

تعليقات على
الجزء الخامس والسادس
والسابع
«مباحث الدليل اللفظي»
أصالة الاحتياط
الاستصحاب
تعارض الأدلّة
تعليقات على ما تبقّى من الجزء الخامس
أصالة الاحتياط
منجزية العلم
الإجمالي
الأقل والأكثر
قاعدة الميسور
شرائط الاُصول
المؤمنة
منجزية العلم الإجمالي
ص ١٧٠ قوله : ( منجزية العلم الإجمالي ... ).
قال في الدراسات
ما حاصله : المنجز دائماً هو احتمال العقاب ( الضرر الاخروي ) لحكم الفعل بلزوم
دفعه وقبح الاقدام عليه ما لم يحرز عدم العقاب واحتمال التكليف يستلزم احتمال
العقاب ما لم يجر أصل مؤمن عقلي ـ كقبح العقاب بلا بيان ـ أو شرعي فيكون احتماله
منجزاً لكونه مستلزماً لاحتمال العقاب ، بل هذا هو المنجز في موارد العلم التفصيلي
أو قيام الحجة على التكليف الالزامي ؛ لأنّ ذلك لا يستلزم القطع بالعقاب ؛ إذ لعلّ
الله يتفضل ويعفو ، فدائماً المنجز العقلي إنّما هو دفع الضرر والعقاب الاخروي
المحتمل في تمام الموارد.
وعلى هذا يدور
تنجيز العلم الإجمالي مدار مدى جريان الاصول المؤمنة عن العقاب ـ عقلاً أو شرعاً ـ
في أطرافه ، فإن قلنا بعدم جريانه في شيء من أطرافه كان احتمال التكليف بنفسه
منجزاً ، بلا حاجة إلى البحث عن حال العلم الإجمالي ، وإن قلنا بجريانه في تمام
الأطراف سقط العلم الإجمالي عن المنجزية مطلقاً وإن قلنا بجريانه في بعض الأطراف
دون الكل سقط وجوب
الموافقة القطعية
وبقي التنجيز بمقدار حرمة المخالفة القطعية فلابد من البحث عن جريان الاصول في
أطراف العلم الإجمالي وعدمه ولا حاجة بل لا أثر للبحث عن منجزية العلم الإجمالي في
نفسه وحدوده.
وهذا المطلب الذي
ذكره السيد الخوئي 1 كمقدمة للبحث غريب جداً صدوره من مثله. فإنّه يرد عليه :
أوّلاً
ـ انّه خلط بين
التنجز العقلي وحب الذات والجبلة الطبيعية للإنسان في الفرار عن الضرر ، فإنّ احتمال
العقاب في طول ثبوت تنجز التكليف بالقطع أو بالحجة أو بالاحتمال المنجز عقلاً
والمراد بالتنجز هو ما تقدم من حكم العقل بحق الطاعة للمولى وقبح الارتكاب بمعنى
استحقاق العقوبة على مخالفته سواء عوقب أم لا بل حتى لو قطع بأنّ المولى سوف يعفو
أو لا يتمكن من معاقبته مع ذلك كان التنجز العقلي ثابتاً وكان الارتكاب قبيحاً
وفاعله مستحقاً للعقاب.
نعم ، احتمال
العقاب يوجب فرار الإنسان بحسب طبعه وجبلته وحبّ ذاته عن العقاب والضرر ، إلاّ أنّ
هذا غير التنجز وحكم العقل بقبح الفعل واستحقاق العقوبة ولنسمّيه بالتنجز الطبيعي
الجبلّي وهو في طول التنجز العقلي.
وثانياً
ـ النقض بقبح
التجرّي واستحقاق العقاب فيه فإنّ هذا يعني انّ التنجيز واستحقاق العقوبة ليس
موضوعه مخالفة التكليف واقعاً ليكون احتمال التكليف مستلزماً لاحتمال العقاب ،
وإنّما التنجّز مربوط بدرجة الانكشاف والوصول وليس احتمال التكليف مساوقاً لاحتمال
العقاب ما لم يثبت في المرحلة السابقة
تنجز هذا الاحتمال
وعدمه عند العقل فلابد من البحث عن انّ العلم الإجمالي وما فيه من درجة الانكشاف
المقرون بالشك والتردّد هل يكون منجزاً عقلاً كالعلم التفصيلي ، أو يكون كالشك
البدوي أو يكون بلحاظ الجامع وحرمة المخالفة كالعلم التفصيلي وبلحاظ الخصوصية
كالشك البدوي؟
ومنه يعرف انّ
البحث عن جريان الاصول المؤمنة في الأطراف وعدمه لابد وأن يراد به الاصول الشرعية
دون قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّ جريانها وعدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي
راجع إلى نفس البحث عن مدى منجزية العلم الإجمالي وليس بحثاً آخر فتدبر جيداً.
ص ١٧٣ الهامش ...
بالنسبة للمقام
يوجد تعليق متين ذكرناه في بحوث القطع مع تنقيح أضفناه عليه أخيراً فليراجع.
ص ١٧٦ قوله : ( الوجه الأوّل ... ).
ينبغي أن يجاب على
كلام الخراساني بأنّ الفعلية إن اريد بها الفعلية في مقام التحفظ الظاهري أيضاً ،
فهذا مضافاً إلى انّه ليس من مراحل الحكم ـ كما قال الميرزا وغيره ـ منفي بدليل
الاصول العملية سواء في الشبهة البدوية أو المقرونة بالعلم الوجداني فيفهم
بالملازمة انّ الفعلي من جميع الجهات لا يكون إلاّبالعلم التفصيلي ، وإن اريد بها
الفعلية الذاتية أي الفعلية بتحقق الموضوع ـ كما هو مصلطح الميرزا ـ فهو لا يناقض
الحكم الظاهري كما في الشبهات البدوية.
ص ١٧٧ قوله : ( الوجه الثاني ـ ما ذكره
المحقق النائيني 1
... ).
يمكن أن يورد على هذا الوجه
بايرادين :
أحدهما : الايراد الثبوتي الذي أورده السيد الاستاذ الشهيد 1.
والثاني : ايراد اثباتي ، حاصله : أننا لو سلمنا أنّ الترخيص
الشرعي في المخالفة القطعية ترخيص في المعصية وهو قبيح وممتنع عقلاً فهذا إنّما
يلزم فيما إذا اريد استفادة جواز المخالفة القطعية من دليل الأصل الشرعي الترخيصي
حيث يقال بأنّه ممتنع وجريانه في طرف دون طرف ترجيح بلا مرجح فيتساقط في الطرفين.
إلاّ انّه لا وجه
له ، فإنّ دليل الأصل لا يدل إلاّعلى الترخيص في المخالفة الاحتمالية ورفع التكليف
المشكوك والذي لا يعلم لا أكثر وهذا جريانه في الطرفين معاً لا محذور فيه لأنّه
إنّما يثبت عدم العقوبة والمسؤولية في ارتكاب كل طرف من حيث هو مشكوك ، وامّا إذا
لزم من الجمع بين الطرفين في الفعل أو الترك مخالفة قطعية فدليل الأصل في شيء من
الطرفين لا يدل على جوازه وعدم العقوبة فيه لأنّه عنوان آخر ملازم ولا يسري الحكم
من أحد المتلازمين إلى الآخر.
وإن
شئت قلت : انّ دليل الحلية
الظاهرية والترخيص لا ينفي الحرمة أو العقوبة عن العناوين الاخرى التي قد يلزم من
جريان الأصل في طرفين وتكون الحرمة أو العقوبة على ذاك العنوان اللازم معلوماً
وغير مشمول لدليل الترخيص ، فلا وجه للتعارض بل يجري الأصل الشرعي الترخيصي في
الطرفين ويؤمن عن المخالفة الاحتمالية في كل من الطرفين من حيث هي مخالفة احتمالية
، لا من
جميع الجهات ،
فيكون الأصل الشرعي الترخيص على وزان ما تقدم من جريان الأصل العقلي أي البراءة
العقلية في الطرفين عن الخصوصية رغم العقاب على مخالفة الجامع المعلوم إذا ارتكب
كلا الطرفين.
ونتيجته :
أوّلاً ـ عدم المعارضة لأنّه لا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية
بل تبقى المخالفة القطعية ـ لو تحقّقت بالجمع بين المخالفتين الاحتماليتين في
الطرفين ـ على حرمته.
وثانياً
ـ عدم وجوب الموافقة
القطعية في المقام الثالث القادم لأنّ جريان الأصل في الطرفين يؤمّن عن المخالفة
الاحتمالية في كل منهما لو تحقق وحده ، ويكون حاله حال جريان الأصل التخييري عن
الطرفين.
وهذا الايراد يمكن
الاجابة عليه : بأنّ لسان أدلّة الاصول الشرعية المرخّصة لو كان كالأصل العقلي أي
لسان رفع التنجيز أو العقوبة صحّ فيه هذا البيان.
إلاّ أنّ لسانها
لسان نفي الالزام الواقعي المحتمل ظاهراً أو جعل الحلية كحكم شرعي على نفس الموضوع
الواقعي ظاهراً في فرض الشك والجهل به وهذا اللسان لسان نفي الحكم الواقعي في
مرحلة الظاهر والحكم الواقعي ليس موضوعه الجامع وإن كان العلم والتنجّز للجامع
فيكون رفعه في كل من الطرفين معاً رفعاً مطلقاً لا حيثيّاً وترخيصاً في مخالفته
على كل تقدير ، لا مشروطاً بعدم ارتكاب الطرف الآخر ، وهو ترخيص في المخالفة
القطعية ، فإذا كانت قبيحة وممتنعة حصل التصادم مع حكم العقل ، والتعارض في دليل
الأصل بالنسبة للطرفين.
وإن
شئت قلت : انّ جريان الأصل
الشرعي في الطرفين معاً معناه أنّ الالزام
الواقعي لو كان في
كل منهما فلا عقاب على مخالفته ، والمفروض القطع بعدم مخالفته في مورد آخر فتتشكل
دلالة التزامية لدليل الأصل على عدم المحذور في المخالفة القطعية الاجمالية أيضاً
وهو ممتنع بحسب الفرض ، وهذا بخلاف الأصل العقلي الناظر إلى نفي المنجزية وموضوعها
الشك والعلم اللذان يجتمعان في الطرفين والجامع ، أي يكون للمكلف شكّان وعلم
بالجامع ، فيكون لكل من الشكين حكمه العقلي ، وهو البراءة العقلية ـ على القول بها
ـ وللعالم بالجامع حكمه العقلي أيضاً وهو التنجيز بمقداره لا أكثر ، بلا تنافٍ بين
الأحكام الثلاثة.
ص ١٨١ قوله : ( التقريب الأوّل ... ).
مرجع هذا التقريب
إلى ارتكاز التناقض عقلائياً بين الحكم الواقعي وبين الترخيص الظاهري في الطرفين
لا لأنّ الحكم الظاهري يناقض الحكم الواقعي ، فإنّه خلف إمكان الجمع بينهما ، بل
لأنّ حفظ الالزامات والاهتمام بها في موارد العلم بها إجمالاً هو أخفّ مراتب الحفظ
والتحريك نحو الأغراض الالزامية ، بحيث لو لم يهتم المولى بحفظه في موارد العلم
الإجمالي حتى بهذا المقدار فكأنّ الحكم الواقعي مخصوص بموارد العلم التفصيلي به ،
والذي هو التصويب ؛ لأنّ المولى قيّد محركيته بذلك ، وقوام الحكم بالتحريك المولوي
لا بالملاك ولا الحب والبغض فإنّهما محفوظان في موارد العجز أيضاً ، وليس ذلك
حكماً كما هو مقرّر في محلّه.
وإن
شئت قلت : بالدقة وإن كانت
المحركية الشأنية للغرض الالزامي مع قطع النظر عن التزاحم الحفظي مع ملاك الترخيص
ثابتاً في المقام أيضاً بحيث لولا التزاحم المذكور كان يجب على المكلّف الاحتياط ،
فلا تصويب بالدقة العقلية ،
إلاّ أنّ العرف
يراه تصويباً ولو من جهة أنّ هذا المقدار من المحركية يراها أدنى مراتب اقتضاءات
الالزامات والتحريكات المولوية الواقعية.
ولعلّ هذا البيان
أولى من دعوى أنّ الملاكات والأغراض الترخيصية في الارتكاز العقلائي لا يمكن أن
تبلغ درجة تتقدم على غرض الزامي معلوم ـ كما هو ظاهر الكتاب ـ فإنّه يمكن أن يورد
عليه بأنّ العقلاء كيف لا يحتملون وجود أغراض ترخيصية مهمّة لدى الشارع بحيث
تتقدّم ولو على بعض الأغراض الالزامية المعلومة بالعلم الإجمالي ، فإنّ هذا فرع
اطلاع العرف والعقلاء على أغراض الشارع ومدى أهمّيتها ، ولا وجه له كما هو واضح.
فالحاصل العرف يرى
تناقضاً بين جريان الاصول الترخيصية بمختلف ألسنتها وأنواعها في تمام أطراف العلم
الإجمالي مع فعلية الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وعدم ارتفاعه.
وقد عبّر جملة من
الأعلام أنّ محذور الترخيص في المخالفة القطعية لزوم التناقض ، كالمحقّق العراقي 1 والميرزا
النائيني 1 في أحد تقريريه. إلاّ أنّ ظاهرهما ارادة التناقض عقلاً ، ونحن ندّعي أنّه
تناقض بحسب عرف العقلاء في باب التشريعات المولوية الالزامية.
ص ١٨١ قوله : ( التقريب الثاني ... ).
قد يذكر في وجه
هذا التقريب بأنّ ظاهر أدلّة الاصول الترخيصية الرفع والترخيص الحيثي ، نظير ما
يقال في أدلّة المباحات الأولية من انّه إذا دلّ دليل على حلّية الجبن وانّه جائز
أكله فهو لا ينفي حرمته إذا كان مغصوباً أو مضرّاً بالصحة ؛ ولهذا لا يكون معارضاً
مع أدلّة حرمة الغصب أو الفعل المضرّ ؛ إذ
الحلّية والجواز
الحيثي ـ أي من حيث انّه جبن ـ لا ينافي الحرمة لجهة اخرى ، بل يجتمع معها كما هو
واضح ، فكذلك في المقام قوله : « رفع ما لا يعلمون » لا ينافي وجود محذور في
الارتكاب صدفة من حيث كونه معلوماً بالإجمال ؛ لأنّه يثبت جوازاً حيثيّاً ، أي من
حيث الشك واحتمال الالزام لا مانع وهو لا ينافي وجود المانع والحرمة في ارتكاب
الطرفين من حيث كونه ارتكاباً للمعلوم حرمته.
إلاّ أنّ هذا البيان غير تام
، وذلك :
أوّلاً
ـ للزوم نقض وترتيب
نتيجة عليه لا يمكن الالتزام به ، وهو أن تكون البراءة الشرعية بل الاصول
الترخيصية جارية في تمام أطراف العلم الإجمالي كالبراءة العقلية من دون تعارض ،
ولكن من دون إمكان ارتكاب تمام الأطراف ، بل ارتكاب بعضها ؛ لأنّ الحلّية والرفع
الحيثي ثبوته في كلا طرفي العلم الإجمالي معاً ممكن ، كثبوت الحلّية الحيثي في
الجبن مع حرمته بعنوان الغصب ، غاية الأمر المكلف لا يجوز له ارتكاب كلا الطرفين
معاً ؛ لكي لا يقع في مخالفة عنوان آخر هو محرّم عليه ، وهو ارتكاب الحرمة
المعلومة ، وهذا لعمري واضح.
وثانياً
ـ انّ الاستظهار
المذكور لئن تمّ في أدلّة المباحات الأولية فهو غير تام في أدلّة الأحكام الظاهرية
حتى الترخيصية منها ، مثل « رفع ما لا يعلمون » ؛ لأنّ ظاهرها رفع تنجيز التكليف
الواقعي المشكوك حتى لو كان هو المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ ذلك احتمال وليس علماً فهو
يؤمّن من ناحية التكليف المحتمل في كل طرف مطلقاً ، لا بنحو مشروط أو حيثي ، ومن
هنا يقع التناقض بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال ـ بناءً على التقريب الأوّل ـ
ويكون خلاف ظاهر أدلّة
الترخيص ؛ لأنّها
بصدد ترجيح ملاكات الترخيص المتزاحمة مع ملاك الزامي مشكوك لا معلوم ـ كما في
الكتاب في التقريب الثاني ـ فراجع وتأمل.
ثمّ
انّه قد يقال : إذا لم يكن
مفاد الاصول العملية الشرعية المرخّصة إلاّ التأمين من ناحية التكليف المحتمل لا
المعلوم ـ سواء لنكتة اثباتية لفظية أو ثبوتية عقلائية أو عقلية ـ فلا أثر
لجريانها حتى في بعض أطراف العلم الإجمالي كما إذا كان طرفه الآخر مجرى لأصالة
الاشتغال أو أي أصل آخر منجز ـ لأنّه لا يؤمن إلاّ من ناحية التكليف المحتمل
والمشكوك في ذلك الطرف ، وهذا لا ينافي تنجيز العلم الإجمالي واقتضائه للفراغ
اليقيني عن معلومه الإجمالي في أي طرف كان ؛ لأنّ دليل الأصل الترخيصي لا نظر فيه
إلى رفع منجزية العلم أو التكليف المعلوم ولا يؤمن عن التكليف المعلوم ولو كان
محتملاً وإنّما يؤمن عن التكليف المشكوك وغير المعلوم أصلاً في كل طرف.
قلت : انّ دليل الأصل لا يؤمن عن المخالفة القطعية ولا يرفع
التكليف المعلوم ولو من خلال اطلاقين وإنّما يؤمن ويرفع التكليف المحتمل حتى إذا
كان مقروناً بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه يجتمع مع الشك ، فالطرف الواحد لا مانع من
شمول دليل الأصل له والتأمين عن التكليف المحتمل فيه مطلقاً وعلى كل تقدير أي حتى
إذا كان هو المعلوم بالاجمال واقعاً.
وإن
شئت قلت : انّ التكليف
المعلوم بالاجمال إن كان في الطرف الذي يجري فيه الأصل المنجز فقد امتثل وإن كان
في الطرف الآخر فالأصل المؤمن يرفعه ظاهراً ويؤمن من ناحيته ، والعقل يكتفي في
الفراغ اليقيني عن التكليف المعلوم المردد في أحد الطرفين بهذا المقدار أي انّه
إذا كان في ذاك الطرف فقد امتثله وإذا
كان في هذا الطرف
فالشارع قد أمّن عنه.
وظني انّ روح مطلب
المحقق العراقي في البحث القادم ـ علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ـ ترجع
إلى هذا التصور أي انّ العلم بالتكليف مهما تحقق وجب بحكم العقل الفراغ عن امتثاله
وتحصيل اليقين بامتثاله امّا وجداناً أو تعبداً ، ودليل الأصل الجاري في أطراف
العلم الإجمالي حيث انّه لا يكون ناظراً إلى احراز الامتثال للتكليف المعلوم
بالاجمال فلا يحقق ما يجب احرازه عقلاً وحيث انّ حكم العقل بوجوب تحصيل الاحراز
واليقين بالفراغ تنجيزي فلا يمكن رفعه حتى باجراء الأصل في أحد الطرفين.
وهذا يعني أنّ
المحقق العراقي يقبل تعليقية الحكم العقلي بالتنجز ؛ ولهذا يكتفي بالاحراز التعبدي
ولكنه يرى انّ البراءة عن أحد الطرفين لا يؤمن عما تنجز بالعلم الإجمالي وهو لزوم
تحصيل اليقين بالفراغ وامتثال الالزام المعلوم ولو تعبداً.
وهذا جوابه :
أوّلاً
ـ ما في الكتاب من
أنّ التعبد بالامتثال بلسان ( بلى قد ركعت ) ، أو سائر الاصول التنزيلية مربوط
بمرحلة صياغة الحكم الظاهري ولسانه ، وإلاّ فروح الحكم الظاهري وهو الإذن والترخيص
في عدم الاحتياط بأي لسان يرفع حكم العقل بالتنجيز ؛ ولهذا لا يشك أحد من جريان
قاعدة الفراغ أيضاً حتى إذا كانت أدلّتها بلسان لا تعتني أو أنت في سعة أو رفع عنك
الاحتياط والاعادة ونحو ذلك من الألسنة.
وثانياً
ـ انّ لسان احراز
الامتثال مجرد تعبير عن الاحتياط في موارد الشك في تحقق الامتثال خارجاً وعدمه حيث
يكون الشك في الامتثال فيقال لابد من الاحتياط بحكم العقل والذي لا يكون
إلاّباحراز الامتثال مثلاً ، وامّا في موارد تردد التكليف بين متعلقين كما في
العلم الإجمالي فالشك فيه ليس في تحقق الامتثال وعدمه بل في متعلق التكليف وما يكون
لازماً امتثاله عقلاً وانّه الظهر مثلاً أو الجمعة ويكون الاحتياط اللازم فيه
عقلاً كلا الامتثالين.
ومن الواضح انّه
في مثل هذا يكتفي العقل في مقام الخروج عن عهدة الحكم المردّد بين حكمين بالاتيان
بأحدهما ، والتأمين الشرعي عن الآخر ولا يحكم العقل بلزوم احراز عنوان الامتثال
لما هو المتعلق الواقعي للتكليف المعلوم بالاجمال ، والذي هو عنوان انتزاعي عقلي ،
وإنّما يحكم بلزوم الخروج عن عهدة واقع كل من التكليفين المحتملين الذين يعلم بأنّ
أحدهما ثابت ، وهذا يقوم به الأصل النافي في أحد الطرفين ، ففرق بين الاحتياط في
المقام وبين الاحتياط في موارد الشك في الامتثال فتدبر جيداً.
وثالثاً
ـ انّ ما ذكره
المحقق العراقي لا يوجب علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وعدم جريان
الأصل الواحد في طرف العلم الإجمالي مطلقاً ، بل في خصوص ما إذا كان لسان الأصل
المؤمن الواحد لسان نفي التكليف ، وامّا إذا كان لسانه احراز الامتثال فلا بأس
بجريانه ؛ لتحقق احراز الامتثال التعبدي عندئذٍ ، كما إذا علم اجمالاً بتركه
للسجدة الواحدة في الركعة الاولى أو في هذه الركعة ، وهو بعد لم يتجاوز محل السجود
الثاني فيها ، أو إذا علم اجمالاً امّا يكون محدثاً أو يكون قد تنجّس بدنه أو ثوبه
مثلاً ، فإنّ أصالة الطهارة تجري وتحرز الامتثال ، والطرف الآخر وهو الشك في
الوضوء مجرى لقاعدة
الاشتغال في نفسه.
فالحاصل في موارد
العلم الإجمالي بعدم امتثال أحد التكليفين الفعليين لو كان أحدهما مجرى للاشتغال
والآخر مجرى لأصل مؤمّن محرز للامتثال ، كقاعدة الفراغ أو استصحاب الطهارة أو
قاعدتها ، كان العلم الإجمالي غير منجز لوجوب الموافقة القطعية ؛ لتحقق احراز
الامتثال بجريان الأصل المؤمن في ذلك الطرف لا محالة ، وهذا نقض على المحقق
العراقي 1.
ص ١٨٩ : قوله : (
الثاني ... ).
ملخص
الجواب وروحه : انّ البراءة المشروطة بعدم ارتكاب الطرف الآخر كما لا تعارض البراءة المشروطة
في ذاك الطرف ، لا تعارض البراءة المطلقة فيه ؛ لامكان جعلهما معاً ولا يلزم
مخالفة قطعية ؛ إذ بارتكابهما معاً ترتفع البراءة المشروطة ، وهذا بخلاف التقييدات
الاخرى ، كالتقييد بأن يكون الفرد الأوّل أو يكون الفرد الثاني ، فإنّه وإن كان
المشروطان لا تعارض بينهما لعدم إمكان ارتكاب الفردين معاً مثلاً ، إلاّ أنّ
البراءة المشروطة في كل منهما بكونه الفرد الأوّل معارض مع البراءة المطلقة في
الآخر ، وهذا يعني انّ الإطلاق الأحوالي في الطرف الآخر يعارض الإطلاق الأحوالي
والأفرادي في هذا الطرف فيسقط الإطلاق الأفرادي أيضاً.
وهذا بخلاف
التقييد الذي أبرزه العراقي 1 فإنّ الإطلاق الأحوالي في كل منهما إنّما يعارض الإطلاق
الأحوالي في الآخر لا الأفرادي بحيث يكفي رفع اليد عن أحد الاطلاقين الأحوالين في
الطرفين لدفع المنافاة ، وإنّما نرفع اليد عنهما معاً لعدم الترجيح.
ص ١٩٠ قوله : ( الرابع ... ).
الظاهر من تقريرات
السيد الخوئي 1 انّ المحذور لديه هو التناقض بين الالزام الواقعي المعلوم
بالاجمال مع الترخيصين الظاهريين الفعليين في الطرفين ـ بعد الفراغ عن عدم امكان
الترخيص في المعصية ـ وهذا كمال يحصل بجريان الأصل المؤمن في الطرفين مطلقاً كذلك
يحصل إذا كانا مشروطين وتحقق شرطهما معاً كما إذا ترك الطرفين حيث يستلزم العلم
بترخيص ما علم حرمته.
وهذا
البيان جوابه : أوّلاً ـ أنّ التناقض بين الأحكام الشرعية امّا يكون بلحاظ المبدأ أو
المنتهى ، والأوّل غير موجود في الأحكام الظاهرية ، والثاني فرع أن يكون اقتضاء
الحكمين الظاهرين المشروطين وأثرهما في مقام العمل والمحركيّة تجويز ارتكاب كلا
الطرفين لا أحدهما فقط ولو لارتفاع موضوع أحد الترخيصين بارتكاب أحدهما.
والحاصل
: كما لا يستلزم
الأصل التخييري بهذا المعنى الترخيص في المخالفة القطعية والمعصية القبيحة عقلاً
كذلك لا تناقض بين الاباحتين المشروطتين مع الحرمة المعلومة بلحاظ المحركية
والمنتهى رغم وصولهما معاً وفعليتهما في الطرفين في فرض تركهما ؛ ولهذا لا يشك
الاستاذ الخوئي 1 في انّ للمولى أن يحكم ظاهراً بالتخيير في طرفي العلم
الإجمالي ، كما إذا ورد دليل خاص عليه في مورد فإنّه يؤخذ به جزماً ، ولا يقال
باستحالته ولا بمناقضته مع الحرمة الواقعية ، بل وقع ذلك بلحاظ المنجزية العقلية
في موارد الاضطرار أو العسر إلى بعض الأطراف لا بعينه فإنّ التكليف الواقعي يبقى
على منجزيته بلحاظ حرمة المخالفة القطعية ، ويسمّى بالتوسط في التنجيز على ما
سيأتي في محلّه ، فكما يجوز التوسط في التنجيز بترخيص واقعي في أحد الطرفين لا
بعينه
للاضطرار كذلك
يجوز بترخيص ظاهري كذلك إذا دلّ عليه دليل اثباتاً ، وكون صيغة جعل الترخيص
الظاهري التخييري على نحو ترخيصين مشروطين في الطرفين أو جعل ترخيص لعنوان أحدهما
لا يوجب استحالة في البين ؛ لأنّ الجعل مجرّد اعتبار لا أكثر.
وثانياً
ـ النقض بما إذا كان
الأطراف ثلاثة واخذ فعل أحدها وترك أحدها قيداً في اباحة الثالث بل وفي الطرفين
أيضاً إذا أخذنا ارادة الجامع وأحدهما قيداً أيضاً لفعلية الاباحة الظاهرية في كل
من الطرفين.
ويمكن
أن يناقش فيه : أمّا فيما ذكر في الأطراف الثلاثة فبأنّه يلزم منه اباحتين ظاهريتين في طرفين
مشروطاً بارتكاب الثالث ، وهذا بنفسه ترخيص قطعي في المخالفة إذا كان ما يفعله
مباحاً ظاهراً أيضاً ، وإلاّ فلا يفيد المكلف ، فإنّه لابدّ له من مؤمّن ليجوز له
ارتكاب طرف واحد من أطراف العلم الإجمالي أيضاً.
وأمّا فيما ذكرناه
بالنسبة للطرفين فلأنّه إذا لم نأخذ فعل وارتكاب أحد الطرفين قيداً ، واكتفينا
بأخذ ارادة الجامع والقصد فقط مع ترك أحدهما قيداً لزم فعلية الاباحتين بمجرد
الارادة وقبل الفعل فيعود المحذور ، وإذا اخذ الفعل مع القصد قيداً لزم لغوية جعل
الإباحة الظاهرية عندئذٍ ؛ لأنّها إنّما تراد لتجويز الفعل والارتكاب لا بعده.
ويمكن دفع كل هذه
الاشكالات بأخذ ترك أحد الأطراف أو الطرفين ـ أي بمقدار المعلوم بالإجمال ـ ولكن
بقيد الوحدة ، فلو ترك الجميع فلا إباحة ، أي لا يجوز له فعلهما معاً ، كما انّه
فعل كل منهما جائز له مشروطاً بترك الآخر
وحده ، وأمّا صورة
ارادة تركهما معاً فليس مشمولاً لدليل البراءة ولا محذور في ذلك.
ويمكن أن يطوّر بيان
السيد الاستاذ الخوئي 1 بأن يريد اضافة دعوى ومصادرة زائدة على ما تقدم وحاصلها :
أنّه لا يمكن الترخيص الظاهري فيما يعلم المكلف بحرمته بالفعل لا مطلقاً ولا
مشروطاً بشرط ولو كان مشكوك التحقق غير محرز للمكلف فضلاً عما إذا كان محرزاً
ومعلوماً له تحققه.
وفي المقام مرجع
هذه الاباحة الظاهرية المشروطة في الطرفين أو أطراف العلم الإجمالي هو الترخيص في
ارتكاب الحرام الواقعي المعلوم مشروطاً بترك الطرف الآخر الحلال وهذا وإن كان لا
يحرزه المكلّف حين ارتكاب الحرام ولكنه يعلم به على هذا التقدير أي يعلم بأنّ
الشارع قد رخّص في الحرام المعلوم إذا ترك ما هو مباح من الطرفين واقعاً ومثل هذا
العلم غير حاصل في الشبهات البدوية ، وهذا جارٍ حتى في الأطراف الثلاثة وأخذ فعل
واحد منها في التقييد لأنّ هذه الاباحة المشروطة تنطبق على كل واحد من الأطراف إذا
تحقق القيدان في الآخرين واحدها الحرام المعلوم بالاجمال فيعلم بالترخيص فيه
مشروطاً بذلك وإن كان لا يحرزه.
إلاّ أنّ هذا
البيان أيضاً غير صحيح فإنّه لا وجه له ؛ إذ لا محذور في مثل هذا الترخيص لا من
حيث لزوم التناقض ولا من حيث قبح الترخيص في المعصية بل حال هذه الاباحة الظاهرية
حالها في الشبهات البدوية من حيث عدم وصولها وعدم علم المكلف بها في مورد التكليف
المنجّز ليلزم محذور التضاد في المنتهى أو الترخيص في القبيح العقلي.
ص ٢١١ قوله : ( الكلمة الاولى : حول
الاستثناء الأوّل ... ).
الانصاف صحة هذا
الاستثناء حتى على مسلك الاقتضاء مع توسعته والقول بجريان حتى الأصل الترخيصي
الأوّل الحاكم في الطرف الآخر ـ كما في الاستثناء الأوّل الذي سيأتي ـ وذلك لأنّ
قاعدة الفراغ أو الأصل الطولي الترخيصي ـ استصحاب عدم الزيادة ـ وان سقط بالمعارضة
مع القاعدة أو أي أصل مؤمن آخر في الطرف الذي فيه أصل طولي الزامي ، إلاّ انّه في
طول المعارضة وجريان الأصل الطولي الالزامي يتنقح مجرى طولي جديد للتمسك بدليل
الأصل المؤمن في الطرف الآخر حتى الحاكم فضلاً عن الطولي الترخيصي المحكوم ، لأنّه
في هذه الحالة أي بعد جريان الأصل الالزامي الطولي ذاك الطرف مشتبه ومشكوك لا مانع
من شمول إطلاق دليل الأصل الترخيص له مقيّداً بهذه الحالة وانحلال العلم الإجمالي
به ، إذ لا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية.
وهذا نظير اجراء
البراءة الطولية عند الشك في جريان البراءة في الشبهة البدوية لجهة من الجهات.
وإن
شئت قلت : انّ الساقط
بالمعارضة قبل جريان الأصل الطولي الالزامي إنّما هو قاعدة الفراغ أو استصحاب عدم
الزيادة المطلق ، وامّا الجاري بعد جريان الأصل الطولي الالزامي إنّما هو الأصل
الترخيصي المشروط والمقيد بجريان الأصل الالزامي في الطرف الآخر ، وهذا الإطلاق في
دليل الأصل من الأوّل لا محذور فيه إذ لا يلزم منه الترخيص في المخالفة ، والأصل
الالزامي ينقح موضوعه ولا يرد عليه ما ورد على الأصل المشروط بترك الطرف الآخر من
المحذور الاثباتي
المانع عن استفادته من إطلاق أدلّة الاصول العملية المؤمّنة لكونه ترخيصاً
تعيّنياً واحداً من أوّل الأمر ، كما انّ القيد المذكور مأخوذ لباً في اطلاقات
أدلّة الاصول.
وإن
شئت قلت : انّ محذور
التناقض أو قبح الترخيص في المخالفة القطعية لا تقتضي تقييد أدلّة الاصول
الترخيصية بأكثر من الموارد التي يكون في الطرف الآخر أصل ترخيصي لا يكون في طول
عدم جريانه أصل الزامي شرعي أو عقلي ـ بقطع النظر عن العلم الإجمالي ـ وهذا القيد
بالنسبة للأصل الحاكم في الطرف الذي ليس فيه أصل طولي الزامي غير موجود ، بخلاف
الطرف الذي فيه أصل طولي الزامي ، فتدبر جيداً.
فالحاصل : لا ينبغي الشك في حصول الانحلال في الأمثلة والتطبيقات
الفقهية التي ذكرها السيد الخوئي في هذا الاستثناء من فروع العلم الإجمالي ،
ونكتته ما ذكرناه وهو يقتضي جريان الأصل الترخيصي مطلقاً أي حتى الحاكم في الطرف
الآخر سواء على مسلك الاقتضاء ـ بهذا البيان ـ أو مسلك العلية بالبيان المذكور في
الكتاب ؛ ولعله مقصود السيد الخوئي وإن كان تعبيره خاصاً بجريان الأصل الترخيصي
الطولي. فلعلّ مراده الإطلاق الطولي في دليل الأصل الترخيصي ، وهذا يتم حتى في
الأصل الطولي الالزامي العقلي ، كما يظهر وجهه بالتأمل.
ص ٢١٤ الهامش :
ما ورد فيه ليس
بصحيح ؛ لأنّ حجّية القاعدة وتحقق موضوعها في الطرف الآخر متوقف على جريان الاستصحاب
في الطرف الأوّل ليتحقق موضوع
الإطلاق في دليل
القاعدة فإنّ القيد المذكور مأخوذ في كلا الاطلاقين لدليل القاعدة لا انّه مأخوذ
في أحدهما فقط ، وعندئذٍ يكون جريان الاستصحاب في الطرف الآخر هو المحقق لموضوع
إطلاق دليل القاعدة في هذا الطرف ، وهذا واضح.
وما ورد في ذيل
الهامش من الفارق العملي بين القول بالطولية في الاصول المتوافقة أوضح بطلاناً ،
لأنّ الطولية كما تقدم لا ينافي التعارض فالاجمال الداخلي يحصل ابتداءً بين إطلاق
دليل القاعدة مثلاً في الطرف الواحد واطلاقيه الطوليين في الطرف الآخر لكونهما في
زمن واحد بل وحتى إذا كانا في زمانين فالاطلاق للأصل الطولي على فرض وتقدير تحقق
موضوعه ولو في المستقبل معارض من أوّل الأمر مع الإطلاق الواحد للطرف الآخر ، وهذا
واضح لا غبار عليه.
ص ٢١٧ قوله : ( الوجه الرابع ... ).
وجوابه :
أوّلاً ـ انّ صلاحية مقتضي الأصل الطولي للمانعية عن حجّية الأصل
العرضي في الطرف الآخر لا توجب رجوع الأصل الحاكم إذا كانت المعارضة بينهما موجودة
أيضاً ؛ إذ لا مرجح لهذه المعارضة على تلك لو لم نقل بترجح المعارضة بينه وبين
الأصل الحاكم لكونه أسبق مرتبة.
وثانياً
ـ انّ مقتضى الأصل
الطولي يستحيل أن يكون منشأ لرجوع الأصل الحاكم لأنّه في طول سقوطه عن الحجّية فلا
يعقل أن يكون سبباً في نفي السقوط فمثل هذا المانع أو المانعية الطولية لا يصلح
لارجاع الأصل الحاكم إلى الحياة كما هو مذكور في الكتاب.
ص ٢٢٠ الهامش :
النقض الموجود في
الهامش يمكن دفعه بأنّ التعارض بين الأصل الواحد وكل من الأصلين الآخرين في عرض
واحد ، فيكون ترجيح احدى المعارضتين على الاخرى ، أو قل ترجيح الأصلين الآخرين على
الأصل المشترك في المعارضة بنفسه ترجيحاً بلا مرجح في مقام التعارض فلا يقاس بما
إذا كان المحذور الزائد في حجّية المعارض مختصاً وغير مربوط بنكتة التعارض
والترجيح بلا مرجح كما في الأصل الطولي.
نعم ، هنا بيان
آخر لابطال هذا الوجه حاصله : انّ الأصل الطولي مكافىء مع الأصل العرضي في الحجّية
اقتضاءً ومحذوراً ، امّا اقتضاءً فلأنّه بعد فرض سقوط الأصل الحاكم عليه عن
الحجّية بالفعل ولو للمعارضة تمّ موضوع الحجّية وإطلاق دليلها للأصل الطولي لا
محالة فيكون المقتضي للحجية فعلياً في الأصل الطولي أيضاً ، وأمّا محذوراً فلأنّه
في طول تحقق المقتضي لا يوجد محذور آخر عن حجّية الأصل الطولي إلاّ الترجيح بلا
مرجح على معارضه وهو الأصل العرضي في الطرف الآخر وما يوجب عدم المكافئة إنّما هو
وجود محذور زائد في حجّية أحد الأصلين في طول تحقق مقتضيه وتماميته.
والحاصل
: لا تمانع بين
الأصل الحاكم والأصل الطولي في الحجّية ليكون في حجّية الأصل الطولي محذوراً يخصه
وإنّما لا مقتضي لحجيته إذا كان الأصل الطولي حجة ، وحيث انّه ليس بحجة ولو من
ناحية المعارض كان مقتضي الحجّية وموضوعها تاماً في حق الأصل الطولي أيضاً فيمنع
عن تأثيره مقتضى الأصل العرضي في الطرف الآخر أيضاً بلا محذور.
ولا يرد هذا
الجواب في العام الفوقاني والرجوع إليه بعد سقوط الخاصين
المتعارضين ؛ لأنّ
العام الفوقاني ليس له تعارض بحسب الفرض مع شيء من الخاصين ، أي بعد عدم حجّية
الخاص المخالف للعام ، وفعلية مقتضي الحجّية في العام الفوقاني لا يكون الخاص
الآخر معارضاً معه بحسب الفرض ، وهذا واضح.
وهذا هو البيان
الفني لدفع الوجه السادس ، وامّا ما ذكره السيد الشهيد من عدم عرفيته فلا نفهم له
وجهاً ، إذ من الواضح عرفية شرطية التكافؤ بين المتعارضين من حيث الحجّية اقتضاءً
ومحذوراً ، فإنّ هذه قاعدة مفهومة عرفاً في باب التزاحمات التكوينية والتشريعية.
ص ٢٢٥ قوله : ( الاولى ... ).
حاصله : انّ الأصل
العملي ليس له مدلول كالامارة والبيّنة على نفي المعلوم بالاجمال في أحد الطرفين
ليدل بنفسه على اللوازم حتى المترتبة شرعاً ، وإنّما تثبت اللوازم الشرعية من باب
ثبوت موضوعها تعبداً فيتمسك بدليل ذلك الأثر الشرعي ، وهذا يعني انّه لابد أوّلاً
من جريان التعبد الشرعي في أحد طرفي العلم الإجمالي لكي يتنقح موضوع التمسك بذلك
الدليل ، والمفروض عدم جريان التعبد في طرف العلم الإجمالي على مسلك العلية.
ونلاحظ على ذلك :
أوّلاً
ـ انّ هذا المبنى
سيأتي فساده ، فإنّ التمسك بدليل الأثر الشرعي في مورد التعبد تمسك بالعام في
الشبهة المصداقية ، لأنّ موضوعه الواقع بحسب الفرض لا الأعم منه ومن التعبد.
وإن
شئت قلت : انّ الحكومة في
الاصول التنزيلية على الآثار الشرعية
حكومة ظاهرية لا
واقعية ، لا بمعنى ثبوت المدلول للأصل ، بل بمعنى دلالة دليل الأصل العملي الذي هو
دليل اجتهادي على ترتب ذلك اللازم الشرعي ظاهراً أيضاً ، فيكون لدليل الاستصحاب أو
البراءة دلالتان احداهما نفي وجوب الدين تعبداً وظاهراً والآخر اثبات وجوب الحج
كذلك ، والدلالتان عرضيتان بالدقة على ما سوف يأتي في محله وإن قيل بتوقف الثانية
على ثبوت مفاد الاولى.
فالانحلال في
المقام أحسن حالاً من انحلال العلم الإجمالي بالامارة الثانية في أحد طرفيه.
وثانياً
ـ لو سلّمنا انّ
التمسك يكون بدليل الأثر كما في الحكومة الواقعية ـ بمعنى الورود ـ إلاّ انّه مع
ذلك نقول لا محذور فيه في المقام ؛ لأنّ الأصل العملي الذي في طول جريانه ينحل
العلم الإجمالي ويخرج عن الصلاحية للمنجزية لا مانع عن جريانه حتى على مسلك العلية
، إذ لا يلزم من جريانه الترخيص في العصيان الممتنع عقلاً على نحو العلية فلا موجب
لتقييد إطلاق دليل الأصل العملي الترخيصي بأكثر من ذلك ، وهذا هو روح ما في
الهامش.
ص ٢٢٥ قوله : ( ولنا في المقام عدة
تعليقات ... ).
ينبغي التعليق على كلام
المحقق العراقي بما يلي :
أوّلاً
ـ إذا كان موضوع
وجوب الحج واقع عدم وجوب الوفاء بالدين فالاستصحاب أو أي أصل تنزيلي يجري على كلا
المسلكين ؛ لأنّه ينجز وجوب الحج فينحل العلم الإجمالي حكماً ، ولا يضرّ كون الأثر
الالزامي في طول نفي وجوب الدين ؛ لأنّه أوّلاً : ليس بدليل آخر غير دلالة دليل
الأصل التنزيلي ،
إذ الحكومة ظاهرية
لا واقعية. وثانياً : لو فرض كون الحكومة واقعية ـ كما على التقدير الثاني في كلام
العراقي ـ مع ذلك لا مانع من جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الدين إذا كان في طول
ذلك يتحقق الالزام في الطرف الآخر ولو بالتمسك بدليله الواقعي ، فإنّه يكفي أيضاً
للمنع عن علية العلم الإجمالي للتنجيز ؛ إذ الأصل المؤمّن الذي يرفع منجزية العلم
الإجمالي ليس فيه مخالفة لحكم العقل التنجيزي ـ كما سيأتي في الانحلال الحقيقي ـ.
وثانياً
ـ إذا كان موضوع
وجوب الحج الأعم من ذلك ومن الحكم الظاهري الشرعي بعدم وجوب الدين أو مطلق
المعذورية عنه ولو عقلاً فسوف ينحل العلم الإجمالي حقيقة بجريان الأصل المؤمّن حتى
غير التنزيلي ، فلا موضوع للانحلال الحكمي ، وهذا ما ذكره السيد الشهيد ثانياً في
الكتاب ولكنه خصّصه بالتقدير الثاني ولا وجه له.
وثالثاً
ـ ما ذكره في
التقدير الثالث ـ من عدم منجزية العلم الإجمالي على كل تقدير ؛ لأنّه بتنجيزه
لوجوب الدين يرتفع موضوع وجوب الحج ـ غير صحيح ؛ لأنّه إذا كان موضوع وجوب الحج
الأعم من عدم وجوب الدين واقعاً أو عدم تنجزه ـ كما هو كذلك ـ فبتنجيز العلم
الإجمالي لوجوب الدين ـ أحد طرفي العلم ـ لا يعلم بعدم وجوب الحج ؛ إذ لعل الدين
غير موجود فإنّ تنجزه لا يوجب العلم بوجوده فيبقى العلم الإجمالي على حاله وقابلاً
لتنجيز كلا الطرفين ـ مع قطع النظر عن الانحلال الحقيقي المتقدم ـ وإن كان موضوع
وجوب الحج خصوص عدم تنجز الدين والوفاء به فعندئذٍ لا يتشكل علم اجمالي أصلاً ؛ إذ
لعله لا وجوب للدين أيضاً ؛ إذ تنجزه لا يستلزم وجوده كما هو واضح ، فلا علم
إجمالي في البين لكي يقال بعدم تنجيزه على كل تقدير.
ص ٢٢٦ قوله : ( الثالثة ... ).
هذا الجواب إنّما
خصّصه بالشق الثالث وهو ما إذا كان موضوع وجوب الحج عدم تنجز وجوب الدين لا الأعم
منه ومن عدمه ولو ظاهراً ـ وهو الشق الثاني ـ مع انّ الحكم الظاهري بالترخيص أيضاً
قد يكون غير ثابت ومع ذلك لا يطابق الواقع ، أي لا وجوب للدين واقعاً.
أقول : إنّما خصّصه بذلك لأنّه لو كان هناك حكم ظاهري الزامي
بالدين شرعاً كان كالوجوب الواقعي طرفاً لعلم اجمالي بالتكليف ، وهذا علم اجمالي
منجز.
نعم ، لو قلنا
بأنّ عدم جعل البراءة لا يلازم جعل الاحتياط الشرعي جرى هذا الإشكال على كلا
الشقين ، فلا وجه لتخصيصه بالشق الثالث.
ثمّ انّ أصل هذا
الجواب غير تام ؛ لأنّ المدعى ترتب وجوب الحج على الجامع بين عدم وجوب الدين
واقعاً أو عدم تنجّزه لا خصوص عدم تنجّزه ، فمع فرض التنجّز لو فرض عدم وجوب الدين
واقعاً كان وجوب الحج فعلياً ، فالمكلف يعلم اجمالاً بفعلية أحدهما على كلّ حال.
نعم ، ظاهر كلام
المحقّق العراقي 1 في فرضه الثالث أنّ نظره إلى كون الموضوع لوجوب الحج عدم
التنجز بالخصوص ، وإلاّ لم يتم ما ذكره ؛ ولعلّه لذلك أشكل عليه الاستاذ ، فتدبر
جيداً.
ص ٢٢٧ قوله : ( الرابعة ...
).
حاصله : انّ المنجزية بملاك العلم الإجمالي في طول الواقع
المعلوم
بالإجمال على مسلك
العلية ، فيكون في طول وجوب الحج على تقدير كونه الواقع ، فيستحيل أخذ عدمها في
موضوعه ؛ لأنّه من القيود الثانوية له عندئذٍ ، فلابد وأن يكون المأخوذ عدم منجزية
وجوب الدين في نفسه ومن غير ناحية العلم الإجمالي وهو فعلي ، فيكون موضوع وجوب
الحج فعلياً فيمكن للعلم الإجمالي أن ينجزه بلا محذور لو تصورنا امكان تشكل أصل
هذا العلم الإجمالي.
ص ٢٢٩ الهامش.
هذا صحيح ؛ لأنّ
ملاك الترخيص يرتبط بالتسهيل وهو يختلف باختلاف نوع العمل وكيفيته ومشقته ، فحبّة
حنطة بين ألف حبّة يسهل الاجتناب عنها بالاجتناب عن الألف حبة ، وليس كالاجتناب عن
اناء بين ألف اناء متفرقة ، كما انّها إذا كانت مجتمعة في مكان يختلف عنها إذا
كانت في كل البلد مثلاً ، فليس مجرد كثرة الأطراف كافياً عرفاً وارتكازاً لما ذكره
الاستاذ ، على انّ المحذور الاثباتي الآخر وهو عدم شمول دليل التامين الظاهري
لتمام الأطراف جمعاً ؛ لأنّه ترخيص في المعلوم لا فرق فيه بين كثرة الأطراف
وقلّتها.
ص ٢٣٢ قوله : ( امّا الأوّل
فلأنّ ... ).
وإن
شئت قلت : انّ التعارض
بالتكاذب بين هذه الاطمئنانات غير معقول ؛ لأنّ المراد بالاطمئنان الظن الشخصي لا
النوعي ، فنفس وجود الاطمئنانات الفعلية في تمام الأطراف أي كل طرف طرف بالفعل
دليل عدم التكاذب ، إذ يستحيل الظن بالمتناقضين كاستحالة القطع بهما. والسرّ ما
اشير إليه في الكتاب من أنّ كل اطمئنان لو اريد مكذبيته لاطمئنان آخر من
الاطمئنانات فمن الواضح
امكان صدقهما ،
وإن اريد مكذبيته لصدق مجموع الاطمئنانات الاخرى جمعاً ونفى طهارة كل الأطراف الباقية
مجموعاً فهذا صحيح ، إلاّ انك قد عرفت انّ الظن الاطمئناني بعدم طهارة المجموع لا
يسري ولا يعارض الاطمئنان بطهارة كل طرف طرف.
ص ٢٣٢ قوله : ( وامّا الثاني فلأنّه
أوّلاً ... ).
وارتكاز عدم
المناقضة عقلائياً هنا أوضح ، وبنكتة اضافية فلا يرجع هذا الوجه إلى الوجه الأوّل
؛ لعدم منجزية الشبهة المحصورة ، وهي انّ الاطمئنان المذكور يجعل العرف يرى
المعلوم بالإجمال منتفياً في كل طرف.
ص ٢٣٥ الهامش.
يرد
عليه : انّ العلم
الإجمالي من أوّل الأمر منجز للارتكابات الدفعية أو المتعاقبة التي يكون احتمال
الاقتحام للحرام المعلوم بالاجمال فيه بقيمة احتمالية أكبر من ١% مثلاً بحسب الفرض
وهذا يعني انّ مؤمنية الاطمئنانات في كل طرف بدلية فهي مؤمنية على تقدير عدم
ارتكاب فرد آخر معه أو بعده ، وإلاّ فمع ارتكابهما يكون التنجيز ثابتاً من أوّل
الأمر بعلمنا الإجمالي الأوّل ، بلا حاجة إلى علم إجمالي جديد في الباقي ، وهذا
واضح.
ص ٢٣٦ قوله : ( الرابع ... ).
لا إشكال في انّه
على الوجه الثاني المتقدم أي الانحلال بالاطمئنان يكون حكم الشك في الانحصار بمعنى
حصول الاطمئنان وعدمه هو عدم الانحلال ؛ لأنّ الشك في الحجة يساوق عدم الحجّية.
وأمّا
على الوجه الأوّل فقد يقال : انّه تارة تكون الشبهة مصداقية كما إذا شك في انّ عدد الأطراف خمسين فتكون
محصورة أو ستين فتكون غير محصورة.
واخرى تكون الشبهة
حكمية بأن شك في انّ الستين عند العرف محصورة أم لا ، ففي الأوّل لا يجوز التمسك
باطلاق أدلّة الاصول ؛ لأنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وفي الثاني
يفصل بما في الكتاب بين ما إذا كان الشك من المكلف في انّ هذا المقدار كافٍ عند
العرف للمناقضة ، فيكون من اجمال القيد اللبي المتصل مفهوماً فلا يجوز التمسك
بالعام فيه أيضاً فيجب الاحتياط ، وبين ما إذا كان العرف شاكاً فيكون من موارد
القطع بعدم المقيد العرفي ؛ لأنّ المقيّد إنّما هو القطع العرفي بالمناقضة ، ومع
الشك لا قطع ، فيصحّ التمسك بأدلّة الاصول في الأطراف.
قد يقال بجريان
الأصل المؤمن في الشقوق الثلاثة ، إذ يمكن اجراء الأصل عن الحكم بايجاب الاحتياط
المشكوك. وإن شئت قلت : اجراء الأصل عن الحكم الواقعي في مرحلة الشك في جعل
الترخيص الظاهري عنه وعدمه نتيجة الشك في الانحصار وعدمه ، وهذا الإطلاق لدليل
الأصل ليس مجملاً ؛ إذ لا ارتكاز للتناقض عرفاً في جعل الترخيص عند الشك في
المناقضة والامتناع وعدمه حتى لو فرض وجوده في الاصول العرضية ، فإنّ نفس الشك في
امكان جعل الحكم الظاهري الترخيصي أو لزوم الاحتياط يمكن أن يقع موضوعاً لحكم
ظاهري كما تقدم في بعض الأبحاث السابقة في مورد الشك في قيام أمارة على الالزام ،
وعليه فتجري البراءة الطولية في الشقوق الثلاثة ، وهذا من الفروق بين الوجهين المعتمدين
أيضاً.
والجواب : هناك فرق بين الموردين ، فإنّ دليل الأصل المؤمن وإن كان
مقيداً عندنا بعدم
الامارة على الالزام واقعاً لا في مرحلة الوصول فحسب فتكون الشبهة عند الشك في
وجود الامارة واحتمالها شبهة مصداقية ، إلاّ انّه يجري الأصل عن الالزام الظاهري
المحتمل بالأمارة أو عن الواقع المحتمل في فرض الشك في وجود الأمارة ، وهذا
الإطلاق ليس مقيداً بعدم تلك الأمارة لتكون الشبهة مصداقية بل مقيد بعدم الأمارة
على الأمارة وهو قطعي وليس مشكوكاً بحسب الفرض فلا يكون التمسك بهذا الإطلاق
الطولي شبهة مصداقية ، وهذا لا يتم في المقام ؛ إذ لا يوجد إطلاق آخر لدليل الأصل
المؤمّن لفرض الشك في ارتكاز التناقض ، الذي هو مقيّد واقعي غير نفس الإطلاق
المبتلى بالإجمال بحسب الفرض.
كما انّه ليس هنا
شك في الزام آخر واقعي أو ظاهري غير المشكوك الأوّل الواقعي ، وايجاب الاحتياط
الذي يثبت إنّما يكون بملاك حكم العقل ومنجزية العلم الإجمالي عند عدم جريان
الترخيص في أطرافه ، لا بملاك حكم ظاهري شرعي بايجاب الاحتياط لكي يتحقق الشك فيه
فيجري عنه الأصل المؤمّن.
نعم ، لو كان
القيد القطع بالتناقض ، أو ارتكاز المناقضة الواصلة إلى المكلف صغرى وكبرى ـ كما في
هامش الكتاب ـ تمّ التمسك بالأصل المؤمّن في تمام الشقوق.
ص
٢٣٧ قوله : ( وإن كان المدرك ما
أفاده الميرزا ... فقد ذكر المحقق العراقي ... ).
هذا الوجه مذكور
في أجود التقريرات من قبل الميرزا نفسه أيضاً فكان الأنسب نسبته إليه.
ص ٢٤٧ قوله : ( والتحقيق ... ).
لا إشكال في
الانحلال الحقيقي إذا كان العلم التفصيلي أو الإجمالي الصغير معلومه ناظراً إلى
معلوم العلم الإجمالي ؛ كما لا إشكال إذا كان معلومه غيره قطعاً وإنّما البحث كله
فيما إذا كان محتمل الانطباق عليه.
وقد استثنى سيدنا
الاستاذ الشهيد 1 أيضاً ما إذا كان قد اخذ خصوصية في المعلوم الإجمالي غير
مأخوذة في المعلوم التفصيلي ، كما إذا علم إجمالاً بالنجاسة الدمية ، وعلم تفصيلاً
بنجاسة الاناء الأحمر مثلاً من دون العلم بكونها دمية أو بولية فإنّه هنا أيضاً لا
انحلال ؛ وإن كان يحتمل واقعاً كون النجاسة المعلومة تفصيلاً هي المعلومة إجمالاً.
والوجه فيه أنّ
البرهان الذي يأتي في الوجه الثاني من الوجوه الأربعة في الكتاب والذي هو البيان
الفني لمدعى الميرزا 1 لا يجري فيه قطعاً ؛ إذ يوجد في المعلوم الإجمالي خصوصية
لا يعلم بها في العلم التفصيلي أي يعلم بعدم تطابق المعلومين بالذات وإن كان يحتمل
تطابق المعلومين بالعرض ، أو قل ليست النسبة بين المعلوم التفصيلي والمعلوم
الإجمالي نسبة الأكثر للأقل.
فالبحث عند السيد
الشهيد ينحصر فيما إذا كانت النسبة بينهما الأقل والأكثر ، كما إذا علم تفصيلاً
بنجاسة دمية في الاناء الأحمر وكان المعلوم بالإجمال جامع النجاسة لا خصوص الدمية.
إلاّ أنّ بعض
الوجوه الأربعة ـ كالأوّل والرابع ـ يجري حتى في استثناء السيد الشهيد.
كما انّ ظاهر
تقريرات القائلين بالانحلال مطلقة تشمل تمام موارد احتمال انطباق المعلوم الإجمالي
على التفصيلي.
ثمّ انّ هنا
بياناً للميرزا في تقريرات الكاظمي للانحلال الحقيقي حاصله : انّه لا علم بتكليف
جديد زائد على المعلوم التفصيلي ، وإنّما شك بدوي في الزائد يجري عنه الأصل ،
وتسمية هذا بالانحلال الحقيقي لعله مسامحة في التعبير ، وإلاّ فظاهره خلط بين
الانحلال الحكمي والحقيقي ، كما علّق عليه المحقق العراقي 1 ، وهو واضح لا
يستحق الذكر.
والمهم البرهان
الذي أشار إليه السيد الشهيد في الوجه الثاني من أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع
مع الشك والتردد في الانطباق على الفرد ، أو قل في الخصوصية ، أو قل العلم بالجامع
بحدّه الجامعي ، فإذا تعلق العلم تفصيلاً بأحد الأطراف فقد زاد المنكشف لا محالة
على الجامع ، فيزيد الانكشاف ويسري إلى الفرد ؛ لأنّه إنّما توقف على الجامع لنقص
في المنكشف ، فباكتمال هذا النقص يكتمل العلم لا محالة ، فلا يبقى الانكشاف والعلم
على الجامع بحدّه ، وهو معنى انحلال العلم الإجمالي وزواله.
وهذا يتم في كل
مورد تكون النسبة بين المعلومين نسبة الأقل إلى الأكثر ، ولا يردّ هذا البيان ما
ذكر من قبل المحقق العراقي 1 من الوجوه المذكورة في الكتاب لعدم الانحلال كما هو مذكور
في الكتاب.
نعم ، يمكن أن
يناقش من قبل المحقق العراقي 1 في هذا الوجه بأنّه مبني على القول بتعلق العلم الإجمالي
بالجامع لا بالواقع ، وإلاّ فالواقع حيث يحتمل تعدّده فلا يزول العلم الإجمالي ؛
لعدم انطباق معلومه على المعلوم التفصيلي على
كل تقدير ، بل على
تقدير واحد.
إلاّ أنّه تقدم
انّ تعلّق العلم بالواقع ليس له معنى معقول إلاّ الإشارة الذهنية بالمفهوم
والعنوان إلى مطابقه ومحكيه الخارجي ، وهذا المعنى للعلم الإجمالي أيضاً يزول
بالعلم التفصيلي إذا كانت النسبة بين معلوميهما الأقل والأكثر لأنّه من قبيل ما
إذا أخبر المعصوم بوجود جامع الإنسان في المسجد ثمّ أضاف فأخبر بوجود الإنسان
الطويل مثلاً فإنّه تزداد الإشارة لا محالة وتكون الإشارة إلى الجامع مع الخصوصية
والشك في وجود الإنسان القصير ، فروح البيان والبرهان يجري على هذا المبنى أيضاً.
ثمّ انّ السيد
الشهيد 1 وإن كان الظاهر من صدر كلماته أنّه يحاول اثبات الانحلال الحقيقي بملاك
انطباق المعلوم بالاجمال إذا لم يكن له حد محتمل الاباء عن الانطباق على المعلوم
تفصيلاً ، أي بنفس هذا البرهان المذكور في الوجه الثاني في الكتاب ، فكأنه يقبل
هذه المنهجة ويجعل الملاك للانحلال الحقيقي هذا البرهان ـ برهان التطابق ـ إلاّ انّه
بملاحظة ما يذكره في ص ٢٤٨ في مقام دفع التقريب الأوّل يعرف بطلان أصل هذا الملاك
عنده ، وعدم صحة كبراه لاثبات الانحلال ، وإنّما الملاك للانحلال الحقيقي التقريب
الثاني والذي هو كبرى اخرى وهي زوال سبب العلم الإجمالي ومبناه المنطقي فيما إذا
كان منشأ حصول العلم اجتماع الاحتمالات على جامع مشترك ، فإذا زال أحدها زال منشأ
العلم الإجمالي لا محالة.
ومن الواضح انّ
هذه نكتة اخرى لا ربط لها بالبرهان المتقدم ـ برهان التطابق بين المعلومين ـ.
أمّا وجه بطلان
هذا الملاك والبرهان فهو ما ذكر في الكتاب في دفع التقريب الأوّل ، من أنّه يكفي
وجود حدّ وقيد ولو ذهني للمعلوم بالإجمال لا يوجد في المعلوم بالتفصيل ، وهو
اطلاقه حتى لما إذا كان العلم التفصيلي خطأً بخطأ منشأه.
وبعبارة
اخرى : لا إطلاق للمعلوم
بالتفصيل لما إذا كان منشأه وسببه خطأً بخلاف المعلوم بالاجمال ، وهذا المقدار من
الفرق بين المعلومين يكفي لعدم زوال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.
ويوجد بيان آخر
لعله أوضح مما ذكره الاستاذ حاصله : انّ الجامع والكلي في عالم المفهوم والتصور ،
وإن كان واحداً ونسبته إلى الفرد نسبة الأقل والأكثر ، إلاّ انّه في عالم التحقق
الخارجي والتصديق متكثر ومتعدد بعدد الأفراد ؛ لأنّ نسبة الكلي في الخارج إلى
أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء ، لا نسبة الأب الواحد ، وهذا يعني أنّ الجامع
المعلوم إجمالاً وجوده في الخارج يحتمل أن يكون معلومه الطبيعة الخارجية المباينة
مع الطبيعة والجامع المعلوم تفصيلاً ضمن الفرد ، فلا يكون منطبقاً عليه ، وهذا
يكفي لعدم زوال العلم الإجمالي ؛ لأنّه خصوصية في المعلوم الإجمالي لا يحرز وجوده
في المعلوم بالتفصيل.
وهذا البيان لا
يضرّ بالتقريب الثاني ، لأنّ ملاك الانحلال فيه ليس هو تطابق المعلومين ليقال بعدم
التطابق ولو من ناحية الحد والقيد الذهني للمعلوم بالذات ، بل ملاكه زوال منشأ
العلم الإجمالي في فرض حصول العلم التفصيلي وزوال مبناه المنطقي ، وهذا ينحصر في
الموارد التي يكون منشأ حصول العلم الإجمالي فيها اجتماع الاحتمالات ، سواء على
أساس الاستقراء أو حساب الاحتمال أو
على أساس البرهان
المثبت لانحصار الفروض في مجموعة احتمالات بينها جامع مشترك ـ كما في مثال دعوى
النبوة من شخصين متعاصرين ـ.
ومنه يظهر انّ
مثال إخبار المعصوم أوّلاً بوجود جامع الإنسان في المسجد ، وثانياً بوجود الإنسان
الطويل ، ليس من الانحلال إلاّ إذا علم بأنّ محكي إخباره الثاني نفس الأوّل ،
وإلاّ فلا وجه للانحلال ، فإنّه كما إذا أخبر بوجود زيد أو عمرو في المسجد ، ثمّ
أخبر معصوم آخر أو علمنا بأنّ زيداً في المسجد مع احتمال أن يكون ما أخبر به
المعصوم أوّلاً عمرواً ؛ لأنّ منشأ العلم الإجمالي وهو إخبار المعصوم الأوّل لا
يزول بالعلم التفصيلي كما هو واضح.
وحاصل ما ينبغي أن
يذكر في المقام الأوّل : انّ العلم التفصيلي وإن كان يوجب خروج الطرف المعلوم
تفصيلاً عن التردد بلحاظ أصل الحكم وجنسه ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي بالحصة الخاصة
من الحكم الحاصل بالعنوان الإجمالي ـ سواءً كان حقيقياً أو انتزاعياً مشيراً ـ يبقى
على حاله إذا لم يكن العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالاجمال ـ سواءً
كان هناك خصوصية واقعية في المعلوم بالاجمال من قبيل كون النجاسة حاصلة من السبب
الأوّل أو كان هناك خصوصية علمية من قبيل كونها معلومة بأخبار الصادق الأوّل ـ وإن
احتمل اتحادها واقعاً مع المعلوم بالتفصيل بل حتى إذا كان المعلوم بالاجمال الجامع
فقط بلا أيّة خصوصية مع ذلك أمكن تقريب البرهان على بقاء العلم الإجمالي بأحد
نحوين.
الأوّل : ما يناسب منهج تعلق العلم الإجمالي بالجامع وانّ الفرق
بينه وبين التفصيلي بلحاظ المتعلق ، وحاصله : انّ العلم الإجمالي متعلقه الجامع
الصادق
سواء صدق العلم
التفصيلي أم لا ، وهذا حد اطلاقي في متعلق العلم الإجمالي غير منطبق على متعلق
العلم التفصيلي الذي هو علم بالجامع أيضاً مع العلم بالخصوصية.
الثاني : ما يناسب منهج تعلق العلم بالواقع وانّ الفرق بين
العلمين من ناحية الإشارة الإجمالية والتعيينية ، وحاصله : انّ مجرد وحدة الجامع
المعلوم بالإجمال وانطباقه على الجامع المعلوم بالتفصيل ضمن العلم التفصيلي لا
يكفي لزوال العلم الإجمالي ما لم تتعين الإشارة الإجمالية ، حيث يبقى الجامع
صالحاً للاشارة الإجمالية المردّدة به إلى الفردين ، والذي معناه انّه حتى إذا
كانت الإشارة التفصيلية غير مطابقة للواقع الإشارة الإجمالية تامة وثابتة.
وهذا يعني عدم
انحلال العلم الإجمالي ، بمعنى بقاء طرفية الطرف غير المعلوم تفصيلاً للعلم
الإجمالي ، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه فليس شبهة بدوية بل مقرونة
بالعلم.
نعم ، لو كان العلم
التفصيلي سبباً لزوال منشأ العلم الإجمالي انحلّ لا محالة ، وهذا تارة : يكون من
خلال نظر العلم التفصيلي إلى العلم الإجمالي وتعيين معلومه بالتفصيل وكاملاً.
واخرى : يكون من خلال تعيين معلومه في الجملة بحيث يخرج الطرف المعلوم تفصيلاً عن
الطرفية والإشارة الترديدية ، كما في مثال مدعيي النبوة فإنّ مردّ هذا العلم
الإجمالي هو العلم بتحقق احدى حالات ثلاث ، كذبهما معاً أو كذب زيد دون عمرو أو
بالعكس ، فالتردد والإجمال بين هذه الحالات الثلاث كانت منشأ الترديد بين الفردين
والعلم الإجمالي ، فإذا زالت وسقطت احدى تلك الحالات وهي حالة كذب عمرو وصدق زيد
مثلاً ،
فيكون حاله حال ما
إذا علمنا من أوّل الأمر بكذب زيد ، والذي له حالتان بلحاظ عمرو من حيث انّه قد
يكون كاذباً وقد لا يكون ، وهو من الشك البدوي في كذبه ، ونفس الشيء يقال في العلم
الحاصل من حساب الاحتمال ، وهذا هو معنى زوال منشأ العلم الإجمالي.
وبهذا يظهر اندفاع
ما في هامش الكتاب ص ٢٤٩.
وهكذا يتضح انّ
الحق من الناحية المنطقية مع المحقق العراقي 1 من حيث عدم كفاية كون النسبة بين المعلومين الأقل والأكثر
للانحلال الحقيقي وزوال العلم الإجمالي ـ كما هو في أكثر الفروض ـ وأنّ الملاك
الصحيح للانحلال امّا كون المعلوم بالتفصيل ناظراً إلى المعلوم بالإجمال ـ وهذا ما
وافق عليه حتى المحقق العراقي 1 كما تقدم ـ أو كون العلم الإجمالي حاصلاً عن تجميع
الاحتمالات والحالات واشتراكها في جامع ، فإنّه ينحل العلم الإجمالي حينئذٍ بزوال
المبنى المنطقي لحصول العلم الإجمالي.
وقد يقال انتصاراً
لمدرسة الميرزا 1 بأنّ تعدد العلمين وعدم انحلال أو زوال العلم الإجمالي
بالعلم التفصيلي إنّما هو بلحاظ عالم المعلوم بالذات ، والحدود الذهنية التي يمكن
لحاظها في متعلّق العلمين في الذهن ، وامّا بلحاظ عالم المعلوم بالعرض
والخارج والذي هو
الحكم الشرعي وهو موضوع التنجيز ، لا يوجد معلومان بالعرض ، بل حكم واحد معلوم
تفصيلاً وحكم آخر مشكوك كذلك كلما احتمل وحدة معلومي العلمين حتى إذا كان بين
معلوميهما بالذات تباين أي لم يكن بينهما نسبة الأقل والأكثر ، وحيث أنّ ملاك
منجزية العلم بلحاظ كشفه وطريقيته إلى خارج الذهن ، أي الحكم المعلوم بالعرض وأنّ
الواقع
المنكشف هو الذي
يتنجز بعلم تفصيلي أو إجمالي ، فهنا لا يوجد إلاّحكم واقعي معين منكشف تفصيلاً ،
وحكم آخر مشكوك وهو متعين أيضاً ، ولا يوجد غيرهما خارجاً حكم آخر بحسب الفرض ،
فلا يوجد منجزان تفصيلي وإجمالي ، بل منجز واحد تفصيلي وشك بدوي.
والجواب : أنّ المعلوم بالعرض المشكوك هنا ليس بدوياً بل مقرون
بالعلم الإجمالي ؛ لكونه طرفاً للمعلوم بالذات لعلمنا الإجمالي وإن كان قيده وحدّه
أمراً ذهنياً أو انتزاعياً لكفاية العلم الإجمالي ولو بعنوان انتزاعي في المنجزية
ولا يشترط في تنجيز العلم أن يتعلّق بالعناوين الذاتية الأولية ، وهذا واضح.
ص ٢٥٣ قوله : ( وإذا اختل الشرط الثالث
... ).
هذا الكلام على
اطلاقه غير تام على مسلك الاقتضاء ، فإنّه قد تقدم في ردّ دليل الاخباري العقلي
على وجوب الاحتياط انّ الأمارة ـ أو أي حكم ظاهري الزامي ـ إذا كان موضوعه ثابتاً
من أوّل الأمر وإن كان وصوله متأخراً عن العلم الإجمالي فإنّه يوجب الانحلال
الحكمي بناءً على ما هو الصحيح من انّ الأحكام الظاهرية لها ثبوت واقعي كالأحكام
الواقعية فراجع ذلك البحث وتأمل.
ص ٢٥٧ قوله : ( أوّلاً ... ).
يمكن دفع هذا
الإشكال : بأنّه اشكال على لفظ التقريرات ، وإلاّ فيمكن للسيد الخوئي أن يتمسك
بأصالة الطهارة بعد الغسلة الاولى فيحكم بطهارة الثوب وينفى وجوب الغسلة الثانية
الشرطي.
نعم ، هذا قد لا
يصح بناءً على ما ذهب إليه السيد الشهيد 1 في بحث القاعدة
من اجمالها وتردد
الغاية فيها بين أن تكون بنحو الصفة أي ( قذِر ) أو بنحو الفعل أي ( قذُر ) إذ على
الثاني لا يشمل موارد العلم بحدوث النجاسة والشك في بقائها في نفسه.
ص ٢٥٩ قوله : ( امّا القسم الأوّل ... ).
ملخص الفرق النظري
التحليلي وما يترتب عليه من الثمرة العملية المذكورة في المتن وما ذكرناه في
الهامش أنّ الحكم الظاهري الالزامي حيث انّه متعين موضوعاً واقعاً في هذا القسم
فلا يمكن أن يجتمع مع الحكمين الظاهرين الترخيصين العمليين في الطرفين لا للزوم
الترخيص في المخالفة القطعية والتعارض بل للتضاد بين ذلك الحكم الظاهري الالزامي
وأحد الحكمين الظاهريين الترخيصيين لأنّهما معاً من سنخ واحد كجعل حكم واقعي
الزامي في أحد الطرفين مع حكمين واقعيين ترخيصيين في أحد الطرفين ، فهذا من التضاد
في مبادىء الحكم ، وحيث انّ الحكم الظاهري الامارتي مقدم بحسب دليله على الترخيصي
العملي فلا محالة لابد من أن يتقيد موضوع الحكم الظاهري الأصلي بعدم الحكم الظاهري
الامارتي فيكون من اشتباه الحجة باللاحجة ، ولا يصحّ التمسك بدليل الأصل الترخيصي
في شيء من الطرفين ما لم ننقّح موضوعه بالاستصحاب الموضوعي في المرتبة السابقة
فتترتب الثمرتان في البين.
وهذه الشبهة مما
لا مأخذ له كما بيّناه في الهامش ، والوجه فيه أنّ الحكم الظاهري الترخيصي على
مسلك المشهور لا وجه لتقييده بعدم واقع الحكم الظاهري الالزامي ـ كالأمارة ـ لعدم
التنافي بينهما في المبادىء ، وإنّما التنافي في المنتهى وبمقدار التنجيز ،
والمفروض انّ التنجيز في الوصول الإجمالي بمقدار
الجامع أي حرمة
المخالفة القطعية لا أكثر فكل من الطرفين بخصوصيته لا علم ولا منجزية فيه فيكون
مشمولاً لدليل الأصل الترخيصي.
نعم ، مجموع
الترخيصين خلاف منجزية الجامع شرعاً ، فعلى فرض تقدم دليل الحكم الالزامي على
الترخيصي بأي وجه سوف يأتي في القسم الثاني سوف يكون الخارج عن دليل الأصل
الترخيصي مجموع الأصلين لا كل واحد منهما في نفسه ، ولا واقع الطرف الذي قامت فيه
البيّنة واقعاً ، فإنّ الوصول والعلم الإجمالي له لا يوجب هذا التنافي كما في
الكتاب ، وإنّما التنافي بمقدار منجزية العلم الإجمالي به مع معذرية الأصلين
الترخيصيين معاً ، فلا وجه على مبنى المشهور لتقييد دليل الأصل بواقع عدم البينة
في مورد العلم الإجمالي ليكون من اشتباه الحجة باللاحجة ومن الشبهة المصداقية
للمخصّص ، بل موضوع الاصول المرخصة تام في كل من الطرفين في نفسه ولكنهما يتعارضان
ويتساقطان كما هو في سائر موارد العلم الإجمالي.
وأمّا على المسلك
المختار للسيد الشهيد 1 فلأنّ الحكم الظاهري كما يعقل جعله بلحاظ الحكم الواقعي
وفي مورده من دون لزوم التضاد في مبادىء الأحكام كذلك يمكن جعله بلحاظ الحكم
الظاهري المخالف له من دون لزوم التضاد في مبادىء الأحكام إذا كانا في مرحلتين
أعني إذا كان أحدهما غير واصل ومشتبهاً كالحكم الواقعي فمجرد كونهما معاً ظاهرين
لا يكفي لتوهم التضاد بينهما في المبادئ.
وهذا تعبيره
الساذج جريان الحكم الظاهري الترخيصي مثلاً عن الحكم الظاهري الالزامي إذا كان
مشكوكاً كبرىً أو صغرىً ، وتعبيره الأدق جريان الحكم الظاهري الترخيصي عن الواقع
المشكوك في مرتبة الشك فيه وفي
وجود حكم ظاهري
الزامي يهتم به ، فإنّ المولى يمكن أن يكون اهتمامه بالواقع المشكوك على تقدير
وصول الامارة الالزامية بالاحتياط وترجيح الملاكات الالزامية ، ولكن مع ذلك يكون
اهتمام المولى عند الشك في نفس ذلك الحكم الواقعي مع الشك في الامارة على الالزام
وعدم وصوله ـ وإن كان موجوداً واقعاً ـ بالترخيص وترجيح الملاكات الترخيصية ، وليس
في ذلك أي تناف وتضاد بلحاظ المبادىء ، لأنّ دخول الشك في الحكم الظاهري الالزامي
على الموقف قد غيّر من ملاكات اهتمامات المولى في التزاحم الحفظي ، وهذا معناه انّ
مرتبة جعل حكم ظاهري ترخيصي محفوظ في موارد الأحكام الظاهرية الالزامية إذا حصل
فيها الاشتباه والتزاحم الحفظي. وهذا بخلاف جعل حكم واقعي ترخيصي في مورد حكم
واقعي الزامي ، فإنّه لا يعقل فيه ذلك فلا يقاس أحدهما بالآخر.
وعلى هذا الأساس
لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل الأصل الترخيصي كالبراءة أو الطهارة في كل من
الطرفين بلحاظ الواقع المشكوك فيه وفي قيام الامارة على الالزام فيه ، فإنّ هذا
الشك مشمول لاطلاق دليله حيث انّ ظاهره رفع كل حكم شرعي يلزم من العلم به الكلفة
والمسؤولية وكذلك دليل أصالة الحل والطهارة فإنّها ظاهرة في انّه ما لم يعلم
بالحرمة والنجاسة الأعم من الواقعية والظاهرية ، فالمكلف مرخّص فيه وهذا يشمل
الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بالحكم الظاهري الالزامي فيكون هذا الإطلاق نظير
الحكم الظاهري الاستصحابي بنفي البيّنة في كل من الطرفين أي من باب تعارض الحجة
بالحجة لا اشتباه الحجة باللاحجة ، إذ لا بيّنة على نفي هذا الشك في شيء من
الطرفين ، فتدبر جيداً.
ولا يلزم من ذلك
تقييد الحكم الظاهري الالزامي بالعلم به صغرى وكبرىً ولا تقييد إطلاق دليله بل هو
محفوظ هنا ، ولكن لا ينافي جعل حكمين ظاهريين ترخيصيين في الطرفين لأنّ نسبته
اليهما نسبة الحكم الواقعي الالزامي إليهما.
نعم ، من جهة
فعليته ومنجزيته بالعلم الإجمالي وقبح الترخيص في مخالفته يتعارض الأصلان كما هو
في سائر موارد العلم الإجمالي أيضاً ، وهذا الجواب يتم حتى على مبنى المشهور كما
هو واضح.
ص ٢٦٢ قوله : ( الجهة الاولى ... ).
حاصل
البحث في هذه الجهة : انّ أدلّة حجّية البينة كحكم ظاهري إذا تعاملنا معها تعامل المشهور من انها
أحكام شرعية تقع موضوعاً لحكم العقل بالتنجيز والتعذير كالحكم الواقعي غاية الأمر
تارة يكون المجعول فيها أمراً وضعياً ، كالمنجزية أو العلمية ، وتارة اخرى يكون
تكليفياً كالحكم المماثل للحكم الواقعي.
فعندئذٍ يقال :
انّه في مورد العلم الإجمالي الوجداني العلم وإن كان بالجامع ، إلاّ انّ المعلوم
هو الواقع الذي يكون فيه خصوصية ، فمن المعقول أن يكون مثل هذا العلم منجزاً لتلك
الخصوصية ـ ولو في طول تعارض الاصول ـ فيثبت وجوب الموافقة وامّا في المقام فلابد
على هذا المسلك من ملاحظة ما هو المجعول الشرعي وهو بمقدار مفاد البينة الاجمالية
لا أكثر والمفروض انها تكشف عن الجامع بلا كشف عن شيء من الخصوصيتين فيكون الحكم
الظاهري المجعول بمقدار الجامع لا محالة فلا يمكن أن ينجز الخصوصية.
نعم ، بناءً على
مسلك كفاية العلم بالجامع لتنجيز الواقع يكفي ذلك في العلم التعبدي أيضاً ؛ وأمّا
بناءً على انّه لابد في تنجيز الواقع من تعلّق العلم به أو تعلّق المنجزية الشرعية
أو جعل مماثل به فلا يوجد في المقام ذلك لأنّ مفاد البينة ليس إلاّ الجامع فلو
اريد جعل التنجيز بمقداره لم تجب الموافقة القطعية للخصوصية إذ لا بينة عليها ،
وإن اريد جعله على الواقع في أحد الطرفين كان ترجيحاً بلا مرجح ولا بينة عليها ،
وإن اريد جعله في كلا الطرفين كان أيضاً أكثر من مفاد الامارة والبينة كما انّ
لازمه عدم جريان الأصل الواحد المؤمن في أحد الطرفين أيضاً فيكون العلم الإجمالي
بالحجة أشد من العلم الإجمالي بالواقع ، وهذا الشق من الاشكال يرد حتى على مسلكنا
بلحاظ الاهتمام بالواقع على كل تقدير.
والجواب : ـ مضافاً إلى ما في الكتاب من حجّية المدلول الالتزامي
للبينة وتشكيل علم إجمالي بحكم الزامي واقعي أو ظاهري في أحد الطرفين على الأقل
بخصوصيته وهو منجّز ـ انّ منجزية الجامع في المقام بمعنى منجزية أحد الحكمين
المتخصصين في المرتبة السابقة لا الحكم المتعلق بالجامع بين الفعلين أو التركين ؛
لأنّ البينة الإجمالية تشهد بالجامع المتخصّص بأحد الحكمين لا الحكم على الجامع.
ومثل هذه المنجزية
أو العلمية أو ايجاب الاحتياط المجعولة شرعاً حقيقته رفع اليد عن الترخيص الظاهري
في الطرفين معاً ، أي الاهتمام بالواقع بمقدار عدم المخالفة القطعية ، فكأنّه قال
: لا تخالف كلا الحكمين المتخصصين المحتملين ، وهذا غير الأمر بالاجتناب عن أحدهما
بنحو التخيير ، وأمّا وجوب الموافقة فلا تقتضيه الحجة الإجمالية ، وإنّما تثبت من
جهة تعارض الاصول في
الطرفين بعد أن
ثبت الاهتمام بمقدار عدم ارتكابهما معاً ، أي عدم إطلاق دليل الأصل لهما معاً ؛
لأنّ جريانه في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.
نعم ، بناءً على
انّ المجعول هو الحكم المماثل للالزام الواقعي لا يعقل جعل حكم كذلك في المقام ،
لعدم وجود خصوصية يمكن جعل حكم مماثل عليه.
نعم ، يمكن جعل
ايجاب الاحتياط بلحاظ الحكمين أي عدم مخالفة الحكمين ، إلاّ انّه ليس حكماً
مماثلاً بل حكم من سنخ آخر ، اللهم إلاّ أن يكتفى بهذا المقدار من المماثلة ؛
وهكذا لا يجري الأصل المؤمّن في كلا الطرفين ؛ لأنّه خلف المجعول في حجّية البينة
ولا في أحدهما المعيّن لأنّه ترجيح بلا مرجح ، ولا المخيّر لأنّه خلاف مقام
الاثبات ولا يساعده الدليل ولا الفرد المردّد لأنّه غير موجود وهو معنى التساقط
وتنجيز العلم الإجمالي بحيث إذا كان مجرى الأصل أحدهما المعيّن فقط جرى ذلك من دون
منافاة مع الحكم الظاهري بحجية الامارة الإجمالية.
ص ٢٦٥ قوله : ( وأمّا الجهة الثانية ...
).
الاشكال بلحاظ هذه
الجهة قد طرحه المحقق العراقي 1 من جهة انّ الأصلين الترخيصيين في الطرفين لا يرتفع موضوع
شيء منهما بالبيّنة الإجمالية لتكون البينة حاكمةً عليهما ؛ لأنّها دلّت على
الجامع لا أكثر ، فلا بيّنة على شيء من الطرفين بخصوصيته ، فيقع التعارض بين دليل
حجّية البينة على الجامع ودليل حجّية الأصلين التعينيين في الطرفين ؛ لعدم ارتفاع
موضوعهما بالبينة على الجامع فيسقط الجميع ويرجع إلى البراءة العقلية بل والشرعية
الطولية.
والجواب : ما في
الكتاب من الأجوبة الثلاثة ، والأوّل منها واضح ، وقد
ناقش الشهيد الصدر
1 في الثاني منها مناقشة دقّية تامة لولا دعوى عرفية بأنّ العرف يرى الحكومة
هنا أيضاً بلحاظ مجموع الأصلين الترخيصيين في الطرفين معاً فيقع التعارض بين
الأصلين في كل طرف معيّناً كما في سائر موارد العلم الإجمالي. والجواب الثالث منها
مبني على تحقق الدلالة الالتزامية على الالزام في كلّ طرف مشروطاً بعدمه في الطرف
الآخر فيتشكل علم إجمالي بوجود حكم الزامي معيّن إمّا واقعي أو ظاهري أمارتي في
أحد الطرفين ، وهو رافع لموضوع الأصل الترخيصي بالتخصيص أو بالحكومة ـ على مباني
القوم ـ فيكون هذا جواباً غير الأوّل.
وأمّا ما هو ظاهر
الكتاب من انّ نسبة هذا الحكم الإجمالي إلى الأصلين في الطرفين نسبة المعلوم
بالإجمال الواقعي فهذا غير صحيح ؛ لأنّ الحكم الظاهري المذكور لولا تقدّمه على
الأصل في الطرفين كان في عرضهما ومعارضاً معهما ، فلا يتشكّل علم إجمالي بالزام
واقعي أو ظاهري ، بل شك في الالزام الواقعي ، والذي يكون مجرى البراءة العقلية ،
بل والشرعية الطولية.
ولعلّ المقصود من
العبارة أنّ الحكم الالزامي المذكور حيث انّه لا يرتفع بالاصول الترخيصية في
الطرفين ؛ لأنّه إمّا واقعي لا يرتفع بالظاهري ، أو ظاهري حاكم على الحكم الظاهري
الثابت بالأصل العملي ، فتكون نسبته إلى الأصلين الترخيصيين في الطرفين كنسبة
الحكم الواقعي الالزامي من حيث رجوع التعارض إلى الأصلين في الطرفين في النتيجة
وتساقطهما ، وتنجيز العلم الإجمالي المذكور ، وهذا صحيح.
ثمّ انّ هنا فرعاً
ينبغي طرحه وهو ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الطرفين
عند الصباح مثلاً
وعند الظهر احتملنا تطهيره فاستصحبنا نجاسته إجمالاً ، فهنا هل يحكم بتقديم هذا
الاستصحاب ـ وهو حجّة إجمالية على الالزام ـ على البراءة أو الطهارة في الطرفين
معاً فيقع التعارض بينهما في كل من الطرفين تعييناً ثمّ التساقط فيكون من العلم
الإجمالي التعبدي أو العلم بالحكم الظاهري الالزامي؟ وهل يحكم بذلك أيضاً بلحاظ
استصحاب الطهارة في كل من الطرفين لو كان لهما حالة سابقة كذلك مع أنّهما في عرض
استصحاب النجاسة المعلومة بالإجمال؟ أو يحكم بالتساقط بين الاستصحابات الثلاثة
والرجوع إلى أصالة الطهارة والبراءة في الطرفين؟
وينبغي البحث في ثلاث جهات :
الاولى
: انّ هذا
الاستصحاب الإجمالي هل هو علم إجمالي تعبدي على الالزام الواقعي ، أو علم وجداني
بالتعبد والحكم الظاهري الالزامي الإجمالي؟
والصحيح في هذه
الجهة التفصيل بين مبنيين في ما هو المجعول في دليل الاستصحاب ، فإنّه إذا قيل
بأنّ الاستصحاب تعبد ببقاء اليقين السابق ـ كما هو ظاهر صحيحة زرارة من أدلّة
الاستصحاب على ما سيأتي في محلّه ـ كان مقتضى إطلاق دليله للمقام هو التعبد ببقاء
نفس العلم واليقين الإجمالي السابق ، فيكون من العلم الإجمالي التعبدي بالواقع ،
وهو كالعلم الإجمالي الوجداني في الحجّية ، وإذا قيل بأنّ الاستصحاب تعبد ببقاء
المتيقن السابق ـ كما هو ظاهر بعض الأدلّة الاخرى على الاستصحاب ـ كان مقتضى إطلاق
دليله للمقام هو التعبد ببقاء الحالة السابقة ، فيكون من العلم الوجداني بالحكم
الظاهري الالزامي الإجمالي ، وهو كالعلم الإجمالي الوجداني بالحكم الالزامي
الواقعي في الحجّية.
إلاّ أنّه على هذا
التقدير أيضاً تارة يكون اليقين السابق موضوعاً للتعبد الاستصحابي ، واخرى تكون
الحالة السابقة كافية في جريان الاستصحاب ـ كما هو ظاهر بعض روايات الاستصحاب على
ما سيأتي في محلّه ـ.
فعلى الأوّل يكون
الجاري هو الاستصحاب في العنوان الإجمالي المتيقن سابقاً ، وعلى الثاني يجري
استصحاب كل من الحالتين السابقتين في الطرفين تفصيلاً بنحوٍ مشروط بحدوثهما ، وحيث
يعلم بتحقق واحد منهما يعلم بفعلية أحد الشرطين والحكمين الالزاميين الظاهريين في
الطرفين ، فهذه صياغات مختلفة لتخريج المجعول الاستصحابي الإجمالي في المقام ، وقد
يترتب بعض الآثار عليها في بحث استصحاب الفرد المردّد وغيره على ما سيأتي تفصيله
في محلّه.
الثانية
: لا ينبغي الاشكال
في جريان هذا الاستصحاب الإجمالي وتقدمه على الاصول المرخّصة المحكومة للاستصحاب
في الطرفين ، كأصالة الحلّ والطهارة ، سواء كان الثابت به العلم الإجمالي التعبدي
بالالزام الواقعي ، أو العلم الوجداني بالحكم الظاهري الإجمالي ؛ لأنّ المفروض
تقدّم إطلاق دليله على إطلاق أدلّة تلك الاصول ، فلا يمكن اجرائها في الطرفين معاً
، وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيكون العلم الإجمالي التعبدي منجزاً.
الثالثة
: في نسبة هذا
الاستصحاب الإجمالي إلى الاستصحاب الترخيصي في الطرفين ـ كما إذا كانت الحالة
الأسبق لهما هو الطهارة والترخيص ، ثمّ علمنا إجمالاً بنجاسة أحدهما عند الصباح
والشك في تطهيرها عند الظهر ـ وهذا هو البحث المهم هنا.
ومقتضى سكوت
الأصحاب عن هذا الفرع في بحث قيام الحجة الإجمالية على الالزام الحاقه بقيام سائر
الحجج الاجمالية على الالزام من حيث ثبوت المنجزية لها وتساقط الاصول الترخيصية في
أطرافها ـ كما في البينة ـ لأنّ العلم الإجمالي التعبدي كالوجداني في المنجزية
وقبح الترخيص في معصيته أو لزوم التناقض ، فتتعارض الاصول المرخّصة في أطرافه على
حدّ سواء.
إلاّ أنّ الاشكال
على هذا البيان ظاهر ، فإنّه في العلم الإجمالي بالالزام الواقعي حيث لا يمكن رفع
الحكم الواقعي المعلوم بالاصول والأحكام الظاهرية الترخيصية ، فسوف يرجع التعارض
داخل أدلّة الاصول العملية واطلاقاتها ، فتسقط بالمعارضة ويصبح العلم الإجمالي
منجزاً عقلاً.
أمّا في المقام
فحيث انّ الالزام الإجمالي حكم ظاهري أيضاً ، وثابت باطلاق نفس أدلّة الاصول
العملية ، فإذا كان ذلك في دليل واحد أو دليلين متكافئين سرت المعارضة إلى دليل
الحكم الإجمالي ، وسقط الجميع بالمعارضة ، ولا وجه حينئذٍ لترجيح الحجة الإجمالية
على الحجتين التفصيليتين في الطرفين.
فالحاصل : ليست
نسبة الاصول العملية الجارية في الطرفين إلى الحجة الإجمالية نفس نسبة الاصول
العملية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الواقعي إلى الحكم الواقعي الالزامي لكي
تكون المعارضة مستقرة بين الأصلين الترخيصيين في الطرفين فيتساقطان ، ويصبح العلم
الإجمالي التعبدي منجزاً ، بل تكون المعارضة بحسب الحقيقة بين دليل الحكم الإجمالي
الظاهري ودليل الأصلين الترخيصيين في الطرفين ، فما لم يكن الأوّل مقدّماً على
الثاني وحاكماً عليه كما في البينة الإجمالية والاصول الترخيصية العملية ، أو
الاستصحاب
الإجمالي والاصول
غير المحرزة في الطرفين ، فلا وجه للحكم بالتنجيز كما هو واضح.
هذا ، ويمكن أن
يذكر في المقام عدّة وجوه لتقريب تقديم استصحاب المعلوم بالاجمال الالزامي على
الاستصحابين الترخيصيّين في الطرفين :
١ ـ أن نبني على
أنّ المجعول في الاستصحاب هو التعبد ببقاء اليقين السابق ، ونبني على ما ذهب إليه
مدرسة الميرزا 1 من قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي ؛ لأنّ المجعول فيه
التعبد ببقاء العلم واليقين بلحاظ كلا أثريه الطريقي والموضوعي ، فيقال : بما أنّ
المأخوذ قيداً في أدلّة الاصول الترخيصية أن لا يلزم من جريانها الترخيص في مخالفة
قطعية ، أي الترخيص في مخالفة علم إجماليى منجز ، فبجريان الاستصحاب الإجمالي يحصل
علم تعبدي إجمالي ، فيكون جريان الاستصحابين الترخيصيين في الطرفين ترخيصاً في
مخالفة علم إجمالي تعبداً ، فيرتفع موضوع جريانهما معاً ، أي يرتفع موضوع مجموع
الاطلاقين ـ بناءً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ـ دون العكس ، وهذا
معناه حكومة الاستصحاب الالزامي الإجمالي على مجموع الاستصحابين الترخيصيين ، ورفع
موضوع اطلاقيهما معاً ، وأمّا أحدهما دون الآخر فهو ترجيح بلا مرجّح ، وهو معنى
تساقط الاستصحابين الترخيصيين دون الاستصحاب الالزامي الإجمالي.
وفيه
: مضافاً إلى بطلان
مبنى قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ـ كما حقّق في محلّه ـ انّ القيد المأخوذ
في أدلّة الاصول الترخيصية ليس عنوان مخالفة علم إجمالي ، بل عدم التناقض أو
الترخيص في المعصية ، ونحو ذلك من
المحاذير العقلية
المتقدمة في وجه عدم جريان الاصول الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي ، والتي
هي من لوازم العلم الإجمالي الوجداني بالالزام الواقعي ، وهي لا يقوم مقامها
الاستصحاب حتى عند القائلين بقيام الأمارات والاستصحاب أو مطلق الاصول المحرزة
مقام القطع الموضوعي ، فإنّهم إنّما يقولون بذلك فيما إذا كان أثر العلم الموضوعي
مترتباً على عنوان العلم لا لوازمه ، وأن يكون الترتب شرعياً لا لمحذور وقيد عقلي
، وكلا الأمرين غير متوفر في المقام.
٢ ـ انّ
الاستصحابين الترخيصيين في الطرفين ساقطان بالمعارضة سابقاً ، أي عند الصباح ـ مثلاً
ـ الذي كان يعلم فيه وجداناً بالحكم الالزامي ، وبعد سقوط الأصل وموته لا يعود إلى
الحياة من جديد ، فلا معنى لاجرائهما عند الزوال ـ مثلاً ـ فإنّهما نفس
الاستصحابين الذين تعارضا وتساقطا سابقاً ، وصار العلم الإجمالي منجزاً في وقته ،
وليسا استصحابين آخرين ، فلا يكون الجاري إلاّ استصحاب الالزام الإجمالي.
وفيه
: أوّلاً ـ تقدّم مراراً بأنّ
التعارض بين الاصول الترخيصية في كل زمان فرع ثبوت المحذور في ذلك الزمان ، أمّا
إذا ارتفع المحذور في الزمان اللاحق كان إطلاق دليل الأصل شاملاً له لا محالة ،
والاستصحابان الترخيصيان في الطرفين حين الزوال لا يلزم من جريانهما الترخيص في
المعصية ؛ لعدم وجود علم إجمالي بنجاسة أحدهما الآن ، ووجوده بلحاظ الزمان السابق
أثره اسقاط الاستصحابين بلحاظ ذلك الظرف والزمان الذي كان فيه العلم محفوظاً ، لا
زمان الشك وزوال ذاك العلم الإجمالي.
وثانياً
ـ بالامكان فرض تشكل
العلم الإجمالي السابق عند الزوال ، أي في زمان الشك ، فالمكلّف منذ حصل له العلم
الإجمالي بالالزام السابق كان شاكاً في بقائه ، وقبل ذلك لم يكن له علم إجمالي
ليوجب تعارض الاستصحابين الترخيصيين سابقاً ، وعدم إمكان عودهما إلى الحياة كما هو
واضح.
٣ ـ أن يدّعى عدم
شمول دليل الاستصحاب في المقام للاستصحابين الترخيصيين ، وإنّما يشمل الاستصحاب
الالزامي الإجمالي فقط ، وهذا بناءً على انّ موضوع الاستصحاب واقع الحدوث والحالة
السابقة لا اليقين بها واضح ؛ لأنّه لا توجد لنا ثلاث حالات سابقة قبل الشك ، بل
حالتان حادثتان : نجاسة أحد الإنائين مثلاً ، وطهارة الآخر ، فيجري استصحابان
إجماليان : أحدهما الزامي ، والآخر ترخيصي ـ لو فرض الشك في بقائه أيضاً ـ وحيث
انّ العلم بالترخيص الإجمالي لا أثر له في رفع التنجيز كان الاستصحاب الالزامي
منجزاً لا محالة.
وإن
شئت قلت : يجري استصحاب
الحكم الالزامي في كل من الطرفين بنحو مشروط ، وحيث يعلم بفعلية أحد الشرطين كان
من العلم الإجمالي الوجداني بحكم ظاهري الزامي وهو منجز.
وأمّا بناءً على
انّ موضوع الاستصحاب اليقين بالحدوث ، فبحسب الدقة وإن كان للمكلّف يقين سابق
إجمالي بالالزام ويقينان تفصيليّان قبل اليقين الإجمالي بالترخيص ، إلاّ أنّه
عرفاً حيث يكون اليقين الإجمالي ناقضاً لأحد اليقينين التفصيليين فلا يفهم العرف
من إطلاق « لا تنقض اليقين بالشك » إرادة عدم نقض اليقينات الثلاثة ، كيف وأحد
اليقينين بالترخيص منتقض باليقين الإجمالي
جزماً ، فإنّ
اليقين ينظر إليه في دليل الاستصحاب بما هو طريق ومقتضٍ للجري العملي.
فالحاصل
: لا يفهم العرف
اطلاقات ثلاثة لدليل الاستصحاب هنا بلحاظ الحالة السابقة ، حتى إذا كان اليقين
بالحدوث موضوعاً لدليل الاستصحاب ، لا نفس الحدوث ، وهذه دعوى عرفية وليست دقّية.
نعم ، بلحاظ نفس
زمان العلم الإجمالي بانتقاض احدى الحالتين السابقتين المتيقّنتين يوجد يقينان
سابقان وعلم إجمالي بالانتقاض ؛ ولهذا يتمّ اطلاقان لدليل الاستصحاب فيه إذا لم
يكن العلم الإجمالي الزامياً ـ كما في استصحابي النجاسة في الطرفين ـ لأنّ العلم
الإجمالي متعلق بالجامع لا الفرد ، فيكون منشأً للشك في انتقاض كل من اليقينين السابقين
في الطرفين.
إلاّ أنّ هذا يصحّ
عرفاً في طرف الشك في البقاء الذي هو الركن الثاني في الاستصحاب ، أمّا بلحاظ
الركن الأوّل وهو اليقين بالحدوث عندما يشك في بقاء المعلوم بالإجمال في زمن لاحق
بعد زمان انتقاض الحدوث في أحد الطرفين إجمالاً لا يرى عرفاً ثلاث يقينات فعلية
مشكوكة الانتقاض ، بل يقينان إجماليان أو يقين إجمالي وأحد اليقينين التفصيليين
بدلاً ، فلا يجري استصحابات ثلاثة ، بل استصحابان إجماليان أو استصحاب إجمالي وأحد
الاستصحابين التفصيليين بدلاً لا جمعاً ؛ ولهذا لو خوطب مثل هذا الإنسان وقيل له :
لا تنقض يقينك وحالتك السابقة التي كانت لك عند الصباح إذا حصل لك الشك في زوال
النجاسة المعلومة بالاجمال لم يشك أحد في أنّ المتفاهم منه عرفاً الحكم ظاهراً
بترتيب نفس الجري العملي الذي كان لازماً عليه عند الصباح وهو الاجتناب عن
الطرفين وإبقاء
العلم الإجمالي على تنجيزه لا إبقاء الحالات الثلاثة والتهافت والاجمال فيما بينها
، والله الهادي للصواب.
ص ٢٦٩ قوله : ( وهكذا يتضح انّ الصحيح
منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات ... ).
في الدورة الاولى
تعرّض السيد الشهيد 1 إلى وجه آخر لتقريب عدم المنجزية وكأنّه النقض على كفاية
العلم بفعلية الحكم في عمود الزمان في التنجيز بمورد العلم الإجمالي بفعلية تكليف
مردّد بين الزمان الماضي والحاضر ، كما إذا علم بوجوب الصدقة عليه إمّا في اليوم
السابق أو اليوم فإنّه لا اشكال في عدم المنجزية رغم العلم بالفعلية في عمود
الزمان ، ورغم كون كل منهما مشكوكاً وموضوعاً لدليل الأصل المؤمن بنحو مقدّر
الوجود ويلزم الترخيص في المخالفة القطعية في عمود الزمان.
وقد قرّبه في
تقريرات السيد الحائري بأنّ العلم الإجمالي التدريجي لا يمكنه أن ينجز معلومه
الاستقبالي لا بوجود العلم الآن لأنّ العلم لا ينجز المعلوم إذا كان حكماً متأخراً
عنه بوجوده الحدوثي بل بوجوده البقائي إلى ذلك الحين ، ولهذا لو تبدل إلى الشك في
الزمن المتأخر الذي هو زمان الحكم لم يكن منجزاً ، كما لا يمكن للعلم الإجمالي
التدريجي أن ينجز الحكم المتأخر بوجوده البقائي إذا بقي إلى ذلك الحين لأنّه
عندئذٍ حاله حال العلم الإجمالي المتعلّق بالمردّد بين الماضي والحاضر وهو غير
منجز ، فإذا لم يكن العلم الإجمالي التدريجي قابلاً لتنجيز الحكم الاستقبالي فهو
لا ينجز الحكم الحالي أيضاً لأنّ العلم بالجامع بين ما لا يكون منجزاً وما يكون
منجزاً ليس منجزاً أو قل لأنّ الحكم الحالي طرف واحد مشكوك وليس معلوماً فيجري عنه
الأصل المؤمّن بلا مانع.
والجواب على هذا
الوجه بتقريبه الأوّل أنّ الفعلية في الزمن الماضي لا أثر له في المنجزية ، أو
جريان التأمين العقلي أو الشرعي أصلاً ، لا بلحاظ الزمن الماضي ؛ لعدم العلم فيه ،
ولا بلحاظ الآن لخروج ذاك التكليف عن محل الابتلاء الآن ، وهذا بخلاف عمود الزمان
المستقبلي والفعلية فيه ، فإنّه وإن لم يكن له أثر عملي الآن إلاّ انّه حيث انّه
سيتحقق فيعقل المخالفة والمعصية فيه ، ويكون له الأثر في وقته ، فمن خلال هذا
العلم الإجمالي يرى انّه سوف يكون مخالفة عملية قطعية في عمود الزمان لو خالف
الطرف الحالي الآن ، والطرف الاستقبالي في ذاك الزمان وهو قبيح ، سواء وقع دفعة أو
تدريجاً ، فإنّ القبيح لا يرتفع قبحه بكونه دفعياً أو تدريجياً ، فلا يمكن الترخيص
فيه وشمول الإطلاق لهما معاً. فالحاصل المعصية غير معقولة بلحاظ الماضي بخلاف
المستقبل.
وإن
شئت قلت : انّ دليل الأصل
الذي يكون قضية حقيقية شاملة لتمام أفرادها الطولية في عرض واحد لكونها جميعاً
مقدرة ومفروضة الوجود فبلحاظ عمود الزمان الاستقبالي يقع تعارض بين اطلاقيه
للفردين والطرفين من الشبهة في العلم الإجمالي الاستقبالي فيتساقطان ويتنجز
التكليف في كلا الطرفين ، وامّا في عمود الزمان الماضي فليس كذلك لعدم شمول إطلاق
في دليل الأصل للشبهة في الطرف الماضي ، وإنّما يشمل طرفاً واحداً فقط وهو الحالي
ولا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية كما هو واضح.
والجواب على هذا
الوجه بتقريبه المذكور في تقرير السيد الحائري : أنّ العلم الإجمالي بوجوده
الحدوثي ينجز معلومه من ناحية العلم وعدم الجهل وإن كان متأخراً ، ولهذا يرى هذا
العالم بعلمه الحدوثي أنّ المولى لا يمكنه أن يرخّص في مخالفته في ذلك الحين ما لم
يتبدّل علمه لأنّه ترخيص في المعصية وقبيح ، امّا
كون ذاك الحكم
المتأخر لا أثر عملي له الآن فهذا لا ربط له بالتنجيز من ناحية العلم وعدم الجهل
كما في الكتاب ، كما انّ ارتفاع التنجيز بارتفاع العلم في الزمن المتأخر لا ربط له
بمنجزية العلم بتكليف حالي أو استقبالي ما دام عالماً. فما في تقريرات الحائري من
قبول هذه المقدمة أعني عدم منجزية العلم بوجوده الحدوثي غير صحيح.
ثمّ إنّ ما في
هامش ص ٢٧٠ صحيح ، وما جاء في تقرير السيد الحائري فيه تشويش وتكرار للموضوع حيث
فرض تارة العلم أو الشك في تبدل علمه الإجمالي في المستقبل واخرى العلم أو الشك في
حصول الشك الساري في العلم وكلاهما من باب واحد فلا وجه للتكرار.
والجواب ما في
الهامش من انّ الميزان بالتعارض واجمال دليل الأصل المؤمّن وعدم امكان التمسك
باطلاقه وهذا حاصل ما دام المكلف عالماً اجمالاً وإنّما يرتفع التعارض أو المانع
العقلي عن التمسك به ـ بناءً على مسلك العلية ـ إذا ارتفع هذا العلم ومن حين
ارتفاعه فالعلم بالتبدّل في المستقبل فضلاً عن احتماله لا يجدي في رفع منجزية
العلم ، كيف وهذا لو تمّ لأمكن تصويره في العلم الإجمالي الدفعي أيضاً بلحاظ زمن
الارتكاب كما إذا علم بأنّه حين ارتكاب الطرف الآخر سوف يتبدّل علمه الإجمالي.
وتوضيح
ذلك وتفصيله : انّ الميزان في
المحذور ـ وهو التناقض أو قبح الترخيص في المعصية ـ ليس بلحاظ زمان فعلية
الترخيصين خارجاً ولا بلحاظ زمان ارادة الارتكاب والاقدام ليقال بأنّه مع العلم أو
احتمال تبدل الشك في الطرف المتأخر أو تبدل العلم أو سريان الشك إليه يرتفع
المحذور فلا مانع من
التمسك بالأصل
الترخيصي في الطرف الحالي. بل الميزان تحقق المحذور المذكور وثبوته بلحاظ زمان
التمسك بالأصل الترخيصي وإطلاق دليله ، فإنّه كلما كان في زمان التمسك باطلاق دليل
الأصل الترخيصي في الشبهة شبهة اخرى وتكليف آخر مشكوك لم يمتثل بعد وكان يعلم
بثبوت التكليف في أحدهما وقع التعارض بين الاطلاقين للشبهتين في دليل الأصل
الترخيصي لأنّهما ترخيصان ظاهريان في دليل واحد أو دليلين مناقضان مع التكليف
المعلوم ثبوته طالما العلم الإجمالي موجوداً وكونه سوف يتبدّل فيما بعد وحين فعلية
التكليف في الطرف الآخر لا أثر له في رفع هذا المحذور ما دام العلم الإجمالي
فعلياً نظير ما إذا علم في العلم الإجمالي الدفعي بأنّه سوف يتبدّل علمه بعد ساعة
أو حين ارادة الاقدام على الارتكاب فإنّ هذا لا يرفع التعارض ولا يجوّز الارتكاب
ما دام العلم الإجمالي فعلياً.
ولعلّه لهذا ذكر
السيد الشهيد كما في الكتاب انّ إطلاق دليل الأصل يشمل الطرف الاستقبالي من الآن
ولكنه يثبت فيه ترخيصاً استقبالياً بالنحو المناسب معه والمحذور ليس مخصوصاً
بالترخيصين الدفعيين.
ص ٢٧٤ قوله (
وثانياً ... ).
يمكن
أن يضاف وثالثاً : أنّ الجامع المذكور إذا لم يكن منجزاً فلا يصدق النقض العملي بالنسبة إليه
فلا يشمله المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب لكي يثبت لازمه الذي هو لازم لنفس
الاستصحاب ، وهذا نظير ما نقوله في عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا لم
يكن لمؤداه أثر عملي طريقي ، وهذا الجواب كان ذكره أولى مما في الكتاب بعنوان
ثانياً ، فتدبر.
ص ٢٧٦ قوله : ( ثمّ انّه بناءً على
التوسط في التكليف ... ).
تصوير التوسط في التكليف
يكون بأحد وجوه :
١ ـ ما هو ظاهر
الميرزا 1 من انّ التكليف يرتفع باختيار المكلف لأحد الانائين إن كان هو النجس بقاءً
فتكون الحرمة فعلية فيه قبل الاقتحام ، إذ لا موجب لارتفاعها لأنّه إنّما يصدق
عليه انّه اضطر إليه إذا اختاره فعند ذلك يتصف الموضوع النجس بأنّه مما اضطر إليه
فلا موجب لرفع الحرمة قبل ذلك وتقييد إطلاق الدليل بأكثر من هذا المقدار ؛ وعليه
فيتشكل له علم اجمالي بحرمة الفرد الذي سوف يختاره الآن أو حرمة الفرد الباقي بعد
الاختيار وهذا من العلم الإجمالي الدائر بين القصير والطويل ، وهذا يحصل دائماً في
المقام حتى إذا كان الاضطرار قبل العلم كما لا يخفى. نعم لو حصل العلم بعد ارتكاب
أحد الطرفين فلا اشكال في جواز ارتكاب الباقي على كل المسالك.
وهذا الوجه يناسب
مع أن يكون منشأ التوسط في التكليف النكتة العرفية التي ذكرها الميرزا لا النكتة
العقلية التي ذكرها العراقي وهي استحالة بقاء التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال مع
عدم وجوب موافقته القطعية بناءً على مسلك العلية لأنّه على هذا نفس جواز ارتكاب
أحدهما والترخيص فيه رافع للحرمة الواقعية لا محالة سواء اقتحم أم لا.
اللهم إلاّ أن
يكون المقصود من الجواز الجواز العقلي بمعنى ارتفاع الحرمة بالارتكاب فلا يكون فيه
محذور المخالفة.
وإن
شئت قلت : انّ الحرمة
المشروطة بالنحو المذكور لا تنافي الجواز والترخيص في المخالفة.
وهذا الوجه تام
لولا ما يأتي من اشكال السيد الشهيد فيه إذا لم يكن ما يختاره فيما بعد معيّناً.
٢ ـ نفس الوجه مع
فرض انّ الاقتحام للحرام بالاضطرار رافع للتكليف من أوّل الأمر بنحو الشرط
المتأخر.
وفيه : مضافاً إلى انّه لا موجب له انّه يستلزم عدم العلم
بالحرمة الفعلية قبل الارتكاب إلاّ إذا كان عالماً من أوّل الأمر بأنّه سيقتحم
الطرفين فلو كان بانياً على أن يقتحم أحدهما فلا حرمة معلومة بالفعل وبعد الاقتحام
له يكون الطرف الباقي مشكوك الحرمة.
٣ ـ وهو التعبير
الفني لما يرومه الميرزا 1 انّ الحرمة فعلية من أوّل الأمر على موضوعها الواقعي وهو
النجس المعلوم بالاجمال إلاّ انّ موضوعها ليس هو ذات شرب النجس بل شرب النجس غير
المضطر إليه وعندئذٍ إذا ارتكبها معاً فلا اضطرار له إلى شرب النجس الواقعي
المعلوم في البين حتى عرفاً فتكون الحرمة فعلية بخلاف ما إذا ارتكب أحدهما ، وهذا
يعني انّ المكلّف يعلم بحرمة أحدهما عند ارتكابهما معاً من أوّل الأمر فيكون
ارتكابهما معاً قيداً للحرام لا الحرمة فإنّها فعلية من أوّل الأمر وارتكابهما
تحقق للحرام فلا يجوز.
٤ ـ ما ذكره
المحقق العراقي على ما في متن الكتاب.
وفيه : انّ الأمر بشيء وإن كان ينحل إلى الأمر بسد أبواب عدمه
إلاّ انّ في المقام الاجتناب عن الطاهر الواقعي ليس سدّاً لباب عدم الاجتناب عن
النجس وإنّما هو سدّ لباب العلم بالمخالفة وليس هذا مفاد الأحكام الواقعية بل مفاد
أدلّة الأحكام الظاهرية فيكون بحاجة إلى دليل. فلو فرض صحّة مثل هذا
التأويل في باب
التزاحم بين الضدين الواجبين ـ وهو ليس بتام ـ فهو غير تام في المقام قطعاً.
٥ ـ ما في هامش
الكتاب انتصاراً للمحقق المذكور وهو يتألف من مقدمتين :
١ ـ انّ الدلالة
على الملاك تبقى على الحجّية حتى بعد سقوط الخطاب.
٢ ـ انّ الملاك
كالخطاب منجز عقلاً بل هو روح الحكم.
وبناءً عليه في
المقام الترخيص في المخالفة بالاضطرار وإن أوجب سقوط التكليف الواقعي بناءً على
مسلك العلية ؛ لامتناع فعليته معه إلاّ انّ ملاكه فعلي وهو منجز فتحرم مخالفته
القطعية فيجب الاجتناب عن الباقي بعد رفع الاضطرار بهذا الاعتبار وإن كان بلحاظ
التكليف الفعلي مشكوكاً فإنّه يكفي ذلك في التنجيز ، فارتكاب الفرد الباقي من حيث
كونه مشكوك الحرمة بمعنى التكليف وإن كان مرخصاً فيه ولكنه من حيث كونه مخالفة
قطعية لملاك الحرمة المعلوم اجمالاً لا يجوز عقلاً.
وفيه : انّ هذا مرجعه إلى قبول التوسط في التنجيز لباً وروحاً
إذ لم يكن امتناع الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال بلحاظ
عالم الخطاب والجعل والاعتبار ليقال بسقوطه بل مرجع مسلك العلية إلى انّه إذا كان
الحكم سواء الخطاب أو الملاك واصلاً فلا يمكن الترخيص في مخالفته شرعاً إلاّ برفع
الموضوع فيكون المدلول الالتزامي للترخيص الثابت بالاضطرار عدم فعلية الملاك لا
محالة.
ثمّ انّ الموجود
في تقريرات المحقق المذكور هو الوجه الرابع المتقدم.
ص ٢٨٣ في الهامش :
( وكلا الوجهين قابل للمناقشة ، امّا الثاني ... ).
هذه المناقشة غير
تامة ، لأنّ الأصل المؤمّن يشترط في جريانه أن يترتب عليه أثر عملي وفي المقام
الفرد القصير غير متعين فاجراء الأصل فيه بالعنوان الإجمالي لا يترتب عليه أي أثر
عملي إذ لا يمكن ارتكابه إلاّبارتكاب الطرفين الذي فيه مخالفة قطعية ولا يترتب في
البين حرمة اخرى ليكون أثر جريانه نفي التبعة الزائدة على تقدير ارتكاب كلا
الطرفين ، فهذا الجواب ليس تاماً.
والصحيح
في الجواب هو ما ذكر بعنوان : وأمّا الأوّل ، وحاصله : انّه لا يشترط في التساقط واجمال أدلّة الاصول
أكثر من احراز تحقق ملاك التعارض والامتناع بين الاطلاقين للخطاب في فردين سواء
كان أحدهما أو كلاهما معيّناً خارجاً أو مردداً ، وفي المقام الأصل الجاري في
الطرف الاستقبالي يحرز انّه معارض مع أحد الأصلين المؤمنين الجاريين في الطرفين
الحاليين ، وهو كاف لسريان التعارض إليه وسقوطه معهما ، وهذا نظير ما إذا علم
نجاسة أحد الانائين اناء زيد أو اناء عمرو وعلم أيضاً باخبار صادق بنجاسة اناء زيد
أو اناء ثالث ، وكان اناء زيد واناء عمر مشتبهاً في الخارج أي لم يدر أيّهما لزيد
وأيّهما لعمرو فإنّه لا اشكال في تنجز العلمين في عرض واحد فيجب الاجتناب عن
الاناء الثالث أيضاً رغم انّ معارضه وهو الأصل المؤمّن في اناء زيد غير معيّن في
الخارج بل مردّد بين الانائين.
ص ٢٨٥ قوله : ( وأمّا الاضطرار إلى ترك
الفعل ... ).
وحاصل
المراد : انّ العجز عن
الفعل كعدم الفعل لا يكون محصصاً للفعل ومنوعاً له فالفعل المعدوم ليس حصة اخرى من
الفعل غير الفعل الموجود ،
وكذلك امتناع
الوجود بل العدم أو العجز يضاف إلى نفس الحصة الواحدة للمفسدة والمبغوضية ؛ ويقال
انها تارة تكون موجودة أو مقدرة ، واخرى غيرهما فلا تحصيص ليعقل أن تكون احداهما
واجداً للملاك دون الاخرى ، وهذا بخلاف الاضطرار والفعل الصادر قهراً. وهذا واضح.
ثمّ انّه لا فرق
في عدم تحصيص الفعل بالعجز عنه إلى حصتين بين الحرام والواجب أي مبدأ الحرمة وهو
المبغوضية ومبدأ الوجوب وهو المحبوبية فليس الفرق بينهما من هذه الناحية بل من
ناحية انّ المحبوب إذا كان هو الحصة المقدورة فإذا كانت القدرة شرطاً في الاتصاف
كان معناه انّ المحبوب هو الجامع بين الفعل أو عدم القدرة ، ومن هنا يمكن للمكلف
أن يعجز نفسه فلا يكون قد فوّت على المولى شيئاً ، إذ لم يكن المحبوب من أوّل
الأمر الفعل بل الجامع ، وقد تحقق بخلاف ما إذا كان المحبوب الحصة المقدورة فإنّ
القدرة سوف تكون دخيلة في التحقق فقط ، ويكون التعجيز تفويتاً للمحبوب ففي طرف
المحبوبية يتصور دخل القدرة بمعنى عدم العجز عن الفعل تارة في الاتصاف واخرى في
التحقق. وهذا بخلاف المبغوض ، فإنّ الحصة المقدورة إذا كانت مبغوضة كانت المبغوضية
فعلية ولا يتصور فيها النحو الآخر بأن يكون المبغوض هو الجامع بين الفعل وعدم
الشرط لوضوح عدم مبغوضية انتفاء القدرة وتحقق العجز عن الفعل ؛ كيف والتعجيز يكون
تبعيداً أكثر عن الحرام وأفضل بحال المولى. وإن شئت قلت : انّ المبغوض هو المجموع
والمتقيد لا الجامع.
فالحاصل في طرف
المبغوضية لا يعقل أن يكون الفعل مبغوضاً إلاّبأن تكون المبغوضية متعلقة امّا بذات
الفعل مطلقاً فيكون الفعل الصادر بالاضطرار أيضاً مبغوضاً أو بالفعل الصادر
بالاختيار فتكون القدرة قيداً في المبغوض والحرام
لا المبغوضية أي
المقيد والمجموع من ذات الفعل ومقدوريته واختياريته يكون مبغوضاً بالفعل ، ومعناه
فعلية المبادىء في الفعل الحرام مع العجز وانّ العجز موجب لعدم تحققه لا ارتفاع
مبغوضيته فإنّه لا يعقل كما كان يعقل في طرف المحبوب والذي كان مرجعه إلى محبوبية
الجامع بين الفعل على تقدير الشرط ـ وهو القدرة ـ أو عدم الشرط لعدم تعقل تعلّق
البغض بفعل إلاّبأحد النحوين ذات الفعل أو المجموع المقيد ، وهذا يعني انّ تخريج
الوجوب المشروط على مستوى الارادة ومبادىء الحكم التي لا يعقل فيها التعليق ـ كما
حققناه في بحث الواجب المشروط ـ يعقل ويرجع إلى تعلّق الحب والارادة بالجامع بين
عدم الشرط أو الفعل وتخريج الحرمة المشروطة على مستوى الارادة ومبادىء الحكم يرجع
إلى بغض المجموع والمقيد من الفعل مع ذاك الشرط فتكون الحرمة فعلية ملاكاً في
المقيد بالقدرة أي الحرام المقدور وإن لم يكن المكلف قادراً على العصيان بخلاف
الواجب المقدور فإنّه مع عدم القدرة عليه لا تكون المصلحة فعلية إذا كانت القدرة
شرطاً في الاتصاف لأنّ مرجعه إلى حب الجامع بين عدمها وبين الفعل لا حب المجموع
والمقيد ليكون فعلياً أيضاً.
وبهذا البرهان
يتضح انّه في طرف المحبوب يمكن أن يكون كلاً من العجز عنه أو الاضطرار إليه ـ أي
العجز عن الامتثال أو العجز عن العصيان ـ رافعاً للملاك وامّا في طرف المبغوض فلا
يعقل أن يكون العجز عن العصيان رافعاً للمبغوضية وإن كان يعقل أن يكون العجز عن
الامتثال المعبر عنه بالاضطرار إلى الفعل رافعاً لها.
إن
قلت : يعقل أن يكون
العجز عن العصيان رافعاً للمبغوضية بمعنى انّه لا يتحقق بغض نحو الفعل إلاّبعد فرض
تحقق القدرة على الفعل.
قلت : هذا غير معقول إلاّبنحو البداء المستحيل في حق الشارع
الأقدس وإلاّ فالعالم بتحقق المفسدة في الفعل على تقدير القدرة لا محالة يعلم
بالمفسدة في الحصة المقدورة فيبغضها بالفعل كما في المحبوب أيضاً ، إلاّ انّه هناك
يعقل أن يكون الحب الفعلي متعلقاً بالجامع بخلاف البغض فإنّه في المجموع أي المقيد
ولا يعقل أن يكون في الجامع ، وهذا لازمه أن شرايط الحرمة وإن كانت بحسب لسان
الدليل شرائط للخطاب إلاّ انّه بحسب اللب ومبادىء الحكم دائماً تكون الحرمة مطلقة
وفعلية والشرط امّا قيد في الحرام أو لا يكون قيداً أصلاً كما في الاضطرار إذا فرض
عدم دخله في الملاك ، وهذا بخلاف الواجب.
وأمّا الاعتراض
الأوّل في الهامش فيمكن دفعه بأنّ المصلحة في الترك الاختياري إن كان بنحو قيد
الواجب لا الوجوب فهذا يعني انّ المك فعلي في الحصة الاختيارية للترك وإن كان لا
يؤمر به أو لا ينهى عن الفعل من أجله خطاباً للغوية وإن كان بنحو قيد الوجوب
الدخيل في الملاك فهذا يعني انّ الملاك في الجامع بين الترك أو عدم القدرة على
الفعل ( العجز عن الفعل ) الذي يعني صدور الترك القهري.
