الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


بسم الله الرحمن الرحيم

في هذا الكتاب يقدم لنا المؤلف الدكتور نوري جعفر عن عقيدة أخلصها وصفاها لمبادىء الإسلام العديد من مساوىء بني أمية التي كانت ثلمة لا ترأب في صرح الإسلام المجيد . وهي لا تزال إلى اليوم .

وصمة في تاريخهم منذ أمسكوا بزمام الحكم حتى سقطت دولتهم على يد العباسيين سنة ١٣٢ هـ .

وقيمة هذا الكتاب تتجلى في أن مؤلفه أضاف شيئاً جديداً على الكاتبين ، هذا الموضوع ، ذلك أنه وثق كل ما جاء من مواقف بني أمية ضد مبادىء الإسلام السمحاء بالعديد من الروايات المبثوثة في المصادر والمراجع .

كما أتحف هوامش الكتاب بالكثير من تراجم الاعلام الذين ورد ذكرهم في تنايا كتابه .

لقد كتب أبو عثمان بن عمرو بن بحر الجاحظ ـ شيخ كتاب القرن الثالث الهجري ـ كما كتب غيره الكثير عن أخبار بني أمية وعن مساوئهم ومناوأتهم للبيت الهاشمي ولكن الذي كتبه الجاحظ وغيره لا يعدو أن يكون من الرسائل المقتضبة ، تناول فيها الجاحظ والمقريزي وغيرهما إبراز الصورة الفنية فيما كتبوا قبل أن يقدموا للقراء روايات مدعمة بالأدلة والبراهين يشفعوا ما كتبوه بمقارنات تاريخية مدعمة بالمراجع والمصادر التي أستمدوا منها دراساتهم .

فالصورة الفنية عند هؤلاء كانت هدفاً في ذاته . ومن ثم كانت كتبهم لوناً من


ألوان الأدب قبل أن تكون مصدراً من مصادر التاريخ يصح الاعتماد عليه في كل شيء .

تناول المؤلف في هذا الكتاب العديد من القضايا التي خرج فيها بنو أمية عن المثالية الإسلامية التي وضع الرسول أساسها وسار عليها الخلفاء الراشدون كل بقدر إجتهاده حتى بلغت في خلافة على القمة التي لا يعلوها قمة من أخلاقيات الإسلام ومبادئه وقيمه . لولا أن هذا النهج المثالي الذي شرعه على وبرأ فيه نفسه عن ادعاء الكمال حينما أسندت إليه الخلافة سرعان ما هو جم من معسكر البغي والعدوان من بني أمية وأعوانهم .

لقد تناول في كتابه الكثير من هذا الموقف المضاد الذي أحدثه الأمويين ضد الحكومة الراشده ، وزادوا عدواناً وعصياناً على عدوانهم وعصيانهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

وسبب واضح عند نقاد التاريخ .

وهو أن بني حرب كانوا دائماً في موقف مضاد لبني هاشم الذين كانت لهم الريادة والرفادة والسدانة للكعبة والبيت الحرام .

وكانت لهاشم جد هذا البيت رحلتا : الشتاء والصيف وهما الرحلتان المذكورتان في سورة « قريش » وخص الله بهما بني هاشم قبل غيرهما .

فلما كان الإسلام تحول التنافس إلى عداء شديد لا يطاق .

وسبب هذا العداء ـ كما هو معلوم أن الله أرسل نبيه من هاشم ولم يرسل من بني حرب جد الأمويين .

ولئن كانت قريش تضم الأسرتين المتنافستين في الجاهلية والمتنازعتين في الإسلام إلا أن العنجهية القرشية في آل هاشم تختلف كل الاختلاف عن العنجهية القرشية في آل حرب .


فأخلاق الهاشميين أخلاق تعتمد على الإباء والنجدة والمروءة والسؤدد وإزدادت في الإسلام حين بعث إليه حبيبه محمداً كمالا على كمالها وأرتقت أخلاقهم من مراتب النجدة والشجاعة إلى مراتب الإيثار ، ونكران الذات والعمل بما جاء من آداب المؤمنين في القرآن .

فكان النبي ومن حوله من الهاشمىين وفي مقدمتهم : الإمام على مركز إشعاع لهذه الأخلاق الإسلامية .

أما آل حرب فكانوا أقرب إلى النقيض من هذه الأخلاق على الرغم من كونهم أبناء عمهم ويجمعهم في النسب من قريش عبد مناف بن قصي والد هاشم جد هؤلاء السادة وأمية جد معاوية بن أبي سفيان .

وقد ألمعنا في السطور السابقة أن التنافس بين الأسرتين تحول إلى عداء مستحكم ؛ ولكن هذا العداء لم يكن آتياً من الهاشمىين وكيف يصدر عنهم ؟ وهم : المتخلقون بأخلاق القرآن وفيهم سيد الأنبياء وعلي بن أبي طالب ابن عم النبي ، والعباس بن عبد المطلب عم النبي .

وإنما كان مبعث هذا التنافر والتحدي منبعثاً آل حرب « بني أمية » وسبب ذلك أنهم رأوا أن السؤدد والدين كله في ظاهره وباطنه في الهاشميين وأن هؤلاء حملوهم على الإسلام حملا وقد نالوا منهم في موقعة بدر فقتلوا الكفار من آل أمية كما قتلوا أبناءهم وأعمامهم .

فتحول أنتصار آل هاشم على آل أمية تحت راية الإسلام في موقعة بدر إلى كره عنيف وحقد دفين في قلوبهم .

وتركز هذا البغض والعداء في رواسبهم النفسية ، فكان ما كان من معاداة للإمام علي في الصورة المؤلمة التي بسطتها كتب التاريخ .


ومن هذا المنطق العقائدي أو العقدي ولدت الفتن والملاحم بين الأسرتين القريشيتين .

ولقد حاول المؤلف أن يفصح عن موقف الأمويين ضد مبادىء الإسلام ، فأفاد في الكثير مما كتب .

وحق له أن يتحدث عن مساوئهم وعما عرفوا به من خيانة ، وغدر بالقيم ، واقتراف للكثير من الجرائم الأخلاقية كالزنا ومعاقرة الخمر وإرتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن فضلا عن الاحتيال في الدين ونقض للعهود وكذب على الله وآل بيت نبيه ، واستحلالهم للعن الإمام على الذي فيه يقول الرسول :

من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى .

استعرض المؤلف كل هذه الثغرات الأخلاقية التي تدين بني أمية وتضعهم في موضع غير كريم من تاريخ الإسلام . إلا أني كنت أحب أن يفلسف الخلاف بين الهاشميين والأمويين . وأساس هذا الخلاف الذي تفاقم خطية في العهد الأموي أن الإمام علي ومن حوله ومن بعده من الهاشميين كانوا يمثلون المعسكر المثالي في الإسلام الذي يؤمن بالمثل والمبادىء والقيم وهو المبدأ الذي يؤثر فيه المثاليون القيم الإسلامية على حظوظ الدنيا . بينما كان الأمويون يمثلون المعسكر الواقعي المتطرف الذي لا يرى الأشياء إلا بالمنظار المادي وأتباع هذا المعسكر يضحون بكل شيء من أجل الدنيا ، ولا بأس عندهم من أن يبيعوا دينهم من أجل عرض زائل من الدنيا .

ولا مانع في نظرهم أيضاً من اصطناع الكذب والخيانة والرشوة وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ليصلوا إلى دنياهم بالطريق غير المشروع .

والتاريخ شاهد على هذه الآثام التي أرتكبت على حساب الدين .

وهل هناك أفظع من التحايل على الإسلام حين رفع معاوية وعمرو وصحبهم


المصاحف على الرماح بغياً للفتنة التي قال في شأنها الإمام علي :

« حق أريد به باطل » !

وهل هناك أقيم عند الله من نيل الدنيا على القيم والعقيدة واصطناع الحيل كما فعل معاوية وعمرو ؟ ثم ما أجرم فيه أصحاب معاوية من دس السم للإمام الحسن ، ودس السم لمالك الأشتر وقول معاوية : إن لله جنوداً من العسل مما لا تقره المروءة والنخوة الإسلامية . ثم ما كان بعد ذلك من أهوال لا تطيقها الجبال من قتل ابن بنت رسول الله ظلماً وعدواناً ، وضرب يزيد للكعبة بالمنجنيق ، واستحلال المدينة ، إلى غير ذلك من الفظائع الأموية . إلى غير ذلك مما أشار إليه المؤلف في كتابه .

أما الأحاديث التي أشار المؤلف إليها وما ظنه أنه من الأحاديث التي صنعها بنو أمية للدفاع عن أغراضهم المادية ، فإن الأمر في ذلك ينشطر إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أحاديث تتعلق بالسياسة والثناء على بني أمية ، والمبالغة في مناقب معاوية ، فإن مثل هذه الأحاديث تستحق النظر وينبغي ألا يصدق شيء منها إلا في حالتين الأولى صحة السند والثانية متابعته على غيره من الأحاديث . وإلا كان موضع شك لا يحتمل .

الثاني : أحاديث جاءت في العزوف عند الدنيا وطاعة الرؤساء ولو كانوا من الظلمة . فإن مثل هذه الأحاديث أصح من الأولى بلا جدال . لسبب واحد وهو أن هناك أحاديث كثيرة جاءت بهذا المعنى ولعل المراد منها :

إيثار وحدة المسلمين على انقسامهم في حالة خروج بعض الأمة على رؤساء .

وينبغي أن نكون على حذر في تكذيب مثل هذه الأحاديث ، لأن الأنكار بالقلب على من خرج على أحكام الشرع من خاصة الأمة وعامتهم من الأمور المؤثرة في الدين ويؤيده حديث : « من رأى منكم منكراً . »

الثالث : الأحاديث المروية عن أبي هريرة هي في الحقيقة أصح من القسمين


السالفين ، باعتبار أن أبا هريرة لم يكن طرفا في النزاع بين المعسكر المثالي الذي يؤثر القيم والمعسكر الواقعي الذي يؤثر الدنيا والتحايل على كسبها ، لأجل ذلك أرى أن الحذر كل الحذر في تكذيب ما روى عن أبي هريرة أمر واجب .

وهناك بعض أحاديث رواها قد يتصور بعض الناس أنها تنافي الذوق العام كحديث الذبابة ، ومع ذلك فأنا أحكم بصدق روايتها عن النبي لأنه لا نستطيع أن نقيس الأحاديث على ذوقنا الخاص ، فربما كانت هناك علل علمية وأسباب كونية قد تخفى علينا اليوم ويثبت العلم صحتها في المستقبل وقد حدث مثل ذلك كثيراً ، وبذلك يصح الحديث ويبطل قول المتقولين .

هذه لفتة صغيرة لا أفرضها على المؤلف الفاضل ولكني أذكرها إتماماً للفائدة وإحقاقاً للموضوعية التي يتعصب لها كل باحث .

وبعد فإني أحمد للباحث هذا الجهد الكبير الذي أتحفنا به وأضاف فيه جديداً على ما أورده أبو عثمان الجاحظ في رسالته ، وما أشار إليه تقي الدين أحمد المقريزي في كتابه : « النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم » .

دكتور حامد حفني داود

القاهرة في ١٣ / ٩ / ١٩٧٨


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


سيقول بعض القراء : ما لنا وللأمويين ؟ لقد مضى عليهم زهاء ثلاثة عشر قرنا . أليست هناك مواضيع أخرى ـ ألصق منهم بحياتنا الحاضرة ـ تستلزم البحث والاستقصاء ؟ ألا يثير البحث ـ في هذا النوع من المواضيع ـ اختلافا بين المسلمين نحن في غنى عنه في الوقت الحاضر ؟ أليس البحث ـ في هذا الموضوع بالذات ـ ينم عن « رجعية » في التفكير ؟

ان هذا النمط من التساؤل ينطوى ـ على ما أرى ـ إما على سذاجة في الإدراك ، أو على نفاق وتهافت ، أو أنه يتضمن المغالطة والتضليل ـ كل ذلك بالطبع يتوقف على الجهة التي يصدر منها .

ذلك لأن الأمويين يلازم تاريخهم الناشئة العراقية ـ بنين وبنات ـ طوال المراحل الدراسية الثلاث : الابتدائية والثانوية والعالية .

وفي أكثر من جانب من جوانب منهج التدريس : في دروس التاريخ والدين والأدب والمطالعة والنصوص . يضاف إلى ذلك أن الأمويين يطلون علينا ـ بين حين وآخر ـ من نوافذ المنظمات القومية المنبثة في أنحاء القطر وبعض أرجاء العالم العربي .

هذا إلى أن المرء كثيرا ما يصادفهم في منظوم القول وفي منثوره . فقد تغنى بمجدهم فريق من الكتاب المعاصرين وحن إلى عهدهم رعيل من الشعراء المحدثين .

فالدكتور بديع شريف ، مثلا ، يشيد بمجدهم في كتابه الممتع « الصراع بين المولى والعرب » والدكتور عبد الرزاق محي الدين يريدها ـ في قصيدته الرقيقة ـ

. . . أما معاوية

يعلو الاريكة أو أبو الحسن

فلماذا لا يعترض المعترضون على ذلك ؟ ويعتبرونه رجعية في التفكير ؟ لأنه يدعو إلى ارجاع عهد مرت عليه مئات السنين .


لماذا لا يطلبون من وزارة المعارف أن ترفع كابوس الأمويين عن كاهل الطلاب والطالبات ؟ هل « الرجعية » المزعومة ناتجة عن كون بحثنا هذا يختلف عما ألفه المعترضون من « حقائق » مدرسية عن التاريخ الأموي ؟ .

أما الدعوة إلى البحث في أمور ألصق بحياتنا اليومية من الامويين فكلمة حق يراد بها باطل . ذلك لان البحث في الامويين لا يحول دون التصدي للبحوث الاخرى بالتمحيص والنقد .

وأما الاختلاف بين المسلمين فموجود في أغلب نواحي الحياة ـ بما في ذلك موقفهم من الأمويين .

وما هذه الدراسة ـ في الواقع إلا صدى لذلك الاختلاف . فهي نتيجة من نتائجه لا سبب من أسباب حدوثه . ولعلها ـ إذا ما قرئت بعين الانصاف والتدبر ـ تخفف من حدة ذلك التوتر بين المسلمين في موقفهم من الأمويين على الاقل .

على أن الامر ، مع هذا « أعمق من ذلك كله بكثير فالأمويون ملتصقون بحياتنا العامة أشد الالتصاق : تؤثر سيرتهم فينا بصورة مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى .

فالقومية العربية ، بشكلها النازي الممقوت من حيث موقفها من العرب غير المسلمين ومن غير العرب ، هي احدى مخلفات الأمويين . وتظاهر الكثيرين منا باحترام الدين واتباع أوامره ونواهيه ـ في القول ـ ومخالفتهم ذلك « في العمل » هو الآخر من آثارهم .

واهتمام كثير من المشتغلين بالأمور الدينية بالجوانب الثانوية الاهمية من الدين على حساب جوهره هو أيضا من مخلفاتهم .


والخلاصة : إننا مرضى في أخلاقنا ، يأمر أغلبنا بالفضيلة ولا يفعلها ، وينهى عن الرذيلة ويتعاطاها .

وما هذا الانحراف الخلقي ، على ما أرى ، إلا أحد مخلفات الامويين : تعست أمة تستوحى مثلها العليا ، والسياسة والاخلاق ، من معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو ابن العاص وزياد بن سمية ، والحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلتهم من الحكام والامراء . . .

بغداد في ٢٣ / ٦ / ١٩٥٦ م

نوري جعفر


مقدمة

عاش العرب في شبه جزيرتهم أيام الجاهلية . وعاشوا داخل شبه الجزيرة وخارجها عندما انبثق نور الإسلام في بلادهم .

وقد حاولوا ـ في الحالة الأولى وعلى القدر المستطاع ـ أن يتجنبوا الاحتكاك بغيرهم من الأمم إلا ما استلزمته طبيعة الظروف التي نشأوا خاضعين لها من الناحيتين المادية والفكرية .

وسعوا ـ في الحالة الثانية ـ إلى الاحتكاك بالأقوام التي عاشت خارج نطاق محيطهم الجغرافي . وسبب ذلك ـ على ما يبدو ـ هو : أن الدين الجديد قد شجع العرب على التوغل في البلاد الأخرى عن طريق الفتح .

غير أن احتكاك العرب المسلمين بالأمم الأخرى ، عن طريق الفتح ، قد أصبح في العهد الأموي الذي بدأ بخلافة عثمان بن عفان لا بحكم معاوية كما هو الشائع .

وسيلة من وسائل إشغال العرب المسلمين بالتوغل في بلاد غريبة عنهم في مواردها وفي طبائع أهلها ، وعاملا من عوامل توجيه أنظارهم نحو الانتفاع بتلك الموارد من الناحية المادية .

وواسطة من وسائط اليها الذين يطالبون « الخليفة » بوجوب السير وفق تعاليم الدين كما جاءت في القرآن وسيرة النبي . أي إن : « الفتح » الإسلامي قد أصبح وسيلة من الوسائل التي يتخلص بها « الخليفة » من العناصر المتمردة على الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة غير المنسجمة مع مبادىء الدين الحنيف .

وواسطة من وسائط ابتزاز موارد البلاد المفتوحة ليتصرف بها « الخليفة » وفق هواه على حساب الدين .


فعثمان بن عفان ـ الذي بدأ في عهده وضع أسس الحكم الأموي ـ مثلا : قد أسرف في تبذير أموال المسلمين على أصهاره ، وأنصاره وذوي قرباه .

فمنح مروان ابن الحكم ـ زوج ابنته أم إبان ـ كما منح ابنته عائشة زوج الحرث ابن الحكم ، أخي مروان مثلا : « مئتي ألف درهم من بيت المال سوى ما أقطعه من قطائع . . .

ومنح أبا سفيان ـ شيخ بني أمية ـ مئة ألف درهم » (١) .

« كما أنه وهب مروان بن الحكم » خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في أفريقية .

وأعطى الحكم ـ أبا مروان ـ وابنه الحرث ثلثمائة ألف .

وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد الأموي ثلثمائة ألف .

وأعطى لكل واحد ـ من الذين وفدوا مع عبد الله بن خالد ـ مئة مئة ألف .

وأعطى الزبير بن العوام ستمائة ألف ، وطلحة مئة ألف ، وسعيد بن العاص مئة ألف .

وزوج ثلاثاً أو أربعاً من بناته لنفر من قريش فأعطى كل واحد منهم مئة ألف دينار . » (٢) قال البلاذري (٣) :

حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن أسامة بن زيد بن أسلم عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال : أغزانا عثمان أفريقية فأصاب عبد الله بن أبي سرخ غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم . . .

__________________

١ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن أبي طالب ج ٢ / ص ٢٠ ـ ٢١ .

٢ ـ الدكتور طه حسين ، الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان ص ١٩٣ .

٣ ـ أنساب الأشراف ٥ / ٢٧ و ٢٨ و ٥٢ . ومحمد بن سعد ـ صاحب الواقدي وكاتبه ـ هو صاحب الطبقات الكبرى توفي عام ٢٣٠ هـ . أما الواقدي فهو صاحب المغازي . تولى القضاء في عهد المأمون . وهو منسوب إلى واقد جده . توفى سنة ٢٠٧ هـ .


وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر عن أبيها قالت قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحرث بن الحكم بن أبي العاص .

وإن عثمان ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلثمائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها .

وأعطى عثمان زيد بن ثابت الأنصاري مئة ألف درهم .

هذه نماذج من تبذير الأمويين أموال المسلمين سقناها على سبيل التمثيل لا الحضر هذا مع العلم أنها حصلت في عهد ثالث الخلفاء الراشدين .

أما نظائرها في عهد معاوية والذين جاؤوا من بعده فقد بلغت حداً يفوق الوصف .

لقد مر بنا القول بأن الفتح الإسلامي قد أصبح ـ في عهد الأمويين ـ وسيلة من وسائل إشغال الناس بالغزو لصدهم عن التحدث في أوضاعهم الداخلية العامه .

وقد اتضح ذلك عندما أخذ الأمر يتفاقم على عثمان بن عفان .

فقد جمع ابن عفان ـ سنة ٣٤ هـ ـ كبار أمرائه للتداول معهم في إيجاد حل للخروج من تلك الأزمة السياسية الحادة وتلك الفتنة الغليظة المظلمة .

فاقترح عبد الله بن عامر ـ على عثمان ـ أن يرسل المسلمين إلى « الجهاد » ويلهيهم بالحرب ويطيل إقامتهم بالثغور .

ويلوح لي أن بعض المسلمين قد انتبه إلى هذه الحيلة فحاول أن يفسدها .

فحمد بن أبي حذيفة (١) ـ الذي آلمته سياسة عثمان ، مثلا قد بدأ يندد به ويحرض على قتله ، رغم صلة القربى التي تجمع بين الرجلين .

« فكان يلقى الرجل عائدا من غزوة الروم فيتخابث ويسأل :

أمن الجهاد ؛ فيجيبه الرجل بنعم . فيشير بإبهامه إلى ناحية الحجاز ويقول :

__________________

١ ـ إبن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس . وعتبة جده هو أبو هند زوج أبي سفيان وأم معاوية . أسره عمرو بن العاص عند ما غزا مصر بعد النهروان وقتل محمد بن أبي بكر عامل علي عليها . فأخذه معاوية وسجنه . غير أنه هرب من السجن . فلحق به عبيد الله بن عمرو ابن ظلام ـ وهو رجل من خثعم ـ فقتله .


لقد تركنا خلفنا الجهاد ـ جهاد عثمان بن عفان » (١) .

هذا ما يقوله محمد بن أبي حذيفة فيما يتعلق بتصرفات ثالث الخلفاء الراشدين .

ولا ندري ما كان يقوله محمد لو قدر له أن يعيش فيشهد سيرة الأمويين بعد مصرع ابن أبي طالب ! ! حيث أصبحت القاعدة العامة للحكم الأموي هي : الخروج على القرآن وسيرة النبي ، وصار الحكام الأمويون يتسابقون على الانغماس في الموبقات :

الأمر الذي اضطر فريقاً من خيرة المسلمين (٢) إلى توجيه روح الجهاد ( الذي غرسه الإسلام في نفوسهم ) نحو محاربة الأمويين . فوقعوا صرعى في ساحات الشرف .

ولقد جاهد أولئك المسلمون الأمويين لإرجاعهم إلى أحضان الدين ولردعهم من الإيغال في الموبقات ولصدهم عن السير في وثنيتهم السياسية والأخلاقية ـ جرياً مع مستلزمات القرآن .

فقد جاء في سورة البقرة : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وفى سورة المائدة : « إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا . . . »

وفى سورة المجادلة : « لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ . . . »

لقد كانت الغاية من الجهاد ـ في عهد الرسول الكريم ـ هي رفع كلمة الله والسمو بالمتخلفين من الناس إلى أوج المستويات الخلقية الرفيعة .

وكان الرسول الكريم يوزع غنائم الفتح توزيعاً عادلا بين المسلمين وفق

__________________

١ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن أبي طالب ٢ / ٤٨ والبلاذري ، أنساب الأشراف ٥ / ٥٠ / ٥١ .

٢ ـ وفي مقدمتهم الحسين بن علي وصحبه وعمار بن ياسر وحجر بن عدي وصحبه وعمرو ابن الحمق الخزاعي وميثم التمار ومن هم على شاكلتهم .


مستلزمات الشرعية السمحاء . فلا غزو أن رأينا المسلمين ـ في عهده ـ يتسابقون في تقديم أرواحهم للموت .

وفي تاريخ الرسول أمثلة رائعة من هذا القبيل ذكر الواقدي :

إن الرسول ـ عندما علم أن أبا سفيان قد ألب عليه المشركين لأخذ ثأرهم منه بعد معركة بدر ـ استشار أصحابه قبل الخروج إلى أحد فيما ينبغي أن يفعلوه . فطلبوا منه أن يخرج إلى عدوهم ورغبوا في الاستشهاد في سبيل الله .

« فقال مالك بن سنان ـ أبو أبي سعيد الخدري ـ يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسينين :

إما أن يظفرنا الله بهم . فهذا الذي نريده . والأخرى ـ يا رسول الله ـ يرزقنا الله الشهادة . والله ـ ما أبالي أيهما كان . إن كلا لفيه الخير . . .

وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة ـ أخو بني سالم ـ يا رسول الله لا تحرمنا الجنة . فوالذي لا آله إلا هو لأدخلنها (١) . . .

وقال خثيمة ـ أبو سعد ـ يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيسها (١) . ثم جاؤنا . فلنخرج لهم عسى الله أن يظفرنا بهم . أو تكون الأخرى وهي الشهادة .

__________________

١ ـ مغازي رسول الله ( ص ) ١٦٤ ـ ١٦٥ .

٢ ـ وقد حدث شيء مشابه لهذا بين المخلصين من اتباع الامام أثناء استعداده للخروج إلى صفين . فقد ازدحمت الخيل حين عبرت الفرات متوجهة من العراق إلى الشام « فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين . فنزل فأخذها وركب . ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب . فقال لصاحبه أن يكون ذلك تطيرا صادقا أقتل وشيكا وتقتل . فقال عبد الله بن أبي الحصين ما شيء أحب إلي مما ذكرت ، فقتلا معا يوم صفين . « ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢٩٠ الطبعة الأولى بمصر .

٣ ـ الأحابيس هم بنو الحرث بن عبد مناف بن كنانة ، وبنو المصطلق من خزاعة ، وبنو الهون من خزيمة ـ راجع ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ٢ / ١١٨ .


لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا . وقد بلغ ـ من حرصي ـ أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه . فرزق الشهادة وقد كنت عليها حريصا وقد رأيت ابني البارحة ـ في النوم ـ في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول : إلحق بنا ترافقنا في الجنة . وقد ـ والله يا رسول الله ـ أصبحت مشتقاقا إلى مرافقته في الجنة . . .

وقال أنس بن قتادة : يا رسول الله هي إحدى الحسينين . إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر بهم » .

تلك صورة من أروع صور دفاع المرء عن عقائده واستعداده للتفاني في سبيلها . فالاستشهاد في ساحات القتال والظفر بالخصم سيان عند مالك بن سنان . فهو لا يبالي أيهما كان لأن في كل منهما الخير .

والاستشهاد في سبيل صيانة بيضة الإسلام ـ بنظر النعمان بن مالك ـ أفضل من الانتصار على المشركين على الرغم مما في ذلك الانتصار من إعلاء لكلمة الله .

فالنعمان مصم على دخول الجنة ـ أي أنه قد وطد نفسه على نفسه الموت في ساحات القتال . وليس بعد هذا من شيء يستطيع أن يقدمه المرء في سبيل الدفاع عن معتقداته في الدين والسياسة والأخلاق .

أما خيثمة فقد تسابق مع أبنه في الوصول إلى الموت ، وأنه أسف على نجاته منه في معركة بدر بقدر ما كان فرحه شديداً باستشهاد ولده .

وقد رأى في المنام ولده الشهيد على أحسن حال فشجعه على اللحاق به .

وإذا كانت الأحلام كما يقول فرويد ـ العالم النفسي المعروف تعبيراً عن الرغبات المكبوتة لدى الإنسان ، أي أنها تحقيق لما لا يمكن تحقيقه في الحياة التي يحياها الإنسان ، فإن خيثمة ـ حلمه هذا ـ قد ضرب مثالا آخر من أروع الأمثلة في الدفاع عن الإسلام .

وهناك صور أخرى ، لا تقل روعة عما ذكرنا ، في التعبير عن موقف المسلمين


من الجهاد في عهد الرسول ، فمنها ما يتصل بموقف الأحداث وآبائهم من التضحية في سبيل الاسلام . قال الواقدي (١) :

عرض على الرسول غلمان عبد الله بن عمرو ، وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير ، وزيد بن أرقم والبراء بن عازب ، وأسيد بن حضير ، وغرابة ابن أوس وسمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، فردهم .

قال رافع بن خديج : فجعلت أتطاول ـ وعلى خفان ـ فأجازني رسول الله . فلما أجازني شكا سمرة بن جندب لربيبه ـ مرى بن سنان زوج أمه ـ ذلك . فقال : مرى يا رسول الله رددت إبني وأجزت رافع بن خديج ! ! وابني يصرعه . فتصارعا . فصرع سمرة رافعا . . فأجازه الرسول » .

ومنها ما يتعلق بحماس من أجاز لهم الإسلام أن يتخلفوا عن الجهاد .

وقد بلغ عمرو بن الجموح القمة في موقفه في هذا المضمار .

وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج . فلما كان يوم أحد ـ وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي أمثال الأسد ـ أراد بنوه أن يحبسوه .

فقال له المسلمون أنت رجل أعرج ولا حرج عليك ، وقد ذهب بنوك مع النبى . قال : بخ ! ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم ، فخرج ولحقه بنوه يكلمونه في القعود . فأتى رسول الله ؛ فقال :

يا رسول الله إن أولادي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة . فقال رسول الله أما أنت فقد عذرك الله ، ولا جهاد عليك . فأبى عمرو إلا الخروج معهم إلى أحد .

فقال أبو طلحة : نظرت إلى عمرو بن الجموح في الرعيل الأول يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنة ، وإبنه في أثره . حتى قتلا .

وكانت عائشة ـ زوج النبي ـ قد لقيت بنت عمرو بن حزام ـ راجعة

__________________

١ ـ مغازي رسول الله ( ص ) ص ١٦٩ .


بعد أحد ـ تسوق بعيراً لها ، عليه جثة زوجها عمرو وجثة أخيها عبد الله ، وجثة إبنها خلاد .

فقالت لها عائشة : فأين تذهبين بهم ؟ قالت : إلى المدينة أقبرهم فيها . .

ثم أقبلت هند إلى رسول الله فقالت له : أدع الله عسى أن يجعلني معهم .

فعمرو بن الجموح خرج إلى الجهاد رغم إعفائه عن المساهمة في ذلك من الناحية الشرعية . وأراد أن يطأ بعرجته الجنة . فأخذ يتسابق ـ على ذلك ـ مع أحد بنيه حتى صرعا معاً .

وقد أصبح بذلك من التضحية في ذؤابتها .

أما زوجة هند فهي الأخرى قد سارت في طريق الخلود . فلم تكتف باستشهاد زوجها وابنها وأخيها ـ وهو أمر لا تقوى على تحمله النساء ـ « حملهم على جملها من أحد إلى المدينة لدفنهم ، وهي جذلة متعالية » بل أرادت من الرسول أن يدعو لها باللحاق بهم .

كل ذلك طمسه الأمويون بالإضافة إلى طمسهم معالم الدين الأخرى كما سنرى .

ذلك ما يتصل بموقف العرب المسلمين من الأمم الأخرى في ضوء الدين الجديد .

أما ما يتصل بموقفهم من جاهليتهم فيمكننا أن نقول :

إن الدين الجديد قد استلزم ـ من الناحية النظرية على كل حال ـ إحداث تغييرات واسعة المدى وعميقة الغور في نظرة العربي لنفسه من حيث صلتها بالمجتمع الذي ينتمى إليه وبالكون الذي يعيش فيه .

كما إنه قد استلزم كذلك ـ من الناحية النظرية أيضاً ـ إجراء تبدلات واسعة وعميقة في تصرفات العربي في المجالين الآنفي الذكر .

وبما أن دراستنا هذه منصبة ـ في جوهرها ـ على الجانب الأخلاقي للدين


الجديد ـ بمقدار ما يتعلق الأمر بالأسرة الأموية ـ فسوف لا نتطرق للبحث في الدين الإسلامي ـ في جوانبه العقائدية ـ إلا عرضاً .

أي إننا سوف تقصر البحث في الجانب الأخلاقي ـ السياسي للأمويين في ضوء مبادىء الدين الحنيف . ويمثل الجانب السلبي للأخلاق الإسلامية لجانب الإيجابي لأخلاق العرب في جاهليتهم . أي أن كل تصرف نهي الدين العرب عن تعاطيه يعتبر خلقاً عربياً جاهلياً أصيلا فيهم . وفي القرآن الكريم آيات تصف الخلق العربي ـ في جانبيه الإسلامي والجاهلي ـ فتعبر جوانبها الإيجابية عن الخلق العربي الإسلامي . على حين أن جوانبها السلبية تصف الخلق العربي الجاهلي . وقد جعلنا محتويات تلك الآيات مقياساً لدراستنا لأخلاق الأمويين .

جاء في سورة الانعام : « قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ : أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . . . وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ـ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ـ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ . . . » « وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ . وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا . . . » (١) .

وجاء في سورة الحجرات : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » . .

فاذا نظرنا إلى الآيات الآنفة الذكر في ضوء المجالين السالفين ـ علاقة المسلم بالكون وبالمجتمع ـ امكننا أن نحدد الخلق الإسلامي تحديداً دقيقاً . فتتلخص علاقة الإنسان بالكون في الإيمان بوحدانية الله .

أما علاقته بالآخرين فتبدو في الإقلاع عن الزنى والقتل ونكث العهد والغدر وتجنب الظلم بشتى صوره . تلك هي ـ بنظرنا ـ الاسس التي يرتكز عليها الإسلام في جوانبه الاخلاقية .

__________________

١ ـ وقد ورد شيء مشابه لهذا في سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، وهود ، ويونس ، والرعد ، في أكثر من موضع واحد .


وقد جاء أغلبها بصيغة السلب ـ النهي ـ لان أضدادها ، على ما يلوح ، كانت هي : الاخلاق الشائعة في المجتمع العربي الجاهلي . فالاخلاق التي حثت الآيات السالفة الذكر العرب على التمسك بها هي الاخلاق الإسلامية ، وتطبيقها على العرب ما نسميه : « الخلق العربي الإسلامي » .

والاخلاق التي نهى الاسلام العرب على السير وفق مستلزماتها هي ما ندعوه : « الخلق الجاهلي » أي أخلاق العرب في جاهليتهم .

ذكر أبو عمرو ـ سفيان بن عبد الله « قال : قلت يا رسول الله قل لي قولا في الاسلام لا أسأل عنه أحداً غيرك قال : قل آمنت بالله ثم أستقم » (١) . فأوجز الرسول ـ بذلك ـ الاسلام ـ الاسلام في جانبيه العقائدي والأخلاقي .

فالايمان بالله يستلزم القيام بالشعائر الدينية المعروفة . والاستقامة تتضمن السير وفق مستلزمات الأخلاق الاسلامية التي شرحناها .

ومن الطريف أن نذكر هنا أننا عثرنا على أكثر من ثلاثين آية تشير إلى أن الاسلام يتضمن الايمان بالله واستقامة الأخلاق (٢) . فهل آمن الامويون بالله ؟ ومن ثم استقاموا ؟

__________________

١ ـ وقد أشار الرسول ـ في قوله الآنف الذكر ـ إلى ما جاء في سورة فصلت : « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا . . . » ، وفي سورة الأحقاف : « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » .

أما قول الرسول الأنف الذكر فقد ورد في كتاب : « الفتوحات الوهبية » لإبراهيم المالكي ص ١٩٦ .

٢ ـ راجع سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأعراف ، ويونس وهود ، والرعد ، وإبراهيم ، والنحل ، والكهف ، ومريم ، والحج ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، وفاطر ، وفصلت والجاثية ، ومحمد . وجميع تلك الآيات تبدأ بـ :

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ . . . » ويلوح لي أن الإسلام يهدف ـ من الإيمان بالله ـ تقويم الأخلاق .

*


إن تاريخهم ـ الذي سنذكره ـ يشير بصراحة ووضوح إلى الإجابة بالنفي عن هذين السؤال ـ هذا باستثناء سيرة عمر بن عبد العزيز . فقد كان الأمويون ـ كما سنرى ـ في صراع رهيب مع مبادىء الإسلام منذ انبثاق نوره ـ في عهد الرسول ـ حتى سقوط دولتهم عام ١٣٢ هـ .

وقد ظهر لي كذلك أن الأمويين قد اتخذوا الدين الاسلامي ستاراً لتثبيت أخلاقهم الجاهلية التي حاربها الاسلام .

فقد تعاونوا ـ أباً عن جد عدا عمر بن عبد العزيز ـ على فصم عرى الاسلام عروة فعروة . ولم يسلم جانب من جوانب الدين من التعرض لاعتداءاتهم المتكررة كلما آنسوا ـ في ذلك الاعتداء ـ تركيزاً لأسس حكمهم الجاهلي البغيض . فلا يمكن أن يجمع المرء ـ على ما رأى ـ بين الأمويين والاسلام .

وإما أن يخلد الأمويين على أساس أخلاقهم العربية الجاهلية التي مسخها الاسلام .

وإما أن يخلد الاسلام ـ بتعاليمه وأخلاقه ـ ويشجب الأمويون .

لأن محاولة الجمع بين الأمويين والاسلام فاشلة ويائسة بعد التحليل الدقيق .

وهناك أمر آخر لا بد من الإشارة إليه في هذا الصدد ؛ هو : أن الحكام الأمويين قد أخذوا يتسابقون ـ كما سنرى ـ على الايغال في الخروج على مبادىء الاسلام .

وأخذ الخلف منهم يسبق السلف ـ بمراحل ـ في هذا المضمار .

__________________

* وفي سيرة النبي من الأمثلة على ذلك الشي الكثير . « روى عن ابن عباس أنه قال : كنا مع النبي في سفر . فمنا الصائم ومنا المفطر . فأنزلنا منزلا في يوم حار . . . فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب . فقال الرسول : ذهب المفطرون بالأجر كله » جورج جرداق : الإمام علي ، ص ٩٤ .


