومه أو لمصداقه ، بل الأمر هنا بمعناه
المعروف ، حيث إن العذاب لمكان تعلق الارادة التكوينية به ، وكونه قضاء حتميا يطلق
عليه الأمر ، كما أنه في جميع موارد انزال العذاب عبر عنه به ، لهذه النكتة ، ولو
مثل لمصداق العجيب بقوله تعال : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عَجِيبٌ * قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) لكان أولى ، مع
أنّ الأمر هنا أيضا بمعناه المعروف لمكان تعلّق الأمر التكويني به ، فهو مصدر
بمعنى المفعول.
١٣٩
ـ قوله [ قدّس سره ] : ( ولا يبعد دعوى
كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ... الخ ) .
كونه حقيقة في
هذين الأمرين ، وإن كان مختار جملة من المحقّقين ، على ما حكي ، إلا أنّ استعمال
الأمر في الشيء مطلقا لا يخلو عن شيء ؛ إذ الشيء يطلق على الأعيان والأفعال ، مع
أن الأمر لا يحسن إطلاقه على العين الخارجية ، فلا يقال : رأيت أمرا عجيبا إذا رأى
فرسا عجيبا ، ولكن يحسن ذلك إذا رأى فعلا عجيبا من الأفعال ، ولم أقف على مورد
يتعين فيه إرادة الشيء ، حتى مثل قوله
__________________
تعالى : ( أَلا
إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) لإمكان إرادة المصنوعات ، فإن الموجودات كلها ـ باعتبار ـ صنعه وفعله تعالى ،
وكذلك قوله تعالى : ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) ، فإنه لا يتعين فيه إرادة كلّ شيء ، بل كلّ ما تعلقت به إرادته التكوينية
والتشريعية.
وبالجملة : النازل على ولّى الأمر ـ في ليلة القدر ـ دفتر قضاء الله
التكويني والتشريعي ، وأوضح من ذلك قوله تعالى : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي ) وقوله تعالى : ( لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ ) ، فإنّ المراد من الأمر معناه المعروف ؛ لأنّ عالم الأمر هو العالم الموجود بلا مادّة ولا مدّة ، بل
بمجرّد توجّه الإرادة التكوينية المعبّر عنها بكلمة كن ، مع أنه لا يستقيم إرادة
الشيء في مثل : أمر فلان مستقيم.
نعم لو كان الشيء
منحصرا مفهوما في المعنى المصدري لـ ( شاء يشاء ) ـ وكان إطلاقه على الأعيان
الخارجية باعتبار أنها مشيئات وجوداتها ، فالمصدر مبني للمفعول ـ لما كان إشكال في
مساوقته مفهوما لمفهوم الأمر ، كما ربما يراه أهل المعقول ، لكن الشيء ـ بهذا
المعنى ـ لم يكن في قبال الطلب حينئذ.
وأما جعل الأمر
بمعنى الفعل ؛ حتى يستقيم في جميع موارد إطلاقه الذي لا يتعين فيه إرادة الطلب ،
حتى في مثل : أمر فلان مستقيم :
فتوضيح
الحال فيه : أن الموضوع له
: إما مفهوم الفعل ـ أي ما هو بالحمل الأولي فعل ـ أو مصداقه وما هو بالحمل الشائع
فعل. لا شبهة في عدم الوضع
__________________
بإزاء مفهومه ،
وإلا لزم مرادفته واشتقاقه بهذا المعنى ؛ حتى يكون معنى ( أمر يأمر ) و ( فعل يفعل
) سواء.
والوضع بإزاء
مصاديقه ـ من الأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها ـ بلا جهة جامعة تكون هي
الموضوع لها حقيقة سخيف جدّا ، والجهة الجامعة بين مصاديق الفعل ـ بما هو فعل ـ ليس
إلا حيثية الفعلية ، فإن المعاني القابلة لورود النسب عليها : تارة من قبيل الصفات
القائمة بشيء ، واخرى من قبيل الأفعال ، ولا فرق بينها من حيث القيام ، وكونها
أعراضا لما قامت به ، وإنما الفرق : أنّ ما كان من قبيل الأفعال قابل لتعلّق
الإرادة به ، دون ما كان من قبيل الصفات ، كالسواد والبياض في الأجسام ، وكالملكات
والأحوال في النفوس ، فيرجع الأمر في الأمر بالأخرة إلى معنى واحد ، وأن إطلاقها
على خصوص الأفعال ـ في قبال الصفات والأعيان ـ باعتبار مورديتها لتعلّق الإرادة
بها ، بخلاف الأعيان والصفات ، فانها لا تكون معرضا لذلك ، فالأمر يطلق ـ بمعناه
المصدري المبني للمفعول ـ على الأفعال ، كالطلاق المطلب والمطالب على الأفعال
الواقعة في معرض الطلب ، كما يقال : رأيت اليوم مطلبا عجيبا ، ويراد منه فعل عجيب
، كذلك في ( رأيت اليوم أمرا عجيبا ) ، والغرض أن نفس موردية الفعل ـ ومعرضيّته
لتعلّق الطلب والإرادة به ـ تصحّح إطلاق المطلب والمقصد والأمر [ عليه ] وإن لم
يكن هناك قصد ولا طلب متعلّق به.
وأما إشكال اختلاف
الجمع ، حيث إنّ الأمر ـ بمعنى الطلب المخصوص ـ يجمع على الأوامر ، وبمعنى آخر على
الامور.
فيمكن
دفعه : بأن الأمر ـ حيث
يطلق على الأفعال ـ لا يلاحظ فيه تعلّق الطلب تكوينا أو تشريعا فعلا ، بل من حيث
قبول المحلّ له ، فكأنّ المستعمل فيه متمحّض في معناه الأصلي الطبيعي الجامد ،
والأصل فيه حينئذ أن يجمع الأمر على امور ، كما هو الغالب فيما هو على هذه الزنة.
وحيث إنه ليس في البحث
والفحص عن تحقيق
حال الأمر من هذه الجهة كثير فائدة ، فالأولى الاقتصار على هذا المقدار.
١٤٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وأما بحسب
الاصطلاح فقد ... الخ ) .
الظاهر ـ كما هو
صريح جماعة من المصنفين ـ أن هذا المعنى من المعاني اللغوية والعرفية ـ دون
الاصطلاحية ـ بمعنى أنّ من أثبته جعله منها ، ولو كان الكلام في مجرد ثبوت
الاصطلاح لكفى فيه نقل بعض مهرة الفن في ثبوته ، ولم تكن حاجة إلى نقل الإجماع على
أنه حقيقة فيه. نعم ، الظاهر أن ما هو أحد المعاني اللغوية : إما الطلب المخصوص ،
أو الطلب القولي ، لا أنّ كليهما من معانيه ، وإن كان ذلك ظاهر بعضهم بل صريحه.
١٤١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ولا يخفى أنه ـ
عليه ـ لا يمكن الاشتقاق منه ، فإنّ معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا ... الخ ) .
فيكون ـ كما في
الفصول وغيره ـ نظير الفعل والاسم والحرف في الدلالة على ألفاظ خاصة لها معان
مخصوصة.
والتحقيق : أن الاشتقاق المعنوي ـ كما أشرنا إليه في أوائل مبحث
المشتق ـ عبارة عن قبول المبدأ للنسبة ، وذلك لا يكون عقلا إلا في ماله نحو من
أنحاء القيام بشيء قيام العرض بموضوعه ، أو غير ذلك.
والفرق بين المعنى
الجامد والمعنى الاشتقاقي أن المعنى إذا كان قابلا للحاظ نسبته إلى شيء بذاته كان
معنى اشتقاقيا ، وإلا كان جامدا. فحينئذ نقول :
إن
وجه الإشكال : إن كان توهّم
أن الموضوع له لفظ لا معنى ، فضلا من
__________________
أن يكون حدثيا ،
ففيه : أن طبيعة الكيف المسموع بأنواعه وأصنافه ـ كسائر الطبائع ـ قابلة للحكاية
عنها بلفظ ، كما في اللفظ والقول والكلام ، فإنّ مفاهيمها ومداليلها ليست إلا
الألفاظ ، وكون اللفظ وجودا لفظيا لطبيعة الكيف المسموع بأنواعه وأصنافه في غاية
المعقولية ، فان طبيعي الكيف المسموع ـ كغيره ـ له نحوان من الوجود العيني والذهني
، فلا يتوهم عدم تعقّل سببية لفظ في وجود لفظ آخر في الخارج.
وإن كان وجه
الإشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنى حدثيا ، ففيه :
أن لفظ ( اضرب )
صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الأعراض القائمة بالمتلفّظ به : فقد
يلاحظ نفسه ـ من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير ـ فهو المبدأ الحقيقي الساري في
جميع مراتب الاشتقاق ، وقد يلاحظ قيامه فقط فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة
ناقصة. وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي ، فهو المعنى الماضوي ، وقد يلاحظ
صدوره في الحال أو الاستقبال ، فهو المعنى المضارعي ، وهكذا. فليس هيئة ( اضرب )
مثلا كالأعيان الخارجية والامور الغير القائمة بشيء حتى لا يمكن لحاظ قيامه فقط ،
أو في أحد الأزمنة.
وعليه فالأمر
موضوع لنفس الصيغة الدالّة على الطلب مثلا ، أو للصيغة القائمة بالشخص ، و ( أمر )
موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي ، و ( يأمر ) للصيغة الملحوظة من
حيث الصدور في الحال أو الاستقبال.
١٤٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم القول
المخصوص ـ أي صيغة الأمر ـ إذا أراد ... الخ ) .
ينبغي التكلم في
أن الأمر هل هو مطلق الطلب أو الطلب المنشأ مطلقا ،
__________________
أو بخصوص القول؟
والظاهر من الإطلاقات العرفية أنه لا يقال لمن أراد قلبا : إنه أمر ، بل يقال : أراد ، ولم يأمر بالمراد ، بل سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ ما لا يبقى معه مجال لصدق الأمر بلا دالّ.
كما أن الظاهر صدق
الأمر على الطلب المدلول عليه بدالّ ، وإن لم يكن بخصوص القول ؛ لصدقه عرفا على
البعث بالإشارة والكتابة عرفا.
ولا يتوهم : أن
صدقه على البعث بهما من جهة الكشف عن الطلب القولي ، وذلك لأنّ الإشارة إنما هي
إلى المعاني خصوصا ممن لا يعرف أن في دار الوجود ألفاظا ، والكتابة وإن كانت نقش
الألفاظ إلا أن الطلب القولي هو الطلب المدلول عليه باللفظ لا بنقش اللفظ ، فتوسط
نقش اللفظ للدلالة على الطلب لا يجعل الطلب قوليا.
والإجماعات
المحكية على وضع الأمر للطلب القولي ـ مع مصادمتها بتعريف كثير من القدماء للأمر
بصرف الطلب ـ لا حجية فيها بعد مساعدة العرف على خلافه ، مع أنه يمكن إرادتهم
لأشيع أفراد ما ينشأ به البعث مثلا.
وأما قوله تعالى :
( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فلا دلالة له على انحصار الدالّ في القول ، وإن كان قوله تعالى : ( أَنْ
يَقُولَ ... ) إلى آخره بيانا لأمره تعالى.
وجه
عدم الدلالة : أنّ المراد بالكلمة الوجودية بقوله : ( كُنْ ) ليس هذه الصيغة
الإنشائية قطعا ، بل هذه هي المعبّر عنها في كلمات أهل المعرفة بالكلمة الوجودية ،
وفي خطبة أمير المؤمنين وسيد الموحدين ـ عليه السلام ـ : « إنما يقول لما أراد
كونه :
__________________
كن ، فيكون ، لا
بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما كلامه فعله » إلى آخره.
وسر التعبير عن
أنحاء الوجودات بالكلمات : هو أن الكلام ما يعرب عن ما في الضمير ، وهذه الموجودات
معربة عما في الغيب المكنون ، فظهر أن فعله ـ تعالى ـ أمره باعتبار دلالته على
تعلّق إرادته به.
وكذا في جميع
موارد إنزال العذاب ؛ حيث عبّر عنه بقوله تعالى : ( جاءَ أَمْرُنا ) في غير مورد ،
فانه بلحاظ دلالته على تحتّمه وتعلّق الإرادة التكوينية به. فافهم.
١٤٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما لا يبعد أن
يكون كذلك في المعنى الأول ... الخ ) .
مع أنه (قدس سره)
لم يستعبد أوّلا كونه حقيقة في الطلب والشيء.
والتحقيق ـ بعد
الاعتراف بالاستعمال في ما عدا الطلب ـ : أنه لا بدّ من الالتزام بالاشتراك اللفظي
، دون المعنوي أو الحقيقة والمجاز ؛ لأنّ القابل للوضع والاستعمال بلا اشتباه ـ مما
عدا الطلب ـ هو الفعل والشيء ، دون بقية المعاني المبنية على ضرب من الاشتباه
والاختلاط.
ومن الواضح أن
اللفظ لو كان حقيقة في أحد المعنيين ـ من الطلب وغيره ـ وكان في الآخر مجازا ـ لما
اختلف جمع الأمر بأحد المعنيين ـ مع جمعه بمعنى آخر ، كما هو المشاهد في سائر
الحقائق والمجازات ، مع أن جمع الأمر ـ بمعنى الطلب ـ على الأوامر ، وجمعه بمعنى
آخر على الامور ، وهكذا الأمر لو كان الأمر
__________________
موضوعا لجامع يجمع
الطلب وغيره ، فان عدم اختلاف الجمع باختلاف المصاديق أوضح ؛ حيث إن المستعمل فيه
مفهوم واحد أبدا ، فاختلاف الجمع ينفي الاشتراك المعنوي والحقيقة والمجاز.
مضافا إلى عدم
العلاقة الصحيحة بين الطلب والفعل والشيء ، مع اختصاص الاشتراك المعنوي بين الطلب
والشيء بإشكال آخر :
وهو أن الأمر مما
لا إشكال ـ اجمالا ـ في اشتقاقه ، والجامع بين ما يقبل الاشتقاق وما لا يقبله غير
معقول ؛ إذ الشيء ـ بما هو ـ غير قابل للقيام بشيء ؛ حتى يكون قابلا لطروّ النسب
عليه بذاته أو في ضمن معنى جامع.
ولا يجري هذا
الاشكال في الفعل ، فإنه قابل للقيام مفهوما ومصداقا كما سمعت نظيره سابقا.
كما لا يجري هذا
الإشكال بناء على الحقيقة والمجاز ؛ لأن لفظ الأمر قابل للاشتقاق اللفظي قطعا ،
ومعناه المستعمل فيه ـ أعني الطلب ـ قابل للاشتقاق المعنوي وطروّ أنحاء النسب عليه
جزما ، وإن كان مجازيا.
نعم
التحقيق : أن الجامع بين
جميع المعاني : إن كان مفهوم الشيء ؛ إذ لا جامع بينها أعم منه ، فهو ـ مع أنه خلف
؛ لأن المفروض الوضع لما يعمّه لا لنفسه ـ لم يصح التصريف والاشتقاق ؛ لعدم قبول
الشيء للقيام بشيء ، مع أن الأمر بمعناه الحقيقي قابل للاشتقاق ، لكنه لا دخل له
بعدم معقولية الجامع بين المعنى الحدثي والجامد ، بل نفس المعنى الجامع لا يقبل
الاشتقاق بنفسه.
وإن كان الجامع
مفهوما آخر فعدم معقوليته بديهي ؛ إذ لا جامع أعم من مفهوم الشيء.
لكن عدم قابلية
بعض المصاديق للاشتقاق لا يدل على عدم قبول الجامع ، كما أن عدم قبول الجامع لا
يدل على عدم قبول بعض المصاديق ، كما في الوجود والشيء مثلا ، فإنّ الوجود جامع
لجملة الماهيات الموجودة ، وهو قابل
للاشتقاق ،
ومصاديقه متفاوتة ، والشيء جامع لكل شيء ، وهو غير قابل للاشتقاق حيث لا قيام له
بشيء ، بخلاف مصاديقه فإنها مختلفة. لكن الذي يسهل الخطب هو عدم القول بمعنى آخر
غير هذه المعاني المذكورة في الأمر ، ولا أعم فيها من الشيء ، ولو بني على الوضع
لجامع يجمع الطلب وغيره ، لكان هو المتعين ، وحينئذ يرد عليه ما عرفت. فافهم
واستقم.
١٤٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر فلا
يكون الطلب من السافل ... الخ ) .
توضيحه : أن الصيغة وما شابهها إذا سيقت لأجل البعث والتحريك
ينتزع منها عناوين مختلفة كل منها باعتبار خاص ولحاظ مخصوص. فالبعث بلحاظ أنه
يوجهه بقوله نحو المقصود ، والتحريك بلحاظ التسبيب بالصيغة ـ مثلا ـ إلى الحركة
نحو المراد ، والإيجاب بلحاظ إثبات المقصود عليه ، والإلزام بلحاظ جعله لازما
وقرينا بحيث لا ينفك عنه ، والتكليف بلحاظ إحداث الكلفة وإيقاعه فيها ، والحكم
بلحاظ إتقان المطلوب ، والطلب بلحاظ إرادته القلبية أو الكشف عنها حقيقة أو إنشاء
، وعنوان الأمر بلحاظ كون البعث من العالي ، كما يشهد له مرادفه بالفارسية ، فإن
معناه في الفارسية ما يعبر عنه بـ ( فرمودن ) ، ولذا لم يتكلم أحد من أهل العلم في
اقتضاء سائر العناوين للصدور عن العالي.
فالتحقيق ـ كما
يساعده العرف والاستعمالات الصحيحة الفصيحة ـ : أن صدور البعث عن العالي مقوم
لعنوان الأمرية.
وليعلم أن هذا
البحث لغوي لا اصولي ؛ إذ الكلام في البعث الصادر عن الشارع ، واما استحقاق العقاب
على المخالفة فهو أثر الوجوب ، والتكلّم فيه صحيح في الاصول.
__________________
لا
يقال : ليس مطلق
الايجاب موجبا لاستحقاق العقاب ، بل إذا كان من العالي ، فهذا البحث مقدمة للبحث
الآتي.
لأنا
نقول : الأمر وإن كان
كذلك ، إلا أن علوّ الباعث والطالب مفروغ عنه ، فاعتباره في مفهوم الأمر وعدمه لا
يكاد يفيد فائدة اصولية ، ولعله لأجل هذا بنى المحقّق القمي (رحمه الله) على أن الاستعلاء المعتبر في الأمر هو الايجاب زاعما أن الاستعلاء تغليظ
القول في مقام البعث ؛ حيث لم يجد فائدة اصولية للبحث عن اعتبار العلوّ
والاستعلاء.
__________________
١٤٥
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وتقبيح الطالب
السافل من العالي ... الخ ) .
الأولى في تقريبه
أن يقال : يصدق الأمر على طلبه في مقام توبيخه بقولهم : ( أتأمر
الأمير؟ ) ـ مثلا ـ وإلاّ فنفس التوبيخ والتقبيح ـ في مرحلة تقوّم الأمر بالصدور
عن العالي أو المستعلي ـ مستدرك جدا ، فيرجع حاصل التقريب إلى صدق الأمر ، وإطلاقه
على طلب المستعلي من العالي.
والجواب
حينئذ : أن الإطلاق
بعناية جعل نفسه عاليا ادعاء فطلبه حينئذ أمر ادعائي ، لا أن إطلاق الأمر لمكان
استعلائه ؛ إذ الاستعلاء هو إظهار العلوّ ، وهو حقيقي لا ادعائي ، ومقوم عنوان
الأمر هو العلوّ لا الاستعلاء ، وأما بيان وجه التوبيخ فمستدرك كأصله. فتدبّر.
__________________
الطلب
والارادة
١٤٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الحق كما عليه أهله
وفاقا للمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة ... الخ ) .
ينبغي أوّلا ـ تحقيق
أن المسألة على أيّ وجه عقلية ، وعلى أيّ وجه اصولية ، وعلى أيّ وجه لغوية؟
فنقول : إن كان النزاع في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني ـ في قبال
الإرادة عند الأمر بشيء ـ كانت المسألة عقلية ، وسنبين ـ إن شاء الله تعالى ـ ما عندنا امتناعا وإمكانا.
وإن كان النزاع في أنّ
مدلول الأمر هل هو الإرادة ، والطلب متحد معها ، أو منطبق على الكاشف عنها ، أولا
ـ كي تكون الصيغة كاشفة عن الإرادة عند الإمامية والمعتزلة ، وكاشفة عن الطلب
المغاير لها ، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى ـ كانت المسألة
اصولية ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله
__________________
تعالى .
وإن كان النزاع في مجرّد
مرادفة لفظ الطلب مع لفظ الإرادة ـ من دون نظر إلى ثبوت صفة نفسانية ، أو إلى
مدلول الصيغة وشبهها ـ كانت المسألة لغوية ، فلا ربط لها بالاصول ولا بالكلام.
لا
يقال : الكلام في
مرادفتهما ليس من جهة تشخيص المفهوم بما هو مفهوم ، بل من جهة أنه لو ثبت وحدة
المعنى كشف كشفا قطعيا عن أن المصداق واحد ؛ بداهة استحالة انتزاع الواحد عن
المتعدّد ، فيبطل الكلام النفسي ، ولو ثبت تعدّد المفهوم كشف عن تعدّد المصداق ،
فيصحّ دعوى الكلام النفسي.
لأنا
نقول : ليس لازم
الالتزام بعدم المرادفة تعدّد المصداق في مرتبة النفس لاحتمال أن يكون مفهوم الطلب
ـ كما سيجيء ان شاء الله تعالى ـ أمرا منتزعا عن قول أو فعل مظهر للإرادة.
إذا
عرفت ذلك فاعلم : أن الظاهر ـ كما يستفاد من تتبع كلمات الباحثين عن المسألة في بدو الأمر ـ أن النزاع في هذه
المسألة نشأ من النزاع في الكلام النفسي ؛ حيث استدل الأشاعرة بأنّ الأمر الامتحاني
ونظائره مدلولها الطلب دون الارادة ، فيعلم أن ما عدا الارادة والكراهة في الأمر
والنهي معقول.
والسرّ في دعواهم
ذلك والالتزام بالكلام النفسي تصحيح متكلّميّته تعالى ـ فى قبال سائر الصفات مع التحفظ على قدم الكلام ؛ إذ الالتزام بقدم
__________________
الكلام اللفظي ـ مع
كونه مؤلفا من أجزاء متدرجة متقضّية متصرّمة في الوجود ـ غير معقول ، ومن هنا تعرف
أن الالتزام بمغايرة الطلب والإرادة ، أو الالتزام بأنّ مدلول الصيغة غير الإرادة
ـ إذا لم يلزم منه ثبوت صفة اخرى في النفس ـ غير ضائر. وإن التفرد في أحد الأمرين
لا يوجب الاستيحاش ولا موافقة الأشاعرة فيما دعاهم إلى دعوى المغايرة.
فنقول : إن كان
النزاع في إمكان صفة اخرى أو فعل آخر في مرتبة النفس في قبال الإرادة فالحقّ
إمكانه ، لكنه لا يكون كلاما نفسيا مدلولا عليه بالكلام اللفظي ، فالدعوى مركبة من
أمرين : أحدهما ـ مجرد إمكان أمر آخر غير الإرادة وسائر الصفات المشهورة. ثانيهما
ـ امتناع مدلوليته للكلام اللفظي.
أما الأول ـ فتحقيقه
يتوقف على بيان وجه الامتناع على الاجمال : وهو أن الأجناس العالية للماهيّات
الإمكانية ـ كما برهن عليه في محله ـ منحصرة في المقولات العشر ـ أعني مقولة
الجوهر ، والمقولات العرضية التسع ـ والوجود الحقيقي ـ الذي حيثية ذاته حيثية طرد
العدم ـ منحصر في العيني والذهني ، غاية الأمر أن طرد العدم في كل منهما بحسب حظه
ونصيبه قوة وضعفا.
ومن الواضح أن ما
يقبل كلا الوجودين هي الماهيات ؛ حيث إنها في حدود ذواتها لا تأبى عن الوجود
والعدم. وأما الوجود الحقيقي فحيثية ذاته حيثية الإباء عن العدم ، فلا يقبل وجودا
آخر ـ لا من سنخه ، ولا من غير سنخه ـ وهو بمكان من الوضوح.
فالقائل بالكلام
النفسي إن كان يدعي : أن سنخه ـ إجمالا ـ سنخ
__________________
الماهيات فالبرهان
قائم على انحصارها في المقولات العشر ، فحاله حالها من حيث قبول
الوجودين.
فحينئذ
يقال : إن قيامه
بالنفس إن كان بنفسه ـ كالصفات النفسانية من العلم والارادة وغيرهما ـ فهو من
الكيفيات النفسانية ، والبرهان قائم ـ في محلّه ـ على ضبطها وحصرها ، ومدلولية
أحدها للكلام اللفظي ـ كقولك : ( أعلم واريد ) على ثبوت العلم والإرادة ـ لا
تجعلها كلاما نفسيا. وإن كان قيامه بالنفس قيامه بصورته قياما علميا ، فهو أمر
مسلم بين الطرفين ، فهو من هذه الجهة داخل في مقولة العلم ، والمفروض غيره.
ومنه
يظهر : أن قيام الكلام
اللفظي بالنفس ـ قياما علميا ـ لا دخل له بالكلام النفسي ؛ لأن ماهية الكيف
المسموع كماهية الكيف المبصر ـ في أن لها نحوين من الوجود ـ هذا إذا كان القائل
بالكلام النفسي يدّعي أن سنخه سنخ الماهيات.
وإن كان يدعي أن سنخه
سنخ الوجود ، فهو ـ على التحقيق المحقق عند أهله في محله ـ معقول ـ وإن لم يتفطّن
له الأشعري ـ إلا أن مدلوليته للكلام اللفظي غير معقولة :
أما أصل معقوليته
فالوجدان الصحيح شاهد على ذلك ، كما في إيقاع
__________________
النسبة الملازم
للتصديق المقابل للتصور ، فإن صورة ( أن هذا ذاك ) ـ مطابقا لما في الخارج وناظرا
إليه ـ تصديق داخل في العلوم الانفعالية لانفعال النفس وتكيّفها بالصورة المنتزعة
من الخارج. ونفس ( هذا ذاك ) ـ من دون نظر إلى صورة مطابقة له في الخارج ـ من
موجودات عالم النفس ، ونسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد ، لا بالتكيّف والانفعال
، وحقيقته وجود نوري قائم بالنفس قياما صدوريا ، وهو المراد بالعلم الفعلي في قبال
الانفعالي ، ومنه الأحاديث النفسانية ، فإن الوجدان أصدق شاهد على أن نسبة النفس
إليها بالايجاد والتأثير ، ونفس وجودها الحقيقي عين حضورها للنفس ، بل هذا حال كل معلول
بالنسبة إلى علته ؛ حيث إن وجوده عين ارتباطه به ، وهو أفضل ضروب العلم ؛ إذ ليس
العلم إلا حضور الشيء ، وأيّ حضور أقوى من هذا الحضور؟! فتوهم انحصار موجودات عالم
النفس في الكيفيات النفسانية بلا وجه.
بل
التحقيق : أن نسبة النفس
إلى علومها مطلقا نسبة الخلق والإيجاد. قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « كلّ
ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه ، فهو مخلوق لكم مردود إليكم » .
وإلى ما ذكرنا في
تحقيق هذا الوجود النوري ـ الخارج من الكيفيات النفسانية ؛ حيث إنها ماهيات موجودة
، وهذا حقيقة الوجود ـ أشار بعض أكابر فن المعقول في غالب كتبه ، وصرح به في
رسالته المعمولة في التصور والتصديق .
وأما استحالة
مدلوليته للكلام اللفظي ، فلأن المدلولية للكلام ليس إلا كون اللفظ واسطة للانتقال
من سماعه إليه ، وهذا شأن الماهية ، والوجود الحقيقي ـ عينيا كان أو نوريا إدراكيا
ـ غير قابل للحصول في المدارك الإدراكية ؛ لما
__________________
عرفت سابقا ، فلا
يعقل الوضع له ، ولا الانتقال باللفظ إليه ، إلا بالوجه والعنوان ، ومفروض الأشعري
مدلوليته بنفسه للكلام اللفظيّ ، لا بوجهه وعنوانه. هذا كله إذا كان الكلام على
وجه يناسب علم الكلام.
وإن كان النزاع في
مدلول الصيغة ـ كما هو المناسب لعلم الاصول ـ فالتحقيق :
أن مدلول صيغة (
افعل ) وأشباهها ليس الطلب الانشائي ، ولا الإرادة الانشائية ، بل البعث المأخوذ
على نحو المعنى الحرفي ، والمفهوم الأدويّ ، كما أشرنا إليه في أوائل التعليقة ،
وسيجيء ـ ان شاء الله تعالى ـ عما قريب.
والبعث الموجود
بوجوده الإنشائي ليس من الطلب والإرادة في شيء ، ولا يوجب القول به إثبات صفة
نفسانية أو فعل نفساني يكون مدلولا للكلام اللفظي ، إلا بتوهم : أن الانشاء إيجاد
أمر في النفس ، وسيجيء تحقيق نحو وجود الأمر الإنشائي إن شاء الله تعالى .
وأما أنّ مدلول
الصيغة هو البعث تقريبا ، دون الإرادة الانشائية ، فيشهد له الوجدان ، فإنّ المريد لفعل الغير ، كما أنه قد يحرّكه ويحمله عليه تحريكا حقيقيا
وحملا واقعيا ، فيكون المراد ملحوظا بالاستقلال ، والتحريك ـ الذي هو آلة إيجاده
خارجا ـ ملحوظا بالتبع. كذلك قد ينزل هيئة ( اضرب ) منزلة التحريك
__________________
الملحوظ بالتبع ،
فيكون تحريكا تنزيليا يقصد باللفظ ثبوته ، ولذا لو لم يكن هناك لفظ لحرّكه خارجا
بيده نحو مراده ، لا أنه يظهر إرادته القلبية.
مع أن تحقيق هذا
الأمر ليس فيه فائدة اصولية ؛ إذ مدلول الصيغة على أي حال أمر إنشائي لا إرادة نفسية ، بل
اللازم والنافع هو البحث عن أن الصيغة ـ ولو عند الاطلاق ـ هل تكشف عن إرادة قلبية
باعثة للبعث الانشائي أو الإرادة الإنشائية أو الطلب الانشائي ، أم لا؟ وهذا
المعنى لا يتوقف ـ إثباتا ونفيا ـ على كون مدلول الصيغة أيّ شيء.
نعم البحث الكلامي
على الوجه المتقدّم ينفع للطرفين إثباتا ونفيا.
وإن كان النزاع في
مجرّد اتحاد الإرادة مع الطلب مفهوما ومصداقا وانشاء ، فمن الواضح أن البحث حينئذ
لغوي.
وتحقيق
الحال فيه : أن الظاهر من
أهل اللغة تقاربهما معنى ، ولا يختصّ الطلب بالإرادة من الغير ، كما يشهد له قولهم
: فلان طالب الدنيا ، أو طالب المال.
إلا
أن المظنون قويا : أن الطلب عنوان لمظهر الإرادة قولا أو فعلا ، فلا يقال لمن أراد قلبا :
طلبه ، إلا إذا أظهر الارادة بقول أو فعل ، كما يظهر من قولهم : طلبت زيدا فما
وجدته ، فانه هنا عنوان لفعله الخارجي ، وليس المراد منه أنه أراده قلبا.