وهذا مساوق مع كون
الملاك في الجامع بين الترك الاختياري أو القهري فيكون لا محالة مطلق الفعل
مبغوضاً ـ لأنّ نقيض المحبوب مبغوض ـ وبالتالي يعني عدم دخل القدرة بمعنى العجز عن
الحرام في الملاك ، بل الملاك سواء كان مفسدة في الفعل أو مصلحة في تركه فعلي غاية
الأمر لا يمكن تفويته وأنّه قهري الحصول للعجز عن التفويت.
نعم ، يصحّ أن
يقال بأنّه لا تنجيز لمثل هذا الملاك عقلاً ، فكما لا تنجيز
للملاك الفعلي
الذي لا يمكن تحصيله ـ كما في موارد العجز عن الامتثال وفعلية الملاك ـ كذلك لا
تنجيز عقلاً للملاك الفعلي الذي لا يمكن تفويته ـ وهذا هو الاعتراض الثاني بحسب
الحقيقة في الهامش ـ.
ويوجد في تقريرات
الحائري بيان لعدم تأثير العجز العقلي عن العصيان أو العرفي بمعنى الخروج عن محل
الابتلاء في التنجيز ، بخلاف العجز عن الامتثال.
وقد بيّنه في
المتن بالنسبة للخروج عن محل الابتلاء : بأنّ التنجيز معناه حكم العقل باستحقاق
العبد للعقاب على المخالفة ودخول تلك المخالفة في دائرة حق المولى المقتضي لتركها
، فإذا كان الشيء محصصاً للمخالفة كالعلم أمكن أن يقال انّ هذه الحصة من المخالفة
يكون من حق المولى تركها ، والحصة الاخرى لا يكون من حق المولى تركها ، فيقال بأنّ
المخالفة المقترنة بالعلم داخلة في دائرة حق المولوية الموجب لذلك ولكن المخالفة
غير المقترنة بالعلم ليست داخلة في تلك الدائرة.
وفيما نحن فيه لا
توجد حصتان من المخالفة احداهما المخالفة الداخلة في محل الابتلاء والاخرى
المخالفة مع الخروج عن محل الابتلاء حتى يقال انّ ما يستحق المولى تركه إنّما هو
القسم الأوّل لا الثاني.
وفي هامش الكتاب
ألحق الخروج عن القدرة بمعنى العجز عن العصيان بذلك أيضاً فقال بعد كلام طويل
للفرق بين الاضطرار والعجز عن الامتثال وبين العجز عن المخالفة والعصيان : بأنّه
لا توجد حصة ثالثة للمخالفة غير الحصة الاختيارية والحصة الصادرة اضطراراً لكي
يقال بخروجها عن دائرة المولوية في فرض العجز عن المخالفة والمعصية فإنّ العاجز عن
المعصية لا يتصور صدور المخالفة والعصيان عنه ، والقبيح لا يسقط قبحه بالعجز عنه.
فإن
قلت : انّ التنجيز
ينتفي بالعجز عن المعصية لأنّ التنجيز عبارة عن انشغال عهدة المكلف عقلاً بشيء
وحينما يكون المكلف منساقاً إلى الموافقة من دون اختياره لا معنى لانشغال عهدته
بشيء.
قلت : إن قصد بانشغال العهدة مجرد أمر اعتباري ووهمي فلا قيمة
له ، وإن قصد به ثبوت حق المولوية فالعجز عن مخالفة الحق لا يخرج شيئاً عن دائرة
حق المولوية لعدم خلق حصة ثالثة للمخالفة أو قل انّ العجز عن القبيح لا ينهي قبح
القبيح.
ونلاحظ على ما جاء
في متن التقرير : بأنّ عدم دخل الخروج عن محل الابتلاء في التنجيز العقلي لا حاجة
لابتنائه على مسألة عدم التحصيص للفعل بلحاظ قيد الخروج عن محل الابتلاء ، بل حتى
إذا كان التحصيص معقولاً أو قلنا بعدم تأثير عدم التحصيص في موضوع حكم العقل
بالتنجيز ـ على ما سيأتي ـ مع ذلك من الواضح عدم دخل الخروج عن محل الابتلاء في
حكم العقل بالتنجيز لأنّ العقل يرى منجزية أحكام المولى بمجرد القدرة العقلية على
الامتثال وهي محفوظة في موارد الخروج عن محل الابتلاء ، ولهذا يصحّ الأمر به عند
الجميع بلا محذور ؛ فهذا البيان تبعيد للمسافة.
وامّا ما جاء في
الهامش بالنسبة للعجز العقلي عن المخالفة والعصيان فيرد عليه : أنّ حكم العقل
بالتحسين والتقبيح واستحقاق العقاب والثواب ليس موضوعه ذات الفعل أو الترك بل
الفعل والترك الاختياريان ، وهذا واضح مسلم ، وحينئذٍ إن اريد في المقام من عدم
وجود حصة ثالثة للمخالفة أو عدم خروج القبيح عن القبح بالعجز القضية الشرطية بأنّ
المخالفة الاختيارية لو صدرت من
المكلف كانت قبيحة
وفاعلها مستحق عليها العقاب ، فهذا صحيح لا غبار عليه ، إلاّ انها قضية شرطية
وليست فعلية في حق العاجز بحسب الفرض ، فهي كأية قضية شرطية عقلية عملية اخرى لا
ربط للعاجز بها ، وإن اريد أنّ العاجز عن المخالفة طرف لهذه القضية الشرطية أيضاً
فهو غير صحيح.
وما يكون المراد
من التنجيز إنّما هو مجموع الكبرى والصغرى أي ثبوت كبرى القضية العقلية العملية
وتحقق صغراها بحق المكلف والذي يعبر عنه في باب القضايا الحقيقية الشرعية بالمجعول
والحكم الفعلي وهذا غير متحقق في المقام.
فالحاصل لا فرق من
حيث حكم العقل بعدم التنجز بين موارد الاضطرار والعجز عن الامتثال وموارد العجز عن
المخالفة والعصيان من حيث عدم طرفية المكلف للقضية العقلية العملية وهذا لعمري
واضح.
فالصحيح انّ مسألة
عدم التحصيص للفعل بقيد العجز إنّما تفيد لنفي دعوى دخل هذا القيد في الملاك ،
وامّا دخله في الخطاب والحكم الشرعي أو الحكم العقلي بالقبح أو المنجزية فمّما لا
شك فيه لأنّهما متوقفان على تحقق طرفية المكلف للخطاب والجعل أو القضية العملية
العقلية لكي يكون المجعول الشرعي أو العقلي فعلياً وهي منتفية جزماً.
والأغرب من ذلك
أنّه جعل في هامش التقرير هذه النكتة ـ أعني عدم تحصّص الفعل بلحاظ قيد الخروج عن
محل الابتلاء ـ منشأً للإشكال على استاذنا الشهيد حينما قال بعدم جريان الأصل
الترخيصي في الطرف الخارج عن محل الابتلاء ؛ لعدم التزاحم الحفظي فيه ، فيجري
الأصل في الطرف الداخل
في محل الابتلاء
بناءً على مسلك الاقتضاء بلا معارض. فقال : انّ تضييق المجعول لا يعقل إلاّبأخذ
قيد في متعلقه وهو خلف فرض عدم تحصص المتعلق وتضييق الجعل مع عدم تقييد المجعول لا
يعقل إلاّبمعنى ترك الجعل في فترة من الزمن والمفروض ثبوت الجعل منذ تمامية
الشريعة وإلى هنا ننتهي إلى انّ الأصلين يتعارضان ويتساقطان رغم خروج أحد الطرفين
عن محل الابتلاء ...
الخ كلامه.
ويلاحظ
عليه : أنّ الخروج
والدخول في محل الابتلاء وإن كان غير محصّص للفعل فيكون المجعول في دليل الترخيص
الظاهري الشرعي من هذه الناحية مطلقاً وشاملاً لموارد الخروج عن محل الابتلاء ،
إلاّ أنّ هناك قيداً آخر مأخوذاً في موضوع المجعول الظاهري بلحاظه لا يكون شاملاً
للطرف الخارج عن محل الابتلاء ، وهو تحقق التزاحم الحفظي بين الملاكات اللزومية
والترخيصية.
وإن
شئت قلت : لزوم الضيق وعدم
إطلاق العنان لو لم يجعل الترخيص الظاهري وهذا منتف بحسب الفرض في المقام. فعدم
إطلاق المجعول الترخيصي الظاهري من جهة فقدان هذا القيد وتحصيص الفعل به معقول
كالعلم والشك فيقال بأنّ الفعل المشكوك إذا كان فيه تزاحم حفظي فهو المجعول فيه
الطهارة أو البراءة الشرعية وإذا لم يكن فيه تزاحم حفظي أي لم يكن عدم جعل الترخيص
الشرعي فيه موجباً للضيق على المكلف فهو حصة من الفعل المشكوك خارج عن موضوع
المجعول الشرعي الظاهري وهذا أيضاً واضح.
ثمّ انّه يظهر من
تقريرات بعض أنّه يرى استهجان بل لغوية النهي في موارد الخروج عن محل الابتلاء.
وهذا ما قد عرفت
بما لا مزيد عليه الجواب عليه ، وليس في كلامه جديد.
والغريب أنّه أصرّ
على توسعة ذلك إلى الواجبات كما ذكره الخراساني في حاشيته من انّه إذا كان الفعل
بحيث يصدر بطبعه من المكلف ولا يتركه كان الأمر به وايجابه أيضاً مستهجناً ولغواً.
وهذا غريب ، فإنّه
مضافاً إلى وضوح الفرق بين الأمر بالفعل حتى إذا كان فيه داع آخر طبعي وعادي بحيث
يشق عليه تركه وبين النهي عن الفعل الذي خارج عن محل الابتلاء عرفاً حيث انّ
الوجود والفعل بحاجة على كل حال إلى داعٍ وارادة لكي يصدر خارجاً بخلاف الترك
والعدم فيكفي فيه عدم الداعي ، فلا استهجان للأمر بالفعل المذكور لأنّه ايجاد
وتوفير للداعي الشرعي للمكلف وإن كان هناك داعٍ آخر بخلاف باب التروك والنواهي.
أقول : مضافاً إلى ذلك من الواضح انّ فائدة إطلاق الأمر للحصة
المذكورة من الفعل هو الكشف عن وجود الغرض والملاك الشرعي فيه ، وعدم اختصاصه
بالحصة الصادرة بلا داعٍ طبعي وبلا اعتياد ونتيجته الاجتزاء بها ، بخلاف ما إذا
قيل بعدم شمول الأمر والوجوب لهذه الحصة أو لغويته أو استهجانه فإنّه سوف يتقيد
الأمر والخطاب بالحصة الداخلة في محل الابتلاء بهذا المعنى فتجب الاعادة.
وهذا أثر عملي
كافٍ لدفع اللغوية والاستهجان ، وهذا بخلاف عدم إطلاق النهي للفعل الخارج عن محل
الابتلاء ، حيث تقدم انّه لا يتحصّص إلى حصتين وانّ ترك الحصة الواجدة للمفسدة
متحقق بحسب الفرض ، فتدبر جيداً.
ص ٢٨٧ في الهامش :
وهكذا يظهر ... الخ.
يرد
عليه : انّ المفروض انّ
الفعل الخارج عن محل الابتلاء لو حققه المكلف واقترب منه كان حراماً عليه أيضاً
لكونه بذلك يكون قد دخل في محل ابتلائه على جميع التفاسير له وإنّما لا حرمة فيه
ما دام لم يقترب منه للاستهجان ، امّا إذا اقترب ارتفع الاستهجان جزماً ، ومثل هذا
التقييد كما ذكر السيد الشهيد في المتن لا يمكن أن يوجب انتفاء الملاك والمبغوضية
في الفعل ، فالمكلف يعلم انّ أحد الفعلين لو صدرا منه فيه مبغوضية جزماً ، وهذا
يعني انّ الملاك فعلي هنا حتى إذا تعقّلنا عدم فعلية الملاك في موارد العجز عن
الحرام وعدم القدرة على العصيان فلا يتوقف البحث في هذا المقام على البحث في
المقام السابق.
وإن
شئت قلت بتعبير مسامحي : بأنّه مع فرض انتفاء القدرة يمكن أن يكون صدور الفعل من المكلف بلا مفسدة
وملاك كما إذا كان الصدور القهري لا ملاك فيه وان كان هذا بالدقة من دخل الاضطرار
أو القدرة على الامتثال في الملاك لا القدرة على العصيان ؛ وهذا بخلاف قيد الدخول
في محل الابتلاء فإنّ فرض صدوره منه ـ والمفروض القدرة عليه عقلاً ـ يساوق ذلك
فيكون مبغوضاً.
ص ٢٨٨ قوله : ( وهكذا يتضح ... ).
لا أفهم وجهاً
لهذا البيان ، فأي لغوية أو قبح في إطلاق الحكم الظاهري لموارد المقدورية العقلية
غير العرفية ، والشاهد على عدم اللغوية إمكان ايجاب الاحتياط بالنسبة للحكم
المشكوك في موضوع خارج عن محلّ الابتلاء ، فيجعل حكم ظاهري بالاحتياط والمنع عن
ارتكابه وأثره العملي الاجتناب عن الدنوّ منه وادخاله في محلّ الابتلاء ، فإذا كان
جعل الحكم الظاهري الالزامي
معقولاً فكذلك
الحكم الترخيصي الناشئ من ترجيح الملاك الترخيصي على الالزامي في هذا التزاحم
الحفظي وأثره إمكان الاقتراب منه وادخاله في محلّ الابتلاء.
نعم ، لو كان ملاك
جعل الترخيص الظاهري رفع الحرج أو الضيق على المكلف والتوسعة عليه فهذا قد يقال
بانصرافه حينئذٍ عن المشكوك حرمته الخارج عن محلّ ابتلاء المكلف ؛ لأنّه لا ضيق
عليه في الاجتناب عنه ؛ لأنّه متحقق بطبعه.
إلاّ أنّ هذه
الدعوى لا وجه لها ، خصوصاً في مثل الاستصحاب من الاصول المحرزة ، كيف وهذا يؤدّي
إلى اخراج سائر موارد عدم الضيق في الاجتناب عن الشبهات التحريمية ، كما إذا شك في
نجاسة أو حرمة ما ينفر عنه الطبع العرفي مثلاً ، أو غير ذلك ، ولا أظنّ التزام
فقيه بعدم إطلاق أدلّة الترخيصات الظاهرية لمثل هذه الموارد.
هذا ، مضافاً إلى
انّه يلزم على مسلك السيد الشهيد هذا انّه يجوز للمكلف الاقدام من أوّل الأمر على
ارتكاب الداخل في محل الابتلاء والطرف الآخر أيضاً بعد ذلك على خلاف الطبع العرفي
، مع انّه كان يعلم من الأوّل انّ أحدهما نجس أو محرّم ، والالتزام بذلك بعيد عن
مذاق الاصولي ، فالحق مع السيد الخوئي 1 من انّه في غير موارد خروج أحد الطرفين عن المقدورية
العقلية يكون العلم الإجمالي منجزاً ، وانّ الخروج عن محل الابتلاء ما لم يبلغ
العجز وعدم المقدورية المعتبرة في التكاليف لا يمنع عن منجزية العلم الإجمالي.
ص ٢٩٠ قوله : ( والشبهة المفهومية على
أقسام ... ).
إلاّ أنّ القسم
الثاني والثالث ينبغي اخراجهما عن البحث. أمّا الثاني فلأنّ الشك والشبهة فيه ليس
مفهومياً بل حكمي ، أي شك في الغرض الشرعي ومراده الجدي مع وضوح المفهوم والارتكاز
العرفي في مقام الاثبات والذي هو الحجة بحسب الفرض فحاله حال أي شك وشبهة على خلاف
ظهور عرفي للخطاب ، فليس هذا القسم شبهة مفهومية أصلاً.
وأمّا القسم
الثالث فالشك فيه وإن كان في المفهوم إلاّ انّه من جهة الجهل بالظهور العرفي
التصديقي ، وهو كالجهل بالظهور اللغوي ، لا يمكن التمسك بما يحتمل معارضته معه ،
كما إذا دلّ دليل على جواز شيء ، ودلّ دليل آخر على الأمر به ، وشك الفقيه في انّ
الأمر ظاهر في الوجوب لغة فيكون الدليلان متعارضين ، أو في الندب فلا تعارض بينهما
، فإنّه لا يمكنه التمسك بدليل الجواز قبل الرجوع إلى اللغة بدعوى الشك في وجود
المعارض له ، وكذلك في المقام لابد من الفحص والجزم امّا بثبوت الإطلاق أو عدمه أو
انّ العرف بما هو عرف يشك أيضاً فيرجع الشك بنحو الشبهة المفهومية إلى قسم واحد
وهو الأوّل فقط والذي مع الشبهة المصداقية يكون في البين قسمان.
والسيد الشهيد 1 قد حكم فيهما
معاً بجريان الأصل المؤمن في الطرف الداخل في محل الابتلاء وعدم معارضته مع الأصل
في الطرف المشكوك ؛ لاجمال إطلاق دليله فيه ـ في القسم الأوّل ـ وكونه من التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية في القسم الثاني.
ولنا هنا كلامان :
الأوّل : قد يقال : انّ ما ذكر في الشبهة المفهومية ـ القسم
الأوّل ـ غير تام على اطلاقه بمعنى انّه يتم فيما إذا كان الأصل في الطرف المشكوك
خروجه عن محل الابتلاء غير مسانخ للأصل في الطرف الداخل حيث يقال بأنّه مع الاجمال
عند العرف يقطع بعدم المعارض ، إذ لا دلالة فعلية في المجمل وحيث انّ دليله منفصل
عن دليل الأصل في الطرف الداخل فيكون هذا فعلياً وحجة بلا معارض.
وأمّا إذا كان
الأصلان متسانخين أي ثابتان بدليل واحد فإذا قلنا انّ محذور امتناع الترخيص في
المخالفة القطعية العقلي يكون برهانياً وبمثابة المقيد المنفصل فأيضاً يتم ما ذكر
وإلاّ بأن افترضناه أمراً عقلياً بديهياً أو عقلائياً ومحرزاً فيكون بمثابة المقيد
المتصل بالخطاب فتارة يكون المحذور في وصول الترخيصين كما هو المناسب مع مسلك
المشهور من قبح الترخيص في المخالفة القطعية ، واخرى يكون المحذور في واقع
الترخيصين في مورد العلم الإجمالي في الطرفين كما هو المناسب مع مسلك السيد الشهيد
القائل بالتناقض الارتكازي بين فعلية الملاك المعلوم بالاجمال وعدم الاهتمام به في
الطرفين.
فعلى الأوّل يتم
ما ذكره السيد الشهيد 1 أيضاً إذ المقيّد اللبي المتصل يقضي بعدم ثبوت ترخيصين
واصلين معاً وهنا أحد الترخيصين غير واصل جزماً حتى إذا كان مراداً واقعاً فلا
تعارض داخلي ولا اجمال ، وعلى الثاني يكون احتمال ارادة الترخيص في الطرف الخارج
واجمال الخطاب من ناحيته موجباً لاجماله بلحاظ الطرف الداخل في محل الابتلاء أيضاً
، لأنّ التعارض داخلي.
وبعبارة
اخرى : إذا كان الخطاب
شاملاً للطرف الخارج فلا يكون شاملاً
للطرف الداخل ،
وحيث انّه محتمل الشمول بحسب الارادة الجدية بمعنى انّ الخطاب ليس ظاهراً في عدم
الشمول للطرف الخارج فلا يكون ظاهراً في شمول الطرف الداخل أيضاً ، لأنّ احتمال
الشمول يساوق احتمال عدم انعقاد الإطلاق بلحاظ الطرف الداخل أيضاً ، فلا يمكن
التمسك به كما هو الحال في تمام موارد احتمال القرينة المتصلة.
والجواب : إنّ المقيد اللبي المتصل في المقام أعني ارتكاز المناقضة
أو قبح الترخيص إنّما يقيد مجموع الأصلين في الطرفين لا أحدهما بحسب الفرض ، فهو
لا يمنع عن انعقاد إطلاق الخطاب لكل واحد من الأصلين في الطرفين في نفسه لو تم
مقتضيه ، وفي المقام مقتضى الإطلاق بالنسبة إلى الأصل في الطرف الدخل في محل
الابتلاء تام في نفسه ، أي مع قطع النظر عن ارتكاز المناقضة ، وامّا مقتضى الإطلاق
بالنسبة إلى الأصل في الطرف المشكوك غير تام في نفسه ـ مع قطع النظر عن ارتكاز
المناقضة ـ فلا يمكن أن يعارض الأوّل إذا كان منفصلاً ومن سنخين ولا أن يوجب
اجماله ورفع مقتضيه إن كان متصلاً ومن سنخ واحد ؛ لأنّ ما يوجب الاجمال أن يكون
مقتضي الأصل في الطرفين تاماً ، مع قطع النظر عن ارتكاز المناقضة. وليس المقام منه
بحسب الفرض.
وأمّا احتمال ثبوت
الترخيص في الطرف المشكوك فلا أثر له في المقام ؛ لأنّ المناقضة ليست بين الأحكام
الواقعية والظاهرية واقعاً ، وإلاّ كان احتماله ممتنعاً أيضاً كما حقّق في بحث
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، وإنّما المقصود من المقيّد اللبّي المذكور ما
شرحناه ، فهذا الاعتراض المذكور في هامش الصفحة (٢٩٠) غير تام.
نعم ، ما جاء في
هامش الصفحة (٢٩١) تحت عنوان الأوّل صحيح وتام فلا وجه لتخصيصه في المتن باحتمال
المعارض المتصل كما انّه لو فرضنا انّ برهان اللغوية أو عدم التزاحم الحفظي في
موارد الخروج عن محل الابتلاء مقيّد لبي منفصل لا كالمتصل كانت النتيجة التفصيل
بين الشبهة المفهومية والمصداقية كما يظهر وجهه بالتأمل.
وبهذا يعرف انّ
المقصود ليس أخذ قيد العلم والوصول ـ ولو إلى العرف ـ في المقيد المذكور أعني
ارتكاز المناقضة كما هو ظاهر صدر جواب السيد في المتن في مقام التفرقة بين الشبهة
المصداقية والشبهة المفهومية من القسم الثالث ، بل المقصود أخذ قيد تمامية كل من
الاطلاقين في الطرفين في نفسه وبقطع النظر عن هذا المقيد.
وهذا البيان تام
في الشبهة المفهومية من القسم الأوّل وفي الشبهة المصداقية ، ولا يتم في الشبهة
المفهومية من القسم الثالث ؛ لأنّ جهة الشك فيه مربوطة باللغة أو الاستظهار العرفي
، سواء كان من احتمال المعارض المتصل أو منفصل كما تقدم شرحه.
وهذا لعله روح
مقصود السيد الشهيد في جوابه الآخر المذكور في هامش الكتاب ، وإن كان التعبير غير
مناسب له. فإنّه ليس المقام من احتمال المعارض المتصل لا في الشبهة المفهومية من
القسم الأوّل ولا في الشبهة المصداقية ، إذ لا تمامية لمقتضي الإطلاق في دليل
الأصل للطرف المشكوك خروجه بنحو الشبهة المصداقية أو المفهومية بالنحو الأوّل
حقيقة ليكون معارضاً مع اطلاقه للطرف الداخل في محل الابتلاء ، أو موجباً لاجماله
إذا كان متصلاً به ، فهذا
من موارد العلم
بعدم وجود إطلاق معارض لا الشك فيه ، فلا يرد النقض ـ كما في تقريرات الحائري ـ بعدم
صحّة التمسك في الشبهة المصداقية للمعارض بعموم العام أيضاً كما إذا ورد أكرم كل
عالم ولا تكرم الفساق المتعارضان بنحو العموم من وجه فإنّه لا يجوز التمسك بعموم
أكرم في العالم المشكوك فسقه.
فإنّ هذا كأنّه
نشأ من الخلط بين التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمعارضه وبين التمسك بالعام
في أحد فرديه الذين يعلم بعدم ارادتهما معاً أي عدم ارادة مجموعهما من العام ؛
لأنّ عمومه في الفرد الآخر غير تام في نفسه ، فإنّه لا اشكال في حجّية العام في
الفرد الآخر عندئذٍ ؛ لعدم وجود ملاك وموضوع للتعارض أو للمقيّد اللبّي المذكور.
ومنه يظهر عدم صحة
ما في هامش الصفحة (٢٩١) تحت عنوان ( الثاني ) فراجع وتأمل.
ثمّ انّ ما جاء في
كلام السيد الشهيد 1 المنقول في الهامش من جواز التمسك بالظهور الأولي للكلام
في موارد احتمال المعارض المتصل بخلاف موارد احتمال القرينة المتصلة ، لا وجه له ،
فإنّ المعارض المتصل كالقرينة المجملة المتصلة يوجب اجمال الظهور التصديقي للخطاب
، وما هو الحجة إنّما هو الظهور التصديقي لا التصوري ، أي الظهور الكاشف عن المراد
كشفاً لا ابهام ولا إجمال فيه ، والمعارض كالقرينة المجملة يوجب الابهام والاجمال
فيما هو مراد المتكلم ، فلا نافي لاحتماله إلاّشهادة الراوي كما في احتمال القرينة
المتصلة ، ولا مجال فيهما معاً للتمسك بالظهور الأولي لعدم إحرازه.
الثاني : أنّ الصحيح في الصورتين ـ أعني الشبهة المفهومية والمصداقية
للخروج عن محل الابتلاء ـ بقاء العلم الإجمالي على المنجزية لأنّ دليل الأصل
الترخيصي شامل في نفسه للطرف المشكوك خروجه أو دخوله في محل الابتلاء ؛ إذ المقيد
له لم يكن لفظياً وبعنوان الخارج عن محل الابتلاء ليقال بحصول الشك فيه بل المقيّد
لبي بملاك اللغوية أو عدم مقتضي التزاحم الحفظي بين الملاك الالزامي والترخيصي
وكلاهما يختصان بما إذا كان يعلم بالخروج عن محل الابتلاء ، وامّا مع الشك فيه
فمقتضي التزاحم الحفظي محفوظ ، إذ نفس احتمال الدخول يعني احتمال المزاحمة الحفظية
بين الملاكات الترخيصية والالزامية ، فإنّ هذا الشك الطولي بنفسه محقق لهذا
التزاحم الحفظي لا محالة ، نظير موارد الشك في القدرة على الامتثال الذي يعقل جعل
الحكم الظاهري فيه بالالزام أو الترخيص.
وإن
شئت قلت : انّ الشك في
الخروج عن محلّ الابتلاء أو المقدورية حتى عقلاً بنفسه شك في جعل الترخيص الظاهري الذي
يعني رفع يد المولى عن الاهتمام بغرضه الالزامي أو عدمه الذي يعني اهتمامه به وهذا
الشك بنفسه مشمول لاطلاق دليل الأصل ولا يكون جعل الترخيص فيه لغواً ولا يكون
أيضاً بلا مقتضي كما هو واضح وهذا في الشبهة المصداقية واضح وفي المفهومية صحيح
أيضاً ، وعليه فمقتضى القاعدة بقاء اطلاقات أدلّة الترخيصات الظاهرة بلحاظ موارد
الشك في الخروج عن محل الابتلاء لأنّ القيد اللبي الارتكازي لا يخرج إلاّفرض العلم
بالخروج ، فالنتيجة بقاء منجزية العلم الإجمالي في موارد عدم العلم بالخروج عن محل
الابتلاء ، أو عدم مقدوريته ، وهذا بيان آخر لما ذهب إليه العلمان النائيني
والعراقي قدس سرهما في المقام.
ص ٢٩٤ قوله : ( التقريب الأوّل : ... ).
يمكن التعبير عن المنجزية
بأحد نحوين :
١ ـ ما في الكتاب
من انّ المقام فيه علم اجمالي بتكليف فعلي على أحد التقديرين ويكون منجزاً عقلاً
على تقدير آخر فيكون منجزاً لا محالة بخلاف ما إذا علم بخروج أحد الطرفين عن
المقدوريّة والابتلاء.
٢ ـ أنّ الشك في
القدرة على التكليف المعلوم والمنجز بالعلم مع قطع النظر عن القدرة على متعلقه
يكون منجزاً عقلاً ، وهذا لا فرق فيه بين كون العلم بالتكليف تفصيلياً أو
اجمالياً. وهذا غير محفوظ في مورد العلم بخروج أحد الطرفين عن المقدورية والابتلاء
، إذ ليس الشك فيه في القدرة على متعلق تكليف معلوم التنجّز بقطع النظر عن المتعلق
، وإنّما الشك في مورد التكليف وموضوعه وانّه في الطرف القابل للتنجيز أو الطرف
غير القابل للتنجيز يقيناً ، وهذا واضح.
فهذا التقريب كما
ذكره المحقق العراقي 1 تام وهو يجري في الشبهتين المفهومية والمصداقية معاً ، كما
انّه لا يتوقف هذا البحث على القول بشرطية الدخول في محل الابتلاء بل حتى على
القول بعدمها ـ كما هو الصحيح والمختار للسيد الخوئي 1 ـ يتصور هذا البحث بالنسبة إلى موارد الشك في القدرة
العقلية على الارتكاب في بعض أطراف العلم الإجمالي والذي تكون الشبهة في ذلك
مصداقية دائماً ، فيكون مقتضى الأصل العملي وجوب الاحتياط واجتناب الطرف المتيقن
مقدوريته.
وقد ناقش في هذا
المطلب كل من السيد الاستاذ والسيد الخوئي قدس سرهما. أمّا
السيد الاستاذ
الشهيد 1 فبما في الكتاب من انّ حكم العقل بالتنجز في موارد الشك في القدرة إنّما هو
في الشك في القدرة على الامتثال لا الشك في القدرة على العصيان إذ أي معنى للقول
بحكم العقل بلزوم التصدّي للعصيان وارتكاب الحرام المشكوك مقدوريته للمكلف بخلاف
الشك في القدرة على الامتثال.
ويلاحظ
عليه : انّ التنجز ليس
معناه ذلك بل معناه مسؤولية المكلف تجاه غرض المولى وحكمه ، سواء كان ايجاباً أو
تحريماً ، وانّ تفويته عليه بسبب اقدام المكلف يكون قبيحاً يستحق عليه العقوبة ،
وهذا في الواجب يكون بترك الاقدام على الامتثال وفي الحرام يكون بالاقدام عليه ولو
كان بنحو بحيث لو وصل إلى الحرام وكان مقدوراً كان يصدر منه بالاضطرار والاجبار ،
فهو ملزم عقلاً بسدّ باب وجود الحرام ولو بترك المقدمة المفضية إلى صدور الحرام
منه ولو قهراً.
وهذا لعمري واضح ،
فالمنجزية في المقام ثابتة أيضاً ولا مشاحة في تسمية ذلك بالشك بالقدرة على
الامتثال أو العصيان.
وأمّا السيد
الخوئي فقد ذكر في وجه عدم المنجزية جريان البراءة عن الطرف المتيقن مقدوريته بلا
معارض لأنّ الطرف الآخر المشكوك مقدوريته لا تجري فيه البراءة لأنّ ما يمنع عن
التمسك بالعموم والإطلاق فيه يمنع عن التمسك بالأصل العملي لأنّ ما لا يعقل وضعه
لا يعقل رفعه .
ويلاحظ
عليه : انّ المانع عن
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ليس من جهة عدم قابلية الوضع فيه لكي يقال بعدم
قابلية الرفع أيضاً ، بل من جهة عدم
__________________
ظهور العام في
الشبهة المصداقية أو عدم حجيته عند العقلاء ، وهذا مانع مخصوص بباب التمسك
بالظهورات والعمومات ولا يجري في الاصول العملية ، ولهذا يرجع في كل مورد لا يصحّ
التمسك فيه بالظهور والعموم ـ الذي هو دليل اجتهادي ـ إلى الاصول العملية ، ومنه
موارد الشبهات المصداقية للعمومات فهذا التعليل بحسب ظاهره واضح الضعف.
ويحتمل أن يكون
المقصود أنّ قيد القدرة المشكوكة في المقام كما يوجب عدم جواز التمسك بعموم الحكم
الواقعي ـ الحرمة ـ كذلك يوجب عدم جواز التمسك بعموم أدلّة الأصل المؤمّن في الطرف
المشكوك مقدوريته ؛ لأنّها كأدلّة الأحكام الواقعية أيضاً تكون مقيدة بالقدرة ؛
لعدم معقولية جعل الحكم الظاهري في موارد العجز وعدم القدرة كالحكم الواقعي ،
فيكون المانع عن التمسك بعموم دليل الحرمة مانعاً عن التمسك باطلاق دليل البراءة
في الطرف المشكوك أيضاً.
ويلاحظ
عليه : أوّلاً ـ النقض بموارد العلم الإجمالي بوجوب أحد أمرين أحدهما متيقن
المقدورية والآخر مشكوكها كما إذا علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو وجوب
الوضوء وهو شاك في قدرته على الوضوء فإنّ لازم هذا البيان جريان البراءة عن وجوب
الدعاء شرعاً ، وامّا وجوب الوضوء فإن قيل بجريان البراءة العقلية عنه لكونه
مشكوكاً بقطع النظر عن القدرة فهذا معناه تجويز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي
بمجرد الشك في مقدوريته وهو خلف المبنى من انّ الشك في القدرة سواء في التكليف
المعلوم تفصيلاً أو اجمالاً يكون منجزاً.
وإن قيل بعدم
جريان البراءة العقلية عنه ووجوب الاحتياط منه فهو غريب
مع فرض كونه
مشكوكاً من حيث موضوع الحرمة ، كيف ولازمه انّه إذا كان كلا الطرفين مشكوكين من
حيث المقدورية وجب الاحتياط بخلاف ما إذا كان أحدهما متيقن المقدورية ، وهذا ما لا
يمكن الالتزام به كما هو واضح.
وثانياً
ـ عدم صحة أصل القياس
فإنّ الحكم الظاهري سواء كان الزامياً كايجاب الاحتياط أو ترخيصياً كالبراءة لا
يكون جعله في مورد الشك في المقدورية لغواً ولا قبيحاً بل على العكس معقول ومفيد
حيث يوجب التنجيز أو التأمين الشرعي فيه وكلاهما معقول كما في سائر مناشىء الشك في
التكليف.
نعم في خصوص مورد
العلم بعدم المقدورية يكون جعل الحكم الظاهري أيضاً لغواً لعدم امكان التنجيز
والتعذير فيه.
فالحاصل : كل مورد
يعقل فيه التنجيز عقلاً ومنه موارد الشك في القدرة يعقل فيه جعل الحكم الظاهري
الالزامي بايجاب الاحتياط أو الترخيص بالبراءة ، وهذا واضح ، وإنّما لا نقول
بجريان البراءة الشرعية في موارد الشك في القدرة لنكتة اخرى مذكورة في محلها وهي
مخصوصة بما إذا كان الشك في القدرة فقط لا الشك في موضوع التكليف كما في المقام ،
فإنّه تجري البراءة عن الطرف المشكوك مقدوريته لنفي التنجيز من ناحية الشك في
نجاسته أو مغصوبيته لا من ناحية الشك في مقدوريته ، فالتمسك بدليل الأصل المؤمن
لنفي التنجيز حتى إذا كان مقدوراً أو كالمقدور بحكم العقل لكون أصل ثبوت الحكم
بالحرمة في ذاك الطرف مشكوكاً ، وهذا الإطلاق تام في دليل الأصل المؤمّن خصوصاً
إذا كان من قبيل أصالة الطهارة فيكون معارضاً مع أصالة الطهارة في الطرف المتيقن
مقدوريته الداخل في محل الابتلاء ، فالصحيح منجزية العلم الإجمالي إذا كان أحد
طرفيه مشكوك المقدورية كما أفاد المحقق العراقي 1 وأصرّ عليه.
ص ٢٩٧ قوله : ( هذا إلاّ انّ الصحيح ما
ذهب إليه المحقق الخراساني 1
... ).
بل ما ذهب إليه
المحقق النائيني 1 ؛ لأنّ الخارج ليس عنوام ما يقبح التكليف به بل واقع
القبيح عقلاً أو المستهجن عرفاً ، وبناءً عليه يقال انّ العقل لا محالة يكون موضوع
حكمه محدداً عنده فلا معنى للشك فيه بنحو الشبهة المفهومية التي هي شبهة حكمية ،
وهذا يعني انّ الشبهة المفهومية هنا لا تتصور إلاّبارجاع القبح إلى الاستهجان
العرفي والعقلائي والذي قد يكون له مراتب تشكيكية ، وعندئذٍ يتم ما ذكره المحقق
النائيني 1 من انّ الذي يخرج عن ظهور العام إنّما هو المرتبة المتيقنة الاستهجان عرفاً
لا أكثر.
وإن شئتم قلتم :
انّ اللغوية والاستهجان مقام ثبوته عين مقام اثباته ، فما لم يحسّ العرف
بالاستهجان فلا استهجان حقيقة ولا لغوية ، بل يمكن أن يدعى انّ ملاك اللغوية أو
الاستهجان المذكور غير محفوظ حتى في الشبهة المصداقية لأنّ المكلف حيث يحتمل دخول
موضوع الحرمة في محل الابتلاء فقد ينقدح عنده الداعي نحو اقتحامه ولو لاحتمال
دخوله في محل الابتلاء وتمكنه العرفي منه فيكون فائدة إطلاق الحرمة ايجاد الزاجر
المولوي عن الاقتحام وهذا يكفي في دفع اللغوية ، وعليه فالصحيح في خصوص هذا القيد
على تقدير القول به ـ ما ذهب إليه الميرزا 1 من صحة التمسك باطلاق الخطاب في كلتا الشبهتين لا لكون
المقيد لبياً بل لأنّ القيد من أوّل الأمر لا يخرج أكثر من موارد العلم بالخروج عن
محلّ الابتلاء.
هذا ، مضافاً إلى
انّ النكتة التي بيّنها السيد الشهيد 1 غير منطبقة في المقام من جهة اخرى هي : أنّ المحذور
والمقيد هنا ليس هو الامتناع أو القبح العقلي بل
الاستهجان العرفي
ففرق بين مثل امتناع الاجتماع المانع عن إطلاق الأمر للفرد الحرام وبين المقام ،
فلو فرض في المقام جهل المولى بالاستهجان واعتقاده بعدمه كان جعله لا محالة مطلقاً
خطاباً وملاكاً وهذا يعني دخل اعتقاد المولى بما هو مولى في المقام في سعة الجعل
واطلاقه ثبوتاً فيصح التمسك بالاطلاق ويترتب عليه المنجزية عقلاً.
ص ٣٠٣ قوله : ( فإنّه يقال : جريان
الأصل الترخيصي وإن كان مشروطاً ... ).
حاصل
الجواب : انّ الحرمة
الوضعية بعد أن كانت فعلية قبل حصول الملاقاة فحتى إذا كان جريان الأصل مشروطاً
بتحقق الملاقاة وكانت الملاقاة غير معلومة التحقق مع ذلك لم يجر الأصل لأنّ الأصل
المشروط أيضاً ترخيص في المخالفة القطعية لتكليف فعلي لأنّ الشرط والتقدير ليس
تقديراً للتكليف الواقعي ـ كما في موارد العلم بفعلية تكليف الآن أو في المستقبل
على تقدير لا مطلقا والذي ليس العلم الإجمالي فيه منجزاً ما لم يكن ذلك التقدير
محرزاً ـ بل التقدير لجريان الأصل فقط مع إطلاق التكليف وفعليته فيكون إطلاق دليل
الأصل للملاقي على تقدير وجوده وبنحو مشروط به معارضاً مع اطلاقه للطرف الآخر.
وهذا نظير ما إذا
علمنا اجمالاً بنجاسة أحد الانائين كان أصالة الطهارة في أحدهما جارياً على تقدير
نزول المطر أو في النهار لا مطلقاً ، فإنّه أيضاً معارض مع الأصل الجاري في الطرف
الآخر ما دام العلم بنجاسة أحدهما فعليّاً ، فليس التعارض بين الترخيصين المطلقين
في الطرفين ، بل بين مطلق الترخيص في الطرفين.
وقد
يقال : انّه يشترط في
التعارض زائداً على فعلية العلم الإجمالي بالتكليف وصول الأصلين الترخيصين في
الطرفين بمعنى احرازهما كبرى وصغرى ، فإذا كان الأصل في أحد الطرفين مشروطاً بشرط
غير محرز التحقق جرى الأصل في الطرف الآخر بلا محذور ؛ لأنّ الأصل الآخر غير واصل
وجريانه المشروط لا يقدح إذ ليس ترخيصاً بالفعل في المخالفة القطعية والمعصية ما
لم يحرز تحقق ذلك الشرط والتقدير ، نعم هذا العلم الإجمالي يكون منجزاً بناءً على
مسلك العلية كما لا يخفى وجهه.
وبعبارة
اخرى : المحذور العقلي
أو العقلائي إنّما يكون في الترخيصين الفعليين ولو في عمود الزمان المعلوم من أوّل
الأمر فعليتهما في ظرفيهما ، وامّا إذا كان أحدهما معلقاً على شرط وتقدير غير
معلوم التحقق وان كان مقدوراً تحقيقه فلا مانع من جريانهما معاً ، إذ لا يلزم منه
الترخيص في المعصية إذ حين جريان الأصل الأوّل لا علم للمكلّف بجريان الثاني وحين
العلم بجريان الثاني يكون الأوّل غير جارٍ بحسب الفرض، نعم ، لو علم بتحقق
الملاقاة فيما بعد تشكل علم اجمالي تدريجي منجّز.
والجواب : الحكم بطهارة الملاقي وجواز لبسه في الصلاة على تقدير
وجوده مع الترخيص في طرف الملاقى بنفسه ترخيص في المعصية سواء وجد الملاقي أم لا
فإنّ وجوده لا يكون على هذا شرطاً في الحرمة والتكليف بل في تحقق الحرام فيكون
بابه باب عدم ارتكاب المخالفة وليس محذور التعارض مخصوصاً بصورة ارتكاب المخالفة
القطعية بل نفس الترخيص فيها محال أو غير عقلائي سواء خالف المكلف خارجاً أم لا.
وإن
شئت قلت : انّ الحرمة
المرددة بين طرف الملاقى ـ بالفتح ـ وبين الملاقي ـ بالكسر ـ قبل وجود الملاقي ـ بالكسر
ـ إذا كانت فعلية ومعلومة بالاجمال بحسب الفرض فالاصول المؤمّنة النافية له الآن ـ
كأصالة الطهارة في الملاقى وهو الأصل السببي ـ أو في المستقبل وبعد تحقق الملاقاة
بجريانها في الملاقي وهو الأصل المسبّبي كلّها تسقط بالمعارضة من حين فعلية العلم
الإجمالي بهذه الحرمة.
إلاّ أنّ السيد
الشهيد في شرحه على العروة الوثقى ج ٢ ص ٢٣٤ كأنّه رجع عن هذا الاختيار حيث قال : (
غير انّ تلك البيانات إذا تمت لا تقتضي التنجيز بنحو تتساقط الاصول الشرعية ويخلو
الملاقي ـ بالكسر ـ من الأصل المؤمّن الشرعي وقد تعرضنا لتلك البيانات في الاصول
والمهم هنا هو تحقيق حال العلم الإجمالي الثاني ... ).
وهذا هو الصحيح لا
لما في تقريرات السيد الحائري من التعليق على كلام السيد الشهيد 1 بعد قبوله فعلية
الحرمة الوضعية قبل تحقق الموضوع خارجاً ، بل أضاف فعلية الحرمة التكليفية أيضاً
قبل تحقق النجس خارجاً تمسكاً باطلاق خطاب التحريم والنهي خلافاً لخطاب الوجوب
والأمر : بأنّ طرفية الملاقي ـ واقع الملاقي ـ للحرمة لا تكون إلاّبعد تحقق
الملاقاة فالحرمة لا تكون فعلية إلاّبعد حصول الملاقاة.
فإنّ هذا البيان
انكار لفعلية الحرمة الوضعية قبل تحقق موضوعها خارجاً لأنّه إن اريد من الطرفية
تحقق الموضوع وما هو شرط لفعلية الحكم فهذا خلف فرض إطلاق الحرمة من ناحية تحقق
الموضوع بنحو مفاد كان التامة ، وان الشرط إنّما
هو مفاد كان الناقصة
فقط وهو صادق ومتحقق تمام موضوعه بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ قبل الملاقاة خارجاً
حيث يصدق انّه لو تحققت الملاقاة كان نجساً سواء حصلت أم لا.
وإن اريد من
الطرفية انطباق عنوان الحرام على الفعل الخارجي وتحقق المبغوض خارجاً فهذا يتوقف
على تحقق الملاقاة ، إلاّ انّه ليس شرطاً في فعلية الحرمة بل فعلية الحرام وهو
أجنبي عن منجزية الحرمة.
بل الوجه الذي
أتصوره صحيحاً لما في شرح السيد الشهيد على العروة ما أشرنا إليه من انّ محذور
الترخيص في المخالفة القطعية الموجب لتعارض الاصول كما يشترط فيه العلم بفعلية
التكليف خارجاً ولو في عمود الزمان ـ أي في أحد زمانين ـ كذلك يشترط فيه العلم
بفعلية موضوع الترخيص الظاهري المعارض بسبب العلم الإجمالي المردد بين الطرفين ،
فإذا كان جريانه في أحدهما مشروطاً بشرط غير محرز التحقق فهذا ليس ترخيصاً في
المخالفة القطعية.
ودعوى : انّ التناقض أو الترخيص في القبيح محال حتى بنحو مشروط
فيحصل التعارض.
مدفوعة : بأنّ التناقض والقبح لم يكن بين واقع الترخيصين في طرف
العلم الإجمالي بل التناقض أو القبح ـ أي المحذور ـ في العلم بفعلية الترخيصين ،
ولهذا لو لم يكن أحدهما واصلاً ومحرزاً جريانه ولو في عمود الزمان للمكلف لم يكن
مانع من جعل الأصل المؤمن في الطرف الآخر.
وفي المقام وإن
فرضنا الحرمة الوضعية أو هي والتكليفية غير مشروطة
بتحقق النجس ـ الذي
هو واقع الملاقي ـ خارجاً ، إلاّ أنّ جريان الترخيص الظاهري في الملاقى فرع تحقق
الملاقاة ليتحقق الشك في طهارة الملاقي ونجاسته والشك في حرمته وحليته فيجري الأصل
المؤمّن فيه ـ وهو الأصل المسبّبي ـ لا لأنّ الملاقاة شرط في الحرمة ، بل لأنّها
شرط في جريان التأمين الظاهري من طهارة أو حلّية في الملاقي ، فلا تكون الاصول
المؤمنة الجارية في الملاقي بعد تحقق الملاقاة داخلة في المعارضة مع الأصل المؤمّن
الجاري في طرف الملاقى لعدم العلم بجريانها في ظرفه من أوّل الأمر.
نعم ، الأصل
السببي الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ يسقط بالمعارضة حتى بلحاظ أثره وهو طهارة
وحلّية الملاقي ـ بالكسر ـ من أوّل الأمر ؛ للعلم بجريانه مع جريان أصل مؤمّن آخر
في طرفه ، وهما ترخيص في المخالفة القطعية حتى للنجاسة والحرمة المعلومة والمرددة
بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ.
إلاّ أنّ الأصل
المؤمّن الجاري في نفس الملاقي ـ بالكسر ـ وهو الأصل المسبّبي لا يجري إلاّبعد
تحقق الملاقاة ، وهي غير محرزة من أوّل الأمر.
وهذا نظير ما إذا
علمنا بنجاسة أحد شيئين لم يكن في شيء منهما حالة سابقة للطهارة ، أو لعدم النجاسة
فتعارض أصل الطهارة فيهما وتساقطا وتنجز العلم الإجمالي ، ثمّ بعد اراقة أحد
الطرفين حصل للمكلف يقين سابق بطهارة الطرف الباقي ، أو قامت بينة على طهارته
سابقاً ، فإنّه لا اشكال في جريان استصحاب الطهارة فيه ، والتأمين عن النجاسة التي
كانت منجزة قبل ذلك ؛ لأنّه لا معارض له.
ولا يقال بأنّه
ساقط بالمعارضة مع الأصل المؤمّن في الطرف الذي خرج عن محلّ الابتلاء قبل خروجه
وانّ استصحاب الطهارة المشروط باليقين بالحدوث أيضاً داخل في المعارضة من أوّل
الأمر ـ مع قطع النظر عن مسألة نجاة الأصل غير المسانخ في أحد الطرفين أو يفترض
انّ الطرف الذي خرج عن محل الابتلاء كانت حالته السابقة الطهارة وانّ الجاري فيه
استصحاب الطهارة أيضاً ـ.
نعم ، لو كان يحرز
تحقق الملاقي لأحد الطرفين من أوّل الأمر لم يتم هذا البيان ؛ للعلم بفعلية
الترخيصين حينئذٍ ، ولو في عمود الزمان وهو ترخيص في المخالفة القطعية.
ص ٣٠٥ قوله : ( المقام الثاني ... ).
مباني عدم منجزية
العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف الآخر كما يلي :
المبنى
الأوّل : عدم وجود أصل
معارض للأصل المؤمن الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ الأصل الجاري في الطرف
الآخر قد سقط في زمان سابق بالعلم الإجمالي الأوّل والساقط لا يعود إلى الفعلية
ليعارض الأصل في الملاقي.
وهذا المبنى لا
يتم على القول بالعلية كما انّه لا يصحّح جريان الأصل المؤمن العقلي في الملاقي
إذا لم يكن فيه أصل شرعي ، كما انّه يوجب التفصيل بين فرض تقدم العلم الإجمالي
الأوّل على العلم بالملاقاة أو تقارنه معاً لوحدة زمان فعلية الاصول الثلاثة في
الأطراف. بل لو فرض العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر أوّلاً ثمّ العلم بأنّ
نجاسته على تقدير وجودها كانت بالسراية من الملاقي انعكس الأمر ووجب الاجتناب عن
الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ.
وهذا يطابق مبنى
صاحب الكفاية في حاشيته وفي الكفاية حيث جعل الأقسام ثلاثة كما ذكرنا ، إلاّ انّه
بناه على أساس العليّة ومانعية العلم المتشكل سابقاً عن تشكّل العلم المتأخر وكونه
منحلاً إلى العلم الأوّل والشك البدوي في الطرف الثالث المختص بالعلم المتأخر.
وجواب
هذا المبنى : أوّلاً ـ النقض بالخبرين المتعارضين ثمّ العثور على خبر أو امارة
ثالثة.
وثانياً
ـ بأنّ الميزان في
التعارض والتساقط عن الفعلية في كل زمان وجود العلم الإجمالي في ذلك الزمان لا
الزمان السابق ، ففي زمان العلم بالملاقاة يكون هناك علمان اجماليان أحدهما بقائي
والآخر حدوثي فيؤثران معاً في سقوط الاًول في الأطراف الثلاثة في عرض واحد.
وثالثاً
ـ من تحليل حقيقة
التعارض يعرف انّه مربوط بالخطاب والجعل لا بالمجعول الفعلي ، وإن كان تنافي
المجعولين سبباً له. وبلحاظ عالم الجعل تكون الاصول على نهج القضايا الحقيقية في
عرض واحد.
المبنى
الثاني : الاستفادة من
مبنى سلامة الأصل الطولي لأحد طرفي العلم الإجمالي عن المعارضة مع الاصول المؤمنة
في الطرف الآخر ، فإنّ الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ في طول الأصل في الملاقى ـ بالفتح
ـ لكونه سبباً بالنسبة إليه فلا يدخل في المعارضة مع الأصل المؤمن في الطرف الآخر.
وهذا المبنى أيضاً
لا يتم على مسلك العلية ، ولا يصحّح جريان الأصل المؤمن العقلي ، كما انّه يختص
بما إذا لم يكن في الطرف الآخر أصل طولي ـ وهذا هو الشبهة الحيدرية. إلاّ أنّ هذا
لا يكون في تمام الموارد كما انّه لا يمنع عن
جريان الأصل
الطولي للأصل المسبّبي في الملاقي ـ بالكسر ـ كالبراءة عن شربه أو لبسه في الصلاة.
والجواب
عليه : ما تقدم من
بطلان المبنى في محله ، فالأصل المسبّبي في الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً يدخل في
التعارض والتساقط مع الأصل المؤمن في الطرف الآخر المشترك بين العلمين. مضافاً إلى
عدم صحة الطولية في الاصول المتوافقة ، خصوصاً في مثل أصالة الطهارة في الملاقي
والملاقى ، كما في الكتاب.
نعم ، إذا كان
الأصل المؤمن الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ من غير سنخ الأصلين الجاريين في
الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف الآخر وكانا من سنخ واحد كما إذا كان الجاري فيهما
أصالة الطهارة فقط دون البراءة أو الحل ـ كما إذا كانا ترابين أو ثوبين وقلنا
بشرطية الطهارة في الصلاة ـ وكان الملاقي ماءً مثلاً فأصالة الطهارة في الأطراف
تسقط بالمعارضة لكونها من سنخ واحد ثمّ يرجع إلى البراءة أو أصالة الحل في الملاقي
لتجويز شربه بلا معارض ، وقد تقدم توضيح هذا المبنى في محله.
المبنى
الثالث : دعوى انحلال
العلم الإجمالي ذي المعلوم المتأخر بالعلم الإجمالي ذي المعلوم المتقدم ؛ لأنّه لا
يكون حينئذٍ علماً بالتكليف على كل تقدير ، وقد عبّر عنه بالانحلال الحقيقي في بعض
كلمات الميرزا 1.
وهذا المقدار وافق
عليه السيد الخوئي والسيد الخميني قدس سرهما أيضاً ، إلاّ انّ
الأولين قد جعلا الميزان بسبق المعلوم لا العلم لأنّ الاعتبار والمنجزية في العلم
بجهة كاشفيّته وطريقيّته لا بوجود نفسه بما هو صفة خاصة ، فلو تعلق
العلم بمعلوم سابق
فلابد من ترتيب الأثر من ذلك الزمان دون زمان حدوثه ، ويترتب عليه انّه لو كان
المعلوم بالعلم الإجمالي المتأخر أسبق من المعلوم بالعلم الإجمالي المتقدم خرج
العلم المتقدم عن كونه علماً بالتكليف مطلقاً ويكون موجباً لانحلاله ، فالميزان في
تأثير العلم وعدمه هو سبق المعلوم وعدمه دون نفسه.
بينما السيد
الخميني 1 جعل الميزان سبق العلم في دورته الأخيرة كما انّ المحقق النائيني طبّق
الانحلال على السبق الرتبي أيضاً مع اختلاف في تعبيرات تقريريه في البيان وتقرير
المطلب ـ على ما سنشير إليه ـ بينما السيد الخوئي 1 طبّقه على السبق الزماني فحسب ولم يقبله بلحاظ التقدم
الرتبي فجعل ميزان الانحلال بالسبق الزماني لمعلوم أحد العلمين الاجماليين على
معلوم الآخر ، فمع عدم السبق لا انحلال كما انّه اشترط في الانحلال عدم جريان أصل
طولي مؤمن في الطرف المشترك بلا معارض وإلاّ لم يتم الانحلال بل تشكل علم اجمالي
منجّز.
والسيد الامام
الخميني 1 طبقه في الدورة الاولى على سبق المعلوم وفي عالم الرتب كالمحقق النائيني 1 ولكن عدل عنه في
دورته الثانية ـ كما في تهذيب الاصول ـ فطبقه بلحاظ سبق أحد العلمين لأنّ التنجيز
من شؤون العلم فصارت النتيجة ما ذهب إلى صاحب الكفاية من التفصيل الثلاثي والذي
ذكرناه في المبنى الأوّل ولكن لا من جهة عدم تعارض الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ مع
الأصل في الطرف المشترك بل من جهة عدم تشكل علم اجمالي متأخر بعد سبقه بعلم اجمالي
آخر وانحلاله به مع كون الميزان في الانحلال وعدم تشكل العلم الإجمالي بسبق نفس
العلم زماناً لا معلومه ، فلا أثر لسبق المعلوم كما
لا أثر للسبق
الرتبي وإنّما الميزان في الانحلال بسبق العلم زماناً فحسب.
واليك تفصيل هذا
المبنى الذي أساسه للمحقق النائيني 1 مع ما اجري عليه من التعديلات في كلمات السيد الخوئي
والسيد الامام الخميني قدس سرهما فنقول :
المحصّل من كلام
المحقق النائيني 1 في مجموع التقريرين امور ثلاثة كما في الكتاب :
١ ـ انّ العلم
الإجمالي إذا لم يكن علماً بالتكليف المنجز على كل تقدير لم يكن علماً اجمالياً
منجزاً ، وهذا يتوقف على أن لا يكون أحد طرفيه منجزاً بمنجز آخر شرعي أو عقلي
وإلاّ لم يكن علماً بتكليف منجز على كل تقدير إذ أحد طرفيه منجز والتكليف لو كان
فيه فهو معلوم من أوّل الأمر فليس العلم الثاني إلاّشكاً في حدوث تكليف جديد ،
وهذا هو المقصود من الانحلال في المقام.
٢ ـ انّ التنجيز
من آثار طريقية العلم وانكشاف معلومه فيكون الميزان بسبق المعلوم لا نفس العلم.
٣ ـ انّ سبق
المعلوم رتبة يكفي أيضاً للانحلال المذكور ولو لم يكن سابقاً في الزمان.
ونتيجة هذه الامور
الثلاثة انحلال العلم الإجمالي الثاني أي بين الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف بالعلم
الإجمالي الأوّل في تمام الفروض لكون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ متأخر رتبة عن
نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ.
والسيد الخوئي
وافق الميرزا في الأوّل والثاني وخالفه في الثالث ، ولهذا جعل
الميزان بسبق المعلوم
زماناً ولو تأخر نفس العلم ونتيجته التفصيل بين موارد وحدة زمان الملاقاة والنجاسة
المعلومة في الملاقى ـ بالفتح ـ وموارد تأخر الملاقاة عن زمان تلك النجاسة مع
استثناء سيأتي التعرض إليه ، فيكون التقسيم ثنائياً لا ثلاثياً لعدم تصور سبق
نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على الملاقى ـ بالفتح ـ.
والسيد الإمام 1 في دورته الأخيرة
لم يقبل الأمرين الثاني والثالث معاً وإنّما قبل الأوّل منها فحسب ، ومن هنا جعل
الميزان في الانحلال وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي أو الملاقى أو كلاهما بسبق
العلم لكون التنجيز من آثار نفس العلم لا المعلوم فكانت النتيجة التفصيل بنحو
التثليث المتقدم عن صاحب الكفاية.
والصحيح عدم
تمامية الامور الثلاثة ، وتوضيح ذلك :
أمّا الأمر الأوّل فله
تقريبان :
أحدهما : ما هو ظاهر بعض عبائر تقريري المحقق النائيني 1 وظاهر بعض عبائر
السيد الامام الخميني 1 في تهذيب الاصول ، من أنّ العلم الإجمالي الثاني إذا كان
أحد طرفيه متنجزاً ومنكشفاً بعلم اجمالي أسبق فإنّه لا يكون علماً اجمالياً بتكليف
منجز على كل تقدير إذ أحد الطرفين معلوم تفصيلاً تنجز التكليف فيه ووجوب الاجتناب
عنه سابقاً بلا ترديد والباقي مشكوك من رأس.
وهذا البيان جوابه
: انّه خلط بين العلم بالالزام والتكليف المولوي والعلم بالالزام العقلي المعبّر
عنه بالمنجزية واستحقاق العقوبة على المخالفة ، إذ ما يكون معلوماً ومنكشفاً في
الطرف المشترك تعييناً وتفصيلاً إنّما هو منجزيته عقلاً
بسبب العلم
الإجمالي وما هو معلوم العلم الإجمالي الثاني إنّما هو الالزام والتكليف المولوي
وهو غير معلوم في الطرف المشترك ، فلا وجه لتوهم الانحلال الحقيقي على هذا الأساس.
نعم ، قد يدعى
الانحلال الحكمي امّا على أساس ما تقدم من عدم التعارض بين الأصل الجاري في
الملاقي ـ بالكسر ـ مع الأصل في الطرف المشترك بناءً على مسلك الاقتضاء بأحد
المبنيين المتقدمين ، وقد تقدم جوابهما. أو على أساس ما سيأتي من المحقق العراقي
من أنّ المتنجز لا يمكن أن يتنجز من جديد بمعنى آخر غير المعنى المتقدم لا ينافي
فعلية العلمين الاجماليين وسيأتي بيانه ودفعه في المبنى الرابع القادم.
الثاني : ما هو ظاهر بعض عبائر أجود التقريرات وصريح عبائر السيد
الخوئي 1 في تقريرات بحوثه الاصولية والفقهية من أنّ العلم الإجمالي الثاني ـ أي
المتأخر ولو بحسب المعلوم في نظره ـ لا يكون علماً بالتكليف على كل تقدير لأنّه لا
يكون علماً بحدوث تكليف جديد ؛ إذ لعلّه يكون في الطرف المشترك فيكون نفس التكليف
الأوّل المعلوم.
وهذا البيان لا
يرد عليه ما تقدم في دفع البيان السابق ، ولكن يرد عليه : أنّ العلم بالحدوث ليس
دخيلاً في منجزية العلم الإجمالي وإلاّ لزم عدم منجزية العلم الإجمالي بالتكليف
إذا كان مسبوقاً بالشك ثمّ علم بفعليّته في هذا الزمان مع الشك في تقدمه أو حدوثه
، بل الميزان والملاك في منجزية العلم والانكشاف تعلّقه بأصل التكليف في زمان سواء
كان حدوثياً أو بقاءً ، وبعد الملاقاة يعلم المكلف وجداناً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر
ـ ووجوب الاجتناب عنه شرعاً أو نجاسة الطرف المشترك ووجوب الاجتناب عنه شرعاً ،
وهذا علم بتكليف
مولوي شرعي فيكون
منجزاً بهذا العلم سواء كان معلومه تكليفاً حادثاً ـ كما إذا كان في الملاقي ـ أو
كان بقاءً للتكليف الحادث سابقاً ـ كما إذا كان في الطرف المشترك ـ.
والغريب صدور مثل
هذه الكلمات عن هؤلاء الفحول ، ولعلّه لتوجيه ما اشتهر في الفقه من عدم وجوب
الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة.
وأمّا الأمر الثاني فهو
أيضاً له تقريبان :
أحدهما : ما في الكتاب وهو ظاهر عبائر تقريرات الميرزا 1 وصريح عبائر
السيد الامام الخميني 1 في مناقشته مع الميرزا 1 من انّ ملاك التنجيز والاعتبار للعلم بالمنكشف لا الكاشف
لأنّه من شؤون طريقيته ولهذا يتنجز بالعلم آثار المعلوم الالزامية من زمان انكشافه
السابق على زمان نفس العلم وبناءً عليه يكون الميزان بسبق الملعوم لا العلم ، إذ
يتنجز المعلوم الأسبق قبل المعلوم المتأخر فينحل العلم الإجمالي ذي المعلوم
المتأخر بالعلم الإجمالي ذي المعلوم المتقدم.
وهذا
البيان جوابه : ما في الكتاب وفي تقريرات الامام الخميني 1 أيضاً من أنّ المنجزيّة من آثار نفس العلم لا المعلوم وإن
كان ما يتنجز من الآثار والأحكام ترتيب الآثار الالزامية من زمان المعلوم فإنّ هذا
ليس معناه سبق التنجيز على العلم بل معناه تعلّق التنجيز الحادث عند حدوث العلم
بتمام قطعات المعلوم ، فالمعلوم على امتداده يتنجز من الآن أي من حين حدوث العلم ،
وفرق بين تنجّز التكليف السابق فعلاً والتنجز السابق أي فرق بين ما يتنجز بالعلم
من الآثار وبين نفس تنجيز العلم وما يمكن أن يكون سابقاً على العلم الأثر المتنجز
بالعلم لا نفس التنجّز فإنّه لازم وتابع لنفس العلم بما هو كاشف ، وهذا واضح. ومعه
فلا يكون مجرد سبق
أحد المعلومين سبباً ومنشأ لانحلال العلم الإجمالي بالمعلوم المتأخر ، مضافاً إلى
اشكال آخر مذكور في الكتاب فراجع.
الثاني : ما هو ظاهر عبائر السيد الخوئي 1 في تقريراته ، من
أنّ سبق المعلوم يوجب انقلاب العلم الإجمالي ذي المعلوم المتأخر وانحلاله به لأنّ
حقيقة العلم هو الانكشاف فإذا انكشف ولو بالعلم المتأخر سبق المعلوم لم يكن العلم
بالمعلوم المتأخر ـ ولو كان متقدماً من حيث زمان نفس العلم ـ علماً بحدوث تكليف
بقاءً بل ينقلب إلى الشك في حدوث تكليف آخر وإن كان كذلك حدوثاً وقبل حصول العلم
بالمعلوم المتقدم ، فليس المقصود انّ تنجيز العلم يكون أسبق من زمان العلم ليجاب
بما تقدم فإنّ هذا بيّن الفساد وإنّما المقصود أنّ العلم ذا المعلوم المتقدم وان
حصل متأخراً يوجب زوال كاشفية العلم ذي المعلوم المتأخر فيوجب انحلال العلم الأوّل
وزواله بقاءً وانقلابه إلى شك بدوي بحدوث تكليف في عمود الزمان لا محالة إذا قبلنا
أصل الانحلال بالتقريب المتقدم عن السيد الخوئي 1.
وهذا البيان جوابه
ما تقدم في ابطال الأمر الأوّل من انّ العلم بالحدوث ليس دخيلاً في المنجزية أصلاً
وإنّما المنجز العلم بذات التكليف وهو لا ينحل حتى بقاءً كما تقدم.
وأمّا الأمر الثالث :
وهو تعميم
الانحلال للسبق الرتبي للمعلوم ، فهو واضح البطلان كما ذكره العلمان وكما هو مبيّن
في الكتاب فراجع اشكالاته هناك ، مضافاً إلى انّ الترتّب بين النجاستين في الملاقى
والملاقي وليس العلم بها منجّزاً وإنّما المنجز الحرمة
التكليفية ولا
ترتب بينهما في الملاقى والملاقي إلاّعلى مبنى انّ ما مع المتقدم متقدم على
المتأخر عن أحدهما وقد تقدم بطلانه في محله.
إلاّ انّ الموجود
في تقريرات النائيني 1 ، وكذلك في تقريرات السيد الخوئي 1 ـ الدراسات ـ أنّ
المقصود في موارد عدم سبق المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل زماناً إنّما هو
الانحلال الحكمي لا الحقيقي ، من جهة انّ الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ لا
يكون في رتبة الأصل الجاري الملاقى ـ بالفتح ـ بل يكون متأخراً عنه رتبةً ، فلا
يدخل في المعارضة مع الأصل الجاري في الطرف المشترك لكونه طولياً وفي موضوع آخر
مستقل غير موضوع الأصل المتقدّم عليه في الرتبة.
وفي مثله يقبل
الميرزا 1 سلامة الأصل الطولي عن المعارضة فيكون من الانحلال الحكمي ـ راجع أجود
التقريرات تجد التصريح بذلك ـ فكأنّه بهذا أراد الميرزا دفع اشكال عدم الانحلال
الحقيقي فيما إذا كان زمان المعلومين متحداً فتشكّل علم اجمالي بنجاسة الملاقي
والملاقى أو الطرف في زمان واحد حيث استند إلى الانحلال الحكمي بالبيان المذكور ،
فلا يرد عليه ما في الكتاب وإنّما يرد عليه ما تقدم في دفع المبنى الثاني المتقدم.
وهكذا يتضح عدم
صحة أصل هذا المبنى وانّ العلم الإجمالي الثاني منجّز كالأوّل سواء تأخر علماً أو
معلوماً أو تقدّم لأنّه غير منحلّ بالعلم الأوّل لا حقيقة ولا حكماً.
ثمّ إنّ السيد
الخوئي 1 استثنى ما إذا كان يجري في الطرف المشترك أصل مؤمّن سليم عن المعارضة والسقوط
بالعلم الإجمالي الأوّل في تمام الصور التي
حكم فيها
بالانحلال لسبق زمان نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ على زمان الملاقاة ؛ لأنّه يتشكل
علم اجمالي بالتكليف امّا في الملاقي ـ بالكسر ـ أو في الطرف المشترك فيتعارض فيه
الأصلان.
وهذا المطلب وإن
كان صحيحاً إلاّ انّه بنفسه يكشف عن بطلان أصل المبنى الذي اعتمده من الانحلال
الحقيقي فإنّه يكشف عن عدم الانحلال الحقيقي لأنّ هذا العلم الإجمالي الذي ذكره
وأكّد على تنجيزه ليس علماً اجمالياً جديداً بل هو نفس ما ذكر انحلاله وانّه ليس
علماً بحدوث تكليف على كل تقدير وانّه شك بدوي في حدوث تكليف جديد ، وهل يعقل أن
يكون جريان أصل مؤمّن بلا معارض في الطرف المشترك موجباً لتحقق علم اجمالي جديد؟
فيكون هذا خير
منبّه على أنّ المنجّز ليس هو العلم بحدوث التكليف بل بذات التكليف المولوي وهو
محفوظ سواء جرى في أحد الطرفين أصل مؤمن مختصّ غير معارض أم لم يجر ، فلابد من
التشبّث بالانحلال الحكمي لمن يريد اجراء الأصل المؤمن في الملاقي ـ بالكسر ـ لا
دعوى الانحلال الحقيقي ، اللهم إلاّ إذا فسّرنا الأمر الأوّل من مقدمات الميرزا 1 بالتفسير الأوّل
أي خلطنا بين العلم بالتكليف المولوي والتنجز العقلي ، حيث لا تنجز للطرف المشترك
عندئذٍ إذا كان مجرىً لأصل مؤمن مختص غير ساقط بالمعارضة.
إلاّ انّ هذا
التفسير قد عرفت انّه غير ظاهر من كلمات السيد الخوئي 1 ، لا في أجود
التقريرات ولا في الدراسات كما انّه واضح البطلان كما تقدم.
فالحاصل
: الجمع بين هذا
الاستثناء وبين مبنى الانحلال الحقيقي بالتفسير المذكور في كلمات السيد الخوئي 1 من انّه لابد أن
يكون العلم الإجمالي علماً
بحدوث تكليف على
كل تقدير يستبطن التناقض ، وهذا من جملة التشويشات أيضاً في هذه المسألة.
وأمّا ما ذكره 1 في صورة وحدة
زمان المعلومين للعلمين الاجماليين من تنجزهما ووجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى
معاً وإن كان زمان العلم بالملاقاة متأخراً عن العلم الإجمالي فهو مبني على أنّ
العلم الإجمالي الأوّل وإن كان موجوداً حدوثاً ومنجّزاً إلاّ انّه بقاءً ينقلب إلى
العلم بوجود نجاستين في الملاقي والملاقى أو نجاسة في الطرف المشترك فينجّز كليهما
لا محالة.
وإن شئت قلت : بعد
العلم بالملاقاة يتشكل علمان اجماليان لا سبق لمعلوم أحدهما على الآخر فلا موجب
للانحلال لا الحقيقي ولا الحكمي ، فليس المقصود انحلال العلم الإجمالي الأوّل فلا
يرد ما ذكره السيد الشهيد الصدر 1 على هذا البيان في شرح العروة ص ٢٤٨ ، وكأنّ نظر السيد
الشهيد 1 إلى التقريب الميرزائي للانحلال الحقيقي ، فإنّه بناءً عليه يصح أن يقال :
انّ ذات العلم الأوّل موجود ومحفوظ بعد العلم بالملاقاة أيضاً ، فالطرف المشترك
معلوم التنجز بالعلم الأوّل فلا يتشكل علم اجمالي ثانٍ ؛ وأمّا على التفسير الذي
استظهرناه من كلمات السيد الخوئي 1 ، فلا يرد هذا الكلام كما ذكرنا.
استدراكان :
الأوّل : قد يستظهر من كلام السيد الإمام تقريب آخر للانحلال
حاصله : انّ الانكشاف والعلم لا يتعدد نحو معلوم واحد ، وهذا معنى قوله المتنجز لا
ينجز والمنكشف لا ينكشف مرتين ، فالعلم الإجمالي الثاني حيث انّ معلومه على أحد
التقديرين نفس معلوم العلم الإجمالي الأوّل ، فهذا لا يكون علماً وانكشافاً
آخر غير نفس العلم
الأوّل ، إلاّ إذا كان في مورد الافتراق أي الملاقي ـ بالكسر ـ وهو مشكوك فيكون من
الشك البدوي.
وفيه : انّ الميزان في تعدّد العلم إنّما هو تعدد المعلوم
بالذات والصورة الذهنية المتعلق بها العلم لا المعلوم بالعرض إلاّ إذا علم وحدة
المعلومين في الخارج ، وفي المقام كما يعلم المكلف بأنّ احدى الصورتين من الملاقى
ـ بالفتح ـ والطرف يكون نجساً كذلك يعلم انّ احدى الصورتين من الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف
يكون نجساً على حد واحد. نعم لا يعلم المكلف بتعدد المعلوم بالعرض ، أي النجس في
الخارج لاحتمال انطباقهما على الطرف المشترك ؛ إلاّ أنّ هذا لا يعني وحدة العلمين
ما لم يعلم بوحدة المعلومين خارجاً لتعدد الصورة الذهنية المردّدة أو الاجمالية ،
فإنّ عنوان أحد الطرفين الأولين غير عنوان أحد الطرفين الآخرين ، وهذا واضح.
الثاني : انّ هناك برهاناً على عدم انحلال العلم الإجمالي الثاني
انحلالاً حقيقياً وهو أنّ المكلف بالعلم الأوّل لا يعلم اجمالاً إلاّبنجاسة واحدة
بين الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف بينما بعد حصول الملاقاة والعلم بها يعلم اجمالاً
بنجاسة في الطرف أو نجاستين في الملاقى والملاقي في الطرف الآخر تماماً كما إذا
أعلمه الصادق أنّ النجاسة امّا في الاناء الكبير أو في كلا الانائين الصغيرين
فإنّه أكثر من العلم بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير مع الشك في نجاسة اناء
ثالث. وهذا لعمري واضح جداً لا أدري كيف خفي على الأعلام.
والظاهر من عبائر
فوائد الاصول قبوله لتحقق العلم الإجمالي الثاني ، بل والثالث الذي هو جمع بين العلمين
الأوّل والثاني وهو العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو الطرف المشترك ؛ لأنّه صرّح
بأنّ وجدانية حصول العلمين
المذكورين بعد
الملاقاة لا يتكرر إلاّ انّه ادّعى انحلالهما ، امّا الأوّل فلأنّ أحد طرفيه منجز
بمنجز عقلي وهو كالمنجز الشرعي يوجب الانحلال ، ومن الواضح انّ هذا انحلال حكمي لا
حقيقي. وأمّا الثاني فلأنّ الأصل المؤمّن في الملاقي يجري في طول الأصل المؤمّن في
الملاقى فيكون من الأصل الطولي في موضوع آخر وهو لا يدخل في المعارضة مع الأصل في
الطرف المشترك ، وهذا أيضاً انحلال حكمي لا حقيقي فراجع وتأمل.
ويمكن علاوة على
هذا البرهان النقض على الأعلام بأنّه لا اشكال في وجوب الاجتناب عن الأواني
الثلاثة في المثال المتقدم عند الجميع ، مع انّه لا فرق في ذلك بين أن تكون
النجاسة على تقدير كونها في الانائين الصغيرين قد حصل فيهما في زمان واحد أو في
زمانين ، كما إذا أخبر الصادق بأنّه امّا الاناء الكبير نجس أو الانائين الصغيرين
، ولكن نجاسة أحدهما كان قبل الآخر بساعة مثلاً ، فإنّه هل يتوهم أحد أنّه بذلك
يخرج الاناء الصغير المتأخر نجاسته عن الطرفية للعلم الإجمالي باعتبار السبق
الزماني للنجاسة الاخرى المعلومة المردّدة بين الاناء الكبير والاناء الصغير الآخر
فينقلب إلى الشك البدوي؟ وأي فرق بين هذا المثال وبين ما نحن فيه ، فإنّ الملاقاة
ليست إلاّسبباً من أسباب نجاسة الملاقي وهل يعقل الفرق بين هذا السبب وبين سبب آخر
للنجاسة وهو وقوع قطرتين متتاليتين في عمود الزمان في الانائين الصغيرين؟
فالحاصل
: لا ينبغي الاشكال
في تشكل علم اجمالي منجز للأواني الثلاثة فيما إذا كان اناءان في طرف وإناء في طرف
آخر للعلم الإجمالي حتى إذا كانت النجاسة في الانائين طوليتين من حيث زمان المعلوم
أو زمان العلم لعدم الانحلال فكذلك في المقام.
وبهذا البيان يظهر
أيضاً بطلان توهم الانحلال فيما إذا علم نجاسة أحد انائين اجمالاً ثمّ علم بوقوع
قطرة نجس في أحدهما أو اناء ثالث فإنّ هذا العلم الإجمالي أيضاً يكون منجزاً
وموجباً لوجوب الاجتناب عن الاناء الثالث أيضاً لتشكل العلم الإجمالي الثاني بل
والثالث بالنسبة إليه.
والمسألة واضحة ،
والأعلام كأنّهم تحت وطأة الفتوى الفقهية المشهورة حاولوا التشبّث بمثل هذه
البيانات ، والله الهادي للصواب.
المبنى
الرابع : هو الانحلال
الحكمي بالطريقة التي يبني عليها المحقق العراقي 1 من أنّ العلم الإجمالي المتأخر رتبة المتولّد عن العلم
الإجمالي المسبّب له لا يكون منجزاً ؛ لأنّ أحد طرفيه منجّز في الرتبة السابقة لا
في الزمان السابق ليقال بأنّ الميزان بالوجود البقائي للعلم الأوّل وهو في عرض
حدوث العلم الثاني. فإذا كان كذلك فلا يصلح العلم الثاني المتولد عن الأوّل لتنجيز
كلا طرفيه في مرتبة وجوده لأنّ المتنجز لا يتنجّز. وجوابه ما في الكتاب فراجع.
ص ٣١٥ قوله : ( الأوّل ـ حاول بعضهم ...
).
ذكر هذا الفرع
المحقق الخراساني وأجاب عليه السيد الخوئي 1 في الدراسات ( وهو موجود في تعليقات العراقي على الفوائد
أيضاً ) بأنّ خروج الملاقى عن محل الابتلاء لا ينافي جريان الأصل فيه إذا كان له
أثر فعلي ، ومنه طهارة ملاقيه أو طهارة ما غسل به إذا كان ماءً فيتعارض أصالة
الطهارة في الملاقى مع الأصل المؤمّن في الطرف ويتساقطان ويبقى أصالة الطهارة في
الملاقى بلا معارض على التفصيل المتقدم منه. خلافاً للميرزا 1 حيث وافق الكفاية
في وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذا الفرع.
وهذا غريب من
السيد الخوئي 1 على مبناه 1 ؛ لأنّه لم يقبل مبنى سلامة الأصل الطولي بل بالعكس
الميرزا الذي قبل هذا المبنى كان ينبغي له المصير إلى ذلك ، وهذا من الغرائب ،
فالسيد الخوئي الذي كان يجري الأصل المؤمّن في الملاقي على أساس مبنى انحلال العلم
الإجمالي الذي معلومه متأخر بالعلم الإجمالي الأسبق معلومه زماناً لعدم كونه علماً
بتكليف جديد ، حينئذٍ كان ينبغي أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي في المقام ؛
لأنّ هذا المبنى من الواضح عدم جريانه هنا ؛ لأنّه فرع أن يكون العلم الإجمالي
الأسبق علماً بفعلية التكليف وحدوثه ، وفي المقام لا يكون العلم الإجمالي الأسبق
كذلك لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء حين تشكل العلم ، فلا يكون علماً بحدوث
تكليف فعلي على المكلّف حين حصول العلم له ، بل شك بدوي في فعلية التكليف في الطرف
الباقي ، ومثل هذا العلم لا يمكنه أن يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني إلى شك
بدوي في حدوث تكليف جديد ، بل يكون علماً بحدوث تكليف فعلي إمّا في الملاقي ـ بالكسر
ـ أو في الطرف المشترك الباقي كما هو واضح ، فيكون منجزاً لا محالة وموجباً لتساقط
الأصل في الملاقي مع الأصل في الطرف المشترك.
لا
يقال : إنّما يصحّ هذا
إذا كانت النجاسة المعلومة اجمالاً في الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف المشترك ،
حاصلة بعد خروج الملاقى ـ بالفتح ـ عن محلّ الابتلاء أو عن المقدورية وحصول
الملاقاة معه وهو خارج ثمّ دخول الملاقي ـ بالكسر ـ في محلّ ابتلاء المكلف أو
نجاسة الطرف المشترك فقد حصل العلم بفعلية التكليف إجمالاً لا محالة ، ومعلومه
أسبق زماناً من العلم الإجمالي الثاني فيوجب انحلاله وصيرورته شكاً بدويّاً لا
علماً بحدوث تكليف جديد.
فلعلّ السيد
الخوئي 1 ينظر إلى هذه الفرضية.
فإنّه
يقال : هذا لازمه عدم
وجوب الاجتناب عن الطرف المشترك الباقي حينئذٍ ، وبالتالي الترخيص في المخالفة
القطعية ؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني ليس علماً بحدوث تكليف جديد بل شك في
التكليف ـ بناءً على الانحلال ـ والعلم الإجمالي الأوّل وإن كان علماً بحدوث
التكليف سابقاً في هذه الفرضية ، إلاّ أنّه ليس منجزاً للطرف الباقي منه ؛ لأنّه
من حين حصوله يكون أحد طرفيه خارجاً عن محل الابتلاء فلا يكون منجزاً ؛ ولهذا لا
اشكال في جريان الأصل المؤمّن عن الطرف الباقي لولا الملاقي في هذه الفرضية ، وهذا
يعني انّه لا منجّز للطرف الباقي لا العلم الإجمالي الأوّل ، لما ذكرناه ولا العلم
الإجمالي الثاني لانحلاله وعدم كونه علماً بحدوث تكليف جديد ، فيجوز ارتكابه مع
الملاقي ، وهو ترخيص في المخالفة القطعية ، وهو واضح الفساد.
وهذا من اللوازم
الباطلة للمبنى المتقدم منه ومن الميرزا ، في كون الميزان بالمنكشف لا الكاشف حيث
انّه لو لم يجب الاجتناب عن الطرف المشترك أيضاً لزمت المخالفة القطعية ، وإن وجب
فهذا لازمه أن يقال بتنجيز الطرف المشترك بعلم إجمالي حين حدوثه وحصوله يكون أحد
طرفيه خارجاً عن محل الابتلاء أو المقدورية العقلية أو تلف قبل حصول العلم ، أو
علم تفصيلاً بحصول نجاسة اخرى فيه بعد الملاقاة ، مع انّه من الواضح عدم مصير أحد
إلى ذلك لعدم كونه علماً بتكليف فعلي في حقه لا قبله ـ لعدم العلم ـ ولا بعد حصول
العلم لخروج أحد الطرفين وعدم جريان الأصل فيه.
وهكذا يتضح انّ
الانحلال بالسبق المعلومي على فرض قبوله لابد من فرضه في علمين اجمالين منجزين في
نفسيهما ، لا المقام والموارد الاخرى المشابهة
له والتي أشرنا
اليها ، فإنّه لا اشكال في تشكل العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي بين الطرف المشترك
أو الملاقي ، وهو ينجز كلا طرفيه ، ومن هنا كان المتعين على مثل السيد الخوئي أن
يقبل ما ذكره الميرزا من وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ قبل دخول الملاقى ـ بالفتح
ـ في محل الابتلاء ، وكان المتعين على مثل الميرزا الذي يقبل سلامة الأصل الطولي
أن يقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي مطلقاً ، كما جاء ذلك في حاشية المحقق
العراقي 1 على الفوائد فراجع.
وبناءً على ما
ذكرنا مثل الميرزا والسيد الخوئي قدس سرهما اللذان يقبلان
انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الأوّل الذي يكون معلومه أسبق زماناً فقط ـ كالسيد
الخوئي ـ أو الأعم منه ومن الأسبق رتبة ـ كالميرزا ـ لابد وأن يحكما في هذا الفرع
بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى إذا دخل في محل الابتلاء بعد ذلك ؛ لأنّه لا يوجب
العلم بحدوث تكليف جديد غير ما كان قبل الدخول في محلّ الابتلاء ؛ إذ لعله في
الطرف المشترك فيكون نفس التكليف المعلوم اجمالاً قبل الدخول في محل الابتلاء ـ هذا
بتقريب السيد الخوئي 1 ـ أو لكون الطرف المشترك معلوم الوجوب عقلاً تفصيلاً ـ بتقريب
الميرزا 1 ـ والتقدم الرتبي لمعلوم العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف بعد دخوله في محل
الابتلاء لا ينفع شيئاً لأنّه فرع تحقق العلم الإجمالي وعدم انحلاله الحقيقي ـ كما
هو مدّعى هذا المبنى ـ حتى يكون سبق معلومه رتبةً موجباً لانحلال العلم الآخر ،
فإذا كان العلم الآخر معلومه وهو الحرمة فعلياً قبل فعلية حرمة الملاقى ـ بالفتح ـ
بدخوله في محلّ الابتلاء ، أو بتعبير الميرزا 1 طرفه المشترك يجب اجتنابه تفصيلاً قبل دخول الملاقى ـ بالفتح
ـ في محل الابتلاء فلا يتشكل علم إجمالي بحرمة جديدة بين الملاقى ـ بالفتح ـ بعد
دخوله في محلّ الابتلاء وبين الطرف
المشترك ، بل شك
بدوي لسبق زمان التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي الدائر بين الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف
المشترك.
ومنه يظهر الاشكال
على الكتاب فإنّه لا يجب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ بعد دخوله في محل الابتلاء
على مبنى الميرزا 1 والسيد الخوئي ، كما انّه يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر
ـ حتى بعد دخول الملاقى في محل الابتلاء.
وما ذكر في ص ٣١٦
من عدم السبق الرتبي لمعلوم العلم الآخر عليه وعدم فائدة السبق الزماني لأنّه ليس
التقدم والتأخر في الطرف المشترك ومن عدم وجوب الاجتناب عندئذٍ عن الملاقي لانحلال
علمه بالعلم الأسبق معلومه منه رتبة بين الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف غير وجيه.
نعم إنّما يتجه
على مبنى العراقي 1 الذي يرى الميزان بالتقدم الرتبي فحسب لا الزماني وللعلم
لا للمعلوم ( مع قطع النظر عن اشكال العلم الإجمالي التدريجي بين الطرف قبل دخول
الملاقى ـ بالفتح ـ والملاقي ـ بالكسر ـ بعد دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل
الابتلاء ) حيث يكون العلم الإجمالي الأوّل بقاءً ـ الذي هو الميزان في المنجزية
في كل زمان ـ متقدماً رتبة عن العلم الإجمالي الثاني ـ أي بين الملاقي والطرف المشترك
ـ فيكون تنجز الطرف المشترك به ومعه لا يمكن للعلم الإجمالي الثاني أن ينجزه في
هذا الزمان لأنّ المتنجز في رتبة سابقة لا يمكن أن يتنجز ، ومعه فلا يتنجّز
الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً.
وأمّا على مبنى
العلمين فالصحيح انحلال العلم بحرمة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف بالعلم بحرمة
الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف بعد دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء ، لكون
معلومه بما هو تكليف فعلي ومنجّز أسبق زماناً ، عن
معلوم العلم
الأوّل بما هو كذلك ، فهو متعيّن للانحلال. وما ذكر من عدم كون التقدم والتأخر في
الطرف المشترك اشكال على أصل المبنى ، فلا معنى لايراده في المقام بعد فرض قبول
المبنى والبحث على أساسه.
وبهذا ظهر انّه
على مبنى السيد الخوئي 1 أيضاً تكون الأقسام ثلاثة أي قد يجب الاجتناب عن الملاقي
دون الملاقى وقد ينعكس وقد يجب الاجتناب عنهما معاً ، كما ذكر صاحب الكفاية 1.
والمتحصل : انّه على المختار يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى في
هذا الفرع مطلقاً كما في غيره.
وعلى مسلك سلامة
الأصل الطولي لا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ مطلقاً ويجب عن الطرف المشترك
، وكذلك عن الملاقى ـ بالفتح ـ إذا دخل في محل الابتلاء كما هو المشهور.
وعلى القول
بانحلال العلم المتأخر زماناً بالمتقدم حقيقة أو حكماً لعدم رجوع الأصل الجاري في
الطرف المشترك الساقط في الزمان السابق من جديد ليعارض الأصل في الطرف المختص
بالعلم الإجمالي المتأخر زماناً ، يتم ما ذكره الخراساني من وجوب الاجتناب عن
الملاقي دون الملاقى حتى إذا دخل في محل الابتلاء.
ومن يجمع بين هذين
المسلكين يجب عليه الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ أيضاً بعد دخوله في محل
الابتلاء ، كما هو مذكور في الكتاب.
وعلى القول بمسلك
العراقي من انّ المتنجز في الرتبة السابقة لا يمكن أن يتنجز بالمنجّز المتأخر رتبة
ـ وامّا الزمان فلا أثر له لأنّ المنجّز للوجود البقائي
في كل زمان وهو في
عرض المتأخر زماناً ـ فالنتيجة وجوب الاجتناب عن الملاقي قبل دخول الملاقى في محل
الابتلاء ، وأمّا الملاقى فيجب الاجتناب عنه بعد دخوله في محل الابتلاء ، وأمّا
الملاقي حينئذٍ فمع قطع النظر عن العلم الإجمالي التدريجي المتضمّن في العلم
الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف من أوّل الأمر ينبغي الحكم بالانحلال ولكن
بلحاظه يجب الاجتناب عنه أيضاً لأنّه وإن كان معلولاً للعلم الإجمالي بنجاسة
الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف المشترك إلاّ أنّ هذا الأخير لا ينجز طرفيه إلاّبعد
دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فيمنع عن منجزية العلم الإجمالي بنجاسة
الملاقي أو الطرف المشترك في هذا الزمان لا العلم الإجمالي التدريجي الذي أحد
طرفيه وهو الطرف المشترك سابق على هذا الزمان فهذان الطرفان المعلوم حرمة أحدهما
من أوّل الأمر لا تنجّز لشيء من طرفيه بمنجّز أسبق رتبة ليقال ( بأنّ المتنجز لا
يتنجز فلا يمكن للعلم المتأخر أن ينجز الطرف الآخر أيضاً ) بل كلا طرفيه يتنجزان
بالعلم الإجمالي المذكور.
وما في تقريرات
السيد الحائري من الاشكال بأنّ العلم الإجمالي التدريجي لابد وأن يكون صالحاً
للتنجيز مع قطع النظر عن سبق أحد طرفيه زماناً بحيث لو كان فعلياً لكان صالحاً
للتنجز بهذا العلم الإجمالي ، وفي المقام لو كان فعلياً لم يكن صالحاً لكون طرفه
السابق منجزاً حينئذٍ بعلم أسبق رتبة.
جوابه : انّه لا موجب لهذه المصادرة الاضافية منه وإنّما اللازم
بقاء نفس العلم الإجمالي التدريجي الحاصل من أوّل الأمر وعدم حصول تبدّل بالنسبة
لمعلومه الإجمالي المردد بين الطرفين في الزمانين لا أكثر من ذلك ، وهذا حاصل في
المقام.
نعم ـ كما في
الكتاب ـ هذا العلم الإجمالي التدريجي لا يضر بمبنى تأثير العلم المتقدم معلومه
رتبة في الانحلال ـ الذي هو الصياغة الميرزائية ـ لأنّ الميرزا لا يبني انحلاله
على أساس انّ المتنجز لا يتنجز بل يرى الانحلال ـ وقد يسميه بالحقيقي ـ لنفس تقدم
معلوم أحد العلمين على الآخر رتبة حيث يكون سبباً لعدم انعقاد العلم المتأخر
معلومه وانحلاله ، وهذا بقاءً حاصل في المقام حتى بالنسبة لهذا العلم الإجمالي
التدريجي المتضمّن.
إلاّ أنّ الميرزا 1 حيث يقبل
الانحلال الحقيقي بسبق معلوم أحد العلمين على الآخر زماناً أيضاً ـ فضلاً عن السيد
الخوئي الذي يرى تعين ذلك في الانحلال المذكور ـ فلا يتشكل العلم بالتكليف المردّد
بين الملاقى بعد دخوله في محل الابتلاء والطرف المشترك لسبق معلوم العلم بالتكليف
المردد بين الملاقي والطرف زماناً عليه فيكون دخول الملاقى في محل الابتلاء موجباً
للشك في حصول تكليف آخر زائداً على المعلوم بالعلم الأسبق زماناً.
فعلى مبنى العلمين
الميرزا والسيد الخوئي من الانحلال الحقيقي في المقام ينبغي الحكم بوجوب الاجتناب
عن الملاقي دون الملاقى حتى بعد دخوله في محل الابتلاء ، أي تتم مقالة المحقق
الخراساني من تثليث الأقسام وانّه قد يتعاكس حكم الملاقي والملاقى فتدبر جيداً.
ثمّ انّ السيد
الخوئي في الدراسات نقل فرعاً وتطبيقاً آخر لوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى
عن المحقق الخراساني وهو ما إذا تعلّق العلم الإجمالي ابتداءً بنجاسة الملاقي أو
شيء آخر ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذلك الشيء من قبل.
وأجاب عليه : بأنّ هذا إنّما يتم إذا كان حدوث العلم الإجمالي كافياً في تنجيز
الواقع بقاءً ولو مع انحلاله ، إلاّ انّ الصحيح دورانه
مدار حدوث العلم
وبقائه ، وفي المقام العلم الأوّل ينحل بالعلم الثاني بقاءً ويصير من الشك في حدوث
نجاسة وتكليف في الملاقي.
وهذا صحيح لو
قبلنا مبناه في الانحلال وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي كما ذكرنا فيما سبق وإن
كان عدم الانحلال الحقيقي هنا أوضح من فرض تأخر الملاقاة عن العلم الإجمالي.
وكذلك على مبنى
الميرزا بناءً على انّ الميزان بالمنكشف وبلحاظه يرى سبق معلوم العلم الإجمالي بين
الملاقى والطرف فلا يتشكل علم اجمالي بين الملاقي والطرف بعد هذا الانكشاف ـ إذا
كان الميزان بالعلم في كل زمان ـ.
وأمّا على مبنى
السيد الامام وصاحب الكفاية أو مبنى الانحلال الحكمي على أساس انّ الأصل الساقط
سابقاً زماناً لا يعود فالصحيح ما ذكره صاحب الكفاية 1 من وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في هذا الفرع
أيضاً ، وعلى مبنى سلامة الأصل الطولي فقد يقال أيضاً : لا يتم كلام الكفاية ،
لأنّ الأصل الجاري في الملاقي بقاءً سوف ينجو عن المعارضة لجريان الأصل السببي
الأسبق رتبة منه ومعارضته مع الأصل في الطرف المشترك فيسلم الأصل المسببي بقاءً في
الملاقي عن المعارضة فلا يجب الاجتناب عنه.
إلاّ أنّ الصحيح
وجود علم اجمالي تدريجي في المقام وهو نجاسة الطرف المشترك قبل العلم بنجاسة
الملاقى ـ بالفتح ـ أو نجاسة الملاقي في عمود الزمان أي حتى بعد العلم بنجاسة
الملاقى ـ بالفتح ـ والأصل الجاري في الطرف المشترك في ذلك الزمان ليس طرفاً
للمعارضة مع الأصل السببي في الملاقى ـ بالفتح ـ لأنّ هذا الأخير لا يجري لكن
يعارض الأصل الآخر إلاّبعد العلم
المذكور والذي
يكون مجرى الأصل في الطرف المشترك في ذلك الزمان خارجاً عن محل الابتلاء ومنقضياً.
نعم ، هو يعارض
الأصل الجاري في الطرف المشترك بعد زمان العلم الذي هو طرف للعلم الإجمالي الحالي
لا التدريجي وعليه فيجب الاجتناب عن الملاقي ، وهذا نظير ما إذا تلف الطرف المشترك
قبل العلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف المشترك ، فإنّه لا اشكال في وجوب
الاجتناب عن الملاقي حتى على هذا المبنى لكونه طرفاً باقياً لعلم اجمالي كان
متنجزاً من حين انعقاده.
وهذا المثال يمكن
جعله نقضاً على السيد الخوئي 1 الذي أنكر التقسيم الثلاثي الذي ذكره صاحب الكفاية وأصرّ
على انّ التقسيم ثنائي دائماً أي امّا يجب الاجتناب عن الملاقى دون الملاقي أو يجب
الاجتناب عنهما معاً امّا فرض وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى فلا فرض له.
وحاصله : ما إذا
علم اجمالاً أوّلاً بنجاسة الملاقي أو الطرف المشترك ، ثمّ بعد خروج الطرف عن محل
الابتلاء أو تلفه علم بأنّ منشأ النجاسة إنّما هو ملاقاة الملاقي مع الملاقى
ونجاسته أو نجاسة ذاك الطرف ، فإنّه هنا لا يجب الاجتناب عن الملاقى لجريان أصل
الطهارة فيه بلا معارض بينما الملاقي يجب الاجتناب عنه لأنّه طرف لعلم اجمالي كان
منجزاً ، وقد تقدم في محلّه انّ خروج أحد الطرفين بعد العلم الإجمالي لا أثر له في
وجوب الاجتناب عن الطرف الباقي.
لا
يقال : انّ هذا فرع
بقاء العلم الإجمالي السابق وفي المقام ينحل بزعم السيد الخوئي هذا العلم بقاءً
فيخرج الملاقي عن الطرفية لعلم اجمالي فعلاً فيجري فيه الأصل فلا يجب الاجتناب عن
الملاقي والملاقى معاً ، ولعل السيد الخوئي يلتزم بذلك.
فإنّه
يقال : من المستبعد
التزامه بذلك لكونه علماً اجمالياً تدريجياً وجداناً ولا يوجد علم اجمالي آخر منجز
في أحد طرفيه ليتوهم انحلاله به ، وما تصوروه من الانحلال إنّما قالوه في فرض وجود
علم اجمالي آخر منجّز للطرف المشترك لا مثل المقام فإنّ انكار وجود هذا العلم
الإجمالي التدريجي من أوّل الأمر وبقائه مكابرة واضحة. ولا منجّز للطرف المشترك
فيه إلاّنفس هذا العلم لا علم اجمالي آخر فإذا كان منجزاً فهو ينجز كلا طرفيه فيجب
الاجتناب عن الملاقي بعد العلم بالملاقاة أيضاً لكونه طرفاً لهذا العلم الإجمالي
التدريجي ، وهذا واضح.
ص ٣٢١ قوله : ( وهذا البيان
تام ... ).
بل ليس تاماً لأنّ
السيد الخوئي إذا التزم ـ كما هو ظاهر الدراسات ـ بأنّ الضمان ـ الحرمة الوضعية ـ فعلية
بالنسبة للثمرة قبل تحققها بنفس وضع اليد على الشجرة ، إذن تمّ مطلب الميرزا 1 حيث يحرز بوضع
اليد على الشجرتين ضمان المغصوب المعلوم بالاجمال أصلاً ونماءً قبل تحقق النماء أي
يعلم بضمانين في هذا الطرف أو ذاك الطرف اجمالاً وهو كالعلم بتكليفين في أحد
الطرفين أو تكليفين في طرف وتكليف واحد في طرف آخر ابتداءً ، وهذا علم منجز لا وجه
لتوهم الانحلال فيه. كما أنّ ما ذكره في الحرمة التكليفية من عدم معقولية فعليتها
قبل تحقق النماء لا ملاكاً ولا خطاباً غير تام أيضاً ، فإنّ الحرمة تختلف عن
الوجوب فإنّه لا محذور في تحريم فعل مضاف إلى موضوع قبل وجود ذلك الموضوع كما إذا
حرمت الخمر قبل وجوده وأثره انّه لو علم بأنّه لو أوجده لاضطر إلى شربه حرم عليه
ايجاده لفعلية الحرمة ، بل المبغوض مبغوض قبل تحقق موضوعه أيضاً.
الأقل والأكثر
ص ٣٣٥ قوله : ( وقد وقع البحث ... ).
الأصح
أن يقال : انّ البحث عن
انحلال العلم الإجمالي المذكور حقيقة أو حكماً وعدمه إذ بعض الأجوبة والأقوال ترى
الانحلال الحكمي لا الحقيقي فالتعبير في الكتاب غير دقيق.
ثمّ انّ الأولى
تنظيم البحث على عكس ما في الكتاب أي يفرض انّ مقتضى القاعدة منجزية هذا العلم
الإجمالي ما لم يبرز مانع عن انحلاله ثمّ تذكر التقريبات المذكورة للانحلال ثمّ
يذكر الاشكالات عليها.
أمّا تقريبات
الانحلال فعمدتها ثلاثة :
١ ـ ما عن الشيخ
الأنصاري من دعوى الانحلال على أساس العلم التفصيلي بوجوب الأقل امّا نفسياً أو
غيرياً. وهذا ظاهره ارادة الانحلال الحقيقي ، وجوابه ما في الكتاب.
٢ ـ ما عن الميرزا
في مقام تفسير مراد الشيخ من الانحلال على أساس العلم التفصيلي بوجوب الأقل نفسياً
امّا استقلالاً أو ضمناً ، وهو يوجب الانحلال الحقيقي أيضاً ، وقد نوقش فيه تارة :
بأنّ العلم الإجمالي دائر بين الوجوبين الاستقلاليين للأقل أو الأكثر ، وهذا لا
ينحل إلاّبالعلم التفصيلي بوجوب الأقل استقلالاً.
واخرى : بأنّ
العلم التفصيلي المذكور علم بوجوب الأقل نفسياً مهملاً من حيث الإطلاق والتقييد وهذا
نفس علمنا الإجمالي وهل يعقل انحلال العلم الإجمالي بنفسه.
وبتعبير آخر :
طرفي العلم الإجمالي هو الأقل مطلقاً والأقل مقيداً وهما متقابلان متباينان وليس
بينهما أقل وأكثر.
وجوابهما : انّ
الاستقلالية حدّ للوجوب وليست ذات الوجوب ، كما انّ الإطلاق إذا كان عدم لحاظ
القيد فبلحاظ ذات ما هو متعلق الوجوب الأمر دائر بين الأقل والأكثر حقيقة ، ولو
كان الإطلاق لحاظ عدم القيد فهذا اللحاظ أو أي لحاظ آخر يخترعه الذهن ليس دخيلاً
فيما يتنجز ويدخل في العهدة وإنّما الذي يدخل في العهدة المحكي بهذا اللحاظ وهو ما
تعلق به ذات الوجوب النفسي سواء وقف عليه أو انبسط على غيره أيضاً فالانحلال
الحقيقي بلحاظ ما يدخل في العهدة ويتنجز تام.
٣ ـ الانحلال
الحكمي كما هو مذكور في الكتاب ، وهو تام إذا لم نقبل الانحلال الحقيقي.
وأمّا الاشكالات
فهي :
١ ـ ما ذكره في
الكفاية من استحالة الانحلال ، وقد ذكره ردّاً على تقريب الشيخ ـ التقريب الأوّل ـ
ولكنه يمكن ايراده على الثاني والثالث مع جوابه كما في الكتاب.
٢ ـ ما ذكره
النائيني من كون الشك في سقوط الأمر بالأقل وهو يقتضي
الاشتغال عقلاً لا
البراءة مع جوابه كما في الكتاب.
٣ ـ ما ذكره في
الكفاية من الاشتغال عقلاً بلحاظ الغرض ـ وهذا يتم حتى على مسلك الأشعري ـ وهذا
يمكن تقريبه بنحوين :
أ ـ ما هو ظاهر
الدراسات من قياس المقام بما ذكره الكفاية في التعبدي والتوصلي من انّ الغرض من
وراء التكليف يجب امتثاله وتحقيقه عقلاً ليسقط التكليف ، فمع الشك في تحققه يحكم
العقل بالاشتغال ، وفي المقام الغرض من الأمر بالأقل قد لا يتحقق إلاّبالاتيان
بالأكثر ـ أي إذا كان أمره ضمنياً ـ.
والجواب
: ما في الكتاب من
انّ الغرض مستقلاً عن الأمر لا يدخل في العهدة بل بمقدار ما يتصدّى المولى بتحصيله
بالأمر يدخل في العهدة لا أكثر ، وهو بهذا المقدار يتحقق باتيان الأقل جزماً.
ب ـ ما هو ظاهر
الكتاب من أنّ الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين وإن كان بالنسبة إلى الخطاب
ومتعلق الأمر منحلاً ودائراً بين الأقل والأكثر ـ بلحاظ ما يدخل في العهدة ـ إلاّ أنّه
بلحاظ الملاك والغرض المتولد من الفعل خارجاً دائر بين المتباينين للعلم بوجود غرض
وملاك وحداني لا أكثر ، مردّد بين كونه متولداً من الأقل لو كان الأمر به
استقلالاً أو الأكثر لو كان هو المأمور به ، فإذا كان الغرض المعلوم لزومه ووجوبه
منجزاً عقلاً بالعلم الإجمالي كالتكليف والخطاب كان هذا العلم الإجمالي المنجز
دائراً بين متباينين وغير منحل.
والجواب :
أوّلاً ـ انحلاله حكماً لأنّ البراءة العقلية عن تعلق غرض المولى
بما يتولد بالأكثر
لا معارض له في طرف الأقل للعلم بأنّ تركه معصية وتفويت للغرض المعلوم اجمالاً ،
والشك في سقوط الغرض المعلوم في الأقل تفصيلاً قد عرفت جوابه في دفع كلام الميرزا.
وثانياً
ـ انّ الغرض أيضاً
يعقل دورانه بين الأقل والأكثر بأن يكون مردداً بين مرتبتين تتحقق احداهما بالأكثر
والاخرى بالأقل أو كون الملاك حسن الفعل نفسه أو ما يتولد منه من عناوين منطبقة
عليه كالطاعة ونحوها أو غير ذلك ـ كما في الكتاب ـ فإنّه إذا كان المعلوم اجمالاً
تعلق غرض المولى باحدى المرتبتين أو احدى المجموعتين من الحسن أو الطاعة فلو كان
المطلوب هو المجموعة أو المرتبة الثانية كانت المرتبة أو المجموعة الاولى ضمن
الغرض لا محالة أي غرضاً ضمنياً أيضاً ، وهذا لا ينافي انّه لو جيىء بالأقل وحده
وكان الغرض في الأكثر لم يكن امتثالاً أصلاً حتى بلحاظ عالم الأغراض ولزم اعادة
أصل العمل لأنّ غرضيّته في ضمن الأكثر.
ودعوى : أنّ الغرض
بمعنى الملاك لا يكون إلاّدائراً بين متباينين ، ولا يقاس بالخطاب والجعل لا وجه
لها ، فإنّ المرتبة الضعيفة ولو المقيدة بالضمنية والاندكاك في الوجود في المرتبة
الشديدة غرض ضمني على كل حال فهو كالوجوب والخطاب الضمني يدخل في العهدة على كل
حال ، فلا فرق من هذه الناحية.
ص ٣٤٠ الهامش.
الاشكال الأوّل
غير وارد ، لأنّ المكلف يعلم امّا أن يكون ترك السورة قطعاً للصلاة أو ترك الركوع على
تقدير ترك السورة قطع ـ وأمّا تركه بعد فعل السورة
فقطع جزماً ـ إلاّ
أنّ ترك الركوع بعد ترك السورة لا تجري البراءة عنه لأنّه يعلم بتحقق المخالفة
القطعية وحصول القطع امّا بتركه أو بترك السورة قبله فلا معنى لاجراء البراءة عنه
وهو معنى الانحلال الحكمي.
وبعبارة
اخرى : انّ ترك الركوع
المقيد بفعل السورة قطع للصلاة تفصيلاً فيكون مخالفته قطعية تفصيلية ، وتركه
المقيد بترك السورة مخالفة قطعية اجمالية ؛ لأنّه يعلم بحرمته أو حرمة قيده ، فلا
تجري البراءة عن حرمة قطع الصلاة بترك الركوع على كل تقدير ، وهذا يعني جريان البراءة
عن وجوب السورة بلا معارض ، وهو يتم على الاقتضاء لا العلية.
وهذا الجواب تام ،
وهو الجواب على إبراز علم إجمالي آخر بحرمة ترك السورة لكونه قطعاً أو حرمة ترك
الركوع على تقدير ترك السورة لكونه قطعاً ، فإنّ هذا التقدير إن كان قيداً في
الحرام الثابت حرمته من حين الدخول في الصلاة فهذه الحصة لا تجري عنها البراءة
لكونها مخالفة قطعية اجمالية وإن كان قيداً في الحرمة بأن فرض تحقق الحرمة في طول
ترك السورة فهي غير معلومة من أوّل الأمر.
وإنّما لم يكن هذا
الانحلال حقيقياً مع اننا قبلنا الانحلال الحقيقي بالنسبة لما يدخل في العهدة
والذي قبوله يوجب جريان البراءة عن الأكثر حتى على مسلك العلية ، أمّا بناءً على
وجوب الاتمام فباعتبار ما ذكر في المتن من انّ الاتمام من ناحية الركوع بعد ترك
السورة لا يحتمل وجوبه الضمني بل الاستقلالي لأنّه قد ترك السورة قبله.
وإن
شئت قلت : انّ الواجب هو
الاتمام باتيان السورة وما بعدها أو اتيان
ما بعدها على
تقدير ترك السورة ، وهذا علم اجمالي بالوجوب بين متباينين لا أقل ولا أكثر.
والأمر أوضح بناءً
على حرمة القطع فإنّ هذا العلم الإجمالي بالاتمام أساساً بين متباينين لا أقل
وأكثر ، لأنّ الحرام ليس مجموع التركين ترك السورة والركوع إذ القطع يتحقق بترك
الجزء السابق ، فلا يكون ترك اللاحق قطعاً فالحرام امّا ترك السورة أو ترك الركوع
على تقدير ترك السورة ، وهما متباينان ، إلاّ أنّ هذه الحصة فيها مخالفة قطعية فلا
تجري البراءة عنها.
ص ٣٦٤ قوله : ( أقول ... ).
ومنه يظهر عدم
ورود النقض على الشيخ 1 بما إذا كان المشكوك جزئيته أو مانعيته قربياً ، فإنّه
بالدقة أيضاً لا يمكن المخالفة القطعية الاجمالية لأنّه لو جاء به على وجه غير
قربي كان من المخالفة القطعية التفصيلية للاجزاء الاخرى روحاً ـ كما في القصر
والتمام ـ فلا يكون مجرىً للأصل.
ص ٣٦٥ الهامش.
ما ورد فيه غير
صحيح ، فإنّه يمكن تصوير الشبهة الموضوعية مع عدم كون منشأ الشك الشك في متعلق
المتعلق ولا قيود الوجوب كما إذا وجبت القراءة مشروطاً بعدم الجهر وشك المكلف في
انّ قراءته بهذا المقدار من رفع الصوت هل تبلغ مرتبة الجهر أم لا ، وهو من الدوران
بين الأقل والأكثر بنحو الشبهة الموضوعية ؛ لأنّ مانعية الأكثر من ذلك من رفع
الصوت معلومة ، ويشك في مانعية هذا المقدار من رفع الصوت ؛ للشك في كونه جهراً
مصداقاً أو لا بناءً على وجود مراتب للجهر قابلة للتشكيك المصداقي في الخارج.
ص ٣٧٢ الهامش.
جوابه
: انّ العلم
الإجمالي في موارد نسيان الجزء وإن كان حاصلاً للمكلف قبل النسيان إلاّ انّه لا
تجري في حقه البراءة عن الأكثر تعييناً ؛ لأنّه ما دام متذكراً يجب عليه الأكثر
بحسب الفرض فلا تجري البراءة عن التعيين لعدم ترتب أثر عليه في حقه ما دام متذكراً
وإنّما يحتاج إلى البراءة بعد تحقق النسيان فيكون مجرى الأصل المؤمن بعد التذكر لا
محالة وهو زمان وظرف مضي أحد طرفي العلم الإجمالي بالامتثال وخروجه عن محل
الابتلاء ، فاشكال السيد الشهيد 1 وارد على السيد الخوئي 1 ، أي انّ هذا من الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم
الإجمالي.
ص ٣٧٤ الهامش :
ما ورد فيه غير
تام لأنّ الزيادة المبطلة لا توجب حرمتها تكليفاً ، وإنّما الحرام عنوان قطع
الصلاة اللازم معها وهذا واضح. فالكلمة الاولى غير تامة. والثانية نفس ما في المتن
وليس شيئاً آخر. والثالثة أيضاً غير تامة لأنّه لو كان النظر إلى فرض الزيادة على
تقدير عدم الجزئية فالعلم الإجمالي بين المتباينين أعني الجزئية والمانعية منجز في
حقه على كل حال وموجب للاعادة ، وهذا واضح.
ص ٣٧٦ الهامش رقم (٢)
جوابه
: انّ الأمر بالجزء
حيث انّه ليس أمراً وتكليفاً استقلالياً بل ضمني وارتباطي فنفس ما يدل على
الارتباطية وانّ الأمر المذكور متفرّع على الأمر بأصل الفريضة ـ سواء كان بصيغة
الشرط صريحاً أم بغيره ـ يدل على الملازمة المذكورة فلا يتوقف الاستفادة التي
أفادها الشهيد 1 على أن تكون أدوات
الشرط دالّة على
الملازمة وان تكون الجملة الشرطية مدلولها التصديقي بأزاء الشرطية والذي هو مدلول
اخباري.
وإن
شئت قلت : في موارد الأمر
بالاجزاء والشروط للواجبات المركبة يوجد مدلولان أحدهما الأمر بالجزء أو الشرط
والآخر التلازم بينه وبين الأمر بأصل المركب.
ص
٣٧٨ قوله : ( وبتعبير آخر ... ).
إذا فرضنا انّ
حديث الرفع يشمل الحكم الوضعي أيضاً كالتكليفي كانت الجزئية مرفوعة به ولازمه
امكان التمسك بأدلّة الأمر بسائر الأجزاء والشرائط لأنّ المانع عن اطلاقها إطلاق
الجزئية للجزء المنسي لا الأمر به ، فإذا كان هذا الإطلاق مرفوعاً بحديث الرفع كان
الإطلاق الأوّل محكماً لا محالة.
والصحيح
في الجواب : انّ الجزئية لا
ترتفع بالحديث لعدم كونه حكماً مجعولاً شرعاً ولا موضوعاً للثقل والتنجيز عقلاً
وإنّما المجعول هو الأمر بالجزء ورفعه لا يلازم الأمر بالأقل كما هو واضح ، فيبقى
المفاد الوضعي الثاني لدليل الجزء المنسي على حجيته وتقييده لاطلاق الأمر بسائر
الأجزاء والشرائط.
ص ٣٧٩ الهامش.
جوابه
: انّ علمنا
الإجمالي من أوّل الأمر علم اجمالي بوجوب الأقل في الوقت أو وجوب الأكثر قضاءً
خارج الوقت على تقدير فعل الأقل في الوقت لا على تقدير تركه ، وهذا العلم الإجمالي
لا يمكن مخالفته القطعية ؛ لأنّ طرفيه لا يمكن تركهما معاً فإذا كان ذاك كافياً في
عدم التعارض بين الاصول تمّ في المقام أيضاً.
ص ٣٨٠ قوله : ( التقريب الثاني ... ).
ويمكن أن يجاب على
هذا التقريب بجواب آخر حاصله : انّ الحيثية التعليلية المسوّغة لجريان الاستصحاب
إنّما يراد بها قيود الموضوع للحكم إذا كانت تعليلية لا قيود متعلق الحكم ـ كما في
المقام ـ إذ لا شك انّ تبدل أي قيد من قيود المتعلق يوجب تبدل الحكم وتعدده. وإن
شئت قلت : انّ قيود المتعلق بلحاظ بقاء ذلك الحكم تقييدية دائماً.
وبعبارة
اخرى : هذا نظير ما إذا
علمنا بأنّ شخص النجاسة الحاصلة بالتغير مرتفعة لدخل التغير فيها حدوثاً وبقاءً
ودورانها مداره ولكن احتملنا نجاسة اخرى تحدث بمحض زوال النجاسة الاولى ، فإنّه لا
يجري هنا استصحاب النجاسة إلاّبنحو الكلي من القسم الثالث ، فالحاصل لابد من شرط
احتمال بقاء شخص ذلك الحكم حتى في موارد الحيثية التعليلية ، وهذا مفقود في المقام
، وهذا واضح.
ص ٣٨٢ قوله : ( واستصحاب بقاء شخص ذلك
الحب ... ).
بل لا يجري
استصحاب الشخص إذ يكون من الفرد المردد واستصحاب الجامع ستعرف عدم جريانه في
الأحكام وكونه من القسم الثالث فإنّ تبدل المتعلّق يوجب تبدل شخص الارادة فلا فرق
من هذه الناحية بين الارادة والحكم.
قاعدة الميسور
ص ٣٨٣ قوله : ( امّا الحديث الأوّل ...
).
يمكن أن يناقش في الاستدلال بهذا الحديث بوجهين آخرين غير ما ذكر :
الأوّل : انّ سياق مثل هذه التعبيرات تناسب الارشاد إلى نكتة
عقلائية أو عقلية واضحة هي انّ الامور الخيرة الصالحة والتي يكون لها مراتب عالية
إذا كانت بعض تلك المراتب غير ميسورة فهذا لا يوجب سقوط المراتب الميسورة منها ،
فوجود هذه النكتة المركوزة عند العقلاء وحده كافٍ لصرف مثل هذه الألسنة اليها
فتكون ارشادية ولا أقل من الاجمال.
الثاني : انّ ظاهر الخطابات الشرعية ومنها هذا الخطاب انها قضايا
حقيقية لا خارجية وعندئذٍ إذا فرض ارشادية الخطاب المذكور إلى النكتة العقلائية
المذكورة فهي قضية حقيقية. وأمّا إذا كان مولوياً ولبيان الأمر بالباقي فهذا لا
يمكن أن يكون بنحو القضية الحقيقية ؛ لوضوح انّه يمكن فرض ملاك في مركبٍ لا يتحقق
شيء منه بالأقل أصلاً ، فلا يمكن أن يكون مثل هذا الخطاب إلاّ خارجياً أي ناظراً
إلى المركبات التي قد أمر أو يأمر المولى بها فعلاً. وهذا خلاف ظاهر الخطابات
الشرعية.
__________________
ثمّ انّ الأولى أن
يبحث عن الحديثين : « الميسور لا يسقط أو لا يترك بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه
لا يترك كلّه » معاً ؛ لأنّ نكات الدلالة فيه واحدة ، فنقول :
المراد بالميسور
والمعسور هو المقدور والمتعذر ولو عرفاً ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه معناه
انّ ما لا يدرك مجموعه لا يترك جميعه ، وهذا معنى ارادة العموم المجموعي من صدره
والاستغراقي من ذيله. ففقرات الحديثين من هذه الناحية واضحة.
وإنّما البحث في
فقرتي « لا يسقط ولا يترك » من حيث كونهما نهياً أو نفياً في مقام النهي أو نفياً
اخبارياً دالاًّ بالملازمة على الأمر بالباقي.
وأمّا احتمال
كونهما على وزان « لا ربا ... ولا صلاة لمن جاره ... » فهو غير محتمل ؛ لأنّ ذلك
يناسب نفي موضوع أو متعلق الحكم ، والسقوط ليس موضوعاً ولا متعلقاً للحكم ، بل هو
ملازمه أو انتزاع عقلي ، حيث انّ الأمر إذا كان متعلقاً بالباقي فلا سقوط واقعاً ،
وإلاّ فالباقي ساقط عن عهدة المكلف.
نعم ، لو اريد عدم
سقوط نفس الأمر الأوّل فهو غير ممكن حقيقة ، فيمكن أن يكون ادعائياً استطراقاً
وكناية عن تعلّق أمر آخر به وأصل مطلوبيّته ، إلاّ أنّ الظاهر هو السقوط عن العهدة
أو أصل المطلوبية لا الأمر الضمني الأوّل.
ولهذا يكون نفي
السقوط أو نفي الترك ينظر فيه إلى عالم التشريع لا التكوين ؛ لأنّ الساقط هو الحكم
والوجوب الذي هو تشريع وكذلك المراد عدم الترك في
الشريعة وإلاّ
فخارجاً يمكن الترك ، ولعلّ هذا مقصود السيد الشهيد من النفي التشريعي والتشبيه
بلا ربا ، إلاّ انّ هذا حينئذ يوجب حذف الاحتمال الثالث في كلام السيد الشهيد
لأنّه عينه إذ لا يحتمل النفي التكويني. نعم ( لا يسقط ) تكوينه عين تشريعه فلعل
ذكره من أجل ذلك فيفترق ( لا يترك ) عن ( لا يسقط ).
فالاحتمالات هي
الثلاثة التي ذكرناها.
ولا يخفى أنّ
احتمال النهي لا يتأتى في فقرة ( لا يسقط ) لأنّ السقوط ليس فعلاً للمكلف حتى يعقل
تعلّق النهي به. نعم ، إذا قرأ ( لا يسقط ) مبنياً للمفعول أمكن أن يكون نهياً
حينئذٍ إلاّ انّه غير مناسب مع سياق الحديث فإنّ ظاهره المبني للفاعل.
وكذلك لا يناسب
هذه الفقرة احتمال النفي في مقام النهي نظير بعيد بمعنى ( أعد أو ليعد ) فإنّ هذا
أيضاً يناسب ما يكون فعلاً للمكلف لا ما يكون أمراً تكوينياً مربوطاً بالشرع
فالمتعين في جملة ( لا يسقط ) بناءً على كونه مبنياً للفاعل الاحتمال الثالث وهو
الإخبار عن عدم سقوطه عن المطلوبية والأمر أو عن عهدة المكلف بسبب سقوط المعسور.
وأمّا جملة ( لا
يترك ) فيحتمل فيها الاحتمالات الثلاثة كلها كما هو واضح.
والاستدلال بها في
المقام يتم على جميعها لأنّ عنوان الميسور أو عنوان ( كله ) يشمل باطلاقه جميع
موارد وجوب مجموعة اعمال سواء بنحو الارتباط والمجموعية أو بنحو الانحلال
والاستغراقية ضمن وجوبات استقلالية ، فتدلّ على وجوب الباقي حتى بعد تعذر البعض
وهو المطلوب.
ومناقشة الخراساني
بلزوم الباقي حتى في المستحبات وهو واضح البطلان ، فلابد من حمله على مجرد الرجحان
، إنّما يأتي بناءً على استظهار النهي حقيقة ، كما انّه يرد عليه ما في الكتاب.
وناقش السيد
الخوئي بناءً على الانشائية ـ بأحد الاحتمالين الأولين ـ أنّ شموله للواجبات
الارتباطية والاستقلالية معاً غير ممكن لأنّه يلزم الجمع بين المولوية والارشادية
وهو كالاستعمال في معنيين وتعيين أحدهما بأصالة المولوية في كلام المولى أيضاً لا
يمكن ؛ لأنّها لا تعين المعنى والمدلول ، فيجمل الحديث.
وبناءً على ارادة
النفي والأخبار المحض يكون الظاهر عندئذٍ ارادة خصوص الواجبات الاستقلالية لأنّ
نفي سقوط ما لا يتعذر منها بالمتعذر حقيقي بخلاف الواجبات الارتباطية والتي يكون
سقوط حكم الميسور بالمعسور قطعياً إذا كان واجباً فهو وجوب آخر عنائي.
وكلا الاشكالين قد
أجاب عليهما السيد الشهيد 1 في الكتاب.
