بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.



الاستصحاب



تحديد الاستصحاب

قوله ص ٢٠٩ س ١ : الاستصحاب قاعدة الخ : تكلّم 1 في الاستصحاب في نقاط ستّ أوّلها في أدلة الاستصحاب. وقبل الخوض فيها نذكر ثلاث مقدّمات ـ لتّتضح بذلك عبارة الكتاب ـ قرآناها في الحلقة الثانية.

١ ـ عرّف الشيخ الأعظم في الرسائل الاستصحاب بأنّه عبارة عن « الحكم ببقاء ما كان » ، فالحكم ببقاء الطهارة ـ التي كانت سابقا ـ عند الشكّ في بقائها في الزمان اللاحق عبارة اخرى عن الاستصحاب. وقد وجهت بعض الاعتراضات إلى هذا التعريف كما قرأناها في الحلقة الثانية فراجع.

قاعدة اليقين والمقتضي والمانع

٢ ـ هناك ثلاثة مصطلحات لا بدّ من التمييز بينها : الاستصحاب ، قاعدة اليقين ، قاعدة المقتضي والمانع.

ففي الاستصحاب يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ في بقائه لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ لا حقا في نفس الحدوث السابق. فمثلا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في بقائها كان ذلك موردا للاستصحاب. أمّا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في نفس الطهارة الصباحية بأن احتمل بطلان اليقين السابق وكون الثوب نجسا صباحا فهذا مورد قاعدة اليقين. وقد تسمّى بقاعدة الشكّ الساري أيضا حيث إنّ الشكّ عند حدوثه مساء يسري إلى نفس اليقين السابق ويزلزله


بخلافه في الاستصحاب فإنّ اليقين السابق يبقى على حاله ولا يتزلزل بالشكّ.

ثمّ انّ هناك فارقا بارزا بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، ففي الاستصحاب يختلف متعلق اليقين عن متعلّق الشكّ ، فمتعلّق اليقين حدوث الطهارة سابقا ومتعلّق الشكّ بقاء الطهارة لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يكون متعلّق اليقين والشكّ واحدا ، فاليقين متعلّق بحدوث الطهارة صباحا والشكّ متعلّق بنفس حدوث الطهارة صباحا.

ثمّ انّه إذا كان الاستصحاب حجّة فلا بدّ من الحكم ببقاء الطهارة مساء بينما لو كانت قاعدة اليقين حجّة فلا بدّ من الحكم بحدوث الطهارة صباحا ، وأمّا بقائها مساء فلا يرتبط بقاعدة اليقين ؛ إذ المشكوك في قاعدة اليقين حدوث الطهارة صباحا لا بقائها إلى المساء.

هذا كلّه في الاستصحاب وقاعدة اليقين.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فاليقين فيها متعلّق بوجود المقتضي والشكّ متعلّق بوجود المانع ، فإذا رأينا شخصا في منطقة الحرام من المعركة فلنا يقين بثبوت المقتضي ـ بكسر الضاد ـ لموته ، فإذا شكّ في وجود حاجز يمنع من وصول الطلقات إليه كان ذلك شكّا في تحقّق المانع ، فإذا قيل بحجّية قاعدة المقتضي والمانع فلا بدّ من الحكم بتحقّق المقتضى ـ بفتح الضاد ـ أي الحكم بموت الشخص المذكور ولا يلزم جلب الطعام والشراب له. والقاعدة المذكورة لم يثبت حجّيتها لا من الروايات كما هو واضح ولا من العقلاء ؛ إذ لم تجر سيرتهم على الحكم بتحقّق المقتضى (١) عند اليقين بتحقّق مقتضيه والشكّ في مانعه.

__________________

(١) كموت الشخص في المثال السابق


أدلة الاستصحاب

٣ ـ انّ الأدلة المطروحة لإثبات حجّية الاستصحاب ثلاثة : ـ

أ ـ سيرة العقلاء حيث ادّعي انّ سيرتهم جرت على الحكم ببقاء الشيء عند اليقين بحدوثه سابقا والشكّ في بقائه لا حقا.

وهذه السيرة لم تثبت عندنا ، وعهدتها على مدّعيها.

ب ـ حكم العقل ، بمعنى انّ من تيقّن بحدوث شيء سابقا حصل له الظنّ ببقائه ولا بدّ له من الحكم ببقائه لأجل الظنّ المذكور.

والردّ على هذا الدليل واضح فإنّ الظنّ بالبقاء لو سلّم حصوله فلا دليل على حجّيته.

ج ـ الروايات الكثيرة.

والمهمّ من هذه الأدلة هو الروايات.

وقد تقدّم الحديث في الحلقة الثانية عن صحيحة زرارة الاولى (١) فقط بالتفصيل. وفي هذه الحلقة نمرّ على هذه الصحيحة مرّ الكرام ونأخذ بالتحدّث عن بقيّة الروايات بشيء من التفصيل.

__________________

(١) لزرارة في باب الاستصحاب ثلاث روايات صحاح عبّر عنها بصحيحة زرارة الاولى أو الثانية أو الثالثة.


الرواية الاولى

استدل الاصوليون على حجّية الاستصحاب بصحيحة زرارة الاولى « قلت له (١) : الرجل ينام وهو على وضوء ... ». وتقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية في ثلاث جهات : ـ

١ ـ في فقه الرواية بمعنى توضيح المقصود منها. ويمكن الإشارة إلى نقطتين في ذلك : ـ

أ ـ كيف حكم الإمام 7 بأنّ عدم البناء على بقاء الوضوء في زمان الشكّ نقض لليقين بحدوث الطهارة والحال انّ الحكم بارتفاع الوضوء بقاء لا يتنافى واليقين بحدوثه سابقا ، وبالتالي كيف يسند نقض اليقين إلى الشكّ؟

ب ـ انّ قوله 7 : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » يشتمل على أداة شرط ، فإنّ كلمة « وإلاّ » مركّبة من أداة شرط وأداة نفي ، أي : وإن لا. وتقدير فعل الشرط واضح أي : وإن لم يستيقن انّه قد نام. وأمّا جواب الشرط ففيه احتمالات ثلاثة يمكن مراجعتها في الحلقة الثانية.

٢ ـ في تقريب الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب.

انّ دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب وإن كانت واضحة حيث حكم

__________________

(١) لم يذكر زرارة في الرواية انّ الموجّه له السؤال هو الإمام 7 حيث قال : قلت له ولم يقل قلت للإمام 7 ، ومثل هذه الرواية تسمّى بالمضمرة حيث اضمر ذكر الإمام فيها. والمعروف عدم حجّية المضمرات ، ولكن حيث انّ المضمر في هذه الرواية هو زرارة الذي لا يليق به السؤال من غير الإمام 7 لم يكن ذلك مضرّا بحجّيتها.


الإمام 7 بلزوم الحكم ببقاء الوضوء معلّلا بالاستصحاب وأنّه على يقين سابقا وشكّ لا حق ولا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، إلاّ أنّ هناك شبهة تقول : انّ من المحتمل نظر الرواية إلى قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب. ويمكن مراجعة الحلقة الثانية لاستيضاح ذلك.

٣ ـ في عمومية كبرى الاستصحاب ؛ إذ قد يقال بأنّ الرواية المذكورة لا يستفاد منها حجّية الاستصحاب في جميع الموارد بل في خصوص باب الوضوء حيث انّ الإمام 7 قيّد اليقين وقال : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » ، ومن المحتمل أن تكون الألف واللام في كلمة اليقين في قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » عهدية ، أي إشارة إلى اليقين بالوضوء خاصّة وليست جنسية. وبكلمة اخرى : من المحتمل أن يكون المقصود : لا ينقض اليقين في خصوص باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء وليس المقصود ولا ينقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ.

ويمكن الجواب : بأنّ ظاهر قول الإمام 7 : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ... » التعليل بأمر ارتكازي (١) ، فكأنّ الإمام 7 يريد أن يقول كيف تنقض اليقين بالشكّ والحال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم نقض اليقين بالشكّ. وما دام التعليل بأمر ارتكازي فيمكن أن يقال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ لا خصوص اليقين في باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء خاصة.

ويؤيّد العمومية قول الإمام 7 : « ابدأ » كما هو واضح.

قوله ص ٢٠٩ س ٦ : كقاعدة عامّة : أي لا في خصوص باب الوضوء مثلا

__________________

(١) إذ التعليل لشخص عاقل لا يصحّ إلاّ بأمر عقلائي وإلاّ لم يستفد من التعليل وكان لغوا.


بل في جميع الأبواب.

قوله ص ٢٠٩ س ٨ : الخفقة : هي النعاس الذي يحصل للإنسان قبل أن يستمكن النوم منه.

قوله ص ٢١٠ س ٤ : الملحوظ فيه : أي في التعليل المشار إليه بقول الإمام 7 : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه الخ ».

الرواية الثانية

لزرارة في باب الاستصحاب روايات ثلاث ، وقد تقدّمت روايته الاولى. وهذه روايته الثانية ، وهي مضمرة أيضا حيث لم يصرّح فيها بكون الشخص المسؤول هو الإمام 7. وتمتاز هذه الرواية بدقّتها وطولها ، فهي تشتمل على ستة أسئلة وستة أجوبة. وموطن الاستدلال جواب السؤال الثالث والسادس. ونأخذ بعرض تلك الأسئلة وأجوبتها : ـ

الأوّل

وفي السؤال الأوّل سأل زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه قبل الصلاة ثمّ طرأ عليه نسيانها وتذكّر ذلك بعد الفراغ.

وقد حكم 7 في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد.

الثاني

وفي السؤال الثاني فرض زرارة علمه بإصابة النجاسة لثوبه ولكنّه لم


يتمكّن من تشخيص موضعها فلم يدر هي في أي موضع من الثوب ، وبعد أن دخل في صلاته وفرغ منها رآها.

وقد حكم 7 في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد أيضا.

ثمّ إنّ زرارة ذكر في هذا السؤال انّه طلب موضع النجاسة فلم يقدر عليه حيث قال : « فطلبته فلم أقدر عليه ». وقد يتوهّم انّ المستفاد من هذه العبارة إبداء زرارة تشكيكه في يقينه السابق فكأنّه يريد القول بأنّي حيث طلبت موضع النجاسة ولم أره حصل لي الشكّ في أصل حدوثها السابق وسرى شكّي إلى اليقين السابق. وبناء على هذا يكون مورد الرواية قاعدة اليقين ، ويستفاد من جواب الإمام 7 حجّية القاعدة المذكورة ، حيث حكم 7 بوجوب إعادة الصلاة أخذا باليقين السابق الذي فرض تزلزله.

وهذا توهّم باطل ، فإنّ عدم تشخيص موضع النجاسة وعدم القدرة عليه لا يدلّ على تزلزل اليقين السابق بالنجاسة.

والصحيح في وجه ذكر جملة : « فطلبته فلم أقدر عليه » تخيّل زرارة انّ عدم عثوره على موضع إصابة النجاسة مسوّغ له في الدخول في الصلاة ، فأجابه الإمام 7 بأنّ ذاك لا يكون مسوّغا للدخول فيها ومبرّرا لصحّتها.

الثالث

وفي السؤال الثالث المتضمّن للفقرة الاولى للاستدلال افترض زرارة ثلاثة امور ، فأوّلا افترض ظن إصابة النجاسة لثوبه ولم يتيقّن بها ، وثانيا افترض الفحص عن النجاسة فلم يجدها ، وثالثا ذكر انّه وجد بعد فراغه من


الصلاة نجاسة ولكنّه لم يفترض انّها نفس النجاسة السابقة ، حيث قال : « فرأيت فيه » ولم يقل « فرأيته » أو « فرأيتها فيه » ، فإنّ عدم ذكره للضمير يفتح مجالا لأن يكون مقصوده رؤيته بعد الفراغ نجاسة يحتمل مغايرتها للنجاسة السابقة.

وعلى ضوء فرض هذه الامور الثلاثة أجاب الإمام 7 بصحّة الصلاة معلّلا بأنّه كان على يقين سابق بالطهارة وشكّ لا حق في زوالها ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ أبدا.

وفي مقصود زرارة من هذا السؤال توجد أربع فرضيات محتملة نستعرضها لنرى انّ أي واحدة منها تصلح للاستدلال على حجّية الاستصحاب.

أ ـ أن يكون مقصود زرارة انّي حينما ظننت بالإصابة وفحصت ولم أجد النجاسة حصل لي القطع بعدم إصابة النجاسة ـ فيكون قول زرارة : « فلم أر شيئا » كناية عن حصول القطع له بعدم إصابة النجاسة ـ ولمّا صلّى ووجد نجاسة حصل له القطع بأنّ هذه النجاسة عين النجاسة السابقة التي ظنّ أصابتها للثوب ، فهو قبل الصلاة قاطع بعدم إصابة النجاسة لثوبه وبعد الفراغ قاطع بأنّ ما رآه هو عين ما ظنّ إصابته سابقا.

وهذه الفرضية لا يحتمل أن تكون هي المقصودة لزرارة ، فإنّ الإمام 7 افترض في جوابه وجود شكّ لزرارة وطبّق الاستصحاب أو قاعدة اليقين (١) ، وذلك لا يتمّ بناء على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد فيها شكّ ليقول 7 انّك كنت على يقين سابق وشكّ لا حق ، كلا انّ هذا لا معنى له فإنّ زرارة لم يكن له شكّ بل

__________________

(١) حيث انّ قول الإمام 7 : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي الخ يحتمل الاثنين.


كان على يقين قبل الصلاة من عدم الإصابة ، كما وكان على يقين بعد الفراغ من الصلاة من كون النجاسة المرئية عين السابقة.

وعليه فهذه الفرضية لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال أن تكون هي المقصودة.