بل التحقيق ذلك ـ وان
لم يكن له ارادة نفسانية ـ كما يتضح من قولهم : اطلب لي من فلان شيئا ، وكذلك قولهم : طالبته بكذا ، فإنّ
الأول ليس أمرا بالإرادة من الغير ، بل هو أمر بما يعنون بعنوان الطلب من قول أو
فعل. والثاني ليس إخبارا بالإرادة منه ، بل بما يعنون بعنوان المطالبة في الخارج ،
فالمادّة من المثالين نفس حقيقة الطالب لا الانشائي منه حتى يقال : بأنه من جهة
الانصراف إليه.
والعجب أنه ذهب
بعض الاعلام من مقاربي عصرنا إلى أن الطلب
__________________
عنوان للكاشف عن
الإرادة ، ومع ذلك جعل هذا قولا باتحاد الطلب والإرادة ؛ حيث لم يلزم منه إثبات
صفة في النفس ، وهو وإن كان وجيها من حيث إنه التزام بالمغايرة ، مع عدم لزوم ما
التزمت به الأشاعرة ، إلا أن ذلك أجنبي عن القول بالعينية والاتحاد. كيف؟ وصريح
العلامة (رحمه الله) في جملة من كتبه وغيره في غيرها :
أن الطلب ـ الذي هو مدلول صيغة الأمر ـ هي الإرادة ، ولذا التزموا بأن الأمر في ما
لا إرادة فيه صوري ، وهذا دليل على أن مرادهم من العينية هي العينية مفهوما
ومصداقا وإنشاء ، لا أن مدلول الأمر نفس الإرادة الخارجية ، وأنها عين الطلب حتى
يقال : بأنه غير معقول ، وأن مرادهم مجرد عدم ثبوت صفة في النفس غير الإرادة ، من
دون نظر إلى أنها عين الطلب في الخارج. وتتمة الكلام فيما بعد.
١٤٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فيرجع النزاع
لفظيا ، فافهم ... الخ ) .
قد
عرفت : أن هذا البحث من تبعات البحث عن الكلام النفسي ، وأن الأشاعرة يدّعون ثبوت
صفة اخرى في النفس في قبال الإرادة وسائر الصفات الأخر تصحيحا لكلامه تعالى ؛ حيث
أرادوا إثبات قدمه وقيامه بذاته تعالى ، فكيف يعقل الاكتفاء في المغايرة بالمغايرة
بين الحقيقي والانشائي؟!
إلا أن يقال : إن
الأشاعرة يزعمون أن الإنشاء إيجاد أمر في النفس ، فيصح دعوى المغايرة ، وإثبات أمر
آخر ـ غير الإرادة ـ قائم بالنفس ، غاية الأمر أنهم أخطئوا في حقيقة الإنشاء ، فلا
نزاع واقعا إلا في حقيقة الوجود الانشائي ، وهو غير هذا النزاع.
١٤٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يخفى أنه ليس
غرض الأصحاب
__________________
والمعتزلة ... الخ ) .
قد
مرّ غير مرة : أن الباعث على
هذا البحث للأشاعرة تصحيح كلامه ـ تعالى ـ وجعله صفة قائمة بذاته قديما بقدمه في
قبال العلم والإرادة والقدرة وسائر صفاته ، ولا بد من كون هذا القائم بذاته أمرا
قابلا للمدلولية للكلام اللفظي ، وإلا لم ينقسم الكلام إلى لفظي ونفسي ، وكان
الإتعاب في إثباته لغوا محضا.
لكن الأصحاب
والمعتزلة لم يلزمهم في مقام الردّ على الأشاعرة إثبات أن الصفات الأخر مدلولات
للكلام اللفظي ، بل يقولون : بأنا لا نجد فيما يتعلّق بمداليل الكلام من الصفات
النفسية والامور القلبية إلا العلم والإرادة والكراهة في مجموع القضايا الخبرية
والإنشائية المنحصر فيهما الكلام. وأما أن مدلول الكلام ما ذا؟ فهو أمر آخر ، ولو
قال منهم قائل : بأن الإرادة مدلول الكلام ، فهو باعتبار أن الإرادة الطبيعية
المنحفظة في الموطنين ـ من الذهن والعين ـ إذا لوحظت بنحو المعنى الحرفي والمفهوم
الادوى ، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ كان معنى إنشائيا يقصد ثبوته باللفظ لا
بمعنى آخر. فتدبر.
١٤٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( أما الجمل
الخبرية فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ... الخ ) .
لا يخفى عليك أن المنقول عن
الأشاعرة في كلمات بعضهم : أنّ الكلام النفسي المدلول عليه بالكلام اللفظي الخبري
عبارة عن النسبة الموجودة بين مفردين ، ولذا ذهب بعض الأعلام من مقاربي عصرنا إلى أن الالتزام بالنسبة
__________________
الحكمية التزام
بالكلام النفسي ، وهو (قدس سره) وإن أصاب في فهم المراد من كلمات الأشاعرة ، وأنهم
يجعلون النسبة كلاما نفسيا ، لكنه لم يصب في الالتزام بكونه كلاما نفسيا غير معقول
، بل كان يجب عليه كشف مغالطتهم ، وحل عقدتهم بما نتلوه عليك :
وهو أن المعنى ـ كما
أشرنا إليه سابقا ـ : تارة يقوم بالنفس بنفسه على حدّ قيام الكيفيات
النفسانية بالنفس ، من العلم والإرادة وغيرهما. واخرى يقوم بالنفس بصورته المجردة
قياما علميا. والنسبة المتصورة بين المحمول والموضوع ـ وهي كون هذا ذاك في الخارج
ـ تقوم بالنفس لا بنفسها بل بصورتها ، فهي كالمعلومات الأخر من حيث إن قيامها قيام
علمي لا كقيام العلم. والذي يجب على الأشعري إثباته قيام شيء بالنفس بنفسه على حد
قيام العلم والارادة ، لا على حد قيام المعلوم والمراد ، فان هذا القيام لا يوجب
ثبوت صفة اخرى بالنفس حتى ينفع في إثبات الكلام القائم بذاته ـ تعالى ـ وراء علمه
وإرادته وسائر صفاته العليا.
نعم هنا أمر آخر
له قيام بالنفس بنفسه ، وهو نحو من الوجود النوري القائم بالنفس قيام المعلول
بعلته ، لا قيام العرض بموضوعه ، وقد أشرنا إليه سابقا .
وهذا المعنى ـ وإن
لم يبلغ إليه نظر الاشعري ـ إلا أنه مجد في تعقّل أمر غير العلم والارادة ،
وارتباطه بالكلام أيضا ظاهر ـ كما عرفت سابقا ـ إلا أنه لا
يجدي للأشعري ؛ لأنه يجعله مدلولا للكلام اللفظي ، وحقيقة الوجود ـ كما
__________________
عرفت ـ لا يقبل المدلولية
للكلام بنفسه ؛ لأن المدلولية ليست إلا بحصوله في المدارك الإدراكية ، والوجود لا
يقبل وجودا آخر ، سواء كان العارض من سنخ المعروض ، أم لا. فتدبّر.
فان
قلت : ثبوت القيام
لزيد في الخارج وانكشافه في الذهن مما لا شكّ فيه ، ولا ينبغي إسناد الريب فيه إلى
أحد من أهل العلم ، لكنه غير النسبة الحكمية ، بل المراد منها : هي النسبة التي
حكم بها النفس ، فوجد في مرحلة النفس حكم وإذعان بها غير انكشافها انكشافا تامّا
مستقرّا ، وهذا هو الذي جعله بعض الأعلام المتقدم ذكره كلاما نفسيا ونطقت الاشاعرة بكونه غير العلم والارادة ، ومثل هذه النسبة
الحكمية لو جعلت مدلولا للقضية الخبرية كان التزاما بالكلام النفسي جزما.
قلت : التحقيق كما نص به بعض الأكابر في رسالته المعمولة في
التصوّر والتصديق : أن التصديق ليس مجرد انكشاف ثبوت القيام لزيد ، فانه
تصور محض بداهة أن ثبوت القيام لزيد قابل للتصور ، وليس هو إلاّ انكشافه ، بل
التصديق هو الانكشاف الملزوم لحكم النفس وإقرارها بثبوت القيام لزيد ؛ لما عرفت
سابقا ، أن صورة ( هذا ذاك ) ـ ناظرا إلى الخارج ومنتزعا لهذه
الصورة عن ذيها فيه ـ علم انفعاليّ من مقولة الكيف لانفعال النفس وتكيفها بالصورة
المنتزعة عن الخارج ، ولكن نفس ( هذا ذاك ) عند النفس إقرار وحكم وتصديق
__________________
واذعان من النفس ،
وهذا علم فعلي ، وهو ضرب من الوجود النوري القائم بالنفس قياما صدوريا ، يكون نسبة
النفس إليه بالتأثير والإيجاد ، ومنه مقولة الاعتقاد فإنّ عقد القلب على شيء غير
اليقين ؛ قال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) ، فالإقرار والجحود النفسيان أمر معقول يشهد به الوجدان وإلاّ لزم الالتزام
بإيمان الكفار الموقنين بالتوحيد والنبوة أو جعل الإيمان الذي هو أكمل كمالات
النفس مجرد الإقرار باللسان.
وبالجملة فالنسبة
الحكمية وإن كانت كما ذكر ، إلاّ أنّ مدلول الكلام مطلقا نفس الماهية والمعنى ،
فكما أن مدلول القيام طبيعي القيام الموجود في الموطنين ، كذلك مدلول الجملة ـ بما
هي جملة ـ ثبوت القيام لزيد ، وأن هذا ذاك.
وأما ان هذا
المعنى المستفاد من الجملة هل هو مورد للتصور المحض ، أو للتصديق الملازم للاقرار
به؟ فهو أمر آخر ، وعلى أيّ حال فلا ربط له بنفس الإقرار النفسي ، والكلام في
النسبة المتعلق بها الإقرار ، لا في الإقرار الذي هو فعل من أفعال النفس. وما نقول
بدلالة الجملة ـ عليه ـ بنفسها أو بضميمة أمر آخر ـ نفس النسبة ، وهي لها شئون :
من كونها متصوّرة ، ومرادة ، ومتعلّقا لإقرار النفس بها. وما يجدي الأشعري ـ ويكون
التزاما بالكلام النفسي ـ كون الحكم والإقرار المزبور مدلولا للجملة ، وقد عرفت استحالته
.
وأما
توهم : أن النسبة
المتصورة نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها ، وأن مدلول الجملة الخبرية هو الجزم
بالنسبة ، أو التجزم بها فيما إذا كان المخبر شاكّا أو معتقدا لخلافها ، فتوجد
النفس صفة علم وجزم بالنسبة ، ويخبر عنها.
فمدفوع : بأن ثبوت القيام لزيد ـ الذي هو مدلول الجملة ـ ليس هو
هذا
__________________
المفهوم الاسمي ،
فإنه عنوان النسبة لا نفسها ، بل النسبة الحرفية التي هي معنون هذا المفهوم ، وهو معنى
يصحّ السكوت عليه في حد ذاته. وهذا المعنى الذي يصح السكوت عليه ربما يتصوّر
بتصوّر طرفيه ، وربما يجزم به ، فتمامية النسبة ونقصها ـ وإن لم تكونا بلحاظ
الخارج ـ لأنها نحو واحد ، بل بحسب مدلوليتها للكلام ، فقد تكون مدلولا بمقدار لا
حالة منتظرة [ معه ] للسامع ، وقد لا تكون كذلك.
نعم إذا كان
بمقدار لا يصح السكوت عليه ، لا يقبل التصديق ، لا أنّ ما يصحّ السكوت عليه يتقوّم
بالتصديق.
ومنه
تعلم : أنه لا حاجة
إلى التجزّم الذي هو بظاهره غير معقول إلا بالحمل على البناء على وقوع النسبة ،
وهو فعل قلبي مر الكلام فيه وفي أمثاله
فتحقق من جميع ما
ذكرنا : أنا لا نساعد الأصحاب والمعتزلة في عدم شيء آخر وراء العلم والارادة
ونحوهما ، بل نقول : إن ما اقتضاه البرهان والفحص انحصار الكيفيات النفسية التي هي
من مقولة الماهية في ما ذكر لا انحصار موجودات عالم النفس فيه.
كما لا نساعد
الأشاعرة في كون مثل هذا الأمر المغاير للعلم والإرادة مدلولا للكلام اللفظي ؛
لاستحالة حصول الوجود الحقيقي في المدارك الإدراكية.
فتدبّره ، فإنه في
كمال الغموض والدقة ، وإن أوضحناه على حسب الوسع والطاقة.
١٥٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما الصيغ
الإنشائية فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ...
الخ ) .
بل التحقيق أن وجودها
وجود معانيها في نفس الأمر.
__________________
بيانه : أن المراد من ثبوت المعنى باللفظ : إما أن يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات ، وإلى المعنى بالعرض.
وإما أن يراد ثبوته منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى كلّ
منهما بالذات.
لا مجال للثاني ؛
إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني. وسائر أنحاء الوجود ـ
من اللفظي والكتبي ـ وجود بالذات للفظ والكتابة ، وبالجعل والمواضعة وبالعرض
للمعنى.
ومن الواضح أن
آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات ، لا بد من أن تكون في أحد الموطنين
من الذهن والعين ، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج
، أو مطابق ما ينتزع عنه والواقع خلافه ؛ إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقا
للمعنى أو مطابقا لمنشا انتزاعه ، ونسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى ـ مع عدم
وجود مطابقه أو مطابق منشئه ـ غير معقول.
ووجوده في الذهن بتصوره
لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني ، والانتقال من سماع الالفاظ إلى المعاني لمكان
الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى ، مع أن ذلك ثابت في كل لفظ ومعنى ، ولا يختص
بالانشائي.
فالمعقول من وجود
المعنى باللفظ هو الوجه الأول : وهو أن ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات
في الأول ، وبالعرض في الثاني ، وهو المراد من قولهم : ( إن الانشاء قول قصد به
ثبوت المعنى في نفس الأمر ) ، وإنما قيدوه بنفس الأمر مع أن وجود اللفظ في الخارج
وجود للمعنى فيه أيضا بالعرض ، تنبيها على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعية وجود
المعنى تنزيلا في جميع النشآت ، فكأنّ
__________________
المعنى ثابت في
مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الأمر
حدّ ذات الشيء من باب وضع الظاهر موضع المضمر.
فان
قلت : هذا المطلب جار
في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون اختصاص بالانشائيات.
قلت : الفرق أن المتكلّم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة
الواقعة في موطنها باللفظ المنزّل منزلتها ، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه
النسبة بإيجاد اللفظ المنزّل منزلتها ؛ مثلا : مفاد ( بعت ) إخبارا وإنشاء واحد ،
وهي النسبة المتعلقة بالملكية وهيئة ( بعت ) وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية
القائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكية ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها
التنزيلي الجعلي اللفظي ، فليس وراء قصد الايجاد بالعرض وبالذات أمر آخر ، وهو
الانشاء ، وقد يقصد ـ زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا ـ الحكاية عن ثبوته في موطنه
أيضا ، وهو الاخبار.
وكذلك في صيغة (
افعل ) وأشباهها فإنه يقصد بقوله : ( اضرب ) ثبوت البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم
والمخاطب والمادة ، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي ،
فيترتّب عليه ـ إذا كان من أهله وفي محلّه ـ ما يترتّب على البعث الحقيقي الخارجي
مثلا.
وهذا الفرق بلحاظ
المقابلة بين المعاني الخبرية والانشائية ، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في
معانيها ، فإنها كالانشائيات من حيث عدم النظر فيها إلاّ إلى ثبوتها خارجا ثبوتا
لفظيا ، غاية الأمر أنها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الانشائية المقابلة
للمعاني الخبرية ، وهذا أحسن ما يتصوّر في شرح حقيقة الإنشاء ، وعليه يحمل ما
أفاده استاذنا العلاّمة ، لا على أنه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدّمة
؛ فإنه غير متصوّر.
ومما ذكرنا ـ في
تحقيق حقيقة الإنشاء ـ تعلم : أن تقابل الإنشاء والإخبار ليس تقابل مفاد كان التامّة ومفاد
كان الناقصة ؛ نظرا إلى أنّ الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر ، والإخبار ثبوت
شيء لشيء تقريرا وحكاية ؛ وذلك لأن طبع الإنشاء ـ كما عرفت ـ لا يزيد على وجود
المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي ، وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال ، فإن
القائل : ( بعت ) إخبارا أيضا يوجد معنى اللفظ بوجوده العرضي اللفظي ، والحكاية
غير متقوّمة بالمستعمل فيه ، بل خارجة عنه ، فهي من شئون الاستعمال ، بل الفرق
أنهما متقابلان بتقابل العدم والملكة تارة ، وبتقابل السلب والإيجاب اخرى ، فمثل (
بعت ) وأشباهه ـ من الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار ـ يتقابلان بتقابل العدم
والملكة ؛ لأن المعنى الذي يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوته
في موطنه ، فعدم الحكاية ـ والتمحض فيما يقتضيه طبع الاستعمال ـ عدم ملكة.
ومثل ( افعل )
وأشباهه ـ المختصّة بالإنشاء عرفا ـ يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب ؛ إذ المفروض
أن البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها ـ نظير البعث الخارجي ـ غير البعث الملحوظ
بعنوان المادّية في سائر الاستعمالات ـ كما سمعت منا في أوائل التعليقة ـ فمضمون
صيغة ( اضرب ) ـ مثلا ـ غير قابل لأن يحكى به عن ثبوت شيء في موطنه ، بل متمحض في
الإنشائية ، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للايجاب.
ومما
ذكرنا ظهر : أن إبداء الفرق
بينهما بأن مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن ، ومفاد الإخبار يحكي عما كان
أو يكون ، غير تام أيضا ؛ فإنّ وجود المعنى باللفظ ـ وحدوثه به ـ مشترك بين
الإنشاء والإخبار ، وإنما يزيد الإخبار عليه في المورد القابل بجعله حاكيا ومرآة
لثبوت المضمون في موطنه.
كما أنه اتضح من
جميع ما ذكرنا : أن الإنشاء لا دخل له بإيجاد شيء في النفس حتى يكون كلاما نفسيا ،
بل إيجاد خارجي بنحو التنزيل وبالعرض ، لا
بالحقيقة وبالذات
؛ لأن إيجاده في النفس ، وإن كان معقولا ، لكن إيجاده باللفظ غير معقول ، فلا يكون
معنى إنشائيا مدلولا عليه بالكلام اللفظي ، ومجرّد الحكاية باللفظ عن الفعل
النفساني لا يجعله كلاما إنشائيا.
وأما
تخيّل : أن الكلام
الإنشائي موضوع لإظهار الإرادة : إما طبعا ، أو إيجادا ؛ نظرا إلى إمكان إيجاد
القصد لفائدة فيه ، لا في المقصود ، كما في الإتمام المرتّب على قصد الإقامة ؛ حيث
إنه أثر القصد ، لا الإقامة عشرا ولو لم تقصد ، ولا الإقامة بعد القصد ، فإنّه
يتمّ ولو لم يقم بعده ، وحينئذ فإن كان هناك في النفس إرادة ، فقد أعطت الصيغة
معناها ، وإلا فلا.
فمدفوع : بأنّ اللفظ وجود لفظي لمعناه ، فإن كان نفس الإرادة معنى
اللفظ والإظهار باللفظ ـ كما في كل لفظ ومعنى ـ فليس هناك نسبة إنشائية ، وإن كان
نفس إظهار الإرادة معناه ، فالهيئة حينئذ وجود لفظي لمفهوم إظهار الإرادة ـ ولو
فانيا في معنونه ـ وهو ليس معنى يصحّ السكوت عليه ، إلا أن يرجع إلى الإرادة
النسبية الإنشائية. وكون هذه الهيئة كاشفة عن إرادة جدّية حتمية ـ وضعا ، أو
انصرافا ، أو اطلاقا ـ معنى آخر لا دخل له بمدلول اللفظ استعمالا.
وأما إيجاد القصد
لفائدة فيه ، فهو وإن كان ببعض الوجوه ممكنا ، لكنه لا بهذا النحو ، والمثال
المزبور لا يجدي في تصحيحه ؛ لأنّ الإقامة القصدية ـ أي المقوّمة للقصد في نحو
وجوده ـ لها دخل في وجوب الإتمام ، فيقصدها لأجل أن يتمّ بسبب تحقّق وجودها القصدي
، فتعلق القصد إليها ـ أيضا ـ لفائدة فيما يتعلق بها بحيث لولاها لما وجب الإتمام
، وفناء المقصود في الإقامة الخارجية أيضا لازم ، وإلا أمكن إيجاد القصد مع العلم
بعدم الإقامة خارجا.
١٥١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما الدفع فهو
أنّ استحالة التخلّف إنما تكون في الإرادة التكوينية ... الخ ) .
__________________
توضيحه : أن حقيقة إرادته ـ تعالى ـ مطلقا هو العلم بالصلاح ، فإن
كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلّي ، فنفس هذا العلم ـ من دون حالة منتظرة
ـ علة للتكوين ، فإن المحلّ قابل يسأل بلسان استعداده الدخول في دار الوجود ،
والمبدأ تامّ الإفاضة لا بخل في ساحته المقدسة ، والوجود ـ بما هو ـ خير محض ، فلا
محالة يستحيل تخلّف المراد عن هذه الارادة ، وإن كان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض
الأشخاص ـ لا بحسب النظام التامّ ـ فحيث إن مقتضى العناية الربانية سوق الأشياء
إلى كمالاتها وإعلام المكلّفين بصلاحهم وفسادهم ، فهذا العلم يقتضي تحريكهم إلى ما
فيه الصلاح والرشاد ، وزجرهم عما فيه الفساد ، فهذه الإرادة متعلّقة بالبعث
والتشريع ـ دون الخلق والتكوين ـ فلذا تكون علة للتشريع دون التكوين ، فلم يلزم
استحالة التخلّف ، ولا اجتماع الضدين أو المتناقضين. وتفسير الإرادة بالعلم
بالصلاح نظير تفسير السمع والبصر فيه ـ تعالى ـ بالعلم بالمسموعات والمبصرات.
وتحقيق هذا المرام
يستدعي طورا آخر من الكلام ربما لا يسعه بعض الأفهام ، ولا بأس بالإشارة إلى نبذة
مما يتعلّق بالمقام ، فنقول ـ وبالله الاعتصام ـ :
لا ريب عند أهل
النظر أن مفاهيم الصفات ـ حسبما يقتضيه طبعها ـ متفاوتة متخالفة ، لا متوافقة
مترادفة ، وإن كان مطابقها واحدا بالذات من جميع الجهات ، فكما أن مفهوم العلم غير
مفهوم الذات وسائر الصفات ، وإن كان مطابق مفهوم العلم والعالم ذاته بذاته ؛ حيث
إن حضور ذاته لذاته بوجدان ذاته لذاته وعدم غيبة ذاته عن ذاته ، كذلك ينبغي أن
يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات ـ كمفهوم العلم ـ مبائنا مع
الذات ومفهوم العلم ، لا أن لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح ، فان الرجوع الواجب
هو الرجوع في
المصداق ، لا رجوع
مفهوم إلى مفهوم. ومن البين أن مفهوم الإرادة ـ كما هو مختار الاكابر من المحققين
ـ هو الابتهاج والرضا ، وما يقاربهما مفهوما ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.
والسرّ في التعبير
عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى : أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية ،
وفاعليتنا لكل شيء بالقوة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى امور
زائدة على ذواتنا ـ من تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد ـ المميلة جميعا
للقوة الفاعلة المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى فإنه ـ لتقدّسه عن شوائب
الإمكان وجهات القوة والنقصان ـ فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنه
صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضية لذاته
أتمّ الرضا. وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهي الإرادة الذاتية ـ ابتهاج في
مرحلة الفعل ، فإن من أحبّ شيئا أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في
مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار ـ سلام الله عليهم ـ بحدوثها
؛ لوضوح أن المراد هي الإرادة التي هي غير المراد ، دون
الإرادة الأزلية التي هي عين المراد ؛ حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلا ذاته ، كما
لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته.
والوجه في تعبير
الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير وبالصلاح : أنهم بصدد ما به يكون
الفعل اختياريا وهو ليس العلم بلا رضا ، وإلا كانت الرطوبة الحاصلة بمجرّد تصوّر
الحموضة اختيارية ، والسقوط عن حائط
__________________
دقيق العرض بمجرّد
تصوره اختياريا ، وكذلك ليس الرضا بلا علم ، وإلا كانت جميع الآثار والمعاليل
الموافقة لطبائع مؤثّراتها وعللها اختيارية. بل الاختياري هو الفعل الصادر عن شعور
ورضا ، فمجرّد الملاءمة والرضا ـ المستفادين من نظام الخير والصلاح التامّ ـ لا
يوجب الاختيارية ، بل يجب إضافة العلم إليهما.
فما به يكون الفعل
اختياريا منه ـ تعالى ـ هو العلم بنظام الخير ، لا أن الإرادة فيه ـ تعالى ـ بمعنى
العلم بنظام الخير.
وهذا الذي ذكرنا
مع موافقته للبرهان مرموز [ اليه ] في كلمات الأعيان ، بل مصرح به في كلمات جملة من الأركان.
وأما
توهم : أن الإرادة
بمعنى الجدّ ، وفيه ـ تعالى ـ جدّ يناسب مقام ذاته.
ففيه أن الجدّ لا
معنى له هنا إلا ما يعبّر عنه : تارة بتصميم العزم ، واخرى بإجماع الرأي ، وهو لا
يناسب مقام ذات الواجب ، بل يناسب الممكن الذي يحصل له التردّد ، ويتعقبه حينئذ
تصميم العزم وإجماع الرأي.
ثم إن تقسيم الإرادة
إلى التكوينيّة والتشريعية ؛ باعتبار تعلّق الاولى بفعل المريد بنفسه ، وتعلّق
الثانية بفعل الغير ـ أعني المراد منه ـ.
توضيحه : أنّ فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص ،
فينبعث ـ من الشوق إلى تلك الفائدة ـ شوق إلى فعل الغير بملاحظة ترتّب تلك الفائدة
العائدة إليه ، وحيث إنّ فعل الغير ـ بما هو فعل اختياري له ـ ليس بلا واسطة
مقدورا للشخص ، بل بتبع البعث والتحريك إليه ؛ لحصول الداعي للغير ، فلا محالة
ينبعث للشخص شوق إلى ما يوجب حصول فعل الغير اختيارا ، وهو تحريكه إلى الفعل.
__________________
فالإرادة
التشريعية ليست ما تعلق بالتحريك والبعث ـ فإنهما من أفعاله ، فلا مقابلة بين
التشريعية والتكوينية ـ بل التشريعية هي الشوق المتعلّق بفعل الغير اختيارا ، وأما
إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة إلى الشخص ، فلا يعقل تعلّق الشوق به ؛ بداهة
أن الشوق النفساني لا يكون بلا داع.
نعم ربما يكون
إيصال النفع إلى الغير بتحريكه ـ أمرا ، أو التماسا ، أو دعاء ـ ذا فائدة عائدة
إلى الشخص ، فينبعث الشوق إلى ايصال النفع بالبعث والتحريك ، ولا وجه لعدّ مثله
إرادة تشريعية ، فان متعلّقها إيصال النفع إلى الغير بتحريكه ، وهو فعله لا فعل
الغير.
إذا عرفت ما تلونا
عليك فاعلم : أن حقيقة إرادته ـ تبارك وتعالى ـ في مرتبة ذاته ابتهاج ذاته بذاته ؛
لما سمعت غير مرة : أنه ـ تعالى ـ صرف الوجود ، والوجود ـ بما هو وجود ـ خير محض ،
فهو صرف الخير ، والخير هو الملائم اللذيذ الموجب للابتهاج والرضا ، فهو صرف الرضا
والابتهاج ، كما كان صرف العلم والقدرة ـ لا ان منه ما هو علم ، ومنه ما هو قدرة ،
ومنه ما هو إرادة ـ فالمراد بالإرادة الذاتية نفس ذاته المقدّسة بالذات ، كما أن
المعلوم في مرتبة ذاته بالذات نفس ذاته ، وكما أن غيره معلوم ـ بنفس علمه بذاته ـ بالعرض
والتبع ، كذلك غيره محبوب بالعرض والتبع بنفس محبة ذاته لذاته ، وكما أنّ كل ما
يوجد في دار الوجود له نحو من الحضور في مرتبة الذات لا بالذات ، بل بالعرض ، كذلك
كل ما يدخل في دار التحقق له نحو من المرادية والمحبوبية في مرتبة الذات بمرادية
الذات لا بمرادية اخرى بالعرض لا بالذات ، وإن كان لكلّ موجود معلومية اخرى
ومرادية اخرى في غير مرتبة الذات.
ومن ذلك كله يظهر
للفطن العارف : أن النظام التامّ الإمكاني صادر على طبق النظام الشريف الربّاني ،
وهذا أحد الأسرار في عدم إمكان نظام أشرف من هذا النظام ، وحيث لم يقع الكفر من
المؤمن والإيمان من الكافر ، كشف ذلك عن
عدم تعلّق الإرادة
الذاتية بهما ، وعدم دخولهما في النظام الشريف الرباني ، وإلاّ لوجدا في النظام
التامّ الإمكاني.
نعم ، من جملة
النظام التامّ ـ الذي لا أتمّ منه ـ نظام إنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، والتحريك
إلى ما فيه صلاح العباد ، والزجر عما فيه الفساد. فالمراد بالإرادة الذاتية بالعرض
لا بالذات ، هذه الامور دون متعلقاتها ، فلا أثر للارادة التشريعية في صفاته
الذاتية ـ جلّت ذاته ، وعلت صفاته ـ لكنه لا بأس بإطلاقها على البعث والزجر ، كما
في الخبر الشريف المرويّ في توحيد الصدوق 1 بسنده عن أبي
الحسن ـ عليه السلام ـ قال ـ عليه السلام ـ : « إن لله إرادتين ومشيّتين : إرادة
حتم ، وارادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء »
__________________
ـ الخبر ـ وهو
ظاهر في أن الإرادة التشريعية حقيقتها الأمر والنهي ، وأن حقيقة الإرادة والمشيّة
هي الإرادة التكوينية.
ومما ذكرنا في
المقدّمة آنفا في الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية تعرف : أنه لا مجال
لانقداح الإرادة التشريعية في النفس النبوية ، ولا في النفس الولوية ـ خصّهما الله
بألف تحية ـ وذلك لبداهة عدم فائدة عائدة من الفعل إليهما ، بل إلى فاعله ، وعود
فائدة من قبل إيصال النفع إلى النبي أو الولي لا يوجب كون الإرادة المتعلقة بالبعث
والزجر تشريعية ، لأنهما من أفعالهما الاختيارية المتوقفة على الإرادة فهي تكوينية
لا تشريعية.
فتحصّل من هذا
البيان القويم البنيان : أنّ حقيقة التكليف الجدّي البعث إلى الفعل بداعي انبعاث
المكلف ، أو الزجر عنه بداعي الانزجار ، وهذا المعنى لا يتوقف على إرادة نفس الفعل
مطلقا ، بل فيما إذا رجع فائدته إلى المريد.
ومن البيّن أن
حقيقة التكليف الجدي بهذا المعنى موجود في حق المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي ؛
إذ ليس المراد من كون البعث بداعي الانبعاث جعل البعث علة تامة للفعل ، وإلاّ كان
المكلف مجبورا لا مختارا ، بل جعله بحيث يمكن أن يكون داعيا وباعثا للمكلف ، فلو
خلا عما يقتضيه شهوته وهواه ، كان ذلك التكليف باعثا فعلا ، فيخرج من حدّ الإمكان
إلى الوجوب ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يتعلق بالمقام في مستقبل الكلام .