وبما أن الأمويين قد اغتصبوا الحكم الإسلامي : اغتصبوا الحكم الإسلامي اغتصاباً ، ولم يكن لهم ـ من الناحية الشرعية ـ ما يؤهلهم لزعامة المسلمين ، الانسب أن رأيناهم يسعون إلى تثبيت أركان حكمهم بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة ، ومن الارهاب والتنكيل حسبما تستلزم الظروف والمناسبات .

فانفسح ـ بسياستهم تلك ـ باب الشر على مصراعيه أمام الوصوليين الانتهازيين .

وأغدق الأمويون عليهم العطايا وخلعوا عليهم الجاه والمناصب والنفوذ على حساب الدين .

وقد حول الامويون ـ كذلك ـ نشاط المشتغلين في الأمور الدينية إلى وعظ الرعايا المسلمين وحثهم على التذرع بالصبر ، والطاعة ، والخضوع للاوضاع السياسية القائمة .

فأوجد بعض هؤلاء الحيل الشرعية لتبرير تصرفات الأمويين .

فاحتمى بذلك الأمويون ، وعصموا ملكهم من التعرض للانهيار على أيدي المطالبين بالعودة إلى القرآن وسنة الرسول .

ويطلب أن أنبه القارىء ـ في ختام هذه المقدمة ـ إلى أن دراستي هذه محاولة لتفسير تاريخ الامويين في ضوء مبادىء الدين الإسلامي .

فقد وضعت الأمويين تحت مجهر الاسلام .

ووازنت بين تصرفاتهم وبين مبادئه التي جاءت في القرآن وسيرة الرسول فاكثرت من الاستشهاد بمحتويات القرآن وأحاديث النبي ـ لانها الوثائق التاريخية ، والمستمسكات القانونية الوحيدة في هذا السبيل .

كما استشهدت بحوادث كثيرة ذكرتها أمهات كتب التاريخ عن الأمويين . ووازنت بين الجانبين .

وقد ظهر لي أثناء عملية الموازنة بين الجانبين بأن الدين الاسلامي شيء


وتصرفات الامويين شيء آخر يختلف عنه تمام الاختلاف . فانكشف أمامي فشل المحاولة التي يبديها بعض الباحثين لتغليف سيرة الامويين بغشاء سميك من المغالطة والتدليس وإظهارها على غير مظهرها الذي جاءت به أمهات كتب التاريخ .

أما السبب الذي دعاني إلى قياس تصرفات الأمويين بمقياس الدين الاسلامي فهو : أنهم حكموا المسلمين باسم الدين ، وتظاهروا باتباع مبادئه ، وأخذ بعضهم البيعة لبعض آخر على هذا الأساس . ولا أراني بحاجة إلى أن أنبه القارىء إلى أن المحاولة التي يبديها بعض الكتاب المعاصرين لتطبيق مبادىء الدين الإسلامي على شؤون الحياة السياسية والاقتصادية في الوقت الحاضر أمر خارج عن نطاق هذه الدراسة .

فقد اقتصر البحث ـ كما سيرى القارىء ـ على تدوين سيرة الأمويين في ضوء المبادىء الدينية التي تظاهروا بأنهم يسيرون وفق مستلزماتها . ولكي يستوفى البحث « الذي بين يدى القارىء » شروطه العلمية فقد تضمن ـ كما سلف أن ذكرنا ـ الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث (١) وموازنة ذلك بتصرفات الأمويين كما جاءت في أمهات كتب التاريخ الإسلامي .

فهذا البحث إذن بحث في التاريخ الأموي لا في السياسة المعاصرة أو في الدين .

لقد اكتسب الأمويون « مجدهم » ـ عند من يقول بذلك من الباحثين ـ بواسطة الإسلام . فقد رفعهم الإسلام ـ بنظر بعض الناس ـ من حضيض الجاهلية إلى مستوياته الرفيعة . فيصبح مدح أولئك الباحثين للأمويين ، وتدوينهم سيرتهم وتدريسها للناشئة ـ هذا الأساس ـ إنما هو مدح ضمني للإسلام .

وإنني بهذا الروح ـ روح الإطراء على الإسلام .

__________________

١ ـ وهي الجانب النظري ـ الدستوري ـ الذي ادعى الأمويون بأنهم يسيرون وفق مستلزماته في تصرفاتهم العامة والخاصة باعتبارهم « خلفاء » المسلمين ـ « خلفاء » النبي في رعاية رسالته والسير وفق هديه الذي نطق به القرآن والحديث .


أنتقد سيرة الامويين . فقد ساقني البحث ـ كما سنرى ـ إلى الاعتقاد بأن الأمويين إنما اكتسبوا سلطاتهم على أساس هدم الإسلام ، لا على أساس رفع كلمته وتثبيت قواعد بنائه . فهم الذين انتزعوا منصب خلافة المسلمين ـ على رغم أنف الإسلام ومعتنقيه ، وساروا ـ في حياتهم العامة والخاصة ـ على نهج طوح بالمثل العليا التي جاء بها الإسلام . فذوي روح الإسلام ، وانطوت مبادؤه الاخلاقية على نفسها بدلا من أن تسير في طريق التوسع والانتشار .

بدأت هذه الدراسة في البحث في التاريخ الأسرة الاموية فتنبعث خطوطه العامة في الجاهلية والاسلام . ثم انتقلت إلى التحدث عن ضروب المقاومة التي أبداها الأمويون للحيلولة دون إنتشار الاسلام في عهد الرسول . ثم بحثت أساليبهم في إيذاء الرسول في مكة والمدينة . وبعدها انتقلت إلى الحديث عن الوسائل التي استعانوا بها لتثبيت أركان حكمهم السياسي المناوىء لمبادىء الاسلام . وختمت هذه الدراسة بعرض نماذج من صراعهم الرهيب مع الدين منذ مصرع رابع الخلفاء الراشدين حتى زوال حكمهم على أيدي العباسيين .

بغداد في ٢٥ / ٥ / ١٩٥٦

نوري جعفر


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر


الفصل الاول

الأمويون : الجاهلية الاولى

الأمويون هم نسل أمية بن عبد شمس . وينقسمون إلى : العنابس والأعياص . فالعنابس أشهرهم ـ في التاريخ الإسلامي المدون ـ حرب وأبو حرب ، وسفيان وأبو سفيان ( صخر بن حرب ) ومعاوية (١) . ويزيد ابنه ومعاوية بن يزيد .

وأما الأعياص فأشهرهم : أبو العاص وولده عفان ـ أبو عثمان ، والحكم وابنه مروان ، وعبد الملك بن مروان ، وأولاد عبد الملك : الوليد وسليمان ويزيد وهشام وعبد العزيز ـ أبو عمر ـ ، وأحفاد عبد الملك : الوليد بن يزيد وابراهيم ابن الوليد بن يزيد ومروان بن محمد بن عبد الملك .

وقد حكم الأمويون الإسلامية زهاء قرن منذ مصرع الامام علي بن أبي طالب عام ـ ٤٠ هـ ـ حتى سقوط دولتهم سنة ١٣٢ .

وقد أنصف الحكم الأموي ـ باستثناء السنتين ( ٩٩ ـ ١٠١ ) اللتين حكم أثناءهما عمر بن عبد العزيز ـ بمجافاته لروح الإسلام وبخروجه على مبادىء القرآن وسنة الرسول . كما سنرى .

__________________

١ ـ وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس . وعتبة هذا ـ الذي قتل في بدر ـ هو صاحب النفير ، وأبو سفيان صاحب العير . وقد ذهب ـ موضوع العير والنفير ـ مثلا في التاريخ فيقال للخامل : لا في العير ولا في النفير . وهند ـ أم معاوية ـ هي أم أخيه عتبة . وقد اتهمت بفجور وعهر ـ كما سنرى ـ .

أما يزيد ومحمد وعنبسة وحنظلة ـ الذي قتل في بدر ـ وعمرو ـ الذي أسر في بدر ـ فهم أبناء أبي سفيان من أمهات شتى .


ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد هو أن بعض أحفاد أمية بن عبد شمس قد هرب « من اضطهاد العباسيين » إلى الأندلس فأسس حكماً أموياً هناك استمر زهاء ثلاثة قرون . وبما أن أولئك الأمويين قد ساروا ـ من حيث الاساس ـ على نهج أسلافهم في الشام فسوف لا نستشهد بسيرتهم المجافية لروح الاسلام ، لأن سيرة أجدادهم في الشام قد أغنتنا عن ذلك .

وهناك أمر آخر لا بد من الالماع إليه في هذه المناسبة هو أننا سوف ندخل ضمن الامويين ـ لا من حيث وحدة النسب بالطبع بل من حيث وحدة الاتجاه وتوافق السيرة والخلق ـ أشهر الولاة الذين تعاونوا مع الأمويين في تثبيت أركان حكمهم البثيض ؛ وفي مقدمتهم عمرو بن العاص ، وزياد به أبيه ، والحجاج بن يوسف الثقفي .

وجريا مع هذا المنطق نفسه يمكننا أن لا نعتبر عمر بن عبد العزيز « أموياً » من حيث الطبع .

ولا بد لمن يتصدى للبحث في تاريخ الامويين أن يشير إلى حقدهم على أبناء عمومتهم الهاشميين ـ في الجاهلية وفي صدر الاسلام ـ وقد لخص الجاحظ (١) . طبيعة ذلك الحقد وعوامله حين قال :

« إن أشرف خصال قريش ـ في الجاهلية ـ اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة .

وهذه الخصال مقسومة لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بني عبد شمس على أن معظم ذلك صار شرفه بعد الاسلام إلى بني هاشم (٢) . وليس لعبد شمس

__________________

١ ـ رسائل الجاحظ ٦٧ ـ ٧٥ .

٢ ـ وكان اسم هاشم عمرواً . وإلى هذا المعنى يشير ابن الزعبري :

عمرو العلى هشم الثرية لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وقد روى البيت بشكل آخر :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

قوم بمكة مسنتين عجاف


لقب كريم ، ولا اشثق له اسم شريف ، ولم يكن لعبد شمس من يرفع من قدرة ويزيد في ذكره . ولهاشم عبد المطلب سيد الوادي (١) ومما هو مذكور في القرآن من فضائل هاشم ـ عدا حديث الفيل قوله تعالى لإيلاف قريش .

وقد أجمعت الرواة على أن أول من أخذ الايلاف هاشم بن عبد مناف والايلاف (٢) هو أن هاشماً كان رجلا كثير السعة والتجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام . فشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ، وجعل لهم ربحاً فيما يربح ، فكفاهم مؤونة الاسفار . وكان في ذلك صلاح عام . . .

ثم حلف الفضول (٣) . وجلالته وعظمته . وهو أشرف حلف كان في العرب كلها ، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام . ولم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب .

فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني تيم

__________________

١ ـ ولقبه شيبة الحمد . قال مطرد الخزاعي :

يا شيبة الحمد الذي تثنى له

أيامه من خير ذخر الداخر

المجد ما حجت قريش بيته

ودعا هديل فوق غصن ناضر

وقد بلغ أولاد عبد المطلب عشرة بنين وست بنات : العباس وحمزة وعبد الله وأبو طالب ( واسمه عبد مناف ) والزبير والحرث وحجل والمقوم وضرار وأبو لهب ( وإسمه عبد العزى ) وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة واروى ويرة . فأم العباس وضرار فتيلة بنت جناب ، وأم حمزة والمقوم وحجل وصفية هالة بنت وهيب ، وأم عبد الله وأبي طالب وزبير ( وجميع النساء غير صفية ) فاطمة بنت عمرو ، وأم الحرث سمراء بنت جندب وأم أبي لهب لبنى بنت هاجر .

٢ ـ راجع : ابن هشام ، سيرة النبي محمد ١٠ / ٥٧ ـ ٥٩ للاطلاع على معاني كلمة « ايلاف » .

٣ ـ راجع ابن هشام « سيرة النبي محمد » : ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ للاطلاع على تفاصيل هذا الحلف .


ابن مرة . تعاقدوا ـ في دار ابن جدعان في شهر حرام قياماً يتماسحون بأكفهم صعداً ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه . .

وشرف هاشم يتصل ـ من حيث عددت ـ . كان الشرف معه كابراً عن كابر .

وليس بنو عبد شمس كذلك . فإن الحكم ابن أبي العاص . كان عارياً في الاسلام ولم يكن له ثناء في الجاهلية .

وأما أمية فكان مضعوفاً وكان صاحب عهار ، . . وصنع أمية ـ في الجاهلية شيئاً لم يصنعه أحد في العرب :

زوج أبنه ـ أبا عمرو ـ من أمرأته في حياته فأفولدها أبا معيط .

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول : إن اساس الخصومة بين الهاشميين والأمويين يعود إلى التنافس على الرئاسة والصدارة في المجتمع العربي القديم . ومبدأ تلك الخصومة قد جاء من الأمويين . فقد شعر هؤلاء بالحرمان الإجتماعي ـ وما يتعلق به وينتج عنه ـ وعرفوا أنهم غير قادرين على تصديع شرف الهاشميين بالأساليب الشريفة المعروفة . فلجأوا إلى الأساليب الملتوية التي ذكرناها . فكانت النتيجة أن الهاشمىين أخذوا بالتسامى في مجدهم أبا عن جد .

وسار الأمويون في طريق التدهور والسقوط خلفاً عن سلف .

فحاول الهاشميون أن يسمو أبناؤهم فوق مسلك أبائهم السامى ـ كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا .

وسعى الأمويون على العكس من ذلك تماماً .

فقد سعى عبد المطلب ـ سيد الوادي ـ إلى أن يضيف ( بمسلكه ) كرما إلى مكارم أبيه . وهبط أميه ـ عن مستوى أبيه الوضيع ـ فكان مضعوفاً وكان صاحب عهار .

ويرتفع محمد فوق مستويات أجداده الرفيعة .


وانحدر أبو سفيان في حضيض مستويات الأمويين الذين سبقوه .

ومن الغريب أن يلاحظ الباحث أن لكل هاشمي خصما من الأمويين يسير كل منهما في الاتجاه الذي يسير عليه أجداده .

فهذا هاشم وذاك أمية وهذا عبد المطلب وذاك حرب ، وهذا محمد وذاك أبو سفيان ؛ وهذا علي وذاك معاوية ، وهذا الحسين وذاك يزيد ألخ . . .

فكان شرف بني هاشم في عشيرتهم وكريم خصالهم وشهامتهم وكرمهم قد أثارت حفائظ الأمويين فحقدوا عليهم وحاولوا عبثاً أن يطاولوهم . وذكر الطبري (١) .

أن الحارث حدثه عن محمد بن سعد « قال : أخبرنا هشام بن محمد قال : حدثني معروف بن الخربون المكي قال : حدثني رجل من آل عدوى بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه قال : قال وهب بن عبد قصي في إطعام هاشم قومه الثريد :

تحمل هاشم ما ضاق عنه

وأعيا أن يقوم به ابن بيض

أناهم بالغرائر متأفات

من أرض الشام بالبر النفيض

فأوسع أهل مكة من عشيم

وشاب الخبز باللحم الغريض (٢)

قال : فحسده أمية بن عبد شمس ـ وكان ذا مال ـ فتكلف أن يصنع صنيع هاشم . ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم لسنه وقدره . ولم تدعه قريش واحفظوة قال : فأنني أنافرك على خمسين ناقة سود حدق تنحرها ببطن مكة ، والحلاء عن مكة عشر سنين . فرضى بذلك أمية . وجعلا الكاهن الخزاعي (٣) . بينهما . فنفر هاشما عليه . فأخذ هاشم الابل فنحرها وأطعمها من خضرة . وخرج أمية إلى الشام

__________________

١ ـ تاريخ الأمم والملوك ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١ .

٢ ـ متأفات : ممتلئات . البر النقيض القمح النقي ، شاب خلط ، الغريض الطري .

٣ ـ جد عمرو بن الحمق الخزاعي أحد خيار المسلمين الذين غدر بهم الأمويون بشكل لا يجيزه الاسلام كما سنرى .


فأقام بها عشر سنين . فكانت هذه أول عداوة بين هاشم وأمية . وفي عهد عبد المطلب ابن هاشم استأنف الأمويون حقدهم على الهاشميين ، وساروا في طريق غوايتهم بشكل لم يكن مستساغاً حتى بمقاييس الجاهلية . وتفصيل ذلك على ما يروى ابن الاثير : أنه « كان لعبد المطلب جار يهودي يقال له أذية يتجر وله مال كثير . فغاظ ذلك حرب بن أمية . فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو بن كعب التيمي ـ جد أبي بكر فلم يعرف عبد المطلب قاتله فلم يزل يبحث حتى عرفهما ـ وإذا هما قد استجار بحرب بن أمية . فأتى حرباً ولامه . وطلبهما منه . فأخفاها . فتغالظا في القول . . . وجعلا بينهما نفيل (١) بن عبد العزى العدوى ـ جد عمر بن الخطاب ـ فقال نفيل (٢) لحرب : يا أبا عمرو أتتنافر رجلا هو أطول منك قامة ، وأوسم وسامة ، وأعظم هامة ، وأقل منك ملامة » وأكثر منك ولداً وأجزل منك صفداً ، (٣) وأطول منك مدداً

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٢ / ٩ .

٢ ـ ونفيل هذا هو الذي خاطب حرب ـ مشيراً الى عهر أبيه الذي مر معنا ذكره ـ بقوله :

أبوك معاهر وأبوه عوف

وذاد الفيل عن بلد حرام

أبوك يعني أمية ( أبا حرب )

وأبوه يعني هاشم أبا عبد المطلب .

٣ ـ الصفد العطاء ، فغضب حرب وقال : من انتكاس الزمان أن جعلت حكما . . .

وأخذ عبد المطلب من حرب مئة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي ، وارتجع ماله كله إلا شيئاً هلك فغرمه من ماله .


الفصل الثاني

الأمويون : ضروب إيذائهم للرسول

عندما انبثق نور الإسلام ـ في مكة وبدأ يغمر سائر مدن الحجاز ـ سعى الأمويون لإطفائه بكل ما لديهم من سطوة وحول . فبدؤا يؤذون الرسول الكريم بمختلف الأساليب ـ بشكل فردي متفرق أحياناً ، وجماعي منظم أحياناً أخرى . وتفنن الأمويون ـ ومن هم على شاكلتهم من المشركين ـ في ابتداع الوسائل الدنيئة لإيذاء رسول الله .

فبعثوا النظر بن الحرث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود لتأليبهم على النبي وتسفيه رسالته .

وأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص إلى الحبشة لإقناع النجاشي بطرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة تخلصاً من إيذاء المشركين .

وعذبوا المستضعفين من المسلمين ـ كبلال بن رباح الحبشي مؤذن الرسول ، وعمار بن ياسر وأمه وأبيه ، وخباب بن الأرت ، وصهيب بن سنان الرومي ، وعامر بن فهير ، وأبي فكيهة ، ولبيبة (١) ـ جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي ابن كعب ، وزنيرة ، والنهدية « وأم عبيس ـ وآخرين » .

__________________

١ ـ وقد أسرف عمر بن الخطاب ـ أثناء شركة ـ في تعذيبها وتعذيب زبيرة ، وتعذيب أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد بن نفيل بن عبد العزى ـ ابن عمه ـ وخباب بن الارت . وكان شديداً على الرسول كذلك .

« خرج عمر يوما متوشجاً بسيفه يريد رسول الله . . . فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمداً هذا الصابى الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله . فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك يا عمر . اترى بني عبد مناف غير تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت ! ! . . . فجاء إلى رسول الله . . . فقال حمزة : ائذن له . فإن جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه » ابن هشام : « سيرة النبي محمد » ١ / ٣٦٥ / ٣٦٨ .


ذلك ما يتصل بإيذاء الأمويين للرسول عن طريق إيذائهم لأتباعه .

ولما رأى الأمويون أن تعذيب أولئك الاتباع لم يزدهم إلا تعلقاً بالإسلام ونبيه وأن رسول الله سائر في نهجه ـ على الرغم من مقاومتهم له واعتدائهم على اتباعه فكر رؤساؤهم بأسلوب جديد للحد من نشاطه . فقابل وفد منهم مكون من :

عتبة ـ أبي هند أم معاوية ـ وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس ، وأبي سفيان ابن حرب بن أمية أبا طالب ـ عم النبي ـ ورجوه أن يطلب إلى ابن أخيه أن يكف عن عيب آلهتهم .

غير أن أبا طالب لم يصغ إلى شكواهم فسند ابن أخيه وشجعه على المضى في رسالته . فلجأ الأمويون إلى أسلوب جديد في إيذاء الرسول فوصفوه بالسحر ، والجنون عند من يقدم إلى مكة لصدهم عن الإيمان برسالته . فلم يجدهم ذلك نفعاً . فانتدبوا جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والإيذاء ـ وفي مقدمتهم :

عتبة وشيبة إبنا ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبو سفيان ، والحكم بن أبي العاص ، والعاص بن وائل السهمي ـ أبو عمرو ـ وإبنا عمه نبيه ومنبه . فاستهزأ هؤلاء بالرسول وازدروا به واسمعوه الكلام القارص ، وأروه المعاملة الخشنة .

وكان الحكم بن أبي العاص ـ أبو مروان ـ من أكثرهم إيذاء للرسول واستهزاء به واعتداء عليه الأمر الذي اضطر النبي ـ بعد ذلك ـ إلى نفيه وأولاده إلى الطائف .

ولم يقتصر إيذاء الأمويين للرسول على الرجال بل تعداه للنساء وفي مقدمتهن أم جميل حمالة الحطب (١) . غير أن ذلك كل لم يجدهم نفعاً . فعمدوا إلى مقاطعة

__________________

١ ـ التي نزلت في ذمها سورة من القرآن الكريم أنظر : سورة المسد : آية ٤ .

ـ الناشر ـ


الهاشمين . فصمد الهاشميون بوجههم ثلاث سنين عجاف (١) .

وأخيراً دبر الأمويين ـ واتباعهم ـ مؤامرتهم الكبرى لاغتيال النبي . فأحبطها بهجرته إلى المدينة وتركه علياً في فراشه إيهاماً للمشركين .

ولما انتقل النبي إلى المدينة استجمع الأمويون قواهم ـ وألبوا مشركي قريش وحلفاءهم : اليهود ـ على مقاومة الدين الجديد في شخص رسوله الكريم .

وكان قائدهم عتبة بن ربيعة (٢) أبو هند أم معاوية ـ وصهره أبو سفيان وابن عمه الحكم بن أبي العاص ، فنشبت بدر وقتل من الأمويين عتبة وإبنه شيبة وعقبة بن أبي معيط وأسر منهم أبو العاص بن الربيع ، وعمرو بن أبي سفيان . ونجا معاوية من القتل والأسر فهرب من المعركة .

وقد بلغ حقد أبي سفيان على النبي حدا يفوق الوصف لانكسار بعض أوتاد خيمة الشرك التي يحتمى بظلها .

__________________

١ ـ وقد بلغ وفاء أبي طالب حد الإعجاز في الدفاع عن الرسول وتحمل ثقل المقاطعة من الناحيتين المادية والمعنوية . فقد عز عليه أن يخذل ابن أخيه ، وهو سيد البطحاء ، كما عز عليه أن يعيش في الشعب منعزلا عمن حوله من الناس . ولكنه تحمل القطيعة في سبيل حماية الرسول وصيانة الدعوة الإسلامية . وله قصائد مشهورة في هذا الصدد ـ نذكر منها على سبيل المثال قوله له ( ابن هشام ، سيرة النبي محمد ١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٠ ) .

ولما رأيت القوم لا ود فيهم

وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدو المزايل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة

وأبيض عضب من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وأخوتي

وأمسكت من أثوابه بالوسائل

كذبتم وبيت الله نبرى محمداً

ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

٢ ـ وكان يطلق على أبي سفيان ـ كما ذكرنا ـ « صاحب العير » ويمسى عتبة « صاحب النفير » وفيهما يضرب المثل فيقال للخامل لا في العير ولا في النفير . وسبب تلك التسمية أن أبا سفيان قدم بالعير المحملة بالبضائع من الشام إلى مكة ـ فحماها من المسلمين .

أما عتبة فقد استنهض قريش لحرب النبي فوقعت بدر وكان هو أحد ضحاياها .


فزرع حقده هذا في نفوس المشركين بمختلف الوسائل المتيسرة لديه .

ومنعهم من البكاء على قتلاهم كما منع الشعراء عن التحدث عنهم أو رثائهم . وطلب من شركائه في المصيبة أن يتذرعوا بالصبر والجلد .

وقد برهن أبو سفيان ـ بذلك ـ على براعته في النفاذ إلى مكامن نفوس المشركين . فاستثار نوازعهم النفسية حين خاطبهم بقوله (١) « فأنتم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأقعدكم عن عداوة محمد وأصحابه ، مع أنه إن بلغ محمداً وأصحابه شمتوا بكم . فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم . ولعلكم تدركون ثأركم . فالدهن والنساء على حرام حتى أغزوا محمداً » .

ومن الطريف أن نذكر هنا أن الاسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده في بدر . وكان يحب أن يبكيهم ولكنه توقف عن ذلك خوفاً من أبي سفيان . فبينما هو كذلك إذ سمع إمرأة تجهش بالبكاء . فأراد أن يستحلى الأمر ليبكي هو على قتلاه . فأرسل غلامه وقال له : أذهب فاستفسر هل بكت قريش على قتلاها « لعلي أبكي فإن جوفي قد احترق » فذهب الغلام وعلم : أن الباكية إمرأة ضل بعيرها فهز الأسود رأسه وقال :

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

ولا نبكي على بدر ولكن

على بدر تصاغرت الخدود

فكان أبو سفيان إذن شيخ المؤلبين على حرب رسول الله بعد بدر . فعل ذلك أثناء جمعه جموعهم ، وأثناء تأليبه أياهم ، وفي إخراجه النساء معهم إلى أحد (٢) .

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ٩٠ ـ ٩٣ .

٢ ـ خرج أبو سفيان بهند وزوجة أخرى وصفوان بن أمية بأمرأتين وطلحة بأمرأته والحارث بن هشام بأمرأته . وخرجت خناس بنت مالك مع ابنها والحارث بن سفيان بأمرأته وكنانة بأمرأته وسفيان بن عويف بأمرأته والنعمان وجابر إبناً مسك بأمهما .


وقد مروا الابواء في طريقهم إلى أحد ـ فاقترح عليهم أبو سفيان أن ينبشوا قبر آمنة بنت وهب أم الرسول ( وكانت قد توفيت هناك وهي راجعة بالرسول ـ وعمره سنتان ـ إلى مكة بعد زيارتها لإخواتها من بني عدي بن النجار ) وقال لهم :

فإن يصب محمد من نسائكم أحداً قلتم : هذه رمة أمك .

فإن كان باراً ـ كما يزعم ـ فلعمري ليفادينكم برمة أمه .

وإن لم يظفر بإحدى نسائكم فلعمري فليفدين أمه بمال كثير . فاستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك .

فقالوا : لا تذكر من هذا شيئاً » (١) .

وقد ظهر أثر أبي سفيان في تأليب المشركين على حرب النبي ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا ـ في تهيأته الجو لمعركة أحد ، وفي حرصه الشديد على وضع الجيش بشكل يساعده على دحر المسلمين ، وفي موقفه من بني عبد الدار في مسألة المحافظة على اللواء أثناء القتال .

فوضع على ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .

وجعل على الخيل عمرو بن العاص . وخاطب بني عبد الدار في مسألة حمل

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ١٥٨ ـ ١٦٠ . ولأبي سفيان ـ وحلفائه المشركين ـ مواقف أخرى كثيرة من هذا النوع البشع . من ذلك مثلاً : التحدث مع المشركين حول أبنتي النبي زينب وأم كلثوم ـ وكان النبي قد زوج أولاهما من أبي العاص ابن الربيع بن عبد العزي والثانية من عتبة بن أبي لهب وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي . فلما نزل عليه الوحي آمنت بناته به وبقى أزواجهن . فمشى نفر من قريش « إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا : فارق صاحبتك بنت محمد ونحن نزوجك أي أمرأة شئت من قريش . فقال لا ها الله ! ! لا أفارق صاحبتي . . . ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا له طلق بنت محمد ونحن ننكحك أي أمرأة شئت من قريش . فقال إن أنتم زوجتموني ابنه أبان بن سعيد بن العاص فارقتها . فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ففارقها » . راجع ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٣ / ٣٥٠ الطبعة الأولى بمصر .


اللواء فقال (١) :

« يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا . إنما أؤتينا ـ يوم بدر ـ من اللواء . وإنما يؤتى القوم من قبل لوائها . فالزموا لواءكم وحافظوا عليه . أو خلوا بيننا وبينه .

فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نسلم لواءنا ؟ لا كان هذا أبداً .

ثم أسندوا اللواء بالرماح واحدقوا به » .

وكانت هند زوج أبي سفيان لا تقل تحمساً عن زوجها في تأليب المشركين . وهي التي أغرت وحشياً على قتل عم النبي (٢) .

ذلك جانب من جوانب تعبير الأمويين عن مقتتهم للدين الحنيف . فقد شنوها ـ كما رأينا ـ حرباً شعواء لا هوداة فيها على النبي . ولم يثنهم اندحارهم في بدر عن مواصلة الكفاح المرير ضد الإسلام ومعتنقيه . فوقعت أحد ـ كما رأينا .

وكان الأمويون وحلفاؤهم من المشركين أن يناولوا من الرسول فيها بعد أن قتلوا عمه الحمزة ومثلوا به على شكل من الوضاعة قل أن يحدث في التاريخ .

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ١٧٢ .

٢ ـ وكان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل . وقد قتل أبوها يوم بدر فقالت لوحشي إنك حر إن قتلت محمداً أو حمزة أو عليا لأنها لم تر في المسلمين كفوءا لأبيها غيرهم .

ومن الانصاف للتاريخ أن نشير هناك إلى أن حمزة لم يقتل نتيجة لشجاعة وحشي بل لظروف استثائية غير متوقعة . فقد كان صائماً ، وكمن له وحشي فقصده الحمزة فاعترض سبيله سباع ابن أم نمار فصرعه حمزة وأقبل إلى وحشي فزلت قدمه فضربه وحشي فأرداه قتيلا . فأقبلت هند فرحة فخلعت حليها وقدمتها لوحشي .

ثم بقرت بطن حمزة وأخرجت كبده فمضغتها وقطعت مذاكيره وأذنيه وجدعت أنفه . وكان ألم النبي على حمزة ممضا فوقف على جثته وقال : « ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلى من هذا . . . أنني لن أصاب بمثلك أبداً » الواقدي : « مغازي رسول الله » ص ٢٢١ / ٢٢٢ .


ولولا أنه خيل إليهم أن الرسول قد قتل لما رجعوا من ساحات القتال .

فلما بلغهم أن الرسول ما زال على قيد الحياة اجمعوا أمرهم على الرجوع إليه فصدهم عن ذلك معبد الخزاعي كما هو معروف (١) . غير أن إخفاق أبي سفيان في مؤامرته المسلحة لوأد الإسلام ونبيه ـ في بدر وأحد ـ لم يثنه عن مواصلة الكفاح المرير لإثارة وقائع أخرى ضد المسلمين .

فألب الأحزاب في حرب الخندق وما بعدها . ولم يعلن إسلامه ـ في الظاهر ـ كما سنرى إلا حين رأى أن ذلك أجدى من السيف في تحطيم الإسلام .

ويصدق الشيء نفسه على قادة الأمويين آنذاك من النساء والرجال .

ولما رأى الأمويون فشلهم المتواصل في مقاومة النبي والاسلام لجأوا إلى اتباع أسلوب جديد للإيقاع بالاسلام . وكان هذا الأسلوب ـ في واقعه ـ أكثر الأساليب إيجاعاً للعقيدة الاسلامية . فتقمص قادتهم الاسلام والتزموا ببعض مظاهره ليتمكنوا من إعلانها حرباً شعواء على الدين من داخله ـ بعد أن أعياهم أمره في حربهم أياه من الخارج .

فأسلم ـ في الظاهر ـ قائدهم أبو سفيان يوم فتح مكة بعد أن لجأ إلى العباس عم النبي مضطراً ، والتمسه أن يأخذه إلى الرسول . فلما أتى به العباس .

قال له رسول الله « ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟

فقال : بأبى أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! !

والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا . فقال : ويحك :

ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! ! أما هذه ففي النفس منها شيء .

__________________

١ ـ فقد لقى معبد أبا سفيان واتباعه بالروحاء يريدون الرجوع إلى أحد للاجهاز على النبي والمسلمين . فأخبرهم بأن النبي كان قد تهيأ برهط كثيف من اتباعه للخروج في تعقيب المشركين وأشار عليهم بضرورة تفادى ملاقاة المسلمين خشية من الهزيمة . فثناهم عن رأيهم القديم .


فقال له العباس ويحك ! ! أسلم قبل أن يضرب عنقك » (١) .

وقد حاول أبو سفيان أن يضبط أعصابه التي نشأت على الكفر وتشربت ببغض الاسلام فتظاهر بنبذ عبادة الاوثان والاعتراف بالدين الجديد . ولكن ذلك ـ مع هذا ـ لم يعصمه ـ في مناسبات كثيرة ـ من غمر الدين الحنيف . من ذلك مثلا ما ذكره ابن هشام (٢) حينما خاطب الحرث بن هشام أبا سفيان بعد فتح مكة ـ على أثر سماعهما المؤذن يؤذن : « أما والله لو أعلم أن محمداً نبي لاتبعته ! ! فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً . لو تكلمت لأخبرت عني الحصا » .

فلو كان أبو سفيان مسلماً لا نبرى لتنفيذ زعم ذلك المشرك البغيض .

أما إقراره لرأي الحث ـ ضمناً ـ كما يبدو من عبارته فدليل عن وثنيته .

أما السيدة هند ـ زوجة أبي سفيان ـ فقد بايعت الرسول مضطرة ـ بعد فتح مكة ـ فتقمصت رداء الاسلام . فلما تقدمت هند لمبايعة النبي « اشترط شروط الاسلام عليها . فأجابته بأجوبة قوية . فما قاله لها : تبايعينني على أن لا تقتلي أولادك ! ! فقالت هند :

أما نحن فقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر . فقال لها : وعلى أن لا تزنين ! ! فقالت هند وهل تزني الحرة ؟ فالتفت رسول الله إلى العباس وتبسم (٣) .

وكان المسلمون في عهد الرسول يسمون أبا سفيان ومن هم على شاكلته بالطلقاء .

__________________

١ ـ ابن خلدون : « كتاب العبر » الخ . . . ٢ / ٢٣٤ .

٢ ـ سيرة النبي محمد ٤ / ٢٣ .

٣ ـ ابن الطقطقي : « الفخري في الآداب السلطانية » ص ٧٦ ـ ٧٧ . لعل ابتسامة الرسول تشير إلى العهر الذي عرفت فيه هند واتهام العباس بن عبد المطلب بالاجتماع معها على زنى ، كما سنرى .


الأمويون والعقيدة الإسلامية

لقد مر بنا وصف موجز للصراع بين الأمويين ومبادىء الإسلام في حياة الرسول . ونود أن ننتقل إلى البحث في ذلك الصراع « بين الامويين ومبادىء الإسلام » ـ باجلى أشكاله ـ في محاربتهم علي بن أبي طالب أثناء خلافته ، وفي اغتصابهم أمرة المسلمين . وكان قائدهم ـ آنذاك ـ معاوية نجل أبي سفيان قائد الأمويين في حربهم مع النبي .

وإذا كان الفشل قد كتب للأمويين في صراعهم مع النبي ـ لاعتصامهم بالأوثان بشكل سافر ـ فإن القضاء لم يكن في متناول ابن أبي طالب لتقمصهم ـ في الظاهر ـ رداء الإسلام الفضفاض .

ومهما يكن من الأمر فإن غدر الأمويين بعلي ـ تحت زعامة معاوية ـ قد أصاب روح الإسلام قبل أن يصيب أبا تراب . فقد انفسخ باغتيال الإمام المجال واسعاً امام قوى الشر التي حبسها علي في نطاق ضيق من خشية الله ومبادىء الدين الحنيف . فتلاشت من القلوب حرارة الإيمان التي كانت تجمع بين قلب الخليفة الكبير وقلوب رعاياه .

واستهان الولاة والحكام بتطبيق مبادىء الدين على شئون الحياة .

وعمدوا إلى إسكات الجماهير بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة أو الارهاب والتجويع . فذوي روح الإسلام وانطوت مبادؤه على نفسها بدلا من أن تسير في طريق التوسع والانتشار .

وكانت حصيلة ذلك الانتشار التدمر والالحاد في جسم المجتمع العربي الإسلامي ، وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحكام والمحكومين على السواء .

فبرز : الاستهتار « والظلم ، والخروج على القرآن وتعاليم الرسول من جهة الحاكمين ، والملق والمداهنة والانقياد من جهة الرعايا .


واختفى القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد ، فأصبح المطالبون بحقوقهم التي ضمنها لهم الإسلام « زنادقة » و « ملحدين » و « ورفضة » وصار الوصوليون المنافقون أصحاب الخطوة والكلمة النافذة .

ذكر الزبير بن بكار في « الموفقيات » عن المغيرة بن شعبة أنه قال : قال لي عمر بن الخطاب يوما يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء منذ اصيبت ؟ قلت لا . قال : أما والله ليعورن بنو أمية الاسلام كما أعورت عينك هذه . ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء (١) . .

ورى : « إن يزيد بن معاوية قال لمعاوية ـ يوم بويع له عهده فجعل الناس يمدحونه ويطرونه ـ يا أمير المؤمنين ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا ! ! ! فقال له معاوية : كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته (٢) » .

ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين نظر إلى « ولاة » المسلمين في بعض الأيام فقال :

الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقدة بن شريك بمصر وعثمان بن يوسف باليمن امتلات الأرض والله جورا (٣) » .

ومن الغريب أن يستولى الأمويون على خلافة رسول الله ويستأثروا بها دون سائر المسلمين والعرب وأن يتلقفوها كالكرة واحدا بعد الآخر منذ مصرع رابع الخلفاء الراشدين دون أن يكون لهم أدنى حق في ذلك .

فهل يرشحهم كرههم للنبي وسعيهم لقتله وتعذيب اتباعه لتسنم أمرة المسلمين ؟

__________________

١ ـ ابن الحديد ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١١٥ .

٢ ـ المبرد ، الكامل في اللغة والأدب ١ / ٣٠٥ مطبعة مصطفى محمد بمصر عام ١٣٥٥ هـ ومن المضحك حقاً أن يخاطب يزيد أباه يا أمير المؤمنين ولسنا نعلم حق معاوية في أمرة المؤمنين أو مؤهلاته لتلك الامرة أو الأسلوب الذي اتبعه للحصول على تلك الامرة غير أن معاوية ، من الجهة الثانية أمير « المؤمنين » الذين هم من طراز ولده يزيد .


أم أن خروجهم على أسس العقيدة الاسلامية ـ كما سنرى ـ هو الذي هيأهم لارتقاء منبر النبي ؟

الواقع : أن مواقفهم الدنيئة في الجاهلية وفي حياة الرسول وفي الفترة التي نؤرخها في هذه الدراسة تجعلهم أبعد الناس عن تسلم إمرة المسلمين .

قال الجاحظ « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الانصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة . وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة .

والعام الذي تحولت فيه الامامة ملكا كسرويا والخلافة غصباً قيصريا ، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق . ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا (١) .

حتى رد قضية رسول الله رداً مكشوفاً وجحد حكمه جحدا ظاهرا في ولد الفراش وما يجب للعاهر (٢) مع اجتماع الأمة أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا ، وأنه إنما كان بها عاهرا . فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار .

وليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر .

وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيء ، واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره ، إلا أن احدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد .

__________________

١ ـ يشير الجاحظ بذلك إلى فقرات سالفة من رسالته التي بين أيدينا حيث ذكر فيها جانباً من موبقات معاوية .

٢ ـ يشير إلى قضية استلحاق معاوية زياد بن سمية بأبي سفيان .


فهذه أول كفرة كانت في الأمة ، ثم لم تكن إلا فيمن يدعى امامتها والخلافة عليها . على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره . وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت : لا تسبوه فان له صحبة ، وسب معاوية بدعة ، من يبغضه فقد خالف السنة .

فزعمت أن من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة ! !

ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عماله وأهل نصرته ، ثم غزو مكة ورمي الكعبة واستباحة المدينة ، وقتل الحسين في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام . . . فأحسبوا قتله ليس بكفر .

وإباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بجاحد .

كيف تقولون في رمي الكعبة وهدم البيت الحرام وقبلة المسلمين ؟

فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرز به والمتحصن بحيطانه ! ! فما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يعطي بيده ! !

وأي شيء بقى من رجل قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه ! !

وأحسبوا ما رووا عليه من الاشعار ـ التي قولها شرك والتمثل بها كفر ـ شيئا مصنوعا .

كيف نصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين ! !

والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه ! ! . . كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين ! !

وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته : دعوني أقتله فانه بقية هذا النسل فأحسم به هذا القرن وأميت به هذا الداء وأقطع به هذه المادة .

خبرونا علام تدل هذه القسوة وهذه الغلظة ! ! بعد أن شفوا انفسهم بقتلهم ونالوا ما احبوا فيهم ! !


أتدل على نصب ، وسوء رأي وحقد وبغضاء ونفاق وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج ؟

أم تدل على الإخلاص وعلى حب النبي والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحة السريرة ؟ فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال ، وذلك أدنى منازله .

فالفاسق ملعون ومن نهى عن لعن الملعون فملعون .

وزعمت نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا أن سب ولاة السوء فتنة ، ولعن الجورة بدعة ، وإن كانوا يأخذون السمي بالسمي والولي بالولي والقريب بالقريب ، وأخافوا الأولياء وأمنوا الاعداء وحكموا بالشفاعة والهوى واظهار الغدرة والتهاون بالأمة والقمع للرعية والتهم في غير مداراة ولا تقية ، وإن عدا ذلك إلى الكفر وجاوز الضلال إلى الجحد ، فذاك اضل ممن كف عن شتمهم والبراءة منهم . على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه برد السنة وهدم الكعبة .

وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبه الله بخلقه .

وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير . والنابتة ـ في هذا الوجه ـ أكفر من يزيد وابيه وابن زياد وابيه .

ولو ثبت أيضاً ـ على يزيد ـ أنه تمثل بقول ابن الزبعري :

ليت اشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لاستطاروا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تسل

قد قتلنا الغر من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

كان تجوير النابتي لربه وتشبيهه بخلقه أعظم من ذلك وافضع ، وعلى أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا متعمدا أو متأولا .

فإذا كان القاتل سلطانا جائراً واميراً عاصياً لم يستحلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه


ولا عيبه ، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء وأجاع الفقير ، وظلم الضعيف ، وعطل الحدود والثغور ، وشرب الخمور واظهر الفجور ! ! !

ثم ما زال الناس يتسكعون مرة ويداهنونهم مرة ، ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرة إلا بقية ممن عصمه الله .

حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجاج بن يوسف ومولاه يزيد بن أبي مسلم .

فأعادوا على البيت بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو .

فهدموا الكعبة واستباحوا الحرمة وحولوا قبلة واسط .

وأخروا صلاة الجمعة إلى مغيربان الشمس . فإذا قال رجل لأحدهم : اتق الله فقد أخرت الصلاة عن وقتها قتله ـ على هذا القول ـ جهارا غير ختل وعلانية غير سر .

ولا يعلم القتل على ذلك إلا اقبح من إنكاره . فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه ! !

وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة وخوفهم العواقب وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج ابن يوسف فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه . فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه .

فأحسب تحويل الكعبة كان غلطا وهدم البيت كان تأويلا ، واحسب ما رووا ـ من كل وجه ـ انهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله ارفع عنده من رسوله إليهم (١) ، باطلا ومسموعا مولدا ! واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات وردهم ـ بعد الهجرة ـ إلى قراهم .

__________________

١ ـ يشير الجاحظ إلى مخاطبة الحجاج للعراقيين في إحدى خطبه « ويحكم أخليفة أحكم في أهله أكرم عليه أم رسوله اليهم ؟ » يريد بذلك تفضيل مقام الخلافة على مقام الرسالة راجع « العقد الفريد » لابن عبد ربه ٣ / ٢٥٥ .


وقتل الفقهاء وسب أئمة الهدى والنصب لعترة الرسول لا يكون كفرا ! !

كيف تقول في جمع ثلاث صلوات ـ فيهن الجمعة ـ ولا يصلون إلا أولاهن حتى تصير الشمس على اعالي الجدران كالملاء المعصفر ! !

فإن نطق مسلم خبط بالسيف وأخذته العمد وشك بالرماح . وإن قال قائل : اتق الله . أخذته العزة بالاثم . ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره وبصلبه حيث تراه عياله .

ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرد على الله والاستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين والابتذال لأهل الحق أكل امرائهم الطعام وشربهم الشراب على منابرهم أيا جمعهم وجموعهم . . .

وقد كانت هذه الأمة لا تتجاوز معاصيها الاثم والضلال إلا ما حكيت لك عن بني أمية وبني مروان وعمالهم (١) » .

ذلك رأي الجاحظ في الامويين ومدى صلتهم بالإسلام . وهو الرأي الغالب عند جمهرة مفكري المسلمين ومؤرخيهم .

وقد ذهب المقريزي ـ بما له من مكانة مرموقة بين المؤرخين ـ إلى القول بأنه كان يعجب من تطاول الامويين إلى الخلافة وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك ! ! وأين بنو أمية ، وبنو مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ ولعينه ـ من هذا الحديث مع شدة عداوة بني أمية لرسول الله ومبالغتهم في أذاه وتماديهم في تكذيبه ! !

__________________

* ويلوح أن الحجاج لم يسأل نفسه الخبيثة حتى عن معنى كلمة خلافة . فخليفة الشخص من ينوب عنه . هذا إذا فرضنا ـ جدلا ـ أن الأمويين خلفاء بهذا المعنى ، فهل يكونون أفضل ممن خلفهم ؟

١ ـ الجاحظ : « رسائل الجاحظ » ص ٢٩٣ ـ ٢٩٨ .


إذ ليس لبني أمية سبب إلى الخلافة ولا بينهم وبينها نسب . فاسباب الخلافة معروفة فمنهم من ادعاه لعلي ـ باجتماع القرابة والسابقة والوصية بزعمهم . فإن كان الأمر كذلك فليس لبني أمية في شيء من ذلك دعوى عند أحد من أهل القبلة . وإن كانت لا تنال إلا بالسابقة فليس لهم في السابقة قديم مذكور . بل كانوا ـ إذا لم تكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ـ لم يكن فيهم ما يمنعم منها أشد المنع كان أهون وكان الأمر عليهم ايسر ! ! فقد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوته للنبي وفي محاربته وفي إجلابه عليه . . . ولا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان واقدمهم فيه . هذا وبنو أمية قد هدموا الكعبة وجعلوا الرسول دون الخليفة ، وختموا في اعناق الصحابة وغيروا أوقات الصلاة ، ونقشوا اكف المسلمين . . ثم إني ماذا أقول ـ يا عجبا ـ كيف يستحق خلافة رسول الله على أمته شرعا من لم يجعل له حقاً في سهم ذي القربى ؟ ثم كيف يقيم دين الله من قاتل رسول الله ونابزه وكايده وبذل جهده في قتله ؟ وليت إذ ولى بنو أمية الخلافة عدلوا انصفوا ! ! بل جاروا ـ في الحكم ـ وعسفوا واستأثروا بالفي كله وحرموا بني هاشم جملة ، وزادوا في العتو والتعدي حتى قالوا : إنما ذو القربى قرابة الخليفة منه . وحتى قرروا ـ عند أهل الشام ـ أن لا قرابة لرسول الله يرثونه إلا أولاد أمية . . . وحتى صعد الحجاج بن يوسف يوما أعواد منبره وقال ـ على رؤوس الاشهاد : أرسولك أفضل أم خليفتك ؟ يعرض بأن عبد الملك بن مروان أفضل من رسول الله (١) .

__________________

١ ـ المقريزي : النزاع والتخاصم ص ٥ ـ ٨ و ٢٧ ـ ٢٨ .


الفصل الرابع

أساليب تثبيت الحكم عند الأمويين

لقد مر بنا القول بأن الأمويين أبعد المسلمين ـ من الناحية الشرعية ـ عن تولى خلافة رسول الله . ولكنهم ـ مع هذا ـ قد ارتفعوا إلى مستويات الحكم في البلاد الإسلامية . وكان ارتفاعهم هذا ، كما سلف أن ذكرنا ، نتيجة للأساليب الفاسدة التي استعانوا بها في هذا المضمار . فلا عجب أن رأيناهم يستعينون بالأساليب الفاسدة أيضاً لتثبيت قواعد حكمهم الممقوت . وتتلخص أساليبهم تلك في الأمور التالية :

ـ ١ ـ

اتباعهم سياسة الشدة واللين

اتباعهم سياسة الشدة ـ ووصولهم إلى ذروتها من جهة ، وتبنيهم سياسة اللين وبلوغهم منتهاها من جهة أخرى .

وقد رافق ذلك ونتج عنه تبذير لأموال المسلمين وصرفها في غير مواضعها المشروعة من جهة ، وحبس لها عن مستحقيها من جهة ثانية . وقد جرى ذلك كله حسب مستلزمات الظروف التي كانوا يعيشون فيها . فأثرت تلك السياسة ـ بجناحيها ـ في الخلق العربي الإسلامي اسوأ تأثير .

وتعدى أثرها العهد الأموي فانتشر ـ عن طريق الوراثات الاجتماعية ـ بين العرب المسلمين جيلا بعد جيل حتى أدرك العهد الذي نعيش فيه ، وربما انتقلت أثاره إلى الأجيال القادمة .

وإلى القارىء طائفة من الأمثلة لتأييد وجاهة ما ذهبنا إليه قال ابن عبد ربه (١)

__________________

١ ـ العقد الفريد : ١ / ١٩٤ .


قدم يزيد بن منبه على معاوية بن أبي سفيان من البصرة ـ وهو أخو يعلى بن منبه صاحب جمل عائشة ـ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه . فقال معاوية : يا كعب اعطه ثلاثين ألفاً . فلما ولى قال معاوية وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى .

ولا ندري كيف استحق الرجل ذلك المبلغ الضخم من مال المسلمين ! ! وهل الخروج على الأمام علي في حرب الجمل جهاد يستحق عليه الناس تناول هذا المبلغ الكبير من بيت المال ؟

وإذا كان يزيد قد استحق ذلك المبلغ الجسيم لأن أخاه كان صاحب جمل عائشة فما هي حصة يعلى ؟

هل كان معاوية يعتبر أصحاب الجمل وأصحاب صفين ـ كما سنرى ـ من ذوي السابقة في « الإسلام » ؟ فيجعل منزلتهم كمنزلة البدريين عند عمر ؟

ذلك جانب من جوانب الاعتداء على حرمة الإسلام في سبيل تثبيت قواعد الحكم الأموي .

أما الجوانب الأخرى ـ في هذا الصدد ـ فتظهر في الأمور التالية :

عندما أراد معاوية أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ويستعمل بدله سعيد بن العاص بلغ ذلك المغيرة فقدم على معاوية واقترح عليه تولية يزيد ـ من بعده ـ « خليفة » للمسلمين . فثنى ذلك معاوية عن عزله وأوجد في نفسه ميلا لتخليف يزيد . فمضى المغيرة ، حتى دخل على يزيد وقال له : أنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي . . وبقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وأعلمهم بالسنة والسياسة .

ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ! ! . . . فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة . فأحضر معاوية المغيرة .


فقال المغيرة يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء . . . وفي يزيد منك خلف فاعقد له . فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس . . .

قال معاوية : ارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى .

وسار المغيرة (١) حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه أمر يزيد . فأجابوا إلى بيعته . فأوفد منهم عشرة . . . وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه موسى .

وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد . . . فقال معاوية لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟ قال بثلاثين ألفاً .

قال : لقد هان عليهم دينهم (٢) . فقوى عزم معاوية على البيعة ليزيد .

فكتب إلى عماله بتقريظ يزيد ، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار . فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة فتبادلوا الكلام في يزيد .

ثم قام يزيد بن المقنع العذرى فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبي فهذا ـ وأشار إلى سيفه .

فقال له معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء .

وخطب معاوية فذكر يزيد فمدحه وقال : من أحق بالخلافة منه في فضله وعقله وموضعه ! ! (٣)

__________________

١ ـ وقد علق المغيرة على ذلك فقال « لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبداً » . كل ذلك في سبيل بقائه أميراً على الكوفة .

٢ ـ وقد فات معاوية أن يتذكر انه اشترى دين المغيرة بولاية الكوفة وأنه باع دينه باغتصاب خلافة المسلمين . وجميعها أمور متشابهة من حيث الأساس .

٣ ـ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ٣ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ . ويروى ان معاوية ـ في الجلسة التاريخية الآنفة الذكر ـ سأل الأحنف بن قيس عن رأيه في يزيد : فأجابه الأحنف : يخافكم إن صدقناكم ونخاف الله إن كذبنا . وأنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره . . .


منكم (١) منكراً فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه . فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (٢) » .

أما القصص والأخبار المكذوبة فإلى القارىء طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارىء نفسه . ولنبدأ بقصة نفى العهر والزنى عن هند أم معاوية (٣) :

تحدث عتبة مع ابنته هند في أحد الأيام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زواجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زواجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلا : إنك إذا كنت زانية فإنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة . فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرماً وإنه لكاذب عليها .

فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة ؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها . فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها . فرأى ذلك أبوها .

فقال لها أبوها : إني أرى ما بك . وما ذاك إلا لمكروه عندك . فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا ؟

فقالت : يا أبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطىء ويصيب ولا آمن يسمني ميسما يكون على عاراً عند نساء مكة .

__________________

١ ـ كذا في الأصل المطبوع والصواب : من رأى منكم « الناشر » .

٢ ـ ابراهيم المالكي ، الفتوحات الوهبية ص ٢٦١ .

٣ ـ سوف نذكر قصة عهر السيدة هند في مكان آخر من هذه الدراسة كما رواها كبار المؤرخين .


ودراستنا هذه تحتوى على طائفة كبيرة من تلك الأمثلة . ويدخل ضمن تلك الأساليب تصرف آخر توضحه الحادثة الطريفة التالية أوضح تمثيل .

« دخل اياس بن معاوية الشام وهو غلام . فقدم خصما ـ إلى باب القاضي ـ في أيام عبد الملك بن مروان . فقال له القاضي أما تستحي تخاصم ـ وأنت غلام ـ شيخا كبيراً ؟

فقال الغلام : الحق أكبر منه . فقال القاضي اسكت ويحك ! ! فقال الغلام فمن ينطق بحجتي ؟ .

فقام القاضي ودخل على عبد الملك وأخبره . فقال له عبد الملك : إقض حاجته وأخرجه من الشام لكيلا يفسد علينا الناس (١) » .

« وخطب معاوية فقال له رجل كذبت . فنزل مغضبا . فدخل منزله ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء . فصعد المنبر فقال أيها الناس إن الغضب من الشيطان وأن الشيطان من النار . فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء (٢) .

وقد بدا معاوية ـ في هذا المثال ـ على جانب كبير من المرونة وضبط النفس . كما بدا الشخص الذي رماه بالكذب متثبتاً من قوله . ولو استطاع معاوية أن يثبت عكس ذلك لناقشه على الأقل أو لأمر به فنال ما يستحقه من عقاب لتطاوله على الخليفة .

وقد تجلت أيضاً براعة معاوية في الإلتواء ، وبرز دهاؤه ( في التملص من المآزق الحرجة ) في إشغاله السامعين بالتحدث عن وسائل إزالة الغضب بدلا من التحدث عن أصل المشكلة التي كان يتحدث عنها فرمى بالكذب من أجلها .

ومن أطرف ما عثرنا عليه أثناء البحث في هذا الجانب من جواب الموضوع

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ٤ / ١٣٣ .

٢ ـ ابن قتيبة ، « عيون الأخبار » ١ / ٢٩٠ .


أن يزيد ابن شجرة الرهاوي ذكر انه بينهما كان سائراً مع معاوية ومعاوية يحدثه « إذ صك وجه يزيد حجر عاثر فادماه ـ وهو منصت .

فقال له معاوية : لله أنت ! ! ما نزل بك ؟ قال وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال هذا دم وجهك يسيل .

قال : إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري . . فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين . فقال له معاوية . لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك من عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين .

فأمر له بخمسمائة ألف درهم . وزاده في عطائه ألف درهم (١) .

ولا ندري ما هو حق ابن شجرة بهذا العطاء من مال المسلمين .

هل صك الحجر وجهه أثناء الجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية ؟ أم أثناء النفاق للخليفة ؟

وأنكى من ذلك أن بن هند يعطى من بيت مال المسلمين عطاء خاصا لكماة صفين ـ الذين حاربوا عليا ـ واعتدوا على قدسية الإسلام .

ولسنا نعلم فيما إذا كان الذين حاربوا عليا ـ من أهل الشام ـ كماة أم لا . إن الذي نعلمه ـ بالتأكيد ـ أن معاوية وجنوده في ليلة الهرير قد اندحروا أمام جيوش الإمام كما تندحر جيوش الظلام أمام أشعة الشمس فلجأ معاوية إلى الدس والمرواغة ـ كما هو معروف في التحكيم ـ وفي معرض التحدث عن جنس ما ذكرنا .

يقول الجهشياري (٢) .

__________________

١ ـ الجاحظ : « التاج في أخلاق الملوك » ص ٥٥ ـ ٥٧ . وقد عبر أحدهم عن هذا النوع من العطاء بقوله :

سألناه الجزيل فما تلكا

وأعطى فوق منبتنا وزادا

وأحسن ثم أحسن ثم عدنا

وأحسن ثم عدت له فزادا

مراراً لا أعود إليه إلا

تبسم ضاحكا وثنى الوسادا

٢ ـ الوزراء والكتاب ص ٥٩ .


لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضى الأمر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة . فلما قرأ الكتاب سجد . وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فإنه لم يسجد .

فقال له هشام : لم لم تسجد ؟ فقال علام أسجد ؟ أعلى إن كنت معي فصرت في السماء ؟ قال له فإن طيرناك معنا ؟

قال : الآن طاب السجود .

وشبيه بهذا قول مالك بن هبيره لحصين بن نمير ـ على أثر تنازل معاوية بن يزيد عن « الخلافة » ـ هلم فلنبايع لهذا الغلام ـ أي خالد بن يزيد ـ « الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب (١) .

« يتضح من هذين المثالين أن مقياس الخلافة قد أصبح عند الناس في العهد الأموي خاصة ـ هو المصلحة الشخصية بأضيق معانيها . وقد حصل ذلك ـ على ما يبدو ـ كنتيجة من نتائج الحكم الأموي نفسه . ومن ثم صار سبباً من أسباب تثبيته . فهو نتيجة وسبب في آن واحد .

وقد عبر عن ذلك كله خالد بن عبد الله بن أسيد في جوابه لعبد الملك بن مروان حين عاتبه عبد الملك على قلة المال الذي أرسله إليه حينما كان والياً على العراق :

استعملتني على العراق وأهله رجلان : سامح مطيع مناصح وعدو مبغض مكاشح فأما السامع المطيع المناصح فاجزيناه ليزداد ودا إلى وده .

وأما المبغض المكاشح فأنا دارينا ضغنه وسللنا حقده . فكثرنا لك المودة في صدور رعيتك » .

روي ابن الكلبي عن أبيه عبد الرحمن بن السائب أن الحجاج قال يوماً « لعبد الله بن هانىء » ـ وهو رجل من بني أود وكان شريفاً في قومه وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته ـ والله ما كافأتك بعد .

__________________

١ ـ الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » ٧ / ٣٨ .


ثم أرسل الحجاج إلى أسماه بن خارجة ـ سيد بني فزارة ـ أن زوج عبد الله بن هانىء من ابنتك . فقال لا والله ولا كرامة . فدعا له بالسياط . فلما رأى الشر قال نعم أزوجه .

ثم بعث الحجاج إلى سعيد بن قيس الهمداني ـ رئيس اليمانية ـ زوج ابنتك من عبد الله بن هانىء من أود .

فقال : ومن أود ؟ لا والله لا أزوجه ولا كرامة . فقال على بالسيف . فقال دعني حتى أشاور أهلي . فشاورهم .

فقالوا : زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه .

فقال الحجاج لعبد الله : قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان . وما أورد هناك ! ! فقال لا تقل ـ أصلح الله الأمير ـ ذلك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب . قال وما هي ؟ قال ما سب أمير المؤمنين عبد الله بن مروان ـ في نادينا قط .

قال الحجاج : منقبة والله . قال وشهد معنا صفين مع أمير المؤمنين ـ معاوية ابن أبي سفيان ـ سبعون رجلا وما شهد منا ـ مع أبي تراب ـ إلا رجل واحد ، وكان ـ والله ما علمته امرأ سوء .

قال الحجاج : منقبة والله . قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص . ففعلن .

قال الحجاج : منقبة والله . قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة .

قال الحجاج : منقبة والله . قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة :

فضحك الحجاج وقال : أما هذه ـ يا أبا هانىء ـ فدعها (١) .

__________________

١ ـ وكان عبد الله بشع المنظر مجدوراً قبيح الوجه شديد الحول . راجع ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٧ الطبعة الأولى بمصر .


ذلك ما يتصل بالمصانعة والمداراة والملاينة التي اتبعها الأمويون لتثبيت حكمهم في بلاد الاسلام .

أما سياسة الشدة ـ وهي الجانب السلبي لما ذكرناه ـ فتظهر ـ بأبشع صورها ـ في قتل حجر بن عدي وأصحابه ، والحسين بن علي وأصحابه ، وفي قتل عمرو بن سعيد الأشدق ومصعب ابن الزبير ، وعبد الله بن الزبير ، وفي رمي الكعبة واستباحة المدينة ثلاثة أيام كما سنرى في مكان آخر من هذه الدراسة .

ـ ٢ ـ

الكذب على الله وعلى رسوله وعلى المسلمين

فقد تبنى الأمويون ـ عن طريق المصانعة والمداراة بالمال ـ طائفة من المسلمين لوثوا ضمائرهم فدسوا ـ على رسول الله ـ حديثا مكذوبا .

ولفقوا على المسلمين آنذاك طائفة من القصص والحكايات .

وأوجدوا مخارج شرعية كثيرة لموبقات الأمويين .

وقد نهى الإسلام عن الكذب في شتى صوره وبخاصة الكذب على الله ورسوله

وفي القرآن طائفة كبيرة من الآيات كلها تبدأ بهذا الشكل :

« وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا » الخ (١) .

وباستطاعة الباحث المدقق أن يهتدى ـ دون مشقة كبيرة إلى معرفة « الحديث » المفتعل المكذوب ، وتحديد زمانه وتعيين الغاية من وضعه . ويصدق الشيء نفسه على الروايات المكذوبة والأخبار الملفقة .

والهدف العام من تلك « الأحاديث » والروايات المكذوبة والأخبار الملفقة : خدمة « العرش » الأموي وتثبيت قواعد بنائه .

__________________

١ ـ راجع : سورة آل عمران ، والأنعام ، والأعراف ، وهود ، والنحل ، والكهف ، والعنكبوت ، والسجدة ، والزمر .


أما الهدف الخاص فهو ترجيح كفة بعض الأمويين على بعض آخر في حالة النزاع بين أكثر من جهة أموية واحدة تطمح إلى تسنم مركز قيادة المسلمين .

وكان الأمويون أنفسهم يفعلون ذلك أحياناً ، وكان أتباعهم يفعلونه أحياناً ثانية

وكان المأجورون من المشتغلين بأمور الدين يدسونه على الدين أحياناً ثالثة .

وإلى القارىء طائفة من ذلك سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر .

ولنبدأ بالأحاديث الملفقة أولا :

ذكر البخاري بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عمر « قال قال رسول الله إنكم سترون بعدى إثرة وأموراً تنكرونها . قالوا فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال أدوا أليهم حقهم وسلوا الله حقكم » (١) .

وروى البخاري كذلك بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عباس « قال قال رسول الله من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية (٢) .

وذكر البخاري (٣) أيضاً باسانيده المختلفة عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه « قال : سأل مسلمة بن زيد الجعفي رسول الله فقال يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا ! فما ترى ؟ فاعرض عنه . ثم سأله . فاعرض عنه . ثم سأله في الثانية أو الثالثة ـ فجذبه الأشعث بن قيس ـ وقال رسول الله : اسمعوا واطيعوا فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم . وروى البخاري أيضاً باسناده عن عجرفة قال « قال سمعت رسول الله يقول أنه ستكون هنات وهنات . فان أراد أن يفرق أمر هذه الأمة ـ وهي جمع ـ فاضربوه بالسيف كائنا ما كان (٤) » .

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٨ / ٨٧ .

٢ ـ المصدر نفسه ٨ / ٨٧ .

٣ ـ المصدر نفسه ٢ / ١١٩ .

٤ ـ صحيح البخاري ٢ / ١٢١ .


وروى البخاري كذلك باسناده عن أبي سعيد الخدري « قال : قال رسول الله إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما (١) » .

وما يجرى هذا المجرى من « الأحاديث » لا يكاد يقع تحت حصر لكثرته . وجميعه يدعو الملسمين إلى الخضوع لأوامر الحكومة القائمة مندداً بمثيري الفتن والمشتركين فيها . ويتلخص جميعه فيما يلي (٢) « ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به . »

يتضح من « الأحاديث » الآنفة الذكر أن الرسول يدعو أمته ـ والمؤمنين برسالته ـ إلى الانصياع إلى حكامهم حتى وإن خرج أولئك الحكام في تصرفاتهم على مبادىء الإسلام ـ وذلك خوفاً من التفرقة والقطيعة . فكان الرسول في تلك « الأحاديث » يدعو أمته إلى هدم رسالته للمحافظة على وحدة الصفوف على حساب الدين ـ وهو أمر على جانب كبير من الخطورة والمجازفة .

وإذا كانت وحدة الصفوف هي الهدف الأسمى للنبي ـ دون اهتمام بالمبادىء التي تحدث تلك الوحدة وفقاً لمستلزماتها ـ فلماذا هدم الرسول وحدة صفوف العرب في جاهليتهم وحطم أصنامهم ودك معتقداتهم الوثنية وهي أعز شيء لديهم ؟ !

ولو كانت تلك « الأحاديث » سليمة من الناحية التاريخية فلماذا لم يستشهد بها أحد من الصحابة عند وفاة الرسول واختلاف الاراء حول تراثه وخلافته .

ولماذا لم يستشهد بها أحد من المسلمين حين ظهور الخلاف بين بعض المسلمين حول الزكاة في عهد أبي بكر وظهور ما يطلق عليهم إسم « المرتدين » ؟ .

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ / ١٢٢ . ولسنا نعلم من هو الآخر منهما ؟ أهو الذي تدور عليه الدوائر ؟ وقديماً قيل :

الناس من يلق خيراً قائلون له

ما يشتهي ولأم المخفق الهبل

٢ ـ روى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده ٢ / ٢٨٢ بإسناده عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله :


ولماذا لم يستشهد بها المسلمون أثناء الفتنة الكبرى التي أدت إلى مصرع ثالث الخلفاء الراشدين ؟ !

ولماذا لم تتذكرها السيدة عائشة وطلحة والزبير ـ مع مكانتهم من رسول الله فيحجمون على الخروج على الإمام وشق عصا المسلمين ؟

ولماذا لم يستشهد بها أبو موسى الأشعري حينما كان يخذل أهل الكوفة عن نصرة الإمام ؟ . يضاف إلى ذلك أن تلك « الأحاديث » تتناقض هي وكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . كما أنها لا تنسجم مع الذوق الإسلامي وسيرة الرسول .

جاء في سورة البقرة « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .

وفي سورة المائدة « إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم . . »

وفي سورة المجادلة « لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ » .

وفي سورة الممتحنة « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ » .

أما الأحاديث التي تفند « الأحاديث » الآنفة الذكر فإلى القارىء طرفاً منها : ذكر مسلم ابن الحجاج (١) عن ابن مسعود بأسانيده المختلفة « أن رسول الله قال : ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدرون بأمره . ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ؛ ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن » .

وجاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال : « سمعت رسول الله يقول : من رأى

__________________

١ ـ صحيح مسلم ١ / ٣٨ ـ ٣٩ .


منهم (١) منكراً فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه . فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (٢) » .

أما القصص والأخبار المكذوبة فإلى القارىء طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارىء نفسه . ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند أم معاوية (٣) .

تحدث عتبة مع إبنته هند في أحد الأيام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زوجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زواجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلاً إنك إذا كنت زانية فأنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة . فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما وإنه لكاذب عليها .

فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة ؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها . فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها ، فرأى ذلك أبوها .

فقال لها أبوها : إني أرى ما بك . وما ذاك إلا لمكروه عندك . فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا ؟

فقالت : يا أبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطىء ويصيب ولا آمن أن يسمى ميسما يكون على عاراً عند نساء مكة .

__________________

١ ـ كذا في الأصل المطبوع والصواب : من رأى منكم « الناشر » .

٢ ـ ابراهيم المالكي ، الفتوحات الوهبية ص ٢٦١ .

٣ ـ سوف نذكر قصة عهر السيدة هند في مكان آخر من هذه الدراسة كما رواها كبار المؤرخين .


قال لها فاني سأمتحنه قبل المسألة بأمر .

ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله وشده بسير وتركه . حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم . فقال عتبة : إنا جئناك لأمر وقد خبأت لك خبيئا اختبرك به . فانظر ما هو ؟

فقال : ثمرة في كمرة .

فقال : أبين من هذا ؟ .

قال : حبة بر في إحليل مهر .

قال صدقت . أنظر الآن في أمر هذه للنسوة . فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن ويقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها وقال : أنهضي غير رقحاء ولا زانية ولتلدن ملكا يقال له معاوية » . ولا ندري كيف اهتدى ذلك الكاهن إلى حبة البر في إحليل المهر ! ! وإلى هند ـ دون سائر النساء ـ فأثبت « طهرها » وبشرها بغلام إسمه معاوية ؟

إن كل ما نستطيع أن نقوله عن هذا « الكاهن » إنه خرافي من نسيج خيال المدافعين عن هند والمعتذرين عن عهرها الذي يذكره مؤرخو المسلمين . وما يصدق على القصة الآنفة الذكر يصدق على زميلتها التي تروى « إسلام » معاوية قبل عام الفتح .

ذكر الواقدي على ما يروي ابن حجر العسقلاني (١) . « أن معاوية أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح » .

وما ينطبق على ما ذكرناه من الأخبار ينطبق على أخبار أخرى مشابهة وفي مقدمتها الاستدلال بسيماء معاوية ـ وهو في طفولته ـ على سيادته قومه بنظر أعرابي ، وعلى سيادته العرب قاطبة بنظر أمه هند . قال ابن حجر العسقلاني (٢) .

__________________

١ ـ الاصابة في تمييز الصحابة ٣ / ٤١٢ ـ ٤١٣ .

٢ ـ المصدر نفسه ٣ / ٤١٢ ـ ٤١٣ .


« أخرج البغوى من طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال كان معاوية بمنى ـ وهو غلام مع أمه ـ إذ عثر . فقالت قم لا رفعك الله . قال لها إعرابى لم تقولين هذا ؟ والله إني لأراه سيسود قومه . فقالت لا رفعة الله إن لم يسد إلا قومه (١) » .

ومن أكذب ما قرأناه ـ في معرض الإطراء على معاوية ـ ما ذكر عن أبي هريرة إنه قال سمعت رسول الله يقول « إن الله إئتمن على وحيه ثلاثة : أنا وجبرئيل ومعاوية » .

وذكر الخطيب البغدادي (٢) قولا مأثوراً فحواه أن معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله فاذا كشف الرجل الستر اجترىء على ما وراءه » .

وذكر أيضاً أنه سمع رجلا يسأل المعافى بن عمران رأيه في المفاضلة بين عمر بن عبد العزيز ، ومعاوية بن أبي سفيان . فغضب المعافى من ذلك غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب رسول الله أحد . معاوية صاحبه ، وصهره ، وكاتبه ، وأمينه على وحي الله ، وقد قال رسول الله . دعوا لي أصحابي وأصهاري فمن سهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (٣) » .

__________________

١ ـ ومن الطريف أن نذكر هنا أن تلفيق الأحاديث والقصص لخدمة الأمويين لم يقتصر على دعاتهم فقط بل تعداه إلى الأمويين أنفسهم . فقد لفق شيخهم معاوية ، كثيراً من القصص أثناء نزاعه مع علي كما سنرى وإلى القارىء نموذجاً من أكاذيبه الأخرى ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب ص ٣٤ « أن معاوية مر بسعد ـ في طريق مكة بعد صلاة الصبح ـ ومعه أهل الشام فوقف على سعد فسلم عليه . فلم يرد عليه السلام . فقال معاوية لأهل الشام أتدرون من هذا ؟ هذا سعد صاحب رسول الله لا يتكلم حتى تطلع الشمس فبلغ سعدا ذلك فقال ما كان ذلك مني والله على ما قال . ولكن كرهت أن أكلمه » .

٢ ـ تاريخ بغداد ١ / ٢٠٩ ، ٢١٠ .

٣ ـ يلوح أن دعاة معاوية قد نسوا أن هذا « الحديث » على معاوية لا له . فمعاوية هو الذي بدأ بلعن الامام علي بن أبي طالب دون مبرر شرعي وخلافا للقرآن وسيرة النبي والأخلاق الإنسانية الرفيعة . فكأن الرسول لم يلعن إلا معاوية في هذا « الحديث » حين قال « دعوا لي أصحابي واصهاري فمن سبهم فعليه لعنة الله » ! ! ويغلب على ظني أن هذا « الحديث » قد وضع بعد أن بلغ معاوية غايته من سب الإمام وأصبحت ظروفه السياسة بحاجة إلى أسلوب آخر غير السب .


وعندما أراد معاوية أن يمهد الأمر ـ من بعده ـ لإبنه يزيد لفق دعاة السوء جملة قضايا لتغطية فسقه وفجوره . نذكر منها ما يلي :

ذكر محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي ، على ما يروى ابن الأثير (١) . « أن معاوية ـ ومعه إمرأته إبنة قرظة ـ نظر إلى يزيد وأمه ترجله . فلما فرغت منه قبلته بين عينيه . فقالت إبنة قرظة لعن الله ساقي أمك .

فقال معاوية : أما والله لما تفرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك .

وكان لمعاوية من إبنة قرظة ـ عبد الله وكان أحمق . فقالت : لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه . فقال لها سوف أبين لك ذلك . فأمر فدعى له عبد الله . فلما حضر .