ب ـ أن يكون مقصود زرارة انّي حينما فحصت ولم أر نجاسة حصل لي القطع بعدم الإصابة كما كنّا نفترض ذلك في الفرضية الاولى ، بيد انّه في هذه الفرضية لما رأى زرارة نجاسة بعد الفراغ من الصلاة لم يحصل له القطع بأنّها نفس السابقة بل كان على شكّ من ذلك.

وهذه الفرضية تصلح أن تكون موردا لجريان الاستصحاب كما وتصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين.

امّا أنّها مورد للاستصحاب فباعتبار انّ زرارة كان قاطعا من طهارة ثوبه في الزمان السابق على ظنّ الإصابة وبعد فراغه من صلاته حصل له الشكّ في أنّ ما رآه نجاسة جديدة أو سابقة فيمكن أن يجري استصحاب الطهارة السابقة الثابتة قبل ظنّ الإصابة ويثبت به طهارة الثوب إلى اللحظة التي رأى فيها النجاسة بعد الصلاة.

وطبيعي انّ هذا الاستصحاب لا يجري في حقّ زرارة قبل الصلاة ولا حينها وإنّما يجري بعدها ، أي حين سؤاله من الإمام 7 ورؤيته النجاسة التي يحتمل طروّها المتأخّر ، وأمّا قبل الصلاة وحينها فقد كان قاطعا حسب الفرض بعدم إصابة النجاسة ثوبه ولم يكن شاكّا ليجري الاستصحاب في حقّه.

وأمّا انّها مورد لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تفترض وجود يقين طرأ


عليه التزلزل عند حدوث الشكّ ، وعلى هذه الفرضية يوجد مثل هذا اليقين المتزلزل ؛ إذ المفروض عند الفحص وعدم رؤية النجاسة حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة للثوب ، وبعد الفراغ من الصلاة ورؤية نجاسة يحتمل أنّها عين السابقة سيطرأ التزلزل على يقينه الحاصل بالفحص وسيحتمل أنّ يقينه كان مخطئا وغير مصيب للواقع (١).

وإذا كانت الرواية على هذه الفرضية صالحة للاستصحاب ولقاعدة اليقين فقول الإمام 7 : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك وشككت ... » من المحتمل أن يراد به تطبيق الاستصحاب كما وانّ من المحتمل أن يراد به تطبيق قاعدة اليقين.

وما دامت الرواية صالحة لهذين الاحتمالين فلا يمكن التمسّك بها للاستدلال على حجّية الاستصحاب إلاّ إذا استظهرنا منها إرادة تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

ج ـ وهذه الفرضية عكس الفرضية السابقة ، ففي السابقة كنّا نفترض انّ

__________________

(١) قد تسأل لماذا حين إجراء الاستصحاب لا حظنا اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة بينما عند تطبيق قاعدة اليقين لا حظنا اليقين الثابت بسبب الفحص؟

والجواب واضح حيث انّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرء عليه التزلزل ، واليقين المذكور ليس هو إلاّ اليقين الحاصل بالفحص فإنّه القابل للتزلزل عند رؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا الاستصحاب فحيث انّه يحتاج إلى يقين غير متزلزل ، واليقين المذكور بما انّه ليس إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة لذا لا حظنا عند تطبيق الاستصحاب اليقين السابق على ظنّ الإصابة


الفحص ولّد اليقين بعدم إصابة النجاسة ، وبعد الفراغ ورؤية النجاسة تولّد الشكّ في أنّها نفس السابقة أو لا ، وأمّا في هذه الفرضية فيفرض انّ الفحص لم يولّد اليقين بعدم الإصابة بل ولّد الشكّ في الإصابة وبعد الفراغ تولّد اليقين بأنّ النجاسة المرئيّة هي عين السابقة.

وهذه الفرضية لا تصلح لقاعدة اليقين بل تصلح للاستصحاب فقط.

امّا أنّها لا تصلح لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى يقين طرأ عليه التزلزل ، وعلى هذه الفرضية لا يوجد مثل هذا اليقين ؛ إذ لم يحصل بالفحص يقين يمكن تزلزله برؤية النجاسة بعد الصلاة ، بل اليقين الثابت هو اليقين قبل ظنّ الإصابة ، ومثل هذا اليقين لا يطرأ عليه التزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا أنّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد يقين بالطهارة ثابت قبل ظنّ الإصابة فتستصحب الطهارة حين ظنّ الإصابة والفحص وتثبت بذلك صحّة الصلاة.

وهذا الاستصحاب يجري ـ كما قلنا ـ حين ظنّ الإصابة والفحص ؛ إذ في هذا الحين يوجد شكّ في إصابة النجاسة للثوب ، ولا يجري بعد الفراغ من الصلاة ؛ إذ بعد الفراغ فرضنا حصول اليقين بأنّ النجاسة المرئية هي النجاسة السابقة ولا يوجد شكّ حتّى يمكن جريان الاستصحاب.

إذن على هذه الفرضية يتعيّن كون مقصود الإمام 7 إجراء الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، ويتمّ الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب ، كما ويتعيّن أن يكون إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الفحص لا بلحاظ حال الفراغ من الصلاة الذي هو وقت السؤال.


د ـ وفي الفرضية الرابعة نفترض عكس الفرضية الاولى تماما ، ففي الفرضية الاولى كنّا نقول انّ زرارة حصل له بالفحص قبل الصلاة اليقين بعدم إصابة النجاسة ، كما وحصل له بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة اليقين بأنّها النجاسة السابقة. وفي هذه الفرضية نفترض حصول الشكّ في كلتا الحالتين فقبل الصلاة حينما فحص زرارة حصل له الشكّ في الإصابة ، كما وأنّه بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة حصل له الشكّ في أنّها عين السابقة.

ومثل هذه الفرضية لا تصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين بل للاستصحاب فقط.

أمّا انّها لا تصلح موردا لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرأ عليه التزلزل ، ومثل هذا اليقين لا يوجد على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد عندنا إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة ومثله لا يتزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا انّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد قبل ظنّ الإصابة يقين بطهارة الثوب فيجري استصحاب تلك الطهارة.

وإذا سألت عن زمان جريان الاستصحاب هل هو قبل الصلاة ـ أي حين الفحص ـ أو بعدها الذي هو وقت السؤال.

فالجواب انّ بالإمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ كلا الحالين : حال الفحص التي هي قبل الصلاة وحال السؤال التي هي ما بعد الصلاة ؛ إذ في كلا الحالين فرض الشكّ وعدم اليقين.

وعليه فالرواية على هذه الفرضية صالحة للاستدلال بها على حجّية


الاستصحاب.

ومن كل هذا تجلّى انّ الفرضية الاولى لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال انطباق السؤال والجواب عليها. ونبقى نحن والفرضيات الثلاث الاخرى ، وعلى تقدير جميعها تكون الرواية دالّة على حجّية الاستصحاب ، غاية الأمر على الفرضية الثانية تحتمل الرواية إرادة الاستصحاب وإرادة قاعدة اليقين فلا بدّ من استظهار إرادة الاستصحاب منها ليتمّ بها الاستدلال.

الرابع

وفي السؤال الرابع ذكر زرارة للإمام 7 انّه علم إجمالا بإصابة النجاسة ثوبه ولكنّه لم يعرف موضعها فما هو حكمه؟ فأجابه 7 بأنّ النجاسة إذا كان يحتمل إصابتها للطرف الأعلى من الثوب مثلا فيلزم غسل جميع الطرف الأعلى كيما يكون على يقين من الطهارة (١).

الخامس

وفي السؤال الخامس ذكر زرارة انّه لو احتمل إصابة النجاسة للثوب ولم يجزم بذلك فهل عليه الفحص عن تحقّقها أو يبني على الطهارة؟ فأجابه الإمام 7

__________________

(١) وقد استفاد البعض من قول الإمام 7 : « حتّى تكون على يقين من طهارتك » حجّية الاستصحاب أيضا ، حيث يدلّ على أنّ المكلّف ما دام قد حصل له العلم بنجاسة الثوب فليس له حقّ الاعتناء بالشكّ بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالطهارة وما ذاك إلاّ لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ بل باليقين


بعدم لزوم الفحص وإن كان الفحص جائزا لإزالة الوساوس والشكوك.

السادس

والسؤال السادس يتضمّن الفقرة الثانية من فقرتي الاستدلال على حجّية الاستصحاب. وفي هذا السؤال لم يفترض زرارة ظنّ الإصابة قبل الصلاة بل فرض انّه شرع في الصلاة وفجأة رأى نجاسة أثناء الصلاة فما هو الموقف؟ وأجابه 7 بالتفصيل بين حالتين :

أ ـ أن يكون قد شكّ قبل الصلاة في موضع من الثوب ثمّ رأى أثناء الصلاة النجاسة التي كان يشكّ في موضعها قبل الصلاة. وفي هذه الحالة تجب إعادة الصلاة حيث قال 7 : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » (١).

ب ـ أن لا يكون شاكّا قبل الصلاة وإنّما رأى النجاسة أثناء الصلاة طرية لا جافة وفي هذه الحالة ينقطع عن مواصلة الصلاة قليلا ليغسل الثوب ويكملها بعد ذلك ، وعلّل 7 ذلك بأنّ النجاسة الطرية التي رآها يحتمل أن تكون عارضة أثناء الصلاة وليست سابقة ، ومع وجود هذا الاحتمال لا بدّ وأن يبني على يقينه بالطهارة الثابت قبل الصلاة ولا ينقضه بالشكّ ، وقد أشار 7 إلى هذه الحالة بقوله : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

ويوجد في مقصود الإمام 7 من هاتين الحالتين احتمالان : ـ

__________________

(١) الإتيان بالهاء يدلّ على أنّ النجاسة المرئية هي عين النجاسة السابقة المشكوكة جزما


١ ـ أن يكون مقصود الإمام 7 من الحالة الاولى الإشارة إلى صورة العلم الإجمالي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى صورة الشكّ البدوي ، فكأنّه 7 يريد القول انّك إن علمت إجمالا قبل الصلاة بإصابة النجاسة للثوب ولكن شككت في موضع الإصابة فعليك بإعادة الصلاة إذا رأيتها في الأثناء ، وأمّا إذا لم تعلم إجمالا بالإصابة وإنّما كنت تشكّ بدوا في ذلك وتحتمل طروّها في الأثناء فتطهر الثوب بلا حاجة إلى استئناف الصلاة من جديد.

٢ ـ أن يكون مقصود الإمام 7 من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة الشكّ البدوي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى حالة عدم الشكّ البدوي ، فكأنّه 7 يقول إن شككت بدوا قبل الصلاة بالإصابة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فعليك باستئناف الصلاة وإن لم تشكّ بدوا في ذلك بل كنت جازما بالطهارة قبل الصلاة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فليس عليك استئناف ؛ إذ لعلّه شيء اوقع عليك.

إذن في مقصود الإمام 7 من التفصيل احتمالان (١) ، ولكن هذا التردّد بين الاحتمالين لا يضرّ بما نريد تحصيله من الرواية ، وهو إثبات دلالتها على حجّية الاستصحاب ؛ إذ هي تدل على كلا الاحتمالين على أنّ المكلّف إذا رأى النجاسة فى

__________________

(١) لكل من الاحتمالين ما يؤيّده ، فممّا يؤيد الاحتمال الأوّل ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة العلم الإجمالي تعبير الإمام 7 : « فشككت في موضع منه » حيث اضيف الشكّ إلى الموضع لا إلى الإصابة فلم يقل 7 إذا شككت في الإصابة بل قال إذا شككت في موضع منه ، وهذا معناه انّ أصل الإصابة مقطوع وإنّما الشكّ والتردّد في الموضع.

وممّا يؤيّد الاحتمال الثاني ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الشكّ البدوي تعبير الإمام 7 بالشكّ دون العلم فلم يقل إذا علمت بل قال إذا شككت


الأثناء ولم يقطع بوجودها قبل الصلاة فاستصحاب الطهارة جار فى حقّه ـ وهو حجّة وهذا هو المقصود ـ أمّا إذا قطع بوجودها قبل الصلاة ـ سواء كان على علم إجمالي قبل الصلاة أو على شكّ بدوي ـ فعليه إعادتها ولا يجري الاستصحاب في حقّه.

إذن دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب واضحة سواء كان مقصود الإمام 7 الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الثاني فإنّ ذلك لا يؤثّر من هذه الناحية.

إشكال وجواب

ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل انّ جواب الإمام 7 عن السؤال السادس يتنافى وجوابه عن السؤال الثالث ، فإنّه في جواب السؤال السادس الناظر إلى صورة الالتفات للنجاسة أثناء الصلاة فصّل 7 بين شقّين ، ففي الشقّ الأوّل ذكر انّ من شكّ في موضع النجاسة قبل الصلاة ثمّ التفت إليها أثناء الصلاة وحصل له القطع بأنّها النجاسة المشكوكة الموجودة قبل الصلاة (١) تجب عليه إعادة الصلاة من جديد حيث قال 7 : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ». والخصوصيات المذكورة في جواب الإمام هذا :

أ ـ الشكّ في وجود الدم قبل الصلاة.

ب ـ والقطع أثناء الصلاة بأنّه الدم السابق.

وعلى ضوء هاتين الخصوصيتين حكم الإمام 7 بلزوم الإعادة.