ويمكن أن نضيف
بأنّ حمل الحديثين على ارادة الواجبات الاستقلالية خلاف الظاهر من ناحية انّه سوف
يكون أمراً بيّناً بديهياً لا شك فيه عند أحد ليراد نفيه بمثل هذه الصياغات ،
فكأنّه من توضيح الواضحات التي لا يناسب الشارع ولا العقلاء ، كما انّ ظاهر
الميسور أو ما لا يدرك كله انّ النظر إلى المطلوب والغرض الواحد ، وهو مناسب مع
المركب الارتباطي المطلوب الواحد لا الواجبات الاستقلالية ، فإنّها مطلوبات
وموضوعات عديدة.
فينحصر عندئذٍ
الجواب على الاستدلال بهذين الحديثين بدعوى ظهور مثل هذه الألسنة في الارشاد إلى
نكتة عقلائية مخصوصة بالامور التي لها مراتب أو لها فوائد مختلفة ومتعددة فيتعذر
بعضها دون البعض الآخر ، فلا ينبغي ترك ما لا يتعذر ، فمن لا يتمكن من اطعام
الفقير بأحسن المطعومات فليطعمه بما يتيسّر له ، ومن لا يتمكن من الانفاق بكل ماله
الذي هو مرتبة عالية من الانفاق فلينفق ما يتيسّر له وهكذا ، وهذه نكتة عرفية
وعقلائية في الخيرات والمبرّات والأفعال الحسنة وليست قاعدة تأسيسية شرعية لا يجاب
الباقي في المركبات الارتباطية الشرعية.
ص ٣٨٦ قوله : ( وأمّا الحديث الثاني : «
إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » ... ).
ارادة التبعيض
بنحو الجزء والكل من الحديث لا يناسب مورد الحديث وهو الاتيان بالحج مكرراً ،
وارادة البيانية مع فرض كون الأمر بنحو مطلق الوجود بأن يكون المقصود وجوب الاتيان
بتمام أفراد الواجبات الانحلالية المقدورة ( وتكون ما موصولة في الحالتين ) أيضاً
خلاف مورد الآية وهو وجوب الحج الذي هو بنحو صرف الوجود كما انّه على خلاف ما قصده
النبي 6 ونفاه من وجوب تكرار الحج في كل عام.
ومنه يظهر انّ ما
ذكره المحقق الاصفهاني من امكان الجمع في التبعيض بين الكل والجزء والكلي والفرد
بتفسير التبعيض بالاقتطاع وهو كما يصدق في اقتطاع الجزء من الكل والمركب يصدق في
اقتطاع الفرد من الطبيعة فيقال لا أملك من البستان إلاّواحداً ـ غير مجدٍ حتى إذا
تمّ لغوياً ؛ لأنّه لا يناسب
المورد وخلاف غرض
النبي 6 ، على أنّ اقتطاع الجزء من المركب صورته الذهنية تختلف عن اقتطاع الفرد من
الكلي فهما نسبتان من الاقتطاع لا نسبة واحدة كما لا يخفى على من له ذوق فالمتعين
أن تكون من زائدة أو بمعنى الباء وما مصدرية زمانية.
والمعنى إذا
أمرتكم بشيء فأتوه زمان استطاعتكم ـ ولو بمعنى عدم المشقة ـ عليه فيكون دليلاً على
اشتراط القدرة والاستطاعة بهذا المعنى في التكاليف جميعها وهو أجنبي عن قاعدة
الميسور.
إلاّ أنّ هذا
عندئذٍ لا ربط له بسؤال السائل عن لزوم تكرار المأمور به والطبيعة إذا امِرَ بها
كما انّه واضح بديهي عقلاً حيث انّه يقبح التكليف مع العجز عقلائياً وغير محتمل
عند أحد فأي فائدة لبيانها.
والذي يخطر بالبال
عجالةً في مقام الجواب على هذا الاشكال أنّ المقصود من الحديث الحث على تكرار ما
أمر به من الأعمال الصالحة ، ولو كانت بنحو صرف الوجود ؛ لأنّ فيها الخير والثواب
، فالملاك والخير فيها بنحو مطلق الوجود ، وإنّما للتسهيل كان المقدار الواجب منه
بنحو صرف الوجود.
إلاّ أنّ هذا
الأمر ليس بنحو الوجوب بل بنحو الاستحباب بقرينة ما ذكر في الصدر في المورد من عدم
الوجوب فيكون هذا الصدر والسياق بنفسه قرينة على ارادة الحث والترغيب على رجحان
الاتيان مكرراً بما يأمر به من العبادات والمطلوبات الشرعية ما لم يلزم مشقة لكون
ملاكها في مطلق الأفراد وإن كان المقدار الواجب بمقدار صرف الوجود.
خاتمة
في شرائط الاصول المؤمنة
ص ٣٩٦ قوله : ( الوجه الأوّل ... ).
هذا الوجه مضافاً
إلى عدم تماميته في مثل أصالة الطهارة وكل من الاصول الشرعية الترخيصية التأسيسية
مبني على أن تكون أدلّة البراءة كلها ارشاداً إلى امضاء البراءة العقلائية التي
تكون بملاك قبح العقاب بلا بيان ، وهذا نتيجته محكومية دليل البراءة لدليل
الاخباري ، أي لأي دليل يثبت ايجاب الاحتياط شرعاً وهو لا يلتزم به ، وخلاف ظاهر
بعض أدلّة البراءة على الأقل كحديث الرفع مثلاً.
ص ٣٩٧ قوله : ( الوجه الثاني ... ).
هذا الوجه أيضاً
قابل للمناقشة بأنّ الآيات المذكورة ليست في مقام البيان من ناحية عقد المستثنى بل
من ناحية عقد المستثنى منه وبيان حده كما ذكرنا في هامش الكتاب.
وإن
شئت قلت : انّ المستثنى
ارشاد إلى الحكم العقلي بالتنجيز مع العلم والبيان وهو يرتفع موضوعاً باطلاق دليل
البراءة فلا تعارض بينهما.
ص ٤٠١ قوله : ( الجواب الأوّل : ... بل
ندعي انحلاله ... ).
انحلال العلم
الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعية ضمن أخبار الثقات انحلال
حقيقي فوجوده المتأخر أيضاً يكفي لجريان البراءة بعد الفحص ، وأمّا العلم بوجود
اخبار معتبرة بمقدار المعلوم بالاجمال الكبير فهذا لا ينفع إذا كان بعد الفحص ؛
لأنّ المنجز المتأخر لا يحل العلم الإجمالي السابق حتى حكماً لتشكل علم اجمالي من
أوّل الأمر دائر بين القصير والطويل كما تقدم في محله ، وإنّما ينفع إذا كان
مقارناً ؛ لأن ما يكون خارج تلك الدائرة من الحجة المعلومة يمكن اجراء الأصل فيه
من الآن على اجماله ؛ لعدم المعارض له ، وهذا الأصل الإجمالي يتشخص مورده بعد
الفحص وظهور خروج الشبهة عن دائرة أخبار الثقات ، وهذا غير الجواب الثالث القادم.
ص ٤٠١ قوله : ( الجواب الثالث ... ).
هذا الجواب غير
تام ما لم نرجع إلى الجواب الأوّل وهو خروج الشبهة بعد الفحص عن الطرفية لعلم
اجمالي منجز من أوّل الأمر.
والوجه
فيه : أمّا على فرض
كون موضوع الأصل الترخيصي الحكمي ـ كالبراءة ـ مقيداً بعدم وجود امارة الزامية
واقعاً فلأنّ الشبهة حتى بعد الفحص وعدم وجدان امارة الزامية فيها مع ذلك يحتمل
وجود ذلك واقعاً ولكنه لم يصل الينا فنحتاج إلى الاستصحاب الموضوعي ، والمفروض
سقوطه بالمعارضة من أوّل الأمر لطرفيته للعلم الإجمالي غير المنحل بحسب الفرض.
وأمّا على فرض كون
القيد عدم الامارة في معرض الوصول فأيضاً كذلك لأنّ البراءة وإن احرز موضوعها بعد
الفحص وعدم وجدان امارة في معرض الوصول
إلاّ انّه أيضاً
طرف للعلم الإجمالي الكبير غير المنحل.
وكونه يجري في ذاك
الطرف بعد الفحص لا قبله لا ينجيه عن التعارض والتساقط بل من أوّل الأمر الاستصحاب
الموضوعي في سائر الأطراف يعارض الاستصحاب الموضوعي في هذه الشبهة قبل الفحص
والأصل الحكمي الجاري فيه بعد الفحص وفرض عدم امارة في معرض الوصول فيه. بل هذا
العلم الإجمالي باقٍ حقيقة بعد الفحص في كل شبهة وقبل تحصيل العلم التفصيلي أو
الإجمالي الصغير بالتكاليف الالزامية أو الحجج بمقدار معلوم العلم الإجمالي الكبير
فيكون الأصل الحكمي في تلك الشبهة معارضاً مع الاستصحابات الموضوعية في سائر
الشبهات بذلك ما لم نبرز نكتة الانحلال من أوّل الأمر المتقدمة في الجواب الأوّل.
وما جاء في الكتاب من جعل منشأ التعارض بين الاصول والاستصحابات الموضوعية العلم
بوجود الحجج والامارات المعتبرة لا العلم الإجمالي الكبير بالالزامات الواقعية لا
يمنع منجزية العلم الإجمالي الكبير ما لم نعتمد في انحلاله بالوجه المتقدم.
ص ٤٠٢ قوله : ( فالصحيح ... ).
بل على المبنى
الآخر الذي لا يرى الانحلال بقيام المنجز المتأخر أيضاً يصحّ كلام الكفاية لتحقق
الانحلال الحقيقي بوجدان مقدار من المعلوم بالاجمال الواقعي ، أو الأخبار الصحاح
بمقدار العلم الإجمالي الكبير الأوّل بالالزامات الواقعية أو الحجج الشرعية ، وإن
كان متأخّراً زماناً ، لزوال العلم بالانحلال الحقيقي وهذا واضح.
فاشكال الكفاية
مسجّل على كلا المبنين إلاّ إذا أنكرنا الانحلال الحقيقي للعلم الكبير ، ولعلّه
مقصود السيد الشهيد لأنّه أنكره.
ص ٤٠٢ قوله : ( وهذا الاعتراض يمكن أن
يجاب عليه ... ).
هذا الجواب لا يتم
إذا كان الأصل غير المسانح له إطلاق للشك الطولي في الحجة واللاحجة كما إذا قيل
بجريان أصالة الطهارة عند الشك في جعل الطهارة الظاهرية.
ص ٤٠٣ قوله : ( الوجه السابع ... ).
النكتة المذكورة
يمكن الاستفادة منها بأحد تقريبات ثلاثة :
١ ـ انّ هناك
ملازمة عرفية بين جعل الحكم والملاك الالزامي الواقعي وبين الاهتمام به بمقدار
الشبهة قبل الفحص ، وهذه الملازمة وإن كانت عرفية لا عقلية إلاّ انها تمنع عن
إطلاق أدلّة البراءة للشبهة قبل الفحص بعد فرض انها لا تريد نفي الأحكام والملاكات
الالزامية الواقعية بل تفترض الشك فيها بل ذاك موجب للتصويب الباطل ، إذ لو فرض
اطلاقها لموارد الشبهة قبل الفحص فإن كان لرفع الملاك الالزامي واقعاً فهذا خلف ،
وإن كان انّ مفادها نفي الاهتمام الايجاب الاحتياط لنفي ايجاب الاحتياط فهو خلاف
الملازمة المذكورة.
وإن شئت قلت : انّ
جريان البراءة قبل الفحص وتجويز غمض العين بمثابة اشتراط العلم في فعلية الحكم
الواقعي الالزامي عرفاً وإن لم يكن كذلك عقلاً.
ودعوى : انّ تمامية عدم الإطلاق مع احتمال جعل البراءة لا ايجاب
الاحتياط في الشبهة قبل الفحص فيكون شكاً طولياً مشمولاً لدليل البراءة قد عرفت
الجواب عنه.
إلاّ انّ هذا
الوجه لا ينفي جريان البراءة العقلية لو قيل بها قبل الفحص ؛
لأنّ أصل الحكم
الالزامي مشكوك فلا يحرز جعل ايجاب الاحتياط الواقعي في الشبهة قبل الفحص شرعاً
لترتفع البراءة العقلية.
٢ ـ أن نضم هذا
إلى احراز حكم الزامي ظاهري وهو دليل حجّية خبر الثقة مثلاً فإنّ مفاده المطابقي
جعل الالزام الظاهري في مورد خبر الثقة بنحو القضية الحقيقية ومدلوله الالتزامي
انّه مع الشك في خبر الثقة الالزامي قبل الفحص عنه يهتم المولى بحكمه الواقعي
ويجعل الاحتياط وهذا يكون مقدماً على إطلاق دليل البراءة. وهذه وإن كانت شبهة
موضوعية لوجوب الاحتياط بملاك حجّية خبر الثقة إلاّ انها في قوّة الشبهة الحكمية
من هذه الناحية ، وهذا الوجه يفيد في المنع عن البراءتين معاً قبل الفحص الشرعية
والعقلية كما هو واضح.
٣ ـ أن نضم ذلك
إلى العلم الإجمالي ولو بحكم الزامي واحد فيكون كما في الوجه الثاني أي تتشكل
دلالة التزامية على جعل ايجاب الاحتياط شرعاً في الشبهة قبل الفحص لهذا الالزام
الواقعي المعلوم.
إلاّ انّ هذا
الوجه لا يفيد إذا انحل علمنا الإجمالي بتحصيل مقدار المعلوم بالاجمال بالنسبة
للشبهات الباقية قبل الفحص.
ويرد
على الوجوه الثلاثة : أنّ مثل هذه الملازمة العرفية لو سلّمت فهي قد تقبل في لزوم الفحص بمقدار
عدم غمض العين لا أكثر ؛ فإنّ الشارع ربما يكون ملاكاته الترخيصية مما لا تسمح حتى
بالزحمة اليسيرة ، وهذا عرفي أيضاً.
وهكذا يظهر انّ
المهم إنّما هو الوجه السادس والتاسع من مجموع هذه الوجوه.
ص ٤٠٤ قوله : ( الوجه التاسع ... وهذا
الوجه إنّما ينفع ... ).
بل ينفع لمن لم
يطلع على هذه الأخبار إذا كان يحتمل وجود ما يقيد اطلاقات البراءة والاصول
الترخيصية الشرعية لأنّ حجّية الإطلاق والظهور أيضاً مشروطة بالفحص عن المقيدات
والمخصصات على ما سيأتي في محلّه من بحوث التعارض.
ص ٤٠٤ قوله : ( هذا مضافاً إلى امكان ...
).
وكذلك يمكن دعوى
انّ أخبار التعلم لا يمكن تخصيصها بصورة العلم الإجمالي لأنّه خلاف ظهورها في انّ
المنجزية لعدم العلم لا للعلم بالتكليف اجمالاً فتكون كالأخص من أخبار البراءة.
ص ٤١١ قوله : ( وامّا من حيث الدلالة
فالفحص اللازم ... ).
هذا لا ربط له
بمسألة الفحص بل بما هو الخبرة والعلم الحجة على المقلد نفسه أو على مقلديه فهو
بحث عن الميزان في ذلك وهذا بحث أجنبي عن مسألة الفحص فتدبر جيداً.
ص ٤١٥ قوله : ( الثالث : ... ).
ينبغي ايراد البحث
في التنبيهات الأربعة القادمة من خلال تنبيهين كالتالي :
التنبيه الثالث :
في حدود التنجيز
قبل الفحص وما يترتب على تركه والبحث فيه من جهات :
الجهة
الاولى : في استحقاق
العقوبة إذا اقتحم المكلف الشبهة الحكمية
بلا فحص وتعلم ،
وقد ذكر الميرزا أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :
١ ـ ما نسب إلى
المدارك من استحقاق العقاب مطلقاً أي ولو لم يصادف الحرام الواقعي.
٢ ـ ما نسب إلى
المشهور من استحقاقه بمخالفة الواقع.
٣ ـ ما اختاره هو
من استحقاقه بترك التعلم إذا أدّى إلى مخالفة الواقع.
وذكر انّ الأوّل
مبني على كون التعلم واجباً نفسياً وهو خلاف ظاهر الأدلّة لأنّه واجب طريقي
كالاحتياط ، والثاني خلاف مجهولية الواقع وقبح العقاب عليه ووجوب التعلم لا يرفع
جهالته ، فالصحيح الثالث والذي يعني استحقاق العقاب بمخالفة الواقع الواصل ولو
بطريقه وهو وجوب الفحص أو الاحتياط.
وبهذا البيان
يندفع الاشكال الصوري من انّ ضم ما لا عقاب عليه إلى ما لا عقاب عليه كيف يوجب
العقاب.
ويرد
على المطلب الأوّل : انّ توجيه كلام المدارك بالوجوب النفسي للتعلم بلا موجب كيف ولازمه استحقاق
العقوبة حتى إذا لم يقتحم الشبهة واحتاط تاركاً للتعلم ، مع انّ كلامه ناظر إلى
المرتكب والمقتحم للشبهة ، فلا يمكن أن يكون نظره ذلك.
بل الظاهر والصحيح
أنّ القول باستحقاق العقاب مطلقاً حتى إذا لم يصادف الحرام الواقعي من جهة انّ
ملاك استحقاق العقوبة في باب المعصية والتجرّي واحد ـ على ما حققناه في محله من
قبح التجري واستحقاق العقاب فيه ـ وهو الخروج عن زي العبودية وحق طاعة المولى.
ويرد
على المطلب الثاني : ما في الكتاب من الاشكالين على الميرزا. إلاّ أنّ الاشكالين واردان على
تعبير الميرزا لا حاقّ مطلبه فإنّه يقصد أنّ العقوبة ـ بناءً على عدم قبح التجرّي
وعدم استحقاق العقاب عليه واختصاصه بالمعصية ـ إنّما يكون موضوعه وموجبه مركباً من
جزئين مخالفة التكليف والملاك النفسي للمولى مع عدم وجود مؤمّن شرعي أو عقلي أي
التكليف النفسي المنجّز ، امّا وصوله بنفسه أو بحكم طريقي شرعي فليس شرطاً ، وهذا
واضح. وتعبيرات الميرزا الاخرى تشهد على ارادته ما ذكرناه.
الجهة
الثانية : بناءً على انّ
العقاب يكون على المعصية لا التجرّي ـ كما هو مبنى الميرزا 1 ـ يقع البحث في
أنّ المخالفة للواقع إذا اقتحم الشبهة قبل الفحص هل توجب استحقاق العقاب حتى إذا
لم يكن حجة على الالزام في معرض الوصول إذا كان يفحص بل حتى مع وجود حجة وأمارة
على عدم الالزام أو يختصّ العقاب بما إذا كان حجة على الالزام في معرض الوصول يصل
إليه إذا كان يفحص عنه أو يثبت العقاب إذا خالف أحدها من الواقع أو الطريق الذي
كان يصل إليه إذا فحص؟
اختار الميرزا
النائيني 1 في فوائد الاصول الأوّل ، أي انّ الأقوى استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع
سواء وافق عمله الطريق أم لا أو لم يكن طريق مخالف أو موافق وعدم استحقاق العقوبة
على مخالفة الطريق إذا لم يخالف الواقع.
أمّا الأخير فلأنّ
المفروض انّ الطريق حكم طريقي لمحض الكاشفية وهو لا يوجب تقييد الواقع وصرفه إلى
مؤداه كما انّه لا ملاك نفسي فيه لتكون مخالفته معصية ، وهذا واضح.
وأمّا الأوّل فلأنّه
قد ارتكب الحرام الواقعي بلا مؤمّن عقلي أو شرعي ولا أثر لموافقته للطريق مع عدم
العلم به والاستناد إليه لأنّ الطريق والحكم الظاهري بوجوده الواقعي ليس مؤمناً بل
بوصوله واحرازه بل تقدم انّ المشهور تقوّم الحكم الظاهري بالوصول فلا حكم ظاهري
فعلي مع عدم الوصول.
وفي أجود
التقريرات فصّل بين القول بوجوب الفحص بملاك العلم الإجمالي فالعقاب ثابت على
مخالفة الواقع مطلقاً لأنّ العلم الإجمالي قد نجّز الواقع من دون توسيط الطريق ،
والقول بوجوب الفحص بملاك اخبار وجوب التعلم فهي تنجز الواقع بتوسيط الامارة
والطريق لأنّه دلّ على وجوب الفحص عن الامارة والاحتياط بلحاظها ، ولهذا لو علم
بعدم وجود الطريق لو فحص لم يجب عليه الفحص والاحتياط.
وأشكل على ذلك السيد الشهيد
قائلاً :
أمّا إذا كان
المبنى لوجوب الفحص أخبار التعلم فهي وإن كانت في طول احتمال الطريق إلاّ أنّ
منجزيتها تكون للواقع ابتداءً فإنّ الأحكام الظاهرية ، ولو فرضت طولية من حيث
الموضوع للحكم المشكوك إلاّ أنّها في تلك المرتبة تنجز الواقع ؛ لأنّها ناشئة
دائماً عن التزاحم في الملاكات النفسية وليس للحكم الطريقي ملاك نفسي لكي يكون
تنجيز الحكم الظاهري بلحاظه ، وهذا واضح.
ففي فرض الشك
واحتمال الطريق يكون وجوب الاحتياط المستفاد من الأخبار منجزاً للواقع فتكون
مخالفته معصية فيستحق صاحبها للعقاب.
وأمّا إذا كان
المبنى العلم الإجمالي فالمفروض انحلاله بالعلم الإجمالي في دائرة الطرق المعتبرة
، فاحتمال ثبوت الواقع خارجها يكون مؤمناً عنه
وغير منجز من أوّل
الأمر بحسب الفرض ، وإنّما المنجز مخالفة التكاليف المعلومة بالاجمال في دائرة
الطرق والمفروض انّه لا مخالفة لشيء منها بحسب الفرض.
لا
يقال : انّ الانحلال
إنّما يكون بعد الفحص والظفر بموارد الامارات ، امّا قبله فالعلم الصغير لا يحل
الكبير لأنّ أطرافه منتشرة في كل أطراف الكبير.
وإن شئت قلت : ليس
أحد العلمين قبل الفحص أصغر من الآخر وإنّما الفرق في المعلوم فالمعلوم في العلم
الثاني هو التكاليف الموجودة ضمن الطرق والامارات ، وفي الأوّل ذات التكاليف.
فإنّه
يقال : بل الانحلال
ثابت بلحاظ نفي العقوبة من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ الأطراف وإن كانت منتشرة وواحدة
قبل الفحص إلاّ أنّ المكلف يمكنه من أوّل الأمر أن يؤمن عما عدى التكاليف المعلومة
اجمالاً ضمن الطرق بحيث لو صادف مخالفتها زائداً على مخالفة المعلوم اجمالاً ضمن
الطرق كان مؤمناً عن عقاب زائد نظير ما إذا علم اجمالاً بنجاسة دمية في أحد
الانائين واحتمل نجاسة بولية في الآخر فإنّه يمكنه اجراء البراءة أو الطهارة عن
النجاسة البولية على اجمالها لنفي العقوبة من ناحية مخالفتها إذا ارتكب أحدهما
وهذا واضح.
فالصحيح عكس
التفصيل الذي ذكره المحقق النائيني 1.
وقد أضاف السيد
الشهيد فرضاً ثالثاً وهو ما إذا كان المبنى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان
ولا البراءة الشرعية قبل الفحص فأفاد انّه حينئذٍ إذا قلنا بعدم الموضوع للقاعدة
كبروياً أو صغروياً فالنتيجة استحقاق العقوبة بمخالفة الواقع
كما أفاد الميرزا 1 ، وأمّا إذا قلنا
بعدم جريانها من باب الشبهة المصداقية أي احتمال وجود الطريق الوارد والرافع
لموضوعها بحيث لو لم يكن طريق في معرض الوصول كانت البراءة العقلية جارية واقعاً
إلاّ انّ المكلف لا يعلم بها ، فحينئذٍ أيضاً لا عقاب في البين لأنّ المخالفة
للواقع وإن كانت متحققة إلاّ أنّها مؤمن عنها واقعاً.
نعم ، قد يقال
بتحقق نوع من التجرّي من قبل المكلف حيث لم يكن يحرز المؤمّن إلاّ انّ المفروض عدم
العقاب على التجرّي وإلاّ ثبت العقاب على كل حال ولو لم يخالف الواقع ـ وهو
المنسوب إلى المدارك والصحيح كما تقدم ـ وهو خروج عن الفرض في هذه الجهة.
وهذه الاضافة غير
قابلة للقبول فإنّ المؤمن سواء كان شرعياً أو عقلياً لابد من العلم به ، فمع عدم
العلم به لا يحكم العقل بقبح العقاب واقعاً ، إلاّ أنّ هذا الكلام معناه انّ الفرض
الثالث وهو كون التمسك بالقاعدة العقلية من باب الشبهة المصداقية غير معقول في نفسه
فمقصود الاستاذ انّه إذا فرضنا معقوليته كان لازمه انتفاء صحّة العقوبة واقعاً فلا
يكون إلاّ التجرّي بل لا تجرّي بالمعنى المصطلح لثبوت التأمين وقبح العقاب حقيقة
بحسب الفرض.
الجهة
الثالثة : موارد قد يخفى
فيها تنجز الواقع قبل الفحص وبترك التعلّم.
منها
ـ ما إذا كان غافلاً
عند الارتكاب. والصحيح فيه ما في الكتاب من كفاية الاحتمال قبل الغفلة لتنجز
التكاليف قبل الفحص واحتمال أداء ترك التعلم والفحص إلى الغفلة وهو متجه. نعم
الغافل من أوّل الأمر في كل عمره ذلك قد يكون خارجاً.
ومنها
ـ في الموسع إذا ترك
في أوّل الوقت وحكمه ما في الكتاب أيضاً من التفصيل.
ومنها
ـ في المضيّق الذي
لابد من التعلم قبل الوقت لعدم التمكن منه في الوقت لضيقه. وقد قسّم إلى ثلاثة كما
في الكتاب ؛ والمهم القسم الثالث منها وهو ما إذا كان ترك التعلّم موجباً لعدم
القدرة على الامتثال واقعاً ، وقد استفاد السيد من أخبار التعلّم تارة فعلية
الملاك قبل الوقت حتى مع العجز الناشىء من ترك التعلّم واخرى فعلية الخطاب أيضاً
بنحو الواجب المعلّق.
وفيه : انّه من الأقل والأكثر ، فإذا نفى فعلية الملاك في
التنجز واستحقاق العقوبة فلا يمكن أن يستظهر من أخبار التعلم أكثر من ذلك لعدم
ظهورها في أكثر من استحاق العقوبة على المخالفة بترك التعلم ، على أنّ ظهور
الخطابات المشروطة في عدم فعلية الوجوب قبل زمان الشرط أقوى من الإطلاق المذكور في
أخبار التعلم لو سلم ظهورها في سبق الوجوب ، ودعوى ابائه عن التخصيص كما ترى لا
وجه له أصلاً.
إلاّ أنّ في النفس
في أصل الإطلاق المذكور لاخبار التعلّم لمثل هذا التعلّم اشكالاً : فإنّ هذا ليس
من باب تعلّم الأحكام بل تعلّم العربية والقراءة التي هي متعلق الوجوب والحكم
الشرعي نظير ما إذا وجبت صنعة معينة كالصياغة وجوباً عينياً في وقت مضيق فإنّ تارك
تعلمها يعجز عن الامتثال في الوقت المضيق لا محالة ، وأخبار التعلّم ليست ناظرة
إلى ذلك بل إلى ترك تعلّم الحكم الشرعي الذي خالفه وهو الوجوب والحرمة لا فعل
القراءة أو الصياغة وإن كان متعلقاً للوجوب فاثبات وجوب التعلّم في أمثال المقام
لابد وأن يكون بالملاك العام المذكور في بحث المقدمات المفوّتة.
ومنها
ـ موارد الشك في
دخول مسألة في محل ابتلائه في المستقبل فترك تعلم حكمها ، وهنا أيضاً يجري التشقيق
الثلاثي المتقدم ، إلاّ انّه في الشق الأوّل منها لا يجب التعلم لامكان الاحتياط
حين الابتلاء ، وامّا في الشقين الآخرين فمقتضى الأصل مع قطع النظر عن أخبار وجوب
التعلّم عدم تنجز التعلم عليه الآن لأنّ الابتلاء بالزلزلة مثلاً مشكوك والشبهة
موضوعية لا حكمية فتكون مجرى البراءة.
وإن
شئت قلت : كما انّ احتمال
التكليف الفعلي من ناحية الشبهة الموضوعية مؤمن عنه كذلك احتماله المستقبلي.
ولكن ادعي في
الكتاب إطلاق أخبار التعلّم وشموله للمقام لأنّه لو كان قد تعلم الأحكام لم يكن
يفوته الواجب عند ابتلائه به.
ودعوى حكومة
الاستصحاب لكونه قطعاً موضوعياً اجيب عليه في الكتاب بجوابين.
إلاّ أنّ في أصل
الإطلاق المذكور لأخبار التعلّم نظراً ؛ إذ ظاهرها انحصار منشأ المخالفة بترك
التعلم ، لا احتمال عدم الابتلاء بالموضوع كما في المقام.
نعم ، لو كان
يتعلم لما كان يفوته إلاّ أنّ هذا وحده لا يكفي بل لابد من استناد الفوت والمخالفة
إلى ترك التعلّم. وبتعبير آخر لابد من تنجز التكليف مع قطع النظر عن التعلّم وما
ينشأ منه من الالفات أو القدرة على الامتثال ، وهذا غير متحقق في المقام فيكون
نظير من يحتمل الزلزلة أو الخسوف بعد ساعة فيريق الماء أو ينام فتفوته الصلاة ،
فإنّه لا يكون معاقباً ، وهذا واضح بناءً على طريقية وجوب التعلّم لا وجوبه النفسي
أو التهيؤي.
التنبيه الرابع :
بعد فرض تنجز
الواقع في موارد ترك الفحص والتعلّم لا محالة يكون ترك التعلّم تقصيراً ومعصية
مستحقاً فاعله للعقوبة إذا أدّى إلى مخالفة الواقع ، ولا يكون ما يأتي به المكلّف
مجزياً عنه بحيث لو علم بالواقع وجبت الاعادة.
إلاّ أنّ المشهور
خالفوا ذلك في مسألتين فقهيتين مشهورتين احداهما الجهر موضع الاخفات في الفريضة أو
بالعكس جهلاً ـ ولو كان عن تقصير ـ والآخر الاتمام مكان القصر جهراً ، فإنّه قد
حكم فيه المشهور باستحقاق الجاهل المقصّر لحكم الجهر والاخفات والقصر في السفر
للعقاب ومع ذلك يكون الفعل الذي جاء به خلافاً للواقع صحيحاً ومجزياً لا تجب على
صاحبه الاعادة حتى إذا علم بالحكم الواقعي في أثناء الوقت.
فكأنّ الملازمة
بين تحقق المعصية بلحاظ مخالفة الواقع وعدم صحة المأتي به على خلافه قد اختلّت في
هاتين المسألتين.
ومن هنا تعرّض
الاصوليين لكيفية تخريج هذه الفتوى المشهورة وتوجيه امكانها ثبوتاً.
أمّا البحث
الاثباتي فهو بحث فقهي مبناه استفادة ذلك من الجمع بين إطلاق أدلّة وجوب القصر
وكذلك الجهر والتمام حتى للجاهل بالحكم وأدلّة وجوب التعلّم مع ما دلّ على عدم
وجوب الاعادة على الجاهل في هاتين المسألتين ، فإنّ المستفاد من الروايات الواردة
في ذلك عدم وجوب الاعادة على الجاهل ، حتى إذا كان مقصراً ولو ارتفع جهله في أثناء
الوقت ، وهذا المقدار من المفاد يمكن أن يجتمع مع أدلّة وجوب القصر والجهر
والاخفات حتى على الجاهل ،
غاية الأمر إذا
فعل التمام أو الجهر أو الاخفات محل الآخر جهلاً لم تجب عليه الاعادة ، فتكون
النتيجة ما ذهب إليه المشهور ، إلاّ إذا كان فيه استحالة ثبوتية.
نعم ، لو استظهر
من أدلّة عدم وجوب الاعادة عدم وجوب القصر على الجاهل من أوّل الأمر وكذلك الجهر
والاخفات وأنّها شرائط ذكرية فذاك أمر آخر ، إلاّ انّه بحاجة إلى عناية اضافية
واستظهار زائد على المقدار المتقدم وهو متروك إلى محلّه من الفقه. والمحققون تصدوا
إلى اثبات امكان تخريج هذه الفتوى المشهورة بأحد طرق :
الطريق
الأوّل : ما ذكره صاحب
الكفاية ـ كما في الكتاب ـ وظاهره انّه تصدّى إلى علاج روح المشكلة على مستوى
الملاك الذي هو روح الحكم ، وامّا كيفية الخطاب فلم يتعرّض له. والمظنون أنّه يرى
تعلّق خطاب واحد بالقصر المقيّد بعدم سبق التمام عليه جهلاً بنحو قيد الواجب لا
الوجوب ، وكذلك الجهر والاخفات وهو واحد في حق العالم والجاهل ، غاية الأمر العالم
لا يمكنه تعجيز نفسه بخلاف الجاهل ، وأمّا صحة المأتي به من قبل الجاهل فلا يتوقف
على وجود أمر وخطاب به بل يكفي في تصحيحه توفره على مقدار من الملاك لزومي وهو
يكفي للعبادية ، والمفروض تحقق قصد القربة منه ولو لاعتقاده وجوب ذلك عليه
ابتداءً. ولا دلالة في أدلّة الاجتزاء على أكثر من ذلك فلا نحتاج إلى تصوير أمر
آخر أصلاً.
ودعوى : انّ عدم سبق التمام لو اخذ قيداً في الواجب لزم ترشح
الوجوب الضمني عليه ونتيجته حرمة فعل التمام ومبغوضيته فلا يمكن أن يكون محبوباً
ولا مأموراً به.
مدفوعة : بما ذكره هذا المحقق من انّ ذلك التقييد من جهة التضاد
بين النصفين من الملاك اللزوميين إذا حقّق نصفه الأوّل في الجامع ضمن حصة التمام ،
وليس من جهة المقدمية فلا محذور. وهذا الجواب نحتاجه حتى على فرضية الأمر بالجامع
والحصة أو فرضية الترتب كما سيأتي.
الطريق
الثاني : ما ذكره
الميرزا 1 من وجود أمر ارتباطي بالجامع بين الحصتين القصر والتمام أو الجهر والاخفات مع
أمر استقلالي بنحو الواجب في واجب بالخصوصية إلاّ انّه مع ارتفاع الجهل يتحقق ملاك
آخر في الخصوصية أيضاً ، أو قل تكون الخصوصية دخيلة أيضاً في تحصيل الملاك
الارتباطي للمركب الجامع فينقلب وجوبه إلى وجوب ضمني مؤكّد بناءً على قاعدته
الكلية من اندكاك كل حكم غير ذو مزية في الحكم ذي المزية. والنتيجة عدم امكان
التدارك على الجاهل لتحقق الامتثال وزوال موضوع الواجب الاستقلالي للخصوصية فيكون
عاصياً بلحاظه وممتثلاً بلحاظ الأمر الارتباطي بخلاف العالم فإنّه لا يمكنه أن
يمتثل الأمرين إلاّمعاً.
واعترض على ذلك
كما في الكتاب وأجبنا عليها كما في الهامش وهي أجوبة صحيحة.
الطريق
الثالث : الأمر الترتبي
بالصلاة التمام إذا ترك القصر وخالفه وكذلك في الجهة والاخفات. وهذا ما ذكره كاشف
الغطاء ، وليس المقصود هنا الأمر الترتبي بملاك التضاد ، ولهذا لا يرد شيء من
اشكالات الميرزا في عدم امكان الأمر الترتبي في الأضداد الدائمية أو التي لا ثالث
لها ، لأنّه لا تضاد بين المركبين أصلاً وليست دعوى كاشف الغطاء ايقاع الترتب في
الأوامر الضمنية ليتوهم ذلك بل لا يعقل الترتب والتزاحم في الأوامر الضمنية كما
قررناه في محلّه.
كما انّ القائل
بامتناع الترتب بين الأضداد أيضاً لا ينبغي أن يستشكل في المقام لعدم التضاد هنا
وإنّما يسمّيه بالأمر الترتبي بالتمام لكونه مترتباً على ترك القصر لا أكثر فليس
هذا هو الترتب الاصطلاحي.
والاعتراضات
المذكورة في الكتاب اجيب عليها إلاّ الاعتراض الأخير الذي للسيد الاستاذ الشهيد 1 ـ وقد جعله روح
مقصود الميرزا 1 وهو بعيد ـ وهذا الاعتراض أيضاً كاعتراض الاصفهاني اشكال
في الصياغة ، فإنّ المولى إذا وجد قسماً من ملاكه اللزومي يتحقق من الجاهل بالقصر
أي المعتقد وجوب التمام بالاتيان بالتمام فلا وجه لتقييد خطابه الأولي بوجوب
التمام في حقه بل يجعله مطلقاً شاملاً للمسافر الجاهل بهذا المعنى ولكنه يقيده
بشرط عدم الاتيان بالقصر قبله بخلاف غير المسافر فيكون ما يتخيله المسافر الجاهل
مطابقاً للواقع في حقه في فرض عدم الاتيان بالقصر قبله بخلاف غير المسافر.
نعم ، هو يتصور
انّ أمره المطلق كالحاضر إلاّ أنّ هذا خطأ في إطلاق الأمر لا في أصله ، وهو لا
يقدح في صحة جعل الأمر المشروط أي لا يكون هذا أمراً آخر على خصوص العالم بوجوب
التمام ، بل هو نفس الأمر الأوّل على كل مكلف غير المسافر العالم بوجوب القصر ـ الأعم
من الشاك ـ ولكنه في المسافر العالم بهذا الخطاب مقيد بما إذا لم يأت بالقصر في
السفر بخلاف الحاضر فهذا خطاب عام يشمل الحاضر والمسافر المعتقد لوجوب التمام
ويمكن أن يصل إليه وقد وصل إليه باعتقاده وجوب التمام عليه في السفر كالحاضر وحركه
نحو المطلوب للمولى ، وإنّما يلزم المحذور إذا جعل أمر آخر على خصوص موضوع المسافر
المعتقد بوجوب التمام عليه ، بل لا محذور حتى لو فرض جعل خطاب خاص بالمسافر ؛
لأنّه مجعول على من قامت عنده الحجة على وجوب التمام ،
وهذا ليس لغواً بل
يوجب العلم التفصيلي بوجوب التمام على من قامت عنده الحجة المحتمل عدم مطابقتها
للواقع والعلم بعدم الاعادة حتى لو فرض خطأ اعتقاده بوجوب التمام ، وهذا المقدار
كاف لتصحيح الجعل مع فرض إطلاق الملاك كما شرحناه في تعليقنا على هذا الإشكال في
الجهة التاسعة من بحث الترتّب فراجع.
الطريق
الرابع : ما في الكتاب
بعنوان الترتب المسامحي وهو الأمر بالجامع وبالحصة وهي القصر غير المسبوق بالتمام
بنحو قيد الواجب ، وليس فيه زائد عما في الكتاب ؛ وما سيأتي.
ثمّ إنّ في
الدراسات اشكالاً آخر وهو لزوم تعدد الأمر في حق الجاهل وتعدد العقاب ، وقد ظهر
جوابه ، فإنّ الأمر وإن تعدد على المسافر الجاهل إلاّ انّه حيث يكون لحفظ ما يتبقّى
من نفس الغرض اللزومي عند المولى فليس فيه عقوبة زائدة على عقوبة المسافر العالم
التارك لتمام غرض القصر. نعم ، تعدد الوجوب والأمر الاستقلالي حاصل إلاّ انّه قد
لا يستفاد من أدلّة المركبات الارتباطية ما يخالف ذلك.
والمهم ما في ذيل
الوجهين المذكورين في الدراسات لتصوير فتوى المشهور ـ بعد الاشكال من قبله عليهما
بكونهما خلاف ظاهر الروايات ـ من تقريب ظاهر في انّه لا يمكن الالتزام بما نسب إلى
المشهور من الجمع بين الحكم بصحة العمل واستحقاق العقاب على المخالفة مع التقصير ،
وكأنّه بيان ثبوتي حاصله : انّ الجاهل بوجوب القصر أو الاخفات لو صلّى قصراً أو
اخفاتاً وحصلت منه قصد القربة حال العمل فلا يخلو الحال من أن يحكم بصحة صلاته أو
يحكم بفساد ما أتى به ووجوب الاعادة عليه بعد ارتفاع جهله رغم انّه جاء بالقصر
والاخفات ،
فعلى الأوّل لا
مناص من الالتزام بكون الحكم الواقعي هو التخيير بين القصر والتمام أو الجهر
والاخفات ، فلا موجب للعقاب عند الاتيان بأحد طرفي التخيير وإن لم يكن المكلف
ملتفتاً إلى التخيير حال العمل.
وعلى الثاني لا
مناص من الالتزام بكون الصلاة تماماً أو جهراً هو الواجب على التعيين في ظرف الجهل
ومعه كيف يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب على ترك القصر أو الاخفات ، ودعوى
الإجماع عليه مجازفة محضة مضافاً إلى انّه ليس من الأحكام الشرعية ليستدل عليه
بالاجماع.
والصحيح هو الوجه
الأوّل ، وانّ المكلف مخيّر بين القصر والاتمام في حال الجهل واقعاً فيحكم بصحة
التمام لورود النصّ به وبصحة القصر إذا تأتى منه قصد القربة بمقتضى اطلاقات
الأدلّة الدالّة على وجوب القصر في السفر غاية الأمر يرفع اليد عن ظهورها في
الوجوب التعييني بما دلّ على صحّة الاتمام فيبقى أصل الوجوب بلا معارض .
وهذا
الكلام غريب منه : فإنّه يمكن اختيار الشق الأوّل والقول بصحة القصر من المسافر الجاهل بوجوبه
إذا تأتى منه قصد القربة ومع ذلك لا وجوب تخييري بل الوجوب تعييني للقصر المقيد
بعدم سبق التمام عليه في حال الجهل ويكون تفويته معصية ومع ذلك يكون التمام أيضاً
مجزياً امّا لكفاية الملاك أو للأمر الترتبي أو الأمر بالجامع كما تقدم.
كما يمكن اختيار
الشق الثاني والقول بعدم صحة القصر إذا استظهر من دليل اجزاء التمام ذلك فيدل
عندئذٍ على اشتراط العلم بخصوصية القصر على المسافر
__________________
بنحو قيد الواجب
لا الوجوب ، فيستحقّ المقصر عن التعليم العقاب على تركه.
كما انّ ما ذكره
من الجمع غير وجيه ، إذ لا وجه لرفع اليد عن تعيينية وجوب القصر على المسافر كما
هو ظاهر دليله والنصّ الدالّ على الاجتزاء بالتمام من المسافر الجاهل لا يقتضي ذلك
ما لم تكن فيه عناية اضافية كما أشرنا في أوّل المسألة.
ص ٤٢١ قوله : ( الاعتراض الثالث ... ).
ما هو الاعتراض
الثالث في أجود التقريرات والدرسات هو انّه على فرض عدم الارتباطية يلزم تعدد
الواجب ، وأنّ القصر كالواجب في الواجب ، ولازمه تعدد العقاب ، وهما خلاف ظاهر
الأدلّة ( وسيأتي قبول السيد الشهيد 1 الاشكال على تقدير تعدد الواجب بنحو الواجب في الواجب ) ،
وحينئذٍ لابد في الاجابة امّا أن يقال بما في الكتاب من ايجاب الجامع والحصة ، أو
أن يقال انّه ليس في البين على فرضية الخراساني الزام بذلك ، بل يمكنه أن يجعل
الواجب واحداً وهو القصر تعييناً ولكنه مقيد بنحو قيد الواجب بعدم سبق التمام عن
علم.
وقد
يقال : انّه عندئذٍ
يكون فعل التمام منهياً عنه لكون عدمه واجباً فتبطل من هذه الناحية ، ولعلّه لهذا
لم يذكره السيد الشهيد.
والجواب : انّه إذا كان على أساس التضاد فلا مبغوضية فيه. وإن شئت
أخذت عنواناً وجودياً يلازم عدم التمام من قبيل كونه الفرد الأوّل مثلاً فهذا من
الاشكال في الصياغة ؛ بل هذا لازم على تقدير الأمر بالجامع والحصة أيضاً إذ الحصة
ليست هي القصر
مطلقاً وإلاّ وجبت الاعادة على الجاهل أيضاً ، بل الحصة هو القصر المقيد بعدم سبق
التمام جهلاً ، وهذا واضح.
فالصحيح انّ فرضية
المحقق الخراساني هو وحدة الوجوب للقصر المقيد بالقيد المذكور من باب التمانع
والتضاد ، ويكون صحة التمام لوفائه بمقدار من الملاك الملزم ، وتأتي قصد القربة
بالاتيان به ، خصوصاً من المعتقد بوجوب التمام.
ص ٤٢٦ قوله : ( ثانياً : ... ما ذكره
المحقق العراقي نفسه ... ).
إلاّ انّ هذا يوجب
أن يكون العالم بوجوب الجامع أي القصر تخييراً لا تعييناً أيضاً يصح منه التمام
وهذا أكثر من الفتوى الفقهية باحراز التمام عن الجاهل فإنّها مخصوصة بالجاهل بمعنى
المعتقد وجوب التمام عليه تعييناً.
ص ٤٢٧ الهامش ...
وثانياً : ...
حاصل
الجواب : انّه لا يشترط في
المحركية الاستقلالية عدم وجود محرك آخر ، فالحصة الخاصة وهو القصر بالنسبة للجامع
فيها يوجد محركان : أحدهما الأمر بالقصر ، والآخر الأمر بالجامع بين القصر والتمام
المقيد بالجهل ، فالأمر التخييري محرك بالنسبة للمسافر العالم بالقصر كما انّه
محرك بالنسبة للمسافر الجاهل بالقصر العالم بوجوب التمام عليه لأنّ الجهل هنا قيد
للواجب لا للوجوب فلا يقدح في وصول أصل الأمر المذكور والانبعاث منه غاية الأمر
يتصور المكلف المسافر أنّ متعلقه خصوص التمام كمن يعتقد انّ الصلاة الفريضة مقيدة
بالمسجد فالجهل بمتعلقه لا بموضوعه.
وهذا بخلاف
الاشكال الذي سوف يأتي على فرضية الترتب الحقيقي ، فإنّ الجهل بوجوب القصر قيد في
موضوع التكليف بالتمام فيه.
والجواب : انّ هذا الأمر بالجامع للأعم من المسافر الجاهل والعالم
بوجوب القصر لا يمكن أن يصل إلى المكلّف محركاً ؛ لأنّه لو علم به أو احتمله خرج
عن امكان المحركيّة نحو الجامع بناءً على انّ التمام إنّما يصحّ من العالم بوجوب
التمام تعييناً فالاشكال على هذا التقدير مسجّل بخلاف الأمر الترتبي ، فالترتب
المسامحي أردأ من الترتب الحقيقي الذي ذكره كاشف الغطاء.
ص ٤٢٩ قوله : ( والتحقيق أن يقال ... ).
امّا دعوى لزوم
الالغاء فيدفعها كفاية موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي بالابتلاء ببعض ما لم
يتعلمه من المسائل ، وهي كثيرة بمجموعها.
نعم ، هناك جواب
آخر لعله المقصود وهو انّ ظاهر أدلّة وجوب التعلّم الدلالة على فعلية الملاكات
وعدم العذر في تفويتها المستند إلى ترك التعلّم وعدم جريان أي أصل ترخيصي في
موردها حتى الأصل الموضوعي المذكور ، وهذا كلام صحيح.
والصحيح
في الجواب : أوّلاً ـ ما في الكتاب من انّ الموضوع لوجوب التعلّم احتمال الابتلاء
، وهذا لا يرتفع حتى بناء على القول بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، لأنّه
فرع ترتب أثر في المرتبة السابقة على المؤدى وبلحاظ القطع الطريقي.
وثانياً
ـ ما ذكر أيضاً من
انّ الحكومة بلحاظ القطع الموضوعي إنّما تكون لما ورد من الآثار بحسب لسان الدليل
على عنوان القطع الموضوعي.
تعليقات على الجزء السادس
الاستصحاب
حجّية الاستصحاب
الأقوال في
الاستصحاب
مقدار ما يثبت
بالاستصحاب
تطبيقات للاستصحاب
النسبة بين
الامارات والاصول
حجّية الاستصحاب
ص ١٢ السطر الأخير
قوله : ( بل بين صحيحة زرارة وبين العام كما هو الحال ... ).
ليس المقصود ما هو
ظاهر صدر هذه العبارة من ملاحظة مدلول صحيح زرارة مع مدلول الخطاب العام الدالّ
على الحكم الواقعي ، كيف ولا تنافي بينهما بوجه فإنّ الأوّل يدلّ على التعبد ببقاء
ما كان عند الشك في بقائه وهذا لا ينافي ثبوت مدلول العام الذي هو الحكم الواقعي
لما تقدم من امكان الجمع بين الحكم الواقعي مع الظاهري وإنّما المقصود ما هو ظاهر
ذيل العبارة ( كما هو الحال في أدلّة سائر الاصول والامارات بعضها مع البعض ) أي
ملاحظة النسبة بين صحيح زرارة ودليل حجّية العام سنداً أو دلالةً ، فإنّهما حكمان
ظاهريان متنافيان في مورد تحقق موضوعيهما معاً كما هو واضح.
ص ٢٥ قوله : ( الرواية الاولى ... ).
كان الأنسب تقديم
البحث عن فقه الرواية بلحاظ جملة الجزاء فيها والذي جعل في التنبيه الأوّل كما انّ
البحث فيه تطويل بلا مناسبة فنقول : جملة ( فإنّه على يقين ... ) بدواً فيه
احتمالان :
١ ـ انّه بنفسه
الجزاء.
٢ ـ انّ الجزاء
محذوف يدل عليه قوله : لا ـ المذكور سابقاً ـ أي لا يجب عليه الوضوء.
والجملة بمثابة
التعليل سدَّ مسدَّ الجزاء. وقد استبعد الاحتمال الأوّل رغم انّه مقتضى الظهور
الأولي وعدم التقدير بأنّه لا ترتب بين اليقين بالوضوء مع الشرط وهو عدم اليقين
بالنوم بل سواء كان هذا اليقين أو لا كان اليقين بالوضوء السابق فعلياً.
واجيب تارة : بأنّ
الجملة الاولى تمهيد للجزاء أي بما انّه على يقين من وضوء لا ينقض اليقين بالشك ،
وفيه ركة ؛ وذلك لعدم دخول الواو على الجزاء وحاجته إلى عناية التمهيد ولا دال
عليه.
واخرى : بأنّ
الجملة انشائية أي إن له اليقين التعبدي. وفيه : مضافاً إلى العناية الفائقة في
حملها على الانشائية ، لا ينسجم مع اليقين في الكبرى ؛ لأنّه اليقين الوجداني
السابق قطعاً وإلاّ كان ركيكاً ، بل لا يمكن فرض الشك مع اليقين التعبدي.
والصحيح امكان جعل
نفس الجملة جزاء ، إمّا بالنحو المذكور في الكتاب من كون الجزاء المترتب مجموع
الجملتين ، أي إن لم يستيقن انّه نام كان مصداقاً لهذا القياس ، وهذا المقدار كافٍ
في التفريع والترتب المفاد بالفاء والجزاء للشرط إذ لا يراد به الترتب الفلسفي.
وإمّا بافتراض الجزاء نفس جملة ( فإنّه على يقين من وضوئه ) بعد فرض انّ اليقين
مضاف في هذا السياق إلى ذات المتيقن مع تجريده
عن السابق واللاحق
ـ وسيأتي انّ هذا هو مناط صدق النقض بالشك ـ وهذه الاضافة لا تصح عرفاً إذا تيقن
النوم والحدث لصدق النقض بيقين آخر عندئذٍ ـ كما في ذيل الجملة ـ فلا وجه لتقدير
الجزاء وجعل الجملة علةً له قامت مقامه ، بل بنفسها الجزاء.
نعم ، قد يستفاد
من السياق التعليل أو اعطاء الضابطة والنكتة الكلية من هذه الجملة وانها بمثابة
علة الجزاء المقدر والمستفاد من الصدر وهو عدم وجوب الوضوء عليه ، فإنّه المناسب
للجزائية مع المقام.
ص ٢٧ الهامش.
الصحيح
أن يقال : انّ مرجع الوجوه
إلى ثلاثة كما يلي :
١ ـ استظهار الجنس
من اليقين في الكبرى كما أفاد المحقّق الخراساني. وقد نوقش في الكتاب بأنّه مبني
على جريان مقدمات الحكمة وذكر اليقين بالوضوء صالح للقرينة على الخلاف.
٢ ـ اقتضاء
التعليل للتعميم. ونوقش في الكتاب بما حاصله انّه من قبيل لا تأكل هذا الرمان
لأنّه رمان حامض ، وهو لا يقتضي أكثر من التعميم في حدود الرمان الحامض لا مطلق
الحامض لأخذه في التعليل.
وكلا الاشكالين
قابلان للدفع بما ذكره المحقّق الخراساني ، تارة :
من انّ الوضوء ليس
قيداً لليقين بل للظرف ، واخرى : بأنّه من جهة كون اليقين من الصفات ذات الاضافة
فلا يكون ظاهراً في التقييد وقد ذكره الميرزا 1.
وبما ذكره السيد
الخوئي وغيره من الظهور في النظر إلى استحكام اليقين ـ سواء كانت الجملة تعليلاً
أم جزاءً ـ وفي بيان ضابطة عامة ونكتة ارتكازية مقبولة بحسب العقل أو الطبع ولهذا
قيل لا ينبغي ، وأبداً وانقضه بيقين آخر الظاهر في ارادة استحكام نفس اليقين فبهذه
القرائن ، ولعلّ منها أيضاً تغيير التعبير في الكبرى من الغائب إلى المخاطب يستفاد
ارادة الجنس لا خصوص اليقين في باب الوضوء.
٣ ـ استفادة
التعميم من قرائن خارجية وهي ورود نفس الجملة في الروايات والصحاح الاخرى ، وكون
القاعدة ثابتة عند العقلاء ، وبحسب سيرتهم ولو في الأغراض التكوينية ، وهذا كافٍ
للتعميم واستظهار النظر إلى تلك النكتة بعرضها العريض غير المختص بباب الوضوء.
ص ٣٣ قوله : ( أوّلاً ـ ما سيأتي ... ).
لم يأت ذلك فيما
بعد. ويمكن أن يوجه هذا المطلب بأنّ اسناد النقض يكون بلحاظ وحدة المتيقن ذاتاً
فإنّها تكفي لصدق النقض بين الشك واليقين وإن لم يكن نقض بالدقة ، ويمكن أن نمنع
أصل استدلال المحقق 1 من اننا إذا جردنا اليقين عن متعلقه من الحدوث والبقاء
فبهذا اللحاظ لا يقين بالفعل للمكلف لأنّه قد زال يقينه بذات الوضوء إذ فيه انّ
التجريد يعني ملاحظة اضافة اليقين والشك إلى الجامع ، وبهذا اللحاظ كما يوجد شك في
الجامع بين الحدوث والبقاء يوجد يقين به أيضاً. ولا تناقض بينهما ذاتاً لوضوح
اجتماعهما معاً وإنّما التزاحم في مقام الجري العملي الذي يكون في ظرف الحال
والبقاء لا محالة وبهذا الاعتبار يصح اسناد النقض فتدبر جيداً.
ص ٤٧ قوله : ( النقطة الثانية : ... لا
يبعد تعين الأصل الثاني ... ).
قد
يقال : بل بعيد فإنّ ما
ذكره المشهور من الظهور في رؤية نفس النجاسة السابقة المظنونة الاصابة تشهد عليه
الرواية في نقل العلل حيث ورد بعنوان ( فرأيته فيه ) وهذا مع مجموع ما ذكره
المشهور إن لم يوجب الظهور في ذلك فسوف يقع التهافت في النقل الموجب لسقوط الحديث
من هذه الناحية ، هذا إذا لم نقل بترجيح أصالة عدم الزيادة على النقيصة وإلاّ
أيضاً تعيّن احتمال المشهور.
والجواب : انّ جملة ( فرأيته فيه ) أيضاً ليس ظاهراً في أكثر من
رؤية النجاسة لا أكثر ، فالظاهر من الحديث الاحتمال والشك لا اليقين بسبق النجاسة.
ص ٥٠ قوله : ( هذا ، إلاّ انّ الانصاف
... ).
بل الانصاف انّ
ظهور جملة الكبرى والتعليل في الاستصحاب لا يمكن انكاره لأنّه صريح في ذلك ، فإذا
لم نتمكن من احراز تطبيقه كان هذا بنفسه دليلاً على انّ الامام افترض الاحتمال
الرابع في سؤال السائل ولو بأن يريد أن يقول له إنّ علمك بسبق النجاسة غير دقيق
وأنّك حيث رأيت النجاسة بعد الصلاة فلعلّ صلاتك مع الطهارة ولا ينبغي لك نقض
اليقين بالشك.
فالحاصل
: استفادة كبرى الاستصحاب
من الرواية ليست بالظهور بل بالصراحة ، فلا يختل مثل هذه الدلالة بمجرد ذلك.
ص ٥٢ قوله : ( منها ظهوره في التعليل
بالحكم الظاهري ... ).
وبعبارة أحسن نفي
الاعادة بعد الصلاة والعلم بالنجاسة فيها حينها لا يكون من باب نقض اليقين بالشك
لا بلحاظ الكبرى ـ وهو عدم الاجزاء أو كون الشرط
أعم ـ وهذا واضح
ولا بلحاظ صغرى هذه الكبرى لأنّ صغراها ثبوت نفس الحكم الاستصحابي لا الطهارة
المستصحبة ، والنقض إنّما يصدق بلحاظ المستصحب لا نفس الاستصحاب كما انّه بلحاظ
الحكم الظاهري الاستصحابي لا يقين وشك وإنّما ذلك بلحاظ المستصحب.
نعم ، التكليف
بجواز الدخول في الصلاة حال الصلاة يمكن أن يكون أثراً للمستصحب وهو الطهارة
الواقعية ولو لكونها أحد أفراد الشرط إلاّ أنّ هذا ليس هو الحكم المعلل وإنّما
الحكم المعلل نفي الاعادة وهو ليس مربوطاً بنقض اليقين بالشك أصلاً. نعم لو قال :
لأنّك بلحاظ الدخول في الصلاة لم تنقض اليقين بالشك ولم يكن يجوز لك ذلك فقد ثبت
في حقك حكم ظاهري فلا تجب الاعادة صحَّ هذا التوجيه للحديث.
إلاّ انّ مثل هذه
العناية فائقة وعلى خلاف ظهور التعليل في انّه لا ينقض اليقين بالشك لنفي الاعادة
، وهذا بنفسه يكون قرينة وشاهداً على تعين الاحتمال الرابع في فقه هذه الفقرة من
الرواية.
ثمّ انّ ما ذكره
السيد الخوئي من وحدة جواب الشيخ والمحقق الخراساني صحيح بلحاظ مقام الاثبات في
الحكم الظاهري المنقح لموضوعات الأحكام ومتعلقاتها كالطهارة التي هي شرط للصلاة
فإنّ أجزاء الطهارة الظاهرية فيها يلازم اثباتاً كون الشرط هو الجامع فتأمل.
ص ٥٥ قوله : ( الأمر الثاني : ... ).
لابدّ من تضييق
دائرة مانعية النجاسة أو توسعة دائرة الشرطية بناءً على ما ثبت في محله من صحة
الصلاة في النجس جهلاً.
وقد ذكر الميرزا 1 وجهين بناءً على
المانعية لتصوير التضييق.
١ ـ أخذ العلم
بمعنى الوصول ( بنحو الطريقية لا الصفتية ) في موضوع المانعية.
٢ ـ أخذ التنجيز
أو عدم المؤمن قيداً في المانعية.
وعلى كلا
التقديرين لابد من كون الموضوع للمانعية مركباً من النجاسة والوصول أو التنجيز.
ورتب على ذلك انّه على الأوّل تقوم الامارات والاصول المحرزة مقام العلم دون
الاصول غير المحرزة كالاحتياط في موارد الشك في الامتثال ونحوه ولازمه صحة الصلاة
في النجس في تلك الموارد وهو خلاف الفتوى المشهورة ، ولعله لهذا رجّح التصوير
الثاني. كما انّه فرّع على الوجهين مسألة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الثوبين مع كونهما
معاً نجسين واقعاً بلا تمييز بينهما وانّه على الأوّل لا علم إلاّبنجاسة واحدة
فتصح احدى الصلاتين بخلافه على التصوير الثاني.
وقد أشكل عليه
السيد الخوئي 1 على التصوير الأوّل بما لا مزيد عليه في الكتاب وما في
الهامش.
وقد استشكل السيد
الشهيد على التصوير الأوّل بما لا مزيد عليه في الكتاب.
وأمّا ما في
الهامش من تبديل العلم بالنجاسة إلى عدم العلم بعدمها الأعم من الوجداني والتعبدي
لو تمّ ولم يكن فيه محذور ثبوتي ، فهو لا يطابق الفتوى ؛ إذ لا شك في الاجزاء في
موارد الصلاة في النجس مع عدم وجود أصل محرز ؛ لعدم النجاسة وجريان البراءة
العقلية أو الشرعية عن المانعيّة ، أو موارد الغفلة.
فما في هامش
الكتاب هنا غير وافٍ أيضاً بالغرض.
وامّا التصوير
الثاني فعليه اشكالات عديدة :
الأوّل
: ما ذكره السيد
الشهيد في الكتاب ثانياً من محذور الدور ونحوه في مقام الجعل والتنجيز والتعبد
الاستصحابي. وأجاب عليه بأخذ المنجزية الشأنية أي تمامية أركان وموضوع المنجز فيه
بحيث لو كانت النجاسة حكماً تكليفياً لنجزه من اليقين السابق بالنجاسة أو نفس
الامارة عليها أو العلم الوجداني التفصيلي أو الإجمالي غير المنحل أو الشك في
الامتثال وبذلك يندفع اشكال الدور ونحوه.
وهذا الجواب وإن
دفع اشكال الدور الثبوتي في أخذ المنجزية في موضوع المانعية إلاّ أنّ لازمه العلم
بعدم المانعية في موارد الشك البدوي لعدم المنجزية الشأنية بهذا المعنى ، فلا
موضوع فيها لجريان القاعدة أو استصحاب عدم النجاسة ، بل ولا البراءة للعلم بعدم
تحقق أركان شيء من المنجزات المتقدمة ؛ وكأنّ السيد الشهيد 1 كان بصدد دفع
الاشكال عن موارد استصحاب النجاسة وتنجزها لا موارد عدم التنجز.
ولعلّ الأصح أخذ
المنجزية بمعنى عدم المؤمّن في موضوع المانعية ومورد الشك البدوي مع قطع النظر عن
جريان الأصل المؤمّن فيه ـ سواء القاعدة أو الاستصحاب أو البراءة ـ لا مؤمّن فيه
فيكون مجرىً للُاصول المؤمّنة لا محالة ، ولعلّه المقصود للسيد الشهيد لبّاً.
الثاني
: انّ المنجزية
مرتفعة في موارد الشك البدوي بالبراءة العقلية أو الشرعية فلا موضوع للاستصحاب.
وأجاب عنه بعضهم
بأنّ الاستصحاب حاكم على البراءة ورافع لمؤمنيّتها.
وفيه
: أوّلاً ـ بطلان مبنى
الحكومة في الاصول المتوافقة.
وثانياً
ـ عدم جدوى المبنى
في المقام لأنّ حكومة الاستصحاب على البراءة فرع جريانه والبراءة يرفع موضوع
الاستصحاب وهو الشك في المانعية فلا موضوع لجريان استصحاب عدم النجاسة ليحكم
عليها.
وبعبارة اخرى :
المؤمِّن العقلي أو الشرعي وارد على الاستصحاب فلا تصل النوبة إلى نكتة حكومة دليل
الأصل المحرز على غير المحرز.
نعم ، سوف يتجه
هنا شبهة التوارد من الطرفين لأنّ الشك مأخوذ في موضوع البراءة الشرعية والعقلية
أيضاً وهذا بنفسه أيضاً دور مستحيل لابد من حلّه ، إلاّ انّه بحسب النتيجة لا يتم
جريان الاستصحاب وحكومته.
وأجاب السيد
الشهيد عن الاشكال بما في الكتاب من عدم لغوية جعل اصول مؤمنة شرعية في مورد
البراءة العقلية كما في سائر الموارد.
وهذا المقدار من
الجواب بظاهره لا يجدي إذ لا يدفع اشكال التوارد من الجانبين المحال ، كما انّ
الاشكال ليس من ناحية اللغوية لكي يقاس بسائر الموارد ، إذ في تلك الموارد لا يلزم
من جريان البراءة ارتفاع الواقع بخلاف المقام ـ كما ذكرنا في هامش الكتاب ـ.
والجواب
الفني : انّ موضوع
المانعية وإن كان مركباً من النجاسة وعدم المؤمّن بالفعل إلاّ أنّ موضوع الاستصحاب
والقاعدة بل والبراءة الشك في المانعية مع قطع النظر عن كل مؤمّن ، لا الشك في
المانعية مع قطع النظر عن نفس الأصل المؤمّن المراد جريانه ، إذ لا موجب لتقييد
إطلاق أدلّة القاعدة
والاستصحاب بأكثر
من ذلك.
وإن
شئت قلت : انّ موضوع
القاعدة والاستصحاب الشك في النجاسة والطهارة الواقعية لا المانعية وهو فعلي على
كل تقدير ، ولا يرتفع بجريان البراءة عن المانعية.
والتعبد بذلك لابد
له من أثر عملي مصحح للجريان ، لكي لا يكون لغواً ولا لغوية في جعل اصول مؤمنة
متعددة في عرض واحد ـ كما ذكر السيد الشهيد 1 ـ لابراز عدم اهتمام المولى بالحكم الالزامي من جهات عديدة
، فالقيد أن تكون المانعية محتملة مع قطع النظر عن أي مؤمّن ؛ وبهذا يرتفع اشكال
التوارد والتوقف من الطرفين فيما بين الاصول المؤمّنة العرضية. وهذا روح جواب
السيد الشهيد 1.
الثالث
: ما سيأتي في
توضيح اشكال المحقق العراقي 1 بناء على الشرطية من قبلنا فإنّه جارٍ هنا بناءً على
مانعية النجاسة أيضاً ، وهو انّه يلزم في طول جريان القاعدة أو الاستصحاب ارتفاع
الشك في المانعية والقطع بارتفاعها وبذلك يرتفع موضوعهما بقاءً فينتفيان ، وهذا معناه
انّه يلزم من جريانهما عدم جريانهما وهو محال.
وهذا المقدار من
البيان يمكن الاجابة عليه بما سيأتي في الجواب على اشكال العراقي 1 ـ بناءً على
الشرطية ـ من انّ الشك في المانعية ليس موضوعاً للاستصحاب والقاعدة بل مصحح
لجريانهما ، وامّا الموضوع لهما فهوا لشك في الطهارة والنجاسة أي مع ارتفاع
المانعية لا يكون أثر لعدم النجاسة الواقعية فيلغو التعبد به بقاءً ، وهذا يكفي في
جوابه انّه لا يلغو بل أثره ارتفاع المانعية نفسها إذ لو
ارتفع التعبد
المذكور رجعت المانعية الواقعية ، بل هذا الأثر وهو ارتفاع المانعية واقعاً وحقيقة
بالأصل أكثر من ارتفاعها ظاهراً به فأيّة لغوية في البين؟
وإن
شئت قلت : انّ الموضوع
إذا كان هو الشك في الحكم التكليفي فهو مأخوذ بنحو القضية التعليقية أي لو لم يجر
الأصل المؤمّن كان الشك فعلياً وهذا صادق حتى بعد جريان الأصل فلا يلزم من وجوده
عدمه.
وهناك بيان آخر
للاشكال سواء على الشرطية أو المانعية وهو انّ روح هذا التعبد جعل واقعي لا ظاهري
وهذا لا يمكن استفادته من دليل القاعدة والاستصحاب بل ولا من شيء من أدلّة الأحكام
الظاهرية بلحاظ مؤدّاها.
نعم ، يمكن أن
يترتب على نفس الحكم الظاهري حكم آخر واقعي يكون ذلك الحكم الظاهري موضوعاً له ،
إلاّ أنّ ذلك لا ربط له بمؤدّى الحكم الظاهري ولا يثبت به بل بدليل آخر بخلاف
المقام.
وإن
شئت قلت : حيث انّ قوام
الحكم الظاهري وروحه التزاحم الحفظي في الأغراض الالزامية والترخيصية والأغراض
الالزامية إنّما هي في الأحكام التكليفية لا الوضعية فلا محالة يكون الشك فيها
الذي هو المحقق للتزاحم الحفظي مقوماً للحكم الظاهري ومأخوذاً في موضوعها حدوثاً
وبقاءً فليست المسألة مربوطة باللغوية ومجرّد المصحّح لجريان القاعدة أو الاستصحاب
أو غيرهما من الأحكام الظاهرية ليقال بأنّ ترتب الحكم الواقعي في طول جريانهما
أحسن وأشد أثراً بحال المكلف.
ويمكن
أن يجاب على هذا التقريب : بأنّ روح الحكم الظاهري محفوظ هنا أيضاً ، بمعنى انّ الشارع بمقتضى إطلاق
دليل القاعدة والاستصحاب أو غيرهما
يبرز عدم شدة
اهتمامه بالأغراض الالزامية المترتبة على النجاسة كالمانعية في الصلاة عند الشك
ووقوع التزاحم الحفظي فيها غاية الأمر في طول عدم شدة الاهتمام هذا وثبوت الحكم
الظاهري الترخيصي تتحقق المصلحة الواقعية للطهارة أيضاً أو ترتفع مفسدة النجاسة
حقيقة ، وهذا لا يعني عدم انحفاظ روح الحكم الظاهري بل ارتقائه واضافة الملاك
الواقعي إلى ملاكه.
لا
يقال : هذا معناه انّ
الحكم الظاهري في هذا المورد ليس فعلياً بل تقديري ، أي لو لم يكن الملاك الواقعي محفوظاً أيضاً لم يكن المولى
شديد الاهتمام به وهو لغو وخلاف ظاهر أدلّة الأحكام الظاهرية.
فإنّه
يقال : هذا إنّما يكون
خلاف الظاهر لو كان الملاك الواقعي محفوظاً على كل تقدير أي ولو لم يجعل المولى
الحكم الظاهري لأنّه لغو لا فائدة في المورد له ، وامّا في المقام فحيث انّ عدم
جعل الحكم الظاهري الطريقي في المورد يوجب ارتفاع الملاك الواقعي وتفويته وبالتالي
احتياج المكلف إلى الحكم الظاهري الطريقي فلا يكون جعل مثل هذا الحكم الظاهري
لغواً ولا خلاف ظاهر أدلّته في الفعلية لا التقديرية لأنّ الأثر موقوف على فعلية
الملاك الظاهري ، فتدبر جيداً.
ثمّ انّ هذا
الاشكال وسائر الاشكالات كلها إنّما ترد بناءً على استفادة التوسعة في الشرطية أو
التضييق في المانعية ، وامّا بناءً على تعلّق الأمر الواقعي بالطهارة الواقعية أو
عدم النجاسة كذلك وكون الحكم الظاهري مجزياً من باب الوفاء ببعض الملاك وفوات
الباقي بنحو لا يمكن تداركه بالاعادة وارتفاع موضوع الأمر الواقعي بملاك العجز فلا
موضوع لشيء من الاشكالات والترخيص في
التعجيز الاحتمالي
أيضاً يكون للتزاحم الحفظي لا للتخيير الواقعي.
إلاّ أنّ هذا قد
يكون خلاف ظاهر الروايات الدالّة على صحّة الصلاة في النجاسة الخبثية جهلاً.
ص ٦٠ قوله : ( وامّا بلحاظ الحكم
الواقعي بصحة احدى الصلاتين ... ).
هذا إشكال في
الصياغة ، وحلّه : انّ قيد الوصول أو التنجز حيث انّه يمكن أن يبقى على الجامع
الاختراعي الذهني البدلي كعنوان أحدهما فلابد من ملاحظة دليل المانعية وانّ المانع
هل هو النجاسة الواصلة أو المنجزة المنطبقة على فعل الصلاة الخارجي تعييناً وبنحو
منحصر أو حتى تخييراً وبدلاً. فعلى الثاني يحكم ببطلان كلتا الصلاتين في موارد عدم
التعيين للمعلوم بالاجمال لانطباقه على كل منهما بدلاً ، وإن لم ينطبق تعييناً.
وعلى الأوّل يحكم أيضاً ببطلان الصلاة إذا أتى بها في أحدهما فقط لانحصار الصدق
الخارجي بلحاظ فعل الصلاة أيضاً. وأمّا إذا جاء بهما معاً يحكم بصحتهما معاً وتحقق
الامتثال بهما في آن واحد لأنّ العنوان المقيد بهذا القيد إنّما ينطبق عليهما عند
تحقق كلتا الصلاتين خارجاً نظير ما إذا أمكن ايجاد فردين من الصلاة في آن واحد.
كما انّه في صورة الاتيان بصلاتين من نوعين فيهما يحكم ببطلانهما معاً لأنّ كل
واحد منهما له صدق خارجي منحصر في المعلوم بالاجمال فتدبر جيداً.
ص ٦٣ قوله : ( ٤ ـ ما أفاده المحقق
العراقي 1 ... ).
يمكن ايراد اشكال
العراقي بشكل آخر أوضح وأكثر اعضالاً وحاصله : انّ المستصحب إن كان خصوص الطهارة
الواقعية فالمفروض انها ليست بخصوصيتها شرطاً بل الشرط الجامع بينها وبين المؤمّن
أو الطهارة الظاهرية ،
وإن اريد استصحاب
الجامع حيث انّ اليقين بالفرد يقين بالجامع أيضاً فاستصحاب الجامع يوجب حصول العلم
بتحقق الجامع في طول الجريان ووصوله إلى المكلّف ضمن الحصة الاخرى فيرتفع الشك فيه
الذي هو موضوع جريان الاستصحاب فيكون من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه. فالحاصل يلزم
من جريان الاستصحاب في الجامع ووصوله إلى المكلف ارتفاع جريانه وجعل مثل هذا الأصل
يكون محالاً.
لا
يقال : الموضوع هو الشك
لولا جريان الاستصحاب ، وفي المقام لولا الاستصحاب كان الشك في الجامع فعلياً.
فإنّه
يقال : هذا خلاف ظاهر
أدلّة الاصول ، بل كل دليل اخذ في موضوعه الشك فإنّ ظاهره انّ الموضوع لابد وأن
يكون محفوظاً حين ترتب الحكم عليه لا انّه يرتفع به ، وهذا واضح.
وهذا الاشكال لا
جواب عليه إلاّدعوى انّ الشك في الطهارة الواقعية أي في تلك الحصة من الجامع بنفسه
مجرى أصالة الطهارة أو الاستصحاب لما يترتب عليها من الأثر التأميني هو تحقق
الامتثال وهي مشكوكة حتى بعد جريان الأصل ، وإنّما المقطوع تحقق الحصة الاخرى
بالأصل وهو لا يقدح إذ لو كان الاشكال من ناحية ارتفاع الشك فالمفروض عدم ارتفاعه
عن متعلقه وهو الحصة ، وإن كان الاشكال من ناحية القطع بترتب الأثر وعدم الشك فيه
لكي يجري الأصل في الحصة المشكوكة فالأثر ليس موضوع الاستصحاب ليستفاد اشتراط
مشكوكيته وإنّما ترتبه مصحح جريان الاستصحاب لكي لا يكون لغواً ؛ ومن الواضح انّ
ترتب الأثر واقعاً بجريان الأصل أيضاً لا لغوية فيه وإنّما اللغوية
لو كان الأثر مترتباً
بقطع النظر عن جريان الأصل.
وهذا الجواب في
مثل دليل أصالة الطهارة الظاهر في أخذ الشك في الطهارة الواقعية موضوعاً لها واضح
، بمعنى انّ اطلاقه شامل للطهارة الواقعية المشكوكة هنا ، والتي تحقق فرداً من
الشرط وبالتالي من الامتثال ، فلا وجه لرفع اليد عن اطلاقه وتام أيضاً في دليل
الاستصحاب ولو بعناية انّ اليقين والشك في الحصة من الجامع أيضاً يصدق في حقهما
النقض العملي إذا كان المطلوب هو الجامع بأن نفرّق بين باب موضوعات الأحكام فتكون
الخصوصية الفردية خارجة عن موضوع الأثر الشرعي المرتب على الجامع ، فلا جري عملي
بلحاظها وبين باب متعلقات الأحكام فإنّ الاتيان بالفرد أو الحصة امتثال أيضاً وجري
عملي فتدبر جيداً. نعم ، هنا إشكال آخر بيّناه بناءً على مانعية النجاسة مشترك
الورود.
ص ٧١ قوله : ( وهذا الاحتمال أيضاً بعيد
... ).
ينبغي تحرير البحث كالتالي :
اعترض على الاستدلال
بالصحيحة الثالثة بوجهين :
الأوّل
: عدم استفادة
الكبرى الكلية منها. والجواب ما في الكتاب.
الثاني
: اشكال الشيخ
الأعظم من انّه لو اريد منها الركعة المتصلة فهذا مذهب العامة فتحمل على التقية ،
وإن اريد الركعة المفصولة والبناء على الأكثر فهذا على خلاف الاستصحاب بل هو قاعدة
البناء على الأكثر وتحصيل اليقين بالفراغ على كل حال وهو أجنبي عن قاعدة
الاستصحاب.
وقد أيّد العراقي
إشكال الشيخ بايرادين آخرين :
١ ـ انّه من
استصحاب الفرد المردد لأنّ عنوان الرابعة المشكوكة ليس موضوع الأثر بل واقعها.
وفيه
: ما في الكتاب من الجوابين.
وتوضيح الأوّل
منهما : أنّ الفرد المردد إنّما يكون إذا كان المشكوك بعنوان آخر تفصيلي متيقناً
كما في القسم الثاني للكلي إذا كان الأثر لواقع البق أو الفيل لا لعنوان الحيوان ،
وفي المقام لا يوجد ذلك بل واقع الركعة الرابعة مشكوكة أيضاً ، وهذا واضح.
٢ ـ اشكال
المثبتية لعدم امكان اثبات وقوع التشهد والتسليم في الركعة الرابعة إلاّبالملازمة
العقلية.
والجواب ما في
الكتاب ، إلاّ انّه هناك جواب آخر ذكره السيد الخوئي في الدراسات وهو صحيح أيضاً
فراجع. فالمهم اشكال الشيخ 1.
وقد اجيب عليه في
تقريرات الميرزا وغيره بأجوبة ثلاثة :
الأوّل
: بحمل التطبيق على
التقية مع الأخذ بجدية كبرى الاستصحاب.
والجواب
: أوّلاً ـ ما في الكتاب من
ظهور الصحيحة في الانفصال كما أنّ هناك قرائن على عدم التقية في الحديث مشروحة في
الكتاب.
وثانياً
ـ سريان عدم الجدية
إلى الكبرى لا من أجل التعارض بين أصالة الجد في الكبرى والتطبيق الذي أجاب عليه
في الكتاب ، بل من جهة أنّ جواب الامام 7 في الحديث بلا تنقض اليقين بالشك بناءً على ارادة
الاستصحاب غير
جدّي في المقام
على كل حال وليست كبرى الاستصحاب مستفادة من دال آخر ليحمل على الجدية كما في حديث
الصوم ، فإذا لم تكن هذه الجملة جدّية فلا يستفاد التعميم إلاّلما هو الجدّي وهو
غير معلوم ، فالتفكيك بين التطبيق والكبرى في مثل المقام غير صحيح.
الثاني
: ما ذكره المحقّق
الخراساني من دعوى تقييد الاستصحاب ـ وظاهره تقييد الحكم الظاهري ـ وجوابه ما ذكره
السيد الخوئي ، وتوضيحه : عدم وجود أكثر من حكم واحد ويقين وشك به وهو وجوب الركعة
المتصلة ، وهذا ليس مقصوداً بحسب الفرض ، والركعة المنفصلة لم يكن متيقناً سابقاً.
ووجوب جامع الركعة الأعم منهما استصحابه من القسم الثالث للكلي الواضح بطلانه.
وأمّا ما في الكتاب هنا فكأنّه خلط بين مقالة الكفاية والميرزا 1.
الثالث
: ما ذكره الميرزا
وشرحه السيد الخوئي من انّه مع الشك يتولد تكليف بركعة منفصلة موضوعها مركب من
جزئين الشك وعدم الاتيان بالمتصلة واقعاً فيجري استصحاب عدم الاتيان بالمتصلة
كاستصحاب موضوعي ينقح موضوع هذا التكليف الجديد لا لاثبات وجوب المتصلة.
واعترض عليه بوجوه :
١ ـ ما ذكره
الاصفهاني من عدم معقولية مثل هذا الجعل لأنّ موضوعه بمجرد العلم به يرتفع جزئه
الآخر. وجوابه ما في الكتاب.
٢ ـ ما في الكتاب
بناءً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ورفعه للشك تعبداً. وجوابه ما في
الكتاب ، مضافاً إلى أنّ المستفاد من نفس الصحيحة عدم صحّة الحكومة المدعاة لدى
القوم ـ كما هو الصحيح ـ ولو
في خصوص المقام.
٣ ـ ما في كتاب (
تسديد الاصول ) من لزوم عدم صحة الصلاة إذا لم يأت المكلّف الشاك بالركعة منفصلة
بل جاء بها متصلة وانكشف النقصان وصحة صلاته بذلك مع انّه بناءً على تبدل الحكم
للشاك لابد من الحكم بالبطلان ولا يلتزم به السيد الخوئي 1.
وفيه
: انّه قد أجاب
عليه في تقريراته بأنّ الموضوع عدم الاتيان بالمتصلة لا سابقاً ولا لاحقاً وبعد
الشك ، وهذا واضح.
٤ ـ ما في الكتاب
من الاشكالين الاثباتيين الذين ارتضاهما السيد الشهيد 1.
ويمكن الاجابة
عليهما وعلى الاشكالات السابقة جميعاً بأنّه مبني على افتراض حكم ووجوب جديد ولا
لزوم له ـ كما أفاد السيد الشهيد في ردّ كلام الاصفهاني 1 ـ بل من أوّل
الأمر هناك وجوب للجامع بين الركعات المتصلة أو الركعة المنفصلة مع الشك بين الثلاث
والأربع أو الاثنين والأربع بعد احراز الأقل ـ وكذلك سائر الخصوصيات ـ فيكون حالة
الشك قيداً في متعلّق التكليف الأوّل وليس موضوعاً لتكليف جديد أصلاً ، فترتفع
الاشكالات الثبوتية المتقدمة كلا ـ كما هو واضح بالتأمل ـ كما لا موضوع للاشكال
الاثباتي لأنّ الذي يثبت بالاستصحاب بقاء نفس الحكم السابق بالجامع المذكور حتى
عرفاً فضلاً عنه عقلاً ، وليس هناك حكم مستفاد من الاستصحاب لم يكن ثابتاً سابقاً.
نعم كون التكليف والفريضة من أوّل الأمر بالجامع المذكور مستفاد من الأدلّة الاخرى
ومن ذيل هذه الرواية ولا محذور فيه ، فهذه الاشكالات غير متجهة.
نعم ، يمكن أن
يقال انّ الجملات الأربع أو الخمس الاخرى في ذيل الصحيحة
لا يمكن أن يحمل
اليقين والشك فيها على اليقين بعدم الاتيان بالركعة الرابعة المشكوكة الذي هو
اليقين الاستصحابي بل لابد وأن يراد من اليقين فيها اليقين بالفراغ أو صحة العمل
أو اليقين بالثلاث ركعات أي الركعات الثلاث المتيقنة المحرزة والركعة المشكوكة
فإنّ قوله 7 : « لا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكن ينقض الشك باليقين
ويتم على اليقين فيبني عليه » غير قابل لارادة اليقين الاستصحابي بعدم الاتيان
بالركعة الرابعة قطعاً ـ كما اعترف به السيد الخوئي أيضاً في الدراسات ـ وإنّما
تناسب اليقين بالفراغ أو الصحة أو ارادة المتيقن والمشكوك وعندئذٍ لا يبقى للجملة
الاولى ( لا ينقض اليقين بالشك ) ظهور أيضاً في ارادة اليقين بعدم الاتيان بالركعة
الرابعة ، واستصحاب عدم الاتيان لاثبات وجوب الاتيان بأصل الركعة. كيف وهذا لم يكن
محتمل العدم لحكم العقل بالاشتغال ولزوم الاتيان به ، فإن لم يدّع ظهوره في نفس
المراد باليقين في سائر الفقرات فلا أقل من الاجمال.
بل ما في صدر
الحديث من قوله ( اضاف ركعة ... ولا شيء عليه ) مرتين دليل على انّ النظر ليس إلى
أصل وجوب اضافة ركعة بل كيفيّتها ، ولهذا أفاد الامام 7 بأنّها منفصلة
بفاتحة الكتاب وانّه إذا فعل كذلك لم يكن عليه شيء لأنّه جاء بالاحتياط واليقين
بالفراغ وعدم زيادة ركعة ولا نقيصتها قطعاً ، وامّا زيادة التشهد والتكبير والسلام
المحتمل فهو غير مضر في حال الشك والسهو لكونها ليست من الأركان ، فهذا هو المراد
من قوله 7 مرتين ( ولا شيء عليه ) كما يشهد بذلك ورود هذا التعبير في سائر روايات
البناء على الأكثر. فكأنّ اللازم حفظ الركعات داخل الصلاة من حيث عدم الزيادة وعدم
النقيصة ، وذلك لا يكون إلاّبالركعة المنفصلة واحتمال زيادة الأجزاء غير الركنية
غير ضائر لكونها أذكاراً لا تضرّ زيادتها السهوية في نفسها أو بحكم هذه الروايات.
ص ٧٦ قوله : ( ويمكن أن تناقش المعالجة
من وجوه ... ).
كل هذه الاشكالات
مبتنية على تصور انّ استصحاب عدم الاتيان بالركعتين من باب الاستصحاب في الموضوع
المنقح لأمر جديد بصلاة الاحتياط. ولا موجب لذلك بل هو من باب استصحاب عدم
الامتثال المنجز للتكليف الثابت أوّلاً ، وهو متعلق بالجامع بين الصلاة الرباعية
الموصولة أو المفصولة ـ بالنسبة للركعتين الأخيرتين ـ عند الشك ، ويكون المكلّف به
هو لزوم حفظ الصلاة الرباعية من ناحية الركعات الأربع وعدم الزيادة الركنية أي
زيادة الركعة فيها.
وهذا لا يحرز
إلاّبالاتيان بالركعتين مفصولة فإنّ استصحاب عدم الزيادة بعد الاتيان بها موصولة
لا يثبت ذلك للزوم الحفظ الوجداني لعدم زيادة الركعة ـ ولهذا أيضاً يكون الشك في
أكثر من أربعة مبطلاً ـ فلا موضوع لشيء من الاشكالات الأربع التي ذكرها السيد
الشهيد 1 وقبل الأخير منها. كما لا مجال لما في هامش الص ٧٨ كما يظهر وجه كل ذلك بأدنى
تأمل.
فجواب مدرسة
الميرزا ومعالجتها روحاً ولباً سليمة عن هذه الاشكالات ، نعم يبقى الاشكال
الاثباتي المتقدم على المعالجة الثانية وهو دعوى ظهور الصحيحة في استخراج الركعة
المفصولة بخصوصياتها من الاستصحاب لا ذات الركعة الرابعة.
وقد أجبنا عليه في
الهامش بجواب لا بأس به لولا ما ذكرناه من الاستظهار من فقرات الحديث وانّ اليقين
في بعضها لا يناسب إلاّقاعدة البناء على اليقين والتفكيك في المراد باليقين في
فقراتها كما هو لازم هذه المعالجة ، خلاف الظاهر جدّاً.
ص ٨٠ قوله : ( تتميم : ... ).
كأنّ المقصود
البحث عن امكان تصحيح الصلاة بالركعة المتصلة عند الشك على مقتضى القاعدة وعدمه ـ كما
ادعاه العراقي وأشكل عليه السيد الخوئي في الدراسات فراجع ـ والبحث تارة في
الوظيفة بالنسبة للركعة المشكوكة واخرى بالنسبة للزيادة المحتملة.
امّا الأوّل :
فاستصحاب عدم اتيان الركعة أو بقاء وجوبها جارٍ في نفسه وإن كان مقتضى الاحتياط
العقلي ذلك أيضاً لكون الشك في الامتثال واستصحاب عدم الامتثال لو قيل بسقوط فعلية
الحكم بالامتثال يرجع إلى الاستصحاب الموضوعي في مرحلة البقاء وعلى القول الصحيح
يرجع إلى استصحاب عدم الامتثال وهو كاستصحاب احراز الامتثال يكفي في جريانه ترتب
التنجيز والتعذير عليه عقلاً ولا يشترط في الاستصحاب أكثر من الأثر العملي.
وأمّا البحث
المفصل الذي ذكره السيد الشهيد 1 هنا باعتبار كون الوجوب لهذه الركعة وجوباً ضمنياً والشقوق
المذكورة في حقيقته ، فالظاهر انّ كلّه بلا موجب لوضوح انّه يجري استصحاب عدم
الاتيان بالركعة ولو بعد التشهد والتسليم لاحراز بقاء الوجوب الاستقلالي وعدم
سقوطه وهو كاف في التنجيز ، فهذا البحث كلّه زائد.
وأمّا الثاني وهو
مانعية الزيادة المحتملة فحيث انّ المانعية انحلالية فقد تصدّى السيد الاستاذ
ابتداءً إلى مسألة البراءة عن مانعية الركعة المضافة وأجاب عليه بما في الكتاب من
تشكل علم اجمالي منجز عندنا ثمّ أجرى استصحاب عدم الزيادة ، وبضمه إلى وجدانية
الاتيان بأربع ركعات والترتيب ـ كما في
الدراسات ـ يحرز
الامتثال بناءً على التركيب في المركبات الشرعية ـ كما هو مقتضى الأصل الأولي
المقرر في محلّه ـ وهذا الاستصحاب من الاستصحاب المحرز للامتثال فلا يكون معارضاً
مع البراءة المعارضة في طرفي العلم الإجمالي المتقدم لأنّه يحرز امتثال ذلك العلم
الإجمالي فما في الهامش هنا في الكتاب غير تام.
وهذا كلّه واضح ،
إلاّ أنّ المحقق العراقي ـ كما في الدراسات ـ حيث اشترط احراز وقوع التشهد في
الركعة الرابعة أشكل في كفاية ذلك لا محالة.
وأجاب عليه السيد
الخوئي بعدم دليل على اعتبار ذلك وإنّما الواجب مركب من ذات الأجزاء والترتيب وعدم
زيادة بينها وكلها محرز بضم الوجدان إلى التعبد.
وهذا جواب صحيح
كما تقدم وأفاد السيد الخوئي بأنّ عدم الحكم بصحة الشكوك غير المنصوصة إنّما هو من
باب ما دلّ على انّه كلّما لم يذهب وهمك ( أي ظنك ) إلى شيء فأعد الصلاة ، وهذا
عام فوقاني يبطل الرجوع إلى الاستصحاب المذكور. راجع كلامه في الدراسات.
ويمكن
أن يقال : بأنّ المستفاد من
هذه الصحيحة وغيرها من روايات البناء على الأكثر لزوم حفظ الركعات من حيث عدم
الزيادة وعدم النقيصة في الشكوك داخل الصلاة ( لا خارجها ) وهذا امّا كحكم واقعي
أو ظاهري فلا يكون استصحاب عدم الزيادة كافياً لأنّه لا يحرز هذا الحفظ بالركعة
المتصلة كما هو واضح ، فعدم كفاية الاستصحاب يمكن أن يكون من هذه الناحية ،
والتفصيل موكول إلى علم الفقه.
ص ٨٦ ( الرواية
الرابعة : رواية اسحاق بن عمار ... ).
الظاهر عدم ظهور
هذه الرواية في الاستصحاب بل امّا ظاهر في قاعدة البناء على اليقين بمعنى الاتيان
بعمل يقطع مع بصحة المأتي به على تقدير ـ وهو البناء على الأكثر ـ أو مجمل من هذه
الناحية لأنّ افادة الاستصحاب أيضاً كقاعدة اليقين بحاجة إلى ذكر اليقين السابق
وذكر عدم نقضه أو بقائه أو نحو ذلك من الألسنة. ومجرد قوله 7 : « إذا شككت ...
» لا يكفي للدلالة على وجود اليقين السابق والنظر إلى حجيته والبناء عليه ، وقد
ورد التعبير بالبناء على اليقين في البناء على الأكثر في روايات اخرى كرواية قرب
الاسناد عن محمّد بن خالد الطيالسي عن العلاء قال : قلت لأبي عبد الله 7 : رجل صلّى
ركعتين وشك في الثالثة؟ قال : « يبني على اليقين فإذا فرغ تشهّد وقام قائماً فصلّى
ركعة بفاتحة القرآن ».
وفي رواية عبد
الرحمان بن الحجاج عن أبي ابراهيم 7 في السهو في الصلاة قال : « تبني على اليقين وتأخذ بالجزم
وتحتاط للصلوات كلّها ».
وهذا الأخير صريح
في ارادة تحصيل اليقين بعد الاحتياط وهو بالركعة المفصولة. وما ذكر من ظهور
التركيب المذكور في فعلية اليقين ممنوع ، فإنّ ملاك هذه الدلالة هو اللام الظاهر
في الإشارة والعهد ولو إلى الطبيعة والجنس أو الأفراد ؛ إلاّ انّ هذا فرع عدم وجود
معهود آخر ارتكازي وهو موجود في مثل المقام لمعهودية ما هي الوظيفة العملية
الشرعية وهي تحصيل اليقين بصحة العمل المأتي به. فالانصاف انّ الرواية أيضاً لا
ظهور فيها في الاستصحاب ، ولعل فهم الفقهاء والمحدّثين لارتباطها بتلك القاعدة.
ص ٩٠ قوله : ( ومن هنا قد يعكس الأمر
فيتمسك باطلاق اليقين ... ).
فيه
: أوّلاً ـ انّه من الجمع بين
مفهومين متباينين لأنّ لحاظ قاعدة اليقين يقتضي ملاحظة زمان متعلق الشك وانّه نفس
زمان المتيقن المتعلّق لليقين ، أي عدم التجريد للمتيقن والمشكوك عن الزمان بخلاف
لحاظ الاستصحاب فهما بمثابة مفهومين ـ كما في المتن ـ وليس الإطلاق جمعاً لمفهومين
أو توسعة للمفهوم.
وثانياً
ـ انّ اللحاظين
متباينان ، فحتى لو أمكن افادة التوسعة بالاطلاق فهو فرع وجود مفهوم واسع وليس
كذلك للتقابل بينهما
كما لا يخفى.
وثالثاً
ـ هذا من قبيل
استعمال اللفظ في أكثر من معنى ولو بلحاظ المدلول الجدي ، وأقل ما فيه انّه خلاف
الظاهر.
ص ٩١ قوله : ( ولكن الصحيح ... ).
هذا صحيح لما في
الهامش من انّ افادة قاعدة اليقين بحاجة إلى عناية اضافة الشك إلى المتيقن بزمانه
الحدوثي حين العمل ، وهذا لازمه أن يكون النظر إلى الأثر الثابت في الزمان الماضي
لا الحاضر وهو خلاف ظاهر الأمر بالمضي على اليقين أو عدم نقضه حين الشك فإنّ ظاهره
ملاحظة الأثر الفعلي لا السابق.
وأمّا دعوى
الارتكازية للاستصحاب فيمكن أن يدعى ارتكازية روح قاعدة اليقين أيضاً التي هي روح
قاعدة الفراغ والشك بعد العمل إذا كان له يقين حينه ـ كما هو الغالب ـ.
كما انّ ما ذكر من
انّ العرف يتعامل مع زمان اليقين والشك بلحاظ زمان متعلقهما فيقال : كان على يقين
بشيء ثمّ شك وهو الترتب بين اليقين والشك في
الزمان لا يكون
إلاّبملاحظة تقدم المتيقن على المشكوك ، هذا صحيح إلاّ انّه لا يمنع عن صحة هذا
التعبير في مورد ارادة تعلّق المشكوك بنفس المتيقن أي بالحدوث وتحقق الترتب بين
نفس اليقين والشك ما لم نبرز انّ هذا الأخير فيه عناية زائدة.
ص ٩١ قوله : ( الرواية السادسة ... ).
يمكن دعوى انّ
الاستصحاب بحاجة إلى ملاحظة يقين سابق وشك لاحق وهذا غير مفروض ولا مستفاد من مثل
هذا التعبير بل هذا التعبير يناسب أن يكون النظر إلى قاعدة عقلية اخرى وهي انّه في
ترتيب الأثر والحكم الالزامي لابد من اليقين ولا يكفي الظنون والاحتمالات ، فالصوم
لا يكون إلاّباليقين بدخول الشهر ، والافطار لا يكون إلاّباليقين بخروج الشهر أو
دخول العيد ، وهذا وإن كان لازمه الحكم ببقاء وجوب الصوم في آخر الشهر وهو من
الاستصحاب إلاّ أنّه ليست الجملة الاولى بياناً للاستصحاب كبروياً ليستفاد منها
العموم بل هذه دلالة التزامية يقتصر فيها على موردها في باب خروج الشهر ودخوله
فتسقط الرواية عن الدلالة على كبرى الاستصحاب. ولعلّ هذا هو روح مقصود المحقّق
الخراساني 1 لا أخذ العلم موضوعاً في الحكم الواقعي.
والتحقيق
أن يقال : إذا لم يكن
اليقين موضوعاً بل طريقاً محضاً فلماذا لا يكون وجوب الصوم إلاّباليقين بدخول
الشهر ، ولا افطار إلاّباليقين بخروجه ، بحيث يجب الصوم في يوم الشك لشوال؟ فإنّ
هذا لا يمكن أن يكون من باب أصالة البراءة والشك في موضوع الحكم ، فمفاد الحديث
كما في الكتاب أكثر من مجرد عدم حجّية الظنون والاحتمالات ، وهو ما ذكرناه من عدم
وجوب الصوم قبل اليقين بدخول شهر رمضان ، وعدم جواز الافطار قبل اليقين بدخول شوال
،
كما انّ ظاهر
الحديث ارتباط ذلك بالجملة الاولى الكلية ( اليقين لا يدخل فيه الشك ) ، فلابد أن
يراد باليقين والشك اليقين السابق بعدم دخول الشهر الجديد والشك فيه يوم الشك.
وما ذكر من عدم
ذكر اليقين السابق والشك اللاحق جوابه أنّ لمدخول الشهر وخروج الهلال بنحو يكون
قابلاً للرؤية أمر حادث مسبوق بالعدم ومتيقن دائماً ، وحيث انّ الرؤية والعلم
واليقين والشك كلها ظاهرة عقلائياً وعرفاً في الطريقية لا الموضوعية ، يكون مفادها
انّه ما لم يتيقن بحدوث الحادث تبقى الحالة السابقة هي الموقف العملي ، وليس هذا
إلاّ الاستصحاب ، وهذا وجه ثالث لردّ مقالة الخراساني.
ص ٩٤ قوله : ( الرواية السابعة ... ).
يمكن أن يناقش
فيما أفاده السيد الشهيد بوجهين :
الأوّل
: انّ مفاد الجملة
الاولى لازم أيضاً بناءً على ارادة قاعدة الطهارة إذ مراد الامام من تعليل وجه عدم
الحاجة إلى الغسل بأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر يمكن أن يكون نفي النجاسة في الحدوث
، فكأنّه يريد بيان انّه لا موجب للغسل لا من جهة النجاسة الحدوثية إذ انك أعرته
وهو طاهر ولا من ناحية النجاسة بعد ذلك لأنّه لا يقين بذلك ، فذكر ثبوت الطهارة
الحدوثية ليس من جهة دخلها في الحكم بالطهارة بقاءً عند الشك ليكون دليلاً على
الاستصحاب ، بل لسدّ تمام أبواب وجوب الغسل وأنّه إذا كان من ناحية النجاسة
الحدوثية فهي منتفية بالعلم بعدمها بحسب الفرض وإذا كان من ناحية النجاسة بقاءً
عند الذمي فهي منتفية بالشك وعدم العلم بها ـ وهي قاعدة الطهارة ـ.
ويمكن الجواب على
هذا الاشكال : بأنّ النظر لو كان إلى القاعدة لكفى أن يقول بأنّك لا تعلم بالنجاسة
فلا خصوصية لكونه قد أعاره الثوب طاهراً بل حتى لو كان أعاره مشكوك الطهارة بل
نجساً مع احتمال تطهيره وغسله لكفى ذلك لجريان القاعدة في نفسه ، فظهور الرواية في
دخل الطهارة السابقة لا محمل له إلاّ الاستصحاب.
الثاني
: لو سلّمنا الظهور
في بيان الاستصحاب إلاّ أنّ استفادة التعميم لغير باب الطهارة والنجاسة مع وضوح
التسهيل فيه بالخصوص مشكل ، وما يقال من انّ التعليل يفيد التعميم لا يراد منه
الغاء ما اخذ في العلّة من الخصوصيات والقيود فيستفاد منها قاعدة الاستصحاب في
أبواب الطهارة في تمام الموارد ، وهذا استصحاب في خصوص باب الطهارة ويحتاج التعدي
إلى غيره إلى الغاء الخصوصية وهو مع وضوح وجود تسهيلات شرعية في هذا الباب غير
وجيه.
ويمكن الاجابة على
هذا الإشكال أيضاً بحمل تعلّق اليقين بالنجاسة والطهارة على أنّه من جهة كون
اليقين والشك ذات الاضافة كما ذكرنا في التعليل في صحيحة زرارة « كان على يقين من
وضوئه » خصوصاً مع ورود نفس التعبير في الطهارة الحدثية وهي غير مبنية على التسهيل
، وفي الروايات الاخرى للاستصحاب وارتكازية نكتة الاستصحاب العامة فمجموع ذلك قد
يكفي لاستفادة الإطلاق من هذه الرواية.
ص ٩٨ قوله : ( الجهة الاولى ... ).
ذكر في مصباح
الاصول تقريب دلالة كل شيء طاهر أو حلال على الحكمين الواقعي والظاهري ببيان انّه
يشمل لما هو معلوم العنوان كالحجر والماء ولما هو
مشكوك العنوان
كالمائع المردد بين البول والماء لأنّه شيء أيضاً وهو في الأوّل يثبت الحكم
الواقعي وفي الثاني يثبت الحكم الظاهري لا محالة. وهذا ظاهره التمسك بالعموم
الافرادي.
ويرد
عليه : انّ إطلاق كل
شيء للمشكوك الافرادي ليس دلالة اخرى غير اطلاقه للماء وللبول ليكون اطلاقاً
افرادياً جديداً إذ المشكوك كونه ماءً أو بولاً لا يخرج عن أحدهما ، وليس فرداً
ثالثاً ؛ نعم حالة الشك إطلاق أحوالي لأحدهما ، ولعلّه من هنا أفاد المحقق
الخراساني في الحاشية تقرير هذا الإطلاق بأحد طريقين آخرين وهما التقريبان
المذكوران في المتن والذي أحدهما لازم لعموم أفرادي ـ أو قل إطلاق أحوالي لا يرد
عليه ما اشكل به في الإطلاق الأحوالي ـ والآخر إطلاق أحوالي إلاّ انّه قدم الإطلاق
الأحوالي ثمّ قال : وإن أبيت إلاّعن عدم شمول اطلاقه لمثل هذه الحالة التي في
الحقيقة ليست من حالاته بل من حالات المكلّف وإن كانت لها اضافة إليه فهو بعمومه
لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا ينفك عنه أبداً كما في بعض الشبهات الحكمية
والموضوعية يدل بضميمة عدم الفصل ... الخ. وهذه اشارة إلى مناقشة اخرى لم يذكرها
السيد الشهيد 1.
وفيه : إن أراد انّ هذه الحالة ليست من حالات الشيء وتقسيماته
فهو واضح البطلان ، وإن أراد انّه من التقسيمات الثانوية للحكم وانّ الشك والعلم
بالحكم متأخر عنه فلا يشمله إطلاق الحكم ، فقد تقدم بطلان ذلك في بحث التعبدي
والتوصلي وانّ خطاب الحكم مطلق من ناحية التقسيمات الثانوية أيضاً ، وبذلك تثبت
واقعية الحكم وعدم التصويب واطلاقه لموارد العلم والجهل بمقتضى إطلاق أدلّته من
هذه الناحية.
وقد أشكل على
التمسك باطلاق الصدر سواء كان افرادياً أو أحوالياً باشكالات ثبوتية مذكورة في
الكتاب مع أجوبتها واثباتية ترجع إلى اشكالين ذكرهما السيد الخوئي 1 نقلاً عن المحقّق
الخراساني 1 :
١ ـ انّ إطلاق أو
عموم الشيء للعناوين الواقعية أو الثانوية لا يعني ثبوت الحكم عليها بعناوينها
الصنفية الخاصة بل بعنوان كونه شيئاً فيثبت الحكم بالطهارة في المائع المشكوك
بوليته ونجاسته لا بعنوان كونه مشكوك النجاسة بل بعنوان انّه شيء وهذا الإطلاق
والشمول لا يثبت ظاهرية الحكم ما لم يثبت دخل الشك فيه بل الأمر بالعكس بمعنى أنّه
يمكن التمسك بالاطلاق بمعنى آخر وهو عدم أخذ قيد الشك وعدم العلم بالنجاسة في
موضوع العام لنفي أخذه في كبرى الجعل وبالتالي يثبت واقعية الحكم لا محالة.
٢ ـ انّه لو اريد
التمسك باطلاق الصدر بمعنى شموله لعنوان واقعي يشك في حكمه أي الشبهة الحكمية فهذا
يثبت الحكم الواقعي بحسب الفرض وإن اريد التمسك به للعنوان المشكوك كونه بولاً أو
ماءً أي الشبهة الموضوعية فهذا بعد ثبوت التخصيص يكون من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية البيّن بطلانه.
وكلا الاشكالين
إنّما يردان إذا لم يمكن تصوير جعل واحد للحكم بالطهارة على موضوع واحد وافٍ بكلا
المجعولين الواقعي في العناوين الواقعية والظاهري في العنوان المردّد ، وأمّا إذا
أمكن ذلك فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق العام للفرد المشكوك والمدّعى إمكان ذلك إذا
جعلنا القيد للعام الثابت بعد التخصيص ما لا يكون خمراً أو بولاً معلوم النجاسة مع
بقاء الخاص على اطلاقه بلحاظ النجاسة الواقعية للخمر أو البول.
والوجه في هذا
النحو من التقييد أنّه المقدار المتيقن عدم إمكان اجتماعه مع حكم العام ،
والضرورات تقدر بقدرها ، فلا وجه للتقييد والتخصيص أكثر من مقدار المنافات بينهما
بحيث لا يمكن الأخذ بهما ، والمفروض امكان ذلك بناءً على امكان الجمع بين الحكم
الواقعي بالنجاسة والحكم الظاهري بالطهارة في المائع المردّد ، فيثبت بذلك كونه
ظاهراً فيه ، ويكون واقعياً في غير الخمر والبول مثلاً.
وبهذا نكون قد
احتفظنا على وحدة الجعل وتعدد مجعوله وتغايره في مورد العناوين الواقعية عن مورد
العنوان المشكوك ، ولا يكون التمسك بالعام فيه من التمسك به في الشبهة المصداقية
للمخصّص كما انّ ثبوت دخل الشك في الحكم يكون بضم الخاص إلى العام لا بالعام ليقال
بأنّ الإطلاق لا يثبت دخل الخصوصيات في موضوع الحكم.
كما انّه لا يرد
انّ الجعل واحد وإن كان المجعول منحلاً ، والجعل امّا أن يؤخذ في موضوعه الشك أو
لا يؤخذ ، فالجمع بينهما في جعل واحد تهافت وتناقض ؛ لأنّ المأخوذ في الجعل عدم
كون الشيء خمراً معلوم النجاسة ، وهذا يصلح أن يكون جامعاً بين الحكم الواقعي في
غير الخمر والظاهري في الخمر غير المعلوم ، وهذا واضح.
وهذا هو مطلب
السيد الشهيد 1.
والجواب عليه :
أوّلاً
ـ بالنقض بسائر
موارد العمومات المختصة بالشبهة المصداقية لمخصصاتها فإنّه لا يقال بذلك فيها.
وثانياً
ـ بالحلّ ، وهو أنّ
الإطلاق أو العموم بمعنى شمول فرد أو حالة ليكون منافياً مع حكم الخاصّ فرع تحديد
ما هو موضوع الجعل والكبرى في المرتبة السابقة من الخطاب العام والخاص ، وما يكشف
عن الجعل موضوعاً ومحمولاً الإطلاق بالمعنى الآخر لا بمعنى الشمول أي بمعنى كشف
عدم دخل القيود المسكوت عنها اثباتاً في موضوع الحكم ثبوتاً وهذا الظهور الاطلاقي
الراجع إلى التطابق بين عالم الاثبات والثبوت في دليل الخطاب محفوظ مع قطع النظر
عن شمول العام وتطبيقه على هذا الفرد أو ذاك أو حالة العلم أو الشك فيكون كاشفاً
عن عدم دخل الشك وعدم العلم في موضوع الحكم بالطهارة ، كما يكون الخاصّ كاشفاً عن
عدم دخل العلم بالخمرية في نجاستها فيكون الجعلان واقعيين فيقع التنافي بينهما
بنحو بحيث لابد من تقييد العام بنقيض العنوان الخاص لا الخاص المعلوم حكمه ، نظير
ما إذا كان المخصّص متصلاً ، وهذا واضح.
ص ٩٩ الهامش ...
يرد
عليه : انّ التطوير في
المتن يجعل الشك وعدم العلم بالنجاسة مأخوذاً قيداً في موضوع الجعل لا المجعول.
وهو كاف في اثبات الظاهرية ، وامّا لسان الدليل فهو مقام اثباته والدلالة عليه لا
غير.
نعم ، يمكن أن
يقال بأنّ مسألة كون الإطلاق ليس جمعاً للقيود لا ربط له بما نحن فيه ، لوضوح انّه
حتى إذا كان عموم أحوالي كما إذا قال : كلّ شيء طاهر وفي جميع الأحوال سواء شككت
في طهارته أم لا مع ذلك لا نستفيد منه الطهارة الظاهرية ؛ لأنّ هذا لا يعني جعل
الطهارة عليه بعنوان كونه مشكوكاً ليكون
ظاهرياً بل بعنوان
كونه شيئاً ، فالعموم لحاظ للقيود لا جعل الحكم منوطاً بها كما إذا قال : ( أكرم
كل عالم من أي علم كان ) ، فإنّ هذا لا يعني انّ الحكم ثابت على كل صنف من العلماء
لدخل ذلك الصنف فيه بل هذا مجرد تنويع في لحاظ المفهوم في طرف موضوع القضية ،
وإنّما تثبت الظاهرية ، حيث يؤخذ الشك قيداً في موضوع الجعل ولو ثبوتاً ، بحيث
يكون الحكم منوطاً به ، وهذا لا يستفاد لا من الإطلاق الأحوالي ولا الأفرادي لكل
شيء طاهر أو حلال ، بل مقتضى عمومه أو اطلاقه الاثباتي اطلاقه الثبوتي ، وعدم أخذ
الشك في موضوعه ثبوتاً ، فيكون الحكم واقعياً.
فهذا الإطلاق أعني
عدم أخذ الشك قيداً في الشيء الواقع في مدخول الكل مثبت لواقعية هذا الحكم لا
محالة.
ولعلّ المقصود من
انّ الإطلاق لحالات الشك ليس جمعاً للقيد هذا المعنى أي لا يثبت أخذ الشك قيداً في
الجعل ، وقد عبّر بهذا التعبير مسامحة كما يشهد لذلك ما يأتي في التعليق على
المناقشة الثالثة البيان الثاني منها فراجع.
ثمّ انّ الاشكال
الأوّل وهو انّ ثبوت الحكم في فرض الشك وحالته بالاطلاق الأحوالي أو الأفرادي لا
يثبت أخده فيه بل مجرد ثبوته في هذه الحالة بعنوان كونه شيئاً وهو منسجم مع الحكم
الواقعي المرسل الثابت في حال الشك.
هذا الاشكال غير
وارد إذا كان النظر إلى الإطلاق للشبهات الموضوعية كما هو كذلك ؛ لأنّه في حالة
الشبهة الموضوعية ، كما إذا تردد المائع بين كونه خمراً أو ماءً ، لو فرض ثبوت
الطهارة أو الحلية كانت ظاهرية لا محالة ؛
لاستحالة ثبوت
الطهارة أو الحلية الواقعية في هذه الحالة ، مع كون الخمر الواقعي نجساً وحراماً ؛
للتضاد بين الأحكام الواقعية ، فلا محالة تكون حكماً ظاهرياً.
وإن
شئت قلت : انّه بالملازمة
يثبت انّ هذا الحكم الثابت في حال الشك بنحو الشبهة الموضوعية قد اخذ في موضوعه
الشك وبملاكه فالتطوير الذي ذكره السيد الشهيد في المتن يكون جواباً على الاشكال
الثاني وهو عدم جواز التمسك بهذا الإطلاق الأفرادي أو الأحوالي بعد ثبوت التخصيص
وخروج بعض الأفراد ـ ليعقل الشبهة الموضوعية ـ لكونه من التمسك بالعام في الشبهة
الموضوعية فتدبر جيداً.
والبيان المطور في
المتن يأتي ليثبت انّ الشك مأخوذ ثبوتاً قيداً ، بتقريب انّه لا موجب لتقييد هذا
الخطاب العام بأكثر من موارد العلم بنجاسة الشيء موضوعاً وحكماً ، فيبقى موارد
الشك تحت العام ، وحيث انّ العام لابد وأن يتقيد بنقيض عنوان الخاص ، فلا محالة
يتقيد بعدم العلم بالنجاسة ، وهو معنى أخذ الشك وعدم العلم بالنجاسة في الحكم بالطهارة
للمشكوك ، فيكون جعلاً ظاهرياً لا محالة.
وظاهر الكتاب انّ
السيد الشهيد يريد بهذا البيان اثبات أخذ الشك في الجعل وبالتالي ظاهرية الخطاب مع
انّه غير تام لما سيأتي من انّه إذا فرض وجود جعل واحد للطهارة على كل شيء ليس
خمراً معلوم الخمرية مثلاً ، فلا مانع من أن يكون خطاباً واقعياً بأن يكون معلوم
الخمرية نجساً حراماً واقعاً فقط على ما سيأتي ، فهنا خلط بين اشكالين ، والصحيح
ما سنبينه في المنهجة الفنية.
وقد أجاب عليه
السيد الشهيد 1 بما ذكر في المتن من انّ واقعية حكم العام لم يكن على أساس
الإطلاق الأحوالي لخطابه لمورد العلم بالمخصص ـ أي العلم بالنجاسة ـ ليرتفع ذلك
بهذا المقدار من التقييد ، ولا يبقى موجب لرفع اليد عن إطلاق العام لمورد الشك بل
هو مقتضى التطابق بين عالم الاثبات والثبوت من ناحية عدم أخذ الشك في لسان دليل
الخطاب ، فإنّه يقتضي أن يكون الجعل ثبوتاً أيضاً خالياً من هذا القيد ، وبالتالي
واقعياً ، وهذه الدلالة بضمها إلى دلالة الخاص على الحكم الواقعي أيضاً تنتج انّ
العام مقيد لباً بعدم عنوان الخاص واقعاً لا بعدم العلم به فلا يكون الخطاب العام
مأخوذاً فيه ثبوتاً قيد الشك وعدم العلم بالمخصص ـ أي عدم العلم بالنجاسة أو
الحرمة ـ فلا يستفاد الحكم الظاهري بل الواقعي كما لا يصح التمسك به في مورد الشك
لكونه شبهة مصداقية للمخصص.
إلاّ أنّ هذا
البيان فرع أن لا يكون مفاد العام إلاّجعلاً واحداً لا جعلان مبرزان بهذا الخطاب
بنحو الأخبار أو جعل واحد موضوعه عدم الخمرية أو البولية المعلومة النجاسة أو
الحرمة ـ وهو جعل واحد واقعي في غير الخمر وظاهري في المشكوك على ما سيأتي في دفع
المناقشات التي أثارها القوم ، وإلاّ فلا منافاة بين أخذ القيدين معاً عدم واقع
الخاص في الجعل الواقعي وعدم العلم به في الجعل الظاهري إذا فرض تعددهما والجملة
خبرية أو أخذ عدم الخمرية أو البولية معلومة الحكم على فرض وحدة الجعل حيث يكون
هذا هو مقتضى لزوم الاقتصار في التقييد والتخصيص على القدر المتيقن.
والحاصل
: لو فرض إمكان
انشاء جعل واحد بهذا النحو فلا موجب ـ ما لم نبرز نكتة اخرى مما يأتي في المناقشات
القادمة ـ لأن نرفع اليد عن إطلاق العام
لموارد الشك ـ سواءً
كان أحوالياً أو أفرادياً ـ ولازمه بعد ثبوت التخصيص تقييد العام بعدم العلم
بالخاص.
لا
يقال : التمسك بهذا
الإطلاق فرع احراز القيد الثبوتي للجعل في المرتبة السابقة وانّه عدم العلم بحكم
المخصص أو عدم واقع المخصّص فما لم نحرز ذلك في المرتبة السابقة لا يمكن التمسك
به.
فإنّه
يقال : ليس الأمر كذلك
إذ هذا بحسب الحقيقة من الشك في أصل التقييد والتخصيص الزائد نظير موارد الدوران
بين الأقل والأكثر في المخصّص وليس من الشبهة المصداقية للمخصص ، فالتخصيص بعدم
العلم بحكم الخاص أقل من التخصيص بعدم واقع الخاص فيكون إطلاق العام للزائد على
المتيقن حجة وبالتالي مثبتاً لكون القيد هو عدم العنوان الأقل من المخصص وهو الخاص
المعلوم حكمه.
لا
يقال : نتمسك بالاطلاق
الاثباتي عن مثل هذا التقييد أعني عدم التقييد بعدم الخمرية المعلومة النجاسة والحرمة
لا لاثبات عموم الحكم وثبوته في المعلوم ليقال بأنّه مقطوع العدم بل لنفي أخذ
التقييد المذكور جداً في الجعل واثبات انّ القيد ـ حيث يعلم بأصله ـ إنّما هو عدم
الخاص واقعاً فإنّ لوازم الظهورات حجة فيقع التعارض بينه وبين الإطلاق المقتضي
لعدم أخذ واقع الخاص وبحسب النتيجة لا يثبت ما هو قيد الجعل ثبوتاً فلا يثبت الحكم
في مورد الشك.
فإنّه
يقال : أوّلاً ـ يرد النقض بذلك في موارد التمسك بالعام في مورد اجمال المخصص الدائر بين الأقل
والأكثر لجريان البيان المذكور فيه حرفاً بحرف.
وثانياً
ـ انّ التمسك
بالاطلاق النافي للقيد الأضيق بعد فرض العلم بالتقييد امّا به أو بالأوسع منه أشبه
بالتمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات التخصص.
وبتعبير أدق ظهور
المطلق في عدم أخذ أي قيد بلحاظ القيود المفهومية التي تكون فيما بينها نسبة الأقل
والأكثر يتعامل معه العرف تعامل الظهور الواحد الدائر أمره بين الأقل والأكثر لا
الظهورات العديدة المستقلة بعدد المفاهيم والعناوين المتباينة للتقييد ، فإذا فرض
وجود أصل التقييد كان ذلك معناه انخرام الظهور في عدم أخذ القيد الأضيق المتيقن
فلا يمكن التمسك بالاطلاق من ناحيته من حيث العنوان لكونه متيقناً من حيث المصداق
، والمحكي الخارجي وإن كان غير متيقن من حيث العنوان. وهذا محل بحثه في العام
والخاص.
وهكذا يتضح انّه
لا مخلص من هذا التطوير إلاّبانكار أصله الموضوعي من تعدد الجعل أو ثبوت جعل واحد
موضوعه عدم الخمرية المعلومة الحرمة والنجاسة ، فإنّ الأوّل خلاف ظهور بل صراحة
الجمل في الانشاء لا الاخبار والثاني أيضاً في قوّة تعدد الجعل روحاً ولباً وإن
كان واحداً صياغة وهو خلاف الظاهر أيضاً ، والله العالم.
ومن مجموع ما تقدم
يعرف انّه كان ينبغي طرح البحث بالنحو التالي :
فأوّلاً يذكر
التقريبات المذكورة لاطلاق المغيّى للمشكوك حيث يثبت به الحكم الظاهري ، وذلك بأحد
تقريبات ثلاث :
١ ـ ما عن السيد
الخوئي 1 من إطلاق كل شيء للمشكوك بوليته ومائيته ـ الشبهة الموضوعية ـ وظاهره الإطلاق
أو العموم الأفرادي مع المناقشة فيه بأنّه ليس اطلاقاً افرادياً بل أحوالي.
٢ ـ ما عن المحقّق
الخراساني في حاشيته من الإطلاق الأحوالي للشبهات الحكمية والموضوعية.
٣ ـ ما عن المحقّق
الخراساني في حاشيته من العموم الأفرادي للشيء الملازم مع الشك أي الذي يكون الشك
في نجاسته الذاتية الملازمة مع فرض وجوده بحيث لا حالة غير مشكوكة له بنحو الشبهة
الحكمية أو الموضوعية كما إذا شك في انّ المتولد من الكلب والشاة كلب أو شاة بنحو
الشبهة الموضوعية أو نجس أو طاهر ـ لو كان حقيقة ثالثة ـ بنحو الشبهة الحكمية ـ ثمّ
يقال بأنّ التقريبات الثلاث ترد عليها جميعاً اشكالان اثباتيان مذكوران في كلمات
الأصحاب كما انّ هناك اشكالات ثبوتية ، امّا الاثباتيان فهما :
١ ـ انّ هذا
الإطلاق أو العموم لا يثبت الحكم في المشكوك بعنوان انّه مشكوك بل يثبت في حال
الشك أيضاً للشيء ، وهو يناسب الحكم الواقعي فإنّه أيضاً ثابت في فرض الجهل ،
وإنّما الحكم الظاهري أن يثبت دخل القيد أي الشك في موضوع الحكم وهذا لا يثبته
الإطلاق أو العموم المذكور بوجه أصلاً ؛ إذ ليس مفادها دخل الخصوصيات الفردية أو
الحالية في ذلك الحكم ، هذا في الإطلاق للمشكوك بنحو الشبهة الموضوعية ، وامّا
المشكوك بنحو الشبهة الحكمية فعموم كل شيء ينفي فيه الشك ويثبت حكمه الواقعي لا
محالة ، وهو ظاهر.
وهذا الاشكال الذي
سجّله الجميع على صاحب الكفاية حتى السيد الشهيد 1 غير وارد ؛ إذ ثبوت الحكم بالطهارة أو الحلية في مورد
المشكوك بنحو الشبهة الموضوعية بل والحكمية أيضاً ، بنحو الفرض والتقدير ـ فإنّه
يمكن أن لا يعلم مكلف بمخصّص للطهارة الواقعية في مورد فيشك مع ثبوت النجاسة
فيه واقعاً ـ يلازم
دخالة الشك فيه وبالتالي كونه ظاهرياً إذ لا يعقل أن يكون واقعياً في حال الشك مع
كونه واقعاً خمراً ونجساً ، فإذا دلّ عليه كان ظاهرياً لا محالة.
٢ ـ انّه من
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه أو مقيده إذ لا اشكال في خروج البول
والخمر مثلاً عن العام فيتقيد بعدمه لا محالة ومع الشك في الخمرية أو البولية يكون
من الشبهة المصداقية للمخصص الذي لا يجوز التمسك فيه بالعام.