قال أي بنى : إني أردت أن أعطيك ما أنت أهله ، ولست بسائل شيئاً إلا أجبتك إليه . فقال : حاجتي أن تشتري لي كلباً فارها وحماراً .

فقال أي بنى : أنت حمار وأشترى لك حماراً ! ! أخرج . ثم أحضر يزيد وقال له مثل قوله لأخيه . فخر ساجداً . ثم قال ـ حين رفع رأسه :

الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه هذا الرأي . حاجتي أن تعتقني من النار لأن من ولي أمر الأمة ثلاثة أيام اعتقه الله من النار .

فتعقد لي ولاية العهد بعدك ، وتوليني العام الصائفة .

وتأذن لي في الحج إذا رجعت ، وتوليني الموسم .

وتزيد لأهل الشام كل رجل عشرة دنانير .

فقال معاوية : قد فعلت . وقبل وجهه وقال لامرأته ـ بنت قرظة ـ كيف رأيت ؟ » .

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ / ٣١٧ .


والطريف في القصة الآنفة الذكر ـ عدا تلفيق القول بأن من ولي أمر هذه الأمة ثلاثة أيام أعتقه الله من النار .

أن محتويات تلك القصة قد أسندت إلى يزيد ابن معاوية ـ قبيل وفاة أبيه ـ وذلك لتحبيبه لأهل الشام تمهيداً لتوليته العرش الأموي بعد وفاة أبيه .

ويؤيد ما ذهبنا إليه أن يزيد طلب من أبيه زيادة عطاء أهل الشام ـ دون غيرهم من المسلمين ، بالاضافة إلى ما كانوا يتمتعون به أثناء حياة أبيه وبخاصة في فترة النزاع مع ابن أبي طالب ليحصل على مؤازرتهم في ترشيحه للخلافة .

ومما يلفت النظر في هذه القصة أن ما ذكر في آخرها يهدم ما ذكر في أولها . فقد نسي واضع القصة أن « يزيد » الذي خر ساجداً بين يدي أبيه وطلب ولاية العهد ليعتقه الله ـ حسب زعمه ـ من النار إلخ . . . هو :

يزيد بن معاوية الذي كانت أمه ترجله ـ وعمره ـ في هذه الحال لا يتجاوز السنتين على أحسن الفروض . أي أن واضع القصة نسي أن يزيد بن معاوية هو غير عيسى بن مريم الذي كلم الناس في المهد صبياً . ففي القصة إذن يزيدان :

يزيد بن معاوية الذي ترجله أمه ـ والذي عرفه المسلمون بالفسق ، والفجور بعد ذلك و « يزيد » آخر لفق وجوده دعاة السوء ـ قبيل وفاة أبيه أثناء التمهيد لتوليته أمور المسلمين .

ومن الجدير بالذكر أن « يزيد » الوهمي يظهر لنا أحياناً بعد وفاة أبيه كلما آنس أنصار الأمويين في ظهوره خدمة للعرش الأموي .

وليزيد الآنف الذكر أخبار مسطورة في بعض كتب الأدب والتاريخ ، وله سيرة تناقض سيرة يزيد بن معاوية الذي يعرفه المسلمون . وليزيد الوهمي كذلك خطب تناقض ما هو مأثور عنه .


من ذلك مثلا أن : « يزيد » الوهمي خطب مرة ـ على ما يذكر ابن عبد ربه ( العقد الفريد : ٢ / ٢٦٥ ) .

فقال : الحمد لله . أحمده واستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له . ومن يضل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، اصطفاه لوحيه واختاره لرسالته بكتاب فصله وفضله ، وأعزه وأكرمه ونصره وحفظه . ضرب فيه الأمثال وحلل فيه الحلال وحرم فيه الحرام ، وشرع فيه الدين إعذاراً أو إنذاراً لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول ، ويكون بلاغاً لقوم عابدين . أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور يعلمه وإليه معادها وانقطاع مدتها وتصرم دارها .

ثم إني أحذركم الدنيا فأنها حلوة خفرة حفت بالشهوات . . . » .

يا للعجب ! ! يزيد بن معاوية ـ لا يزيد الوهمي ـ يحث الناس على الورع ويزهدهم في الدنيا ! ! إن الذي لا يرقى إليه الشك بنظرنا هو أن الانسان لو عرض ـ الكلمة المأثورة المارة الذكر مجردة عن توقيع صاحبها ـ على المسلمين في كل مكان لما ترددوا في نسبتها للإمام علي أو الذين يسيرون على نهجه من المسلمين .

ولعل اسم يزيد آخر اسم يرد على الذهن في هذا المضمار .

ومن الأخبار الموضوعة ـ في العهد الأموي « حين اختلف الأمويين وانصارهم على « الخليفة » بعد اعتزال معاوية بن يزيد بن معاوية الملك » رؤيا الحصين بن نمير السكوني ، وما اتصل بها من حوادث .

قال الحصين ـ على ما يذكر الطبري (١) : إني رأيت في المنام قنديلا معلقاً في السماء ، وإن من يمد عنقه إلى الخلافة تناوله . فلم ينله أحد . وتناوله مروان بن الحكم فناله . والله لنستخلفنه . . . فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي وقال :

__________________

١ ـ تاريخ الأمم والملوك ٧ / ٣٨ .


أيها الناس تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو رجل ضعيف وليس بصاحب أمة محمد الضعيف .

وأما ما يذكر الناس عن عبد الله بن الزبير فانه منافق شق عصا المسلمين . وليس بصاحب محمد المنافق .

وأما مروان فوالله ما كان في الاسلام صدع قط إلا وكان مروان ممن يشعب ذلك الصدع . . وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل » .

إن هذه القصة تحمل في ثناياها جملة أمور تستوقف الباحثين . فقد لفق موضوع القنديل المعلق في السماء للتعبير عن أمر الخلافة منوط بالله وأن خليفة المسلمين هو نور الله في الأرض ليربط هذا الأمر ـ بعد ذلك ـ بمروان بن الحكم إيهاما للبسطاء والسذج من المسلمين .

وقد اتهم منافسو مروان بتهم شتى من شأنها ـ بنظر واضع القصة ـ أن تبعدهم عن تسنم خلافة المسلمين . فعبد الله بن عمر ضعيف ـ وليس بصاحب أمة محمد الضعيف ـ في حين أن عثمان بن عفان كان ، بنظر الأمويين أنفسهم (١) ، ضعيفاً .

ووصف واضع القصة عبد الله بن الزبير بالنفاق وأنه شق عصا المسلمين ، وليس بصاحب أمة محمد المنافق ـ في حين أن زبير ( أبا عبد الله ) وطلحة ومعاوية وآخرين كثيرين قد شقوا عصا المسلمين بخروجهم على الامام علي بن أبي طالب .

أما مروان بن الحكم فلم يكن « برأي واضع القصة » في الاسلام صدع قط

__________________

١ ـ خطب عبد الملك بن مروان يوماً فقال : « لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد » ابن الاثير : الكامل في التاريخ ٤ / ٤١ .


إلا كان مروان ممن يشعبه . في حين أن سيرته ـ وسيرة أبيه التي ذكرنا طرفا منها في فصل سابق .

قد دلت على نقيض ذلك . ومواقفه من الرسول معروفة ، وسيرته في تأليب الناس على عثمان بن عفان أشهر من أن تذكر .

ولا ندري كيف جاز لواضع القصة أن يزعم مع اعترافه بحرب مروان لعلي بن أبي طالب ـ وشقه عصا المسلمين ـ بأن مروان ممن يشعب الصدع في الاسلام عند حدوثه ! !

ويتعلق بما ذكرناه ( من القصص الملفقة لخدمة الأمويين ) ما رواه ابن الأثير (١) عن أبي زياد أنه قال : كان فقهاء المدينة أربعة : سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وقبيصة بن ذئيب وعبد الملك بن مروان .

وقال الشعبي : ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان فأني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه » .

ويلوح للباحث أن هذا النوع من الكذب كان يظهر أحياناً على لسان الحكام الأمويين . فكان عبد الملك بن مروان مثلا يقول ـ عندما حضرته الوفاة عام ٨٦ هـ .

( أخاف الموت في شهر رمضان . فيه ولدت ، وفيه فطمت ، وفيه جمعت القرآن ، وفيه بايع لي الناس ) .

ولا ندري : كيف استطاع عبد الملك أن يعرف أنه فطم في شهر رمضان ؟ ! وعمره آنذاك لا يتجاوز السنتين . . على أنه ليس من العسير على الباحث ، مع هذا أن يتلمس دوافع الوضع والكذب في أمثال تلك الأمور ؟

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ / ١٠٤ أما أرجوزة ابن عبد ربه في وصف سيرة عبد الرحمن الناصر فأشهر من أن تذكر . فقد أغفل اسم علي بن أبي طالب من سلسلة الخلفاء الراشدين واعتبر معاوية رابعهم ثم وصل الدولتين الأمويتين ـ في الشام والأندلس ـ ببعضهما كما هو معروف .


فقد حدثت ولادة حفيد الحكم بن أبي العاص ـ طريد رسول الله ـ في شهر رمضان كما حصل ـ في ذلك الشهر ـ فطامه وجمعه القرآن ، ومبايعة الناس إياه بالخلافة لكي ترتفع قيمته بنظر المسلمين لما لشهر رمضان من حرمة في نفوسهم .

أما قضية جمع عبد الملك القرآن فنترك التعليق عليها للقارىء لأننا نعلم أن جمع القرآن قد تم في عهد ابن عفان بعد أن أحرقت جميع الصحائف الأخرى .

فهناك إذن ( عبد الملك ) آخر غير عبد الملك بن مروان . ( عبد الملك ) الذي لم يكتف بجمع القرآن فقط بل زاد على ذلك أنه جمعه في رمضان ـ وربما كان صائماً ـ على عادة الأمويين . . !

ولم يقتصر الكذب الأموي على الأمويين أنفسهم بل تعداهم إلى إخوانهم في الصراع ضد مبادىء الإسلام . فقد انتشرت قصص كثيرة عن عمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، والحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلتهم من ولاة السوء ، لرفع شأنهم بنظر البسطاء من الناس . قال ابن حجر العسقلاني (١) :

« ذكر الزبير بن بكار أن رجلا قال لعمرو بن العاص ما أبطاك عن الاسلام وأنت أنت في عقلك . . قال : إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم . . . فلما بعث رسول الله فأنكروا عليه لذنبهم . فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فاذا حق بين . فوقع في قلبي الاسلام . . .

وقال ابراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر : صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآنا ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه .

وفى صحيح مسلم من رواية عبد الرحمن بن شماسة قال : لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى . فقال له عبد الله بن عمرو ـ ابنه ـ ما يبكيك ؟ فذكر أنه كان شديد الحياء من رسول الله لا يرفع طرفه إليه . . .

__________________

١ ـ الإصابة في تمييز الصحابة : ٣ / ٢ ـ ٣ .


عمرو بن العاص بن وائل السهمي المستهزىء برسول الله الذي نزل فيه أن شانئك هو الأبتر ) .

عمرو الذي حارب رسول الله يوم أحد وقاوم أصحابه عند النجاشي .

عمرو بن العاص الذي غدر بأبي موسى أثناء التحكيم « كان شديد الحياء من رسول الله » وأبين المسلمين قرآنا ، وسريرته لا تختلف عن علانيته ! ! ! إنه « عمرو الوهمي » عمرو آخر دون شك (١) .

ذلك ما يتصل بعمرو الوهمي .

أما « الحجاج » الوهمي فيظهر في الخطب الموضوعة التالية : « اردعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شيء إذا أعطيت وأعطي شيء إذا سئلت . فرحم الله أمراً جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله ، وعطفها بزمامها عن معصية الله فانني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله (٢) .

حقاً إنه لحجاج غريب ! ! إنه أقرب إلى روح الحسن البصري ومن هم على شاكلته من الزهاد منه الى الحجاج بن يوسف والجلاد السفاك . استمع إلى هذا « الحجاج » يقول :

« إن امرءاً أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر ربه من ذنبه ويفكر في ميعاده لجدير أن يطول حزنه ويتضاعف أسفه . إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء (٣) .

__________________

١ ـ أما كذب عمرو بن العاص نفسه فيتضح بأوضح أشكاله في المثال التالي : ذكر الواقدي في مغازي رسول الله ص ١٩ أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام « أن راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر إنفروا إلى مصارعكم . . . فاجتمع الناس . . ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فصرخ بمثلها ثلاثا . ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس . ثم صرخ بمثلها ثلاثا . ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهدى حتى اذا كانت بأسفل الجبل انفلقت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دور مكة إلا دخلته منها فلقة . فكان عمرو بن العاص يقول لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس . »

٢ ـ ابن أبي الحديد . شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٠ .

٣ ـ المصدر نفسه المجلد الأول ص ١٥٠ .


وقد نقلت من أمالي أبي أحمد العسكري « خطب » كثيرة لصاحبنا « الحجاج » هذا نموذج منها :

أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ . رب دائب مطيع ، وساع لغيره .

خذوا من أنفسكم لأنفسكم ومن غناكم لفقركم ، ومما في أيديكم لما بين أيديكم .

الموت في أعناقكم والنار بين أيديكم والجنة أمامكم . فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن ، وكأن الأموات لم يكونوا .

وكل ما ترونه فهو ذاهب . هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك .

هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة . ثم طلعت الشمس على قبورهم .

اين الملوك الأولون ؟ اين الجبابرة المتكبرون ؟ المحاسب الله والصراط منصوب وجهنم تزفر وتتوقد ، وأهل الجنة ينعمون في روضة يحبرون .

جعلنا الله وإياكم من الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميانا (١) .

ومن الغريب أن ينتقل الكذب من الأحياء إلى الأموات . وأطرف ما عثرنا عليه في هذا الباب ما رواه ابن عبد ربه (٢) عن صديقنا « الحجاج الآنف الذكر حين قال :

« سمع صياح الحجاج في قبره فأتوا إلى يزيد بن أبي مسلم فأخبروه فركب في أهل الشام فوقف على قبره فسمع فقال :

يرحمك الله يا أبا محمد ! ! فما تدع قراءة القرآن حياً وميتاً » .

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٠ .

٢ ـ العقد الفريد : ٣ / ٢٥٧ .


وهناك نوع آخر من الكذب برع فيه الأمويون . بدأه شيخهم معاوية وبلغ الذروة في أحكامه ونسجه ولا يختلف هذا النوع من الكذب عن الكذب المنظم الذي تقوم به أجهزة الدعاية الحديثة في كثير من الأقطار .

وليس من غير الممكن أن يتصدى الباحث ـ الذي له متسع من الوقت والولع والجهد ـ لدراسة مقارنة بين أساليب الدعاية عند هتلر وزميله ابن أبي سفيان .

وبقدر ما يتعلق الأمر بأساليب الدعاية التي تبناها معاوية ـ وتقع ضمن هذا الباب التي كانت تهدف إلى تثبيت قواعد حكمه يمكننا أن نقدم للقارى الامثلة التالية :

ذكر ابراهيم بن سعد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات (١) أن معاوية كتب لقيس أن يدعوا أهل مصر للمطالبة بدم عثمان وأن يبايعوا لمعاوية ثم قال :

« ولك سلطان العراقين إن ظفرنا ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان . وسلني عن غير هذا مما تحب ، فإنك لا تسألني شيئاً إلا اتيته ، فأراد قيس أن يخادعه فكتب له يماطله . فأجابه معاوية :

أما بعد : فلم أرك تدنو فأعدك سلما ، ولم أرك تتباعد فأعدك حربا . أراك كحبل الجزور . وليس مثلي يصانع بالخداع ، ولا يخدع بالمكايد . . .

فلما قرأ سعد ذلك كتب له .

أما بعد : فالعجب من استسقاطك رأيي ، والطمع في أن تسومني ـ لا أباً لغيرك ـ الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر واقولهم بالحق واهداهم سبيلا ، واقربهم من طاعة أولى الناس بالأمر وأقولهم بالحق اهداهم سبيلا ، وأقرابهم من رسول الله وتأمرني بالدخول في طاعتك : طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبيلا ، وأبعدهم عن رسول الله . » فيئس معاوية منه . « فأظهر للناس أن قيسا قد بايعكم فادعوا له .

__________________

١ ـ حققه البحاثة السيد الأستاذ السيد جلال المحدث الأرموي هذا الكتاب ، وطبع في طهران وأعيد طبعه في الأوفست للمرة الثانية « الناشر » .


وقرأ لهم كتابه الذي لان فيه وقاربه .

واختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام للامير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد .

أما بعد : إن قتل عثمان كان حدثا في الاسلام عظيما . وقد نظرت لنفسي وديني فلم أر بوسعى مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا نقيا . فنستغفر الله لذنوبنا . إلا وأني قد القيت لكم بالسلام واحببت إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم . فاطلب مني ما أحببت من الاموال والرجال أعجله إليك » .

وقال ابراهيم بن (١) سعد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » « حدثني عبد الله بن علي بن محمد بن أبي سيف عن أصحابه أن عليا كتب إلى محمد بن أبي بكر كتابا ينظر فيه ويتأدب بأدبه ـ عندما كان واليا على مصر ـ . فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله أخذ كتبه فبعث بها إلى معاوية . . . فقال معاوية لخاصته أنا لا نقول أن هذا من كتب علي بن أبي طالب . ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عند ابنه » .

وروى (٢) إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » عن محمد ابن عبد الله بن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني .

« أن معاوية أقبل يقول لاهل الشام :

أيها الناس أن عليا وجه الاشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكوه . . ودس إليه من يسقيه السم . « فكانوا يدعون عليه في كل صلاة . وأقبل الذي سقاه السم إلى معاوية فأخبره بهلاك الاشتر . فقام معاوية في الناس خطيباً فقال :

__________________

١ ـ بين معاوية ومحمد بن أبي بكر والي الامام علي مصر . راجع « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد ٢ / ٢٨ .

٢ ـ بين معاوية والاشتر أثناء مسيره إلى مصر واليا من قبل الامام . راجع ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩ . الطبعة الأولى .


أما بعد فإنه كان لعلي يدان يمينان . فقطعت إحداهما يوم صفين ـ وهو عمار ابن ياسر ـ والاخرى اليوم ـ وهو مالك الاشتر » .

ثم أخبرهم بأن هلاك الأشتر نتج عن دعائهم ربهم عليه في صلاتهم لانهم حزب الله « حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ » وهمس في أذن عمرو بأن لله جنوداً من عسل .

وكتب معاوية (١) إلى شرحبيل بن السمط الكندي ـ وهو عدو لجرير بن عبد الله البجلي الذي أرسله على طالبا البيعة له من معاوية ـ أما بعد « فإن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر . فأقدم علينا . ودعا معاوية يزيد بن أسد وبسر بن أبي ارطاة وعمرو بن سفيان ومخارق بن الحرث الزبيدي وحمزة بن مالك وحابس بن سعد الطائي ، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن .

وكانوا ثقات عند معاوية ، وهم بنو عم شرحبيل بن السمط . فأمرهم أن يلقوه ويخبروه كل على حدة أن عليا هو الذي قتل عثمان .

فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه ويعظموه . فلما دخل على معاوية تكلم معاوية فقال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان . وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .

فقال شرحبيل : أخرج فانظر . فلقيه هؤلاء النفر الموطئون . فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان . فرجع مغضبا إلى معاوية ، فقال يا معاوية : أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان . والله إن بايعت لنخرجنك من شامنا ولنقتلنك .

فقال معاوية : ما كنت لأخالف عليكم . ما أنا إلا رجل من أهل الشام .

وروى ابراهيم بن محمد بن سعد بن هلال الثقفي في « كتاب الغارات » (٢) قال

__________________

١ ـ بين معاوية وشرحبيل بن السمط راجع المصدر السابق المجلد الأول ص ١٣٩ ـ ١٤٠ .

٢ ـ من أساليبه في تهيئة أتباعه للحرب .


كانت غارة الضحاك بن قيس ـ بعد الحكمين وقبل النهروان .

وكتب معاوية لهم نسخة واحدة . فقرئت على الناس : أما بعد فإنا كتبنا كتاباً بيننا وبين علي . وشرطنا شروطا وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا بعدوانه . وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم : وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني وأن حكمه خلعه .

وقد أقبل علينا علي ظالما . ومن نكث فإنما ينكث على نفسه . تجهزوا للحرب بأحسن جهاز . وأعدوا آلة القتال . وأقبلوا خفافاً وثقالا . يسرنا الله وإياكم لصالح الأعمال .

وخطب معاوية في أهل الشام فقال مندداً بخصمه علي . « يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه » وذلك عندما فارق عقيل أخاه والتحق بمعاوية في قصته المعروفة .

يا أهل الشام « إن أبا لهب ـ المذموم في القرآن باسمه ـ هو عم علي بن أبي طالب فارتاع أهل الشام وشتموا عليا ولعنوه (١) » .

وروى ابراهيم (٢) بن محمد بن سعد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » أن النعمان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على علي بن أبي طالب من عند معاوية ـ بعد أبي مسلم الخولاني ـ يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تنطفاً ويصطلح الناس .

وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة ـ من عند علي ـ إلى الناس وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون .

فقال لهما ائتياه فانشداه الله وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم ومنعهم . ثم لا حرب بيننا وبينه . فإن أبى فكونوا شهداء عليه .

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١ / ١٧٢ .

٢ ـ من أساليبه في إضعاف حجة خصمه ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢١٣ .


وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك .

وخطب (١) معاوية في أهل الشام ـ عندما قدم عليه جرير بن عبد الله البجلي طالباً البيعة منه للإمام .

ثم قال : الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام وأركانا والشرائع للإيمان برهانا . يتوقد قبسه في الأرض المقدسة جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده فأحلهم أرض الشام ورضيهم لها لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره والذابين عن دينه وحرماته . ثم جعله لهذه الأمة نظاماً في سبيل الخيرات إعلاما يردع الله بهم الناكثين ويجمع بهم ألفة المؤمنين .

أعلى أقوام يوقظون نائمنا ويخيفون آمننا ، ويريدون إراقة دمائنا وإخافة سبلنا . وقد علم الله أنا لا نريد لهم عقاباً ولا نهتك لهم حجابا . جعلهم على ذلك البغي والحسد فنستعين الله عليهم .

أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم . وإني لم أقم رجلا على خزاية قط . وإني ولي عثمان وقد قتل مظلوماً والله تعالى يقول :

« ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان .

فقام أهل الشام فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوا معاوية على ذلك .

وروى نصر بن مزاحم « في كتاب صفين (٢) ، عن صالح بن صدقة عن ابن اسحق عن خالد الخزاعي أن عثمان لما قتل وأتى معاوية بكتاب علي يعزله عن الشام صعد المنبر .

__________________

١ ـ من أساليبه في استمالة أهل الشام : المصدر السابق ١ / ٢٤٨ ـ ٢٥١ .

٢ ـ من أساليبه في استمالة أهل الشام « شرح نهج البلاغة » ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ .


فقال لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله مني . ولكنى شهدت رسول الله نصف النهار في يوم شديد الحر وهو يقول لتكونن فتنة حاضرة ، فمر رجل مقنع . فقال رسول الله وهذا يومئذ على الهدى . فقمت فأخذت بمنكبيه وحسرت على رأسه فإذا عثمان فاقبلت بوجهه على رسول الله . وقلت : هذا يا رسول الله ؟ قال نعم . فأطبق أهل الشام مع معاوية حينئذ بايعوه على الطلب بدم عثمان .

وذكر الواقدي (١) أن معاوية خاطب أهل الشام ـ أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن ـ فقال : « أيها الناس إن رسول الله قال : إنك ستلي الخلافة من بعدي . فاختر الأرض المقدسة . وقد اخترتكم . فالعنوا أبا تراب . فلعنوه .

فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم . وفيه : هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً ، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراً وكاتباً أميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه . هو لا يعلم ما أكتب . فلم يكن بيني وبين أحد من خلقه .

فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين (٢) .

وذكر الطبري أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية أنزلت في علي :

« وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ » .

__________________

١ ـ من أساليبه في استمالة أهل الشام والتنديد بخصومه شرح نهج البلاغة ١ / ٣٦١ .

٢ ـ لقد كذب معاوية على الرسول في هذا الكتاب كذبة بشعة . فلقد كان يكتب للرسول بعض رسائله للعرب . ولم يحصل ذلك إلا بعد فتح مكة حين التمس أبوه من النبي أن يشمله بعطفه لينسى الناس مناوءته للنبي . أما كاتب الوحي فهو زيد بن ثابت .


وإن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله :

ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله فلم يقبل . فبذل له مئتي ألف درهم فلم يقبل . فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك (١) . وقد حارب معاوية علي بمئة ألف لا يفرقون ـ على حد قوله ـ بين الناقة والجمل . وبلغت طاعتهم إياه حداً يفوق الوصف . فقد صلى بهم ـ عند مسيرهم إلى صفين ـ الجمعة يوم الأربعاء .

وعندما خرج عبد الله بن علي ( في طلب بني مروان ) إلى الشام ـ وقد ببعضهم إلى السفاح حلف هؤلاء للسفاح أنهم ما علموا لرسول قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية . كل ذلك بفضل إتقان معاوية لفن الدعاية على أساس السير على أساس الكذب المنظم .

وفي معرض التحدث عن براعة معاوية في الإنتفاع بهذا الفن في شجب خصومه يذكر أحد (٢) الرواة « أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي . . . منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير .

وروى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي . فقال النبي يا عائشة هذان يموتان على غير قبلتي .

وزعم عروة كذلك أن عائشة حدثته فقالت كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلي . فقال الرسول يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا . فإذا العباس وعلي بن أبي طالب » .

« وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء القاء الشبهة بين خصومه في زمن كانت فيه هذه الشبهات من أيسر الأمور . كان إذا أراد أن يستميل أحد البطارقة من دولة الروم ـ فاستعصى عليه ـ كتب له رسالة مودة وثناء وأنفذها مع رسول

__________________

١ ـ المصدر نفسه ص ٣٦١ .

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٨ .


يحمل إليه الهدايا والرشى كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة الروم . ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس . فإذا اعتقله الروم ـ ولا بد أن يعتقلوه لأنه يتعرض للإعتقال ويسعى إليه ـ وقعت الشبهة على البطريق المقصود وتعذر الإطمئنان إليه من قومه بعد ذلك وعزلوه وأبعدوه إن لم ينكلوا به أشد النكال (١) .

وحيلة أخرى لجأ إليها معاوية للإيقاع بخصومه هي تدبير مؤامرة اغتيال من يرى اغتياله وسيلة ناجحة في القضاء عليه . فعل ذلك مع الأشتر والحسن بن علي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد .

هذا عدا عن ضربه خصومه ببعضهم فىستغنى ـ على ما يقول العقاد ـ بالوقيعة بينهم عن الإيقاع بهم .

ولكن معاوية ـ مع مداهنته وخبثه ـ لم يتردد ، إذا استلزمت مصالحه ذلك من الإيقاع بخصومه والتنكيل بهم بشكل من القسوة والغلظة قل أن يجدها المرء إلا في الأمويين .

وحوادث بسر بن أبي أرطأة ، والضحاك بن قيس الفهري ، وسفيان بن عوف الغامدي في الإعتداء على أرواح المسلمين بعد صفين ـ مشهورة لدى الكثيرين .

وإلى القارىء طرفا منها .

ذكر ابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في « كتاب الغارات » عن ابن الكنود « قال : حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة . فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها فإن وجدت بها جندا فاغر عليهم ، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار . فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تصل المدائن .

__________________

١ ـ العقاد : معاوية بن أبي سفيان ص ٧٠ ـ ٧٢ . وقد فعل مثل ذلك مع قيس بن سعد بن عبادة وجرير بن عبد الله البجلي حتى أوقع الريبة منهما في نفس الإمام والمقربين إليه وبخاصة الأشتر .


وأعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة . هذه الغارات ـ يا سفيان ـ على العراق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له هوى فينا منهم وتدعو إلينا من خاف الدوائر . فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك . وأضرب كل من مررت به من القرى . وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل : وهو أوجع للقلب (١) .

وروى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » أن معاوية استدعى الضحاك بن قيس الفهري وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت . فمن وجدته من الأعراب في طاعة على فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو ضلا فأغر عليها . وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى . . .

فأقبل الضحاك فنهب الأموال ، وقتل من لقى من الأعراب ، حتى مر بالثعلبية . فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم . ثم أقبل فلقى عمرو بن قيس بن مسعود الذهلي ـ وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ـ فقتله في طريق الحاج وقتل معه ناساً من الصحابة » (٢) .

واستدعى معاوية بسر بن أبي أرطاة « وكان بسر قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة . فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهى إلى اليمن . وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم وإنك محيط بهم . ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة . فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا . . .

فدخل بسر المدينة ـ وعامل علي عليها أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله ـ فخرج أبو أيوب عنها هارباً . ودخل المدينة فخب في الناس وشتمهم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٤ .

٢ ـ المصدر نفسه ١ / ١٥٤ .


وتهددهم وقال : شاهت الوجوه . . . ثم شتم الأنصار فقال : يا معشر اليهود وأبناء العبيد . . . أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفى غليل صدور المؤمنين . . . فنزل فأحرق دوراً كثيرة . . ثم خرج بسر إلى مكة . فلما قرب منها هرب قثم ابن العباس ـ وكان عامل علي ـ فدخلها بسر فشتم أهلها وأنبهم . . .

وقد روى عوانة عن الكلبي أن بسراً ـ لما خرج من المدينة إلى مكة ـ قتل في طريقه رجلا وأخذ مالا . وبلغ أهل مكة فخافوه وهربوا . فخرج إبنا عبيد الله بن عباس فذبحهما بسر ، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان ! ! ! والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ، ولا إسلام . . .

وخرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وإبنه مالكا . وكان عبد الله هذا صهراً لعبيد الله بن العباس . ثم جمع أهل نجران وقال :

يا معشر النصارى وإخوان القرود . أما والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل وتهلك الحرث وتخرب الديار . . . وأتى صنعاء . . . فدخلها وقتل منها قوماً .

وأتاه وفد مأرب فقتلهم . ثم خرج بسر من صنعاء فقتل الناس قتلا ذريعاً . ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مئة شيخ من أبناء فارس (١) » .

وروى أبو الحسن بن أبي سيف المدائني في « كتاب الأحداث (٢) » قال : « كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله ـ بعد عام الجماعة ـ أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته . فقامت الخطباء في كل كورة ـ وعلى كل منبر ـ يلعنون علياً ويبرؤن منه .

وكتب معاوية إلى عماله ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة .

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ١١٧ ـ ١٢٠ .

٢ ـ من أساليبه في تثبيت مركزه ومقاومة خصومه . المصدر السابق ٣ / ١٥ ـ ١٦ .


وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروى كل رجل منهم اسمه واسم أبيه وعشيرته .

ثم كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية . فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة الخلفاء الأولين . ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوا بمناقض له في الصحابة .

فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها . وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر .

وألقى إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع . حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن . . .

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فأمحوه من الديوان واسقطوا عطائه ورزقه . وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به ، واهدموا داره . . . فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر .

ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة . وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤن والمستضعفون الذي يظهرون الخضوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل .

ثم انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين والذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوه . . . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن . . . ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين » .

تلك جوانب من أخلاق معاوية ذكرها المؤرخون المسلمون .


أما ما خفي عنا مما ذكره المؤرخون الآخرون فأكثر من ذلك .

وأما ما خفي على المؤرخون ـ من أخلاق معاوية ـ فأكثر من ذلك بكثير . وقد ظهر معاوية في الأمثلة التي ذكرناها بأبشع ما يظهر به الإنسان من الكذب ومن الانتهازية السياسية . وإلى الخطوط العامة للأوضاع التي ذكرناها ، يشير العقاد بقوله (١) :

« كل شيء في الحياة الإنسانية هين إذا هان الخلل في موازين الانسانية . وإنها لأهون من ذلك إذا جاوز الأمر الخلل إلى إنعكاس الأحكام وإنقلابها من النقيض إلى النقيض . . . فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الحقيقة أو على الفضيلة لأنه يرجع إلى طبيعته فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة والحقائق الصريحة . . وإنه ليعترف بالرذيلة إذا استطاع أن يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة .

وإذا لم يرجح من أخبار تلك الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن على المنابر بأمر من معاوية لكان فيه الكفاية لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان » .

وهناك جوانب أخرى تتجلى فيها السياسة الوصولية التي سار معاوية طبقا لمتطلباتها . فلم يكتف « أمير المؤمنين » و « خليفة » رسول الله بضرب المسلمين ببعضهم بشتى الوسائل ، ومختلف المؤامرات للمحافظة على سلطانه بل حالف البيزنطيين ـ أعداء المسلمين والإسلام ـ على حساب المصلحة الإسلامية العليا . فقد عقد معاوية مع أمراء البيزنطيين سلسلة من المعاهدات الرامية إلى تثبيت قواعد ملكه على حساب الإسلام والمسلمين .

ولعل أبشع تلك المعاهدات ـ غير المتكافئة ـ تلك التي عقدها معاوية ـ بمحض اختياره ـ مع الأمير البيزنطي كونستان الثاني في عام ٣٩ هـ . فدفع معاوية ـ وفقاً لمستلزمات هذه المعاهدة ـ الجزية للأمير البيزنطي المذكور .

__________________

١ ـ معاوية بن أبي سفيان ص ١١ و ١٦ .


كل ذلك نكاية برابع الخلفاء الراشدين عندما أعلن معاوية العصيان عليه والتمرد على القرآن ونسة النبي (١) .

لقد مر بنا الحديث عن وجهين من وجوه الكذب المنظم الذي استعمل لتثبيت حكم الأمويين ونود أن نذكر ـ في الفقرات القابلة ـ وجهاً ثالثاً من تلك الوجوه ؟ وإذا كان الوجهان السالفا الذكر قد استندا ـ بالدرجة الأولى ـ إلى جهود معاوية ( يعاونه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ) فإن الوجه الجديد ـ الذي سنذكره ـ قد استند إلى جهود أبي هريرة دون سائر الناس .

وإذا كان من المستطاع ـ كما ذكرنا ـ أن يقوم الباحث بدراسة مقارنة لهتلر وابن أبي سفيان ـ فيما يتصل ببراعة كل منهما في الدعاية لنفسه وإضعاف حجة خصمه ـ فإنه من الممكن كذلك أن يقوم الباحث بدراسة مقارنة بغوبلز ـ وزير الدعاية في العهد النازي ـ وزميله أبي هريرة (٢) « وزير » بن أبي سفيان .

وبقدر ما يتعلق الأمر بأبي هريرة يمكننا أن نقول : أنه أتقن فن الدعاية للأمويين اتقانا منقطع النظير ، وخدمهم خدمة جليلة في تثبيت ركائز حكمهم في بلاد المسلمين . وقد أظهر أبو هريرة ( للمسلمين في زمانه ) بأنه أكثر الرواة صلة بالرسول . فأسرف في الرواية عنه من الناحيتين الكمية والنوعية . فقد روى ـ من الناحية الكمية ـ أكثر مما روى غيره من المحدثين (٣) .

أما من الناحية النوعية فكان أبو هريرة يقول تارة : « سمعت من حبيبي رسول الله » وأخرى « أوصاني خليلي محمد » وثالثة : « حدثني الصادق الصدوق » إلخ

__________________

١ ـ وقد سار عبد الملك بن مروان على منواله عندما عقد معاهدة غير متكافئة مع الأمير البيزنطي جوستنيان الثاني عام ٧٠ هـ فدفع الجزية صاغراً للبيزنطيين وتنازل لهم عن قبرص وأرمينية ـ كل ذلك نكاية بالأشدق وابن الزبير ـ كما سنرى ـ .

٢ ـ أنظر شيخ المغيرة أبو هريرة للعلامة المحقق الشيخ محمود أبو رية نشرت الطبعة الثالثة منه دار المعارف بمصر عام ١٩٦٩ م . « الناشر »

٣ ـ وقد أفرد الإمام أحمد بن حنبل في مسنده القسم الأكبر من الجزء الثاني ص ٢٢٨ ـ ٥٤١ هـ لحديث أبي هريرة .


ولقد أدى إسرافه في الرواية عن النبي إلى تسرب الشك للمسلمين في صحة ما يرويه فكان يتقى ذلك أحياناً بقوله : إن ما لا يرويه الناس من حديث الرسول أكثر بكثير مما يرويه لهم ، وبتحذيرهم من سماع غيره من المحدثين ـ لكثرة الكذب على رسول الله آنذاك على حد زعمه ـ أحياناً أخرى .

ومما يلفت النظر حقاً أن أبا هريرة لم يلتفت إلى التناقض الذي وقع فيه ، فقد جاء بعض « أحاديثه » مناقضاً لبعض آخر كما سنرى .

ويلوح للباحث إن صحة الحديث ـ عند أبي هريرة ـ تعتمد على « صدقه » في خدمة الأمويين .

والشيء الطريف في أحاديث أبي هريرة أنها منصبة على مخاطبة الرعايا المسلمين دون حكامهم الفجرة الطغاة المستهترين .

وكانت تلك الأحاديث ذات أشكال مختلفة :

فمنها ما يحث المسلمين على طاعة حكام السوء .

ومنها ما يشغلهم بأمور ثانوية الأهمية بعيدة عن جوهر الدين .

ومنها ما يوجه انتباههم إلى أمور تافهة ضعيفة الصلة بحياتهم العامة والخاصة .