__________________

(١) استفدنا قطع زرارة بأنّ النجاسة المرئية أثناء الصلاة هي عين النجاسة السابقة من ذكر الضمير في قوله : « ثمّ رأيته » ، فإنّ الهاء راجعة إلى الدم المشكوك وجوده سابقا


وإذا رجعنا إلى السؤال الثالث وتأمّلنا فى فرضياته الأربع وجدنا انّ الفرضية المشتملة على الشكّ السابق واليقين اللاحق هي الفرضية الثالثة (١) حيث فرض فيها حصول الشكّ في إصابة الدم عند الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وفرض أيضا حصول القطع ـ عند رؤية الدم بعد الصلاة ـ بكونه عين الدم السابق المشكوك ، وقد حكم 7 بعدم لزوم الإعادة. انّ حكم الإمام 7 بعدم لزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة بعد الفراغ من الصلاة واليقين بسبقها عليها يتنافى وحكمه بلزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة أثناء الصلاة واليقين بسبقها عليها ، فإن كلا الموردين يتفق في خصوصيات مشتركة ، ففي كليهما يوجد شكّ سابق على الصلاة ويقين لا حق بسبق النجاسة على الصلاة ، غاية الأمر في أحد الموردين انكشف أثناء الصلاة سبق النجاسة وفي المورد الآخر انكشف بعد تمام الصلاة سبق النجاسة ، فإذا كانت الإعادة لازمه فمن المناسب الحكم بلزومها في كلا الموردين وإذا لم تكن لازمه فمن المناسب الحكم بعدم لزومها في كلا الموردين ، إذ التفرقة بينهما بعد الاتحاد في الخصوصيات لا يعرف لها وجه. وكون الانكشاف في أحد الموردين حاصلا أثناء الصلاة وفي المورد الثاني بعد الفراغ من الصلاة لا يصلح فارقا.

هذا حصيلة ما ذكره الشيخ الأعظم 1.

والجواب عن ذلك واضح حيث يقال انّ الانكشاف في الأثناء يمكن أن

__________________

(١) وأمّا الاولى فقد فرض عدم وجود شكّ فيها ، وأمّا الثانية فقد فرض انّ السابق هو اليقين بعدم إصابة الدم واللاحق هو الشكّ ، وهذا عكس ما نطلبه ، وأمّا الرابعة فالمفروض فيها وجود الشكّ سابقا ولا حقا


يكون له مدخلية في لزوم الإعادة بينما الانكشاف بعد الفراغ يكون له مدخلية في عدم لزوم الإعادة. إنّ هذا احتمال وجيه ولا يمكن الجزم بعدمه. والأعراف العقلائيّة شاهد صدق على ما نقول ، فمن هيّأ له طعام لا يرغب فيه ، وبعد الفراغ من صنعه اطلع على أنّه ذلك الطعام الذي لا يرغب فيه فقد لا يأمر بتهيئة طعام جديد له بينما لو اطّلع على ذلك في الأثناء فقد يأمر بالعدول إلى صنع طعام آخر له الرغبة الكاملة فيه.

تفصيل الكلام في فقرتي الاستدلال

إنّ ما سبق كان كلّه ناظرا إلى فقه الرواية ومعناها. والآن نريد التحدّث عن فقرتي الاستدلال بشيء من التفصيل وعرض بعض النكات المرتبطة بهما.

الفقرة الاولى

والحديث في الفقرة الاولى ـ قلت : فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : ولم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ـ يقع في جهات :

الجهة الاولى

ذكرنا انّ الفقرة المذكورة تحتمل فرضيات أربع ، وبعد حذف الاولى من الحساب نبقى نحن والفرضيات الثلاث الأخيرة. وفي الفرضية الثانية كان المورد


يتحمّل الاستصحاب وقاعدة اليقين معا. والاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب يتوقف على استظهار كون مقصود الإمام 7 من قوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ... » الاستصحاب دون قاعدة اليقين. وفي هذه الجهة يراد تقريب هذا الاستظهار.

وحاصل ذلك : انّ كون المقصود الاستصحاب يتوقّف على تمامية أركانه ، وهكذا كون المقصود قاعدة اليقين يتوقّف على تمامية أركانها. ونحن لو تأمّلنا في الفقرة المذكورة وجدنا انّ أركان قاعدة اليقين غير متوفّرة بينما أركان الاستصحاب متوفّرة فيتعيّن حمل الفقرة المذكورة على الاستصحاب.

أمّا عدم توفّر أركان قاعدة اليقين فلأنّها ـ أركان قاعدة اليقين ـ عبارة عن اليقين المتزلزل والشكّ الساري. والركن الأوّل ـ أي اليقين المتزلزل ـ غير متوفر ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ عليه سوى قول زرارة « فنظرت فلم أر شيئا » ، ومن الواضح انّ إخبار زرارة بعدم رؤيته للدم بعد النظر لا يدلّ على أنّ مقصوده حصول اليقين له بعدم إصابة الدم للثوب ، فإنّا كثيرا ما نفحص عن شيء ولا نعثر عليه ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدم حصوله ، فقطرة البول قد نحسّ بإصابتها للقدم عند التبوّل ونفحص عنها ولا نراها ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدمها ، فالتعبير المذكور ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ لا يدل إذن على توفر الركن الأوّل حتّى على تقدير تسليم دلالة قوله : ـ فرأيت فيه ـ على الركن الثاني ، أي حصول الشكّ الساري.

وبكلمة مختصرة : انّ ما يمكن أن يكون دالاّ على الركن الأوّل قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » ، وما يمكن أن يكون دالا على الركن الثاني قوله : « فرأيت


فيه » ، ولئن سلّمنا بدلالة العبارة الثانية على الركن الثاني (١) فلا يسعنا التسليم بدلالة العبارة الاولى على الركن الأوّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى أركان قاعدة اليقين. وقد اتّضح عدم توفّرها فلا يمكن حمل الرواية عليها.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ لزرارة يقينا حاصلا له قبل ظنّ إصابة الدم ، كما ويوجد له شكّ في بقاء الطهارة حصل له عند فراغه من الصلاة ورؤيته دما يحتمل انّه السابق. وما دامت أركان الاستصحاب متوفّرة بخلاف أركان قاعدة اليقين فيلزم حمل الرواية على الاستصحاب.

الجهة الثانية

بعد أن اتّضح في الجهة الاولى أنّ الرواية ناظرة إلى الاستصحاب دون قاعدة اليقين ينفتح مجال لحديث آخر ، وهو انّ الاستصحاب الذي أجراه الإمام 7 لزرارة هل أجراه بعد فراغ زرارة من صلاته وسؤاله من الإمام 7 عن تحديد موقفه أو إجراه له قبل دخوله في صلاته أي حينما فحص ولم ير النجاسة (٢)؟

__________________

(١) مع أنّه يمكن التشكيك في ذلك أيضا ؛ إذ قد يقول قائل انّ المقصود من « فرأيت فيه » رؤية نفس النجاسة السابقة لا رؤية نجاسة يشكّ في أنّها السابقة. وهذا الكلام وإن لم يكن مقبولا لدى السيّد الشهيد كما سيأتي في الجهة الثانية ولكنّه كلام قد يقال. وبناء عليه يلزم أن يكون الشكّ الذي يتطلّبه الاستصحاب هو الشكّ الحاصل قبل الصلاة عند الفحص وعدم رؤية النجاسة

(٢) وقد تسأل عن ثمرة هذا البحث وانّه ما فائدة البحث عن كون الاستصحاب هل أجراه الإمام 7 بلحاظ ما قبل الصلاة أو بلحاظ ما بعدها؟ انّ ثمرة ذلك تظهر في البحث المطروح في الجهة الثالثة كما سيأتي


انّ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى الرجوع للرواية والتأمّل في التعبيرات الواردة فيها. فزرارة بعد فراغه من الصلاة ذكر التعبير التالي : « فرأيت فيه ». انّ هذا التعبير لو كان يقصد منه زرارة انّي رأيت نفس النجاسة المظنون إصابتها لثوبي سابقا فالاستصحاب لا يمكن إجراؤه بعد الصلاة ؛ إذ المفروض انّه بعد الصلاة رأى في ثوبه النجاسة التي يقطع بسبقها على الصلاة ، والاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كان في الزمان اللاحق شكّ. ويتعيّن بناء على هذا أن يكون الإمام 7 قد أجرى الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، أي حين الفحص وعدم رؤية النجاسة ، فإنّ هذا الحين يوجد فيه شكّ ويمكن إجراء الاستصحاب بلحاظه.

هذا كلّه لو نظرنا إلى التعبير الذي ذكره زرارة بعد فراغه من الصلاة.

أمّا إذا نظرنا إلى التعبير الآخر الذي يحكي حالة زرارة قبل شروعه في الصلاة ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ واستفدنا منه انّ زرارة قد حصل له اليقين ـ قبل الصلاة وبعد الفحص ـ بعدم إصابة الدم ثوبه ، بناء على هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ؛ إذ لا يوجد في الزمان المذكور شكّ حسب الفرض حتّى يجري الاستصحاب ، ويتعيّن كون مقصود الإمام 7 إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة.

إذن الجواب عن السؤال المطروح في هذه الجهة يرتبط بالتأمّل في هذين التعبيرين.

وبالرجوع إلى التعبيرين من جديد والتأمّل في قوله : « فرأيت فيه » لا نجد فيه دلالة على أنّ مقصود زرارة انّي رأيت فيه نفس الدم السابق ، إنّ هذا لو كان


هو المقصود لزرارة فمن المناسب له ذكر الضمير فيقول : « فرأيته فيه » ، فإنّ الإنسان العرفي إذا أراد التعبير عن رؤية الدم السابق يقول : « رأيته فيه » فيأتي بالهاء ولسانه لا يطاوعه على تركها.

ولا يمكن أن يقال انّ ترك الضمير من قبل زرارة لعلّه قد حصل عفوا وبلا التفات إلى النكتة التي أشرنا إليها ، إنّ هذا بعيد. كيف ذا وزرارة ذلك العالم النحرير!! خصوصا ونحن نرى انّه ذكر الضمير في الفقرة الثانية حيث قال فيها : « فلمّا صلّيت وجدته » ، إنّ ذكر الضمير تارة وحذفه اخرى يدلّ على وجود نكات يريد زرارة من وراء ذلك الإشارة لها.

وباختصار : ما دام قول زرارة : « فرأيت فيه » لا يدلّ على رؤية الدم السابق ، وما دام زرارة بعدم ذكره للضمير يريد القول بأنّي رأيت دما احتمل انّه السابق ولا أقطع بأنّه هو فجريان الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة يكون وجيها جدّا.

وقد تقول : انّ هذا المقدار لا ينفي وجاهة إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

والجواب : انّ كون المقصود إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة بعيد ، فإنّ التعبير الذي حكى به زرارة حالته قبل الصلاة ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ وإن كان لا يدلّ على حصول اليقين له بعدم إصابة الدم لثوبه ، ولازم ذلك إمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، إلاّ أنّ إرادة ذلك منه أمر محتمل ، فمن المحتمل أن يكون زرارة قد قصد من التعبير المذكور انّي بالفحص وعدم رؤية الدم حصل لي القطع بعدم إصابة الدم ثوبي. وما دام هذا الاحتمال ثابتا ووجيها


فلا معنى لإلزام الإمام 7 زرارة بإجراء الاستصحاب قبل الصلاة ، إنّ الالزام بذلك فرع أن يفرض زرارة شكّه في الإصابة بعد أن قام بالفحص ، وحيث انّ هذا الفرض لم يتحقّق من زرارة افتراضه فلا يمكن للإمام 7 أن يلزمه بإجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

وبهذه الكيفية من البيان ينفى احتمال إجراء الإمام 7 للاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ويتعيّن أن يكون إجراؤه بلحاظ ما بعد الصلاة.

ولربّ قائل يقول انّ هذا البيان لاستفادة كون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة وإن كان وجيها بيد أنّه توجد قرينة تقتضي كون جريان الاستصحاب قد لو حظ فيه حالة ما قبل الصلاة ، وهي استغراب زرارة ، فإنّ الإمام 7 لمّا حكم بصحّة الصلاة استغرب زرارة وقال للإمام 7 : ولم ذاك. وهذا الاستغراب لا وجه له ما دام إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة ؛ فإنّ الاستصحاب بعد الصلاة لا يجري إلاّ مع الشكّ في سبق النجاسة ، أي لا بدّ وأن يكون مقصود زرارة من قوله : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » انّي رأيت نجاسة بعد الصلاة احتمل أنّها السابقة ولا أجزم بذلك ، إذ لو كان جازما بأنّها السابقة فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه فإنّ جريان الاستصحاب فرع الشك ، ومع جريان الاستصحاب فلا وجه للاستغراب من حكم الإمام 7 بصحّة الصلاة ، فاستغرابه دليل على أنّه كان قاطعا بأنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي السابقة وأنّ صلاته قد وقعت في النجس جزما ، ومع جزمه هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه بلحاظ ما بعد الصلاة ويتعيّن أن يكون بلحاظ ما قبل الصلاة وهو ما قلناه.


هذا ولكن يمكن ردّ هذه القرينة بأنّ استغراب زرارة يمكن أن يكون من جهة اخرى ، فهو كان يعتقد أنّ المبرر لدخوله في الصلاة ـ مع الالتفات إلى أنّه كان يحتمل إصابة النجاسة ثوبه ـ هو ظنّه بعدم الإصابة الحاصل بسبب الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وحيث انّ هذا الظنّ زال بعد الصلاة لأنّه رأى نجاسة يشكّ أنّها السابقة ـ ومع طروّ هذا الشكّ يزول الظنّ السابق بعدم إصابة النجاسة ثوبه ـ فكان يتوقع من الإمام 7 أن يحكم ببطلان الصلاة. ولمّا لم يحكم 7 بذلك استغرب.