وهذا الاشكال هو
الذي يكون التطوير المذكور في الكتاب صالحاً لدفعه ، وامّا الاشكال السابق فلا
يندفع بالتطوير المذكور إذ أخذ عدم العلم بالخمرية في موضوع الجعل لا يجعله
ظاهرياً بل يمكن أن يكون واقعياً كما إذا كانت النجاسة والحرمة مجعولتين على معلوم
الخمرية أو النجاسة والحرمة بناءً على امكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه كما هو
الصحيح ، وإنّما تثبت الظاهرية بعد فرض ثبوت النجاسة والحرمة للخمر واقعاً حتى في
حال الشك ، وعندئذٍ تثبت الظاهرية بنفس ثبوت الحكم في مورد الشك كما تقدم.
فالتطوير المذكور
ينفع لدفع اشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وقد تفطن المحقق
الخراساني إلى هذا الاشكال في حاشيته ودفعه بأنّ العام من ناحية الحكم الواقعي وإن
كان مقيداً بعدم واقع الخاص فيكون التمسك به من الشبهة المصداقية إلاّ انّه من
ناحية الحكم الظاهري لا وجه لأن يكون مقيداً بذلك فلا يكون التمسك بالعام من هذه
الناحية من الشبهة المصداقية ، وهذا توضيحه الفني ما ذكرناه من انّه مع فرض تعدد
المجعول وانّ العام يكشف عن الجامع
بينهما يمكن أن
يحافظ على ظهور الخاص في الواقعية وثبوته حتى في مورد الخمر المشكوك ، ومع ذلك لا
يقيّد العام إلاّبالخمر معلوم الحرمة والنجاسة ويكون هذا جعلاً واقعياً في غير
الخمر وظاهرياً في المشكوك خمريته أو حرمته ونجاسته.
ولا جواب على هذا
إلاّما تقدم :
أوّلاً
ـ النقض بسائر موارد
الشبهات المصداقية بين المخصصات والعمومات حيث لا يتعامل فيها كذلك.
وثانياً
ـ الحل وذلك بأنّ
العرف يرى الخاص المنفصل بمثابة المتصل في الكشف عن المراد فكما لو كان متصلاً كشف
عن تقيد موضوع العام بغير الخاص كذلك في المنفصل.
وإن
شئت قلت : يرى العرف
ويتعامل مع العام والخاص بما هما ناظران إلى مرحلة ورتبة واحدة من الجعل ، فكما
انّ الخاص مفاده الحكم الواقعي غير المنوط بالجهل والعلم كذلك العام فإنّ هذا لو
لم يكن ممتنعاً ومحذوراً ثبوتياً ـ كما سيأتي في كلمات الأصحاب ـ فلا اشكال في
انّه خلاف الظاهر اثباتاً.
وإن
شئت قلت : انّ هذا
كاستعمال انشاء واحد للكشف عن مدلولين تصديقيين متباينين ، فإنّه خلاف الظاهر جداً
، حتى إذا كان غير ممتنع استعمالاً.
وهذا هو الجواب
الفني عن شبهة المحقق الخراساني 1 لا الايرادات الاخرى
المذكورة من قبل
المحققين بعنوان الاشكال والمحذور الثبوتي فإنّها مندفعة جميعاً على ما هو مبيّن
في الكتاب.
ص ١٠٤ قوله : ( التعليق الأوّل ... ).
يمكن المناقشة فيه
بأنّ استفادة الاستصحاب لا يتوقف على ذلك ، بل يكفي الدلالة على انّ الطهارة أو
الحلية المجعولة مغياة بالعلم بالانتقاض ، فإنّ التعبد بهذا بنفسه تعبد بالاستصحاب
؛ لوضوح عدم انحصار التعبد الاستصحابي بجعل عنوان الاستمرار والبقاء ، بل لعلّ
أدلّة الاستصحاب لا ظهور له في ذلك بالمطابقة ، فإذا قيل كل شيء ثبت في زمان فهو
ثابت إلى أن يعلم بانتقاضه كان وافياً بافادة الاستصحاب.
ص ١٠٤ قوله : ( التعليق الثاني ... ).
قد
يقال : ما في هذا
التعليق متجه إذا فرض ارادة استفادة الاستصحاب من النسبة الغائية ، وامّا إذا
استفدناه من إطلاق الطهارة لحالة الشك في القذارة بقاءً بنحو الشبهة الموضوعية بعد
ضم ذلك إلى دليل واقعية النجاسة في مورد الشبهة الموضوعية ، فيثبت بالملازمة انّ
هذه الطهارة ظاهرية لا واقعية ، فهذا ينسجم مع كون النسبة الغائية نسبةً ناقصةً
وحدّاً واقعيّاً للطهارة المحمول في كل شيء طاهر.
والجواب
: انّ هذا لا يثبت
الاستصحاب بعنوانه وإنّما يثبت الطهارة الظاهرية في مورد الشك في البقاء التي هي
مفاد قاعدة الطهارة ، وامّا الاستصحاب فلابد من اثبات دخل الشك في البقاء بخصوصيته
فيه وهذا لا يثبت.
ص ١٠٥ قوله : ( كما إذا قال كل شيء طاهر
وهذه الطهارة مستمرة إلى أن تعلم انّه قذر ).
بل لا يصح حتى على
هذا التقدير ما لم يؤخذ في موضوع النسبة الثانية الشك في بقاء الطهارة وإلاّ كانت
بياناً لاستمرار الطهارة المجعولة بالجملة الاولى حقيقة لا تعبداً.
ص ١٠٥ قوله : ( ثمّ انّه يرد على صاحب
الكفاية ... ).
فيه
: انّ هذا إنّما
يرد إذا كان استفادة القاعدة من المغيّى متوقفاً على ارجاع الغاية قيداً إليه ،
وأمّا إذا كان استفادته على أساس الملازمة التي نحن ذكرناها في تقريب كلام المحقق
الخراساني فلا يرد هذا الاشكال ؛ إذ لا يحتاج إلى ارجاع الغاية قيداً للصدر
لاستفادة القاعدة بل لاستفادة الاستصحاب فقط. نعم ، هذا يتجه على تقريب صاحب
الفصول ; على ما سيأتي.
ص ١٠٦ قوله : ( كما انّ لازم استفادة
الحكم الواقعي والظاهري ... ).
المقصود ايراد
اشكال آخر على كلام الحاشية بلحاظ الغاية والذيل ، وحاصله : لزوم ما يشبه
الاستخدام أو استعمال اللفظ في معنيين ، فإنّه إن اريد ارجاع الغاية إلى الحكم
الظاهري بما هو حد واقعي له والذي يعني بقاؤه حقيقة حتى يعلم بالنجاسة وانّه مع
الشك في النجاسة الواقعية تثبت الطهارة الظاهرية ما لم يعلم بالنجاسة وارجاع
الغاية إلى الحكم الواقعي بما هو استمرار تعبدي عند الشك فيها. فهذا يكون من قبيل
استعمال اللفظ في معنيين لا باعتبار انّ الاستمرارين التعبدي والواقعي معنيان للاستمرار
ليقال انهما معنى واحد ، بل لأنّ الاستمرار التعبدي يكون الشك في البقاء مأخوذاً
في موضوعه ، بخلاف
الاستمرار الواقعي
، وباعتبار انّ الاستمرار الواقعي يلحظ فيه المغيّى بنحو الموضوعية لايجادها
وجعلها ، بينما في الاستمرار التعبدي يلحظ الطهارة المغيّى بما هي مشكوكة ، أي
بنحو مفروغ عنها يراد اثباتها الظاهري.
وإن اريد جعل
الغاية للاستمرار التعبدي بلحاظ الطهارتين في المغيى معاً ، فهذا في الشك في بقاء
الطهارة الظاهرية غير مناسب ؛ لأنّ استصحابها ليس دائماً مغيّى بالعلم بالقذارة بل
بالعلم بارتفاعها ، والذي قد يكون بلا علم بالقذارة كما في موارد الشك في النسخ أو
الشبهة الحكمية لنفس الطهارة الظاهرية بقاءً ، كما إذا شك في أخذ الظن بالخلاف
رافعاً لها أو شك في حجّية خبر الثقة مثلاً في الموضوعات أو الشك في قيام الحجة
على النجاسة بنحو الشبهة الموضوعية ، فإنّ الغاية في جميع ذلك العلم بالنسخ أو
الحجة على الخلاف أو أخذ عدم الظن بالخلاف قيداً.
وإن اريد ارجاع
الغاية إلى الاستمرار التعبدي لخصوص الطهارة الواقعية دون الطهارة أو للجامع ،
فهذا استخدام وارجاع للغاية إلى بعض مفاد الصدر المغيّى ، وهو خلاف الظاهر على
انّه لا يتم فيما إذا كان الشيء مشكوكاً حدوثاً بحيث كانت طهارته المتيقنة ظاهرية
فقط ، فإنّ الغاية فيها لا يناسب أن يكون العلم بالنجاسة حتى بلحاظ الجامع.
وهذا الاشكال يمكن الاجابة
عليه :
أوّلاً
ـ يمكن أن يقال بأنّ
الذيل لو كان ناظراً إلى قاعدة الاستصحاب التي هي قاعدة اخرى غير أصالة الطهارة
ومركوزة في الأذهان انّ فحواها التعبد بالاستمرار والبقاء ما لم يعلم بالانتقاض
فلا محالة يفهم انّ المراد من جعل العلم
بالنجاسة غاية
ارادة العلم بالانتقاض للحالة السابقة وارتفاعها ، ففرق بين ارجاع الغاية للصدر
لاثبات أصالة الطهارة عند الشك ، فالمناسب فيها ارادة موضوعية العلم بالنجاسة وبين
ارجاعها إلى الاستمرار التعبدي الذي هو الاستصحاب ، فإنّه عندئذٍ يكون المتفاهم
منه ارادة العلم بارتفاع الحالة السابقة ، وانّ التعبير عنه بالعلم بالنجاسة
باعتبار وضوحه.
وإن
شئت قلت : انّ العرف يفهم
انّ ذكر العلم بالنجاسة غاية لاستصحاب الطهارة الظاهرية عند الشك في نسخها أو
تقييدها بعدم الظن أو الامارة من باب الفرد الواضح من الغاية حيث انّ العلم
بالنجاسة أيضاً غاية في هذه الحالة ويتعدى إلى العلم بالانتقاض من غير ناحية العلم
بالنجاسة أيضاً.
وثانياً
ـ يمكن جعل الغاية
وهي العلم بالنجاسة الصريح في ارادة العلم بالنجاسة الواقعية قرينة على رجوعها إلى
خصوص الطهارة الواقعية وارادة الشك في الطهارة والنجاسة الواقعتين في موضوع
الاستمرار التعبدي فيكون الرجوع إلى بعض مفاد الصدر لاتمامه بقرينة ولا محذور فيه.
خصوصاً إذا لاحظنا انّ الحاجة إلى الاستمرار التعبدي إنّما يكون في ذلك لا الشك في
الطهارة الظاهرية إذ فيه يمكن التمسك بنفس دليل الطهارة الظاهرية والذي هو إطلاق
الصدور نفسه حيث تجري أصالة الطهارة في تمام الشبهات الثلاث للطهارة الظاهرية
باطلاق المغيّى نفسه بحيث يرتفع الشك فيها لا محالة فلا موضوع أو لا حاجة فيها إلى
الاستمرار التعبدي والاستصحاب.
والمتلخص من مجموع
ما تقدم أي التعليق الثاني والثالث يرجعان إلى اشكال واحد ذو شقين ، وتوضيحه :
انّ استفادة
الاستصحاب من هذه الجملة مع الطهارة الواقعية أو هي والظاهرية من الصدر إذا كانت
بنحو جملة واحدة ذات نسبة تامة واحدة في طرفها نسبة تقييدية وهي انّ كل شيء طاهر
طهارة مستمرة إلى العلم بالقذارة فهذا محال ؛ لأنّ الغاية أعني ( حتى ) في هذه
النسبة الواحدة تقع طرفاً للمحمول بنحو النسبة الناقصة والنسبة الناقصة هي
الاستمرار الحقيقي للمحمول أو النسبة لا التعبدي لأنّ الاستمرار التعبدي يحتاج إلى
الحكم بالاستمرار تعبداً بنحو النسبة التامة أو الحكم بالطهارة ظاهرية بقاءً ما لم
يعلم بالقذارة وأن يؤخذ في موضوع ذلك الشك في الطهارة الاولى فلا يمكن استفادة ذلك
من الجملة الواحدة بل حتى إذا أرجعنا الجملة إلى نسبتين بالتحليل كما هو الصحيح
فإنّ ثبوت المحمول المقيّد ينحل إلى ثبوت ذاته وثبوت القيد له أي كل شيء طاهر
وطهارته مستمرة إلى حين العلم بالقذارة إلاّ انّ ذلك بمعنى الاستمرار الحقيقي لا
التعبدي.
وإن اريد استفادة
ذلك على أساس دعوى رجوع الجملة إلى نسبتين مختلفتين هما كل شي طاهر والطهارة إذا
ثبتت فهي باقية تعبداً إلى حين العلم بالقذارة فهذا لا محذور فيه ثبوتاً ، ولكنه
خلاف الظاهر اثباتاً لوضوح انّ الجملة المذكورة لا ترجع إلى مثل هاتين النسبتين
التامتين بل استفادتهما معاً منها ممتنع للطولية بينهما ، إذ الثانية لكي يكون
استصحاباً لا مجرد قاعدة الطهارة في كلّ شك لابد وأن يؤخذ فيها الفراغ عن الطهارة
الاولى وثبوتها في الحالة السابقة والشك في بقائها.
ثمّ انّ كلام صاحب
الكفاية فرع أن لا نستظهر رجوع الغاية إلى الموضوع ، بل رجوعه إلى المحمول أو
النسبة فيكون المحمول طهارة مغياة أو ثبوت الطهارة مغيّى بالعلم بالنجاسة ، وإلاّ
لم يكن ما يدل على الاستمرار أصلاً بل مفاده كل
ما لا يعلم انّه
قذر طاهر ، وهذا ليس إلاّ القاعدة لا محالة ، وسوف يأتي صحّة هذا الاستظهار.
ثمّ إنّ وجه اصرار
مثل المحقق الخراساني وصاحب الحدائق على استفادة الطهارة الواقعية في طرف الصدر
مجيىء عنوان الشيء في موضوع الصدر الذي هو على حدّ العناوين الواقعية الاخرى يناسب
كون المحمول عليه حكماً واقعياً.
فهذه النكتة
مشتركة عندهم ، وإن اختلفا بعد ذلك فيما يستفاد من الغاية ، وهذه النكتة أيضاً غير
صحيحة لأنّ كلمة ( شيء ) ليست من العناوين الواقعية بل هو مفهوم مبهم واسع أتى به
هنا لتأكيد العموم لا لافادة العنوان الأولي المناسب مع الحكم الواقعي ، كيف
والمركوز عرفاً انّ الطهارة والنجاسة لا تثبت للأشياء بعنوان كونها شيئاً أي بهذا
العنوان المبهم العام الشامل لكل شيء ، فالاتيان به في موضوع الصدر ليس إلاّلافادة
التعميم في الحكم بالطهارة ما لم يعلم القذارة ، وهذا يجعل انّ المستظهر من مثل
هذه التركيبات رجوع الغاية إلى الموضوع وهو الشيء لأنّه بنفسه لا يناسب أن يكون
موضوعاً فكأنّه يقول : كل ما لا تعلم انّه قذر أي شيء كان طاهر.
فيكون مفادها
القاعدة فقط.
ويمكن تقريب كلام
الكفاية بما يدفع الاشكالات المذكورة من قبل الأعلام ، وذلك خلال مقدمتين :
الاولى
ـ انّ ظاهر الصدر
كون عنوان الشيء تمام الموضوع للحكم بالطهارة والحلّية ، وهو عنوان واقعي ولا وجه
لرفع اليد عن اطلاقه وارجاع الغاية إليه ، بل
قد لا يناسب جعل (
حتى تعلم ) الذي هو قيد زماني راجعاً إلى الذوات ، وإنّما يناسب رجوعه إلى الحدث
والفعل والحكم والنسبة في الجملة.
الثانية
ـ استفادة جعلين من
الذيل :
أحدهما : ثبوت
أشياء نجسة ومحرمة واقعاً في الجملة.
وثانيهما : ثبوت
الحكم بالطهارة والحلّية حتى يعلم بالنجاسة والحرمة ، وهذا يوجب بقاء الصدر على
إطلاقه في غير العناوين الخارجة بالتخصيص مثبتاً للطهارة والحلّية الواقعية
واستمرار الطهارة والحلّية في موارد الشك والتردد إلى أن يعلم بالنجاسة والحرمة ،
وهذا في مثل قولنا : ( الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه تغيّر بالنجاسة ) ، وقولنا :
( كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه تنجس بالبول ) واضح ، فإنّه يستفاد من الصدر طهارة
الماء غير المتغيّر بالنجاسة واقعاً ، كما يستفاد من الذيل انّه مع الشك ما لم
يعلم بذلك تكون الطهارة باقية ظاهراً ، لمكان التقييد بعدم العلم ، وهذا لا يتوقف على
أخذ التقدير واستفادة نسبتين تامتين من جملة واحدة ، بل يكون بملاك الدلالة
الالتزامية التي ذكرناها.
وإن
شئت قلت : يستفاد من
الذيل تقييد الصدر ، وهو طهارة كل ماء بما لا يكون متغيراً معلوم التغيّر ، فكأنّه
قال : الماء كلّه طاهر إلاّ إذا كان متغيّراً بالنجاسة ومعلوماً ، وكلّ شيء طاهر
إلاّ إذا كان بولاً أو خمراً معلوم النجاسة.
وقد تقدّم انّ مثل
هذا الخطاب يمكن أن يكون واقعياً في غير البول والخمر ...
من العناوين
الواقعية الاخرى ويكون ظاهرياً في المردد بينهما من دون لزوم تعدد الجعل والنسبة
التامة.
وجواب هذا التقريب :
أوّلاً
ـ انّه لا ينتج
الاستصحاب بل ينتج قاعدة الطهارة عند الشك في الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها
الواقعية ؛ لأنّ مفاد الذيل ثبوت الطهارة والحلّية في حال عدم العلم بالنجاسة
والحرمة ، سواء كان من الشك في البقاء أو الحدوث.
وإن
شئت قلت : انّ غايته ثبوت
الطهارة الواقعية ظاهراً إلى زمان العلم بالقذارة امّا انّ ذلك من أجل الاستصحاب
أو القاعدة؟ فهذا لا يتعيّن من الذيل ، كما انّ ظاهر جملة ( فإذا علمت فقد قذر )
دخالة نفس العلم في الحكم بارتفاع الطهارة ، ممّا يعني انّ ثبوته أيضاً لمجرد عدم
العلم بالقذارة وليس ذلك إلاّ القاعدة.
وثانياً
ـ هذا الاستظهار
يصلح إذا كان القيد أو الاستثناء ولو بلسان الغاية راجعاً إلى مجموع أمرين استثناء
العنوان المخصّص الواقعي والعلم به كما في المثالين المذكورين ، ولا يصلح فيما إذا
كان القيد أمراً واحداً وهو عدم العلم بالنجاسة أو الحرمة ، فلا تتشكل تلك الدلالة
الالتزامية للكلام ؛ إذ لا يمكن أن يكون كل شيء طاهر واقعاً مقيداً بالنجس إلاّ إذا
اخذ مشيراً ومعرفاً إلى العناوين الواقعية كالبول والخمر والدم ، وهو خلاف الظاهر
، فلا محالة يكون قيداً واحداً راجعاً امّا إلى موضوع الصدر أو محموله ، فيكون
ظاهرياً على كلا التقديرين.
كما انّ ما ذكر من
عدم تناسب الرجوع إلى الموضوع أي الشيء في غير محلّه ؛ لأنّه ليس كالعناوين
الأوّلية ، بل عنوان انتزاعي يصلح تقييده بالغاية الزمانية.
هذا ، مضافاً إلى
انّه من المعلوم انّ مجرّد الشيئية لا يمكن أن يكون موضوعاً للحكم الواقعي
بالطهارة والحلّية إلاّ إذا كان مشيراً إلى العناوين الواقعية ، وهو خلاف الظاهر ،
بخلاف ما إذا كان الحكم ظاهرياً فيكون الموضوع الشيء الذي لا يعلم نجاسته وحرمته.
ص ١٠٧ قوله : ( وأمّا القول المنسوب إلى
صاحب الفصول ... ).
الظاهر انّ
استفادة صاحب الفصول أيضاً مبتنية على استظهار ارجاع الغاية إلى المحمول أو النسبة
لا الموضوع فيكون مفاد الرواية كل شيء طاهر طهارة إلى أن يعلم بالنجاسة ، وحيث
انّه قد اخذ العلم بالنجاسة غاية فيها يعرف انها ظاهرية ، وحيث حكم بأنّها باقية
إلى العلم بالقذارة ببركة ( حتى ) استفيد الاستمرار والاستصحاب عند الشك في
البقاء.
والجواب
عليه : بما تقدم من
انّ هذا الاستمرار واقعي لا تعبدي ، أي حدّ للطهارة الظاهرية المجعولة فهي باقية
حقيقة إلى العلم بالنجاسة لا تعبداً فإنّه بحاجة إلى لحاظ نسبة اخرى مباينة وطولية
ويستحيل استفادتها من النسبة الغائية الناقصة.
ص ١٠٩ قوله : ( امّا وجه عدم معقوليته
فباعتبار ... ).
يلاحظ
عليه : انّ عدم
القذارة بمعنى المجعول الفعلي قد اخذ في موضوع جعل الطهارة وهذا لا محذور فيه ،
وامّا النجاسة فتكون مجعولة على العلم بها ولو جعلاً لا مجعولاً ، إذ ليس هذا
الدليل متكفلاً لبيان جعل النجاسة ليستظهر منه أخذ العلم بالمجعول فيه المحال ،
وإنّما يستفاد ذلك بالملازمة العقلية البرهانية وهي تقتضي أن يكون المأخوذ العلم
بالجعل لا المجعول لاستحالته ، فلا موجب
لرفع اليد عن ظهور
الدليل في انّ الطهارة المجعولة في هذا الدليل واقعي ، بل لا وجه لرفع اليد عن ذلك
حتى على مبنى القوم من استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوعه مطلقاً ، إذ ينكشف
بالملازمة انّ المأخوذ في طرف النجاسة ما يكون ممكناً عندهم من العلم بالصدور
والانشاء أو غير ذلك مما ارتكبوه من التأويلات في بعض الأدلّة الظاهرة في أخذ
العلم بالحكم في موضوعه من الفقه وهذا ان استلزم تأويلاً في تلك الأدلّة فليس
تأويلاً في هذا الدليل لعدم تكفله بيان حكم النجاسة موضوعاً ومحمولاً بل حكم
الطهارة ويستكشف منه حكم النجاسة بالملازمة العقلية ، فإذا كان محالاً أخذ العلم
بالنجاسة في موضوعها كان المدلول الالتزامي ما هو ممكن لا رفع اليد عن ظهور الدليل
في الواقعية لو سلم أصله.
لا
يقال : مقتضى التلازم
المذكور أن يكون موضوع العام نقيض الخاص ، فإذا كان موضوع النجاسة العلم بالجعل
كان اللازم أن يكون موضوع الطهارة الواقعية عدم العلم به لا عدم العلم بالمجعول ،
فيلزم الغاء ظهور العام في انّ الغاية عدم المجعول.
فإنّه
يقال : لا وجه للالغاء
المذكور بل يلتزم بأنّ الطهارة المجعولة بهذا الخطاب مغياة بعدم العلم بالنجاسة
بمعنى المجعول بحيث حتى لو أمكن محالاً العلم بجعل النجاسة وبموضوعها دون استلزام
ذلك العلم بالمجعول الفعلي كانت الطهارة ثابتة ، لأنّ هذا الفرض لا يتحقق خارجاً
لكي يلزم التنافي بين الجعلين فتدبر جيداً.
نعم ، يمكن تغيير
الاشكال بنحو آخر حاصله : انّ ظاهر هذا الخطاب أخذ
عدم العلم
بالنجاسة في موضوع الحكم بالطهارة ثبوتاً بحيث يجتمع هذا الاحتمال مع الحكم
بالطهارة لا أنّ الحكم بالطهارة بهذا الخطاب يوجب رفع ذلك الاحتمال ، وهذا لا يمكن
أن يكون طهارة واقعية لأنّ احتمال اجتماع الضدين كالقطع بهما مستحيل ، فلابد وأن
تكون ظاهرية.
ص ١١٠ قوله : ( وقد ذكرنا انّ من آثار
أخذ المتيقن ... ).
هناك أثران
يترتبان على المبنيين :
الأوّل : انّه بناءً على أخذ اليقين السابق موضوعاً لا يمكن اجراء
الاستصحاب في موارد الامارة إلاّبناءً على مبنى قيامها مقام القطع الموضوعي ،
بخلافه على القول بأنّ الموضوع ثبوت الحالة السابقة واليقين مجرد طريق إليه.
الثاني : انّه بناءً على أخذ اليقين السابق موضوعاً لو انكشف
الخلاف وانّه لا ثبوت للحالة السابقة كان الاستصحاب جارياً واقعاً لتحقق موضوعه ،
فبناء على اجزاء الحكم الظاهري يحكم بعدم الاعادة أو القضاء. وهذا بخلاف ما إذا
قيل بأنّ الحالة السابقة بوجودها الواقعي موضوع فإنّه إذا انكشف عدم مطابقة اليقين
السابق للواقع ينكشف عدم جريان الاستصحاب واقعاً ، وإنّما كان يعتقد به جهلاً ،
فلا مجال للاجزاء.
ثمّ انّ حمل مثل
صحاح زرارة على انّ اليقين السابق مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بقرينة
رواية ابن سنان أو ابن بكير المتقدمتين لو شككنا في دلالة الاولى على الاستصحاب
مبني على فرض عدم احتمال تعدد الجعل كما هو كذلك ؛ إذ لا يوجد عرفاً إلاّملاك واحد
للجعل لا ملاكان ، وهو غلبة
البقاء على تقدير
الحدوث ، وإلاّ أخذنا بهما معاً وتثبت القاعدتان ويترتب على ذلك كلتا الثمرتين
السابقتين.
إلاّ أنّ هذا بعيد
جدّاً ؛ لعدم وجود قاعدتين إحداهما التعبّد ببقاء الواقع عند الشك في ارتفاعه
والآخر التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن السابق عند الشك فيه ، بل هناك قاعدة واحدة
مستظهرة من مجموع هذه الروايات ، ومن هنا لابدّ من الجمع بين الطائفتين والتصرف في
ظهور إحداهما بقرينة الاخرى.
وهنا احتمالات عديدة
:
١ ـ أن يرفع اليد
عن ظهور اليقين في صحاح زرارة في الموضوعية ، فيحمل على الطريقية إلى ثبوت الحالة
السابقة بقرينة كون اليقين طريقاً عرفاً وعقلائياً ـ وهذا ما صنعه السيّد الشهيد ـ
وعندئذٍ تترتب الثمرة الاولى دون الثانية.
٢ ـ العكس ، وذلك
بأخذ اليقين موضوعاً وحمل صحيحة ابن سنان على ارادة اليقين بطهارة الثوب مع جعل
تمام الموضوع نفس اليقين فتترتّب الثمرة الثانية دون الاولى.
٣ ـ نفس الفرضية
مع أخذ الحالة السابقة والحدوث جزء الموضوع أيضاً ، فلابدّ من اليقين السابق مع
ثبوت الحدوث واقعاً فلا تترتب الثمرتان.
٤ ـ أن نحمل
اليقين ـ ولو بقرينة صحيحة ابن سنان ـ على أنّه مأخوذ في الموضوع للحكم الظاهري
ولكن بما هو حجة ومحرز للواقع ، فالحدوث مع الاحراز هو الركن للاستصحاب فتترتب
الثمرة الاولى دون الثانية.
٥ ـ أن نحمل
اليقين على انّه موضوع للحكم الظاهري بما هو حجة ومحرز للواقع ويكون تمام الموضوع
من دون دخل واقع الحدوث في ذلك فتترتب كلتا الثمرتين في هذه الصورة أيضاً.
ولا يخفى أنّ ما
اختاره السيد الشهيد 1 بعيد جدّاً ؛ لقوّة ظهور صحاح زرارة في دخل اليقين في
التعبد الاستصحابي ، كيف وقد عبّر فيها بعدم نقض اليقين بالشك الظاهر في استحكام
اليقين ، وأنّ الشك لا ينبغي أن يهدمه أو يوجب رفع اليد عنه ، ومن هنا قيل لا
ينبغي ذلك أبداً وانقضه بيقين آخر.
والحاصل مقتضى
الاحتمال الأوّل أن يكون التعبد الظاهري موضوعه نفس الحدوث الواقعي للشيء ، فكأنّ
حدوث شيء موجب لبقائه ، فلا يرفع اليد عنه بالشك في بقائه وارتفاعه ، ومثل هذا
الحكم الظاهري وإن كان معقولاً ، ولكنه غير الاستصحاب المتقوّم بحسب لسان أدلّته
الاخرى باليقين السابق وما فيه من الاستحكام المقتضي للجري عليه وعدم الاعتناء
بالشك في قباله ، فإنّ هذه نكتة اخرى غير تلك النكتة ، وهي ملحوظة في روايات
الاستصحاب قطعاً.
كما انّ صحيحة ابن
سنان ليست ظاهرة في نفي ذلك إلاّبمثل الإطلاق والسكوت.
نعم ، هي ظاهرة في
دخالة الحدوث في التعبد الاستصحابي ، فإذا استبعدنا وجود قاعدتين تعبديتين
ظاهريتين كان مقتضى الصناعة اشتراط اليقين والمتيقن معاً في هذا الركن للاستصحاب ،
وهو الاحتمال الثالث من الاحتمالات المتقدّمة ، والله العالم.
ص ١١٢ قوله : ( احداهما : ... انّ
الاستصحاب لا يجري في المفرد المردد ... ).
عدم جريان
الاستصحاب في الفرد المردد ليس من ثمرات اشتراط الشك في البقاء ، بل لا يجري حتى
إذا كان الشرط تعلّق الشك بما فرغ عن تعلق اليقين به بل بلحاظ العنوان الإجمالي
يوجد شك في البقاء ، وإنّما لا يجري الاستصحاب ـ كما سيأتي في محلّه ـ لكون ما هو
موضوع الأثر الشرعي هو الفرد ، وهو مردّد بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث.
ويمكن
أن يقال : انّ الركن
الثاني هو الشك في نفس العنوان المتيقن الموضوع للأثر ، وهنا حيث انّ ما يترتب
عليه الأثر الفرد بعنوانه التفصيلي فبلحاظه لا يوجد يقين سابق وشك بل أحد الفردين
مقطوع الارتفاع والآخر لا يقين بحدوثه بل قد يكون مسبوقاً باليقين بالعدم فيستصحب
عدمه ، فبهذه المناسبة يكون مربوطاً بالركن الثاني ، وإن كان بالدقة مربوطاً
بالركن الثالث المستنتج من الركن الثاني.
ص ١١٤ قوله : ( أوّلاً ـ تطبيقه في
الشبهات الموضوعية ... ).
هذا العنوان لا
يتطابق مع المثال المذكور في صدر الكلام وهو عدم جريان الاستصحاب في مورد
الاستحالة ؛ لأنّه وإن كان من تبدّل الموضوع إلاّ أنّ الشبهة فيه حكمية لا موضوعية
كما هو واضح.
ثمّ انّ مبنى هذا
الركن الاستظهار من أدلّة الاستصحاب ، أي عدم صدق النقض مع تبدل الموضوع أو عدم
اتحاد القضيتين.
إلاّ أنّه ذكر
الشيخ في الرسائل وجهاً كأنّه عقلي لاثبات ذلك وهو استحالة انتقال العرض عن موضوعه
إلى موضوع آخر ؛ ولهذا أشكل عليه في الكفاية بأنّ المستحيل الانتقال الحقيقي لا
التعبدي الذي هو الاستصحاب ، وهناك تأويلات وتمحّلات من قبل بعض المحققين كالعراقي
والشيخ الحائري وغيرهما لتصحيح مطلب الشيخ 1 وتوجيهه لا ترجع إلى محصّل وليس مهماً أيضاً.
والمهم ما ذكره
السيد الخوئي 1 والسيد الشهيد إجمالاً من جريان الاستصحاب في الهليات
البسيطة أي الشك في وجود الشيء وبقائه والذي يكون محمولاً أوّلياً على الماهية
والموضوع الماهية لا الوجود لوحدة القضيتين ، بل انحفاظ الموضوع وهو الماهية
أيضاً.
وفي الهليات
المركبة أي إذا شك في عدالة زيد سواء كان مع احراز حياته أو مع الشك فيهما
مستقلاًّ أو الشك في العدالة من جهة الشك في وجوده ، ففي الصور الثلاث يجري
استصحاب العدالة وحده أو مع الوجود ، أي استصحاب بقاء زيد حيّاً عادلاً ؛ لأنّ
مرجع ذلك ( إذا كانت العدالة مأخوذة بنحو مفاد كان الناقصة ) انّ الموضوع مركب أو
مقيد من حياة زيد وعدالته ، وهو متيقن سابقاً ، فيجري استصحابه بناءً على كفاية
اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، بل يجري حتى على تعبير الشيخ ـ أي اشتراط
بقاء الموضوع ـ امّا على التركيب فواضح ، حيث يكون معروض الوصفين الماهية ، وامّا
على التقييد واضافة العدالة إلى زيد الحيّ بما هو حي ، فهذا معناه انّ اتّصاف
ماهية زيد بالحياة المعروضة والموصوفة بالعدالة موضوع الأثر الشرعي ، وثبوت هذه
الصفة لماهية زيد متيقن سابقاً ، فنثبته بالتعبد الاستصحابي.
إلاّ أنّ هذا كلّه
إذا كان الموضوع بقاء زيد أو بقاؤه عادلاً في الخارج بنحو مفاد كان التامة ، وأمّا
إذا كان بنحو مفاد كان الناقصة بمعنى اثبات حيثية وخصوصية لشيء خارجي معين ، فتارة
: يكون معروض تلك الخصوصية والصفة محفوظة ولو كانت الحيثية تقييدية فيجري
الاستصحاب عند الشك في بقاء الاتصاف به كما إذا شك في بقاء الصورة النوعية
كالكلبية مثلاً لجسم فنستصحب بقاءه كلباً أو ميتة لترتيب الآثار عليه ؛ لأنّ هذا
المعروض وهو الجسم محفوظ ، واخرى : يفرض تلك الخصوصية معدّدة للوجود الخارجي ولو
عرفاً بحيث لا يكون المشار إليه في الخارج واحداً فلا يجري الاستصحاب ، وهذا من
قبيل استصحاب بقاء الجسم المتنجس عند الشك في استحالته ـ بناءً على ما سنذكره ـ من
تعدّد الجسم وتغيره بالاستحالة عرفاً ومن قبيل ما إذا شك في انّ الماء الموجود في
الاناء نفس الماء السابق أو انّه تبخّر ثمّ صار ماءً آخر بالتقطير فلا يوجد موضوع
ومشار إليه واحد مشترك لكي يشار إليه ويقال أنّه كان كذا فالآن كذلك.
وهذا نظير ما إذا
كنا نعلم أنّ الإمام لهذه الجماعة كان زيداً وشككنا أنّه هل لا يزال هو أو ذهب
وجاء مكانه عمر ، فإنّه لا يمكن أن نشير إلى الإمام الموجود بالفعل ونقول انّه كان
زيداً العادل والآن كذلك ، كما انّ استصحاب بقاء زيد في ذلك المكان لا يجدي لاثبات
إمكان الاقتداء به.
وهكذا يتّضح صحّة
ما ذكره الشيخ 1 في هذه الحالة ، وما ذكره المحقّق الخراساني لا يجدي نفعاً
لتصحيح الاستصحاب هنا.
ثمّ إنّ حكم
الاستحالة للأعيان النجسة في الشبهة الحكمية الطهارة ؛ لعدم
جريان استصحاب
النجاسة الذاتية فيها ؛ لقيامها بالصورة النوعية كالكلبية ، وهي منتفية قطعاً
وحيثية تقييدية ـ على ما يأتي شرح معناها ـ.
وأمّا الأشياء
المتنجسة ـ كالخشب المتنجس ـ فقد استشكل في عدم جريان استصحاب بقاء نجاسته بعد
صيرورته ملحاً مثلاً بأنّ موضوع النجاسة العرضية الجسمية وهي محفوظة وباقية.
وخالف البعض ـ كالمحقّق
الداماد وغيره ـ في ذلك مدعياً بأنّه لا دليل عليه ، والظاهر استفادته من مجموع
أدلّة الانفعال بالغاء الخصوصية ، بل باطلاق ما دلّ على الأمر بغسل كلّ ما أصابه
النجس ـ كما في بعض النجاسات ـ ومن هنا نسب السيد الخوئي 1 إلى المحقق
الثاني ـ حكاية له عن الشيخ الأنصاري في بحث الاستحالة ـ انّه فصّل في مطهرية
الاستحالة بين الأعيان النجسة والمتنجسة.
والصحيح عدم جريان
الاستصحاب فيه أيضاً ؛ لأنّ الجسمية متبدّلة عرفاً بحيث لا وحدة بين القضيتين.
وإن
شئت قلت : انّ هذا يشبه
عرفاً تبدل الماء بخاراً ثمّ رجوعه ماءً أو صيرورة البذر زرعاً ، فكأنّ الملح جسم
آخر تولّد من الخشب والملح.
ومنه يعرف عدم
جريان الاستصحاب الموضوعي هنا أيضاً عند الشك في الاستحالة خارجاً ـ كما أشرنا
آنفاً ـ لعدم انحفاظ موضوع وجسم واحد يمكن أن يشار إليه فيقال بأنّه كان عنباً
سابقاً ويشك فيه بقاءً لكي يستصحب.
ص ١١٦ قوله : ( الطريق الأوّل ... ).
يمكن أن يلاحظ
عليه : بأنّ كفاية احتمال بقاء المتيقن لأنّ الاستصحاب تعبد ببقاء ما يحتمل بقاؤه
صحيح ، إلاّ أنّ هذا عبارة اخرى عن اشتراط وحدة القضيتين أو بقاء الموضوع المتيقن في
المشكوك ؛ لأنّ بقاء المتيقن إذا كان مشكوكاً بنحو مفاد كان التامة وكان المشكوك
موجوداً شخصياً لا تردد فيه فاحتمال بقاؤه يساوق ما ذكر ، لأنّ موضوع النقيضين
الماهية لا الوجود وهي واحدة ، وإن كان بنحو مفاد كان الناقصة أي كون هذا الموجود
في الخارج كذا فهو فرع أن تكون القضية المتيقنة موضوعها هذا الخارجي أيضاً لا غيره
، وإلاّ لم يكن احتمال لبقاء المتيقن ، ويشترط في الاستصحاب تعلّق الشك بنفس ما
تيقن به ، والمطلوب في الشبهة الحكمية ذلك أي نجاسة الماء الذي زال تغيره مثلاً.
وعندئذٍ يقال : إن
كانت النجاسة للماء المتغير بما هو متغير وكان التغير حيثية تقييدية ، أي هو معروض
النجاسة ، فما كان يتيقن انّه النجس غير ذات الماء المشكوك فعلاً نجاسته ، ومجرد
احتمال كون النجاسة من أوّل الأمر مجعولة على الماء الذي حدث فيه التغيّر آناً ما
المساوق مع كون الموضوع للنجاسة ذات الماء المحفوظ بالفعل ، لا يكفي لجريان
الاستصحاب ما لم نضمّ ما سيأتي في الطريق الثاني من كون الحيثية تعليلية ؛ إذ يكون
المقام عندئذٍ من موارد العلم الإجمالي بثبوت احدى قضيتين في الخارج ـ حتى بلحاظ
عالم المجعول ـ نجاسة ذات الماء الذي حدث فيه التغير أو نجاسة الماء المتغير بما
هو متغير ، واحداهما مقطوعة الارتفاع ، والاخرى مقطوعة البقاء ولكن لا يقين به.
نعم ، هناك يقين
وشك بلحاظ الجامع والكلي بينهما ، وهو لا يجري في الأحكام التكليفية على ما يأتي
في محلّه ، واستصحاب الواقع والفرد المردد لا يجري ، ولو فرض جريانه أيضاً لما كان
يجدي هنا في اثبات انّ الماء الموجود الذي زال تغيّره هو النجس إلاّبناءً على
الأصل المثبت.
هذا مضافاً إلى
أنّ لازم هذا البيان الالتزام بجريان الاستصحاب في موارد الشبهات الحكمية التي
تكون الحيثية الزائلة فيها تقييدية عرفاً ؛ لصدق الشك في البقاء ووحدة القضيتين
وبالتالي صدق لا تنقض. وهذا النقض لا دافع له.
ولا أدري كيف صدر
هذا الجواب من السيد الاستاذ 1 ، وأحتمل أنّه وقع خطأ في التقرير ، وانّ هذا الاشكال قد
أورده
السيد الشهيد على
السيد الخوئي في منعه للاستصحاب الجزئي في الشبهة الموضوعية مطلقاً على ما سنذكره.
ص ١١٨ قوله : ( وهكذا نستنتج على ضوء
المقدمتين ... ).
ويلحق بالحيثية
التعليلية فرض الشك بأن كانت الحيثية بحيث يحتمل العرف تقييديتها ، فلابد من الجزم
بكون الحيثية تعليلية عرفاً ، وإلاّ كانت شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب ، وقد ذكر
ذلك السيد الخوئي 1 وهو متين.
إلاّ أنّ الذي جاء
في تفصيل هذا القسم في الدراسات لا يخلو من تشويش ، فإنّ ظاهره الشك فيما هو
الموضوع للحكم بالنجاسة وانّه الصورة النوعية المرتفعة أو الحجّية الباقية ، وهذا
النحو من الشك لا يختصّ بكون العنوان حيثية تقييدية ، بل يجري في التعليلية أيضاً
، مع انّ المثال الأصحّ لهذا القسم هو أن يشك العرف في كون التغيّر مثلاً حيثية
مقوّمة وتقييدية أو تعليلية.
كما انّ ما جاء في
الدراسات من بناء فتوى المحقق الثاني بعدم مطهرية الاستحالة في المتن على هذا الشك
غير تام ؛ إذ بناءً عليه لا يجري الاستصحاب في استحالة المتنجس ، ومع عدم جريانه
يرجع إلى القاعدة فيحكم بالطهارة ، فتكون النتيجة المطهرية لا عدمها ، فراجع
عباراته وتأمل.
وهناك سهو آخر في
كلامه ، وهو الحاق الشبهات المفهومية بذلك مطلقاً ، والمنع عن جريان الاستصحاب
الحكمي فيها ، مع انّه قد يكون ما يحتمل دخله في المفهوم وبالتالي في الحكم حيثية
تعليلية عرفاً ، فيجري الاستصحاب الحكمي في مثل ذلك جزماً.
ثمّ إنّ السيد
الخوئي قسّم الشبهة إلى الشك في مرحلة الجعل والشك في مرحلة المجعول ، وحكم في
الأوّل بعدم جريان الاستصحاب فيه ، بمعنى استصحاب عدم النسخ ؛ لأنّ الشك في الجعل
لاحتمال النسخ يكون شكاً في الحدوث لا البقاء ؛ لأنّ النسخ في الأحكام الشرعية ليس
رفعاً للحكم الثابت لاستلزامه الجهل ، وإنّما هو تخصيص أزماني من أوّل الشريعة
وبيان أمد الحكم ، فيكون الشك في جعل الحصة الثانية من أوّل الأمر ، وهو شك في أصل
حدوثه بعد العلم بقدمه ، فيكون مقتضى الاستصحاب عدم الجعل لا بقاء الجعل وعدم
النسخ.
ويلاحظ عليه :
أوّلاً
ـ انّ الإطلاق
الازماني للحكم سعة في المجعول لا الجعل وهو ابقائه للحصة الحدوثية بمنظار الحمل
الأولي الذي هو المراد بالمجعول على ما يأتي في بحث استصحاب عدم النسخ ، وما ذكره
هنا من استصحاب عدم
جعل الحصة الثانية
هو نفس استصحاب عدم الجعل الزائد الذي يذكر في المعارضة مع استصحاب بقاء المجعول
في سائر الموارد وليس استصحاباً آخر ، فلا وجه لعدم التوجه إلى استصحاب بقاء
المجعول في عمود الزمان ، وليس الزمان مفرداً ومغيراً للمجعول قطعاً ، فكان ينبغي
بناءً على ارجاع النسخ إلى التخصيص الازماني ذكر هذا المطلب ، لا اغفال هذا
الاستصحاب ، وذكر استصحاب عدم الجعل الزائد الثابت في تمام موارد استصحاب المجعول.
ثانياً
ـ النسخ ، بمعنى رفع
الجعل والغائه معقول على مستوى التشريع حتى عند الشارع ، ولا يستلزم الجهل على ما
سيأتي شرحه مفصلاً أيضاً.
ص ١١٩ الهامش : ...
ما ورد فيه من
النقض وارد على تعبير الكتاب ، والصحيح ما في ذيل الهامش إشارة من أنّ المستصحب
مجعول شخص الجعل المعلوم بالاجمال حيث يحتمل بقاؤه ـ مع قطع النظر عن اشكالنا على
أصل هذا الطريق ـ فالاستصحاب يعبدنا ببقاء نفس ذلك المجعول الشخصي ، لا أنّه يثبت
الجعل الآخر ، وإن كان هذا لازمه أن يكون ذلك الجعل قد جعل على ما اخذ فيه حدوث
التغيّر فقط موضوعاً ، إلاّ أنّ الاستصحاب لا يثبت اللوازم ، وإنّما يعبّدنا ببقاء
نفس المجعول الشخصي الحادث سابقاً مهما كان لازمه العقلي.
وهذا البيان لا
يجري في مورد النقض ، أي ما إذا علم بارتفاع الجعل الأوّل واحتمل مجيء جعل آخر كما
هو واضح.
ص ١٢١ قوله : ( ثمّ انّه بما ذكرنا يتضح
أيضاً حال استصحاب الحكم الجزئي ... ).
ذكر السيد الخوئي
انّ الشك في بقاء الحكم الجزئي في الشبهة الموضوعية لابد وأن يكون من ناحية الشك
في بقاء الموضوع ، ومعه يجري استصحاب الموضوع ، ولا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم
، بل لا يمكن استصحاب بقاء الحكم الجزئي ـ لو فرض عدم جريان الاستصحاب في الموضوع
ـ لعدم اتحاد القضيتين ... الخ.
وهو سهو من قلمه
الشريف جزماً كما ذكر في الكتاب ، فإنّ الحيثية المشكوكة إذا كانت تعليلية كما في
ملاقاة الجسم مع النجس جرى استصحاب طهارته عند الشك في الملاقاة أو استصحاب نجاسته
عند الشك في تطهيره بعد العلم بنجاسته ، كيف وصحيح ابن سنان صرّحت بجريان استصحاب
الطهارة في الشبهة الموضوعية ، وكذلك استصحاب الطهور من الحدث في صحيحة زرارة
وغيرها ، ففي مثل هذه الموارد لا إشكال في جريان استصحاب الحكم الجزئي عند عدم
جريان الاستصحاب الموضوعي على مسلك المشهور ، ومطلقاً على مسلكنا من عدم حكومة
الأصل الموضوعي على الحكمي الموافق معه في الأثر.
وأمّا إذا كانت
الحيثية تقييدية كما إذا شك في صيرورة الخمر خلاً فهل يجري استصحاب حرمته ، صريح
السيد الشهيد والسيد الخوئي عدم الجريان ؛ لعدم احراز وحدة الموضوع أو قل عدم
اتحاد القضيتين ؛ لأنّ المتيقن لم يكن حرمة ذات الموضوع بل بعنوان انّه خمر ،
والمشكوك حرمة الموجود الخارجي بما هو
لا بما انّه خمر.
ونلاحظ هنا انّ ما
ذكره السيد الشهيد من الطريق الأوّل صحيح هنا لا في الشبهة الحكمية ؛ لأنّ شخص
الحرمة الجزئية الفعلية يحتمل بقائها على هذا الموجود الخارجي حقيقة ، وليس مردداً
بين مجعولين وحرمتين ، فيكون نفس المتيقن محتمل البقاء.
وإن
شئت قلت : انّ المكلّف
كان على يقين من انّ هذا المائع خمر حرام شربه والآن شاك في كليهما ، وهذه القضية
المتيقنة كما يمكنه أن يستصحب كونه خمراً لترتيب أثره عليه كذلك يمكنه أن يستصحب
كونه حراماً ولو بعنوان كونه خمراً ، فإنّ بقاء شخص هذا الاتصاف محتمل فلا وجه
لعدم شمول ( لا تنقض ) له على واقعه.
نعم ، استصحاب
الحكم الجزئي قد لا ينفع من جهة اخرى كما إذا شك في بقاء فقر زيد ، فإنّه لولا
استصحاب فقره لم يكف استصحاب جواز اعطائه الزكاة لاعطائه إذ يشترط اعطاء الزكاة
للفقير ومن دون إحراز ذلك يكون من الشك في الامتثال ، واستصحاب الجواز لا يثبت
ذلك. كما انّه في موارد الشك في الاستحالة أيضاً لا يجري الاستصحاب إذا كانت بحكم
وجود آخر عرفاً كما في استحالة المتنجس ، فإنّه يكون من قبيل الشك في انّ الماء
الموجود في الاناء هل هو الماء السابق أو انّه ماء آخر حصل بالتقطير ، وكما إذا شك
في انّ الإمام هل هو زيد العادل الذي كان هو الإمام في الصلاة الاولى أو انّه ذهب
وجاء مكانه عمرو ، فتدبر جيداً.
الأقوال في الاستصحاب
ص ١٣٢ ( وللتعليق
على هذا التفصيل ... ).
أي انّ منطقة
الفراغ في هذا التفصيل انّه لم يحلّل معنى استصحاب الحكم بمعنى المجعول وانّه ماذا
يعني ، فإنّ استصحاب المجعول فيه مشكلة بل مشكلتان لم يتعرّض لها الاصوليون.
نعم ، تعرّض
لاحداهما المحقق العراقي 1 في بحث اشتراط وحدة موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة حيث
قال : انّه لا يكفي وحدة موضوعهما في الماهية وإلاّ لأمكن اثبات حياة زيد عند الشك
فيه بالعلم بحياة عمرو لأنّ ماهيتهما واحدة ، بل لابد من اتحاد موضوعهما في الوجود
أيضاً ، وعلى هذا الأساس أشكل بأنّ المجعولات الشرعية لا وجود لها في الخارج بل في
الذهن فكيف يجري استصحابها.
ثمّ أجاب بما في
الوجه الثاني من انّ ظرف عروضها وإن كان في الذهن إلاّ انّ ظرف اتصافها في الخارج
، وحيث انّ هذا الجواب باطل فالجواب الصحيح عنها أنّ الشرط ليس هو اتحاد موضوع
القضيتين في الوجود الخارجي بل اتحادهما في الصدق.
وإن
شئت قلت : أن يكون الشك
متعلقاً بنفس ما فرغنا عن تعلّق اليقين به سواءً كان موجوداً خارجياً أم لا ، فإنّ
هذا كافٍ في صدق نقض اليقين بالشك.
والشبهة الاخرى
وهي التي أثارها السيد الشهيد 1 انّ المجعول حيث انّه لا حقيقة خارجية له بل أمر اعتباري
فتمام حصصه توجد دفعة واحدة بالجعل والاعتبار فلا يكون نجاسة الماء المتغير بعد
زوال تغيره مثلاً مجعولة بعد جعل نجاسته قبل زوال تغيّره بل توجدان معاً فلا يكون
بقاءً لها فكيف يجري الاستصحاب فيها.
وعلاج هذه الشبهة
بالبيانات المذكورة في الكتاب والتي ترجع إلى أحد جوابين مرتبطين بكيفية فهم
المجعول حيث انّه تارة يقيّد المجعول على انّه له حقيقة وفعلية ـ ولو بمعنى
الاتصاف الذي يقوله العراقي ـ تتحقق عند تحقق الموضوع في الخارج.
واخرى يفسّر
المجعول على انّه نفس الجعل والقضية الحقيقية ملحوظة بالحمل الأولي لا الحمل
الشائع.
فعلى الأوّل يكون
هناك مركزان للاستصحاب أحدهما مستقل عن الآخر ولا تهافت بينهما أحدهما القضية
الحقيقية التقديرية وهو المسمّى بالجعل ، والآخر تلك الحقيقة العقلية في الخارج
عند تحقق الموضوع ، ولا تعارض على كل التقادير بينهما بالبيانات المذكورة في
الكتاب مفصلاً.
وعلى الثاني يكون
مركز الاستصحاب واحداً ؛ لأنّه لا يوجد إلاّشيء واحد وحقيقة فاردة يمكن لحاظها
بأحد نحوين يفرض انّ بين اللحاظين تهافت كما هو مسطور في الكتاب فلابد من حمل دليل
الاستصحاب على أحدهما لا محالة.
كما انّ بين
المسلكين فرقاً آخر في حلّ المشكلة التي أثرناها ، فإنّه على المسلك الأوّل يكون
المستصحب هو الوجود الفعلي للمجعول في الخارج أي انّ الاستصحاب لا يكون مركزه
ومؤداه القضية الحقيقية التي يفتي بها الفقيه بل مركزه ومؤداه الفعليات الخارجية
لأنّ القضية الحقيقية الكلية لنجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره هي الجعل
المشكوك من أوّل الأمر والذي لم يكن بقاءً لقضية ( الماء المتغير قبل زوال تغيره
نجس ) الحقيقية فهي لا تثبت بالاستصحاب.
وهذا بخلافه على
المسلك الثاني حيث تكون نفس القضية الكلية بالحمل الأولي مصباً للاستصحاب ، وهذا
يعني انّ الفقيه لا يمكنه أن يفتي بالمجعول في الشبهة الحكمية بشكل كلي لأنّه قضية
حقيقية وهي ليست له حالة سابقة.
هذا خلاصة ما
يستفاد من بيان السيد الشهيد 1 في المقام ؛ ولنا في المقام وقفتان :
الاولى : فيما يتعلّق بالثمرة المذكورة ، فإنّه يمكن أن يقال بأنّ
الافتاء بالقضية الكلية صحيح حتى على مسلك المشهور لأنّ لازم الشك في القضية
الكلية الحقيقية الشك في القضايا الفعلية الخارجية للماء المتغيّر بعد زوال تغيّره
، أي انّ الفقيه يمكنه أن يشير اجمالاً إلى كل ما سوف يتحقق في الخارج من المياه
المتغيرة والتي يزول عنها التغيّر ويقول انني شاك في بقاء نجاستها الفعلية بنحو
القضية الخارجية على تقدير حصولها في الخارج فيجري استصحاب بقاء المجعول الفعلي
فيها من أوّل الأمر على تقدير ، وهذا نظير اجراء الاستصحاب
بلحاظ أمر مشكوك
في السابق أو في الزمن اللاحق ، فإنّ الشك فيه لا يتجدد بعد حصول زمانه إذا اشير
إليه بنحو القضية الخارجية.
نعم ، هذا من
الاستصحاب على تقدير ، إلاّ انّه أيضاً معارض مع استصحاب عدم جعل النجاسة ، لأنّ
ثبوت التعبد الاستصحابي ببقاء المجعولات والقضايا الفعلية الخارجية أيضاً لا يجتمع
مع التعبد الاستصحابي بعدم جعل النجاسة والمفتي يفتي ببقاء المجعول استناداً إلى
التعبد الاستصحابي المذكور على تقدير تحقق الماء المتغير في الخارج ، فتدبر جيداً.
ومنه يعرف أيضاً
الاشكال فيما سيأتي في الكتاب من انّ مقتضى هذا المسلك نجاة استصحاب المجعول عن
المعارضة بناءً على المبنى القائل بنجاة الأصل الطولي الزماني.
الثانية : ـ وهي المهمة ـ انّ ما ذكر في المسلك الثاني بهذا القدر
يمكن المناقشة فيه :
تارة : بأنّ العرف لو فرض عدم رؤيته للجعل إلاّبمنظار الحمل
الأولي فهذا لا يمنع عن جريان الاستصحاب فيه بالحمل الشائع إذا كانت أركانه تامة
ولو بنظر العقل ، لأنّ هذا يرجع إلى مرحلة التطبيق والمصداق الذي لا يكون النظر
العرفي ميزاناً فيه ، فإذا كان الجعل بمعنى القضية الحقيقية هو المنجز عقلاً وكان
اليقين بعدمه سابقاً جرى استصحاب عدمه لا محالة ، لتحقق مصداق اليقين والشك في أمر
منجز سواءً شخّصه العرف أم لا ، وامّا الجعل بالحمل الأولي فإذا فرض عرفيته بدرجة
بحيث يتشكل لدليل الاستصحاب إطلاق له أيضاً كان معارضاً مع الإطلاق السابق وإلاّ
لم يكن جارياً ، والنتيجة عدم جريان
استصحاب المجعول.
واخرى : بأنّه لا موجب أصلاً لفرض التهافت في النظر العرفي بين
اللحاظين للجعل بل يقال انّ كليهما عرفي لأنّ العرف أيضاً يميّز بين الحملين
الأولي والشائع في لحاظ الجعل ، فتارة يلحظ نفس النسبة والقضية الحقيقية بالحمل
الشائع فيراها مسبوقة بالعدم ، واخرى يلحظ محكيها بالحمل الأولي فيرى حدوثاً للماء
المتغير ونجاسته وبقاء لها بعد زوال تغيّره ؛ بل العرف يتعامل مع القضايا الجعلية
الاعتبارية تعاملها مع القضايا الحقيقية الواقعية ، ومن هنا يرى تعدد الجعل
والمجعول والاثنينية بينهما ، فالتهافت إنّما نشأ من افتراض وحدة الجعل والمجعول
الذي ثبت بالبرهان العقلي لا بالنظر العرفي.
ومن هنا لم يكن
اشكال في جريان استصحاب عدم الجعل عند الشك في أصله ، وكذلك استصحاب بقاء الجعل في
موارد الشك في النسخ.
وثالثة : بأنّ استصحاب عدم الجعل المطلق لا شك في جريانه في نفسه
ـ ولو بنظارة الحمل الأولي ـ كما إذا شك في أصل نجاسة الماء المتغير فإنّه لم يكن
شبهة في جريان استصحاب عدمه والتأمين من ناحيته فكذلك يقال في المقام إذ لا اشكال
في عدم العلم بجعل النجاسة للماء المتغيّر مطلقاً ومجرد العلم الإجمالي بالجعل
امّا للماء المتغير بما هو متغير أو للماء المتغير مطلقاً لا ينافي الشك في الجعل
المطلق فيجري استصحاب عدم هذا الطرف للعلم الإجمالي ، وامّا طرفه الآخر وهو الجعل
المقيد فيعلم بانتفائه بعد زوال التغير ، فالتنجيز المحتمل إنّما هو من ناحية
احتمال الجعل المطلق وهو منفي بالاستصحاب فيكون معارضاً مع استصحاب بقاء المجعول ،
وهذا يعني انّه حتى على هذا المسلك المختار في حقيقة المجعول يكون هناك استصحابان
متعارضان.
ولتمحيص ما أفاده
السيد الشهيد 1 وتعميقه بنحو تندفع كل هذه الشبهات نذكر مقدمتين :
اولاهما : انّ ما هو المنجز عقلاً ليس هو الجعل بما هو اعتبار
وانشاء أو ارادة لحاظ ذهني بالحمل الشائع ، وإنّما التنجيز في الجعل أو مباديه
بلحاظ تعلقه بالخارج واضافته إليه بالعرض ، أي جنبة حكايته وارائته ، والتي هي من
شؤون لحاظه بالحمل الأولي واللحاظ العنواني لا الشائع الصناعي ، بدليل انّه لو فرض
العلم بالجعل كوجود ذهني ولكن لم يعلم ما تعلق به ، أو لم يعلم تعلقه بالعنوان
المنطبق على الفرد المحرز في الخارج لأي سبب من الأسباب لم يكن منجزاً ، كما انّه
لو علم شمول الجعل وتعلقه بالفرد ولكن لم يعلم انّه شمله بعنوانه أو بعنوان أعم
منه أو بأي عنوان بحيث كانت القضية الحقيقية المجعولة مجهولة مع ذلك كان الحكم
منجزاً في ذلك الفرد.
وبهذا صحّ أن يقال
: انّ ما هو المنجز إنّما هو شمول الجعل للعنوان المنطبق على المورد ، لا بمعنى
الطرفية للجعل ، الذي هو معنى انتزاعي ، بل بمعنى الحكاية والمرآتية ، والتي هي من
شؤون لحاظ الجعل بالحمل الأولي لا الشائع الصناعي ، وهذا ليس أمراً عرفياً فحسب ،
بل عقلي دقي في تحديد ما هو موضوع التنجيز عقلاً.
ثانيهما : انّ المجعول الذي هو عين الجعل ولكن بالحمل الأولي وليس
شيئاً آخر وراءه تارة يضاف إلى جعل شخصي معلوم التحقق ، واخرى يلحظ في نفسه غير
مضاف إلى جعل مفروغ عنه.
ففي الحالة الاولى
كما إذا فرضنا أنّ هناك جعلاً مفروغاً عنه للنجاسة على
الماء المتغيّر
يشك في حدوده وسعته وضيقه ، فلا محالة يكون الشك في بقاء المجعول لشخص ذلك الجعل
لا حدوثه ؛ لأنّ حدوثه حتى في القضية الحقيقية مفروغ عنه.
وفي الحالة
الثانية كما إذا لاحظنا أصل جعل نجاسة للماء المتغير آناً ما وكان مشكوكاً فلا
محالة يكون الشك في حدوث مثل هذا المجعول الكلي تبعاً للشك في أصل جعله وارادته ،
فيجري استصحاب عدمه ، وهو من استصحاب عدم المجعول أيضاً ، أي استصحاب عدم الجعل
بالحمل الأولي لا الشائع.
هذا إذا كانت
الحالة السابقة العدم ، وإن كانت الحالة السابقة الوجود وشك في نسخه جرى استصحاب
بقاء المجعول الكلي وهو من استصحاب بقاء الجعل بالحمل الأولي أيضاً.
وفي ضوء هاتين
المقدمتين يتضح الجواب على المناقشات المتقدمة ، فإنّ الأولين يندفعان بما في
المقدمة الاولى ، فإنّ عدم الجمع بين اللحاظين ليس لقصور دليل الاستصحاب بل لأنّ
المنجز في المرتبة السابقة لابد من تشخيصه وهو الجعل بالحمل الأولي لا الشائع أي
الجعل بما هو حاك وبلحاظ مرآتيته لا بما هو وجود ذهني فلا يوجد مصبان ومركزان
للاستصحاب حتى عقلاً ، وما يسمّى باستصحاب عدم الجعل أو بقائه في موارد الشك في
النسخ أيضاً من استصحاب عدم الجعل بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع.
وامّا المناقشة
الثالثة فيمكن الاجابة عليها بنحوين :
الأوّل : ما هو ظاهر الكتاب من انّ أصل الجعل لو كان معلوماً ولو
بالعلم الإجمالي المردد بين الجعل المضيّق والموسع ، فلا محالة عند لحاظ المجعول
وهو نفس الجعل
بالحمل الأولي فلا يرى حالة سابقة عدمية له ؛ لأنّ أصل النجاسة مجعولة وثابتة بنحو
القضية الحقيقية ، بل يرى حالة سابقة وجودية ، فيجري استصحاب واحد فقط ، وهو
استصحاب بقاء المجعول ، وإنّما يرى حالة سابقة عدمية فيما إذا كان أصل الجعل
مشكوكاً ، أي لم يكن علم اجمالي في البين بأصل الجعل.
الثاني : اننا لو سلّمنا ثبوت المجرى والمصب الثاني للاستصحاب حتى
في مورد العلم الإجمالي وهو استصحاب عدم الجعل الذي هو من استصحاب عدم المجعول
الكلي وبالحمل الأولي الثابت قبل التشريع ، مع ذلك قلنا بأنّه لا تعارض بين
الاستصحابين ؛ لأنّ استصحاب عدم الجعل الكلي بهذا المعنى ينفي التنجيز عن احتمال
ثبوت الجعل الكلي المشكوك تحققه شرعاً ، ولا ينفي المنجزية من ناحية احتمال أن
يكون الجعل الشخصي المعلوم تحققه شاملاً للماء المتغير بعد زوال تغيره ، وما لم
ننف هذا الاحتمال لا يثبت التأمين ، فإذا اريد نفيه باستصحاب عدم الجعل المطلق
بضمه إلى العلم بأنّ الجعل المضيق لو كان فهو منتفٍ وغير شامل للماء بعد زوال
تغيره قطعاً ، فهذا من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، وإن اريد نفيه باجراء استصحاب
عدم شمول ذلك الجعل الشخصي للماء بعد زوال تغيره ولو بنحو العدم الأزلي ، فهذا
مضافاً إلى كونه من الاستصحاب في الفرد المردد ، لا تتم فيه أركان الاستصحاب
العدمي ، بل الوجودي ، لما تقدم في المقدمة الثانية من انّ المجعول عندما يضاف إلى
الجعل المعلوم بالاجمال تكون حالته السابقة الثبوت لا العدم ، فلا يجري إلاّ استصحاب
بقاؤه ، الذي هو استصحاب المجعول ، والذي لم يشكك في تمامية أركان الاستصحاب فيه
أحد ، حتى القائل بالمعارضة ، وإنّما توهم سقوطه بالمعارضة.
وهكذا تنحلّ هذه
الشبهة العويصة في الاستصحاب.
( مراجعة للبحث ) :
ينبغي التفكيك بين
مشكلة الافتاء التي أثارها السيد الشهيد 1 ومشكلة التعارض : ويقال في جواب شبهة التعارض : بأنّ
المعيار والميزان في تنجز الحكم شمول المجعول والمراد بالعرض للمكلف وللموضوع ،
فلو أحرز الموضوع وأحرز الجعل ولكن لم يحرز انطباقه على الموضوع المحرز أو على
المكلف لم يكن منجزاً ، سواء قلنا بأنّ للمجعول وجوداً فعلياً في الخارج أم لا.
وهذا يعني انّه
لابد من لحاظ المجعول بالجعل بالحمل الأولي وتطبيق دليل الاستصحاب عليه. وبهذا
النظر واللحاظ يكون للمجعول حدوث وبقاء.
وبتعبير
آخر : ما يحكم العقل
بمنجزيته إنّما هو الارادة أو الجعل الذي يكون مجعوله منطبقاً على المكلّف أو على
الموضوع الخارجي ، وحيث انّ انطباق الجعل على المكلّف أو الموضوع لابدّ فيه من
النظر إلى الجعل بالحمل الأولي أي إلى القضية المجعولة المتعلق بها الارادة ،
فيكون لا محالة هناك شك في البقاء ؛ لثبوت الانطباق حدوثاً والشك في سعته بقاءً ،
فهذا هو مركب الاستصحاب ، ومقتضى إطلاق دليله ، لا لأنّ العرف لا يفهم الجعل بما
هو انشاء ولا يراه دائراً بين الأقل والأكثر حدوثاً ، بل لأنّ ما هو ملاك التنجيز
هو انطباق الجعل على موضوعه والذي لا يعقل إلاّبالنظر إلى مجعوله ومتعلقه ، وبالنظر
إليه يكون الشك في البقاء فيجري استصحاب الحكم.
واستصحاب عدم
الجعل لو اريد به نفي انطباق المجعول عليه فمن الواضح أنّه أصل مثبت ، وإن اريد به
نفي الجعل بما هو جعل من دون النظر إلى مجعوله فهو ليس موضوعاً للتنجيز ـ ولعلّ
هذا هو حاق مقصود الميرزا 1 ـ.
وإن اريد به نفي
جعل يكون مجعوله شاملاً للمكلف أي مع النظر إلى مجعوله فبهذا النظر واللحاظ يكون
المجعول حدوثه محرزاً ، فلا معنى لاستصحاب عدمه.
وما قيل من أنّنا
ننظر إلى جعل مستقل يكون مجعوله مطلقاً وننفيه بالاستصحاب لأنّه أحد طرفي علمنا
الإجمالي بالجعل ، خلف قصر النظر على المجعول ؛ لأنّ معناه أخذ الجعل بما هو انشاء
قيداً فيه ، وهو أجنبي عن موضوع التنجيز ، فإنّ المنجّز شمول متعلق الجعل للموضوع
، وبقصر النظر عليه لا شك في الحدوث ، وإنّما الشك في البقاء لأنّ عالم المجعول
عالم الاتصاف والعروض بالعرض والمفروض انّه بلحاظه يكون حدوث الحكم محرزاً أوّلاً
والشك في سعته وبقائه.
ومنه يعرف عدم
ورود النقض باستصحاب عدم النسخ بمعناه الحقيقي بناء على صحته أو استصحاب عدم الجعل
في موارد الشك في أصله ، فإنّ المستصحب فيه أيضاً عدم المجعول الكلي لا الجعل بما
هو انشاء.
ثمّ انّه لو فرض
جريان استصحاب عدم الجعل الزائد لم يكن معارضاً ، كما في الجواب الآخر في الكتاب ؛
لأنّ المنجّز كلٌ من الجعل والمجعول ـ كما هو ظاهر السيد الخوئي 1 ـ مستقلاًّ ،
فنفي التنجيز من ناحية أحدهما لا ينافي ثبوته بالآخر ، فيكفي إطلاق دليل الاستصحاب
بلحاظ المجعول ، والذي لا قصور في اطلاقه له بحسب نظر الجميع ، وإنّما البحث في
اطلاقه لعدم الجعل الزائد.
إلاّ أنّ هذا
الجواب غير تام ، وكأنّه قيست المنجزية بالأثر الشرعي الذي
قد يثبت من ناحية
محرز لموضوعه دون آخر ؛ وذلك لأنّه بجريان استصحاب عدم الجعل المطلق مع العلم بعدم
الموضوع للجعل المقيّد بعد زوال القيد ينفى وجود أي منجز آخر في البين عقلاً ،
فاستصحاب بقاء المجعول إنّما ينجّز إذا كان وجود جعل صالح للشمول محتملاً في مورده
، لا ما إذا أحرز المكلف انتفاء الجعل المنجز.
وإن
شئت قلت : انّ السيد
الخوئي لعلّه يرى انّ المجعول إنّما يكون منجزاً مشروطاً بأن يكون وجود جعل كذلك
محتملاً لا منتفياً ، فالجواب النقضي على السيد الخوئي 1 غير متجه ، والله
الهادي للصواب.
ص ١٣٦ قوله : ( وهذا الجواب بهذا
المقدار ... ).
ما ذكر من انّ
العروض المسامحي عين العروض الحقيقي ممنوع ، بل العروض المسامحي إنّما يتحقق عند
تحقق الموضوع خارجاً كالاتصاف ، ويكون وجوده بما هو عارض مجازي بقاءً للحصة الاولى
من العروض المجازي في زمان فعلية التغيّر ، وهذا واضح ، ولهذا كان الاشكال الآخر ـ
أي إشكال الافتاء ـ أيضاً وارداً على هذا الفرض ـ كما في تقريرات السيد الحائري ـ.
والغريب انّه جمع
بين الاشكالين ، والصحيح انّ الجواب على هذا الفرض نفس الجواب القادم في الفرض
الرابع ، فتدبر تعرف.
ص ١٤٠ الهامش في
هذه الصفحة زائد لا داعي له كما انّ الهامش في الصفحة السابقة عليها أي ص ١٣٩ غير
تام على ما سيظهر فيحذفان معاً ، ويمكن تحويل الهامش السابق إلى ما ذكرناه من
جريان الاستصحاب بنحو تقديري عند المجتهد من أوّل الأمر فلا طولية زمانية.
ص ١٤١ قوله : ( وفيه : اننا لو سلمنا
صحة هذا التفكيك ... ).
حاصل
المناقشة : انّ حرمة اسناد
ما لا يعلم يرتفع بالتعبد الاستصحابي حقيقة لا تعبداً ، فإنّ قيام الأصل مقام
القطع الموضوعي حكومته واقعية لا ظاهرية ، فلا يمكن أن يكون جريان الاستصحاب
بلحاظه في طرف عدم الاباحة أو عدم الطهارة معارضاً مع استصحاب عدم جعل النجاسة لما
بعد زوال التغيّر بلحاظ أثره الطريقي ؛ إذ لا يوجد علم اجمالي بينهما ، بل شك بدوي
بنجاسة ذلك الماء وعلم وجداني بجواز الافتاء بعدم الطهارة ، لتحقق موضوعه وهو
العلم التعبدي حقيقة ، فلا تعارض بين الاستصحابين بلحاظ الأثر المختص.
وامّا الأثر
المشترك فإن احتملنا جواز الافتاء بحكمين يعلم بكذب أحدهما لمجرد أن يكون في كل
منهما علم تعبدي فلا تعارض بلحاظه أيضاً ، وإلاّ بأن استفيد من دليل حرمة اسناد ما
لا يعلم من الدين إلى الدين ولو بالفحوى عدم جواز ذلك في موارد العلم الإجمالي حتى
إذا كانت أركان الاستصحاب تامة في كلا الطرفين وقع التعارض في دليل الاستصحاب ؛
لشمول الاستصحابين بلحاظ هذا الأثر للقطع الموضوعي والذي تكون الحكومة فيه واقعية
، ومعه يقطع بحرمة الافتاء ؛ إذ لا علم لا وجداناً ولا تعبداً ، فأيضاً لا يكون
علم اجمالي بينه وبين الأثر المختص والطريقي في الطرف الآخر ، فعلى كلا التقديرين
حرمة المساورة للماء بعد زوال التغيّر ليست طرفاً لعلم اجمالاً بينها وبين حرمة
الاسناد ؛ لعدم الطهارة إلى الشارع ، إذ إمّا يقطع بجواز الاسناد أو يقطع بحرمة
الاسناد ، وهذه من بركات كون الحكومة بلحاظ أثر القطع الموضوعي واقعية لا ظاهرية ،
ومنه يعرف الوجه الفني والبرهاني لعدم دخول استصحاب عدم جعل النجاسة بلحاظ التأمين
عن حرمة مساورة الماء في المعارضة مع أثر القطع الموضوعي
في الطرفين. نعم ،
لو فرضنا انّ إطلاق دليل الاستصحاب للأثرين الطريقي والموضوعي إطلاق واحد لا
اطلاقان ، وفرضنا عدم قيام الاستصحابين مقام القطع الموضوعي مع العلم بكذب أحدهما
، لم يكن الاستصحاب حجة في اثبات الأثر الطريقي للماء أيضاً ، إلاّ أنّ هذا لا
موجب له بعد فرض تغاير الأثرين ووجود اطلاقين في دليل الاستصحاب بلحاظهما.
وحاصل
الجواب : انّ هناك حكماً
آخر غير حرمة اسناد ما لا يعلم انّه من الدين ، والتي تثبت حتى إذا كان ما اسند من
الدين واقعاً ، ولكن لا يعلم به المكلّف ، وذلك الحكم هو حرمة الكذب الثابتة
بأدلّة كثيرة مطلقة ، وفي خصوص الافتراء على الشريعة أيضاً ، وموضوعه اسناد ما لا
يكون مطابقاً للواقع لا ما لا يعلم ؛ إذ مفهوم الكذب ذلك ، وهذا يعني انّ موضوعه
أمر واقعي ، والاستصحاب مثبت أو نافٍ له بلحاظ قيامه مقام القطع الطريقي لا الموضوعي
، وفي المقام يعلم اجمالاً امّا بأنّ عدم الطهارة مخالف للواقع فيحرم الافتاء به ،
أو عدم النجاسة مخالف للواقع فيلزم الافتاء به ، كما يحرم مساورة الماء بعد زوال
التغيّر ، وهذا علم اجمالي بتكليف في طرف أو تكليفين في طرف آخر واستصحاب عدم جعل
الطهارة يرخص في التكليف الأوّل واستصحاب عدم جعل النجاسة يرخص في التكليفين فيكون
ترخيصاً في المخالفة القطعية ، ومنه يظهر انّ جريان استصحاب عدم الطهارة ليس
مبنياً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ هذا الأثر ـ أعني نفي حرمة
الكذب ـ طريقي.
نعم ، جواز
الاسناد قد يتوقف على نفي حرمة التشريع أيضاً والذي يبتني على قيام الاستصحاب مقام
القطع الموضوعي ، إلاّ انّه بالنسبة للمعارضة يكفي نفي حرمة الكذب به للزوم
الترخيص في المخالفة القطعية سواء كانت الحرمة
الاخرى بملاك
التشريع فعلية أم لا كما ظهر انّه بناءً على قيامه مقام القطع الموضوعي يكون
المورد من موارد ترتب أثر بلحاظ القطع الطريقي أيضاً فلا يكون الأثر خصوص القطع
الموضوعي ليقال بأنّ قيام مقامه لابد وأن يكون في طول قيامه مقام القطع الطريقي
فما في الهامش المتقدم باطل على هذا التقدير.
نعم ، يتم على
تقدير آخر سوف تأتي الإشارة إليه.
ولكن يلاحظ على هذا الجواب :
أوّلاً
ـ النقض ، بأنّ هذا
لازمه عدم جريان استصحاب عدم جعل الالزام حتى في موارد الشك في أصل الالزام كما لو
شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ؛ لأنّه معارض باستصحاب عدم جعل الاباحة
والترخيص بنفس البيان ، بل لا يجري كل استصحابين يعلم بكذب أحدهما كاستصحاب
النجاسة في شيئين الذين يعلم بطهارة أحدهما لأنّهما يتعارضان بلحاظ أثر حرمة الكذب
، إذ يرخصان في الافتاء بنجاسة كل منهما وهو ترخيص في المخالفة العملية.
وثانياً
ـ بالحلّ وهو انّ
الحرام بهذه الحرمة الاخرى هو عنوان الكذب وهو عنوان وحداني ينتزع من اسناد شيء
ويكون مخالفاً للواقع والاستصحاب يثبت الواقع أو ينفيه ، وهذا لازمه العقلي أن
يتحقق الكذب أو الصدق ، وليس عنوان الكذب مركباً من الإخبار بشيء ويكون غير مطابق
للواقع ، ولا عنوان الصدق هو الإخبار بشيء ويكون واقعاً ، فالاستصحاب لا يمكنه أن
ينفي موضوع حرمة الكذب سواءً قلنا بأنّه عبارة عن الإخبار بخلاف الواقع أو بخلاف
العلم والاعتقاد الشامل للعلم الإجمالي.
وبين التفسيرين
فرق من حيث انّه على الأوّل يكون اسناد كل من المؤديين والمحتملين إلى الواقع
منجزاً على المكلّف حرمته لو كان كذباً بالعلم الإجمالي فلا يجوز أن يفتي بأي واحد
منهما ، وعلى الثاني يجوز أن يفتي بواحد منهما من ناحية حرمة الكذب لأنّه ليس
اخباراً بخلاف الاعتقاد وإنّما لا يجوز أن يجمع بين الاخبارين.
نعم ، تبقى الحرمة
من ناحية التشريع وهي ترتفع بناءً على القول بقيام الامارات مقام القطع الموضوعي
إذا قيل بعدم المحذور في ثبوت العلم التعبدي في الطرفين ، إذ من حيث العلم يوجد
علمان تعبديان ومن حيث حرمة الكذب ، فالمفروض انّه يتحقق بمجموع الاخبارين
والاسنادين لا واحد منهما ، سواءً جرى الاستصحابان أم لا ؛ فيمكنه أن يسند أحدهما
المعيّن أو المردد إلى الدين ، وإنّما لا يمكنه الجمع بين الإخبارين من ناحية حرمة
الكذب.
ولو فرض كفاية
العلم الإجمالي في عدم امكان اسناد طرفه أيضاً إلى الشارع فأيضاً لا دخل للاستصحاب
النافي في ذلك ، فهذه الحرمة بناءً على هذا التفسير الثاني للكذب لا ربط لجريان
الاستصحاب بها أصلاً ، لا بلحاظ آثاره الموضوعية ولا الطريقية فلا توجب تعارضاً
ولا مشكلة في جريان الاستصحاب بلحاظها ، فلا يدخل استصحاب عدم الطهارة بناءً على
قيامه مقام القطع الموضوعي ونفيه لحرمة التشريع في المعارضة مع استصحاب عدم جعل
النجاسة بلحاظ أثره الطريقي وهو نفي وجوب الاجتناب عن الماء.
نعم ، بناءً على
التفسير الأوّل للكذب ، أي القول بخلاف الواقع ، والذي بناءً عليه لا يجوز الافتاء
بمؤدى أي استصحاب على انّه حكم واقعي لتشكل
علم اجمالي منجز
دائماً بأنّه امّا اسناد ومؤداه كذب وحرام أو اسناد نقيضه ، قد يقال بوقوع التعارض
بين استصحاب عدم جعل النجاسة هنا للماء بعد زوال تغيّره بلحاظ أثره الطريقي وبين
البراءة عن حرمة اسناد عدم الطهارة ، أو قل النجاسة إلى الدين ؛ للعلم بثبوت
أحدهما ، فنعوض عن استصحاب عدم الطهارة بالبراءة عن حرمة اسناد النجاسة أو عدم
الطهارة لايقاع المعارضة بين استصحاب عدم جعل الالزام الزائد في المرتبة السابقة
عن جريان استصحاب بقاء المجعول.
إلاّ انّ هذا
البيان أيضاً غير تام ؛ لأنّ البراءة تجري في الطرفين ويمتاز عدم النجاسة
بالاستصحاب بلحاظ الأثر العملي في الماء ، فنطبق الكبرى المتقدمة من انّ الأصل غير
المسانخ ينجو عن المعارضة إذا كان في الطرفين أصل مسانخ لابتلاء دليله بالاجمال
الداخلي.
وهكذا يتضح صحّة
الجواب الثاني للسيد الخوئي كالجواب الثالث ، فاستصحاب عدم جعل النجاسة أو الحرمة
الزائدة لا يعارض باستصحاب عدم جعل الاباحة أو الطهارة لا بنحو التناقض في التنجيز
والتعذير ولا بملاك العلم الإجمالي.
ص ١٤٤ الهامش.
ما فيه من اشكال
لزوم حكومة استصحاب عدم جعل أو بيان النهي على استصحاب المجعول تام ولا يرد الجواب
المذكور فيه ، لأنّ الأصل المذكور سوف يكون موضوعياً لا حكمياً ، والشبهة مصداقية
لدليل اباحة كل شيء لم يرد فيه نهي وهذا واضح.
ص ١٤٦ قوله : ( وإن اريد استصحاب عدم
شمول الطبيعة ... ).
جوابه
: أنّ الشمول كان
فعلياً والشك في بقائه وهو استصحاب بقاء المجعول لا عدم الجعل الزائد ، وكأنّه وقع
خلط في التقرير ، فإنّ المدّعى اجراء استصحاب عدم الجعل لا عدم شمول الجعل ، والذي
هو نظر إلى عالم المجعول ، والجواب المذكور في الكتاب غير تام على ما اتضح فيما
سبق.
فالصحيح أنّ
استصحاب عدم الجعل الشامل من استصحاب الفرد المردّد ، مضافاً إلى انّه ليس من الشك
في الجعل الزائد ، بل من الشك في الشمول وهو مسبوق بالوجود والشمول لا العدم.
ص ١٥١ قوله : ( ووافقه عليه السيد
الاستاذ في الجملة ... ).
لم يوافقه ، بل في
الدراسات والمصباح معاً نفى صحة التفصيل بقبول الاشكال المشترك للمحقّق الخراساني
والميرزا النائيني قدس سرهما على الشيخ 1 بأنّ المستصحب هو الحكم الشرعي لا العقلي ، وهو بشخصه
محتمل الثبوت بعد زوال حكم العقل لاحتمال وجود ملاك آخر له باقٍ حتى بعد زوال
الحسن والقبح العقليين ، أي انّ الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع في طرف
الاثبات لا النفي ، فيحتمل بقاء الحكم بشخصه ، وهذا ليس من استصحاب القسم الثالث
للكلي ؛ لأنّه استصحاب شخص الحكم كما هو واضح.
ثمّ انّه ذكر في
الدراسات ـ لا المصباح ـ عن الشيخ 1 انّه قال بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي أيضاً ، فيما
يستكشف بحكم العقل ؛ لأنّ الشك فيه يوجب ارتفاع حكم العقل إلاّفي باب الضرر ، كما
إذا شك في بقاء الصدق مضراً وقيل بقبح الصدق الضار ، فإنّه يستصحب الضرر فيحصل الظن
ولو النوعي به فيحكم العقل بلزوم دفعه.
وأجاب
عليه : أمّا بالنسبة
إلى ظن الضرر بأنّ الاستصحاب لا يوجب الظن أوّلاً ، والميزان ليس بالظن بالضرر بل
باحتماله أو خوفه وهو لا ربط له بالاستصحاب بل محرز وجداناً.
وأمّا بالنسبة
لأصل المطلب بأنّه لم يكن يترقب صدوره عن الشيخ 1 ؛ لأنّ الملازمة بين ما حكم به الشرع والعقل في الأحكام
الكلية لا الموضوعات والتطبيقات والصغريات لتلك الأحكام بل لا حكم للعقل في
الصغريات ، فيجري استصحاب بقاء الموضوع لا محالة.
وهذا الاشكال
الأخير غريب من السيد الخوئي 1 ـ ولعلّه لهذا حذفه في دورة المصباح المتأخرة عن دورة
الدراسات ـ لأنّ أحكام العقل العملي يكون العلم بالصغرى مأخوذاً فيها ، فالعلم
بكون الفعل خيانة مثلاً شرط في حكم العقل بقبح ذلك الفعل ، والعلم بأنّ هذا مولاه
ومخالفته شرط في حكم العقل بقبح مخالفة أمره وحسن اطاعته جزماً.
وقد تقدم في بحث
التحسين والتقبيح أنّ العلم بكبرى حق الطاعة للمنعم يمكن أن يكون مأخوذاً في ثبوته
، إلاّ أنّ العلم بصغراه مأخوذ فيه جزماً ، وعليه فيكون الحكم الشرعي المستكشف
بمثل هذا الحكم العقلي العلمي أيضاً منوطاً ومشروطاً بالعلم بالصغرى ، فمع الشك
فيه يرتفع ـ مع قطع النظر عن الاشكال السابق ـ. ثمّ انّ أصل هذا التفصيل لم يكن له
مبنىً ومجال بناءً على ما تقدم من انكار الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ، كما
أنكرنا دعوى امتناع الجعل الشرعي في مورده أو لغويته ، فلا طائل في هذا البحث ،
وكان الأجدر للسيد الشهيد أن يذكر مكان هذا التفصيل التفصيل بين الأحكام الوضعية
والتكليفية.
مقدار ما يثبت بالاستصحاب
ص ١٦٩ قوله : ( والتحقيق ... في احدى
صورتين ... ).
وهناك صورة أو
تقريب ثالث هو أن يكون قوله 7 في صحيح زرارة :
« فإنّه على يقين
من وضوئه » ، جملة انشائية لا اخبارية كما استظهره الميرزا 1 هناك.
وجوابه ما تقدم من
انّه خلاف الظاهر جداً ، ولعلّه لهذا لم يستند إليه حتى الميرزا في هذا البحث.
ثمّ إنّ المناسب
تدوين أصل البحث عن قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وعدمه بالنحو التالي.
يمكن أن يستدلّ على قيام
الاستصحاب مقام القطع الموضوعي بوجوه :
١ ـ ما قد يستفاد
من كلمات الميرزا 1 في مباحث القطع ـ وهو وجه ثبوتي ـ حاصله : انّ جعل الحجّية
بمعنى المنجزية والمعذرية ـ كما يقوله في الكتاب ـ غير معقول ؛ لأنّهما حكمان
يستقل بهما العقل ، وإنّما الشارع يحقق موضوعهما ، وذلك بجعل التكليف والترخيص أو
العلمية والطريقية ـ حيث انّ العلم منجز ومعذر عقلاً ـ والمجعول في الاستصحاب حيث
انّه العلمية ولو بلحاظ الجري العملي والمتابعة لا الكاشفية فيقوم مقام القطع
الموضوعي لا محالة.
وجوابه
: بطلان المبنى ـ كما
هو منقح في مباحث القطع ـ ولو سلّم فجعل العلمية بمقدار آثار القطع الطريقي كافٍ
لاشباع هذه الحاجة إذا كان من باب التنزيل ولا يمكن التمسك باطلاق جعل العلمية ـ على
ما سيأتي في دفع كلام العراقي ـ نعم ، لو كان من باب الورود واعتبار ما ليس بعلم
علماً عنده وفي استعمالاته فذاك يقتضي القيام مقام القطع الموضوعي ، ولكنه باطل أيضاً
كما حقّقناه في محلّه.
٢ ـ استظهار جعل
الاستصحاب علماً ، أي التعبد ببقاء اليقين السابق تعبداً بقاءً ، وجوابه ما في
الكتاب.
٣ ـ استظهار
الإطلاق من النهي عن النقض العملي كما ذكره العراقي ، وجوابه ما في الكتاب.
٤ ـ استظهار جعل
العلمية والطريقية بالكناية بعد عدم امكان حمل النهي عن النقض العملي على التحريم
وهو أحد محتملات كلام الميرزا 1 ، وجوابه ما في الكتاب.
ص ١٨١ الهامش.
الجواب
عليه : انّ المنهج
الثبوتي لا ينكر الحاجة إلى مقام الاثبات في احراز صغراه ، وإنّما الاختلاف بينهما
في انّ اثبات حجّية المدلول الالتزامي لا يحتاج إلى دلالة اثباتية على المنهج
الأوّل ، وامّا نفي احتمال أخذ خصوصية ذاتية كأخذ الكاشفية تمام الموضوع للحجية
بحاجة إلى اثبات حتى على المنهج الأوّل.
ص ١٨٣ قوله : ( وإن شئت قلت ... ).
هذا لا يتم إذ
متوقف على اجراء الإطلاق في المماثلة وهو فرع أن يكون المجعول مفهوم المماثلة أو
الحكم المماثل لكي يجري فيه الإطلاق ، وهذا ما لا يدعيه أصحاب مسلك الحكم المماثل
ولا دال عليه في ألسنة الأحكام الظاهرية أصلاً كما هو مبيّن في الهامش.
ص ١٨٧ الهامش ( ٢
ـ الكلمة الثانية ... ).
ويمكن أن نضيف
النقض باستصحاب بقاء المجعول الجزئي ، فإذا كان المجعول الجزئي مجرىً وموضوعاً
للحكم الظاهري بالاستصحاب ، فيمكن أن يقع موضوعاً للحكم الشرعي الطولي.
وهذا البحث ـ أعني
المقام الثاني ـ أيضاً ينبغي تقريره بشكل آخر ، وذلك كما يلي :
انّ المسلّم عندهم
ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب ، مهما تكثرت ولو كانت طولية إذا كانت
شرعية دون الأثر المترتب بواسطة أمر عقلي تكويني ، فاستصحاب عدم التذكية يثبت حلية
الأكل والمانعية في الصلاة مثلاً ولا يثبت النجاسة المترتبة على عنوان الميتة
المترتبة على عدم التذكية ؛ لكونها ملازمة عقلية ، وهذا البحث لا يختصّ بالاستصحاب
، بل جارٍ في كل الاصول العملية المحرزة كالاستصحاب وقاعدة الفراغ ، بل والاصول
العملية التنزيلية كأصالة الحلّ والطهارة ، وتفصيل ذلك ضمن نقاط :
النقطة
الاولى : انّ الاصول
العملية بحسب لسان دليلها على ثلاثة أقسام :
١ ـ ما ينظر فيه
إلى الحكم الواقعي ويتعبد باحرازه كما في قاعدة الفراغ ( بلى
قد ركعت ) أو
الاستصحاب ويسمى بالأصل المحرز.
٢ ـ ما ينظر فيه
إلى الحكم الواقعي للتعبد بمثله أو تنزيل المشكوك منزلته ظاهراً كما في أصالة الحل
والطهارة ، ويسمّى بالأصل التنزيلي.
٣ ـ ما لا نظر فيه
إلى اثبات الواقع أصلاً ، وإنّما حكم ظاهري بايجاب الاحتياط أو رفع المسؤولية
والعقوبة كما في أصالة الاحتياط الشرعية على القول بها ، والبراءة الثابتة بمثل
الناس في سعة ما لا يعلمون أو رفع ما لا يعلمون.
والنوع الثالث لا
يثبت به آثار الحلية أو الحرمة الواقعيتين حتى الشرعية منها فضلاً عن الثابتة
بواسطة عقلية ، وإنّما ما ذكروه مختص بالنوعين الأوّل والثاني المسماة بالاصول
المحرزة والتنزيلية.
النقطة
الثانية : الآثار الطولية
إذا كان موضوعها نفس الحكم الظاهري ترتب على كل حال سواء كان الترتب شرعياً أم
بواسطة عقلية ؛ لأنّ ثبوت نفس الحكم الظاهري قطعي أو ثابت بالامارة ، وهذا واضح
وهو يترتب في تمام موارد الاصول العملية حتى من النوع الثالث إذا كان نفس الاحتياط
أو البراءة الظاهرتين كافياً في ذلك ، وإنّما البحث عن الآثار الطولية المترتبة
على الحكم الواقعي والمؤدّى للأصل العملي المحرز أو التنزيلي.
النقطة
الثالثة : يمكن الاشكال
في ترتيب الآثار الشرعية الطولية دون المترتبة بواسطة عقلية ، أمّا في الاصول
التنزيلية فلأنّ التنزيل لا يقتضي أكثر من ترتيب الأثر المباشر الشرعي وهو لا
يستلزم تنزيلات طولية بعدد تلك الآثار ، ولو فرض فلماذا لا يثبت التنزيل في
الواسطة العقلية حيث يمكن تنزيله الظاهري فيترتب أثره الشرعي أيضاً.
وأمّا في الاصول
المحرزة فلأنّ التعبد باليقين أو الاحراز لما هو موضوع الأثر المباشر دون الآثار
الطولية حتى إذا كانت شرعية أي اليقين التعبدي بالمستصحب يوجب الجري العملي على
طبقه ، وأمّا الحكم المترتب على حكمه فهو أثر اليقين بذلك الحكم ، ولا يقين به لا
وجداناً ولا تعبداً.
وقد اجيب على
الاشكال تارة : بأنّ أثر الأثر أثر إذا لم يكن بواسطة عقلية ـ كما عن الميرزا ـ فيشمله
إطلاق التنزيل أو الجري العملي ، واخرى : بأنّ التنزيل منصرف إلى الآثار الشرعية
ولا تشمل الأثر العقلي.
والصحيح
أن يقال : انّ هذا
الاشكال ناجم عن تصوّر لزوم إحراز الحكم بمعنى المجعول الفعلي الخارجي لترتب
تنجيزه أو تقديره ، وهذا لو كان لازماً لاستشكل الأمر في الأثر المباشر أيضاً ؛
لأنّ إحراز الموضوع المستصحب مثلاً باليقين التعبدي لا يستلزم التعبد باليقين
بأثره ، أي المجعول الفعلي كما هو واضح. إلاّ أنّ أصل هذا المبنى غير صحيح ، فإنّه
قد تقدم أنّ الحكم بمعنى المجعول الفعلي أمر وهمي وتصوري وليس أمراً واقعياً ،
وأنّ ما يكون منجزاً ومعذراً إنّما هو احراز أو ثبوت صغرى الجعل وكبراه ، وعلى هذا
الأساس يكون احراز أو ثبوت الواقع المشكوك احرازاً لصغرى الجعل المباشر المعلوم
كبراه وجداناً ، وهو مع الجعل المباشر احراز لصغرى الجعل غير المباشر المعلوم
كبراه وجداناً إذا لم تكن بينهما واسطة عقلية ، بخلاف ما إذا كانت واسطة في البين
حيث لابد من احرازها ولا محرز لها لا وجداناً ولا تعبداً أو تنزيلاً.
وهكذا يثبت ترتب
الأثر التنجيزي أو التعذيري لمؤدّى الاصول المحرزة والتنزيلية وما لها من الآثار
الشرعية ، عرضية كانت أو طولية ، دون الأثر الشرعي المترتب بواسطة عقلية ، فإنّ
هذا هو مقتضى التعبد باحراز الواقع
المشكوك ظاهراً أو
التعبد بثبوته أو تنزيله منزلة الواقع ظاهراً ، ولا يختلف في ذلك لسان الجعل
الظاهري وما هو المجعول فيه ، وإنّما اللازم نظر دليل الجعل الظاهري إلى الواقع
لترتيب أثره التنجيزي والتعذيري ، وهو محفوظ في القسمين الأولين من الاصول
العملية. وأمّا الاشكالات في الهامش وكذلك النقض بجريان استصحاب المجعول الفعلي
الذي هو مورد صحيح زرارة أيضاً فلا ينافي ما ذكرناه ؛ لأنّه من استصحاب الجعل
بمنظار الحمل الأولي ، كما ذكرناه في تنبيهات دفع شبهة التعارض ، فهذا توسعة في
تطبيق دليل الاستصحاب وليس تضييقاً ولا دليلاً على لزوم احراز المجعول الفعلي.
ص ١٨٩ قوله : ( ١ ـ انّ استصحاب الحياة
بناءً على الفرضية الاولى ... ).
هذا المقدار لا
يكفي لدفع الاشكال ، إذ يكفي في الحكومة والتقدم أن يكون استصحاب الحياة مثبتاً
لنبات اللحية أيضاً دون العكس فلا تصل النوبة إلى التعارض بلحاظ الدلالة
الالتزامية الاخرى.
والصحيح في الجواب
أحد جوابين :
أحدهما
: انّ الاستصحاب
إذا كان مثبتاً لكل اللوازم فاستصحاب عدم نبات اللحية يمكنه أن يثبت عدم الحياة
لنفي الأثر المترتب على نبات اللحية ابتداءً لا بتوسط نفي نبات اللحية ليكون
تحصيلاً للحاصل ، فالاشكال يندفع.
الثاني
: ما هو الحل
الأساسي انّه بناءً على الامارية يكفي في اثبات اللوازم ترتب أي أثر ولو نفي
المعارض ، فاستصحاب عدم نبات اللحية ينفي الحياة لنفي جريان استصحاب بقاء الحياة
كما في الامارتين المتعارضتين ، فلا نحتاج إلى اثبات أثر على ذلك ، وهذا واضح.
ص ١٩٩ قوله : ( نعم قد يدعى استفادة ذلك
... ).
هذا مطلب الميرزا 1 وقد اعترض عليه
السيد الخوئي 1 باختصاصه بشهر شوال وخصوص يومه الأوّل لا سائر أيّامه ،
إلاّ إذا قيل بعدم القول بالفصل.
وهذا الاشكال قابل
للدفع باستظهار الغاء الخصوصية ولو لارتكازية وحدة الشهور والأهلّة ، وأنّ هذا حكم
مطلق الشهور القمرية.
إلاّ أنّ الاشكال
الأولى ايراده أنّ مفاد تلك الروايات ليس التعبد بتحقق العيد أو اليوم الأوّل بل
ولا التعبد بترتيب الآثار الشرعية ، وإنّما ظاهرها بيان قاعدة تكوينية في كيفية
تحقق الموضوع للأحكام الشرعية ، وهو الشهر القمري وأنّه يتحقق برؤية الهلال ـ أي
خروجه وبلوغه مبلغاً قابلاً للرؤية ـ أو مضي ثلاثين يوماً من الشهر السابق حيث لا
يكون الشهر القمري أكثر من ذلك ، وهذا مطلب واقعي تكويني ، فلا يمكن أن يستفاد من
هذه الروايات ما ذكره السيد الشهيد 1 من كون الموضوع لترتب الأحكام يكون بنحو التركيب كما في
سائر الموضوعات المقيّدة.
نعم ، لو كانت
الرواية واردة في مورد الشك في دخول شهر شوال أمكن استفادة ذلك منه بأن تكون
الرواية ناظرة إلى الحكم الظاهري ، ولكنه خلاف ظهورها في بيان الشهر الواقعي وأنّه
يتحقق برؤية الهلال أو مضي ثلاثين.
وعندئذٍ لا يمكن
اثبات حكم العيد في يوم ٣١ في موارد احتمال كون يوم ٣٠ من شوال بهذه الروايات ، أي
لا يمكن اثبات حرمة الصوم فيه بالتعبّد الشرعي. نعم ، العلم الإجمالي التدريجي
بأنّ أحد اليومين الثلاثين أو الواحد والثلاثين يحرم فيه الصوم يكون منجزاً في
نفسه وموجباً للاحتياط في يوم الواحد والثلاثين ، بعد أن اقتضى الاستصحاب صوم يوم
الثلاثين.
لا
يقال : بل يقع التعارض
حينئذٍ بين الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي لوجوب الصوم يوم الثلاثين أيضاً ، مع أصل
البراءة عن حرمة صوم اليوم الواحد والثلاثين فيتساقطان للزوم المخالفة القطعية
للحرمة المعلومة بالاجمال بينهما ، فلا يجري الاستصحاب لاثبات رمضانية يوم الشك
ووجوب صومه أيضاً.
فإنّه
يقال : أوّلاً : روايات صم للرؤية وافطر للرؤية الدالّة على عدم جواز
الافطار يوم الشك في آخر الشهر تثبت الجواز ، بل وجوب الصوم ظاهراً في اليوم الثلاثين
فيبقى احتمال الحرمة في اليوم الواحد والثلاثين على منجزيته بعد عدم شمول أدلّة
الاصول الترخيصية له بالتعارض الداخلي في اطلاقاتها لليومين.
وثانياً : يمكن أن يقال أنّ استصحاب بقاء رمضان في يوم الشك له
أثران :
أحدهما : جواز
افطاره وعدم حرمة صومه ، والآخر : وجوب صيامه ، وهو بلحاظ الأثر الأوّل يتعارض مع
الاستصحاب أو أصل البراءة النافي لحرمة الصوم في اليوم الواحد والثلاثين ، حيث
يلزم منهما الترخيص في المخالفة القطعية للحرام ، وأمّا بلحاظ أثره الثاني وهو
وجوب صومه فليس ترخيصاً بل اثبات الزام آخر.
إلاّ أنّ الانصاف
أنّ الالزام بالفعل في أحد طرفي الحرام المعلوم بالاجمال مع الترخيص بفعل الطرف
الآخر أيضاً ممتنع ظاهراً للتناقض أو الإذن في المعصية فيقع التعارض لا محالة بين
إطلاق دليل الأصل في كل منهما مع الآخر ، فلولا الروايات الخاصة لما أمكن الحكم
بحرمة صوم يوم الواحد والثلاثين عند الشك في دخول الشهر يوم الثلاثين.
ص ٢٠١ قوله : ( وقد يدفع هذا الاشكال ...
).
حاصل الاعتراض
الثاني أنّ إطلاق دليل منجسية الملاقاة للنجاسة لا وجه لتقييده بالملاقاة الاولى
بل تشمل الثانية أيضاً فتكون موضوعاً للتنجيس مع احراز الرطوبة فيها ، إذ لو كان
الوجه في التقييد لزوم تعدد الأمر بالغسل حينئذٍ مع وضوح عدمه إذا كانت النجاسة
واحدة من حيث كيفية الغسل ـ لا مثل الدم والبول ـ.
فجوابه : انّ الأصل عدم التداخل في باب الأحكام التكليفية لا
الوضعية الارشادية والأوامر بالغسل ارشاد إلى مطهرية الغسل ، وهذا الأمر الارشادي
يمكن أن يشمل الملاقاة الثانية بلا لزوم تعدد الغسل ، وإن كان وجه التقييد لغوية
لزوم تعدد النجاسة المجعولة بتعدد الملاقاة وهو لغو بعد أن كان نجساً بالاولى
ومطهره الغسل الواحد فلا ثمرة تترتب على جعل نجاسة اخرى. فالجواب ترتب الثمرة على
جعلها بلحاظ مرحلة الوصول التعبدي بالاستصحاب كما في المقام حيث لم تصل الاولى.
وقد
أجاب عن ذلك السيد الشهيد بجوابين :
أحدهما : عدم كفاية هذا المقدار لدفع اللغوية عرفاً ، وكأنّه يريد
انّه لابد وأن يكون جعل النجاسة للملاقاة الثانية والذي هو جعل واقعي فيه أثر
وثمرة في نفسه وبما هو حكم واقعي مع قطع النظر عمّا سيجعل من أحكام اخرى ظاهرية.
الثاني : انّه لا إطلاق أساساً في أدلّة تنجيس المتنجس للملاقاة
الثانية ، وكأنّه يريد انّ ظاهرها انّ صرف وجود الملاقاة منجسة ، وصرف الوجود
ينطبق لا محالة على الوجود الأوّل ، وليس في مورد السؤال في تلك الروايات ما يسأل
فيه عن الملاقاة الثانية.
وكلا المطلبين قابل للدفع :
أمّا الثاني :
فلأنّه لو سلّمنا عدم وجود ما يكون ظاهراً في الإطلاق من هذه الناحية كفانا الفهم
العرفي الذي لا يرى فرقاً بين الملاقاة الاولى والثانية مع النجاسة من حيث التأثير
والسراية فإنّ النجاسة وسرايتها أمر عرفي وليس تعبدياً صرفاً.
نعم ، في مثل بدن
الحيوان الذي يطهر بزوال العين على القول بنجاسته لا بأس بدعوى عدم الإطلاق وعدم
الملازمة العرفية لخفة مثل هذه النجاسة.
وامّا الأوّل :
فيمكن دفعه أوّلاً ـ بأنّه لا فرق من حيث مؤنة الجعل بين جعل النجاسة على طبيعي
الملاقاة بنحو صرف الوجود أو مطلق الوجود ، وحيث انّ العرف لا يرى فرقاً بين
الملاقاة الاولى والثانية في السراية والتأثير فلا يبعد استظهار ارادة الطبيعي
بنحو مطلق الوجود أي انّ كل ملاقاة منجسة غاية الأمر المطهر غسل واحد لا متعدد.
وثانياً ـ فرض
الموضوع هو الملاقاة مع النجس بنحو صرف الوجود في باب الحكم الوضعي مثل النجاسة لا
يستلزم تقييد الطبيعة بالوجود الأوّل للملاقاة ، بل لطبيعي الملاقاة بنحو صرف
الوجود المنطبق على الوجودين بعد تحققهما معاً ، فكما انّه إذا وجد فردان من
الملاقاة للنجس في زمن واحد يكون الموضوع هو صرف الوجود للملاقاة ، التي ينتسب
اليها معاً ، لا إلى أحدهما دون الآخر ، كذلك في الفردين الطوليين في الزمان بعد
تحقق الثاني منهما بقاءً ، تكون النجاسة المجعولة منتسبة إلى صرف وجود الطبيعة
للملاقاة المتحققة بقاءً بهما معاً ، لا بأحدهما دون الآخر ، وهذا يعني انّ
الاستصحاب المنقح للملاقاة يكون محرزاً لصرف الوجود لا محالة ، سواءً كانت اولى أو
ثانية ، فتدبر جيداً.
ص ٢٠٣ قوله : ( ويمكن أن يمثل لذلك
بترتب المجعول ... ).
هذا الكلام إنّما
يصحّ بناءً على جعل الحكم المماثل لا مطلقاً فإنّه على القول بجعل الحكم المماثل
يدل رواية زرارة على جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الكلي المشكوك ، ويكون موضوعه نفس
موضوع الحكم الواقعي المشكوك وهو الماء المتغير بعد زوال تغيره مثلاً.
وأمّا بناءً على
مسلك جعل الطريقية أو المنجزية والحجّية فلا يصح هذا البيان ؛ إذ لا يوجد جعل كلي
للنجاسة على الماء المتغير الزائل تغيره ثابت بدليل اجتهادي لكي يثبت فعلية مجعوله
عند وجود الماء المذكور خارجاً ؛ لأنّه لو كان الجعل الواقعي للنجاسة ثابتاً
ومحرزاً فموضوعه ذلك ، ولكنه غير ثابت بالدليل الاجتهادي ، بل بالاستصحاب والأصل ،
وإن كان جعل الاستصحاب نفسه فموضوعه اليقين والشك ومنجزية أو علمية الشك في الحكم
الكلي وفعليته بفعلية الشك في الشبهة الحكمية الكلية ، وليس في الماء المتغير في
الخارج ، وليس الشك في الحكم الجزئي عند تحقق الموضوع في الخارج موضوعاً له ولا
مصداقاً لذلك الشك ، فإنّه بناءً على التفكيك بين الجعل والمجعول لا يكون الشك في
المجعول الفعلي مصداقاً من مصاديق الشك في الجعل الكلي ، والمفروض انّ المنجز على
هذا المسلك هو المجعول الجزئي وهذا ما لا يمكن اثباته كما هو واضح.
نعم ، لو كان دليل
الاستصحاب وارداً في الشبهة الحكمية أمكن دعوى الملازمة العرفية ولو بدلالة
الاقتضاء على ثبوت مجعول جزئي كذلك ، إلاّ انّ هذه الدلالة لا تثبت بالاطلاق في
خطاب لا تنقض ، وهذا من نتائج ذلك المبنى. نعم ، في مثال الماء المتغير بعد زوال
تغيّره يمكن لأصحاب هذا المسلك
اجراء استصحاب
بقاء النجاسة الجزئية أي المجعول ، لأنّ له حالة سابقة.
إلاّ أنّ هذا لا
يتم في مثال الشك في بقاء وجوب الجمعة مثلاً في عصر الغيبة أي موارد الشك في النسخ
الذي مرجعه إلى الشك في التقييد الأزماني للحكم ، إذ المجعول الجزئي فيه مسبوق
بالعدم ـ قبل الزوال ـ فلا يمكن اثبات الوجوب الفعلي للجمعة عند الزوال باستصحاب
بقاء الجعل.
ص ٢٠٥ قوله : ( وأيّاً كان فقد اعترض
السيد الاستاذ ... ).
الموجود في مصباح
الاصول اشكال آخر وهو انّ الحكم مرتب على الفرد من خلال المفهوم الكلي ، فليس
موضوع الحكم هو العنوان الكلي والمستصحب هو العنوان الجزئي والفرد ولكنهما متحدان
خارجاً فلا واسطة خارجية ـ كما يقول صاحب الكفاية ـ بل موضوع الحكم هو الفرد من
خلال الكلي ، فالموضوع للحكم المراد اثباته مع المستصحب متحدان خارجاً وعنواناً ،
وهذا جواب آخر غير ما مذكور في الكتاب فإنّه أقرب إلى جواب المحقق الخراساني 1 ، ولعلّ المقصود
هذا وإن كان التعبير غير واضح.
وعندئذٍ ينبغي أن
يقال بأنّ الفرد له معنيان :
أحدهما : المفهوم الجزئي المباين مفهوماً مع الكلي.
الثاني : الحصة الخاصة من الكلي.
أمّا المعنى
الأوّل فهذا لا يكون موضوعاً للحكم الكلي جزماً ، لأنّ الحكم الواقعي بحسب الفرض
قد رتب على العنوان الكلي كالانسان أو الرجل لا زيد وعمرو ، وعندئذٍ فتارة يكون
المفهوم الجزئي مشتملاً على العنوان الكلي أيضاً مع اضافة خصوصية من قبيل عنوان
الإنسان الطويل ابن عمر المولود في الساعة
الفلانية ، واخرى
يفرض عدم اشتماله عليه كعنوان المولود في الساعة الفلانية الملازم مع كونه
انساناً.
فعلى الثاني يكون
الاستصحاب الجاري غير صالح لاثبات أثر الكلي إلاّعلى القول بالأصل المثبت.
وعلى الأوّل يكون
الاستصحاب جارياً في نفس العنوان والمفهوم الكلي المتضمن في المفهوم الجزئي
لتمامية أركان الاستصحاب فيه ، ولا يجري الاستصحاب في المفهوم الجزئي.
وأمّا المعنى
الثاني للفرد فهو الذي يمكن أن يكون موضوعاً للحكم الكلي إذا كان ملحوظاً بنحو
مطلق الوجود والانحلال إلى كل فرد فرد ؛ إذ معنى الانحلال اشتمال كل فرد بمعنى حصة
من وجود ذلك الكلي في الخارج على حكم مستقل ، فيتم فيه ما ذكره السيد الخوئي 1 من انّ المستصحب
الجزئي بهذا المعنى هو موضوع الحكم لا الكلي.
إلاّ أنّه من
الواضح انّ ترتيب الحكم على الكلي لا يلازم هذا المعنى دائماً ، كما انّ أخذ مفهوم
الكلي ولحاظه فانياً في الخارج لا يستلزم ذلك ؛ إذ يمكن لحاظه فانياً في الخارج
بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود ، كما إذا قال : ( إذا وجد انسان في المسجد بنحو
صرف الوجود ـ أي أيّاً كان ـ وجبت الصدقة بدرهم ) ، فهنا يكون موضوع الحكم وجود
طبيعي الإنسان في الخارج ، من دون دخالة الحصص الخاصة منه في الحكم أصلاً ، فيكون
موضوع الحكم الطبيعي والجامع لا الفرد ، فإذا كان نظر صاحب الكفاية إلى هذه الحالة
لم يتم فيه جواب السيد الخوئي ، كما لا يتم جوابه إذا كان المقصود من الجزئي
المعنى الأوّل المتقدم.
كما لا يتم فيه
جوابه أيضاً ، لأنّ الجامع بنحو صرف الوجود غير الفرد ، فكما
انّ استصحاب عدم
الفرد الطويل ـ بمعنى الحصة ـ لا ينفي الجامع بنحو صرف الوجود إلاّبنحو الأصل
المثبت كذلك لا يكون اثبات الجامع المذكور باستصحاب الفرد إلاّمن الأصل المثبت ؛
والوجه عدم الاتحاد بينهما في الخارج.
نعم ، بينهما
ملازمة في الصدق حيث انّه كلما صدق الفرد صدق الجامع بنحو صرف الوجود أيضاً ، إلاّ
انّه لابد من اجراء الاستصحاب في الجامع الذي هو موضوع الأثر الشرعي ، وحيث
يتلازمان في الصدق كان العلم بالفرد والشك في بقائه مساوقاً دائماً مع العلم
بالجامع بنحو صرف الوجود والشك في بقائه فيجري الاستصحاب فيه. وهكذا يتضح انّ ما
ذكره المحقق الخراساني ليس من استصحاب الفرد أصلاً ، واثبات العنوان الجامع بل من
استصحاب الجامع بنحو صرف الوجود أو استصحاب الحصة.
ص ٢٠٨ قوله : ( ومنها ـ ما لو نذر
التصدق ما دام ... ).
الصحيح انّ موضوع
الحكم الشرعي مركب من جزئين تحقق الانشاء من عقد أو نذر أو وقف ، وتحقق الموضوع
المعلّق عليه المنشأ بنحو التركيب ، والأوّل محرز بالوجدان ، والثاني بالتعبد ،
فليس الموضوع ذات الشيء المنذور ، وكون الحيثية تعليلية لا يعني عدم دخله في
الموضوع وترتب الحكم وعدم لزوم احرازه ؛ اللهم إلاّ أن يراد بالحيثية التعليلية
هذا المعنى. كما انّ ما ذكره من استصحاب النذر كتعهد والتزام أيضاً لا معنى له إذ
انتفاء الشرط المعلّق عليه المنذور لا يوجب انتفاء التعهد النذري والالتزام
الايقاعي ، فإنّ زوال الالتزام بزواله وحله كما في فسخ العقد لا بانتفاء المعلّق
عليه العقد المنذور ، فهذا البيان بكلا شقيه غير تام.
تطبيقات للاستصحاب
ص ٢١٨ قوله : ( الاولى : ... ).
نتيجة ذلك أن يجري
الاستصحاب في موارد الشك التقديري واليقين التقديري أي مع عدم اليقين بل مجرد
الثبوت السابق واقعاً ولو انكشف بعد العمل ، وهذه النتيجة مستبعدة جداً فقهياً بل
لا يلتزم به. ولعلّ الوجه فيه انّ روايات الاستصحاب ناظرة إلى جعل الوظيفة العملية
للمكلّف بحيث يستفيد منها ويستند اليها في مقام العمل ومثل هذا السياق واللسان لا
إطلاق له لغير الملتفت.
نعم ، لا بأس
بشموله لمن شك قبل العمل وتوجهت إليه وظيفته العملية الشرعية ثمّ غفل عنها حين
العمل.
وإن
شئت قلت : فرق بين تحقق الشك
قبل العمل ثمّ الغفلة عنه ، وبين عدم تحققه ، فإنّه في الأوّل تكون الوظيفة
العملية فعلية وقابلة في نفسها للاستفادة قبل العمل وعروض الغفلة والنسيان
كعروضهما بلحاظ الأحكام الواقعية لا يوجب ارتفاعها ، بخلاف ما إذا لم يتحقق الشك
من البداية وكان غافلاً ثمّ بعد العمل حصل له الشك الفعلي ، فإنّ الوظيفة العملية
إنّما يتحقق موضوعها بعد العمل لا قبله ، فلا ينعقد إطلاق افرادي هنا ؛ لشمول هذا
الشك التقديري أصلاً ، ولا يقاس بالأحكام الواقعية الفعلية مطلقاً ، والله العالم.
ص ٢١٤ الهامش :
يمكن
الإجابة عليه : بأنّ الشك التقديري مع الشك الفعلي بعد الفراغ المتعلّق بزمان العمل شك واحد
يشكّل اطلاقاً أفرادياً واحداً لدليل الاستصحاب ، ولا يكون شمول الدليل له لغواً ،
ودليل القاعدة معارض منفصل عن دليل الاستصحاب لا متصل ، وهذا يعني أنّ شمول دليل
الاستصحاب للشك التقديري بلحاظ حين العمل اطلاقه تام في نفسه ، وليس بملاك عدم
اللغوية ، غاية الأمر دليل القاعدة المنفصل عن دليل الاستصحاب يريد أن يقيّد هذا
الإطلاق الأفرادي بحال الغفلة ، وهذا باعتباره غير معقول فلا محالة يكون الإطلاق
لدليل الاستصحاب بلحاظ حال العمل أيضاً معارضاً مع دليل القاعدة وليس إطلاق
الاستصحاب لحال ما بعد الفراغ فقط يكون معارضاً معه ، بل كلا الاطلاقين يكونان
معارضين مع دليل القاعدة ، غاية الأمر يكون حاكماً على أحدهما دون الآخر ، كما في
المتن. وهذا نظير ما نقوله من أنّ إطلاق الأحكام الواقعية لحالة النسيان والغفلة
أو القطع بالخلاف ليس لغواً ، وإن كان تقييد الحكم بحال النسيان والغفلة أو القطع
بالخلاف لغو ، ففرق بين الإطلاق بدلالة الاقتضاء وبين المقام ، فتدبّر.
وهذا الجواب نقطة
الضعف فيه أنّ القيد الحاصل بدليل القاعدة لاطلاق دليل الاستصحاب في المقام ليس هو
قيد الغفلة ليقال باستحالة تقييد الحكم الظاهري بحال الغفلة ، وإنّما القيد عدم
كون الشك حادثاً بعد الفراغ ، فلو تبدل الشك التقديري إلى الفعلي في أثناء العمل
أيضاً كان الاستصحاب تاماً وجارياً ، ومثل هذا الجعل الاستصحابي ليس لغواً. نعم ،
في صورة تبدله إلى الفعلية بعد الفراغ يلزم أن يكون الحكم الاستصحابي في الشك
التقديري مساوقاً مع التقييد بحال الغفلة ، إلاّ أنّ المجعول ليس مقيداً بذلك.
ص ٢١٥ قوله : ( نعم لو بنى على عدم
جريان الاستصحاب في موارد التوارد ... ).
هذا الكلام غير
تام ، بل حتى إذا قيل بعدم جريان الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يكون
استصحاب الطهارة الجاري قبل العمل بل وحين العمل أيضاً مجدياً للتأمين بلحاظ ما
بعد العمل.
وذلك
أوّلاً ـ لعدم اللغوية هنا
لتحقق فعليّة الشك قبل العمل وهو كافٍ في دفع اللغوية ، إذ لم يختص الاستصحاب بحال
الغفلة.
وثانياً
ـ لو فرضت اللغوية
فلا يمكن دفعها بفرض لازم للتعبد الاستصحابي الظاهري بلحاظ ما بعد الحمل لما قلناه
في الحاشية ـ فإنّه تام هنا لا هناك ـ من أنّ أصل الإطلاق إذا كان لغواً فلا ينعقد
لا أنّه يثبت له لازم يخرجه عن اللغوية ، والأمر هنا كذلك ؛ لعدم شمول دليل
الاستصحاب لحالة التوارد بحسب الفرض في نفسه.
ثمّ انّه تظهر
ثمرة القول بجريان الاستصحاب في الشك التقديري فيما إذا ثبت في مورد ترتب الأثر
على الحكم أو موضوعه الأعم من وجوده الواقعي أو الظاهري ، ثمّ بعد العمل انكشف
عدمه واقعاً ، فإنّه بناء على جريان الاستصحاب يحكم بالصحّة لاحراز الشرط وقت
العمل ، كما إذا صلّى مع ثوب كان يتيقن بطهارته ثمّ شك فيها ثمّ غفل فصلّى ، أو
صلّى بلا أن يشك ولكن كان موجب الشك موجوداً قبل العمل بحيث لو كان يلتفت لكان يشك
، وبعد العمل علم بوقوع الصلاة مع النجس فإنّه بناءً على شرطية الطهور الأعم من
الواقعي والظاهري حين العمل يحكم بصحة صلاته.
نعم ، لو كانت
النجاسة بوجودها الواصل أو المنجز حين العمل مانعاً لا أنّ الطهارة شرط ، كانت
الصلاة صحيحة على كلّ حال ، جرى الاستصحاب أم لا ، والأمر واضح.
ص ٢٢٠ قوله : ( وذلك أوّلاً : لما تقدمت
الإشارة اليه ... ).
كلا الاشكالين
المذكورين إنّما يردان فيما إذا كان المستصحب حكماً تكليفياً الزامياً ، وأمّا إذا
كان المستصحب موضوعاً خارجياً أو حكماً وضعياً كالطهارة والنجاسة من الخبث أو
الحدث جرى فيه استصحاب الكلي والجامع من القسم الثاني ، وترتب عليه آثاره
التكليفية بلا إشكال كما هو محقق في محلّه.
فهذان الاعتراضان
لا يلغيان الاستصحاب في تمام الفروض.
والأولى الاشكال
عليه ببطلان المبنى ؛ لأنّ كبرى جعل الحكم المماثل غير تامة ، ولو فرض تماميتها
فما ذكر من كونه عين الحكم الواقعي في صورة الموافقة وغيره في صورة المخالفة غير
تام ، بل غير معقول على ما ذكرناه في بحث حقيقة الحكم الظاهري وطريقيّته.
ثمّ إنّه ينبغي صياغة البحث
كالتالي :
الوجوه المذكورة
لجريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة بامارة أو أصل عديدة :
الوجه
الأوّل : استظهار أنّ
المراد باليقين مطلق الحجة والمحرز.
وفيه : أنّه خلاف الظاهر.
الوجه
الثاني : ما ذكره صاحب
الكفاية من كفاية الحدوث واليقين طريق إليه ،
بل لا نحتاج إلى
الحدوث أيضاً ، وإنّما جيىء به لتصوير الشك في البقاء ، وهذا يرجع إلى مطلبين :
أحدهما : كفاية الحدوث في موضوع الاستصحاب ، بحيث كلما ثبت الحدوث
واقعاً ترتب عليه التعبد بالبقاء ، وهذا قد استظهرناه من رواية ابن سنان ، لا ما
ذكره في الكفاية ، فإنّه غير تام كما في الكتاب.
وقد أشكل عليه
السيد الخوئي ، بل جعله مما لا يمكن الالتزام به ، وليس مقصود الكفاية ، وقد أجبنا
عليه في هامش الكتاب وهو صحيح.
الثاني : ما ذكره في الكفاية من الترقي وعدم الحاجة حتى للحدوث
وانّه جيىء به لتصوير الشك في البقاء ، أي لا يحتاج إلى أخذ الحدوث وثبوت الحالة
السابقة ، فضلاً عن اليقين بها موضوعاً للتعبد الاستصحابي ، بل المستفاد من دليل
الاستصحاب التعبد بالملازمة بين الحدوث والبقاء ، أو الغاء احتمال الانتقاض والعدم
بعد الحدوث لا أكثر ، وهذا ينتج منضماً إلى الامارة أو الأصل النافي لاحتمال عدم
الحدوث التعبد بالبقاء وهو المطلوب.