١٥٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( قلت : إنما يخرج
بذلك عن الاختيار لو لم يكن ... الخ ) .
توضيحه : أن إرادته ـ تعالى ـ لو كانت متعلقة بفعل العبد مطلقا ـ اراده
أم لا ـ لكان للجبري أن يستكشف عدم تأثير قدرة العبد وإرادته في فعله ؛ إذ
__________________
المفروض أنه واجب
الصدور أراده العبد أم لا ، ففيما أراده العبد من باب الاتفاق يكونان معلولي علة
واحدة ، وهي الإرادة الأزلية والمشيّة الإلهية ، وأما إن كانت متعلّقة بفعله بما
له من المبادي المصححة لاختياريته في حد ذاته ـ من القدرة والإرادة والشعور ـ فلا
طريق للجبري إلى عدم تأثير قدرة العبد وإرادته ؛ اذ المفروض أن نفي الاختيار
بمجرّد وجوب الصدور لمكان تعلّق الإرادة الأزلية به ، وبعد ما علم أنّ الإرادة لم
تتعلق بالفعل بما هو ، بل بمباديه الاختيارية أيضا ، فلا مجال لأن يقال : بعدم
الاختيارية لوجوب الصدور.
ومما ذكرنا يتضح
فساد ما ربّما يتوهّمه الجاهل من أنّ مسبوقية الفعل بالإرادة وجدانية ، فيرجع
النزاع إلى أن العدليّ يسمّي هذا الفعل بالاختياري دون الجبري ، فالنزاع في
التسمية.
وجه وضوح الفساد :
أن كل سابق لا يجب أن يكون مؤثّرا في اللاحق ، فمجرد تسليم الطرفين لسبق الإرادة
لا يرفع النزاع عن البين. فلا تغفل.
وأمّا لابدية صدور
الفعل بالاختيار ، وانقلاب الأمر على الجبري ، فهو أجنبي عن جواب هذا الاشكال
بالخصوص ، ولا يصحّ حمل اللابدّية في المتن على اللابدّية من حيث فرض توسّط
الإرادة ، وذلك لأنّ لازم عدمه الخلف ، لا تخلف المراد عن إرادته تعالى.
توضيحه : أن الاشكال : تارة في وجوب الفعل بإرادة الباري ، واخرى
في وجوب الفعل بإرادة الفاعل ، وثالثة في وجوب نفس الإرادة.
والأول ما توهمه الأشعري ، وقد عرفت أنّ الفعل لم يتعلّق به إرادة
الباري بما هو هو ، بل به بمباديه الاختيارية.
والثاني مندفع بأنّ وجوب الفعل بالإرادة يؤكد إراديته.
ودعوى لزوم بقاء
الارادة على حال بحيث لو شاء فعل ، ولو لم يشأ لم يفعل فاسدة ؛
لأنّ الإرادة ما لم تبلغ حدّا يستحيل تخلّف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل ؛ لأنّ
معناه صدور المعلول بلا علّة تامّة ، وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلّفها عنه ،
وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن علّته التامّة.
__________________
__________________
__________________
الإرادة الواجبة
بالذات ، فليس فعل العبد بإرادته حيث لا تكون إرادته بإرادته ، وإلا لتسلسلت
الإرادات.
وفيه : أنّ الفعل الاختياري ما كان نفس الفعل بالإرادة لا ما كان إرادته بالإرادة ، فإنّ القادر المختار من إذا شاء فعل ، لا من إذا
شاء شاء ، وإلا لم يكن فعل اختياري في العالم حتى فعله ـ تعالى عما يقول الظالمون
ـ إذ المفروض أن اختيارية فعله ـ تعالى ـ لصدوره عن العلم والإرادة ، ولو كانت
إرادته ـ تعالى ـ بإرادته للزم أن لا يكون إرادته عين ذاته ـ تعالى ـ إذ لا بد من
فرض إرادة اخرى حتى تصح إرادية الاولى ، فيلزم زيادة الثانية على الاولى المتحدة
مع ذاته تعالى.
__________________
...............................
__________________
توضيحه : أن الإشكال : إن كان في أصل وجوب الإرادة ففيه : أن
إرادته ـ تعالى ـ واجبة بالذات ، فالامر فيها أشكل.
وإن كان في وجوبها
بالغير ـ وانتهائها إلى الغير ـ ففيه : أن المانع من الانتهاء إلى الغير ليس إلا
لزوم كون الفعل بجميع مقدماته ـ أو بهذه المقدمة الأخيرة ـ صادرا عن اختيار ،
فينتقض بإرادة الباري ؛ إذ ليست إرادته من أفعاله الاختيارية ، مع أنه موجب لعدم
كون الإرادة عين ذاته للزوم التعدد ، بل يشكل حتى على القول بعدم كون إرادته عين
ذاته للزوم التسلسل.
مضافا إلى أنّ
الحاجة إلى مرادية الإرادة من جهة أنّ الإرادة من مقدّمات الفعل ، فلو لم تكن
بإرادته لم يكن الفعل بإرادته. وحينئذ فيشكل : بأن هذا الإشكال لا اختصاص له
بالإرادة ، بل يجري في علمه وقدرته ، ووجوده حيث إنّها ممّا يتوقّف عليه الفعل ،
وليست تحت قدرته واختياره.
ويسري هذا الإشكال
في فعل الواجب تعالى ؛ حيث إنه يتوقف على ذاته وصفاته ، مع أنه ليس شيء منها من
أفعاله الاختيارية ، فإنّ وجوب الوجود بالذات يقتضي كونه بلا علّة ، لا كونه موجدا
لذاته وصفاته. فمناط المقهورية والمجبورية ـ وهو عدم كون الفعل بجميع مقدماته تحت
اختيار الفاعل ـ مشترك
__________________
بين الواجب
والممكن من دون دخل فيه للوجوب والإمكان.
ومنه يظهر : أن
تصحيح مراديّة الإرادة ـ كما عن السيد العلامة الداماد 1 ـ أو إدخالها تحت الأفعال الاختيارية ـ كما عن صاحب الفصول ـ لا يجدي شيئا ، ولا يرجع الى محصول.
أما ما أفاده
السيد 1 فمحصّله : أنّ الإرادة الوحدانية بالالتفات إليها تنحلّ إلى إرادة الإرادة ،
وإلى إرادة الإرادة ، وهكذا.
وفيه : أن الانحلال : إن كان بمجرّد الاعتبار ـ بمعنى أنه لو
التفت إليها لأرادها وهكذا ، فتنقطع السلسلة بانقطاع الاعتبار ـ فهي غير مرادة
بالحقيقة ، بل بالاعتبار وبالقوة ، لا بالفعل.
وإن كان بالحقيقة
وفي الواقع حتى تكون هناك إرادة موجودة حقيقة
__________________
بإرادة واحدة ،
ففيه أنه لا موجب للتحليل حقيقة ؛ إذ التحليل الحقيقي يتصور مع التعدّد الواقعي
بالإضافة إلى ما له أجزاء عقلية أو حقيقية ، كما في الأنواع المركبة والبسيطة.
مضافا إلى أن هذه الإرادات الموجودة بوجود واحد : إما تكون معلولة لإرادة اخرى ،
فيلزم كون شيء واحد داخلا وخارجا ؛ إذ المفروض أن هذه الإرادة الواحدة الإجمالية
وجود لجميع الإرادات ، وإما تكون معلولة للإرادة الإلهية فقد عاد المحذور.
وأما ما أفاده في
الفصول ـ من أنّ ما عدا الإرادة من الأفعال تكون اختياريته بصدوره
عن علم وقدرة وإرادة ، وأما الإرادة فاختياريتها بصدورها عن علم وقدرة فقط ـ فهو
جزاف بيّن.
__________________
تنبيه
وتنزيه
في الجبر
والتفويض والامر بين الامرين
الجبري
زعم : أن نفي
الاختيار عن العباد واستناد الأفعال إليه ـ تعالى ـ نوع تمجيد وتعظيم له ؛ حيث لا
مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، وإن عادة الله جرت على إيجاد ما يسمّى بالمسبّبات بعد
ما يسمّى بالأسباب.
ولكنه غفل عن أنه
ظلم عظيم في حق عادل حكيم ؛ لأنّ هذه الأفعال لا يعقل استنادها بلا واسطة إلاّ إلى القوى الجسمانية المتجدّدة الذوات ، والطبائع
المتصرّمة الإنّيات ، لا إلى الأرواح القدسيّة والشامخات العقلية ، فضلا عن واجب
الوجود بالذات وللذات.
كما أن المفوّضة زعموا أن استناد الأفعال إلى العباد على وجه
الاستقلال نوع تنزيه له ـ تعالى ـ عن استناد القبائح إليه ـ تعالى ـ ، ولم يتفطّنوا
أنه شرك محض ؛ فإنّ الاستقلال في الإيجاد فرع الاستقلال في الوجود ، وهو مختصّ
بواجب الوجود ـ تعالى ـ فهؤلاء أعظم شركا من الثنوية ، فإنهم قالوا بشريك واحد له
ـ تعالى ـ وأسندوا إليه الشرور ، وهؤلاء قالوا بتعدّد الشركاء بعدد الفاعلين ،
تعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
بل التعظيم العظيم
والتنزيه الوجيه ما تضمنته هذه الكلمة الإلهية المأثورة في الأخبار المتكاثرة عن
العترة الطاهرة ـ عليهم صلوات الله المتواترة ـ أعني
__________________
قولهم ـ : ـ : « لا جبر ولا
تفويض بل أمر بين أمرين » .
وتقريب هذه الكلمة
المباركة بوجهين :
أحدهما ـ أن العلّة الفاعلية ذات المباشر بإرادته ، وهي العلة
القريبة ، ووجوده وقدرته وعلمه وإرادته لها دخل في فاعلية الفاعل ، ومعطي هذه
الامور هو الواجب ـ تعالى ـ فهو الفاعل البعيد ، فمن قصر النظر على الأوّل حكم
بالتفويض ، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر ، والناقد البصير ينبغي أن يكون
ذا عينين ، فيرى الأوّل ، فلا يحكم بالجبر ، ويرى الثاني ، فلا يحكم بالتفويض.
وثانيهما : ما هو أدقّ وأقرب للتوحيد ، فإن الموحّد كما يجب أن يكون
موحّدا في الذات والصفات ، كذلك يجب أن يكون موحّدا في الأفعال.
وملخّص
هذا الوجه : أن الإيجاد
يدور مدار الوجود في وحدة الانتساب وتعدّده وفي الاستقلال وعدمه ، فلا بدّ هاهنا
من بيان أمرين :
أحدهما ـ بيان
كيفية استقلال الوجود وعدمه وتعدد الانتساب وعدمه.
ثانيهما ـ تبعية
الإيجاد للوجود فيما ذكر.
أما الأول ـ فمجمل
القول فيه أنه قد تقرّر في مقرّه : أن المجعول بالذات هو الوجود المنبسط ،
والمجعول والمعلول بالذات حيثية ذاته حيثية المجعولية والمعلولية والارتباط ، لا
أن هناك شيئا له المجعولية والربط.
والبرهان عليه :
أنّ كلّ ما كان
بذاته مطابقا لمحمول اشتقاقي ، فهو مصداق لمبدئه أيضا ، وإلاّ لزم مصداقيته له في
المرتبة المتأخّرة عن ذاته ، وهو خلف. وهذا معنى
__________________
عدم الاستقلال في
الوجود ؛ حيث إن الوجود المفروض حينئذ عين الربط ومحض الفقر.
وهذا الوجود
المطلق ـ المنبسط على هياكل الماهيات ، والمتحد مع مراتب الموجودات بما هو عين كل
مرتبة بلحاظ إطلاقه ولا بشرطيته ـ له انتسابان : إلى الفاعل بالوجوب ، وهو بهذا
الاعتبار فعله ـ تعالى ـ وصنعه ـ تعالى ـ ومشيّته الفعلية ، وإلى القابل بالإمكان
، وهو بهذا الاعتبار وجود زيد وعمرو وبكر إلى غير ذلك من الموجودات المحدودة
والماهيات.
وأما الامر الثاني
فمختصر الكلام فيه : أن الوجود المجعول بالذات بعد ما كانت حيثية ذاته حيثيّة
الربط والفقر ، فلا بد من أن يكون أثره كذلك ، وإلا لانقلب الربط المحض إلى محض
الاستقلال ، وهو محال ؛ إذ الجاعل بالذات حيثية ذاته حيثية الجاعلية كما عرفت ،
فان كان ذاته مستقلّة كانت حيثية الجاعلية مستقلة ، وإن كانت عين الربط والفقر كانت
حيثية الاقتضاء والجاعلية عين الربط والفقر ؛ إذ لا تغاير بين الحيثيتين حقيقة ،
ومن هنا قلنا سابقا : إن التفويض شرك بيّن.
إذا
عرفت ذلك تعرف : أن هذا الوجود الإطلاقي الذي حيثية ذاته حيثية الربط والفقر ، وكان له
انتسابان ـ حقيقة ـ إلى الفاعل والقابل ، أثره كذلك.
فمن حيث إن حيثية
الأثر كحيثية المؤثّر عين الارتباط تعرف أنه لا تفويض ، ومن حيث
إن الأثر كالمؤثر له انتسابان حقيقة تعرف أنه لا جبر ، فأثر كلّ مرتبة له جهتان :
جهة انتساب إليه تعالى ؛ حيث إنه أثر فعله الحقيقي
__________________
الإطلاقي ، وهذه
جهة تلي الربّ ، وجهة انتساب إلى العبد ؛ حيث إنه أثر وجوده الحقيقي ، وهي جهة تلي
الماهية ، فكما أن وجوده وجوده حقيقة وبلا عناية ، ومع ذلك فهو فعل الله وصنعه
حقيقة ، كذلك إيجاده إيجاده حقيقة وبلا تجوّز ، ومع ذلك فهو أثر فعله ـ تعالى ـ بلا
مجاز ، فاذا تمكّن العبد من نفي وجوده عن نفسه تمكّن من نفي إيجاده عن نفسه.
ولا يخفي عليك أن
الأثر إنما ينسب إليه ـ تعالى ـ بما هو مطلق ، وإلى العبد بما هو محدود ومقيد ،
وإلاّ فجلّ جنابه ـ تعالى ـ من أن تستند إليه الأفعال التي لا تقوم إلا بالجسم
والجسماني ، ولو كان من الأعمال الحسنة ؛ فضلا عن الأعمال السيئة.
نعم ربما تغلب
الجهة التي تلي الربّ ، وتندكّ فيها الجهة الاخرى كما في قوله تعالى : ( وَما
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) فحينئذ ينفى الانتساب إلى المربوب ، وينسب إلى الربّ.
ومن ذلك يظهر عدم
استناد الأفعال السيئة إليه تعالى من جهة اخرى. فتفطّن وافهم ، أو ذره في سنبله ،
والله المسدّد.
١٥٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ومعه كيف تصح
المؤاخذة؟ ... الخ ) .
كيف؟ وقد عرفت :
أن الاستناد إلى الله ـ تعالى ـ آكد من الاستناد إلى العباد ، فإنه إليه ـ تعالى ـ
بالوجوب ، وإليهم بالإمكان كما عرفت ، وإنما عطف
النظر ـ دام ظلّه ـ عن التكليف إلى المؤاخذة ؛ لكفاية هذا المقدار من الاختيار في
توجيه التكليف إلى الغير ، ويخرج بذلك عن اللغوية بخلاف المؤاخذة ممن
__________________
ينتهي إليه سلسلة
الفعل.
١٥٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( قلت : العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار ...
الخ ) .
توضيح الحال
يستدعي بسطا في المقال ، فنقول ـ وعلى الله الاتكال ـ : المثوبة والعقوبة على
نحوين :
احدهما ـ المثوبة
والعقوبة اللتان هما من تبعات الأفعال ، ولوازم الاعمال ، ونتائج الملكات الفاضلة
، وآثار الملكات الرذيلة ، ومثل هذه العقوبة على النفس لخطيئتها ، كالمرض على
البدن لنهمه ، والمرض الروحاني كالمرض الجسماني ، والأدوية العقلانية كالأدوية
الجسمانية.
وأما شبهة استحالة
استلزام الملكات النفسانية للآلام الجسمانية والروحانية ، فمدفوعة بوجوده في هذه
النشأة الدنيوية ؛ بداهة أن النفس يؤلمها تصوّر المنافرات ، ويحدث فيها الآلام
الجسمانية من غلبة الدم ونحوه عند الغضب وشبهه ، فلا مانع من حدوث منافرات روحانية
وجسمانية بواسطة الملكات الرذيلة النفسانية المضادّة لجوهر النفس. فليس عقاب من
معاقب خارجي حتى يقال : كيف العقاب من الحكيم المختار على ما لا يكون بالأخرة
بالاختيار؟ وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك ، فقد تكرر في القرآن
المجيد ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، وقال ـ عليه
السلام ـ : « إنما هي أعمالكم تردّ اليكم »
__________________
فراجع.
وثانيهما ـ المثوبة
والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي ، وهذه المثوبة والعقوبة هما اللذان ورد بهما ظاهر التنزيل ، فقصرهما على الأوّل خلاف ظواهر الكتاب والسنة ، وتصحيحهما بعد
صحّة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في غاية السهولة ؛ إذ كما أنّ المولى
العرفي له مؤاخذة عبده إذا أمره فخالفه ، كذلك مولى الموالي ؛ إذ لو كان الفعل
بمجرّد استناده إلى الواجب ـ تعالى ـ غير اختياري وغير مصحّح للمؤاخذة ، لما صحت
مؤاخذة المولى العرفي أيضا.
وإذا كان الفعل في
حدّ ذاته قابلا للمؤاخذة عليه فكون المؤاخذ ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة
والاختيار ، لا يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممن خولف أمره
ونهيه.
والتحقيق : أن الإشكال إن كان في استحقاق العقاب على مثل هذا الفعل
المنتهى إلى ما لا بالاختيار ، فالجواب عنه ـ بترتّب العقاب من باب الملازمة بينه
وبين المعصية ، وأنها كالمادة للصورة المنافرة في الآخرة ـ أجنبي عن مبنى الاشكال
بل المناسب لهذا المبنى هو الوجه الثاني.
وإن كان الإشكال
في فعلية إجراء العقاب ولو مع ثبوت الاستحقاق واختيارية الفعل حقيقة من حيث
استحالة التشفّي ، فالجواب ـ بأن العقاب من لوازم الأفعال ـ صحيح دافع لمحذور
استحالة التشفّي ، لكنه غير مناسب للكلام في اختيارية الفعل ، والإشكال في العقوبة
من أجلها ، ولا لترتّب العقاب على الاستحقاق ، فإنّ مبنى الملازمة غير مبنى
الاستحقاق ، بحكم العقلاء.
بل الجواب عنه ـ بناء
على المبنى المزبور ـ ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________________
ولعل الجواب
المزبور من أجل عدم الاعتناء بالمبنى المذكور ، وأنه لا نقول بالعقاب من أجل حكم
العقلاء بالاستحقاق حتى يرد علينا إشكال انتهاء الفعل إلى ما لا بالاختيار ، بل
نقول بأن الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة اخروية ، والتعبير
بالاستحقاق بملاحظة أن المادة حيث كانت مستعدة ، فهي مستحقة لإفاضة الصورة من واهب
الصور.
ومنه
تعرف : أن نسبة
التعذيب والإدخال في النار إليه ـ تعالى ـ بملاحظة أن إفاضة تلك الصورة المؤلمة
المحرقة التي تطّلع على الأفئدة منه ـ تعالى ـ بتوسّط ملائكة العذاب ، فلا ينافي
القول باللزوم مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي.
نعم يبقى الإشكال
من جهات لا ينبغي إهمالها ، وقطع النظر عن دفعها :
منها : أنه ما
الموجب لاختيار التعذيب والمعاقبة من المختار الرحيم بعد استحالة التشفّي في حقّه
ـ تعالى ـ بناء على مبنى الاستحقاق عقلا أو شرعا؟
ويجاب عنه بأحد
وجهين :
الأوّل ـ انّ التعذيب من باب تصديق التخويف ، والإيفاء بالوعيد
__________________
الواجبين في
الحكمة الإلهية ، فإنّ إخلاف الميعاد مناف للحكمة وموجب لعدم ارتداع النفوس من
التوعيد والتخويف. وهذا الوجه ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات على ما هو ببالي ، وغيره في غيرها ، لكن الكلام في
أصل التخويف والتوعيد ؛ إذ أيّ موجب لهما عقلا حتى يجب ايفاؤهما وإحقاقهما؟!
وصحّحه بعض أجلّة
العصر : بأن أصل التخويف والتوعيد ، وإن كان بنفسه تعهّد إيذاء الغير ، إلا أنّ
ذلك من باب دفع الأفسد بالفاسد ، وهو دفع وقوع العبد في المفسدة أو فوت المصلحة
عنه بالتخويف والتوعيد المقتضيين لترتّب العقاب على ما اختاره العبد من المعاصي
والمآثم.
وأنت خبير بأنّ
مفسدة نفس التوعيد وهي تخويف الغير وإرعابه ، وإن كانت جزئية لا تقاوم مفسدة الزنا
مثلا ، لكن لازم هذا الجعل والتوعيد ، وهو وقوع العبد في العذاب الاخروي أعظم
بمراتب من وقوعه في المفسدة الدنيوية ، ومن فوت المصلحة الدنيوية عنه ، فكيف يكون
من باب دفع الأفسد بالفاسد؟! بل الأمر بلحاظ لازمه بالعكس. وكون الإثم والعصيان
باختيار المكلّف لا دخل له
__________________
__________________
في هذه المرحلة
فإنه يصحّح الملامة على العبد وذمّه بإقدامه ، لا إنه يصحّح جعل الضرر من الغير ،
وإلاّ فلكلّ أحد جعل الضرر على عباد الله ، بل جعل الضرر إنما يصحّ إذا كان بعد
الكسر والانكسار حسنا وواجبا في الحكمة ، وقد عرفت أن مفسدة جعله أعظم من مفسدة
تركه ؛ إذ لو لم يكن تخويف وتوعيد بالنسبة إلى هذا العاصي ، لم يكن في الخارج إلا
وقوعه في مفسدة دنيوية ، وإيكاله إلى نفسه وهواه الموجب لوقوعه فيها أولى من جعل
يوجب وقوعه في العقاب الاخروي أيضا ، فجعل العقاب مقدّمة لحفظ العبد عن الوقوع في
المفسدة إنما يكون إحسانا للعبد ، إذا لم يستلزم ما هو أعظم من وقوعه في المفسدة.
فالتحقيق : أنّ مصلحة التخويف العامّ حفظ النظام ، والحكيم يراعي
المصلحة العامّة الكلّية ، فكما لو لا تخويف من يرتدع حقيقة بالردع ، لما ارتدع ،
فلم يبق نظام الكلّ محفوظا ، كذلك لو احتمل المجرم ـ بما هو مجرم ـ أنه لا يعذّب.
فعموم التخويف والترهيب مما له دخل في حفظ النظام الذي لا أتمّ منه نظام.
ومنه
ظهر : أن المصلحة
الداعية إلى التخويف ليست مجرّد حفظ العبد عن الوقوع في المفسدة ـ وإن كانت من
الفوائد أحيانا ـ حتى يقال : بأنه لا يقاوم مفسدة الوقوع في العذاب الدائم ، بل
حفظ النظام الذي لا يزاحمه شيء أبدا. فليس للمجرم حجة على الله ـ تعالى ـ لإقدامه
على الضرر بإرادته ، ولا لأحد حجّة عليه ـ تعالى ـ من جهة جعله العقاب لاقتضاء
المصلحة الغير المزاحمة بشيء.
ومن هنا اتضح سرّ
التكليف والتخويف ، مع القطع بعدم التأثير ؛ حيث إن المقدمة وإن كان شأنها إمكان
التوصل بها ، لكن إيجادها مع القطع بعدم الموصلية لغو جزما ـ وإن لم يسقط عن
المقدّمية ـ إلاّ أنه بعد ما عرفت ـ أن
الداعي الحقيقي
حفظ النظام ، وهو مترتب على عموم التخويف والإلزام ـ فلا مجال للإشكال. غاية الأمر
أن ارتداع النفوس الطاهرة من الفوائد ، كما أنّ كونه حجة لله على النفوس الخبيثة من الفوائد ، وهذا معنى تسجيلية أوامر العصاة
والكفّار. فافهم واستقم.
الثاني : أن المخالفة والعصيان تقتضي استحقاق العقاب عقلا ،
فالعقل هو المخوّف على المخالفة ، واختيار العقاب فيما لا مانع منه ـ من توبة أو
شفاعة مثلا ـ مما تقتضيه الحكمة الإلهية والسّنة الربّانية لعين ما ذكرناه في جعل
العقاب ، غاية الأمر أن للشارع الاكتفاء في التخويف بتخويف العقل من دون حاجة إلى
جعل العقاب ، فما ورد من التصريح بالعقاب على المخالفة ليس تعهّدا للعقاب ، بل
تصريح بمقتضى الأمر عقلا ، فحينئذ إذا أقدم العبد على المخالفة ـ مع حكم العقل بما
ذكرنا ـ فلا يلومنّ إلاّ نفسه.
وأما وجه حكم
العقل باستحقاق العقاب فلما ذكرنا في محلّه من أن مخالفة
المولى عن علم وعمد هتك لحرمة المولى ، وخروج معه عن رسوم العبودية ومقتضيات
الرقية ، وهو ظلم ، خصوصا على مولى الموالي ، ومن يتوهّم أن الظلم على المولى لا
يسوّغ عقاب الظالم ومؤاخذته ، فقد كابر مقتضى عقله ووجدانه. وتمام الكلام في
محلّه.
__________________
ومنها : أنّ المبدأ الخيّر لا يصدر منه إلاّ الخير ، ولا يصدر
منه الشرّ لعدم السنخية ، وعقاب المجرم شرّ ، فكيف يصدر منه؟ وهذا الإشكال جار حتى
على الوجه الأوّل ـ أعني كونه من لوازم الأفعال ـ إذ لا بدّ من خلوّ النظام عن
الشرّ.
والجواب : أن اللازم خلو النظام عن الشرّ بالذات ، وأما الشر
بالعرض ـ الذي كان بالذات خيرا ـ فلا مانع من صدوره عن الخير المحض ، وإفاضة
العقاب الدائم على أهله ـ كإفاضة الثواب الدائم على أهله ـ عين العدل والصواب ؛
لأنّها إفاضة محضة من حيث اقتضاء المورد القابل ، والشيء لا ينافي مقتضاه ، بل
يلائمه وإن كان العذاب الجسماني ـ من حيث تفرّق الاتصال المنافر للبدن ـ شرّا بالإضافة إليه ، إلاّ أنه بالعرض.
ومنها : أنّ إيجاد من سيوجد منه الموبقات والمهلكات ، أو إيجاد
نفس الموجبات لأنواع العقوبات على أيدي العباد ، مناف لرحمة ربّ الأرباب.
وتحقيق الجواب بتمهيد مقدمات نافعة :
الاولى ـ أنّ لكلّ
ماهيّة من الماهيّات ـ في حدّ ذاتها ـ حدّا ماهويّا ؛ بحيث لو زيد عليه أو نقص عنه
لخرجت تلك الماهية عن كونها هي ، وكانت ماهيّة اخرى ، مثلا : ماهية الشجر جوهر
ممتدّ نام ، فلو زيد على هذا الحدّ الماهوي ( الحسّاسية ) خرجت عن كونها ماهية
الشجر ، وكانت ماهية الحيوان. كما أنّه لو نقص عن الحدّ المذكور ( النامي ) خرجت
عن الشجرية ، ودخلت في الجماد. وهكذا الأمر في الماهيات الأخر ، فلكلّ ماهيّة
وجدان وفقدان.
__________________
الثانية ـ قد
تقرّر في مقرّه : أنّ لماهيات الأشياء ـ كائنة ما كانت ـ نحو وجود في
العلم الأزلي الربّاني بتبع العلم بالوجودات ، أو بتبع الصفات والأسماء ، كما لهجت
به ألسنة العرفاء. غاية الأمر أنّ العلم في مرتبة الذات ، والمعلوم في المرتبة
المتأخرة ؛ إذ لا يعقل أن يكون لنفس الماهية طريق في مرتبة وجود العالم ، وإلاّ
لانقلب ما حيثيّة ذاته حيثيّة طرد العدم إلى ما لا يأبى عن الوجود والعدم.
الثالثة ـ أنّ سنخ
الوجود ـ كما برهن عليه في محله ـ هو المجعول بالأصالة وبالذات ، والماهية مجعولة بالتبع
وبالعرض ، وإلاّ فوجدان الماهية لذاتها وذاتياتها ولوازمها غير محتاج إلى جعل
وتأثير ، ولا يعقل الجعل بين الشيء ونفسه ، ولا بينه وبين لوازمه.
الرابعة ـ كل ما
أمكن وجوده بالذات وجب وجوده ، إلا إذا توقّف على ممتنع بالذات ؛ إذ لا نقص في طرف
علة العلل من حيث المبدئية والعلية ، فلا بد من أن يكون النقص : إما في المعلول ،
والمفروض إمكانه ، أو في الوسائط من الأسباب والشرائط ، والنقص المانع ليس إلاّ
امتناعها الذاتي ، وإلاّ فيجري في تلك الواسطة هذا البيان. فاحتفظ به واغتنم.
إذا تمهّدت هذه
المقدمات ـ وتدبّرت فيها حقّ التدبّر ـ تعرف أنّ تفاوت الماهيات الجنسية والنوعية
والصنفية والشخصية ـ في أنفسها ولوازمها ـ بنفس ذواتها ، لا بجعل جاعل وتأثير مؤثر
، فمنهم شقيّ ومنهم سعيد بنفس ذاته وماهويته. وحيث كانت الماهيات موجودة في العلم
الأزلي ، وطلبت بلسان حال
__________________
استعدادها الدخول
في دار الوجود ، وكان الواهب الجواد فيّاضا بذاته غنيا بنفسه ، فيجب عليه إفاضة
الوجود ، ويمتنع عليه الإمساك عن الجود ، وحيث إنّ الجود بمقدار قبول القابل ـ وعلى
طبق حال السائل ـ كانت الإفاضة عدلا وصوابا ؛ إذ الشيء لا ينافي مقتضاه ، فإفاضة
الوجود على الماهيات ـ كائنة ما كانت ـ إفاضة على ما يلائم الشيء ؛ حيث إن الشيء
يلائم ذاته وذاتياته ولوازمه ، وقياسه بإجابة السفيه قياس باطل ؛ إذ السفيه ربما
يطلب ما ينافي ذاته ، فإجابته خلاف الحكمة ، بخلاف إجابة الماهيات ، فإنه لا
اقتضاء وراء الذات والذاتيات.
فالاعتراض : إن كان بالإضافة إلى مرتبة الذات والماهية فهو باطل بأنّ
الشقيّ شقيّ في حدّ ذاته ، والسعيد سعيد كذلك ـ كما عرفت ـ والذاتي لا يعلّل الا
بنفس ذاته ، وإن كان بالإضافة إلى الوجود فهو فاسد ؛ لما عرفت من أن إفاضة الوجود
على وفق قبول القوابل عدل وصواب.
وهذا معنى ما ورد
من « أنّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » ، وهو معنى قوله
ـ عليه السلام ـ : « السعيد سعيد في بطن أمّه والشقيّ شقيّ في بطن أمّه » .