ثمّ انّك إذا قبلت هذا التوجيه للاستغراب فبها. وإن لم تقبله وكنت جازما بأنّ استغراب زرارة دليل واضح على جزمه بكون النجاسة التي رآها هي السابقة فيتعين أن يكون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة. وحينئذ يتولّد إشكال نذكره في الجهة الثالثة.

الجهة الثالثة

إنّ إجراء الاستصحاب إذا كان قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة فسيتولّد إشكال حاصله : انّ لازم إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة وعدم إجرائه بلحاظ ما بعد الصلاة أنّ زرارة كان قاطعا عند رؤيته للنجاسة بعد الصلاة أنّها نفس النجاسة السابقة وليس شاكا في ذلك. وقطعه هذا ـ أي بأنّ النجاسة المشاهدة بعد الصلاة هي عين السابقة ـ معناه القطع بمخالفة استصحاب الطهارة الجاري قبل الصلاة للواقع. ومع هذا القطع بالمخالفة كيف يستند له الإمام 7 ويحكم لأجله بصحة الصلاة ، انّه غير ممكن لأنّ الحكم الظاهري حجّة ما دام لم


ينكشف مخالفته للواقع. هذا سؤال قد يطرح.

وقد أجاب الأعلام عنه بأحد جوابين : ـ

أ ـ إنّ كلام الإمام 7 يشتمل على مقدّمة مضمرة لم يصرّح بها ، وهي إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ، فإنّ الاستصحاب إذا كان جاريا قبل الصلاة تولّد منه حكم ظاهري بطهارة الثوب. وهذا الحكم الظاهري وإن انكشف خطأه ولكنّه يكفي لتصحيح الصلاة وعدم وجوب إعادتها إذ امتثال الحكم الظاهري يجزي عن امتثال الحكم الواقعي.

ب ـ إنّا وإن لم نقل باجزاء امتثال الحكم الظاهري عن امتثال الحكم الواقعي فبالإمكان الحكم أيضا بصحّة الصلاة باعتبار انّ شرط صحّة الصلاة ليس هو خصوص طهارة الثوب طهارة واقعية بل طهارة الثوب طهارة أعمّ من الواقعية والظاهرية ، فإذا جرى الاستصحاب ما قبل الصلاة تثبت طهارة الثوب طهارة ظاهرية وكان شرط صحّة الصلاة ثابتا حقيقة حتّى وإن انكشف بعد ذلك مخالفته للواقع ، فإنّ انكشاف مخالفته للواقع لا يعني عدم ثبوت الطهارة الظاهرية في زمان ما قبل الانكشاف. وما دام الشرط متحقّقا حقيقة فالحكم بصحّة الصلاة يكون على مقتضى القاعدة.

الجهة الرابعة

وبعد أن ثبتت دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب لا على قاعدة اليقين قد تسأل هل المستفاد منه حجّية الاستصحاب في خصوص مورده ـ وهو الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب ـ أو في جميع الموارد؟


والجواب : انّ المستفاد منه حجّية الاستصحاب في جميع الموارد لنفس النكتة التي أشرنا إليها في صحيحة زرارة الاولى ، وهي التمسّك بظهور التعليل في كونه تعليلا بأمر ارتكازي. بل انّ تمامية هذه النكتة في هذه الرواية أوضح منه في الرواية السابقة ، إذ في هذه الرواية صرّح بالتعليل ولم يؤت باللام حيث قال الإمام 7 : « وإلاّ فإنّه على يقين ... ». والتعليل ظاهر في كونه تعليلا بأمر ارتكازي إذ التعليل عادة لا يكون إلاّ بأمر ارتكازي.

وهكذا صرّح في هذه الرواية بجمله « وليس ينبغي » الظاهرة في ارتكازية المطلب. ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ولا خصوصية لليقين بطهارة الثوب.

هذا كلّه في الفقرة الاولى من فقرتي الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية.

الفقرة الثانية

والفقرة الاخرى في صحيحة زرارة الثانية التي تصلح أن تكون دليلا على حجّية الاستصحاب ما ذكره الإمام 7 في جواب السؤال السادس ، فإنّه 7 فصّل بين شقّين. وموضع الاستشهاد يكمن في الشقّ الثاني حيث قال 7 : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا ... ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وتقريب الاستشهاد بهذه الفقرة على حجّية الاستصحاب أن يقال : ماذا يراد من قوله 7 : وإن لم تشكّ ... الخ؟ إنّ فيه احتمالين ، فلربّما يراد به القطع بالطهارة ، أي انّ لم تشك في إصابة الدم للثوب بل كنت قاطعا بالطهارة فلا تجب


عليك الإعادة.

وقد يراد به حالة الذهول ، أي وإن لم تشكّ في إصابة الدم بأن كنت ذاهلا عن ثوبك.

فإن كان المقصود هو الأوّل ـ أي إن كنت قاطعا بعدم إصابة الدم ثوبك فليس عليك إعادة ـ فالمورد يكون قابلا لجريان الاستصحاب وجريان قاعدة اليقين معا لتوفّر أركان كل واحد منهما.

أمّا توفّر أركان قاعدة اليقين ـ التي هي عبارة عن اليقين السابق القابل للتزلزل والشكّ اللاحق الساري إلى اليقين ـ فباعتبار انّ المكلّف إذا كان قاطعا قبل الصلاة بعدم إصابة الدم ثوبه ـ حيث فرضنا أنّ قوله 7 : « وإن لم تشكّ » يراد به القطع بعدم إصابة الدم للثوب ـ فحينما يرى الدم في أثناء الصلاة تصير رؤية الدم هذه سببا لشكّه في صحّة يقينه سابقا وطروّ التزلزل عليه.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ زرارة حينما اشترى الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان على يقين من طهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى قطعة الدم بعد ذلك أثناء الصلاة وشكّ في سبق وجودها لم تكن الرؤية موجبة لشكّه في صحّة يقينه السابق ، وإذا كان يقينه السابق باقيا على القوة ولم يطرأ عليه تزلزل صحّ استصحابه إلى حين رؤية النجاسة أثناء الصلاة.

وبعد أن عرفنا انّ مورد الرواية صالح للاستصحاب وقاعدة اليقين معا فبالإمكان تعيين إرادة الإمام 7 وتوجّه نظره إلى الاستصحاب بقرينتين : ـ

أ ـ انّ الرواية صريحة في ذكر التعليل قال 7 : « لأنّك لا تدري ... » ، وقد تقدّم انّ التعليل لا يصحّ عرفا إلاّ بأمر ارتكازي ، مضافا إلى أنّ ذكر جملة « فليس


ينبغي » له ظهور جلي في كون المطلب أمرا ارتكازيا ، ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، فإنّ العقلاء لا يبنون على الأخذ باليقين بعد تزلزله وزواله بالشكّ.

ب ـ ان التعبير الوارد في كلتا الفقرتين الثالثة والسادسة واحد وهو « ليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » ، وحيث أثبتنا سابقا أنّ المقصود من التعبير المذكور في الفقرة الثالثة هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين فيثبت أنّ المقصود منه في الفقرة السادسة ذلك أيضا بقرينة وحدة سياق مجموع الرواية.

هذا كلّه لو كان المقصود هو الأوّل.

وأمّا لو كان المقصود هو الثاني ، أي كان المقصود من قوله : « وإن لم تشك » حالة الذهول فدلالة الرواية على حجّية الاستصحاب أوضح لأنّ المورد لا يكون قابلا لقاعدة اليقين بل يختص بالاستصحاب.

أمّا عدم جريان قاعدة اليقين فلعدم وجود يقين سابق قبل الصلاة يمكن تزلزله برؤية الدم أثناء الصلاة ، إذ المفروض انّ قوله : « وإن لم تشكّ » لم يرد به اليقين بعدم النجاسة.

وأمّا جريان الاستصحاب فلتوفر أركانه ، إذ حين شراء الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان لزرارة يقين بطهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى الدم أثناء الصلاة وشكّ في سبقه جرى استصحاب الطهارة الثابتة حين شراء الثوب ، فإن اليقين المذكور لا يقبل التزلزل برؤية الدم أثناء الصلاة.

وبهذا كلّه يتّضح تمامية دلالة صحيحة زرارة الثانية بكلا مقطعيها الثالث والسادس على حجّية الاستصحاب.


قوله ص ٢١٠ س ١٠ دم رعاف : دم الرعاف هو الدم الخارج من الأنف.

قوله ص ٢١٠ س ١٠ : أو غيره : هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الحديث ، ومن هنا وضعت في الكتاب بين قوسين.

ثمّ انّ الظاهر انّ كلمة « غيره » عطف على رعاف ـ أي دم رعاف أو غير رعاف ـ وليست عطفا على دم وإلاّ كان المقصود أصاب ثوبي دم أو غير دم وهو ضعيف لأنّ غير الدم قد صرّح زرارة بذكره بقوله : أو شيء من المني.

وعلى أي حال تحقيق حال العطف المذكور ليس له أي تأثير في الاستدلال بالرواية.

قوله ص ٢١٠ س ١١ : فعلّمت : بتشديد اللام ، أي جعلت عليه علامة.

قوله ص ٢١٠ س ١٣ : بعد ذلك : أي بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١٠ س ١٣ : وتغسله : الواو لمطلق الجمع ولا يقصد بها الترتيب فلا يشكل بأنّ المناسب أن يقول الإمام 7 : تغسله وتعيد الصلاة.

قوله ص ٢١١ س ٦ : على يقين من طهارتك : أي الثابت قبل ظنّ الإصابة على تقدير كون المقصود الاستصحاب ، أو الثابت حين النظر وعدم رؤية شيء بناء على كون المقصود قاعدة اليقين.

قوله ص ٢١١ س ١٠ : حتّى تكون على يقين من طهارتك : استدل البعض بهذه الفقرة أيضا على حجّية الاستصحاب كما أشرنا لذلك سابقا.

قوله ص ٢١١ س ١٤ : وانا في الصلاة : بخلاف ذلك فيما سبق حيث كانت رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١١ س ١٥ : إذا شككت في موضع الخ : أي قبل الصلاة.


قوله ص ٢١١ س ١٦ : قطعت الصلاة : أي قطعت مواصلة الصلاة قليلا ، وليس المراد إبطال الصلاة.

قوله ص ٢١٢ س ٤ : فقه الأسئلة : أي المقصود منها ومعناها.

قوله ص ٢١٢ س ١٤ : إنّما يدلّ على ذلك : أي على اعتقاد انّ عدم تشخيص موضع النجاسة مسوّغ للدخول في الصلاة.

قوله ص ٢١٣ س ١٥ : وطبق قاعدة من قواعد الشكّ : أي امّا الاستصحاب أو قاعدة اليقين.

قوله ص ٢١٤ س ٢ : في ظرف السؤال : هذا تفسير كلمة « فعلا ». وكان من المناسب إضافة كلمة « أي » ليصير التقدير : أي في ظرف السؤال.

قوله ص ٢١٤ س ٤ : في ظرف : المناسب إضافة كلمة « أي » كما سبق.

قوله ص ٢١٤ س ٩ : ما فحص عنه : كلمة « ما » موصولة وليست نافية.

قوله ص ٢١٥ س ١٠ : إن كان قد شكّ في موضع منه : أي قبل الصلاة.

قوله ص ٢١٦ س ٢ : والنتيجة المفهومة واحدة الخ : أي التردّد بين الاحتمالين السابقين لا يؤثّر على الاستدلال بالرواية لأنّ المفهوم منها على كلا الاحتمالين انّ المكلّف في صورة عدم وجود الشكّ له ان يستصحب الطهارة.

قوله ص ٢١٦ س ١٥ : كذلك : أي أثناء الصلاة.

قوله ص ٢١٧ س ٥ : في حالته : أي حالة السائل.

قوله ص ٢١٧ س ١٧ : فعلا : أي بلحاظ حال السؤال.

قوله ص ٢١٧ س ١٥ : حينئذ : أي حين رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١٧ س ١٥ : لأنّ فرض ذلك : أي فرض إجراء الاستصحاب


بلحاظ حال السؤال.

قوله ص ٢١٨ س ٥ : بل حذف المفعول الخ : لعلّ جودة سبك العبارة أضفى عليها شيئا من الغموض. والمقصود : انّ حذف المفعول وعدم ذكره ضميرا راجعا إلى النجاسة الخ.

الرواية الثالثة

ولزرارة رواية ثالثة ترتبط بمسألة الاستصحاب إلاّ أنّها ليست مضمرة ـ كما كان الحال كذلك في الروايتين السابقتين ـ حيث ينقلها عن أحدهما 7 ، أي الإمام الصادق أو الإمام الباقر 8.

وفي هذه الرواية يسأل زرارة عمّن شكّ في صلاته بين الثنتين والأربع فأجاب 7 بلزوم الإتيان بركعتي الاحتياط من قيام يقرأ في كل واحدة منهما سورة الفاتحة. ثمّ تبرّع الإمام 7 ومن دون سؤال من زرارة ببيان حكم من شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يلزمه الإتيان بركعة احتياط واحدة من قيام ، وعلّل 7 الحكم المذكور بقوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » واكّد ذلك بتأكيدات متعدّدة حيث قال 7 : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ... ».

والفقرة التي يراد الاستشهاد بها قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بتقريب انّ المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة حيث إنّ كل مصل في بداية شروعه في الصلاة له يقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة فإذا شكّ في الإتيان بها بعد فراغه من الثلاث استصحب عدم الإتيان بها.


هذا ولكن في النفس شيء من كون مقصود الرواية الاستصحاب حيث انّ ذلك لو كان هو المراد فلا داعي إلى ذكر التأكيدات المتكرّرة فكان بإمكان الإمام 7 الاقتصار على قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بلا حاجة لتأكيد ذلك بقوله : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن .. ».