ويرد على ما ذكره
من توقف تصوير الشك في البقاء على أخذ الحدوث إن اريد من عبارته ذلك بما في الكتاب
من انّه لو كان المراد بالشك في البقاء خصوص احتمال البقاء فقط فهذا يتوقف على
العلم بالحدوث ، وإن اريد به الأعم منه واحتمال ثالث هو عدم الحدوث فهذا يتوقف على
عدم العلم بعدم الحدوث لا ثبوته واقعاً. نعم ، لو كان مقصوده انّه جيىء بالحدوث
لتقييد متعلق الاحتمال والشك وانّه الوجود على تقدير الحدوث المسمّى بالبقاء لا
مطلق الوجود الشامل للحدوث صحّ ذلك ، والظاهر انّه مقصوده.
وقد اعترض على أصل
المطلب بإشكال اثباتي : هو انّه خلاف ظاهر أدلّة الاستصحاب ، حيث يظهر منها أخذ
الحدوث أو اليقين به موضوعاً للاستصحاب.
وإشكال ثبوتي :
مبني على كيفيّة تقريب هذا المطلب ، فإنّه تارة يقرّب بأنّ المقصود جعل الملازمة
بين الحدوث والبقاء.
وقد أشكل عليه
السيد الخوئي بما في الكتاب مع أجوبته ، وأشكل عليه السيد الشهيد 1 بأنّ الملازمة
واقعية وليست مجعولة وجعلها التعبدي لا يحقق ملازمة لكي يثبت التعبد بالبقاء ، كما
انّها بنفسها ليست منجزة أو معذرة ، وإنّما المنجز والمعذّر منشأ انتزاعها وهو
التعبد بالبقاء ، فيرجع إلى جعل البقاء التعبدي على تقدير الحدوث ، فيكون الحدوث
موضوعاً له ، فيرجع إلى المطلب الأوّل.
وهذا اشكال وارد
إذا اريد هذا التقريب.
واخرى : يقرّب
بأنّ الشارع يلغي احتمال العدم بعد الحدوث ، والحدوث قيد في المحتمل لا الاحتمال ،
وهذا هو المذكور في الكتاب مع جوابه واشكالنا القادم.
الوجه
الثالث : مسلك مدرسة
الميرزا مع أجوبته.
الوجه
الرابع : اجراء
الاستصحاب في الحكم الظاهري نفسه امّا بالخصوص بناءً على مسلك الحكم المماثل أو
التزاحم الحفظي وروح الحكم الظاهري أو في الجامع بينه وبين الحكم الواقعي ، وقد
اختار السيد صحته بناءً على مسلك التزاحم الحفظي ، إلاّ أنّ الظاهر صحة الاشكالات
في الهامش عليه ، بل من الواضح أنّ ما هو حقيقة الحكم الظاهري وروحه لا ربط له
بهذا البحث.
ودعوى
: أنّ الامارة سبب
لا موضوع فيحتمل بقاء شخص شدة الاهتمام.
مدفوعة
: بأنّ شدة
الاهتمام السابق إنّما هو بلحاظ الشك الحدوثي المنفي بالأمارة ، وهو موضوع آخر غير
الشك البقائي من ناحية طروّ ناقض آخر ، فهما موضوعان ، وهذا واضح ؛ وإلاّ لصحّ
الاستصحاب على المسالك الاخرى أيضاً ، فاستصحاب الحكم الظاهري غير تام على جميع
المسالك ، والظاهر أنّ هذا الوجه من السهو في القلم.
ص ٢٢٣ قوله : ( الصيغة الثالثة ... ).
حاصل اشكال السيد
الشهيد 1 عليه : بأنّه على تصورات مدرسة الميرزا 1 لابد في ارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب من جعل العلمية
والطريقية بالحكم صغرىً أو كبرىً ، والغاء الاحتمال ما لم يرجع إليه لا يفيد ،
وعليه فلو جعلت العلمية لاحتمال الانتقاض مطلقاً لزم حجّية الاستصحاب حتى مع
احتمال الحدوث من دون محرز له ، وهو واضح البطلان وإن قيّد وعلّق ذلك على فرض
الحدوث كان الحدوث موضوعاً لجعل العلمية لا محالة ، وان الغي احتمال الانتقاض بلا
جعل العلمية وكان لازمه العلمية إذا كان الحدوث محرزاً وجداناً أو تعبداً حيث لا
احتمال آخر فهذا لازم الالغاء الوجداني للاحتمال لا التعبدي واعتبار أحد
المتلازمين لا يستلزم اعتبار الآخر لكي تكون العلمية مجعولة لهذا الاحتمال في فرض
احراز الحدوث بالوجدان أو العلم التعبدي ، وهذا واضح.
وأمّا على مسلكنا
في حقيقة الحكم الظاهري فلأنّ الاهتمام بالبقاء إنّما يكون على تقدير الحدوث ،
فالمولى يهتم باحتمال بقاء الحكم على تقدير حدوثه فيكون الحدوث موضوعاً لهذا
الاهتمام لا محالة.
وهناك بيان أفضل
على غير مبنى الميرزا 1 أعني مبنى جعل الحجّية بمعنى المنجزية والمعذرية ـ حتى على
مسلكنا ـ وحاصله : انّ احتمال البقاء على تقدير الحدوث وإن كان الحدوث فيه قيداً
للمحتمل لا الاحتمال فإنّه فعلي على كل تقدير ، إلاّ انّه لا يمكن جعل الحجّية له
؛ لأنّه امّا أن تجعل له الحجّية مطلقاً أو مقيداً بواقع الحدوث أو اليقين به أو
احرازه ، والأخير بشقوقه رجوع إلى موضوعية الحدوث ، والأوّل لازمه فعلية التنجيز
واطلاقه حتى لموارد احتمال الحدوث من دون احراز وهو خلف المقصود.
فلا يعقل الجمع
بين إطلاق الاستصحاب من ناحية الحدوث مع اختصاص جريانه بموارد احراز الحدوث
إلاّعلى مسلك الميرزا من جعل العلمية والغاء الاحتمال ، حيث يمكن الغاء هذا
الاحتمال الفعلي وجعل العلم بالقضية التعليقية ، وهو لا يفيد في فعلية التنجيز
والتعذير ما لم ينضم إليه العلم بالحدوث أيضاً وجداناً أو تعبداً.
وهذا روح مطلب
السيد الشهيد 1 مع الاشكال عليه بما في الكتاب من أنّ لوازم العلم
الوجداني لا تسري إلى التعبدي.
ويمكن الاجابة على
هذا الاشكال الثبوتي : أمّا على مسلك الميرزا بالخصوص فبأنّه يقبل هذا المقدار من
التلازم بدليل أنّه يرى كفاية التعبد بالعلم بموضوع الحكم لاثبات فعلية المجعول
والذي هو المنجز عند مدرسة الميرزا مع أنّ التعبد بالعلم بالموضوع لازمه العقلي
عند انضمامه إلى العلم الوجداني بالجعل العلم بالمجعول الفعلي.
وأمّا بشكل عام
وعلى كل المباني ، فيمكن أن يصوّر الجعل الاستصحابي
بنحو لا يكون
الحدوث ولا إحرازه موضوعاً له ، ولكنه مع ذلك لا يجري في موارد عدم احراز الحدوث ؛
وذلك بأن يكون المجعول في دليله حجّية أو منجزية ومعذرية احتمال البقاء على تقدير
الحدوث بنحو حيثي أي من ناحية هذا الاحتمال لا أكثر ، ومرجعه في عالم الصياغة
الاعتبارية إلى جعل الحجّية مشروطاً بثبوت الحدوث ومنجزيته أو معذريته ، ولكن لا
بنحو القضية الفعلية ليرجع إلى موضوعية الحدوث أو احرازه في الاستصحاب ، بل بنحو
القضية الشرطية التعليقية والتي صدقها لا يستلزم صدق طرفيها ، نظير ما نقوله في
جعل الحجّية لما يحرز أحد أجزاء موضوع الحكم الشرعي ، فإنّه لا اشكال في عدم
جريانه إلاّعند احراز الجزء الآخر بالوجدان أو التعبد ، ولكنه ليس موقوفاً ومعلقاً
عليه بنحو القضية الفعلية ، وإلاّ كان دوراً ـ كما حققناه في محله حيث يتوقف تنجز
كل منهما على الآخر ـ وإنّما الحجّية فيه مشروطة بثبوت الجزء الآخر وحجيته بنحو
القضية الشرطية ، فكذلك في المقام يعقل جعل الحجّية أو العلمية أو أي صيغة اخرى من
صيغ الجعل الظاهري لاحتمال البقاء على تقدير الحدوث معلّقاً على ثبوت الحدوث
وحجيته بنحو القضية الشرطية التعليقية ، فكلما احرز الحدوث وثبت جرى الاستصحاب ،
وإلاّ لم يجرِ لعدم تحقق موضوعه ، وهو القضية الشرطية المذكورة ، وما يحرز الحدوث
وينجزه يحقق هذه القضية الشرطية وجداناً وحقيقة لا تعبداً ، فيكون أحسن حالاً من
أخذ الحدوث قيداً في الاستصحاب. هذا وإن كان تقييداً أيضاً في موضوع الاستصحاب
ودليله إلاّ أنّ مرجعه إلى قيد اللغوية العام ، وليس قيداً زائداً عليه.
والحاصل : لا
محذور ثبوتي في مقالة الخراساني ، وإنّما المحذور ـ على تقدير وجوده ـ اثباتي صرف.
ص ٢٢٩ قوله : ( وإن شئت قلت : انّ
الامارة ... ).
ظاهر العبارة انّ
الاستصحاب الموضوعي المذكور ينقح موضوع الحكم الظاهري المفاد بالدلالة الالتزامية
للامارة على الحدوث حيث انّ ما يدل على نجاسة الجسم مثلاً بالملاقاة حدوثاً يدل
بالالتزام على بقاء نجاسته إذا لم يحصل مطهر ، وما دلّ على طهارته حدوثاً يدلّ
بالالتزام على بقاء طهارته إذا لم تحصل ملاقاة اخرى مع النجس فيستصحب عدم المطهر
أو عدم الملاقاة الاخرى لتنقيح موضوع هذا الحكم الظاهري بالنجاسة أو الطهارة ،
فهذا استصحاب موضوعي أركانه من اليقين الوجداني بالحدوث والشك في البقاء تامة فيه
، ولازمه امكان جريان استصحاب نفس الحكم الظاهري الثابت في الحدوث إذا لم يجر
الاستصحاب الموضوعي كما في الشبهة الحكمية في طرف البقاء.
وهذا هو الذي
أفاده السيد الشهيد في الحلقات ( ج ٢ من الحلقة الثالثة ص ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ) حيث حكم
بجريان الاستصحاب للحكم الظاهري المذكور حتى في الصورتين الثالثة والرابعة اللتين
تكون الشبهة فيهما حكمية بلحاظ البقاء ، فحكم بجريان الاستصحاب فيما إذا شك مثلاً
في حصول التطهير بغسل الثوب المشكوك التي دلّت الامارة على نجاسته بنحو الشبهة
الموضوعية أو الحكمية بغسله بالماء المضاف المشكوك مطهريته بنحو الشبهة الحكمية ،
فيستصحب عدم حصول المطهر الواقعي المردد بين الغسل بالماء المطلق أو بمطلق الماء ،
فإنّ تلك النجاسة الظاهرية الثابتة بالامارة مغياة بذلك واقعاً فيشك في بقائها
وعدمه.
نعم ، هذا غير تام
في بعض الشبهات الحكمية كما إذا دلّت الامارة على وجوب الجلوس إلى الزوال في
المسجد وشك في بقاء وعدم بقاء وجوب
الجلوس إلى ما بعد
الزوال أيضاً فإنّه لا تتم فيه الدلالة الالتزامية للامارة وكذلك الشك في وجوب
الجمعة في عصر الغيبة.
وهذا المطلب متين
وصحيح ، بمعنى أنّه كما يجري في هذه الموارد الاستصحاب الموضوعي إذا تمت أركانه
يجري الاستصحاب الحكمي لنفس الحكم الظاهري الثابت سابقاً بالأمارة ـ أو أي حجة
اخرى ـ سواء كانت بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية ، وسواء كان الشك في البقاء
بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية.
والوجه في ذلك
ونكتته أنّه كلما كان الشك في البقاء ـ سواء في الشبهة الحكمية أو الموضوعية ـ شكاً
في أمد ذلك المستصحب في نفسه وتكويناً لم يجر الاستصحاب للحكم الظاهري ؛ لأنّه
مقطوع الارتفاع بالبيان المتقدم ، ولا الحكم الواقعي إلاّبالرجوع إلى أحد الأجوبة
المتقدمة.
وأمّا إذا كان
الشك في البقاء من ناحية طروّ رافع شرعي ثبتت رافعيته وقيديته للحكم ـ سواء كانت
الشبهة في البقاء حكمية أو موضوعية ـ جرى استصحاب عدم الرافع وهو الاستصحاب
الموضوعي المنقح لموضوع المدلول الالتزامي للأمارة أو الأصل التنزيلي والمحرز ،
كما يجري الاستصحاب الحكمي لنفس الحكم الظاهري الثابت بالأمارة أو الأصل حدوثاً ؛
لأنّ مفاد الأمارة والأصل عندئذٍ ثبوت ذاك الحكم إلى حين تحقق الرافع أو القيد
الشرعي الواقعي فيكون الشك في سعة وضيق نفس الحكم الظاهري لا الحكم الواقعي
المشكوك حدوثه ؛ لأنّ الحكم الظاهري يكون بمقدار المؤدّى وقيوده الشرعية الثابتة
لدى المكلّف سعة وضيقاً لا محالة ، وهذا واضح.
ودعوى : أنّ استصحاب الحكم الظاهري إذا كان الزامياً محكوم
لاطلاق دليل
البراءة الأزماني.
مدفوعة : بأنّ مدلول الأمارة وما يثبت به من الحكم الظاهري على
سعته مخصص أو حاكم بحسب الفرض على دليل البراءة ، وهذا يعني أنّ دليل أصل البراءة مقيد
بعدمه ، والاستصحاب الحكمي كالاستصحاب الموضوعي ينقح القيد الرافع لدليل أصل
البراءة. نعم ، لولا جريان هذا الاستصحاب أمكن اجراء البراءة الطولية في مرحلة
الشك في تحقق هذا القيد أيضاً.
وبناءً على هذا
يتضح في المقام امور يرتفع بها التشويش في تقريرات السيد الحائري في المقام
والقصور في تقريراتنا أيضاً ، وذلك كما يلي :
١ ـ ما جاء في
تقرير السيّد الحائري من الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية غير تام ، بل جريان
الاستصحاب وعدم جريانه مرتبط بالنكتة التي أشرنا اليها ، وهي تجري في الشبهتين كما
هو مذكور في تقريرنا ، والظاهر أنّه قد اعتمدنا فيه على الحلقة الثالثة.
٢ ـ انّ موارد
جريان الاستصحاب الموضوعي يجري فيه الاستصحاب الحكمي لنفس الحكم الظاهري أيضاً ،
فلا وجه لتخصيص البحث بالاستصحاب الموضوعي.
٣ ـ لا فرق في
جريان الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي بين ما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة
بالأمارة أو بأصل محرز أو تنزيلي ، فما في حاشية السيد الحائري لتقريراته في
المقام الثاني لا وجه له ، كما أنّ المتن فيه غير تام ، فراجع وتدبر.
٤ ـ انّ الصورة
المذكورة في كلام السيد الشهيد في البحث للشبهة الحكمية
التي يجري فيه
الفقيه الاستصحاب في القضية الكلية ـ وهي الصورة الثالثة في تقريرنا ـ هي بحسب
الحقيقة صورة خامسة خارجة موضوعاً عن الصور الأربع المتصورة للشبهتين ـ كما
ذكرناها ـ كما أنّها خارجة حكماً عن هذا البحث تخصصاً ، فلم يكن ينبغي حشره هنا ،
وذلك لأنّ الحكم بالبقاء الاستصحابي تعبداً يثبت في هذه الصورة بنفس الأمارة أو
الأصل التنزيلي على الحدوث لا برجوع المكلّف إلى دليل الاستصحاب وباجراء استصحاب
موضوعي أو حكمي ؛ لأنّ الأمارة أو الأصل يحرز موضوع ذاك الاستصحاب الحكمي الكلي
كما هو واضح.
ص ٢٣٠ قوله : ( المقام الثاني ... ).
ذكر السيد الخوئي
التفصيل المذكور في الكتاب وهو تفصيل ذو ثلاث شقوق بحسب الحقيقة :
القسم
الأوّل والثاني : أن يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان الأوّل متكفلاً له في الآن
الثاني ، كما إذا شككنا في مائع انّه بول أو ماء فحكمنا بطهارته بالقاعدة ثمّ
شككنا في ملاقاته مع نجس ، وهذا تحته شقان فإنّه تارة يجري استصحاب موضوعي لنفي
الملاقاة مع النجاسة ، فهذا أصل موضوعي وسببي حاكم على قاعدة الطهارة في مرحلة
البقاء ، واخرى لا يجري استصحاب موضوعي كذلك ، وقد حكم فيه بالرجوع إلى القاعدة
وعدم جريان استصحاب الطهارة ؛ لأنّه لا معنى له بعد تكفل نفس الأصل حكم الحالة
الثانية أيضاً.
القسم
الثالث : ما إذا لم يكن
كذلك كما في غسل ثوب نجس بماء مشكوك الطهارة ، فإنّ قاعدة الطهارة في الماء لا
يتكفل حال الشك في ملاقاة الثوب بعد ذلك لنجس آخر.
وقد أشكل عليه
السيد الشهيد كما في الكتاب بلحاظ هذا القسم بأنّ إطلاق القاعدة يشمل الشك في
الملاقاة أيضاً ؛ لعدم احتمال الفرق إلاّ إذا كان دليل القاعدة في الماء دليلاً
آخر ، أو أصلاً آخر كأصالة الصحة أو الفراغ ـ بناءً على جريانها في أمثال المقام ـ.
ويرد على الشقّ
الثاني في القسم الأوّل أيضاً بأنّه كما يتقدم الأصل السببي على المسببي بالحكومة
ـ بناء على مباني المشهور ـ كذلك يتقدم الطهارة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب على
الثابتة بالقاعدة بالحكومة أو بتقديم دليل الاستصحاب على دليل القاعدة.
واستصحاب الحكم
الواقعي الثابت سابقاً بالأصل بناءً على قيام الأصل التنزيلي أو المحرز مقام القطع
الموضوعي يكون حاكماً أو مقدماً على القاعدة في مرحلة البقاء لا محالة ،
كالاستصحاب الموضوعي السببي ، فلماذا التفكيك بينهما. نعم ، لو اريد اجراء استصحاب
الحكم الظاهري الثابت في الحدوث تمّ ما ذكره في هذا القسم ، وهذا قد ذكره السيد
الشهيد بما ذكر في الكتاب ص ٢٣١ بقوله ( وهذا الاشكال إنّما يتجه فيما إذا اريد
استصحاب الحكم الظاهري ... الخ ).
ثمّ إنّ استصحاب
الحكم الظاهري جار في المقام ، كما في الكتاب ، ولا يرد عليه الاشكال المذكور في
الهامش كما تقدم في البحث في المقام السابق.
نعم ، ينبغي أن
يذكر هنا أنّه في المورد الذي لا يجري فيه استصحاب الحكم الظاهري في المقام السابق
لا يجري هنا أيضاً ، كما إذا شك في أمد الحكم الواقعي الثابت بالأصل التنزيلي
حدوثاً ـ كما إذا احتملنا مثلاً اختصاص طهارة أو حلية أهل الكتاب بعصر الحضور وكان
قد ثبتت طهارتهم أو حليتهم
بالقاعدة لا
بالأمارة ـ فهنا لا يمكن اجراء استصحاب الطهارة أو الحلية الظاهرية بنفس البيان
المتقدم في المقام السابق ، وإنّما نرجع إلى قاعدة الطهارة أو استصحاب عدم النجاسة
الجاريين في الحالة السابقة ، فإنّهما يجريان بلحاظ مرحلة البقاء أيضاً.
فالحاصل
: من حيث الشقوق
والصور المتقدمة لجريان الاستصحاب الموضوعي والحكمي لا فرق بين المقام والمقام
السابق ، ففي كل مورد كنا نقول فيه هناك بجريان الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي
بلحاظ الحكم الظاهري المشكوك في سعته وضيقه نقول به في المقام أيضاً ، وفي كل مورد
لا نقول به هناك لا نقول به هنا أيضاً ، فلا فرق من هذه الناحية.
كما أنّه بالنسبة
لاستصحاب الحكم الواقعي إذا كان الأصل الجاري في المرحلة السابقة تنزيلياً أو
محرزاً لابد من القول بجريانه هنا أيضاً ، فالتفرقة بين المقامين لا وجه له من هذه
الناحية أساساً ، وإنّما المهم التعرض لتفصيل السيد الخوئي 1 مع جوابه كما
فعلنا.
نعم ، كان ينبغي
الإشارة هنا إلى اختلاف واشكال آخر ، وهو انّه بناءً على مبانينا حيث لا نقول
بالتنافي والتعارض بين الاصول المتوافقة يجري الاستصحاب بلحاظ الحكم الواقعي
والظاهري مع القاعدة أو الاستصحاب الجاري بلحاظ الشك في مرحلة البقاء ابتداءً بلا
تعارض ، وعلى مباني المشهور يجري الاستصحاب باللحاظ الواقعي الثابت حدوثاً
بالتنزيل ويقدم على دليل القاعدة. وأمّا استصحاب الحكم الظاهري فظاهر كلماتهم
ووافقهم السيد الشهيد 1 انّه لا يجري ؛ لحكومة دليل القاعدة في مرحلة البقاء عليه.
وإن
شئت قلت : انّه لا شك في الحكم الظاهري بقاءً لنرجع إلى استصحابه.
وفيه : أنّ هذا
غير تام بناءً على تقدم الاستصحاب على القاعدة وجريان الاستصحاب في الحكم الظاهر
السابق ، لكون الشك في سعته وضيقه ، فإنّ الاستصحاب سوف يثبت بقاء نفس الطهارة
الظاهرية السابقة ، ويرفع موضوع طهارة أو حلّية ظاهرية ثانية بقاعدة الطهارة أو
الحلية. والحاصل كما يتقدم الأصل الموضوعي المنقّح لموضوع الطهارة السابقة في
مرحلة البقاء على القاعدة كذلك يتقدم استصحابه الحكمي ، وهذا واضح أيضاً.
ص ٢٣٦ قوله : ( الجهة الاولى ... ).
الاولى جعل عنوان
الجهة الاولى كيفية تصوير جريان الاستصحاب في الجامع لا أصل الجريان ، فإنّه يبحث
عنه في الجهة الثانية في كل قسم من أقسام الاستصحاب الكلي كما لا يخفى بمراجعة
البحث.
ثمّ إنّ السيد
الخوئي 1 أفاد هنا بأنّ الميزان بالنظر العرفي وهو يرى وجود الكلي في الخارج ، فحتى
إذا اخترنا في البحث الفلسفي عدم وجود الكلي الطبيعي في الخارج فهذا لا يؤثر على
جريان الاستصحاب فيه.
وهذا الجواب غير
صحيح ؛ لأنّ نظر العرف هنا مصداقي وليس مربوطاً بمفهوم نقض اليقين بالشك ؛ إذ لا
اشكال في أنّ صدق مفهوم النقض فرع تعلق الشك بنفس ما تعلق به اليقين من حيث الوجود
والعدم لا بشيء آخر ، فلو فرضنا أنّ الموجود في الخارج ليس إلاّ الفرد وهو غير
الكلي فلا وجود للكلي ، فما لم يتعلق الشك بنفس ما هو متيقن الوجود في الخارج لا
يصدق النقض ، وإن كان العرف يتصور شيئاً آخر موهوماً في الخارج ، ولكنه غير واقعي.
نعم ، لو أراد بالنظر
العرفي ما ذكرنا في التصوير الصحيح كان تاماً ، إلاّ أنّه ليس نظراً عرفياً ، بل
عقلي أيضاً ، ومن البعيد رجوع كلامه إليه.
ص ٢٣٨ قوله : ( وهكذا يتضح انّ الاشكال
لا جواب عليه ... ).
هذا الاشكال يجري
أيضاً في الامارة على الجامع بين الحكمين كما أجراه المحقق الاصفهاني 1 نفسه أيضاً.
ويمكن
الاجابة عليه : بأنّ دليل مؤدى الامارة أو الأصل إذا كان هو الجامع بين حكمين فحيث انّه يعلم
اجمالاً بأنّ الجامع لا يكون إلاّفي ضمن خصوصية فيكون مؤداهما أيضاً ثبوت احدى
الخصوصيتين المتعينة في الواقع المرددة عند المكلف ، وهذا وإن كان جامعاً
انتزاعياً أيضاً إلاّ انّه يوجب أن يكون جعل الجامع المماثل ضمن احدى الخصوصيتين
المتعينة عند الجاعل واقعاً والمرددة عند المكلّف الواصل إليه الامارة أو الأصل ،
حكماً مماثلاً مع المؤدى للامارة أو الأصل وليس بأكثر منه ليقال انّه لا يقتضيه
مقام الاثبات ، فالمولى يجعل الجامع المماثل ـ ولو على تقدير الخطأ وعدم الاصابة ـ
ضمن احدى الخصوصيتين والتي هي متعينة عنده وإن لم تكن معلومة عند المكلّف
إلاّبالعنوان الجامعي الانتزاعي ، وحيث انّ هذا المطلب أمر ثبوتي لتصوير كيفية
معقولية وامكان جعل الحكم الظاهري بنحو يكون منجزاً ، وليس مربوطاً بمقام الاثبات
لدليل صدق العادل أو لا تنقض اليقين بالشك الذي لا اشكال في شموله موارد كون
المؤدى هو الجامع ، فلا موجب لرفع اليد عن مقام الاثبات بعد أن كان مقام الثبوت
ممكناً ومعقولاً بهذا النحو.
لا
يقال : هذا في مورد
الامارة على الجامع بين الحكمين معقول ، وامّا الاستصحاب للجامع مع فرض انتفاء أحد
فرديه فجعله المماثل لا يكون إلاّ ضمن الخصوصية الباقية أو المحتملة البقاء
كالتمام فيما إذا صلّى القصر والأكثر فيما إذا جاء بالأقل ، وهذا معناه اثبات
الجامع ضمن الفرد الطويل وهو خلاف
مقام الاثبات
لدليل لا تنقض ، إذ الفرد الطويل لم يكن متيقن الحدوث ليمكن التعبد به بدليل
الاستصحاب.
فإنّه
يقال : أوّلاً ـ انّ اتيان الخصوصية للجامع ضمن الفرد الطويل ليس بالاستصحاب ليقال انّه خلاف
مقام الاثبات بل بدليل حجّية الاستصحاب الذي هو صحيح زرارة بالملازمة ، فإنّ لا
تنقض لا يشمل إلاّ الجامع وثبوت الحكم المماثل فيه يستلزم عقلاً جعل الخصوصية
أيضاً بعد أن كان جعل الجامع لا في ضمن الخصوصية غير ممكن فيكون صدق عدم نقض
اليقين بالشك بلحاظ الجامع فقط لا الخصوصية ليقال بعدم استفادته من دليل
الاستصحاب. وهذا هو روح الجواب الثالث المذكور في الكتاب.
وما قيل في ردّه
من انّ الإطلاق إذا كان ممتنعاً فيسقط الإطلاق. مدفوع : بأنّه إذا كان ممتنعاً
ذاتاً وفي نفسه سقط وامّا إذا كان ممكناً في نفسه ولكنه متوقف على وجود شيء آخر
وكشف ثبوته فالأمر بالعكس ؛ إذ يكون مقتضى الإطلاق ثبوته وإمكانه بتحقق لازمه فلا
يقاس بموارد اللغوية ، فإنّ عدم اللغوية قيد لبي متصل بالخطاب ، بخلاف الامكان
والوقوع فإنّه مدلول الخطاب.
وثانياً
ـ لا موجب لأصل
افتراض انّ الجامع المماثل للمتيقن إذا كان مجعولاً بقاءً فلابد وأن يكون ضمن
الفرد الطويل بل يمكن أن يبقى مردداً بينه وبين الفرد القصير من الحكم بمعنى الأمر
وايجاب القصر بقاءً بمعنى ايجاب قصر آخر.
ودعوى : انّه يقطع بعدم جعل ايجاب قصر آخر بعد الاتيان به
وسقوطه.
مدفوعة : بأنّه يقطع بعدم وجوبه الواقعي لا الظاهري الثانوي الذي
يقصد به تنجيز الجامع بقاءً ، فإنّ مصحح جعل الحكم المماثل الثانوي الظاهري ليس هو
الواقع وإلاّ كان
جعل الفرد الطويل المماثل ـ في صورة الخطأ ـ أيضاً لغواً لعدم الملاك فيه بحسب
الفرض وإنّما تمام المصحح والفرض في الجعل المماثل إنّما هو تنجيز الجامع ، وهذا
كما يحصل بجعله ضمن الفرد الطويل يحصل بجعله ضمن الفرد القصير أيضاً.
نعم ، لا يحتمل
مطابقة هذه الخصوصية عندئذٍ للواقع إلاّ أنّ اللازم احتمال المطابقة للواقع في
الجامع المجعول المماثل أي في المؤدى الواصل لا في تمام الخصوصيات التي يتوقف
عليها ايصال الحكم المؤدّى الواقعي أو المماثل وجامع الحكم حتى لو جعل واقعاً ضمن
الأمر بالقصر مثلاً محتمل المطابقة للواقع لاحتمال بقاء الجامع ولو في ضمن الفرد
الطويل.
ص ٢٤٠ الهامش.
وبعبارة
اخرى : لا فرق بين ذلك
وبين ما إذا أخبرنا المعصوم بتحقق حصة من الإنسان وشككنا في مشخصاته الفردية ،
فإنّه لا إشكال في انّه من اليقين بالحصة للانسان الذي هو موضوع الحكم بحسب الفرض
بلا دخل للمشخصات الفردية فيه ، فالحاصل لا يراد بالعلم بالحصة إلاّ العلم
بالمفهوم والكلي المشار به إلى الخارج اشارة تعيينية ، وهذا حاصل في المقام.
ص
٢٤١ قوله : ( النقطة الثانية ... ).
مثاله : ما إذا
علم بخروج البلل المشتبه منه قبل ذلك ، ولكنه يحتمل انّه قد اغتسل أو توضأ منه ،
فعلى كلا التقديرين يحتمل ارتفاع الحدث ، فهنا لا يتشكل له علم اجمالي منجز بالفعل
، ولكنه يمكنه استصحاب الفرد المردد من الحدثين المعلوم إجمالاً حدوثه مع الشك في
بقائه لاثبات آثار الفردين وتنجيزهما ،
كوجوب الغسل وحرمة المكث في المسجد ووجوب الوضوء ، فضلاً عن أثر الجامع الذي
هو حرمة لمس المصحف الشريف ، وقد ذكر السيد الشهيد 1 لذلك تقريبات ثلاثة :
١ ـ أن يكون الركن
الأوّل للاستصحاب واقع الحدوث ، فإنّه يجري استصحاب بقاء ذلك الفرد الحادث ، حيث
يحرز ذلك باليقين ، واليقين ليس إلاّ محرزاً وطريقاً محضاً للموضوع والمفروض
احرازه ، فيجري استصحابه على واقعه.
وإن شئت عبرت كما
في الكتاب بالاستصحابين المشروطين المعلوم تحقق الشرط لأحدهما.
٢ ـ أن يكون الركن
الأوّل للاستصحاب هو اليقين ، إلاّ أنّ العلم واليقين الإجمالي متعلق بالواقع
بحدّه الخاص لا الجامع ـ وهذا مبنى العراقي 1 ـ فإنّه بناءً على ذلك أيضاً يكون المتعبد به بقاء المتيقن
، وهو الواقع بخصوصيته.
وبناءً على هذين
الوجهين يكون المقام من العلم الوجداني بالحكم الالزامي الظاهري كموارد قيام بينة
على نجاسة أحد الانائين تعييناً ، وتردد ذلك عند المكلف ، وهو كالعلم الإجمالي
بالالزام الواقعي منجز لآثار الفردين.
٣ ـ ما ذكره السيد
الشهيد في النقطة الثالثة وهي ليست مختصة بآثار الحصة ، بل يشمل آثار الفرد أيضاً
، فما في عنوان النقطة الثالثة من الاختصاص بأثر الحصة خطأ لفظي ، والمقصود الفرد
أو الحصة.
وحاصله التفصيل ـ بناءً
على أخذ اليقين ركناً في الاستصحاب ـ بين القول بأنّ المستظهر من دليل الاستصحاب
التعبد ببقاء اليقين بلحاظ أثره الطريقي أي
التنجيز للمؤدّى
والقول بأنّ المستظهر منه التعبد ببقاء المتيقن ، فعلى الأوّل يجري الاستصحاب
لترتيب آثار الفرد أو الحصة ؛ لأنّه من العلم الإجمالي التعبدي ، نظير قيام
الأمارة على نجاسة أحد الانائين لا بعينه ، وعلى الثاني لا يجري ؛ لأنّ المتيقن هو
الجامع لا الفرد.
ولنا في المقام كلامان :
١ ـ جريان
الاستصحاب حتى على تقدير استظهار كون المتعبد ببقائه هو المتيقن لا اليقين لأنّ
المراد ببقاء المتيقن ليس هو المتيقن بالذات ، بل بالعرض أي المتيقن بالاجمال على
اجماله وواقعه.
وإن
شئت قلت : انّ المستفاد
من دليل الاستصحاب أنّ تمام ما ينطبق عليه المتيقن بالذات من الخصوصيات هو المتعبد
ببقائه لا الجامع الطبيعي والانتزاعي بحدّه الجامعي.
ولا إشكال أنّه في
موارد العلم الإجمالي ينطبق الجامع الانتزاعي على الخصوصية الواقعية بحدّها زائداً
على الجامع والحيثية المشتركة ، فتكون تلك الخصوصية المرددة للفرد أيضاً مصبّ
التعبد الاستصحابي ، وهذا هو معنى ما يقال من أنّ العنوان الإجمالي يكون مشيراً
إلى مركب الاستصحاب لا انّه بنفسه مركب التعبد الاستصحابي ، وهذا يجري في أثر
الحصة أيضاً.
٢ ـ ( وهذا هو
التعليق المهم ) انّ في المقام اشكالاً كان ينبغي التعرّض له حاصله : انّ
الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم الحدث الأكبر وعدم الحدث الأصغر الجاري في
الطرفين ، حيث لا يلزم من جريانهما المخالفة القطعية والمخالفة الالتزامية لا يضرّ
بجريان الاستصحابين إذا لم يلزم منهما
مخالفة عملية ،
فتسقط الاصول الثلاثة بالمعارضة ، وليس الحكم الالزامي الظاهري الثابت بالاستصحاب
كالحكم الواقعي المعلوم بالاجمال الذي لا يرتفع بل هو ثابت بنفس دليل التعبد
الاستصحابي ، فيكون معارضاً مع الاستصحاب النافي في الطرفين لا محالة.
ودعوى : أنّ استصحاب الجامع واحراز علم اجمالي تعبدي يحقق موضوع
ارتفاع الاصول النافية في الطرفين ؛ لأنّ أدلتها مقيدة بحسب الفرض بما إذا لم يلزم
من جريانها مخالفة علم اجمالي منجز.
مدفوعة : بالمنع عن ذلك بل القيد هو الترخيص في المخالفة القطعية
للحكم الواقعي الذي لا يرتفع بالأصل النافي ، وأمّا ما يثبت من الحكم الظاهري بنفس
الأصل ويكون منافياً في التنجيز والتعذير مع الأصل النافي فلا محالة يكون معارضاً
معه ، وهذا واضح.
والاشكال مستحكم
ولا أعرف جواباً عليه إلاّعلى مبنى الشيخ 1 القائل بعدم جريان الاستصحابين على خلاف العلم الإجمالي ،
ولو لم يلزم منه مخالفة عملية.
ودعوى : أنّ الاستصحابين العدميين في الطرفين إنّما يؤمنّان من
ناحية الشك في الفرد في كل طرف ولا ينفيان التنجيز من ناحية الفرد المعلوم اجمالاً
في البين.
مدفوعة : بأنّ هذا خلاف ما هو مقرر في محله من بحث العلم الإجمالي
من انّ الاصول المؤمنة الشرعية في كل طرف تختلف عن أصل البراءة العقلية من حيث
انّها تنفي التكليف الالزامي الواقعي ظاهراً وتؤمّن من ناحيته في كلا الطرفين ،
أي ليس مفادها انّ
الطرف المشكوك من حيث هو مشكوك يجوز ارتكابه فحسب لكن يبقى ارتكاب الطرفين من حيث
انّه مقطوع المخالفة خارجاً عن مفادها ، كيف وإلاّ يلزم عدم تعارض الاصول الشرعية
في أطراف العلم الإجمالي بل جريانها بهذا المعنى فيهما معاً بلا معارض ، ونتيجته
جواز المخالفة الاحتمالية لكل من الطرفين ، وحرمة المخالفة القطعية فقط ، كما قلنا
بذلك على القول بالبراءة العقلية وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
فالحاصل
: مفاد الأصل
الشرعي في كل من الطرفين التامين عن التكليف المعلوم بالاجمال في البين ، ومن هنا
يقع التعارض بينهما والتساقط إذا كان العلم الإجمالي وجدانياً أو علماً بالحجة
الأقوى والمقدّم على الأصل المؤمّن الشرعي ، وامّا حيث لا يكون كذلك كما في المقام
، فيقع التعارض لا محالة بين الاستصحابين في الطرفين وبين الاستصحاب الجاري في
الفرد المردّد.
نعم ، هذا الاشكال
لا يرد بالنسبة إلى استصحاب الجامع والكلي بلحاظ الأثر المترتب عليه ؛ لما ذكر في
القسم الثاني من الكلي من انّ استصحاب عدم الفرد لا ينفي الكلي إلاّبنحو الأصل
المثبت ، كما أنّ استصحاب الفرد المردد لا يعارض البراءة عن حكم الفردين لتقدم
الاستصحاب على البراءة كالأمارة على الجامع ، وعليه ففي المقام بعد تساقط
الاستصحابات نرجع في موضوع شرطية الطهارة للصلاة إلى قاعدة الاشتغال ، وفي حرمة
المكث في المسجد إلى البراءة ، خلافاً لما هو ظاهر الكتاب.
ص ٢٤٢ قوله : ( وحيث انا نستظهر من دليل
الاستصحاب ... ).
ما في الهامش من
استبعاد وجود قاعدتين بل القطع بعدم ذلك صحيح. ثمّ لو فرضنا تعدد القاعدة فهذا لا
يوجب تعارض استصحاب واقع الحدث المردد مع
الاستصحابين
التفصيليين في الطرفين بدعوى أنّ لهما معارضين أحدهما الاستصحاب بلحاظ التعبد
باليقين الإجمالي والآخر بلحاظ التعبد ببقاء واقع الفرد المردد فيسقط الجميع حتى
على المبنى المختار.
والوجه في ذلك :
أنّ التعارض بين الاستصحابين النافيين في الطرفين واستصحاب الجامع الإجمالي لاثبات
أثر الفرد من التعارض الداخلي في صحاح زرارة فيوجب إجمالها ، بخلاف استصحاب
القضيتين المشروطتين أو الفرد المردد بوجوده الواقعي ، فإنّ دليله منفصل وهو صحيحة
عبد الله بن سنان فينجو عن التعارض والتساقط كما هو مقرر في محلّه.
ص ٢٤٦ الهامش ...
الاعتراض المذكور
في الهامش غير وارد على ضوء التوضيح الذي ذكرناه مفصلاً ؛ إذ بناءً على كون
الموضوع واقع الحدوث لا يجري الاستصحاب إلاّفي احدى القضيتين الشرطيتين ، وهو لا
يفيد شيئاً ، وبناءً على التعبد ببقاء نفس اليقين الإجمالي تبعداً ، فهذا العلم
الإجمالي التعبدي علم اجمالي ببقاء أحد فردين حكم أحدهما مقطوع الارتفاع ولا يقبل
التنجيز بحيث لو فرض العلم الوجداني الإجمالي محالاً بذلك أيضاً لم يكن منجزاً ،
فلا يكون العلم التعبدي به أحسن حالاً من الوجداني المنزّل عليه ، وهذا يعني عدم
شمول دليل التعبد والتنزيل للمقام للغوية وعدم ترتب التنجيز على العلم الوجداني
المنزل عليه.
وكذلك لو كان
التعبد ببقاء المتيقن ـ مع كون اليقين موضوعاً للقاعدة ـ فإنّه متيقن مردد بين ما
لا يقبل التنجيز وما يقبله ، وهو لا أثر له فيلغوا التعبد بالبقاء.
وكذلك الحال لو
أردنا اجراء الاستصحاب في الفرد الإجمالي على واقعه ـ بناءً على أنّ واقع الحدوث
موضوع ـ فإنّه لا يثبت تنجيز أثر الفرد الطويل ، بل يثبت تنجيز أثره الإجمالي ،
وحيث انّه مردّد بين ما لا تنجز لأثره ولا يقبل التنجيز وما يقبل التنجيز فأيضاً
يكون لغواً ، فاشكال اللغوية على جميع التقادير وارد.
كما أنّ الاشكال
الأخير أيضاً وارد ، فإنّه لو فرض منجزية العلم الإجمالي التعبدي هذا أو العلم
الإجمالي الوجداني بالتعبد المردد بالبقاء مع ذلك كان محكوماً للأصل النافي للفرد
الطويل حتى البراءة بناءً على الاقتضاء ومعارضاً مع الاستصحاب فيه.
ومنه يظهر أنّ ما
في تقرير السيد الحائري من عطف البراءة على الاستصحاب في المعارضة بناءً على مسلك
العلية غير صحيح ، ولا حاجة إلى تلك الحاشية التي ذكرها هنا ، كما ظهر أنّ ما في
الكتاب من تخصيص الاشكال الأخير بالتعبد ببقاء اليقين والعلم الإجمالي التعبدي بلا
موجب ، بل يرد على استصحاب الفرد المردد أيضاً.
ص ٢٤٨ قوله : ( ٣ ـ أن يكون ... ).
يلاحظ على هذا البيان :
أوّلاً
: ما تقدم في
الاشكال الأخير على استصحاب الفرد المردد من جريان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل
الذي هو عمرو مثلاً ووروده على مسلك الاقتضاء ومعارضته على مسلك العلية مع استصحاب
الجامع بالمعنى المذكور ، فإنّ هذا البيان جارٍ هنا إذ يقال بأنّ حكم زيد لو كان
هو الحادث ـ سواءً كان
وجوب الصلاة أو
الصدقة ـ مقطوع الارتفاع بقاءً فمن ناحيته لا تنجيز يقيناً ، ومن ناحية عمرو يجري
الأصل المؤمن بلا معارض.
لا
يقال : المفروض احتمال
كل من الحكمين ، وقد اعتبر الشارع العلم بتحقق أحدهما بقاءً أيضاً والعلم التعبدي
كالعلم الوجداني لا يمكن اجراء أصل نافٍ لكلا طرفيه حتى على مسلك الاقتضاء.
فإنّه
يقال : هذا الأصل لا
ينفي إلاّ أحد الطرفين وهو حكم الفرد الطويل على إجماله ، فليس فيه ترخيص في
مخالفة قطعية للعلم الإجمالي التعبدي.
وثانياً
: يمكن أن يقال
بأنّ الجواب الأوّل المتقدم على استصحاب الفرد المردد يمكن اجرائه هنا أيضاً بدعوى
أنّ التعبد المذكور تعبد ببقاء العلم الإجمالي بصغرى الحكم الالزامي أي تعبد بتحقق
أحد الموضوعين زيد أو عمرو فهو تنجيز تعبدي للعلم الإجمالي بتحقق صغرى الحكم وإن
كانت كبرى تلك الصغرى أيضاً مشكوكة ومردّدة بين أحد حكمين من وجوب الصدقة أو وجوب
الصلاة إلاّ انّ المستصحب بقاء العلم الإجمالي بالصغرى ، ومن ناحيته تعبداً ، وهذا
مردد بين صغرى لا يمكن تنجيز حكمها مهما كان حكمها ؛ لأنّها مقطوعة الارتفاع وصغرى
يمكن تنجيز حكمها ، ومثل هذا العلم الإجمالي التعبدي أو الصغرى المرددة بين صغريين
كذلك لا يكون منجزاً.
والحاصل
: استصحاب الفرد
المردد يريد تنجيز العلم الإجمالي بتحقق احدى الصغريين ومن ناحيتهما والحكمان معاً
لا يمكن تنجيزهما من هذه الناحية وإن كان يمكن تنجيزهما من ناحية العلم الإجمالي
الآخر في الكبرى فكون كل من الحكمين في نفسه محتملاً ومشكوكاً لكون الكبرى معلومة
بالاجمال لا بالتفصيل
لا يكفي لصلاحية هذا العلم الإجمالي للتنجيز إذ يشترط في المنجزية وصول الكبرى
والصغرى معاً بوصول صالح للتنجيز ، ومن ناحية الصغرى الوصول الإجمالي المردد بين
مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ليس قابلاً للتنجيز سواءً كانت الكبرى معلومة
تفصيلاً أو اجمالاً.
وإن
شئت قلت : انّه لو فرض
محالاً امكان العلم الإجمالي الوجداني مع العلم بانتفاء أحد الفردين تفصيلاً ، لم
يكن مثل هذا العلم الإجمالي منجزاً ؛ لأنّه علم إجمالي بموضوع أحد حكمين أحدهما
مقطوع الارتفاع ولا أثر يترتب عليه ، وإن كان حكمه مردداً وغير معلوم تفصيلاً ، أي
لا يتولد من مثل هذا العلم الإجمالي علم إجمالي بتكليف فعلي.
والميزان العلم
بتكليف فعلي بناءً على المشهور أو العلم بفعلية صغرى التكليف ولو إجمالاً ، وهذا
غير محفوظ هنا ، بخلاف ما سيأتي في القسم الثالث الذي يعلم فيه بارتفاع أحد
الفردين إجمالاً لا تفصيلاً ، فإنّه يتولد ذلك العلم فيه ؛ لأنّ العلم بارتفاع أحد
الفردين يجتمع مع العلم الإجمالي بموضوع الالزام كما في موارد العلم بوجود فرد
وارتفاع فرد.
وكلا الاشكالين يمكن دفعهما
:
أمّا
الاشكال الأوّل : فلأنّ استصحاب عدم الفرد الطويل أو البراءة عن حكمه هنا في قوة الاستصحابين
العدميين في الطرفين ؛ لأنّه ينفي منجزية كلا الحكمين المعلوم إجمالاً أحدهما
سابقاً وجداناً ولاحقاً تعبداً ، وهذا بخلافه في موارد تعين حكم الفرد الطويل ،
فإنّ الأصل الجاري فيه ينفي أحد الحكمين فقط.
نعم ، لو لاحظنا
اشكالنا المتقدم في تمام هذه الصور وهو انّ الاستصحابين
العدميين في
الطرفين لا تعارض بينهما أصلاً وإنّما التعارض بينهما وبين استصحاب الجامع أو
الفرد المردد ، ولا وجه لتقديم الأخير عليهما ، بل يسقط الطرفان ويرجع إلى الاصول
الطولية فذاك مطلب آخر تام.
إلاّ أنّ المفروض
عدم توجه الكتاب إلى هذا الاشكال ، وافتراض التعارض بين الاستصحابين النافيين
للتكليف في الطرفين وعدم امكان جريانهما معاً وبقاء استصحاب الجامع أو الفرد
المردد على الحجّية.
والحاصل
: باستصحاب عدم
الفرد الطويل لو اريد نفي أحد الحكمين على إجماله فهذا لا ينفع بعد أن كان للمكلف
علم تعبدي إجمالي بأحد الحكمين ، فإنّه يجتمع مع العلم الوجداني بعدم الآخر فكيف
بالتعبدي ، ولا ينافي المنجزية ووجوب الموافقة القطعية لهما ، وإن اريد نفي كلا
الحكمين كان في قوة الترخيص في المخالفة القطعية فلا يجري.
وإن قيل بأنّ
الأصل المذكور ينفي أحد الحكمين إجمالاً والحكم الآخر منفي بالوجدان وهذا يكفي في
رفع التنجيز عن كلا الحكمين فهذا :
أوّلاً
ـ معناه المعارضة
بينه وبين استصحاب الجامع أو الفرد المردد ؛ لأنّه ينفي أصل تنجيزه ولا يبقي له
تنجيزاً حتى بمقدار الموافقة الاحتمالية ، فليس هذا حكومة ، والمفروض تقديم
استصحاب الجامع على ما ينفي المنجزية في كلا الطرفين ولو بنحو التلفيق بين التعبد
والوجدان.
وثانياً
ـ انّه جارٍ في
القسم الثالث في الكتاب أيضاً ؛ لأنّه هناك أيضاً يمكن الإشارة إلى الفرد غير
المعلوم ارتفاعه إجمالاً ، فيقال أنّ حكمه منتفٍ باستصحاب عدم حدوثه أو البراءة
عنه ، والحكم الآخر منتف وجداناً فلا تنجيز
لشيء من الحكمين.
وبهذا يظهر ما في
هامش تقريرات السيد الحائري في المقام ، فراجع وتأمل.
وأمّا الاشكال
الثاني فجوابه أوضح ؛ لأنّ العلم الإجمالي ببقاء الجامع أو الفرد المردّد للحكم
المجعول الفعلي ـ وليس هو شبهة مصداقية لعدم العلم التفصيلي بالانتقاض بلحاظ شيء
من الحكمين ـ بنفسه علم إجمالي تعبدي منجز ، وليس بحاجة إلى ضمّ ضميمة اخرى ، كما
أنّ كلاً من الحكمين المحتملين قابل للتنجيز لعدم العلم التفصيلي بانتقاض شيء
منهما ، والعلم الإجمالي بالانتقاض علم بالجامع لا الفرد ، أي مجامع مع الشك في كل
من الفردين بحسب الفرض.
وإن
شئت قلت : انّه علم تعبدي
ببقاء الجامع بين الصغريين أي أحدهما ، والمفروض كفاية احراز ذلك في التنجيز مع
العلم بالكبرى ولو إجمالاً ، كما انّه لو كان لابد من العلم بالمجعول الفعلي فهو
أيضاً معلوم تفصيلاً سابقاً ومشكوك بكلا طرفيه لاحقاً تماماً كما في القسم الثالث
من الأقسام الثلاثة في الكتاب ، فلا وجه لهذا الاشكال.
ثمّ إنّه لا داعي
إلى جعل الأقسام ثلاثة ، وفي كل قسم أربع صور ، فإنّها تشقيقات زائدة ، والمهم
ثلاث صور :
إحداهما ـ أن يكون
الحادث فرداً معلوماً تفصيلاً ، ولكن حكمه مجمل مردد بين حكمين ، وفيه يجري
استصحاب الفرد ، وهذا هو القسم الثاني في الكتاب.
والثانية ـ أن
يكون الحادث فرداً مردداً وارتفاع أحدهما أيضاً مردد سواء كان حكم كل منهما معيناً
أو مردداً ، وهذا هو القسم الثالث في الكتاب.
والثالثة ـ أن
يكون الحادث فرداً مردداً والمرتفع فرداً معيناً ولكن حكمهما معلوم إجمالاً ، وهذا
هو البند الثالث من القسم الأوّل في الكتاب وباضافة هذه الصور الثلاث إلى الصورتين
المتقدمتين إحداهما في النقطة السابقة من هذا البحث أي استصحاب القسم الثاني للكلي
لاثبات أثر الفرد ، والاخرى الشق الثاني من القسم الأوّل للكلي تكون أقسام وصور
الاستصحاب لاثبات الأثر المردد بين فردين ومنجزيتهما معاً خمس صور.
ثمّ إنّ الاشكال
المذكور هنا في هامش الكتاب واضح الدفع.
ومن مجموع ما
تقدّم يتّضح أنّ استصحاب الفرد المردّد لا يجري سواء في الموضوع أو الحكم الفعلي إذا
كان الفرد المعين معلوم الارتفاع ؛ لأنّه شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب ، واستصحاب
الجامع لاثبات أثر الفرد وتنجيزه بعلم إجمالي تعبدي لا يجري كلما كان أحد الحكمين
معيناً معلوم الارتفاع وغير قابل للتنجيز.
كما اتّضح أنّ هذا
الاستصحاب سواء بصيغة استصحاب الفرد المردد أو استصحاب الجامع لتنجيز أثر الفرد لا
يجري لوجود معارض له في أكثر الموارد وهو استصحاب عدم تحقق كل من الفردين ، حيث لا
يلزم منهما ترخيص في مخالفة قطعية ، ولا أدري كيف غفل السيد الشهيد عن هذا الاشكال
الواضح.
ولهذه المسألة
تطبيقات كثيرة في الفقه ، فمثلاً لو علم إجمالاً بنجاسة أحد انائين أو ثوبين ثمّ
في الساعة اللاحقة شك في ارتفاع ذلك ولو من جهة احتمال تطهيرهما أو العلم اجمالاً
بتطهير أحدهما فيرتفع العلم الإجمالي بقاءً بلحاظ
الساعة الثانية ،
ولكن يجري استصحاب نجاسة أحد الفردين بنحو استصحاب الفرد المردد أو استصحاب نجاسة
أحدهما ـ الجامع ـ لتنجيز آثار الفرد ـ ولا أثر في المقام إلاّبلحاظ الفرد ـ فيحكم
بوجوب الاجتناب عنهما معاً ، مع انّ الصحيح معارضة استصحاب الفرد المردد أو الجامع
مع استصحاب عدم النجاسة الثابت فيهما قبل الساعة الاولى ، ويرجع بعد ذلك إلى قاعدة
الطهارة أو البراءة في الطرفين بلا محذور.
ودعوى : سقوط الاستصحابين العدميين في الساعة الاولى التي فيها
علم إجمالي منجز فلا يعودان بعد ذلك في الساعة الثانية وإن كان العلم الإجمالي
مرتفعاً فيها من جهة احتمال الغسل والتطهير ، والأصل الساقط بالمعارضة لا يعود إلى
الحياة من جديد.
مدفوعة : بما عرفت في محلّه من بطلان هذه الدعوى ، وانّ التعارض
بمقدار العلم الإجمالي لا أكثر ، فإذا ارتفع العلم بالنسبة إلى الساعة الثانية لم
يكن مانع من الرجوع إلى الأصل في الأطراف لنفي التنجيز بلحاظ الساعة الثانية ،
وكانت النجاسة منجزة بلحاظ الساعة الاولى فقط ، كما انّه لا يتشكل هنا علم إجمالي
تدريجي من أوّل الأمر بلحاظ الساعة الثانية كما هو في موارد خروج أحد الطرفين عن
محل الابتلاء بقاءً وسرّه واضح.
فالحاصل بناءً على
مبنى السيد الشهيد 1 لابد من الاجتناب في المقام مع انّه فقهياً ليس كذلك بل
يحكم بطهارة الطرفين ظاهراً لاحتمالهما واقعاً في الساعة الثانية ، ولا أظن أحداً
يلتزم بخلاف ذلك في الفقه.
نعم ، مبنى السيد
الشهيد في المقام يجدي في مورد لا يجري فيه في الطرفين
الاستصحاب المؤمن
حتى بنحو الاستصحاب الحكمي ، بل ينحصر الأصل المؤمن فيه بمثل قاعدة الطهارة أو
البراءة المحكومين للاستصحاب ، فإنّه سوف يقع التعارض بينهما لتقدم استصحاب الفرد
المردد أو الجامع عليهما في المعارضة فينتهى بعد ذلك إلى منجزية العلم الإجمالي
التعبدي ، وهذا بخلاف مبنى المشهور القائلين بعدم جريان استصحاب الفرد المردد.
فالصحيح التفصيل
في الفقه ، والله الهادي للصواب.
ص ٢٥٠ قوله : ( الصورة الاولى : ... ).
ويكفي أن يكون
الأثر للفرد الطويل في هذه الصورة والصورة القادمة بلحاظ البقاء فقط إذ معه أيضاً
يتشكل العلم الإجمالي التدريجي بين حكمين واقعيين في الصورة الاولى وواقعي وظاهري
استصحابي في الصورة الثانية ، وهذا واضح.
ص ٢٥٠ قوله : ( الصورة الثانية : ... ).
في هذه الصورة لا
إشكال في جريان الأصل المؤمّن عن حكم الفرد القصير فعلاً واستصحاب عدم الفرد
الطويل أو البراءة عن حكم الفرد الطويل في الزمان القادم بناءً على اشتراط اليقين
في جريان الاستصحاب ؛ لعدم العلم الإجمالي بالتكليف في أحد الزمانين لكي يلزم
تعارض الاصول ، ولو فرض العلم أيضاً ببقاء الفرد الطويل على تقدير حدوثه بعد
ارتفاع الفرد القصير أيضاً لم يكن تعارض بين الاصول المؤمنة في الطرفين ؛ لخروج
الطرف القصير عن الطرفية حين العلم ببقاء الطويل على تقدير حدوثه ، ففي كلا
الزمانين لا يتشكل علم إجمالي منجز يمنع عن جريان الاستصحابين النافيين لحكم
الطرفين ، وهو
معارض مع استصحاب
الفرد المردد أو الجامع لاثبات أثر الفرد كما شرحنا سابقاً.
وأمّا على القول
بأنّ واقع الحدوث يكون موضوعاً للتعبد الاستصحابي فيقال بالتعارض بين الأصلين
المؤمنين في الطرفين ؛ لأنّ جريانهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للعلم
الإجمالي بحكم الزامي واقعي الآن أو ظاهري في المستقبل وهو منجز بناءً على منجزية
العلم الإجمالي التدريجي كما هو الصحيح.
إلاّ أنّ هذا
المطلب غير صحيح ، أمّا بناءً على ما هو المشهور من تقوّم الحكم الظاهري بالوصول
أو على الأقل بعدم وصول خلافه فالاستصحاب النافي للفرد المحتمل طوله ينفي الحكم
الظاهري ببقائه حقيقة وواقعاً ، فيرتفع العلم الإجمالي بالحكم الالزامي موضوعاً ،
فلا يكون ترخيص في مخالفة قطعية لأنّ انتفاء التعبد ببقاء الفرد الطويل واقعاً سوف
يكون مدلولاً التزامياً لدليل قاعدة الاستصحاب لا لنفس القاعدة كما هو واضح.
وأمّا بناءً على
انكار هذا المبنى فالنتيجة وقوع التعارض بين الاستصحابين النافيين في الطرفين مع
الاستصحاب بنحو القضية الشرطية للفرد الطويل ، ولا وجه لترجيح الاستصحاب التقديري
والذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي على الاستصحابين النافيين في الطرفين ؛ لأنّ
كليهما حكم ظاهري مدلول لقاعدة الاستصحاب ، فلا يقاس بموارد العلم الإجمالي بالحكم
الواقعي أو حكم ظاهري مقدّم على الاستصحاب كما إذا كان أمارة على البقاء.
وإن
شئت قلت : انّ التناقض أو
القبح العقلي في جعل الاستصحابين النافيين في الطرفين في المقام ليس مع الحكم
الواقعي الالزامي أو حكم ظاهري الزامي مقدم على الاستصحاب لكي يمكن أن لا يرتفع
بهما فتقع المعارضة بينهما ، بل مع أحد حكمين ، أحدهما واقعي ، والآخر ظاهري ثابت
باطلاق نفس قاعدة الاستصحاب ، فإذا كان تنافٍ بينهما سقط إطلاق دليل الاستصحاب لا
محالة في الموارد الثلاثة.
وكون استصحاب عدم
حدوث الفرد الطويل ينفي موضوع التعبد الاستصحابي ببقائه ظاهراً لا واقعاً فيكون
نسبته إليه كنسبة الأصل المؤمن إلى الحكم الواقعي ، لا يجعله محكوماً له بوجه من
الوجوه ، بل يقع التعارض بين الأصلين المؤمّنين في الطرفين ، ومجموع دليل الحكم
الواقعي للفرد القصير على تقدير حدوثه ودليل الاستصحاب للفرد المحتمل طوله على
تقدير حدوثه ، وحيث انّ دليل الحكم الواقعي لا يمكن تقييده فيقع التنافي والتعارض
بين الإطلاقات الثلاثة لدليل الاستصحاب لا محالة ، ولا وجه لجعل التعارض بين
الأصلين النافيين للطرفين.
لا
يقال : استصحاب عدم
الفرد الطويل لا يكذب القضية الشرطية التعبدية ببقائه على تقدير حدوثه ، وإنّما
ينفي شرطها ، فلا يكون معارضاً مع الاستصحاب التقديري.
فإنّه
يقال : مجموع
التأمينين الثابتين بالاستصحابين العدميين في الفردين لا يمكن جعلهما مع جعل تلك
القضية الشرطية ، فالتعارض بملاك امتناع جعل الاصول الثلاثة مع الحكم الواقعي على
تقدير حدوث الفرد الصغير ، وليس
بملاك التنافي
والتكاذب ، فهو نظر التعارض بين الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي ، وليس
نظير الاستصحابين المتنافيين في موارد توارد الحالتين ، فلا نحتاج إلى التكاذب
لتحقق التعارض في المقام.
ص ٢٥٠ في الهامش
قوله : ( وثانياً : ... ).
هذا الاشكال غير
وارد ؛ إذ لم يكن الاشكال هو اللغوية ، وإن عبّر به في اللفظ ، بل الاشكال من
ناحية أنّ التعبد ببقاء اليقين إنّما يجري في مورد لم يكن فيه اليقين موجوداً
بنفسه وجداناً ، فلا موضوع للتعبد ببقائه لكي يتشكل علم إجمالي تعبدي.
كما انّ الاشكال
الأوّل خلاف فرض السيد الشهيد لمعنى استصحاب الفرد المردد بمعنى العلم الإجمالي
بالجامع.
ص ٢٥٣ قوله : ( ويرد عليه أوّلاً ...
إلى قوله فلو استظهر من دليل الاستصحاب اشتراط كون الشك في البقاء فلا يشمل المقام
... ).
بل حتى لو لم
نستظهر ذلك لم يشمل المقام ؛ لأنّه لا شك في الطهارة الثابتة بين الملاقاتين حتى
بمعنى الشك في وجودها بعد فرض وجودها ويشترط في الاستصحاب تعلّق الشك بما تعلّق به
اليقين ولو في وجوده بعد الفراغ عن وجود المتيقن بنحو لا يصدق عليه الشك في البقاء
، وقد تقدم انّ جريان الاستصحاب يشترط فيه على الأقل أن يكون الشك في ما فرغ عن
تعلّق اليقين به وهذا غير موجود هنا ، وهذا واضح.
ولعلّ هذا مع
الجواب الثاني يرجعان إلى نكتة وروح واحدة.
ص ٢٥٣ الهامش.
هذا الهامش بهذا
البيان غير تام ، إذ ثبوت حصة من الطهارة بعد الملاقاتين تنافي أيضاً ثبوت النجاسة
من ناحية استصحاب الفرد المردّد لأنّ الحصة جامع وزيادة والمفروض انّه لا حكومة
بينهما إذ لا سببية ومسببية.
إلاّ
انّ هنا بياناً آخر حاصله : انّ مقتضى دليل تنجس ملاقي النجس ما لم يغسل انتفاء تمام حصص الطهارة عنه عند
الملاقاة ما لم يغسل وقيد عدم الغسل بعد الملاقاة المرددة وجداني والملاقاة بالنجس
المردد ثابت بالتعبد فيثبت انتفاء تمام حصص الطهارة حتى هذه الحصة الثابتة باليقين
بين الملاقاتين.
والحاصل مفاد دليل
التنجيس ليس انتفاء خصوص الحصة الثابتة قبل الملاقاة بل انتفاء تمام الحصص للطهارة
وفعلية النجاسة من جميع الجهات ما لم يغسل وهذا يعني حكومة استصحاب الفرد المردد
على استصحاب الطهارة بين الملاقاتين أيضاً. نعم ، لو كانت الطهارة ثابتة بعد الغسل
للملاقي لم يكن الاستصحاب الموضوعي المذكور رافعاً لها ، إلاّ انّ مثل هذه الطهارة
لا تكون محتملة في اليد للقطع بعدم غسلها بعد الملاقاة المرددة مع النجس.
ص ٢٥٥ قوله : ( وامّا النحو الأوّل فليس
من استصحاب الكلي أصلاً ... ).
لأنّه من قبيل ما
إذا علمنا بوجود حيوان وشككنا في انّه طويل العمر أو قصيره فهنا أيضاً يعلم بجعل
معين لا يدرى متعلقه وليس هذا كما إذا تردد الأمر بين جعلين علم بتعددهما في
نفسيهما كما في الشبهة الموضوعية ، وهذا معناه انّ الشبهات الحكمية دائماً يكون
الشك فيها في جعل واحد وليس من التردد بين فردين ناجزين من الجعل ليكون من الفرد
المردد ، إلاّ انّه مع ذلك لا يجري
الاستصحاب إذا
كانت الشبهة من القسم الأوّل كما إذا تردد الجعل بين وجوب الجمعة أو الظهر وجيىء
بالظهر مثلاً فاريد استصحاب أصل الوجوب بنفس البيان المتقدم بأن يقال انّه من
استصحاب وجوب لا يدري متعلقه بل مردد بين الجمعة التي جيىء بها أو الظهر الذي لم
يأت به ، والايجاب المردد بين ما أتى به وما لم يؤت به لا يكون قابلاً للتنجيز
بخلاف ما إذا كان المتعلّق من سنخ واحد كالجلوس ساعة أو ساعتين فإنّه مع فرض انّ حيثية
الزمان ليست تقييدية فلا محالة يجري استصحاب وجوب ذات الجلوس.
ص ٢٥٥ الهامش.
هذا الهامش صحيح
ويمكن توضيحه : بأنّ جامع الوجوب أي ذات الوجوب المتعلق بذات الجلوس وإن كان
متيقناً إلاّ انّه بمعنى اليقين بوجود أحد وجوبين فعليين بينهما جامع كذلك فهو من
العنوان المردد بين حصتين من وجوب ذات الجلوس لأنّ الوجوبين متعددان في المقام
بحسب الفرض وأحدهما متعلّق بالجلوس ساعة والآخر بالجلوس ساعتين وعندئذٍ لو اريد
جعل عنوان احدى الحصتين من وجوب الجلوس بنفسه منجزاً فهو ليس وجوباً بل عنوان كلي
انتزاعي مشير إلى احدى الحصتين والحقيقتين من الوجوب. وإن اريد جعله منجزاً لواقع
الوجوب كما في منجزية العلم الإجمالي بأحدهما ، فالمفروض انّ أحد الفردين ولا يكون
قابلاً للتنجيز ، وهذا بخلاف موارد الأقل والأكثر الذي يكون واقع الوجوب الشخصي
والحصة المعينة من الجعل المعلوم متعلقه مردداً بين الأقل والأكثر فيكون ذات الأقل
متعلقاً لواقع الوجوب ومعلوماً تفصيلاً.
وإن
شئت قلت : انّ الذي يدخل
في العهدة حصص الوجوبات لا جامعها بنحو
صرف الوجود أي
أحدهما وبلحاظ الحصص هنا يعلم بانتفاء احداهما وهو جعل وجوب الجلوس ساعة وينفى
الاخرى بالتعبد.
والحاصل
: كما لا يجري
استصحاب الجامع بمعنى الحصة ـ كما تقدم في توجيه أصل جريان استصحاب الكلي من القسم
الثاني ـ كذلك هنا إذا كان المنجز هو واقع الحكم بمعنى الحصة منه ، فلا يمكن اجراء
الاستصحاب فيه إلاّبنحو استصحاب الفرد المردد أو العلم بالجامع الإجمالي التعبدي
لتنجيز أثر الواقع والحصة أو الفرد ، والذي تقدم أنّه معارض مع استصحاب عدم
الفردين أو عدم الفرد الطويل ، وانّه في المقام الذي يعلم بانتفاء أحد الحكمين
معيناً لا يمكن أن يكون منجزاً ؛ لأنّه إنّما ينجز متعلقه إذا لم يكن مردداً بين
ما لا يقبل التنجيز وما يقبل ـ كما ذكرنا في الشبهة الحكمية من القسم الأوّل ـ وفي
المقام وجوب الجلوس ساعة لا يقبل التنجيز.
ص ٢٥٦ الهامش.
الظاهر صحّة هذا
الهامش أيضاً.
ص ٢٥٩ قوله : ( أوّلاً ... ).
بل حتى على القول
بتعلق العلم الإجمالي بالواقع يكون الجامع أيضاً متعلقاً له ، فالمسلك المذكور
معناه انّ العلم الإجمالي فيه زيادة على العلم بالجامع وهو العلم باحدى الخصوصيتين
، لا أنّه ليس فيه علم بالجامع فيجري الاستصحاب بلحاظه ؛ لأنّه بقاء له على كل
تقدير.
بل هنا جواب آخر
غير ما ذكره السيد الشهيد من الأجوبة وحاصله : انّ
الحدث المردد
المعلوم اجمالاً حصوله من البلل المشتبه دائماً يكون بنحو مانعة الجمع لأنّ البلل
المشتبه يعلم اجمالاً بأنّه امّا بول أو مني وهو من العلم الإجمالي بنحو مانعة
الجمع فالحدث الحاصل منه لو كان باقياً كان هو الأكبر وكان هو متعلّق العلم
الإجمالي حدوثاً لا محالة لأنّه علم اجمالي بحصول حدث من ذلك البلل وهذه الخصوصية
متعلقة للعلم بحسب الفرض ، فعلى تقدير كون البلل منياً كان الحدث الأكبر الحاصل
منه هو المعلوم الواقعي ، لا الأصغر على تقدير بقائه من جهة عدم التضاد.
إلاّ أنني بمراجعة
تقريرات الشيخ رأيت انّ ما يقصده مطلب آخر أجنبي عمّا ذكره السيد الشهيد 1 في تفسير كلامه ،
فهو لا يبني المسألة على مبنى تعلّق العلم الإجمالي بالواقع أصلاً ، بل يتكلم على
أساس انّ المعلوم هو الجامع والكلي ومع ذلك يمنع عن جريان الاستصحاب في فرض احتمال
اجتماع الحدثين لأنّه سوف يصبح الكلي المعلوم مردداً بين القسم الثالث والقسم
الثاني وحيث انّ في الكلي من القسم الثالث يكون الجامع المعلوم حصوله غير الجامع
المشكوك بقائه فلا يحرز الشك في بقاء نفس المتيقن.
وجواب هذا الكلام
انّ الشك في إمكان الاجتماع منشأ لتولد العلم الإجمالي وصيرورة اليقين السابق
بالجامع من القسم الثاني لا التردد بين القسم الثاني والثالث ، فإنّ الفرق بين
القسمين ليس بلحاظ كيفية الكلي الواقعي المعلوم بل بلحاظ كيفية العلم به ، وإلاّ
فالكلي واحد في تمام أقسام استصحاب الكلي.
وإن
شئت قلت : ليس التضاد
بوجوده الواقعي موجباً لتحقق القسم الثاني بل
بوجوده الاحتمالي
كما انّ القسم الثالث متوقف على العلم بامكان الاجتماع لا امكانه الواقعي.
ولعلّه لوضوح
بطلان هذا المطلب طوّر السيد الشهيد بيان المحقق المذكور إلى التفصيل في جريان
استصحاب الكلي بين موارد مانعة الجمع وغيره ، إلاّ انّ التزام هذا المحقق بذلك
بعيد جداً زائداً على الاعتراضات الواردة في الكتاب وهنا.
ص ٢٦١ قوله : ( والصحيح فقهياً هو
التركيب بالنحو الثاني ... ).
وإلاّ لم يجر
الاستصحاب في طرف الاثبات في أجزاء الموضوع كما لو شك في نجاسة الملاقى وكانت
حالته السابقة ذلك ، فالحاصل من يرى جريان الاستصحاب في طرف الاثبات فيما إذا كان الشك
في جزء الموضوع كالشك في حرمة المائع الملاقى أو نجاسته وكفاية جريان الاستصحاب
فيه لاثبات الانفعال بنحو التركيب فلا محالة لابد وأن يكون موضوع النفي عنده أيضاً
بنحو التركيب فيكون الاستصحاب العدمي أزلياً لا محالة.
ص ٢٦٨ قوله : ( وثالثاً ـ الحلّ وحاصله
: ... ).
مطلب
السيد الخوئي يرجع إلى مطلبين :
١ ـ أن يكون معلوم
العلمين التفصيلي والإجمالي في عرض واحد وزمان واحد ، كالعلم بدخول زيد في المسجد
وخروجه ، والعلم بدخول الإنسان القرشي أو المكاتب فيه أيضاً مع الشك في كونه زيداً
، فهو مرتفع بقاءً أو غيره ، فهو باقٍ في المسجد قطعاً أو احتمالاً.
٢ ـ أن يكون معلوم
العلمين التفصيلي والإجمالي طوليين بلحاظ عمود الزمان بنحو توارد الحالتين ، وقد
مثل له بمثالين : أحدهما : التوارد من الطرفين ، أي كلاهما مجهولي التاريخ. والآخر
: أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهوله ، مثال الثاني العلم بجنابة قبل ظهر الخميس
والاغتسال منه عند الزوال ثمّ روئية جنابة يوم الجمعة مرددة بين أن تكون حادثة بعد
ذلك أو نفس الجنابة المغتسل منها.
وهنا تكون الطهارة
عن الجنابة عند زوال يوم الخميس معلوم التاريخ ، والجنابة مرددة بين فردين سابق
على الغسل أو لاحق. ومثال الأوّل العلم بعد الوضوء بصدور وضوء منه وحدث ، ولكن لا
يدري هل صدر الحدث قبل الوضوء الثاني أو انّ الوضوء الثاني كان تجديدياً وصدر
الحدث بعده ، وهنا زماني الحدث والطهور الحاصل بالوضوء الثاني كلاهما مجهولان
واجماليان.
وقد حكم في كلا
المثالين بجريان الاستصحاب ـ كما هو مبناه في موارد توارد الحالتين ـ وتساقطهما
والرجوع إلى الأصل الطولي وهو الاشتغال بلحاظ الصلاة لشرطية الطهور فيها ، فيكون
من الشك في المحصل. ثمّ نقل وجهاً عن الهمداني 1 للتفصيل بين القسمين ، وأنّ استصحاب الجنابة لا يجري في
المثال الأوّل ، واستصحاب الطهور والحدث يجريان في المثال الثاني ، وفسّر كلامه
على أساس انّه في المثال الأوّل لا يعلم بتحقق السبب الجديد للجنابة ؛ إذ لعل
الأثر من نفس الجنابة الاولى المتيقنة ، فالأصل عدم حصول سبب جديد ، وهذا بخلاف
المثال الثاني حيث يعلم فيه بالسبب الثاني للطهور وهو الوضوء الثاني ، وإنّما يشك
في تقدمه أو تأخره عن الحدث.
فأشكل عليه : بأنّ
هذا الفرق ليس بفارق لأنّنا نستصحب المسبب وهو الجنابة المتيقنة عند خروج أثر
الجنابة المشاهد يوم الجمعة ، وهو مردد بين فردين سابق أو لاحق فيجري استصحاب جامع
الحدث في المثال الأوّل أيضاً ، واستصحاب عدم السبب الثاني للجنابة ليس إلاّ استصحاب
عدم الفرد الطويل ، وهو لو فرض سبباً للشك في الجامع مع ذلك لا يجري استصحابه لنفي
الجامع ؛ لكونه أصلاً مثبتاً ؛ لما تقدم في استصحاب الكلي من القسم الثاني من أنّ
انتفاء الجامع بانتفاء الفرد أصل مثبت لكونه لازماً عقلياً له وليس أثراً شرعياً
مترتباً عليه ، فاستصحاب الجامع يجري في الأمثلة الثلاثة ، غاية الأمر في المثالين
المذكورين في المطلب الثاني يكون له معارض ، وذاك مطلب آخر لا ربط له بجريان أصل
استصحاب الجامع في هذا القسم الذي هو قسم رابع.
والتحقيق في التعليق على كلام السيد
الخوئي 1 أن يقال :
أمّا ما ذكره في
المطلب الأوّل من وجود علمين : أحدهما تفصيلي ، والآخر إجمالي ـ كما في مثال زيد
والقرشي أو الكاتب ـ فما ذكره من جريان استصحاب القرشي أو الكاتب صحيح ، إلاّ أنّه
من استصحاب القسم الثاني من الكلي موضوعاً أيضاً ؛ لأنّ عنوان القرشي أو الكاتب لا
علم بتحقق فرد منه تفصيلاً ؛ إذ لا يعلم بكون زيد قرشياً أو كاتباً بحسب الفرض ،
فهذا كمثال الفيل والبق تماماً ، والذي يجري استصحاب الجامع فيه.
ونضيف على ما ذكره
ـ وإن لم يذكره هو ولعله لبّ مقصوده ـ انّه هنا يجري استصحاب جامع الإنسان أيضاً ،
رغم العلم تفصيلاً بتحقق فرده وهو زيد ، ولا يصح أن يقال طبيعي الإنسان يعلم
بتحققه ضمن زيد ويشك في أصل تحققه
ضمن فرد آخر ـ كما
في موارد القسم الثالث للكلي ـ لأنّ هذا الانحلال إنّما يصح فيما إذا كان متعلق
العلم الإجمالي هو نفس الجامع المعلوم تفصيلاً لا جامع آخر ، ولو كان حصة من
الجامع المعلوم تفصيلاً كما في المقام حيث انّ العلم إجمالاً بدخول القرشي أو
الكاتب علم بدخول الإنسان القرشي أو الكاتب ، والعلم بالمقيد علم بذات المقيد لا
محالة في ضمنه ، فكما يوجد علم بجامع القرشي والكاتب كذلك يعلم بعلم آخر غير العلم
التفصيلي بجامع الإنسان المتضمن في القرشي والكاتب. ومن هنا قلنا فيما سبق بأنّ
استصحاب الفرد أو الحصة يكفي لاثبات الجامع الموجود في ضمنه.
وإن
شئت قلت : ما تقدم في
القسم الثالث من الكلي من انّ الجامع لا علم به في غير المعلوم التفصيلي ، ولا
يمكن الإشارة به إلى الخارج وإنّما هو محض تصور لا يقين خلفه لا يجري هنا ؛ لأنّ
المقيد إذا كان معلوماً بعلم إجمالي وهو علم آخر غير العلم التفصيلي وإن كان
معلومه محتمل الانطباق عليه ، فإنّه لا ينحل به ، فلا محالة يكون جامع الإنسان في
ضمنه أيضاً معلوماً ومشاراً به إلى الخارج بنفس هذا العلم الإجمالي ، بحيث لو كان
متحققا ضمن فرد آخر وكان باقياً كان هو معلوم علمه الإجمالي بالانسان القرشي أو
الكاتب ، وهذا واضح.
فالاستصحاب كما
يجري في القرشي والكاتب كذلك يجري في الإنسان المتحقق ضمنه ، ويترتب عليه أثره
الشرعي لو كان.
إلاّ أنّ هذا
أيضاً من مصاديق القسم الثاني للكلي ، فإنّ عنوانه العلم الإجمالي بالجامع المردّد
بين فردين ، والذي لم ينحلّ امّا لعدم علم تفصيلي أصلاً الموجب
للانحلال ، أو
لوجوده ، ولكنه بنحو لا يوجب انحلاله كما في المقام ، فلا يناسب جعل هذا قسماً
رابعاً للكلي ، وإن كان ذكره مناسباً لدفع توهم الانحلال أو الالتحاق بالكلي في
القسم الثالث.
وأمّا ما ذكره في
المطلب الثاني فالصحيح فيه ما ذهب إليه الهمداني من التفصيل لا بالوجه الذي ذكره
في تفسير كلامه ، بل من جهة أنّ المثال الأوّل من موارد القسم الثالث للكلي ؛ إذ
الجنابة معلومة تفصيلاً قبل ظهر الخميس ، والشك في تحقق فرد آخر منه يكون وجوداً
آخر للطبيعي ، فيكون هناك علم واحد بالفرد والجامع ، وشك في تحقق فرد آخر ، وما
ذكر من الإشارة إلى الحصة أو الفرد من الجنابة الحاصلة بالأثر المشاهد على الثوب
يوم الجمعة ليس إلاّ إشارة إجمالية ذهنية انتزاعية إلى أحد فردين المعلوم تحقق
أحدهما تفصيلاً وارتفاعه كذلك ، ويشك في تحقق الآخر ، ففيه نفس محذور استصحاب
الفرد المردد أو الجامع بنحو الكلي من القسم الثالث. وهذا بخلاف مثال القرشي أو
الكاتب وزيد ، فإنّه كان يوجد فيه علمان متعلقان بالجامع مع قطع النظر عن الفردين
وانتزاع عنوان اختراعي منهما.
فالحاصل ، استصحاب
الجامع في هذا المثال يكون من القسم الثالث للكلي وانتزاع أو اختراع عنوان مشير
إلى أحد الفردين يكون من استصحاب الفرد المردد الذي لا يجري ولا يوجب تعدد العلم
بالجامع ، وإلاّ لأمكن تصويره في تمام موارد الشك البدوي كما في مورد النقضين
المذكورين في الكتاب ، وهذا بخلاف ما إذا كان هناك علمان مستقلان من أوّل الأمر ،
كما في مثال زيد والقرشي.
وأمّا المثال
الثاني فهو من القسم الثاني للكلي موضوعاً وحكماً ، كمثال الفيل
والبق تماماً ؛
لأنّ الطهور المستصحب المعلوم حين تحقق الوضوء الثاني مردد بين الآن الثاني أو
الثالث ، كما انّ الحدث المعلوم بالإجمال مردد بينهما ، وهذا الطهور غير الطهور
المتيقن في الآن الأوّل بالوضوء الأوّل ، فإنّه فرد آخر مقطوع الارتفاع على كل حال
، فإنّ الطهور في كل زمان غير الطهور في زمان آخر كما هو واضح. فلا علم تفصيلي
أصلاً بتحقق أحد فردي الطهور المعلوم بالإجمال في أحد الآنين الثالث أو الثالث لكي
ينحلّ جامع الطهور الثابت في أحد الآنين ، والمستصحب إنّما هو هذا الجامع ، لا
الجامع المنطبق على الطهور في الآن الأوّل ، فإنّه مقطوع الارتفاع ، وهذا واضح
جداً.
ومن مجموع ما
ذكرنا يظهر انّ الأجوبة الثلاثة ـ النقضان والحلّ ـ التي ذكرها السيد الشهيد ـ كما
في الكتاب ـ إنّما يصح في الفرع الفقهي الأوّل من الفرعين ، ولا يصلحان لا في مثال
القرشي أو الكاتب وزيد ، ولا في مثال الوضوئين ـ الفرع الفقهي الثاني ـ.
وسيأتي في مبحث
توارد الحالتين ما له ربط بالمقام.
ص ٢٧٢ قوله : ( والتحقيق جريان استصحاب
الزمان بنحو مفاد كان الناقصة ... ).
الظاهر أنّ مجرد
اتصال الزمان المشكوك بما قبله ووحدته من حيث هو زمان لا يكفي لاستصحاب اتصافه
بوصف القطعة الزمنية المشكوك بقائها ، من قبيل كونه نهاراً ، فضلاً عن اثبات كون
النهار من رمضان باستصحاب بقاء رمضان مثلاً ؛ لأنّ اتصال الزمانين يوحّدهما في
الزمانية ، أي في تحقق عنوان الزمان وبقاؤه لا في ثبوت العنوان الزماني المقطع
لشخص هذا الزمان ، وإلاّ كان زمان
الليل أيضاً
نهاراً والنهار ليلاً لاتصالهما.
وإن
شئت قلت : انّ اتصال
الزمانين لا يوحدهما من حيث هما زمانان جزئيان ، وإنّما يوجب وحدة المقطع الزماني
المشتمل عليهما كالنهار ما بين الحدّين ، فإنّه نهار واحد لا نهاران ، وأين هذا من
اثبات أنّ الزمان المشكوك يكون نهاراً ، فإنّ هذا اللحاظ معناه ملاحظة الزمان
المشكوك كموضوع وزمان مستقل مشكوك اتصافه بوصف النهارية ولا حالة سابقة له.
نعم ، هنا مطلب
آخر يكون قابلاً للقبول ، وهو أنّه لو كان النهار متصفاً قطعه منه بوصف كالضحى
مثلاً لما قبل الزوال وشككنا في حصول الزوال وعدمه ، فنستصحب بقاء النهار ضحىً أو
بقاء الليل في نصفه الأوّل ، فإذا كان هناك أثر شرعي مترتب عليه جرى الاستصحاب
لاثباته ، وهذا نظير استصحاب بقاء الجلوس المقيد بالنهاري أو استصحاب بقاء التقييد
بالنهارية لانحفاظ الموضوع الواحد وهو ذات المقيد ، وكأنّه وقع خلط بين هذا وبين
اثبات الوصف للزمان المشكوك بخصوصيته. فما ذكره الشهيد في مفاد كان الناقصة صحيح
في هذا المثال لا فيما هو مصب نظر المحققين.
ص ٢٧٤ قوله : ( كما توهمه في تقريرات
المحقق النائيني 1
... ).
الظاهر انّه في
تقريرات العراقي 1 لا النائيني فراجع.
ص ٢٧٥ ( توضيح ذلك
... ).
حاصل اشكال السيد
الشهيد : انّه لو اريد تنجيز وجوب الواجب المقيّد بالزمان فإن استصحب بقاء الفعل
المقيّد ـ إذا كان له حالة سابقة ـ بنحو القضية
التنجيزية فهذا لا
معنى له ؛ لأنّ ابقائه بفعله بل ولا يترتب التنجيز عليه ؛ إذ وقوع الواجب ليس
شرطاً في وجوبه وإلاّ كان من تحصيل الحاصل ، وإنّما شرط الوجوب وبالتالي التنجيز
صدق القضية التعليقية انّه لو صام كان في النهار فيجب ، وإن استصحب القضية
التعليقية وهي انّه لو كان قد صام سابقاً كان في النهار فالآن كذلك ، ولو لم تكن
له حالة سابقة تنجيزية فهذا لا يثبت الوجوب ؛ لأنّ ترتب الوجوب على تلك القضية
التعليقية التكوينية ليس شرعياً ، وإنّما هو من باب الملازمة العقلية كما في سائر
القضايا التعليقية في الموضوعات.
وإن اريد اثبات
ذلك باستصحاب بقاء القيد وهو الزمان بنحو مفاد كان التامة أو الناقصة على ما تقدم
جريانه ، فهذا لا يتم إلاّبناءً على التركيب بين ذات الواجب وقيده لا التقييد ـ كما
نقول به في مثل الصلاة عن طهور وإلاّ كان مثبتاً على ما تقدم ـ وهذا لا يعقل في
المقام إذ يلزم من التركيب تعلّق التكليف بأمر غير اختياري وهو جعل هذا الزمان
نهاراً فيتعين التقييد وانّ الواجب هو جعل الفعل في ذلك الزمان وتقيّده به الذي هو
الأمر الاختياري.
ثمّ دفع السيد
الشهيد الاشكال : بأنّه على التقييد أيضاً يمكن تنجيز التكليف بنحو آخر ذلك انّ
الزمان باعتباره قيداً غير اختياري فيكون لا محالة وجوده شرطاً في فعلية الوجوب
لكي لا يلزم التكليف بغير المقدور ، وعندئذٍ إذا كان الفعل المقيد بالزمان وجوبه
ثابتاً من أوّل الأمر أي الاشتغال به يقيناً سواء كان بنحو صرف الوجود أو مطلقه
كالصلاة في الوقت للبالغ من أوّل الوقت أو الصوم في تمام النهار الذي معلوم مقداره
وأصله والشك في تحصيله ، كان مقتضى أصالة الاشتغال الاتيان بالصوم أو الصلاة في
الزمن المشكوك نهاريته مثلاً لكونه
من موارد الشك في
القدرة على امتثال ما تنجز عليه بقاعدة الاشتغال والاستصحاب وهو مجرى الاحتياط
العقلي.
وإذا لم يكن وجوبه
ثابتاً من أوّل الأمر وإنّما يجب الآن إذا كان الزمان باقياً سواءً في صرف الوجود
أو مطلق الوجود احتيج إلى اجراء استصحاب بقاء الوقت وبه يثبت فعلية الوجوب
والاشتغال به فيجب الخروج عنه في مورد الشك في القدرة عليه بالاحتياط العقلي ولا
موضوع للبراءة الشرعية ؛ لتقدّم الاستصحاب عليها.
ويمكن
أن نلاحظ على ذلك :
أوّلاً
ـ انّ القضية
التعليقية إذا كانت شرطاً في تنجيز التكليف بأن استفيد أخذها ولو ثبوتاً ولباً
قيداً في الوجوب فلا محالة جرى الاستصحاب فيها ، إذ لا يراد إلاّ اثبات نفس القضية
التعليقية والملازمة الثابتة سابقاً بقاءً لا اثبات جزائها ليكون من الأصل المثبت.
وبتعبير آخر لو
كان وجوب الامساك والصوم في كل زمان مشروطاً بصدق القضية الشرطية التالية : إذا
صام في هذا الزمان كان صومه في النهار أو نهارياً ، فاثبات نفس هذه القضية
التعليقية التي تكون لها حالة سابقة بالاستصحاب احراز لشرط الوجوب ومنجز له بلا
حاجة إلى اثبات لازم آخر ليكون من الأصل المثبت.
نعم ، قد يناقش في
أصل كون الشرطية والقضية التعليقية موضوعاً للوجوب وقيداً فيه لباً بل القيد نفس
الزمان والأمر غير الاختياري ، وهذا بحث آخر اثباتي.
وثانياً
ـ انّ استصحاب قيد
الواجب يراد منه التأمين لا التنجيز ، وإلاّ كان راجعاً إلى قيد الوجوب وشرطه نظير
احراز قيد الطهور بالاستصحاب لاثبات الاجتزاء والتأمين وارتفاع الشغل العقلي
بالواجب بل والأثر الشرعي من قضاء واعادة ، وهذا في المقام أيضاً يتصور كما إذا
وجب عليه أن يتصدق في النهار ـ أي في نهارٍ ما ـ وشك في بقاء النهار ليكون صدقته
في النهار فيكون قد وفى بنذره أم لا ، فلابد وأن يتصدق في نهار آخر ؛ وهكذا لو وجب
عليه بنذر أو غيره صوم يوم من شهر من أشهر الحرم وشك في آخر يوم من رجب مثلاً
فاستصحبه لكي يصومه فيفي بنذره فلا يجب عليه صوم يوم آخر من شهر حرام آخر. وهذا
الأثر لم يعالج في كلام السيد الشهيد ، وما عالجه مربوط بمسألة قيود الوجوب بحسب
الحقيقة لا قيد الواجب.
وثالثاً
ـ لازم اشكال السيد
الشهيد 1 أن لا يتم الاستصحاب في شيء من القيود التكوينية غير الاختيارية للواجبات ،
فإذا شك في ايمان الرقبة واريد استصحاب بقاء كونها مؤمنة ليجتزأ بعتقه لم يجر
الاستصحاب ، إذ لا يثبت انّ عتقها عتق للرقبة المؤمنة ، إلاّ إذا كان بنحو التركيب
أي أن يعتق رقبة وأن تكون تلك الرقبة مؤمنة فيلزم أن يكون التكليف بالجزء الثاني
وهو غير مقدور فيلزم الغاء الاستصحاب في مثل هذه الموارد ، وهذا ما لا يلتزم به
السيد الشهيد 1 نفسه في الفقه.
والحلّ : أنّ الزمان تارة يكون قيداً في الوجوب أيضاً ، كما إذا
كان الوجوب انحلالياً ، مثل الامساك والصوم في كل آن من آنات نهار شهر رمضان ،
واخرى لا يكون إلاّقيداً للواجب كما في الواجب البدلي ، من قبيل ما إذا نذر أن
يتصدق في نهار من أيّام شهر رمضان ومثله ما إذا وجب عليه عتق رقبة مؤمنة ، ومثل
الأوّل ما إذا وجب
عتق كل رقبة مؤمنة أو وجب اكرام كل عالم.
ففي الحالة الاولى
حيث يكون الزمان ـ أو أي قيد غير اختياري آخر ـ قيداً للوجوب فلا يكون قيداً
للواجب ، بمعنى أنّه يمكن أن يكون المأمور به ذات الفعل في ذلك الزمان ، فيرجع
الأمر بالصوم لنهار رمضان إلى القضية التالية إذا كان هذا الزمان نهار رمضان ، أو
كان نهار رمضان باقياً فيه ، فصم أي صم كل زمان إذا كان نهار رمضان فلا يكون متعلق
الأمر إلاّذات الصوم في زمان يكون نهار رمضان بنحو مفاد كان الناقصة أو التامة ؛
وذلك لما تقدم في محلّه أنّ قيود الوجوب لا تقع تحت الأمر. ومثله وجوب عتق كل رقبة
مؤمنة ، فإنّ ايمان كل رقبة شرط لوجوب عتق تلك الرقبة ، فلا يلزم أخذ تقيد عتق تلك
الرقبة بكونها مؤمنة تحت الوجوب أصلاً ، لا بنحو التركيب ولا التقييد ليلزم
المحذور المذكور. بل هذا من موارد شرطية الزمان أو غيره من القيود في الوجوب لا
الواجب ، وقد تقدم انّه يجري فيه الاستصحاب بلا اشكال ومحذور.
وفي الحالة
الثانية يكون الزمان أو القيد غير الاختياري قيداً في الواجب لا الوجوب فيترشح على
التقيّد به الأمر الضمني لا محالة ، وهنا ترد شبهة الأمر بغير المقدور إذا أرجعنا
التقيد إلى التركيب.
إلاّ أنّ جوابه
واضح وهو أنّ الواجب هنا بدلي لا انحلالي وشمولي ، فلا يلزم من التركيب الأمر بجعل
زمان معين نهاراً أو رقبة معينة مؤمنة أو انساناً معيناً عالماً ليكون من الأمر
بغير المقدور ، بل لازم التركيب تحقيق صدق القضيتين أن يتصدق أو يصلّ في زمان ، ويكون
ذلك الزمان نهاراً أو يكون النهار باقياً فيه ، وأن يعتق رقبةً تكون تلك الرقبة
مؤمنة ، والواجب صدق القضيتين في زمان أو
رقبة واحدة بلا
أخذ الارتباط أو التقيّد بين الجزئين أصلاً ، وصدق القضيتين كذلك اختياري للمكلف
ومقدور ، وذلك بتطبيق ذلك الزمان على زمان يكون نهاراً وعلى رقبة تكون مؤمنة ،
وهذا اختياري في الواجب البدلي كما هو واضح ، فيجري استصحاب بقاء النهار أو نهارية
هذا الزمان لاحراز تحقق القضية الثانية ، كما أنّ صدق القضية الاولى وهي الصلاة في
آن أو عتق رقبة وجداني ، فلا محذور في البين أصلاً. ولعمري هذا واضح لا أدري كيف
غفل عنه في حينه ، والله الهادي للصواب.
ثمّ إنّ ما ذكره
السيد الخوئي 1 في الشبهة الحكمية كان المناسب التعرّض له ، فإنّ له
مناسبة ببحث استصحاب الزمان.
وحاصله : انّه
تارة تكون الشبهة حكمية مفهومية كما إذا شككنا في أنّ النهار حدّه سقوط القرص أو
ذهاب الحمرة المشرقية ، واخرى تكون الشبهة حكمية غير مفهومية.
وقد ذكر في النوع
الأوّل عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ـ وهو صحيح ـ ولا الحكمي لكونه من الشبهة
المصداقية لدليل لا تنتقض ، لأنّ النهار إذا كان إلى سقوط القرص فقد تبدل الموضوع.
وهذا الاشكال قد
أجبنا عليه سابقاً من أنّ أخذ قيد في المفهوم لا يستلزم كونه حيثية تقييدية لما هو
موضوع الحكم المتيقن سابقاً. فلا فرق بين الشبهتين الحكميتين من حيث جريان
الاستصحاب الحكمي فيهما إذا كان الحكم له حالة سابقة ولم يكن الزمان مفرداً وكل آن
منه قيداً مستقلاًّ ـ كما تقدم في الكتاب ـ.
ثمّ ذكر السيد الخوئي فرعين
آخرين :
أحدهما : ما إذا احتملنا تحقق وجوب آخر بعد زمان الوجوب الأوّل ،
ونقل عن الميرزا عدم جريان استصحاب العدم فيه ؛ لأنّه من العدم الأزلي.
وجوابه : انّه ليس عدماً أزلياً ، بل هو ثابت قبل ذلك الزمان ،
ومجرّد كون متعلقه مقيداً بالزمان الثاني لا يجعله موضوعاً ، بل يمكن أن يكون
ظرفاً للفعل في ذلك الزمان ، وهذا واضح.
الثاني : ما إذا احتملنا تعدد المطلوب في الواجب المقيّد بالزمان
كالصلاة في النهار وقال انّه يجري فيه استصحاب كلي الوجوب من القسم الثاني ؛ لأنّ
ذات الفعلي يعلم بوجوبه في الوقت ، إمّا ضمناً ـ على فرض وحدة المطلوب ـ أو
استقلالاً ـ على فرض تعدد المطلوب ـ فيجري استصحاب أصل الوجوب بعد الوقت ويثبت
تبعية القضاء للأداء ، خلافاً للمشهور والمتبع في الفقه.
وهذا الكلام صحيح
إذا قبلنا الاستصحاب في القسم الثاني في الأحكام التكليفية. وقد تقدّم منّا
الاشكال فيه حتى في مثل المقام ، خلافاً للسيد الشهيد 1 ، فتدبر.
ص ٢٨١ قوله : ( المقام الأوّل ... ).
كأنّ المشهور
جريان الاستصحاب التعليقي في الشبهة الحكمية وانّ كل حيثية يشك في دخلها في الحكم
بقاءً بعد الفراغ عن دخلها حدوثاً ينفى دخلها بالتعبد الاستصحابي سواءً كان الحكم
الثابت في مرحلة الحدوث مطلقاً أي غير مقيد وغير مشروط بشرط كنجاسة وحرمة الماء
المتغيّر أو منوطاً بشرط كحرمة العصير العنبي إذا غلى ، فكما إذا شك في دخل فعلية
التغير في الحكم نتعبد
بدليل الاستصحاب
ظاهراً ببقاء الحرمة بعد زوال التغيّر وهو من الاستصحاب التنجيزي الذي لا اشكال
فيه كذلك نتعبد بالاستصحاب ببقاء الحرمة المعلّقة على الغليان بعد زوال وصف
العنبية وجفاف العنب من دون فرق لأنّ للمعلق نحو ثبوت أيضاً.
وهناك من فصّل بين
أن يكون المجعول في لسان الخطاب الحرمة على العنب المغلي وما إذا كان لسان الخطاب
العنب إذا غلى حرم فحكم بجريان الاستصحاب التعليقي في الثاني دون الأوّل إذ
التعليق غير شرعي فيه بل منتزع عقلاً.
والميرزا 1 ناقش في جريانه
في الموردين امّا إذا كانت الحرمة على المغلي فلأنّ التعليق انتزاع عقلي وامّا إذا
كانت الحرمة على العنب إذا غلى فلأنّ المستصحب إن كان هو الجعل بنحو القضية
الحقيقية فلا شك فيه بقاءً ، إلاّ إذا شك في نسخه وهو خارج عن الاستصحاب التعليقي
وإن كان هو المجعول الفعلي فلا فعلية للحكم قبل فعلية موضوعه بتمام قيوده وقيود
الحكم لكي يكون هناك يقين بالحدوث ، فإن قيد الحكم كالموضوع بل راجع إليه من هذه
الناحية فأركان الاستصحاب غير تامة في الاستصحاب التعليقي.
وقد اسيىء فهم
كلامه 1 فتصور انّه يجعل مبنى الاشكال رجوع قيود الحكم إلى قيود الموضوع فعلى القول
به لا يجري الاستصحاب التعليقي ، وعلى القول بعدم رجوع قيد الحكم إلى الموضوع يجري
الاستصحاب.
فاعترض عليه بأنّه
لو اريد ارجاع قيود الحكم إلى الموضوع بحسب عالم الملاكات وانّه لا فرق بينهما
لباً وثبوتاً من حيث انّ كلها من مقتضيات الحكم
فليس الميزان في
جريان الاستصحاب بعالم الملاكات والمقتضيات بل بالقضية الشرعية المجعولة وإن اريد
رجوعها إلى الموضوع بحسب مفاد الدليل والقضية الشرعية فمن الواضح الفرق بين قولنا
: العنب المغلي حرام والعنب إذا غلى حرم من حيث رجوع القيد في الثاني في مرحلة
الاثبات والخطاب إلى الحكم لا الموضوع.
وهذا الاعتراض
ناتج عن الخلط بين الموضوع بمعنى ما يكون معروضاً للحكم والموضوع بمعنى ما يكون
مقدر الوجود وتكون فعلية الحكم والمجعول متوطأ بفعليته ، فإنّ الموضوع بالمعنى
الأوّل يفهمه الميرزا 1 ولا يرجع قيود الحكم إليه ، كيف وهو المصرّح بذلك في بحث
الواجب المشروط والمطلق برجوع القيد إلى الحكم والوجوب ، وكذلك في بحث المفاهيم ،
وإنّما يريد بالموضوع هنا المعنى الثاني ، أي ما يكون فعلية الحكم متوقفاً على
فعليته فيقول انّ قيد الحكم كالموضوع ـ بمعنى المعروض ـ من حيث انّ فعلية المجعول
منوطة بفعليته بحيث لا فعلية للحكم قبل فعليته لأنّ وجه هذه الاناطة أخذ القيد
مقدر الوجود في مقام جعل القضية الحقيقية ؛ لأنّ الأحكام ليست مجعولة على نهج
القضايا الخارجية لكي يتصور جعل مطلق فيستصحب مثلاً ، وإنّما هناك جعل واحد بنحو
القضية الحقيقية الكلية في صدر الشريعة ، وتمام القيود المأخوذة في الحكم أو في
الموضوع كنفس الموضوع ـ بمعنى المعروض ـ تؤخذ في تلك القضية مقدرة الوجود لجعل
الحكم عليها ، وفي فرض وجودها وتحققها ، فكما لا مجعول شرعي فعلي قبل تحقق الموضوع
بمعنى المعروض لكي يستصحب ، كذلك لا مجعول ولا يقين سابق بالحكم بمعنى المجعول
الفعلي قبل تحقق قيود الحكم.
وأمّا الملازمة أو
القضية الشرطية فإن اريد بها الجعل والقضية الحقيقية فلا شك فيها ، وإن اريد
الملازمة والسببية بين تحقق الشرط وتحقق الجزاء فهي منتزعة وعقلية وليست موضوعاً
للتنجيز والتعذير حتى إذا كانت شرعية.
وبهذا البيان عرف
الخلط في البيان المتقدم لكلام الميرزا 1 الذي ورد في كلمات تلامذته حتى مثل السيد الخوئي 1 على ما في
تقريرات بحثه ، فليس الميرزا 1 ناظراً إلى مقام الثبوت بمعنى الملاكات كما في المستمسك ،
بل إلى مقام الثبوت بمعنى الجعل والقضية الشرعية ، ولكن لا يراد بالموضوع المعروض
للحكم كما لا يراد مقام الاثبات والدلالة فإنّها أجنبية عن مصب الاستصحاب أصلاً بل
يراد مقام الثبوت والقضية المجعولة ، ويراد بالموضوع كل ما يتوقف فعلية الحكم على
فعليته لكونه مأخوذاً مقدر الوجود ، ومنه شروط الحكم كما ليس النظر إلى رجوع القيد
إلى الحكم دون الموضوع ، وانّ الثابت للموضوع لو كان الحصة المقيدة من الحكم جرى
استصحابه التعليقي كما في مصباح الاصول ، إذ لا فعلية للحكم حتى إذا كان الثابت
للموضوع الحكم المقيّد لأنّ قيده مأخوذ مفروض الوجود بحسب الفرض.
كما أنّه ليس
المقصود بيان انّ الأحكام منجعلة بالأسباب الشرعية بجعل السببية لها ، بل هي
مجعولات من قبل المولى على الموضوعات المقدرة كما في فوائد الاصول ، فإنّ هذا
أيضاً لا حاجة إليه فإنّ كون الحكم مجعولاً من قبل المولى لا شك فيه وإنّما الكلام
في كيفية فعليته ، فإذا لم يكن قيد الحكم كالموضوع مقدر الوجود فالفعلية ثابتة وإن
كانت الأحكام مجعولات المولى لا السببية وإن كان مقدر الوجود لم يجر الاستصحاب ،
حتى إذا جعلت السببية الشرعية لأنّها ليست منجزة وإنّما المنجز المسبَّب والحكم ـ كما
في الكتاب ـ.
ص ٢٨٤ قوله : ( فإنّه مضافاً إلى ما
ذكرنا ... ).
حاصل الكلام :
انّه لا يرد اشكال الحاشية لأنّ السببية تكون مجعولة فتستصحب إلاّ انّه يرد عندئذٍ
اشكال آخر هو انّ السببية وإن كانت مجعولة أصالة شرعاً إلاّ انّ المنجز هو المسبب
لا السببية حتى إذا كانت مجعولة وترتب المسبّب على السببية الشرعية عقلية
وبالملازمة أو لا ملازمة أصلاً ، فالقول بأنّ المجعول هو السببية أيضاً لا ينفع.
وأضاف في أجود
التقريرات اشكالاً آخر حاصله : أنّه لو اريد جعل كبرى السببية فلا شك في بقائها
وإن اريد السببية الفعلية فهو فرع تحقق تمام قيود الموضوع ومنها الغليان.
وهذا الشق إنّما
يكون أمراً آخر غير الملازمة إذا اريد بها السببية الفعلية أي الترتب الفعلي
للمسبب على السبب ، إلاّ أنّ هذا عبارة اخرى عن استصحاب المسبب والمجعول.
فالصحيح في تقرير
كلام الميرزا 1 جعل التشقيق ثلاثياً والاشكال على كل قسم بما ذكرناه.
ثمّ إنّ برهان
الميرزا لا يختلف جريانه وصحته بين القول بكون الاستصحاب في الشبهة الحكمية يجريه
المجتهد في المجعول الكلي بفرض تحقق موضوعه أو يجريه المقلد عند تحقق موضوعه في
حقه خارجاً ، والمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب والذي يكون المستصحب فيه المجعول
الجزئي ، فإنّه كما لا تحقق للمجعول الفعلي الجزئي في الثاني كذلك لا تحقق للمجعول
الكلي في نظر المجتهد بفرض العنبية ما لم يفرض تحقق الغليان كما هو واضح ، فما عن
العراقي 1 من النقض بجريان
الاستصحاب التنجيزي من قبل المجتهد قبل تحقق الموضوع في الخارج وانّ المجعول فعلي
بفعلية الجعل وقع فيه خلط واضح ، فإنّ المجعول الكلي وإن كان فعلياً بفعلية الجعل
إلاّ أنّه إنّما يفرض له الحدوث والبقاء لكي يستصحب فيما إذا لوحظ الجعل بالحمل
الأولي ، ويفرض تحقق موضوعه بتمام قيوده ، ومنه الغليان ، وإلاّ فلا حدوث ولا
بقاء.
ص ٢٨٦ قوله : ( ٣ ـ ما قد يستفاد من
تعبيرات المحقق العراقي 1
... ).
كأنّه يريد انّ
العلم واليقين في موارد القضايا الشرطية التعليقية ليس مقيداً بواقع الشرط وإلاّ
لم يكن يقين فعلاً ولا هو علم مطلق بالجزاء المقيد بالشرط إذ يلزم العلم بالقيد
لأنّ العلم بالمقيد علم بقيده بل هو يقين مشروط ومقيد بفرض الشرط وتقديره وكذلك
الشك في المقام فيكون في فرض الشرط له يقين سابق وشك لاحق فيجري الاستصحاب.
ص ٢٨٨ قوله : ( وتوضيح ذلك ... ).
خلاصة
كلام السيد 1 : انّ الاعتراض بعدم وجود يقين سابق وشك لاحق يندفع بأنّ
التقييدين إذا كانا طوليين كما في العنب إذا غلى حرم فيوجد يقين بحدوث وشك في
البقاء لأنّه سوف يكون العنب وحده تمام الموضوع للحكم المعلق لأنّ تقييد الحكم
بالغليان لم يؤخذ في عرضه بل في مرتبة أسبق منه ، ففي مرتبة موضوعية العنب لا يوجد
قيد آخر ولا يكون تمام الموضوع إلاّنفس العنب للحكم المعلّق وبما انّ الزبيب بقاء
للعنب بحسب الفرض فيشك في بقاء الحرمة المعلّقة التي هي قضية مجعولة شرعاً
كالقضايا الحقيقية التنجيزية المجعولة شرعاً عند الشك فيها فتتم أركان الاستصحاب
فيه.
والاعتراض بعدم
المنجزية إلاّللحكم بمعنى المجعول الفعلي يدفعه مضافاً إلى النقض بموارد استصحاب
عدم النسخ ، انّ المنجز احراز الكبرى وهي القضية الحقيقية التي أنشأها المولى
واحراز صغراها وهي كل القيود العرضية أو الطولية المأخوذة فيها والاستصحاب في
المجعول الكلي يثبت توسعة الجعل بالحمل الأولي في القضية التنجيزية أو التعليقية
على حدّ سواء ـ بعد أن كان اليقين بالحدوث ثابتاً فيهما معاً بالبيان المتقدم ـ فعند
غليان الزبيب نكون قد أحرزنا الصغرى المركب من كون الزبيب بقاءً لذات العنب الذي
كان هو الموضوع للقضية الحقيقية الام ببركة الاستصحاب ، وكونه قد غلى الذي هو
القيد الطولي الثاني للحكم بالوجدان ، فتصبح الحرمة منجزة لا محالة ، فالتنجيز ليس
للحكم الفعلي ليقال القضية التعليقية الصغرى ليست منجزة ، بل المنجز هو القضية الحقيقية
الكبرى الام كلما احرز تحقق صغراها وشرطها ، وإنّما لا منجزية في فرض العنبية من
دون الغليان لعدم احراز الصغرى وهو الغليان الذي هو القيد الطولي ، لا لأنّ الكبرى
ليست منجزة ، فببركة جريان الاستصحاب واثبات التوسعة في الكبرى الام التي هي
القضية المجعولة شرعاً نحرزها في حال الزبيبية كحال العنبية فتكون منجزة إذا احرزت
صغراها.
وحاصل
الجواب : انّه بحسب
المدلول التصديقي الجدي يكون العنب جزء الموضوع للمجعول الشرعي سواء صيغ ذلك
بالحملية أو الشرطية كان القيدان طوليين أو عرضيين ، وتوضيح ذلك :
انّ المدلول الجدي
تارة : يراد به روح الحكم من الارادة والكراهة ، واخرى : يراد به عالم التقنين
الاعتباري أي اعتبار الحرمة بناءً على ثبوت مثل هذا العالم.
أمّا
على الأوّل : فمن الواضح انّ
الارادة والكراهة لا يعقل فيها التعليق تارة والإطلاق اخرى ، وإنّما القيود كلها
ترجع إلى متعلقها كما حققناه في الواجب المشروط فتكون الكراهة متعلقة بالعصير
العنبي المغلي لا محالة فلا حالة سابقة لها في العنب غير المغلي حتى بنظارة الحمل
الأولي.
وأمّا
على الثاني : فلأنّ كلاً من
البيانين الحلّي والنقضي غير تام.
أمّا
البيان الحلّي : فلأنّ احراز الجعل ( الكبرى ) والموضوع ( الصغرى ) وإن كان كافياً في
التنجيز عقلاً ، بل هو المنجز دقةً وليس المجعول الفعلي في الخارج إلاّ أمراً
وهمياً تصورياً ، إلاّ أنّ ما هو الجعل المنجز ليس هو القضية الحملية أو الشرطية ،
وإنّما ثبوت محمولها الذي هو الأمر الاعتباري وهو الحكم والتكليف الذي يعتبره
وينشئه المولى ، وأمّا الموضوع والنسبة والتعليق فكلها امور تكوينية أو انتزاعية
عقلية ، ليست معتبرة ولا قابلة للتنجيز ـ كما تقدم ـ فلابد من اثبات سعة هذا الأمر
الاعتباري وشموله للمكلف. وليس البحث في ألفاظ ما يسمّى بالجعل أو المجعول في اللغة
والعرف ، بل في واقع ما ينشئه ويوجده المولى من الحكم والتكليف ، وهو الوجوب
والحرمة ، فلابد من تطبيق اليقين السابق والشك اللاحق على هذا الأمر لكي يجري
استصحابه وتوسعته ، وتوسعة القضية التعليقية ليس توسعة للحكم القابل للتنجيز.
نعم ، توسعته
تستلزم توسعة الحرمة للزبيب المغلي ، إلاّ أنّه من الأصل المثبت ، فما فيه يقين
سابق وهو القضية التعليقية ليس قابلاً للتنجيز ، وما يقبل التنجيز وهو ثبوت الحرمة
للزبيب المغلي ليس به يقين سابق لكي يثبت بالاستصحاب.
وكفاية احراز
القضية التعليقية في العنب لتنجيز حرمته إذا احرز الغليان والشرط ليس باعتبار
منجزية القضية التعليقية وكفايتها ، بل باعتبار ما يتولد منه من احراز الحكم الكلي
بحرمة العنب المغلي ، وأنّ الشارع قد اعتبر وجعل الحرمة على العنب المغلي ، فهذا
هو الكبرى والجعل المنجز عقلاً لا القضية التعليقية.
وإن
شئت قلت : انّ التعليق أو
الطولية في أخذ قيود التكليف بعضها بالنسبة للبعض الآخر كلها راجعة إلى عالم
الصياغة أو التعبير ، ولا ربط لها بالمعتبر والمجعول الشرعي الذي هو الوجوب
والحرمة المنجزين عقلاً ، سواء كان قالب جعلهما ملاحظة كل قيود موضوعه في عرض واحد
وجعلهما على هذا التقدير أو ملاحظتها بنحو طولي وجعل الحرمة أو الوجوب في طول فرض
تحقق تقديرين طوليين ، وهذا لعمري واضح جداً.
وما يترائى من أنّ
إحراز نفس القضية التعليقية المجعولة في القضية الكبرى شرعاً كاف في التنجيز ، فيه
مسامحة واضحة ، فإنّ المنجز بالدقة ما يتولد منها من ثبوت الحرمة وشمولها للموضوع
بعد تحقق المعلّق عليه ، وأنّه الذي يريده المولى أو ينهى عنه ، فهذا هو المجعول
الشرعي المنجز بالدقة ، وهو لباب مطلب الميرزا 1 الحق.
نعم ، لو فرض ورود
تعبير في روايات الاستصحاب يقتضي النظر إلى عالم الصياغات في أدلّة الأحكام
الشرعية فقد يستفاد منها من باب دلالة الاقتضاء التعبّد الاستصحابي ببقاء القضية
التعليقية لاثبات القضية التنجيزية ، إلاّ أنّه مجرد فرض.
وأمّا
النقض : باستصحاب عدم
النسخ وبقاء الجعل فليس المستصحب فيه القضية التعليقية أو الحقيقية ، بل المستصحب
بقاء محمولها على موضوعها الكلي ، وهو من استصحاب الحكم التنجيزي لا التعليقي ،
أمّا بناءً على أنّ النسخ تخصيص أزماني فواضح ، حيث انّه يرجع إلى الشك في سعة
المجعول الكلي على موضوعه بلحاظ عمود الزمان ، فلا ارتفاع للجعل أصلاً لكي يستصحب
، وإنّما المستصحب المجعول الكلي على موضوعه الكلي المتحد عرفاً في الزمانين.
وأمّا على القول
بأنّه رفع للجعل حقيقة بأن يكون المجعول شاملاً للفعل في الزمان الثاني من أوّل
الأمر حقيقة ، وإنّما يلغيه الشارع بقاءً ـ كما في نسخ القوانين العرفية ـ فأيضاً
كذلك ، فإنّ ما يرتفع بالنسخ هو المجعول أيضاً فيكون المستصحب بقاء التكليف والحكم
على الموضوع في الزمان الثاني ، كما كان من أوّل الأمر.
ص ٢٩٠ قوله : ( الاتجاه الأوّل ـ ما
ذكره صاحب الكفاية ... ).
يمكن
تقريب هذا الاتجاه بأحد أنحاء :
١ ـ ما هو ظاهر
الكفاية من أنّ الحلّية الثابتة سابقاً هي المغياة ، أي المعلقة على عدم الغليان ،
وهي لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان لاجتماعهما معاً في حال العنبية.
واجيب : بأنّ المستصحب ليست هي الحلّية المغياة المعلّقة ، بل
الحلّية التنجيزية الثابتة قبل غليان الزبيب ، واستصحاب الحلّية المغياة لا تثبت
ارتفاع الحلّية التنجيزية الفعلية قبل الغليان ، وهي تنافي الحرمة التعليقية.
٢ ـ ما ذكره السيد
الخوئي 1 في تطوير هذا الاتجاه من أنّ الحلّية التنجيزية مرددة بين الحلّية المتيقنة
الثابتة في حال العنبية ، وهي يقطع بارتفاعها بالغليان وعدم بقائها بعده ، وبين
حلّية اخرى تنجيزية يشك في أصل حدوثها ، والأصل عدمها لا ثبوتها.
وفيه : أنّ المستصحب جامع الحلّية التنجيزية الثابتة للزبيب قبل
الغليان ، وهي مردّدة بين ما هو مقطوع البقاء على تقدير الثبوت ومقطوع الارتفاع ؛
لأنّ الزبيب إن كان كالعنب فحليته قبل الغليان مرتفعة ، وإن لم يكن كالعنب فحلّيته
باقية بعد الغليان أيضاً.
وهذا من استصحاب
الكلي من القسم الثاني لا الثالث ، واستصحاب عدم الحلية التنجيزية المقطوع بقائها
على تقدير الحدوث ـ عدم الفرد الطويل ـ تقدم في استصحاب الكلي أنّه لا يمنع
استصحاب الجامع والكلي المعلوم إجمالاً سابقاً ضمن أحد الفردين ، وكون الحلّية
التنجيزية الثابتة زمان العنبية معلومة تفصيلاً لا يجعل المستصحب كلياً من القسم
الثالث بعد فرض تبدله إلى علم إجمالي بعد الزبيبية أي تردّده بين احدى حلّيتين
مقطوعة البقاء أو الارتفاع كما أشرنا.
فالعلم التفصيلي
بالجامع ضمن فرد حال العنبية تبدل وتحوّل إلى العلم الإجمالي المردّد بين الفردين
حال الزبيبية. نعم ، لو لم يكن يعلم باحدى الحلّيتين في حال الزبيبية كان من القسم
الثالث ، ولكنه ليس كذلك.
٣ ـ ما هو الصحيح
في تقريب روح مطلب المحقق الخراساني 1 من أنّ استصحاب الحلّية التنجيزية الثابتة قبل الغليان لا
ينفي إلاّ الحرمة التنجيزية بعد
الغليان ، وحينئذٍ
إذا قلنا أنّ المنجز إنّما هو الحرمة التنجيزية فقط لم يكن الاستصحاب التعليقي
جارياً إلاّ إذا قيل باثبات الحرمة التنجيزية به ، فتتم وجه الحكومة ، وهو الاتجاه
الثاني القادم.
وإذا قلنا بأنّ
ثبوت الحرمة التعليقية كافٍ في التنجيز مع احراز شرطها ـ كما هو مختار السيد
الشهيد 1 ـ فاستصحاب الحلّية التنجيزية لا ينفي هذه الحرمة ، ولا يمكن أن يؤمّن من
ناحيتها بل غايته التأمين من ناحية الحرمة التنجيزية.
فالحاصل : لازم
مبنى السيد الشهيد القول بأنّ المنجز هو الأعم من الحرمة التعليقية أو التنجيزية ـ
بناءً على جريان الاستصحاب في المجعول الفعلي التنجيزي أيضاً ـ وكفاية اثبات
احداهما في التنجيز ، وهذا نتيجته عدم كفاية استصحاب الحلّية التنجيزية ، والتي
تساوق عدم الحرمة التنجيزية بالخصوص ، لا عدم الأعم منها ومن الحرمة التعليقية في
التأمين ليكون معارضاً مع استصحاب الحرمة التعليقية.
وإن
شئت قلت : انّ المؤمّن هو
عدم كلتا الحرمتين ، وهذا لا حالة سابقة له ، بل الحالة السابقة ثبوت الحرمة
التعليقية ، فلا موضوع للاستصحاب المؤمّن لكي يكون معارضاً مع الاستصحاب التعليقي
المنجز.
ص ٢٩١ قوله : ( الاتجاه الثاني ـ ما
ذكره الشيخ ... ).
أورد عليه السيد
الخوئي 1 بايرادين كلاهما قابل للدفع :
١ ـ في المقام
مشكوك واحد وشك واحد ، وهو الشك في حرمة أو حلّية العصير الزبيبي المغلي ؛ ولهذا
المشكوك الواحد حالتان سابقتان حرمة تعليقية
وحلّية تنجيزية ،
فيكون بينهما تعارض كالاستصحابين في مورد توارد الحالتين ، فليس المقام بابه باب
الشك السببي والمسببي ـ كالثوب المغسول بالماء المشكوك طهارته ـ لأنّه إنّما يعقل
فيما إذا كان هناك شكّان ومشكوكان ، والحلّية والحرمة هنا طرفان لشك ومشكوك واحد.
وفيه : انّ مبنى جريان الاستصحاب التعليقي لم يكن كذلك ، بل
مبناه استصحاب الحكم التعليقي والحرمة المعلّقة ، وهي غير الحرمة التنجيزية ،
فالحرمة التنجيزية مع الحلّية التنجيزية شك ومشكوك واحد ، إلاّ أنّها مع الحرمة
التعليقية شكان ومشكوكان ، والمفروض أنّ استصحاب الحرمة التعليقية تثبت به الحرمة
التنجيزية أو يكفي للتنجيز ، ففي المقام أيضاً يوجد شكان ومشكوكان.
٢ ـ انّ مطلق
السببية لا تكفي للحكومة ، بل لابد وأن تكون السببية شرعية ، أي حكم وموضوع وليس
المقام منه ، فيكون أصلاً مثبتاً.
وفيه : انّ هذا رجوع إلى أصل اشكال الميرزا في المقام الأوّل ،
والمفروض في هذا المقام التنزل والفراغ عنه ، بمعنى أنّه لابد من افتراض أنّ
استصحاب الحرمة التعليقية يثبت الحرمة التنجيزية ـ والتي هي المنجزة عند المشهور ـ
امّا لكون الترتب شرعياً أو لجعل الحكم المماثل وكون اللازم للأعم من الواقع
والظاهر ، أو لكون الواسطة خفية أو غير ذلك ، فإذا افترض أحد هذه الامور كانت
النتيجة الحكومة لثبوت الحرمة التنجيزية وارتفاع الشك في الحلّية التنجيزية دون
العكس ، حيث انّ ثبوت الحلّية التنجيزية لا يثبت انتفاء القضية والحرمة التعليقية.
وهذا هو مبنى
المشهور في تقدم الأصل السببي الشرعي أي الموضوعي على
الأصل المسببي أي
الحكمي ، حيث انّ الأصل في الموضوع يثبت الحكم دون العكس.
نعم ، بناءً على
مبنى كفاية اثبات نفس القضية التعليقية للتنجيز بلا حاجة إلى اثبات الحرمة
التنجيزية لا تتم الحكومة ، ولكنه يتم البيان والاتجاه الأوّل المتقدم. فعلى كل من
المبنيين يتم أحد الاتجاهين في الجواب ، فتأمل جيداً.
ص ٢٩٢ قوله : ( والتحقيق في الاجابة على
هذا الاعتراض ... ).