ومنها ما يتضمن إطراء النبي على سيرة الأمويين .

ومنها ما يشير إلى إضعاف حجة من يناوئهم من المسلمين . وإلى القارىء . أمثلة من ذلك سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر :

ذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة باسانيده المختلفة أن رسول الله قال (١) : « خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم . ثم الذين يلونهم » .

« إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها . ولبن الدر يشرب . وعلى

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٢٢٨ ـ ٢٣١ و ٢٤٧ ـ ٢٥٠ و ٢٥٤ و ٢٦٠ ـ ٢٦٧ و ٢٧١ و ٢٧٢ و ٢٧٨ و ٢٨٢ و ٢٨٨ و ٣٠٦ و ٣٤٠ و ٣٥٩ و ٣٦٠ و ٣٧٣ و ٤٠١ و ٤٧٦ و ٤٧٧ و ٤٨٠ و ٤٨٣ ـ ٤٨٥ و ٤٨٨ و ٤٩٢ و ٤٩٧ و ٥٠٠ و ٥٠٣ و ٥٠٤ و ٥١٠ و ٥١٧ و ٥٢٢ و ٣٤٥ و ٤٥٦ و ٤٧٣ و ٤٧٤ و ٣٧١ و ٤٠٠ و ٣٤٣ .


الذي يشربه نفقته ويركب » « امرؤ القيس ـ صاحب لواء الشعراء ـ إلى النار . » « شدة الحر من فيح جهنم فابردوا بالصلاة . » « قصوا الشوارب واعفوا اللحى » . « خمس من الفطرة : قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط والاستحداد والختان » .

« إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء » . « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها . » « لا يشرب الرجل من فم السقاء » « من ابتاع محفلة أو مصراة فهو بالخيار فإن شاء أن يردها وإن شاء يمسكها مسكها » « أصدق بيت قاله الشاعر : ألا كل شيء ما خلا الله باطل . » « ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة . » « لا تسبوا الريح فإنها تجيء بالرحمة والعذاب . ولكن سلوا الله خيرها وتعوذوا به من شرها »

« انظر إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم » .

« من أدرك ركعة من صلاة الفجر ـ قبل أن تطلع الشمس ـ فقد أدركها . ومن أدرك ركعة ـ من صلاة العصر ـ قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها » .

« اليهود والنصارى لا يصبغون . فخالفوا عليهم » .

« غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » فجرت أربعة أنهار من الجنة : الفرات والنيل والسيحان وجيحان » .

« دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض .

« التسبيح للرجال والتصفيق للنساء . » « إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تقول اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ما لم يحدث أو يقوم . »

« لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس » .

« فضل صلاة الجمعة على صلاة أحدكم وحده خمس وعشرون جزء » .

« من صلى على جنازة فلم يمشي معها فليقم حتى تغيب عنه . ومن مشى معها فلا يجلس حتى توضع » .


« إذا صليتم علي فاسألوا الله لي الوسيلة . قيل يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو . »

« الله يحب العطاس ويبغض ـ أو يكره ـ التثاؤب » .

« إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله سبع مرات » .

« إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يتنخمن أمامه ولا عن يمينه . فإن عن يمينه ملكا ولكن ليتنخم عن يساره أو تحت قدمه اليسرى » .

« لا تبتدؤا اليهود والنصارى بالسلام . فإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها » . « من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط ـ القيراط بقدر جبل أحد » .

« ما يؤمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يرد الله رأسه رأس حمار » .

« لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر . ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم » .

« إذا قلت لصاحبك ـ والإمام يخطب يوم الجمعة ـ اسكت فقد لغوت » .

« أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار » .

« وأن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » .

وحدث أبو هريرة مروان بن الحكم فقال : حدثني حبي أبو القاسم الصادق المصدوق . « إن هلاك أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش » .

« لن يزال على هذا الأمر عصابة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك » .

« من أطاعني فقد أطاع الله . ومن أطاع الأمير فقد اطاعني » .


جددوا إيمانكم . قيل يا رسول الله وكيف ؟ قال اكثروا من قول لا إله إلا الله » .

« رضى الله لكم ثلاثاً . أن تعبدوه ولا تشركوا به أحداً . وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم . وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا » .

من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . قالها عشر مرات حتى يصبح كتب له بها مئة حسنة ومحى عنه بها مئة سيئة وكانت له عدل رقبة وحفظ بها يومئذ حتى يمسى . ومن قال مثل ذلك حين يمسى . كان له مثل ذلك » .

في الجمعة ساعة ما دعا الله فيها عبد مؤمن بشيء إلا استجاب الله له » . « تسحروا فإن السحور بركة » .

« إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في النعل الواحدة . » « إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى . وإذا خلع فليبدأ باليسرى . »

إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه ـ فبات وهو عليها ساخط ـ لعنتها الملائكة حتى تصبح » . « إن الملائكة تجيء يوم الجمعة فتقعد على أبواب المسجد فيكتبون السابق والثاني والثالث والناس على منازلهم حتى يخرج الامام . فإذا خرج الامام طويت الصحف » .

« من حج البيت ولم يفسق ولم يرفث رجع كما ولدته أمه » .

« بينما رجل يمشي على طريق وجد غصن شوك فقال : لأرفعن هذا لعل الله يغفر لي به . فرفعه فغفر الله له به وأدخله الجنة » .

حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا اسماعيل عن الجريري عن خالد بن غلاق العيسى قال نزلت على أبي هريرة .

قال : ومات ابن لي فوجدت عليه . فقلت : هل سمعت من خليلك شيئا نطيب بأنفسنا عن موتانا ؟ قال نعم .


سمعته يقول : « صغارهم دعاميص الجنة » .

حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا هاشم حدثنا المبارك عن الحسن قال : بينا أبو هريرة يحدث أصحابه إذ أقبل رجل إلى أبي هريرة ـ وهو في المجلس ـ فأقبل وعليه حلة له . فجعل يمس فيها حتى قام على أبي هريرة فقال يا أبا هريرة : هل عندك في حلتي هذه من فتيا ؟ فرفع رأسه إليه وقال :

حدثني الصادق المصدوق خليلي أبو القاسم قال :

« بينا رجل ممن كان قبلكم يتبختر بين بردين ، فغضب الله عليه فأمر الأرض فبلعته » .

« ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا لنصف اليل الآخر أو لثلث الليل الآخر فيقول :

من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟

من ذا الذي يسألني فأعطيه ؟

من ذا الذي يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر » .

« أزرة المؤمن من أنصاف الساقين فأسفل من ذلك إلى ما فوق الكعبين فما كان من أسفل من ذلك ففي النار » .

« ان الله يحب العطاس ويكره التثاؤب » .

« تلقون من بعدي اختلافا وفتنة » .

فقال له قائل من الناس : فمن لنا يا رسول الله قال :

عليكم بالأمين وأصحابه ـ يشير إلى عثمان بذلك .

ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة .

يقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون : حتى يجيء أبوانا . ثلاث مرات .


فيقولون مثل ذلك . فيقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم » .

« إن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له حتى رواه فشكر الله له فأدخله الجنة » .

« يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ وهو خمسمائة عام » .

« سألت ربي فوعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً ـ في الجنة ـ على صورة القمر ليلة البدر .

فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا . فقلت : أي ربي إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي ! !

قال : إذن أكملهم لك من الاعراب » .

من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين ـ فتلك تسع وتسعون . ثم قال ـ تمام المئة ـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .

غفر الله له خطاياه » .

قال أبو هريرة : قلت للنبي من أسعد الناس يوم القيامة ؟

فقال : لقد ظننت ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث :

أسعد الناس بشفاعتي ـ يوم القيامة ـ من قال لا إله إلا الله خالصة من قبل نفسه » .

وذكر أبو هريرة أنه سمع حبيبه أبا القاسم يقول : « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنبت من الكبائر » .

وقال أبو هريرة : « أوصاني خليلي رسول الله بثلاث :

الوتر قبل النوم . وركعتي الضحى ، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر .

« صلاة مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواء من المساجد إلا المسجد الحرام » « لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » .


ـ ٢ ـ

إتخاذهم الدين وسيلة لقمع حركات المسلمين الذين طالبوا « الخلفاء » الأمويين بتطبيق مبادىء الدين على تصرفاتهم .

أي أن الأمويين كانوا يتظاهرون بالتدين فيدعون المسلمين ـ في خطبهم وخطب ولاتهم ـ إلى التمسك بالدين الذي لا يتمسكون هم ولا ولاتهم بتعاليمه .

وكانت غايتهم من ذلك ـ بالطبع ـ هي صرف الناس عن المطالبة بتطبيق الدين على شؤون الحياة من جهة وعاملا من العوامل التي يبرر الأمويون فيها اعتداءاتهم على أرواح المسلمين وممتلكاتهم .

وقد أصبح الأمويون بهذا النوع من التصرف ممن يشملهم منطوق الآيات التالية التي وردت في القرآن : جاء في سورة البقرة .

ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون .

وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون » . . وجاء في سورة البقرة أيضاً .

( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد . وإلى القارىء نماذج من تصرفات الأمويين في هذا الباب .

خطب زياد بن أبيه في حشد كبير من المسلمين فنعى عليهم عدم تمسكهم بالدين


ونسى أو تناسى نفسه وخليفته وأثر كل منهما في ذلك الوجه من وجوه الحياة الإسلامية . ثم قال :

( كأنكم لم تسمعوا نبي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته . . . إني لأقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر . .

أيها الناس لقد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة . نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا (١) .

فزياد بن سمية إذن يتهم المسلمين الذين يطالبون الأمويين باتباع تعاليم الدين في تصرفاتهم بأنهم لم يقرؤا كتاب الله ولم يسمعوا أحاديث نبيه وأنهم جاهلون بما أعد الله من الثواب لأهل طاعته والعقاب لأهل معصيته . في حين أن زياداً ـ وأسياده الأمويين ـ أولى بسماع ذلك واتباعه . فقد أعد الله الثواب والعقاب للذين يطيعونه ويتبعون أوامره ويعرضون عما ينهى عنه .

وعندي إن جانباً من تعبير المسلمين عن طاعتهم الله يتمثل في عصيانهم أوامر ولاة السوء ( أمثال زياد بن أبيه ) الذي عصوا الله فيما كانوا يعملون .

ولا ندري فيما إذا كانت هناك طاعة الله أفضل من عصيان أوامر الخارجين على تعاليمه ! !

أما استطراد ابن سمية في التهديد والوعيد ( إلى حد الخروج عن أوامر الله ) وتصميمه على أخذ الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر فشيء يناقض قول الله « ولا تزر وازرة وزر أخرى » .

وأما زعمه بأنه والأمويين قد جعلهم الله للناس ساسة فكذب على الله والناس ، ذلك لأنهم نصبوا أنفسهم حكاما عن طريق تمردهم على الله ورسوله .

__________________

١ ـ ابن الأثير : « الكامل في التاريخ » ٣ / ٢٢٢ ـ ٢٣٣ .


وأما قوله بأنهم عن الناس ذادة فلسنا ندري كيف يذودون عن الناس بعد الذي ظهر منهم من تمزيق لمصالح الناس وتحد لمبادىء الدين ! . ولعله كان يقصد أنه ـ وأسياده الأمويين ـ يذودون عمن سكت عن موبقاتهم ، وشاركهم اقتسام منافع الملك والتمتع بثمرات « بساتين قريش » . .

وإذا كان الأمر كذلك فهل من الإنصاف لله أن يزعم ابن أبيه أنه يسوس المسلمين بسلطان الله ! ! . ولو أنه قال : انه يسوسهم بسلطان الأمويين ـ الذي لا يرضاه الله ـ لما أخطأ ولا تجنى .

وأما إضافة عبارة « الذي أعطانا » بعد عبارة « بسلطان الله » فشيء يمجه الذوق الإسلامي ، ويأباه التاريخ .

ولا ندري كيف أعطى الله سلطانه للأمويين الذين حاربوه في شخص نبيه الكريم ! !

وخطب الحجاج بن يوسف في أهل البصرة فقال :

« يا أهل العراق إني قد استعملت عليكم محمداً ابني وبه الرغبة عنكم . . . وقد أوصيته فيكم خلاف وصية رسول الله بالأنصار . فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم . وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم » (١) .

ولسنا نعرف سبب وصيته تلك بعدم التجاوز عن المسيء وعدم القبول من المحسن ـ إلا إيغاله في قتل الناس .

وإذا جاز للحاكم ـ في بعض الأحيان ـ أن لا يتجاوز عن المسيء فإنه لا يجوز عدم القبول من المحسن .

ثم هل يجيز الاسلام ذلك ؟

وخاطب الحجاج جموعا من المسلمين فقال :

__________________

١ ـ المسعودي : « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ٣ / ٨٥ ـ ٨٦ .


( إني لأرى رؤوساً قد أينعت وقد حان قطافها . إني لأنظر الدماء بين العمائم اللحى . . . ثم قرأ قوله تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . وأنتم أولئك . . .

إنكم أهل بغى وخلاف وشقاق ونفاق . فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن البغي . . . فوالله لأذيقنكم الهوان . . . ولألحونكم لحو العود ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا . ولأضربنكم ضرب غرائب الابل حتى تذروا العصيان وتنقادوا ) .

فالمسلم ـ بنظر الحجاج ـ هو الذي يستسيغ موبقات الأمويين ويرتاح لاستهتار الحجاج ، ويفوض أمره لله . وإلا فهو معرض ـ في كل لحظة ـ لشتى صنوف العقاب . أما أن يبحث الحجاج ـ ( أمير ) المسلمين ـ عن عوامل التذمر ، ويسعى إلى إزالتها بالمعاملة الحسنة والسير وفق مستلزمات الشريعة الاسلامية فشيء لم يخطر بباله . وسبب ذلك أنه ـ وأسياده الأمويين ـ كانوا من الآمرين بالمعروف التاركين له .

وحج عبد الملك بن مروان بالناس في عام ( ٧٥ هـ ) ـ على ما يذكر ابن الاثير (١) فقال ( لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد ـ .

ألا وإني لا أداري هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم . . . والله لا يأمرني أحد بتقوى الله ـ بعد مقالي هذا ـ إلا ضربت عنقه . ثم نزل . ) أي إن حفيد طريد رسول الله يريدها جاهلية صرفة مبنية على القوة الغاشمة وإراقة الدماء .

أما المسلم الذي ينبه ( الخليفة ) نحو تقوى الله فسوف ينال حتفه ـ وهو أمر

__________________

١ ـ ابن الأثير : « الكامل في التاريخ » ٤ / ٣٣ ـ ٣٤ .


على جانب كبير من الخطر على الدين والأخلاق .

ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن المفروض بعبد الملك من حيث كونه خليفة المسلمين أن يأمر هو الناس بتقوى الله وأن يعاقب من يتمرد على أوامر الله . أما أن يتمرد الخليفة نفسه على الله وتعاليمه ويعصيه عصياناً مضاعفاً ـ بتمرده على أوامره أو لا وبقتله من يمنعه عن ذلك التمرد ثانياً ـ فأمر على جانب كبير من الخطر على الدين والأخلاق .

ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن عبد الملك بن مروان ـ عبد الملك ( الخليفة ) الجبار المتمرد على الله ـ عندما شاخ وضعف وقرب من الموت ، أخذ يشعر بحقارة نفسه واستصغارها أمام سلطان الله ـ شأن كل إنسان في الأوقات الحرجة ـ فندم . ولات ساعة مندم . قال ابن الاثير (١) :

« لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوباً . فقال يا ليتني كنت قصاراً . . . فقال سعيد بن العزيز : الحمد لله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم .

وقال سعيد بن بشير : إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال : وددت أن كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله . فذكر ذلك لابن حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم يتمنون ـ عند الموت ـ ما نحن فيه ، ولا نتمنى ـ عند الموت ما هم فيه ) .

وسبب ذلك واضح ، هو أن عبد الملك ـ ومن هم على شاكلته ـ يخافون الله لموبقاتهم في الوقت الذي يشعرون فيه أنهم ملاقوه وتنعكس الآية عند غيرهم من أنصار الله .

فقد روى عن الامام علي بن أبي طالب أنه قال : عندما ضربه ابن ملجم

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ / ٤١ .


وشعر بالموت ـ ( فزت ورب الكعبة ) ـ فأطلقها صيحة ، لا شعورية ، مرحباً بلقاء ربه لأنه كان عف اللسان واليد والقلب .

ذلك جانب من جوانب فلسفة الأمويين في الحكم .

وقد وضع معاوية بن أبي سفيان أصبعه على موطن الداء في الحكم الأموي .

ومعاوية بالطبع أعرف بدخائل ذلك الحكم من غيره ـ حين قال ـ عندما تلقاه رجال من قريش بعد عام الجماعة فقالوا :

الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلا كعبك ـ ( أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي . ولكني جالدتكم بسيفى هذا مجالدة . ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة وأردتها على عمل عمر ، فنفرت من ذلك نفاراً شديداً . وأردتها على ثنيات عثمان ، فأبت . فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة ـ مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة . فان لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية .

يا أهل المدينة إقبلونا بما فينا . فان ما وراءنا شر لكم . وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى ، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت (١) » .

ومما يلفت النظر حقاً أن الأمويين وولاتهم لم يصغوا لنصح الناصحين من المسلمين وقد مر بنا موقف من مواقف عبد الملك في هذا الشأن . وهناك أمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل .

خطب الحجاج متذمراً من أهل العراق « فقال : له جامع المحاربي أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك . على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ، ولا لذات نفسك فدع عنك ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك .

فقال الحجاج : ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف .

__________________

١ ـ ابن عبد ربه : « العقد الفريد » ٢ / ٣٦١ .


فقال أيها الأمير : إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار .

قال الحجاج : الخيار يومئذ لله . . . قال أجل . . ولكنك لا تدري لمن يجعله الله . .

قال الحجاج : والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك .

فقال يا حجاج : إن صدقناك أغضبناك وإن كذبنا أغضبنا الله . فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله (١) .

ويلاحظ ـ في الظاهر ـ أن جامع المحاربي لم يقل للحجاج شيئاً يستلزم أن يهدده الحجاج بالقتل ! ! غير إننا إذا نفذنا إلى الجانب النفسي العميق ـ في هذا الموضوع ـ أمكننا أن نقول :

إن جامع المحاربي قد استفز الحجاج وأثار كوامن نفسه فكان طبيعياً أن يجيبه الحجاج بالشكل الذي مر بنا ذكره . فالحجاج ـ في قرارة نفسه ـ عارف أنه متمرد على الله وعلى رسوله ، وإن حكم الله سيكون عليه لا له . ولكنه ـ مع هذا ـ حاول أن يخفى ذلك في قرارة نفسه كلما وجد إليه سبيلا ، فلما حادثه جامع ـ بالذي ذكرناه ـ تحركت نوازع نفسه فطفحت تهديداً على لسانه ليقطع الحديث على جامع ويخيفه لئلا يعود إليه في المستقبل .

و « دخل إعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال : ـ يا أمير المؤمنين ـ إني أريد أن أكلمك بكلام . . . فإذا أمنت بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خرست به الألسن . . . تأدية لحق الله .

يا أمير المؤمنين أنه قد تكنفك رجال أساؤا الإحسان لأنفسهم ، وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم ، وخافوك في الله ، ولم يخافوا الله فيك . . . فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه ، إنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع ، وللأمة خسف

__________________

١ ـ ابن قتيبة « عيون الأخبار » ٢ / ٢١٢ طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة .


وعسف . وأنت مسئول عما اجترموا ، وليسوا مسئولين عما اجترمت . فلا تصلح دنياههم بفساد آخرتك . . . فتغافل سليمان كأن لم يسمع شيئاً .

وخرج الإعرابي فكان آخر (١) العهد به .

وموقف سليمان هذا لا يختلف عن موقف الحجاج من الناحية المبدئية العامة ، وان اختلف عنه من حيث الشكل المظهر الخارجي .

فقد صمت سليمان وانطوى على نفسه بدلا من أن يجيب كما أجاب الحجاج . وسليمان بصمته هذا كتم نوازع نفسه التي أظهرها الحجاج . غير أن الأمر ، مع هذا ، أعمق من ذلك وأكثر تعقيداً .

فقد صرح الإعرابي ـ على بساطته ـ بما يجول في نفسه ، والقى اللوم ـ في ظاهره ـ على حاشية الملك سليمان . وقد فاته أن يتذكر أن سليمان مسئول عن حاشيته لأنه اختارها وفق إرادته ووفق هواه ومزاجه . وأخذ هؤلاء ـ بدورهم يقومون بضروب الأفعال التي يرتضيها مزاج الملك . وإذا بدر منهم ما يثيره ـ أحيانا ـ حمل ذلك منهم على حسن النية .

فسليمان الأموي لا « يصلح » إلا بحاشية فاسدة . والحاشية الصالحة لا « تصلح » لسليمان .

لقد فتح الأمويون قلوبهم كما فتحوا خزائن بيت مال المسلمين لكل من حدثته نفسه بالخروج على أسس الدين أو مناوءة الإمام علي بن أبي طالب وتعاليمه .

فقد انضوى تحت لواء معاوية ـ مثلا ـ « أثناء نزاعه مع علي » كل من كان حاقداً على ابن أبي طالب لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والأخلاق . وفي مقدمة أولئك :

__________________

١ ـ المسعودي « مروج الذهب » ومعادن الجوهر ٣ / ١١٥ ـ ١١٦ .


عبيد الله بن عمر بن الخطاب الذي هرب خوفاً من أن يقيده الإمام بالهرمزان الذي قتله ظلما .

ولجأ إلى معاوية أيضاً هصقلة بن هبيرة الشيباني الذي اشترى أسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي بعد أن التوى بما شرطه على نفسه .

وفر إلى معاوية كذلك القعقاع بن شور بعد إعتدائه على أموال المسلمين .

والتحق بمعاوية أيضاً النجاشي بن الحرث بن كعب الشاعر المعروف . وبما أن قضية هروب النجاشي تكشف بعض الجوانب من أخلاق الإمام ـ بالإضافة إلى طرافتها ـ فقد رأينا أن ننقلها إلى القارىء . .

حدث ابن الكلبي عن عوانه . قال : خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان فمر بأبي سمال الأسدي وهو قاعد بفناء داره . فقال له أين تريد ؟ فقال :

أردت الكناسة . فقال : هل لك في رؤوس وآليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وقد تهرت ! ! .

قال ويحك ! في أول يوم من رمضان ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! . قال دعنا مما لا يعرف .

قال ثم مه ! قال اسقيك من شراب كالورس . يطيب النفس ، يجري في العرق ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهل للقدم الكلام . فنزل فتغديا . ثم أتاه بنبيذ فشرباه .

فلما كان آخر النهار . علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة علي ، فأتاه فأخبره بقصتهما . فأرسل إليهما قوماً فأحاطوا بالدار .

فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت ، وأخذ النجاشي فأتى به إلى علي فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين جلده (١) .

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ .


وروى صاحب « كتاب الغارات (١) » أن علياً لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي . فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ عند ولاة العدل ومعادن الفضل ـ سيان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحرث فأوغرت صدورنا . .

فقال علي : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ! ! وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته .

أن الله تعالى يقول : ولا يجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا . إعدلوا هو أقرب للتقوى .

قال : فخرج طارق من عنده فلقيه الاشتر فقال يا طارق : انت القائل لأمير المؤمنين أوغرت صدورنا وشتت أمورنا ؟

قال طارق : نعم أنا قائلها .

قال : والله ما ذاك كما قلت . إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا لجامعة . فغضب طارق وقال ستعلم يا أشتر غير ما قلت . فلما جنه الليل همس والنجاشي إلى معاوية ، فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما ـ وعنده وجوه أهل الشام منهم : عمرو بن مرة الجهني وعمرو بن صيفي وغيرهما . فلما دخلا نظر معاوية إلى طارق وقال : مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة ونبوة باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة . . فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك . ثم قال :

أما بعد فان ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه « بين يدي إمام تقي عادل » مع رجال من أصحاب رسول الله أتقياء مرشدين ما زالوا مناراً للهدى ، ومعالم للدين ، خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا . كل الخير فيهم . اتبعهم من الناس إقيال

__________________

١ ـ طبع أكثر من مرة في طهران إيران مع تعليق الأستاذ السيد جلال الدين المحدث .


وأهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين ، فلم يكن رغبة من رغب منا عنهم ؛ وعن صحبتهم إلا بقرارة الحق حيث جرعوها ولوعورته حيث أسلكوها وغلبت عليهم دنياً مؤثرة وهوى متبع .

فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك الركاب . . فعظم على معاوية ما سمعه . وغضب ولكنه أمسك . وقال يا عبد الله : إنا لم نرد بما قلناه أو نوردك مشرع ظمأ ولا ان نصدرك عن مكرع رى . ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل .

ثم أجلسه معه على سريره . . . وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان . فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه ، يلومانه في خطيته وما واجه به معاوية .

فقال طارق : والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل إلى أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة (١) .

فلم يكن طارق يرى ـ وهو على حق ـ أن أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ أي الخصوم والأنصار على السواء ـ سيان في الجزاء ، عند ولاة العدل ، إلا حين رأى معاملة الإمام للمسلمين بصورة عامة وموقفه من النجاشي (٢) ، ـ شاعره ـ بصورة خاصة . ولكن ذلك الموقف العادل ـ مع هذا ـ قد أوغر صدر طارق وأثار حفيظة قومه على ما يقول . فقد كان قومه ـ على زعمه ـ يتوقعون أن يغض الإمام طرفه عن هفواتهم لاتصالهم به ووقوفهم معه أزاء خصومه الذين انغمسوا في الموبقات إلى الاذقان .

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٣٦٧ .

٢ ـ شاعر الأمير ـ في الماضي ـ يقال مدير الدعاية في عهدنا ويتمتع عادة بامتيازات كثيرة معرفة من الناحيتين المادية والمعنوية .


ويلوح للباحث إن طارق بن عبد الله كان جاهلا بنفسية الإمام ـ وإن كان ملتصقا به ـ . فغاب عن ذهنه أن الصديق الوحيد للإمام هو الحق وإشاعة العدل بين الناس . وقد دفعه جهله إلى إعلان استغرابه من موقف الإمام ـ الطبيعي ـ من النجاشي . فالنجاشي ـ بنظر الإمام ـ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فاستحق على ذلك العقوبة الشرعية المناسبة .

وهنا يكمن سر خلود الإمام ـ على مر الأجيال ـ ، ويتجلى الإمام ـ في اتباعه الحق ـ كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير . وفي هذه النقطة بالذات يصعق مناوؤه ويتخاذلون فيذهبون مع الملك بالأيام التي انسلخت من أعمارهم أثناء الحياة .

وفي هذه النقطة بالذات كذلك يبرز أنصار الإمام ومشايعوه على السواء . فطارق المار الذكر لم يكن من أنصاره ـ من مشايعيه . وينعكس الأمر عند الاشتر كما رأينا .

ولم يكن الإمام غافلا عما ذكرناه . ولكنه كان مقيدا ـ في سياسته العامة ـ بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتباعها . فكان يقف مع النصوص لا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة إذ لا اجتهاد في معرض النص .

وكان الإمام يطبق أمور الدنيا على أمور الدين ، ويسوق المسلمين جميعاً مساقاً واحداً . ولا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والسنة . ولم يكن يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء أكانت سياسة دينية أم دنيوية .

ولم يكن أيضاً ينزل العقوبة ـ بمن يستحقها ـ إلا إذا ثبت عنده أن الإنسان قام بعمل يستوجب العقاب . أي أن الأصل ـ عنده ـ براءة الذمة كما يقولون . ولا يعاقب قبل حدوث الجرم .

فالإمام إذن ـ وإن فتح قلبه للمشايعين ـ لم يتردد في إزاحتهم عنه كلما آنس بتصرفاتهم خروجا على الدين . وإذا صح ما ذهبنا إليه جاز لنا أن نقول أن أولئك


المشايعين كانوا ـ في عواطفهم ـ مع خصومه قبل إلتحاقهم الظاهر بهم . ولا تخرج عملية الالتحاق تلك عن كونهم حملوا أجسامهم من مكان إلى مكان . والعكس صحيح كذلك .

ولقد أشار الإمام إلى هذا المعنى حين قال : « إني وشيعتي في ميثاقي الله لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة (١) .

تذكرنا القصة الآنفة الذكر بقصص أخرى مشابهة من هذا القبيل . لعل أطرفها وأهمها ما تذكره كتب التاريخ والأدب العربي في معرض التحدث عن موقف طائفة من فضليات نساء المسلمين « كن نصرن علياً في صفين » من معاوية ابن أبي سفيان بعد مصرع ابن أبي طالب . قال ابن عبد ربه :

« وفدت سودة ابنة عمارة بن الاشتر الهمدانية على معاوية . . . فقال لها : أنت القائلة لأخيك ـ يوم صفين :

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة

يوم الطعان وملتقى الأفران

وأنصر علياً والحسين ورهطه

وأقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام ـ أخا النبي محمد ـ

علم الهدى ومنارة الايمان

فقد الجيوش وسر أمام لوائه

قدما بأبيض صارم وسنان

قالت : مات الرأس وبتر الذنب . فدع عنك تذكار ما قد نسى . . . هذا ابن ارطاة قدم بلادي ، وقتل رجالي وأخذ مالي ، فإما عزلته فشكرناك ، وإما لا

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، ١ / ٣٦٨ . روى ذلك يونس بن أرقم عن زيد بن أرقم عن زيد بن أرقم عن أبي ناجية ـ مولى أم هانيء ـ قال كنت عند علي فأتاه رجل عليه زي السفر . فقال يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيتك لك بها محباً . قال من أين أتيت ؟ قال من البصرة . قال من البصرة . قال أما انهم لو يستطيعون أن يحبوني لاحبوني . « إني وشيعتي ـ في ميثاق الله ـ لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة . »


فعرفناك ، فقال معاوية : والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك . فسكتت ثم قالت :

صلى الاله على روح تضمنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفوناً

قد حالف الحق لا يغبى به ثمنا

فصار بالحق والايمان مقرونا

قال : ومن ذاك ؟ قالت : علي بن أبي طالب . أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا . فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين . فوجدته قائما يصلي . فانفتل من الصلاة . ثم قال ـ برأفة وتعطف ـ ألك حاجة ؟ فاخبر به خبر الرجل فرفع يده إلى السماء وقال : اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا ترك حقك .

ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه : قد جاءكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين (١) .

ودخلت بكادة الهلالية على معاوية فسألها عن حالها ، قالت بخير . قال . غيرك الدهر ؟ قالت : كذلك هو ذو غيره ، من عاش كبر ، ومن مات فقد .

قال عمرو بن العاص : هي والله القائلة ـ يوم صفين :

يا زيد دونك فأحتقر من دارنا

سبقا حساما في الترب دينا

قد كنت أدخره ليوم كريهة

فاليوم أبرزه الزمان مصونا

قال مروان وهي ـ والله ـ القائلة :

أترى ابن هند للخلافة مالكا !

هيهات ـ ذاك ـ وإن أراد ـ بعيد

قال سعيد بن العاص وهي القائلة :

قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى

فوق المنابر ـ من أمية ـ خاطبا

فالله أخر مدنى فتطاولت

حتى رأيت من الزمان عجائبا

__________________

١ ـ ابن عبد ربه « العقد الفريد » ١ / ٢١١ ـ ٢١٢ .


ثم سكتوا ، فقالت أنا والله قائلة ما قالوا . وما خفى عليك مني أكثر فضحك وقال ليس يمنعنا ذلك من برك . أذكري حاجتك . قالت . أما الآن فلا (١) .

وكتب معاوية إلى عامله في الكوفة أن يوفد إليه الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ، وكانت شهدت ـ مع قومها ـ صفين . فلما دخلت عليه قال « ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين تحظين على القتال وتوقدين الحرب ؟ . والله ـ يا زرقاء ـ لقد شركت علياً في كل دم سفكة .

قالت . أحسن الله بشارتك . فمثلك من يبشر بخير . فضحك وقال : والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته . أذكري حاجتك . قالت : آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا (٢) .

ودخلت أم سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية على معاوية تكلمه في غلام من بني ليث حبسه مروان . « فقال لها معاوية كيف قولك .

عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد

والليل يصدر بالهموم ويورد

يا آل مذجح لا مقام فشمروا

أن العدو لآل أحمد يقصد

هذا علي كالهلال تحفه

وسط السماء من الكواكب أسعد

خير الخلائق وابن عم محمد

أن يهدكم بالنور منه تهتدوا

فقال رجل من جلسائه وهي القائلة :

أما هلكت ـ أبا الحسين ـ فلم تزل

بالحق تعرف هاديا مهديا

فأذهب عليك صلاة ربك ما دعت

ـ فوق الغصون ـ حمامة قمريا

قد كنت ـ بعد محمد ـ خلفا كما

أوصى إليك بنا فكنت وفيا

__________________

١ ـ العقد الفريد ١ / ٢١٢ ـ ٢١٣ .

٢ ـ المصدر نفسه ص ٢١٣ ـ ٢١٤ .


قالت لسان صدق ، وقول نطق . وكان ـ والله ـ علي أحب إلينا منك (١) . ودخلت ـ على معاوية ـ عكرشة بنت الأطرش بن رواحه متوكئة على عكاز . « فسلمت عليه بالخلافة . ثم جلست . فقال لها معاوية الآن يا عكرشة صرت ـ عندك ـ أمير المؤمنين ! ! قالت : نعم إذ لا علي حي (٢) . ، فعبرت بذلك عن الخسارة التي حلت بالمسلمين بعد مصرع الامام أحسن تعبير .

فقد مات علي . فمات العدل معه . وباستطاعة معاوية ـ ومن هم على شاكلته أن يصبحوا أمراء للمؤمنين .

وسأل معاوية ـ ذات يوم ـ درامية الحجونية عن سبب حبها لعلي وبغضها معاوية . فقالت . أو تعفيني ، قال لا أعفيك .

قالت أما إذا أبيت فاني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية . وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق . وواليت علياً على ما عقد له رسول الله من الولاء ، وحبه المساكين وإعظامه لاهل الدين . وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى . .

فقال : هل لك من حاجة ؟ قالت أو تفعل إذا سألتك ؟ قال نعم .

قالت : تعطيني مئة ناقة فيها فحلها وراعيها .

قال : تصنعين بها ماذا ؟ قالت أغذوا بألبانها الصغار واستحيى بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر . . . قال أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئاً ! !

__________________

١ ـ العقد الفريد : ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥ .

٢ ـ المصدر نفسه ص ٢١٥ ـ ٢١٦ .


قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (١) .

إن هذه الحكايات ـ أن دلت على شيء ـ فإنما تدل على أن نفوس الناس أوعية تقبل الخير ـ على أسوء الفروض ـ كما تقبل الشر . فاذا ساد الشر في المجتمع وتبناه حكام السوء اختفت الفضيلة وقل ناصرها . والعكس صحيح كذلك . وبما أن التاريخ البشري بصورة عامة ، والتاريخ العربي الإسلامي بصورة خاصة قد غلبت على حكامه ـ باستثناء علي بن أبي طالب ـ شهوة الحكم والمحافظة على المصالح الذاتية ـ بنسب متفاوتة ـ فلا عجب أن رأينا نفوس الرعايا قد طبعت على الشر والهبوط عن مستويات الأخلاق الرفيعة .

وللحكام الأمويين القدح المعلى في هذا الشأن .

ولو اتيح لعلي بن أبي طالب أن يحكم العالم العربي ـ الإسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة لكانت الأخلاق العربية ـ الإسلامية المنتشرة في الوقت الحاضر ـ غير ما هي عليه الآن .

وفي هذه النقطة بالذات يظهر أثر الأمويين في الخلق العربي ـ الإسلامي الشائع واضحا كالشمس في رائعة النهار . « سأل رجل عليا ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ؟ فقال لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي . وأنا اليوم وال على مثلك (٢) . »

العصبية القبلية الجاهلية التي حاربها الإسلام : تمسك الأمويين بأمويتهم أولا

__________________

١ ـ العقد الفريد ١ / ٢١٦ ، ٢١٧ .

٢ ـ مقدمة ابن خلدون ، المطبعة التجارية ص ٢١١ . لعل الإمام قصد بذلك أن الجبل الإسلامي الذي عاش في عهد أبي بكر وعمر ما زالت تكتنفه هيبة النبي وتهيمن على نفسه الأحكام التي كان الرسول سائراً ـ في سياسته ـ وفقاً لمستلزماتها . أما الجيل الذي أراد أن يحكمه الأمام ـ في ضوء القران وسيرة النبي ـ فقد فسدت طباعه أثناء خلافة عثمان .