إنّ هذه التأكيدات المتكرّرة تدعو إلى ولادة احتمال جديد في مقصود الرواية ، وهو الإرشاد إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » ، فكأنّها تريد أن تقول انّ الشاكّ في الاتيان بالركعة الرابعة يلزمه تحصيل اليقين بفراغ ذمّته بعد علمه باشتغالها ولا يحقّ له الاكتفاء باحتمال الفراغ.

ولكن كيف يتمّ تحصيل اليقين بفراغ الذمّة؟ انّه يتمّ بإكمال الصلاة ثمّ الإتيان بركعة احتياط بعد الصلاة خلافا للعامّة حيث يقولون بأنّ ركعة الاحتياط يلزم الاتيان بها متّصلة قبل التسليم. وحيث إنّ جانب التقية يمنع الإمام 7 من التصريح بالاتيان بها منفصلة بعد التسليم أخذ 7 بذكر تأكيدات متكرّرة تلميحا إلى لزوم الفصل وعدم جواز الوصل فانظر إلى قوله 7 : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما في الآخر » تراه واضحا في ذلك.

اعتراضات على الرواية الثالثة

وقد وجهت عدّة اعتراضات على التمسّك بالرواية لاثبات حجّية الاستصحاب نذكر منها ثلاثة : ـ

الاعتراض الأوّل

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل وهو انّ من المحتمل أن لا تكون الرواية


ناظرة إلى الاستصحاب بل إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » على ما أشرنا له قبل قليل. وعلى هذا يكون المراد من اليقين اليقين بفراغ الذمّة ومن الشكّ الشكّ في فراغ الذمّة ، فكأنّه 7 يريد أن يقول إنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بفراغ الذمّة ولا ينبغي الاكتفاء بالشكّ في فراغ الذمّة. وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن الاستصحاب.

هذا ولكن يرد على ذلك : ـ

أ ـ انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وجود اليقين لدى المكلّف بالفعل ، فاليقين الثابت بالفعل لا يجوز نقضه بالشكّ ، ومن الواضح أنّه لو كان المراد الإشارة إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لم يكن اليقين ثابتا بالفعل بل المكلّف يلزمه السعي لتحصيله بعد ان لم يكن.

ب ـ انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » انّ الأخذ بالشكّ والركون له يستلزم نقض اليقين وطرحه ، ومن الواضح انّه بناء على إرادة قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لا يلزم ذلك ـ أي لا يلزم من الركون إلى الشكّ نقض اليقين ـ وإنّما يلزم إهمال حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بفراغ الذمّة.

الاعتراض الثاني

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل أيضا. وحاصله : انّ تطبيق الرواية على الاستصحاب متعذّر ، إذ المقصود من إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة إن كان هو إثبات لزوم الإتيان بركعة اخرى متصلة بالركعات السابقة بدون فصل بالتسليم فهذا مخالف لمذهب الشيعة القاضي بلزوم الإتيان بالركعة


القاضي بلزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة بعد التسليم.

وإن كان المقصود إثبات لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بعد التسليم فهذا وإن كان موافقا لمذهب الشيعة إلاّ أنّه مخالف للاستصحاب ، فإنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة يقتضي لزوم الإتيان بها متّصلة قبل التسليم ، وأمّا الإتيان بها منفصلة فليس هو نفس المستصحب ولا لازما شرعيا له ، ومن الواضح انّ الاستصحاب لا يثبت به إلاّ نفس المستصحب أو لوازمه الشرعية.

أجل الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال بعد التسليم من لوازم الشكّ ، فإنّ من شكّ في الإتيان بالركعة الرابعة فمن اللازم الإتيان بها منفصلة إذ بذلك يحصل اليقين بفراغ الذمّة (١) ، فالإتيان بالركعة منفصلة من لوازم نفس الشكّ وليس من لوازم المستصحب ـ عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة ـ لتثبت بالاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب يترتّب عليه المستصحب أو لوازمه الشرعية دون لوازم نفس الشكّ ، فإنّ لوازم الشكّ تثبت بنفس الشكّ بلا حاجة إلى الاستصحاب (٢). ولأجل هذا الإشكال ذكر الشيخ الأعظم انّه لا بدّ من حمل

__________________

(١) بخلاف الإتيان بها متّصلة فإنّه لا يحصل به اليقين بالفراغ لاحتمال الإتيان بها وبذلك يكون الإتيان بها من جديد زيادة في أركان الصلاة فتبطل بخلاف الإتيان بها منفصلة فإنّه لا يلزم إلاّ محذور زيادة التشهّد والتسليم وهي غير مخلّة بصحّة الصلاة لأنّهما ليسا من الأركان

(٢) قد يقال في تقريب انّ الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال من لوازم نفس الشكّ انّ وجوب الإتيان بالركعة الرابعة حكم ظاهري موضوعه الشكّ ، فمن شكّ في الإتيان بالرابعة لزمه الإتيان بها ظاهرا حتّى على تقدير تحقّقها واقعا ، نظير من شكّ في الإتيان بصلاة الظهر ، فكما انّ نفس الشكّ يقتضي لزوم الإتيان بها بلا حاجة إلى استصحاب كذلك الحال في المقام. ـ


الرواية على قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لا على الاستصحاب.

ردود على الاعتراض الثاني

وقد ردّ هذا الاعتراض بعدّة ردود نذكر منها ثلاثة : ـ

الردّ الأوّل

ما ذكره الشيخ العراقي من اختيار الشقّ الأوّل ، أي كون المقصود إجراء الاستصحاب لاثبات وجوب الركعة المتّصلة. وهذا وإن كان مخالفا لمذهب الشيعة ومشتملا على التقية إلاّ أنّه لا مقتضي لحمل كبرى لا تنقض اليقين بالشكّ على التقية بل يحمل تطبيقها في المورد على التقية.

وبكلمة اخرى : انّ الإمام 7 صدر منه مطلبان : كبرى لا تنقض اليقين بالشكّ ، وتطبيق الكبرى المذكورة على مورد الشكّ بين الثلاث والأربع لإثبات وجوب الركعة المتّصلة ، والمطلب الثاني وإن كان من اللازم حمله على التقية إلاّ أن المطلب الأوّل لا يلزم فيه ذلك لعدم مخالفة أصل كبرى لا تنقض لمذهب الشيعة ، ومعه فيؤخذ بالكبرى ويهجر تطبيقها على المورد.

ثمّ إنّ الشيخ العراقي نفسه أورد على هذا الردّ المقترح من قبله بأنّ الأمر

__________________

ـ ويرده : انّ هذا البيان لا يثبت لزوم الإتيان بالركعة الرابعة بنحو الانفصال بل يقتضي لزوم الإتيان بها بنحو الاتصال ، حيث انّ الواجب على المكلّف الركعة المتصلة فإذا شكّ في تحقّقها لزمه الإتيان بها بنحو الاتصال


يدور بين احتمالين فأمّا أن تكون كبرى لا تنقض غير مشتملة على التقيّة ، وبذلك تكون التقية ثابتة في تطبيقها لإثبات وجوب الركعة المتّصلة ، أو تكون الكبرى هي المشتملة على التقية دون التطبيق ، فإنّ الكبرى إذا كان الإمام 7 قد ذكرها لأجل التقية فتطبيقها على المورد لا يكون مشتملا على تقية ثانية زائدة على التقية الثابتة في نفس الكبرى.

وإذا دار الأمر بين الاحتمالين المذكورين : أي بين كون التقية في التطبيق دون أصل الكبرى وبين كونها ـ التقية ـ في الكبرى دون التطبيق فالتمسّك بأصالة عدم التقية في الكبرى الذي لازمه ثبوت التقية في التطبيق (١) معارض بأصالة عدم التقية في التطبيق الذي لازمه ثبوت التقية في الكبرى.

وأجاب الشيخ العراقي عن إشكال المعارضة هذا : بأنّ أصالة عدم التقية في التطبيق لا تجري لتكون معارضة لأصالة عدم التقية في الكبرى ؛ إذ عدم التقية في التطبيق لا أثر له حتّى يجري الأصل لإثباته ، فإنّ التطبيق يدور أمره بين احتمالين : بين أن يكون غير جدي ومشتملا على التقية ، وبين أن يكون جديا لا تقية فيه والتقية في الكبرى ، وعلى كلا التقديرين لا يكون ـ التطبيق ـ ذا أثر فيما لو كان جدّيا لكبرى جدية ، بأن كان التطبيق والكبرى معا جدّيين إذ حينذاك يمكن الانتفاع به ، امّا إذا كان ذا تقية أو كان جدّيا والتقية في الكبرى فلا يكون نافعا إذ ما الفائدة في تطبيق غير جدّي ، وعليه فأصالة عدم التقية في الكبرى تجري دون معارضة ، وذاك هو المطلوب.

__________________

(١) وهذا الاحتمال هو النافع في المقام إذ المهم أن تكون الكبرى صادرة من الإمام 7 لا للتقية وإن كان تطبيقها مشتملا على ذلك


هذا تمام الكلام في ردّ الشيخ العراقي على الاعتراض الثاني.

ويمكن مناقشته بأنّ حمل الرواية على التقية بعيد جدّا ومخالف للظاهر من ناحيتين : ـ

١ ـ انّ فقرة لا تنقض اليقين بالشكّ وردت في الفرع الثاني الذي تبرّع الإمام 7 ببيانه (١) دون طلب مسبق من زرارة ، وواضح انّ التبرّع لا يلتئم والتقية ، إذ لو كان 7 يتقي فيما ذكره في الفرع الثاني لما كان يتبرّع ببيانه بل يسكت عنه ، فتبرّع الإمام 7 به دليل على عدم اشتماله على التقية.

٢ ـ انّ الإمام 7 أخذ بتكرار الفقرات في الفرع الثاني ، الأمر الذي يدلّ على وجود مزيد اهتمام ـ فإنّ المتكلّم إذا كان له اهتمام بمطلب معيّن يأخذ ببيانه بعبارات مختلفة وبأساليب متنوعة ـ ومن الواضح انّ التقية لا تتناسب ومزيد الاهتمام ؛ إذ الاهتمام يكون بالمطلب الواقعي ، فالمطلب الواقعي يستحق مزيد الاهتمام دون غير الواقعي الصادر للتقية.

الرد الثاني

ما ذكره الآخوند. وحاصله : انّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يترتّب عليه أثران : ـ

أ ـ وجوب الإتيان بركعة رابعة.

ب ـ أن يكون الإتيان بالركعة الرابعة متّصلا بالصلاة. وبكلمة ثانية : يلزم

__________________

(١) المراد من الفرع الثاني ما ذكره الإمام 7 بقوله : وإذا شكّ بين الثلاث والأربع وقد أحرز الثلاث الخ


أن يكون الإتيان بالركعة الرابعة قبل التشهّد والتسليم. وبكلمة ثالثة : انّ التشهّد والتسليم الحاصل قبل الإتيان بالركعة المشكوكة مانع ومبطل للصلاة.

ومقتضى إطلاق لا تنقض اليقين بالشكّ وجوب ترتيب كلا الأثرين ؛ إذ لم يقيد الإمام 7 إجراء الاستصحاب بلحاظ خصوص الأثر الأوّل بل أطلق وقال لا تنقض اليقين بالشكّ ، ومقتضى إطلاقه لزوم ترتيب كلا الأثرين فيلزم الإتيان بركعة رابعة ، كما ويلزم أن تكون متّصلة إلاّ أنّ ترتيب الأثر الثاني ـ أي الإتيان بالركعة الرابعة متّصلة بسابقها ـ حيث انّه مخالف لمذهب الشيعة فيخصص إطلاق لا تنقض بلحاظ خصوص الأثر الأوّل.

إذن إجراء الاستصحاب في المورد ممكن ولكن بلحاظ خصوص الأثر الأوّل لا كلا الأثرين ، وهو معنى معقول وصحيح.

وأشكل غير واحد على كلام الآخوند هذا بأنّ الإتيان بالتشهّد والتسليم ما بين الركعة الثالثة والركعة لا إشكال في كونه مانعا ومبطلا للصلاة إلاّ أنّ هذه المانعية فيها احتمالان : أن تكون مانعية واقعية ، وأن تكون مانعية علمية.

والمراد من المانعية العلمية انّ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مانع ومبطل للصلاة فيما إذا علم المصلّي انّه لم يأت بعد بالركعة الرابعة ، امّا إذا لم يعلم بذلك وكان شاكّا فلا يكون مبطلا حتّى وإن فرض واقعا أنّه لم يأت بالركعة الرابعة.

والمراد من المانعية الواقعية انّ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطل للصلاة سواء علم المكلّف بأنّه في الركعة الثالثة ولم يأت بالركعة الرابعة أم كان غير عالم بذلك.


وباتّضاح الاحتمالين نقول : انّ بني على أنّ المانعية مانعية واقعية فما ذكره الآخوند من إجراء الاستصحاب لترتيب خصوص الأثر الأوّل دون الأثر الثاني ـ أي إجراء الاستصحاب لإثبات أصل وجوب الإتيان بركعة اخرى بلا قيد الاتصال ـ أمر غير معقول وليس بصحيح ؛ إذ الإتيان بركعة رابعة متّصلة يعلم بعدم مطلوبيته ، فإنّ المكلّف إن كان قد أتى واقعا بأربع ركعات فالإتيان بالركعة الاخرى المشكوكة يكون إتيانا بركعة خامسة ، والخامسة غير مطلوبة جزما ، وإن كان قد أتى بثلاث فالإتيان بالرابعة وإن كان مطلوبا ولكن شريطة اتصالها بالركعات السابقة وعدم الفصل بالتشهّد والتسليم امّا مع الفصل بالتشهّد والتسليم فهي باطلة وغير مطلوبة ، إذ الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطل للصلاة حتّى في صورة شكّ المكلّف وعدم علمه بأنّ تشهّده وتسليمه واقع قبل الإتيان بالركعة الرابعة.