تقدم انّه لا
نحتاج إلى هذا البيان المشتمل على مصادرة زائدة بل وجه عدم جريان استصحاب الحلية
هو أنّ أركان الاستصحاب غير تامة فيها ؛ إذ كما انّ الجعل قد جعل فيه العنب تمام
الموضوع للحرمة المعلقة أصبحت الحلية المجعولة له في حال عدم الغليان حلية مغياة
أيضاً ، فلو اريد استصحاب الحلية المجعولة فهي مغياة وإن اريد استصحاب عدم الحرمة
الثابتة قبل الغليان ـ كما هو الصحيح ؛ لأنّ التأمين يكفي فيه عدم الحرمة ـ فإن
اريد به عدم مطلق الحرمة حتى المعلقة فهو خلف الفرض ، وإن اريد به عدم الحرمة
التنجيزية فقد تقدم كفاية ثبوت الحرمة التعليقية في التنجيز. وهذا الجواب يتم هنا
وفيما يأتي من اشكال المعارضة في استصحاب عدم النسخ فانتظر.
بل المتعيّن هذا
الجواب.
وأمّا ما ذكره
السيد الشهيد بعنوان التحقيق ، فغير تام في المقام ، حتى إذا تمّ في مثال التدريس
والحالات السابقة المركّبة ؛ لأنّنا هنا نحتمل بحسب الفرض تبدل الحكم بجفاف العنب
وصيرورة حلّيته مطلقة لا مغياة ، فيجري استصحاب الحلّية التنجيزية ـ مع قطع النظر
عن الاشكال المذكور عليه في
بياننا ـ ولا وجه
للمنع عن جريانه مع تبدل العنوان وكون الشبهة حكمية ، فإنّ تلك النكتة لا تتم في
موارد طروّ ما يوجب احتمال تغيّر الحالة السابقة كبروياً ، فإنّه إذا كان من جهة
أنّ اثبات الحرمة بنحو القضية التعليقية حاكم على الحلّية المنجزة فهذا خلف فرض
المثبتة. وإن كان من جهة أنّ النظر إلى الجعل ينافي النظر إلى المجعول الفعلي من
الحرمة والحلّية التنجيزيين فهو بلا موجب بعد فرض قبول جريان الاستصحاب في المجعول
التنجيزي الفعلي ـ كما هو محقق في محلّه في بحث جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية
ـ وإن كان من جهة القياس بموارد الحالة السابقة المكرّرة والمركّبة فمن الواضح أنّ
ذلك لا يجري في المقام ، والذي لا تكرر فيه للحالة السابقة ، وإنّما يكون منشأ
الشك تبدل حيثية وخصوصية أوجب الشك في كل من القضيتين التعليقية والتنجيزية على حد
سواء ، بل هو شك واحد في مشكوكين لكل منهما حالة سابقة معاكسة مع ما للُاخرى ، فلا
وجه لتقديم احداهما على الاخرى إلاّبما ذكرناه من منع جريان استصحاب الحلّية
التنجيزية ـ بناء على ما هو الصحيح من كفاية اثبات القضية التعليقية في المنجزية ـ
أو الحكومة ـ بناءً على مسلك الميرزا 1 ـ.
ص ٢٩٦ قوله : ( وثالثاً ـ انّ استصحاب
بقاء الحكم ... ).
هذا هو التعارض
المتقدم في المقام الثاني من الاستصحاب التعليقي ، وهو لا يرد على استصحاب بقاء
الحكم التنجيزي في الشبهات الحكمية الاخرى غير الشك في النسخ رغم انّ الشك في
النسخ رجع اليها موضوعاً وحكماً ، لأنّ الحالة السابقة للماء المتغير قبل زوال
تغيره مثلاً هو النجاسة لا عدمها بخلاف المقام فإنّه كالاستصحاب التعليقي في
الشبهات الحكمية الاخرى.
والجواب عليه بما
ذكرناه هناك أيضاً من انّ استصحاب عدم الوجوب الفعلي مثلاً للجمعة قبل الزوال إن
اريد به نفي سعة الكبرى والمستصحب وهو وجوب الجمعة على طبيعي المكلف في ظهر كل يوم
جمعة فهو من الأصل المثبت وإن اريد به نفي التنجيز واثبات التأمين بمجرده فهو لا
يكفي لذلك لكفاية احراز الكبرى للمجعول الكلي مع صغراها للتنجيز ، بل قد عرفت عدم
وجود شيء باسم الحكم الفعلي ، وقد أفاد السيد الشهيد 1 بنفسه هذا الجواب في ص ١٤٩ فراجع.
ص ٢٩٧ قوله : ( أوّلاً ـ المناقشة ... ).
هذا الايراد أيضاً
لا يرد هنا إذ لو اريد استصحاب عدم المجعول الثابت بلحاظ ما قبل الزوال فإن اريد
منه استصحاب عدم المجعول الملحوظ بالحمل الأولي ـ كما هو كذلك في الشبهات الحكمية
ـ فالمفروض القطع بسعة المجعول وإنّما الشك في الغاء نفس الجعل والاعتبار ، وإن
اريد عدم المجعول الجزئي الفعلي فالمفروض انّه لا حقيقة له وليس هو المنجز بل
المنجز احراز كبرى الجعل مع صغراه.
ص ٢٩٧ قوله : ( والجواب : انا بعد أن
فرضنا وجود اعتبار عقلائي ... ).
يمكن أن يورد على
استصحاب بقاء الجعل أي نفس الجعل الذي هو أمر اعتباري وعدم نسخه الحقيقي بعد فرض
امكانه بلحاظ هذا العالم حتى في حق الشارع بوجوه اخرى :
أحدها : ما في هامش الكتاب أوّلاً من انّ المنجز روح الحكم لا
الأمر الاعتباري.
وجوابه ما في
الهامش أيضاً ، فإنّ العرف والعقلاء بعد أن كانت طريقتهم وديدنهم وارتكازهم على
التعامل مع الاعتباريات المولوية والتي له حدوث وبقاء اعتباري معاملة روح الحكم
فدليل الاستصحاب محمول على ذلك لا محالة.
الثاني : ما هو مذكور في الهامش ثانياً من دعوى المعارضة مع
استصحاب عدم الجعل الزائد ، وهذا هو اشكال المعارضة في سائر الشبهات الحكمية.
وفيه :
أوّلاً ـ انّ هذا لا يتم إذا كان الحكم المشكوك نسخه المراد استصحابه
ترخيصياً لا الزامياً كما لا يخفى وجهه. إلاّ أنّ هذا جواب عام لا يختصّ بالمقام
جارٍ في أصل شبهة التعارض.
وثانياً
ـ لا يتم حتى في
الحكم الالزامي ، إذ لو اريد استصحاب عدم الجعل الزائد بلحاظ عالم الاعتبار
فالمفروض العلم بثبوته حدوثاً بناءً على هذا التفسير للنسخ ، وإنّما الشك في رفعه
والغائه ، وإن اريد استصحاب عدم الجعل الزائد بلحاظ عالم روح الحكم أي عدم الارادة
الزائدة فهذا الاستصحاب بعد فرض انّ الحكم بمعنى الاعتبار أيضاً احرازه موضوع
للتنجيز لا يجدي في التأمين من ناحية احتمال بقاء الجعل ما لم نثبت به عدم بقاء
الجعل وهو من الأصل المثبت.
وهذا بخلاف شبهة
التعارض الجاري فيها الاستصحاب في مركز واحد من الارادة أو من الجعل والاعتبار.
الثالث : انّ استصحاب بقاء نفس الجعل بمعنى الاعتبار منافٍ لما
قدمناه في دفع شبهة المعارضة في سائر الشبهات الحكمية من انّ العرف يطبق دليل
الاستصحاب على الجعل بلحاظ الحمل الأولي له لا الحمل الشائع ، وانّ هناك
تهافتاً في لحاظ
الجعل تارة بالحمل الأولي وتطبيق دليل الاستصحاب عليه لاثبات بقاء مجعوله ، واخرى
بالحمل الشائع لنفي الجعل الزائد.
والجواب : انّ المراد من الجعل بالحمل الشائع نفس الانشاء والايجاد
للمجعول ، فالمجعول الزائد إذ لوحظ بما هو خارجي ـ أي الحمل الأولي ـ فهو بقاء
للمجعول المتيقن ، وإذا لوحظ بما هو أمر انشائي لابد من ايجاده بالانشاء ، فأمره
دائر بين الأقل والأكثر ، أي يشك في حدوث انشائه وايجاده الاعتباري ، وقد ذكرنا
هناك انّ المجعول لا ينظر إليه بالنظر الثاني بل بالأوّل ، وهذا لا ينافي جريان
الاستصحاب في بقاء نفس المجعول بما هو أمر اعتباري كما في استصحاب عدم النسخ ،
فإنّه كاستصحاب عدم جعل حكم يشك في أصل جعله يكون المستصحب فيه المجعول الكلي
المنظور إليه بالحمل الأولي لا الشائع ، فإنّ الحدوث والبقاء يضافان إلى المجعول
الكلي بالحمل الأولي أيضاً كما يضافان إلى انشائه وايجاده الاعتباري ، فالمستصحب
بقاؤه في المقام وعدمه في موارد الشك في أصل الجعل إنّما هو الجعل الملحوظ بالحمل
الأولي أيضاً.
إلاّ أنّ الصحيح
ورود الاشكال الثاني من هذه الاشكالات الثلاثة ، بتقريب آخر ، حاصله : أنّ
الاعتبار وإن كان منجزاً كالارادة وروح الحكم ، إلاّ أنّ المنجز هو الاعتبار الذي
تكون ورائه ارادة لا محض اعتبار ، فإنّه ليس موضوعاً لحكم العقل والعقلاء بالتنجيز
، ومع احتمال النسخ بالمعنى المذكور وإن كان يحرز جعل الحكم على المكلفين في
الزمان الثاني من أوّل الأمر ، ويكون له حدوث وبقاء اعتباري عقلائياً ، ولكنه لا
يحرز انّ ورائه ارادة لاستحالة نسخ الارادة في حق الشارع ، فلا يكون اليقين السابق
بالجعل للزمن الثاني يقيناً بجعل منجز لكي يجري استصحاب بقائه عند احتمال نسخه.
ودعوى : ظهور الخطاب في ثبوت الارادة وراء الجعل والاعتبار بتمام
قطعاته ، فبذلك يحرز وجود الارادة حدوثاً بلحاظ الزمان الثاني أيضاً.
مدفوعة : بأنّ هذا الظهور لو فرض كان بنفسه دليلاً على عدم النسخ
حتى بالمعنى المذكور ؛ لأنّ لازم فعلية الارادة بلحاظ الزمان الثاني عدم نسخ الجعل
أيضاً.
ومنه يعلم أنّ ما
في الكتاب من عدم امكان نفي النسخ بالمعنى الثاني باطلاق الدليل الاجتهادي على
الحكم غير سديد ، بل لو فرض الإطلاق فيه بلحاظ الزمن الثاني فظاهره إطلاق المبادىء
وروح الحكم أيضاً في مورد الجعل ، وهذا الظهور لازمه امتناع النسخ للحكم بهذا
المعنى ؛ لأنّ هذا المعنى للنسخ يلازم انتفاء روح الحكم بلحاظ الزمان الثاني من
أوّل الأمر ، فإذا كان للخطاب بلحاظ الزمان الثاني ظهور في فعلية مباديه وروحه في
ذلك الزمان أيضاً كان لازمه انتفاء النسخ حتى بهذا المعنى ، ففرض الشك في النسخ
بهذا المعنى من دون امكان رفعه بالدليل الاجتهادي هو فرض عدم ظهور دليل الخطاب
إلاّفي إطلاق الجعل لا مباديه بلحاظ الزمان الثاني.
وهذا بنفسه نقطة
ضعف في هذا المعنى للنسخ أيضاً ؛ لأنّ الظهور الذي ذكرناه موجود في الخطابات ولا
يمكن انكاره.
نعم ، لو قلنا
بكفاية احتمال وجود الارادة وراء الجعل لمنجزيته عقلائياً وعدم لزوم احراز ذلك
بمحرز كان الاستصحاب تام الأركان في الجعل ؛ لأنّ فعليته سابقاً محرزة واحتمال
وجود الارادة ورائه موجود ؛ لعدم العلم بالنسخ فيجري استصحاب بقائه.
إلاّ أنّ هذا
المبنى لا وجه له ، وإنّما نقبل تنجيز الخطاب بمعنى الاعتبار من باب الطريقية لا
الموضوعية ، أي الاعتبار الناشىء من وجود الارادة خلفه ، إذاً فلا موضوع لاستصحاب
بقاء الحكم وعدم نسخه على هذا المعنى للنسخ ما لم يحرز نشوئه من ارادة ومبادء
الحكم وروحه ، ومع احراز ذلك لا يبقى شك في النسخ بهذا المعنى ليستصحب.
ومنه يظهر أنّ ما
ذكر في الاجابة على شبهة المعارضة من أنّ استصحاب عدم الإرادة الزائدة لا ينفي
التنجيز من ناحية بقاء الجعل أيضاً غير تام ؛ لأنّ منجزية الجعل والاعتبار ليست
لنفسه ، وبنحو المعنى الاسمي والموضوعية بل باعتبار تولّده من الإرادة وروح الحكم
، وبنحو الطريقية ، فإذا كان في قباله استصحاب نافي للارادة الزائدة وروح الحكم
بلحاظ الزمان الثاني كان مؤمناً ، فليس في البين منجزان مستقلان ، بل العقلاء
يوسّعون نفس المنجز العقلي ، وهو روح الحكم إلى الأمر الاعتباري الذي له بقاء
اعتباري.
وإن
شئت قلت : بحسب نفس هذه
النظرة العقلائية يرى التعارض بين اطلاقي دليل الاستصحاب في المقام أيضاً إذا
قبلنا كبرى التعارض في الشبهات الحكمية.
نعم ، هنا دعوى
عرفية اخرى : وهي أنّ العرف يرى النسخ بقاءً لنفس الإرادة ـ وإن كان واقعه تخصيصاً
أزمانياً بالدقة ـ والميزان بالنظر العرفي ، فمع الشك في النسخ يكون إطلاق دليل
الاستصحاب شاملاً لنفس الجعل والارادة ، ولا يكون بابه بحسب هذا النظر العرفي باب
الشك في سعة الجعل وضيقه ليعارض باستصحاب عدم الجعل الزائد ، أو يقال بعدم منجزية
الحكم والاعتبار إذا لم يحرز انّ ورائه أراده ؛ لأنّ نفس الإرادة المحرزة كأنّه
يشك في بقائها ،
فكلا الاشكالين
يندفعان بناءً على قبول هذه المسامحة العرفية ، وعهدتها على مدعيها.
ص ٣٠٤ الهامش.
ما في الهامش صحيح
، بتعبير آخر أصل هذا البحث بلا موجب ، كأنّه انساق بحث السيد الشهيد 1 إليه من ناحية ما
اشتهر من أنّ الاستصحاب الموضوعي يرتب الأثر الشرعي الفعلي المترتب على ذلك
الموضوع ، فقيل أنّ جزء الموضوع ليس موضوعاً للأثر الشرعي ، مع انّ هذا مجرد تعبير
في كلمات الاصوليين ، ولم يرد في لسان دليل الاستصحاب ، وإنّما الوارد فيه عنوان
النقض العملي ، وهو بناءً على مسلك المشهور إنّما يكون متوقفاً على احراز المجعول
الفعلي ، امّا بتعلّق اليقين والشك به ، أو بما هو موجب لترتبه شرعاً ، سواء كان
جزء الموضوع أو تمام الموضوع ؛ وذلك لورود لا تنقض في الموضوع وهو الطهارة ، وهو
جزء الموضوع أو المتعلّق لا تمامه ، سواء قلنا انّ مفاد الأصل ثبوتاً جعل حكم
مماثل للمجعول الفعلي أو جعل المنجزية أو العلمية بلحاظه ، فإنّ كل ذلك لا ربط له
بهذا البحث.
فاختلاف المسلكين
لا أثر له في المقام أصلاً ، إذ كما نقول بكفاية احراز جزء الموضوع بالتعبد وجزئه
الآخر بالوجدان في المنجزية مع احراز كبرى المجعول الكلي كذلك نقول بناءً على
المشهور بترتب المجعول الجزئي بلسان الحكم المماثل أو بلسان تنجيزه أو بلسان جعل
الاستصحاب علماً وطريقاً إليه كلّما احرز موضوع كلا أو جزءً مع احراز سائر الأجزاء
وجداناً أو بمحرز آخر بالاستصحاب تمسكاً باطلاق النقض العملي ، بل وروده في جزء
الموضوع والمتعلّق ، فهذا البحث كلّه زائد.
ص ٣١٠ قوله : ( ونلاحظ على هذا القول ...
).
وتحقيق المسألة
يقتضي إيراد الوجوه المانعة في الصورة التي اتفق المانعون على عدم جريان الاستصحاب
فيها وهي استصحاب معلوم التاريخ إلى زمان الجزء المجهول تاريخه ، وهي كما يلي :
١ ـ ما ذكره الشيخ
من انّ عدم الكرية في زمان الملاقاة بما هو في زمان الملاقاة لا حالة سابقة له.
وجوابه : ما عن صاحب الكفاية 1 من أنّ هذا خلف فرض التركيب وأخذ الزمان ظرفاً.
٢ ـ ما ذكره
الميرزا 1 من عدم الشك بلحاظ عمود الزمان والاستصحاب تعبد بالبقاء في الزمان الواقعي لا
العنواني المردد ، والذي يكون الشك فيه في زمان ذاك الجزء لا المستصحب.
وفيه : مضافاً إلى ما سيأتي عن الشهيد الصدر 1 من لزوم التفصيل
في صورة مجهولي التاريخ ، انّ زمان الملاقاة على إجماله وتردده أيضاً زمان واقعي
يشك في بقاء الجزء المستصحب فيه وعدم بقائه ، وكونه مردداً لا يخرجه عن ذلك ، كما
أنّ كون المستصحب بلحاظ عناوين أو حوادث اخرى في الزمان كالزوال وغيره معلوماً
بالتفصيل لا يمنع عن صدق الشك في بقائه في واقع زمان الحادث الآخر وهو الملاقاة
المرددة بين الزمانين.
٣ ـ ما ذكره
المحقّق الخراساني 1 من انّه في موارد العلم بالانتقاض ـ ولو إجمالاً كما في
مجهولي التاريخ ـ يحتمل انفصال زمان اليقين ـ بمعنى المتيقن ـ
عن الشك ـ بمعنى
المشكوك ـ بزمان اليقين بالانتقاض ، ويشترط في صدق نقض اليقين بالشك احراز اتصال
زمان المشكوك بالمتيقن وعدم انفصاله عنه بزمان يعلم فيه بالانتقاض.
وفيه :
أوّلاً ـ كفاية احتمال البقاء وعدم الانتقاض في صدق الشك في البقاء ،
ولا يشترط أكثر من ذلك.
وإن
شئت قلت : كما أنّه لا
يمنع عن صدق الشك في البقاء احتمال انفصال المتيقن عن زمان الشك بواقع عدمه ، كذلك
لا يمنع عنه احتمال انفصاله عنه بعدمه المقطوع به لكفاية احتمال البقاء في صدق
الشك في البقاء.
ثانياً
ـ ما في الكتاب من
تعلّق العلم الإجمالي بالجامع لا الواقع ، أو تعلّقه به على نحو يجامع الشك ، وهذا
الجواب الحلّي المذكور في الكتاب يرد في مجهولي التاريخ ، ولا يجري في استصحاب
الجزء المعلوم تاريخه تفصيلاً إلى زمان الجزء الآخر المجهول ؛ لأنّ الانفصال
المحتمل حاصل فيه بالمعلوم التفصيلي لا الإجمالي.
٤ ـ ما ذكره جملة
من الأعلام ، ومنهم السيد الشهيد 1 وجعلوه أحد محتملات كلام صاحب الكفاية ، وإن كان خلاف صريح
عبارته وخلاف تطبيقه لهذه النكتة على موارد توارد الحالتين كما سيأتي في تنبيه
قادم ، وحاصله : انّ اجراء الاستصحاب بلحاظ زمان الملاقاة إن اريد به اجرائه بلحاظ
زمان الملاقاة بما هي زمان الملاقاة فهو خلف فرض التركيب ورجوع إلى التقييد ، وإن
اريد اجرائه بلحاظ ظرف الزمان بأخذ هذا العنوان مشيراً إلى واقع عمود الزمان فهذا
يجعل المستصحب قابلاً للانطباق على ما يقطع بانتقاضه على أحد التقديرين ،
وليس هذا من نقض
اليقين بالشك ، بل بما يحتمل كونه نقض اليقين باليقين والاستصحاب هو النهي عن نقض
اليقين بالشك على كل تقدير ، بل لا شك في هذه الصورة في واقع الزمان ، وإنّما يوجد
يقين بالبقاء قبل الزوال ويقين بالانتقاض بعده ، فلا موضوع للاستصحاب ، وإنّما
الشبهة المصداقية تعقل في مجهولي التاريخ ، إذا كان دائرة تردد الجزء المستصحب
أضيق أو مساوياً لدائرة تردد الجزء الآخر بلحاظ عمود الزمان كما ذكر السيد الشهيد 1.
وهذا الوجه أيضاً
يمكن الإجابة عليه : بأنّا نجري الاستصحاب بلحاظ واقع زمان الملاقاة ، ولكن من
خلال عنوان زمان الملاقاة بأن نشير به إلى ذات معنونه الخارجي مع إلغاء تقيده
بالملاقاة ، والذي من خلال هذا العنوان المشير يشك وجداناً في بقاء الكرية فيه
وعدمه ، ولو من جهة تردده بين فردين من الزمان ، لا شك في شيء منهما ، إذا لوحظا
بعنوانيهما التفصيليين ، فإنّه كما يمكن تعلّق العلم بعنوان إجمالي مردد بين فردين
مشكوكين بعنوانيهما التفصيليين كما إذا علمنا بطهارة اناء زيد المردد بين انائين
يشك في نجاسة كل منهما ، كذلك يمكن العكس بأن نشك في طهارة اناء زيد المردد بين
انائين يقطع بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر تفصيلاً ، فإذا كان اناء زيد نجساً سابقاً
وكانت نجاسته فعلاً موضوعاً لأثر شرعي ـ كما إذا نذر وجوب التصدق إذا كان نجساً ـ جرى
استصحاب بقاء نجاسة اناء زيد على إجماله لترتيب ذاك الأثر ، ولكن لا بما انّه اناء
زيد لوضوح عدم أخذ اضافته لزيد لا في موضوع النجاسة المستصحبة ولا في موضوع الأثر
الآخر ؛ لأنّه مترتب على نجاسة اناء ، يكون لزيد بنحو التركيب بحسب الفرض ، بل
اناء زيد مشير إلى واقع ذاك الاناء الخارجي الموضوع لهذا الحكم والأثر الشرعي.
ولا ينبغي أن يقال
بأنّه إذا كان هذا العنوان مشيراً إلى واقع أحد الانائين في الخارج فحيث لا شك في
شيء منهما من ناحية الطهارة والنجاسة فلا موضوع للاستصحاب.
وتمام النكتة في
انّ أخذ العنوان المقيد مشيراً في موارد التركيب لا يكون إلاّ بمعنى الغاء خصوصية
التقييد فيه لا كونه مشيراً إلى العناوين التفصيلية التي لا شك بلحاظها ، بل
المشار إليه هو المطابق والمعنون الخارجي المردد لا العناوين الاخرى التفصيلية ،
وحيث انّه مشكوك بهذا العنوان الإجمالي المشير فيمكن أن يكون هو مركب الاستصحاب
بمقتضى إطلاق دليله.
فالحاصل
: الوجدان يحكم
بتحقق الشك بلحاظ العنوان الإجمالي بما هو مرآة لمعنونه الخارجي في الموضوعية
لدليل الاستصحاب إذا كان مسبوقاً باليقين ، فإن اريد بهذا الوجه عدم وجود شك آخر
في واقع ومعنون مشار إليه بالعنوان الإجمالي ، يمكن أن يكون مجرىً للاستصحاب ،
فهذا واضح انّه خلاف الواقع ، وإن اريد انّ هذا العنوان الإجمالي المشير إلى معنون
واقعي ، وإن كان مشكوكاً ، إلاّ انّه حيث يحتمل انطباقه على ما هو معلوم الانتقاض
بعنوان آخر تفصيلي فلا يكون من نقض اليقين بالشك بل باليقين.
فهذا جوابه انّ
هذا الشك والاحتمال أيضاً ناقض لليقين السابق بلحاظ حكم ذاك المعنون المشار إليه ؛
إذ كما يكون احتمال الانتقاض الواقعي ناقضاً لليقين السابق وأثره التنجيزي كذلك
احتمال كونه المقطوع انتقاضه بعنوان آخر تفصيلي أيضاً ناقض عملي لأثر اليقين
السابق التنجيزي ، فلا وجه لعدم شمول إطلاق دليل الاستصحاب له.
وإن
شئت قلت : الشك في كونه
المقطوع انتقاضه تفصيلاً شك في الانتقاض لا محالة.
وقد ذكر السيد
الخوئي 1 أمثلة عديدة لجريان الاستصحاب في حق مشكوك يحتمل انطباقه على ما يقطع
بانتقاضه بعنوان تفصيلي ، كما إذا علمنا بأنّ مقلّدنا ضمن أحد هذين الشخصين ( زيد
وعمرو مثلاً ) وعلمنا بموت زيد تفصيلاً ، فإنّه لا إشكال في جريان استصحاب بقاء
المقلّد وعدم وجوب الرجوع إلى غيره أو عدم انتقال تركته ، وهكذا.
٥ ـ ما ذكره السيد
الخوئي 1 نقلاً عن استاذه النائيني 1 في فرع آخر وهو ما إذا كان اناءان يعلم بنجاستهما سابقاً
ثمّ علم بطهارة أحدهما ، حيث شقّقه في العروة إلى ثلاثة شقوق : وانّه تارة يعلم
بطهارة أحدهما لا أكثر بحيث لا يتعين للمعلوم بالإجمال حتى واقعاً.
واخرى : يعلم
بطهارة أحدهما بعنوان معين واقع مردد عند المكلّف كعنوان الانان الشرقي مثلاً.
وثالثة : يعلم
بطهارة أحدهما بعنوان تفصيلي ، أي معلوم عنواناً ومعنوناً في الخارج ، ولكنه اختلط
ذاك الاناء بعد ذلك فأصبح المعلوم طهارته إجمالياً.
وقد أفاد 1 : أنّ السيد
الطباطبائي 1 في العروة حكم بجريان استصحاب النجاسة في الشقوق الثلاثة ، والميرزا 1 حكم بعدم جريان
الاستصحاب في شيء منها ، أمّا الأوّل فلما اختاره الشيخ والميرزا قدس سرهما من المبنى القائل بأنّ الاستصحاب حيث كان المجعول فيه الطريقية فهو ينافي
جعله في الطرفين مع
العلم بكذب أحدهما
، وإن لم يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية أو للاجمال في صدر دليل الاستصحاب
مع ذيله ـ وهذا خارج عن بحثنا ـ وأمّا في الثاني والثالث فلكونهما من الشبهة
المصداقية لدليل الاستصحاب ، وقد قرّره بأنّه يلزم انفصال زمان اليقين عن الشك
باليقين الحاصل بذاك العنوان التفصيلي بين الزمانين.
وهذا الوجه أجاب
عليه السيد الخوئي 1 بنفي اشتراط اتصال زمان نفس الشك واليقين ، كيف وقد يحصل
اليقين بعد زمان الشك بل قد يحصل الشك الساري ، وهذا واضح.
والظاهر أنّ
الميرزا 1 لا يريد هذا الاتصال ، بل يريد انفصال المتيقن عن المشكوك بالمعلوم انتقاضه ،
فلا يكون من نقض اليقين بالشك ، بل بما يحتمل كونه متيقن الانتقاض.
وهذا
جوابه : أنّ العلم
بالانتقاض إجمالي في هذا الفرع على كل حال ـ ولو بعد الاشتباه والخلط ـ والعلم
الإجمالي متعلق بالجامع لا الواقع ، وهو مجامع مع الشك في الفرد بعنوانه التفصيلي
الذي هو مجرى الاستصحابين ، وهذا واضح.
بخلاف محل بحثنا
حيث يكون الأمر فيه بالعكس ، والعناوين التفصيلية للزمان معلومة بالتفصيل لا
بالاجمال ، فتكون شبهة عدم نقض اليقين بالشك أوجه فيه ، وإن كنّا لم نقبله لا
بتعبير المحقق الخراساني ـ الوجه الثالث ـ ولا بتعبير السيد الشهيد 1 ـ الوجه الرابع ـ.
ص ٣١٨ قوله : ( ويلاحظ على هذا
الاستصحاب ... ).
اجيب عن هذا الاستصحاب بوجوه
:
١ ـ ما عن السيد
الشهيد ، وسيأتي توضيحه.
٢ ـ ما عن السيد
الخوئي 1 من النقض والحلّ. وقد ذكر الاشكال على الحلّ في الكتاب.
وأمّا الاشكال
المذكور فيه على النقض فهو إشكال مبنائي ؛ لأنّ السيد الخوئي يرى جريان الاستصحاب
في معلوم التاريخ بلحاظ مجهول التاريخ ، والنقض لم يكن بالنسبة إلى مورد صحيح
زرارة ، بل كان بشكل كلي حاصله : انّه حتى في موارد عدم العلم بحصول الكرية ، أي
بارتفاع الجزء المسبوق بالوجود ـ والذي لا إشكال عند أحد في جريان استصحاب القلّة
وعدم الكرية فيه إلى زمان الملاقاة ، أو أي مثال آخر مشابه لاثبات الحكم باثبات
موضوعه المركب ـ يلزم التعارض ؛ لجريان استصحاب عدم تحقق الجزء الحادث في واقع
زمان وجود الجزء الأوّل ؛ لأنّ المفروض تردده بين زمان قبل الحادث أو بقائه إلى
زمان الحادث ، وهذا التردد يجعل وقوع الحادث واجتماعه مع الجزء الآخر من الموضوع
المركب مشكوكاً لا محالة بهذا العنوان الإجمالي ، فيجري استصحاب عدم تحقق الجزء
الحادث في واقع أزمنة وجود الجزء الأوّل ، فينفى الحكم بنفي موضوعه لا محالة ؛
لأنّ الموضوع هو الماء الذي اجتمع فيه القلة والملاقاة في زمان واحد ، بنحو
التركيب ، فإذا نفينا الملاقاة في أزمنة قلّة هذا الماء على إجمالها انتفى موضوع
نجاستها ، ولا نحتاج إلى شيء آخر ، فإنّ كل ماء لا يكون ملاقياً للنجاسة في زمان
قلّته يكون طاهراً.
٣ ـ ما عن الميرزا
حسب نقل السيد الخوئي 1 من انّ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية لا يثبت
الملاقاة بعد الكرية والذي هو موضوع الاعتصام وعدم الانفعال حيث يستظهر ذلك من
دليله ، وقد أجاب عليه بجوابين تامّين على هذا التقدير.
إلاّ أنّ أصل هذا
الوجه خاص بمثال الماء القليل ، ولا يجري في سائر أمثلة الموضوعات المركبة التي يعلم
بارتفاع أحد جزئيها وحدوث الآخر مع الشك في التقدّم والتأخّر.
٤ ـ ما ذكره السيد
الشهيد 1 وكأنّه تعميق لمطلب الميرزا من انّ الموضوع مركب من ملاقاة الماء مع النجاسة
وأن لا تكون ملاقاةً للكر لأنّ أدلّة الانفعال دلّت على انفعال كل ماء يلاقي
النجاسة وخرج منه بالمخصص ما إذا كانت الملاقاة مع الكرّ فيتقيد موضوع الانفعال
بعدم كون الملاقاة للكر ، وعندئذٍ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية لا يجري ،
إذ لا يثبت انّ الملاقاة للكر ـ الذي هو موضوع الانفعال إلاّبنحو الأصل المثبت ،
بل الجاري استصحاب عدم كون الملاقاة للكر بنحو العدم الأزلي دائماً وفي الصور
الثلاث من دون اشكال انفصال زمان اليقين عن الشك ولا اشكال الفرد المردد ، نعم هو
مبني على جريان الأصل في الأعدام الأزلية.
وجوابه ما ذكره
السيد الشهيد 1 من منع الاستظهار المذكور حيث ورد الاستثناء بعنوان إلاّ أن
يكون ماءً كثيراً ، أي كراً ، فالموضوع مركب من ملاقاة النجاسة مع الماء وأن لا
يكون الماء كراً.
وهذا الوجه أيضاً
مخصوص بمثال الماء القليل والملاقاة ، ولا يجري في
سائر موارد
الموضوعات المركبة التي يعلم بارتفاع أحد جزئيها وحدوث الآخر مع الشك في المتقدّم
والمتأخّر.
ثمّ إنّ الحلّ
الذي ذكره السيد الشهيد 1 لعدم جريان الاستصحاب النافي للموضوع بنفي أحد جزئي
الموضوع إلى حين انتفاء الجزء الآخر من انّه لا ينفي صرف وجود الموضوع إلاّبنحو
مثبت ، يمكن أن يورد عليه باشكالات أيضاً :
١ ـ اننا نستصحب
عدم صرف وجود الملاقاة في أزمنة القلة فينفى ما هو موضوع الانفعال لا محالة.
وفيه : إن اريد نفي صرف الوجود حتى المنطبق على الفرد من
الملاقاة المعلومة بالاجمال في زمان والتي مقتضى الاستصحاب بقاء القلة في زمانها
أيضاً فهذا لا حالة سابقة عدمية له ، كيف وهو محرز الوجود ، وإن اريد نفي صرف
الوجود في سائر الحصص في أزمنة القلة فهذا لازمه العقلي انتفاء مطلق صرف الوجود
لذاتي الجزئين وعدم تحققهما بتلك الملاقاة المعلومة اجمالاً ، حيث لابد من ضمّه
إلى وجدانية عدم صدق ذاتي الجزئين في زمان الكرية معاً ، فيكون لازمه عدم تحقق صرف
وجود ذاتي الجزئين في زمان واحد الأمر الذي يحرزه الاستصحاب المثبت أعني استصحاب
القلة إلى حين الملاقاة.
وبتعبير
آخر : حيث يعلم بملاقاة
مرددة بين زمان القلّة وزمان الكرية ، فهذا علم إجمالي بجامع الملاقاة المحتمل
تحققها مع القلّة ، فإذا اريد نفي تحقق الجامع المذكور في زمان القلّة باستصحاب
عدم تحقّق أحد فرديه ، فهذا كاستصحاب عدم الفرد الطويل لنفي الجامع والكلي ، والذي
تقدّم أنّه من الأصل المثبت.
وإن اريد استصحاب
عدم جامع الملاقاة المحتمل تحققها في زمان القلّة ، فهذا العدم معلوم الانتقاض ،
حيث يعلم بتحقق جامع ملاقاة محتمل الانطباق والاجتماع مع القلّة ، فلا شك فيه
ليجري الاستصحاب ، كما في استصحاب عدم الجامع في موارد الكلي من القسم الثاني.
وبهذا يعرف الجواب
على النقض بموارد عدم العلم بالملاقاة ، مع العلم بحصول الكرية إذا فرض تحقق صرف
وجود ملاقاة بعد الكرية ، فإنّ المستصحب ليس هو عدم مطلق صرف وجود الملاقاة ليقال
بعدم جريانه فيه أيضاً بعد العلم بها ولو بعد الكرية ، وإنّما المستصحب عدم صرف
وجود ملاقاة مع القلّة في زمان واحد ؛ لأنّ الملاقاة غير المحتمل فيها ذلك خارج عن
موضوع الحكم بالانفعال كما هو واضح.
وهذا الاستصحاب
العدمي يجري في مورد النقض ؛ لأنّا نجري استصحاب عدم ذات صرف وجود الجزئين
الملاقاة مع القلّة بنحو التركيب في أي زمان من الأزمنة وتمامها ، وهذا نفي لصرف
وجود ذاتي الجزئين في الزمان ، والذي هو موضوع الحكم ، ولا يجري في محل البحث ؛
لأنّ نفي الملاقاة في أزمنة القلّة لا ينفي تحقق ذات الجزئين في زمان الملاقاة
المعلومة ، بل في هذا الزمان بالعكس يجري استصحاب محرز لتحقق صرف وجود الجزئين فيه
، إلاّ إذا قيل بالأصل المثبت والملازمة العقلية ، فلا يمكن نفي تحقق الموضوع في
تمام الأزمنة حتى هذا الزمان ـ أي زمان الملاقاة ـ حيث لا حالة سابقة عدمية في هذا
الزمان لذاتي الجزئين. بل أحدهما محرز وجداناً فيه ـ وهو الملاقاة ـ والآخر محرز
تعبداً ؛ لأنّه حالته السابقة فلا يجري استصحاب عدم ذاتي الجزئين ـ بنحو التركيب
لا التقييد ـ في تمام الأزمنة ليكون نفياً لصرف وجود الموضوع المركب ،
فتدبّر جيداً ؛
فإنّ هذا هو التعبير الفنّي الدقيق لنكتة الاثبات ، وسيأتي فرقه عمّا في بيان
السيد الشهيد آخر البحث.
ثمّ إنّ انفعال
الماء أثر شرعي مترتب على صرف وجود تحقق الجزئين في زمان بنحو الكلي وصرف الوجود
لا الأفراد.
نعم ، النجاسة في
كل زمان بالخصوص موضوعه الملاقاة مع القلّة في ذلك الزمان ، أي أثر للفرد الخاص من
الملاقاة والقلّة في ذلك الزمان ، ولكنّ الانفعال بالفعل أي بعد زمان الملاقاة
موضوعه جامع تحقق الجزئين في أحد الأزمنة المتقدمة إلى الزمان الحاضر ، فلابد من
نفي هذا الجامع والكلي حتى ينفى الانفعال بالفعل ، وقد أشار إلى هذه النكتة السيد
الشهيد في شرحه على العروة في المقام فليراجع.
ومنه يظهر الجواب
على ما أورده السيد الحائري في هامش تقريراته في المقام بقوله : « لا يخفى انّ
الملاقاة في كل زمان موضوع لحصول الانفعال في ذاك الزمان ، فكما انّ الموضوع يتعدد
بتعدد الزمان كذلك المتعلّق هنا يتعدد بتعدد الزمان ، فإنّ الانفعال الحادث في كل
زمان غير الانفعال الحادث في الزمان الآخر ، فانفعال الزمان الأوّل ينفى بأصالة
عدم الملاقاة وانفعال الزمان الثاني ينفى بالعلم بالكرية » .
ونفس الايراد
أورده في تطبيق آخر لهذا الفرع ، وهو موت المورّث واسلام الوارث والشك في المتقدم
والمتأخر منهما ، فقال : « لا يخفى انّه في خصوص المثال المذكور في المقام يكون
الفرد الأوّل موضوعاً لانتقال الملك إلى الوارث
__________________
في الزمان الأوّل
، والفرد الثاني يكون موضوعاً لانتقال الملك إليه في الزمان الثاني ، وأقصد بذلك
انّ الزمان ليس مفرّداً للموضوع فحسب بل هو مفرّد للمتعلّق أيضاً ، فارث الزمان
الأوّل ينفى باستصحاب عدم الموت وارث الزمان الثاني ينفى بالقطع بالاسلام ، فلا
يقاس المقام باستصحاب عدم الفرد الطويل الذي لا ينفي الجامع بضمه إلى القطع بعدم
الفرد القصير ، كأن يستصحب عدم الفيل ويضمّ ذلك إلى القطع بعدم البق لينفى بذلك
وجوب التصدّق الذي هو حكم جامع الحيوان مثلاً ، فيقال : انّ هذا تعويل على الأصل
المثبت ، بل ينبغي أن يقاس المقام بما إذا كانت الخصوصية الفردية للفرد الطويل
والقصير مفرّدة للمتعلّق أيضاً ، كما لو كان وجود الحيوان موضوعاً لوجوب رعاية
رفاه ذاك الحيوان ، فوجود الفيل يحقق وجوب رعاية رفاه الفيل ، ووجود البق يحقق
وجوب رعاية رفاه البق مثلاً ، وهنا لا إشكال في أنّ استصحاب عدم الفيل ينفي الحكم
الأوّل ، والقطع بعدم البق ينفي الحكم الثاني من دون الوقوع في مشكلة الأصل المثبت
» . فإنّه كأنّه قصر نظره على ملاحظة الانفعال أو انتقال
الملك بلحاظ زمن الملاقاة والموت ، فرأى أنّه حكم آخر له متعلق آخر غير الانفعال
أو انتقال الملك بلحاظ زمن آخر ، فلا محالة يكون موضوعه أيضاً الفرد المتحقق في
شخص ذاك الزمان.
إلاّ أنّنا لا
نريد اثبات هذا الحكم أو نفيه ، وإنّما نريد اثبات حكم الماء والتركة بالفعل ، أي
بعد زمان الملاقاة والموت ، وثبوته مترتب شرعاً على كلّي تحقق الجزئين بنحو صرف
الوجود في أحد الأزمنة المتقدّمة ، فيكون كمثال وجوب التصدق المرتب على جامع تحقق
الحيوان.
__________________
ثمّ انّ البيان
الذي ذكرناه لمثبتية الأصل العدمي يختص بما إذا كان الجزء الأوّل للموضوع المركب ـ
كالقلّة وعدم الكرية ـ مسبوقاً بالوجود ، فاريد نفي تحقق الموضوع المركب بنفي
الجزء الحادث المشكوك زمان حدوثه في تمام أزمنة تحقق الجزء الأوّل ، أمّا إذا كان
الجزئان معاً حادثين وشك في تحققهما معاً وعدمه ، كما إذا كان الماء مسبوقاً
بالكرية وعلم بحدوث القلّة والملاقاة فيه مع الشك في المتقدم والمتأخر منهما ،
فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة وإن كان لا يثبت وقوعها في زمان
القلّة. إلاّ أنّ استصحاب عدم القلّة وبقاء الكرية إلى زمان الملاقاة وما بعدها
جارٍ لنفي الموضوع المركب.
خلافاً للسيد
الشهيد كما في الكتاب ؛ لأنّه هنا ذات كلا الجزئين مسبوق بالعدم فيجري استصحاب عدم
تحقق ذاتي الملاقاة والقلّة في زمان واحد في تمام الأزمنة ، أي صرف وجود ذاتي
الجزئين في زمان واحد مسبوق بالعدم بلحاظ كلا الجزئين ، أي حتى الزمان الإجمالي
المعلوم فيه وقوع الملاقاة فإنّه بلحاظ هذا الزمان أيضاً القلّة مسبوقة بالعدم
فيجري استصحاب عدم صرف وجود القلّة فيه ، وهذا بخلاف استصحاب عدم الملاقاة في تمام
أزمنة القلّة في الفرض الأوّل ، فإنّه لا ينفي تحقّق صرف وجود القلّة في زمن
الملاقاة المعلومة ، أي في جامع أحد الأزمنة بنحو صرف الوجود المثبت ومن باب
انتفاء الجامع بانتفاء أفراده.
وبتعبير آخر :
زمان حدوث الملاقاة بالنسبة إلى القلّة بما هو زمان خاص وفرد من الزمان موضوع
للانفعال اثباتاً ونفياً ، وليس الموضوع تحقّق القلّة في جامع أزمنة الملاقاة وما
بعدها ؛ ولهذا يجري استصحاب عدم القلّة إلى زمان حدوث الملاقاة بالخصوص وينفى به
موضوع الانفعال ، وهذا بخلاف زمان القلّة بالنسبة للملاقاة ، فإنّ تحقّق الملاقاة
في أحد أزمنة القلّة بنحو صرف الوجود
كافٍ في انفعال
الماء ، فما لم ينتفِ وقوع الملاقاة في الجامع لا ينتفي موضوع الحكم واستصحاب عدم
الملاقاة في أزمنة القلّة وأفرادها لا ينفي الجامع إلاّ بالملازمة العقلية. نعم ،
لو كانت الملاقاة في أوّل أزمنة القلّة وحدوثها بالخصوص أيضاً موضوعاً للانفعال
جرى استصحاب عدم الملاقاة إلى ذلك الزمان الخاص ، أي حدوث القلّة لنفي الانفعال ،
ولم يكن من الأصل المثبت.
وهذا هو فذلكة
الفرق بين الفرعين ، ولهذين الفرعين أمثلة فقهية كثيرة ، نظير استصحاب عدم البلوغ
أو عدم العقل إلى حين انعقاد الحبّ ـ مثلاً ـ في الزكاة ، وبذلك ينتفي وجوب الزكاة
في المال ، ولكن لا يجري استصحاب عدم انعقاد الحبّ في أزمنة العقل إلى زمان الجنون
؛ لنفي الزكاة ، بل يجري استصحاب بقاء العقل إلى زمان انعقاد الحبّ المثبت للوجوب.
ويمكن أن يبيّن ما
ذكرناه من جريان استصحاب بقاء الكرية وعدم القلّة إلى زمان الملاقاة ، أو استصحاب
عدم البلوغ أو الجنون إلى زمان انعقاد الحبّ ببيان عرفي ، بأنّ هذا الاستصحاب ينقح
موضوع دليل الحكم بالطهارة واعتصام الماء الكرّ حين الملاقاة مع النجاسة أو عدم
الزكاة في مال اليتيم والمجنون ، فكيف لا يشمله دليل « لا تنقض اليقين بالشك » ،
وهذا بخلاف استصحاب عدم الملاقاة في أزمنة القلّة ، فإنّه لا يثبت وقوعها في زمان
كرية الماء ، فإذا اريد إحراز موضوع دليل الاعتصام به فهو من الأصل المثبت ، وإذا
اريد نفي تحقّق موضوع الانفعال فهو فرع نفيه في جامع أزمنة القلّة بنحو صرف الوجود
، ولا يمكن إلاّ بالملازمة العقليّة ، وهكذا استصحاب عدم انعقاد الحبّ في أزمنة
العقل.
٢ ـ ما ذكره السيد
الشهيد في الكتاب بعنوان وتوهم ... الخ. مدفوعة ... الخ.
٣ ـ ما ذكره
بعنوان نعم لو فرض ثبوت حكمين شرعيين ... الخ. وفيه : بطلان المبنى ... الخ.
ص ٣٢١ الهامش.
ما ورد فيه غير
تام ، فإنّه لا يحتاج إلى وقوع الحدث ليجري استصحاب عدم وقوع الصلاة في زمان
الطهور ؛ لأنّه يحتمل انتقاض الطهور ووقوع الصلاة في زمان الحدث ، فواقع زمان
الطهور على إجماله مردّد بين الأقل والأكثر من الزمانين ، فإذا قيل بجريان استصحاب
معلوم التاريخ بالنسبة إلى زمان الآخر المجهول والمردد على إجماله جرى هنا أيضاً
استصحاب عدم وقوع الصلاة أو الملاقاة في تمام الزمان الواقعي الإجمالي للطهور أو
للقلة. وبه ينفى موضوع الاثر لا محالة ، وهذا واضح وقد شرحناه سابقاً أيضاً في
التعليق على جواب السيد الشهيد على نقض السيد الخوئي.
نعم ، لو لم نقبل
مبنى السيد الخوئي لم يجر هذا الاستصحاب في مورد النقض ؛ لأنّ الجزء الحادث المراد
نفيه بالاستصحاب معلوم ، وحيث لا علم بارتفاع الجزء الآخر فدائماً يكون أضيق منه ،
ويكون نفيه في تمام أزمنة ذاك الجزء من المحتمل كونه من نقض اليقين باليقين ؛ إذ
لعلّ زمان الجزء الذي له حالة سابقة هو الأكثر الشامل لزمان العلم بالحادث.
ص ٣٢٥ قوله : ( ٩ ـ الاستصحاب في حالات
توارد الحالتين ... ).
ينبغي إيراد البحث كالتالي :
موضوع هذا التنبيه
ما إذا كان حكمان أو موضوعان لحكمين متضادين يعلم بتحقق كل منهما سابقاً ، ويشك في
المتأخر والمتقدم منهما ، ونتيجة ذلك يشك فيما هو الفعلي منهما ، وبهذا يختلف عن
التنبيه السابق موضوعاً ؛ إذ ليس البحث هنا في جزئي موضوع حكم واحد مركب ، كما
يختلف عنه جهة ، فإنّ البحث
هناك في جريان الاستصحاب
في كل من الجزئين الموضوع المركب بلحاظ زمان الجزء الآخر النسبي ، بخلاف المقام
حيث يجري استصحاب كل من الحكمين المتضادين أو الموضوعين البسيطين بلحاظ الزمان
المطلق ، كزمان الحال الذي يصلّي فيه المكلف مثلاً ، كما أنّه هناك كان اشكال
انفصال زمان اليقين عن الشك أو نقض اليقين باليقين بلحاظ المنتهى والمشكوك المراد
اثباته بالاستصحاب في الزمان النسبي ، وهنا يكون بلحاظ اليقين السابق والمبدأ لا
زمان الشك ، وهذه الفروق تؤدّي إلى الفرق بين التنبيهين في الحكم والوجوه المستدل
بها عليه كما سيظهر.
ثمّ انّ في
المسألة أقوالاً ثلاثة ، ونضيف نحن تفصيلاً جديداً هو الصحيح ، فتكون الأقوال
أربعة :
١ ـ جريان
الاستصحاب في نفسه في كلتا الحالتين المتواردتين ، سواء كان تاريخهما معاً مجهولاً
أو كان أحدهما معلوم التاريخ ويسقطان بالتعارض ويرجع إلى الاصول الطولية من
الترخيص والبراءة أو الطهارة أو الاحتياط ، وهذا لعلّه أشهر الأقوال :
٢ ـ جريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ وعدم جريانه في نفسه في مجهول التاريخ مطلقاً ، أي
سواء كان الآخر معلوماً أو كان كلاهما مجهولين ، وهذا مختار صاحب الكفاية 1 ، والنتيجة
العملية جريان استصحاب معلوم التاريخ بلا تعارض ، وفي المجهولين يرجع إلى الاصول
الطولية أيضاً ، ولكن لعدم الموضوع للاستصحاب بينهما لا للتعارض والتساقط ، وتترتب
على ذلك بعض الثمرات الاخرى أيضاً في تطبيقات التعارض في أطراف العلم الإجمالي
يذكر في محالّه من الفقه.
٣ ـ ما ذهب إليه
السيد الخميني 1 من التفصيل بين ما إذا كانت الحالة الأسبق من الحالتين
معلومةً تفصيلاً فيجري الاستصحاب في ضد تلك الحالة من الحالتين المتواردتين فقط
ولا يجري في مثله إلاّ إذا كان مثله معلوماً تفصيلاً ، وامّا إذا كانت الحالة
الأسبق للحالتين مجهولة فيجري الاستصحاب في كلّ منهما في نفسه ويتعارضان ثمّ يرجع
إلى الاصول الطولية من دون فرق بين العلم بتاريخ أحدهما والجهل بالآخر أو الجهل
بهما معاً.
٤ ـ جريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ ومجهوله في نفسه إلاّفيما إذا كان مجهول التاريخ
مردداً بين زمانين قبل معلوم التاريخ أو بعده ، ويعلم تفصيلاً ثبوت مجهول التاريخ
في الزمن الأوّل على كل تقدير ـ أي يعلم بثبوته قبل معلوم التاريخ تفصيلاً ـ فإنّه
في مثل ذلك لا يجري استصحاب مجهول التاريخ لكونه معلوم التاريخ في عمود الزمان قبل
الآخر ويشك في حدوثه بعده. وسوف يأتي انّ هذا الاستثناء منقطع بحسب الحقيقة ، وخارج
عن موارد توارد الحالتين عند المشهور ، إلاّ أنّ السيد الخوئي 1 قد أدرجه فيها.
ومبنى القول
الأوّل هو التمسك باطلاق دليل الاستصحاب امّا في معلوم التاريخ فواضح ؛ لأنّه من
استصحاب شخص الحالة المعلومة في زمان تفضيلي ويشك في بقائه ، فهو كسائر موارد
الاستصحاب لحالة واحدة.
وامّا في مجهول
التاريخ ـ سواء كان الآخر معلوم عام التاريخ أو مجهوله أيضاً ـ فلأنّ المستصحب ليس
هو الحالة في أحد الزمانين بالخصوص أي الحصة ؛ إذ لا يقين باحداهما ولا شك في
الاخرى وإنّما المستصحب هو الجامع وكلي تلك الحالة المعلوم تحققها في احدى الحصتين
والزمانين وهو من استصحاب القسم الثاني من الكلي ، ولكن بين فردين طوليين في عمود
الزمان ،
فجامع الحدث أو
الطهور أو النجاسة معلوم في أحد الزمانين تحققه ، وضمن احدى الحصتين ـ وهذا يقين
سابق بالكلي ـ ويشك في بقائه ؛ لأنّه لو كان ضمن الحصة الثانية فهو باقٍ يقيناً أو
احتمالاً ، ولو كان ضمن الحصة الاولى فهو مرتفع تماماً كاستصحاب الجامع الكلي
المردّد بين فردين عرضيين ـ كما في مثال الفيل والبق من طبيعي الحيوان ـ وهذا
واضح. فالقائل بأحد التفصيلات والأقوال الاخرى لابد له من اقامة الدليل على المنع
عن هذا الإطلاق.
ومبنى القول الثاني أحد وجوه
:
١ ـ انّه من
استصحاب الفرد المردد بين حالة مقطوعة الارتفاع ومشكوكة الحدوث.
وجوابه واضح :
فإنّ المستصحب ليس خصوص احدى الحصتين ، وإنّما الجامع بينهما.
٢ ـ ما ذكر في
التنبيه السابق من احتمال نقض اليقين باليقين أو انفصال زمان الشك عن اليقين
الموجب لذلك أيضاً غايته هناك كان بلحاظ زمان المنتهى والمشكوك ، وهنا بلحاظ زمان
اليقين والمبدأ ، فتكون شبهة مصداقية الدليل الاستصحاب.
وجوابه :
أوّلاً ـ ما تقدم بيانه هناك أيضاً من انّ العلم الإجمالي بالجامع لا
يسرى إلى الواقع والفرد ولو فرض تعلّقه به ، فهو يجتمع مع الشك بحسب الفرض ، وإلاّ
لما جرى الاستصحاب في نفسه في شيء من أطراف العلم الإجمالي. نعم ، هذا لا يتم إذا
كان أحدهما معلوم التاريخ.
وثانياً
ـ حتى في معلوم
التاريخ لا يكون هناك احتمال نقض اليقين باليقين ؛
لأنّ اليقين
الناقض هو اليقين المعلوم تعلّقه بنقيض ما هو متعلّق اليقين المنقوض ، وهنا متعلّق
اليقين المجهول تاريخه هو الجامع لا الفرد أو الواقع ، وإلاّ لما جرى فيه
الاستصحاب ، والجامع المذكور لا علم بانتقاضه بالعلم الآخر التفصيلي أو الإجمالي
مثله ؛ إذ لعلّه بعده ، والعلم الإجمالي بالانتقاض يوجب الشك في كل طرف بحسب الفرض
، وهذا بخلاف استصحاب عدم الكرية إلى حين الملاقاة مع العلم بتاريخ الكرية ، حيث
يعلم بانتقاض شخص عدم الكرية وتلك القلّة المستصحبة في زمان معلوم ويحتمل أن يكون
زمان الملاقاة هو ذاك الزمان.
فالحاصل ، فرق بين
كون المستصحب معلوماً إجمالياً ونقيضه معلوماً تفصيلياً أو إجمالياً أيضاً في عمود
الزمان ، وبين ما إذا كان المستصحب معلوماً تفصيلياً وانتقاضه أيضاً معلوم تفصيلي
في زمان ، ويراد استصحابه إلى زمان إجمالي يحتمل انطباقه على الزمان التفصيلي
للانتقاض ، ففي الأوّل لا علم بانتقاض الجامع المعلوم والمستصحب أصلاً ، وإنّما شك
في انتقاضه وعدمه ، والعلم الإجمالي بانتقاض أحد المعلومين والجامعين يوجب الشك
بلحاظ كل منهما لا أكثر ، كما في سائر موارد العلم الإجمالي بانتقاض احدى الحالتين
السابقتين.
وفي الفرض الثاني
يحتمل انتقاض الحالة السابقة المستصحبة بما يقطع بانتقاضه بلحاظ عمود الزمان
الواقعي بالنحو المبيّن في التنبيه السابق ـ وإن لم نقبله نحن هناك أيضاً ، إلاّ أنّ
هذا الفرق المذكور هنا موجود ـ.
ومبنى القول
الثالث الذي اختاره السيد الخميني 1 في رسائله غير واضح ؛ إذ في بعض عباراته يجعل الملاك لتفصيله
دعوى انحلال العلم الإجمالي بمجرد العلم التفصيلي بالحالة الأسبق قبل توارد
الحالتين ، سواء كانا معاً مجهولي التاريخ أو كان أحدهما معلوماً تاريخه بشرط أن
يكون ضد الحالة السابقة ،
حيث يكون مجهول
التاريخ العلم به منحلاً إلى العلم بثبوت فرد منه قبل الآخر تفصيلاً ، والشك في
تحقق فرد آخر منه ، فلا موضوع للاستصحاب فيه.
وأمّا إذا كان
المعلوم تاريخه مماثلاً للحالة السابقة المعلومة تفصيلاً جرى الاستصحاب فيه أيضاً
، وتعارض مع استصحاب الحالة الضد المعلومة أيضاً إجمالاً فيتساقطان. وفي بعضها
يجعل الميزان انفصال زمان المستصحب المجهول تاريخه بالحالة الاخرى.
والجواب : أمّا بالنسبة إلى اشكال الانفصال فقد عرفت ما فيه ،
والاستناد إليه يؤدّي إلى قبول تفصيل المحقق الخراساني ، لا ما اختاره ؛ إذ يجري
اشكال الانفصال حتى فيما إذا لم تكن الحالة الأسبق معلومة تفصيلاً.
وأمّا بالنسبة إلى
إشكال الانحلال ففي مجهولي التاريخ الأمر واضح ، فإنّ فرض الجهل بتاريخ كل من
الحالتين معناه وجود حالات ثلاث ، ففي ساعة يعلم بالحدث أو النجاسة مثلاً ، وفي
ساعتين بعد تلك الحالة المعلومة تفصيلاً يعلم بتحقق كل من الحالتين في احداهما دون
الاخرى ، وهذا علم إجمالي بكل منهما في احدى الساعتين الثانية أو الثالثة.
وواضح انّ العلم
التفصيلي باحدى الحالتين في الساعة الاولى لا ربط له بطرفي العلمين الإجماليين
المرددين بين الساعتين الثانية والثالثة ليوجب انحلال الحالة المماثلة للساعة
الاولى.
والعلم الإجمالي
إنّما ينحلّ إذا صار أحد طرفيه معلوماً بالتفصيل ، ولا علم بذلك في المقام ، وكون
السبب للحالة المماثلة لو كان متحققاً في الساعة الثانية لا يوجب حصول سبب جديد ،
وإنّما هو بقاء لنفس الحالة والسبب الموجود في
الساعة الاولى لا
يوجب انحلال العلم الإجمالي لا بلحاظ السبب الجديد ـ كما اعترف به هو ـ ولا بلحاظ
مسبّبه لوضوح عدم العلم التفصيلي بثبوت ذاك المسبّب في الساعة الثانية ، وهذا
واضح. وهذا يعني أنّ العلم بثبوت المسبب في احدى الساعتين الثانية والثالثة غير
منحل.
وإن
شئت قلت : انّ الجامع
والكلي المعلوم تحققه في احدى الساعتين محتمل البقاء ؛ لأنّه من القسم الثاني
للكلي.
وفي فرض كون
الحالة الضد معلوم التاريخ والمماثل مجهول التاريخ فأيضاً كذلك إذا لم يكن الزمان
المتصل بالمعلوم تاريخه معلوماً تفصيلاً ، كما إذا علمنا بالنجاسة في الساعة
الاولى واحتملنا زوالها في الساعة الثانية ، وعلمنا بالطهارة في الساعة الثالثة ،
وعلمنا أيضاً بالنجاسة امّا في الساعة الثانية ـ ولو بأن تكون بقاءً للنجاسة
المعلومة تفصيلاً في الساعة الاولى ـ أو في الساعة الرابعة ، فإنّ هذا العلم
الإجمالي بالنجاسة المرددة بين الساعة الثانية والرابعة غير منحل جزماً.
نعم ، فرض تردد
النجاسة بين الساعة الاولى والثالثة مع العلم بالنجاسة تفصيلاً في الاولى والطهارة
كذلك في الثانية كان هذا هو الاستثناء الذي ذكرناه ، وهو غير التفصيل المذكور ،
وسنبيّن وجه عدم جريان الاستصحاب فيه بنحو أدق.
فالصحيح جريان
الاستصحاب في توارد الحالتين في مجهول التاريخ ومعلومه سواء كانا معاً مجهولين أو
أحدهما معلوماً بشرط أن لا تكون الحالة الاخرى معلوماً تفصيلاً قبل المعلوم تاريخه
ومتصلاً به.
والوجه في هذا
التفصيل انّه في غير الاستثناء المذكور يكون المستصحب المجهول تاريخه من الكلي
القسم الثاني ، وقد تقدم جريان الاستصحاب فيه.
أمّا في مورد
الاستثناء فيكون المستصحب فيه ـ إذا اريد استصحاب الجامع والكلي لا الفرد الذي من
الواضح عدم تمامية أركان الاستصحاب فيه ـ من الكلي القسم الثالث ؛ لأنّ المفروض
العلم التفصيلي بالنجاسة في الساعة الاولى مثلاً على كل تقدير ، فاحتمال أو العلم
بسقوط قطرة بول اخرى في احدى الساعتين الاولى أو الثالثة لا يوجب علماً إجمالياً
بنجاسة مردّدة بين الزمانين ، بل بلحاظ عمود الزمان وواقعه يعلم بتحقق جامع
النجاسة ضمن حصة وفرد تفصيلي قبل الطهارة المعلومة في الساعة الثانية ، ويعلم
بانتقاضها وارتفاعها في الساعة الثانية ، ويشك في تحقق فرد وحصة اخرى من جامع
النجاسة وكليها في الساعة الثالثة ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه.
إلاّ أنّ السيد
الخوئي 1 جعل هذا قسماً رابعاً من الكلي المستصحب إذا كان هناك علم إجمالي كذلك ، ولو
بعنوان انتزاعي أو اختراعي اشاري كمن وجد أثر الجنابة في الثوب مثلاً بعد اغتساله
من الجنابة السابقة المعلومة تفصيلاً ، واحتمل أن تكون جنابة اخرى بعد الاغتسال ،
كما احتمل أن تكون هي السابقة ، فأجرى استصحاب الجنابة المشار اليها بعنوان زمان
خروج هذا الأثر منه ، والعلم الإجمالي بهذا العنوان الإجمالي الانتزاعي ليس منحلاً
؛ إذ لا يعلم بكونه الجنابة السابقة على الاغتسال ، وقد جعل هذا من توارد الحالتين
، وصرّح بذلك في المقام ؛ ولهذا احتجنا إلى استثناء ذلك في المقام ، وإن كان
المظنون خروجه عن مصطلح توارد الحالتين عند المشهور.
وقد أجبنا عليه
فيما سبق بالنقض بموارد الشك في بقاء الحالة السابقة الواحدة حتى في مورد صحيح
زرارة بالإشارة إلى آخر حدث حصل له المردد بين الحدث المعلوم تفصيلاً والذي توضأ
منه أوّلاً قبل الخفقة وبين حدث تحقق
بها وهو علم
إجمالي غير منحل فيجري استصحاب هذا الحدث المشار إليه بهذا العنوان الإجمالي غير
المنحل ، فيستصحب ويتعارض حتى مع استصحاب الطهور.
كما أجبنا عليه
بالحلّ وحاصله : أنّ هذا العنوان الجامع الإجمالي لو اريد جعله بنفسه مصبّاً
للاستصحاب فليس هو موضوع الأثر ، وإنّما الموضوع للأثر النجاسة أو الحدث أو
الطهارة في عمود الزمان وواقعه ، وإن اريد جعله مشيراً إلى الجامع المتحقق في عمود
الزمان وظرفه الواقعي فالجامع المذكور والمشار إليه بهذا العنوان الإجمالي من
القسم الثالث للكلي ، والذي لا يجري بلحاظه الاستصحاب ، لكونه متيقناً في حصته منه
تفصيلاً ومشكوك الحدوث في حصته الاخرى.
ثمّ انّ الوجوه
الاخرى التي نقلها السيد الشهيد 1 في الكتاب عن المحقق العراقي 1 وأجاب عليها جميعاً يمكن ارجاعها إلى نكتة واحدة هي ابداء
الفرق بين استصحاب الجامع بين حصتين وفردين عرضيين في عمود الزمان ، واستصحاب
الجامع بين حصتين زمانيتين طوليتين ؛ لأنّ عنوان أحد الزمانين ليس زماناً حقيقياً
بل انتزاعي ، ولابد في جريان الاستصحاب من العلم بالحالة السابقة في عمود الزمان
وظرفه الواقعي ، وهو مردد بين زمانين يقطع بارتفاع الحالة في أحدهما ويشك في أصل
حدوث الجامع الآخر منهما ، ومن هنا ادعى عدم شمول أو انصراف دليل الاستصحاب عن مجهول
التاريخ في المقام.
إلاّ أنّ هذا بلا
وجه أيضاً ؛ لأنّه يرد عليه ـ غير النقض الذي أورده بنفسه وحاول الاجابة عليه ـ النقض
باستصحاب الجامع بين فردين عرضيين ، ولكن في زمانين ، كما إذا علم بدخول زيد في
المسجد في الساعة الاولى وخروجه
في الساعة الثانية
، أو دخول عمرو فيه في الساعة الثانية وبقائه إلى الثالثة ، فإنّه لا اشكال في
جريان استصحاب بقاء جامع الإنسان المعلوم دخوله في المسجد في أحد الزمانين
الطوليين ، وهو من استصحاب القسم الثاني في الكلي مع انّه يرد فيه نفس الاشكال
المذكور.
والحلّ : بأنّ
جامع الزمان أيضاً ظرف وزمان ، والعلم بتحقق حالة فيه يقين سابق مشمول لاطلاق دليل
الاستصحاب ، والله الهادي للصواب.
ص
٣٣٣ قوله : ( التفسير الرابع ... ).
لا نحتاج في هذا
التفسير إلى افتراض دالّين ، بل لو كان هناك دالّ واحد أيضاً صحّت هذه النكتة
للتفسير ، وحاصلها : أنّ العموم الأزماني تارة يكون بنحو المعنى الحرفي ، أي هالة
للحكم المجعول وهي اطلاقه الأزماني ، فيصحّ التمسك والرجوع فيما عدا زمان التخصيص
إلى العام ، سواء كان عمومه بدالّ واحداً وبدالّين.
واخرى
: يكون بنحو المعنى
الاسمي بمعنى لا ينطبق على الزمان الثاني بعد التخصيص كعنوان الحكم المستمر
والمتصل ونحو ذلك ، سواء كان بدال واحد أو دالّين ، فإنّه في مثل ذلك لا يمكن
الرجوع إلى العام الأزماني ؛ لعدم انطباق عنوانه على زمان ما بعد التخصيص ، بل قد
لا ينطبق على زمان ما قبل التخصيص أيضاً ، كما إذا أخذ عنوان اليوم أو الشهر أو
نحو ذلك ، فتدبر جيداً.
ص ٣٣٦ الهامش.
لابد من حذفه
لأنّه لا ربط له بالمقام ، إذ قرينة اللغوية وحدها لا يكفي
لاثبات الاستمرار
والعموم إلاّبضم مقدمات الحكمة ، فبقرينة اللغوية نفهم انّ جعل الحكم باللزوم أو
الحرمة ليسا بلحاظ آنٍ واحد فلابد وأن يكون فيه استمرار في الجملة ثمّ بمقدمات
الحكمة والإطلاق في الجعل نثبت انّه مستمر في تمام آنات وجود العقد وعدم انفساخه ،
وهذا الإطلاق حاله حال سائر الاطلاقات من حيث انّ ثبوت التقييد له في زمان لا
يقتضي سقوطه عن الحجّية في غيره لأنّ الدلالة فيه مستقلة ، فلا فرق بين هذا
الإطلاق وغيره ، لا من حيث تكفل دليل الحكم في الخطاب والجعل لاثباته والدلالة
عليه لأنّه من كيفيات المجعول ولا من حيث كون الدلالة على الشمول والاستمرار في كل
آن دلالة مستقلة لا تسقط عن الحجّية بسقوط بعضها.
كما انّه لا فرق
في ذلك بين كونه في طرف الحكم أو المتعلق أذ إطلاق المتعلق أيضاً بنحو صرف الوجود
في نفسه ويمكن أن يكون بدال آخر لفظي أو دلالة الاقتضاء بنحو العموم والاستمرار
فلا أساس لهذا التفصيل على كل حال.
وبهذا يظهر اندفاع
الهامش المرقم برقم (٢).
نعم ، هنا اشكال
آخر على الجواب الثاني ، وحاصله : أنّ دليل الاستمرار بنحو المعنى الاسمي إذا كان
موضوعه ثبوت الحكم في زمان ومحموله استمراره في الأزمنة المتصلة بذاك الزمان بعده
فهذا لا يكفي فيه ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة قبل زمان التخصيص كما هو واضح.
وإن
شئت قلت : انّ قرينة
الحكمة وعدم اللغوية يكفي فيها أن يثبت استمرار الحكم قبل زمان التخصيص لا بعده ،
فالاشكال الثاني غير متجه على الميرزا 1.
ص ٣٣٧ قوله : ( وثالثاً ... ).
هذا الاشكال أيضاً
غير متجه على الميرزا 1 ؛ لأنّ كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب
والايجاب لا يوجب إطلاق المتعلّق بنحو مطلق الوجود ، بل بنحو صرف الوجود ، وهو لا
يجدي في اثبات الاستمرار ، فلابد من الرجوع إلى إطلاق الحكم نفسه.
نعم ، هنا اشكال
آخر وهو أنّ قرينة الحكمة أو عدم اللغوية يوجب إطلاق المتعلّق أو الموضوع للحكم
دائماً لا إطلاق نفس الحكم ابتداءً بلا ملاحظة متعلقه ؛ لأنّ الحكم بنحو مطلق
الوجود إذا اريد تعلقه بصرف وجود المتعلّق المتحقق بالوجود في الزمن الأوّل ـ أي
أوّل الوجود ـ فهو غير معقول ، وإذا اريد تعلقه بمطلق وجود المتعلّق في عمود
الزمان كان الإطلاق ملحوظاً في متعلق الحكم أو موضوعه بحسب الحقيقة ، والمفروض
امكان التمسك بالاطلاق فيه.
ثمّ انّ السيد
الخميني 1 قد تعرّض في المقام إلى تفصيل آخر عكس ما اختاره صاحب الكفاية 1 ثمّ أجاب عليه.
وحاصله : انّه ذكر مقدمة حاصلها انّ الإطلاق والعموم الأزماني يكون دائماً في طول
العموم الأفراد ، فإنّه لابد من فرض شمول العموم الأفراد للمفرد أوّلاً حتى يجري
ويتم فيه العموم الأزماني ، فالبيع الغبني أو بيع الحوان لابد وأن يكون مشمولاً
للعموم الأفرادي في قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » ليكون في طول ذلك وجوب الوفاء أو اللزوم فيهما مستمراً في
عمود الزمان. ولازم ذلك أن يكون العموم الأزماني في طول العموم الأفرادي دائماً
ومتوقفاً عليه بحيث إذا انتفى العموم الأفرادي كان انتفاء الأزماني من باب السالبة
بانتفاء الموضوع.
ثمّ فرّع على هذه
المقدمة نتيجة فقهية هي عكس ما اختاره صاحب الكفاية من التفصيل ، وحاصله : انّه
إذا كان الزمان الخارج بالمخصّص من العموم الأزماني من الوسط كما في خيار الغبن
والعيب صحّ الرجوع إلى العموم الأزماني بلحاظ ما بعد الزمان المتيقن خروجه عن عموم
وجوب الوفاء بالعقد مطلقاً ـ كما هو مختاره ـ أو إذا كان العموم مفرداً ـ كما هو
مختار صاحب الكفاية والشيخ قدس سرهما ـ لأنّه يرجع إلى
الشك في تخصيص زائد للعموم الأزماني حيث لا شك في العموم الأفرادي ، وشكّه في
الأزماني ودوران الأمر بين كون التخصيص بمقدار زمان واحد بنحو الفور أو أكثر بنحو
التراخي ، وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر في التخصيص الأزماني على كل حال ،
والمرجع فيه أصالة العموم ونفي التخصيص الزائد على المقدار المتيقن كما هو واضح.
وأمّا إذا كان
الزمان الخارج بالمخصّص من الأوّل كما في خيار المجلس والحيوان وشك في بقاء اللزوم
بعدهما وعدمه لم يمكن الرجوع فيه إلى العموم الأزماني ؛ لعدم رجوعه إلى الدوران
بين الأقل والأكثر في التخصيص الأزماني ، بل إلى الدوران بين تخصيص العموم
الأزماني أو الأفرادي ؛ إذ لو لم يجب الوفاء بعد ذلك أيضاً كان المورد خارجاً عن
العموم الأفرادي لا محالة ،
حيث يثبت عدم لزوم
هذا البيع أصلاً.
وبهذا ينتفي موضوع
العموم الأزماني فيه ، فلا تكون مخالفة لعمومه بل من باب ارتفاع موضوعه تخصّصاً ،
وهذا يعني أنّ الأمر لا يدور بين مخالفة أقل ومخالفة أكثر ؛ للعموم الأزماني ـ كما
في خيار الغبن والعيب ـ بل يدور الأمر بين مخالفة عموم أفرادي أو عموم أزماني ،
وهو من العلم الإجمالي والدوران بين
احدى مخالفتين لا
ترجيح لاحداهما على الاخرى ، فيوجب التعارض والإجمال ، ويكون المرجع استصحاب حكم
المخصّص لا عموم العام ، وهذا عكس تفصيل الخراساني 1 وخلاف ما هو المتبع في الفقه.
ثمّ أجاب على
الاشكال والشبهة بعدم جريان أصالة العموم الأزماني ؛ لأنّ أمره يدور بين التخصيص
والتخصّص وأصالة العموم ليست بحجة فيه لاثبات التخصّص لكي يعارض مع العموم
الأفرادي نظير عدم حجّية أصالة الحقيقة في موارد الشك في الاستناد والعلم بالمراد.
ونلاحظ على ما أفاده :
أوّلاً
ـ انّه لا يجدي في
رفع الاشكال إذا كان المخصص الأزماني متصلاً بالعام ؛ إذ يكون مانعاً حينئذٍ عن
انعقاد العموم الأفرادي وإجماله ، ولا تتم فيه القاعدة المذكورة.
وثانياً
ـ عدم صحة أصل
المقدمة ، فإنّ العموم الأزماني في عرض الأفرادي وليس في طوله. نعم ، هو في طول
صدق عنوان العقد وموضوع العام على المورد ، وهو ثابت لغة ودلالة ، وليس في طول
ثبوت حكم العام الأفرادي فيه ، أي موضوع العموم الأزماني أنّ كلّما كان عقداً
فوجوب الوفاء فيه ثابت ومستمر في تمام الأزمنة ، لا أنّ كل ما ثبت فيه وجوب الوفاء
في الجملة فهو ثابت فيه مستمراً ودائماً ، فالدلالتان العموميتان أو الاطلاقيتان
الأزماني في عرض واحد ، والأمر دائر بين التخصيص الأقل أو الأكثر على كل حال ،
وهذا واضح.
النسبة بين الامارات والاصول
ص ٣٤٥ قوله : ( الأوّل ـ انّ دليل
الامارة ... ).
هذا الوجه ينبغي
حذفه وإلغائه ؛ إذ ليس هو من الورود ولا الحكومة ، كما هو واضح.
والأولى تبديله
بوجه آخر تقدم في بداية الجزء الخامس من انّ المجعول
في الامارة العلمية والطريقية أي جنبة الكاشفية في العلم ، بينما المجعول في
الاصول حتى المحرزة جنبة الجري العملي في العلم دون الطريقية ، وفي الاصول غير
المحرزة جنبة المنجزية والمعذرية فقط.
وبهذا تتقدم
الامارة على الأصل حتى التنزيلي لرفعه لموضوعه وهو عدم العلم والطريق الكاشف إذ
جعلت الامارة كاشفة ، وهذا بخلاف الأصل حتى المحرز ، فإنّه لا يرفع موضوع الامارة
إذ لم يجعل كاشفاً حتى في مصطلح الشارع. وهذا وجه ثبوتي للورود.
إلاّ أنّ هذا
الوجه لا يمكنه أن يعالج وجه تقديم الأصل المحرز عندئذٍ على غير المحرز إذ الموضوع
فيهما معاً الشك بمعنى عدم الكاشف.
__________________
ص ٣٤٨ قوله : ( ٣ ـ انّ الورود ...
اللهم إلاّ أن يرجع ... ).
بل لا يصح على هذا
التقريب أيضاً لأنّ دليل الحجّية ينزل المؤدى منزلة الواقع في آثار الواقع ولو
ظاهراً ولا ينزل عنوان الحرمة المماثلة المتعلقة للامارة منزلة الحرمة الواقعية
المتعلقة للعلم أي لا ينزل عنوان الحرمة الظاهرية منزلة عنوان الحرمة الواقعية ،
فإنّ ما هو غاية الاصول العملية العلم بعنوان الحرمة الواقعية سواء كانت مطابقة
للواقع أم لا.
فليس هذا الأثر
وهو ارتفاع الأصل العملي مترتباً على واقع الحرمة الواقعية المعلومة ، بل على
عنوانها والتنزيل بلحاظ الواقع لا العنوان.
ثمّ انّ هنا
بيانات اخرى لم يتعرّض لها السيد الشهيد لاثبات عدم التعارض بين دليل حجّية
الامارة ودليل الأصل العملي أو وروده عليه من باب أنّ المراد بالعلم واليقين
بالخلاف في الاصول العملية مطلق الحجة أو الطريق إلى الواقع ذكرها صاحب الكفاية في
حاشيته وفي الكفاية ، وتابعه عليه غيره ، وهي ترجع إلى وجهين :
وجه سيذكره السيد
الشهيد ويقبله في ص ٣٥٩ كوجه لتقديم كل ما يكون المجعول فيه الطريقية والكاشفية
نحو اثبات المؤدّى والواقع في قبال ما يكون لسان الجعل فيه لسان جعل الحكم الظاهري
أو الجري العملي ، حيث استند إلى ارتكاز عرفي أو متشرعي يمنع عن ظهور دليل الأصل
العملي في إرادة إلغاء كل الطرق والامارات سوى اليقين الوجداني ، فإنّ هذا
الارتكاز على إجماله يوجب انصراف دليل الأصل إلى كون الغاية فيه عدم اليقين أو أحد
الطرق المجعولة عقلائياً أو شرعاً ، ولا أقل من الاجمال.
وهذا المطلب وارد
في كلمات الآخرين أيضاً ، وقد يشهد له ذيل بعض روايات أصالة الحلّ ، كرواية مسعدة
: « الأشياء على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » ، وهذا الوجه
كان ينبغي ذكره هنا ، وهو يتمّ حتى بين الامارة والاستصحاب ؛ لأنّ المستظهر منه
ليس هو جعل الطريقية ، بل مجرد عدم النقض العملي والجري العملي. نعم ، قد لا يتمّ
في مثل قاعدة الفراغ.
٢ ـ الوجه الثاني
ما يظهر من حاشية الخراساني على الرسائل من أنّ مفاد دليل الاستصحاب عدم النقض
بالشك لا بالأمارة.
وقد أجاب عليه
السيد الخوئي 1 بأنّ الباء بمعنى عند الشك وعدم العلم لا السببية ؛ وإلاّ
لجاز النقض مثلاً بالتماس الصديق ، وان ذيل الحديث « ولكن تنقضه بيقين آخر » يدلّ
على حصر الناقض في اليقين بالخلاف ولا غير.
ص ٣٤٨ قوله : ( وعلى كل حال لا وجه
لدعوى حكومة دليل الأمارة على الأصل ... ).
لأنّ دعوى الحكومة
التفسيرية واضحة البطلان ، والحكومة التنزيلية بحاجة إلى ورود أدوات التنزيل في
لسان أدلّة الحجّية ، وأن يكون فيه إطلاق لآثار القطع ، وعدم العلم الموضوعي أيضاً
، وكلاهما غير تام كما هو مقرر في مباحث القطع. والحكومة المضمونية مبنية على
لغوية جعل الحجّية للأمارة لولا الاصول العملية ، وهو واضح البطلان ، أو نظر دليل
الحجّية وافتراضه لجريان الاصول ، وسيأتي انّه غير تام أيضاً. والحكومة الميرزائية
التي هي نوع من الورود قد عرفت جوابه سابقاً ، فلم يبق تقريب للحكومة.
وأمّا الجواب
المذكور في الكتاب المشترك وروده على الحكومة التنزيلية
والورود بالمعنى
الاصطلاحي الخاص من انّ دليل الأصل العملي أيضاً ينفي جعل العلمية لغير اليقين
الوجداني ، فهو غير تام ؛ لما ذكرناه في الهامش.
وتوضيحه : أنّ جعل
البراءة أو الحلّية أو الطهارة ما لم يعلم بالخلاف ينفي حجّية غير اليقين ، ولكن
لا بلسان نفي اعتباره علماً ، كما قد يقال ذلك في مثل انّ الظن لا يغني عن الحق
شيئاً ، أو لا تأخذ به أو لا تتبعه ، بل من باب انّ جعل الحلّية والبراءة والطهارة
الظاهرية يضاد حكم جعل العلمية للأمارة وأثره من دون أن يلزم أن يكون تعبداً بعدم
علميتها بنحو التنزيل أو الورود ، بخلاف دليل حجّية الأمارة بحسب الفرض ، فيكون
الورود أو الحكومة من طرف واحد ، وهذا بخلاف ما يدلّ على أنّ الظن ليس بحق أو لا
تتبعه ، فإنّه وارد في نفس عنوان الظن الذي دلّ دليل الحجّية على لزوم الأخذ أو
التصديق به مطلقاً ، أو قسم منه ، فيكون النفي والاثبات للحجية والعلمية فيهما على
موضوع واحد ، كما لا يخفى.
وهذا البيان لا
يختص بأدلّة الاصول العملية غير التنزيلية ، بل يشمل التنزيلية أيضاً ، ويشمل دليل
الاستصحاب أيضاً ، حتى إذا قلنا فيه بجعل العلمية ، فإنّه بلسان التعبد ببقاء
اليقين السابق كلما لم يعلم المكلف بيقين آخر ، ودليل الأمر يعبدنا بتحقق اليقين
الآخر ، أي اليقين بالخلاف ، ولا يستفاد من دليل لا تنقض التعبد بعدم كون الأمارة
يقيناً لا بالمطابقة ولا بالالتزام ؛ لأنّ غاية ما يلزم من التعبد ببقاء اليقين
السابق عدم منجزية أو معذرية غير اليقين لا التعبد بعدم علميته ، وهذا لعمري واضح
، فالأولى الإجابة على دعوى الحكومة بما ذكرناه.
ص ٣٥٠ قوله : ( الجهة الاولى ... ).
يمكن أن يناقش في
الوجه الأوّل : بأنّ حجّية الامارة الترخيصية تختلف في الثمرة عن حجّية البراءة من
حيث كونها محرزة للحكم الواقعي وآثارها أو تقوم مقام القطع الموضوعي في الآثار ،
أو من حيث تقدمها على الاستصحابات الالزامية ، بخلاف البراءة الشرعية ، بل الحكم
الترخيصي الامارتي حيث يكون بملاك قوّة الاحتمال ، فيختلف ذاتاً عن الحكم الترخيصي
بملاك نوع المحتمل ، فلا لغوية.
إلاّ انّ هذا
الاشكال يمكن الاجابة عليه بعدم كفاية هذا المقدار لدفع اللغوية العرفية.
ثمّ انّ هنا جوابين آخرين :
أحدهما : عدم احتمال الفرق في حجّية الامارة من خبر ثقة أو ظهور
بين الترخيصي منهما والالزامي لأنّ ملاك الحجّية هو الكاشفية وقوّة الاحتمال محضا
، وهذا لا يفرق فيه بين النوع الالزامي من الحكم أو الترخيص ، فلا احتمال للفرق
عقلائياً ولا شرعاً وفقهياً فيكون دليل حجّية الامارة بحكم الأخص مطلقاً.
الثاني
: انّ دليل حجّية
الامارة كالخبر حيث انّه قطعي الصدور لكونه الكتاب الكريم أو الروايات المستفيضة
ففي مورد الاجتماع يسقط إطلاق حديث الرفع ونحوه من أدلّة البراءة والحل ، وهذا
الجواب إنّما يتم إذا لم يتم دليل من الكتاب الكريم على البراءة الشرعية أصلاً أو
ان تمّ فعلى البراءة الشرعية بمستوى البراءة العقلية المحكومة للحجة على الالزام.
وهذا الجواب قد
أشار إليه السيد الشهيد في وجه تقديم الأمارة على قاعدة الطهارة في الجهة الثالثة
، وأشار إلى أنّ بعض الوجوه المذكورة هناك يجري أيضاً في الجهات السابقة.
ثمّ انّه لا يمكن
أن يقال انّ حجّية البراءة أو الحل تثبت بحجية الامارة الدالة عليها أي خبر الثقة
والظهور فكيف يمكن أن يجعل معارضاً مع أدلّة حجّية الامارة إذ يلزم من وجودها
عدمها.
فإنّه
يقال : انّ شمول دليل
حجّية الخبر لما دلّ على البراءة أو الحل يجعله مخصّصاً لاطلاق دليل حجّية كل خبر
، فيخرج منه الخبر الالزامي ، وهذا لا محذور فيه ، كما إذا ثبت اشتراط أن لا يكون
الخبر مخالفاً مع الكتاب بخبر الواحد ، فإنّه يؤخذ به ويقيد به إطلاق ما يدل على
حجّية خبر الواحد بلا محذور.
ص ٣٥٠ قوله : ( الجهة الثانية ... ).
هذا الجواب غير
تام إذ ما أكثر موارد الامارات على الأحكام الترخيصية والتي ليس في موردها استصحاب
الزامي ، فإنّه وإن كانت الحالة السابقة لذلك الحكم الترخيصي المفاد للامارة عدمية
إلاّ انّه لا يجري فيه الاستصحاب في نفسه لعدم ترتب التنجيز على استصحاب عدم
الترخيص إذ لا يثبت به الالزام ، بل الجاري استصحاب عدم الالزام لاثبات التأمين
كالامارة الترخيصية.
كما انّ الجواب
الأوّل في الجهة الاولى لا موضوع له هنا ؛ لعدم لزوم اللغوية الناشئة من كون الشك
المأخوذ جزء الموضوع لحجية الأمارة كافياً ، فإنّ هذا لا يلزم من تقديم الاستصحاب
على الأمارة ؛ لأنّه في مورد تطابق الأمارة
والاستصحاب لا
يكون الشك كافياً بل كل من اليقين السابق أو الأمارة يكون حجة مستقلة عن الاخرى.
نعم ، يمكن تتميم
الوجهين الثاني والثالث في الجهة السابقة في المقام أيضاً ؛ لأنّ موارد الخبر
الالزامي الموجب للانذار والحذر والاحتياط دائماً أو غالباً يكون فيه استصحاب عدم
جعل ذلك الالزام في الشبهات الحكمية ، فيكون دليل حجّية خبر الثقة فيها بحكم الأخص
والمتيقن من ذلك الدليل اللفظي أو اللبي على حجّية الأمارة ، فإذا ضمّ إلى ذلك عدم
احتمال الفرق في تقدم الأمارة على الاستصحاب بين الاستصحاب الترخيصي والالزامي ثبت
التقديم بحكم الأخصية.
ولعل هذا روح
مقصود السيد الشهيد 1 وإن كانت عبارة التقريرين معاً قاصرة عن افادة ذلك.
ص ٣٥٥ قوله : ( الكلمة الثانية ... ).
يرد على مدعي حكومة الأصل
السببي على المسببي :
أوّلاً
ـ عدم صحة مبنى
الحكومة كما تقدم في بحث الأمارات مع الاصول ـ وهذا مذكور في الكتاب ـ.
وثانياً
ـ لو سلم جعل
العلمية في الاصول المحرزة كالاستصحاب ، فمن الواضح أنه بمقدار المشكوك وهو طهارة
الماء المغسول به الثوب لا آثاره الشرعية ؛ لوضوح أنّها تترتب باعتبار قيام
الاستصحاب مقام القطع الطريقي بلحاظ مؤداه بلا لزوم التعبد بعلمية الشك في ذلك
الأثر وهو طهارة الثوب المغسول به ونجاسته ، ولا ملازمة بين التعبد بعلمية الشك في
طهارة الماء والتعبد
بعملية الشك في
طهارة الثوب المغسول به بل الأمر بالعكس حيث انّ الأصل المسببي إذا كان محرزاً
يرفع موضوع الشك في أثر الأصل السبي فلا يكون حجة لاشتراط الشك في ترتيب كل أثر
أثر على مؤدى كل أصل أيضاً فيكون الاستصحاب في المسبب حاكماً على الأصل السببي
بلحاظ ترتيب هذا الأثر من آثاره.
وثالثاً
ـ النقض المذكور في
الكتاب بالاصول غير المحرزة الجارية في السبب.
ورابعاً
ـ لو فرضنا الأصل في
السبب والمسبّب كلاهما محرزاً كاستصحاب الطهارة في الماء واستصحاب النجاسة في
الثوب المغسول به ، وافترضنا استفادة جعل العلمية والرفع التعبدي للشك من دليل
الاستصحاب حتى بلحاظ آثار المستصحب ومسبّباته الشرعية الطولية ، مع ذلك قلنا لا
وجه لتقديم الأصل السببي على المسبّبي ؛ لأنّ كلاً منهما يعبّدنا بالعلمية بلحاظ
الأثر والمسبب الشرعي ، فالأصل السببي يقول : أنت عالم بطهارة الثوب المغسول ،
والأصل المسببي يقول : أنت عالم بنجاسته ، فلماذا يتقدم أحدهما على الآخر ، ومجرّد
عدم ارتفاع موضوع الأصل السببي بلحاظ السبب لا يوجب التقدم ، فإنّ التعارض بلحاظ
الأثر والمسبب بين الأصلين لا أكثر ، وبالنسبة إليه لابد وأن يكون أحدهما رافعاً
لموضوع الآخر دون العكس ، وليس كذلك في المقام ـ وهذا الجواب أيضاً غير مذكور في
الكتاب ـ. كما انّه يصح الجواب الثاني من الجوابين اللذان أضفناهما إذا فرض انّ
دليل حجّية الاستصحاب وهو الروايات المتقدمة لا تبلغ حدّ الاستفاضة والقطع أو
الاطمئنان بصدور بعضها اجمالاً كما هو كذلك ، إلاّ أنّه من التعارض والتساقط لا
التقديم بملاك القرينية.
ص ٣٥٦ قوله : ( ومنها ـ ما يختص بتقدم
أصالة الطهارة السببي ... ).
يرد عليه : ما
ذكرناه الآن من عدم لزوم اللغوية ؛ إذ ليست الآثار الترخيصية الاخرى المترتبة على
الطهارة كلّها مما يجري في نفيها الاستصحاب وإن كانت لها حالة سابقة عدمية ، كجواز
لبس الثوب المشكوك في الصلاة أو طهارة ملاقي المشكوك نجاسته وغير ذلك.
نعم ، هذا الكلام
يتم في خصوص دليل قاعدة الطهارة الجارية في المياه ؛ لأنّها تكون ناظرة إلى
التطهير بها من الخبث والحدث ولا يحتمل أن تكون مخصوصة بخصوص جواز الشرب والحالة
السابقة في موارد التطهير بلحاظ الأصل المسببي هو استصحاب بقاء النجاسة والحدث
دائماً إلاّفي موارد توارد الحالتين النادرة.
ص ٣٥٧ قوله : ( ومنها : ما يتم في كل
أصل سببي ... ).
هذا الوجه مما لا
نفهمه ، فإنّ ترتيب أثر المسبب ليس نكتة تقتضي تقديم دليل الأصل السببي على الأصل
المسببي الذي هو أيضاً حكم ظاهري آخر قد تمّ موضوعه في المسبّب ، فهذا البيان غير
مفهوم.
والتحقيق
أن يقال : بالامكان بيان
وجه ثبوتي لتقديم الأصل السببي حتى غير المحرز على الأصل المسببي بأحد تقريبين
آخرين :
١ ـ انّ المسبب
المستصحب كان مغيى في نفسه بعدم تحقق السبب الرافع له ، فالنجاسة في الثوب المغسول
قبل الغسل كانت مغياة بما إذا لم يغسل بماء طاهر ، والاستصحاب ابقاء لهذه النجاسة
لا لنجاسة مطلقة ، ومن الواضح انّ اثبات
الحكم المغيى بعدم
الرافع ظاهراً لا يعارض ما يثبت تحقق الرافع والمعلّق على عدمه.
وهذا التقريب قد
يجاب عليه : بأنّ المستصحب إنّما هو الحكم الفعلي والتنجيزي ، لا التعليقي ، وهو
يعارض الأثر الفعلي المترتب على الأصل السببي.
٢ ـ في الشبهات
الموضوعية ـ والأصل المسببي الشرعي يكون منها دائماً ـ إنّما يراد تنجيز الحكم أو
تعذيره من ناحية الموضوع والصغرى لا الجعل والكبرى ، إذ لا شك فيها ، فإذا أحرزنا
مثلاً كبرى نجاسة الملاقي مع ما يكون نجساً وأحرزنا بالأصل السببي نجاسة الملاقى ـ
بالفتح ـ فاستصحاب بقاء الطهارة في الملاقى ـ أي الأصل المسببي ـ إن اريد به
التأمين عن نجاسة اخرى فلا فائدة فيه أوّلاً ، وليست محتملة ثانياً ، وإذا اريد به
التأمين عن النجاسة المحرزة كبراها بالوجدان وصغراها بالأصل السببي فهو لغو وغير
معقول ؛ لأنّ احراز الكبرى والصغرى كافٍ في التنجيز ، فما لم يرتفع أحد الاحرازين
لا يرتفع التنجيز ولا يجدي عدم التنجيز أو التأمين من ناحية الشك في المسبّب
الفعلي والذي هو أمر وهمي تصوري لا تصديقي.
نعم ، إذا لم يكن
الأصل السببي جارياً ومحرزاً للصغرى جرى الأصل المسببي وأثر في التأمين أو التنجيز
من ناحية الحكم الفعلي ، وهذا يعني انّ الأصل المسببي إنّما ينفع في التنجيز أو التعذير
للحكم المشكوك إذا لم يكن الأصل السببي جارياً ، والله الهادي للصواب.
ص ٣٥٨ قوله : ( وعلى هذا الضوء يقال :
... ).
ولو قلنا بجريان
قاعدة الطهارة في نفسها في موارد العلم بالنجاسة السابقة مع ذلك نقول بتقدم
الاستصحاب عليه من باب عدم احتمال اختصاص الاستصحاب باليقين بالطهارة السابقة فقط
، امّا لاتحاد نكتة حجيته في البابين عقلائياً وارتكازاً بل وفقهياً أو للزوم
لغوية جعل الحجّية لليقين السابق بالترخيص من طهارة أو حلية ـ بعد فرض ملاحظة
مجموع قاعدة الطهارة والحلية معاً ـ لو أسقطنا إطلاق دليل الاستصحاب لثبوت الترخيص
بالطهارة أو الحل في مورد اليقين السابق بالحلية أو الطهارة سواء كان يقين سابق أم
لا.
ص ٣٦٠ قوله : ( المقام الثاني ... ).
هنا ينبغي البحث
عن مطلبين وجهتين :
احداهما
ـ انّه لماذا لا
تلحظ النسبة بين أدلّة حجّية الاصول العملية المتعارضة في أطراف العلم الإجمالي
والتي هي أدلّة اجتهادية فلا يقدّم الأقوى منها ظهوراً على الأضعف ـ كالعام على
المطلق ـ كما صنعنا ذلك في المقام السابق بين دليل الاستصحاب ودليل قاعدة الحل أو
البراءة الشرعية ؛ لأنّ المفروض أنّ جعل ترخيصين ظاهريين في طرفي العلم الإجمالي
قبيح أو محال ، فيقع التعارض والتكاذب بين إطلاق دليل كل من الأصلين الترخيصيين في
أحد الطرفين مع إطلاق دليله في الطرف الآخر.
ولهذا أيضاً قلنا
في محلّه بأنّه لو كان يوجد في الطرفين أصلين ترخيصيين مسانخين كقاعدة الطهارة في
الطرفين وكان يوجد في أحدهما أصل غير مسانخ
كالبراءة أو
استصحاب الطهارة نجى إطلاق دليله عن المعارضة ؛ لابتلاء دليل الأصل المسانخ
بالاجمال والتعارض الداخلي المانع من انعقاد أصل الظهور فيه ، بخلاف إطلاق دليل
الأصل غير المسانخ ، فإنّ ظهوره منعقد ولا يوجد ظهور منعقد في قباله في الطرف
الآخر.
والحاصل : بلحاظ
أدلّة الاصول الترخيصية نرجع إلى التكاذب والتعارض بالذات ، فينبغي تحكيم قواعد
الجمع العرفي بين دليلي الأصلين كما في المقام الأوّل ، مع أنّه لا يعمل ذلك.
الثانية
ـ موارد العلم
الإجمالي بالترخيص والأصلين الالزاميين.
والبحث في الجهة
الاولى لم يتعرض له الاصوليون مع انّه بحث مهم.
ويمكن بيان وجوه
لتخريج ما يفعله المشهور من الحكم بتساقط الاصول الترخيصية في أطراف العلم
الإجمالي بلا ملاحظة النسبة بين أدلّتها :
١ ـ انّ المقام من
موارد التعارض بالعرض لا بالذات ، أي من جهة المحذور العقلي في الترخيص في
المخالفة القطعية ، وهذا يوجب العلم الإجمالي بعدم جعل أحد الأصلين الترخيصين في
الطرفين على الأقل ، فاستصحاب الطهارة مثلاً في طرف العلم الإجمالي بنجاسة أحد
انائين لا يثبت نجاسة الاناء الآخر ، ولا يرفع الشك فيه ؛ لأنّه أصل مثبت ، ولكن
يعلم بأنّ إطلاق دليله أو إطلاق دليل قاعدة الطهارة في الطرف الآخر أحدهما على
الأقل غير مطابق للواقع.
وحينئذٍ يقال بعدم
جريان قواعد الجمع العرفي في موارد التعارض بالعرض
امّا مطلقاً ـ كما
عليه الميرزا 1 ـ أو في خصوص بعض ملاكات الجمع العرفي كالحكومة بلسان رفع
الموضوع.
وما تقدّم من أنّ
دليل الأصل غير المحرز ليس بصدد إلغاء القواعد المحرزة ونحو ذلك فإنّ هذه النكات
الثبوتية أو الاثباتية للجمع العرفي تختص بما إذا كان دليل الأصل المقدّم متصدياً
لنفي مفاد الأصل الآخر بالمطابقة كما في موارد التعارض بالذات.
نعم ، إذا كان
الأصلان الترخيصيّان من سنخ واحد في الطرفين وكان أصل ترخيصي غير مسانخ مختص بطرف
واحد تساقط الأصلان الترخيصيان بالخصوص لكون التعارض بين اطلاقين في دليل واحد في
الطرفين ، فيكون داخلياً وموجباً للاجمال ، بخلاف إطلاق دليل الأصل غير المسانخ
المختصّ بطرف واحد.
إلاّ أنّ هذا
الوجه لا يمنع عن اجراء قواعد الجمع العرفي مثل التخصيص والتقييد وتقديم الأظهر
على الظاهر بل والحكومة بملاك النظر بين اطلاقي دليلي الأصلين الترخيصيين في
الطرفين ، كما إذا كان دليل أحدهما أخصّ أو بحكم الأخصّ من الآخر ـ كقاعدة الفراغ
والاستصحاب ـ لما سيأتي في محلّه من جريان هذا النحو من الجمع العرفي في التعارض
بالعرض أيضاً ، خلافاً للميرزا النائيني 1.
٢ ـ أن يقال بعدم
إطلاق أدلّة الاصول الترخيصية لأطراف العلم الإجمالي معاً في نفسه لوجود مقيد عقلي
لبّي أو عقلائي عرفي يقيد دليل حجّية الاصول العملية الترخيصية بما إذا لم يلزم من
جريانها مخالفة علم إجمالي بتكليف فعلي
ولو من جهة جريان
ترخيص ظاهري من سنخ آخر في الطرف الآخر ، أي كلما صدق ـ انّه لو كان هذا الأصل
جارياً لزم الترخيص في المخالفة لجريان ترخيص ظاهري في الطرف الآخر تام في نفسه
لولا هذا الأصل ـ فلا موضوع لدليل حجّية الأصل الترخيصي.
وهذا يجعل عدم
جريان الأصلين الترخيصيين في طرفي العلم الإجمالي من باب إجمال دليله وعدم الإطلاق
فيه ذاتاً إذا كان المقيّد المذكور كالمتّصل أو حجّيةً إذا كان كالمنفصل ، أي لا
يمكن حجّيتهما معاً ، وحجّية أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فلا تصل النوبة
إلى التعارض بالعرض لكي يُعمل قواعد الجمع العرفي بينهما.
وهذا الوجه غير
تام أيضاً ؛ لأنّ المقيد اللبّي المذكور حتى إذا افترضناه بمثابة المقيّد المتّصل
فضلاً عمّا إذا كان منفصلاً لا يشمل مورداً يكون دليل حجّية الأصل الترخيصي في أحد
الطرفين مقدماً على دليل حجّية الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ومقيداً له ورافعاً
لمقتضي الحجّية فيه بالتخصيص ونحوه من قواعد الجمع العرفي ، فإنّه لا موجب لتوسعة
دائرة المقيّد المذكور لأكثر من ذلك ، وإنّما يختصّ بالمورد الذي يكون مقتضي
الحجّية في كل من الأصلين الترخيصيّين في نفسه تاماً.
وإطلاق دليل الأصل
الأخص يرفع بحسب الفرض مقتضي الحجّية في إطلاق دليل الأصل الأعم ويقيده بغير مورد
التنافي معه ، ولو بالعرض ، فلا يكون التمسك به تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية
لمقيّده المتصل أو المنفصل ليكون مجملاً ، بل بالتمسك به وبضمّه إلى المقيِّد
اللبّي المذكور ينفى مقتضي الحجّية في
إطلاق دليل الأصل
في الطرف الآخر ؛ لكونه مقدماً عليه بحسب الفرض ، فلا يكون مشمولاً للمقيّد اللبّي
المذكور جزماً.
٣ ـ انّ المحذور
العقلي في جريان الاصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بحسب الحقيقة
يرجع إلى دليل الحجّية والمؤمنية الشامل للطرفين ، أي المثبت للتأمين الفعلي في
طرفي العلم الإجمالي معاً ، وعلى هذا الأساس إذا كانت الحجّية ثابتة بدليل الأصل
العملي الجاري في الطرفين معاً ـ كما إذا كانا من سنخ واحد ـ أوجب التعارض الداخلي
فيه وإجماله ، وبالتالي عدم شموله لشيء من الطرفين ؛ ولهذا ينجو الأصل المختص غير
المسانخ عن المعارضة.
وإذا كانت الحجّية
بدليلين لأصلين عمليين ترخيصيين مختلفين فلا تعارض ولا تكاذب بين اطلاقيهما في
نفسه حتى بالعرض ؛ لعدم التنافي بين الأحكام الظاهرية الترخيصية مع الحكم الواقعي
الالزامي ، وإنّما المحذور العقلي في فعلية التأمين الشرعي في كلا الطرفين ، أي في
الجمع بين حجّية الاطلاقين لدليل كل من الأصلين في أحد الطرفين مع الآخر ؛ لأنّ ما
يثبت التأمين والمعذرية الشرعية إنّما هو حجّية الاطلاقين في دليل حجّية الظهورات
فبحسب الحقيقة المقيد العقلي مقيّد لما هو منشأ التأمين في الطرفين للمكلف وهو
دليل حجّية الظهورات فيبتلي بالتعارض والاجمال لا دليل حجّية الأصلين ، فلا موضوع
لاعمال قواعد الجمع العرفي بين دليلي الأصلين. فالتعارض والإجمال يتركّز في الدليل
الذي يثبت مجموع الحكمين الظاهريين والتأمينيين الشرعيين للمكلّف في النهاية ، وهو
دليل حجّية الظهور ، وليس شموله لأحد الاطلاقين بأولى من شموله للآخر.
وهذا نظير ما إذا
لم نعلم بكذب أحد ظهورين ، ولكن علمنا بعدم امكان الجمع بين حجيتهما بأن أخبرنا
صادق أنّ أحد الظهورين ليس بحجة أو كان في حجيتهما معاً محذور عقلي مع امكان
صدقهما معاً ، فإنّ هذا لا يوجب تقديم الأخص منهما على الأعم بل يبتلي دليل
الحجّية بالاجمال فلا يكون شيء منهما حجّة.
وهذا الجواب غير
تام أيضاً ؛ لأنّ عدم امكان جعل حكمين ظاهريين ترخيصيين واصلين إلى المكلف
ومؤدّيين إلى الترخيص في المخالفة القطعية يكون بمثابة المقيّد اللبّي لاطلاقات
أدلّة جعل الأحكام الظاهرية في أطراف العلم الإجمالي.
وهذا المقيّد
يقيّد ويمنع عن جريان مجموع الأصلين لا كلّ منهما وحده وفي نفسه ، فتشكل لا محالة
دلالة التزامية لاطلاق دليل حجّية كل أصل ترخيصي في أحد الطرفين ـ وهو دليل
اجتهادي ـ ينفي إطلاق دليل حجّية الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ـ وهذا من التعارض
بالعرض بين الإطلاقين ـ فإذا كانت دلالات دليل حجّية أحد الأصلين مقدماً على الآخر
بأية نكتة كان رافعاً لحجيته لا محالة ، فلا تصل النوبة إلى سريان التعارض لدليل
حجّية الظهورات والإطلاقات كما هو واضح.
وهكذا يتضح أنّه
بناءً على الالتزام بتقدم دليل حجّية بعض الاصول على بعض بالتخصيص والتقييد لابدّ
من ملاحظة ذلك أيضاً في تعارض الاصول أطراف العلم الإجمالي ؛ لكونه من التعارض
بالعرض بين دليل حجيتيها وهو كالتعارض بالذات في أحكام الجمع العرفي ، وحينئذٍ قد
تختلف النتائج عمّا هو المقرّر في مباحث العلم الإجمالي وتطبيقاته الفقهية ،
فمثلاً إذا
كان الجاري في أحد
طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة استصحاب الطهارة دون قاعدتها ، وفي الطرف الآخر
قاعدة الطهارة دون استصحابها ، لزم الحكم بتقديم الاستصحاب وجريانه في ذاك الطرف ،
وسقوط القاعدة في الطرف الآخر ، لا الحكم بتساقط الأصلين الترخيصيين غير
المتسانخين في الطرفين ، ومنجزية العلم الإجمالي مع انّه لا يلتزم بذلك ، بل يقال
بتساقط الأصلين الترخيصيين في الطرفين.
والحاصل
: لابد من ملاحظة
النسبة بين أدلّة حجّية الاصول العملية الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي ؛
لكونها متعارضة بالعرض ، فإذا كان دليل بعضها مقدّماً على دليل البعض الآخر
بالتخصيص أو الأظهرية أو الحكومة بملاك النظر ونحو ذلك لزم القول بتقديمه ورفع
اليد عن دليل حجّية الأصل الآخر ، مع أنّ الفقهاء لم يلتزموا بذلك في الفقه ولا في
الاصول ، بل حكموا بالتعارض والتساقط من باب انّ مجموعهما لا يمكن أن يكون حجة ،
وأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، غافلين عن انّ إطلاق دليل حجّية كل منهما ينفي
مدلول إطلاق دليل الآخر بالملازمة ، فيكون من موارد التعارض بالعرض.
وأمّا البحث في
الجهة الثانية ، فالكلام في عدم جريان الأصلين الالزاميين إذا كانا محرزين أو في
خصوص الاستصحابين كما في الكتاب.
إلاّ أنّ هناك
اشكالاً نقضياً زائداً للسيد الخوئي 1 على الميرزا والشيخ قدس سرهما وهو النقض بجريان قاعدة الفراغ مثلاً عن الصلاة التي يشك في التوضىء قبلها مع
الحكم ببقاء الحدث بالنسبة للصلوات القادمة مع انّه يعلم بمخالفة أحدهما
اجمالاً للواقع ،
بل في تمام موارد الأصلين المحرزين في المتلازمين إذا كان أحدهما نقيض الآخر ، مع
تصريح الشيخ وغيره بعدم التعارض بين الاصول العملية في المتلازمين. إلاّ إذا كان
التلازم ثابتاً حتى في مرحلة الحكم الظاهري كما في الماء النجس المتمم كراً
بالقليل.
ثمّ انّ ما أضافه
السيد الشهيد 1 من وقوع التعارض بين الأصلين الالزاميين المحرزين إذا قلنا
بقيامهما مقام القطع الموضوعي بلحاظ حرمة الاسناد ، ثمّ أجاب عليه ببطلان المبنى
أوّلاً ، وبأنّ غايته التعارض بلحاظ الأثرين الموضوعيين للأصلين لا الآثار
الطريقية لهما ، يمكن الايراد عليه :
بأنّه في موارد
التلازم قد يتشكل علم اجمالي منجز موجب لسقوط الأصل المؤمن عن الحجّية ـ كما في
المثال المتقدم لقاعدة الفراغ ـ وأيضاً إذا علمنا بأنّ المائين امّا معاً نجسان أو
معاً طاهران وكان أحدهما مسبوقاً بالطهارة والآخر بالنجاسة ، فإنّ استصحاب النجاسة
والطهارة وإن كانا لا يتعارضان بلحاظ موادّهما ابتداءً ، ولكنه يتعارضان بلحاظ
اسناد نجاسة أحدهما وطهارة الآخر ـ وهو الأثر الموضوعي ـ كما يتعارض استصحاب
الطهارة مع حرمة اسناد نجاسة الآخر ، حيث يعلم اجمالاً امّا بأنّ مستصحب الطهارة
نجس يجب الاجتناب عنه أو مستصحب النجاسة طاهرة لا يجوز اسناد النجاسة إليه ، وهذا
أثر طريقي للمستصحب بناءً على انّ حرمة الكذب موضوعها الواقع لا عدم العلم ـ كما
هو الصحيح ـ وبعد التعارض والتساقط بلحاظ هذين الأثرين الطريقين لا يكون استصحاب
الطهارة جارياً لاثبات أثره الطريقي ، وكذلك الحال بالنسبة لقاعدة الفراغ في
المثال المتقدم.
وهذا الاشكال لا
جواب عليه إلاّبانكار مبناه من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وانكار اثبات
جواز اسناد المستصحب إلى الواقع وارتفاع موضوع حرمة الكذب به.
ص ٣٦٢ قوله : ( وروح هذا الكلام وإن كان
صحيحاً ... ).
بل على مسلك مدرسة
الميرزا 1 أيضاً يكون التعليق والتقدير لنفس الاستصحاب لا المستصحب إذ على تقدير عدم
الاشتغال بالمساوي أو الأهم يشك في بقاء الوجوب الآخر مع اليقين بثبوته سابقاً
فعلى مسلك الميرزا يجري الاستصحاب بلحاظ التقدير المذكور ، ويكون التقدير
للاستصحاب لا المستصحب.
ثمّ انّه لا موضوع
لأصل هذا الاشكال إذا كان الاستصحاب موضوعياً كاستصحاب بقاء النجاسة وبقاء الوقت
للفريضة المضيّق وقتها ، فإنّ الأصل الموضوعي ينقح جزء موضوع القضية الفعلية ،
ويكون جزئها الآخر وهو عدم الاشتغال بالضد محرزاً بالوجدان ـ بناءً على التركيب في
الموضوعات ـ فلا حاجة إلى استصحاب القضية التعليقية هنا.
تعليقات على
الجزء السابع
تعارض الأدلّة
تعريف التعارض
الورود ونظرية
التزاحم
القرينية بأنواعها
حكم التعارض
المستقر بمقتضى القاعدة
حكم التعارض طبق
الأخبار الخاصة
تعريف
التعارض
المراد بالدليلين
والدلالة تارة هو الدليل والكاشف التكويني أي صغرى الظهور والظن الحاصل منه ،
واخرى صغراه وكبرى حجيته.
فلو اريد الأوّل
كان موارد الجمع العرفي داخلاً في التعريفين معاً.
ولو اريد الثاني
فإن اريد الظهور الحجة بالفعل لم يشمل التعريفان حتى موارد التعارض لعدم الحجّية
الفعلية لهما معاً بل استحالتهما ؛ للتنافي بين الحجيتين ، فيتعين أن يراد به
الظهور مع مقتضي الحجّية فيه وموضوعها ، وبذلك لا يشمل التعريفان معاً موارد الجمع
العرفي لأنّ الدليل بمعنى صغرى الظهور الذي فيه مقتضي الحجّية غير شامل لموارد
الجمع العرفي ؛ إذ لا مقتضي للحجية في المحكوم أو العام مع وجود الحاكم والمخصّص ؛
لأنّ الحجّية مقيدة بحسب الفرض بما إذا لم يكن على خلافها قرينة شخصية أو نوعية.
وبهذا يعرف انّ
كلا التعريفين تعريف الشيخ والمحقق الخراساني 1 على حد واحد ، لأنّ الدلالة والدليل أو المدلول متضايفان.
ولابد من أخذ
التنافي بنحو التناقض أو التضاد أي التعارض بالذات ـ التكاذب ـ بين الدليلين في
التعريف ولا يصح جعل التعريف التنافي بين الدليلين
في مرحلة شمول
الحجّية ـ كما صنعه السيد الشهيد 1 ـ لأنّ التنافي في مرحلة جعل الحجّية للدليلين قد لا يكون
من ناحية التعارض ، كما إذا أخبر المعصوم بأنّ أحد الظهورين ليس بحجة ، إلاّ أنّه
خلاف الواقع ، فإنّه سوف يقع التنافي بين حجيتهما ، ولكنه ليس من التعارض ، ولهذا
لا يطبق عليه قواعد الجمع العرفي لو كان أحدهما أقوى وأظهر مثلاً.
نعم ، لا بأس
بشمول التعريف للتعارض بالعرض بمعنى التكاذب الحاصل بين الدليلين بملاك ضم العلم
الإجمالي بكذب أحدهما من الخارج ولو لم يكن منجزاً كما إذا دلّ دليل على وجوب
الجمعة وآخر على وجوب الظهر في يوم الجمعة ونعلم من الخارج بعدم وجوب فرضين في وقت
واحد ، فيقع تعارض بنحو التناقض بينهما بلحاظ المدلولين الالتزاميين لهما ، فيطبق
عليهما أحكام التعارض غير المستقر أو المستقر. وهذا هو مقصود صاحب الكفاية من
ادراج موارد التعارض بالعرض في ذيل تعريفه فراجع كلامه تعرف ذلك ، ويكون البيان
المذكور توضيحياً ؛ إذ لولاه أيضاً كان التعريف شاملاً له لحصول التكاذب أي
التنافي بين الدليلين بلحاظ المدلول الالتزامي لهما ، فالحاصل ميزان التعارض
الموضوع لأحكام الجمع العرفي أو أحكام التعارض المستقر إنّما هو التكاذب بين
الدليلين.
وبهذا يظهر امور :
١ ـ انّه لا فرق
بين تعريفي الشيخ وصاحب الكفاية قدس سرهما ، فإنّه لو اريد
بالدليل صغرى الظهور فكلا التعريفين يشملان موارد الجمع العرفي ، ولو اريد به
الظهور الذي فيه مقتضي الحجّية خرج موارد الجمع العرفي عنهما معاً.
٢ ـ انّ قيد بنحو
التناقض أو التضاد والذي يرجع إلى التناقض ونفي كل منهما لمدلول الآخر لابد منه في
التعريف ليحصل التكاذب فيكون امتناع فعلية اقتضاء الحجّية فيها معاً من أجل ذلك لا
من أجل نكتة اخرى ، والتناقض أو التضاد وصفان ملحوظان في مدلولي الدليلين لا
حجيتهما ، وهما منشآن للتكاذب الذي هو منشأ لامتناع فعلية الحجّية فيهما.
ومنه يتضح انّ ما
عن السيد الشهيد 1 من جعل التعريف بناءً على ارادة تخصيصه بغير موارد الجمع
العرفي بالتنافي بين الدليلين في مرحلة الحجّية لا حاجة اليه ، بل غير سديد كما
تقدم.
وأيضاً ما ذكره في
ص ١٨ السطر الأوّل من انّ التنافي بين اقتضائي دليل الحجّية يكون بنحو التضاد
دائماً إنّما يرد على تعريفه لا تعريف المحقق الخراساني فإنّه يأخذ وجود مقتضي
الحجّية وصفاً للدليل أو الدلالة والتنافي بنحو التناقض أو التضاد وصفاً
لمدلوليهما.
ولعلّ المشهور
والمحقق الخراساني لاحظوا هذا القيد لأجل حصول التكاذب بين الدليلين ، فإذا لم يكن
بينهما تكاذب فهو خارج عن أحكام التعارض.
٣ ـ انّ الأصح أن
يقال في الأمر الثالث انّه لو كان المقصود بيان الحالة الموضوعية بين الدليلين
مقدمة لبيان حكم الحجّية فيهما فالصحيح ارادة صغرى الظهور من الدليل والدلالة ،
ويكون باب التعارض لبيان أحكامه من الجمع العرفي وغيره ، فلابد وأن يعم التعريف
التعارض المستقر وغير المستقر وعندئذٍ يكون التعريف الدقيق بأنّ التعارض هو
التنافي بنحو التناقض
أو التضاد ـ أي
التكاذب ـ بين مدلولي الدليلين أو دلالتيهما ؛ إذ لا فرق في ذلك ، كما تقدم.
ويراد بالدليل
صغرى الظهور ، وهذا هو الأوفق والأنسب مع عنوان تعارض الأدلّة. وأمّا ما ذكره
السيد الشهيد 1 من انّه التنافي بين الدليلين ذاتاً في مرحلة فعلية
المجعول التي هي مرحلة متأخرة عن الجعل ومدلول طولي للدليلين ، ولهذا لولا الدليل
الوارد أو الحاكم أو القرينة كان الحكم المجعول في الدليل المورود أو المعلوم أو
ذي القرينة فعلياً فهو الأوفق مع الغرض الاصولي من قواعد الجمع العرفي الشامل
للورود.
والمسألة مسألة
ذوق لا برهان.
ثمّ انّ المراد
بالدليل في التعريف الدليل على الحكم الشرعي الكلّي ، فالتعارض بين الأمارات في
الشبهات الموضوعية كالبينة والاقرار وغيرهما خارج عن مباحث التعارض ؛ لأنّ غرض
الاصولي ذلك كما انّ أحكام التعارض غير المستقر والمستقر ترتبط بالأدلّة الكاشفة
عن مراد الشارع وتشريعاته ، فهي قواعد لعلاج حالات التعارض في مقام الكشف عن مراد
الشارع وتشريعاته والبينتان المتعارضتان لا تعارض بينهما في مقام الكشف عن المراد
لتعدد الشخص والعلم والارادة في كل منهما عن الآخر ، وإنّما لا يمكن حجيتهما معاً
بلحاظ الواقع والأثر الشرعي في الموضوع الواحد لا بلحاظ الكشف عن مراد المتكلم في
الشهادتين ، وهذا واضح.
ص ٢٤ قوله : ( الصحيح انّ الفرضين ... ).
ما ورد من التعليل
فيه مسامحة ظاهرة ، إذ حتى إذا فرض وجود مدلول
للأصلين
المتعارضين كما إذا كانت لهما كاشفية عن الحكم الواقعي فوقع التنافي بينهما بلحاظ
المنكشف بل حتى إذا كان للمتعارضين مدلول بمعنى لسان وظهور ، كما في البينتين
المتعارضتين لم يكن ذلك من باب التعارض المقصود في هذا الكتاب والموضوع لقواعد
الجمع العرفي أو الترجيح.
هذا مضافاً إلى
انّ الروايتين المتعارضتين أيضاً يكون التعارض بلحاظ معلوليهما وأثريهما وهما
حجّية كل منهما ، فلماذا لا نقول بأنّ التعارض بين دليلي ثبوت الحجّية لهما.
وأمّا التنافي بين
مدلوليهما كحكمين واقعيين لا يمكن أن يثبتا معاً فهذا مضافاً إلى ثبوته في الأصلين
المتعارضين بلحاظ مؤداهما الواقعي إذا كانا محرزين لا يحصل تناف بينهما ما لم تثبت
الحجّية له لعدم اليقين بهما وجداناً فلا دلالة ولا دليلية مع قطع النظر عن
الحجّية.
وإنّما الصحيح انّ
التعارض هو التكاذب بين الدليلين في الكشف عن مراد المتكلم ولهذا يشترط وحدة
المتكلم أو بحكم الوحدة كما في المعصومين : فإنّ كلام أولهم كلام آخرهم وبالعكس. فإذا تعدد المتكلم
فضلاً عمّا إذا كان الدليل كاشفاً ابتداءً عن الحكم الشرعي لم يكن من التعارض
لامكان صدق كلا الظهورين غاية الأمر وجود مرادين وشهادتين يعلم بأنّ أحدهما خطأ
وغير مطابق للواقع وليس هذا من التعارض بين ظهورين لأنّ الظهور دائرته الكشف عن
المراد لا أكثر.
نعم ، بعض الأبحاث
التي ستأتي في حكم التعارض المستقر على مقتضى القاعدة قد يجري في التعارض بين
دليلين بالمعنى الأعم بلحاظ حجيتهما ، إلاّ
انّ هذا لا يقتضي
أن نجعل موضوع التعارض هو الأعم ، بعد أن كان تمام أحكام الجمع العرفي في التعارض
غير المستقر ، والمهم من أحكام التعارض المستقر الثابتة على القاعدة ، أو بالأدلة
الخاصة من الترجيحات بموافقة الكتاب ومخالفة العامة أو غيرهما ، لا تكون إلاّبلحاظ
ما ذكرناه.
ص ٢٥ قوله : ( التعارض بين الدليل
اللفظي والدليل العقلي ... ).
لعل المراد
بالدليل العقلي الدليل غير اللفظي وإلاّ فأحكام العقل قطعية دائماً وأي دليل ظني
يصادم حكم العقل يسقط عن الحجّية إلاّ إذا كان الحكم العقلي تعليقياً فيتقدم عليه
الدليل الشرعي ولو كان خطأً كما تقدم في وجه تقدم الحجج والاصول الشرعية على الأصل
العقلي ، فالمراد بالدليل العقلي ما يعم مثل الشهرة والإجماع ونحوهما.
ص ٢٥ قوله : ( والفرق الأساسي ... ).
بل حتى أحكام
التعارض المستقر الثابتة على القاعدة أو بالأدلّة الخاصة كالترجيح بموافقة الكتاب
ومخالفة العامة أو سائر المرجحات لو قيل بها يختص بالتعارض بين الدليلين اللفظيين
ولا تتم في غيرهما.
وأمّا دليلي حجّية
الأدلّة غير اللفظية فإنّها إذا كانت لفظية وكان التنافي بين مدلوليهما بنحو
التكاذب كان مصداقاً للتعارض وإلاّ فلا ، وهذا يعني انّه من أوّل الأمر لابد من
تعريف التعارض الاصطلاحي بالتنافي بين مدلولي الظهورين في الكشف عن المراد ـ والقيد
توضيحي أيضاً لأنّ الظهور لا يكشف عن أكثر من المراد ـ فليس كل تنافٍ في شمول
الحجّية للدليلين المحرزين تعارضاً ليقسم إلى اللفظي وغير اللفظي ، وإن كان بعض
أحكام التعارض الاصطلاحي كالتساقط أو
نفي الثالث لو قيل
به قد يتم فيهما أيضاً.