وقبل كل شيء . واستغلوا جميع الروابط الممكنة لتثبيتها ودعمها . فكانت سياستهم مستندة على أمويتهم بالدرجة الأولى ، وعلى قرشيتهم بالدرجة الثانية ، وعلى عروبتهم بالدرجة الثالثة . وبهذا الأسلوب أسقطوا الموالي ( وهم المسلمون غير العرب ) من حسابهم ، وعاملوهم معاملة جاهلية يأباها الاسلام . على أنهم التزموا في الجانب العربي ـ سياسة من والاهم من الأعراب وشاركهم في المساهمة في استئصال الأخلاق الاسلامية من نفوس الناس . وبما أن الأمويين لا يرتبطون بالموالي بروابط العشيرة والنسب أو وحدة المصالح المشتركة ، وبما أن الموالي وبخاصة الفرس قد ألفوا منذ عهد الامام علي بن أبي طالب ـ المساواة مع العرب بحكم كونهم إسلاما ـ فقد راعهم بعد الحكم الأموي عن روح الاسلام فقاوموه (١) ولم يجد الامويون بداً من إثارة النزعة العربية الجاهلية ضد الموالي لاحباط محاولتهم الرامية إلى تطبيق مبادىء الاسلام على شئون الحياة . وفي هذا الجو الجديد زرعت بذور الشعوبية وانقسم المسلمون حولها ، وانشغل فريق من الكتاب والأدباء في معركة كلامية حامية الوطيس حول مساوىء الشعوبية ومحاسنها . وكسب الأمويون ثمار ذلك . فقد ألهوا المسلمين من العرب والموالي بمشاكل جانبية ـ ما زلنا نعاني بعض آثارها المحزنة إلى اليوم . فتخلص حكمهم الوثني من الرقابة الشعبية بقدر ما تخلص من آثار الدين الحنيف . وإلى القارىء طرفا من ذلك الصراع الفكري بين الموالي والعرب .

ذكر ابن عبد ربه (٢) في أن معاوية بن أبي سفيان استدعى الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب وقال لهما : « إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت . وأراها قد

__________________

١ ـ ولعل ذلك يفسر لنا شدة تعلقهم بالإمام علي وعلى حبهم الشديد له . ولعل ذلك الأمر نفسه يفسر لنا بغض الأمويين وأتباعهم للفرس . فقد تجسم بغضهم للإمام فشمل أنصاره ومحبيه .

٢ ـ ابن عبد ربه ، العقد الفريد ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ .


قطعت على السلف . وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان . فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لاقامة السوق وعمارة الطريق .

وروى : أن حمران ـ مولى عثمان بن عفان ـ عاتب عامر بن عبد القيس ( المعروف بزهده ونسكه ) في موقفه من عثمان ، وكان عبد الله بن عامر ( صاحب العراق ) حاضراً . فأنكر عامر بن القيس ذلك . فقال له حمران : « لا كثر الله فينا مثلك . فقال له عامر بل كثر الله فينا مثلك . فقيل له أيدعو عليك وتدعو له ؟ قال نعم يكسفون طرقنا ويخرزون خفافنا ، ويحوكون ثيابنا . فاستوى ابن عامر جالساً ـ وكان متكئاً ـ فقال لما كنت أضنك تعرف هذا الباب لفضلك وزهادتك .

ومما يذكر عن نافع بن جبير أنه كان يسأل إذا مرت به جنازة فإذا قالوا قرشي قال : وا قوماه ! وإذا قالوا عربي قال : وا بلدتاه ! ! وإذا قالوا مولى قال : هو مال الله يأخذ ما يشاء ، ويدع ما يشاء » (١) .

وروى الجاحظ : أن الحجاج بن يوسف الثقفي « أقبل على الموالي وقال : أنتم علوج عجم ، وقراؤكم أولى بكم ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب ، وصيرهم كيف شاء ، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها » (٢) .

وكتب التاريخ الإسلامي ، والأدب العربي تعج بالأخبار المتضمنة سوء معاملة الأمويين للموالي ، فقد امتهنوهم ، واستهانوا باحسابهم ، وأرهقوهم بالضرائب ، وفرضوا عليهم الجزية والخراج ، وضرائب كثيرة أخرى ، وأسقطوهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من دون عطاء ، أي أنهم عاملوهم ـ في هذه الناحية ـ كما يعاملون المشركين والكفار ، وهو أمر يأباه الإسلام .

__________________

١ ـ المصدر نفسه ٢٦٢ .

٢ ـ المصدر نفسه ٢٦٢ .


وكانوا يقولون : لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة : حمار أو كلب أو مولى .

وكانوا : لا يكنونهم بالكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ، ولا يمشون في الصف معهم ، ولا يقدمونهم في الموكب . وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم ، وان أطعموا المولى ـ لسنه وفضله وعلمه ـ وأجلسوه في طريق الجناز لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب ، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب ، وإن كان الذي يحضر غريراً .

وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها ، وإنما يخطبها إلى مواليها فإن رضى زوج ، وإلا فإن زوج الأب والأخ ـ بغير رأي مواليه ـ فسخ النكاح ، وإن كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح » (١) .

وإذا أمعنا النظر فيما ذكرناه وجدناه خروجاً سافراً على مبادىء الإسلام ، واختراقاً واضحاً للقرآن والسيرة النبوية . جاء في القرآن الكريم :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) . ولكن الأمويين قد ساروا في سياستهم العامة ـ في هذه النقطة بالذات ( كما ساروا في غيرها ) على أسس تتناقض هي وما نص عليه القرآن الكريم . فلم تقتصر سياستهم على مطاردة الأتقياء من المسلمين ـ وحرمانهم من حقوقهم المشروعة ـ بل تعدت ذلك إلى العناية بالمتمردين على أوامر الله . فقد أغدق الأمويين ـ على هؤلاء ـ المناصب والهبات .

وبما أن الامويين كانوا عارفين بكيفية مجيئهم للحكم ، وعدم مشروعية حكمهم من الناحية الدينية ـ فقد ساروا في ذلك بطريقة تنسجم هي وأسلوب مجيئهم للحكم من جهة وتعصم ( من جهة أخرى ) ملكهم من التصدع والانهيار . فلا غرو أن جعلوا المستهترين بالدين وبمصالح الناس مادة بناء ذلك الحكم .

__________________

١ ـ ابن عبد ربه « العقد الفريد » ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ إن كل ما ذكر خروج صارخ على مبادىء الاسلام .


ولو اعتمد الامويون على الاتقياء والمتدينين لكانوا كمن سعى إلى حتفه بظلفه .

ذكر أبو عمرو سفيان بن عبيد الله « قال : قلت يا رسول الله قل لي قولا في الاسلام لا أسأل عنه أحداً غيرك . فقال : قل آمنت بالله ثم استقم (١) . »

لقد أوجز الرسول ـ في هذا القول المختصر ـ روح الإسلام بجانبيه العقائدي والأخلاقي . فالإيمان بالله ـ كما ذكرنا ـ يستلزم القيام بشعائره الدينية المعروفة . والاستقامة تتضمن السير وفق مستلزمات الأخلاق الإسلامية الى شرحناها .

فهل آمن الأمويون بالله ؟ ومن ثم استقاموا .

إن تاريخهم يشير إلى الإجابة بالنفي عن هذين السؤالين . وبقدر ما يتعلق الأمر بجانب الاستقامة يمكننا أن نلاحظ بعدهم عن الإسلام إذا وازنا موقفهم من الموالي ـ الذي سنشرحه مفصلا ـ بموقف رسول الله .

ذكر البخاري (٢) بإسناده عن عائد بن عمرو : « أن أبي سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر . فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها ‍‍‍‍‍‍! !

قال : فقال أبو بكر أتقولون هذا الشيخ قريشي وسيدهم ؟ فأتى النبي فأخبره . فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله . فأتاهم أبو بكر فقال يا إخوتنا أغضبتكم ؟ قالوا : لا . يغفر الله لك . »

وقال عمر بن الخطاب ـ قبيل وفاته ـ « لو كان سالم ـ مولى حذيفة ـ حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني أني سمعت نبيك يقول إن سالماً كان شديد الحب لله (٣) . »

__________________

١ ـ كتاب الفتوحات الوهبية للشيخ ابراهيم المالكي ص ١٩٦ .

٢ ـ صحيح البخاري ٢ / ٣٦٢ .

٣ ـ ابن الاثير « الكامل في التاريخ » ٣ / ٣٤ .


وأما منزلة سلمان الفارسي ـ عند النبي ـ ومنزلة الإسلام عند سلمان فأشهر من أن تذكر .

قال ابن حجر : (١) « سلمان أبو عبد الله الفارسي ـ ويقال له سلمان الخير وسلمان بن الإسلام . . .

روى عنه أنس بن مالك وكعب بن عجرة ، وابن عباس ، وأبو سعيد وغيرهم من الصحابة ، ومن التابعين أبو عثمان والنهدي ، وطارق بن شهاب وسعيد بن وهب وآخرون بعدهم » .

وذكر يوسف المالكي (٢) أن سلمان كان إذا قيل له : ابن من أنت ؟ قال أنا سلمان بن الإسلام من ولد آدم . . .

وذكر معمر عن رجل من أصحابه قال دخل قوم على سلمان ـ وهو أمير على المدائن ـ وهو يعمل الخوص . فقيل له تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق ؟ فقال أني أحب أن أكل من عمل يدي (٣) . . .

وكان خيراً فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا . . .

وروى عن النبي ـ من وجوه ـ أنه قال لو كان الدين عند السماء لناله سلمان . . . وعن عائشة قالت كان لسلمان مجلس مع رسول الله ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله .

وروى من حديث أبي بريدة عن أبيه عن النبي أنه قال :

أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم ، علي وأبي ذر والمقداد وسلمان . »

__________________

١ ـ الإصابة في تمييز الصحابة ٢ / ٦٠ .

٢ ـ الاستيعاب في أسماء . الأصحاب ٢ / ٤٥ ـ ٥٨ .

٣ ـ وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة ـ من الأنصار ـ عند بعض مواليه . وكان أول مشاهده الخندق ، وهو الذي أشار بحفره . فقال أبو سفيان وأصحابه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، وتوفى في أواخر خلافة عثمان وقيل في خلافة عمر .


فسلمان الفارسي بنظر الإسلام أفضل من معاوية وأبيه العربيين . القرشيين . ذكر لمقريزي (١) « إن أبا بكر كلم أبا سفيان فرفع صوته . فقال أبو قحافة : أخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب . فقال أبو بكر يا أبا قحافة : إن الله بني في الإسلام بيوتا كانت غير مبنية . وهدم بيوتا كانت في الجاهلية مبنية . وبيت أبي سفيان مما هدم »

فموقف الأمويين من الموالي إذن موقف لا يجيزه الاسلام من الناحية المبدئية العامة . وتتجسم بشاعة ذلك الموقف إذا تذكرنا أن قسماً كبيراً من الموالي ـ وبخاصة الفرس منهم ـ كانوا من أفاضل المسلمين الأمر الذي حمل ابن خلدون على القول بأن حمله العلم في الاسلام أكثرهم العجم .

قال ابن خلدون : « من الغريب الواقع أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربى في نسبته ومرباه ومشيخته مع أن اللغة عربية وصاحب شريعتها عربي . . . فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما : وكلهم عجم في أنسابهم . وكذا حملة الحديث الذين حفظوا عن أهل الاسلام أكثرهم عجم . .

وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً . . . وكذا حملة الكلام . وكذا أكثر المفسرين . ولم يقم بحفظه وتدوينه إلا الأعاجم . . . وظهر مصداق قول النبي : « لو تعلق العلم بأكناف السماء لنا له قوم من أهل فارس (٢) » فأنت ترى أن الفرس ـ وهم الذين تطلق عليهم كلمة الموالي في الأعم الأغلب ـ قد برعوا في شتى صنوف المعرفة العربية الاسلامية .

__________________

١ ـ النزاع والتخاصم ١٩٠ .

٢ ـ مقدمة ابن خلدون : ٥٤٣ ـ ٥٤٤ .


ومن الغريب أن ينتزع الفرس من العرب ـ بالإضافة إلى علم الكلام وأصول الفقه والحديث وتفسير القرآن ـ قواعد اللغة العربية ، وهو أمر بعيد عن متناول المسلم غير العربي كما هو معروف .

أما براعة الفرس في الفقه فقد بلغت حد الإعجاز فقد روى عن أبي ليلى أنه قال : « قال لي عيسى بن موسى ـ وكان ديانا شديد العصبية .

من كان فقيه البصرة ؟ قلت الحسن بن أبي الحسن .

قال ثم من ؟ قلت محمد بن سيرين .

قال فما هما ؟ قلت موليان . قال فمن كان فقيه مكة ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار .

قال فما هؤلاء ؟ قلت : موالي ، قال فمن فقهاء المدينة ؟ قلت يزيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ، ونافع بن أبي نجيح .

قال فما هؤلاء ؟ قلت موالي فتغير لونه ـ ثم قال : فمن أفقه أهل قباء ؟ قلت ربيعة الرأي ، وابن أبي الزناد قال : فما كانا ؟ قلت من الموالي . فاربد وجهه . ثم قال : فمن كان فقيه اليمن ؟ قلت طاووس وابنه وابن منبه .

قال فما هؤلاء ؟ قلت من الموالي . فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا . ثم قال : فمن كان فقيه الشام ؟ قلت مكحول . قال فما كان مكحول هذا ؟ قلت موالي .

قال فتنفس الصعداء . ثم قال : فمن كان فقيه الكوفة ؟ قال : فوالله لولا خوفه لقلت الحكم بن عينية ، وعمار بن أبي سليمان . ولكني رأيت فيه الشر فقلت : إبراهيم والشعبي . قال فما كانا ؟ قلت عريان . قال الله اكبر . وسكن جأشه (١) . »

__________________

١ ـ ابن عبد ربه : « العقد الفريد » ٢ ص ٢٦٢ . كان الأولى بعيسى بن موسى أن يرتاح لبروز الفرس في الفقه بجانب إخوانهم العرب ومساهمتهم لخدمة الدين الحنيف .


هؤلاء هم العجم الذين كان دعاة الأمويين ـ وما زلوا ـ ينتقصونهم في دينهم وفي أحسابهم وفي خلقهم .

ومن المحزن حقا أن تلصق بهؤلاء المسلمين صنوف التهم ومختلف المثالب والموبقات حتى أصبح القول :

« بأن الفرس دخلوا الإسلام لهدمه » من الأقوال التي يرددها كثير من الناس دون تثبت أو انصاف .

وقد أسرفت كتب التاريخ المدرسي عندنا ـ في هذه القضية ـ غاية الاسراف .

فمصرع الخليفة الثاني مثلا : كان سببه ـ بنظر مؤلفيها ـ مؤامرة فارسية لهدم الإسلام ، وسقوط الدولتين الأموية ، والعباسية ، والنزاع بين المنصور وأبي مسلم الخراساني ، وبين الرشيد والبرامكة ، وبين الأمين والمأمون الخ . .

كلها أمثلة من هذا القبيل . وقد بلغ بعض الكتاب المعاصرين (١) في هذا الاتهام ذروته حين نسب للفرس مصرع الإمام علي بن أبي طالب مع علمه بحبهم له ـ لعدالته وتقواه ـ .

ومن يدري فلعل حب الفرس لعلي هو الذي جعل هؤلاء الكتاب يبغضونهم ويكيلون لهم التهم دون حساب .

ولا يخفى ما في هذه المزاعم والأباطيل من تجن على التاريخ وتبسيط لحوادثه .

ومما يلفت النظر إن أولئك الكتاب يميزون احيانا بين الفرس على أسس أخرى غير فارسيتهم . فيحترمون بعضهم إلى حد العبادة ويمقتون بعضا آخر إلى حد الكفر .

__________________

١ ـ الدكتور بديع شريف « الصراع بين الموالى والعرب » دار الكتاب العربي بمصر ، ١٩٥٤ ص ٣٢ ـ ٣٣ .


ويجرى هذا المجرى : أن أولئك الكتاب « العرب » كثيرا ما يعتبرون غير العرب « عربا » وبالعكس من الناحية « القومية » .

لقد مر بنا القول بأن الموالي قد برعوا في العلوم الإسلامية وتفوقوا فيها على العرب . ترى لماذا برع الموالي في إتقان العلوم الإسلامية ؟ وتخلف عنهم العرب ؟

هل يعود السبب في ذلك إلى اختلاف في وراثاتهم الجسمية والعقلية ؟

أم أنه يرجع إلى عوامل بيئية صرفة ؟

هل أشتل الأمويون العرب في الحروب والمؤامرات السياسية فصرفوهم عن العلم ؟ فخلا الجو العلمي للموالي ؟

وهل شعر الموالي بضرورة تجنب الاشتراك في السياسة الأموية فانصرفوا بكليتهم إلى العلم ؟

إن الاجابة بالإثبات عن السؤال الرابع وبالنفي عن السؤال الثالث تعتبر من أوليات العلم الحديث ـ وبخاصة علم النفس والاجتماع ـ .

فلم يبرع الموالي في الجوانب العلمية لأنهم موال بل برعوا فيها لانصرافهم لها دون العرب .

وقد أدى انصراف الموالي إلى البحث والتتبع في العلوم الإسلامية إلى اختلاف في تفسير النصوص الموجودة في القرآن والحديث وبالتالي إلى ظهور مسائل اجتهادية كثيرة أبعدت المسلمين عن بعضهم بعضا .

وهذه ظاهرة لا ينبغي أن تثير الدهشة أو الاستغراب . فإن من مستلزمات البحث الحر أنه يؤدى إلى تشعب الدراسة واختلاف في وجهات النظر . ويظهر ذلك في شتى صنوف المعرفة الإنسانية ، الطبيعية منها والاجتماعية مع اختلاف في سعة ذلك الاختلاف » .


ومن الطريف أن ننبه القارىء إلى أن آينشتين العالم الفيزيائي المعروف قد أطلق على نظرياته العلمية اسم « النسبية » للتعبير عن الاختلاف الذي أشرنا إليه فاختلاف وجهات النظر بين الباحثين إذن أمر لا بد من حدوثه ، وأنه يؤدي ـ في العادة ـ إلى ازدهار المعرفة الإنسانية ويصدق ما ذكرناه على الفقه كما يصدق على ضروب المعرفة الأخرى ، مع هذا الفارق الكبير : هو أن الاجتهاد ـ في مجال الفقه ـ يجب أن يسير في نطاق الدين الإسلامي وفي إطار القرآن وسنة الرسول .

فهل يجوز إذن أن يعتبر انصراف الموالي ـ للجوانب العلمية الفقهية ـ وما رافق ذلك من تعدد في الرأي واختلاف في وجهات النظر ـ هدما للإسلام ؟

وإذا لم يكن الأمر كذلك فهل بالإمكان اعتبار سياسة الامويين ـ تجاه الموالي وتجاه العرب الذين طالبوا الأمويين بضرورة السير وفق مستلزمات الدين ـ هدما للإسلام ؟

إننا لا نشك في أن القارىء المنصف يشاركنا الإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال .

أما قضية المفاضلة بالأحساب فيتلخص رأي الموالي في ردهم على ابن قتيبة . ذكر ابن عبد ربه (١) إن الموالي يقولون : « إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاضلهم ولا السيد منهم والمسود والشريف والمشروف . ولكننا نزعم أن تفاضل الناس ـ فيما بينهم ـ هو ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم .

ألا ترى إنه من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من هاشم في ذؤابتها ! ! . إنما الكريم من كرمت أفعاله والشريف من شرفت همته . »

__________________

١ ـ العقد الفريد : ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩


وقد جعل الموالي الدين مقياسا لاخلاق الناس وميزانا لرفع بعضهم على بعض وأساسا لخضد شوكة الجاهلية عند الأمويين وامشاجهم من الاعراب . فذكروا ـ على ما يقول الجاحظ (١) : « إن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا : أشرف من العرب ، ولما حول ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم .

فنحن معاشر الموالي ـ بقديمنا من العجم ـ أشرف من العرب . والحديث ـ الذي صار لنا في العرب ـ أشرف من العجم . وللعرب الجديد دون القديم . ولنا خصلتان وافرتان جميعا .

وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة الواحدة . »

ومهما يكن من شيء فقد أوقد الأمويون نار البغضاء بين المسلمين ـ العرب والموالي ـ على رغم أنف الإسلام . فطعن كل منهما في نسب صاحبه وفي دينه وأخلاقه .

فظهرت الشعوبية من جهة وبرز الره عليها من جهة أخرى .

واحتدمت المعارك الكلامية بين الطرفين وتفنن كل جانب بلصق التهم بخصمه دون حساب .

وانتشرت كتب المثالب في كثير من الأرجاء .

وإلى القارىء طرفا من هذا الوجه من وجوه الحياة الثقافية للمسلمين بعد مصرع الإمام علي بن أبي طالب . ذكر الجاحظ ما نصه (٢) :

ونبدأ على اسم الله بذكر مذهب الشعوبية وبمطاعنهم على خطباء العرب بأخذ

__________________

١ ـ رسائل الجاحظ ص ٢٩٠ .

٢ ـ البيان والتبيين ٣ / ٤ ـ ١٣ .


المخضرة عند مناقلة الكلام ومساجلة الخصوم بالموزون المقفى والمنثور الذي لم يقف ، وبالارجاز عن الممتدح وعند مجافاة الخصم وساعة المشاولة .

وفي نفس المجادلة والمجاولة . وكذلك الإسجاع عند المنافرة والمفاخرة واستعمال المنثور في خطب الحمالة وفي مقامات الصلح وسل السخيمة .

والقول عند المعاقدة ، والاتكاء على أطراف القسى وخد وجه الأرض بها ، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها وأفنت يوم الحفل في مذاهبها . ولزومها العمائم في أيام الجموع ، وأخذها المحاضر في كل حال ، وجلوسها في خطب النكاح وقيامها في خطب الصلح . .

وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام والمجامع الكبار .

والتماسح بالأكف والتحالف على النار . والتعاقد على الملح ، وأخذ المؤكد واليمين الغموس (١)

وقالت الشعوبية : القضيب للإيقاع والقناة للغار والعصا للقتال والقوس للرمي . وليس بين الكلام وبين العصا سبب ، ولا بينه وبين القوس نسب . وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر ويعترضا الذهن أشبه .

وليس في حملها ما يشحذ الذهن ولا في الإشارة بها ما يجلب اللفظ .

والخطابة شيء في جميع الأمم وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة . ولكنكم

__________________

١ ـ المخضرة : العصا . المتح : السقي من البئر بالدلاء . المجاثاة : هي أن يجثو الخصمان على الركب أمام بعضهما ثم يأخذان في صنوف الجدل . المشاولة : تفرق الكلمة وأن يتعرض كل خصم لخصمه بالسب . الحمالة : الدية يحملها القاتل إلى أهل المقتول سهل السخيمة : نزع الضغينة الخد : الشق . اسحنفر مضى مسرعا في قوله . افتنت أخذت في فنون القول .


كنتم رعاة بين الإبل والغنم فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحملها في السفر .

وحملتموها في المدر بفضل عادتكم لحملها في الوبر .

وحملتموها في السلم بفضل عادتكم لحملها في الحرب . وبطول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جف كلامكم وغلظت مخارج أصواتكم حتى كأنكم إنما تخاطبون الصمان إذا كلمتم الجلساء . وإنما جل قتالكم بالعصى ، ورماحكم من مران وأسنتكم من قرون البقر .

وتفخرون بطول القناة ولا تعرفون الطعن والمطارد . وإنما لقنا الطوال للرحالة والقصار للفرسان والمطارد لصيد الوحش . وتفخرون بطول الرمح وقصر السيف .

فلو كان المفتخر بقصر السيف الراجل ـ دون الفارس ـ لكان الفارس يفخر بطول السيف ، وإن كان الطول في الرمح إنما صار صوابا لأنه ينال به البعيد ولا يفوته العدو ، ولأن ذلك يدل على شدة أسر الفارس وقوة أيده . فكذلك السيف العريض الطويل .

وكنتم تتخذون للقنا زجا وسنانا حين لم يقبض الفارس منكم على أصل قناته .

وكنتم لا تقاتلون بالليل ولا تعرفون البيات ولا الكمين (٢) . »

ثم ينتقل الجاحظ ـ بعد أن ذكر مطاعن الشعوبية على العرب ـ إلى الرد عليهم . فيقول في الكتاب الآنف الذكر (٢) :

__________________

١ ـ المطارد جمع مطرد وهو الرمح القصير . الزج حديدة مدببة تركب في أسفل الرمح . البيات الايقاع بالعدو ليلا . الصمان جمع أصم . المران نوع من الشجر .

٢ ـ البيان والتبيين ٣ / ١٤ ـ ٢٨ .


قلنا ليس لكم فيما ذكرتم دليل على أن العرب لا تقاتل باليل .

قال سعد بن مالك في قتل كعب . . .

وليلة تبع وخميس سعد

أتونا ـ بعد ما نمنا ـ دبيبا

فلم نهدأ لبأسهم ولكن

ركبنا حد كوكبهم ركوبا

بضرب تفلق الهامات منه

وطعن يفصل الحلق الصليبا

وأما قولهم أن العرب لا يعرفون الكمين فقد قال أبو قيس بن الأسلت :

وأحرزنا المغانم واستبحنا

حمى الأعداء ، والله المعين

بغير خلابة وبغير مكر

مجاهرة ولم يخبأ كمين

وأما ما ذكروا في شأن رماح العرب فليس الأمر في ذلك على ما يتوهمون وللرماح طبقات : فمنها : النيزك ، ومنها المربوع ومنها المخموس ومنها التأم ومنها الخطل . . .

وجملة القول إنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس . وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكير ودراسة الكتب . وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال .

والدليل على أن أخذ العصا مأخوذ من أصل كريم ومن معدن شريف اتخاذ سليمان بن داود العصا لخطبته .

وقد جمع الله لموسى في عصاه من البرهانات العظام . ألم تر أن السحرة لم يتكلفوا تغليظ الناس والتموية عليهم إلا بالعصا ! ولا عاوضهم موسى إلا بالعصا ! ! . .


قال يزيد بن مفرع :

العبد يقرع بالعصا

والحر تكفيه الاشارة

ومما يدخل في باب الانتفاع بالعصا أن عامر بن الظرب العدواني حكم العرب في الجاهلية . ولما أسن واعتراه النسيان أمر بنته أن تقرع بالعصا إذا هو فه عن الحكم وجار عن القيد .

وذكر العصا يجري عندهم في معان كثيرة . تقول العرب : العصا من العصية . ويقال أن فلان شق عصا المسلمين .

وقال العتابي في مدح بعض الخلفاء :

إمام له كف تضم بنانها

عصا الدين ممنوع من البرى عودها

وعين محيط بالبرية جفنها

سواء عليه قربها وبعيدها

وقال المضرس الاسدي :

وألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالاياب المسافر »

وذكر ابن خلدون (١) وهو غير شعوبي ـ آراء في العرب لا تختلف من حيث الأساس عن آراء الشعوبيين . فاتهم العرب بأنهم لا يتغلبون إلا على البسائط . « وذلك أنهم بطبيعة التوحش ـ الذي فيهم ـ أهل إنتهاب وعبث . ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر .

ويفرون إلى منتجعهم بالقفر . ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم . والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عبثهم وفسادهم .

__________________

١ ـ مقدمة ابن خلدون ص ١٤٩ ـ ١٥٢ .


وأن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الفساد .

والسبب في ذلك : أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبله وكان عندهم ملذوذا لما فيه من خروج على ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة .

وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له . فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له .

فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافى للقدر . فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك .

والخشب أيضا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم . فيخربون السقف عليه . لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران . هذا في حالهم على العموم .

وأيضا في طبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وأن رزقهم في ضلال رماحهم . وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه . بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه .

وأيضا فأنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعض عن بعض إنما هم يأخذونه من أموال الناس نهبا أو غرامة . فإذا توصلوا إلى ذات وحصلوا عليه أعرضوا مما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد .

هذا إلى أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بعصبية دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة . والسبب في ذلك أنهم ـ لخلق التوحش فيهم ـ أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة . فقلما تجتمع أهواؤهم .


فإذا كان الدين بالنبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم ، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم . . .

فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ثم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك . وهم مع ذلك اسرع الناس قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيء لقبول الخير . ـ يضاف إلى ذلك ـ أن العرب ـ أبعد الأمم عن سياسة الملك والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات الناول لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش . فاستغنوا عن غيرهم . فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش .

ورئيسهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة .

فكان مضطرا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم . . .

فإن من طبيعتهم كما قدمنا أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض .

فإذا ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الاحكام بينهم . . .

فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك ، وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم . »

وإذا أمعنا النظر في الفقرات التي اقتطفناها من الشعوبيين وابن خلدون أمكننا


أن تقول ـ أن ما ذكره الشعوبيون وابن خلدون من مطاعن على العرب أمر ناتج عن طبيعة بيئة العرب لا عن عروبتهم .

وذلك لأن الأوضاع الطبيعية والإجتماعية التي نشأ فيها العرب قد أكسبتهم الصفات التي اتخذها الشعوبيون وابن خلدون مطاعن عليهم .

ودليلنا على ذلك : إن جميع الأمم « التي تتعرض لظروف طبيعية واجتماعية مماثلة » تكتسب عادات وتقاليد مماثلة لعادات العرب وتقاليدهم . هذا من جهة .

ومن جهة ثانية فإن العرب أنفسهم إذا اختلفت بيئتهم المعاشية يكتسبون عادات وتقاليد جديدة منبثقة عن محيطهم الجديد وملائمة له .

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الشعوبيين ـ في الفقرات التي ذكرناها ـ قد ذهبوا إلى ما ذهبنا إليه من حيث الأساس وإن لم يذكروه وبصراحة ووضوح .

فقد اعتبروا مآخذهم على العرب ناتجة عن بيئتهم المعاشية .

ولكن فاتهم ، مع هذا ، أن يتذكروا أنهم بحكم كونهم عاشوا في بيئة مختلفة عن بيئة العرب قد اكتسبوا عادات وتقاليد تختلف عن تلك التي اتصف بها العرب . فنتج عن ذلك أنهم أخطأوا باتخاذهم عاداتهم وتقاليدهم مقياسا للحكم على تقاليد العرب وعاداتهم .

فاعتبروا اختلاف عادات العرب وتقاليدهم عن عاداتهم وتقاليدهم شذوذا وبالتالي نقصا عند العرب . ويصدق الشيء نفسه على العرب في ردهم على خصومهم .

أما حجج الجاحظ ـ في تنفيد آراء الشعوبيين ـ « وبخاصة دفاعه عن العصا » فهزيلة ومضحكة .


الفصل الخامس

جوانب أخرى من صراعهم مع الدين

لقد مر بنا الحديث عن قسم من جوانب الصراع الذي حدث بين الأمويين من جهة ومبادىء الدين الإسلامي من جهة أخرى . ونود ـ فيما تبقى من هذه الدراسة ـ أن نشير بشيء من الإيجاز غير المخل ، إلى جوانب أخرى من ذلك الصراع الرهيب أتاح للأمويين ، من الأسف الشديد ، أن يسيروا في حكمهم على سياسة جاهلية مكشوفة ، هي والدين الإسلامي على طرفي نقيض . وتتلخص تلك السياسة بجملة واحدة : هي الانصراف الكلي للحياة الدنيا ـ بأبشع صورها ـ والتكالب على موبقاتها وملاذها الرخيصة على حساب الدين . نقول :

« الانصراف الكلي إلى الحياة بأبشع صورها » ولا نقول :

الانصراف إلى الحياة . لأننا لا نجد تعارضا بين المثل العليا التي جاء بها الدين ـ وبخاصة الجوانب الاخلاقية منها ـ وبين الحياة التي يمكن أن يحياها الناس . ذلك لأن الدين يسعى ـ في جوانبه الخلقية ـ إلى رفع مستوى الحياة ليسمو بها فوق المستوى البهيمي الذي ينغمس فيه كثير من الناس .

أي ان الدين ، بعبارة أخرى ، لا يتعارض إلا مع الجوانب المنحطة من الحياة . فإذا سمت الحياة إلى المستوى الخلقي الذي يريده الدين زالت جوانب التعارض بينهما .

وعلى هذا الأساس يمكن الجمع بين الدين والدنيا . وعلى الأساس نفسه يمكن الفصل بينهما .

فقد جمع الرسول بينهما وسار على على منواله .


وسار الأمويون على نقيض ذلك . فخسروا دينهم ـ كما سنرى ـ كما خسروا دنياهم كذلك .

دنياهم في جوانبها المثلى من الناحية الخلقية الإنسانية . وقد عبر عن خسران الأمويين دينهم ودنياهم ـ أحدهم ـ أحسن تعبير حين قال :

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا

فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وفي معرض التحدث عن جوانب التعارض بين الدين والحياة : ذكر القرآن في سورة البقرة « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ . »

وجاء في سورة الاعراف : « الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا . فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . »

وجاء في سورة يونس : « إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . . . » .

وجاء في سورة هود : « مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ .‏ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ . »

وأعيد المعنى السابق نفسه ـ حيث الأساس ـ في سورة الحديد :

« اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ . »

__________________

١ ـ مقدمة ابن خلدون ص ٣٠٦ .


لقد أعطى الأمويون ، على ما يذكر ابن خلدون (١) : « الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهريا . » وكان ذلك برأيه السبب في سلب الله عزهم وتقويض ملكهم . وقد استشهد ابن خلدون على ذلك بقصة عبد الله بن مروان ـ مع ملك النوبة ـ عند هروبه من السفاح :

« قال عبد الله بن مروان أقمت مليا . ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض ؛ وقد بسطت لي فرش ذات قيمة . فقلت :

ما منعك عن القعود على ثيابنا . فقال : إني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع . ثم قال لي :

لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا واتباعنا . قال :

فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت : ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا .

فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول : عبيدنا واتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا . ثم رفع رأسه إلي وقال : ليس الأمر كما ذكرت . بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم . (١) »

فالتحلل من الدين ـ وهو الجانب الإيجابي للتكالب على الملذات الدنيوية الرخيصة ـ إذن هو الطابع العام للأخلاق الأموية . وقد اتخذ ذلك التحليل أشكالا عديدة نجملها فيما يلي :

__________________

١ ـ مقدمة ابن خلدون ص ٣٠٧ .


١ ـ قتل النفس

قتل النفس البشرية بشكل لا يجيزه الإسلام جاء في سورة آل عمران « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ . » وجاء في سورة النساء « وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ (١) وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا . » وجاء في سورة الانعام :

« قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . . . »

« وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ . وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ . إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا . » وفي سورة الفرقان .

« وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ . وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . » وذكر مسلم بن الحجاج (٢) عن أنس بن مالك بأسانيده المختلفة في الكبائر « قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور . » والتاريخ الأموي ـ كما سنرى ـ يعج بالفحش ، وقتل النفس بغير حق ، وبالظلم ، ونكث العهد ، وقول الزور وغيرها من الكبائر .

لقد كان السير وفق ما حرم الله ـ من الكبائر والموبقات ـ هو القاعدة العامة للأسرة الأموية كلما كان ذلك السير بنظرهم ـ وسيلة من وسائل تثبيت حكمهم الممقوت .

__________________

١ ـ يلاحظ أن الله لعن هؤلاء فأوجب بذلك على المسلمين لعنهم وقد ورد ذلك في أكثر من موضع في القرآن ، راجع سورة النساء ـ في موضعين ـ ، وسورة المائدة وهود ـ في موضعين وسورة الحجر وسورة ( ص ) ، وسورة محمد .

٢ ـ صحيح مسلم : ١ / ٤٩ .


ولم يلتزم الأمويون ببعض مظاهر الدين إلا حين استلزمت مصالحهم الأموية ذلك . وبقدر ما يتعلق الأمر بقتل النفس التي حرم الله ـ إلا بالحق ـ فإن في تاريخهم من مثلة على ذلك الشيء الكثير .

فقد ذهبت أرواح آلاف من المسلمين ضحايا غدرهم وعدوانهم . ولم يسجل التاريخ الإسلامي ـ على ما فيه من حوادث كثيرة من هذا القبيل ـ إلا جزءاً يسيرا مما ارتكبوه في هذا الباب .

وهنا تتوارد للذهن مأساة حجر بن عدي ، ومصرع الحسين بن علي ، ومقتل مصعب وعبد الله ابني الزبير ، واضحة للعيان .

هذا سوى مئات المسلمين الذين فتك بهم بسر بن أبي أرطاة كما رأينا .

ترى لماذا قتل الأمويون هؤلاء ؟ لأنهم ثاروا على ظلم الأمويين ؟

هل الثورة على الظلم خارجة عن نطاق الإسلام ؟

هل يجيز الإسلام موبقات الأمويين ؟

هل الحكم الأموي متفق مع القرآن وسنة الرسول ؟

ما حق الأمويين في الإستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد الإسلامية ؟

هل جاء الأمويون للحكم بأسلوب يجيزه الإسلام ؟

هل يبرر الإسلام وراثة الحكم في الأسرة الأموية خلفا عن سلف ؟

هل يعتبر قتل النفس ـ التي حرم الله ـ حقاً ؟

إذا كانت تلك النفس تدعو الناس إلى اتباع الحق ؟ وتحاسب السلطان على موبقاته ؟

تلك أسئلة تعتبر الإجابة عنها في إدانة الأمويين من أسهل الأمور .


٢ ـ شرب الخمر

كان ولع الأمويين شديدا بتعاطى شرب الخمر ، وما يتصل به من خلاعة وتبذل وغناء .

والخمر ـ كما لا يخفى ـ محرمة من الناحية الشرعية . جاء في سورة المائدة :

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ . . . رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . »

ولم يكتف الأمويون بشرب الخمر بل أسرفوا وأدمنوا وأطلقوا لأنفسهم الشريرة العنان في هذا الضرب من ضروب العبث وما يتصل به من موبقات .

وكان ملوكهم ـ في الشام والأندلس « باستثناء عمر بن عبد العزيز » يكثرون من شربه حتى بلغ بعضهم في شربه حدا يفوق الوصف .