هذا على تقدير كون المانعية مانعية واقعية.

وانّ بني على أنّ المانعية علمية فالإتيان بركعة اخرى منفصلة بالتشهّد والتسليم وإن كان من المحتمل مطلوبيته ولكن بناء على هذا الاحتمال لا يلزم التبعيض في آثار الاستصحاب وتخصيص دليل الاستصحاب بخصوص الأثر الأوّل ، إذ بناء على المانعية العلمية يكون استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ذا أثر واحد ، وهو الأثر الأوّل فقط وليس له أثران ـ لأنّه بناء على هذا الاحتمال لا يكون وصل الركعة المشكوكة وعدم فصلها بالتشهّد والتسليم لازما ، فإنّ الوصل لازم في صورة العلم وأمّا عند الشكّ وإجراء الاستصحاب فلا يكون لازما ـ حتّى يقال بأنّ الاستصحاب يجري ولكن يلزم تخصيصه بلحاظ الأثر


الأول ، كلا بناء على هذا الاحتمال لا يلزم ذلك بل يلزم التصرّف في الدليل المانع من الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة ، إنّ ذلك الدليل يلزم تقييده بخصوص العالم ، فالعالم بأنّه لم يأت بالركعة الرابعة يكون الإتيان بالتشهّد والتسليم في حقّه مبطلا للصلاة دون الشاكّ.

والخلاصة : انّه على تقدير كون المانعية واقعية فالاستصحاب وإن كان له أثران إلاّ أنّ تخصيصه بخصوص الأثر الأوّل أمر غير معقول للعلم بعدم مطلوبية الإتيان بالركعة المشكوكة المنفصلة ، وعلى تقدير كون المانعية علمية فلا يلزم ما ذكره من تخصيص دليل الاستصحاب بخصوص الأثر الأوّل بل المحذور اللازم هو تخصيص الدليل المانع من التشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة بخصوص العالم (١).

الرد الثالث

ما ذكره الميرزا ، وهو انّ وصل الركعة الرابعة بالثالثة لا يجب واقعا في حقّ كل مصل لم يأت بالركعة الرابعة بل هو واجب واقعا في حقّ من لم يأت بالرابعة شريطة علمه بذلك ، فموضوع الحكم بوجوب الركعة الرابعة المتّصلة هو عدم الإتيان بالرابعة+ العلم بعدم الإتيان بها. وأمّا من لم يأت بالرابعة واقعا وكان شاكا في ذلك فهو موضوع للحكم واقعا بوجوب الركعة المنفصلة ، فموضوع

__________________

(١) إن قلت : ما المحذور في الالتزام بتخصيص دليل المانعية بخصوص العالم؟

قلت : انّ هذا إذا كان هو المقصود للآخوند فهو نفس ما سننقله عن الشيخ النائيني في الردّ الثالث ، وما نناقشه به يكون مناقشة له أيضا


الحكم بوجوب الركعة الرابعة المنفصلة واقعا هو عدم الإتيان بالرابعة+ الشكّ في الإتيان بها.

والإمام 7 في الرواية كأنّه يريد أن يقول لزرارة انّ الواجب عليك واقعا الركعة الرابعة المنفصلة لأنّ كلا جزئي موضوعها ثابت في حقّك ، أمّا الشكّ فهو ثابت بالوجدان ، وأمّا عدم الإتيان بالركعة الرابعة فهو ثابت بالاستصحاب. فالإمام 7 أجرى الاستصحاب ليثبت به الجزء الأوّل من الموضوع ، وبالتالي ليثبت به ـ بعد انضمام الشكّ الوجداني إليه ـ وجوب الإتيان بركعة رابعة منفصلة.

وإن شئت قلت : انّ الاعتراض الثاني الذي نحن بصدد الردّ عليه كان يقول انّ إجراء الاستصحاب لإثبات الركعة المتّصلة مخالف لمذهب الشيعة ، وإجرائه لإثبات المنفصلة لا يقوى عليه لأنّ الأثر الشرعي لعدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة هو وجوب الركعة الرابعة المتّصلة لا المنفصلة. والميرزا في الجواب يقول إنّا نختار الشقّ الثاني ، أي يجري الاستصحاب لإثبات الركعة المنفصلة. والإشكال بأنّه لا يقوى على ذلك حيث انّه يثبت وجوب المتّصلة دون المنفصلة مدفوع بأنّه لا يراد من الاستصحاب إثبات وجوب الركعة المنفصلة بل يراد إثبات أحد جزئي موضوع وجوب الركعة المنفصلة وهو عدم الإتيان بالرابعة.

وهذا البيان من الميرزا وإن كان وجيها ومعقولا في نفسه إلاّ أنّه يمكن مناقشته بأنّه خلاف ظاهر الرواية ، فإنّه لو كان مقصودا لاحتاج إلى بيان أكبر فيلزم بيان انّ الشاكّ تلزمه الركعة المنفصلة فيما إذا لم يأت بالرابعة مع انّا نلاحظ انّ الإمام 7 لم يبيّن ذلك ولم يقل انّ الركعة المنفصلة واجبة في حقّ الشاكّ إذا لم يأت


بالرابعة إنّما وأخذ ببيان جريان الاستصحاب فقط والحال انّ اللازم للإمام 7 لو كان ما ذكره الميرزا مقصودا له بيان ذلك فإنّ تمام النكتة كامنة في ذلك ـ أي كون الشاكّ يجب عليه الركعة المنفصلة فيما إذا لم يأت بالرابعة ـ وليس لجريان الاستصحاب أثر كبير ، إذ لو كان واقعا تجب الركعة المنفصلة في حقّ الشاكّ الذي لم يأت بالركعة الرابعة فيمكن إحراز كلا جزئي الموضوع بلا حاجة إلى استصحاب ، فإنّ الجزء الأوّل وهو الشكّ محرز بالوجدان والجزء الثاني وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة يمكن إحرازه بأصالة الاشتغال بلا حاجة إلى استصحاب ؛ إذ الإتيان بالركعة الرابعة واجب ، وإذا شكّ المكلّف في إتيانه بالواجب فمقتضى أصالة الاشتغال عدم إتيانه به ، نظير من شكّ في أنّه صلّى صلاة الظهر أو لا ، فإنّه لا يحتاج لإثبات وجوب الإتيان بها إلى إجراء الاستصحاب بل قاعدة الاشتغال تحكم عليه بلزوم الإتيان بها ولو لم نقل بحجّية الاستصحاب.

حمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني

وبعد أن اتّضح انّ الردود الثلاثة على الاعتراض الثاني قابلة للمناقشة يتجلّى انّ الاعتراض الثاني ـ الذي كان يقول بأنّه لا يمكن إرادة الاستصحاب من الرواية إذ إجراء الاستصحاب لإتيان الركعة المتصلة مخالف لمذهب الشيعة وإجراؤه لإثبات الركعة المنفصلة لا يقوى عليه ـ تامّ ، وإذا كان تاما فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ويتعيّن حملها على ما ذكر في الاعتراض الأوّل ، أي حملها على إرادة قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » ، فإنّ إرادة هذه القاعدة من الرواية وإن كان مخالفا لظاهر الرواية من ناحيتين أشرنا


لهما عند ردّ الاعتراض الأوّل إلاّ أنّ ذلك متعيّن بعد عدم إمكان إرادة الاستصحاب.

وإذا حملنا الرواية على قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » تنحل مشكلة تكرار الإمام 7 للفقرات ونحصل على تفسير وجيه لها ، فالإمام 7 بعد أن أمر زرارة بتحصيل الفراغ اليقيني أراد أن يلمّح من بعيد إلى كيفية حصول الفراغ اليقيني ، فهو باللسان الصريح حيث لا يمكنه أن يقول ابن على الأكثر وأت بركعة منفصلة لمخالفة ذلك للعامة ـ حيث يذهبون إلى لزوم البناء على الأقل والإتيان بركعة متّصلة ـ أخذ بذكر إشارات وتلمحيات لذلك فقال ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ... كل ذلك تنبيها لزرارة على لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة لا متّصلة (١).

__________________

(١) ولربّ قائل يقول انّ الشيخ العراقي حينما ذكر في الردّ الأوّل انّ تطبيق الاستصحاب لإثبات الركعة المتّصلة محمول على التقية دون أصل الكبرى أورد عليه السيد الشهيد بأنّ الحمل على التقية مخالف لظاهر الرواية من ناحيتين : اولاهما انّ الإمام قد تبرّع بالفرع الثاني ، والتبرّع يتنافى والتقية. وثانيتهما : انّ الإمام 7 أبدى مزيد اهتمام بالمطلب ، وهو لا يتناسب والتقية لأنّ في التقية بيانا لمطلب غير واقعي ، وبيان المطلب غير الواقعي لا يستحقّ مزيد اهتمام.

هذا ما ذكره السيد الشهيد سابقا فكيف رجع الآن وعاد يقول بأنّ التكرار في الجمل قد حصل بسبب التقية.

والجواب : انّ حمل التطبيق على التقية الذي قال به الشيخ العراقي معناه انّ الإمام 7 قد ذكر مطلبا غير واقعي ـ حيث انّ تطبيق الاستصحاب لإثبات وجوب الركعة المتّصلة مطلب غير واقعي ذكر للتقية ـ تبرّعا واهتم به بالتكرار ، والإيراد على مثل هذه المقالة بأنّ بيان المطلب غير الواقعي لا يتناسب والتبرّع كما ولا يتناسب والاهتمام بالتكرار ايراد صحيح. وهذا ـ


الاعتراض الثالث

ما ذكره الشيخ العراقي. وحاصله : لو فرضنا انّ الشيعة تقول بوجوب الركعة المتصلة فمع ذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب لإثبات وجوب الركعة المتّصلة وتصحيح الصلاة به إذ اللازم على المصلّي الإتيان بالتشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، ومن الواضح ان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يقول انّ هذه الركعة المشكوكة المأتي بها هي رابعة ليكون التشهّد والتسليم واقعا في الرابعة بل أقصى ما يقول انّ الشاكّ لم يأت بالرابعة فيترتّب على ذلك الأثر الشرعي وهو وجوب الاتيان بركعة رابعة ، وامّا انّ الركعة المأتي بها هي رابعة فذاك ليس أثرا شرعيا ـ إذ لا توجد آية أو رواية تقول من لم يأت بالرابعة فالركعة التي يأتي بها هي رابعة ـ وإنّما ذلك أثر عقلي ، فإنّ العقل يحكم بأنّ من لم يأت بالرابعة فما يأتي به هو الرابعة.

إذن استصحاب عدم الإتيان بالرابعة لإثبات أنّ الركعة المأتي بها هي رابعة وأنّ التسليم والتشهّد فيها واجب أصل مثبت (١) وهو ليس بحجّة.

والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) أجاب عن الإشكال المذكور بأنّ بالإمكان إثبات أنّ الركعة المأتي بها رابعة وأنّ التشهّد والتسليم واقع في الرابعة ، وذلك بأنّ

__________________

ـ بخلافه فيما ذكره السيد الشهيد ، فإنّ حمل الرواية على بيان قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني حمل لها على مطلب واقعي ، ومن الواضح انّ بيان المطلب الواقعي لا يتنافى والتبرّع به كما ولا يتنافى ومزيد الاهتمام

(١) المراد بالأصل المثبت : كل أصل يجرى لإثبات لازم غير شرعي لمتعلّقه


يقال انّ المكلّف بعد أن يأتي بالركعة المشكوكة يحصل له العلم بأنّه قد تلبس جزما بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل ـ حيث انّه لو كان قد أتى سابقا بأربع ركعات فالتلبّس بالركعة الرابعة حصل سابقا ، ولو كان قد أتى سابقا بثلاث ركعات فالتلبّس بالركعة الرابعة يحصل الآن أي حينما يأتى بالركعة المشكوكة ـ فإذا شكّ في انتفاء تلبّسه بالركعة الرابعة استصحب بقائه على التلبّس بالركعة الرابعة. وبذلك يثبت أنّه باق على التلبّس بالركعة الرابعة ويتمّ المطلوب.

وفيه : إنّا نسلّم انّ المكلّف له يقين بتلبّسه بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل ، ولكنّه في نفس الوقت له يقين بعدم تلبّسه بالركعة الرابعة أمّا الآن أو قبل قليل ـ إذ لو كان قد أتى سابقا بأربع ركعات فهو الآن غير متلبّس بالرابعة وإن كان قد أتى سابقا بثلاث ركعات فهو سابقا غير متلبّس بالرابعة ـ وهذان اليقينان متلازمان ، فمن له ذاك اليقين له هذا اليقين أيضا. وكما أنّ استصحاب بقاء التلبس بالرابعة يجري كذلك استصحاب بقاء عدم التلبس بالرابعة يجري فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان (١).

وبعد بطلان جواب السيد الخوئي عن الاعتراض الثالث فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لإثبات أنّ الركعة المأتي بها هي الرابعة وإن كان أصلا مثبتا إلاّ أنّ ثبوت اللوازم العقلية

__________________

(١) عبارة الكتاب لم توضح المطلب بشكل كامل كما أوضحناه.