وكون المرجحات
السندية راجعة إلى ترجيح حجّية السند وشهادة الراوي وهي ليست ظهوراً ولا دليلاً
لفظياً لا يعني انّ الشارع عالج التعارض بين دليلين غير لفظيين بل معناه انّ
التعارض بين مدلولي الشهادتين اللذان هما ظهوران لكلام الشارع ـ والذي يمكن أن
تصدق الشهادتان والروايتان معاً في نقلهما بأن يكونا معاً صادرين عن الشارع واقعاً
ـ قد عولج بترجيح سندي غير راجع إلى الظهور على ما سيأتي في محله أيضاً ؛ فلا
تكاذب بين الشهادتين في مورد الترجيح المذكور ، وإنّما على التساقط يكون حجيتهما
لغواً.
ومن هنا لو فرض
تكاذب بين الشهادتين مع عدم التعارض بين الحديثين المنقولين كما إذا علم بكذب
احداهما اجمالاً لا يطبق عليهما المرجحات المذكورة ، فهذا كله دليل قاطع على
اختصاص أحكام التعارض المستحكم كالجمع العرفي بالتكاذب بين الدليلين اللفظيين.
وعليه فالتعارض
الاصطلاحي ليس إلاّعبارة عن التكاذب بين دليلين لفظيين صادرين عن الشارع أي تكاذب
ظهورين في الكشف عن مراده ، والقيدان معاً توضيحان لأنّ الظهور لا يكشف عن أكثر من
ذلك فلا يعقل التنافي بينهما إلاّ بلحاظ المراد ، وهذا معنى اصطلاحي للتعارض بين
الدليلين.
نعم ، يمكن أن
يجعل البحث في التعارض عن أحكام تعارض مطلق الأدلّة الاجتهادية والفقاهتية اللفظية
وغيرها فيدخل فيه أبحاث اصولية اخرى كثيرة بما فيه النسبة بين الاصول والامارات
وأيضاً تعارض شهرتين أو اجماعين مستقلين أو شهرة وخبر ثقة ، بل يمكن ادراج موارد
التعارض بملاك منجزية
العلم الإجمالي
بين الاصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالالزام فتدخل هذه الأبحاث كلها في
باب التعارض ويبحث عن حكم كل قسم ويكون تعريف التعارض مطلق التنافي بين الحجتين
الفعليتين سواء كان دليل اثبات الحجّية فيهما معاً واحداً فيبتلي بالاجمال الداخلي
إذا كان لفظياً فلا موضوع للتعارض المستحكم ولا الجمع العرفي فيه أو كان دليل
الحجّية لبياً فلا يشمل شيئاً منهما أو كان لفظياً متعدداً كما في الحجتين من
سنخين بنحو يمكن فيه الجمع العرفي أو أحكام التعارض المستحكم أو بنحو لا يمكن لكون
المقيد اللبي متصلاً بهما فيوجب الاجمال وغير ذلك من الأبحاث.
وهذا وإن كان
ذوقياً ويكون حينئذٍ باب التعارض أعم من التعارض بين الأدلّة بمعنى ظهورين ودليلين
لفظيين في مقام الكشف عن مراد الشارع ، إلاّ انّه يوجب اقحام أبحاث اصولية كثيرة
في كتاب التعارض لم يلتزم به السيد الشهيد نفسه ، بل قد لا يناسب جمعها في باب
واحد.
ثمّ انّه ينفتح
هنا بحث وهو انّه إذا فرض تعارض عموم أو أي ظهور لفظي صادر من الشارع مع دليل ظني
معتبر يكشف عن الحكم الشرعي مباشرةلا بتوسيط كلام الشارع كالشهرة الفتوائية أو
الإجماع المنقول ـ بناءً على حجيتهما ـ فهل يتعامل معهما معاملة الخاص والعام
فيخصّص به العموم أو الإطلاق أو يحمل الظهور في الوجوب مثلاً على الاستحباب أم لا
، وإذا كان التنافي بينهما بنحو العموم من وجه أو التباين هل يطبق عليهما ما يطبق
على الحديثين المتعارضين بنحو التباين أو العموم من وجه من التساقط أو الترجيح
بالمرجحات أم لا ، وهذا بحث لابد من التوسع فيه وفي الكتاب ص ٢٥ إشارة إلى عدم
جريان الجمع العرفي فيه ، فراجع وتأمل.
الورود ونظرية التزاحم
ص ٦٢ قوله : ( كما انّه إذا قبلنا امكان
الترتب وأنكرنا الشرط الثاني ... ).
هناك فرق بين
انكار الشرط الأوّل وانكار الشرط الثاني فإنّه إذا أنكرنا الشرط الأوّل وقع
التعارض بين الدليلين على الحكمين المتزاحمين مطلقاً إذ لا يمكن ثبوت الحكم لهما
معاً ولو بنحو مشروط ولابد من حكم واحد ـ بناءً على استحالة الترتب ـ امّا بأحدهما
تعيينياً أو تخييراً.
وحيث لا معين
للأخذ بمفاد أحد الدليلين دون الآخر والأمر بأحدهما تخييراً يحتاج إلى دليل ثالث
فلا محالة يقع التعارض بينهما ولا يثبت شيء من الحكمين لولا ضمّ ضميمة من الخارج.
وامّا إذا أنكرنا
الشرط الثاني مع القول بامكان الترتب فالتعارض ليس بين أصل الحكمين على الضدين بل
بين اطلاقيهما بحيث لو فرض التساقط بينهما سقط إطلاق الحكمين وامّا ثبوت حكمين
مشروطين كل منهما بعدم امتثال الآخر فليس داخلاً في التعارض أصلاً ، وهذا ما يترتب
عليه ثمرة سوف نشير اليها.
ثمّ إنّ هنا طرقاً
اخرى لاخراج باب التزاحم عن التعارض ، نشير إليها إجمالاً مع جوابها :
الأوّل : دعوى إطلاق الخطابات المجعولة على نهج القضايا الحقيقية
ـ وقد يعبَّر عنها بالخطابات القانونية ـ حتى لموارد العجز ، فضلاً عن موارد
التزاحم
وعدم إمكان الجمع
بين الواجبين. نعم ، يصحّ ذلك في الخطابات الخارجية.
وهذا البيان لا
يمكن المساعدة عليه ؛ وذلك :
أوّلاً
ـ لأنّ نكتة المنع
عن إطلاق الخطاب لموارد العجز وعدم القدرة لا تختصّ بالقضايا الخارجية ، بل تجري
في الحقيقية أيضاً ، وهي أنّ حقيقة التكليف وروحه ليس هو الملاك ، بل ولا الحب
والبغض ، وإنّما هو التصدّي والتحريك المولوي لتحصيل مرامه من عبده ، وهذا لا يصدر
من العاقل فضلاً عن الشارع الحكيم في حقّ العاجز وموارد عدم القدرة ، سواء كان في
فعل واحد أو مجموع فعلين ، فلا ينعقد إطلاق لخطابات المولى الظاهرة في المحركية
لموارد العجز حتى إذا كانت خطابات قانونية وكلّية.
وثانياً
ـ صراحة الآيات
والروايات الدالّة على عدم التكليف من قبل الشارع الأقدس في موارد الاضطرار والعجز
وعدم السعة والطاقة ، ممّا يوجب تقيّد الخطابات التكليفية بالقدرة لا محالة ، فيقع
التعارض في موارد التزاحم بين اطلاقي دليل كل من الواجبين المتزاحمين ، لثبوت
القدرة على كلّ منهما لولا الآخر.
الثاني : ما اختاره المحقّق العراقي 1 من ارجاع الأمر بالواجبين المتزاحمين إلى الأمر بكل منهما
معيناً ، إلاّ أنّه إذا كانا متساويين كان الأمران معاً ناقصين ، وإذا كان أحدهما
أهم كان الأمر بالأهم تاماً والأمر بالمهم ناقصاً ، أي أمراً بسدِّ باب عدمه من
سائر النواحي غير ناحية فعل المساوي أو الأهم عند المولى ، وبذلك يحفظ أيضاً ظهور
خطاب الواجبين المتزاحمين في عرضية الوجوبين.
وفيه
: أوّلاً ـ هذا خلاف ظاهر
خطاب الأمر ، وتأويل له بارجاعه إلى المنع
عن الترك أو سدِّ
باب العدم من ناحية المقدمات ، وكلاهما خلاف ظاهر الأمر الذي هو ايجاب الفعل
وايجاده ، فإذا فرض عدم إمكان الترتّب وقع التنافي بين الأمرين لا محالة.
وثانياً
ـ احتياج هذا الطريق
أيضاً إلى أخذ فعل الواجب الأهم أو المساوي قيداً في الخطاب ، وإلاّ كان مقتضى
إطلاق كل من الخطابين المتزاحمين نفي وجوب الآخر ، فيدخل في باب التعارض.
الثالث : التنافي في موارد التزاحم ليس في مبادئ الحكمين
المتزاحمين ؛ لتعدّد متعلّقهما ، بل من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في مقام
الامتثال ، وهذا وإن أوجب سقوط الحكم ، ولكنه لا يوجب سقوط ملاكه ، بل ولا روح
الحكم من المحبوبية والمبغوضية ، وهو كالحكم والتكليف منجّز عقلاً ، فيجب الامتثال
والرجوع إلى حكم العقل بترجيح الأهم على المهم ، وسائر المرجحات المذكورة في باب
التزاحم على القاعدة.
وفيه :
أوّلاً ـ بطلان المبنى ، فإنّ الدلالة على الملاك ومبادئ الحكم دلالة
التزامية للخطابات ، فتسقط بسقوط دلالتها المطابقية على ما هو محقّق في محلّه.
وثانياً
ـ ما هو روح الحكم
ليس هو الملاك ولا المحبوبية والمبغوضية ، بل هو التصدّي والمحركيّة المولوية ،
والمفروض سقوطها وعدم وجودها في موارد العجز وعدم القدرة ، وثبوتها على الجامع بين
المتزاحمين المقدور لا يساعد عليه الدليل بحسب مقام الاثبات ، فالتعارض سارٍ إلى
المدلول الالتزامي إذا اريد به ما هو موضوع حكم العقل بالمنجزية لا مجرد الملاك
والمحبوبية.
ص ٦٥ قوله : ( والجواب عن هذا الاعتراض
... ).
يلاحظ على هذا
الجواب سواءً بصيغته في الأحكام المجعولة على نهج القضايا الحقيقية أو بصيغته التي
تتم حتى على أساس كونها خارجية بأنّ برهان هذا التقييد لا يقتضي أكثر من التقييد
بصورة العلم بالأهمية أو المساواة أي العلم بعدم كون الواجب الآخر مرجوحاً ـ أي
صورة العلم باللغوية ـ والوجه في ذلك واضح ، فإنّ أهمية الملاك كأصل ثبوت الملاك
وفعليته مدلول للخطاب ومستفاد منه فلا معنى لأن يكون قيداً فيه ، بل بالعكس يجعل
المولى خطابه مطلقاً حتى لحال الاشتغال بالآخر ليثبت أهميته ورجحانه عليه ، ولا
يخرج منه إلاّصورة العلم بلغوية إطلاق الخطاب ، وهذا لازمه وقوع التعارض بين
اطلاقي الواجبين المتزاحمين إذا كان احتمال الأهمية في كل منهما موجوداً ولا يكون
من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمقيده كما لا يخفى.
ومما يؤيد هذا بل
يدل عليه أنّنا نتمسك باطلاق الأمر بالقيد إذا كان ضده الآخر مشكوك الوجوب مع أنّ
أهمية الملاك ليست بأشد من أصل الملاك والوجوب فإذا كان المقيد اللبي مقيّداً
بصورة العلم بوجوب الضد فلا محالة مقيد بصورة العلم بعدم مرجوحيته أيضاً لا بصورة
عدم مرجوحيته واقعاً.
وبهذا يدخل باب
التزاحم في باب التعارض في الجملة على أساس هذا المسلك. ولكن سيأتي في بحث مقبل
الاجابة على هذا الاشكال فانتظر .
وقد
يقال : بأنّ الخطابات
ليس إلاّبصدد بيان أصل الأمر والالزام بالفعل أو الترك في نفسه لا بالقياس إلى ما
قد يزاحمه من الواجبات والالزامات الاخرى
__________________
فلا إطلاق لها لصورة
التزاحم والاشتغال بواجب آخر وإنّما يحرز ذلك بالملازمة وفي طول اثبات أهمية ملاك
أحد المتزاحمين على الآخر وهذا يعني انّ مفاد كل خطاب مهمل من حيث اثبات وجوب
مشروط بترك الضد الواجب أو مطلق.
وفيه
: أوّلاً ـ انّ لازم هذا عدم
امكان اثبات إطلاق الواجب المحتمل أهميته بالنسبة لما لا يحتمل أهميته فلا يتم
الترجيح بمحتمل الأهمية فضلاً عن قوة احتمال الأهمية.
وثانياً
ـ انّه لا موجب له
إذ لا إشكال في إطلاق كل خطاب الزامي من حيث الاشتغال بالضد سواء كان واجباً أم لا
ولهذا لا شك في التمسك بهذا الإطلاق في فرض الشك في وجوب الضد وهذا يعني انّ إطلاق
الوجوب لحال الاشتغال بالضد يثبت فعلية الالزام على هذا التقدير أيضاً وهو يلازم
كونه أهم إن كان الضد واجباً ، فلا يتوقف الإطلاق المذكور على كون الخطابات في
مقام المقايسة بعضها مع البعض بل لازم اطلاقاتها لحالات المكلف ذلك ، فتدبر جيداً.
ص ٦٨ قوله : ( الأوّل : ترجيح المشروط
بالقدرة العقلية ... ).
لا بأس أن يذكر
هنا انّ هذا المرجح أسبق من الترجيح بالأهمية أو سائر المرجحات ، ووجهه واضح من
خلال بيان برهان هذا المرجح.
كما انّه لابد وأن
يعلم بأنّه إذا أخذنا القدرة قيداً في الخطاب والتكليف كانت مرجحات باب التزاحم
راجعة إلى باب الورود أي كان التخيير أو الترجيح لأحدهما على الآخر شرعياً وبملاك
إطلاق الخطاب لأحد الواجبين دون الآخر أو احتماله احتمالاً منجزاً عقلاً أو كونهما
معاً تكليفين مشروطين بنحو الترتب على القاعدة.
وأمّا إذا قلنا
بمسلك السيد الخوئي 1 من انّ القدرة ليست شرطاً في التكليف والخطاب وإنّما هو
شرط عقلي في التنجز ومقام الامتثال فالتخيير في فرض التساوي عقلي لا شرعي ؛ كما
انّ الترجيح للأهم أو للمشروط بالقدرة الشرعية أو غيرهما يكون بحكم العقل العملي ،
لا من باب إطلاق الخطاب الأهم وتقييد المهم ؛ فبين المنهجين لفهم باب التزاحم فرق
من هذه الناحية أيضاً.
ص ٧٢ قوله : ( الصورة الثالثة ... ).
ويمكن اضافة صورة
رابعة وهي ما إذا علمنا بأنّ أحد الواجبين من دون تعيين القدرة فيه عقلية واحتملنا
انّ القدرة في الآخر شرعية فإنّه سوف يتشكل علم اجمالي بملاك فعلي للمولى في أحد
الضدين ويشك في القدرة على تحصيله بمعنى عدم تفويته أو تفويت ما يعادله ، وعدم
القدرة على ذلك.
إلاّ انّه حيث لا
يمكن الاحتياط بالاتيان بالضدين معاً فالنتيجة في هذه الصورة هو التخيير كالصورتين
الاولى والثانية لجريان البراءة عن احتمال إطلاق الملاك لحال الاشتغال بالآخر في
كل من الواجبين بالخصوص.
وهكذا يظهر انّ
الصورة الثالثة وهي العلم بكون القدرة في أحدهما عقلية ويشك في الآخر كون القدرة
فيه عقلية أو شرعية لابدّ من تفصيلها إلى صورتين : صورة تعيّن ما تكون القدرة فيه عقلية فيثبت ترجيحه من باب الاحتياط وصورة
تردده فيثبت فيه التخيير.
وقد يناقش في كل
من النتيجتين بمناقشة :
امّا في الأوّل :
فبأنّ فعلية ملاك الإزالة مثلاً لحال الاشتغال بالصلاة وإن كانت معلومة إلاّ أنّ
هذا وحده لا يكفي لوجوب الاحتياط من باب الشك في القدرة
طالما لا يكون
إطلاق الخطاب محرزاً إذ لعل القدرة في الآخر أيضاً عقلية فالمولى لا يتصدى لحفظ
هذا الملاك عند الاشتغال بالآخر والملاك إنّما يتنجز إذا كان بالغاً مرتبة يتصدى
المولى لتحصيله ، وامّا ذات الملاك ولو لم يتصد المولى لتحصيله فلا يدخل في العهدة
والملاك المحرز في المقام من هذا القبيل فلا يجب فيه الاحتياط بل تجري البراءة
العقلية والشرعية عنه.
والجواب
: انّ الملاك
المذكور يعلم انّه بالغ مرتبة تصدي المولى لتحصيله في نفسه وإنّما يشك في تصدي
المولى لتحصيله بالخطاب وعدمه من ناحية العجز وعدم إمكان الجمع بين الملاكين ـ إذا
كانت القدرة فيهما معاً عقلية ـ ومثل هذا الملاك داخل في العهدة إذ مرجع الشك في
الحقيقة إلى الشك في القدرة على تحصيل الملاك وعدم تفويته على المولى لا في بلوغ
الملاك مرتبة الفعلية والاهتمام المولوي في نفسه. وبتعبير آخر بعد أن كان الملاك
كالخطاب من حيث التنجيز والدخول في العهدة لأنّه روح الحكم فالشك في القدرة على
تحصيله كالشك في القدرة على الخطاب منجز عقلاً.
وإن
شئت قلت : كلما تنجز
التكليف وأصبح الملاك فعلياً لابد من تحصيل الجزم بالفراغ منه بالامتثال أو بالعذر
الشرعي كالتكليف الفعلي ، وهذا هو روح انّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
وأمّا في الثاني :
فبأنّ مقتضى القاعدة مع فرض العلم الإجمالي بوجود ملاك فعلي مردد في الصورة
الرابعة وجوب الاحتياط بالمقدار الممكن وذلك بالاتيان بما يكون احتمال كون القدرة
فيه عقلية أكثر من الآخر لأنّ المفروض تنجز هذا العلم الإجمالي إلاّمن ناحية العجز
من الاحتياط والموافقة القطعية وهو لا يمنع عن وجوب الاحتياط عقلاً بالمقدار
الممكن.
والجواب
: انّ هذا صحيح على
مستوى الأصل العقلي ، وامّا بملاحظة الأصل الشرعي كالبراءة الشرعية فيمكن اجرائها
عن ملاك التكليف الذي يكون احتمال القدرة العقلية فيها أكثر حال الاشتغال بالآخر
فينفى إطلاق ملاكه ولا يعارض بالبراءة عن إطلاق ملاك الآخر حال الاشتغال بهذا إذ
لا يلزم من جريانهما الترخيص في المخالفة القطعية كما لا يخفى. فالنتيجتان
صحيحتان.
ص ٧٣ قوله : ( وامّا لو اريد منها
المعنى الثالث ... ).
ينبغي تقسيم
الشقوق والصور في احتمال هذا المعنى للقدرة الشرعية بالنحو التالي :
الصورة
الاولى : أن نحتمل كون
القدرة شرعية بالمعنى الثالث فيهما معاً.
ونحتمل أن تكون
فيهما معاً بنحو واحد ـ حيث انّ القدرة الشرعية بالمعنى الثالث قد يكون بنحو عدم
المنافي العقلي وقد يكون بنحو عدم المنافي اللولائي ـ والحكم هنا هو البراءة عن
كلا التكليفين حيث لا يحرز فعلية شيء منهما ، إذ لو كانا معاً بنحو العدم اللولائي
فقد تقدم انّه سوف لا يثبت شيء منهما فتجري البراءة عنهما معاً لولا فرض علم
اجمالي من الخارج.
الصورة
الثانية : أن يحرز كون
القدرة شرعية بالمعنى الثالث في أحدهما المعيّن بمعنى عدم المنافي اللولائي ويشك
في الآخر انّه كذلك أم لا بأن تكون القدرة فيه عقلية أو شرعية بالمعنى الثاني أو
شرعية بالمعنى الثالث بمعنى عدم المنافي الفعلي. وحكم هذه الصورة حكم الصورة
الاولى من جريان البراءة عن التكليفين معاً لاحتمال ارتفاعهما كما إذا كان الآخر
كذلك أيضاً ما لم يفرض علم اجمالي من الخارج ، وهاتان هما الصورتان الاولى
والثانية في الكتاب.
الصورة
الثالثة : نفس الصورة
الاولى من دون احتمال وحدة القدرة الشرعية بالمعنى الثالث بينهما بل إذا كان
أحدهما مشروطاً بالعدم اللولائي فالآخر مشروط بالعدم الفعلي.
وفي هذا الفرض سوف
يعلم اجمالاً فعلية أحد الملاكين والخطابين على الأقل ، ولكن حيث انّه لا يمكن
الاحتياط للتضاد بينهما فيدخل تحت كبرى الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن ، والصحيح
فيه منجزية العلم الإجمالي بالنسبة لحرمة المخالفة القطعية وتساقط الاصول الشرعية
في الطرفين ؛ فلا تجري البراءة عنهما معاً للزوم الترخيص في المخالفة القطعية ،
ولكن تجري البراءة عن إطلاق وجوب كلّ منهما بخصوصه ولا يلزم منه الترخيص في
المخالفة القطعية كما تقدم ؛ فلا تعيين ، والنتيجة التخيير.
الصورة
الرابعة : أن يحرز كون
القدرة شرعية بالمعنى الثالث في أحدهما المعين بمعنى عدم المنافي الفعلي ويشك في
الآخر في كون القدرة فيها عقلية أو شرعية بالمعنى الثاني أو الثالث ، وهنا لا
يحتمل في الآخر القدرة الشرعية بالمعنى الثالث بمعنى عدم المنافي الفعلي للزوم
الدور كما تقدم ؛ فلا محالة يحتمل فيه القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي اللولائي.
وهذا لازمه العلم
اجمالاً بفعلية أحد التكليفين ، امّا المحرز كون القدرة فيه شرعية بمعنى عدم
المنافي الفعلي لو كان الآخر مشروطاً بعدم المنافي اللولائي أو التكليف الآخر لو
كان غير مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث فلا يجوز تركهما معاً ، كما في
موارد الاضطرار إلى طرف لا بعينه ، فهذا ملحق بالصورة الثالثة.
الصورة
الخامسة : أن يحرز كون
القدرة عقلية في أحدهما المعيّن ويشك في
الآخر كونها شرعية
بالمعنى الثالث أو عقلية والنتيجة هنا الاحتياط بنفس البيان المتقدم ، وهذه هي
الصورة الثالثة في الكتاب.
الصورة
السادسة : أن يحرز كون
القدرة شرعية في أحدهما المعيّن بالمعنى الثاني ويشك في الآخر كونها شرعية بالمعنى
الثالث أم لا. وحكم هذه الصورة العلم بفعلية ما احرز فيه ذلك ، والشك في أصل وجوب
الآخر ، بأي معنى كان القدرة الشرعية بالمعنى الثالث المحتمل فيه ، بحيث لو تركهما
معاً علم تفصيلاً بعصيان الأوّل ، فلا يجوز تركهما معاً لكونه مخالفة قطعية
تفصيلية ، ولكن هل يجب فعله أم يجوز اختيار الآخر؟ الصحيح هو التخيير لجريان
البراءة عن وجوب الأوّل على تقدير الاتيان بالثاني أي عن إطلاق وجوبه لحال
الاشتغال بالآخر لاحتمال انّه غير مشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث فلا يحرز
ملاك الأوّل في هذا التقدير ، ومثله ما إذا احتمل كون القدرة فيه عقلية أو شرعية
بالمعنى الثاني.
الصورة
السابعة : أن يعلم بأنّ
القدرة في أحدهما المردد عقلية أو شرعية بالمعنى الثاني ، ويشك في أخذ القدرة
الشرعية بالمعنى الثالث للآخر على اجماله ، وهذا ملحق بالصورة السابقة في الحكم
أيضاً.
وهذا يعني انّه
كلما احتمل أن يكون كلاهما مما اخذت فيه القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي
اللولائي جرت البراءة عن التكليفين معاً سواءً علم بذلك في أحدهما المعيّن أو
المردد أم لا ، وهذا يجمع الصورتين الاولى والثانية.
وكلما لم يحتمل
ذلك في كليهما سواء احتمل في أحدهما فقط أم لا فإن كان أحدهما المعيّن يحرز كون
القدرة فيه عقلية تعين فعله لكونه من الشك في
القدرة على تحصيله
بلا تفويت ملاك معادل له وهو من الشك في القدرة المنجز عقلاً ، وهذه هي الصورة
الثالثة في بيان السيد الشهيد في الكتاب.
وإن لم نحرز كون
القدرة عقلية في أحدهما المعيّن ثبت التخيير دون التعيين ودون جواز تركهما معاً في
تمام الصور والشقوق المتصورة بهذا التقدير.
امّا عدم جواز
تركهما معاً فللعلم بفعلية أحد التكليفين على تقدير تركهما معاً امّا اجمالاً أو
تفصيلاً ، إذ يعلم بحسب الفرض انّ كليهما ليس مشروطاً بالعدم اللولائي الموجب
لارتفاعهما فأحدهما على الأقل فعلي إذا ترك كلا الضدين ، وامّا عدم التعيين فلأنّ
التكليف الفعلي إذا كان مردداً فواضح وإذا كان معيناً كما إذا علمنا بأنّ القدرة
في أحدهما المعيّن شرعية بالمعنى الثاني به وشك في الآخر انها شرعية بالمعنى
الثالث أو عقلية فلجريان البراءة عن وجوبه على تقدير الاشتغال بالآخر إذ لعل
القدرة في الآخر عقلية أو شرعية بحيث يكون الاشتغال به رافعاً لملاك الأوّل.
والسيد الشهيد
كأنّه اقتصر على خصوص هذا الفرض بقوله : « إذا فرض الدوران بين القدرة الشرعية
بالمعنى الثاني والثالث فلا يمكنه تركهما معاً » ، وهو يشمل صورتين أن يعلم بأنّ
القدرة في أحدهما المعيّن شرعيته بالمعنى الثاني ويشك في الآخر انّه كذلك أو يعلم
بأنّ أحدهما اللامعيّن كذلك وهما الصورة السادسة والصورة السابعة.
إلاّ أنّك قد عرفت
وجود صور اخرى عديدة تكون النتيجة فيها التخيير أيضاً.
في بعضها يحتمل
فيه في كلا الطرفين أن تكون القدرة الشرعية فيهما بالمعنى الثالث ـ الصورة الثالثة
والصورة الرابعة ـ وبعضها يكون فيه الدوران في الطرفين بين القدرة العقلية
والشرعية بالمعنى الثالث.
ثمّ ليعلم انّ
المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث وإن كان يثبت فيه ترجيح غير المشروط بها
على المشروط بها إلاّ انّه خارج عن باب التزاحم إذ في مثل هذه الفرضية لا يكون
المشروط بالقدرة الشرعية بهذا المعنى وجوبه فعلياً أصلاً حتى لو ترك الآخر ولهذا
لا يقع الاتيان به امتثالاً أصلاً ، وهذا خارج عن باب التزاحم إذ المفروض فيه
فعلية التكليفين معاً في الجملة بحيث لو جاء بأحدهما كان امتثالاً. وهذا يعني انّ
القدرة الشرعية التي تكون من مرجحات باب التزاحم إنّما هي القدرة الشرعية بالمعنى
الثاني أي ما إذا كان الاشتغال بواجب آخر رافعاً للملاك واثبات هذا المعنى من
القدرة الشرعية من أخذ القدرة أو الاستطاعة في لسان الدليل مشكل جداً بل امّا أن
يكون ظاهره دخل القدرة المقابل للعجز التكويني في الملاك وهو لا ينفع في الترجيح
لحصوله في الواجبين معاً أو يكون ظاهراً في أخذ القدرة الشرعية بالمعنى الثالث وهو
يخرجه عن باب التزاحم المصطلح.
ص ٧٤ قوله : ( وهذا الأمر غير تام إذ
يرد عليه ... ).
كلا الايرادين
إنّما يتمان في الأحكام ذات الملاكات غير المفهومة والمعروفة عند العقلاء
كالملاكات التوقيفية وإلاّ كان إطلاق الملاك لمورد العجز مدلولاً التزامياً لأصل
الخطاب بل قد يدعى ظهور عرفي في كل خطاب شرعي انّه كالخطاب العرفي الذي لا يكون
ملاكه عادة منوطاً بالقدرة ومرفوعاً بالعجز ما لم يقيد الخطاب من قبل المشرع
والمولى بفرض القدرة ، ومثل هذا الظهور ليس ببعيد ، خصوصاً في التكاليف التي
ملاكاتها مأنوسة في الذهنية العقلائية ، امّا في مثل الأموال والفروج والنفوس
ونحوها فمما يقطع باطلاق ملاكاتها وعدم ارتفاعها بالعجز.
وهذا قد يقرب
بعنوان إطلاق وظهور عرفي مقامي وقد يقرب بعنوان ملازمة عرفية بين ثبوت الملاك في
موارد القدرة وثبوتها في مورد العجز خصوصاً الناشىء من الاشتغال بواجب آخر والذي
هو مقصودنا من القدرة العقلية.
ص ٧٦ قوله : ( الثالث ... ).
قد يقال : بأنّ
التأسيسية إنّما تصح فيما إذا كانت راجعة إلى مدلول اللفظ في المقام ، ومدلول
اللفظ وهو الخطاب واحد على كل تقدير ، وامّا الملاك فليس مفاداً للفظ.
والجواب : ما ذكره
بقوله ( وبعبارة اخرى ) والمقصود انّ هنا توجد نكتة مشابهة لنكتة الظهور في
التأسيسية وهي انّه بعد أن كان وجود الملاك والغرض للمولى من وراء خطاباته معلوماً
وواضحاً ، وبعد أن كان التقييد بالقدرة واضحاً ومنكشفاً عرفاً بالقيد اللبي المتصل
كان ذكر التقييد بالقدرة لغواً لولا دخله في الملاك فيحمل على ذلك.
وهذا الجواب لا
يتمّ في مورد توجد نكتة اخرى محتملة لذكر القيد بخلاف الظهور في التأسيسية فإنّه
ظهور عام يتم في تمام الموارد ، والسيد الشهيد ملتفت إلى ذلك بقرينة ما سيذكره في
ترجيح ما ليس له بدل.
ص ٧٨ قوله أوّل
الصفحة : ( ما إذا احرز كون القدرة ... ).
الصحيح انّه في
هذه الصورة يصح التمسك باطلاق الآخر لحال الاشتغال بما تكون القدرة فيه شرعية فذكر
هذا هنا كأنّه توطئة للدخول في ذلك البحث والتفصيل فاللازم أن يقال انّ النتائج
إلى هنا هذه.
ص ٧٨ قوله : ( البيان الأوّل ... ).
ودعوى
: انّ هذا غايته
تقيد هذا الخطاب بعدم الاشتغال بواجب آخر لا الإطلاق في الخطاب الآخر لحال
الاشتغال بهذا الذي هو المطلوب في الترجيح.
مدفوعة
: بأنّ ظاهر
الاشتراط المذكور انّ هذا الخطاب بالنسبة للواجبات الاخرى كغير الواجب للواجب لا
يمكن أن يزاحم إطلاق وجوبه أيضاً.
ص
٧٨ قوله : ( البيان الثاني ويتألف من مقدمتين اولاهما : ... ).
يمكن تقريبه
بنحوين :
١ ـ ما ذكره في
الكتاب من انّ القدرة لو كانت عقلية فيمكن افتراض واجب آخر يكون ملاكه أقل من هذا
فلا يصح التقييد إلاّ إذا كانت القضية خارجية.
وهذا البيان قد
يناقش فيه بأنّ ملاك هذا الواجب لعله أقل الملاكات.
وفيه
: انّ عنوان أقل
الملاكات عنوان اضافي ، فهو فرع النظر إلى الملاكات للواجبات الثابتة بالفعل وليس
عنواناً قابلاً للتشخيص بنحو القضية الحقيقية.
٢ ـ انّ التقييد
المذكور مطلق يشمل الواجب المشروط بالقدرة الشرعية التي يمكن فرضها في القضايا
الحقيقية ، بل قد وقعت خارجاً أيضاً في بعض الواجبات ، وهذا لا يصح إذا كانت
القدرة في الواجب المشروط عقلية فلا محالة لابدّ وأن تكون شرعية.
وهذا هو الذي يرد
عليه الاشكال المذكور في الكتاب مع جوابه.
ص ٨١ قوله : ( الصورة الثانية ... ).
مجموع النتائج
المستخلصة إلى هنا كالتالي :
١ ـ انّ مجرد
التقييد بالقدرة وأخذها في لسان الدليل لا يجدي في إثبات القدرة الشرعية بالمعنى
الثاني والمفيد للترجيح عليه إذ ظاهر القدرة والاستطاعة ما يقابل العجز التكويني
ولا يشمل التعجيز بالاشتغال بالضد الواجب.
٢ ـ إذا قيّد لسان
دليل الخطاب بعدم الاشتغال بواجب آخر أمكن إثبات انّ أي واجب آخر يتقدم عليه
بالبيانات الثلاثة المتقدمة حتى إذا أنكرنا استظهار دخل ذلك في ملاكه على أساس
الظهور في التأسيسية.
٣ ـ إذا كان القيد
المبرز عدم الاشتغال بواجب مساوٍ أو أهم فهنا صور :
إحداها
ـ أن نحرز كون
الواجب ليس بمساوٍ أو أهم بل مرجوح. وهنا يتمسك باطلاق المشروط لاثبات فعلية ملاكه
حال الاشتغال بالمرجوح وانّ القدرة عقلية فيه بالنسبة إلى المرجوح ، ولا يعارض
باطلاق الخطاب الآخر لأنّه لا يصح التمسك به إذ هو من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية لمخصصه اللبي ؛ إذ لعلّ الخطاب المشروط الأهم تكون القدرة فيه عقلية.
نعم ، لو قلنا
بأنّ المقيّد اللبي هو عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم تكون القدرة فيه عقلية
ويكون كل ذلك محرزاً أي معلوماً وقع التعارض بين إطلاق الدليلين ، إذ لعلّ القدرة
في المشروط شرعية فيكون إطلاق المهم نافياً له ومعارضاً مع إطلاق المشروط لحال
الاشتغال بالمهم فنحتاج إلى مرجح في مقام التعارض بين الاطلاقين ولو لزوم لغوية
التقييد في المشروط بعدم الاشتغال
بالمساوي أو الأهم
لو فرض ان القدرة شرعية فيه لكل واجب آخر حتى إذا كان مرجوحاً.
الثانية
ـ أن تحرز المساواة
أو الأهمية في الواجب الآخر وعندئذٍ تنعكس النتيجة ، إذ يحرز تحقيق الشرط فيه
وتقيد المشروط بعدم الاشتغال به فيتم الإطلاق في الواجب الآخر بالبيانات المتقدمة.
الثالثة
ـ أن تحتمل مساواته
أو أهميته وتحتمل مرجوحيته ، وفي مثل ذلك لا يثبت الترجيح لعدم امكان التمسك بشيء
من الاطلاقين لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لهما معاً فيثبت التخيير
بمقتضى الأصل العملي. هذا على مسلك السيد الشهيد.
وأمّا على ما
ذكرناه من أخذ الاحراز في المقيد اللبي صحّ التمسك باطلاق الخطاب غير المشروط دون
المشروط لعدم كون الأوّل من الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي بخلاف الثاني فإنّه
شبهة مصداقية للشرط المأخوذ في موضوعه.
وإن
شئت قلت : ما لم يقيد
لفظاً يكون إطلاق الخطاب بنفسه تصدياً مولوياً لبيان إطلاق الملاك وأهميته ما لم
يعلم بالخلاف ، بخلاف ما إذا جاء في لسانه الشرط اثباتاً.
ص ٨٣ قوله : ( لا يقال : ... ).
المقصود انّه في
صورة كون الواجب الذي له بدل غير مضيق كما لو كان في أوّل الوقت أو وسطه ولم يكن
له ماء آخر إلى آخر الوقت فلو صرفه في التطهير كان الواجب عليه التيمم جزماً
فالبدلية ثابتة في حقه ، إذ ليس بأهون ممن أراق
الماء فعجز
تكويناً عن الماء ، وامّا إذا كان الواجب الذي له بدل مضيقاً فعندئذٍ له زمان واحد
باقٍ امّا يصرفه في الوضوء أو في التيمم وهي بمقدار واحد زماناً ، فإنّه عندئذٍ لا
تكون البدلية ثابتة قبل صرف الماء في التطهير لعدم العجز التكويني بعد إلاّبمضي
وقت يرتفع معه وجوب التيمم أيضاً للتمكن من الصلاة خارج الوقت بالماء قضاءً لعدم
فوريته وعدم العجز الشرعي ما لم تثبت الأهمية.
ولعلّ الأوضح أن
يصاغ البيان بعنوان اشكال على أصل المطلب حاصله : انّ هذا فرع ثبوت البدلية ليمكن
استيفاء ملاكه وهو أوّل الكلام.
ويجاب عليه :
أوّلاً
ـ بثبوت البدلية بعد
صرف الماء في التطهير لتحقق العجز التكويني عن الماء في الوقت الباقي بحسب الفرض.
وهذا لا يتم إذا
كان آخر الوقت بالنحو الذي ذكر في الإشكال.
وثانياً
ـ بتحقق العجز الشرعي
إذا كان التطهير مساوياً ملاكاً.
وليس هذا مرجعه
إلى الترجيح باحتمال الأهمية بل الترجيح باعتبار تحقق كلا الملاكين وعدم التزاحم
بينهما وعدم فوات شيء منهما ، كما هو في ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على
المشروط بالقدرة الشرعية.
ص ٨٨ قوله : ( وهذا التقريب موقوف ... ).
لعلّ الأنسب أن
يقال : إذا اشترطنا أخذ القدرة في الخطابات قيداً ثبت الترجيح بالتقريب الأوّل.
وإذا لم نشترط ذلك
ثبت الترجيح بالتقريب الثاني ومبنى عدم اشتراط القدرة في الخطاب يستلزم أن تكون
القدرة عقلية فيه لا شرعية.
ص ٨٩ قوله : ( والتحقيق ... ).
يمكن بيان هذا المطلب بنحوين
وتقريبين :
١ ـ انّ خطاب
المهم لا يمكن التمسك باطلاقه لحال الاشتغال بالأهم لاحتمال كون القدرة في الأهم
عقلية فيكون من موارد المقيد اللبي لخطاب المهم ، وهذا من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية لمخصّصه بخلاف إطلاق خطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم فإنّه حجة ، إذ
يعلم بخروجه عن المقيد اللبي حتى إذا كانت القدرة في المهم عقلية.
فالحاصل إطلاق
الملاك مستفاد من إطلاق الخطاب كلما كان المقيّد اللبي غير محتمل في تلك الحالة ،
وإطلاق الأهم في المقام كذلك بخلاف إطلاق المهم.
وهذا يرد عليه :
ما تقدم من انّ المقيّد اللبي هو صورة العلم بفعلية ملاك الأهم أو المساوي أي
العلم بكون القدرة فيه عقلية لا الواقع ، ومن هنا لو احتملنا وجوب الضد وكون ملاكه
على تقدير الوجوب أهم صحّ التمسك باطلاق ايجاب المهم المعلوم وجوبه ؛ بل لو كان
الأمر بالمهم مطلقاً ، والأمر بالأهم كان مجملاً من حيث كون القدرة شرعية فيه أم
عقلية أيضاً صحّ التمسك باطلاق الأمر بالمهم لحال الاشتغال بالأهم لأنّه لباً
وروحاً من الشك في وجوب الأهم على تقدير فعل المهم فلعلّ المولى أطلق خطاب المهم ؛
لصرف قدرته إلى ذلك فلا يفوت على المولى غرض أصلاً ؛ فبرهان المقيد اللبي لا يتم
هنا أيضاً.
ومن الواضح انّ
تمامية إطلاق خطاب الأهم وعدمها لا دخل لها في تمامية هذا الإطلاق في المهم.
وهذا هو ما أشكلنا
به فيما سبق ، ونضيف هنا انّه إذا كان النظر في المقيد اللبي إلى الواقع ولم تكن
حدود الملاك سعة وضيقاً ولا أهمية ودرجة منكشفةً بنفس الخطابات ، فكما يكون جعل
الخطاب لحال الاشتغال بالأهم لغواً كذلك جعله لحال الاشتغال بالمهم الذي تكون
القدرة فيه عقلية والقدرة في الأهم شرعية لغو أيضاً ، بل مفوت على المولى الملاك
المهم ، وإذا كانت هذه الخصوصيات في الملاكات لا طريق للمكلف اليها وإنّما تفهم
بالخطابات فلا يمكن أن تؤخذ في موضوعها فكذلك الحال في الأهمية والمهمية.
٢ ـ انّ خطاب
الأهم باطلاقه لحال الاشتغال بالمهم يثبت انّ القدرة فيه عقلية بالقياس إليه
فيتحقق موضوع المقيد اللبي للمهم فلا موضوع لاطلاق المهم فلا شك في عدم إطلاق
الخطاب المهم ليتمسك به.
وقد
يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يتم
إذا كان المقيّد اللبي عدم الاشتغال بالأهم أو المساوي الواقعي أو المحرز ولو
بدليل آخر فعلية ملاكه حين الاشتغال بالآخر ، وامّا إذا قلنا بأنّ المقيد اللبي
خصوص المساوي أو الأهم المعلوم الوجوب وفعلية ملاكه وأنّ إطلاق الخطاب بنفسه ينفي
ولو بالملازمة فعلية ملاك الأهم ، فلا حكومة في البين ؛ إذ يكون إطلاق الأمر
بالمهم لحال الاشتغال بالأهم تاماً أيضاً ونافياً بالملازمة كون القدرة في الأهم
عقلية أي معارضاً مع إطلاق الأهم.
إلاّ أنّ الصحيح
عدم تمامية هذا المبنى وصحة نظرية ورود إطلاق خطاب الأهم على خطاب المهم وعدم
التعارض بينهما كما سيأتي في التعليق على ص ٩٢ من الكتاب فانتظر.
ص ٩٢ قوله : ( وهذا الوجه وإن كان تاماً
كبروياً لكنه موقوف ... ).
بل غير تام حتى
كبروياً ، إذ مجرد العلم بفعلية الملاك لا يكفي للمنع عقلاً ما لم يحرز كون الملاك
بالغاً درجة من الأهمية يحمل المولى على التصدي لتحصيله ، وهذا مشكوك في المقام
بخلاف ما تقدم.
لا
يقال : هنا أيضاً يكون
ملاك محتمل الأهمية مما يعلم تصدي المولى لتحصيله في نفسه وإنّما يشك في امكان
تحصيله من جهة مزاحمته مع ملاك مساوٍ له وعدمه فيكون الشك في إمكان تحصيله بلا
تفويت بمقداره وهو من الشك في القدرة على الامتثال لباً وروحاً الذي يكون مجرى
الاحتياط.
فإنّه
يقال : لا شك في المقام
في عدم إمكان تحصيل ملاك محتمل الأهمية بلا أن يفوت ملاك آخر أي لا شك في عدم
القدرة على الجمع وعدم تفويت شيء من الملاكين وإنّما الشك هنا في أنّ أي الملاكين
أكثر من الآخر.
وإن
شئت قلت : يعلم بفوات
مقدار منه ويشك في وجود مقدار زائد محتمل يفوت ، فهو من الشك في أصل الملاك الزائد
في أحدهما أي من الشك في التكليف لباً وروحاً.
ص ٩٢ قوله : ( والتحقيق ... ).
يمكن
أن يقال : انّ القيد
اللبي إن كان ما يعلم عدم مرجوحيته وفي المقام يعلم عدم مرجوحية ما يحتمل أهميته
فلا يكون التمسك باطلاقه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بخلاف الآخر فيلزم
التعارض في مورد احتمال أهمية كل منهما كما ذكرنا سابقاً.
وإن كان القيد
اللبي مطلق احتمال الأهمية لزم عدم إطلاق الخطاب في مورد احتمال الأهمية في
الطرفين لتحقق القيد فيهما معاً لا لكونه شبهة مصداقية من دون فرق بين كون احتمال
الأهمية في أحدهما أقوى من الآخر أو مساوياً.
وإن كان القيد
واقع المساواة أو الأهمية إلاّ أنّه مع فرض وجود مزية وامتياز في أحدهما يوجب
ارتفاع اللغوية لا بأس بالاطلاق حتى إذا كان الآخر مساوياً أو أهم واقعاً ـ وهذا
هو ظاهر مجموع كلمات السيد الشهيد وحاق مرامه في المقام ـ وعندئذٍ يكون موارد
احتمال الأهمية في كل منهما على حدّ واحد من الشبهة المصداقية لاطلاق كل منهما ،
وفي مورد عدم احتمال أهمية أحدهما أو كون احتمالها أقل من احتمالها في الآخر يكون
الإطلاق تاماً فيما فيه المزية ، فيثبت الترجيح به.
فالجواب : انّ هذا
مما لا يتحمله إطلاق الخطابات الواقعية لأنّ الخطابات الواقعية غير ناظرة إلى
مرحلة الشك في الأهمية والذي هو ملاك للتزاحم الحفظي وروح الحكم الظاهري لا
الواقعي ليقال بأنّ المولى يطلق خطابه في مورد قوّة احتمال الأهمية أو أصل
احتمالها في أحد الطرفين دون الآخر ليحفظ محتمل الأقوائية والأهمية أو يحفظ
الاحتمال الأقوى.
وإن
شئت قلت : انّ برهان
التقييد وملاكه لزوم لغوية الخطاب في حال الاشتغال بضدٍّ واجب مساوي من حيث عدم
وجود ملاك واقعي فيه وهذا باقٍ حتى في مورد وجود مزية ظاهرية وبلحاظ قوّة احتمال
الأهمية أو أصله فتكون الشبهة مصداقية ولا يندفع ذلك إلاّبحمل إطلاق الخطابات على
ملاحظة مرحلة الحفظ والحكم الظاهري وعدم اللغوية بلحاظه وهو مع كونه خلاف ظاهر
أدلّة
الأحكام الواقعية
يلزم عدم إطلاق الخطابين معاً في مورد احتمال الأهمية بدرجة واحدة فيهما لا كونه
من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالجمع بين المطلبين كما هو لازم كلمات
السيد الشهيد جمع بين لحاظين ونظرين متهافتين في معنى اللغوية المأخوذة قيداً
لبياً في الخطابات.
هذا ، مضافاً إلى
ما تقدم من انّ حدود أهمية الملاك كأصله يفهم من إطلاق الخطابات ولا يكون قيداً
مأخوذاً فيه لباً فلا يكون المقيّد اللبي مخرجاً إلاّصورة العلم بأهمية الضد أو
مساواته حيث يعلم بلغوية إطلاق الخطاب عندئذٍ لحال الاشتغال بالضد المعلوم مساواته
أو أهميته تفصيلاً أو اجمالاً ، فيكون الترجيح باحتمال الأهمية في أحدهما دون
الآخر تاماً ، لأنّه من العلم الإجمالي بأهمية أو مساواته وهو كالترجيح بالعلم
بالأهمية أو المساواة تفصيلاً مستلزم لسقوط إطلاق الآخر ولغويته ، فلا يكون تعارض
بين اطلاقيهما ، بخلاف صورة احتمال الأهمية في كل منهما ولو كان في أحدهما أضعف
منه في الآخر. وهذا أيضاً لابد من تقييده ـ كما تقدم ـ بما إذا احرز كون القدرة في
الأهم عقلية لا شرعية ، وإلاّ كان مقتضى إطلاق المهم نفي ذلك فيقع التعارض بين
الاطلاقين أيضاً.
وبهذا يثبت وجه عدم
تمامية الترجيح بقوة احتمال الأهمية.
هذا قصارى ما يمكن
أن يذكر في قبال الترجيح المذكور.
إلاّ
أنّ التحقيق امكان دفع كل هذه
الاشكالات والتي ترجع إلى اشكالين ، وتوضيح ذلك :
انّ قيد القدرة
مرجعه إلى قيد عدم اللغوية العرفية الناشئة من ظهور الخطاب في التحريك والداعوية
كما ذكر الميرزا 1 ، لا القبح أو الاستحالة العقلية.
وهذه اللغوية لا
فرق فيها بين جعل خطاب واحد على الفعل غير المقدور ، أي اطلاقه لحالات العجز
التكويني أو الجمع بين الضدين وبين جعل خطابين بكل من الضدين مطلقين ، فإنّهما
أيضاً عرفاً فيهما نفس المحذور الاثباتي الذي يكون بمثابة المقيدات المتصلة اللبية
، نظير ما نقوله في الترخيص في المخالفة القطعية في الطرفين ، والذي يكون المحذور
في المجموع لا في كل منهما بخصوصه.
وعندئذٍ لابد من
فرض تحديد هذا المقيّد اللبي عرفاً في موارد وجود خطابين بكل من الضدين فيقال بأنّ
العرف لا اشكال في انّه يرى اجمال اطلاقي الخطابين فيما إذا كان كل منهما على حدّ
واحد من حيث كون القدرة فيهما عقلية ومن حيث درجة احتمال الأهمية في كل منهما من
جهة انّ نسبة ذلك المقيد اللبي اليهما على حد واحد نظير موارد الترخيص في المخالفة
في طرفي العلم الإجمالي ، وهذا قد نعبر عنه بالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية
للمقيد اللبي المتصل لأنّ ذلك القيد إنّما هو اللغوية وهي متحققة في أحد الاطلاقين
لا على التعيين كما انّه لا اشكال في انّ العرف يرى لغوية إطلاق الخطاب لحال
الاشتغال بضد ثابت وجوبه وملاكه غير مشروط بالقدرة الشرعية ومعلوم المساواة أو
الأهمية تفصيلاً أو اجمالاً ـ أي عدم مرجوحيته على كل حال ـ.
وبهذا يثبت
الترجيح بمعلوم الأهمية ومحتملها في أحد الطرفين دون الآخر مع فرض احراز كون
القدرة فيه عقلية.
يبقى مطلبان :
أحدهما
ـ الترجيح بقوة
احتمال الأهمية.
والآخر
ـ نفي التعارض بين
إطلاق المهم وإطلاق الأهم الذي لا يحرز من الخارج انّ القدرة فيه عقلية.
وكلاهما يثبتان
بمصادرة اضافية عرفية.
أمّا
الأوّل : فبدعوى : انّ العرف لا يتعامل مع قيد اللغوية كما يتعامل مع القيود الاخرى الواقعية ،
أي يكتفي في رفع اليد عن اللغوية وبالتالي حفظ الإطلاق وجود أدنى مزية ولو عبر
عنها بالظاهرية بحسب مصطلحات الاصول ، ومنها ما أشار إليه السيد الشهيد 1 من حفظ ما يحتمل
أهميته بدرجة أكبر ، فيكون المقيد اللبي هو الاشتغال بواجب فيه احتمال أهمية مساوٍ
أو أكثر من احتمال أهمية ذلك الواجب لا ما إذا كان احتمال أهميته بدرجة أقل فضلاً
عما إذا لم يكن فيه احتمال الأهمية.
وإن
شئت قلت : انّ مقتضى
الإطلاق هو فعلية الحكم والوجوب لكل من الضدين مطلقاً لولا ذلك المقيّد اللبي
المبني على ظهور الخطابات في الباعثية والمحركية والتي لا تعقل إلى الضدين معاً
فيكون لغواً لا محالة ، وحيث انّ اللغوية تكون في مجموع الأمرين المطلقين لا كل
واحد منهما بخصوصه فيعينها العرف في ما ليس له مزية في قبال ما فيه مزية ويكفي
فيها قوة احتمال الأهمية ، وهذه المزية وإن كانت في درجة الكشف والاحتمال عن
الأهمية إلاّ انّه لا يجعل الحكم الثابت به ظاهرياً بل واقعي لأنّ الملاك فعلي
واقعاً وليس من أجل الحفاظ على الملاك في مورد آخر كما في الحكم الظاهري نظير ما
إذا قيل ابتداءً باطلاق الخطابات لحالة العجز ووجوب كلا الضدين وما يكون خلاف ظاهر
الخطابات الواقعية أن يكون الخطاب ظاهرياً أي ليس وراءه ملاك نفسي لا مثل المقام ،
وهذه نكتة ذوقية عرفية قابلة للقبول.
وأمّا
الثاني : فبالفرق بين
دلالة الخطاب على فعلية الملاك وكون القدرة فيه عقلية لا شرعية وبين دلالته على
عدم المقيد اللبي وهو اللغوية وانّ الضد المزاحم ليس فيه ملاك على تقدير الاشتغال
بالآخر ، فإنّ الأوّل مدلول نفس الخطاب بحيث يكون رفع اليد عنه تقييداً وتخطئة
للاطلاق لا رفعاً لموضوعه بخلاف العكس.
وهذا هو معنى ما
ذكرناه في تقريب ما تقدم من انّ إطلاق الخطاب معلوم الأهمية لاثبات كون القدرة فيه
عقلية لا شرعية ، أي انّ ملاكه فعلي حين الاشتغال بالآخر يحكم على إطلاق خطاب
المهم لأنّه يحرز تحقق المقيد اللبي فيه أي يكون رافعاً لموضوع اطلاقه فيستحيل أن
يكون إطلاق المهم معارضاً معه ، والموضوع وإن لم يكن هو الواقع ـ أي واقع عدم
الاشتغال بالضد الواجب الأهم ـ بل الواصل والمعلوم إلاّ أنّ الوصول أيضاً يتحقق
بنفس إطلاق الأهم ، فالورود لاطلاق الأهم على المهم تام من هذه الناحية فلا إشكال.
وبهذا يتبيّن صحّة
ما ذهب إليه السيد الشهيد 1 من نظرية الورود بين إطلاق خطاب الأهم والمهم فتدبر فإنّه
حقيق به.
ص ٩٧ قوله : ( ١ ـ التمسك باطلاق الخطاب
... ).
قد يناقش في هذا الإطلاق :
تارةً
: بأنّ الخطابات
ليست في مقام البيان إلاّمن ناحية أصل الوجوب لا درجة أهميتها بالقياس إلى
الواجبات الاخرى.
واخرى
: بأنّه من التمسك
بالعام بالشبهة المصداقية للمقيد اللبي الذي هو عدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي
أو الأهم ، وبهذا أخرجنا باب التزاحم عن
التعارض ، وإلاّ
لدخل فيه ووقع التعارض بين اطلاقي الخطابين المتزاحمين في موارد احتمال أهمية كلّ
منهما.
والتحقيق عدم
تمامية كلا الاشكالين.
أمّا
الأوّل : فلأنّ الإطلاق
المذكور لا يتوقف على أن يكون الخطاب متعرضاً للمقايسة والمقارنة بين الواجبات بل
يكفي فيه أن يكون في مقام بيان إطلاق الوجوب للمشتغل بالضد المنافي معه ، سواءً
كان واجباً أم لا ، ولازمه عندئذٍ انّ هذا أهم لو كان الضد واجباً وهذا الإطلاق لا
اشكال فيه لأنّه مقتضى الإطلاق الأحوالي لمدلول الهيئة والايجاب ، ومن هنا لا يرفع
اليد عن الوجوب ولا تجري البراءة عنه إذا شك في أصل الوجوب عند الاشتغال بالضد.
اللهم إلاّ أن
يقال : بأنّ هذا الإطلاق ليس من جهة الأهمية والمقايسة مع الواجبات الاخرى بل من
جهة اخرى وهي عدم وجود مانع عقلي ولا شرعي.
وأمّا
الثاني : فبالنقض أوّلاً ـ بموارد الشك في وجوب الضد فإنّه سوف يأتي عن السيد الشهيد في الأبحاث القادمة
وهو مسلم فقهياً أيضاً انّه يصح التمسك باطلاق وجوب أحد المتزاحمين إذا كان الآخر
غير منجز ولو كان هو الأهم بل ولو قلنا باستحالة الترتب ، مع انّه أيضاً شبهة
مصداقية للمقيّد اللبي المذكور.
وثانياً
ـ بالحلّ ، وحاصله :
أنّ المقيّد اللبي ليس هو واقع الاشتغال بالواجب المساوي أو الأهم بل الواصل وجوبه
ومساواته أو أهميته كذلك ولو بمثل الإطلاق في دليله ، وهذا لازمه انّه مع تمامية
مقتضي الإطلاق في كلا الخطابين في نفسه يصبحان مجملين لا محالة لأنّ المقيّد اللبي
المذكور وهو استهجان أو لغوية أن يجعل المولى الحكم والالزام نحو غير المقدور وهو
كلا الضدين نسبته
اليهما على حد
واحد فيقع التعارض والاجمال بين اطلاقي الدليلين من هذه الناحية ، ولكن لو فرض عدم
تمامية مقتضي الإطلاق في أحدهما وبالتالي عدم وصوله أمكن التمسك باطلاق الآخر لو
كان مقتضيه تاماً ، وهذا تماماً نظير ما نقوله في باب التمسك باطلاق أدلّة الاصول
العملية الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي حيث انّه لو كان مقتضيه تاماً في
الطرفين وقع التعارض بينهما ، وإلاّ بأن لم يتم مقتضي الأصل الترخيصي في أحد
الطرفين صحّ التمسك باطلاقه في الطرف الآخر.
ومنه يعرف الجواب
على النقض بدخول باب التزاحم في باب التعارض إذا فرض احتمال الأهمية في كل منهما
وكان دليليهما لفظيين معاً. إذ لو اريد بالتعارض ما يعمّ التعارض في أدلّة الاصول
الترخيصية في طرفي العلم الإجمالي أي مجرد التنافي في الحجّية فهذا نسلم به في
المقام ، إلاّ انّه ليس من التعارض الاصطلاحي الذي مرجعه إلى التكاذب بين الدليلين
، ولهذا لا يطبق عليهما قواعد الترجيح للدلالة الأقوى أو السند كذلك بل هذا المعنى
ينسجم مع اجمال الدلالة وكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وإن اريد لزوم
التعارض بين إطلاق كل منهما حيث انّه باثبات الوجوب التعييني في كل طرف يدل
بالملازمة على عدم الوجوب المطلق التعييني للآخر فيقع بينهما تكاذب بالعرض.
فهذا فرع أن يكون
عنوان القيد واقعياً كما إذا كان القيد عدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو
الأهم واقعاً لا ما إذا كان القيد هو اللغوية المتقوّمة بوصول أو تمامية مقتضي
الوصول في كل من الواجبين المتزاحمين ، وهذه النكتة حيث
انّ نسبتها إلى
الاطلاقين على حدّ واحد فيؤدي إلى اجمالهما عرفاً وكون الشك في تحقق القيد اللبي
لكل منهما الذي هو معنى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمقيد ، فتدبر جيداً
فإنّه حقيق به.
ص ١٠٣ قوله : ( الاولى ... ).
يرد
عليه : أوّلاً ـ انّ هذا ليس ترجيحاً بالأسبقية بل مرجعه إلى انّ الواجب الأسبق القدرة فيه
عقلية بالنسبة للواجب الآخر لأنّ الرافع له الاشتغال والتلبس بالفعل أو في زمان
متقدم بواجب آخر لا متأخر.
وثانياً
ـ انّ هذا المعنى من
القدرة الشرعية حيث انها ليست عرفية وإنّما العرفي عدم دخل القدرة في الملاك فلا
معنى لافتراض انّ العرف يستظهر هذا المعنى من الاشتغال بواجب آخر ، إذ الاشتغال
بمقدمات الواجب الآخر وحفظ القدرة له أيضاً اشتغال به ، اللهم إلاّ إذا فرض أخذ ما
يدل لفظاً على لزوم فعلية الاشتغال بنفس الواجب وهذا كلّه فرض يمكن افتراض خلافه.
ص ١٠٧ قوله : ( وهكذا يتضح ... ).
حيث ظهر أنّ كون
القدرة شرعية وكون المكلف ليس له إلاّقدرة واحدة لا يستلزم أن يكون هناك ملاك واحد
إلاّفي صورة الامتثال لا صورة تركهما معاً ، فلا وجه لاستكشاف وحدة الأمر والتخيير
الشرعي ـ بالمصطلح المقصود هنا ـ كما ظهر أنّ في موارد تعدد الملاك عند تركهما
معاً إذا كانت القدرة عقلية لا تعدد للعقوبة ، ولو فرض صياغة الوجوب على نحو
التخيير الشرعي.
ثمّ انّه كان
ينبغي البحث هنا عن انّه هل يثبت تعدد العقوبة والعصيان فيما إذا شك ولم يحرز كون
القدرة شرعية في الواجبين أو عقلية بعد أن كان
مقتضى الدليل
اثباتاً التخيير العقلي وثبوت وجوبين مشروطين وكان ذلك معقولاً ثبوتاً سواء كانت
القدرة عقلية أو شرعية ، فإنّه عندئذٍ سوف يشك المكلف انّه لو تركهما معاً هل فوّت
على المولى ملاكين لزوميين أو ملاكاً واحداً والآخر فائت عليه قهراً ، وعلى كلّ
حال فيمكنه أن يجري البراءة عن تفويت أكثر من ملاك فعلي واحد.
هذا ولكن الصحيح
تعدد العصيان والعقوبة ما لم يحرز كون القدرة عقلية أو شرعية بنحو يكون أحد
الملاكين فعلياً لا أكثر ، لأنّ البراءة تجري عن الوجوب لا عن التفويت والوجوب
متعدد بحسب الفرض ومحتمل كونه عن ملاكين فعليين يفوّتان معاً بترك المكلّف لهما
معاً فإنّ احتمال أن يكون أحد الملاكين فائتاً على كل حال لا يكون مؤمناً عنه ؛
لأنّه من الشك في القدرة على عدم التفويت والامتثال وهو منجز عقلاً فيكون المكلف
في فرض تركهما امّا مفوتاً لملاكين أو مفوتاً لملاك ومتجرّياً بالنسبة لتفويت
الملاك الآخر.
ص ١٠٩ قوله : ( التنبيه الأوّل : ... ).
حاصل كلامه 1
يمكن أن يبيّن بما يلي :
انّ عدم التعارض
في موارد وجود ثالث للضدين الدائميين امّا أن يكون على أساس كون التمسك باطلاق كل
واجب لحال الاشتغال بالآخر تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية لمقيده اللبي أو على
أساس انّ الخطابات ليست في مقام البيان من ناحية المقايسة مع سائر الواجبات وأهمية
ملاكاتها عن غيرها ، وكلاهما لا يتمّان في المقام.
أمّا الثاني :
فلأنّ كون التضاد دائمياً يجعل الأمر بأحدهما في مقام البيان من
تلك الناحية لأنّه
إذا كان ملاك الضد أهم أو مساوٍ لم يكن أمر به إلاّمشروطاً بترك الآخر لابتلاء
المكلف بهذا التزاحم دائماً.
وأمّا الأوّل :
فلأنّ هذا التزاحم الدائمي بنفسه يصلح على أن يكون قرينة على انّ المولى بنفسه
بصدد احراز قيد الأهمية فيما أمر به بنحو القضية الخارجية ولا يستلزم مخالفة
الظهور في جعل الخطابات على نهج القضايا الحقيقية.
والانصاف إمكان
المنع عن كلتا النكتتين ، إذ دائمية التضاد لا تستلزم دائمية وجود مانع شرعي في
الضد ، إذ قد لا يكون واصلاً إلى المكلّف أصل وجوبه ، فلو قبلنا أصل دعوى عدم
إطلاق الخطابات الأولية لحال الابتلاء بالمزاحم الشرعي تمّ هنا أيضاً ، وإن كانت
تماميته في التضاد غير الدائمي أوضح.
وأمّا الظهور في
تصدي المولى لاحراز قيد الأهمية فقد عرفت انّه مقتضى إطلاق كل خطاب الأحوالي حتى
في التضاد الاتفاقي ، غاية الأمر حيث انّ المقيّد اللبي هو اللغوية وعدم وجود واجب
آخر محتمل المساواة والأهمية بلا مزية حتى من حيث درجة الوصول وحيث انّ نسبة هذا
إلى كلا الواجبين على حدّ واحد فيجمل الإطلاقان معاً لا محالة لا أنّه يقع التكاذب
والتعارض بينهما.
ولعلّ الشاهد على
هذا وجدانية عدم ترجيح أحد الخطابين المتزاحمين على الآخر في التزاحم الدائمي
بالمرجحات الدلالية ، بل يتعامل معهما تعامل المتزاحمين اتفاقاً من حيث الترجيح
بالأهمية ولا يستكشف الأهمية بكون دليله بالعموم مثلاً أو أقوى وأظهر من الآخر أو
كونه موافقاً للكتاب أو غير ذلك.
١١٣ قوله : (
التحقيق ... ).
المقصود انّ
الميرزا 1 تارة : يريد المنع عن الترتب وبالتالي صحّة الوضوء عن طريق احراز دخل القدرة
في الملاك من أخذها في لسان آية الوضوء على أساس ما تقدم من الظهور في التأسيسية
أو المولوية.
واخرى : يريد
المنع عن الصحّة لمجيىء قيد القدرة في لسان الدليل ولو لم نستظهر منه دخلها في
الملاك فإنّه يكفي مجيئه في لسان الخطاب لعدم امكان احراز إطلاق الملاك لموارد عدم
القدرة لا باطلاق المادة ولا بالدلالة الالتزامية ومع عدم إمكان إحراز إطلاق
الملاك لا يمكن اثبات الأمر الترتبي والصحة ، فهذان منهجان.
أمّا الأوّل فيرد
عليه : بطلان المبنى كما ذكر في الكتاب ، وبطلان البناء لما ذكر فيه أيضاً من
الاشكالين زائداً عليه انّ القدرة المأخوذة في الآية ليست بمعنى عدم الأمر بالخلاف
بل بمعنى القدرة العرفية على العمل المحفوظة حتى مع وجود أمر شرعي بالخلاف.
وأمّا الثاني فيرد
عليه : ما في الكتاب من تمامية إطلاق المادة لمحمولها الثاني ما لم يرد القيد في
مادة الأمر ولم يرد هنا. ومن تمامية الدلالة الالتزامية لكون التفصيل بلحاظ مرحلة
الامتثال لا الايجاب أي انّ آية الوضوء بصدد بيان انّ من لم يتمكن من استعمال الماء
فعمله ووظيفته التيمم لا الوضوء ؛ ففرق بين أن يقيد الأمر بالوضوء بالقدرة وبين أن
يقول غير المتمكن من الوضوء واستعمال الماء عمله التيمم ، فإنّه ليس تقييداً
لايجاب الوضوء إلاّبالقيد اللبي العام والمفروض كونه منفصلاً.
ومن هنا ينسجم هذا
التفصيل في الوظيفة والامتثال مع كون الأمر واحداً بالجامع بين الوضوء مع وجدان
الماء والتيمم مع فقدانه مع بقاء الأمر على اطلاقه حتى لحال العجز إلاّمن حيث
القيد اللبي والذي لا يثلم الدلالة الالتزامية بحسب الفرض.
كما يرد : أنّ
القدرة لو فرض أخذها بنحو تنثلم الدلالتان على إطلاق الملاك فهذا إنّما يمنع عن
الأمر الترتبي إذا كان بمعنى عدم الأمر بالخلاف لا بمعنى عدم العجز التكويني أو
عدم الاشتغال بالضد لأنّهما محققان على تقدير ترك الواجب الآخر فيتم إطلاق الأمر
بالوضوء لا محالة خطاباً وملاكاً. واستفادة ارادة عدم الأمر بالخلاف من مجرد عطف
المرض على السفر واضح البطلان.
ثمّ انّ الاشكال
على الفرضين باطلاق الأمر الاستحبابي قابل للمنع إذ لا إطلاق في رواية « الوضوء
على الوضوء نور على نور » من ناحية مورد تشريع الوضوء ، فيحمل على ما هو المشرع في
الآية فلو فرض كون القدرة فيها شرعية كان كذلك بلحاظ الوضوء المستحب أيضاً.
ص ١٢٠ قوله : ( الأوّل ـ انّ حفظ القدرة
أمر وجودي ... ).
لو كان وجوبه
بدليل شرعي لفظي أمكنت هذه الدعوى ، وامّا حيث انّ وجوبه من باب الحكم التبعي
التخييري أو النفسي الطريقي بلحاظ منجزية الأمر بالأهم فالعقل يحكم بالمنع عن فعل
كل ما يكون مفوتاً للقدرة ، وهو منطبق على نفس فعل الأهم أو ما يكون مضاداً معه
فيكون حراماً بحرمة غيرية أو طريقية فيلزم محذور الاجتماع ؛ والظاهر انّ حفظ
القدرة لا يراد منه أمر وجودي ، وإلاّ كان كالضد الآخر من حيث لزوم حفظ القدرة له.
فالترتب غير معقول
بناءً على هذا التقدير.
ويمكن الإشكال
عليه : بأنّ عدم حفظ القدرة على الأهم لا يكون مساوقاً دائماً مع استحالة الاتيان
بالمهم ، إذ قد يكون شيء ضداً للأهم دون المهم.
ص ١٢٣ قوله : ( نعم إذا كان ترك
الاشتغال بالأهم من شرائط الاتصاف ... ).
قد
يقال : باستحالة ذلك في
باب الحرمة إمّا لما تقدم في بحث الواجب المشروط من رجوع قيود الحكم بحسب عالم روح
الحكم لا الجعل والاعتبار أي عالم الحب والكراهة إلى المتعلق وإلاّ لاستحال فعلية
الحب والبغض فلا محالة ترجع الحرمة المشروطة إلى بغض المقيّد والمجموع فيكون البغض
فعلياً والمبغوض الحصة المقيدة بترك الواجب ولا مجال لاجراء الإطلاق في الهيئة
بلحاظ عالم الجعل مع كون شرط الاتصاف غير معقول بحسب عالم روح الحكم.
وامّا ببيان انّ
دخل ترك الواجب الأهم في الاتصاف معناه مانعية فعله عن الاتصاف ومن الواضح انّ فعل
الأهم يستحيل أن يجتمع مع الحصة غير المقرونة للواجب الأهم فكيف يمكن أن يكون
مانعاً عن اتصافه بالمفسدة.
ويمكن
الجواب : أمّا على الأوّل
فبأنّه تارة : عندما يلاحظ المولى الحصة الموصلة من الغصب إلى الانقاذ والحصة غير
الموصلة منه فيرى الأوّل غير مبغوض والثاني مبغوضاً فهذا معناه انّ ترك الانقاذ
ليس من شرائط الاتصاف ؛ واخرى : يلاحظ انّ فعل المكلف لذلك الواجب يوجب ارتفاع
موضوع الضرر والمفسدة من المقدمة بحيث لو فرض محالاً امكان الجمع بين الحصة غير
الموصلة منها مع الواجب لما كان مبغوضاً أيضاً فهنا لا محالة يكون ترك الواجب
من شرائط الاتصاف.
نعم ، قد لا تكون
فائدة في هذا التقييد بلحاظ حرمة الحصة غير الموصلة ، وإنّما فائدته بلحاظ الحصة
الموصلة ، حيث قد يقال إذا استظهر من الاشتراط انّ ترك الواجب من شرائط الاتصاف
استظهر عدم تحقق ملاك الحرمة في الحصة الموصلة أيضاً بخلاف ما إذا لم يكن اشتراط.
ويجاب عن الثاني ـ
بأنّ ترك الواجب قد يكون شرطاً للاتصاف بالمفسدة فلا يتوقف على كون الواجب مانعاً
، وهذا واضح.
ص ١٤٠ قوله : ( اولهما ... ).
ولا يمكن أن يناقش
فيه : بأنّ هذا وحده لا يكفي لاستظهار كون القدرة شرعية لا عقلية ، أي انّ الملاك
لوجوب الوفاء مرتفع مع العجز لأنّ ذلك بنكتة اثباتية مخصوصة بما إذا وردت القدرة
في لسان دليل وجوب الوفاء وإن كان المنذور هو الحصة المقدورة.
لأنّه
يجاب : بأنّ المقصود انّ
المنذور إذا كان خصوص الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً فلا موضوع للنذر مع عدم القدرة
، ومعه فلا ملاك لوجوب الوفاء لعدم تعقل الوفاء ولو فرض ملاك للعمل فذاك غير مربوط
بوجوب الوفاء ، وهذا واضح.
ص ١٤١ قوله : ( الثاني ... ).
هذا الوجه ينبغي
جعله مبنىً لتفصيل السيد في العروة ، حيث فصّل بين تقدّم الاستطاعة على النذر
وبالعكس ففي الأوّل يحكم بتقدم الحج وفي الثاني بتقدم
النذر ؛ لأنّ
القدرة فيهما معاً شرعية يرتفع اللاحق منهما بسبق وجوب الآخر عليه.
نعم ، إذا قيل
بأنّ وجوب الوفاء بالنذر لا يصبح فعلياً إلاّحين تحقق زمان الأداء كان هذا وجهاً
لتقدم الحج مطلقاً ولو لثبوت فعلية وجوب الخروج إليه من زمان خروج الرفقة عند تحقق
الاستطاعة على كل حال.
والجواب عندئذٍ :
انّ القدرة إذا فرضت عقلية فيها فهذا يوجب عدم الترجيح بسبق أحدهما على الآخر كما
تقدم ، وإذا فرض انها شرعية فيهما بالمعنى الثاني وهو عدم الاشتغال بواجب آخر فهذا
أيضاً لا يوجب الترجيح بالأسبقية عقلاً ولا عرفاً ، إلاّ إذا فرض تقدم الواجب لا
الوجوب كما لا يخفى وجهه ، وفي المقام الواجبان متزامنان بلحاظ الواجب النفسي.
نعم ، الخروج واجب
متقدم ، إلاّ انّه :
أوّلاً : ليس
واجباً شرعياً بل عقلي ، والخطابات الواردة فيه محمولة على ذلك.
وثانياً : ربما
يفترض وجوب الخروج للزيارة أيضاً قبل زمان عرفة مقدمة لمن يكون بعيداً عن كربلاء
وقريباً من مكة فنسبة المقدمات المفوتة اليهما على حد واحد.
وثالثاً : انّه
مستحيل في نفسه ، إذ وجوب المقدمات المفوتة قبل الوقت ولو بالأدلة الشرعية فرع
ثبوت وجوب الحج على المكلف في وقته وهو فرع عدم الاشتغال بواجب آخر وهو الوفاء
بالنذر فيستحيل أن يكون هذا الواجب
المتوقف وجوبه على
عدم الاشتغال بالنذر رافعاً لوجوبه أو مطلقاً من ناحية لأنّه دور وتهافت.
وإن
شئت قلت : انّ تلك النكتة
العرفية للترجيح بالأسبقية لا تتم هنا طالما الواجبان النفسيان متزامنين ولو فرض
وجوب الخروج شرعاً ؛ لأنّه وجوب منوط حتى بحسب الروايات بما إذا كان الحج واجباً
في زمانه المتأخر.
وإن فرض انّ
القدرة شرعية بالمعنى الثالث فيهما معاً فإن قلنا بامكان الواجب المعلّق تمّ تفصيل
السيد في العروة من الترجيح بأسبقهما ايجاباً بحسب المتفاهم عرفاً من أخذ القدرة
الشرعية بهذا المعنى في موضوع الحكم. وإن قلنا باستحالته لم يتمّ التفصيل حتى إذا
قلنا بوجوب الخروج شرعاً لأنّ دليله كما أشرنا ظاهر في الطولية وانّ وجوب الخروج
فرع فعلية وجوب الحج في وقته ، فإذا كان مرفوعاً بمعجز في عرضه في ذلك الزمان فلا
موضوع لوجوب الخروج حتى شرعاً ويستحيل مثل هذا الوجوب الطولي أن يرفع وجوب الوفاء
بالنذر الرافع لموضوع وجوب الخروج فإنّه دور وتهافت.
ص ١٤٦ قوله : ( وهذا البيان أيضاً غير
تام ... ).
أورد عليه السيد
الشهيد بايرادين ؛ وقد يناقش في كليهما :
أمّا
الايراد الثاني : فيناقش فيه تارة : بما ذكرناه سابقاً ، وحاصله : « انّ النهي عن المقيد
المركب من الطبيعة والتقيد يدلّ على انتفاء الملاك في المركب ولازم انتفاء الملاك
في المركب انتفاؤه في جزئه أيضاً وهو الطبيعة ، والمفروض الأمر بالطبيعة الكاشف عن
وجود ملاك فيها فيقع التعارض بين الأمر والنهي بلحاظ الملاك ».
والجواب
: إن اريد من انتفاء
الملاك في المركب وجود المفسدة في المركب فهذا لا يقتضي أن يكون المفسد في جزء
المركب كما هو واضح ، وإن اريد انتفاء الملاك في نقيض ما هو المطلوب في النهي وهو
الترك ، أي انتفاء الملاك والمصلحة في الفعل ، فالنقيض بترك المركب إنّما هو
المركب بما هو مركب أي التركيب والاجتماع. ومن الواضح انّه يمكن أن لا يكون في
حيثية الاجتماع ملاك رغم وجود الملاك في أحد أجزائه فإنّه ملاك في الجزء لا في
الاجتماع.
نعم ، هذا الكلام
لا يتمّ إذا كان الأمر شمولياً كما لا يخفى وجهه.
واخرى : بما هو
الصحيح من أنّ إطلاق دليل الأمر بالطبيعة يقتضي عدم وجود ملاك في ترك الطبيعة
المقيدة المنهي عنها ، فإطلاق أعتق رقبة دال على عدم وجود الملاك في ترك عتق
الكافرة بما هو عتق الكافرة لأنّه لو كان فيه ملاك لكان مقتضى القاعدة تخصيص الأمر
بالعتق بالرقبة المؤمنة ، فاطلاق الأمر بالطبيعة دليل على عدم الملاك في ترك تلك
الحصة.
وأمّا
الايراد : فقد يشكل عليه
: بأنّ للمحقق العراقي 1 أن يقول : انّ مقصودي من الملاك هو الملاك المؤثر في ايجاد
المحبوبية والمبغوضية ، وهذا في الضدّ الخاص مثل صلّ وأزل ممكن بخلاف الضدّ العام
مثل صلّ ولا تصلّ.
والجواب
: أنّه لا موجب
لأخذ الملاك المؤثر في المحبوبية والمبغوضية في موضوع البحث بل الملاك غير المؤثر
أيضاً يكفي لو ثبت بالدلالة الالتزامية لاسقاط الأمر وتحقق الامتثال.
ثمّ انّ هنا
اشكالاً آخر على أصل اثبات الملاك بناءً على عدم التبعية وهو
بحسب الحقيقة يرجع
إلى اثبات التعارض في الدلالة على أصل الملاك حتى بناءً على عدم التبعية بين
الدلالتين ، وحاصله : انّ دليل صلّ له مدلولان التزاميان أحدهما الملاك في الصلاة
والآخر قضية شرطية هي انّه إذا كان في ترك الصلاة ملاك فليس بغالب على ملاك الصلاة
وإلاّ لم يكن يؤمر بها ، ودليل لا تصلّ يدلّ على انتفاء أحد المدلولين اجمالاً
لأنّه على تقدير صدق ( لا تصلّ ) نعلم اجمالاً امّا لا ملاك في الصلاة أو إذا كان
فيها ملاك فهو مغلوب لملاك ترك الصلاة فتسري المعارضة للدلالتين الالتزاميتين
معاً.
وبهذا أيضاً يمكن
ردّ أصل تقريب اثبات الملاك في مورد الاجتماع أو الضدين الخاصين بالدلالة
الالتزامية لأنّ مقتضى إطلاق الأمر بناءً على الامتناع في الأوّل واستحالة الترتب
في الثاني نفي احدى القضيتين فتسري المعارضة إلى الدلالة الالتزامية على أصل
الملاك أيضاً.
وقد أجبنا على هذا
البيان في مباحث اجتماع الأمر والنهي في التعليق على هامش الصفحة (٦٣) من الجزء
الثالث ، فراجع.
ص ١٥٩ قوله : ( ٢ ـ ما إذا فرض احراز
الملاكين ... ).
يمكن أن يلاحظ
عليه : بأنّه بعد فرض التعارض بنحو التباين بين الخطابين لا تثبت الدلالة
الالتزامية لاطلاق خطاب ( تصدق على كل فقير ) للفقير غير القادر لأنّ حجيتها فرع حجّية
أصل الخطاب والمفروض سريان التعارض إليه الموجب لسقوط السند عن الحجّية بحسب الفرض
ومعه لا تصل النوبة إلى حجّية الدلالة الالتزامية حتى بناءً على عدم التبعية فإنّ
عدم التبعية بلحاظ حجّية الظهور لا سند أصل الدلالة كما هو واضح.
ص ١٦٠ قوله : ( أوّلاً : انّ اخراج باب
التزاحم ... ).
هذه الاشكالات ما
عدا الأخير منها يمكن دفعها حتى على مسلك الميرزا ومبناه في دلالة الأمر على
الوجوب وانّه بحكم العقل وذلك :
أوّلاً
ـ انّ ما هو شرط في
حكم العقل بالوجوب عدم الترخيص الشرعي وطلب أحد الضدين الملازم مع ترك الآخر ،
غاية ما يستلزم عدم حرمة الآخر لا الترخيص الشرعي في تركه ، ومن هنا يصح طلب أحد
المتلازمين دون جعل الاباحة والترخيص الشرعي للآخر فينتزع العقل وجوب كلا الضدين
فلابد من تقييده بالمقيّد اللبي وهو مبني على إمكان الترتب.
وثانياً
ـ لو سلّمنا كفاية
الترخيص بالمعنى الأعم في رفع حكم العقل بالوجوب مع ذلك قلنا انّ طلب أحد الضدين
إنّما يستلزم الترخيص في ترك الآخر إذا كان مساوياً أو مرجوحاً لا ما إذا كان أهم
فإنّ نكتة ذلك المقيّد اللبي محفوظة وتامة حتى على هذا المسلك ، وعندئذٍ يستفاد
الوجوب للأهم دون المهم إذا كان أحدهما أهم من الآخر فيثبت الترجيح لا محالة وهو
نحو ورود بلحاظ حكم العقل بالوجوب.
نعم ، الايراد
الرابع من لوازم هذا المسلك بل ومسلك الإطلاق وإثبات الوجوب بمقدمات الحكمة على ما
صرّح بذلك في بحث دلالة الأمر على الوجوب فراجع وتأمل.
القرينية بأنواعها
ص
١٦٨ قوله : ( أقسام الحكومة ... ).
قد تقسّم الحكومة
إلى واقعية وظاهرية ، ويراد بالظاهرية احراز موضوع الأحكام الشرعية المترتبة على
عنوان بحكم ظاهري تعبدي كما في قاعدة الطهارة التي يتعبد بها لترتيب آثار الطهارة
الواقعية ظاهراً ، فهي توسعة ظاهرية لا واقعية ، ويكون في دليلها النظر إلى تلك
الأحكام الواقعية ، ولكن لترتيبها ظاهراً لا واقعاً ، إلاّ أنّ بابها ليس باب
القرينة على المراد ، بل مجرد لسان تنزيل تعبدي ظاهري لترتيب آثار الواقع ظاهراً
أيضاً ، فتسميتها بالحكومة مسامحة ، فهو تنزيل ظاهري.
ص ١٧١ قوله : ( أحكام الحكومة ... ).
هناك أحكام اخرى يناسب
اضافتها :
منها
ـ ما تقدم من الفرق
بينها وبين الورود من حيث عدم حاجة الورود ـ كالتخصّص ـ إلى أية مصادرة اضافية ،
بخلاف الحكومة حيث انها بحاجة إلى مصادرة أنّ للمتكلم أن يفسر وينصب قرينية على
مراده من خطابه.
والفرق بينها وبين
التخصيص والتقييد وسائر موارد الجمع العرفي في عدم الحاجة إلى مصادرة اخرى زائداً
على ما ذكر ، بخلاف تلك الجموع العرفية ،
فإنّها بحاجة
زائداً على المصادرة المذكورة إلى مصادرات اضافية توسّع من دائرة القرينية.
ومنها
ـ انّ التمسك
اثباتاً وسلباً في باب الورود يكون بالدليل المورود لا الوارد ، بخلاف الحكومة
وسائر أنحاء القرينيّة ، حيث يكون التمسك اثباتاً وسلباً بالدليل الحاكم والمخصص
والمقيّد ونحوها.
ومنها
ـ عدم ملاحظة النسبة
بين الدليل الحاكم والمحكوم ، فيقدّم الحاكم ولو كانت النسبة بينهما عموماً من وجه
، وهذا بخلاف التخصيص والتقييد. نعم ، لابد وأن لا يلزم من الحاكم إلغاء المحكوم.
ومنها
ـ لغوية الدلالة
الحاكمة لولا المحكوم لتوقفها عليه والنظر إليه بخلاف سائر أنحاء القرينية ، وما
يلحظ من عدم لغوية حكومة دليل حجّية الامارات على الاصول العملية ـ على القول بها
ـ أو على دليل حرمة الافتاء بغير علم ـ كما في بيان السيد الخوئي والسيد الشهيد ـ غير
تام ، فإنّ الدلالة الحاكمة في دليل حجّية الأمارة وهي قيامها مقام القطع الموضوعي
تلغو إذا لم يكن حكم للقطع الموضوعي ، وإنّما الذي لا يلغو مدلول آخر في دليل
الحجّية أجنبي عن الحكومة المذكورة ، وهي قيامها مقام القطع الطريقي وتنجيز آثار
الواقع.
والحاصل ، حيث انّ
ملاك الحكومة وحقيقتها النظر وتفسير المراد من المحكوم فلولا المحكوم لا موضوع
للنظر والحكومة ، وهو معنى اللغوية في المقام.
ص ١٧٤ قوله : ( ومنشأ الظهورين
التصديقيين الحاليين ... ).
الغلبة في فعل الفاعل
المختار بنفسها بحاجة إلى منشأ ، فلا يصحّ تفسير المنشأ بها ، وما في الكتاب من
انّ منشئها يمكن أن يكون التعهد يبعده ما تقدم في محله من الاشكالات على مسلك
التعهد من انّ الدلالات اللغوية حتى على مستوى المداليل التصديقية للكلام تتولد في
حياة الإنسان ، وتاريخ البشر منذ صغره وقبل بلوغه النضج العقلي الذي يؤهله لانشاء
التعهدات والقرارات العقلائية ، فالأصحّ ان منشأ الغلبة المذكورة هو الدلالة
الطبعية في الإنسان العاقل الملتفت المتصدي للتخاطب والمحاورة نظير دلالة أخذه
للماء أو جلوسه على الطعام على انّه عطشان أو جوعان ويقصد شرب الماء أو تناول
الطعام ، والله العالم بحقيقة الحال.
ص ١٧٥ قوله : ( وكذا الأمر في قولنا :
أسداً يرمي ... ).
قرينة المجاز
غالباً تكون قرينة على المدلول الاستعمالي التصديقي لا على المدلول التصوري ،
فينبغي ذكره في القرينة المتصلة على المدلول والظهور الاستعمالي.
نعم ، قرينة
المشترك اللفظي المعبّر عنه بالقرينة المعينة المستفاد من السياق كقولنا : ( عين
جارية ) أو الكنايات كقولنا : ( زيد كثير الرماد ) ، ( أسد الله الغالب ) ونحوها ،
قد يكون مدلولها التصوري حتى إذا سمع من الجدار هو المعنى المجازي أو الكنائي ،
للتناسب أو الانس الذهني أو الصراحة والألصقية التصورية للقرينة عن ذي القرينة في
دلالتها التصورية في الذهن.
وما ذكر من انّ
فضلة الكلام تناسب القرينة صحيح بلحاظ المدلول الاستعمالي ؛ لأنّ المتكلم في مقام
تعيين مراده الاستعمالي أو الجدي ـ أي التصديقي ـ يختار فضلة الكلام لا صدر كلامه
ـ كما ذكر في الكتاب ـ فهذا البيان لابد من نقله إلى قسم القرينة المتصلة على
المدلول الاستعمالي التصديقي ، وكأنّه وقع خلط في الكتاب من هذه الناحية ؛ ولهذا
لم يذكر فيه مثالاً للقرينة النوعية المتصلة بلحاظ المدلول الاستعمالي.
ومما يوجب
القرينية المتصلة بلحاظ المدلول الاستعمالي استبعاد قصد اخطار المعنى الحقيقي في
نفسه أو العلم بعدمه ولو لعدم تناسبه مع الحكم أو الخبر المحمول عليه كما في مثل
زيد أسد ، حيث يفهم منه استعماله للأسد في الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس ؛ لعدم
احتماله لكي يحتمل ارادته استعمالاً ، وإن كان قابلاً للتصور ذهناً.
وكلما كان هناك
قرينة على مستوى المدلول التصوري النهائي للكلام فلا تكون قرينية على مستوى المراد
الاستعمالي التصديقي ، بل يكون المدلول الاستعمالي على طبق المدلول التصوري
النهائي على القاعدة ، لا على أساس القرينة ، وإنّما يكون تحديد المراد الاستعمالي
بالقرينة حينما لا يكون المدلول التصوري النهائي للفظ على طبق القرينة.
وكذا الحال
بالنسبة للقرينة المتصلة بلحاظ المراد الجدّي وليس ذلك إلاّمن جهة الطولية بين
الدلالات الثلاث ، فكلما أعملت القرينية المتصلة بلحاظ المرحلة الأسبق من الدلالة
ارتفع موضوع اعمالها بلحاظ المرحلة الطولية المترتبة عليها ، كما انّه إذا أعملت
القرينية المتصلة بلحاظ المراد الجدّي بقي
المراد الاستعمالي
على معناه الحقيقي.
ومن هنا لا يلزم
المجاز في الاستعمال في موارد الخاص المتصل بالعام بنحو الجملة المستقلة ، كما لا
يلزم عدم اخطار العموم من جملة العام حتى بلحاظ مورد المخصّص في مثل ذلك ، بخلاف
ما إذا كانت القرينة المتصلة بلحاظ المدلول الاستعمالي أو التصوري أو كان الخاص
بنحو القيد في مدخول العام ، فإنّه لا دلالة اخطارية فيه للعموم أصلاً.
ص ١٨٦ قوله : ( القسم الثاني ـ التخصيص
بالاستثناء ... ).
الصحيح انّ أدوات
الاستثناء ونحوه تدل وضعاً على الاقتطاع ، فليست الدلالة التصورية النهائية سياقية
، بل لفظية وضعية وهو سبب انحفاظها حتى إذا سمعنا الجملة من لافظٍ غير ذي شعور.
ص ١٩٢ قوله : ( إلاّ أنّ هذا البيان
أيضاً لا يتم في العام المجموعي ... ).
يمكن
أن يقال : حيث إنّ المدلول
الاستعمالي باقٍ على العموم فالظهور التصديقي الثاني التابع للظهور الاستعمالي
أيضاً باقٍ على ارادة العموم إلاّبمقدار ما زاحمه الظهور الأقوى لا أكثر.
والوجه في ذلك انّ
الارادة الجدية انحلالية بلحاظ كل ما يدخل في المدلول الاستعمالي ، سواء كان حكمه
انحلالياً أو مجموعياً ، فالانحلالية والمجموعية لا ربط له بالانحلالية المدعاة من
قبل المحقق الخراساني والسيد الخوئي.
هذا ، مضافاً إلى
امكان دعوى انقضاء الظهور الجدي على السلب والايجاب كما يذكره السيد الشهيد بناءً
على القرينية.
ص ١٩٣ قوله : ( يكون مفسراً للمدلول
التصديقي الاستعمالي من العام ... ).
هذا غير محتمل لا
في القرينية الشخصية ولا النوعية ؛ لاستلزامه المجازية في المعنى المستعمل فيه وهو
خلاف الوجدان ولا يدعيه أصحاب هذه المحاولة بل يصرّحون بخلافه ، وانّ العام لا
يخرج من الحقيقة إلى المجاز بالتخصيص.
ولعلّه سهو من
القلم.
فالصحيح أن يقال :
يكون مفسّراً للمدلول التصديقي الجدّي.
ص ١٩٨ قوله : ( الثاني : ... ).
في الأظهر والظاهر
يمكن القرينية بلحاظ المدلول الاستعمالي بأن تكون الجملة الثانية قرينة على ارادة
الاستحباب من الأمر.
وأمّا مجرد أنّ
الظهور التصديقي في الجدية وعدم التقية أو الهزل يكون في أحدهما أقوى ، فهذا لا
دليل فيه على رفعه الظهور التصديقي الجدي الآخر ولا على القرينية النوعية ، فإنّها
تابعة للمدلول الاستعمالي ؛ إذ الخاص كأنّه الاستثناء والتفصيل والقرينية الشخصية
أيضاً فيها نظر استعمالي ، بخلاف مجرد الأقوائية ، فإنّ هذا عكس ما جاء في حاشية
السيد الحائري على تقريراته فراجع.
ولعلّه لهذا لا
يكون الحمل على التقية جمعاً عرفياً رغم انحفاظ الأقوائية في الجدّية في أحدهما.
ص ٢٠٤ قوله : ( ٣ ـ لو فرضنا ... ).
الظاهر أنّه لابدّ
من وجود جواب آخر وحاصله : انّ تقيد حجّية الظهور بعدم صدور القرينة من المتكلم
على خلافه وإن كان لابد من إحرازه بمحرز يجعل دليل حجّية السند متقدماً لأنّه على
تقدير صدقه ومطابقته للواقع يثبت القرينة الرافعة لموضوع حجّية الظهور بخلاف العكس
وكلما تعارض حجتان كذلك قدم الأوّل على الثاني لأنّه ليس فيه إلغاءً للحجة بخلاف
العكس.
وتوضيحه : انّه ليس المقصود من رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة
الظهور دلالة الظهور على نفي صدور القرينة ، بل المقصود حجّية الظهور الكاشف عن
المراد الجدي ما لم يثبت ما ينافيه ، سواء كان قرينة أو معارضاً ؛ إذ ليست
الظهورات حجة إلاّفي اثبات المراد لا نفي صدور القرينة ؛ لعدم الملازمة بينهما
أوّلاً ، ولو فرضت الملازمة فلعدم حجّية الظهورات إلاّ في اثبات المرادات لا العكس
؛ ولهذا لم يكن أصالة الحقيقة نافعاً لاثبات المعنى اللغوي الحقيقي ، ولا أصالة
عدم التخصيص لاثبات التخصّص ، فكذلك في المقام.
وهذا يعني : انّ
عدم صدور القرينة واقعاً إذا كان مأخوذاً في موضوع حجّية الظهور فهو لا يمنع عن
حجيته حين لم يثبت ؛ لأنّ الحجّية حكم ظاهري ، وكل حكم ظاهري ما لم يثبت ما ينافيه
أو يحكم عليه يكون حجة ، فما يرفع حجّية الظهور مجموع أمرين : صدور القرينة واقعاً
، وثبوته بعلم أو حجة ، ومع فقدان أحدهما تكون الحجّية فعلية.
وعلى هذا الأساس
يكون الظهور حجة عند احتمال القرينة المنفصلة حتى إذا
كان صادراً واقعاً
، كما انّه ترتفع حجيته بثبوت القرينة بالحجة ظاهراً لا واقعاً ، أي تكون من
الحكومة الظاهرية لا الورود ، بخلافه على الوجه المذكور في الكتاب.
كما انّه يثبت
بهذا التحليل وجه عدم سريان التعارض إلى السند الظني ؛ لأنّه يثبت ارتفاع موضوع
حجّية الظهور بالحكومة ، وظهور العام ذي القرينة لا ينفيه بالنكتة التي ذكرناها ولو
كان ينفيه كان حال المقام حال تعارض حجتين في صدور القرينة كما إذا تعارض خبر ثقة
في اثباتها ونفيها ، فإنّه لا وجه عندئذٍ لترجيح احدى الحجتين على الاخرى.
ص ٢٠٩ قوله : ( ولكن التحقيق عدم صحة
هذا الشرط ... ).
تارة : يقرّر هذا
الشرط بالنحو الذي في الكتاب من أنّ شمول دليل حجّية السند للسندين معاً لا يمكن
فيقع التعارض بينهما ، واخرى : يقرر بنحو أفضل وهو أنّ الجمع العرفي والقرينية
إنّما يكون بين الدلالتين والظهورين ، وهو فرع ثبوتهما بالوجدان أو بالتعبد ،
فيكون الجمع العرفي في طول حجّية السندين ، فلا يمكن أن يكون رافعاً لحجية أحد
السندين ، فإنّه دور ، ويلزم من وجوده عدمه.
والجواب : أمّا على البيان الموجود في الكتاب ، بأنّ مجرد عدم
امكان حجّية السندين معاً لا يوجب التعارض بينهما فيما إذا كان أحدهما المعين فيه
المحذور ، وهو سند ذي القرينة ، فلماذا يرفع اليد عن حجّية سند القرينة؟
وأمّا عن التقريب
الآخر ، فبأنّ عنوان الجمع العرفي ليس هو المطلوب ، وإنّما الأثر والحكم الشرعي هو
المطلوب ، وهو حجّية الظهور ، ومن الواضح أنّ حجّية ظهور القرينة لا تتوقّف على
عدم حجّية ظهور ذي القرينة ، ولا على عدم حجّية سنده ، بخلاف العكس ؛ لأنّ حجّية
ظهور ذي القرينة متوقفة على عدم ثبوت القرينة المتوقف على عدم حجّية سند القرينة ،
فتكون حجّية سند القرينة حاكماً ورافعاً لموضوع حجّية سند ذي القرينة كما في
الكتاب.
فجواب الكتاب
يناسب أن يكون جواباً على التقريب الثاني غير المذكور فيه.
ثمّ إنّ هنا شرطين
آخرين ينبغي اضافتهما على الشروط المذكورة لاعمال قواعد الجمع العرفي :
أحدهما
ـ أن يكون الدليلان
لفظيين ـ وقد تقدم شرح هذا الشرط في تعريف التعارض ـ فلا موضوع للجمع العرفي بين
الأدلّة غير اللفظية فيما بينها أو مع اللفظية.
نعم ، مثل السيرة
والإجماع أو غيرها من الأدلّة القطعية قد يقال عنها بأنّها مخصصة للاطلاقات ، إلاّ
أنّ المقصود سقوط الإطلاق عن الحجّية في قبال القطع ، أو يراد كشف الدليل القطعي
كالاجماع عن صدور نصّ شرعي على التخصيص.
ثانيهما
ـ أن لا يعلم بصدور
أحد الكلامين تقية أو هزلاً ، أي على وجه غير جدّي ، فإنّ هذا إن كان في أحدهما
المعين كان مسقطاً له عن الحجّية أو الظهور في الجدّ كما هو واضح.
وإن كان في أحدهما
إجمالاً فإن كان بنحو العلم الإجمالي بخصوصية في أحدهما المعين واقعاً تجعله غير
ظاهر في الجد أو غير حجة أي غير واجد لشرط من شروط الحجّية ـ من قبيل كونه موافقاً
للعامة ولكنّا لا ندري فتوى العامة فيتردد عندنا الحجة عن اللاحجة ـ كان من باب
اشتباه الحجة باللاحجة أو اشتباه ما فيه الظهور وما ليس فيه أصل الظهور في الجدية
، فلا موضوع لاعمال قواعد الجمع العرفي هنا أيضاً ، وإن كان بنحو العلم الإجمالي
بصدور أحدهما تقية أو هزلاً واقعاً مع انعقاد الظهور في الجدية في كل منهما وعدم
انثلام شرط من شرائط الحجّية في شيء منهما مع ذلك يمكن أن يقال بالتساقط فيهما ؛
لأنّ من شرائط القرينية والجمع العرفي بين كلامين لمتكلم واحد أن يكون كلامه غير
صادر منه هزلاً أو تقية ، بل في مقام الإخبار أو الانشاء الحقيقي ولو باحراز ذلك
بحسب ظاهر حاله.
فالكلام الصادر
هزلاً أو تقية لا يكون قرينة عرفاً كما انّه لا يكشف القرينة عن عدم ارادة ظاهره ،
فلابد في المرتبة السابقة من اثبات الجدية بهذا المعنى في أصل الخطاب ـ ولو بظهور
حالي المتكلم ـ لاعمال القرينية والجمع العرفي ، وفي المقام حيث يعلم إجمالاً بعدم
الجدية بهذا المعنى في أحدهما يقع التنافي بين الظهورين الحاليين في نفي التقية أو
الهزلية لكلّ منهما مع الآخر ، وحيث لا قرينية بين هذين الظهورين الحاليين ـ كما
قلنا فيما سبق ـ فيقع التعارض والتساقط بينهما في المرتبة السابقة على الجمع
العرفي.
ولعلّ الوجدان
العرفي أيضاً يشهد على عدم اعمال الجمع العرفي في موارد العلم الإجمالي بعدم جدية
أحد الخطابين.
حكم التعارض المستقر
بمقتضى القاعدة
ص ٢٢٣ قوله : ( وهذا التوهم غير صحيح ...
).
يوجد جواب آخر حتى
على تقدير الدوران بين التمسك بدليل حجّية الظهور ودليل حجّية السند ، وحاصله :
انّ دليل حجّية الظهور ساقط في المقام امّا تخصيصاً للتعارض أو تخصّصاً لعدم صدور
أحدهما عن المعصوم ، فلا يمكن أن يعارض دليل حجّية السند.
وإن
شئت قلت : انّ العلم
الإجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي بعدم مطابقة أحد الظهورين للواقع ، امّا للتعارض
أو لعدم الصدور ، فيكون التمسك بدليل حجّية السند بلا مانع.
ص ٢٢٨ قوله : ( وامّا الصورة الثانية ...
).
حاصل الجواب الذي
ذكره السيد 1 في الكتاب : أن التقديم يكون بالقرينية فإذا كان المعنى مردداً فلابد من احرازها
بالظهور بين معنى يكون معارضاً ، ومعنى آخر عليه يكون قرينة فلا تحرز القرينية لكي
يثبت الجمع المعرفي ، فضلاً من أن يكون المعنى الظاهر هو المعارض.
قد
يقال : انّ المعارض
ليس هو مفاد اسم الجنس بل مفاد مجموع دالين
ولا معنى للجمع
بينهما في مقام حساب المعارضة وعدمها ، إذ المعارض إنّما هو إطلاق كل منهما مع
إطلاق الآخر وأصل الآخر ، إلاّ انّ معارضته مع إطلاق الآخر لا جمع عرفي فيها ،
ومعارضته مع مدلول اسم الجنس في الآخر الذي هو دالّ مستقل فيهما جمع عرفي.
والجواب : انّ الإطلاق وإن كان بدال آخر إلاّ انّ هذا الدال الآخر
يجعل مفاد اسم الجنس مطلقاً بحيث تكون مقدمات الحكمة حيثية تعليلية لصيرورة مفاد
اسم الجنس الطبيعة المطلقة المعارضة مع مفاد الدليل الآخر ، وهذا كلام لا بأس به.
ومنه يعرف أنّ ما
جاء في ذيل هذه الصورة بعنوان ( إن قلت : ... قلت : ... )
ليس بلازم ، أي لا
نحتاج إليه ، فإنّ الدلالة التحليلية لا تفيد في القرينية ولا في تأثير أقوى
الدلالتين وتزاحمهما ، فإنّه إنّما يكون في الدلالات غير التحليلية ، أي المستقلّة
والواضحة ، ولهذا نجد التعارض والاجمال فيما إذا ورد ( لا بأس ببيع العذرة ) و (
يحرم بيع العذرة ) متصلين أيضاً.
ثمّ انّ ما جاء في
ذيل هذه الصفحة من تعميم ذلك لما إذا كان أحدهما مجملاً دون الآخر غير تام في باب
المطلقات والدلالات التصديقية الحكمية ؛ إذ في فرض الاجمال ووجود قدر متيقن كما لو
وقع مصداق من الطبيعة مورد السؤال فلم نحرز الإطلاق ومقام البيان لأكثر من ذلك لا
اشكال في تقييد المطلق الآخر بذلك في فرض انفصاله أو اتصاله ، وعدم سريان الاجمال
إليه حتى في فرض اتصاله به.
والوجه فيه : انّه
يكفي في الصلاحية للقرينة في المطلقات أن يكون الظهور
النهائي التصديقي
المتحصّل بالفعل أخصّ من الآخر وإن كان يحتمل ارادة الإطلاق ثبوتاً المعارض مع
الآخر فمجرد الاجمال في المدلول التصديقي لا يكفي لا للتعارض مع المطلق الآخر على
تقدير الانفصال في مورد اجتماعهما ، ولا لاجماله على تقدير الاتصال.
نعم ، إذا كان
الاجمال من باب تردّد المعنى المستعمل فيه اللفظ بين معنيين على أحدهما يكون معارضاً
وعلى الآخر يكون قرينة ، فلا تتم القرينية فيه ، كما في مثال الكرّ وفي مثال أكرم
زيداً ولا تكرم زيداً إذا كان هناك زيدان زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، فإنّه حتى إذا
كان أحدهما ظاهراً والآخر مردداً في فرض الاتصال يسري الاجمال إلى الأوّل أيضاً ،
بخلاف فرض الانفصال ، فيتم فيه ما ذكر في الذيل أيضاً.
ثمّ انّه وجداناً
يوجد فرق بين هذا المثال ومثال الكر ، فإنّه هنا لو ورد ( أكرم زيداً ) وورد
منفصلاً ( لا تكرم زيداً ) وتردد زيد فيهما معاً بين الشخصين ، فإنّه لا يقال
بالجمع بينهما بحمل كل منهما على فرد من زيد غير الآخر حتى إجمالاً ، بدعوى أنّ
جامع أحدهما واجب الاكرام والآخر يحرم اكرامه ، وصدقهما معاً يستلزم ذلك ، فلو كان
أحدهما لا يحتمل فيه الحرمة مثلاً كان هو الواجب والآخر هو المحرّم ، بل يقال
بالتعارض والاجمال ، وهذا بخلاف مثال الكرّ فإنّه يثبت لازمهما.
ويمكن التفرقة بين
المثالين بأنّ مثال الكر لا تردد فيه بلحاظ المفهوم المستعمل فيه الرطل ، وهو
الوزن ، وإنّما الشك في المراد التصديقي منه الذي يتعين بالانصراف.
وإن
شئت قلت : أنّ لكل من
روايتي الستمائة والألف ومئتا رطل مدلول
واضح متعين ، وهو
انّ الكر ليس بأكثر من ستمائة بالمكي ، ولا بأقل من ألف ومائتا رطل بالعراقي ،
وهذا المدلولان بيّنان وفعليان ، فيكونان حجتين ، فيثبت لازمهما نظير ما إذا قال :
( يجب اكرام أحد الزيدين ) و ( يحرم اكرام أحد الزيدين ) وكان يعلم انّ أحدهما لا
يمكن أن يحرم اكرامه ، فإنّه يثبت حرمة اكرام الآخر ووجوب الأوّل.
هذا ، مضافاً إلى
أنّه حتى في مثال ( أكرم زيداً ، ولا يجب أن تكرم زيداً ) المردد بين زيدين أيضاً
يمكن القول بحجية لازمهما ، وهو وجوب اكرام أحد الزيدين وعدم وجوب اكرام الآخر
فيجب الاحتياط من باب العلم الإجمالي ، لا من باب القرينية والجمع العرفي ، بل من
باب أنّه مدلول التزامي لكل منهما ، ولا يعلم بسقوط أو كذب مدلوليهما المطابقي ،
وهذا كافٍ في حجّية المدلول الالتزامي ، ولا يشترط فيها احراز حجّية المدلول
المطابقي ، فإنّ التبعية بينهما في الحجّية ليس بهذا المعنى ، بل بمعنى التبعية في
الكذب والسقوط عن الحجّية لا أكثر من ذلك على ما هو منقح في محلّه.
ص ٢٣٢ قوله : ( أ ـ تحديد مركز التعارض
بين الدليلين ... ).
الشقوق ثلاثة :
١ ـ أن يكون
السندان قطعيين ، وهنا التعارض بين الظهورين والدلالتين ، فمركزه دليل حجّية
الظهور ، ولو فرض أنّ أحدهما قطعي الدلالة والجهة أيضاً سقط الظهور الآخر عن
الحجّية بمقدار القطع بالخلاف من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أمّا فرض القرينية
من باب صراحة الدلالة فهو خلف فرض التعارض المستقرّ ، فلا وجه لذكره هنا.
٢ ـ أن يكون
السندان معاً ظنّيين ، وهنا تسري المعارضة إلى السندين ، سواء كانت الدلالتان
ظنّيتان أو كان أحدهما ظنّياً والآخر قطعياً ؛ لأنّ الدليل الذي نتمسك به حقيقة
إنّما هو دليل حجّية السند وبه نثبت الظهور في حديث المعصوم بنحو الحكومة الظاهرية
ـ كما في الكتاب ـ فليس لنا التمسك بدليل حجّية الظهور ابتداءً ، فمركز التعارض
دليل حجّية السند ، غاية الأمر هذا التعارض قد لا يكون من جهة التكاذب ؛ لاحتمال
صدور الحديثين المتعارضين ، بل بملاك اللغوية وعدم الفائدة في اثبات خبرين
متعارضين في الظهورين وهو كالتكاذب موجب لسريان المعارضة إلى السندين وأن يكون
مركز التعارض دليل حجّية السند.
وهنا أشكل السيد
الشهيد بأنّه إذا كان هناك أثر مترتب على أصل صدور الحديث ، أي الجامع بين معناه
الظاهر وغير الظاهر لابد وأن يقال بترتبه ، كما إذا دلّ دليل الأمر على الوجوب
وكان يحتمل فيه الاستحباب ودلّ دليل على الاباحة بالمعنى الأخص ويحتمل فيه
الاستحباب ، ولم يكن يحتمل التقية فيهما ، فإنّ ثبوت الاستحباب أو الرجحان حينئذٍ
لازم عقلي لصدور الحديثين ، فلابد من ترتبه والحكم به لعدم التكاذب بين السندين ،
بخلاف موارد التكاذب كما في الموضوعات ، أو فيما إذا نفى أحد الراويين نفس ما
ينقله الآخر من النص ، مع انّه لا يلتزم بذلك في الفقه. نعم ، التزم السيد الشهيد
بذلك في موارد الاجمال وموارد نقل الجامع ابتداءً ، وكأنّه لهذه الشبهة ذكر السيد
الشهيد التقديرات الثلاثة لحجية السند واختار الأوّل منها ، وسوف يأتي انّه لا
حاجة إليه ، بل ليس بصحيح ، وسيأتي في التعليق القادم انّه على كلّ حال يسري
التعارض إلى السندين امّا بالتكاذب أو باللغوية ، فانتظر.
٣ ـ أن يكون أحد
السندين قطعياً والآخر ظنياً ، وهنا يكون التعارض بين دلالة السند القطعي ودليل
حجّية السند الظني سواء كانت دلالته قطعية أو ظنية بنفس النكتة التي أشرنا إليها
في الشق السابق ، فمركز التعارض في هذا القسم يكون دليلين للحجية لا دليل واحد.
هذا إذا لم يكن
الدليل قطعي السند قطعي الدلالة ، وإلاّ كان الدليل الآخر مقطوع الكذب سنداً
ودلالةً ، فيسقط سنده عن الحجّية على كل تقدير مع فرض عدم القرينية ـ كما هو
المفروض في أصل هذا البحث ـ وحكم هذا القسم على مقتضى القاعدة سوف يأتي. وعلى
مقتضى أخبار طرح ما خالف الكتاب سقوط السند الظني عن الحجّية على كل حال كما سيأتي
تفاصيله.
وهكذا يتضح انّ
موضوع البحث عن مقتضى الأصل الأولي والثانوي يجري في الشقوق الثلاثة ، ولكن موضوع
البحث عن مفاد الأخبار الخاصة هو القسمان الثاني والثالث فقط ، كما انّ مقتضى
الأصل الأولي والثانوي قد يختلف فيما إذا كان مركز التعارض دليل حجّية السند فقط ،
أو دليل حجّية الظهور فقط ، أو مجموع دليلين.
ص ٢٣٣ قوله : ( التقدير
الثاني ... ).
لا ينبغي الاشكال
في انّ حجّية السند من باب حجّية الشهادة والكاشف فيها اعتقاد الشاهد ، وهذا لا
ربط له بحجية الظهور الذي هو كاشف عن مراد المتكلم واعتقاده ، فهما متباينان
موضوعاً وجعلاً وملاكاً ، فلا وجه لاناطة حجّية احداهما بالاخرى ، بل المتعيّن
التقدير الثاني من التقديرات الثلاث ، أي عدم اناطة حجّية الأخبار بحجية الظهور ،
غاية الأمر التمسك في موارد الأخبار
لا يكون ابتداءً
بدليل حجّية ظهور كلام المعصوم 7 ، بل بدليل حجّية السند وترتيب آثار حجّية الظهور من باب
الحكومة الظاهرية ـ كما في الكتاب ـ وهذا واضح.
وكأنّ التشقيق
إنّما جاء في كلام السيد الشهيد 1 ثمّ اختياره للشق والتقدير الأوّل من الشقوق الثلاثة ـ والذي
هو غريب جدّاً ـ من أجل حلّ اشكال ذكره السيد الشهيد 1 وهو أنّه يلزم على التقدير الثاني أن نحكم بثبوت اللازم
العقلي للخبرين المتعارضين سواء كانا متعارضين بحسب ظاهرهما أو كانا مجملين فلو
دلّ خبر على الأمر بشيء الظاهر في وجوبه مع احتمال ارادة الاستحباب أو الرجحان
ودلّ خبر آخر على اباحته بالمعنى الأخص مع احتمال اباحته بالمعنى الأعم الجامع بين
الرجحان والاستحباب ، فإنّه على التقدير الأوّل يقع التعارض بينهما ، بينما على
التقدير الثاني ينبغي الأخذ بهما في اثبات اللازم المذكور مع انّه لا يلتزم به في
الفقه بل يحكم فيه بالتعارض والتساقط والرجوع إلى سائر الاصول ، بخلاف فرض الاجمال
، وأوضح منه فرض دلالة كل منهما على الجامع ابتداءً.
ومن هنا ادّعى في
الكتاب اختيار التقدير الأوّل تخلّصاً من ورود هذا الاشكال مع انّه لا يصحّ التقدير
الأوّل جزماً ، فإنّ ظاهر أدلّة حجّية الأخبار حتى اللفظيّة منها هو لزوم تصديق
الثقة في اعتقاده وما يشهد به ، وهذا لا ربط له بحجية ظهور كلام المعصوم 7 المشهود به.
نعم ، قد يكون
منوطاً بعدم اجمال ظهور كلام الراوي نفسه في الكشف عن اعتقاده ومراده ، وهذا أجنبيى
عن ظهور كلام المعصوم 7 الذي هو محلّ
البحث. على انّ
الأدلّة اللفظيّة على حجّية خبر الثقة امضاء للسيرة العقلائية ، ولا يحتمل في
السيرة العقلائية مثل هذه الاناطة.
هذا ، مضافاً إلى
أنّ حجّية السند لو كان منوطاً بحجية الظهور كان اللازم عدم ثبوت المدلول الالتزامي
في فرض الاجمال أيضاً ؛ لعدم حجّية المجمل بالفعل ، فلا يكون السند حجة في اثبات
اللازم العقلي أيضاً ما لم ينتهى إلى الظهور كما إذا فرض دلالة الخبرين على الجامع
ابتداءً ، مضافاً إلى انّه لماذا لا يكتفى بوجود مدلول وأثر مترتب على السند ولو
من باب الملازمة العقلية من التقدير الأوّل.
وقد
يقال في حلّ الاشكال المذكور : انّ ظهور الخبر في المعنى المعارض يوجب سريان التعارض إلى السندين ؛ لأنّ
كلاً من الظهورين ينفي المدلول الالتزامي للآخر أيضاً ، كما ينفي ظاهره ؛ لأنّ
الوجوب ينفي الاباحة بالمعنى الأعم ، كما انّ الاباحة بالمعنى الأخص تنفي الرجحان
، وهذا يعني انّ كلاً من السندين والخبرين باثباته لما هو ظاهر الحديث ـ بنحو
الحكومة الظاهرية ـ ينفي صدور الحديث والخبر الآخر عن المعصوم أو ينفي جدّيته فلا
يكون سنده ونقله حجة للغويّة ، فيسري التعارض إلى السندين والاخبارين امّا بنحو
التكاذب ـ كما إذا لم يكن التقية وعدم الجدّية محتملاً ـ أو بنحو الاخراج الموضوعي
عن الحجّية للغوية وعدم الجدية ، وحيث لا مرجح لأحدهما على الآخر فيتعارضان
ويتساقطان ، وهذا بخلاف فرض دلالتهما على الجامع ابتداء أو إجمالهما ، كما هو
واضح.
نعم ، لو علمنا
بصدور الخبرين كما إذا كانا متواترين ولم يكن احتمال التقية وارداً في شيء منهما ،
علمنا تفصيلاً لا محالة بعدم ارادة شيء من ظهوريهما
وارادة الرجحان
فينتفى موضوع الحجّية في الظهورين معاً ؛ للعلم بعدم ارادتهما ، بخلاف ما إذا
احتملنا التقية في كل منهما أو أحدهما ، فتدخل أصالة الجدّ في المعارضة مع الظهور
أيضاً ، فلا يثبت حتى اللازم حينئذٍ.
والجواب : انّ هذا يصحّ إذا كان يحتمل التقية في كل منهما أو في
أحدهما ، وفي هذا الفرض لا يتم اللازم العقلي الذي ذكره السيد الشهيد 1 ، وإنّما يتم
اللازم العقلي إذا لم نحتمل التقية وعدم الجدّية في شيء من الحديثين ؛ ولهذا قال
السيد الشهيد على ما في الكتاب « واستبعدنا احتمال التقية » فيكون حينئذٍ نفس صدور
الحديثين مع قطع النظر عن حجّية ظهورهما دليلاً على ارادة جدية للمولى هو جامع
الرجحان أو الاستحباب في المثال المذكور ؛ لأنّ أي فرض آخر خلف صدور الحديثين ،
وحيث يحتمل صدق كلا الخبرين لامكان صدور حديثين كذلك فإنّ مخالفة الظهورات وصدور
المتعارضات ليس بعزيز ؛ ولهذا يمكن أن يكونا قطعيين سنداً ، أو يسمعهما معاً راوٍ
واحد من معصومين ، فيكون مقتضى تصديق الخبرين المعتبرين سنداً ترتيب هذا الأثر حتى
في موارد التعارض.
وإن
شئت قلت : انّ كلا من
السندين لا يشهد بما هو مراد المعصوم وانّه الوجوب أو الاباحة بالمعنى الأخص
ابتداءً ليقع التكاذب والتنافي بينهما وإنّما ينقل كلاماً للمعصوم ظاهراً في
الوجوب أو الاباحة يكون موضوعاً لأثر شرعي هو حجّية الظهور ، وحيث انّ حجّية
أحدهما يوجب تنجيز الحكم ـ لكونه ظاهراً في الوجوب ـ والآخر يوجب التعذير عنه فيقع
التنافي والتعارض بين السندين في الحجّية بلحاظ هذا الأثر الشرعي.
وأمّا الأثر
الشرعي غير المترتب على الظهور فلا وجه لعدم تصديق الخبرين
المعتبرين لاثباته
بعد أن كان موضوعه وهو صدور نفس الحديثين محتملاً ، لا علم بكذبه ، ولا محذور في
شمول دليل حجّية السند له.
وقد
يقال : هذا إذا لم يكن
الأثر التنجيزي أو التعذيري المترتب على هذه الدلالة بنفسها أيضاً طرفاً للمعارضة
بلحاظ أثر الظهورين ، فإنّ هذا الأثر إذا كان تنجيزياً فهو يعارض السند الذي ينقل
الظهور التعذيري ، وإذا كان تعذيرياً فهو يعارض السند الذي ينقل الظهور التنجيزي ،
فالمعارضة بحسب الحقيقة ثلاثية الأطراف بناءً على الحكومة الظاهرية ، فلا يثبت شيء
من التنجيز أو التعذير في الدلالات الثلاث كما في معارضة أدلّة أو اصول عملية
ثلاثة.
فإنّه
يقال : السندان في
المقام لا يثبتان موضوع التنجيز والتعذير معاً ليتعارضان ـ كما في موارد التكاذب ـ
بل يثبتان وجود ظهورين متعارضين متكافئين ، فلا موضوع لحجية الظهور في شيء منهما ؛
لأنّ الحجّية الفعلية للظهور مشروطة بعدم وجود معارض مكافئ له ، فلا يكون السندان
معتبرين في اثبات الظهور لانتفاء موضوع الحجّية والأثر الشرعي في مدلوليهما
إلاّبترجيح أحدهما على الآخر ، وهو بلا مرجّح ، وهو معنى سريان التعارض إلى
السندين في المقام.
وعندئذٍ فيمكن أن
يكون الأثر التنجيزي أو التعذيري للمدلول الالتزامي العقلي المترتب على صدور نفس
الحديثين مع قطع النظر عن حجّية ظهورهما مترتباً لا محالة ؛ لعدم ارتباطه بالظهور
وحجيته ليرتفع بارتفاع موضوع الحجّية فيه ، فلا يصحّ قياس المقام بموارد المعارضة
ثلاثية الأطراف.
والصحيح في مقام
الاجابة عن هذه الشبهة هو الالتزام بترتيب هذا الأثر لو فرض تمامية الملازمة
العقلية ، ولكنها لا تتم في أكثر الفروض ؛ لاحتمال التقية
أو عدم الجدية
لجهة اخرى ، فلا تتم هذه الدلالة الالتزامية العقلية المنفصلة عن حجّية الظهور
إلاّفي فروض نادرة جداً ، لو تمت لا بأس في الالتزام فيها بثبوت المدلول الالتزامي
العقلي لنفس صدور الحديث المشهود به ، لا لظهوره ، وهذا بخلاف موارد تكاذب الخبرين
، كما إذا أخبر أحدهما عن صدور حديث وأخبر الآخر عن عدم صدوره.
وبعبارى
اخرى : هذه الدلالة
العقلية اللازمة لنفس صدور الحديث لا لظهوره حجة حتى في موارد العلم بصدور
الحديثين المتعارضين مع عدم احتمال التقية وعدم الجدية فيهما ، من دون اشتراط أن
يكونا مجملين أو دالّين على الجامع ، فإذا كان كذلك ثبت في الظنين سنداً أيضاً
تعبداً لا وجداناً.
وهذا غير ما قبله
السيد الشهيد 1 في المجملين ولم يقبله في الظاهرين المتعارضين ، فإنّه كان
مدلولاً التزامياً لنفس الظهور لا لصدور الحديث ، ومن هنا كان ساقطاً بسقوط الظهور
بالمعارضة ، فلوازم الظهور كما لا تثبت في الحديثين المتعارضين قطعيّ الصدور كذلك
لا تثبت في الظنين سنداً بلا فرق ، فتدبر فإنّه وقع خلط هنا ، والله الهادي
للصواب.
ص ٢٣٨ قوله : ( وتوضيحاً لذلك نقول :
انّ هناك فروضاً أربعة ... ).
ذكر في هامش
تقريرات السيد الحائري اشكال في المقام حاصله : انّ عدم شمول دليل الحجّية الواحد
لمورد التعارض إنّما هو بمقيد لبّي كالمتصل فيوجب اجمال خطاب الحجّية وعدم شموله
لشيء من المتعارضين في نفسه لا أنّه يشملهما ، ولكن لا يمكن حجّية الاطلاقين ،
والعلم بالخصوصيات المذكورة في الفروض الثلاثة كلها أمر خارجي بالنسبة لدليل
الحجّية ، فلا يجدي في احياء إطلاق دليل الحجّية بالنسبة للخبر ذي المزية أو للخبر
على تقدير الأخذ به ، فإنّ
هذا إنّما يصحّ في
دليلين منفصلين للحجية ، والذي يكون إطلاق كلّ منهما لأحد المتعارضين فعلياً.