والاختصاص ببطن
الامّ : إمّا لكونه أوّل النشآت الوجودية عند الجمهور ، أو المراد ما هو باطن
الشيء وكمون ذاته ومكنون ماهيته ، وإطلاق الامّ على الماهية بلحاظ جهة قبولها ،
كما اطلق الأب على الباري ـ تعالى ـ بلحاظ جهة
__________________
فاعليته في بعض
الكتب السماوية.
وهو معنى ما عن
العرفاء من أنّ العلم تابع للمعلوم ، فإنّه ـ تعالى ـ لم يول أحدا إلاّ ما تولّى ،
ولم يعطه إلا ما أعطاه من نفسه : ( وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) والله العالم.
١٥٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكنك غفلت عن
أنّ اتحاد الإرادة ... الخ ) .
قد عرفت ما عندنا
في هذا المقام عند البحث عن الإرادة التكوينية والتشريعية في بعض الحواشي السابقة ، فلا نعيد. فراجع.
__________________
[ مباحث
صيغة الأمر ]
في معاني
صيغة الأمر
١٥٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ضرورة أن الصيغة
ما استعملت في واحد ... الخ ) .
بل ربما لا يعقل ؛
إذ مفاد الهيئة كما هو بمعنى البعث أو الطلب الملحوظ نسبة بين المادّة والمتكلّم
والمخاطب ، فتكون المادّة مبعوثا إليها أو مطلوبة ، والمخاطب مبعوثا أو مطلوبا منه
، كذلك لا بدّ أن تلاحظ السخرية والتعجيز والتهديد متعلّقة بالمادّة ، مع أنه لا
معنى لجعل المخاطب مسخرة بالحدث ، ولا لجعله عاجزا به ، ولا لجعله مهددا به. وإنما
يسخّره ويعجزه ، ويهدده بتحريكه نحو المادة.
__________________
١٥٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( قصارى ما يمكن
أن يدّعى أن تكون الصيغة ... الخ ) .
فاستعمالها في الطلب
بسائر الدواعي خلاف الوضع لا الموضوع له ، وما يمكن إثبات نتيجة هذه الدعوى به
امور :
منها : انصرافها
إلى ما كان بداعي الجدّ : فإنّ غلبة الاستعمال بداعي الجدّ ربّما يصير من القرائن
الحافّة باللفظ ، فيكون اللفظ بما احتفّت به ظاهرا فيما إذا كان الإنشاء بداعي
الجدّ ، إلا أن الشأن في بلوغ الغلبة إلى ذلك الحدّ ؛ لكثرة الاستعمال بسائر
الدواعي ، ولو بلحاظ المجموع. فتأمل.
منها : اقتضاء
مقدّمات الحكمة : فإنّ المستعمل فيه ، وإن كان مهملا من حيث الدواعي ، وكان
التقييد بداعي الجدّ تقييدا للمهمل بالدقّة ، إلاّ أنه عرفا ليس في عرض غيره من
الدواعي ؛ إذ لو كان الداعي جدّ المنشأ ، فكأنّ المنشئ لم يزد على ما أنشأ.
منها : الأصل
العقلائي ؛ إذ كما أنّ الطريقة العقلائية في الإرادة الاستعمالية على مطابقة
المستعمل فيه للموضوع له ، مع شيوع المجازات في الغاية ، كذلك سيرتهم وبناؤهم على
مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية.
__________________
وبالجملة : الأصل في الأفعال حملها على الجد حتى يظهر خلافه ، وكثرة
الصدور عن غير الجد لا يوجب سدّ باب الأصل المزبور. فتدبر.
١٥٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا لإظهار
ثبوتها حقيقة بل لأمر آخر ... الخ ) .
لا يخفى عليك أن
المحال في حقّه ـ تعالى ـ ثبوتها لا إظهار ثبوتها ،
والأغراض المترتّبة على إنشاءاتها بلحاظ كشفها عن ثبوتها ، لا بلحاظ نفس وجوداتها
الإنشائية ، فإنّ إيجاد المفهوم بوجوده الجعلي العرضي اللفظي ـ مع قطع النظر عن
كشفه عما هو استفهام ، أو تمنّ أو ترجّ بالحمل الشائع ـ لا يترتّب عليه إظهار
المحبّة وغيرها من الأغراض.
فالإنصاف أن كيفية
الاستعمال والدلالة على الجدّ في ما وقع في كلامه ـ تعالى ـ على حدّ ما في كلام
غيره ، إلا أنه فيه ـ تعالى ـ لإظهار المحبّة مثلا ، فهو يظهر المحبة والاستيناس
بإظهاره الاستفهام الحقيقي بقوله تعالى : ( وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) ، كما أنه ـ تعالى ـ يشجعه ـ عليه السلام ـ على دعوة فرعون بإظهاره الترجّي
الحقيقي بقوله تعالى : ( لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ). فافهم.
١٥٩
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( في أن الصيغة
حقيقة في
__________________
الوجوب ... الخ ) .
المراد بالوجوب
كون الفعل مبعوثا إليه بالبعث الناشئ عن إرادة حتمية ، والفرق بينه وبين الإيجاب
بنحو من الاعتبار ؛ فان البعث ـ الصادر عن إرادة حتمية ـ له جهتان من الانتساب :
جهة انتساب إلى الباعث لقيامه به قياما صدوريا ، وهو قيام الفعل بفاعله ، وجهة
انتساب إلى المادّة لقيامه بها قيام حلول ، وهو قيام الصفة بالموصوف. فهذا البعث
الوحداني الواقع بين الباعث والمبعوث إليه بملاحظة هاتين النسبتين إيجاب ووجوب ،
كالايجاد والوجود.
وأما المصلحة
القائمة بالمادّة الموجبة لتعلّق البعث بها ، فهي من الدواعي الباعثة على إرادتها
والبعث نحوها ، لا أنها عين وجوبها ، كما لا يخفى.
وأما ما عن بعض
الأعلام من مقاربي عصرنا 1 ـ من أن التغاير بين الإيجاب والوجوب حقيقي ؛ لأن الإيجاب
من مقولة الفعل ، والوجوب من مقولة الانفعال ، والمقولات متباينة ـ فهو اشتباه بين
الفعل والانفعال المعدودين من المقولات ، وبين ما يعدّ عرفا من الفعل المقابل
للصفة. وميزان المقولتين المتقابلتين : أن يكون هناك شيئان : لأحدهما حالة التأثير
التجدّدي ، وللآخر حالة التأثّر التجدّدي ، كالنار والماء ؛ فإنّ النار في حال
التسخين لها حالة التأثير التجدّدي آناً فآنا في الماء بإعطاء السخونة ، والماء له
حالة التأثّر والقبول التجدّدي للسخونة.
وأما نفس السخونة
الحادثة في الماء ، فهي من مقولة الكيف ، ومثل هذا المعنى غير موجود في المقام
وأشباهه.
ولو تنزّلنا عن
ذلك لم يكن الوجوب من مقولة الانفعال ، بل الوجوب كالسخونة القائمة بالماء ،
وحيثية قبول المادة للوجوب ـ على فرض التنزّل ـ من
__________________
مقولة الانفعال ،
لا نفس الوجوب ، وليس الإيجاب إلاّ هذا الوجوب من حيث صدوره عن الموجب ، وحيثية
الصدور والتأثير وأشباهها حيثيات انتزاعية. فافهم واستقم.
١٦٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( كيف؟ وقد كثر
استعمال العامّ في الخاصّ حتى قيل : ما من عامّ ... الخ ) .
ربما
يقال : إن كثرة الاستعمال
الموجبة للنقل أو الإجمال ، إنما تصحّ في مثل أسماء الأعلام والأجناس ، لا في مثل
الهيئات التي لا تنتهي إلى جامع لفظي ، بل ينتزع عن الهيئات المختلفة ـ باختلافها
تارة وزنا وحركة ، وباختلاف موادّها اخرى ـ جامع يعبر عنه بصيغة ( افعل ). ومن
الواضح أن هذا الجامع الانتزاعي لم يستعمل في شيء غالبا حتى يوجب انس الذهن بالنسبة
إلى اللفظ والمعنى ، واستعمال هيئة خاصة في الندب تارة ، واستعمال هيئة خاصة اخرى
فيه اخرى ، لا يوجب الانس بين لفظ ومعنى ، والجامع الانتزاعي غير مستعمل في شيء لا
أنه ليس من مقولة الألفاظ.
وجوابه يتضح بالرجوع إلى ما أسمعناك في تحقيق نوعية الوضع في الهيئات ، وإجماله : أن
الهيئات الموضوعة للبعث اللزومي ـ باختلاف موادّها وأوزانها وحركاتها ـ لها نحو
وحدة باعتبار أن جميع هذه المختلفات بوضع واحد وضعت لمعنى واحد ، فاذا استعملت
المتفرّقات من هذه الهيئات في غير ما وضعت
__________________
له كثيرا ينثلم
ظهورها في معناها الوحداني ، وإن لم يكن كل واحدة من هذه الهيئات مستعملة في غير
ما وضعت له كثيرا.
ومنه يظهر الفرق
بينها وبين ألفاظ العموم وأدواتها فإن الجمع المحلّى باللام والنكرة في سياق النهي
والنفي ومثل ( كل ) و ( جميع ) وأشباه ذلك ، وإن وضعت لسنخ معنى واحد ، لكن لا
بوضع واحد ، بل بأوضاع متعدّدة ، فكثرة استعمال الجمع المحلّى باللام في الخصوص لا
يوجب انثلام ظهور سائر أدوات العموم في العموم. فتدبّر.
١٦١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل يكون أظهر من
الصيغة ... الخ ) .
لا يخفى أن النكتة
الآتية في كلامه ـ مد ظله ـ من أن إظهار الطلب بعنوان الإخبار بوقوع المطلوب يدلّ
على أنه لا يرضى بتركه حتى أخبر بوقوعه ، يمكن الخدشة فيها : بأن الإخبار بالوقوع
يناسب إرادته ، لا الإخبار بسائر الدواعي الجارية في الصيغة من التهديد والتعجيز
وغيرهما ، فان هذه الدواعي لا تناسب الإخبار بالوقوع. بخلاف ما إذا كان الغرض
وقوعه في الخارج فإنه يناسبه الإخبار بوقوعه ، فكأنّ وقوعه مفروغ عنه. وأما أن
إرادة وقوعه على وجه عدم الرضا بتركه أولا؟ فلا شهادة لمضمون الجملة الخبرية عليه
كما لا يخفى.
إلاّ
أن يقال : إن الملازمة
بين الأخبار بالوقوع وإظهار إرادة الوقوع لا بدّ من أن تكون للملازمة بين الوقوع
وطلب الوقوع ، ومن البيّن أن الوقوع من المنقاد لازم لطلبه منه ، فالبعث نحو المنقاد ملزوم لوقوع المبعوث [ إليه ] منه في الخارج ،
فلذا أخبر عن اللازم إظهارا لتحقق ملزومه. ومن الواضح أن البعث
__________________
الذي لا ينفكّ عن
الوقوع من المنقاد هو البعث الحتمي ، وإلا فالبعث الندبي ـ ولو إلى المنقاد ـ لا
يلازم الوقوع ، بل ربما يكون ، وربما لا يكون.
وأما استفادة ذلك
بملاحظة أن الوقوع لا يكون إلا مع ضرورة الوجود ، فالمراد إظهار لا بدّيّة الوقوع
بالإخبار عن الوقوع المستلزم لضرورة الوجود ، فبعيدة في الغاية عن أذهان العامّة
في مقام المحاورة.
١٦٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إنما يلزم الكذب
إذا اتي بها بداعي الإخبار والإعلام ... الخ ) .
فإن القصد
الاستعمالي المتعلّق بالجملة لا واقع له وراء نفسه ، فلا يعقل اتصافه بصدق ولا كذب
، بل مناط الصدق والكذب هو القصد الجدّي إن تعلّق بمضمون الجملة ، ولو لا لداعي
الإعلام وحصول العلم للمخاطب ، بل لإفادة لازمه أو إظهار التألم ، كما في قولك : (
الهواء حارّ أو بارد ) ، أو إظهار التأسف ، كما في قولك : ( مات زيد ) إذا علم
المخاطب بموته وبعلمك بموته ، فإنّ هذه الأغراض لا تترتب إلاّ على الحكاية الحقيقية
، بخلاف الكناية ، فإنّها لمجرّد الانتقال من الملزوم إلى اللازم ، فلا شأن لمضمون
الجملة إلاّ كونه قنطرة محضة إلى اللازم ، وكذلك الإخبار بداعي البعث والتحريك ،
فإنّه لمجرّد إظهار الطلب.
فإن
قلت : الحكاية والكشف
والإرادة حقيقة بلا محكيّ ولا مكشوف ولا مرئيّ حقيقة محال ، فلا يعقل أن يتعلّق به
القصد ، فما المقسم في الخبر الصادق والكاذب؟
قلت
: المراد من الحكاية
الحقيقية بالجملة الخبرية إحضار الواقع بإحضار المفهوم الفاني فيه
في ذهن المخاطب بتوسّط إحضار اللفظ ، وحضور الواقع بنحو
__________________
فناء المفهوم فيه
في ذهن المخاطب لا يستدعي ثبوت المطابق في الخارج ؛ إذ العلم يتقوّم بالمعلوم
بالذات ، لا بالمعلوم بالعرض ، وهذا الإحضار الخاصّ ربّما يكون عن جدّ بداعي
الإعلام أو الإعلام بعلم المتكلم او بداعي إظهار التألّم او التأسّف ، وربما لا
يكون عن جدّ ، بل قنطرة محضة إلى لازمه أو ملزومه ، فلذا لا يتّصف بالصدق والكذب
بلحاظ نفسه.
١٦٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ شدّة
مناسبة الإخبار بالوقوع ... الخ ) .
لكنه لا يوجب
تعيّنه من بين المحتملات في مقام المحاورة ؛ حتى يقال : إنه مبيّن بذاته في مقام
البيان ، فلو اقتصر عليه المتكلّم لم يكن ناقضا لغرضه ولعله ـ دام ظلّه ـ أشار
إليه بقوله : ( فافهم ) .
لا
يقال : حيث لا نكتة
للإخبار عن الوقوع إلاّ ما ذكر فيتعيّن الوجوب.
لأنا
نقول : لا تنحصر
النكتة فيما يعيّن الوجوب ، بل من المحتمل إرادة مطلق الطلب ؛ نظرا إلى أن الإرادة
ـ سواء كانت حتمية أو غير حتمية ـ مقتضية للفعل.
وبعبارة
اخرى : البعث الصادر
عن إرادة حتمية أو غير حتمية حيث إنه لجعل الداعي إلى الفعل ، فهو مقتض للوقوع ،
فالإخبار عن المقتضي إظهارا للمقتضى نكتة صحيحة مصحّحة لإرادة الفعل كذلك.
نعم النكتة
المعيّنة للوجوب أنسب بالإخبار عن الوقوع ، وشدة المناسبة بنفسها لا توجب كون
الوجوب قدرا متيقّنا في مقام المخاطبة.
١٦٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم فيما كان
الأمر بصدد
__________________
البيان ... الخ ) .
توضيحه
: أن حتمية الإرادة عبارة عن بلوغها مرتبة لا يرضى بترك ما تعلّقت به ، وندبيتها عبارة عن نقصان
مرتبتها ، بحيث يرضى بترك متعلّقها. فالإرادة الحتمية الأكيدة إرادة محضة لا
يشوبها شيء ، والإرادة الندبية حيث إنها مرتبة ضعيفة من الإرادة ، فهي فاقدة
لمرتبة منها ، فهي متفصّلة بفصل عدمي ، ليس من حقيقة الإرادة في شيء. فاذا كان
المتكلم في مقام البيان ، فله الاقتصار على الصيغة الظاهرة في البعث الصادر عن
إرادة في إفادة حتمية الإرادة ؛ لأن حتمية الإرادة حيث إنها مرتبة من نفس الإرادة
الخالصة ، فكأنها لم تزد شيئا على الإرادة حتى يحتاج إلى التنبيه عليه. بخلاف ما
إذا كان في مقام إفادة الندب لأنه ممتاز بأمر خارج عن حقيقة الإرادة ، وإن كان
عدميّا ، فلا بد من التنبيه عليه ، وإلا كان ناقضا لغرضه.
__________________
.....................................
__________________
__________________
.....................................
__________________
__________________
...............................
__________________
ولعل المراد
بالأكملية المحكية عن بعض المحققين هذا المعنى.
كما
حكي عنه : أن الانصراف
الموجب لتبادر الوجوب من الصيغة انصراف حقيقة الطلب ولبّه لا انصراف الصيغة ،
فالمراد بالانصراف ليس معناه المصطلح ، بل مطلق ما يوجب تعين بعض المحتملات في
مقام البيان.
إلاّ أن الإنصاف
أن هذا التقريب دقيق ، ومثله غير قابل للاتكال عليه عند التحقيق ، فهو نظير إطلاق
الوجود وإرادة الواجب ؛ نظرا إلى أنه صرف الوجود الذي لا يشوبه العدم ، فكما لا
يمكن الاتكال عليه في المحاورات العرفية ، فكذلك فيما نحن فيه ولعله ـ دام ظلّه ـ أشار
إليه بقوله : ( فافهم ) .
__________________
١٦٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الوجوب التوصلي
هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ... الخ ) .
لا يخفى عليك أنّ الفرق
بين التعبّدي والتوصّلي في الغرض من الواجب ، لا الغرض من الوجوب ؛ إذ الوجوب ـ ولو
في التوصلي ـ لا يكون إلاّ لأن يكون داعيا للمكلف إلى ما تعلق به.
ومنه يظهر أن
الوجوب في التوصّلي لا يغاير الوجوب في التعبّدي أصلا ، حتى بلحاظ الغرض الباعث
للإيجاب ، والإطلاق المدّعى في المقام هو إطلاق المادّة ، دون إطلاق الوجوب والأمر
، ففي الحقيقة لا وجه لجعل هذا البحث من مباحث الصيغة. فتدبّر جيّدا.
١٦٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن التقرّب
المعتبر في التعبدي إن كان ... الخ ) .
تحقيق
الحال : أن الطاعة إما
أن تكون بمعنى ما يوجب استحقاق المدح والثواب ، أو ما يوجب التخلص عن الذم والعقاب
، فان اريد الإطاعة بالمعنى الأوّل ، فالتقرب معتبر فيها عقلا إلا أنّ الإطاعة
بهذا المعنى غير واجبة بقول مطلق عقلا ، بل في خصوص التعبّدي ، وإن اريد الإطاعة
بالمعنى الثاني ، فهي وإن كانت واجبة عقلا مطلقا ، إلا أن التقرّب غير معتبر فيها
بقول مطلق ، بل في خصوص ما قام الدليل على دخله في الغرض من الواجب ليجب إسقاط
الغرض عقلا فيجب التقرب.
وتوضيح القول في
ذلك : أن استحقاق المدح والثواب على شيء عقلا لا يكون إلا باستجماعه لأمرين :
__________________
احدهما ـ انطباق
عنوان حسن بالذات أو ما ينتهي إلى ما هو كذلك ـ عليه.
ثانيهما ـ إضافته
إلى من يستحق من قبله المدح والثواب بالذات أو بالعرض ، ولو فقد أحد الأمرين لم
يستحقّ المدح والثواب.
والوجه في اعتبار
الأول : أن مجرّد المشي إلى السوق ـ مثلا ـ لا يمدح عليه عند العقلاء ما لم ينطبق
عليه عنوان يوجبه ذاتا ، ومجرّد كون الداعي أمر المولى لا يوجبه ذاتا ؛ إذ الداعي
المذكور : إن لم يوجب تغيّر عنوان الفعل لم يكن موجبا لتأثيره في المدح ذاتا ، وإن
أوجب ما لا يوجبه ذاتا ، بل بالعرض وجب انتهاؤه إلى ما يوجبه ذاتا للزوم انتهاء كل
ما بالعرض إلى ما بالذات ، وإلا لزم التسلسل ، والعنوان الحسن ـ المنطبق على المأتي
به بداعي الأمر ـ عنوان الانقياد والتمكين الذي هو عدل وإحسان.
والوجه في اعتبار
الثاني : أنّ الفعل إذا لم يرتبط بمن يستحقّ من قبله المدح والثواب ، كان نسبة
إليه وإلى غيره على حدّ سواء ، وارتباطه إلى المولى إما بالذات أو بالعرض المنتهى
إلى ما بالذات ، فمثل تعظيم المولى يضاف إليه بنفسه ولو لم يكن أمر وإرادة ، وأما
مثل تعظيم زيد الأجنبي عن المولى ، فهو غير مضاف بطبعه إلى المولى ، ولا بدّ في
إضافته إليه من أن يكون بداعي أمره وإرادته ، فهذا الداعي من روابط الفعل إلى
المولى ، ويدخل تحت عنوان مضاف إليه بذاته كعنوان الانقياد والاحسان.
فاتّضح : أن الفعل وإن لم يكن في حدّ ذاته موجبا للمدح والثواب
لانتفاء الأمرين ، لكنه إذا أتى به بداعي الأمر انطبق عليه عنوان حسن بالذات ،
وارتبط إلى المولى أيضا كذلك.
وأما الإتيان
بسائر الدواعي القربية ، فليس كذلك ، ولا بأس بالإشارة إليه ، كي ينفعك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
__________________
أما الإتيان بداعي
أهلية المولى للعبادة ، فمورده العبادة الذاتية ـ أي ما كان حسنا بالذات ـ بداهة
أنّ المولى ليس أهلا لما لا رجحان فيه ، ولم يكن حسنا ذاتا ، فالمورد ـ مع قطع
النظر عن هذا الداعي ـ حسن بالذات ، ومثله مرتبط بذاته ، لا من طريق الداعي ، فهذا
الداعي كما لا يوجب انطباق عنوان حسن ذاتا ، كذلك لا يوجب ارتباط الفعل بالمولى ،
بل يتعلق بما كان في حد ذاته ذا جهتين من الحسن والربط.
ومنه تعرف حال
الشكر ، والتخضّع ونحوهما ، فإن الإتيان بأمثال هذه الدواعي يتوقّف على كون الفعل
ـ مع قطع النظر عن هذه الدواعي ـ شكرا وتخضّعا وتعظيما ، فيكون الفعل ـ مع قطع
النظر عنها ـ حسنا ومرتبطا ذاتا ، أو منتهيا إليهما كذلك.
ومنه يتبيّن حال
الإتيان بداعي الثواب أو الفرار من العقاب ، فإنّ الفعل لو لم يكن موجبا للثواب
ومانعا من العقاب لم يتوجّه إليه مثل هذا الداعي فيخرج هذا الداعي عن كونه موجبا
لعنوان حسن ذاتي ورابطا له إلى المولى ، وإنما يصحّ أن يكون داعيا لما كان كذلك أو
داعيا للداعي.
وأما الاتيان
بداعي المصلحة الكامنة في الفعل : فإن كان بعنوان أنها داعية للمولى إلى الأمر
والإرادة لو لا غفلته أو لو لا مزاحمته ، كان هذا الداعي موجبا لانطباق عنوان
الانقياد والتمكين ، بل الانقياد فيه أعظم من الانقياد في صورة الأمر والإرادة ،
وكذلك يكون رابطا له إلى المولى.
وإن كان لمجرّد
كون الفعل ذا فائدة ـ سواء رجعت إلى المولى أو إلى غيره ـ فلا ريب في عدم كونه
موجبا لعنوان حسن ، ولا للارتباط إلى المولى ؛ إذ لا مساس له إلى المولى ، فالمولى
وغيره في عدم إضافة الفعل إليه سواء ، فلا الفعل انقياد وتمكين وإحسان له ، ولا
بنفسه ولا بالعرض مربوط به ، وإن استفاد المولى منه فائدة ، إلا أنّ استفادته غير
ملحوظة للفاعل حتى يكون هذا نحو
انقياد له.
إذا عرفت ما ذكرنا
تعرف : أن استحقاق المدح والثواب لا يدور مدار صدق الإطاعة لترتّبها على ما لا أمر
ولا إرادة هناك كالتعظيم الذي لم يؤمر به ، ولم ينطبق عليه عنوان قبيح.
كما أن الإطاعة
الموجبة للمدح والثواب مشتركة بين التعبّدي والتوصلي ، فلا تجب عقلا بل تجب بمعنى
آخر ، وهو ما يوجب التخلّص من الذمّ والعقاب ، وهو لا يكون إلاّ إذا ترتّب الغرض
من الواجب على المأتيّ به ، سواء اتي به بهذا الداعي ونحوه أم لا.
نعم ربّما يكون
الإتيان بداع مخصوص دخيلا في الغرض ، فالتخلّص عن الذم والعقاب بإتيان الفعل على
نحو يترتّب عليه الغرض. وهذا أمر لا طريق للعقل إليه ، وحاله حال سائر ما له دخل
في الغرض ، فما يحكم العقل بوجوبه لا طريق له إلى دخل القربة فيه ، وما له طريق
لدخل القربة فيه لا يحكم بوجوبه.
وحديث الشك والحكم
بالاشتغال أمر آخر ، سنفصّل فيه المقال إن شاء الله
تعالى.
١٦٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر ...
الخ ) .
ربما
توجّه الاستحالة : بأنه لا بدّ من ثبوت الموضوع في مرتبة موضوعيته ، حتى يتعلّق الحكم به ،
وسنخ الموضوع هنا لا ثبوت له ـ في حد ذاته ـ مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به ؛
لأنه الفعل بداعي شخص الطلب الحقيقي المتعلّق به.
وفيه : أن الحكم بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهيّة ،
لا من قبيل عوارض الوجود ؛ كي يتوقف عروضه على وجود المعروض ، وعارض الماهية
__________________
لا يتوقف ثبوته
على ثبوتها ، بل ثبوتها بثبوته كثبوت الجنس بفصله والنوع بالتشخص ؛ إذ من الواضح
أنّ الحكم لا يتوقّف على وجود موضوعه خارجا ، كيف؟! ووجوده خارجا يسقط الحكم ،
فكيف يعرضه؟ كما لا يتوقف على وجوده ذهنا ؛ بداهة أن الفعل بذاته مطلوب ، لا
بوجوده الذهني ، بل الفعل يكون معروضا للشوق النفساني في مرتبة ثبوت الشوق ؛ حيث
إنه لا يتشخّص إلاّ بمتعلّقه ، كما في المعلوم بالذات بالنسبة إلى العلم ، فما هو
لازم توقّف العارض على معروضه هذا النحو من الثبوت ، بل المانع من تقويم الحكم
لموضوعه ، وتقوّم موضوعه به أو بما ينشأ من قبل حكمه أن الحكم متأخّر طبعا عن
موضوعه ، فلو اخذ فيه لزم تقدّم المتأخّر بالطبع ، وملاك التقدّم والتأخّر
الطبعيين أن لا يمكن للمتأخّر ثبوت إلا وللمتقدم ثبوت ولا عكس ، كما في الاثنين
بالنسبة إلى الواحد ، ونسبة الإرادة إلى ذات المراد كذلك ؛ إذ لا يمكن ثبوت
للإرادة إلاّ وذات المراد ثابت في مرتبة ثبوت الإرادة ولا عكس ؛ لإمكان ثبوت ذات
المراد تقرّرا وذهنا وخارجا بلا ثبوت الإرادة ، ولا منافاة بين التقدّم والتأخّر
بالطبع والمعيّة في الوجود ، كما لا يخفى.
ومما ذكرنا يظهر
بالتأمل : عدم الفرق بين الأمر بالصلاة بداعي شخص الأمر المتعلّق بها ، أو بداعي
الأمر الحقيقي بنحو القضية الطبيعية ؛ بمعنى عدم النظر إلى شخص الأمر ـ لا بمعنى
آخر ـ فإنّ شخص هذا الأمر ما لم يسر إلى الصلاة لا يكون المقيّد بداعي الأمر
موضوعا للحكم ، وسرايته إلى المقيّد من قبل نفسه واقعا محال ، وإن لم يكن ملحوظا
في نظر الحاكم.
ومما بيّنّا في
وجه الاستحالة يتبين : أن توهّم كفاية تصوّر المقيّد بداعي الأمر الشخصي ـ مثلا ـ في
الموضوعية للحكم أجنبيّ عن مورد الإشكال ، وكأنه مبنيّ على توهّم الإشكال من حيث
توقف الحكم على ثبوت الموضوع ، فاجيب بأنّ ثبوته في التصوّر كاف. فتدبّر جيّدا.
ولا يخفى عليك :
أنّ إشكال التقدّم والتأخّر الطبعي أيضا قابل للدفع عند
التأمل ؛ لأنّ
الأمر بوجوده العلمي يكون داعيا ، وبوجوده الخارجي يكون حكما للموضوع والوجود
العلمي لا يكون متقوّما بالوجود الخارجي بما هو ، بل بصورة شخصه لا بنفسه ، فلا
خلف كما لا دور.
بل التحقيق في
خصوص المقام : أن الانشاء حيث إنه بداعي جعل الداعي ، فجعل الأمر داعيا إلى جعل
الأمر داعيا يوجب علّية الشيء لعلّية نفسه ، وكون الأمر محرّكا إلى محرّكية نفسه ،
وهو كعلّية الشيء لنفسه. وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ نظيره في عبارة المصنّف دام ظلّه.
نعم هذا المحذور
إنّما يرد إذا اخذ الإتيان بداعي الأمر بنحو الشرطية أو بنحو الجزئية ، وأما إذا
لوحظ ذات المأتي به بداعي الأمر ـ أي هذا الصنف من نوع الصلاة ـ وامر به ، فلا يرد
هذا المحذور ، كما سيجيء ان شاء الله تعالى.
١٦٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فما لم تكن نفس
الصلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن ... الخ ) .
لا يخفى عليك أنّ
ما أفاده ـ دام ظلّه ـ أوّلا كاف في إفادة المقصود وواف بإثبات تقدّم الحكم على
نفسه ، والظاهر أن نظره الشريف إلى لزوم الدور في مرحلة الاتصاف خارجا ، كما صرّح
به في تعليقته الأنيقة على رسالة القطع من
__________________
رسائل شيخنا
العلاّمة الانصاري ـ قدس سره ـ.
بيانه : أن اتصاف الصلاة المأتيّ بها خارجا بكونها واجبة ـ مثلا
ـ موقوف على إتيانها بداعي وجوبها ، وإلاّ لم يكن مطابقا للواجب ، ويتوقّف قصد
امتثالها بداعي وجوبها على كونها واجبة حتّى يتمكّن من قصد امتثالها بداعي وجوبها
فيدور.
إلا أن التحقيق في
الإشكال ما ذكرناه في الحاشية السابقة ، مع أن الفعل المأتيّ به في الخارج لا
يتّصف بكونه واجبا ـ كيف؟! وهو يسقط الوجوب ـ بل الفعل بمجرّد تعلّق الوجوب به
يتصف بأنه واجب.
مضافا إلى أنّ
الداعي لسبقه على العمل لا يتوقّف على اتصافه ـ بعد إتيانه ـ بالوجوب كي يدور ، بل
قبل إتيانه يتعلق الأمر به ، فلا دور حينئذ لتغاير الموقوف والموقوف عليه.
وأما إرجاعه إلى
وجه آخر وهو : أن الأمر المأخوذ في الصلاة كمتعلّقات موضوعات الأحكام لا بدّ من تحقّقها في
فعلية الأحكام ، فلا يكون التكليف بشرب الماء فعليا إلاّ مع وجود الماء خارجا ،
فما لم يكن أمر لا معنى للأمر بإتيان الصلاة بداعي الأمر ؛ لأنه ـ على الفرض ـ شرط
فعليته ، فيلزم الدور في مقام الفعلية فهو مدفوع بما قدمناه في الحاشية المتقدمة :
من أن الأمر
__________________
بوجوده العلمي
يكون داعيا ، ووجوده العلمي لا يتقوّم بوجوده الخارجي ، فلا دور ، بل المحذور ما
تقدّم.