ثمّ إنّه يمكن الإيراد على السيد الخوئي أيضا بأنّ استصحاب بقاء التلبس بالرابعة لا ينفع إذ أقصى ما يثبت انّ التلبس بالرابعة باق ولا يثبت انّ هذه الركعة المأتي بها هي الركعة الرابعة وأنّ التشهّد والتسليم المأتي بهما واقعان في آخر الركعة الرابعة


بالاستصحاب ليس قضية مستحيلة عقلا بل متى ما دلّ الدليل على ثبوت اللوازم العقلية بالاستصحاب في بعض الموارد قبلنا ذلك ورضخنا له. وفي المقام يقال بما انّ جريان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا ينفع إلاّ بعد ثبوت اللازم العقلي فهذا بنفسه دليل على ثبوت اللازم العقلي في مورد الرواية ، ففي مورد الرواية بالخصوص يقال بثبوت اللازم العقلي ـ أي أنّ الركعة المأتي بها هي الرابعة ـ بدليل انّ إجراء الإمام 7 لاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا ينفع إلاّ بثبوت اللازم العقلي.

قوله ص ٢٢٣ س ١٠ : فإنّ ذلك يبدو غامضا بعض الشيء : ولا يرتفع هذا الغموض إلاّ بحمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني كما تأتي الإشارة لذلك ص ٢٢٨ س ٧ من الحلقة.

قوله ص ٢٢٤ س ٩ : كما هو الحال في غير الشاك : أي العالم بأنّه لم يأت بالرابعة حيث يجب عليه الإتيان بركعة رابعة متّصلة.

قوله ص ٢٢٥ س ١١ : على أي حال : أي سواء كان التطبيق جديا أم لم يكن جديا ، فإنّه على كلا التقديرين لا يصدق على التطبيق أنّه جدي لكبرى جدية بل أمّا هو غير جدي أو انّ كبراه غير جدية.

قوله ص ٢٢٦ س ٥ : فإجراء الخ : الأولى : وإجراء الخ.

قوله ص ٢٢٦ س ١١ : للواجب الواقعي : وهي الركعة الرابعة المتّصلة.

قوله ص ٢٢٧ س ١ : إلى نقيضها : أي إلى عدم المانعية ، فالشاكّ لا يكون إتيانه بالتشهّد والتسليم قبل الركعة الرابعة مبطلا لصلاته.


قوله ص ٢٢٧ س ١ : وذلك تخصيص في دليل المانعية الواقعية : وإذا كان هذا هو مقصود الآخوند ـ وإن كان تعبيره لا يساعد عليه ، حيث انّه عبّر : يلزم التخصيص في دليل الاستصحاب ـ فهو نفس ما ذكره الميرزا ويرد عليه نفس ما أورد عليه.

قوله ص ٢٢٧ س ١١ : بعد افتراض كونه إلخ : أي بعد افتراض كون وجوب الركعة المفصولة ثابتا للموضوع المركب من عدم الإتيان بالرابعة+ الشكّ.

قوله ص ٢٢٩ س ١٤ : كانت بنفسها : أي الرواية.

الرواية الرابعة

والرواية الرابعة من الروايات التي يستدل بها على حجّية الاستصحاب رواية عبد الله بن سنان ، حيث يقول انّ أبي ـ أي سنان ـ سأل الإمام الصادق 7 عمّا إذا أعار شخص ثوبه للذمّي وهو يعلم بأنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فهل يجب عليه غسله للصلاة إذا استرجعه؟ فأجاب 7 بعدم وجوب ذلك معلّلا بقوله : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجس » (١).

وقد يقال انّ الرواية لا يمكن استفادة حجّية الاستصحاب منها ، إذ لعلّ الإمام 7 كان ناظرا عند حكمه بطهارة الثوب وعدم وجوب غسله إلى قاعدة الطهارة لا إلى الاستصحاب ، ومع وجود هذا الاحتمال يبطل الاستدلال بالرواية.

والجواب : انّ في الرواية قرينة تدل على أن نظر الإمام 7 متوجّه إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة : باب ٧٤ من أبواب النجاسات ، حديث ١


الاستصحاب دون قاعدة الطهارة. والقرينة هي قوله : « انّك أعرته إيّاه وهو طاهر » فلو كان النظر متوجها إلى قاعدة الطهارة فلا موجب لملاحظة الحالة السابقة للثوب وأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر بل كان من المناسب الاقتصار على قوله : « انّك ما دمت لم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أنّ تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » إذ في قاعدة الطهارة لا يحتاج إلى النظر للحالة السابقة بل يحكم بالطهارة ما دام لا يعلم بالنجاسة فعلا.

وقد يقال في حقّ هذه الرواية إنّها وإن دلّت على حجّية الاستصحاب بالبيان السابق ولكن ليس في لفظها ما يستفاد منه عموم حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب ، ففي الروايات السابقة كان يوجد ذلك ، حيث كان 7 يقول : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، والألف واللام في كلمة اليقين والشكّ حيث انّها استغراقية فتدلّ على أنّ كل يقين لا ينقض بكل شكّ ، أمّا هذه الرواية فهي لا تشتمل على كلمة اليقين والشكّ كي يستفاد منها العموم. هذا ما قد يقال.

ويمكن الجواب بأنّ الرواية اشتملت على التصريح بالتعليل حيث قالت : « فإنّك أعرته إيّاه وهو ... » ، والتعليل عادة لا يكون عرفا إلاّ بالمطلب الارتكازي ، وواضح انّ المرتكز في الذهن انّ كل يقين لا ينقض بالشكّ لا خصوص اليقين بطهارة الثوب ، فهي بالتعليل تريد الإشارة إلى ذلك المطلب الارتكازي الذي يعمّ كل يقين.

روايات اخرى

ثمّ انّ الاصوليين ذكروا للاستدلال على حجّية الاستصحاب روايات


اخرى غير هذه الروايات الأربع إلاّ أنّه لا حاجة إليها بعد وفاء هذه الأربع بالمطلوب.

مقامات خمسة

وبعد أن ثبتت كبرى حجّية الاستصحاب يقع الكلام في مقامات خمسة : ـ

١ ـ هل الاستصحاب امارة أو أصل. وفي هذا المقام نتكلّم أيضا عن مبحث بعنوان « كيفية الاستدلال بالاستصحاب ».

٢ ـ ما هي أركان الاستصحاب.

٣ ـ ما هي الآثار الثابتة بالاستصحاب ، فهل تثبت به خصوص الآثار الشرعية أو تثبت به الآثار العقلية أيضا؟

٤ ـ هل الاستصحاب حجّة مطلقا ومن دون تفصيل أو هو حجّة في خصوص موارد الشكّ في الرافع كما ذهب إليه الشيخ الأعظم 1 أو في خصوص موارد الشبهات الموضوعية دون الشبهات الحكمية كما ذهب إليه الشيخ النراقي والسيد الخوئي؟

٥ ـ التحدّث عن بعض مصاديق الاستصحاب وتطبيقاته ، كاستصحاب الحكم التعليقي أو استصحاب عدم النسخ أو استصحاب الكلي.

قوله ص ٢٢٩ س ١٥ : سأل أبي : وهو سنان. وسنان وإن لم تثبت وثاقته إلاّ أنّ ذلك ليس بمهم ؛ إذ ولده وهو عبد الله بن سنان من الأجلّة الأعاظم وهو يقول انّ أبي حينما سأل كنت حاضرا في المجلس وينقل بنفسه الحوار فلسنا بحاجة بعد هذا إلى ثبوت وثاقة الوالد.


قوله ص ٢٣٠ س ١ : وأنا أعلم أنّه يشرب إلخ : يمكن أن يستفاد من هذه الفقرة طهارة الكتابي ؛ إذ على تقدير نجاسته لا حاجة إلى ذكر الفقرة المذكورة ؛ لكفاية نجاسته الذاتية للشكّ في بقاء الثوب على الطهارة. والفقرة المذكورة وإن وردت في كلام السائل لا في كلام الإمام 7 إلاّ أنّ سكوت الإمام 7 وإمضائه يكفي لتقرير الارتكاز. وهذا مطلب لا يرتبط بالمقام ذكرناه كفائدة جانبية.

قوله ص ٢٣٠ س ١٠ : فقرة الاستدلال : وهي قوله : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ... ».

قوله ص ٢٣٠ س ١١ : وانصراف فحواها : الضمير راجع إلى فقرة الاستدلال. والفحوى : المعنى.

قوله : ص ٢٣٠ س ١٥ : وسنخها : هذا عطف تفسير لروح.


الاستصحاب

أصل أو امارة



الاستصحاب أصل أو امارة

قوله ص ٢٣٢ س ١ : قد عرفنا سابقا الخ : وقع الحديث بين الاصوليين في أنّ الاستصحاب يرجع في حقيقته إلى الامارة أو إلى الأصل.

ويقوى هذا التساؤل على مبنى السيد الشهيد في حقيقة الامارة والأصل حيث يشكل بناء عليه عدّ الاستصحاب من الامارات كما ويشكل عدّه من الاصول العملية.

وقبل عرض وجه المشكلة نذكر نقاطا ثلاث تقدّمت في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة يتجلّى باتّضاحها البحث. وهي : ـ

١ ـ ما هي حقيقة الحكم الظاهري في نظر السيد الشهيد؟ لتوضيح حقيقة الحكم الظاهري نقول انّ الشارع المقدّس شرّع الحرمة للخمر فقال شرب الخمر حرام ، وشرّع الإباحة للخل فقال : شرب الخل مباح ، ولكن إذا اشتبه حال المائع فلم يعلم انّه خمر أو خلّ فماذا يحكم الشارع عليه؟ لا يمكن للشارع أن يترك مثل هذه الحالة بلا تشريع حكم لها بل امّا أن يحكم بحرمة السائل المشتبه أو يحكم بإباحته. ولكن بماذا يحكم هل يحكم بالحرمة أو بالإباحة؟

انّ الشارع في مثل هذه الحالة يأخذ بالمقارنة بين مفسدة الخمر ومصلحة الخل ، فإذا كانت المفسدة هي الأهمّ في نظره من مصلحة الخلّ فللحفاظ عليها يصدر حكما عاما بوجوب الاحتياط وترك كل سائل مشتبه ، وإن كانت


المصلحة هى الأهم في نظره من مفسدة الخمر يصدر حكما عاما بإباحة كل مشتبه.

وإن شئت قلت : انّ المصلحة والمفسدة يقع بينهما التزاحم في مقام الحفظ ، فمفسدة الخمر تقول بلسان للحفاظ عليّ احكم على كل مشتبه بالحرمة ، بينما مصلحة الخل تقول بالعكس ، فهي تقول بلسان حالها للحفاظ عليّ احكم بإباحة كل مشتبه.

وبعد وقوع هذا التزاحم في مقام الحفظ يأخذ المولى بالمقارنة بين المصلحة والمفسدة ، فإن رأى المصلحة أهم أصدر حكما بإباحة كل مشتبه ، وإن رأى المفسدة أهم أصدر حكما بحرمة كل مشتبه.

إذن على ضوء هذا يمكننا أن نقول في تحديد حقيقة الحكم الظاهري انّه حكم ناشىء للحفاظ على الملاك الأهمّ عند تزاحم الملاكين في مقام الحفظ.

٢ ـ ما الفرق بين الامارة والأصل؟ هناك فرق بين الأصل والامارة في نظر الميرزا قرأناه في القسم الأوّل نعرض عن ذكره الآن ونأخذ بعرض الفرق في نظر السيد الشهيد.

انّه يرى أنّ كلا من حجّية الامارة وحجّية الأصل حكم ظاهري وليد الملاك الأهمّ. هذه نقطة اشتراك بينهما ويفترقان في أنّ قوة الملاك في باب حجّية الامارة ناشئة من قوة الكشف والاحتمال بينما قوة الملاك في حجّية الأصل ناشئة من قوة المحتمل والمنكشف.

فمثلا حينما يخبر الثقة عن قضيّة معيّنة فإخباره له كشف بدرجة ٧٠% ، وبسبب قوّة الكشف هذه ثبتت الحجّية لخبره بقطع النظر عن نوعية القضية التي


يخبر عنها فسواء كان يخبر عن الوجوب أو الحرمة أو الزوجية أو الطهارة أو الصحة أو البطلان أو غير ذلك فهو ـ الخبر ـ حجّة لقوة الكشف ولا أثر لنوعية المنكشف. انّ مثل هذه الحالة يكون الحكم الظاهري فيها امارة.

وأمّا في الأصل العملي فقوّة الملاك ناشئة من قوة المحتمل بقطع النظر عن درجة الكشف ، فحينما يدور الأمر بين احتمال الحرمة واحتمال الإباحة يقدّم احتمال الإباحة مثلا لا لأنّ درجة الكشف عنه قويّة ، إنّ هذا لا معنى له ، إذ ليس الأصل طريق له كاشفية قويّة عن الإباحة بل تقدّم الإباحة لأنّها بنفسها عند المقارنة بالحرمة أهم في نظر المولى.

ثمّ إنّ هناك حالة ثالثة ، وهي أن يلحظ الشارع قوة الاحتمال وقوة المحتمل معا ويشرّع الحكم الظاهري على ضوء مجموع القوّتين. ومثل هذه الحالة تسمّى بالأصل المحرز أو الأصل التنزيلي (١).

ومثال ذلك قاعدة الفراغ ، فإنّ الشارع حكم على المصلّي بعد فراغه من الصلاة بعدم اعتداده بالشكّ لو عرض ـ الشكّ ـ له بعد الفراغ ، وذلك لقوة الكاشفية ؛ إذ الفراغ نفسه له كاشفية عن الإتيان بالعمل بكامل أجزائه دون نقيصة أو زيادة ، ولكن هذه القوة في الكاشفية ليست وحدها صاحبة الدور الفعال وإلاّ فقد يحصل للمكلّف كاشفية قويّة أيضا لو طرء له الشكّ أثناء الصلاة ـ فقد يحصل له التردّد في الإتيان بالركوع أثناء الصلاة ويفرض حصول الظنّ القوي له بإتيانه وبالرغم من ذلك يجب عليه الإتيان به من جديد ما دام التردّد في المحل وان فرض حصول ظنّ قوي له بإتيانه ـ بيد أنّه لا تنفعه الكاشفية القوية

__________________

(١) لا فرق بين الأصل التنزيلي والمحرز في نظر السيد الشهيد وإن فرّق بينهما الميرزا


هذه ما دام لم يفرغ من صلاته.