والجواب : أنّ عدم شمول خطاب الحجّية للمتعارضين إذا كانا متناقضين
في التنجيز والتعذير وإن كان بمثابة المقيد المتصل لا المنفصل ، إلاّ أنّ نكتة ذلك
هو التناقض في التنجيز والتعذير ، وهذه النكتة لا تقتضي التقييد أكثر من موارد عدم
العلم بسقوط الحجّية وعدم شمول دليل الحجّية لأحدهما المعين ، فالمعارض الذي يعلم
بعدم شمول دليل الحجّية ـ ولو نفس هذا الدليل ـ لمعارضه بالفعل وعلى كل تقدير
مشمول لخطاب الحجّية يقيناً ، فإنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، فلا وجه لدعوى الاجمال
وسقوط الدلالة هنا أيضاً.
وإن
شئت قلت : تنعقد دلالة
طولية لخطاب الحجّية في مورد التعارض ، على أنّ كلاً من المتعارضين لو كان يعلم
بعدم حجيته على كل تقدير كان معارضه حجة ؛ لأنّ كل حجة لا يرفع اليد عنه بمجرد
احتمال وجود معارض واقعي له ، بل لابد من العلم به والعلم بمساواته له في مقتضي
الحجّية وعدم العلم بسقوطه عن الحجّية على كل تقدير ؛ لأنّ ظاهر أدلّة الحجّية انّ
كل حجة تبقى حجة كلما كان يمكن حجيته ، فإنّ هذا شأن الحجج والأحكام الظاهرية ،
وهذا واضح.
ص ٢٤١ قوله : ( هذا مضافاً إلى انّ هذا
التقريب مبني ... ).
بل ليس مبنياً على
ذلك إذ يكفي الملازمة في سقوط الالتزامية بسقوط المطابقية حيث يقال انّ المدلولين
الالتزاميين معلوم عدم حجيتهما امّا لحجّية المطابقيّين أو لسقوطهما عن الحجّية
بخلاف المطابقيّين ، فالجواب الأوّل وهو استقلال المعارضتين واحتمال أن تكون احدى
المطابقتين مع التزاميتها حجة ،
فلا علم بسقوط
كلتا الالتزاميتين معاً هو الجواب ، وأمّا إذ قطعنا النظر عنه فلا نحتاج في هذه
المحاولة إلى مسألة التخصّص ، حيث لا نحتمل سقوط المطابقيّين دون الالتزاميّين
للتلازم من طرف الالتزامية للمطابقية ، بخلاف العكس ، إذ لا تلازم من طرف المطابقية
للالتزامية في الحجّية ، فتكون الالتزاميتان معلومتي السقوط ، بخلاف المطابقيتين.
نعم ، لو ادعينا
التلازم من الطرفين ـ كما لعله نظر السيد الشهيد 1 في المقام ، فإنّهما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة في
الحجّية كان التلازم من الطرفين ـ تمّ ما ذكر في الكتاب.
ص ٢٤٢ قوله : ( والجواب ـ ما ذكرناه في
ردّ المحاولة السابقة ... ).
وجواب آخر حاصله :
انّ الدور لا يندفع بافتراض عدم حجّية الدلالة الالتزامية بل لابد من ابطال
التوقفين من الجانبين.
والحلّ بما ذكر في
الجواب من عدم الطولية والذي يعني انّ السقوط أي عدم حجّية كل من الدلالتين
المطابقين متوقف على وجود المقتضي للحجية في الالتزامية المعارضة معهما وهو أي
مقتضي الحجّية للدلالتين المطابقة والتزاميتها واحد لا أنّ احدى الحجتين مأخوذة في
موضوع الاخرى فلا يلزم إلاّتوقف حجّية كل من المطابقين على عدم مقتضى حجّية الاخرى
فلا دور.
ص ٢٤٤ قوله : ( المحاولة السادسة : ...
).
اعترض على هذه
المحاولة في هامش تقريرات السيد الحائري بأنّه يتم بناءً على أن يكون العلم
الإجمالي علة تامة ، بحيث لا يجري الأصل في شيء من
أطرافه من جهة نفس
العلم لا من جهة المعارضة ، وإلاّ كان سقوط كل من الدلالتين الالتزاميتين بعينها
بلحاظ التعارض وعدم امكان الجمع بينهما لا بعلم تفصيلي بعدم حجيتهما في ذاتهما ،
وإذا كان كذلك ـ كما هو الصحيح بناءً على الاقتضاء ـ فاعمال أثر التعارض أوّلاً في
الالتزاميتين باسقاطهما ثمّ القول بخلاص المطابقيّتين عن التعارض بلا مبرّر.
قد
يقال : انّ هذا
الاعتراض غير متجه ؛ لأنّ المقصود أنّ حجّية كل من الالتزاميّين الترخيصيّين
مطلقاً ، أي حتى على تقدير حجّية الآخر ممتنع في نفسه ، وحجيته مشروطاً بكذب الآخر
ـ أي الحجّية التخييرية ـ لغو ؛ لكونه على تقدير كذب الآخر معلوم الصدق ، فلا معنى
لجعل الحجّية التخييرية أي المشروطة لهما ، وهذا معناه العلم بسقوط الحجّية فيهما
، فيكون المدلولان المطابقيان الالزاميان حجتين بلا محذور.
والجواب : أنّ هناك احتمالاً ثالثاً وهو أن يكون كل منهما حجة
تعييناً دون الآخر ، فإنّ هذا ليس معلوم السقوط ، وإنّما يسقط من باب انّه ترجيح
بلا مرجح ، وهو معنى السقوط بالمعارضة. وهذه المعارضة والسقوط في عرض سقوط المدلول
المطابقي المعارض مع ذاك المدلول الالتزامي ، فلا وجه لملاحظة هذا الترجيح بلا
مرجح قبل ذاك.
وبتعبير آخر :
يختلف المقام عن موارد العلم الإجمالي بكذب اثنين من أربع حجج مثلاً ، والعلم بكذب
أحد اثنين منها ( الدائرة الأضيق ) فإنّه هناك لا يوجد إلاّ معارضة واحدة بملاك
العلم الإجمالي بالكذب ، فإذا انحل العلم الإجمالي الكبير بالصغير ، امّا لكون
معلوميتهما واحداً أو لكون الدائرة الصغيرة لا يجري إطلاق دليل الحجّية بلحاظ غير
المعلوم بالاجمال كذبه فيها في نفسه سلم
الأصل أو الأمارة
في مورد افتراق الدائرة الكبيرة للصغيرة عن المعارضة.
أمّا هنا فتوجد
معارضتان : احداهما : العلم الإجمالي بكذب أحد المدلولين الالتزاميين. والاخرى :
التناقض بين كل مدلول التزامي مع مطابقيى الآخر ، بحيث لا يمكن حجيتهما معاً حتى
إذا كان مطابقي أحدهما مع التزامي الآخر ساقطين معاً عن الحجّية ؛ لأنّ سقوطهما لا
يرفع التناقض بين المطابقي الآخر مع التزامي الأوّل ، فلابد وأن يكون أحدهما غير
حجّة أيضاً.
نعم ، إذا كان
المطابقيان أو الالتزاميان ساقطين كان الباقيان صالحين للحجية.
والحاصل : ليس في
المقام معارضة واحدة بملاك العلم الإجمالي بالكذب المستلزم لمحذور المخالفة
القطعية ، بل معارضتان مستقلتان ، ويكون كل دلالة التزامية طرفاً لهما معاً أحدهما
بملاك التناقض والسلب والايجاب ، والآخر بملاك العلم الإجمالي المستلزم لمحذور المخالفة
القطعية ، وهما في عرض واحد يوجب سقوط المداليل الثلاثة معاً ، وحيث انّ هذا في
الطرفين فيسقط الجميع عن الحجّية بمرّ الصناعة أيضاً.
وإن
شئت قلت : دليل الحجّية
يمكن أن يشمل اثنين من الدلالات الأربع ، ولكن ليس كل اثنين منها ، بل امّا
المطابقيتان أو كل مطابقي مع التزاميّه فيكون الترديد بين ثلاثة أطراف ، ولا ترجيح
لواحد منها على الآخرين ، فلا يثبت حجّية شيء منها.
وهذا بخلاف موارد
العلم الإجمالي الكبير والصغير إذا كان معلومهما واحداً أو كان لا يجري الأصل
والحجة في الدائرة الصغيرة ، فإنّ موارد افتراق الدائرة
الكبيرة عن
الصغيرة يجري فيها الأصل والحجة معيناً بلا معارض له ، فلو فرض خمسة أواني يعلم
بنجاسة اثنين منها ، ويعلم بنجاسة اثنين من ثلاثة معينة ، فالاثنان الزائدان يجري
فيهما الحجة ـ أمارةً كانت أو أصلاً ـ بلا معارض ؛ إذ لو لوحظ طرف واحد في الدائرة
الصغيرة فلا علم اجمالي بنجاسته أو نجاسة الاثنين ؛ لاحتمال طهارتها جميعاً ، ولو
لوحظ اثنان من الدائرة الصغيرة فالمفروض العلم بنجاسة أحدهما ، فلا حجّية للأصل في
الاثنين في نفسه ، ليكونا معارضين مع الأصلين في مورد الافتراق ، فهذا هو مبنى
وتحليل انحلال العلم الكبير بالصغير ، وهو لا يجري هنا كما عرفت.
ص ٢٥٤ قوله : ( وأمّا النحو السابع
والأخير من تلك الوجوه : ... ).
ما ذكر من انّ هذا
النحو إنّما يعقل إذا كان المعلوم كذبه له تعين وامتياز واقعي فيما إذا كانا معاً
على خلاف الواقع ، لا وجه له ، بل يصح حتى إذا لم يكن له تعيّن واقعي ببيان وتوضيح
مذكور في بحث حجّية عموم العام المخصَّص بمخصِّص مجمل مردّد بين متباينين في غير
معلوم التخصيص ، فراجع.
ص ٢٥٥ قوله : ( تلخيص واستنتاج : ... ).
قد
يقال : لا وجه لما ذكر
من انّ الصحيح هو التساقط المطلق في باب التعارض مطلقاً ، فإنّ الارتكاز العقلائي
يقبل حجّية أحدهما إجمالاً ، أي غير معلوم الكذب أو الحجّية المشروطة في كل منهما
بكذب الآخر في موارد الضدين الذين لهما ثالث ، وفي موارد التعارض بالعرض مع احتمال
كذبهما معاً ، كما إذا دلّ أحدهما على ( وجوب العتق إذا ظاهر ) ودلّ الآخر على (
وجوب اطعام ستين مسكيناً إذا ظاهر ) وعلمنا بعدم وجوبهما معاً عليه بالظهار ،
واحتملنا
عدم وجوب شيء
منهما أيضاً ، فإنّه في مثل هذه الموارد يقبل الارتكاز العقلائي حجّية أحدهما لا
بعينه ؛ لترتب أثره ، وهو نفي الثالث في الأوّل ، واثبات احدى الكفارتين بالحجة
اجمالاً في الثاني ، وهو كالعلم الإجمالي بالواقع منجز وموجب للاحتياط ، فإنّ هذا
ليس على خلاف الارتكاز العقلائي.
ومما يشهد على ذلك
قبول ذلك في التمسك بأصالة العموم أو الإطلاق في غير المعلوم بالاجمال تخصيصه أو
خروجه عن العام في موارد الدوران بين المتباينين ، كما إذا قال : ( أكرم كل عالم )
وعلمنا بعدم وجوب اكرام زيد أو عمرو من العلماء ، فإنّه قد تقدم امكان التمسك
بأصالة العموم في غير المعلوم اجمالاً خروجه ، فيثبت وجوب اكرام أحدهما اجمالاً
بالتعبد ، وهو كالعلم الإجمالي الوجداني في وجوب الاحتياط حينئذٍ.
فالسيد الشهيد 1 حيث قبل هذا
المطلب هناك لم يكن وجه للتشكيك فيه هنا ، فإنّ العموم والإطلاق كالخبر أمارة
وطريق كاشف عرفي ، بل البحث في المقام لا يختصّ بالخبرين الظنيين المتعارضين ، بل
يشمل القطعيين سنداً المتعارضين بحسب الظهور دلالةً ، بنحو لا جمع عرفي بينهما ،
وعندئذٍ نقول : انّ ملاك حجّية الظهور والدلالة إن كان منتفياً يقيناً أو احتمالاً
عند العقلاء في موارد التعارض بين دلالتين وظهورين بحيث لا يعلم انّ العقلاء يبنون
على حجيته في هذه الموارد ، ولا دليل لفظي على الحجّية تعبداً ، بل لو فرض دليل
لفظي فهو إرشاد وامضاء للسيرة وبمقدارها.
أقول
: إذا كان الأمر
كذلك ـ كما هو ظاهر السيد الشهيد 1 في المقام ـ فهذا يوجب عدم حجّية دلالة العام وظهوره أيضاً
في غير المعلوم الخروج بالتخصيص ، فلماذا وافق عليه السيد الشهيد 1 هناك وفصّل بين
المقامين.
ويمكن
أن يجاب : بالفرق بين
المقامين ، فإنّه هناك لا يعلم بأكثر من تخصيص واحد ، فيكون العموم باقياً على
حجيته فيما زاد عليه ، بمعنى ظهور الكلام في ارادته كسائر أفراد العام ـ سواء في
ذلك عام واحد أو عامين ـ لأنّ العام ليس عبارة عن مجموعة دلالات وظهورات مستقلة
بعدد أفراده أو حالاته ، كما إذا قال : ( أكرم زيداً وأكرم عمرواً وهكذا ) ، بل له
دلالة اجمالية كلية على ارادة تمام الأفراد والحالات إلاّما خرج منها بالقرينة أو
بالعلم ، فيصحّ دعوى تشكّل دلالة وظهور إجمالي في ارادة ما ليس بخارج عنه واقعاً ،
فيكون حجة. وهذا بخلاف فرض التعارض بنحو التباين أو العموم من وجه ، فإنّه لا يوجد
كاشف على ارادة غير معلوم الكذب منهما إجمالاً ، أو إذا كان الآخر كذباً فهذا مراد
ومطابق للواقع ، بل يوجد كاشفان تعيّنيّان متكاذبان ، وإن كان يعقل ثبوتاً حجّية
كل منهما مشروطاً بكذب الآخر ، أو حجّية أحدهما إجمالاً ، إلاّ أنّه ليس عرفياً.
فالحاصل
: الوجدان العرفي
يرى الفرق بين حجّية العام في غير ما يعلم بتخصيصه أو خروجه عنه ، وبين موارد
التعارض بنحو التباين أو العموم من وجه ؛ ولعلّ وجهه ما ذكرناه ، والله الهادي
للصواب.
ص ٢٥٩ س ١ ، (
قوله : وهذا الوجه غير صحيح على ضوء ما تقدم ... ).
الجواب : الصحيح ما ذكر هناك من انّ مدرك الحجّية حيث انّه دليل
لبي ( سيرة العقلاء أو المتشرعة ) فقدره المتيقن غير موارد التعارض ، وإلاّ فقد
عرفت انّ الحجّية التخييرية سواء بمعنى حجّية غير معلوم الكذب منهما أو حجّية كل
منهما مشروطاً بكذب الآخر هو مقتضى الصناعة ، فما هو مذكور هنا في مقام الجواب
بظاهره غير فني. كما أنّ لازم هذا الوجه أيضاً ثبوت العلم الإجمالي
التعبدي في
التعارض بالعرض إذا كان الدليلان الزاميين ، ولم يعلم بثبوت أحدهما إجمالاً
وجداناً ، وهذا بخلاف الوجه القادم ، فإنّه لا يثبت إلاّنفي الثالث.
ص ٢٦١ قوله : ( أوّلاً : انّ هذه النقوض
... ).
يمكن للسيد الخوئي
تبديل النقوض بما لا يرد عليه هذا الاشكال أي بموارد من العلم بكذب البينة ، ووجود
المعارض لها يكون فيها المدلول الالتزامي دلالة اخرى للأمارة ، لا مصححاً وأثراً
شرعياً للمدلول المطابقي ، كما إذا دلّت البينة على أنّ زيداً قد صلّى الآن ،
فيدلّ بالالتزام على انّه متطهّر ؛ لأنّ اللازم العادي للمصلّى انّه متطهّر ، وليس
الطهور حكماً وأثراً شرعياً للصلاة ، أو قامت البينة على نزول المطر في الساعة
الفلانية ، والذي لازمه تحقق الغسل للأرض النجسة أو الشيء النجس الموضوع تحته ،
إلى غير ذلك من الأمثلة ، فإنّه فيها إذا علم بكذب البينة أو قامت بينة اخرى على
نفي مدلولها المطابقي مع احتمال صحة المدلول الالتزامي لا يقال بحجية البينة
الاولى في المدلول الالتزامي قطعاً ، فأصل النقض متجه.
ص ٢٦٢ قوله : ( وثانياً : انّ بعض هذه
النقوض ... ).
وبتعبير
أوضح : القائل بالتبعية
لا يدّعي الطولية ، بحيث لابد من حجّية المدلول المطابقي لكي تثبت حجّية الأمارة
في مدلولها الالتزامي ، ولهذا لو فرض مثلاً عدم ترتب أثر شرعي على المدلول
المطابقي للبينة ، وانحصار الأثر الشرعي على مدلولها الالتزامي لم يكن اشكال في
حجّية مدلولها الالتزامي ، والنقض الثالث من هذا القبيل ، وإنّما لم نقل بالحجية
فيه امّا لوجود التعارض
والتكاذب في شهادة
خبر كل واحد من الشاهدين مع الآخر ، أو لعدم وحدة المشهود به خارجاً ، فإنّ من
شرائط حجّية البينة وحدة المشهود به الخارجي للشاهدين كما هو منقح في محلّه.
ص ٢٦٤ قوله : ( وعلى هذا الأساس صحّ
التفصيل في التبعية بين الدلالة الالتزامية البينة عرفاً ... ).
هذا التفصيل ليس
تاماً بنحو الإطلاق ، بل في خصوص الموارد التي تشكل الدلالة البيّنة دلالةً
وظهوراً عرفياً مستقلاًّ عن المدلول المطابقي ، وليس دائماً كذلك ، فمثلاً دلالة
دليل الوجوب على نفي الحرمة بينة عرفاً لبداهة ووضوح التضاد بين الوجوب والحرمة.
إلاّ أنّه مع ذلك تتم فيه النكتة المذكورة في التقريب الثالث.
نعم ، في مثل « فَلَا تَقُل لَهُمَا
أُفٍّ » لو فرض أنّه من
الدلالة الالتزامية البيّنة يمكن دعوى أنّ ثبوت جواز قول افّ لهما في مورد لا يوجب
سقوط الدلالة الالتزامية الفحوائية على حرمة الأشد منه في ذلك المورد.
ص ٢٦٦ قوله : ( والتحقيق على ما أوضحناه
في محله في الفقه ... ).
الظاهر أنّ ما
ذكره السيد الشهيد في الفقه هو عبارة اخرى عن كون الحكومة ظاهرية أو واقعية فإنّه
إذا كان التمسك بدليل حجّية الأخبار مرة اخرى بلحاظ الخبر الذي يثبت تعبداً باخبار
المباشر لنا لزم ما ذكر ، وهذا هو معنى الحكومة الواقعية ، وامّا إذا كانت الحكومة
ظاهرية وانّ دليل حجّية الخبر المباشر لنا يرتب تعبداً وظاهراً تمام آثار ما يخبر به
الخبر المباشر لنا لزم التعارض كما هو واضح فراجع وتأمل.
ص ٢٧٠ قوله : ( الصورة الاولى ... ).
يمكن أن يقال : في
تمام موارد احتمال التعيين في طرف واحد أنّه بناءً على مسلك القوم من انّ الحجّية
متقومة بالوصول ، يقطع بعدم حجّية الدليل الآخر على تقدير الالتزام به للشك فيها
وعدم وصولها حتى على تقدير الالتزام بها ، وهذا يعني انّه تتشكل دلالة التزامية
للدليل الدالّ على ثبوت الحجّية في مورد التعارض في الجملة على ثبوتها في محتمل
التعين فيكون حجة ولو بمعنى منجزية الواقع لو لم يلتزم به سواء التزم بالآخر أم لا
؛ لأنّ الآخر يعلم بعدم حجّيته بالفعل على مبنى المشهور ، وحجّية دليل الالزام على
تقدير الالتزام به من دون الحكم الطريقي بلزوم الالتزام به لغو محض.
ثمّ إنّ أصل هذا
التفسير للحجية التخييرية بارجاعها إلى حجتين مشروطتين في الطرفين بالالتزام به مع
حكم طريقي بمعنى تنجيز الواقع وعدم جريان الاصول المؤمنة الجارية في نفسها في
المورد غير صحيح.
وتوضيح
ذلك : انّ الحجّية
وإن كانت حكماً وضعياً إلاّ أنّ ذلك مربوط بمرحلة الصياغات الاعتبارية والقوالب
الانشائية ، وأمّا روح الحكم الظاهري بالحجية فهي شدة اهتمام المولى بملاكاته
الواقعية الترخيصية والالزامية المتزاحمة تزاحماً حفظياً ، وترجيح ما هو الأهم
منها في مقام الحفظ بمقدار مؤدّى الحجة.
ومن الواضح انّ
مقدار ما يهتم به المولى في موارد تعارض دليلين وارادة الحجّية التخييرية لهما هو
عدم مخالفة كلا الدليلين ، وامكان ترتيب آثار أحدهما وتطبيق العمل على طبقه
باختياره في تمام المرات أو في كلّ مرّة مرّة ـ إذا كان التخيير استمرارياً ـ فهذا
المقدار هو روح الحكم الظاهري بالحجية التخييرية في
موارد التعارض
سواء جعلت في مرحلة الصياغة والاعتبار بعنوان حجّية أحدهما أو حجّية ما يختاره
منهما أو حجّية كل منهما مشروطاً بالالتزام به ، فإنّ ذلك لا يغيّر روح الحكم
الظاهري التخييري شيئاً.
وهذا المقدار لا
يقتضي سقوط الأصل الترخيصي اللفظي أو العملي الجاري في مورد التعارض أصلاً إذا لم
يكن فيه مخالفة لكلا الدليلين ، فلا مجال لدعوى استكشاف حكم طريقي بتنجيز الواقع
في مورد التعارض أكثر من هذا المقدار إذا لم يلتزم بشيء منهما دفعاً للغوية ، فإنّ
اللغوية مندفعة بالمقدار الذي ذكرناه ، فلا موجب لمثل هذا الاستكشاف الاضافي ، بل
هو خلاف إطلاق دليل الحكم الترخيصي الثابت في المسألة في نفسه إذا لم يكن فيه
مخالفة مع كلا الدليلين المتعارضين ، بل يلزم منه أن تكون الحجّية التخييرية أكثر
تنجيزاً للواقع من التعينية ، وهو غير محتمل.
نعم ، لازم
الحجّية التخييرية سقوط الأصل التنجيزي في المسألة إذا كان أحد الدليلين ترخيصاً
ونافياً له ، وهذا واضح.
وعلى هذا الأساس
تتغيّر النتيجة عما في الكتاب في أكثر الصور والفروض المذكورة فيه ، حيث يرتفع
موضوع تشكيل علم إجمالي بالحجة على الالزام أو الحكم الطريقي المنجز للواقع ،
والذي على أساسه حكم السيد الشهيد 1 بنتيجة التعيّن في فروض التعارض بين دليلين دالّين على
حكمين الزاميين.
وإنّما
الصحيح أن يقال : انّه في تمام الموارد التي يوجد فيها أصل لفظي أو عملي مقتضٍ للتنجيز في
المسألة كأطراف العلم الإجمالي الكبير غير المنحل أو وجود إطلاق لفظي يقتضي
الالزام أو وجود علم إجمالي بالتكليف في المورد
ـ كالدوران بين
القصر والتمام ـ أو كون الشبهة قبل الفحص ـ كالمقلّدين للمجتهدين ـ إلى غير ذلك ،
تكون النتيجة عند الدوران بين التعيين والتخيير في أحد الطرفين فقط التعيين ،
بمعنى لزوم العمل على طبق ما يحتمل تعيّنه ؛ لأنّه مفرّغ للذمة قطعاً ، بل ويجوز
له الافتاء على طبقه سواء التزم به أم لا ـ فإنّ الالتزام ليس شرطاً في الحجّية
أصلاً ، وإنّما الثابت هو الحكم الطريقي المتقدم ، وهو عدم مخالفة كلا المتعارضين
في موارد التخيير في الحجّية ـ.
نعم ، إذا كان
محتمل التعيين ترخيصياً والآخر الزامياً أمكن العمل على طبق الالزام ـ كما إذا كان
فتوى غير الأعلم بالالزام ـ إلاّ انّه لا ينافي أصالة التعيين المدّعى في المقام
من قبل المشهور ، فإنّه من الاحتياط في مورد الحجة على الترخيص ، وهو جائز حتى في
غير موارد التعارض ، غاية الأمر هنا لو قيل بأنّ التخيير ابتدائي لا استمراري ،
لابدّ من الالتزام بالعمل في تمام المرّات ، وذاك أمر آخر. كما انّه إذا كان احتمال
التعيين في كلا المتعارضين فالنتيجة التساقط والرجوع إلى مقتضى الأصل الالزامي
الموجود في المسألة ؛ لأنّ الأخذ بشيء منهما لا يكون مفرغاً لذمته عن مقتضى ذلك
الأصل الالزامي ؛ إذ يكون من الشك في الحجّية المساوق مع عدم الحجّية.
اللهم إلاّ أن
يستفاد التخيير بالملازمة من الدليل الخارجي الوارد في ذلك المورد ولو بالملازمة
العرفية ، وذاك أمر آخر.
وفي الموارد التي
يكون مقتضى الأصل اللفظي أو العملي في المسألة في مورد التعارض هو الترخيص ـ حتى
إذا كان المتعارضان معاً الزاميين بشرط أن لا يعلم إجمالاً بثبوت أحدهما ، وإلاّ دخل
في موارد اقتضاء الأصل للالزام ـ
تكون النتيجة
نتيجة التخيير مطلقاً ـ مع قطع النظر عن مسألة الاستمرارية وتعدد دفعات الابتلاء ،
وما قد يتشكل فيها من العلم الإجمالي التدريجي بالتكليف ـ وذلك لعدم إحراز الحجة
التعينية في الطرف المحتمل لها ، سواء كان طرفاً واحداً أو كلا الطرفين ـ فيجري
الأصل اللفظي أو العملي الترخيي عن مؤدّى دليل الالزام المحتمل تعيّنه إذا لم
يخالف مؤدّى الدليل الآخر.
وهذا يصدق حتى في
الدليلين الالزاميين المتعارضين إذا لم يعلم بثبوت أحدهما اجمالاً ـ كمثال الزيارة
والصدقة في الكتاب ـ فإنّه يمكنه ترك الزيارة إذا كان محتمل التعيين واجراء الأصل
المؤمّن عن وجوبها إذا جاء بالصدقة ، ولا يتشكل له علم إجمالي منجز لا بالواقع كما
هو واضح ، ولا بالحجة والحكم الظاهري الالزامي ؛ لاحتمال التخيير والذي لا ينجّز
أكثر من عدم مخالفة كلا المتعارضين.
وأمّا الحكم الطريقي
الذي ذكره السيد الشهيد 1 عدلاً وطرفاً للحجية التعينية وعلى أساسه شكل علماً
إجمالياً منجزاً ، فقد عرفت عدم الدليل عليه ، بل المقام من موارد الدوران بين
الأقل والأكثر في الحجة على الالزام ؛ إذ لو كانت الحجّية في الطرف المحتمل
تعينيّة كان اللازم هو التعيين ـ وهو التكليف الظاهري الأكثر ـ وإلاّ كان التخيير
وعدم ترك كليهما ـ وهو التكليف الظاهري الأقل ـ فيجري الأصل المؤمّن بلا معارض.
ففي تمام هذه
الصور النتيجة نتيجة التخيير ، أي بقاء الأصل الترخيصي اللفظي أو العمليى الجاريى
في المسألة على حجيته في نفي الالزام بأكثر من عدم مخالفة كلا الدليلين ، وهذا هو
نتيجة التخيير من غير فرق بين كون التعارض بين
دليلين أحدهما يدل
على الالزام والآخر على الترخيص ، أو كلاهما يدلاّن على الالزام ، وسواء كان يمكن
الاحتياط فيهما أو لا يمكن ـ كالوجوب والحرمة ـ إذا كان يحتمل كذبهما معاً أو كان
احتمال التعيين في الطرفين لا في طرف واحد ، وإلاّ كان الاحتياط بالفراغ اليقيني
بالحجة ممكناً ، وذلك بالعمل وفق محتمل التعيين. فهذا الفرض داخل في الفرض الذي
يكون الأصل الأولي فيه الاحتياط ، ولو بهذا المقدار المنجز به العلم الإجمالي بين
المحذورين ، إذا أمكن امتثاله اليقيني ولو بالحجة.
لا
يقال : في فرض احتمال
كذبهما معاً أيضاً يوجد علم إجمالي بالحجة على الالزام.
فإنّه
يقال : الحجّية
التخييرية ليست مساوقة مع الحجّية على الالزام إلاّ بمقدار عدم تركهما معاً كما
ذكرنا ، وهو غير ممكن هنا ، ومع امكان الاحتياط معلوم كون تركهما معاً مخالفة
تفصيلاً ، فلا يمنع عن جريان الأصل المؤمّن عن الطرف محتمل التعيين ، فهو من الأقل
والأكثر كما ذكرنا آنفاً.
نعم ، بناءً على
تصوير السيد الشهيد من تعيين الحجّية التخييرية فيما يلتزم به يحصل العلم الإجمالي
بالحجية التعيينية بالالتزام بغير ما هو محتمل التعيين ، كما يتشكل علم إجمالي
منجز بناءً على ترك الالتزام بهما معاً.
وبهذا يظهر أنّ ما
في الكتاب من التشقيقات التي التزم في بعضها بنتيجة التعيين لا وجه له.
نعم ، يمكنه
الافتاء بما يحتمل تعيينه إذا كان في طرف واحد ؛ لأنّه حجة عليه على كل حال ،
بخلاف الطرف الآخر ، أو إذا كان احتمال التعيين في كلا الطرفين ،
كما انّه إذا لم
يلتزم بشيء منهما أيضاً كان الطرف الآخر محتمل التعيين ، مما يمكن الافتاء به ؛
لأنّ الالتزام ليس له موضوعية في باب الحجّية حتى التخييرية.
كما انّه ليس
شرطاً لجريان الأصل المؤمّن ، فما في الكتاب مما لا يمكن المساعدة عليه من جهتين :
الاولى : انّ الحجّية التخييرية لا ينجّز الواقع بأكثر من عدم
مخالفة كلا الدليلين لا أكثر ، ونتيجته جريان الأصل المؤمّن كلما لم يلزم مخالفة
كلا الدليلين ، سواء التزم بأحدهما أم لا.
الثانية : انّ الالتزام بأحدهما أيضاً لا يوجب زوال التخيير ما لم
يعمل ، أي ليس له موضوعية ولا يغيّر روح الحكم الظاهري التخييري من حيث كونه
تخييرياً إلى كونه تعيينياً ، ونتيجته انّه لو التزم بغير ما يحتمل التعيين وكانا
الزاميين لا يتشكل علم إجمالي بالحجة المعينة على الالزام دائرة بين متباينين لكي
يكون علماً إجمالياً منجزاً. كما انّه في صورة عدم الالتزام بشيء منهما أيضاً لا
يتشكل علم إجماليى منجز بالحجة المعينة أو الحكم الطريقي المنجز.
وقد يتصوّر أنّ ما
ذكره السيد الشهيد 1 هنا مبني على ارادة التخيير في المسألة الاصولية ، وسوف
يأتي انها متوقفة على مثل هذا التصوير.
إلاّ أنّه بلا
موجب على ما سيأتي ، بل سوف لا يأتي فيما بعد أنّ التخيير الاصولي يقتضي سقوط
الأصل المؤمّن أصلاً ، فهذه الخصوصية أمر زائد لا موجب له حتى في التخيير الاصولي
وخلاف إطلاق أدلّة الترخيصات إذا تمّ موضوعها في مورد المتعارضين.
ص ٢٨٨ قوله : ( البيان الأوّل ... ).
قد
يقال : في ابطال هذا
البيان أنّ المتعارضين بنحو التباين لو كان لأحدهما معارض بنحو العموم من وجه بحيث
سقط في مورد اجتماعه معه عن الحجّية بالتعارض معه كما إذا ورد ( يستحب التصدّق على
الفقير ) ، وورد ( يكره التصدّق على الفقير ) ، وورد ( لا يستحب التصدّق على
الفاسق ) ، المعارض مع الأوّل منهما بنحو العموم من وجه ، لابد من أن يحكم بتخصيص
العام الثاني بالأوّل بعد التساقط في مورد اجتماعه مع الدليل الثالث لأنّ المقدار
الحجّة منه أصبح أخص مطلقاً من العام الثاني مع انّ هذا ما لا يلتزم به القائلون
بانقلاب.
فلا يمكن أن يكون
هذا البيان هو مبنى انقلاب النسبة.
والجواب
: انّ مورد
الاجتماع يقع فيه التعارض بين عموم ( يستحب ) ، والخطابين الآخرين في عرض واحد ،
فيسقط الجمع ، ومعه لا معنى لأن يخصّص عموم ( يكره التصدّق ) بالعام الأوّل ؛
لأنّهما بما هما حجة متباينان ، كما هو واضح.
إلاّ انّه مع ذلك
هذا الوجه يمكن أن لا يكون هو مبنى الانقلاب ، ويمكن أن ينقض عليه بما إذا كان بعض
مدلول الدليل المعارض بنحو التباين مما يقطع من الخارج بعدم صحته ، فيكون المقدار
الحجة منه أخص ، فإنّه لا يلتزم فيه بالتخصيص.
ص ٢٩٣ قوله : ( وهناك وجه آخر لتصحيح
انقلاب النسبة ... ).
قد عرفت في
التعليق السابق انّ هذا يمكن أن يكون هو مبنى الانقلاب ، وهناك وجه آخر غير ما
ذكره السيد الشهيد يمكن أن يكون هو مبنى الانقلاب
وهو سليم عن
الاشكال الذي سيذكره السيد الشهيد في نكتة الأخصية والقرينة ، وحاصله :
انّ الميزان في
القرينة ما يكشف عما هو المراد من الخطاب الآخر ، لا الأقوائية ليقال بأنّها لا
تتغير بالمخصّص المنفصل ، وهذه النكتة مشتركة ، كما تتم في الخاص الذي يكون مدلوله
أخص ، كذلك تتم فيما إذا كان مدلوله مساوياً لا أخص ولكن أمكن الكشف عن انّ المراد
منه هو الأخص ولو بقرينة منفصلة لأنّه بذلك يكشف عن انّ ما هو المراد منه هو ما
عدا مورد التحقيق.
فالحاصل ،
المصادرة الاضافية التي نحتاجها زائداً على ما تقدم في نظرية التخصيص انّ الكاشف
عن كون المراد الجدي من الخطاب هو الأخصّ لا يشترط فيه أن يكون حاصلاً من ظهورات
نفس الخطاب بل يمكن أن يكون بضم ظهور إلى ظهور ولو من جهة ظهور منفصل عنه ولكنه
بشرط أن يكشف عن ذلك بحيث تكون النتيجة تحديد ما هو المراد من الخطاب العام
المعارض وانّه المقدار الأخص فيكون من القرينة على القرينة وهي كالقرينة عرفاً.
وهذه النكتة تتم
في الأخص لا المعارض المسقط للاطلاق عن الحجّية كالعامين من وجه مع قطع النظر عن
الجواب المتقدم في التعليق السابق ، لأنّ السقوط عن الحجّية وصيرورة المقدار الحجة
أخص لا تكفي للقرينية والكشف عن انّ المراد منه هو الأخص كما هو واضح.
وهذه النكتة عرفية
ليست مستبعدة عن الذوق العقلائي فإنّهم يتعاملون مع القرائن المنفصلة معاملتهم مع
القرائن المتصلة من حيث الكاشفية عن المراد الجدي ؛ كما انّ نكتة الأخصية
والقرينية تكمن في الكاشفية عن المراد الجدي
لا ما ذكره السيد
الشهيد 1 من درجة التركيز والأقوائية في الدلالة فإنّها ممنوعة في الأخصية على ما تقدم
فيما سبق.
وإنّما الأمر
بالعكس بحيث انّ أقوائية الدلالة إذا لم تكن ورائها القرينة في مقام الكشف عن
المراد الجدي بأن يكون العقلاء قد جعلوا طريقتهم في الكشف عن مراداتهم ارادة
الأظهر في قبال الظاهر لم يكن وجه لتقديم الأظهر.
والحاصل
: كبرى انقلاب
النسبة أمر مطابق مع الذوق العقلائي جداً ، ولعلّ ما ينبه عليه انّه إذا فرض ورود
مخصص على أحد المتعارضين بنحو العامين من وجه في مورد افتراقه عن الآخر كما إذا
ورد ( أكرم العالم ، ويحرم اكرام الفاسق ) وورد ( لا يحرم اكرام الفاسق الجاهل أو
غير العالم ) ، خصوصاً إذا كان بلسان التفسير والقرينية الشخصية ، كما إذا قال : (
مقصودنا من حرمة اكرام الفاسق إنّما هو العالم الفاسق ) ، فإنّه من المستبعد الحكم
بسقوط خطاب يحرم اكرام الفاسق عن الحجّية في مورد التخصيص باعتبار المخصّص ، وفي
مورد الفاسق العالم بالتعارض بل يجمع بينها بأنّ المراد انّ الحرام اكرام العالم
الفاسق ، والواجب اكرام العالم العادل ، ولا يجب ولا يحرم اكرام الجاهل الفاسق ،
فيعمل بالأدلّة الثلاثة.
ص ٢٩٩ قوله : ( وهذا البيان غير تام ،
وذلك ... ).
الايرادات الثلاثة
كلها غير وجيهة ، والحق مع السيد الخوئي 1 من وقوع التعارض وسريانه بين الأطراف الأربعة ، وذلك :
امّا النقض
بالعامين المتباينين الذي ورد على كل منهما مخصّص يخرج موضوعاً واحداً منهما ، فهو
غير متّجه ؛ لأنّ الخاصين لو لم يكونا صادرين كان
التعارض بين
العامين ثابتاً في تمام مدلوليهما ، وسارياً إلى سنديهما على كلّ حال ، وهذا يعني
خروج الخاصين عن دائرة المعارضة الموجبة للتساقط بين ظهور العامين.
وهذا بخلاف المقام
، فإنّ التعارض ليس بين تمام مدلول العامين ، بل بين اطلاقيهما في مورد الاجتماع ،
ولهذا لا يسري إلى السندين ، وإنّما يسري التعارض اليهما من جهة صدور الخاصين
الموجب لشمول التعارض لتمام مدلول العامين ، بحيث لابدّ وأن يكون سند أحدهما أو
أحد الخاصين على الأقل ـ بناءً على انقلاب النسبة ـ ساقطاً ، فالنقض غير وارد.
وأمّا الايراد
الثاني فيلاحظ عليه : بأنّ العلم الإجمالي بعدم جدية ظهور أحد العامين إذا اريد به
عدم جدية ظهور أحدهما في مورد الاجتماع ، والذي هو بعض مدلوليهما ، فالعلم
الإجمالي بعدم جدية أحد هذين الظهورين في مورد الاجتماع وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه
لا يكفي لحلّ العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ العلم الإجمالي الكبير معلومه أكثر من
هذا المقدار ؛ لأنّ ظهور العامين في موردي الافتراق مع الخاصين لا يمكن جدّيتها
جميعاً حتى إذا كان ظهور أحد العامين في مورد الاجتماع غير جدّي ، وهذا يعني اننا
لو جزّئنا ظهور العامين إلى موردي الاجتماع والافتراق كان أمامنا ستة ظهورات ،
أربعة للعامين في موردي الاجتماع والافتراق واثنان للخاصين ، ويعلم بكذب اثنين من
الأربعة واحد في مورد الاجتماع وظهور من الأربعة الاخرى في مورد الافتراق.
وبتعبير
أدقّ : لابد من كذب أحد
الاطلاقين والظهورين للعامّين في مورد الاجتماع وكذب أحد الخاصين أو العام الذي
ليس ظهوره جدياً في مورد
الاجتماع ، وهذا
يعني انّ المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير عدم جديته في مورد الاجتماع لا يكفي لحلّ
العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ معلومه أقل من معلوم العلم الكبير.
وإذا اريد عدم
جدية أحد العامين المتعارضين في تمام مدلوله ـ مورد الاجتماع والافتراق ـ فهذا
العلم لو كان ، كفى في انحلال العلم الإجمالي الكبير ، ولكنه لا يوجد علم من هذا
القبيل جزماً ، وإنّما الثابت هو العلم الإجمالي بكذب أحد الاطلاقين والظهورين
للعامين من وجه ، في مورد الاجتماع لا أكثر.
فالتعارض بين
الظهورات الأربعة في موردي الافتراق ـ أعني ظهور الخاصين وظهور العامين في موردي
الافتراق ـ مستحكم وموجب لسقوطها جميعاً ، كسقوط العامين في مورد الاجتماع بالعلم
الإجمالي الصغير ، فإذا كان السند للظهورات المذكورة ظنياً سرت المعارضة لا محالة
إلى اسنادها.
وأمّا الايراد
الحلّي ـ والذي هو المهم ـ فيلاحظ عليه : انّ العام الذي يعلم بعدم جدية ظهوره في
مورد الاجتماع إجمالاً لا يمكن أن يكون الخاص الراجع إليه بلحاظ مورد افتراقه
قرينةً ومخصصاً له ، بل هو معارض معه ، فإنّ الخاص إنّما يكون قرينة على العام
فيما إذا كان يبقى تحت العام ما يمكن أن يكون هو مدلول العام ، وأمّا إذا علم ـ تفصيلاً
أو إجمالاً ـ أنّ الباقي بعد التخصيص ليس بمراد من العام ، وانّه غير جدّي
فالمخصّص عندئذٍ يكون معارضاً معه ، كما إذا قال : ( أكرم العالم ) وعلمنا بأنّه
غير جدي في العالم الفاسق ، وانّه لا أمر باكرامه ، ثمّ ورد ما يدلّ على عدم وجوب
أو استحباب اكرام العالم العادل كان معارضاً معه جزماً ،
وهذا يعني أنّ أحد
الخاصين في المقام إجمالاً يعلم بكون معارضته مع عامه مستحكمة وموجبة للتساقط ،
وهو معنى سريان التعارض إلى ظهور الخاصين ، وبالتالي إلى سنديهما إذا كانا ظنيين.
نعم ، يصح ما ذكره
السيد الشهيد في مورد وجود خاص واحد لأحد العامين من وجه يخرج مورد افتراقه بناءً
على انكار انقلاب النسبة ، حيث يقال بسقوط العام المختص به عن الحجّية وسراية
التعارض إلى سنده ؛ لسقوط تمام مدلوله في مورد الاجتماع ـ بالتعارض المستقر ـ وفي
مورد الافتراق بالتخصيص وعدم سريان التعارض إلى ظهور الخاص ؛ لكون معارضته غير
مستقرة وصالحة للقرينية ؛ إذ لا يعلم بكذب وعدم جدية ظهور عامه في مورد اجتماعه مع
العام الآخر. بل لعلّ ما ليس بجدّيى إنّما هو ظهور العام الآخر في مورد الاجتماع ،
فيقال بأنّ هذا كاف للقرينية في المقام ، وإن كان مدلوله ساقطاً عن الحجّية
بالتعارض في مورد الاجتماع مع العام الآخر ؛ لأنّه يحتمل جدّيته ثبوتاً ، فيتعين
ظهور العام المخصّص في موردي الاجتماع والافتراق للسقوط دون ظهور الخاص ، ويسري
التعارض إلى سنده أيضاً من باب اللغوية.
وانقدح بما ذكرناه
أنّ ما جاء في ذيل هذا البحث في الكتاب ص ٣٠٢ من انّه لو فرض صدور الأدلّة الأربعة
في مجلس واحد متصلاً كان كل من الخاصين تام الاقتضاء في الكشف عن المراد من العام
المتصل به ، وينحصر التعارض والاجمال في العامين فقط غير تام أيضاً ، بل يسري
الإجمال إلى ظهور الخاصين جزماً للعلم بعدم جدية أحدهما أو أحد ظهوري العامين في
موردي الافتراق.
أو بتعبير أدق :
عدم جدية العام الذي يعلم بعدم جدية اطلاقه وظهوره في
مورد الاجتماع ،
وهذا موجب للاجمال جزماً ، وقياس ذلك بما إذا لم ينعقد دلالة تصورية من أوّل الأمر
في العامين إلاّبلحاظ مورد الاجتماع غير صحيح ، فإنّ ذلك خارج عن الفرض.
ص ٣٠٥ قوله : ( التحقيق انّ هذا الكلام
ليس جواباً ... ).
هذا الاشكال إنّما
يرد إذا كان مبنى انقلاب النسبة ما ذكر من انّ الميزان بالأخصية في الحجّية وامّا
إذا كان الميزان في انقلاب النسبة ما ذكرناه نحن أو أحد البيانات الاخرى من قبيل
الغاء الفواصل الزمنية واعتبار الأدلّة جميعاً في مجلس واحد فما ذكره السيد الخوئي
1 من الجواب تام لا محالة كما هو واضح.
ص ٣٠٧ قوله : ( وقد ترد هنا الشبهة
المتقدمة في الجهة السابقة ... ).
بل هذا المورد
أيضاً مما يحكم العرف بالانقلاب فيه ، وانّ خطاب يكره اكرام العالم الفاسق بعد
ورود أخص الخاصين ولو متصلاً بالعام علم بأنّ تمام المراد منه هو كراهة اكرام
العالم الفاسق غير الكذاب ، وامّا هو فيحرم اكرامه ، فعندئذٍ يتعامل العرف بينه
وبين العام المخصص بالتخصيص ؛ لأنّ ملاكه وهو القرينية على ما هو المراد من العام
ثابت فيه ولو في طول التخصيص ، فليس المدار في القرينة على أن يكون الظهور
والدلالة التكوينية أخص ، كما انّه ليس المدار بأخصية الحجة ، وإنّما المدار
بأخصية الكاشف عمّا هو المراد من الخطاب ، ولو كان نتيجة ضم ظهورات منفصلة بعضها
إلى بعض ، وهذا هنا محفوظ.
ولعلّ دعوى انّ
الخاصين المذكورين حكمهما واحد في فرض انفصالهما عن البيان أو اتصال أخصهما به
عرفاً ليست مجازفة.
وقد ينقض على جعل
الملاك في القرينة بالأخصية بحسب ذات المدلول والدلالة بأنّ لازمه عدم تقديم
الخاصين الواردين على العام الواحد إذا كانا مستوعبين لتمام أفراده ولكن كان
بينهما تعارض بنحو العموم من وجه بحيث يسقطا عن الحجّية فيه ورجعنا فيه إلى العام
فإنّه لا إشكال في امكان تخصيص العام حينئذٍ بموردي افتراقهما واختصاص العام بمورد
الإجتماع لهما ، مثاله : ( يستحب اكرام كل عالم ) ، و ( يكره اكرام العالم غير
المسلم ) ، و ( يجب اكرام العالم الموحد ) ، والنسبة بين الموحد وغير المسلم عموم
من وجه ؛ لأنّ بعض غير المسلمين موحدين ، فإنّه بعد تساقط الخاصين في الموحد غير
المسلم ـ كالمسيحي واليهودي ـ يرجع فيه إلى العام ويخصص العام بالمسلم والكافر غير
الموحد فيجب اكرام العالم المسلم ويحرم اكرام العالم غير الموحد ـ أو المشرك ـ ويستحب
اكرام العالم الموحد غير المسلم. وهذا هو مقتضى الصناعة والعمل فقهياً.
بينما على القول
بأنّ ملاك القرينية بالأخصية للمدلول يقال بأنّ مجموع الخاصين مدلولهما ليس أخص بل
مستوعب لتمام أفراد العالم فلا تصلح للقرينة وسقوط الدلالة عن الحجّية في مورد
الاجتماع لا يجعله قرينة.
والجواب
: انّ القرينية في
المقام ثابتة لكل من الخاصين بحسب مدلوله في نفسه ، وإنّما المحذور عدم امكان
الجمع بين القرينتين والخاصّين ؛ لاستيعابهما تمام مدلول العام ، فالمحذور في
الجمع بينهما ، وهو فرع حجيتهما في مورد الاجتماع ، فإذا سقطا لم يلزم الجمع
بينهما لكي لا يكون قرينة.
وفذلكة
البحث : انّ هناك
احتمالات ثلاثة في تحليل كبرى القرينية والتخصيص :
الأوّل
: أن يكون الميزان
فيها بكون الدلالة والظهور التكويني التصديقي أخص سواءً كان حجة أم لا ، وذلك
لأقوائية كاشفيته عن المراد أقوائية نوعية ناشئة من مزيد التركيز في الدلالة
المحفوظ في الأخص بالقياس إلى الأعمّ ، وهذا مبنى عدم انقلاب النسبة لوضوح عدم
حصول هذه النكتة في المعارض بعد تخصيصه بمخصص منفصل حتى لو كان المقدار الباقي فيه
على الحجّية بعد التخصيص أخص من معارضه.
الثاني
: أن يكون الميزان
بكون ما هو الحجة أخص ؛ لأنّ التعارض إنّما يكون بين الحجج لا الأعم مما يكون حجة
ولا يكون فلابد وأن تلحظ النسبة بين الأدلّة بما هي حجة ، وهذا مبنى لانقلاب
النسبة ، والسيد الشهيد 1 كأنّه جعل تحليل كبرى القرينية ونكتتها منحصراً ومردداً
بين هذين الاحتمالين ، وعندئذٍ أبطل الثاني الذي هو مبنى الانقلاب بأنّ الأخصية في
الحجية لا تكفي لتفسير القرينية ؛ إذ لا نكتة فيها إلاّ التعبد ، وهو لا يناسب
البناءات والقرارات العقلائية في باب الطرق والامارات ، فيتعيّن الأوّل وهو مبنى
عدم الانقلاب.
إلاّ أنّ هناك
احتمالاً ثالثاً في تفسير القرينية يكون مبنى لانقلاب النسبة من دون أن يلزم منه
تعبدية البناء العقلائي في التقديم :
الثالث
: أن يكون الميزان
في القرينة صلاحية الخاص والقرينة لتقييد العام بلحاظ كيفية المبين لا قوّة البيان
، وتلك الكيفية هي كونها بمثابة اضافة القيد والحد والتفسير ، فإنّ هذا قد يكون
بملاك النظر والتفسير الشخصي الصريح ، وقد يكون كذلك عند النوع ؛ لكونه المناسب
معه كما تقدم في محلّه.
وهذه نكتة طريقية
لا تعبدية وهي أولى من نكتة الأقوائية في الاحتمال الأوّل
لما تقدم في محلّه
من عدم ابتناء القرينية على الأقوائية في الظهور ، وإن كانت الأقوائية قد تكون
أيضاً موجبة للقرينية.
والمصادرة أو
التوسعة الاضافية التي ندعيها هنا أنّ هذا التحديد للمراد بلسان التقييد والتخصيص
ونحوه ـ لا مجرد سقوط الظهور عن الحجّية ، كما في موارد التعارض بنحو العموم من
وجه ونحوه ـ لا فرق فيه بين حصوله بدليل وظهور واحد أو من مجموع ظهورين منفصلين ،
فيكون بمثابة القرينة على القرينة عرفاً ومسامحةً ، فأكرم كلّ عالم إذا ورد عليه
لا يجب اكرام العالم غير العادل أصبح الكاشف التصديقي الفعلي عن مدلول مجموعهما
انّ العالم العادل يجب اكرامه كما إذا اورد ذلك في ظهور واحد وهو صالح لتقييد
وتحديد المراد بلا تكرم العالم أيضاً ؛ فكأنّ للخاص دلالتين عرفاً ، دلالة ايجابية
تقتضي اخراج مفاده عن العام المخصّص به ودلالة ثانية سلبية على انّ المراد من ذلك
العام ما عدا الخاص ، وهذه الدلالة وإن كانت مركبة من مجموع دلالة الخاص وضمها إلى
العام وهي تتبع أخسّ المقدمتين أي تكون في قوّة دلالة العام أو المطلق لا الخاص أو
المقيّد إلاّ أنّها تكفي لتخصيص العام الآخر بهما ؛ لأنّ الميزان في التخصيص
بالكشف عن المفاد الأخص لا أقوائية الدلالة ، فيصلح أن يكون مفسراً ومخصِّصاً
لعموم النهي عن اكرام العالم بغير العادل.
فالحاصل
: القرينية إنّما
تكون بملاك خصوصية في المبين والمنكشف بما هو منكشف ، فكلّما كان كاشف وظهور فعلي
شخصي أو نوعي على ما هو المراد الجدي من خطاب ، سواء كان بظهور واحد أو بضم ظهور
إلى ظهور ، وكان ذاك المراد والمنكشف بمجموع الظهورين صالحاً للتفسير والقرينية
نوعاً بالنسبة لخطاب ثالث ، كفى ذلك في القرينية.
وإن
شئت قلت : كما أنّ العام
المخصَّص إذا كان تخصيصه بالمتصل بنحو الجملة المستقلة ، كما إذا قال : ( أكرم كل
عالم ، ولا يجب اكرام فسّاق العلماء ) يصلح لتخصيص عموم لا يجب اكرام العلماء ،
كذلك الحال فيما إذا كان المخصّص المتّصل منفصلاً عنه ، فإنّه في كلا الفرضين
المقتضي للظهور التصديقي الجدّي في العموم موجود في العام المخصّص ، وهو الظهور
التصديقي الأوّل ـ الاستعمالي ـ إلاّ أنّه لأقوائية مقتضي المخصّص المتصل لا يصبح
الظهور الجدّي في ارادة العموم فعلياً حتى في عالم انعقاد الظهور الحالي ، فضلاً
عن الحجّية ، فكذلك الحال في المخصّص المنفصل فإنّه وإن كان لا يرفع انعقاد الظهور
الحالي ، وإنّما يرفع حجيته ، ولكن بنكتة القرينية النوعية والكشف عمّا يراد به
جدّاً ولو بضم القرائن المنفصلة ، لا مجرد سقوطه عن الحجّية كما في موارد التعارض
، فهذه النكتة الموسعة مقبولة ومطابقة مع الذوق العرفي كما أفاده الميرزا والسيد
الخوئي.
ص ٣٠٩ قوله : ( الحالة الاولى ... وإلاّ
تعيّن العام المخصّص للسقوط ... ).
أي غير مورد
التخصيص لا أكثر ، فلا يسقط سنده الظني عن الحجّية مطلقاً ، لامكان الأخذ به في
مورد التخصيص ، وهذا واضح.
ص ٣٠٩ قوله : ( الحالة الثانية ... ).
أقول
: تخصيص العام غير
المخصص بالمقدار المتيقن يتم بلا حاجة إلى فرض ورود مخصص في البين أصلاً لأنّ
قطعية صدور العام المخصّص وقطعية جهته يوجب القطع بثبوت مفاده في الجملة واقعاً ،
فإذا كان له متيقن سقط العام الآخر عن الحجّية فيه ووقع التعارض بينهما في الباقي
وإن كان دائراً
بين متباينين كان
من القطع الإجمالي بالتخصيص الموجب لسقوط العام عن الحجّية في قباله حتى بالعنوان
الإجمالي في غير معلوم التخصيص إذا كان العام الزامياً لما ذكر من سقوط ذلك
بالمعارضة في المقام مع ظهور العام المخصّص فلا يتوقف هذا البيان على ورود المخصّص
وتشكل دلالة التزامية فيه لتكون صالحة للقرينية.
هذا ، مضافاً إلى
أنّ هذا المدلول القطعي للعام قطعي الجهة ، كما يمكن ضمّه إلى المخصّص لتتشكل فيه
دلالة التزامية لحديث المعصوم أخصّ من العام الآخر يمكن ضمه إلى نفس العام
المخصَّص بما هو مدلول لأصل الحديث ، فيكون أخصّ لا لمفاده الذي هو قضية مطلقة أو
مهملة.
ص ٣١١ قوله : ( فإنّه يقال : ... ).
قد يقال : هذا
الكلام غير فني لأنّ الدلالة الالتزامية في حديث الإمام قضية شرطية كما تقدم ولا
يثبت شرطها إلاّبدليل حجّية السند الظني للعام المخصّص ، والمفروض انّ دلالتها لا
تصلح للقرينية والتخصيص ، فالنتيجة تتبع أخسّ المقدمتين ، ولا يقاس بالحالة
السابقة حيث كانت تتشكل فيها دلالة التزامية لنفس الخاص ، أي حديث الإمام 7 على أساس القطع
الوجداني بثبوت حكم العام المخصّص في الجملة.
فالحاصل : كما لا
يكون الحكم الإجمالي الذي يشهد به الراوي صالحاً لتخصيص العام الآخر ؛ لأنّه حجة
ظنية تعارض حجة ظنية اخرى ، وكونها أخص وأضيق منها لا أثر له بعد أن كان التقديم بالأخصية
في باب ظهورات كلام متكلم واحد ، وبمقدار الكشف عن المراد ، لا انّ كل حجة أضيق
تتقدم
على حجة أوسع ،
كذلك في المقام ، فلا فرق في ذلك بين أن يرد مخصّص على العام قطعي الجهة أم لا ؛
لأنّ ما سوف تتشكل له من الدلالة على القضية الشرطية بما هي شرطية لا تصلح لتقييد
العام الآخر ، وبضمها إلى السند الظني وإن كان يثبت الجزاء ، إلاّ انّه بكاشف
معارض مع عموم العام غير المخصّص فلا يصلح للتقديم.
لا
يقال : صدور العام قطعي
الجهة يلازم ثبوت حكمه في غير دائرة التخصيص والسند الظني يثبت هذا الأمر الموضوعي
، فليست الدلالة الالتزامية للمخصص متوقفة على القطع الوجداني.
فإنّه
يقال : هذا صحيح ، إلاّ انّه
لا يجدي لأنّ ثبوت ذاك الواقع الموضوعي المستلزم لثبوت حكم العام القطعي في غير
دائرة التخصيص إذا لم يكن بالقطع والوجدان بل بالتعبد كان ذلك الكاشف التعبدي
داخلاً في التعارض مع عموم العام الآخر لعدم صلاحيته للتقييد والتخصيص بحسب الفرض
، إذ ليس كل حجة وطريق وكاشف أخص تتقدم على الأعم.
وإن
شئت قلت : انّ ترتب ذلك
الحكم الأخص في غير دائرة التخصيص ليس وجدانياً بل تعبدي بدليل حجّية السند الظني
؛ لأنّ الحكومة ظاهرية لا واقعية ؛ إذ قد لا يكون صادراً ومعه لا دلالة التزامية
في حديث الامام الخاص واقعاً ، والمفروض انّ هذه الكاشفية معارضة ولا تصلح
للتقديم.
لا
يقال : الراوي يشهد
بوجود منشأ الدلالة الالتزامية في حديث الامام الخاص فيكون كشهادة الراوي بصدور
خطاب خاص من حيث انّه يتقدم على أصالة عموم العام الآخر نظير نقله لرواية أخص يخصص
به العمومات.
فإنّه
يقال : لو شهد الراوي
بوجود دلالة وحديث أخص تمّ ما ذكر ، إلاّ انّه منتف في المقام ، وإنّما يشهد بثوبت
الحكم الشرعي وثبوته واقعاً لا يكفي لتشكل الدلالة الالتزامية وإنّما العلم به
وجدناً يوجب تشكل دلالة التزامية في الحديث الأخص كما في الحالة الاولى.
فالحاصل : لابد من
القطع الوجداني بالحكم الشرعي لكي تتشكل دلالة التزامية وكاشفية فعلية للحديث
الأخص والتي هي القرينية ، ولا يكفي ثبوته بدليل تعبدي ، ولا يقاس بالشهادة على
الظهور الأخص ؛ لأنّ الظهور لها موضوعية ، فتكون الشهادة به تعبداً بوجود القرينية
الموضوعية على خلاف العام بخلاف المقام فإنّ الدلالة هنا دلالة المدلول والتي تحصل
من العلم بالشرط والتعبد لا يشهد بالعلم.
هذا ، ولكن هذه
الشبهة جوابها : أنّ ما يكون قرينة على التخصيص في المقام أيضاً أمر موضوعي ، وهو
الدلالة الالتزامية في حديث صادر من معصوم تكون أخص من عموم عام ، وهذا يثبت
تعبداً بضمّ دليل المخصّص إلى دليل العام قطعي الجهة ، حتى إذا كانا ظنيّين سنداً
، وأي فرق بين أن يثبت بسند ظني واحد أو بمجموع خبرين وسندين ظنيّين.
وأمّا إذا كان
العام المخصَّص ظني الجهة ، فلا يثبت ذلك إلاّبالتمسك بأصالة الجد ، وهي لا تجري
في القضية المهملة ، وفي القضية المطلقة معارضة في كل جزء مع أصالة الجد في العام
الآخر ، فلا محرز لهذا المخصِّص والقرينة الموضوعية.
حكم التعارض
طبق الأخبار الخاصة
ص ٣١٦ قوله : ( الثانية ... ).
إلاّ أنّ لسان
الاستنكار والتحاشي بل التعبير بقوله لم أقله كالصريح في ارادة نفي الصدور كجملة
خبرية لا نفي الحجّية.
ص ٣١٩ قوله : ( الاولى ... الثانية ...
).
الفرق بين الأمرين
انّه في الأمر الأوّل يفترض انّ مفاد هذه الطائفة عرفاً نفي حجّية مطلق الخبر لأنّ
الحجّية إنّما تجعل للخبر في مورد لا يكون فيه دليل قطعي آخر كالسنة القطعية أو
الكتاب الكريم فكأنّ الوارد فيها ابتداءً عدم حجّية غير القطع في ناحية السند ،
فيكون مفادها الغاء حجّية خبر الثقة بما هو خبر ، وإنّما الحجّية للكتاب والسنة
القطعية. وحيث انها أخبار آحاد فيشمله بنفسها فلا يمكن الاستدلال بها على ذلك في
نفسه ـ أي سواء كان لها معارض أم لا ـ للزوم الخلف والتناقض.
وامّا الأمر
الثاني فالمفروض فيه انّ مفاد هذه الطائفة ليس عدم حجّية خبر الثقة مطلقاً ليشمل
نفسها ، بل عدم حجّية صنف منه إلاّ انّ تخصيص إطلاق دليل حجّية خبر الثقة بغير ذلك
الصنف غير ممكن لأنّه القدر المتيقن منه مثلاً ، فيقع
التعارض بينهما
فلا يبقى ما يثبت حجيتها ، أي التعارض بين ظهور أدلّة حجّية خبر الثقة ـ لكون
سندها قطعياً ـ وسند هذه الطائفة ، وحيث انّ حجّية سند هذه الطائفة متوقفة على
حجّية ظهور دليل الحجّية العام فتكون في طولها ، وما يكون حجيته في طول حجّية دليل
آخر يستحيل أن يعارض ذلك الدليل ، بل يتعيّن هو للسقوط ، فلا يسري التعارض
والتساقط إلى ظهور دليل الحجّية العام.
ومن هنا أجاب
السيد الشيهد 1 عنه بأنّه مبني على انحصار دليل الحجّية العام في الدليل
اللفظي ، وأمّا لو كان في البين دليل لبي متمثل في السيرة أمكن التمسك به لاثبات
حجيتها والردع عن الجزء الآخر للسيرة ، أي في غير هذا الخبر وما عليه شاهد من
الكتاب.
إلاّ أنّ امكان
الردع عن السيرة بمثل رواية أو روايتين تقدم في محلّه عدم تماميته.
إلاّ أنّ كلا هذين
الجوابين مبنيان على أن يكون مفاد هذه الطائفة الغاء حجّية سند الروايات التي لا
شاهد عليها من كتاب الله بنحو التخصيص لا التخصّص ، وإلاّ لم تكن معارضة ولا
مخصّصة لأدلّة الحجّية العام.
وتوضيح
ذلك : انّه قد تقدم
عدم حجّية خبر الثقة إذا كان توجد أمارة عقلائية قوية على خلاف مضمونه ـ كاعراض
المشهور ـ لأنّ هذا خارج عن معقد السيرة العقلائية على الحجّية ، كما أنّ الأدلّة
اللفظية لا إطلاق لها لمثل ذلك ؛ لكونها امضائية أو لا إطلاق فيها في نفسها.
ومفاد هذه
الروايات بيان صغرى ذلك ، وأنّ الأئمّة المعصومين : أحاديثهم لا تكون على خلاف الكتاب وسنّة النبي 6 ، بل لا تكون
خارجة عمّا فيهما ،
فما لا شاهد عليه
من الكتاب ولا السنة غير صادر منا ، فيكون نفس هذا قرينة نوعية على عدم الصدور أو
وجود خلل في السند.
فالحاصل
: مفاد هذه الطائفة
أنّ العرض على الكتاب والسنة النبوية وعدم وجود مضمون الخبر فيهما ، بحيث يكون
عليه شاهد عليه موجب لعدم الحجّية تخصّصاً لا تخصيصاً ، أي من باب كونه بنفسه
قرينة نوعية على وجود خلل في الخبر من حيث الصدور ، وهذا وارد على دليل الحجّية
العام ، وليس مخصّصاً له ، فضلاً من أن يكون معارضاً أو دالاًّ على عدم حجّية خبر الثقة
في نفسه.
وبهذا يظهر أنّ كل
الوجوه القادمة ـ باستثناء وجه واحد سنذكره ـ لا يتم شيء منها ؛ لأنّها فرع وقوع
التعارض بين مفاد هذه الطائفة وأدلّة حجّية الخبر الواحد ، وكون بعضها أخصّ من هذه
الطائفة فتخصّص به أو التساقط والرجوع إلى العموم الفوقاني على الحجّية ، مع أنّه
ليس مفاد هذه الأخبار تخصيص الحجّية أصلاً ، بل تبيين نكتة ومضمون لو ثبت كان
رافعاً لموضوع الحجّية في الأخبار التي لا شاهد عليها من الكتاب ، فتكون واردة على
أدلّة الحجّية ، فلا تصل النوبة إلى التعارض أو التخصيص.
وأمّا الجواب الذي
نستثنيه فهو الجواب المذكور تحت عنوان ( الرابعة ) في الكتاب ، وهو دعوى العلم
بعدم صحة هذا المضمون للعلم بصدور أحاديث كثيرة عنهم ، ليس فقط لا شاهد عليها من
الكتاب ، بل ومخالفة مع إطلاق أو عموم كتابي ومقيدة لهما ، فلا تتشكل من هذا
المطلب قرينة نوعية على الخلل في خبر الثقة الناقل لتلك الأحاديث ليكون من باب
التخصّص والورود ، أي هذا المضمون معلوم العدم وجداناً.
نعم ، لو احتملنا
في مفاد هذه الطائفة التعبّد بسقوط ما لا شاهد عليه من الكتاب لا من جهة حصول
أمارة نوعية على عدم الصدور بل في نفسه اتجهت الأجوبة المذكورة في الكتاب عندئذٍ ،
والسيد الشهيد 1 يقصد ذلك.
إلاّ انّ هذا في
نفسه بعيد عن مساق هذه الطائفة ، بل ظاهرها نفي الصدور ، غاية الأمر لابدّ وأن
يفسّر عدم الشاهد من الكتاب والسنة ، بمعنى آخر لا ينافي ما يعلم صدوره منهم
كثيراً ، كما في التفسير الذي سيأتي عن السيد الشهيد 1 لكل هذه الروايات.
ثمّ إنّ هناك
روايتين بنفس مضمون رواية ابن أبي يعفور ، إلاّ أنّ في سندهما اشكالاً :
احداهما
ـ مرسلة عبد الله بن
بكير عن رجل عن أبي جعفر 1 في حديث ، قال : « إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهداً
أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتى يستبين
لكم ».
الثانية
ـ رواية عمرو بن شمر
عن جابر عن أبي جعفر 7 ، في حديث قال : « انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا ، فإن
وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه ، وإن اشتبه الأمر
عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا » .
والظاهر منها أنّ
الميزان بالموافقة وعدم الموافقة ، لا المخالفة وعدم المخالفة ، فتكون على وزان
الطائفة الثانية لا الثالثة.
__________________
ص ٣٢٢ قوله : ( ٢ ـ انها مشمولة للطوائف
الدالة ... ).
هذا الجواب يتوقف
على أن تكون رواية ابن أبي يعفور معارضة مع أدلّة الحجّية لا مخصّصة للحجية بما
عليه شاهد لأنّ هذا التخصيص ونحوه خارج عن مفاد أخبار الطرح كما سيأتي.
ص ٣٢٣ قوله : ( ٤ ـ لو قطع النظر عن
العموم الفوقاني ... ).
هذا الجواب لا
يتوقف على ما افترضه السيد الشهيد من كون النسبة بين آية النفر وخبر ابن أبي يعفور
عموماً من وجه ، بل حتى إذا كان بنحو التباين أو أخصّ منها مطلقاً مع ذلك لو كان
يوجد خبر ثقة واحد يدلّ على حجّية الخبر الذي ليس عليه شاهد من الكتاب ، بحيث كان
هذا قدره المتيقن ، كما في ( خذ عنه معالم دينك ) ، كان بحكم الأخص من خبر ابن أبي
يعفور ، وكان إطلاق الآية أو أي دليل قطعي على حجّية الخبر بشموله له مخصصاً
لاطلاق خبر ابن أبي يعفور باصول الدين ، وبالتالي لا يثبت المخصص ، فضلاً عن
المعارض لاطلاق دليل الحجّية ؛ لأنّ ما يكون في طول عدم إطلاق آخر لا يمكن أن يكون
مخصصاً أو معارضاً معه.
وهذا يعني انّ
إطلاق العام في المقام للخبر المذكور وارد على إطلاق المخصّص له وهي نكتة ظريفة
إلاّ انها متوقفة على امكان تخصيص خبر ابن أبي يعفور باصول الدين وهو بعيد بعد أن
كان المهم في العمل بأحاديثهم والأخذ بها والابتلاء بها والسؤال عنها هو فروع
الدين والأحكام الفقهية التي كانت محلّ ابتلائهم.
ثمّ انّه من
المحتمل قوياً أن تكون هذه الروايات خصوصاً الطائفة الثالثة
والثانية بصدد
الحثّ على التمسك بالقرآن والسنة والأمر القطعي في المشتبهات وعدم التمسك بكل حديث
وظن فيكون العقد الايجابي التأكيد على ذلك والعقد السلبي نفي حجّية كل ظن وخبر بما
هو ظن ويشهد لهذا ما ورد فيها من الأمر بالوقوف عند الشبهة وانّه خير من الاقتحام
في الهلكة وانّ على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً ، ونحو ذلك من التعابير
المناسبة مع هذا المعنى ، ومعه فلا دلالة فيها لا على جعل الحجّية للخبر الموافق
أو المخالف للكتاب ليقال بأنّه لغو عرفاً ، ولا تدل بعقدها السلبي أيضاً على تقييد
حجّية خبر الثقة ، بل ارشاد إلى عدم حجّية الظن ، فوزانها وزان أدلّة النهي عن
اتباع الظن وغير العلم.
ص ٣٢٦ قوله : ( ولا يبعد تعين الاحتمال
الأخير منهما ... ).
بل المتعين
الاحتمال الثالث ، بأن يراد من الموافقة عدم المخالفة ؛ لأنّ الذيل قرينة على
الصدر دائماً ؛ ولأنّ مناسبة الحكم والموضوع أيضاً تقتضي ذلك ، فإنّه ينبغي أن لا
يخالف الإنسان مع ما هو الحق ، وما في القرآن الكريم الذي لا ريب فيه ، وأمّا ذكر
جملة ( انّ على كل حق حقيقة ) ، فهو بمثابة حكمة وقابلة للتطبيق على هذا الاحتمال
أيضاً ، بأن يكون النهي عن الأخذ بما يخالف الكتاب من باب أنّ فيه الحق والصواب
والنور ، فلا ينبغي الأخذ بخلافه ، ولا أقل من الاجمال الذي أيضاً يكون بصالح
الاحتمال الثالث.
ص ٣٢٩ قوله : ( ويمكن أن يجاب أيضاً ...
).
يمكن
أن يلاحظ عليه : بأنّ حمل المخالفة في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله على المخالفة بنحو
التقييد والتخصيص والحكومة بالخصوص غير عرفي
وخلاف الاستظهار
المتقدم في سائر الروايات التي ذكر فيها هذا العنوان ، مما يعني قوّة ظهور هذه
الرواية في ارادة نفس القاعدة والضابط المبيّنة في سائر روايات الأمر بأخذ ما وافق
الكتاب وطرح ما خالفه ، ويكون مفادها أنّ الخبر المخالف للكتاب ليس بحجة في مورد
التعارض على كل حال ، سواء كان من جهة عدم مقتضي الحجّية فيه أو من جهة المعارضة ،
فإنّ هذه الحيثيات التحليلية العلمية لا يستفاد من هذه الرواية ، كما أنّ المخالفة
فيها تعمّ جميع أنحائها ، ومعه لا يبقى فيها ظهور أو دلالة على ثبوت مقتضي الحجّية
في بعض الأخبار المخالفة أو كلّها إذا لم يكن لها معارض أصلاً.
ولعلّه لهذا فرض
الإمام 7 في الذيل عدم وجود حكمهما معاً في كتاب الله ، ولم يفرض سائر الشقوق المتصورة
بناءً على ثبوت مقتضي الحجّية في الخبر المخالف للكتاب.
والأولى الاستدلال
على حجّية الخبر المخالف للكتاب بنحو يكون فيه جمع عرفي في غير مورد التعارض
بالسيرة المتشرعية المقطوع بها ، وقد ذكر السيد الشهيد 1 نفسه هذا الوجه
في بحث ( ملتقى المسألتين ) فراجع.
ص ٣٣٨ قوله : ( أخبار التخيير ... ).
يمكن
أن يقال : بأنّ المتأمل في
مضامين روايات التخيير يطمئن إلى انّ التعبير المذكور ـ موسع عليك بأيّهما أخذت من
باب التسليم وسعك ـ في هذه الروايات اريد به أحد معنيين :
أحدهما
ـ موارد الجمع
العرفي أو حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة ، أي صحّة أحاديث أئمة أهل
البيت : ووجود محمل لها ، ولزوم
التسليم بها ،
وعدم طرحها لمجرد توهم التعارض فيما بينها ، وهذا هو المستفاد من التعبير الوارد
في بعضها « أخذت من باب التسليم » ، كما في رواية التكبيرة عند القيام من الجلوس ،
ورواية الصلاة في المحل ، ورواية الميثمي عن الإمام الرضا 7 الطويلة ، فإنّها
صريحة في هذا المعنى في الباب ـ ٩ ـ من صفات القاضي فراجعها.
الثانية
ـ التوسعة في الأخذ
بأحد الخبرين المتعارضين من باب التقية ، لما ورد من التعبير في روايات التقية في
الباب بأنّ ذلك يسعكم ، وانّا لا ندخلكم إلاّفيما يسعكم ، ومن الواضح انّ هذه
التوسعة أو التخيير لظروف التقية حكم واقعي ، فكما انّ ظرف التقية جوّز للإمام 7 أن يصدر خلاف
الواقع كذلك يجوز للمكلفين في تلك الظروف من اتباعهم أن يعملوا بذلك حتى يلاقوا
القائم والإمام 7 فيردوه عليه ـ كما في بعض الروايات ـ فلا يمكن أن يستفاد
من ذلك قاعدة عامة للمتعارضين بنحو القضية الحقيقية لغير ظروف التقية كما في
زماننا ، وهذا واضح.
وأمّا ما ذكره
السيد الحائري في هامش تقريرات الاستاذ بالنسبة للمكاتبتين من احتمال أنّ
المعصومين المتأخرين كانوا يريدون التمهيد لعصر الغيبة ، وتعليم أصحابهم الأخذ
بأحد الخبرين المتعارضين فخلاف الظاهر جدّاً ؛ لقوّة ظهورهما في عدم التنافي بين
المضمونين ، وأنّ كلا الحديثين صواب واقعي ، المساوق مع التوسعة والتخيير الواقعي
وهو معقول ، خصوصاً في أدلّة السنن والمستحبات التي هي مورد السؤال ومورد
الحديثين.
كما أنّ ما ذكره
السيد الشهيد 1 في الكتاب من أنّه على تقدير استفادة التخيير
الاصولي في
الحجّية فهو خاص بمورد قطعية سند الحديثين غير وجيه ، إذ لم يفرض في كلام الإمام 7 إلاّصدور حديثين
من دون التعرّض لسنديهما ، فيكون ظاهره أنّ التخيير حكم الحديثين المتعارضين
واقعاً ، ومعه لا يسري التعارض إلى السند ، كما هو واضح.
ثمّ انّ الظاهر
أنّ الرواية الأخيرة ليست للحميري بل لمحمد بن أحمد بن داود ، راجع الغيبة
والوسائل.
ص ٣٥٧ قوله : ( وأمّا الحديث عن مفادها
فقد اشتمل مفادها ... ).
التحقيق
: انّه لا يستفاد
من رواية الراوندي الترجيح بموافقه الكتاب ، لا لما ذكره في الكفاية وغيره من انّ
المخالفة لا تشمل موارد الجمع العرفي ، فإنّ هذا خلاف الظاهر كما تقدم في أخبار
الطرح أيضاً ، بل المخالفة أعم من المعارضة.
كما أنّ ما ذكر في
ذيل الحديث من فرض عدم وجود حكمهما معاً في الكتاب أيضاً يشهد على ذلك.
لا
يقال : على هذا لابد
وأن يحمل ما فرض في صدر الكلام من ورود حديثين مختلفين أيضاً على الأعم مما فيه
جمع عرفي.
فإنّه
يقال : ظاهر اختلاف
الأحاديث تعارضها والتحير في مقام العمل ، وهذا واضح جدّاً. وهذا بخلاف الأمر بطرح
أو ردّ ما خالف الكتاب.
إذاً ، فالمخالفة
تشمل المخالفة بنحو التقييد والتخصيص ، بل وحتى الحكومة ، وإنّما نقول بأنّ هذا
الحديث ـ وكذا المقبولة ـ لا يدلّ على الترجيح ، لوجهين آخرين :
الأوّل : انّ غاية مفاد
الرواية هو عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب ، سواء كان من جهة سقوط مقتضي الحجّية
فيه مطلقاً ، أي حتى إذا كان بلا معارض ، أو في خصوص مورد التعارض ، وهذا غير
الترجيح بموافقة الكتاب ـ كما هو المدّعى والمشهور ـ.
والثاني : أنّ مقتضى صدر الرواية سقوط الخبرين المتعارضين إذا كانا
معاً مخالفين للكتاب ، حتى إذا كانا بنحو التخصيص ، كما إذا دلّ دليل على بطلان
البيع الغبني ، والآخر على عدم وجوب الوفاء به ـ أي عدم لزومه ـ حيث انهما معاً
مخالفان مع إطلاق « أَحَلَّ
اللهُ البَيع » و « أَوفُوا بالعُقود » ، فإنّ إطلاق « وأمّا ما خالف الكتاب فردّوه » شامل لهما
معاً ، ويشهد على ذلك أنّ الإمام 7 لم يفرض بعد ذلك إلاّصورة عدم وجدان حكم كلا الحديثين
المتعارضين في الكتاب ، ولم يفرض صورة كونهما معاً مخالفين للكتاب ، مع كون أحدهما
مخالفاً للعامة ، بل مقتضى إطلاق أخبار الطرح أيضاً سقوطهما معاً وإطلاق صدر
الحديث ، وكذلك إطلاق أخبار الطرح حاكم ومقدم على إطلاق روايات الترجيح بما خالف
العامة. ونفس الشيء يستفاد من مقبولة عمر ابن حنظلة لا أكثر.
لا
يقال : ثبوت الترجيح
بمخالفة العامة في الخبرين الذين ليس حكمهما في الكتاب يستلزم عرفاً ثبوته في
الخبرين المتعارضين الذي يخالفان الكتاب معاً بنحو الجمع العرفي ؛ لعدم احتمال
الفرق ؛ إذ كل من هذين الخبرين أيضاً لو كان وحده لكان حجة ، رغم مخالفته للكتاب
بهذا المقدار ، ولا نقصد بالمرجحية إلاّ ذلك.
فإنّه
يقال : لا وجه لهذه
الملازمة حتى عرفاً ؛ لاحتمال دخل مخالفتهما
للكتاب مع التعارض
في تضعيف كاشفيتهما معاً وسقوطهما عن الحجّية ، بخلاف غير المخالفين للكتاب.
ص ٣٨١ قوله : ( الاولى ـ دلالة المقبولة
في نفسها ... ).
انّ ذكر المخالفة
للعامة بعد ذلك مرجحاً مستقلاًّ في المقبولة ، ينافي عدم استقلالية موافقة الكتاب
في الترجيح ، إذ يلزم منه أن يكون من قبيل ضم الحجر إلى الإنسان لغواً ؛ لأنّه قد
فرض فيه أنّ المرجوح المخالف للكتاب والموافق للعامة يسقط عن الحجّية ، مع انّه
حتى إذا كان موافقاً للكتاب ، أي غير مخالف له أيضاً كان يسقط عن الحجّية ؛ لكونه
موافقاً للعامة ومعارضه ليس مخالفاً للكتاب ومخالف للعامة بحكم المرجح الثاني ،
إذا يكون ذكر مخالفة الكتاب لغواً ، وهذا واضح. ويمكن أن نضيف إلى ذلك نكات اخرى :
منها
ـ انّ مناسبة الحكم
والموضوع تقتضي أن تكون موافقة الكتاب بنفسها مرجحاً مستقلاًّ لأهمية الكتاب
وحقانيته ومرجعيته في الكشف عن أحكام الشريعة والمعارف الإسلامية مما يؤكد ما
سيذكره السيد الشهيد 1 من انّ ذكر مخالفة العامة لأجل الإشارة إلى انهم يخالفون
الكتاب الكريم الذي أمر النبي بالتمسك به وبالعترة.
ومنها
ـ عطف السنة على
الكتاب حيث ورد في المقبولة : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة
فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة ».
مع وضوح انّ
موافقة الكتاب والسنة القطعية ومخالفة العامة مجموعها لا يكون شرطاً في الترجيح
فيكون هذا قرينة على ارادة الانحلالية لا المجموعية
وإنّما سأل السائل
عن حكم الترجيح بمخالفة العامة إذا كانا معاً موافقين للكتاب والسنة من أجل
التأكيد على كفاية مجرد المخالفة للعامة في الترجيح حتى مع موافقته للكتاب والسنة
، وانّ الترجيح بها ليس طريقاً ومنصرفاً إلى الترجيح بموافقة الكتاب والسنة بل لها
الموضوعية حيث كان احتمال الطريقية في مخالفة العامة من جهة انّ أحكامهم خلاف
الكتاب والسنة غالباً وارداً.
هذا ، ويمكن أن
يقال في مقابل كل ما ذكر : بأنّ ظاهر المقبولة لزوم طرح الخبر الذي يكون مخالفاً
للكتاب والسنة ، وموافقاً للعامة بنحو المجموعية ، فإنّ هذا الظهور لا يمكن رفع
اليد عنه ، وهو ظهور بيّن ، وعندئذٍ يكون من قبيل الأمر بترك الخبر الشاذ من باب
عدم مقتضي الحجّية في مثل هذا الخبر الذي عرف مخالفته للكتاب والسنة النبوية
وموافقته للعامة ومعارضته لخبر مشهور الصدور على خلافه ، فإنّ مثل هذا الخبر حتى
إذا كان مشهوراً رواية يطمئن بعدم صحته ، بل هذا مشمول لأخبار الطرح أيضاً بناءً
على عمومها للخبر قطعي الصدور.
نعم ، لا يبعد أن
يستفاد من الحديث بقرينة ما سيذكره من كفاية موافقة العامة لسقوط الخبر في مورد
التعارض ومن ظهور الحديث في الإشارة إلى ما يوافق العامة ليس فيه رشاد ان ذكر ذلك
مع مخالفة الكتاب والسنة من أجل التنبيه على أنّهم يخالفونهما ، فيكون ظاهر الحديث
كفاية مخالفة الكتاب والسنة النبوية القطعية في سقوط الخبر عن الحجّية في مورد
التعارض ، فالاستقلالية بهذا المقدار مقبول ، ولكنه ليس بملاك الترجيح ، بل بملاك
السقوط عن الحجّية.
ثمّ انّ الظاهر من
الترجيح بالشهرة في المقبولة أنّ المراد بها كون الحديث مجمعاً بين الأصحاب ،
والآخر شاذاً نادراً ، خصوصاً مع تطبيق كبرى ( الامور ثلاثة أمر بين رشده ... الخ
) عليه ، وهذا يوجب امّا العلم بكذب الخبر الشاذ أو بوجود خلل فيه من تقية أو غيره
بنحو بحيث لا يكون فيه مقتضي الحجّية ، فليس هذا بابه باب الترجيح بالشهرة
الروائية ، فضلاً عن الفتوائية ، كما انّه لو استفدنا التعميم من أخبار الطرح
لموارد معارضة الخبر مع كل دليل قطعي السند أيضاً كان هذا الفرض خارجاً عن التعارض
بين حجتين ، بل بين الحجة واللاحجة.
كما انّ مقتضى الإطلاق
في الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة في الخبرين المشهورين ثبوت ذلك حتى فيما
إذا بلغت شهرتهما حدَّ الاستفاضة والعلم بالصدور ، فيكون الترجيحان مركزهما
الظهوران بحسب الحقيقة لا السندان ، وأنّهما يرجعان إلى جانب الدلالة ، حيث تكون
دلالة الكتاب والسنة النبوية جدّية لا يحتمل فيهما التقية ونحو ذلك ، بخلاف ما
يصدر عن الأئمّة :.
ص ٣٩٠ قوله : ( أخبار التوقف والارجاء
... ).
التعارض بين أخبار
التوقف والارجاء مع أخبار الترجيح وأحد المرجحات يكون بالتقييد والتخصيص لما تقدم
من انّ الأخيرة أخصّ ، بل بعضها ورد فيها التوقف بعد فرض فقد المرجحات.
وإنّما البحث في
التعارض بينها وبين أخبار التخيير عند فقد المرجحات كما انّ هناك تعارضاً تعرّض له
السيد الشهيد 1 بين ما ورد في المرفوعة من الأخذ بالحائطة لدينك وبين
أدلّة التخيير الاخرى كقوله 7 في بعض الروايات ( موسع
عليك بأيّهما أخذت
) ، فإنّ هذا المرجح لا يمكن أن يجعل مقيداً لمطلقات التخيير إذ لازمه اختصاصها
بما إذا كان الخبران المتعارضان معاً مخالفين للاحتياط أو موافقين له وذلك فرض
نادر بل على خلاف مورد بعض تلك المطلقات حيث ورد في بعضها التعارض بين ما يلزم وما
يرخص فيقع التعارض بينهما حيث لا يمكن تخصيص المورد أو التخصيص بالفرد النادر.
وعلاج التعارض
الأوّل لم يتعرض له السيد الشهيد إلاّبلحاظ الأمر بالارجاء الوارد في المقبولة حيث
أفاد بعدم دلالتها على نفي التخيير لأنّها واردة في مورد التخاصم ولا يجدي فيه
التخيير ، ولهذا أمر بالارجاء فلا يستفاد منها انّ حكم المسألة الاصولية في تعارض
الخبرين ذلك ليكون منافياً مع ما يدلّ على التخيير فيها.
ومن الواضح انّ
هذا لا يتمّ في سائر روايات الارجاء والتوقف كالرواية الاولى ، فلابد من علاج أو
الحكم بالتعارض والتساقط ـ إذا فرض اعتبار سند الطائفتين ـ.
وما يمكن أن يقال أحد وجهين
للجمع :
١ ـ أن يجمع
بينهما بتخصيص أخبار التخيير بفرض عدم إمكان الوصول إلى الإمام لاختصاص أخبار
الارجاء بذلك بقرينة ما فيها من قوله : « حتى تلقى امامك » ، فكأنّ الحكم مع امكان
الوصول إلى الإمام هو الاحتياط والتوقف ، ومع عدمه هو التخيير ، نظير الاحتياط قبل
الفحص ، والبراءة بعده في المسألة الفرعية.
وهذا الوجه قد
يتمّ فيما ورد من أخبار الارجاء بلسان حتى تلقى امامك
لا مثل الرواية
الاولى التي فيها « وما لم تعلموه فردّوه إلينا » فإنّ الرد اليهم بمعنى التوقف
يناسب القضية الحقيقية الثابتة حتى في زمن الغيبة.
٢ ـ أن يجمع
بينهما بحمل أخبار الارجاء على اصول الدين فإنّها بحسب لسانها أعم بخلاف أخبار
التخيير مثل المرفوعة فإنّها ناظرة إلى فروع الدين ولو باعتبار ما في ذيلها من
الأخذ بما فيه الاحتياط.
وهذا الجمع يتم
بين مثل الرواية الاولى حيث انها وردت بلسان ردّ علمه اليهم والسؤال عن العلم
المنقول عن آبائه وأجداده وهو يعم الاصول والفروع بل قد يقال بتناسبه مع الاصول
والمعارف أكثر.
ولا يتمّ في ذيل
المقبولة ـ لو فرض استفادة الارجاء منه في كل خبرين متعارضين ـ لأنّها أيضاً واردة
في الفروع وهو الدين والميراث.
وامّا علاج
المعارضة الثانية فبما ذكره السيد الشهيد من حمل الأخذ بالحائطة للدين على
الاستحباب.
لا
يقال : انّ ذلك ليس
جمعاً عرفياً في باب الأحكام الوضعية كالحجية التعينية التي هي معنى الترجيح
بالاحتياط.
فإنّه
يقال : نكتة هذا المرجح
تختلف عن سائر المرجحات كالصفات أو الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة لأنّ موافقة
أحد الخبرين المتعارضين للاحتياط لا تجعله أكثر كاشفية وقرباً للواقع كما في سائر
المرجحات ، وإنّما هو حكم طريقي بملاك الحفاظ على الالزام الواقعي وأهميته في مقام
التزاحم الحفظي.
وهذا الحكم
الطريقي وهو الاحتياط ، وإن جعل مرجحاً لأحد الخبرين في الحجّية ، إلاّ انّه يعقل
فيه اللزوم والاستحباب ، فيكون الترجيح به أيضاً استحبابياً.
ثمّ انّه قد يقال
: انّه يستفاد من ذيل المقبولة وجوب الاحتياط عند تعادل الخبرين وعدم وجود مرجح
لأحدهما على الآخر ، بقرينة ما ورد فيه من أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام
في الهلكة.
إلاّ أنّ هذا
باعتباره في مورد التحاكم فيكون مقتضى الأصل في باب الميراث والحقوق المسبوقة
بالعدم غالباً ، فهذا الاحتياط قد يكون بلحاظ ذلك ، ولو فرض استفادة الإطلاق حتى
للخبرين الدائرين بين الالزام والترخيص فحاله حال سائر أدلّة الأمر بالوقوف عند
الشبهة وقد تقدّم جوابها في بحث البراءة.
ص ٣٩٣ قوله : ( الجهة الاولى ... ).
ما ذكر من الفرق
بين التخييرين يرجع إلى مرحلة الصياغة لا روح الحكم الظاهري المجعول ـ كما ذكرنا
سابقاً ـ لأنّ روحه على المسلك الصحيح المنقح من قبل السيد الشهيد 1 هو الاهتمام
بالملاكات الواقعية التزاحمية في مقام الحفظ على أساس النوعية ـ قوة المحتمل ـ أو
الكاشفية ـ قوّة الاحتمال ـ وفي المقام لا إشكال في انّ التخيير المذكور حكم ظاهري
يراد به حفظ الملاكات الواقعية المتزاحمة بالتزاحم الحفظي بمقدار أن لا يخالف كلا
الخبرين مع التوسعة في اختيار أي منهما شاء ، وهذه الروح واحدة سواء صيغ الحكم
الظاهري فيه بعنوان التخيير في العمل الذي هو صياغة تكليفية أو الحجّية
المشروطة بالأخذ
به مع الالزام الطريقي بالالتزام والأخذ بأحدهما ، بل يمكن أن يصاغ الحكم الوضعي
الاعتباري بعنوان حجّية أحدهما ، فإنّ هذا مجرد صياغة اعتبارية روحها ما ذكرناه ،
فجميع هذه الصياغات الاعتبارية على حدّ سواء من حيث درجة حافظية الملاك الواقعي
ونوعه.
وكون الحجّية
تعينية في التخيير الاصولي في طول الالتزام كما لو لم يكن له معارض لا يجعل فرقاً
من الناحية العملية بعد أن كان مخيراً في الالتزام بين الخبرين.
نعم ، يبقى فرق
بينهما من حيث جواز اسناد المفتي وافتائه لمفاد ما اختاره ـ بناءً على التخيير
الاصولي ـ تعييناً إلى الشارع بعنوان انّه حكم الله الواقعي ، وحجيته على المقلدين
كذلك ـ على القول بها ـ بخلافه على التخيير الفقهي ، كما لا يخفى.
إلاّ انّ هذا
الأمر ليس من آثار الحكم الظاهري ، بل من آثار مسلك قيام الامارة مقام القطع
الموضوعي ، والذي هو غير مربوط بحقيقة الحكم الظاهري وروحه ، وليس ترتب ذلك الأثر
به ترتباً ظاهرياً ، بل حكم واقعي كما حقق في محلّه ، ويمكن أن يرتب حتى إذا كانت
صياغة الحكم حجّية أحدهما.
فما ذكر في الجهة
الثانية من استحالة جعل الحجّية على عنوان الجامع ، أي أحد الخبرين غير صحيح ، بعد
أن كان مثل هذه الصياغة أيضاً وافية لابراز روح الحكم الظاهري المتقدم شرحها ،
وهذه الحجيّة للجامع بين الخبرين أو التخيير التكليفي في موارد التعارض بين خبر
الالزام مع خبر الترخيص تكون روحها الترخيص الظاهري ، وفي موارد التعارض بين دليل
القصر والتمام أي خبرين
الزاميين يكون
بمقدار عدم الخروج عنهما ، أي تنجيز الجامع بينهما لا أكثر ، وكل ذلك معقول لا
محذور فيه.
كما أنّ ما ذكر من
استظهار استفادة التخيير الاصولي أي الحجّية المشروطة بالالتزام من رواية الأمر
بالأخذ بأيّهما شاء مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّ ظاهرها التخيير التكليفي أو
حجّية أحدهما ، وكونها ناظرة إلى أدلّة الحجّية ـ الوجه الثاني في الكتاب ـ أيضاً
لا يقتضي استفادة حجّية مشروطة بالالتزام ، فإنّه خلاف الظاهر جداً ، خصوصاً مع ما
ذكر من أنّ الالتزام يكون في طول الحجّية لا قبلها.
وكذلك الوجه
الثالث لا مجال له ؛ لأنّ ظاهر روايات التخيير تقييد دليل الحجّية بجعلها على
الجامع بينهما وبمقداره لا أكثر ، بل لو فرض اجمالها وترددها بين جعل الحجّية ـ التخيير
الوضعي ـ على أحدهما أو التخيير التكليفي مع ذلك لا يمكن اثبات الحجّية المشروطة ؛
لأنّ أدلّة الحجّية العامة ليس مفادها إلاّ التنجيز والتعذير ، والتنجيز في طول
الالتزام والأخذ لغو ، ولا يصح دفع هذه اللغوية بافتراض دلالة التزامية على وجوب
أحد الالتزامين ، فإنّه بحاجة إلى دليل خاص على الحجّية المشروطة ، ولا يمكن
استفادته من العمومات ؛ لأنّه لا إطلاق لها لمورد اللغوية.
ص ٣٩٨ قوله : ( التنبيه الثاني ... ).
ذكر صاحب الكفاية 1 بأنّ التخيير
استمراري وذلك لوجهين :
أحدهما
: التمسك باطلاق
أخبار التخيير للواقعة الثانية والثالثة وهكذا.
الثاني
: التمسك باستصحاب
بقاء التخيير.
وقد نوقش فيهما
معاً من قبل مدرسة المحقق النائيني 1 ، إلاّ انّ عبائر تقريراتها مشوشة ومختلفة.
وحاصل
النقاش في الوجه الأوّل : المنع عن الإطلاق المذكور إذا استفيد التخيير في المسألة الاصولية والحجّية ـ
كما هو الظاهر ـ لأنّ موضوع هذا الحكم هو المتحير والمكلف بعد أن اختار في المرة
الاولى أحد الخبرين أصبح عنده حجة تعينية على الواقع فلا تحيّر له.
وفيه
: أوّلاً ـ انّ موضوع التخيير
هو الخبر الذي له معارض لا التحيّر وإن كان يستفاد من السؤال في أخبار التخيير انّ
السائل كان متحيراً في مقام العمل.
وثانياً
ـ التحير بمعنى الشك
أيضاً ثابت في كل واقعة قبل الالتزام باحدهما ، حتى إذا كان قد التزم بأحدهما في
المرة الاولى ؛ إذ لا يعلم المكلّف ، مع قطع النظر عن ثبوت التخيير الاستمراري أو
الابتدائي ما هو حكمه في تمام الوقائع على حدّ واحد ، فالتحيّر لولا مفاد أخبار
العلاج ، ثابت بلحاظ تمام الوقائع.
والصحيح في
الاشكال ما ذكره السيد 1 في ضابطة الإطلاق المذكور ، حيث انّه إذا استفيد قضية
شمولية هي الحجّية للخبر المأخوذ أو الملتزم به لا الأمر بالأخذ بأحدهما بنحو صرف
الوجود فيثبت الاستمرارية في التخيير.
كما انّه إذا كان
أمراً بالأخذ بأحدهما بنحو صرف الوجود لا الانحلال إلاّ انّ موضوعه كان كل واقعة
يبتلي بها المكلف فكذلك ينحل الأمر بالأخذ بأحدهما بلحاظ كل واقعة واقعة فيثبت
الاستمرار ، وامّا إذا كان الأمر بالأخذ في الموضوع والمسألة الشرعية التي نسبتها
إلى جميع الوقائع على حدّ واحد ـ أي هو موضوع واحد للأخذ ـ فالأمر بالأخذ بأحدهما
في المسألة والحكم المشتبه لا في كل
واقعة واقعة لا
يثبت أكثر من التخيير الابتدائي ، امّا لظهورها في ذلك أو الإجمال من هذه الناحية.
وأمّا
الوجه الثاني : أعني استصحاب
التخيير أو الحجّية التخييرية ، فقد اورد عليه بايرادين :
أحدهما
ـ ما تقد من أخذ
التحيّر في موضوع التخيير ، وهو مرتفع ، وقد عرفت جوابه.
والآخر
ـ ما ذكره السيد
الشهيد والسيد الخوئي من انّه لو اريد استصحاب التخيير التكليفي الطريقي بالالتزام
بأحدهما ، فهو لا يثبت حجّية ما يؤخذ به إلاّ بنحو الأصل المثبت ، ولو اريد
استصحاب الحجّية التي هي حكم وضعي فأركانه تامة في ما التزم به ، وأمّا ما لم
يلتزم به في الواقعة الاولى فحالته السابقة عدم الحجّية ، كما انّ الأصل العقلي
فيه يقتضي عدم الحجّية ، إلاّ إذا اريد الاستصحاب التعليقي ، وهو غير حجة ومعارض
مع التنجيزي ، خصوصاً في المقام كما في الكتاب.
وقد يقال : انّ
هذا الاشكال تأثر مع عالم الصياغة والقوالب الاعتبارية للتخيير الاصولي ، وأمّا
بناءً على ما تقدم من انّ روح الحكم الظاهري المجعول واحدة في المقام ، وهو اهتمام
المولى بمقدار ان لا يخالف المكلف كلا الخبرين مع كونه مطلق العنان فيما بينهما ،
فهذه الروح هي مجرى الاستصحاب ، وتتم أركانه فيها خصوصاً إذا أرجعنا الحجّية
التخييرية إلى جعل الحجّية على الجامع ، فيكون كالتخيير التكليفي مجرىً للاستصحاب
، ولا مجرى لاستصحاب آخر تنجيزي ؛ إذ لا يوجد حجّية لما يختاره بالخصوص تعييناً
حتى بعد الالتزام.
فالحاصل
: إذا قلنا برجوع
الحجّية التخييرية إلى حجّية الجامع بين الخبرين كان مقتضى الاستصحاب بقاء حجّية
الجامع ، وإذا قلنا بأنّ الصياغة لابد وأن تكون بنحو الحجّية التعيينية المشروطة
مع ذلك جرى استصحاب التخيير بلحاظ روح الحكم الظاهري ؛ لأنّه موضوع التنجيز
والتعذير والجري العملي لا الصياغة الاعتبارية.
ومن الواضح أنّ
روح الحكم هو ايجاب الاحتياط بمقدار عدم المخالفة القطعية ، والتأمين بلحاظ عدم
وجوب الموافقة القطعية ، فهذا هو المستصحب لا عنوان الحجّية أو الطريقية أو
العلمية أو غير ذلك من الصياغات الاعتبارية التي ليست موضوعاً لحكم العقل بالاطاعة
والجري العملي.
إلاّ أنّ الصحيح
عدم جريان هذا الاستصحاب ؛ لأنّ الحجّية التخييرية حتى إذا كانت بمعنى جعل الحجّية
على الجامع إلاّ أنّه لا يعلم أنّ موضوعها الجامع الحدوثي أو الأعم من الحدوثي
والبقائي ، فلو كان موضوعها أحدهما الحدوثي كان معناه أوّل الوجود ممّا يتخذ به
منهما ، وهو ليس محفوظاً بقاءً فليس الشك في زوال التخيير في الحجّية وانتهاء أمده
كما تتم فيه أركان الاستصحاب ، وإنّما الشك فيما هو المجعول الظاهري والاستصحاب لا
يمكن أن يعيّن أحدهما حتى إذا كان جعل الحجّية على عنوان أحدهما معقولاً.
نعم ، بناءً على
هذا استصحاب الحجّية التنجيزيّة لما التزم به أيضاً لا يجري ؛ لأنّ حجّية أحدهما ـ
ولو بنحو التنجيز الابتدائي ـ لا تتحول إلى حجّية تنجيزيّة ، إلاّ أنّنا لا نحتاج
إلى هذا الاستصحاب للعلم بحجية ما التزم به أوّلاً لو التزم به في المرة الثانية
على كل تقدير ، أي كفاية الأصل العقلي المتقدم بيانه.
ثمّ انّ القائل
بالتخيير الاستمراري لابدّ وأن يقيّد ذلك بما إذا لم يكن يعلم من أوّل الأمر
بابتلائه بوقائع متكرّرة وكان مفاد الخبرين معاً الزاميين كالقصر والتمام أو
الجمعة والظهر وإلاّ تشكّل علم اجمالي تدريجي منجّز مانع عن التخيير الظاهري ، ولا
يستفاد من أخبار التخيير الترخيص في المخالفة القطعية حتى إذا استفيد منها
استمرارية التخيير ، ووجهه واضح.
ص ٤٠٣ قوله : ( وأمّا ما أفاده السيد
الاستاذ ... ).
قد يناقش في هذا
الاشكال ـ مع قطع النظر عمّا سيأتي في التحقيق ـ : بأنّ نقل الراوي وشهادته بصدور
الحديث ليس شهادة واحدة ودالاًّ واحداً له مدلول واحد ، وهو صدور نصّ الحديث ، بل
هو شهادات عديدة بعدد الدلالات والظهورات العرضية التي ينقل ويشهد الراوي بصدورها
عن المعصوم ؛ لأنّ ثبوت الحديث والظهور في كلام المعصوم تعبدي لا وجداني ، أي
يثبته نقل الراوي نفسه ، فتنحل إلى شهادات عديدة بعدد ما يكون في حديث الامام 7 من الظهورات
والدلالات التضمنية ، فيعقل التبعض فيها في الحجّية.
وفيه
: انّ المشهود به
للراوي سماع الجملة واللفظ مثلاً من الإمام ، وامّا الظهورات في كلام الإمام
المسموع وحجّية كل واحد منها فهي آثار ولوازم مترتبة على الحادثة الجزئية المشهود
بها من قبل الراوي والواقعة لا تتعدد ولا تتكثر بتكثر الآثار الشرعية المترتبة
عليها ، فإذا كانت الشهادة والنقل لها غير حجة في اثباتها كما هو معنى اسقاط
الحجّية بالمرجح السندي أو بالتخيير فلا يبقى ما يثبت الأثر غير المعارض بلحاظ
مورد الافتراق حيث لا يوجد كاشف آخر ولا يجدي هنا كون الحجّية من آثار المنكشف لا
الكاشف لأنّ المنكشف غير متكثر بلحاظ هذا الدال أيضاً.
نعم ، ما ذكره في
الدراسات من مثال حجّية البينة على ملكية زيد للدار مع اقراره بأنّ نصفه ليس له
بلحاظ نصفه الباقي صحيح ، إلاّ أنّه راجع إلى تعدد الشهادة والمشهود به التضمني ؛
ولهذا لا يصح ذلك فيما إذا قامت البينة على قتل زيد لعمرو مع الشك في أصل كون زيد
مقتولاً ، وعلمنا بعدم قتله له ، أو قامت بينة على ذلك ولكن احتملنا موت عمرو ،
فإنّه لا يبعّض في الآثار بأن يقال :
لا يثبت ديته على
زيد ولكن تثبت سائر آثار موت عمرو.
فالحاصل
: ترجيح الشهادة
لابد وأن يرجع إلى ترجيحها في الصدق ، أمّا التبعيض التعبدّي في الآثار الشرعية
المترتبة مع وحدة المشهود به وعدم تبعّضه فهذا وإن كان معقولاً في باب التعبد
بترتيب الآثار ، إلاّ أنّ روحه راجع إلى نكتة موضوعية في الحفظ الظاهري لبعض تلك
الآثار دون بعض ، ولا يرجع إلى نكتة طريقية وقوة في كاشفية لأحد الدليلين
المتعارضين على الآخر ، وهذا واضح.
نعم ، لو قلنا انّ
دليل الترجيح السندي لا يسقط شهادة الراوي عن الحجّية وإنّما يرفع حجيتها
ومنجزيتها بلحاظ الأثر الشرعي المترتب في النتيجة على مدلولها ـ ولو بتوسط حجّية
الظهور الثابت بها تعبداً ـ بمقدار التعارض لا أكثر بحيث تكون المرجحات المضمونية
والسندية واحدة من حيث رجوعها جميعاً إلى نكات تعبدية بحتة وموضوعية لا قوّة
كاشفية السند أو الدلالة صحّ ما ذكره السيد الخوئي 1 من عدم الفرق بين المرجّحات بلا حاجة إلى استدلاله من رجوع
بعض الآثار إلى المدلول لا الدلالة ، فإنّه لا حاجة إلى ذلك ، بل الميزان تعدد
الآثار وتكثرها حتى إذا كان موضوعها بسيطاً واحداً.
إلاّ انّ هذا خلاف
ظاهر لسان أدلّة الترجيح السندي.
وهذا يعني انّ
النكتة والفذلكة لعدم جريان المرجحات ولا التخيير ـ بناء على ثبوته ـ في موارد
التعارض بنحو العموم من وجه اثباتية لا ثبوتية ، فإنّه ثبوتاً يعقل التبعض بأحد
بيانين :
الأوّل
: ما ذكره السيد
الشهيد من انحلال الشهادة والنقل إلى شهادة ايجابية وشهادة سلبية فتكون هناك
شهادتان ، ولكلّ منهما دلالتها.
والثاني
: ما أشرنا إليه من
انّ دليل حجّية السند والشهادة من قبل الراوي يثبت آثاراً عديدة على المشهود به
ولو بتوسط حجّية الظهور الثابت تعبداً بنفس حجّية السند بنحو الحكومة الظاهرية ـ ويعقل
التفكيك بينها في الحجّية والمنجزية سواءً بخصوصة في الراوي أو في المروي.
إلاّ أنّ مقام
الاثبات لا يساعد على ذلك بمعنى انّ أخبار العلاج لا تشمل موارد التعارض بنحو
العموم من وجه.
امّا الترجيح
السندي وما بحكمه فلظهور دليله في اسقاط السند والشهادة عن الحجّية ، ولهذا لا
إطلاق له للروايتين القطعيتين صدوراً لأنّ هذا هو ظاهر « خذ بقول أعدلهما واترك
الآخر » ، فيكون ظاهر ذلك اسقاط أحد النقلين والحكايتين عن الحجّية لا ملاحظة
الأثر المترتب عليه ، ولا الشهادة السلبية التي هي حكاية تحليلية لا أصلية ، فلا
يشملها عنوان الرواية والنقل أو قول أعدلهما ، بل هو سكوت أعدلهما.
وأمّا الترجيح
المضموني فهو وإن كان ظاهراً في ملاحظة النتيجة وإن شئت قلت : في ملاحظة مدلول الحديث
، ولهذا لا بأس باطلاقه للسندين القطعيين أيضاً فيكون المتيقن اسقاط الظهور
المرجوح عن الحجّية ، غاية الأمر يسقط
سنده عن الحجّية
أيضاً من باب اللغوية.
إلاّ أنّ ظاهر
أخبار العلاج حتى في المرجحات المضمونية أخذ عنوان الحديث المخالف للعامة أو
الموافق للكتاب ، وليس من قبيل ما ورد في أخبار الطرح من التعبير بأنّ ما خالف
الكتاب فهو باطل أو زخرف أو دعوه ، والذي قلنا بشموله للمخالف مع الكتاب بنحو
العموم من وجه ، فهذا العنوان لا يصدق على جزء المدلول والظهور الضمني للحديث في
مورد الاجتماع ، فإن اريد تطبيقه عليه كان خلاف الظاهر ، وإن اريد تطبيقه على تمام
الحديث حتى في مورد الافتراق فهذا خلاف ظهور واضح بأنّ المقصود منها علاج التعارض
، والاختلاف في الأحاديث بمقدار التعارض وامتناع الأخذ بهما لا أكثر ، كما لا
يخفى.
يبقى احتمال
التعدي من مورد أخبار العلاج وهو الحديثان المتعارضان حتى إذا كانا قطعيين سنداً
بنحو التباين ، مع وجود مرجح مضموني في أحدهما إلى التعارض بنحو العموم من وجه
بلحاظ مادة الاجتماع بدعوى تنقيح المناط وعدم احتمال الفرق عرفاً بينهما ، فيتعدى
إليه ولو لم يشمله اللفظ.
إلاّ انّ مثل هذه
الدعوى عهدتها على مدعيها خصوصاً مع ملاحظة انّ المخالف للكتاب من العامين من وجه
أو الموافق للعامة يؤخذ به على كل حال في مورد افتراقه عن معارضه مما يضعف احتمال
عدم جدية مورد الاجتماع منه بملاك هذين المرجحين المضمونيين ، بخلاف موارد التعارض
بنحو التباين.
نعم ، لو قلنا
بأنّ مفاد أخبار الترجيح بمخالفة الكتاب نفس مفاد أخبار الطرح في مورد التعارض
أمكن قبول هذا التعميم في المقام أيضاً.
ولعلّ هذا هو
السبب والوجه الفني لعدم اعمال المشهور لأخبار العلاج في الفقه في موارد التعارض
بنحو العموم من وجه بل لم يعمله حتى السيد الخوئي والميرزا قدس سرهما رغم ذهابهما إلى ذلك في الاصول.
ص ٤١١ قوله : ( والمتعين من هذه الأنحاء
هو الأخير ... ).
والوجه
فيه : انّ ظاهر أخبار
الترجيح بمخالفة العامة افتراض خبرين متعارضين بحيث لولا التعارض لكان كل واحد
منهما حجة ، وهذا لا يقتضي أكثر من فرض وجود مقتضي الحجّية في الخبر المخالف بلحاظ
دليل الحجة العام لا بلحاظ كل الأدلّة حتى أدلّة الحجّية الثانوية المتمثلة في
أخبار العلاج فيكون مقتضى إطلاق أخبار الترجيح بالمرجحات المضمونية هذا المعنى ،
فيكون الترجيح المضموني في عرض الترجيح السندي.
والتحقيق
: انّ مقتضى
القاعدة ليس ما ذكر في الكتاب من تقديم المرجح السندي على المضموني بناءً على
الفرضين الأوّل والثاني ، والعرضية بناءً على الفرض الأخير ، بل الأمر بالعكس وانّ
الترجيح الجهتي إذا لم يكن راجعاً إلى السند الظنّي ، بل إلى المضمون ودلالة
الحديث كان مقدّماً على الترجيح السندي ؛ لأنّ الخبر المخالف للعامة ـ أو الموافق
للكتاب ـ يرفع موضوع حجّية الخبر الموافق ومقتضيه في نفسه تخصصاً ؛ لأنّه يثبت
وجود حديث صادر عن المعصوم معارض مع الحديث الموافق ، فيكون ظهور الأخير غير جدي
فلا يشمل دليل حجّية الخبر سنده لأنّ الظهور غير الجدي أو الصادر تقية لا أثر له ،
ومعه لا موضوع لتطبيق المرجح السندي ؛ لأنّ موضوعه الخبران المشمولان لدليل
الحجّية العام في نفسهما ، أي التام فيهما معاً مقتضي الحجّية ، ومن شروطه أن ينقل
ما يكون موضوعاً للأثر الشرعي.
وهذا البيان لا
يختصّ بالاحتمال الثاني ، أي أن يكون موضوع الترجيح المضموني الظهوران الصادران
واقعاً ، بل يتم حتى على الاحتمال الأوّل والثالث ، أي حتى إذا كان الترجيح
المضموني مخصوصاً بفرض ثبوت التعارض واحرازه ، والوجه في ذلك انّ التعارض والتكاذب
بحسب الحقيقة ليس بين الشهادتين والسندين بل بين الظهورين ، وإلاّ فالسندان يمكن
أن يكونا صادقين معاً ، إذ ما أكثر الأحاديث المتعارضة الصادرة عنهم واقعاً ،
وإنّما يسري التنافي إلى السندين في الحجّية ـ على ما شرحناه في بحث سابق ـ بالعرض
أي بملاك لغوية جعل الحجّية لهما معاً مع عدم الانتهاء إلى ظهور حجة بالفعل
وثبوتها لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فتسقط احدى الروايتين والشهادتين في
المقام من هذه الناحية.
وعندئذٍ
يقال : من الواضح انّ
هذا التنافي في الحجّية بالعرض إنّما يكون فيما إذا لم يكن أحد الظهورين بالخصوص
هو الحجة ، بدليل الترجيح المضموني ، أي هذا السريان للتنافي في الحجّية إلى
السندين يختص بفرض تساوي نسبة الظهورين إلى دليل حجّية الظهور ومقتضيه ، وامّا إذا
كان ـ ولو بدليل الترجيح الجهتي والمضموني ـ أحد الظهورين هو الحجة دون الآخر ـ ولو
في فرض وصولهما واحرازهما ـ كان دليل حجّية السند والرواية شاملاً للسندين معاً ،
أو قل لسند الظهور الحجة بالفعل من دون محذور ؛ لأنّ الشهادة الاخرى لا تنفي صدور
الحديث المخالف للعامة ـ كما أشرنا ـ إذ لا تكاذب بينهما ، فسواء شملها دليل
الحجّية أم لا ، لا يلزم منه تناف في الحجّية مع مقتضي الحجّية في سند الخبر
المخالف ، نظير ما سنقوله في بحث امكان الجمع بين الخبرين المتعارضين إذا كان
أحدهما موافقاً للعامة ، والآخر مخالفاً لهم بالحمل على التقية من باب
أقوائية ظهور
الخبر المخالف في الجدية ، فإنّ هذا يوجب لغوية حجّية سند الخبر الموافق ، وخروجه
عن أدلّة الحجّية من دون محذور التعارض ، فكذلك في المقام.
فالحاصل
: إذا فرض أنّ
الترجيح المضموني كان راجعاً إلى الدلالتين ولهذا يشمل الخبرين القطعيين سنداً
أيضاً ، فمقتضى القاعدة تقدم هذا الترجيح على الترجيح السندي ؛ لأنّه يوجب خروج
سند الخبر المرجوح مضموناً عن مقتضي الحجّية بملاك اللغوية والتخصّص ، فلا تصل
النوبة إلى اعمال الترجيح السندي ؛ لأنّه فرع تمامية مقتضي الحجّية في السندين.
ولعمري هذا واضح
جداً ، فإنّ الاخبار عن صدور الحديثين المتعارضين عن المعصوم كالعلم بهما ، فإذا
كان الثاني ممكناً بل واقعاً بلا تنافي في حجّية الظهور كان دليل التعبد بالسند
مقتضياً لتصديق الشاهدين بوقوع ذلك وترتيب أثره عليه بلا محذور ، فلا موضوع
للتنافي في حجّية الخبر والشهادة ليكون مشمولاً لأخبار العلاج والترجيح السندي.
وهذا يعني انّ
الترجيح المضموني إذا كان مرجعه إلى ترجيح أحد الظهورين والدلالتين على الاخرى كان
مقدماً على الترجيح السندي على القاعدة أي بالورود ورفع موضوع التعارض.
نعم ، لو ثبت
الترجيح المضموني والسندي بدليل واحد وكان ظاهره الترتيب وتقدم المرجح السندي على
المضموني كان ذلك بنفسه دليلاً على انّ الشارع ألحق موارد عدم التنافي في حجّية
السندين والشهادتين في فرض كون أحدهما فيه مرجح مضموني بموارد التنافي تعبداً ،
ولو من جهة قلّة موارد التقية أو
مخالفة الكتاب
مثلاً ، وانّه لاحظ المرجح المضموني في ترجيح أحد السندين الظنيّين وتقييد دليل
حجّية السند لا الظهور.
وهكذا يتضح انّه
بناءً على استظهار انّ مصبّ الترجيح المضموني ليس هو السند وشهادة الراوي ، بل
المضمون والدلالة يكون مقتضى الصناعة تقدم المرجح المضموني على المرجح السندي
بمعنى ارتفاع موضوع التعارض من البين. وإنّما تصل النوبة إلى التعارض بين دليل
الترجيح السندي والترجيح المضموني بناءً على افتراض انّ كلا المرجحين راجعان إلى
السندين ، أي انّ مصب الترجيح الملحوظ في أخبار العلاج حتى في المرجحات المضمونية
هو الخبر الظني وتخصيص دليل حجّية خبر الثقة به ، فلا يكون لها إطلاق لا محالة
للقطعين سنداً ، وهذا ما يعلم بخلافه ؛ لأنّ ذاك هو القدر المتيقن من الترجيح
المضموني ، والحمل على التقية المخاطب به بعض الرواة الذين كانوا بأنفسهم قد سمعوا
الحديثين من المعصوم 7 ، ولا أقل من انّه خلاف إطلاق روايات الترجيح بالمرجح
المضموني.
إلاّ انّه على هذا
أيضاً تكون العرضية واضحة ، إذ لا موجب لفرض الطولية ، وأنّ الملحوظ في موضوع
الترجيح المضموني ثبوت الحجّية في موضوعه بلحاظ جميع أدلّة الحجّية ، حتى الترجيح
السندي ، بل يكون من الواضح حينئذٍ أنّ موضوعه ثبوت مقتضى الحجّية العام.
وعلى هذا الأساس
لابدّ من جعل التفصيل على المبنيين في استظهار مركز الترجيح من أدلّة الترجيح
المضموني ، فعلى المبنى المستظهر من انّ الترجيح المضموني لا يرجع إلى السند الظني
يرتفع التعارض والتنافي
في الحجّية بلحاظ
دليل حجّية الخبر والشهادة بالمرجح المضموني فلا موضوع للمرجح السندي ، وعلى مبنى
استظهار رجوعه إلى السند الظني يكونان في عرض واحد.
ص ٤١٤ قوله : ( أمّا الترجيح بموافقة
الكتاب ... ).
لازم ما ذكر أن
يكون الخبران المتعارضان ساقطين عن الحجّية إذا كانا معاً مخالفين للكتاب بنحو
التخصيص والتقييد والجمع العرفي ، كما إذا ورد خبر يدلّ على بطلان البيع الغبني ،
وخبر آخر على صحته وعدم لزومه ، حيث يكون الأوّل مخصّصاً لاطلاق « أَحَلَّ اللهُ
البَيع » والثاني مخصّصاً
لاطلاق « أَوفُوا
بالعُقُود » ؛ لأنّ هذا الفرض غير مشمول للمخصّص اللّبي لأخبار الطرح.
لا
يقال : تقدم أنّ
المدلول الالتزامي لأخبار الترجيح بموافقة الكتاب ثبوت الحجّية في نفسه للخبرين
المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له ، وقدره المتيقن
موارد الجمع العرفي مطلقاً ، أو ما يكون منه بيّناً عرفاً وعقلائياً ومتشرعياً ،
وهذا يعني ثبوت مقتضي الحجّية في الخبرين المذكورين ، فيرجع فيهما إلى المرجح
الطولي ، وهو مخالفة العامة.
فإنّه
يقال : قد تقدم الجواب
على هذا الكلام في بعض تعليقاتنا السابقة ، حيث أنكرنا استفادة مثل هذه الدلالة ،
وانّه يمكن أن يكون المقصود تطبيق نفس قاعدة طرح ما يخالف الكتاب في موارد التعارض
للخبرين مطلقاً ، أي حتى إذا كانت المخالفة مع الكتاب بنحو التخصيص والتقييد وما
فيه جمع عرفي.
فلا ظهور في رواية
الراوندي ولا المقبولة في خلاف ذلك.
نعم ، لو كان
الوارد في ذيلهما الترجيح بمخالفة العامة كلما كان الخبران بالنسبة للمخالفة
والموافقة للكتاب متساويين بأن كان يفرض في موضوعه أنّهما معاً غير مخالفين للكتاب
أو معاً مخالفين له تمّ الاستظهار المذكور.
إلاّ أنّ الوارد
في الذيل خصوص الفرض الأوّل لا أكثر ، وهذا يعني بقاء صدر رواية الراوندي
والمقبولة على اطلاقه من حيث شمول موارد الخبرين المتعارضين الذين كلاهما مخالفان
للكتاب ، فيسقطان معاً عن الحجّية ، ولو كان أحدهما مخالفاً للعامة ، بل لو فرض
اجمال صدر الروايتين كفانا إطلاق أخبار الطرح لما تقدم في التنبيه السادس من
ورودها أو تقدمها على إطلاق أخبار العلاج.
ودعوى : عدم احتمال الفرق
تقدم الجواب عليها أيضاً ، فراجع وتأمل.
وهذا آخر ما أردنا توضيحه أو
التعليق به على كتابنا في
تقرير المباحث الاصولية
لسيدنا الشهيد السعيد
آية الله العظمى السيد محمّد
باقر الصدر 1
وهو حصيلة تدريس هذه البحوث
ضمن دورتين اصوليتين متتاليتين
ابتدأت إحداهما سنة ١٤٠١
وانتهت سنة ١٤١٥
والاخرى سنة ١٤١٥ وانتهت سنة
١٤٣٠
والحمد لله أوّلاً وآخرا
المحتويات
تعليقات على ما تبقّى من الجزء الخامس
(أصالة الاحتياط)
منجزية العلم الإجمالي.......................................................... ٩
الأقل والأكثر............................................................. ١١٧
قاعدة الميسور............................................................. ١٢٦
خاتمة..................................................................... ١٣٢
في شرائط الاصول المؤمنة................................................... ١٣٢
تعليقات على الجزء السادس
(الاستصحاب)
حجّية الاستصحاب........................................................ ١٥٧
الأقوال في الاستصحاب.................................................... ٢١٩
مقدار ما يثبت بالاستصحاب............................................... ٢٣٧
تطبيقات للاستصحاب..................................................... ٢٥١
النسبة بين الامارات والاصول............................................... ٣٥١
تعليقات على الجزء السابع
(تعارض الأدلّة)
الورود ونظرية التزاحم..................................................... ٣٨١
القرينية بأنواعها........................................................... ٤٢٠
حكم التعارض المستقر...................................................... ٤٣٠
بمقتضى القاعدة............................................................ ٤٣٠
حكم التعارض............................................................ ٤٧٠
طبق الأخبار الخاصة........................................................ ٤٧٠
|