نعم لازم التقييد
بداعي الأمر محذور آخر : وهو لزوم عدمه من وجوده ، وذلك لأن أخذ الإتيان بداعي
الأمر في متعلّق الأمر يقتضي اختصاص ما عداه بالأمر ؛ لما سمعت من أن الأمر لا
يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به ، وهو مساوق لعدم أخذه فيه ؛ إذ لا معنى لأخذه فيه إلاّ
تعلّق الأمر بالمجموع من الصلاة والإتيان بداعي الأمر ، فيلزم من أخذه فيه عدم
أخذه فيه ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.
ومن الواضح أن
عبارته ـ قدس سره ـ هنا غير منطبقة على بيان هذا المحذور ، وإلا لكان المناسب أن
يقال : لا يكاد يمكن الأمر بإتيانها بقصد امتثال أمرها ، لا أنّه لا يمكن إتيانها
بقصد امتثال أمرها.
نعم هذا المحذور ـ
أيضا ـ إنما يرد إذا اخذ الإتيان بداعي الأمر بنحو الجزئية ، أو بنحو القيدية ،
فإنّ لازم نفس هذا الجزء أو القيد تعلّق الأمر بذات الصلاة ، ولازم جعل الأمر
داعيا إلى المجموع أو إلى المقيّد ـ بما هو مقيّد ـ عدم تعلّق الأمر ببعض الأجزاء
بالأسر أو بذات المقيد.
وأما إذا تعلق
الأمر بذات المقيد ـ أي بهذا الصنف من نوع الصلاة وذات هذه الحصة من حصص طبيعي
الصلاة ـ فلا محذور من هذه الجهة أيضا لفرض عدم أخذ قصد القربة فيه ، وإن كان هذه
الحصة خارجا لا تتحقّق إلاّ مقرونة بقصد القربة ، فنفس قصر الأمر على هذه الحصة
كاف في لزوم القربة ، وحيث إن ذات الحصة غير موقوفة على الأمر ، بل ملازمة له على
الفرض ، فلا ينبعث القدرة عليها من قبل الأمر بها ، بل حالها حال سائر الواجبات ـ كما
سيجيء
__________________
إن شاء الله تعالى
ـ مع أن إشكال القدرة مندفع ـ أيضا ـ بما تقدّم وما سيأتي .
١٦٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إلاّ أنه لا
يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ... الخ ) .
الأولى أن يجاب بما
تقدم في تحقيق حقيقة التقدّم المعتبر في الموضوع بالإضافة إلى
الحكم ، لا العدول إلى لزوم محذور آخر.
نعم هذا البيان في
دفع ما ذكر في توهّم الإمكان ـ من ثبوت القدرة في ظرف الامتثال ـ وجيه ، حيث لا
قدرة في ظرف الامتثال لعدم الأمر بنفس الصلاة حسب الفرض حتى يمكن إتيانها بداعي
أمرها ، وهو ظاهر في عدم محذور فيه مع ثبوت القدرة في ظرف الامتثال ، مع أنه
يستلزم الدور ؛ لتوقف فعلية الأمر بالمقيد بداعي الأمر على القدرة على الإتيان
بداعي الأمر ، توقّف المشروط على شرطه ، وتتوقّف القدرة المزبورة على نفس فعلية
الأمر توقّف المعلول على علّته ؛ إذ القدرة على الإتيان بداعي الأمر غير معقولة مع
عدم الأمر ، فنحن لا ندّعي أنّ القدرة حال الأمر لازمة كي يجاب بكفايتها حال العمل
، ولا ندّعي أن انبعاث القدرة من ناحية البعث ضائر كي يقال : بأنها كذلك دائما
بالإضافة إلى قصد القربة ، بل نقول : إنّ انبعاث القدرة على المأخوذ في متعلّق
البعث من نفس
__________________
البعث الفعلي
يستلزم المحال ، ولا يندفع إلاّ بما مرّ من أن الأمر
بوجوده الخارجي موقوف ، وبوجوده العلمي الغير المتقوّم بوجوده الخارجي موقوف عليه
، فإن القدرة على الإتيان بداعي الأمر تتحقّق بمجرّد العلم بالأمر وإن لم يكن أمر
خارجا في الواقع.
ومما ذكرنا ـ إشكالا
وجوابا ـ يظهر حال الجواب عن الدور كلية ؛ بجعل الأمر متعلّقا بالفعل الصادر لا عن
داع نفساني ، فإنه منحصر في المأتي به بداعي الأمر من دون أخذه في متعلّق الأمر ،
والإشكال فيه عدم القدرة على إتيانه لا عن داع نفساني ، إلا بعد الأمر المحقّق
لداع آخر غير الدواعي النفسانية. وجوابه ما تقدّم.
١٧٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فإنه ليس إلا
وجود واحد ... الخ ) .
لا
يذهب عليك : أنّ ذات
المقيّد والتقيّد ـ وإن كانا في الخارج موجودين ـ لكلّ منهما نحو وجود يباين الآخر
، فإنّ الصلاة ـ مثلا ـ لها وجود استقلاليّ ، وتقيّدها بالقصد له وجود انتزاعي ،
إلاّ أنّ العبرة في التعدّد والوحدة بلحاظ الأمر ، فإنه قد يلاحظ الموجودين
المتباينين على ما هما عليه من التعدّد ، فيأمر بهما بأمر واحد ، فيحدث بالإضافة
إلى كلّ واحد وجوب غيري كما توهم ، أو تعلّق عن قبل وجوب نفسي واحد كما هو الحقّ ، وقد يلاحظهما بنحو الوحدة ، فيلاحظ المقيّد بما هو مقيّد ، لا
ذات المقيّد والتقيّد ، فالمأمور به حقيقة واحد ، والأمر واحد وجودا وتعلّقا ،
والدعوة واحدة ، فلا أمر لا حقيقة ولا تعلّقا بذات المقيّد ، فكيف يأتي به بداعي
أمره؟!
١٧١
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فإنه يوجب تعلّق
الوجوب بأمر غير
__________________
اختياري ... الخ ) .
يمكن
الذبّ عنه : بأنّ الإرادة
إنما لا تكون إرادية إلى الآخر ، وأما سبق الإرادة بإرادة اخرى توجب خلوّ النفس عن
موانع دعوة الأمر ، ففي غاية المعقولية ، والخصم يكفيه سبق الإرادة بإرادة اخرى ،
كما يكفيه سبق الفعل بالإرادة ، ولا حاجة إلى سبق كلّ إرادة بإرادة ليلزم التسلسل.
لا
يقال : هذا لو كانت
الإرادة كيفية نفسانية في قبال العلم ، وأما لو كانت عبارة عن اعتقاد النفع فلا ؛
إذ لا يعقل إيجاب اعتقاد النفع ولا تحريمه ، وكيف يعقل تحريم التصديق بموافقة شرب
الخمر للقوة الشهوية مع أنه غير اختياري؟!
لأنا
نقول : ليس اعتقاد
النفع ـ مطلقا ـ مؤثرا فعليا في حركة العضلات إلى الفعل ، بل عند عدم المانع ،
فصحّ الأمر بالإرادة ـ أي بجعل اعتقاد النفع مصداقا للإرادة بجعله مؤثّرا بتخلية
النفس عن الموانع ـ كما أنه يصحّ النهي عنها ؛ لرجوعه إلى إحداث المانع عن تأثير
اعتقاد النفع فلا تغفل.
مع أن الخصم لا
يلزمه القول بالأمر بالفعل وبقصد الامتثال ؛ ليلزم الأمر بالقصد ، بل يقول بالأمر
بالصلاة ، وبجعل الأمر بها محرّكا وداعيا إلى فعلها ، فهو إلزام بالصلاة التي هي
من أعمال الجوارح ، وبجعل الأمر محركا بتخلية النفس عن موانع دعوة الأمر وتحريكه
وتأثيره في تعلّق الإرادة بالصلاة ، أو بتخلية النفس عما يقتضي تأثير غير الأمر في
صيرورته داعيا إلى إرادة الصلاة ، وأين هذا من التكليف بقصد الامتثال؟!
ومنه يظهر اندفاع
ما يقال : من أنّ قصد الامتثال ليس إلاّ إرادة خاصة ، وكما لا يعقل الأمر بالفعل
وبالإرادة في عرض واحد ـ للزوم تعلّق الأمر بالفعل الخالي عن الإرادة وإلا لزم إما
اجتماع إرادتين على مراد واحد وهو من اجتماع
__________________
علّتين مستقلّتين
على معلول واحد ، أو الخلف بعدم كون الفعل والإرادة جزء لمتعلق الأمر ـ كذلك لا
يعقل الأمر بالفعل وبالإرادة الخاصّة لعين ما مرّ.
وجه ظهور الاندفاع
: ما عرفت من أنّ لازم مقالة الخصم ليس تعلّق الأمر بقصد الامتثال ، بل بجعل الأمر
داعيا إلى إرادة الفعل ، وهو لا يستلزم خلوّ الفعل عن الإرادة.
١٧٢
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( إنما يصحّ الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه ...
الخ ) .
توضيحه : أن الاجزاء بالأسر ليس لها إلا أمر واحد ، ولا لأمر واحد إلا دعوة واحدة ، فلا يكون الأمر داعيا إلى الجزء إلاّ بعين
دعوته إلى الكلّ ، وحيث إن جعل الأمر داعيا إلى الصلاة مأخوذ في متعلّق الأمر في
عرض الصلاة ، فجعل الأمر المتعلّق بالمجموع داعيا إلى الصلاة بجعل الأمر بالمجموع
داعيا إلى المجموع ليتحقّق الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، مع أن
من المجموع الدعوة إلى الصلاة في ضمن الدعوة إلى المجموع ، فيلزم دعوة الأمر إلى
جعل نفسه داعيا ضمنا إلى الصلاة. ومحركية الأمر لمحركية نفسه إلى الصلاة عين عليته
لعلية نفسه ، ولا فرق بين علية الشيء لنفسه وعليته لعليته.
__________________
نعم
لو قلنا : بترشّح الأمر
الغيري إلى الأجزاء ، وإمكان التقرب بالأمر الغيري لم يرد هذا المحذور ؛ لأن جعل الوجوب
الغيري المختصّ بالصلاة داعيا إلى الصلاة لا يتوقّف على جعل الأمر بالكلّ داعيا ،
لكن المبنى غير مستقيم ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه ـ مع جريان إشكال الدور من ناحية القدرة ـ كما تقدّم ـ لتوقّف الأمر بالمجموع
على القدرة على مثل هذا الجزء ـ وهو جعل الأمر المقدمي الغيري داعيا ـ توقّف
المشروط على شرطه ، ويتوقّف القدرة على فعلية الأمر الغيري المعلول للأمر النفسي ،
فيتوقف فعلية الأمر النفسي على فعلية نفسه. والجواب ما تقدم مرارا.
١٧٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن الأمر
الأوّلي إن
كان يسقط بمجرّد موافقته ... الخ ) .
لنا الالتزام بهذا
الشق ، ولكن نقول : بأن موافقة الأول ليست علة تامة لحصول الغرض ، بل يمكن إعادة
المأتي به لتحصيل الغرض المترتّب على الفعل بداعي الأمر.
توضيحه : أن ذات الصلاة ـ مثلا ـ لها مصلحة ملزمة والصلاة المأتي
بها بداعي أمرها لها مصلحة ملزمة اخرى ، أو تلك المصلحة بنحو أوفى بحيث تكون بحدها
لازمة الاستيفاء. وسيجيء ـ إن شاء الله ـ في المباحث الآتية : أن الامتثال ليس عنده (قدس سره) علّة تامّة لحصول الغرض كي لا تمكن
__________________
الإعادة وتبديل
الامتثال بامتثال آخر ، غاية الأمر أن تبديل الامتثال ربما يكون لتحصيل غرض أوفى
فيندب الإعادة ، واخرى يكون لتحصيل المصلحة الملزمة القائمة بالمأتيّ به بداعي
الامتثال فتجب الإعادة. فموافقة الأمر الأول قابلة لاسقاط الأمر لو اقتصر عليه ،
لكن حيث إن المصلحة القائمة بالماتي به بداعي الامتثال لازمة الاستيفاء ، وكانت
قابلة للاستيفاء لبقاء الأول على حاله حيث لم يكن موافقته علة تامة لسقوطه ، فلذا
يجب إعادة المأتي به بداعي الأمر الأوّل فيحصل الغرضان فتدبّر جيدا.
وأمّا
توهّم : أنه يسقط الأمر
الأول ، وكذا الثاني ، لكنه حيث إن الغرض باق ، فيحدث أمران آخران إلى أن يحصل
الغرض ، وإلاّ فبقاء الأمر الأوّل بعد حصول متعلّقه طلب الحاصل.
فمندفع : بأن الغرض إن كان علة للأمر ، فبقاء المعلول ببقاء علته
بديهي ، وإلا لا يوجب حدوثه أولا فضلا عن عليته لحدوثه ثانيا وثالثا. ولا يلزم منه
طلب الحاصل ؛ لأن مقتضاه ليس الموجود الخارجي كي يكون طلبه طلب الحاصل ، كما لا
يلزم منه أخصية الغرض ؛ لما سيجيء ـ إن شاء الله تعالى
ـ فانتظر.
١٧٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن لم يكد يسقط
بذلك ، فلا يكاد ... الخ ) .
لنا الالتزام بهذا
الشقّ أيضا من غير لزوم محذور ، وتقريبه : أن الشرط ـ كما أسمعناك في مبحث الصحيح
والأعمّ على وجه أتمّ ـ ما له دخل في فعلية تأثير المركّب فيما له
من الاثر ، وإما الخصوصية الدخلية في أصل الغرض فهي مقوّمة للجزء بمعنى أن الخاص
جزء لا أنّ الخصوصية خصوصية في الجزء المفروغ
__________________
عن جزئيته ، وقصد
القربة والطهارة والتستّر والاستقبال ، من الشرائط جزما ، فهي ذات دخل في تأثير
المركّب من الأجزاء في الغرض القائم به.
ومن الواضح أن
الغرض إنما يدعو بالأصالة إلى إرادة ذات ما يفي بالغرض ، ويقوم به في الخارج ،
وأما ما له دخل في تأثير السبب ، فلا يدعو اليه الغرض في عرض ذات السبب ، بل
الداعي إلى إيجاد شرائط التأثير وإيجابها أغراض تبعية منتهية إلى الغرض الأصلي
لاستحالة التسلسل.
ومثل الإتيان
بالصلاة بداعي أمرها من شرائط تأثيرها في الانتهاء عن الفحشاء ، كما أنه من روابط
ما يقوم به الغرض بالمولى ، فالمصلحة القائمة بالمركّب الصلاتي تدعو المولى إلى
الأمر بالصلاة المحصّلة للغرض أوّلا وبالذات ، وإلى الأمر بما له دخل في فعلية
تأثيرها ثانيا وبالعرض إذا لم يكن موجودا أو لم يكن العقل حاكما بإيجاده بعنوانه ،
وإلاّ فمع أحدهما لا يجب عليه في مقام تحصيل غرضه الأصيل الأمر المقدمي بالشرائط ،
كما انه مع عدم وجود الشرط وعدم حكم العقل بعنوانه يجب عليه الأمر المقدمي بتحصيله
، وإلاّ كان لنا التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفيه ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : أن المولى لا يجب عليه أخذ كلّ ما له دخل في تأثير مطلوبه في غرضه في
متعلّق أمره بذات ما يفي بالعرض سواء أمكن أخذه فيه كالطهارة ونحوها ، أو لم يمكن كالقربة ونحوها ، بل قد عرفت أنه بلحاظ لبّ الإرادة لا يعقل تعلّقها بذات
السبب وشرائطه في عرض واحد ، فله الأمر حينئذ بذات السبب والأمر بكلّ واحد من الشرائط
مستقلاّ ، وعدم سقوط الأمر بالسبب مع عدم الإتيان بشرائطه من لوازم الاشتراط من
دون فرق بين القربة
__________________
وغيرها ، وكما لا
يحكم العقل بدخل الطهارة بعنوانها في ترتّب الغرض من الصلاة عليها مع عدم البيان
من الشارع ، كذلك لا يحكم العقل بدخل القربة بعنوانها في ترتّب الغرض ، وحكمه
بدخلها في استحقاق الثواب لا دخل له بما نحن فيه ، كما سمعت سابقا .
وأما حكم العقل
بإتيان ما يحتمل دخله في الغرض ، فهو مقيّد بعدم تمكّن المولى من البيان ولو
بالأمر به ثانيا ، فكما لا يقتضي إيجاب الطهارة ـ مثلا ـ إذا احتمل دخلها في الغرض
لتمكّن المولى من بيانها ، كذلك لا يقتضي إيجاب القربة لتمكّنه من بيانها ، غاية
الأمر أن دائرة البيان أوسع في الاولى من الثانية ؛ لتمكّن المولى من بيانها
بالأمر الأوّل والثاني في الاولى دون الثانية ، حيث لا يمكن بيانها إلاّ بالأمر
الثاني ، وكون الأمر الثاني بيانا مصحّحا للعقوبة سيجيء توضيحه إن شاء الله.
فتحصّل من جميع ما
حرّرناه : أنّ الأمر الأوّل لا يسقط بموافقته لبقاء ما له دخل في تأثير على حاله ،
ولا يلزم لغوية الأمر الثاني ، فإنه إنّما يلزم ذلك لو حكم العقل بإيجاده بعنوانه
، والفرض عدمه. وحكم العقل بإتيان ما يحتمل دخله في الغرض مقيّد بعدم تمكّن المولى
من البيان ؛ كي لا تجري فيه قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) ، والمفروض تمكّنه منه
بالأمر الثاني ، وتخصيص التمكّن بالتمكّن من بيانه بالأمر الأوّل بلا مخصّص ، إلاّ
توهّم أن البيان المصحّح للعقوبة منحصر في الكاشف عن الإرادة المتعلّقة بالفعل ،
والمفروض عدم إمكان أخذ القربة فيما تعلقت به الإرادة ، وسيجيء جوابه ان شاء الله
تعالى.
١٧٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( إلاّ أنه غير
معتبر فيه قطعا ... الخ ) .
__________________
لأنّ جواز
الاقتصار على الإتيان بداعي الأمر يكشف عن تعلّق الأمر بنفس الفعل ، لا الفعل
بداعي حسنه أو غيره من الدواعي ؛ إذ لا يمكن إتيانه بداعي الأمر إلاّ مع تعلّقه
بذات الشيء ، وإلاّ يلزم اجتماع داعيين على فعل واحد ، أو كون داعي الأمر من قبيل
داعي الداعي ، وهو خلف ؛ لفرض كفاية إتيانه بداعي الأمر بنفسه ، مع أن الكلام فيما
يكون الفعل عباديّا وقربيّا ، وهذه الدواعي بين ما لا يوجب العبادية والقربية وما
يتوقّف على عبادية الفعل وقربيته.
أما الإتيان بداعي
كونه ذا مصلحة فقد عرفت سابقا : أنه بمجرّده لا يوجب الارتباط إلى المولى ، ولا انطباق
عنوان حسن عليه.
وأما الإتيان
بداعي كونه ذا مصلحة موافقة للغرض ، وداعية للمولى إلى إرادة
ذيها ، فهو وإن كان يوجب الارتباط وانطباق الوجه الحسن ، لكنه لا يعقل تعلّق
الإرادة بما فيه مصلحة داعية إلى شخص هذه الإرادة ، وكما لا يمكن إرادة فعل بداعي
شخص هذه الإرادة ، كذلك إرادة فعل بداعي ما يدعو إلى شخص هذه الإرادة بما هو داع
إليها لا بذاته.
وأما الإتيان
بداعي الحسن الذاتي أو بداعي أهليته ـ تعالى ـ ، أو له ـ تعالى ـ بطور لام الصلة ـ
لا لام الغاية ـ فكل ذلك مبنيّ على عبادية المورد ، مع
__________________
__________________
قطع النظر عن تلك
الدواعي.
أما الاول فواضح ،
وأما الأخيران فلأنه ـ تعالى ـ أهل لما كان حسنا وعبادة ، لا لما لا حسن فيه ، والعمل
لله ليس إلاّ العمل الإلهي من غير أن تكون إلهيته من قبل الداعي ، وقد عرفت بعض
الكلام فيما تقدّم .
١٧٦
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( إذا عرفت بما لا
مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال ... الخ ) .
ليس وجه التلازم
بين استحالة التقييد واستحالة الإطلاق أن الإطلاق والتقييد متضايفان ، فلا بدّ من
قبول المحلّ لتواردهما ؛ إذ ليس هذا شأن المتضايفين ، كيف؟! والعلية والمعلولية من
أقسام التضايف ، ولا يجب أن يكون كلّ ما صحّ أن يكون علة صحّ أن يكون معلولا
وبالعكس.
بل
الوجه فيه : أن هذا النحو من
التقابل من قبيل العدم والملكة ، فلا معنى لإطلاق شيء إلاّ عدم تقييده بشيء من
شأنه التقييد به ، فما يستحيل التقييد به يستحيل الإطلاق من جهته.
نعم لا حاجة إلى
إثبات استحالة الإطلاق لأنها غير ثابتة ـ كما بيناه في
__________________
__________________
.....................................
__________________
__________________
................................
__________________
__________________
حواشي الجزء الثاني
من الكتاب ـ بل عدم التقييد لا يكشف عن عدم دخل القيد في الغرض فلعله
ممكن الدخل غير ممكن التقييد.
لا يقال : الإطلاق
هنا ليس بمعنى عدم التقييد ، بل بمعنى الإرسال ، فهو تعيّن في قبال تعيّن التقييد
، وليس كالعدم بالإضافة إلى الملكة حتى يستحيل باستحالة التقييد.
لأنا
نقول : ليس الإطلاق
مأخوذا في موضوع الحكم ، بل لتسرية الحكم إلى تمام أفراد موضوعه ، فالموضوع نفس
الطبيعة الغير المتقيّدة بشيء ، مع أنه من حيث الاستحالة ـ أيضا ـ كذلك ؛ لأنّ
الإرسال حتى من هذه الجهة المستحيلة يوجب جميع المحاذير المتقدمة.
فإن
قلت : كما إنّ إطلاق الهيئة ذاتا في مسألة شمول كل حكم للعالم
والجاهل دليل على الشمول ، فليكن إطلاق المادة ذاتا هنا دليلا على عموم المتعلّق ،
فلا حاجة إلى الإطلاق النظري والتوسعة اللحاظية ، بل يكفي الإطلاق الذاتي ، وان
كان منشؤه عدم إمكان التقييد النظري والتعميم اللحاظي.
قلت : نفس امتناع توقّف الحكم على العلم أو الظن به أو الشك
فيه ، كامتناع دخل تعلّق إحدى الصفات به في ترتّب الغرض الباعث على الحكم دليل على
عدم دخل إحدى الصفات في مرتبة من المراتب ، لا إطلاق الهيئة ذاتا ، فنفس البرهان
الجاري في جميع المراتب دافع للتردد البدوي الحاصل للغافل ، بخلاف
__________________
__________________
ما نحن فيه ، فان
عدم تقييد متعلّق الأمر والإرادة معلوم بالبرهان. وأمّا دخله في الغرض وفي الخروج
عن عهدة الأمر ، فلا والإطلاق النظري القابل لدفع الشكّ ممتنع ، وعدم التقييد مع
تسليم امتناعه لا يكشف عن عدم دخله فيما ذكر ، ولا برهان ـ كما في تلك المسألة ـ على
امتناع دخل داع إلهيّ في الغرض.
فإن
قلت : إطلاق الهيئة
عرفا يدلّ على أن المتعلّق تمام المقصود ، وهو متعلّق الغرض ، فيفيد التوصلية ،
فحمله على التعبدية ـ وأن الأمر تمهيد وتوطئة لتحقيق موضوع الغرض ـ خلاف الظاهر.
قلت : هذا ، وإن نسب إلى بعض الأجلة ( قده ) ، لكنه مبتن على تخيّل أخصيّة الغرض ، وحيث عرفت أن ذات الفعل واف بالغرض ، وأن الشرائط دخيلة في ترتب الغرض على ما يقوم به ،
تعرف عدم أخصية الغرض ، وعدم كون الأمر تمهيدا وتوطئة .
__________________
فإن
قلت : إطلاق الهيئة
يقتضي التعبدية لان الوجوب التعبدي هو الوجوب لا على تقدير خاص ، بخلاف الوجوب
التوصلي فانه وجوب على تقدير عدم الداعي من قبل نفس المكلف.
قلت : الايجاب الحقيقي جعل ما يمكن أن يكون داعيا ، لا جعل
الداعي بالفعل ، حتى يستحيل مع وجود الداعي إلى الفعل من المكلّف ، ولذا صحّ تكليف
العاصي وان كان له الداعي إلى خلافه.
١٧٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فاعلم أنه لا
مجال هاهنا إلاّ لأصالة الاشتغال ... الخ ) .
تقريب الاشتغال
بأحد وجهين :
الأوّل ـ أنّ
البعث ليس إلا لجعل الداعي إلى تحصيل الغرض القائم بالمبعوث إليه ، وذلك لما عرفت
في المباحث السابقة : أن فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص ، فلا
محالة ينبعث إليها شوق ، وينبعث من هذا الشوق شوق إلى فعل الغير. وحيث إن فعل
الغير ليس تحت اختيار الشخص إلاّ بتسبيب وتحريك يوجب انقداح الداعي في نفسه إلى فعله
، فلا محالة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير شوق إلى جعل الداعي بالبعث والتحريك ،
فالبعث
__________________
والتحريك معلول
لما ينتهي إلى أصل الغرض القائم بالمبعوث إليه ، وهو علة العلل بالنسبة إلى البعث.
وهكذا إذا كان لفعل الغير فائدة عائدة إلى نفسه ، وكان المولى ممن يجب عليه
إيصالها إلى ذلك الغير ، فإنّ البعث حينئذ لإيصال تلك الفائدة ، فهي علّة العلل
بالإضافة إلى البعث ، والمعلول يدور مدار علته حدوثا وبقاء ، فاذا علم أصل الغرض ،
وشكّ في سقوطه : إما للشك في أصل الإتيان بما يقوم به ، أو للشك فيما له دخل فيه ـ
كما فيما نحن فيه ـ فلا محالة يجب عقلا القطع بتحصيل الغرض بإتيان جميع ما يحتمل
دخله فيه.
والتحقيق : أن كبرى لزوم تحصيل الغرض عقلا
لا شبهة فيها ، لكن الصغرى غير متحقّقة بمجرّد الأمر ؛ إذ اللازم عقلا هو تحصيل
الغرض المنكشف بحجة شرعية أو عقلية.
__________________
__________________
والأمر بمركب يصلح
للكشف عن غرض يفي به المأمور به ، ولا يصلح للكشف عما لا
يفي به ، فالغرض الواقعي إن كان مما يفي به المأمور به فقد قامت عليه الحجة ، وإن
لم يكن مما يفي به المأمور به فلم تقم عليه الحجة ، ولا يجب عقلا تحصيل الغرض الذي
لم تقم عليه الحجة لا شرعا ولا عقلا.
فالغرض الواقعي
وإن كان مرددا بين ما يفي به المأمور به وما لا يفي ، إلا أنه لا حجة إلاّ على ما
يفي به ، بخلاف باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فإن
__________________
متعلّق الأمر
الشخصي حيث إنه مردّد بين الأقل والأكثر ، والغرض كذلك مردّد بين ما يقوم بالأكثر
وما يقوم بالأقل ، فالأمر المعلوم حجة على الغرض المردّد ، فيجب تحصيله. فالأمر في
باب الاشتغال ـ هنا وهناك ـ على العكس مما هو المعروف. وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى
ـ تتمة الكلام .
الثاني ـ أنّ مرجع
الشك هنا إلى الشكّ في الخروج عن عهدة ما قامت عليه الحجة ، وهو التكليف بالصلاة ـ
مثلا ـ إذ مفروض الكلام عدم كون قصد القربة من قيود المأمور به ، بخلاف الأقلّ
والأكثر الارتباطيين ، فإنه ربما يقال فيه بانحلال التكليف ، فلا تكليف بالزائد ،
فيكون العقاب على تركه عقابا بلا بيان.
وبالجملة : نحن وإن أغمضنا النظر عن وجوب تحصيل الغرض ، وقلنا بلزوم
إسقاط الأمر المعلوم ، والخروج عن عهدته ، فاللازم الاشتغال ـ هنا ـ للعلم بالتكليف
، والشك في أنّ الخروج عن عهدته هل يحصل بمجرد مطابقة المأتي به لذات المأمور به ،
أم لا ، إلاّ بإتيانه بقصد الامتثال؟ والعقل بعد إحراز التكليف يحكم بالقطع
بالخروج عن عهدته بإتيانه بقصد الامتثال.
__________________
والتحقيق : أن الشكّ إن كان في الخروج عن عهدة ما تعلّق به التكليف
فواضح العدم ؛ إذ لا شكّ في إتيانه بحدّه ، وإن كان في الخروج عن عهدة الغرض
الداعي إليه فلا موجب له ، إلاّ عمّا قامت الحجّة عليه ـ كما عرفت آنفا ـ فليس هذا
وجها آخر للاشتغال. مع أنّ رجوع الشكّ ـ هنا ـ إلى الشكّ في الخروج عن عهدة ما
قامت الحجة عليه ، دون الشكّ في التكليف ، إنما يصحّ إذا لم يصحّ التكليف بقصد
القربة مطلقا ، لا في ضمن الأمر بالصلاة ، ولا في ضمن أمر آخر ، مع أن التكليف به
بأمر آخر لا مانع منه ، فاذا شكّ فيه كان العقاب عليه بلا بيان ، والمؤاخذة عليه
بلا برهان ، فيمكن القول بالبراءة هنا ، وإن قلنا بالاحتياط في الأقلّ والأكثر الارتباطيين
؛ للقطع بأن التكليف بالصلاة لم يتعلّق بالمقيّد بالقربة لاستحالته ، فيتمحّض
الشكّ فيه في التكليف بأمر آخر. بخلاف غير القربة من الأجزاء والشرائط ، فإنّ
تعلّق التكليف المعلوم بما يشتمل عليه غير مقطوع بعدمه ، فيقال : التكليف النفسي
الشخصي معلوم ، ومتعلّقه مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فيجب الاحتياط.
نعم ، ما يمكن أن
يبحث عنه ، ويجعل مانعا عن التكليف بالقربة هو : أن التكليف بالقربة لا يكشف عن
تعلّق التكليف النفسي بالصلاة المتقيّد بها لاستحالته كما عرفت ، والتكليف المقدمي
لا عقاب على مخالفته ، فلا يكون هذا البيان مصحّحا للعقوبة كي يقال : حيث لا بيان
فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان.
ومنه
يعلم : أن الإخبار عن
الدخل في الغرض ـ أيضا ـ كذلك ؛ حيث لا يكشف عن المطلوبية بالطلب النفسي الذي
يعاقب على مخالفته.
والجواب
عنه : أن إرادة
الشرائط ـ مطلقا ـ إرادة مقدمية منبعثة عن إرادة ذات ما يقوم بالغرض ، ولا يعقل
تعلّق الإرادة بالمقدّمة في عرض تعلّقها بذيها. وفي مقام البعث وإن أمكن البعث إلى
الفعل المقيّد بالشرائط ، إلا أنه لا يجب
على الباعث تقييد
مطلوبه بالقيود الدخيلة في التأثير في الغرض ، بل له الأمر بذات المطلوب ، والأمر بكل
قيد مستقلاّ.