فيزيد بن معاوية كان مدمنا ، وكان لا يمسى إلا سكران ولا يصبح إلا مخموراً .

وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرة حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء .

وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوما ويدع يوما .

وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليال ليلة .

وكان هشام يسكر في كل جمعة .

وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشرب .

فأما يزيد بن الوليد فكان ـ دهره ـ بين حالين : سكر وخمار . ولا يوجد أبداً إلا ومعه إحدى هاتين .


وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت (١) . »

وللخمر كما لا يخفى مضار يتعدى أثرها شخص من يتعاطاها فينتظم الآخرين من ذوي العلاقة ـ من طرف قريب أو بعيد ، وبصورة مباشرة . ويتسع مجال ذلك الضرر باتساع مجال علاقات ذلك الشخص بغيره من الناس .

فكيف به إذا كان « أميراً للمؤمنين » و « خليفة للمسلمين » ! ! !

لقد مر بنا القول أن من ملازمات الخمر الغناء والتبذل والخلاعة . والملوك السابقين ـ على يحدثنا الجاحظ ـ : تقاليد خاصة في هذا الباب .

غير أن الأمويين قد أدخلوا على بعضها تحويراً استلزمته طبيعة استهتارهم بالدين وبالأخلاق . فمن أخلاق الملك عند الشرب : « أن يجعل ندماءه طبقات ومراتب . وأن يخص ويعم ويقرب ويباعد ويرفع ويضع . . . وليس من حق الملك أن يبرح مجلسه إلا لقضاء حاجة . . . وليس له أن يختار كمية ما يشرب ولا كيفيتها . إنما هذا إلى الملك . . . فلما ملك يزيد بن عبد الملك ساوى بين الطبقة العليا والسفلى من الندماء وأفسد أقسام المراتب . . . وغلب عليه اللهو . . وهو أول من شتم في وجهه من الخلفاء على جهة الهزل والسخف (٢) . »

ومن المحزن حقا أن يشجع « خليفة المسلمين » المساواة في التبذل والدعارة ويمنعها في المعاملة وتطبيق أسس الشريعة السمحاء . فلم يساو « الخليفة » بين المسلمين في العطاء ، ولكنه ساوى بين ندمائه في الموبقات ليرفع عن نفسه حواجز التبذل والاستهتار .

وروى الجاحظ كذلك ـ في معرض الموازنة بين تبذل الأمويين بالنسبة

__________________

١ ـ الجاحظ « التاج في أخلاق الملوك » ص ١٥١ ـ ١٥٤ .

٢ ـ « المصدر نفسه » ص ٢١ ـ ٣٠ .


لبعضهم ـ أنه سأل اسحق بن ابراهيم فيما إذا كان ملوك بني أمية يظهرون للندماء والمغنين فقال له اسحق : « أما معاوية بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان وسليمان وهشام ، ومروان بن محمد فكان بينهم وبين الندماء ستارة .

وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب للمغني والتذه حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حتى لا يراه إلا خواص جواريه . . .

وأما الباقون ـ من خلفاء بني أمية ـ فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ، ويحضروا عراة بحضرة الندماء والمغنين .

وعلى ذلك لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء والتجرد ما يباليان ما صنعا (١) »

هذا نموذج من تبذل الأمويين في أخلاقهم وفي دينهم ـ وهو شيء يمجه ـ دون شك ـ الذوق السليم ويأباه الخلق الرفيع ولا يجيزه الإسلام . هذا إذا كان المتبذل من عامة الناس .

فكيف به إذا كان « خليفة المسلمين » و « أمير المؤمنين » ونائب رسول الله في تطبيق مبادىء الدين على شئون الحياة ! ! !

لقد انغمس الأمويون ـ باستثناء عمر بن عبد العزيز ـ كما ذكرنا بالموبقات إلى الأذقان « ومع ذلك فقد كان يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد أكثرهم تبذلا ـ على ما تروى كتب التاريخ والأدب ـ . وحديث الأول منهما مع سلامة وحبابة معروف لدى الكثيرين .

__________________

١ ـ الجاحظ « التاج في أخلاق الملوك » ص ٣٢ .


ذكر المسعودي (١) إنه كان يغلب « على يزيد بن عبد الملك حب جارية يقال لها سلامة القس ، وكانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري . فاشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار . فأعجب بها وغلبت على أمره .

وفيها يقول عبد الله بن قيس الرقيات :

لقد فتن الدنيا وسلامة القسا

فلم يتركا للقس عقلا ولا نفسا

فاحتالت أم سعيد العثمانية ـ جدته ـ بشراء جارية يقال لها حبابة ـ قد كان في نفس يزيد بن عبد الملك قديما منها شيء . فغلبت عليه ووهب سلامة لأم سعيد . فعذله مسلمة بن عبد الملك لما عم الناس من الظلم والجور باحتجابه وإقباله على الشرب واللهو . . . فأظهر الاقلاع والندم . فغلظ ذلك على حبابة . فبعث إلى الأحوص الشاعر ومبعد المغني : أنظرا ما أنتما صانعان ! !

فقال الأحوص : في أبيات له :

ألا لا تلمه اليوم إن يتبلدا

فقد غلب المحزون أن يتجلدا

إذا كنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فكن حجرا من بابس الصخر جلدا

فما العيش إلا ما تلذ وتشتهى

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

وغناه معبد وأخذته حبابه فلما دخل عليها يزيد قالت ـ يا أمير المؤمنين ـ اسمع مني صوتا واحدا . ثم افعل ما بدا لك . وغنته . فلما فرغت منه جعل يردد قولها :

فما العيش إلا ما تلذ وتشتهى

وعاد بعد ذلك إلى لهوه (٢)

__________________

١ ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر / ٣ / ١٣١ ـ ١٣٤ .

٢ ـ ومن طريف ما يروى عن يزيد بن عبد الملك أن حبابة غنته يوما :

بين التراقي واللهاة حرارة

ما تطئن ولا تسوغ فتبرد


وذكر اسحق بن ابراهيم الموصلي قال حدثني ابن سلام قال ذكر يزيد قول الشاعر :

صفحنا عن بنى ذهل

وقلنا القوم إخوان

عسى الأيام أن يرجعن قوما كالذي كانوا

فلما صرح الشر

فأمسى وهو عريان

مشينا مشية الليث

غدا والليث غضبان

بضرب فيه توهين

وتخضيع وأقران

وطعن كفم الزق

وهي والزق ملآن

وفي الشر منجاة حين لا ينجيك إحسان

وهو شعر قديم يقال أنه للفند في حرب البسوس . فقال لحبابة غني به بحياتي ! فقالت يا أمير المؤمنين هذا شعر لا أعرف أحدا يغني به إلا الأحول المكي . فقال نعم قد كنت سمعت ابن عائشة يعمل فيه ويترك .

قالت إنما آخذه عن فلان بن أبي لهب وكان حسن الأداء . فوجه يزيد إلى صاحب مكة : إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان بن أبي لهب ألف دينار لنفقه طريقه وأحمله على ما شاء من دواب البريد . ففعل . فلما قدم عليه قال غن بشعر الفند . فغناه فأجاد وأحسن . وقال أعده فأعاده فأجاد وأحسن وأطرب يزيد . فقال له ممن أخذت هذا الغناء ؟ فقال يا أمير المؤمنين أخذته عن أبي ، وأخذه

__________________

= فأهوى يزيد ليطير . فقالت يا أمير المؤمنين لنا بك حاجة . فقال والله لأطيرن . . . وقد قورن موقفه هذا بموقف أبيه عندما خاطب زوجته عاتكة « لما أرادت منعه من الخروج إلى قتال مصعب بن الزبير » قائلا قاتل الله كثير عزة كأنه شاهد هذا حين قال :

إذا ما أراد الغزو لم يثن همه

حصان عليها نظم در يزينها

نهته فلما لم تر النهي نافعا

بكت فبكى ـ مما شجاها ـ قطينها


أبي عن أبيه ، فقال لو لم ترث إلا هذا الصوت لكان أبو لهب قد ورثكم خيراً كثيراً .

فقال يا أمير المؤمنين إن أبا لهب مات كافرا مؤذيا لرسول الله .

فقال قد أعلم ما تقول ، ولكن دخلتني له رقة إذ كان مجيد الغناء . ووصله وكساه ورده إلى بلده مكرما . . .

واعتلت حبابة فأقام يزيد أياما لا يظهر الناس . ثم ماتت فأقام أياما لا يدفنها جزعا عليها . . . فقيل له إن الناس يتحدثون بجزعك وأن الخلافة تجل عن ذلك . فدفنها وأقام على قبرها فقال :

فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى

فباليأس تسلوا النفس لا بالتجلد

ثم أقام بعدها أياما قلائل ومات . .

وحدث أبو عبد الله محمد بن ابراهيم عن أبيه عن اسحق الموصلي عن أبي الحويرث الثقفي قال : لما ماتت حبابة حزن عليها يزيد بن عبد الملك حزناً شديداً ، وضم إليه جويرية كانت تحدثها فكانت تخدمه . فشملت الجارية يوما :

كفى حزنا للهائم الصب أن يرى

منازل من يهوى معطلة قفرا

فبكى . . . ولم تزل جويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات . »

وفي معرض التحدث عن الوليد بن يزيد يقول صاحب الأغاني (١) أنه كان « فاسقا خليعا متهما في دينه مرميا بالزندقة . وشاع ذلك من أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل .

وله أشعار تدل على خبثه وكفره . »

__________________

١ ـ الأصبهاني « الأغاني » ٦ / ٩٩ ـ ١٠٦ .


وكان الوليد وليا للعهد أثناء خلافة هشام .

وكان مكرما عنده « حتى طمع هشام في خلعه وعقد العهد لابنه مسلمة . . . فولاه الحج ليظهر فسقه بالحرمين فىسقط . فحج الوليد وظهر منه فعل كثير مذموم . وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس . . .

فدعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة ، وكان يكنى أبا شاكر ـ .

وكتب هشام إلى الوليد : إنك ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر . فليت شعري ما دينك ؟ . . . فكتب إليه الوليد ـ معرضا بابنه مسلمة ـ

أيها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكر

نشربها صرفا وممزوجة

بالسخن أحياناً وبالفاتر (١)

ومن طريف ما يرويه (٢) الطبري عن الوليد أثناء توليته الحج ـ كما ذكرنا ـ أنه عندما ولاه هشام الحج في عام ١١٩ هـ حمل « معه كلابا في صناديق . فسقط منها صندوق ـ فيما يذكر علي بن محمد عمن سميت من شيوخه ـ عن البعير وفيه كلب . . .

وحمل الوليد معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة . وحمل معه خمراً . وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها . فخوفه أصحابه وقالوا لا نأمن الناس علينا معك . فلم يحركها . »

__________________

١ ـ فغضب هشام على ابنه مسلمة . فأغرى مسلمة شاعرا يمدحه فقال :

أيها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكر

الواهب البزل بارسانها

ليس بزنديق ولا كافر

٢ ـ تاريخ الأمم والملوك / ٧ / ٢٨٩ .


ومن أقذر ما يؤثر عن الوليد أنه عندما سمع بنعي هشام ـ على ما يذكر ابن شبة (١) ـ قال « والله لا تلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر وأنشأ يقول :

طاب يومي ولذ شرب السلافة

إذ أتاني نعي من بالرصافة

وأتانا البريد ينعى هشاما

وأتانا بخاتم للخلافة

فاصطحبنا من خمر عانة صرفا

ولهونا بقينه عزافة

وأقذر من ذلك أنه قال ـ حين سمع صياحا « فسأل عنه فقيل له هذا من دار هشام يبكيه بناته » :

إني سمعت بليل

ـ وراء المصلى ـ برنه

إذ بنات هشام

يندبن والدهنه

يندبن قرما جليلا

قد كان يعضدهنه

أنا المخنث حقا

إن لم أنيكهنه

ومن مجونه أيضاً ـ على شرابه ـ قوله لساقيه :

أسقني يا يزيد بالقرقاره

قد طربنا وحنت الزماره

اسقني اسقني فان ذنوبي

قد أحاطت فما لها كفاره

والخلاصة : فإن الوليد ـ في معرض الغرام والتبذل ـ كان كما وصفه ابن عبد ربه (١) عاكفا « على البطالة وحب القيان والملاهي ، والشراب ومعاشقة النساء .

فتعاشق سعدى ابنة سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها .

__________________

١ ـ الأغاني / ٦ / ١٠٥ ـ ١٠٦ .

٢ ـ العقد الفريد ٤ / ١٨١ .


ثم تعاشق أختها سلمى . فطلق أختها سعدى وتزوج سلمى . فرجعت سعدى إلى المدينة فتزوجت بشر بن الوليد بن عبد الملك .

ثم ندم الوليد على فراقها . وكلف بحبها . فدخل عليه أشعب المضحك . فقال له الوليد :

هل لك على أن تبلغ سعدى مني رسالة ولك عشرون ألف درهم ؟ قال هاتها . فدعها إليه . فقبضها وقال ما رسالتك ؟ قال : إذا قدمت المدينة فأستأذن على سعدى وقل لها يقول لك الوليد :

أسعدى ما إليك من سبيل

ولا حتى القيامة من تلاق

بلى ولعل دهرا أن يؤاتى

بموت من خليلك أو فراق

فأتاها أشعب فقال يا سيدتي : أرسلني إليك الوليد برسالة . قالت : هاتها فأنشدها البيتين .

فقالت : ما جرأك على مثل هذه الرسالة ! ! قال : إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة . قالت : والله لاجلدنك أو لتبلغنه كما بلغتني ! ! قال فأجعلي لي جعلا . قالت : بساطي هذا .

قال فقومي عنه . فقامت . فطواه وضمه ، ثم قال هاتي رسالتك فقالت قل له :

أتبكي على سعدى ! وأنت تركتها

فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع ؟

فلما بلغه الرسالة ـ هدده بالقتل ـ

فقال أشعب : يا سيدي ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدى . فضحك وخلى سبيله . » (١)

__________________

١ ـ ابن عبد ربه العقد الفريد ٣ / ١٨٤ .


أما ـ في معرض الشراب ـ فالوليد كان ـ بالإضافة إلى ذكرناه ـ كما وصفه علي بن عباس (١) حين قال :

« إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتى بابن شراعة من الكوفة . فوالله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له :

يا ابن شراعة أنا والله ما أبعث إليك لأسألك عن كتاب الله وسنة رسوله . قال : لو سألتني عنهما لوجدتني حمارا ! ! قال : إنما أرسلت إليك لاسألك عن القهوة .

قال : دهقانها الخبير ولقمانها الحكيم وطبيبها العليم قال :

خبرني عن الشراب ! ! قال : يسأل أمير المؤمنين عما بدا له . قال :

ما تقول في الماء ؟ قال لا بد لي منه . والحمار شريكي فيه . قال : ما تقول في اللبن ؟ قال ما رأيته قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به .

قال ما تقول في السويق قال : شراب الحزين والمستعجل والمريض . قال :

فنبيذ التمر ؟ قال سريع الإمتلاء سريع الانفشاش . قال فنبيذ الزبيب ؟ قال : حاموا به على الشراب . قال ما تقول في الخمر ؟ قال أواه تلك صديقة روحي .

قال : وأنت ـ والله ـ صديق روحي (٢) . »

__________________

١ ـ ويروى أن الوليد قال ـ في سلمى ـ قبل تزويجه بها ـ .

لعل الله يجمعني بسلمى

اليس الله يفعل ما يشاء ! !

ويأتي بي ويطرحني عليها

فويوقظني وقد قضى القضاء

ويرسل ديمة من بعد هذا

فتغسلنا وليس بنا عناء

٢ ـ « أمير المؤمنين » يستفسر عن مراتب الشراب وأوصافه ، وليس له حاجة ـ باعترافه ـ أن يستفسر عن الكتاب أو السنة . يفعل ذلك على مرأى ومسمع من المسلمين .


وأما سبب قتله فقد رواه اسحق بن محمد الأزرق حين قال : ـ على ما يروى ابن عبد ربه (١) دخلت على منصور بن جهور الأزدي ـ بعد قتل الوليد ابن يزيد ـ وعنده جاريتان من جواري الوليد . فقال لي : اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان . قالتا قد حدثناك ! ! قال حدثاه كما حدثتماني .

قالت إحداهما : كنا أعز جواريه عنده . فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة . فأخرجها ـ وهي سكرى جنبة ـ متلثمة فصلت بالناس . »

ولا ندري فيما إذا كان من المستطاع أن يبلغ الاستهتار بالدين وبالأخلاق عند « خليفة المسلمين » حدا يتعدى ما وصل إليه عند الوليد ! !

ترى لماذا استهتر الأمويون بالإسلام إلى هذا الحد ؟

تارة بالخروج على تعاليمه ، وأخرى بقتل الداعين إلى إتباعه .

وطوراً عن طريق هدم الكعبة واستباحة المدينة الخ ! ! !

أهو من باب التشفى من قتلاهم في عهد الرسول ؟

ذلك ما نجنح إلى قبوله والتسليم بوجاهته .

روى أبو خليفة ـ الفضل بن الحباب الجمحي القاضي ـ عن محمد بن سلام الجمحي « قال : حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن أبيه . قال :

كنت سميرا للوليد بن يزيد فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له :

إني رأيت صبيحة النحر

حورا تفين عزيمة الصبر

مثل الكواكب في مطالعها

عند العشاء أطفن بالبدر

وخرجت أبغى الأجر محتسباً

فرجعت موقورا من الوزر

__________________

١ ـ العقد الفريد ٣ / ١٦١ .


فقال الوليد أحسنت والله . . . أعد بحق عبد شمس . فأعاد .

فقال : أحسنت والله أعد بحق أمية فأعاد .

فجعل يتخطى من أب إلى أب ويأمره بالإعادة حتى بلغ نفسه .

فقال أعد بحياتي . فأعاد . فقام إلى ابن عائشة فأكب عليه . ولم يبق عضوا من أعضائه إلا قبله . وأهوى إلى أيره .

فجعل ابن عائشة يضم دكره بين فخذيه . فقال الوليد ـ والله ـ لا زلت حتى أقبله . فقبل رأسه .

وقال : وا طرباه ! ! وا طرباه ! !

نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة وبقى مجرداً إلى أن أتوه بثياب غيرها .

ودعا بألف دينار فدفعت إليه . وحمله على بغلة وقال أركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغضى . . .

قد كان ابن عائشة غنى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك ـ أباه ـ فأطربه وقيل : إنه ألحد وكفر في طربه . . .

وذكر محمد بن يزيد المبرد أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته من ربه . . . ومن ذلك الشعر :

تلعب بالخلافة هاشمي

بلا وحي أتاه ولا كتاب (١) »

__________________

١ ـ المسعودي ، مروج الذهب ٣ / ١٤٩ . ومما يحكي أن الوليد استفتح فألا في المصحف فخرج : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . فألقى المصحف ورماه بالسهام وأنشد :

تهددني بجبار عنيد

وها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقني الوليد


٣ ـ الزنى

من الموبقات التي كانت منتشرة بكثرة ، بين العرب في جاهليتهم . وقد حاربه الإسلام محاربة لا هوادة فيها ولا شفقة .

وقد مر بنا ذكر بعض الآيات التي ورد فيها موقف الإسلام والصارم من هذا التصرف الفاسد . ولسنا في معرض التدليل على أخطار الزنى ومضاره ، القريبة والبعيدة ، المباشرة وغير المباشرة ، في الفرد وفي المجتمع الذي ينتمى إليه .

ويكفي التدليل على ذلك : أن نتذكر أن الإسلام قرن الزنى بقتل النفس التي حرم الله ، فحرمه ومنعه ووضع عقوبة صارمة على من يتعاطاه .

إستمع إلى ما جاء في سورة الانعام :

« قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . .

وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . . .

« وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ . . . وجاء في سورة الاعراف :

« قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . . . » وفي سورة بني إسرائيل :

« وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . »

وقرنه القرآن ـ في موضع آخر ـ مع الشرك « وهو أكبر الموبقات بنظر


الإسلام » فقال في سورة الفرقان : « وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ » .

وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا » .

وبقدر ما يتعلق الأمر بشيوع موبقة الزنى عند الأمويين فإن بإمكان الباحث أن يعثر على تأصله ـ في هذه الأسرة العربية الكريمة ـ منذ عهد الجاهلية ، عند رؤوس الأسرة من الرجال والنساء .

فقد مر بنا وصف ما صنعه أمية بن عبد شمس « وجد معاوية بن أبي سفيان » في الجاهلية عندما زوج إبنه عمراً إحدى نسائه في حياته فولدت أبا معيط .

وقد ورث أبو سفيان عن جده هذه الخصلة الجاهلية .

وحوادث زناه معروفة لدى الكثيرين ، نذكر منها ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ علاقاته الجنسية بالنابغة والدة عمرو بن العاص ، وبسمية أم زياد .

« فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب « ربيع الأبرار » فقال :

كانت النابغة ـ أم عمرو ـ أمة لرجل من عنزة . فسبيت .

فأشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة . فكانت بغيا . ثم أعتقها .

فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة .

وأبو سفيان والعاص بن وائل السهمي . . . فولدت عمروا » . فأدعاه كل منهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص . فقال أبو سفيان :

اما أني لا أشك أني وضعته في رحم أمه . فأبت إلا العاص .

فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسباً . فقالت :


إن العاص كثير النفقة علي . . .

وفي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو :

أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت

لنا فيك منه بينات الدلائل

ففاخر به أما فخرت ولا تكن

تفاخر بالعاص الهجين بن وائل

وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت

فقالت رجاء عند ذاك لنائل

من العاص عمرو تخبر الناس كلما

تجمعت الاقوام عند المحافل (١)

وأما علاقات أبي سفيان بسمية فأشهر من أن تذكر .

فقد ذكر أبو مريم السلولي أنه جمع بين أبي سفيان وسمية على زنى .

« وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحرث ابن كلدة .

وكانت تنزل في الموضع الذي ينزل فيه البغايا بالطائف ـ وخارجا عن الحضر ـ في محلة يقال لها حارة البغايا (٢) . » وإلى هذا المعنى يشير يزيد بن مفرغ الحميري في هجائه معاوية (٣) :

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ١٠٠ ـ ١٠١ الطبعة الأولى بمصر .

٢ ـ المسعودي ، « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ، / ٢ / ٣١٠ ـ ٣١٢ .

٣ ـ ابن الأثير « الكامل في التاريخ » ٣ / ٢٥٧ . ومن طريف ما يروى عن ابن مفرغ هذا أنه كان مع عباد بن زياد بن سمية بسجستان فانشغل عنه بحرب الترك فاستبطأه ابن مفرغ ، وأصاب الجند الذي مع عباد ضيق في علوفات دوابهم . فقال ابن مفرغ :

ألا ليت اللحى كانت حشيشاً

فنعلفها دواب المسلمينا

وكان عباد عظيم اللحية فقيل له ما أراد غيرك . فطلبه فهرب وهجاء :

إذا أودى معاوية بن حرب

فبشر شعب رحلك بالصداق

وأشهد أن أمك لم تباشر

أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمراً فيه لبس

على وجل شديد وارتياع


ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلغلة من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال أبوك زان

فأشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الإتان

أما أخبار الزنى عند الأمويين بعد ذلك وبخاصة عند يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد فمشهورة .

وقد ذكرنا طرفا منها عند البحث في الخمر .

ذلك ما يتعلق بالزنى عند رجال الامويين .

أما ما يتصل بالزنى عند نسائهم فيكفي أن نذكر حمامة أم أبي سفيان ـ جدة معاوية ـ التي كانت بغيا في الجاهلية وكانت صاحبة راية ، وهند ـ أم معاوية .

والزرقاء : جدة مروان بن الحكم لأبيه . فقد كانت هند ـ على ما يذكر الرواة ـ تذكر في مكة بعهر وفجور .

ذكر الزمخشري (١) أن معاوية كان مشكوكا في أبيه . فكان يعزي إلى أربعة :

إلى مسافر بن أبي عمرو .

وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة .

وإلى العباس بن عبد المطلب .

وإلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد بن المغيرة .

وكان الصباح عسيفاً ـ أجيراً ـ لأبي سفيان ، شابا وسيما . فدعته هند إلى نفسها فغشيها .

وكان أبو سفيان دميماً قصيراً .

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ١ / ١١٠ ـ ١١٣ الطبعة الأولى .


وقيل : إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً .

وقيل أنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك .

وفي هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة الرسول قبل عام الفتح :

لمن الصبي بجانب البطحاء

في الترب ملقى غير ذي نهد

نجلت به بيضاء آنسة

عن عبد شمس صلبة الخد . »

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ابن حجر العسقلاني (١) قد ذكر « إن معاوية كان طويلا أبيض . »

وقد ذكرنا أن أبا سفيان على ما يصفه المؤرخون كان دميماً قصيراً .

وأن الصباح ـ مغنى عمارة بن الوليد بن المغيرة كان وسيما .

فهل توجد علاقات ـ فسلجية ـ موروثة بين الصباح ومعاوية ؟

وإذا كان الأمر كذلك فإن العلم الحديث يلقى بعض الضوء على ما ذهب إليه المؤرخون في هذا الباب .

وهناك روايات أخرى تتصل بعهر السيدة هند نذكر منها ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى حين قال :

إن السيدة « هند كانت تحت الفاكة بن المغيرة المخزومي ، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس . . . فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه وهند . ثم قام الفاكة وترك هند في البيت ـ لأمر عرض له . ثم عاد إلى البيت فإذا رجل خرج . . .

فأقبل الفاكه إلى هند فركلها برجله وقال : من الذي كان عندك ؟ فقالت :

__________________

١ ـ الإصابة في تمميز الصحابة ٣ / ٤١٢ .


لم يكن عندي أحد ، وإنما كنت نائمة . فقال : ألحقي بأهلك .

فقامت من فورها إلى أهلها وتكلم في ذلك الناس (١) .

وأما الزرقاء ـ جدة مروان بن الحكم لأبيه ـ فهي بنت وهب .

وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء (٢) .

وكان يقال لأولاد عبد الملك بن مروان : « أولاد الزرقاء » في معرض الذم .

٤ ـ الغدر

وهو : صفة ممزوجة دينياً وإجتماعياً . ويتضمن الغدر ، في كثير من الأحيان جبن الشخص الذي يستعين به للإيقاع بخصومه ومناوئيه .

وللغدر آثار خلقية سيئة ، وله إضرار مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، فردية وإجتماعية من الناحيتين المباشرة وغير المباشرة .

وقد حرم الإسلام الغدر ونهى عنه . استمع إلى الآيتين التاليتين : سورة البقرة :

« الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . » وجاء في سورة الرعد :

« وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ . »

لقد برزت ظاهرة الغدر في الأسرة الأموية بين النساء والرجال على السواء ،

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » ١ / ٣١٣ الطبعة الأولى .

٢ ـ ابن الاثير ، « الكامل في التاريخ » ٢ / ٣ . تلك جدة عبد الملك ومواقف جده وأبيه من النبي معروفة . أما جده لأمه فهو ـ أبو عائشة ـ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الذي جدع أنف حمزة في أحد ومثل به . راجع المقريزي ، النزاع والتخاصم ص ٢٠ .


ضد بعضهم بعضاً أحياناً ، وضد غير الأمويين أحيانا حسبما تستلزم الظروف السياسية القائمة .

غير أن الأمويين ـ مع هذا لا يبعدون عن عصبيتهم الأموية في هذا الباب ، ومن الممكن أن تفسر خصوماتهم الداخلية بأنها ناتجة عن إختلافهم في أساليب تثبيت تلك العصبية . ومهما يكن من شيء فإن ظروف الحاكم الأموي القائم إذا استلزمت الغدر بأموي آخر ـ أو البطش به ـ فإنه يتراجع به إنتهاء مهمته تلك فيرعى ذوي الأموي المغضوب عليه .

وفي التاريخ الأموي من ذلك شيء كثير : من ذلك مثلا موقف عبد الملك بن مروان من يحى وعنبسه ـ ابني سعيد ـ بعد أن قتل أخاهما عمرو بن سعيد الأشدق .

فقد أمر عبد الملك بقتل يحى « فقام إليه أخوه عبد العزيز فقال : جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين اترك قاتلا بني أمية في يوم واحد . ! ! فأمر عبد الملك بيحى فحبس . ثم أتى بعنبسة بن سعيد . فأمر به أن يقتل . فقام إليه عبد العزيز فقال : أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها ! ! فأمر بعنبسة فحبس (١) . »

فقد اعتبر عبد العزيز قتل يحى قتلا للأمويين فناشد أخاه أن يصفح عنه ففعل . وتظهر تلك العصبية كذلك في موقف عبد الملك بن مروان من أولاد عمرو ابن سعيد الاشدق . فقد وفد هؤلاء عليه ـ بعد مقتل أبيهم ـ ، فرق لهم رقة شديدة . . . وقال : إن أباكم خبرني بين أن يقتلني أو أقتله ، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم ! ! فأحسن جائزتهم ووصلوهم وقربهم (١)

__________________

١ ـ الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » ٧ / ١٧٨ .

٢ ـ تاريخ الأمم والملوك ٧ / ١٨٠ .


لقد مر بنا القول بأن صفة الغدر كانت متفشية بين الأمويين من النساء والرجال على السواء وبقدر ما يتعلق الأمر ، بالغدر عند النساء الأمويات يمكننا أن نقول :

لقد غدرت أم خالد ـ ابنة أبي هشام ـ أرملة يزيد بن معاوية بزوجها مروان بن الحكم فخنقته بالوسادة حتى قتلته . وتفصيل ذلك على ما رواه الطبري (١) :

إن معاوية بن يزيد « عندما حضرته الوفاة أبي أن يستخلف أحداً . وكان حسان بن مالك بن بحدل ـ خال يزيد بن معاوية ـ يريد أن يجعل الأمر ، بعد معاوية بن يزيد ، لأخيه : خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .

وكان خالد صغيراً . فبايع لمروان بن الحكم على أن يجعل الأمر من بعده لخالد . فلما بايع لمروان وبايعه أهل الشام قيل لمروان تزوج أم خالد حتى تصغر شأنه فلا يطلب الخلافة . فتزوجها . فدخل خالد يوماً على مروان وعنده جماعة كثيرة .

فقال مروان لخالد تعال يا ابن الرطبة الإست ـ يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشام ـ فرجع خالد إلى أمه فأخبرها . فقالت له : أنا أكفيكه . . .

ثم أن مروان نام عندها فغطته بالوسادة حتى قتلته . » ويحدثنا الطبري كذلك (٢) عن منشأ العداوة بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الأشدق ـ الذي سنذكره عند التحدث عن الغدر عند الأمويين من الرجال ، فيغزو . إلى حقد قديم منطو على الغدر الذي اتصفت به أم مروان بن الحكم .

__________________

١ ـ تاريخ الأمم والملوك ٧ / ٨٣ ـ ٨٤ .

٢ ـ المصدر نفسه : ٧ / ١٨٠ .


وتفصيل ذلك : أن عمرو ابن سعيد وأخاه ، وعبد الملك ومعاوية ابني مروان يأتون ـ وهم غلمان ـ إلى « أم مروان بن الحكم الكنانية . فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود . وكانت أم مروان ـ إذا أتوها ـ هيأت لهم طعاماً ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحيفة على حدة .

وكانت لا تزال تورش بين معاوية ومروان ومحمد بن سعيد ، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد فيقتتلون ويتصارمون الحبل لا يكلم بعضهم بعضا .

وكانت تقول : إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين .

فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم » .

أما الغدر عند رجال بني أمية فهو أبين منه عند نسائهم وذلك لطبيعة الأوضاع العامة التي تميز بين الجنسين . ويتجلى الغدر ـ بين الأمويين ـ بأوضح أشكاله عند معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك .

ويلوح لي أن الغدر كان صفة ملازمة للحكام الأمويين فإذا صادف أن اختفى الغدر في عهد أحدهم فإن مرد ذلك يعود إما إلى عدم تسجيل المؤرخين لذلك « الأسباب شتى مقصودة أو غير مقصودة » أو إلى أن ذلك الحاكم لم ير حاجة إلى الاستعانة به لتوافر أساليب ملتوية أخرى ـ من نوعه من حيث الأساس ـ وبقدر ما يتعلق الأمر بالحكام الأمويين : الذين ذكرنا أسماءهم فإن قصص الغدر عند معاوية مشهورة في كتب التاريخ .

فقد غدر بالأشتر كما هو معروف ودس له من يسمه وهو في القلزم في طريقه إلى مصر والياً من قبل علي بن أبي طالب .


فلما بلغ معاوية نجاح غدره إلتفت إلى زميله عمرو بن العاص وقال مبتسما :

إن لله جنوداً من عسل .

وغدره بالحسن بن علي وبعبد الرحمن بن خالد بن الوليد أشهر من أن يذكر .

وأما غدر عبد الملك بن مروان فيتجلى بأبشع أشكاله في موقفه من عمرو ابن سعيد الأشدق (١) . وقد حصل ذلك في عام ( ٧٠ ) عندما كان عبد الملك منشغلا في المسير من دمشق نحو العراق للقاء مصعب بن الزبير .

وكان مروان بن الحكم قد وعد عمرو بن سعيد بأن يتولى الامر من بعده فكسب مساعدته وتأييده في ظروف وملابسات تاريخية معروفة نجمت عن تخلى معاوية بن يزيد عن الحكم واضطراب الأمر من بعده غير أن مروان بن الحكم ـ على عادته الأموية ـ نكث عهده للأشدق وأوصى بالخلافة لإبنه عبد الملك .

فذكر الأشدق عبد الملك بذلك وطلب إليه أن يعهد له بالأمر من بعده . ولكن عبد الملك أرادها لأولاده من بعده . فبيت للأشدق شراً وطلبه إليه .

فأجاب الأشدق على رغم تحذير خواصه . فقال لهم :

« والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء . . .

ومضى في مئة رجل من مواليه . وبعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده . فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه . وأذن له فدخل فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك فإذا حوله بنوا مروان .

فلما رأى جمعهم أحس بالشر . فرحب به عبد الملك وقال : ههنا يا أبا أمية

__________________

١ ـ راجع الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » ٧ / ١٧٦ ـ ١٧٩ .


يرحمك الله . فأجلسه معه على السرير . . وجعل يحدثه طويلا ثم قال : « يا غلام خذ السيف عنه » . فقال عمرو : أنا لله ـ يا أمير المؤمنين ـ فقال عبد الملك أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ! ! فأخذ السيف عنه . ثم تحدثا . فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها أمامه . ثم قال يا غلام قم فاجمعه فيها . فقام الغلام فجمعه فيها .

فقال عمرو اذكرك الله ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تخرجني فيها على رؤوس للناس .

فقال عبد الملك أمكراً يا أبا أمية عند الموت ! ! ثم اجتذبه إجتذابة أصاب فمه فكسر ثنيته . فقال عمرو أغدرا يا ابن الزرقاء ! ! ـ . . وأذن مؤذن العصر .

فخرج عبد الملك ليصلي بالناس ، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتل عمروا . . وصلى عبد الملك . . . ورجع فوجد عمرا حيا . فقال ـ لعبد العزيز ـ ما منعك من أن تقتله ؟ قال : إنه ناشدني الله والرحم فرفقت به .

فقال له عبد الملك أخزى الله أمك البواله على عقبها . . . ثم إن عبد الملك قال يا غلام أئتني بالحرية . فأتاه بها . فهزها . ثم طعنه بها . . . وجلس على صدره فذبحه . . .

انتفض عبد الملك رعدة . . . فحمل عبد الملك عن صدره ووضع على سريره . . .

وجاء عبد الرحمن بن أم حكيم الثقفي فرفع إليه الرأس فألقاه في الناس .

وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ الأموال في البدور فجعل يلقيها إلى الناس . فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس إنتهبوا الأموال وتفرقوا . »

تلك هي مأساة الأشدق . ولا بد أن القارىء قد لاحظ معنا جملة أمور قام بها عبد الملك بن مروان « خليفة » للمسلمين وابن « خليفتهم » ـ لا يجيزها الدين


ولا العرف ، ولا الذوق الإنساني الرفيع .

ترى لماذا قتل عبد الملك ابن عمه بذلك الشكل الغادر ؟ لكي يحافظ على الخلافة الإسلامية التي انتهك حرمتها أبوه من قبله ؟

لماذا صلى وهو متلبس بجريمة التهيؤ للقتل ؟

أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ؟

هل تنسجم الصلاة مع قتل النفس التي حرم الله ؟

ثم لماذا نثرت الدراهم على الناس مع رأس القتيل ؟ للإمعان في إفساد أخلاق الناس ؟

هل يجيز الإسلام أن يعمل « الخليفة » على إفساد أخلاق المسلمين ؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسوقنا إلى القول بأننا أمام تصرفات خلقية جاهلية وثنية حاربها الإسلام وتعهدها الأمويون بالرعاية والتنشيط .

ولعل أطرف قصص الغدر وما يرافقه من التواء في الخلق عند الأمويين قصة الوليد بن عبد الملك عندما أراد خلع أخيه سليمان من ولاية العهد وتحويلها لولده عبد العزيز « بعد أن أغراه على ذلك ـ ووافقه عليه ـ جملة أشخاص من المتنفذين وفي مقدمتهم الشاعر جرير وقتيبة بن مسلم الباهلي وإلى خراسان والحجاج بن يوسف الثقفي وإلى العراق » .