وملاك الشرطية
الحقيقية المقابلة للجزئية ، أن يكون المطلوب بما هو متقيّد بأنحاء التقيّدات ،
مؤثّرا فعليّا فيما له من الأثر ، فما يقوم به الغرض ينتزع منه أنه بعض ما يفي
بالغرض ، وما هو حالة وخصوصية فيما يفي بالغرض ينتزع منه أنه دخيل في وفاء المركّب
بالغرض ؛ سواء كان اعتبار هذه الخصوصية والحالة بالأمر المتعلق بذات ما يفي بالغرض
ـ بأن يقول : ( صلّ عن طهارة أو متطهرا ) ـ أو كان بأمر آخر ـ بأن يقول بعد الأمر
بالصلاة : ( وليكن صلاتك عن طهارة ) مثلا ـ والعقاب على ترك الشرط حينئذ ليس
لمخالفة الأمر المقدّمي مطلقا ، بل لمعصية الأمر النفسي ، حيث إنه لم يأت بما
تعلّق به على نحو يؤثّر فيما له من الأثر. فالغاية الداعية إلى إرادة ذيها أولا
وبالذات ، وإلى إرادة ما له دخل فيها ثانيا وبالعرض ، قد انكشفت بالأمرين فيجب
تحصيلها ، وإلاّ لا يكاد يسقط الأمر النفسي ، كما عرفت وجهه سابقا.
هذا ، ومن جميع ما
ذكرنا ظهر أنه لا مجال للاشتغال.
نعم استصحاب
الوجوب المعلوم إلى أن يقطع بانتفائه بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الخروج عن
عهدته لا مانع منه ، وهو يكشف بطريق ( الإنّ ) عن أن الغرض سنخ غرض لا يفي به ذات المأمور به. وإلاّ فبقاء شخص الأمر ـ مع
إتيان متعلّقه بحدوده وقيوده ـ غير معقول ، فلا يعقل التعبّد به إلاّ إذا كشف عن
كون علته سنخ غرض لا يفي به المأمور به.
والتحقيق : أنّ الاستصحاب لا مجال له هنا ؛ لأن الغرض منه : إن كان
التعبّد بوجوب قصد الامتثال شرعا ، فهو على فرض إمكان أصله غير مترتّب
__________________
على بقاء الأمر
شرعا ؛ حتى يكون التعبّد بأحدهما تعبدا بالآخر ، وإن كان
التعبّد بدخله في الغرض فأوضح بطلانا ؛ لأن دخله فيه واقعي لا جعلي ، وإن كان
التعبّد به محقّقا لموضوع الحكم العقلي بإسقاط الغرض ، لكشفه عن بقائه ففيه :
أولا ـ أن إسقاط الغرض المنكشف بحجة شرعية أو عقلية لازم ، ولذا
لم نحكم بالاشتغال ابتداء ، فليس الأمر بوجوده الواقعي موضوعا لذلك فضلا عن وجوده
التعبدي.
وثانيا ـ أنّ ما ذكر من أن التعبّد ببقائه كاشف عن أخصّية الغرض
من المطلوب إنما يسلّم في البقاء الحقيقي لا التعبدي ؛ لأن الغرض من جعل الحكم
المماثل بقاء شيء آخر ، لا ذلك الغرض الواقعي ، واحتماله لا يجدي شيئا.
١٧٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم يمكن أن
يقال : إن كلّ ما ربّما يحتمل دخله
في الامتثال ... الخ ) .
الفرق بينه وبين
الوجه المتقدّم سابقا : أنّ الوجه السابق موقوف على إحراز مقام البيان ، وهذا من
مقدّماته لزوم القيام مقام البيان لأجل التنبيه وحصول الالتفات ؛ إذ لا يحتمل دخل
الوجه ـ مثلا ـ في الغرض ، حتى يجب إتيانه عقلا.
__________________
١٧٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ دخل القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ...
الخ ) .
قد
عرفت آنفا : أن قصد القربة
مما يمكن الأمر به ، وإن لم يكن تقييدا للمأمور به في ضمن الأمر الأول.
والأمر المقدّمي
وإن لم يكن مصحّحا للعقوبة مطلقا ، ولا موجبا لتقييد المأمور به بالأمر الأول هنا
ـ بحيث يكون المطلوب النفسي بالأخرة الصلاة بداعي أمرها النفسي ـ إلاّ أنّ اعتبار
هذه الخصوصية في الصلاة ـ بقوله : وليكن الصلاة عن داعي أمرها ـ يوجب انتزاع
الشرطية في مقام الجعل والبعث ؛ إذ لا نعني بالشرطية إلا اعتبار
الشيء في المأمور به بنحو يكون التقييد به داخلا والقيد خارجا ، والأمر بقصد
القربة على النهج المزبور بعد الأمر بالصلاة يصحح انتزاع الشرطية.
__________________
.....................................
__________________
__________________
...................................
__________________
__________________
وكلّ ما كان قابلا
للجعل والوضع ، فهو قابل للنفي والرفع ، وان لم يكن مصحّحا للعقوبة ، أو موجبا
لتقييد الأمر النفسي.
١٨٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فافهم ... الخ ) .
يمكن أن يكون
إشارة إلى أن اختصاص الأمر الفعلي بما عدا المشكوك مشترك بين المقامين ، غاية
الأمر أنه هنا بحكم العقل ، وهناك بضميمة الأصل. فإن اكتفينا في الخروج عن العهدة
بمجرّد إتيان المتعلّق ، كان المقامان على حدّ سواء. وإن قلنا : بلزوم إتيان كلّ
ما يحتمل دخله في الغرض في الخروج عن
__________________
العهدة ، كان
المقامان كذلك أيضا ؛ إذ المفروض عدم دليل على عدم دخل المشكوك في الغرض.
وجوابه : أن نفي الجزئية والشرطية ـ جعلا ـ يوجب تفويت الغرض من
الشارع لو كان المشكوك دخيلا فيه ، بخلاف ما لو لم يكن نفي الجزئية والشرطية منه
بل بعدم إمكان أخذ المشكوك في المتعلق.
١٨١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكون كل واحد
مما يقابلها ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أن النفسية وما
يماثلها قيود للطبيعة نحو ما يقابلها لخروجها جميعا عن الطبيعة المهملة ، إلاّ أنّ
بعض القيود كأنه لا يزيد على نفس الطبيعة عرفا ، كالنفسية وما يماثلها دون ما
يقابلها.
والتحقيق : أن النفسية ليست إلا عدم كون الوجوب للغير ، وكذا
البواقي ، وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها ، وإلاّ لزم نقض الغرض
، لا أن النفسية والغيرية قيدان وجوديان ، وأحدهما ـ وهو الاطلاق من حيث وجوب شيء
آخر مثلا ـ كأنه ليس بقيد ، بل أحد القيدين عدمي ، ويكفي فيه عدم نصب القرينة على
الوجودي المقابل له.
فمقتضى الحكمة
تعيين المقيّد بالقيد العدمي ، لا المطلق من حيث وجوب شيء آخر كما هو ظاهر المتن ؛
إذ المفروض إثبات الوجوب النفسي ـ وهو الوجوب لا لغيره ـ لا الوجوب المطلق الذي
وجب هناك شيء آخر ، أو لا ؛ إذ ليس الوجوب الغيري مجرّد وجوب شيء مع كون الشيء
الآخر واجبا مقارنا معه ، بل الوجوب المنبعث عن وجوب آخر.
ومن الواضح أن
إطلاق الوجوب من حيث انبعاثه عن وجوب آخر وعدمه غير معقول ، وكذا الوجوب التخييري
هو الوجوب المشوب بجواز الترك إلى بدل ، وإطلاق الوجوب من حيث الاقتران بجواز
الترك وعدمه غير صحيح ،
__________________
بل المراد
بالإطلاق المعيّن للنفسية وأقرانها هو عدم التقييد بما يفيد الغيرية والتخييرية
والكفائية ، كما صرح به (قدس سره) في آخر المطلق والمقيد . فتدبّر جيّدا.
وتوهّم : أنّ الحكمة لا تقتضي الوجوب التعييني ؛ حيث لا يلزم من
عدم نصب القرينة على فرد آخر نقض الغرض.
مدفوع : بأن المراد من الغرض ما دعاه إلى القيام مقام بيان نحو
الوجوب وكيفيته لا الغرض الباعث على التكليف مع لزوم نقض الغرض من التكليف ـ أيضا
ـ عند تعذّر ما اقتصر عليه في مقام البيان.
١٨٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( والتحقيق : أنه
لا مجال للتشبّث بموارد الاستعمال ... الخ ) .
نعم ، ربّما يتشبث
بذيل دليل الحكمة لتعيين بعض المحتملات بملاحظة كونه قدرا متيقّنا بتقريب :
أن المورد إذا لم
يكن عباديا ، واحتمل الإباحة الخاصة كانت هي المتيقن ؛ لأنّ الإذن معلوم والإباحة
الخاصة هو الإذن الساذج ـ أي الإذن الذي ليس فيه اقتضاء طلبي ـ فالقيد عدميّ يكفي
في عدمه عدم القرينة على ثبوته بخلاف غيرها.
وإذا كان المورد
عباديا ، ولم يحتمل الإباحة الخاصة كان المتيقّن هو الاستحباب ؛ لأن أصل الاقتضاء
معلوم لخروج الإباحة الخاصّة على الفرض. وحدّ الاستحباب عدميّ يكفي فيه عدم نصب
القرينة عليه.
والفرق بين ما نحن
فيه وبين ما تقدم ـ في حمل الصيغة على الوجوب بمقدمات الحكمة ـ هو : أن الصيغة
ظاهرة وضعا في الطلب ، والوجوب لا يزيد على
__________________
الطلب ـ بما هو ـ بشيء
، بخلاف ما نحن فيه ، فإن أصل الاقتضاء علم من الخارج حسب الفرض ، وخصوصية الندب ـ
حيث كانت عدمية ـ لا تحتاج إلى دليل ، فلذا صار الاستحباب متيقّنا من بين
المحتملات.
نعم ، يرد عليه :
أن القدر المتيقّن ـ الذي يصحّ الاتكال عليه عرفا ـ هو المتيقن في مقام التخاطب
والمحاورة ، لا المتيقن في مقام المرادية ، مع أن الاقتضاء بعد خروج الإباحة
الخاصة غير معلوم لاحتمال الكراهة الغير المنافية للإذن والرخصة. فافهم.
١٨٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( والاكتفاء بالمرّة فإنما هو لحصول الامتثال
... الخ ) .
إذ المتكلّم لو
كان في مقام البيان ، وأمر بالطبيعة مقتصرا عليها من دون تقييد ، فالحكمة تقتضي إرادة
المرّة ، فإنّها كأنّها لا تزيد على وجود الطبيعة بشيء.
وأما مع قطع النظر
عن مقدمات الحكمة ، فلا وجه للاكتفاء بالمرة ؛ إذ الامتثال فرع كيفية البعث ،
والبعث إلى الماهية المهملة جدّا لا معنى له ، ولا مطابقة للمأتي به مع المأمور به
حينئذ.
١٨٤
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لا يوجب كون
النزاع هاهنا ... الخ ) .
بل لا يعقل ؛ إذ ليس النزاع في وضع الصيغة للطلب المكرّر أو الدفعي ،
__________________
بل في وضعها لطلب
الشيء دفعة أو مكرّرا ، فالمرّة والتكرار من قيود مفاد المادة لا الهيئة.
لا
يقال : يمكن الوضع
للطلب المتقيّد بالحدث المتكرّر ـ مثلا ـ من دون أخذ التكرار لا في مفاد الهيئة ،
ولا في مفاد المادة ، وإن كانت الهيئة بالملازمة تدلّ على ملاحظة التكرار في جانب
المادة في مرحلة الطلب بها.
لأنا
نقول : ما لم يلاحظ
التكرار ـ في جانب المبدأ ـ في مرحلة الاستعمال ، لا يعقل تقيّد مفاد الهيئة به في
مرحلة الاستعمال ، فيلزم نقض الغرض من أخذه في المادّة في مرحلة الاستعمال.
١٨٥
ـ قوله [ قدس سره ] : ( ضرورة أن المصدر
ليس مادة ... الخ ) .
قد عرفت نبذة مما
يتعلّق بهذا المقام في أوائل مبحث المشتقّ ، وقد أسمعناك هناك : أنّ الاشتقاق
المعنوي عبارة عن طروّ أنحاء النسب على مبدأ واحد ، وهو المشتقّ منه بلحاظ لا
بشرطيته الذاتية وقبوله الطبيعي لجميع أنحاء النسب ، وبإزاء ذلك المبدأ مادة اللفظ
المشتركة بين جميع الألفاظ المختلفة في الهيئات فقط.
والمصدر مشتمل على
نسبة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ، وإن كان ربّما يطلق ويراد منه نفس المبدأ كما لا
يخفى ، واشتماله على نسبة ناقصة معنى اشتقاقه معنى.
وأما عند الجمهور
فالمصدر بمعناه نفس المبدأ ، فلا يكون بحسب المعنى من المشتقّات لخلوّه عن النسبة
، وحينئذ فالهيئة لمجرّد انحفاظ المادّة ؛ حيث لا يعقل وجود المادّة بلا صورة.
وعليه فما حكي عن السكاكي نافع لما ذكره في
__________________
الفصول ؛ حيث إن المصدر وإن لم يكن بلفظه وهيئة مادة للمشتقّات ، إلاّ أنه بمعناه
مبدأ لها ، فإنّ معروض أنحاء النسب نفس المعنى المصدري ، ومعنى أصالته ـ حينئذ ـ مبدئيته
بحسب معناه للمشتقّات ، ونتيجة وضع المصدر لنفس المبدأ بلا نسبة وأصالة معناه
ومبدئيته للمشتقات ـ بحيث كانت موادّها بإزاء المعنى المصدري ـ ما أفاده في
الفصول.
لكن
التحقيق : ما عرفت من
اشتمال المصدر معنى على نسبة ناقصة يحكي عنها هيئة وضعا ، وإن كان ربّما يطلق
ويراد منه نفس المبدأ ، ومعنى أصالته حينئذ تقدّم رتبته على الفعل لتقدّم كلّ ناقص
على التامّ طبعا لزيادة الثاني على الأول ، كما أن وجه دعوى أصالة الفعل تقدّم
الفعل على المصدر بلحاظ تقدّم التامّ على
__________________
الناقص شرفا ،
ونفس هذا الاختلاف كاشف عن أن الأصالة ليست بمعنى المبدئية ؛ ضرورة أن الفعل لا
ريب في اشتماله على النسبة ، فكيف يعقل أن يكون بمعناه مبدأ لسائر المشتقات ، مع
أن النسبة لا يعقل معروضيتها لنسبة اخرى؟!
١٨٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وكيف يكون
بمعناه مادة لها ... الخ ) .
هذا إنّما يتمّ
بناء على اشتماله على نسبة ناقصة ، وإلاّ فمعناه فابل للمبدئية ، ولتوارد أنحاء
النسب عليه ، وما تقدّم ـ في مبحث المشتق ـ مباينة المصدر
أو المبدأ مع معاني المشتقات ، لا مع مباديها ومعروض نسبها كما هو واضح.
١٨٧
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لعدم العلقة
بينهما لو اريد بها الفرد أيضا ... الخ ) .
حاصله : أنّ المراد بالفرد هو وجود الطبيعة ؛ حيث إنها لا وجود
لها في الخارج إلا بوجود فردها.
والكلام في المبحث
الآتي ليس في أنّ الطبيعة ـ من حيث هي ـ متعلقة للأمر ، أو فردها؟ بل الكلام في أن
لوازم وجود الطبيعة ومشخصاته داخلة في المطلوب ومقومة له ، أو خارجة عنه ومن
لوازمه؟ بعد الفراغ عن تعلّق الطلب بوجود الطبيعة ، فالفرد هنا غير الفرد هناك.
قلت : هذا بناء على مسلك التحقيق من كون التشخّص بنفس الوجود ،
وما يراه الجمهور من مشخّصات الطبيعة يكون من لوازم التشخص ، لا ما به
__________________
التشخص. وأما لو
قيل بما هو المشهور عند الجمهور ـ من كون التشخّص بهذه الامور اللازمة لوجود
الطبيعة في الخارج ـ فلا محالة ليست الوحدة والتعدّد في وجود الطبيعة بنفس الوجود
، بل بلوازمه ، فتكون لوازم الوجود في هذه المسألة داخلة في المطلوب ، فيتّحد
الفرد في هذه المسألة ـ المدلول عليه بالصيغة ـ مع الفرد في تلك المسألة.
مضافا إلى أنّ
الفرد وإن كان عين وجود الطبيعة فقط ، ولم يكن متّحدا مع الفرد في تلك المسألة ،
إلاّ أنّ ترتيب هذا البحث على البحث الآتي ممكن من وجه آخر ؛ لاتحاد الفرد هنا
ووجود الطبيعة هناك ، فيقال ـ بعد إثبات تعلق الأمر بوجود الطبيعة ـ : هل مقتضاه
وجود واحد من الطبيعة أو وجودات منها؟
فالتحقيق في ردّ
ما في الفصول : هو أنّ مجرّد ترتّب موضوع مسألة على موضوع مسألة اخرى أو
محمولها على محمولها ، لا يستدعي جعله تتمة لتلك المسألة ، بل ميزان الوحدة
والتعدّد وحدة جهة البحث وتعدّدها ، وتعدّد جهة البحث هنا وهناك واضح ، فإنّ جهتي
الوحدة والتعدّد في الوجود وإن كانتا عارضتين له ومترتّبتين عليه ، لكنهما
مغايرتان له قطعا ، فالبحث عن أحدهما غير البحث عن الآخر ، وإن كانت رتبة أحدهما
متأخرة عن الآخر.
١٨٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا إشكال ـ بناء
على القول بالمرة ـ في الامتثال ... الخ ) .
لا
يذهب عليك : أنه لا فرق بين
القول بالمرة والقول بالطبيعة من هذه لجهة ؛ لرجوع الأمر في مورد الصحة إلى تبديل
الامتثال واستقراره على المأتيّ به ثانيا ، وهو لا ينافي إرادة فرد من الطبيعة أو
دفعة واحدة منها ؛ حيث إن ما استقرّ
__________________
عليه الامتثال فرد
ودفعة واحدة ، وغيره لغو لم يستوف المولى منه الغرض ، وهو مناط الامتثال على
الفرض. فافهم.
١٨٩
ـ قوله [ قدّس سره ] : ( فإنه مع الإتيان
بها مرّة لا محالة يحصل الامتثال ... الخ ) .
هذا التفصيل إنما
يناسب القول بالطبيعة أو المرّة ، والفراغ عن عدم اقتضاء الإطلاق لمرّة أو مرّات ،
فتعليل عدم اقتضاء الإطلاق لمرّة أو مرات بهذا الوجه لا يخلو عن شيء ؛ إذ لو اقتضت
مقدّمات الحكمة للإطلاق بهذا المعنى لكشفت عن كون الغرض سنخ غرض يتوقف
ترتّبه على الفعل على عدم لحوق فرد آخر أفضل منه أو مطلقا. فتدبر.
__________________
__________________
١٩٠
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما إذا لم يكن
الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ... الخ ) .
التحقيق : أن إتيان المأمور به ـ بحدوده وقيوده ـ علّة تامّة للغرض
الباعث على البعث إليه ، والغرض القائم بإحضار الماء تمكّن المولى من رفع عطشه به
مثلا لا نفس رفع العطش كما هو واضح. نعم ، هو غرض مقدّمي لا أصيل ، وهو غير فارق ؛
إذ مدار امتثال كلّ أمر على إسقاط نفس الغرض الباعث عليه لا شيء آخر ، ولا يتوقّف
الامتثال ولا اتصاف المقدّمة بالمقدمية على تعقّبها بذيها عنده ( قده ) وعند
المشهور كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
وما يرى من وجوب
إتيان الماء ثانيا ـ لو اريق الماء ـ لا دلالة له على شيء ؛ لأن الغرض تمكّن
المولى من شربه ، وقد انقلب إلى نقيضه ، فيجب عليه إحضاره ثانيا لعين ما أوجبه
أوّلا ؛ لا لأن ملاك الامتثال استيفاء المولى غرضه منه. نعم ، هو ملازم له أحيانا
، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تتمّة الكلام في مبحث الإجزاء .
__________________
١٩١
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ضرورة أن تركهما
لو كان مستتبعا للغضب والشرّ ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أنّ الوقوع في ما يقابل المغفرة والخير ـ أعني الغضب والشر ـ لازم ترك تحصيل المغفرة
والخير رأسا ، لا ترك المسارعة والاستباق إليهما ولو بناء على وجوبهما ، كما هو
قضية المقابلة بين الغضب والمغفرة وبين الخيرات والشرور. فدلالة الآيتين على وجوب
المسارعة والاستباق غير موقوفة على اقتضاء تركهما للغضب والشر المقابلين للمغفرة
والخير حتى يقال : بأن الأنسب حينئذ البعث بالتحذير عنهما.
والأولى
أن يقال : إن ترك المغفرة
أعمّ مما يستلزم الغضب ، وكذا ترك الخير أعمّ مما يستلزم الشرّ ، فالأمر بالمسارعة
والاستباق إلى مثل هذين الأمرين أولى بعدم الدلالة على الوجوب ، ولعلّه (قدس سره)
أشار إليه بقوله : ( فافهم ) .
__________________
١٩٢
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( كالآيات
والروايات الواردة في البعث
... الخ ) .
نعم ، بينهما فرق
: وهو عدم إمكان غير الإرشادية فيها دون ما نحن فيه لإمكان الأمر المولوي بالفعل
فورا ، فبعد الإمكان والظهور الذاتي في المولوية لا مجال لحمل ما ورد في هذا الباب
على الإرشاد قياسا بما ورد في أصل الإطاعة ، ولعله أشار (قدس سره) إليه بقوله : (
فافهم ) .
١٩٣
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ...
الخ ) .
بل الممكن بحسب
مرحلة الدلالة هو وحدة المطلوب وتعدده من حيث المطلوبية لا بقيد الفورية كما في
نظائره.
فيقال : إن الفعل في أوّل أزمنة الإمكان مطلوب ، وفي حدّ ذاته
أيضا مطلوب ، كما يقال : إن الفعل في الوقت مطلوب ، ولا بقيد الوقت أيضا مطلوب ،
فيكون قيد الفورية أو الوقتية قيدا في المرتبة الاولى من المطلوب دون غيرها ،
بخلاف القيدية في جميع المراتب مع تعدّد المطلوب ، وهو معنى ( فورا ففورا ) ، فإنه
لا يتحمّله مرحلة الصيغة والدلالة كما لا يخفى.
__________________
.................................
__________________
__________________
الإجزاء
١٩٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الإتيان
بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء ... الخ ) .
إنما عدل (قدس
سره) عمّا في عبارات الأكثرين ـ من ( أن الأمر بشيء إذا اتي به على وجهه يقتضي الإجزاء )
ـ لأنّ الإجزاء من مقتضيات إتيان المأمور به وشئونه ، لا من مقتضيات الأمر ولواحقه
؛ بداهة أن مصلحة المأمور به المقتضية للأمر إنما تقوم بالمأتيّ به ، فتوجب سقوط
الأمر إما نفسا أو بدلا ، فاقتضاء سقوط الأمر قائم بالمأتيّ به لا بالأمر ، ومجرّد
دخالة الأمر كي يكون المأتيّ به على طبق المأمور به لا يوجب جعل الأمر موضوعا
للبحث ، بعد ما عرفت من أن الاقتضاء من شئون المأتيّ به لا الأمر ، فجعل الأمر
موضوعا وإرجاع الاقتضاء إليه بلا وجه.
ومما
ذكرنا تعرف : عدم كون البحث
على هذا الوجه من المباحث اللفظية ، ولا من المبادي الأحكامية ؛ إذ لا يرجع البحث
إلى إثبات شيء للأمر ، لا من
__________________
حيث إنه مدلول
الكتاب والسنة ، ولا من حيث إنه حكم من الأحكام. ومنه علم أنه أسوأ حالا من مباحث
مقدّمة الواجب ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، وغيرهما ؛ حيث إنّ إدراجها في
المباحث اللفظية أو المبادي الأحكامية ببعض الملاحظات ممكن وإن كان خطأ ، إلاّ أنّ
إدراج هذا البحث في أحد الأمرين غير معقول ، فلا مناص من إدراجه في المسائل
الاصولية العقلية ؛ حيث إنه يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي من وجوب الإعادة
والقضاء وعدمهما ، فهو من المسائل ، وحيث إنه بحكم العقل ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ فهو من الاصول العقلية.
نعم ، فيه إشكال ـ
سيجيء تفصيله في مقدمة الواجب ـ مجمله : أن الحكم العقلي الذي هو موضوع علم الاصول مما
يبحث عن ثبوته ـ هنا ـ لا عن لواحقه بعد ثبوته. ويمكن تخصيص المقام بما يزيل
الإبهام ، وهو أن الحكم العقلي ـ الذي هو في المقام يتوصل به إلى الحكم الشرعي
إثباتا ونفيا ـ لزوم الخلف من عدم الإجزاء المستلزم لإيجاب الإعادة والقضاء بعد
حصول المأمور به بحدّه بالإضافة إلى أمره ، وبعد إطلاق دليل البدلية والحكم
الظاهري على ما سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ بالإضافة إلى الأمر الواقعي ، وما
هو من الأحكام العقلية هو استحالة الخلف ، وهو مفروغ عنه في المقام ، وإنما الكلام
ـ هنا ـ في تطبيقه على ما نحن فيه ، وهو من لواحقه وأحواله. فالبحث في الحقيقة
راجع إلى أن الخلف المحال هل يلزم من عدم إجزاء المأتيّ به عن المأمور به ، أم لا؟
تحفّظا على جعل القضية العقلية المفروغ عن ثبوتها موضوعا للقضية ، بخلاف حكم العقل
وجدانا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فإنه مما يبحث عن
__________________
ثبوته ونفيه في
تلك المسألة. فتأمل .
١٩٥
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( الظاهر أن
المراد من الاقتضاء ... الخ ) .
ينبغي أن يراد من
الاقتضاء ما هو المبحوث عنه في المقام ، لا ما هو المذكور في العنوان ، فإنّ
الاقتضاء المنسوب إلى الإتيان لا يكاد يراد منه غير العلّية والتأثير ، كما أن
المنسوب إلى الأمر في كلمات الأكثر لا يكاد يراد منه غير الكشف والدلالة ، فما ينبغي
فيه التكلّم ـ هنا ـ هو أن الاقتضاء الذي يناسب البحث عنه في هذه المسألة هو
الاقتضاء الثبوتي ـ دون الإثباتي ـ كما في العنوان ، ولذا نسب إلى الإتيان ، وعليه
يحمل العبارة.
ثم إنّ التعبير بالاقتضاء وتفسيره بالعلية والتأثير ، مسامحة في التعبير والتفسير ؛ إذ سقوط
الأمر بملاحظة عدم بقاء الغرض على غرضيته ودعوته ، والمعلول
ينعدم بانعدام علته ، لا أنّ القائم به الغرض علة لسقوط الأمر ؛ لأنّ
__________________
__________________
الأمر علة لوجود
الفعل في الخارج ، فلو كان الفعل علّة لسقوط الأمر لزم علّية الشيء لعدم نفسه ، بل
سقوط الأمر لتمامية اقتضائه وانتهاء أمده. فافهم جيدا.
كما أن عدم الأمر
بالقضاء بملاحظة أن التدارك لا يعقل إلاّ مع خلل في المتدارك ،
والمفروض حصول المأمور به بحدّه أو بملاكه ، فلا مجال للتدارك ، وإلا لزم الخلف ،
فحيث لا خلل في المأتيّ به لا مجال لعنوان القضاء كي يؤمر به ، لا أن إتيان
المأمور به علة لعدم الأمر بالقضاء. فتدبر جيدا.
١٩٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( غايته أن العمدة
في سبب الاختلاف فيهما إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما ... الخ ) .
لا
يخفى عليك : أن نتيجة المسألة
الاصولية لا بدّ من أن تكون كلّية ، فكما لا يكاد يمكن أن تكون نتيجة البحث جزئية
، كذلك لا يكاد يمكن أن يكون مبنى البحث كذلك ؛ لأول الأمر إلى ذلك ، فابتناء
النزاع ـ في اقتضاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري مثلا للإجزاء بنحو الكلية ـ
على دلالة قوله ـ عليه السلام ـ : « التراب أحد الطهورين » من حيث الإطلاق الملازم للإجزاء وعدمه ، لا يناسب المباحث الاصولية.
__________________
نعم القول
بالإجزاء مع الإطلاق ، وعدمه مع عدمه بنحو الكلية ، يناسب المسألة
الاصولية كما هو واضح. وعليه فليس مبنى النزاع صغرويا ، بل النزاع الصغروي من
المبادئ التصديقية للإطلاق وعدمه المبني عليهما الإجزاء وعدمه.
مضافا إلى أن منشأ
الخلاف لو كان الاختلاف في دلالة دليل الأمر الاضطراري والظاهري لكان الأنسب تحرير
النزاع في المنشأ ، وتفريع الإجزاء وعدمه على كيفية دلالة دليلهما. خصوصا لو لم
يكن نزاع حقيقة في إجزاء المأتيّ به بالإضافة إلى أمره. ولعله أشار (قدس سره) إلى
بعض ما ذكرنا بقوله (قدس سره) : ( فافهم ) .
١٩٧
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وإن كان يختلف
ما يكفي ... الخ ) .
لا ريب في أن
الكفاية بنفسها لا تقتضي البدلية والقيام مقام شيء آخر ، إلا أن الكفاية عن شيء
مما لا شبهة في أنها تستدعي شيئين : أحدهما ما يكفي ، والآخر ما يكفى عنه .
__________________
ومن الواضح عدم
تحقّقها بهذا المعنى في إتيان المأمور به بالإضافة إلى أمره مطلقا ، حيث إن
المأتيّ به نفس وجود المأمور به ، وليس بينهما المغايرة ؛ حتى يقال : إن المأتيّ
به يكفي عن المأمور به ، وإنما يتحقّق هذا المعنى بالإضافة إلى أمر آخر ، كما في
الاضطراري والظاهري بالإضافة إلى الواقعي.
فالأولى
أن يقال : إن الإجزاء ـ بمعنى
الكفاية وما تضاف إليه ـ مختلف ، فتختلف آثاره ، ومعنى الكفاية وفاء الشيء بما
يقتضي المضاف إليه ، فالمأتيّ به واف بحدّه بما يقتضيه أمره ، فيسقط ، وواف بملاكه
بما يقتضيه الأمر الواقعي فيسقط ، ولا مجال للإعادة والقضاء حينئذ ، وليس في البين
عنوان كفاية شيء عن شيء ؛ حتى لا يكون هناك جامع بين أنحاء الإجزاء. فافهم وتدبّر.
١٩٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار ...
الخ ) .
اعلم أنّ دعوى عدم
الفرق بين المسألة والمسألتين ، بلحاظ إسقاط التعبد به ثانيا ، وعدمه بالنسبة إلى
المرة والتكرار ، وبلحاظ إسقاط القضاء وعدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء ،
وإلاّ فعدم الملاءمة بين المسألة والمسألتين أوضح من أن يخفى.
ثم إنه ليس الغرض
مما أفاده (قدس سره) في الفرق : أن البحث هنا عقلي ، وهناك لفظي ، فإنّ مجرّد ذلك
لا يقتضي عقد مسألتين مع اتحاد المقصود ، بل يبحث عن الاقتضاء وعدمه عقلا ولفظا في
مسألة واحدة ، بل المراد اختلاف الجهة المبحوث عنها هنا وهناك :
__________________
أمّا في المرّة
والتكرار : فلأنّ المراد بالمرّة أنّ وجودا واحدا من الطبيعة ـ أو دفعة واحدة منها
ـ مطلوب ، ولازمه عقلا أنّ غيره من الوجودات أو الدفعات غير مطلوب بهذا الطلب ،
والمراد بالإجزاء أنّ المأتيّ به في الخارج ـ واحدا كان أو دفعة واحدة ـ يفي بما
اقتضاه الأمر ، وأين أحد الأمرين من الآخر؟! لترتّب الثاني على الأوّل ، لا أنه
عينه. كما إن المراد بالتكرار مطلوبية وجودات أو دفعات بنفس الأمر ، والمراد من
عدم الإجزاء عدم وفاء المأتيّ به بالمأمور به بحيث يسقطه ، فمطلوبية الإتيان ثانيا
بنفس بقاء الأمر ، لا أنه مدلول الأمر. وعلى ما ذكرنا فلو كان ما يدّعيه القائل
بالإجزاء وبعدمه من مداليل الأمر اللفظي أيضا ، لم يكن عين ما يقول به القائل
بالمرة والتكرار.
وأما في تبعية
القضاء للأداء : فلأن القائل بالتبعية يدّعي أنّ الفعل في وقته مطلوب ، وفي خارجه
ـ أيضا ـ مطلوب بنحو التعدّد في المطلوب ، والأمر حينئذ يقتضي فعل ذات المأمور به
في خارج الوقت على حدّ اقتضائه له فيه ، غاية الأمر أنّ فعله في الخارج مرتّب على
عدمه في وقته ، والقائل بعدم الإجزاء يقول : بأن إتيان المأمور به لا يسقط القضاء
، وأين هذا من القول بمطلوبية القضاء بنفس الأمر؟!
بل لو قال القائل
بعدم الإجزاء : بأن مقتضى الأمر بشيء عدم سقوط القضاء ـ أيضا ـ كان أجنبيا عن
القول بالتبعية ؛ لأن غايته دلالة الأمر على عدم سقوط القضاء ، لا على مطلوبية
القضاء على حدّ مطلوبية الأداء.
وهذا كلّه بناء
على فرض الكلام في دلالة الأمر الاضطراري والظاهري على عدم سقوط القضاء بالإضافة
إلى الأمر الواقعي ، وإلا فعدم العلاقة بين المسألتين أوضح من أن يخفى على ذي
مسكة.
١٩٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكنه لا بملاكه
... الخ ) .
__________________
بل لأن وجوده
ثانيا وثالثا مطلوب لا لبقاء الأمر وعدم ما يسقطه ، بل القائل بالتكرار لا يمكنه
القول بعدم الإجزاء ـ بمعنى لازمه التدارك ـ إذ القائل بالتكرار يقول به ما دام
الامكان ، ومعه لا مجال للتدارك.
[ في
إجزاء امتثال المأمور به عن التعبد به ثانيا ]
٢٠٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( إن الإتيان
بالمأمور به بالأمر الواقعي ... الخ ) .
سواء كان الإجزاء
بمعنى الكفاية عن التعبّد به ثانيا ، أو عن تدارك المأتي به إعادة أو قضاء :
أما بالنسبة إلى
التعبد به ثانيا : فلأن المفروض وحدة المطلوب ، وإتيان المأمور به على الوجه
المرغوب ، فلو لم يسقط الأمر مع حصول الغرض عند الاقتصار عليه ، وعدم تبديله
بامتثال آخر ـ كما مرّ ـ للزم الخلف ، وهو بديهي الاستحالة ، أو بقاء المعلول بلا
علة ؛ لأنّ بقاء الأمر : إما لأنّ مقتضاه تعدّد المطلوب ، فهو خلف ؛ لأن المفروض
وحدة المطلوب ، وإما لأن المأتيّ به ليس على نحو يؤثّر في حصول الغرض ، فهو خلف
أيضا ، وإما لا لشيء من ذلك ، بل الأمر باق ، ولازمه عدم الإجزاء ، فيلزم بقاء
المعلول بلا علة. وأما شبهة طلب الحاصل من بقاء الامر ، فقد عرفت سابقا دفعها ؛ فان المحال طلب الموجود بما هو
__________________
موجود ؛ لأن إيجاد
الموجود محال ، فطلبه محال ، وأما طلب الفعل ثانيا ، فليس من طلب الحاصل.
وأما بالنسبة إلى
التدارك : فلأن التدارك لا يعقل إلاّ مع خلل في المتدارك ، وهو خلف ؛ إذ المفروض
إتيان المأمور به على وجهه.
٢٠١
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( نعم لا يبعد أن
يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال ... الخ ) .
قد أشرنا ـ في آخر مبحث المرّة والتكرار ـ إلى أن إتيان
المأمور به بحدوده وقيوده علّة تامة لحصول الغرض ، فيسقط الأمر قهرا. والمثال
المذكور في
__________________
__________________
المتن كذلك ؛ لأن
الغرض الذي يعقل أن يكون باعثا على الأمر بإحضار الماء هو تمكّن المولى من رفع
عطشه به ، لا نفس رفع العطش ، خصوصا مع أن مصالح العبادات فوائد تقوم بها ، وتعود
إلى فاعليها ، لا أنها عائدة إلى الآمر بها ؛ حتى يتصوّر عدم استيفاء غرضه منها ،
بل من الأوفى ، كما لا يخفى.
وأما ما ورد من
الأمر بالإعادة في باب المعادة ، وأنه يجعلها الفريضة ، ويختار الله ـ تعالى
ـ أحبّهما إليه ، وأنه يحسب له أفضلهما وأتمّهما ، فلا دلالة له على أنّ ذلك من
باب تبديل الامتثال بالامتثال وكون سقوط الأمر مراعى بعدم تعقّب الأفضل.
__________________
..........................................
__________________
__________________
__________________
__________________
.....................................
__________________
__________________
..........................................
__________________
__________________
...................................
__________________
__________________
وذلك لأنّ كلّ ذلك
لا ينافي حصول الغرض وسقوط الأمر بتقريب : أن سقوط الأمر بحصول الغرض الملزم أمر ،
واختيار المعادة واحتسابها في مقام إعطاء الأجر والثواب أمر آخر. والسرّ في جعل
المعادة ـ لمكان أفضليتها من الاولى ، كما دلّت عليه طائفة من الأخبار ـ ميزانا للأجر والثواب ، دون الاولى ـ اشتراكها مع الاولى في ذات المصلحة
القائمة بها مع زيادة ، فليس مدار الثواب على الاولى المقتضية لدرجة واحدة من
القرب ، بل على الثانية المقتضية لدرجات من القرب ، والاولى وإن استوفت بمجرّد
وجودها درجة من القرب ، لكن حيث إنّ المعادة تكرار ذلك العمل بنحو أكمل ، فلا
يحتسب ما به الاشتراك مرتين ، فصح أن يقال باحتسابهما واختيارهما معا ، كما دلّ
عليه قوله ـ عليه السلام ـ : « وإن كان قد صلّى كان له صلاة اخرى » ، ويصحّ أن يقال باختيار المعادة وجعلها مدار القرب ؛ لوجود ما يقتضيه الاولى
فيها وزيادة. فتفطّن.
ويمكن أن يقال
أيضا : إن الصلاة المأتيّ بها أوّلا توجب أثرا في النفس ، فكما أنه يزول بضدّ أقوى
، فلا يحسب عند الله وإن لم يوجب القضاء ، كذلك ينقلب إلى وجود أشدّ وآكد إذا
تعقّب بمثل أقوى ، كما في الجماعة والفرادى ،
__________________
فلعلّه معنى
اختيار الأحبّ إليه تعالى ؛ إذ ليس بعد وجود الغرض القويّ وجود للضعيف ؛ كي ينسب
الاختيار إليهما معا ، بل الموجود من الأثر الباقي ـ المحبوب عند الله تعالى
الظاهر بصورته المناسبة له في الدار الآخرة المستتبعة للمثوبات ـ هو هذا الوجود
القويّ ، وذلك لا ينافي حصول الغرض الملزم بالمأتيّ به أوّلا وسقوط الأمر به. وكذا
الأمر في قوله ـ عليه السلام ـ : « يحسب له أفضلهما وأتمّهما » برفعهما ، وأما بناء على نصبهما ـ كما هو الظاهر من سياق الخبر ـ فلا دلالة
له على مدّعى الخصم ، فإن الظاهر محسوبية الصلاتين ، غاية الأمر أنه أفضلهما ، وهو
مناف لتبديل الامتثال بالامتثال. وقوله ـ عليه السلام ـ : « يجعلها الفريضة » : إما بمعنى يجعلها ظهرا أو عصرا أو نحوهما مما أدّاها سابقا ، لا نافلة
ذاتية ؛ حيث لا جماعة فيها ، وإما بمعنى يجعلها لما فات من فرائضه ، كما في خبر
آخر : « تقام الصلاة وقد صليت؟ فقال ـ عليه السلام ـ : صلّ واجعلها لما فات » ، وليس فيما ورد فيه يجعلها الفريضة عنوان الإعادة كي يأبى عن هذا الاحتمال.
فراجع.
مع أن لازم
استقرار الامتثال على الثاني ـ أو على أحدهما الأفضل عند الله ـ عدم إمكان التقرّب
بالأوّل على الأوّل ، وعدم التقرّب الجزمي بكل منهما على الثاني إذا كان بانيا من
أوّل الأمر على إتيانهما.
__________________
[ في
إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري ].
٢٠٢
ـ قوله [ قدس سره ] : ( يمكن أن يكون
التكليف الاضطراري في حال الاضطرار ... الخ ) .
ولا يلزمه جواز
تحصيل الاضطرار اختيارا ـ كما توهم ـ لإمكان ترتّب المصلحة التامّة على فعل البدل
، فيما إذا اضطر إليه بطبعه ، لا بالاختيار.
٢٠٣
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( بل يبقى شيء أمكن استيفاؤه ... الخ ).
تحقيق
الحال فيه : أنّ بدلية شيء
عن شيء وقيامه مقامه ـ ولو بنحو الترتيب ـ لا يعقل ، إلاّ مع جهة جامعة وافية بسنخ
غرض واحد ، فإن كان البدل في عرض المبدل لزم مساواته له في تمام المصلحة إمّا ذاتا
أو بالعرض ، والوجه واضح ، وإن كان البدل في طول المبدل ـ كما في مفروض البحث ـ فاللازم
مجرّد مسانخة الغرضين سواء كان مصلحة المبدل أقوى من مصلحة البدل ، أولا.
وحديث إمكان
استيفاء بقية مصلحة المبدل إنما يصح إذا كان المبدل مشتملا على مصلحتين : إحداهما
تقوم بالجامع بين المبدل والبدل ، والاخرى بخصوص المبدل ، بحيث تكون كلتا
المصلحتين ملزمة قابلة لانقداح البعث الملزم في نفس المولى.
__________________
وأما إذا كان
المصلحة في البدل والمبدل واحدة ، وكان التفاوت بالضعف والشدة ، فلا تكاد تكون
بقية المصلحة ملاكا للبعث إلى المبدل بتمامه ؛ إذ المفروض حصول طبيعة المصلحة
القائمة بالجامع الموجود بوجود البدل ، فتسقط عن الاقتضاء ، والشدة ـ بما هي ـ لا
يعقل أن تكون ملاكا للأمر بالمبدل بكماله ؛ حيث إنّ المفروض أن تمام الملاك للأمر
بتمام المبدل هي المصلحة الكاملة القوية ، وطبيعتها وجدت في الخارج ، وسقطت عن
الاقتضاء ، فلو كان ـ مع هذا ـ حدّ الطبيعة القوية مقتضيا للأمر بتمام المبدل ،
لزم الخلف.
نعم اقتضاؤه
لتحصيل الخصوصية القائمة بالمبدل معقول ؛ نظرا إلى أنّ اشتراك المبدل والبدل في
جامع الملاك ، يكشف عن جامع بينهما ، لكنه لا يجدي إلاّ مع الالتزام بالأمر
بالجامع أيضا ـ في ضمن المبدل ـ تحصيلا للخصوصية التي لها ملاك ملزم ، فيكون الأمر
بالمبدل مقدّميا ، وهو مما لا ينبغي الالتزام به.
ومنه
تعرف : أن الالتزام
بمصلحتين في المبدل ـ أيضا ـ لا يجدي إذا كانت إحداهما قائمة بالجامع ، والاخرى
بالخصوصية ، بل لا بدّ من الالتزام بقيام مصلحتين إحداهما بالجامع فقط ، واخرى
بالجامع المتخصّص بالخصوصية.
٢٠٤
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لما فيه من نقض
الغرض وتفويت مقدار من المصلحة ... الخ ) .
لا يذهب عليك أن
المأمور به الاضطراري في أوّل الوقت والمأمور به الاختياري في آخره ـ بناء على هذا
الفرض ـ متضادّان في تحصيل تمام الغرض ، وليس بين المتضادّين وجودا إلاّ المعاندة
، ولا مقدّمية لعدم أحدهما بالإضافة إلى وجود الآخر ، فلا وجه لنسبة نقض الغرض
وتفويت مقدار من المصلحة إلى المأمور به الاضطراري.
__________________
كما أن تسويغ
البدار ليس بنفسه نقضا وتفويتا ؛ حيث إنّ تسويغ البدار لا يلازم البدار. نعم لازم
تسويغ البدار هو الإذن في نقض الغرض وتفويت المصلحة لمكان الملازمة ، والإذن فيهما
قبيح. وعليه ينبغي حمل العبارة ، ولعله إليه الإشارة بقوله : ( فافهم ).
ثمّ إن الأولى أن
يقال : وتفويت المصلحة الخاصة بحدّها ، لا تفويت مقدار منها ؛ لأنّ الباقي ليس
دائما واجب التدارك في حدّ ذاته ؛ كي لا يسوغ البدار ، بخلاف ما إذا لوحظت مصلحة
المبدل بحدّها ، فإنها بما هي مصلحة واحدة ملزمة ، وهي فاتت بحدّها. فتدبّر جيّدا.
٢٠٥
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لو لا المزاحمة
بمصلحة الوقت ... الخ ) .
مع كونها أهم ،
كما هو كذلك جزما ، وإلاّ فمجرّد التقدّم في الوجود لا يقتضي التقدّم في الحكم.
٢٠٦
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فيدور مدار كون
العمل ... الخ ) .
يمكن أن يقال : إن
حكمة إيجاب الانتظار ـ مثلا ـ يمكن أن تكون
__________________
ملازمة الصلاة في حال الاختيار لمصلحة ملزمة اخرى ، مع تساوي المبدل والبدل في مصلحة الصلاة
، فللمولى إيجاب الانتظار مراعاة لتلك المصلحة ، وإلاّ فدعوى الفرق بين الصلاة
الاضطرارية في أوّل الوقت وآخره ـ من حيث القيام بمصلحة الصلاة ـ كأنها تشبه
الجزاف. فتأمّل.
٢٠٧
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( غاية الأمر
يتخيّر في الصورة الاولى ... الخ ) .
فيكون من قبيل
التخيير بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ لو كانت المصلحة الصلاتية قائمة بها في حال
الاختيار ـ إذا لم يسبقها ما يستوفي مقدارا منها ـ وبصلاتين في حالتي الاختيار
والاضطرار ـ بقيام كل واحدة منهما بمقدار من المصلحة ـ فلا محالة لا يعقل إلاّ
الأمر التخييري على هذا النهج.
وعدم تعيّن الأمر
التعييني بصلاة المختار ـ بالمنع عن البدار ـ لا لما فيه من الضيق المنافي لمصلحة
التسهيل والترفيق فقط ، بل لأنّ وفاء العملين ـ أوّلا وآخرا ـ بالغرض ، يمنع عن
الأمر التعييني بخصوص العمل آخرا ، وليس الأمر بالاضطراري في حال الاضطرار
والإعادة بعد رفعه تعيينيين ؛ حتى يكون المضطر أسوأ حالا من المختار.
٢٠٨
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فظاهر اطلاق
دليله مثل ... الخ ) .
بعد ما عرفت من أن
الإجزاء وعدمه بحسب مقام الثبوت بمكان من الإمكان ، تعرف أنه لا مناص عن تعيين أحد
الأمرين بالإطلاق وعدمه في مقام الإثبات.
__________________
وتوهّم : أن مجرّد الأمر بالبدل يفيد إسقاط القضاء ، وبضميمة جواز
البدار يفيد إسقاط الإعادة أيضا ، كما عن غير واحد ، بملاحظة أن البدل إن لم يكن
مشتملا على مصلحة المبدل ، فلا وجه للأمر به ، وإن كان مشتملا عليها ، فلا مجال
للتدارك ـ إعادة وقضاء ـ إن كان كذلك في تمام الوقت ، وقضاء فقط إن كان كذلك في
آخر الوقت ، أو مع اليأس مثلا.
مدفوع : بما عرفت من إمكان اشتمال البدل على مقدار من المصلحة
الملزمة للمبدل ، فيجب عقلا الأمر به ، وإمكان استيفاء البقية ـ إعادة وقضاء ـ فيجب
الأمر بهما ، غاية الأمر أن الأمر بالبدل وبالقضاء تعيينيان ، وبه وبالإعادة
تخييريان.
ثم إن المطلق : إن كان مثل قوله ـ عليه السلام ـ : « التراب أحد
الطهورين » ، فإطلاقه بلحاظ جميع الآثار نافع جدّا ، وإن كان مثل قوله
تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) إلى آخره ، ففيه تفصيل :
فإن كان له إطلاق
من جهتين : ـ ارتفاع العذر في الوقت ، وعدم تقييد
__________________
__________________
الأمر بالتخيير
كما هو ظاهر الأمر عند إطلاقه ـ كان لا محالة دليلا على عدم وجوب الإعادة ،
واشتمال البدل على ما لا يبقى معه مجال للتدارك ، فيتبعه عدم وجوب القضاء ؛ حيث لا
مجال للتدارك ، وفرض إمكان الاستيفاء في خارج الوقت دون الوقت فرض محض لا يعبأ به.
وإن لم يكن له
إطلاق ـ ولو من إحدى الجهتين ـ فلا مجال للإجزاء من حيث الإعادة والقضاء ؛ لما
عرفت من أن تجويز البدار لا ينافي الأمر بما هو
__________________
__________________
تكليف المختار في
الوقت على نحو التخيير ، كما أن ظهور الأمر ـ في التعيين ـ لا ينافي عدم تجويز
البدار ، فالإطلاق من جهة لا يقتضيه من جهة اخرى.
ومنه عرفت : أنّ
إطلاق الأمر في حدّ ذاته لا مساس له بالإجزاء من حيث القضاء ، فيشكل الأمر فيه
بناء على عدم جواز البدار ، ولا يجدي ظهور الأمر بالبدل في التعيين ؛ لأنّ الأمر
بالقضاء ـ أيضا ـ تعييني ، فلا يندفع بظهوره في عدم التخيير كما هو واضح.
وارتفاع العذر في
خارج الوقت ليس قيدا للوجوب ولا للواجب ؛ حتى يجدي في دفعه إطلاق الهيئة أو المادة
لوجوب البدل ، واشتماله على مصلحة المبدل في الجملة ـ سواء ارتفع العذر في خارج
الوقت ، أو لا ـ قطعا. فلا تغفل.
٢٠٩
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لكونه شكّا في أصل التكليف ... الخ ) .
لا يخفى أنه مع عدم جواز البدار ووجوب الصلاة آخر الوقت ، لا موقع للشك في الإعادة ؛
حيث لا يمكن الإعادة ، بل يتمحّض الشك في وجوب القضاء ، وهو شكّ في أصل التكليف.
__________________
.........................................
__________________
__________________
وأما بناء على
جواز البدار فالصلاة عن طهارة ترابية مأمور بها ، لكن يشكّ في أنّ وجوبها بنحو
التخيير بين المتباينين ، أو بنحو التخيير بين الأقلّ والأكثر ، وهو أن البدل
المنضمّ إلى المبدل فرد ، والمبدل فقط فرد آخر ، فوجوب البدل على أيّ حال معلوم ،
كوجوب المبدل منفردا ، ووجوب المبدل منضمّا إليه غير معلوم.
وحيث أن وجوب
المبدل ـ منضمّا أو منفردا ـ بأمر آخر من دون ارتباط من
__________________
__________________
حيث اشتمال كلّ من
البدل والمبدل على مقدار من المصلحة ، وعدم إناطة صحة أحدهما وفساده بصحة الآخر
وفساده ، فلذا ليس حال ما نحن فيه حال الأقلّ والأكثر من حيث استحالة الانحلال
هناك على القول باستحالته.
وأمّا إرجاع
التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي : فالتكليف إما بجامع ينطبق على كلّ من البدل
والمبدل ، أو بجامع لا ينطبق إلاّ على البدل المنضمّ إلى المبدل ، وعلى المبدل
منفردا ، ولا معلوم بالتفصيل.
فمدفوع : بأنّ
تعلّق التكليف بكلّ من البدل والمبدل معلوم ، فمثل هذا الجامع معلوم ، والتكليف
بجامع لا ينطبق إلا على البدل المنضمّ إلى المبدل غير معلوم.
٢١٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( بطريق أولى ... الخ ) .
وجه الأولوية
إمكان تقيد تمام المصلحة بالوقت ، دون خارجه ، فلو لم يجب الاستيفاء
في الوقت لم يجب في خارجه بالأولوية ، وإلاّ فبالنظر إلى الشكّ في التكليف كلاهما
على حد سواء ؛ إذ الإعادة هنا ـ أيضا ـ بأمر آخر كما في القضاء.
نعم ، يمكن تقريب
الأولوية من هذه الحيثية ـ أيضا ـ ، لكنه بعيد عن مساق العبارة ، وهو أن الأمر
بالإعادة ناش واقعا من الأمر بالجامع ، لا أنه أمر آخر كما في القضاء.
__________________
وقوله (قدس سره) في
الإعادة : ( لكونه شكا في أصل التكليف ) يحمل على الشكّ
في تعلّق أصل التكليف بالجامع ، حيث لا يقطع به إلا بالإعادة ، لا أنه شكّ في
التكليف الزائد كما هو ظاهر العبارة. والله أعلم.
٢١١
ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكنه مجرّد الفرض ... الخ ) .
إذ فوت الواقع بما
هو لو كان موجبا للقضاء. لوجب حتى مع القطع باستيفاء تمام المصلحة.
[ في
إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمرين ]
٢١٢
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( والتحقيق : أن ما كان منه يجري ... الخ ) .
توضيحه : أنّ مفاد القواعد وأدلّة الأمارات ـ على المشهور ـ بحسب
اللب والواقع وإن كان إنشاء أحكام مماثلة للواقع ، ومقتضاه عدم الفرق لبّا بين
الحكم بالطهارة بالقاعدة أو بدليل الأمارة ؛ حيث إنّ من أحكامها الشرطية ، فان
كانت منشأة حينئذ وكانت الصلاة مع الشرط ، كان الأمر كذلك على أيّ تقدير ، وإلا
فلا ، إلا أنّ لسان الدليل حيث إنه مختلف ، فلا محالة يختلف مقدار استكشاف الحكم
المماثل المنشأ بقاعدة الطهارة أو بدليل الأمارة.
ومن الواضح أن
مفاد قوله ـ عليه السلام ـ : « كلّ شيء طاهر أو
__________________
حلال » هو الحكم بالطهارة أو الحلية ابتداء من غير نظر إلى واقع يحكي عنه ، والحكم
بالطهارة حكم بترتيب آثارها ، وإنشاء لأحكامها التكليفية والوضعية ـ ومنها الشرطية
ـ فلا محالة يوجب ضمّه إلى الأدلّة الواقعية التوسعة في الشرطية
، ومثله ليس له كشف الخلاف ؛ لأنّ ضمّ غير الواقع إلى الواقع لم ينكشف خلافه ،
بخلاف دليل الأمارة إذا قامت على الطهارة ، فإنّ معنى تصديقها وسماعها البناء على
وجود ما هو شرط واقعا ، فيناسبه إنشاء أحكام
__________________
__________________
الشرط الموجود
كجواز الدخول في الصلاة ، لا إنشاء الشرطية ؛ إذ المفروض دلالة العبارة على البناء
على وجود الطهارة الثابتة شرطيتها واقعا بدليلها
__________________
__________________
[ الحاكي ] عنها ، لا الحكم بالطهارة ابتداء ، فإذا انكشف عدم الطهارة واقعا فقد انكشف
وقوع الصلاة بلا شرط.
فإن قلت : بناء
على ذلك يكون حال الاستصحاب حال الأمارة ، فإنّ مفاد دليله البناء على بقاء
الطهارة الواقعية المتيقّنة سابقا ، مع أنه حكم الإمام ـ عليه
__________________
__________________
السلام ـ بعدم
الإعادة في صحيحة زرارة تعليلا بحرمة نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها ، فيعلم منه
أنّ التعبّد ببقاء الطهارة تعبّد بشرطيتها.
قلت : الغرض قصور التعبّد بوجود ما هو شرط واقعا عن الدلالة
على التعبّد بالشرطية ، لا منافاته له. مضافا إلى أنّ مجرّد التعبّد بالوجود
والبقاء لا قصور له عن إفادة الإجزاء ، بل التعبّد في الأمارة ـ حيث كان ـ على طبق
لسان الأمارة الحاكية عن وجود الشرط ، وكان عنوانه التصديق بوجود ما هو الشرط ،
فلذا كان قاصرا عن إفادة أزيد من التعبّد بآثار الشرط الموجود واقعا ، كجواز
الدخول معه في الصلاة ، المتفرع على وجوده خارجا ، لا الشرطية الغير المتفرّعة على
وجوده خارجا ؛ لمكان وجوب الصلاة عن طهارة وجدت أم لا ، كما لا يخفى.
ومن الواضح أنه
ليس في مورد الاستصحاب ـ حسبما هو المفروض ـ شيء حتى يتبعه لسان دليله. وإنما
الموجود في ثاني الحال مجرّد الشكّ في
__________________
الطهارة ، كما في
مورد قاعدة الطهارة.
نعم لو كان
التعبّد بالطهارة بعنوان الظن ببقائها في ثاني الحال ، كان الأمر فيه كما في
الأمارات بلا إشكال.
فإن
قلت : مقتضى هذا
اللسان عدم الإجزاء وإن قلنا بالسببية والموضوعية في الأمارات ، فإن مقتضاه لا
يتغيّر عمّا هو عليه بجعله من باب الطريقية أو الموضوعية.
قلت : ليس الإجزاء بناء على الموضوعية بلحاظ جعل الشرطية
للطهارة مثلا ، بل بلحاظ أن الفاقد كالواجد في تمام المصلحة في هذه الحال ،
فالدليل لو كان مطلقا ـ من حيث موافقة الأمارة للواقع ومخالفتها له مثلا ـ يدلّ
على وجود المصلحة الباعثة على الجعل مطلقا.
فإن
قلت : مقتضى عموم
الآثار في قاعدة الطهارة عدم تنجّس ملاقيه به ،
__________________
ولذا ذكرنا في محلّه : أن
استفادة شرطية الطهارة ـ المتيقّنة سابقا المشكوكة لا حقا ـ ليست بالنظر إلى نفس
دليل الاستصحاب ، بل بالنظر إلى حكم الامام ـ عليه السلام ـ بعدم الإعادة لكونها
نقضا لليقين بالشكّ ، فإنه غير متصور إلا بناء على جعل الشرطية للطهارة المذكورة
حتى تكون الصلاة مقترنة بشرطها في تلك الحال. ويترتب عليه حينئذ ان إعادة الصلاة
اعتناء بالشك ، فيكون نقضا لليقين بالشك ، فقوله ـ عليه السلام ـ : « لأنك كنت على
يقين من طهارتك فشككت » إثبات لذات الشرط عنوانا ، وقوله ـ عليه السلام ـ : « وليس
ينبغي لك أن تنقض »
__________________
وطهارة المتنجّس
المغسول به ، كما تنفذ معه الصلاة واقعا.
قلت : فرق بين نفوذ الصلاة معه لكونه شرطا في هذه الحال ، فإنه
لا ينافي النجاسة الواقعية ، وبين طهارة المغسول به مثلا ، فإنّ النجس الواقعي لا
يعقل أن يطهر واقعا ، فإنّ فاقد الشيء لا يعقل أن يكون معطيا له. مضافا إلى أنّ
عدم تنجيس الملاقي ليس من آثار الطاهر الواقعي ، بل هو بالإضافة إليه لا اقتضاء ،
لا أنّ له اقتضاء العدم وإن كان له اقتضاء ضدّه.
فإن
قلت : ما ذكرت في
قاعدتي الحلّ والطهارة ، يوجب تعارض المغيّى والغاية ؛ فإنّ مفاد الغاية ترتيب أثر
النجس الواقعي بعد العلم بالقذارة من أول الأمر ، فينافي ترتيب أثر الطاهر الواقعي
بعد العلم بالقذارة مما يتعلق بحال الجهل من الاعادة والقضاء.
قلت : نعم ، إذا كان مفاد الغاية حكما تعبّديا ـ لا عقليا اتي به تحديدا
__________________
__________________
للموضوع ـ فليس
شخص هذا الأثر للمغيّا بإطلاقه ؛ حتى يترتّب عليه بعد حصول الغاية.
فإن
قلت : لا نقول
باقتضاء الغاية فساد الصلاة حال الجهل واقعا كي يعارض المغيّى ، بل بصحتها حاله
وانقلابها حال العلم ، نظير القواعد الجارية بعد العمل كقاعدتي الفراغ والتجاوز ،
فإنه لا مصحّح للعمل في الأثناء ، بل هو على ما هو عليه من الخلل ، وينقلب صحيحا
بعد جريان القاعدة.
قلت : بعد تحكيم المغيّى لا ينقلب لسقوط الأمر بملاكه ، فلا
موجب للإعادة والقضاء ، والفرق أنّ الجزء والشرط فعلي إذا لم يحكم بوجودهما أو بصحتهما بعد العمل بالقاعدة ، فلا انقلاب حقيقة ،
ويعلم صحة المأتي به بالقاعدة ، لا أنه يصحّح بالقاعدة.
وبالجملة : الغرض مرتّب على المحرز باليقين ، أو بالأصل ـ في
الأثناء أو بعد العمل أو قبله ـ بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا يعقل أن يقال : صحيح
واقعا ، إذا
__________________
لم يحكم بفساده
بعد العمل ، مع حفظ عدم المعارضة بين الغاية والمغيى ، فلا مجال إلا للانقلاب ،
وهو محال ، فتدبّر جيّدا.
٢١٣
ـ قوله [ قدس سره ] : ( من أن حجيتها ليست بنحو السببية ... الخ ) .
بل بنحو الطريقية بملاك غلبة الإصابة المصحّحة ، لجعل أحكام مماثلة للواقع كما هو المشهور.
وأما على الطريقية
بمعنى آخر ، وهو عدم إنشاء الحكم المماثل حقيقة ، بل
__________________
__________________
جعل الأمارة
منجّزة للواقع عند الإصابة ، فالأمر في عدم اقتضاء الإجزاء في غاية الوضوح ، وهذا
هو الصحيح وإن كان منافيا للمشهور.