ومن أطرف ما نظمه جرير في هذا الصدد ـ قوله :

إذا قيل أي الناس خير خليفة

أشارت إلى عبد العزيز الأصابع

رأوه أحق الناس كلهم بها

ـ وما ظلموا ـ فبايعوه وسارعوا (١)

__________________

١ ـ الطبري : تاريخ الأمم والملوك ٨ / ٩٧ .


وقال : أيضاً في قصيدة أخرى يحث الوليد على جعل ولاية العهد لأبنه عبد العزيز :

فزحلقها بأزملها إليه

أمير المؤمنين إذا تشاء

فان الناس قدموا إليه

أكفهم وقد برح الخفاء

ولو قد بايعوه ولي عهد

لقام الوزن واعتدل البناء

غير أن إخفاق الوليد في مسعاه قد جعل الأمر ينتقل بعد وفاته إلى أخيه سليمان وبذلك أصبح موقف الذين ألبوا الوليد على خلع سليمان حرجا .

ولعل محاولة « الخليفة » الجديد الإنتقام لنفسه من هؤلاء وسعى قتيبة بن مسلم الباهي إلى تدارك الموقف تبين لنا الغدر الأموي بإحدى صوره البشعة .

وإلى القارىء ملخصها : عندما علم قتيبة بتسلم سليمان مقاليد الحكم الأموي كتب إليه كتاباً « يهنئه ويعزيه على الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان .

وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم . .

وكتب إليه كتاباً ثالثاً فيه خلعه . وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة .

وقال له : إدفع إليه هذا الكتاب . فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه سليمان ثم ألقاه إليه فأدفع إليه هذا الكتاب فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فأدفع إليه هذا الكتاب .

فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فأحتبس الكتابين الآخرين . . .

فلما قدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب . فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد . فدفع إليه كتاباً آخر . فقرأه ثم رمى به إلى


يزيد . فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه . ثم دعا بطين فحثمه . ثم أمسكه بيده . . .

ثم أمر برسول قتيبة أن ينزل فحول إلى دار الضيافة . فلما أمسى دعا به سليمان . فأعطاه صرة فيها دنانير وقال : هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسولي معك بعهده . فخرج الباهلي . فبعث معه سليمان رجلا من عبد القيس ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة أو مصعب . فلما كانوا بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة وقتله (١) . »

٥ ـ الظلم

وقد مر بنا ذكره ضمنا في النقاط السابقة . فالغدر والزنى وقتل النفس كلها أمور تقع من الظلم في الصميم . والظلم ـ بمختلف صنوفه ـ من الموبقات التي حاربها الإسلام » . جاء في سورة الزمر :

« وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ـ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » .

وذكر مسلم بأن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار المزنى في مرضه الذي مات فيه . فقال معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله لو علمت أن لي حياة ما حدّثتك :

إنّي سمعت رسول الله يقول : ما من يسترعيه الله رعيته يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة . »

__________________

١ ـ الطبري : تاريخ الأمم والملوك ٨ / ١٠٤ .

٢ ـ صحيح مسلم ١ / ٦٧ .

٣ ـ تاريخ الأمم والملوك ٨ / ١٢٧ .


ولعل الحادثة التالية تكشف جانباً من جوانب الظلم عند الأمويين :

ذكر الطبري : عن أبي عبيدة « عن رؤية بن الحجاج قال :

حج سليمان بن عبد الملك وحج الشعراء معه وحججت معهم . فلما كان بالمدينة راجعاً تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم . فقعد سليمان . . .

فقدم بطريقهم ـ فضرب عنقه ـ . وجعل سليمان يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير منهم فدست إليه بنو عبس سيفاً في قراب أبيض . فضربه فأبان رأسه .

ودفع إلى الفرزدق أحد الأسرى فلم يجد سيفاً . فدسوا له سيفاً ددناً متيناً لا يقطع . فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً . فضحك سليمان والقوم . وشمت الفرزدق بنو عبس ـ أخوال سليمان . فألقى السيف وأنشأ يقول ويعتذر إلى سليمان :

إن يك سيف خان أو قدر أتى

بتأخير نفس حتفها غير شاهد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به

نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذلك سيوف الهند تنبو ظباتها

وتقطع أحياناً مناط القلائد (١)

وإذا أمعنا النظر في قضية سليمان بن عبد الملك « خليفة » المسلمين مع أولئك

__________________

١ ـ ورقاء بن زهير ـ من جذيمة العبسي ـ ضرب خالد بن جعفر بن كلاب ، وخالد مكب على أبيه زهير فسد ضربه بالسيف وصرعه . فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالداً فلم يصنع شيئاً : فقال ورقاء :

رأيت زهيراً تحت كلكل خالد

فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

فشلت يميني يوم أضرب خالدا

ويحصنه مني الحديد المظاهر

راجع الطبري : « تاريخ الأمم والملوك » / ٨ / ١٢٧ .


الروم المساكين ـ الذين ساقهم سوء الطالع إلى الوقوع أسرى بين يديه ويعبث ـ ويمرح ـ بأرواح أولئك البشر .

وإذا كان الذوق الإنساني ـ والدين بالطبع ـ لا يستسيغان العبث ـ بهذا الشكل ـ بحياة الحيوان ، فكيف جاز « الخليفة » أن يفعل ذلك بالبشر ! ! ولكنها الأخلاق الأموية على كل حال .

ويظهر ظلم الأمويين ـ بأبشع أشكاله ـ في تصرفات ولاتهم القساة وفي مقدمتهم الحجاج بن يوسف الثقفي .

وإلى القارىء هذا الجانب المخيف من تلك القسوة .

كتب عبد الملك بن مروان (١) للحجاج أن يعرض أسرى دير الجماجم على السيف وقال له :

فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله .

ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه . ففعل . فلما عرضهم أتى بشيخ وشاب .

فقال للشاب : أمؤمن أنت أم كافر ؟ قال بل كافر .

فقال الحجاج لكن الشيخ لا يرضى بالكفر . فقال الشيخ أعن نفسي تخادعني يا حجاج ! ! والله لو كان شيء أعظم من الكفر لارتضيت به .

فضحك الحجاج وخلى سبيلهما . ثم قدم إليه رجل فقال له على دين من أنت ؟ قال على دين ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين . فقال أضربوا عنقه .

ثم قدم آخر فقال له : على دين من أنت ؟ قال على دين أبيك الشيخ يوسف . . . فقال : خل سبيله يا غلام .

__________________

١ ـ ابن عبد ربه « العقد الفريد » ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧ .


فلما خلى عنه انصرف إليه فقال له يا حجاج سألت صاحبي على دين من أنت فقال على دين ابراهيم حنيفا وما كان المشركين . فأمرت به فقتل .

وسألتني على دين من أنت فقلت : على دين أبيك الشيخ يوسف فأمرت بتخلية سبيلي ! ! والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه . فأمر به فقتل . . . ثم أتى بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير . . .

فلما قدم له الشعبي قال : أكافر أنت أم مسلم ؟ قال :

أصلح الله الأمير بنا بنا المنزل وأجدب بنا الجناب واستحلنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء .

قال الحجاج صدق والله . خليا عنه .

ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال له أكافر أنت أم مؤمن ؟ قال :

أصلح الله الأمير إن من شهر العصا ونكث البيعة ، وفارق الجماعة ، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فقال صدق . خليا عنه .

ثم أتى بسعيد بن جبير . فقال له . أنت سعيد بن جبير ؟ قال نعم : قال لا بل شقي بن كسير . قال : أمي أعلم بأسمى منك . فقال : شقيت وشقيت أمك . قال : الشقاء لأهل النار .

قال أكافر أنت أم مؤمن ؟ قال ما كفرت بالله منذ آمنت به . قال : أضربوا عنقه . »

خبرونا على أي شيء يدل سلوك الحجاج وخليفته ؟ ! !

هل الخروج على أئمة الكفر ـ لإرجاعهم إلى حضيرة الدين ـ كفر بالله ؟


يعاقب عليه بالقتل ؟ هل فعل الرسول ـ بأسرى قريش من المشركين ـ .

ما فعله الأمويون بهؤلاء المسلمين ؟

الواقع : إن تلك أمثلة ـ كسابقاتها ـ « يسند بعضها بعضا » تدل على جاهلية القوم وتمردهم على الدين . . ويلوح لي : إن أسرى دير الجماجم كان يتنازعهم خوف ذو جانبين :

خوف من الله وخوف من « الوهية » الأمويين ، والحجاج على حساب الله . وتنعكس الآية في الجانب الثاني . نقول :

الوهية الحجاج والأمويين ونحن غير متجنين عليهم .

فقد مر بنا ما قاله عبد الملك للحجاج بشأن الأسرى : فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله . ومن زعم أنه مؤمن فأضرب عنقه . »

وقد استلزم موقفهم من الله أن يطوحوا بحياتهم ، كما استلزم موقفهم من الطاغوت أن يطوحوا بدينهم وخلقهم . فأختار بعضهم الموقف الأول فعرضوا على السيف .

وجنح آخرون نحو الموقف الثاني فأرتاح لهم الحجاج وعفا عنهم .

كل ذلك والحجاج أمير المسلمين يحكم بأسم « أمير المؤمنين » نيابة عن رسول الله ! ! .

٦ ـ شهادة الزور

وهي : موبقة لا تقل شناعة عما سبقها . وقد استبشعها الإسلام ومنعها وعاقب عليها . ولشهادة الزور نتائج وخيمة ، مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، مباشرة وغير مباشرة . وتتعلق شهادة الزور ـ أشد التعلق ـ بالموبقات التي ذكرناها


فتكون سبباً لبعضها ونتيجة لبعض آخر . وفي معرض التحدث عن شهادة الزور قال مالك بن أنس (١) قيل لرسول الله ما الكبائر ؟ فقال : « الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور . » أي أن شهادة الزور ـ بنظر النبي ـ كالشرك بالله ، وهو أعظم منكر في الإسلام وكقتل النفس التي حرم الله .

ولم يتردد الأمويون من الإستعانة بهذا السلاح ـ الخطر ـ للتنكيل بخصومهم لا لذنب إقترفوه بل لأنهم يطالبون الأمويين ، الذين يحكمون باسم الدين ، ألا يخرجوا عليه .

ويرتكب الأمويون ـ عند إستعانتهم بشهادة الزور ـ موبقتين في آن واحد : تلفيق الشهادة ، والعقاب على جرم ملفق .

وفي تاريخ الأمويين من ذلك الشيء كثير . ولعل أشهر شهادات الزور في التاريخ الأموي تلك الشهادة التي لفقوها ضد حجر بن عدي وأصحابه .

وإلى القارىء نصها (٢) : هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري لله رب العالمين . شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة . وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين ـ معاوية بن أبي سفيان ـ وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء .

فقال زياد بن سمية : على مثل هذه الشهادة فأشهدوا . . . فشهد اسحق بن طلحة ابن عبيد الله وموسى بن طلحة واسماعيل بن طلحة والمنذر بن الزبير . . .

والسري بن وقاص الحارثي ـ كتبت شهادته وهو غائب في عمله ـ . .

__________________

١ ـ صحيح مسلم بن الحجاج : ١ / ٤٩ .

٢ ـ الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ٦ / ١٤٩ ـ ١٥٥ .


والهيثم بن الأسود النخعي ـ وكان يعتذر إليهم ـ . . . وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانىء الحارثي .

فأما شريح القاضي فقال : سألني عن حجر فأخبرته أنه كان صواما قواما .

وأما شريح بن هانىء الحارثي فكان يقول : ما شهدت . ولقد بلغني أن كتبت شهادتي فأكذبته ولمته . »

فهل يجيز الخلق الكريم شهادة الزور ؟

وهل يستسيغها الإسلام ؟ يهون الأمر ـ على فظاعته ـ لو كان فاعله من عامة المسلمين . فكيف به وهو أمير من أمرائهم ! !

وفي هذه الشهادة تزوير مضاعف :

فقد لفقت صيغتها بمجموعها كما لفقت شهادة من لم يكن حاضراً أثناء التلفيق .

وقد لفق تلك الشهادة حاكم يزعم أنه يحكم باسم « خليفة المسلمين » و « أمير المؤمنين » الذي ينوب في حكمه عن رسول الله .

أما الشهود ففي مقدمتهم ـ كما يلاحظ القارىء ـ : أبناء رجال يعتبرهم كثير من المسلمين من خيار صحابة الرسول . وقد قدم بعضهم شهادته الكاذبة ـ وأبوه ما زال حياً ـ ولم يمض على وفاة الرسول نصف قرن . فأبو بردة بن أبي موسى الأشعري بطل التحكيم الذي « خلع » معاوية يعتبر معاوية ـ الذي خلعه أبوه ـ أميراً للمؤمنين .

واسحق وموسى ، واسماعيل أبناء طلحة والمنذر بن الزبير يشهدون على حجر أنه خلع الطاعة وفارق الجماعة وجمع إليه الجموع ويدعوهم إلى نكث البيعة وخلع « أمير المؤمنين » معاوية بن أبي سفيان .


وقد نسى السادة : اسحق وأخواه ـ موقف أبيهم طلحة من إمام زمانه ونكثة البيعة وخروجه إلى البصرة مع جمل السيدة عائشة أم المؤمنين .

كما نسى المنذر موقف أبيه الزبير .

وهذا من مفارقات التاريخ الإسلامي المملوء بالمفارقات . . .

٧ ـ نقض العهد

وهو موبقة من أبشع الموبقات التي حاربها الإسلام لما يترتب عليها من فقدان الثقة بين الناس ومن نتائج مادية ومعنوية على جانب كبير من الوخامة والضرر .

وتتجسم بشاعته إذا صدر من صاحب النفوذ ـ فكيف به إذا كان « أميرا » للمؤمنين ! ! ولهذه الموبقة علاقة وثقى بالموبقات التي ذكرناها .

جاء في سورة الإسراء : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا . »

وذكر البخاري : بأسانيده المختلفة (١) عن حذيفة بن اليمان أنه « قال : ما منعني أن أشهد بدرا ، إلا أني خرجت أنا وأبي حيل . فأخذنا كفار قريش . فقالوا : إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده . نريد المدينة . فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه . فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر . فقال : إنصرفا . نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عز وجل . »

وقد ضرب الرسول للمسلمين أسمى مثل في المحافظة على العهد في القضية المذكورة . فقد أمر هذين الرجلين ـ اللذين ساقهما تفادى ما لا تحمد عقباه أن يعطيا ميثاقا للكفار بعدم الإلتحاق بالنبي ـ بالمحافظة على ذلك الميثاق ـ للكفار الذين لا مواثيق عندهم ـ .

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ / ٨٩ .


وفي وقت كان النبي أحوج ما يكون لنصرتها للمحافظة على بيضة الدين .

غير أن « خلفاء » الأمويين قد ساروا ـ كما جرت عادتهم ـ سيرا يناقض سير النبي تمام المناقضة .

ويلوح للباحث أنهم ـ قد ورثوا ـ هذه الموبقة ـ من جاهليتهم كما ورثوا موبقاتهم الأخرى .

ذكر ابن هشام (١) موقف أبي سفيان « عندما أسر المسلمون في بدر إبنه عمرا » من المسلمين الذين تعاهد معهم بعدم التعرض لهم والاعتداء عليهم . إذ بينما كان عمرو محبوسا في المدينة خرج سعد بن النعمان بن أكال « أخو بني عمرو بن عوف » معتمرا . وكان شيخاً مسلماً .

فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو . وأنشد مفتخراً .

أرهط بن أكال أجيبوا دعاءه

تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا

فان بني عمرو لئام أذلة

لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا

أما الأمثلة الأخرى على نكث الأمويين عهودهم وهم حكام المسلمين فكثيرة . وقد مر قسم كبير منها في الفقرات السابقة .

ويلوح للباحث بأن الوفاء بالعهد ركن من أهم الأركان الخلقية التي بني عليها الإسلام . فقد نص عليه القرآن ـ كما رأينا ـ .

والتزم به رسول الله في أقواله وأفعاله على السواء .

وفي تاريخ النبي أمثلة كثيرة تؤيد ما نقول . وقد مر بنا ذكر بعضها .

أما الأمثلة الأخرى فتشير إلى وفاء رسول الله بعهده للمسلمين والمشركين على

__________________

١ ـ سيرة النبي محمد ٢ / ٢٩٤ .


السواء . ولا نظن أن موقفه في الحديبية ـ مع سهيل بن عمرو زعيم المشركين ـ غريب على كثير من القراء .

فقد اشترط سهيل ـ النبي كما هو معروف ـ « من جملة ما اشترط » أن يرد الرسول من يلتحق به من المشركين إلى أهله . ولا عكس .

وقد وافق الرسول على ذلك . ! ! فأقبل أبو جندل ـ ابن سهيل عمرو ـ يحمل في القيود . وكان أسلم فأشفق أبوه أن يلحق بمحمد فقيده . فأقبل أبو جندل حتى ألقى نفسه بين رجال المؤمنين وقال :

أنشدكم الله والإسلام أن لا تردوني الى الكفار . فحماه ناس من أصحاب رسول الله فقال سهيل : للنبي أذكرك عهدك . فأمر رسول الله بابن سهيل أن يدفع إليه (١) . » ولم يغب وفاء الرسول بالعهد ـ وفق مستلزمات الإسلام ـ حتى عن ذهن خصومه .

فهذا أبو سفيان ـ أشد خصوم النبي والإسلام ـ لم يستطع نكران ذلك عند محاورته مع هرقل حول النبي ـ خصمه اللدود ـ . قال الواقدي (٢) : « وكان أبو سفيان عند هرقل في تجارة . فقال هرقل : يا أبا سفيان لقد كان يسرني أن ألقى رجل من أهل بلدك يخبرني عن هذا الرجل الذي خرج منكم .

فقال أبو سفيان : على الخبير سقطت . سلني عما شئت من أمره .

فقال هرقل : حدثني عنه ابني هو أم كذاب ؟ فقال أبو سفيان : هو كذاب . قال هرقل : ما الذي يأمركم به ؟ وما الذي ينهاكم عنه ؟

__________________

١ ـ الواقدي « مغازي رسول الله » ص ٣١٠ .

٢ ـ المصدر نفسه ص ٢٢٣ .


قال أبو سفيان : يأمرنا أن ننحني طرفي النهار كما تنحني النساء ، وأن نعطيه خراجا من أموالنا كل عام . وينهانا عن الميتة والدم . . .

قال هرقل : أخبرني هل يغدر إذا واثق ؟ قال أبو سفيان لا . ما غدر قط . »

٨ ـ ولاة السوء

استعان الأمويون بطائفة ضخمة من الولاة القساة الفجرة في تصريف شئون المسلمين (١) . فكان هؤلاء لا يقلون ـ عن أسيادهم الأمويين ـ جفاء لروح الدين وخروجا سافراً على مقوماته وتعاليمه .

وقد اشترك هؤلاء ـ مع الأمويين ـ في جميع الموبقات التي ذكرناها بشكل مباشر أحيانا وبشكل غير مباشر أحيانا أخرى .

وأشهر هؤلاء الولاة ـ وهم كثيرون ـ عمرو بن العاص وزياد بن سمية والحجاج بن يوسف الثقفي .

فعمرو وهو ابن العاص بن وائل السهمي « أحد المستهزئين برسول الله والمكاشفين له بالعداوة والبغضاء والأذى » .

وكان العاص يدعى الأبتر وفيه نزل قوله : « إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ » .

قال ابن اسحق : (٢)

« وكان خباب بن الأرت ـ صاحب رسول الله ـ قينا ، أي حدادا بمكة

__________________

١ ـ أما القواد الذين اعتمد عليهم الأمويون فقد كانوا أشد من الولاة وأقسى . وقد مر بنا طرف من أخبارهم وخاصة بسر بن أرطاة .

٢ ـ ابن هشام « سيرة النبي محمد » ١ / ٣٨٠ .


يعمل السيوف وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له . حتى إذا كان عليه مال فجاء يتقاضاه فقال له : يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم ـ هذا الذي أنت على دينه ـ إن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم ؟

قال خباب بلى . قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك . فوالله : لا تكون أنت ـ وصاحبك ـ يا خباب آثر عند الله مني .

فأنزل الله فيه : أفرأيت الذي كفر بآيتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب . . . إلى قوله ونرثه ما يقول ويأتينا فردا . »

أما أم عمرو بن العاص فهي النابغة التي مر بنا ذكر جانب من فجورها وعهرها عندما تحدثنا عن أبي سفيان .

وأما زوج عمرو فقد اتهمت هي الأخرى بالاجتماع على زنى مع عمارة ابن الوليد بن المغيرة ـ أخي خالد بن الوليد .

فقد ذكر ذلك ابن اسحق في كتابه : عن عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص ـ عند خروجها إلى الحبشة للايقاع بالمسلمين هناك ـ .

وكان عمارة جميلا وسيما تهواه النساء . وهو صاحب محادثة لهن . فركبا البحر . ومع عمرو بن العاص امرأته . حتى إذا صاروا في البحر اصابا من خمر معما . فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص : قبليني .

فقال لها عمرو قبلي بن عمك : فهويها عمارة وجعل يراودها عن نفسها . » (١)

وأما عمرو نفسه فقد كان أشد خصوم الرسول في بدر واحد .

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ٢ / ١٠٧ الطبعة الأولى بمصر .


وكان عمرو أحد الذين تعقبوا زينب بنت النبي حين خرجت مهاجرة ـ من مكة إلى المدينة ـ وقرعوا هودجها بكعوب رماحهم حتى أجهض جنينا ميتا من بعلها أبي العاص بن الربيع قبل إسلامه . وقد روى الواقدي وغيره من الرواة .

إن عمروا هجا رسول الله واتهم بالتعاون مع آخرين أمثال : عقبة بن أبي معيط كانوا يؤذون رسول الله بأيديهم ويلقون القاذورات في مصلاه والعوسج على رأسه .

وعمرو هو القائل يوم أحد عندما حارب النبي في صفوف المشركين :

لما رأيت الحرب ينزو شرها بالرضف نزوا

أيقنت أن الموت حق والحياة تكون لغوا

حملت أثوابي على عند يبذ الخيل رهوا

فلما يئس عمرو ، من الانتصار على النبي في الحرب لجأ إلى الغدر والدس والتواري عن الأنظار .

قال عمرو نفسه على ما يذكر ابن هشام (١) : « لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم : إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا . . . فأرى أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده . فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي . فإما أن نكون تحت يديه أحب الينا من أن نكون تحت يدي محمد فإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا . »

وكان عمرو من أكبر المؤلبين على عثمان بن عفان والمخذلين عن نصرته لأنه عزله عن ولاية مصر .

__________________

١ ـ سيرة النبي محمد ٣ / ٣١٧ .


« فكان يؤلب الناس عليه ويحرضهم ما وسعه ذلك سرا . على أنه لم يتردد أن قال لعثمان جهرة في المسجد : إنك ركبت بالناس أمورا وركبناها معك فتب إلى الله نتب .

وتلقى عثمان ذلك أسوأ لقاء . فلما اشتدت وعرف أنها منتهيه إلى غايتها أثر أن يعتزلها في طورها ذاك . فخرج إلى أرض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها يتنسم الأخبار .

وكان عمرو وأبناه على ما هم عليه بفلسطين حتى جاءهم النبأ بقتل عثمان . فقال عمرو لابنه عبد الله أنا أبوك ما حككت قرحة إلا أدميتها ـ يريد أنه مهد للفتنة والثورة بعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الأمر إلى غايته (١) . » ويحدثنا عمرو نفسه عن بعض ما فعله من التأليب على عثمان وهو في طريقه إلى فلسطين فيقول على ما يذكر البلاذري (٢) :

« والله أني كنت لالقى الراعي فأحرضه على عثمان . » أما موقفه الدنيء في التحكيم فلا يحتاج إلى شرح .

فقد أغفل أبا موسى الأشعري ـ إبتداء ـ وألقى في روعه أن موضوع التحكيم ينحصر في تعيين خليفة للمسلمين ـ كأن خلع على من الخلافة قد بات أمراً مفروغا .

ولما اطمأن عمرو إلى ثبوت ذلك في ذهن أبي موسى جعل موضوع البحث ينحصر في الاتفاق على مرشح جديد .

__________________

١ ـ الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى » : علي وبنوه ص ٦٧ ـ ٦٨ .

٢ ـ أنساب الأشراف : ٥ / ٧٤ .


ولما ظهر أنهما لم يتفقا على شخص معين طلب عمرو من أبي موسى أن يوجد حلا للخروج من ذلك المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير المسلمين آنذاك .

فتقدم أبو موسى باقتراح جديد ظنه كسبا له واندحارا لابن العاص . فقد خيل اليه أنه سينتصر إذا ما وافق عمرو على « خلع » معاوية بعد أن بات على خلع « على » أمرا متفقا عليه . فوافق عمرو ـ في الظاهر ـ على الفكرة وأغرى صاحبه أن يعلنها للناس . ثم عاد فغدر به . فبرز عمرو ـ في ذلك كله ـ بأبشع ما يبرز فيه الرجل من الخداع والدس والتدني عن مستويات الأخلاق الرفيعة .

ومن طريف ما يروى عن عمرو قوله لعائشة . « كنت أود أنك قتلت يوم الجمل .

قالت : ولم لا أبا لك ! ! قال كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب . »

و « روى ابن مزاحم قال : حدثني يحيى بن يعلى قال حدثني صباح المزني عن الحرث بن حصن عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال : كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى وقد استظللنا برداء أحمر إذ أقبل رجل يستقرى الصف حتى انتهى الينا وقال :

أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار : أنا عمار . قال أبو اليقظان ؟ قال نعم ـ

قال إن لي اليك حاجة . قال : أفأنطق بها سرا أو علانية ؟ قال اختر لنفسك أيهما شئت . قال . لا بل علانية . قال : فأنطق بها . قال إني خرجت من أهلي مستبصرا حتى ليلتي هذه . فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونادى بالصلاة ونادى مناديهم مثل ذلك . ثم اجتمعت الصلاة فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحداً ودعونا دعوة واحدة .


فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلة لا يعلهما إلا الله حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له . فقال : هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت لا . . .

قال : فألقه فأنظر ماذا يقول لك عمار فأتبعه . فجئتك لذلك .

قال عمار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ؟ فإنها راية عمرو بن العاص قاتلها مع رسول الله ثلاث مرات وهذه الرابعة . فما هي بخيرهن ولا أبرهن بل شرهن وأفجرهن .

أشهدت بدراً وأحداً ويوم حنين أو شهدها أب لك فيخبرك عنها ؟ قال لا . قال : فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ، وإن رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب .

فهل ترى هذا المعسكر ومن فيه ؟

والله لوددت أن جميع من فيه ممن مع معاوية يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته . والله لدماؤهم جميعاً أحل من دم عصفور .

أفتراني بينت لك ! ! قال قد بينت لي . قال : فاختر أنى ذلك أحببت . فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال : أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا . والله ما هم من الحق على ما يقذى عين دباب . لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وانهم على باطل (١) . »

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد : « شرح نهج البلاغة » ١ / ٥٠٦ . لقد ضرب عمار ـ في ذلك أروع مثال في التضحية في سبيل الإسلام وجهاد الخارجين عليه . وقد مر بنا ذكر صور أخرى من ذلك في مقدمة الكتاب .


أما زياد بن سمية والحجاج بن يوسف فلم يدركا النبي ليساهما في إيذائه . ولكنهما نالا من تعاليمه ودينه بقدر ما نال ابن العاص من شخصه الكريم .

فقد عاث هذان الأميران الفاجران في الأرض فسادا وعبثا بأرواح المسلمين وممتلكاتهم وعقائدهم .

فقتلا من قتلا وحبسا ونفيا وعذبا من المسلمين عدداً كبيراً .

وقد مر بنا ذكر جانب من تصرفات ابن سمية وطرفا من سلوك أمه التي كانت من ذوات الرايات .

ذكر الطبري : أن زياد بن أبيه حينما كان واليا على البصرة « كان يؤخر صلاة العشاء . . . ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج . ولا يرى إنساناً إلا قتله . قال : فلقى ليلة إعرابياً فأتى به زياداً فقال : هل سمعت النداء ؟ قال لا والله . قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع . فأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمر . قال : اظنك ـ والله ـ صادقاً ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة . ثم أمر به فضربت عنقه .

كان زياد أول من شد أمر السلطان وأكد الملك لمعاونه والزم الناس لطاعته وتقدم في العقوبة وجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة (١) .

والغريب في الأمر إن أبسط العقوبات الشائعة في العهد الأموي هي القتل . وكان ينبغي أن تكون تلك العقوبة آخر العقوبات حسب تعاليم الدين والعرف السياسي الشائع . وأغرب من ذلك أن القتل كان يجرى على التهمة ودون محاكمة أو سماع لوجهة نظر المتهم .

__________________

١ ـ « تاريخ الأمم والملوك ٧ / ٢١٧ .


ونود في ختام هذا الجانب من جوانب الدراسة أن نعرض على القارىء طرفا من تصرفات الحجاج الذي ملأ اسمه أسماع الناس مقروناً بالظلم والبغي والخروج على تعاليم الإسلام .

هذا إلى أن الحجاج قد ساهم في جميع الموبقات الأموية التي ذكرناها ، وأسرف في قتل النفس التي حرم الله .

« وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكثر لذاته سفك الدماء وإرتكاب أمور لا يقدم عليها غيره ولا سبق إليها سواه (١) .

وقد سأل الحجاج يوما بعض كتابه عن رأي الناس فيه فاستعفاه الكاتب فلم يعفه . « فقال : يقولون إنك علوم ، غشوم ، قتال ، عسوف ، كذاب (٢) .

وقد سأله يوما عبد الملك بن مروان أن يصف نفسه على حقيقتها .

« فقال أعفني يا أمير المؤمنين : قال لتفعلن .

قال : أنا لجوج ، حقود ، حسود .

قال عبد الملك ما في الشيطان شر مما ذكرت (٣) . »

__________________

١ ـ المسعودي : « مروج الذهب » ٣ / ٦٧ . ومن الطريف أن نذكر هنا أن ظلم الرعية من أسهل الأمور التي يستطيع أن يقوم بها الحاكم إذا توافرت لديه عناصر القوة في جهازه الحكومي . وأن غالبية الناس ـ في العادة ـ يتحملون الذل ويألفون الانقياد تفادياً التعذيب أو القتل . وإذا رأينا بعض الحكام لا يميلون إلى الشدة ـ رغم توافر الإمكانيات المادية لاستعمالها ـ فان مرد ذلك على ما نرى . ليس هو الخوف من الرعية أو من انتفاضها بقدر ما هو الخوف من وخز الضمير وعقاب النفس .

٢ ـ الجهشياري : « الكتاب والوزراء » ص ٤٢ .

٣ ـ ابن قتيبة : « عيون الأخبار » مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة . الطبعة الأولى .


لقد مر بنا القول أن اسم الحجاج مقرون في العادة ـ عند كثير من الناس ـ بالشدة والقسوة المتناهيتين . حتى أصبح اسمه يضرب فيه المثل في أخذ الرعية بسياسة الشدة بابشع صورها .

وقد يخيل لبعض الناس إن هذه الشدة تدل على الرجولة والشجاعة . غير أني أرى أنها تدل على الجبن والتخاذل . لأن الشجاعة إنما تظهر عند الرجل في مواقفه مع من هم في منزلته « من الحياء والسطوة والنفوذ أو القوة الجسمية » أو مع من هم فوقه في ذلك .

أما أن يستعمل المرء ضروب القسوة والشدة مع من هم دونه ، في السطوة والنفوذ ، أو مع العزل من الناس فأمر إن دل على شيء فانما يدل على الخسة والجبن وضعة النفس ، خاصة إذا ما كانت مواقف ذلك الشخص ـ مع من هم أعلى منه ـ تنطوى على الجبن والتهافت .

وإلى القارىء موقف الحجاج مع عبد الملك بن مروان في قضيتين هامتين :

عندما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وعلم بذلك عبد الملك بن مروان كتب إليه يزجره وذيل كتابه بالأبيات التهديدية التالية :

إذا أنت لم تطلب أموراً كرهتها

وتطلب رضائي بالذي أنت طالبه

وتخشى الذي يخشاه مثلي هاربا

إلى الله منه ضيع الدير حالبه

فإن ترمني غفلة قرشية

فيا ربما قد غص بالماء شاربه

وإن ترمني وثبة أموية

فهذا وهذا كل ذا أنا صاحبه

فلا لا تلمني والحوادث جمة

فإنك مجزى بما أنت كاسبه

ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعد

يقوم بها يوما عليك نوادبه (١)

__________________

١ ـ المسعودي : « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ٣ / ٧٤ ـ ٧٦ .


والحجاج إنما أسرف في القتل خدمة للعرش الأموي لا شك في ذلك عنده أو عند عبد الملك أو عند الآخرين .

فلما قرأ الحجاج كتاب عبد الملك أجابه متخاذلا متراجعاً ذليلا متهافتاً ، طفحت وضاعة نفسه على لسانه ، وذيل كتابه بالأبيات التالية :

إذا أنا لم أتبع رضاك واتق

أذاك فيومي لا تزول كواكبه

ومالا مرىء ـ بعد الخليفة ـ جنة

تقيه من الأمر الذي هو كاسبه

أسالم من سالمت من ذي قرابة

ومن لم تسالمه فأني محاربه

إذا قارف الحجاج منك خطيئة

فقامت عليه في الصياح نوادبه

إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه

واقص الذي تسرى إلى عقاربه

فمن ذا الذي يرجو نوالي ويتقى

مصاولتي والدهر جم نوائبه

فقف بي على حد الرضا لا أجوزه

ـ مدى الدهر ـ حتى يرجع الدر حالبه

هناك ـ على ما يبدو ـ حجاجان . حجاج القسوة والشدة مع العزل والضعفاء والأبرياء . والحجاج التخاذل والجبن مع القساة الفجرة من الحكام والأمراء .

حجاج « يرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها : يعصب الناس عصب السلمة حتى يذلوا ويضربهم ضرب غرائب الإبل حتى يذروا العصيان وينقادوا » .

وحجاج آخر جبان متخاذل إذا لم يبع رضا الخليفة ويتق أذاه فليله لا تزول كواكبه . حجاج يقوله :

وما لامرىء ـ بعد الخليفة ـ جنة

تقيه من الأمر الذي هو كاسبه

حجاج يخاطب الخليفة متضرعاً :

فقف بي على حد الرضا لا أجوزه

ـ مدى الدهر ـ حتى يرجع الدر حالبه

أما المثال الثاني ـ الذي يتخاذل الحجاج فيه أمام سيده عبد الملك « بعد أن


تعالى وتجبر على فرد أعزل من رعاياه » فقد ذكره ابن الأثير (٢) حين قال : فحين دخل على الحجاج أنس بن مالك قال له الحجاج : لا مرحبا ولا أهلا بك يا ابن الخبيثة ، شيخ ضلالة ، جوال في الفتن . . . أما والله لاجردنك جرد القضيب ، ولاعصبنك عصب السلمة ، ولأقلعنك قلعة الصمغة .

فقال أنس : من يعني الأمير ؟ قال إياك أعني أصم الله صداك . فرجع أنس فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج . . .

فكتب عبد الملك إلى الحجاج : إنك عبد طمت بك الأمور فعلوت حتى عدوت طورك ، وجاوزت قدرك . يا ابن المستضرمة بعجم الزبيب لأغمزنك غمزت كبعض غمزات الليوث والثعالب ، ولأخبطنك خبطة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك .

أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم ؟ !

أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة ، في المروءة والخلق ؟ وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك . . .

فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين ، أصك الرجلين ، ممسوح الجاعرتين . . .

أكرم أنساً وأهل بيته ، وأعرف حقه ولا تقصر في شيء من حوائجه .

وبعث بالكتاب مع اسماعيل بن عبد الله « مولى بني مخزوم » فأتى اسماعيل بكتاب أمير المؤمنين فقرأه . وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرؤه ووجهه يتغير وجبينه يرشح عرقا ويقول : يغفر الله لأمير المؤمنين . ثم اجتمع بأنس . فرحب الحجاج به واعتذر إليه . »

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ / ٣٩ .


ونود أن نختتم هذا البحث بعرض آراء طائفة من أجلة المسلمين في « تزكية » الحجاج . قال ابن عبد ربه : (١) « حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه قال : حدثنا عمر بن عبد العزيز قال : لو جاءت كل أمة بمناقبها وجئنا بالحجاج لفضلناهم . »

وذكر ميمون بن مهران عن الأجلح « قال : قلت للشعبي يزعم الناس أن الحجاج مؤمن ! ! قال مؤمن ! ! بالجبت والطاغوت كافر بالله .

وقال علي بن عبد العزيز عن اسحق بن يحيى عن الأعمش قال :

اختلفوا في فقالوا بمن ترضون ؟ قالوا بمجاهد . فأتوه فقالوا إنا اخيلفنا في الحجاج .

فقال أجئتم تسألونني عن الشيخ الكافر ! ! !

وقال محمد بن كثير عن الأوزاعي قال : سمعت القاسم بن محمد يقول :

كان الحجاج بن يوسف ينقض عرى الإسلام عروة عروة . » انتهى

وقد تم طبع هذا الكتاب بطبعته الثانية بالقاهرة بمطبعة دار المعلم للطباعة في شهر رمضان المبارك عام ١٣٩٨ هجرية والحمد لله والصلاة على محمد وعترته الهادين المهديين إلى يوم الدين


الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام للدكتور نوري جعفر

الصّراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام

المؤلف: الدكتور نوري جعفر
الصفحات: 182