لا
يقال : دليل الأمارة
وإن لم يفد الإجزاء ، إلاّ أنّ موردها دائما من موارد حديث
الرفع ؛ حيث إن الواقع الذي أخطأت عنه الأمارة مجهول ، فيأتي
الإجزاء ، من حيث انطباق مورد حديث الرفع الحاكم على
الأدلة الواقعية على موارد الأمارات.
لأنا
نقول : الظاهر من ( ما
لا يعلم ) ما جهل حاله رأسا لا ما قامت الحجة على عدمه.
٢١٤
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وأما بناء عليها ... الخ ) .
__________________
هذا إذا قلنا بكشف
الدليل على الحجية عن المصلحة البدلية ، وأما إذا قلنا بكشفه عن
مجرّد المصلحة في صورة المخالفة ـ في قبال الطريقية ـ فلا يفيد الإجزاء عن المصلحة
الواقعية.
ومن البيّن ـ كما
بيّن في محلّه ـ : أن ظهور الإنشاء في الإنشاء بداعي جعل الداعي ـ لا بغيره من
الدواعي ـ لا يقتضي أزيد من انبعاثه عن مصلحة مقتضية لجعل الداعي إلى تحصيلها ،
أمّا إنها مصلحة بدلية عن مصلحة الواقع فلا. وحديث تفويت المصلحة ـ ولزوم تداركها
بمصلحة مسانخة لها ـ مذكور في مسألة جعل الطريق إشكالا وجوابا.
__________________
__________________
٢١٥
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال كالواجد ... الخ )
.
فإن
قلت : لو كان مؤدّى الأمارة ـ بما هو مؤداها ـ وافيا بتمام مصلحة الواقع لزم الأمر بالجامع
بينهما عقلا ؛ لاشتراكهما من حيث وحدة الأثر في جامع لهما ، ويكون الأمر بكلّ من
الواقع والمؤدّى تخييريا ، مع ظهور الأمر الواقعي والطريقي في التعييني ، ونفس هذا
الظهور كاشف عن كيفية الأمر في مقام الثبوت ، ولا ينتقض بالأمر الاضطراري ، مع أنه
كذلك ، وذلك لأنّ المأمور به الاختياري غير مقدور شرعا في حال الاضطرار ، فلا فرد
للجامع في كلّ من الحالين إلا أحد الأمرين معينا ، بخلاف الواقعي فإنه مقدور بذاته
في حال قيام الأمارة على خلاف الواقع.
ومنه يظهر : أنه
لا مانع من فعلية المصلحة الواقعية تخييرا ، وإن منع الجهل بها عن فعليتها تعيينا.
__________________
قلت : ليس ذات المؤدّى ذات مصلحة ، بل بما هي مؤدّى الأمارة
المخالفة للواقع ، فهي بهذه الحيثية مصداق الجامع لا مطلقا ، فالجامع ـ بوجوده
الساري في الواقع ، وفي مؤدّى الأمارة المخالفة للواقع ـ لا يعقل أن يكون مأمورا
به بحيث يسري الأمر منه إلى الفردين تخييرا ؛ إذ ما لم يتعلّق أمر بالواقع ، ولم
تقم أمارة مخالفة له لا يكون المؤدّى ذا مصلحة ولا مصداقا للجامع ، فكيف يعقل
انبعاث الأمر إلى فردي الجامع تخييريا من قبل الأمر بالجامع بوجوده الساري في
الفردين؟ إذ لا ثبوت لهذا الموضوع في حد موضوعيته قبل تعلّق الأمر بالجامع في ضمن
الواقع ، فلا محالة يكون الأمر بالجامع في ضمن الواقع ، والأمر بالجامع في ضمن
المؤدّى تعيينيين.
__________________
ومنه
يظهر : أن مصلحة
الواقع والمؤدّى ـ عند قيام الأمارة ـ وإن كانت فعلية ، لكن فعلية البعث إلى المؤدّى
ـ لوصوله ـ مانع عن فعلية البعث إلى الواقع ؛ لاستحالة بعثين فعليين تعيينيين مع
وحدة الغرض ، بل على ما سلكناه في محله يستحيل البعث الفعلي مع عدم الوصول بنحو من
أنحائه.
٢١٦
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإلاّ فلا مجال لإتيانه ... الخ ) .
هذا كالوا في بتمام
الغرض إشكالا وجوابا ، غاية الأمر أن الطلب في المأمور به الواقعي متأكّد من حيث
زيادة المصلحة.
٢١٧
ـ قوله [ قدس سره ] : ( فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه ... الخ ) .
لا يخفى أن عدم
الإتيان بالمسقط ؛ حيث إنه ليس بأثر شرعي ، ولا بذي أثر شرعي ، فلا بد من حمل
كلامه (قدس سره) على استصحاب الاشتغال ، وبقاء ما في الذمة. وصحة استصحاب الاشتغال
ـ كلية ـ مبنية على دعوى : أن هذا المعنى منتزع من توجه التكليف بفعل إلى العبد ،
وكفى به في صحة استصحابه.
وقد أشكلنا عليه
وعلى قاعدة الاشتغال ـ هنا ـ في محلّه بما محصله :
أن الحكم الذي
تعلق العلم به لم يكن فعليا حال ثبوته على الفرض ، ولم يعلم بقاؤه حال تعلّق العلم
به ليصير فعليا به ، فلا أثر لتعلّق العلم به.
ويندفع : باستصحاب بقاء التكليف
الواقعي الذي هو عبارة عن
__________________
الإنشاء بداعي جعل
الداعي ، والحكم الاستصحابي حكم مماثل ، وحيث إنه واصل فيصير فعليا. وينسب الفعلية
بالعرض إلى الحكم الواقعي ، كما هو كذلك عند قيام الأمارة عليه أيضا ، فإن الواصل
الحكم المماثل المجعول على طبق المؤدّى.
ويمكن دفعه أيضا : بأن حال العلم هنا حال الحجة الشرعية بمعنى
__________________
المنجز ، فكما ان
قيامها يوجب تنجزه ، على تقدير ثبوته ، كذلك العلم هنا تعلّق بتكليف لو كان باقيا
لكان فعليا منجزا. وتمام الكلام في محلّه .
٢١٨
ـ قوله [ قدس سره ] : ( أو الظاهرية بناء على ... الخ ) .
لا مجال لقياس الأمر
الظاهري بالأمر الاضطراري ؛ إذ لا تكليف بالمبدل حال الاضطرار بوجه من الوجوه ،
فيتمحّض الشكّ في حدوثه ، بخلاف التكليف الواقعي حال الجهل به ، فإنه لا شكّ في
ثبوته ، وإنما الشكّ في سقوطه ، وإن قطع باشتمال المأتيّ به على المصلحة ، لكنه
حيث لم يعلم أنه بحيث يوجب سقوط ما علم بثبوته ، فلا محالة يجب إتيان المأمور به
الواقعي تحصيلا لليقين بسقوطه.
٢١٩
ـ قوله [ قدس سره ] : ( وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت ... الخ ) .
لا يخفى عليك أنّ
الفوت مما ينسب ويضاف إلى المأمور به ، وهو من
__________________
عناوينه ، لا مما
ينسب إلى المأمور ومن وجوه فعله ، كما أنه ليس عنوانا للترك ولعدم الفعل مطلقا ،
بل فيما إذا كان للشيء استعداد الوجود من حيث كونه ذا مصلحة فعلية ، أو مأمورا به
واقعا أو مبعوثا إليه فعلا ، فإنّ هذه جهات مقرّبة له إلى الوجود. والظاهر أن
الفوت ليس مجرّد عدم ما كان له الإمكان الاستعدادي للوجود من إحدى الجهات المزبورة
، بل هو عنوان ثبوتي ملازم لترك ما كان كذلك في تمام الوقت المضروب له ، وهو مساوق
لذهاب شيء من يده تقريبا ، كما يساعده الوجدان.
وعليه فعدمه
المستصحب في تمام الوقت ليس مصداقا للفوت ؛ كي يرتب عليه وجوب القضاء ، بل ملازم
له ؛ بداهة أن العناوين الثبوتية لا تكون منتزعة عن العدم والعدمي كما هو واضح.
ثم
لا يذهب عليك : أن الشكّ في
صدق الفوت بلحاظ الملاك القائم بالمأمور به الواقعي ، وإلاّ ففوت الفريضة الفعلية
مقطوع العدم ؛ حيث لا فرض فعلي في الوقت ، وفوت المأمور به الواقعي بذاته مقطوع
الثبوت ؛ حيث إنه ذهب بنفسه من يده في الوقت ، فالمشكوك هو فوته بملاكه ؛ لاحتمال
حصول ملاكه واقعا بالمأمور به الظاهري ، فلا بدّ من ملاحظة أن المنسوب إليه الفوت
أيّ واحد من الامور المزبورة. فتدبّر.
٢٢٠
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة .... الخ ) .
هذا كذلك لو كان
مفاد الأمارة مجرّد وجوب صلاة الجمعة ، وأما لو كان مفادها أنّ الواجب الواقعي في اليوم هي الجمعة ، فمقتضى السببية قيامها مقام
__________________
الفرض الواقعي
فيما له من المصلحة. وكما أن ضم الأصل ـ مثلا ـ إلى الدليل الواقعي مبين لاختصاص
فعلية جزئية السورة بحال العلم بالواقع ، وأن الأمر بما عداها فعلي ، كذلك ضم دليل
الأمارة إلى دليل وجوب الظهر واقعا ، يوجب اختصاص فعلية وجوب الظهر بما إذا لم تقم
الأمارة على أن الغرض غيرها ،
__________________
__________________
واختلاف الجمعة
والظهر في الآثار ، وإن كان كاشفا عن اختلاف حقيقتهما بحدهما ، لكنه لا ينافي اشتراكهما
في جامع به يقتضيان الغرض اللازم استيفاؤه كما لا يخفى.
[ في مناط
الإجزاء والتصويب ]
٢٢١
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( فإنه لا يكون موافقة للأمر فيها ... الخ ) .
لا
يقال : ليس موافقة
الأمر مناط الإجزاء ، ولا عدم موافقة الأمر الواقعي ملاك عدمه. كيف؟ وقد عرفت في
أول البحث : أن الإجزاء وعدمه من شئون المأتيّ به ، لا من شئون الأمر ؛ حتى يقال :
حيث لا أمر هنا بوجه ، فلا معنى للتكلّم في الإجزاء ، بل ملاكه وفاء المأتي به
بمصلحة المأمور به ، وهو على الفرض ممكن ، بل في الجملة واقع ايضا ، فما الوجه في
إخراجه عن محل البحث.
لأنا
نقول : مجرّد إمكان
وفاء الأجنبي عن المأمور به بمصلحته لا يقتضي البحث عنه في الاصول على وجه الكلية
، بل لا بدّ أن يكون هناك شيء بلحاظه يبحث عن اقتضائه عقلا كالمأمور به الاضطراري
والظاهري ، فإنّ حيثية كون المأتيّ به مأمورا به قابلة للكشف عن مقام الثبوت ،
ونفس تعلّق الأمر به قابل لأن يبحث عن اقتضائه لقيام متعلّقه بمصلحة المأمور به
الواقعي.
٢٢٢
ـ قوله [ قدّس سره ] : ( فان الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ ... الخ ) .
توضيحه : أن التصويب : إما بلحاظ خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي
__________________
رأسا ، أو بلحاظ
عدم فعلية الحكم الواقعي للجهل به ، أو لقيام الأمارة على خلافه ، أو بلحاظ سقوط
الحكم بمراتبه بعد إتيان المأمور به الظاهري.
والأول تصويب ،
إلا أنه لا داعي إلى الالتزام به ، بل الحكم الواقعي الإنشائي على حاله علم به أم
لا ، قامت الحجة على خلافه أم لا.
وكون مؤدّى
الأمارة ذا مفسدة غالبة ـ أو ذا مصلحة مضادّة غالبة على مصلحة الواقع ، أو ذا
مصلحة مماثلة أقوى موجبة لفعلية الحكم على وفقها ـ لا يقتضي سقوط مصلحة الواقع عن
الاقتضاء ؛ كي تخلو الواقعة عن الحكم رأسا بسقوط ملاكه ، بل يقتضي سقوط مقتضي
الحكم الواقعي عن التأثير وبلوغه درجة الفعلية وصيرورته بعثا جديا.
والثاني مع أنه
ليس من شئون الإجزاء لاجتماع عدم فعلية الواقع حال الجهل مع عدم الإجزاء ـ ليس من
التصويب في شيء ؛ لبقاء الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل على حاله ، كما
أن اختصاص الجاهل بحكم فعلي آخر ، كذلك ؛ إذ المجمع عليه اشتراك الجاهل مع العالم
لا العكس.
والثالث يؤكّد
ثبوت الحكم المشترك ؛ لأنّ مجرّد قيام الأمارة وتعلّق الجهل لم يوجب السقوط ، بل
إتيان المأمور به الظاهري المحصّل للغرض ـ وسقوط الحكم بحصول غرضه ، أو بعدم إمكان
حصوله ، كسقوطه بإطاعته ومعصيته ـ ليس من التصويب قطعا ؛ إذ المراد من ثبوت الحكم
المشترك ليس هو الثبوت أبدا ـ ولو مع الإطاعة والمعصية أو ما بحكمهما ـ بل مجرّد
الثبوت حال الجهل بحيث لا يختلف حال العالم والجاهل.
قلت : الحكم الذي أمره بيد المولى هو
الإنشاء بداعي جعل الداعي
__________________
وانبعاث المكلف ،
والإنشاء لا بذاك الداعي ليس من الحكم الحقيقي ولا من
__________________
__________________
مراتبه ؛ بداهة أن
المنشأ بداع آخر لا يكون جعلا للداعي ، فلا ينقلب عما هو
__________________
عليه ، ولا يمكن
أن يصير باعثا وداعيا وزاجرا وناهيا ، بل إنما يعقل أن يصير بعثا جدّيا وتحريكا
حقيقيا إذا انشئ بهذا الداعي.
ولا يخفى عليك :
أنّ الإنشاء بالداعي المزبور هو تمام ما بيد المولى ، وبلوغه إلى حيث ينتزع عنه
عنوان البعث والتحريك يتبع وصوله إلى المكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، لا لتلازم
البعث والانبعاث كتلازم الإيجاد والوجود ؛ ضرورة دخالة إرادة المأمور واختياره في
انبعاثه ، مع أن البعث بعث فعلي أراد المأمور امتثاله ، أم لا ، بل لأنّ المراد من
البعث الحقيقي والتحريك الجدي ، جعل ما يمكن أن يكون باعثا وداعيا ومحرّكا وزاجرا
وناهيا.
ومن الواضح أن
الإنشاء بداعي البعث لا يعقل أن يتّصف بإمكان الباعثية والدعوة ، إلاّ بعد وصوله
إلى المأمور لوضوح أنّ الأمر الواقعي ـ وإن بلغ من القوة ما بلغ ـ لا يمكن أن يصير
بنفسه باعثا وداعيا ، وإن خلا المأمور عمّا ينافي مقتضيات الرقية ، وعما ينافر رسوم العبودية ، بخلاف الواصل. فافهم واستقم.
__________________
__________________
إذا عرفت ذلك
فاعلم : أن الحكم الحقيقي المشترك بين العالم والجاهل هو ما ذكرنا ، فإنه الذي
يعقل أن يبلغ درجة الفعلية والتنجز. ومن الواضح أن مثله لا يعقل أن يتقيّد بعدم
الجهل به ، أو بعدم قيام الأمارة على خلافه ، بل نفس الجهل به وعدم وصوله كاف في
عدم بلوغه درجة الفعلية ، ووجود الحكم بهذا المعنى لا يمنع عن بعث فعلي آخر على
وفاقه أو على خلافه ؛ لأن حقيقة البعث إنما تنافي بعثا آخر ؛ لاستحالة علّية كلّ
منهما لداع مماثل أو مضادّ ؛ لاستحالة انقداح داعيين متماثلين أو متقابلين نحو فعل
واحد.
ومن الواضح أن
الحكم الواقعي وإن كان بداعي جعل الداعي ، إلا أنه ـ كما عرفت ـ لا يعقل أن يتّصف
بالدعوة إمكانا بماله من الوجود النفس الأمري ، بل إذا وصل إلى من اريد انبعاثه ،
فهذا سرّ فعلية البعث الطريقي دون الواقعي ، لا مانعية مصلحة الأمر الطريقي عن تأثير
مصلحة الأمر الواقعي في فعليته.
ومنه
ظهر : أن مصلحة الحكم
الواقعي تامّة ، وأن مصلحة المؤدّى لو كانت غالبة على مصلحة الواقع ، لاقتضت سقوط
الحكم الواقعي ؛ لأن بقاء المعلول ببقاء علته ، ومن البين أن العلّة التامّة
للإنشاء بداعي البعث نفس مصلحة الواقع ، وأنّ عدم بلوغه إلى درجة الفعلية ليس
لقصور في مصلحة الواقع كي يكون نسبته إلى الحكم الفعلي نسبة المقتضي إلى المقتضى
ليكون الكسر والانكسار في فعلية التأثير ، بل حقيقة الحكم المنبعث عن علّته
التامّة نفس
__________________
__________________
الإنشاء بداعي
البعث ، واتصافه بالبعث فعلا يتبع الوصول عقلا ، فلا محالة تكون غلبة مصلحة
المؤدّى ، موجبة لسقوط الحكم الواقعي الذي هو تمام ما بيد المولى لسقوط علته.
فتدبره فإنه حقيق به.
نعم ، القول
بالإجزاء يدور مدار كون مصلحة المؤدّى مساوية لمصلحة الواقع ، أو بمقدار لا يمكن
استيفاء ما بقي منها ، فلا موهم لسقوط مصلحة الواقع بمصلحة غالبة ، وإشكال لزوم
التخيير والأمر بالجامع قد تقدّم منا جوابه ، فراجع.
٢٢٣
ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( كيف وكان الجهل بها ... الخ ) .
يمكن أن يقال :
إنّ مقتضى تأخّر الجهل بشيء عنه ثبوته حال تعلّقه به ـ لا ثبوته أبدا ـ فلا مانع
من السقوط بعد الثبوت الموقوف عليه العلم والجهل ونحوهما ، بل اللازم ـ كما مرّ
مرارا ـ ثبوته العنواني المقوّم للعلم والجهل ، لا ثبوته الخارجي.
__________________
الفهرس
الموضوعي
موضوع كل علم الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ............................. ١٩
ميزان العرض الذاتي ........................................................... ٢١
فعل المكلف عنوان انتزاعي ..................................................... ٢٥
بعد اشتراك العلمين في تمام المسائل ............................................... ٢٨
المشهور تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ........................................... ٢٩
العلم عبارة عن مركب اعتباري ................................................. ٣٢
موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة ..................................... ٣٥
المراد من السنة ................................................................ ٣٧
المراد من الدليل العقلي ......................................................... ٣٩
تعريف علم الأصول ........................................................... ٣٩
وجه الأولوية في تعريف الماتن ................................................... ٤٠
الغرض من تدوين فن الأصول .................................................. ٤١
تحقيق الكلام في الوضع ........................................................ ٤٤
الارتباط بين اللفظ والمعنى من لوازم الوضع ....................................... ٤٧
الوضع عبارة عن التعهد ........................................................ ٤٨
المراد من التعهد ............................................................... ٤٨
تحقيق المعاني الحرفية ............................................................ ٥١
عدم وجاهة تنظير المعنى الاسمي والحرفي بالجوهر والعرض ........................... ٥٢
بعض المعاني الاسمية كالمعنى الحرفي في عدم الاستقلال .............................. ٥٤
ميزان عموم الوضع وخصوص الموضوع له ....................................... ٥٦
الإخبار والإنشاء من شئون الاستعمال ........................................... ٦١
وحدة المستعمل فيه في الجمل الخبرية والانشائية ................................... ٦٢
أسماء الاشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى ..................................... ٦٤
الموضوع في القضية الحقيقية يحتاج الى الواسطة .................................... ٦٧
دخل الإرادة يتصور على وجهين ................................................ ٦٩
الإرادة الاستعمالية والتفهيمية ................................................... ٧٠
إشكال العلامة على المحقق الطوسي بانتقاض الدلالات الثلاث ...................... ٧٢
المركبات ليس لها مواد غير مواد مفرداتها ......................................... ٧٥
جوهر الكلمة أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه ..................................... ٧٧
معنى كون التبادر علامة كونه دليلا إنّيّا .......................................... ٧٨
معنى صحة الحمل ............................................................. ٧٩
علامة المجاز هو السلب ......................................................... ٨٠
تحقيق في الحمل ............................................................... ٨٢
الاطراد وعدمه ................................................................ ٨٤
الحقيقة الشرعية ............................................................... ٨٥
ما يمتاز به الوضع عن الاستعمال ................................................ ٨٦
الصلاة بمعنى العطف والميل ..................................................... ٨٩
تقرير ثمرة بحث الحقيقة الشرعية ................................................ ٩١
الصحيح والأعم ............................................................... ٩٢
الصحيح في تقريب مقالة الأعمي ............................................... ٩٤
الصحة عند الجميع بمعنى التمامية ................................................ ٩٥
لا بد على كلا القولين من قدر جامع ............................................ ٩٨
الإيراد على الجامع وبيانه ..................................................... ١٠٣
دفع الإيراد ................................................................. ١٠٨
تصوير الجامع على الأعم مشكل .............................................. ١١٣
الأعلام موضوعة للاشخاص .................................................. ١١٧
ثمرة النزاع هي اجمال الخطاب ................................................. ١١٩
التحقيق في بيان الثمرة ....................................................... ١٢٠
المركب حقيقي واعتباري ..................................................... ١٢٣
خروج ما له دخل في فعلية التأثير .............................................. ١٢٥
إمكان اتحاد طريقتي الشارع والعرف .......................................... ١٢٦
صحة التقسيم لها جهتان ...................................................... ١٢٦
الأولى : حقيقة المعنى لها فردان ................................................ ١٢٦
الثانية : حقيقة المعنى منقسمة الى أمرين ......................................... ١٢٧
لا مجال للنزاع اذا كانت أسامي المعاملات موضعة للمسببات ..................... ١٣٣
للنزاع مجال لو كانت موضوعة للأسباب ....................................... ١٣٥
العلة في الحكم بعدم نفوذ سبب عرفي .......................................... ١٣٦
كون الفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها ......................... ١٣٨
تحقيق الفرق بين جزء الطبيعة وجزء الفرد ...................................... ١٤١
كلام غير واحد من الاعلام في الفرق بين الجزء المفرّد
والمستحب .................. ١٤٣
الاشتراك ................................................................... ١٤٥
المراد من المواد الثلاث ........................................................ ١٤٥
برهان بعض الأجلة على استحالة الاشتراك ..................................... ١٤٧
حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة .................................. ١٥٠
حقيقة الاستعمال ايجاد المعنى باللفظ ............................................ ١٥٢
المعنى له وحدة ذاتية وعرضية .................................................. ١٥٦
الوحدة تضاف الى المعنى والى الوضع ........................................... ١٥٧
عدم معقولية تعدد مرحلة الهيئة والمادة .......................................... ١٥٩
تذييل : في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي ............................. ١٦١
المراد من البطون لوازم معناه ................................................... ١٦١
يمكن اصلاح تعدد البطون بتعدد المصاديق لمعنى واحد ............................ ١٦٢
الكلام في المشتق ............................................................. ١٦٤
هل النزاع في الوضع والاستعمال أو في صحة الاطلاق ........................... ١٦٤
تقسيم الحمل الى هو هو وذي هو ............................................. ١٦٥
حمل الأوصاف حمل بالمواطاة .................................................. ١٦٦
عموم النزاع لا يدور مدار العنوان بل الملاك .................................... ١٦٧
هويات أجزاء الزمان ......................................................... ١٧١
عدم التوقف على تعقل جامع مفهومي بين المتلبس بالظرفية ....................... ١٧١
المعروف جعل المصادر أصلا للمشتقات ........................................ ١٧٤
الفرق بين المبدأ والمصدر ...................................................... ١٧٤
الباري تعالى مع الزمان السابق معيّة قيّومية ...................................... ١٧٧
لا ارتباط لما عدا السبق الزماني بمداليل الافعال .................................. ١٨٠
كيفية اشتمال الماضي والمضارع على الزمان ..................................... ١٨١
الكلي الطبيعي والعقلي ....................................................... ١٨٢
اختلاف المشتقات في المبادئ .................................................. ١٨٣
كلام المحقق الدواني من عدم لزوم قيام المبدأ في صدق المشتق
...................... ١٨٦
المراد بالحال في عنوان المسألة .................................................. ١٨٧
الفرق بين التلبس والنسبة الاتحادية ............................................ ١٨٩
تنبيه في توهم إنّ الوضع للمتلبس ينافي عدم التلبس خارجا ........................ ١٩١
تلبس الذات بالمبدإ قيام المبدأ بها بنحو من الأنحاء ................................ ١٩٣
المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات ............................................. ١٩٤
البساطة عند الدواني هي اتحاد المبدأ والمشتق ذاتا ................................. ١٩٥
الربط المأخوذ في الأوصاف والأفعال ربط بالحمل الشائع ......................... ١٩٦
المدعي للوضع للاعم لا يدعي أمرا معقولا ...................................... ١٩٦
أقسام السلب ............................................................... ١٩٧
يمكن إصلاح قيدية الزمان للمسلوب عنه ....................................... ٢٠٠
الوصف قد يكون عنوانا محضا أو معرّفا محضا ................................... ٢٠٢
الشيئية من الأعراض العامة ................................................... ٢٠٣
عدم كون الناطق بفصل حقيقي ............................................... ٢٠٣
توصيف النفس بالناطقة يوجب أن لا يكون الفصل ذاتيا ......................... ٢٠٥
الحصة لا تحمل على الكلي ................................................... ٢٠٧
عدم انحلال عقد الحمل الى قضية ضرورية ...................................... ٢٠٩
ما ذكره اهل الميزان في الضرورة بشرط المحمول ................................. ٢١٣
ليس المراد من النوع هو النوع العقلي .......................................... ٢١٥
البساطة إما لحاظية وإما حقيقية ................................................ ٢١٦
لا فرق بين المشتق ومبدئه الحقيقي عند الدواني .................................. ٢٢١
معنى المشتق لا يشتمل على النسبة بالحقيقة ...................................... ٢٢١
زعم المحقق الدواني عدم الواسطة بين المشتقات والمصادر .......................... ٢٢٣
الفرق بين المشتق ومبدئه في الجري ............................................. ٢٢٦
الفرق بين الجنس والفصل وبين المادة والصورة .................................. ٢٣١
ملاك الحمل الذاتي هو الهوهوية بالذات ......................................... ٢٣٢
كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما .............................. ٢٣٧
منشأ صدق المشتق قيام مبدئه بقيام انضمامي .................................... ٢٣٩
المفاهيم قسمان .............................................................. ٢٤٢
ذاته تعالى حاضرة لذاته غير غائبة .............................................. ٢٤٦
وهن قول من ينفي الصفات بحقائقها عنه تعالى .................................. ٢٤٧
في الأوامر : معاني لفظ الأمر .................................................. ٢٤٩
عالم الأمر هو العالم الموجود بلا مادة ........................................... ٢٥١
إشكال اختلاف الجمع في الأمر ودفعه ......................................... ٢٥٢
تعريف الاشتقاق المعنوي ..................................................... ٢٥٣
الفرق بين المعنى الجامد والمعنى الاشتقاقي ........................................ ٢٥٣
الأمر هل هو مطلق الطلب أو الطلب المطلق ..................................... ٢٥٤
المراد من الكلمة الوجودية .................................................... ٢٥٥
اعتبار العلو في معنى الأمر ..................................................... ٢٥٨
الطلب والإرادة .............................................................. ٢٦١
اذا كان النزاع في ثبوت صفة نفسانية فالمسألة عقلية ............................. ٢٦١
اذا كان النزاع في ان مدلول الأمر هل هو الارادة فهي اصولية
.................... ٢٦١
ان كان النزاع في مجرد مرادفة الطلب مع الارادة فهي لغوية ...................... ٢٦٢
منشأ النزاع هو الخلاف في الكلام النفسي ...................................... ٢٦٢
مدلول الصيغة أمر إنشائي لا إرادة نفسية ...................................... ٢٦٧
المنقول عن الاشاعرة ان الكلام النفسي هو النسبة الموجودة
بين مفردين ............ ٢٦٩
التحقيق ان وجود الصيغ الانشائية وجود معانيها في نفس الأمر
................... ٢٧٣
تقابل الإنشاء والإخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ............................... ٢٧٦
حقيقة إرادته تعالى هو العلم بالصلاح .......................................... ٢٧٨
اعتبارات تقسيم الإرادة ...................................................... ٢٨٠
تصحيح مرادية الإرادة لا يجدي شيئا .......................................... ٢٩١
تنبيه وتنزيه في الجبر والتفويض ................................................ ٢٩٣
العقاب انما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار ............................... ٢٩٧
تفاوت الماهيات بنفس ذواتها لا بجعل جاعل ..................................... ٣٠٤
في معاني صيغة الأمر ......................................................... ٣٠٧
استعمال الصيغة بسائر الدواعي خلاف الوضع .................................. ٣٠٨
الفرق بين الوجوب والايجاب اعتباري ......................................... ٣١٠
كثرة الاستعمال الموجبة للنقل تصح في أسماء الاعلام
والاجناس .................... ٣١١
المراد من الحكاية الحقيقية ..................................................... ٣١٣
المراد من حتمية الإرادة ....................................................... ٣١٥
في التعبدي والتوصلي ........................................................ ٣٢٠
معاني الطاعة ................................................................ ٣٢٠
استحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى الا من قبل الأمر ................................. ٣٢٣
ذات المقيد والتقيد مختلفان في الوجود .......................................... ٣٢٩
يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه ....................................... ٣٣١
حكم العقل باتيان ما يحتمل دخله في الغرض .................................... ٣٣٥
الاطلاق والتقييد بينهما تقابل العدم والملكة ..................................... ٣٣٧
تقريب جريان أصالة الاشتغال في المقام ......................................... ٣٤٢
المتحصل عدم جريان الاشتغال ................................................ ٣٤٧
دخل القربة في الغرض ليس بشرعي ........................................... ٣٤٩
الصيغة والواجب النفسي التعييني العيني ......................................... ٣٥٣
الأمر عقيب الحظر ........................................................... ٣٥٤
المدة والتكرار ............................................................... ٣٥٥
المصدر مشتمل على نسبة ناقصة خلافا للجمهور ................................ ٣٥٦
المراد بالفرد هو وجود الطبيعة ................................................. ٣٥٨
الفرق بين القول بالمرة والقول بالطبيعة ......................................... ٣٥٩
إتيان المأمور به علة تامة للغرض ............................................... ٣٦١
الفور والتراخي .............................................................. ٣٦٣
الإجزاء ..................................................................... ٣٦٥
ما هو المراد من الاقتضاء ...................................................... ٣٦٧
نتيجة المسألة الأصولية كلية ................................................... ٣٦٨
الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرة والتكرار ................................. ٣٧٠
في إجزاء امتثال المأمور به عن التعبد به ثانيا ..................................... ٣٧٢
في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري .................................. ٣٨٢
في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ..................................... ٣٩٢
الأمارات حجيتها بنحو الطريقية ............................................... ٤٠٠
الإشكال على قاعدة الاشتغال ................................................. ٤٠٦
لا مجال لقياس الأمر الظاهري بالأمر الاضطراري ................................ ٤٠٨
الفوت مما ينسب الى المأمور به ................................................ ٤٠٨
في مناط الإجزاء والتصويب ................................................... ٤١١
الفهرس الموضوعي ........................................................... ٤١٩
* * *
|