إذن نفس الفراغ من الصلاة المنضمّ له قوّة الكاشفية يشكّلان بمجموعهما معا الأرضية لقاعدة الفراغ.

من خلال كل هذا نعرف : انّ حجّية الامارة حكم ظاهري وليد قوة الكشف. وحجّية الأصل حكم ظاهري وليد قوّة المحتمل. والأصل المحرز أو التنزيلي حكم ظاهري وليد قوة الاحتمال والمحتمل معا.

٣ ـ انّ الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية بينما الأصل لا يكون حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية. هذا هو المعروف بين الاصوليين. ونريد أن نعرف نكتة ذلك ، فلما ذا صارت الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل كذلك؟

ذكر صاحب الكفاية نكتة مرّت الإشارة في القسم الأوّل إلى عدم تماميتها.

والصحيح أن يقال : انّ حجّية الامارة بما أنّها نشأت من قوّة الكشف فمن اللازم حجّيتها في لوازمها غير الشرعية أيضا لأنّ درجة كشف خبر الثقة عن نبات لحية الولد مثلا التي هي المدلول الالتزامي تساوي درجة كشفه عن حياته التي هي المدلول المطابقي ، فدرجة الكشف في كليهما تساوي ٧٠% مثلا. وهذه الدرجة لئن كانت سببا لحجّية خبر الثقة في مدلوله المطابقي فيلزم أن تكون سببا لحجّيته في مدلوله الالتزامي أيضا. هذا كلّه في الامارة.

وأمّا الأصل فحيث انّ حجّيته لم تنشأ من قوّة الكشف بل نشأت من قوّة المحتمل فلا وجه لأن يكون حجّة في لوازمه غير الشرعية إذ من الممكن اختصاص قوّة المحتمل بالمدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.


عود إلى عرض المشكلة

بعد الفراغ من النقاط الثلاث السابقة نعود لعرض المشكلة في حقيقة الاستصحاب.

انّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون امارة لأنّ حجّية الامارة حكم ظاهري ناشىء من قوة الكشف ، ومن الواضح انّ ثبوت الحالة السابقة في باب الاستصحاب ليس له كاشفية قويّة عن البقاء ، ولذا لا يحصل من ثبوت الشيء سابقا الظنّ ببقائه لا حقا وإن ادّعى البعض ذلك.

وأمّا انّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون أصلا عمليا فلأنّ حجّية الأصل حكم ظاهري ناشىء من قوّة المحتمل ، ومن الواضح انّه لا تحدّد لنوعية الحكم في الحالة السابقة المتيقنة ولا لنوعية الحكم المحتمل حدوثه في الحالة اللاحقة ، ومع عدم تحدّده فلا يمكن تحديد أهمية المحتمل ، أجل في مثل أصالة الإباحة حيث يدور الأمر بين احتمالين الإباحة والحرمة فالتقديم بأهمية المحتمل وجيه بخلافه في المقام.

هذا توضيح المشكلة.

والحل أن يقال : انّ الحكم الظاهري هو الحكم الناشئ من التزاحم بين الحكمين أو بين الملاكين ، وفي باب الاستصحاب يوجد مثل هذا التزاحم ، حيث انّ احتمال البقاء يزاحم احتمال عدم البقاء ، غاية الأمر لا يمكن تقديم أحد الاحتمالين لقوّة الاحتمال لعدم ثبوتها ـ كما تقدّم ـ ولا لقوة المحتمل لعدم تحدّد المحتمل ولكن من الممكن تقديم أحد الاحتمالين لنكتة اخرى كنكتة العادة والالفة


وميل الطبع ، فإنّ طبع كل إنسان يميل إلى بقاء الحالة السابقة وعادته تقتضي ذلك أيضا ، فلو كان لشخص احتفال سنوي يقيمه كل سنة في يوم معيّن ففي السنوات الجديدة نذهب إلى ذلك الاحتفال في اليوم المقرّر دون فحص عن انعقاده وعدمه وما ذاك إلاّ لاقتضاء العادة والطبع.

وقد تقول : انّ حكم المولى بالاستصحاب إذا كان وليد النكتة المذكورة فلا يكون حكما ظاهريا لأنّ الحكم الظاهري هو الحكم الناشئ من التزاحم بين الحكمين أو الملاكين ، وهنا نشأ الحكم بالبقاء من النكتة المذكورة.

والجواب : انّ الحكم ببقاء الحالة السابقة لم ينشأ من النكتة المذكورة بل نشأ من التزاحم بين الاحتمالين : احتمال البقاء واحتمال الارتفاع. أجل النكتة المذكورة سبب لتقديم احتمال البقاء وترجيحه على احتمال الارتفاع. هذا هو دور النكتة المذكورة وليست هي السبب المباشر للحكم بالاستصحاب.

وعليه فالاستصحاب حكم ناشئ من التزاحم بين الحكم السابق والحكم اللاحق المحتمل حدوثه مع افتراض ترجيح الحكم السابق للنكتة المتقدّمة.

وماذا يكون الاستصحاب بعد هذا

وبعد أن عرفنا انّ الاستصحاب حكم ظاهري يبقى علينا أن نعرف انّه من أي القسمين للحكم الظاهري فهل هو امارة أو أصل؟

الصحيح انّه أصل ، إذ الأصل مصطلح يطلق على كل حكم ظاهري لا يكون حجّة في إثبات لوازمه فليس هو امارة بل أصل. أمّا لماذا لم يكن الاستصحاب حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية ، وبما انّ الاستصحاب


لا يكون حجّة في إثبات لوازمه غير الشرعية؟ انّ الجواب واضح ، حيث انّ النكتة التي على ضوئها رجّح الشارع احتمال البقاء على احتمال الارتفاع يمكن اختصاصها بالمدلول المطابق دون المدلول الالتزامي ، فحياة الولد مثلا بما أنّها ثابتة سابقا فمن الوجيه أن نقول انّ الطبع الإنساني يميل إلى بقائها في الزمان اللاحق ، وأمّا نبات اللحية فحيث انّه لم يكن ثابتا سابقا فلا معنى لأن يقال انّ الطبع الإنساني والعادة يقتضيان ثبوته في الزمان اللاحق.

وإن شئت قلت : انّ ثبوت المدلول المطابقي إذا كان لأجل قوّة في الكشف فمن الحقّ ثبوت المدلول الالتزامي أيضا لأنّ قوّة الكشف في المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي واحدة. أمّا إذا لم يكن ثبوت المدلول المطابقي لقوّة في الكشف بل كان لقوّة المحتمل أو للنكتة السابقة فلا معنى لثبوت المدلول الالتزامي لإمكان اختصاص النكتة بخصوص المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

قوله ص ٢٣٢ س ١ : قد عرفنا سابقا الخ : في القسم الأوّل ص ٣٤ ـ ٣٥ من الحلقة وفي هذا القسم ص ١١ ـ ١٣.

قوله ص ٢٣٢ س ٤ : وكاشفيّته : عطف تفسير على قوّة الاحتمال.

قوله ص ٢٣٢ س ١١ : وإدخالها : بالنصب عطفا على « إدخالها » في السطر الثامن.

قوله ص ٢٣٣ س ١١ : تقرّر نتائج التزاحم : فإنّه إذا وقع تزاحم بين احتمال الإباحة واحتمال الحرمة وكانت نتيجة التزاحم هي تقدّم الإباحة لاهميّتها فالمولى يصدر قانون أصالة الإباحة الذي هو قانون يحكم بالإباحة التي هي النتيجة الثابتة بعد وقوع التزاحم بين الحرمة والإباحة.


قوله ص ٢٣٣ س ١١ : والملاكات : أشبه بعطف التفسير على الأحكام ؛ إذ لك الحقّ أن تقول انّ التزاحم يقع بين الأحكام كما ولك الحقّ أن تقول انّه يقع بين ملاكات الأحكام فكلاهما صحيح.

قوله ص ٢٣٣ س ١٢ : في مقام الحفظ : حيث انّ كل واحد من الملاكين يريد حفظ نفسه بتشريع حكم على طبقه عند الاختلاط ، أي عند وقوع الاشتباه بين المصلحة والمفسدة أو قل بين الحرمة والإباحة.

قوله ص ٢٣٣ س ١٥ : نكتة نفسية : وهي كل نكتة ترتبط بالنفس ، كاقتضاء طبع كل إنسان وميله إلى بقاء الشيء الذي له ثبوت سابق.

قوله ص ٢٣٤ س ٥ : في تعيين كيفية جعله : فترجيح الحكم على طبق الحالة السابقة نشأ من تلك النكتة ، وأمّا أصل جعل الحكم الظاهري فهو وليد التزاحم بين الاحتمالين احتمال البقاء واحتمال الارتفاع.

قوله ص ٢٣٤ س ٧ : على القاعدة : فإنّ القاعدة الأوليّة في الأصل تقتضي عدم حجّيته في لوازمه غير الشرعية.

قوله ص ٢٣٤ س ٨ : محضا : إذا لو حظت قوّة الاحتمال فقط كان المورد امارة ، وإذا لو حظت قوّة المحتمل فقط فالمورد أصل عملي ، وإذا لو حظت قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل فالمورد أصل تنزيلي. واللوازم غير الشرعية تثبت في الحالة الاولى فقط ، أي في حالة قوة الاحتمال فقط دونه في بقية الحالات.

كيفية الاستدلال بالاستصحاب

قوله ص ٢٣٤ س ١٢ : وقد يتوهّم انّ النقطة السابقة الخ : لاستيضاح


المقصود من هذا المبحث نطرح السؤال التالي : لو كان مورد من الموارد مشتملا على الاستصحاب وأصالة الحلّ ـ كما إذا كان حيوان معيّن محرما سابقا لكونه جلاّلا وشكّ في بقائه على الحرمة لا حقا لاحتمال زوال الجلل عنه ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاؤه على الحرمة بينما مقتضى أصالة الحل كونه حلالا ـ واريد التعرّف على النسبة بينهما وأنّها نسبة العموم والخصوص المطلق حتّى يطبق قانون التخصيص ، أو نسبة العموم من وجه أو نسبة التباين حتّى يطبق قانون التعارض فهل النسبة تلحظ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ أو تلحظ بين دليل الاستصحاب ـ وهو رواية زرارة التي تقول « لا تنقض اليقين بالشكّ » ـ وأصالة الحلّ ، فإنّها قد تختلف باختلاف الحالتين المذكورتين ، إذ لو لوحظ نفس الاستصحاب وأصالة الحل كانت النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فإنّ أصالة الحلّ كما تشمل الحيوان الذي حالته السابقة الجلل تشمل غيره من الموارد التي لا يكون فيها حالة سابقة متيقّنة ، بينما استصحاب حرمة الحيوان المذكور يختصّ بالحيوان المذكور ولا يشمل بقية الموارد ، فإنّ كبرى الاستصحاب الكلية وإن كانت لا تختص بالحيوان المذكور إلاّ أنّ الاستصحاب الجاري في الحيوان المذكور يختص بالحيوان المذكور ولا يشمل غيره فإنّ بقية الموارد لئن كان يجري فيها الاستصحاب فذاك استصحاب آخر غير الاستصحاب الجاري في الحيوان المذكور.

هذا كلّه لو لا حظنا نفس الاستصحاب وأصالة الحل.

وأمّا لو لا حظنا دليل الاستصحاب وأصالة الحلّ فالنسبة هي العموم من وجه ، إذ رواية زرارة التي تقول « لا تنقض اليقين بالشكّ » تشمل جميع الموارد


التي فيها يقين سابق وشكّ لاحق بلا فرق بين أن يكون المورد ممّا يشكّ فيه في ثبوت الحلية أو لا يشكّ فيه في الحلية وإنّما يشكّ في قضايا اخرى ليست موردا لأصالة الحل ، كما لو شكّ في بقاء الكرية أو العدالة أو غير ذلك. وهكذا أصالة الحل تشمل موارد اليقين بالحالة السابقة التي يجري فيها الاستصحاب والموارد التي ليس فيها يقين سابق.

والخلاصة انّه في موارد اجتماع الاستصحاب وأصالة الحلّ هل تؤخذ النسبة بين نفس الاستصحاب وأصالة الحل أو تؤخذ النسبة بين دليل الاستصحاب وأصالة الحل؟

نقل الشيخ الأعظم في رسائله (١) عن السيد بحر العلوم 1 انّ النسبة تلحظ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ باعتبار انّ الاستصحاب دليل على الحكم كخبر الثقة ، فكما انّ خبر الثقة دليل على الحكم وتؤخذ النسبة بينه وبين معارضه لا بين آية النبأ الدالّة على حجّية خبر الثقة وبين المعارض كذلك الحال في الاستصحاب تؤخذ النسبة بينه وبين المعارض لا بين دليل حجّية الاستصحاب والمعارض.

والسيد الخميني 1 في رسائله (٢) فصّل فوافق بحر العلوم على تقدير وخالفه على تقدير آخر ، حيث ذكر انّ الاستصحاب على تقدير كونه امارة على الحكم ـ بتقريب انّ حدوث الحالة السابقة في الزمان السابق امارة على بقائها في الزمان اللاحق ـ يكون حاله حال خبر الثقة ويلزم أخذ النسبة بينه وبين أصالة

__________________

(١) راجع ص ٣٢٠ طبع رحمت الله

(٢) راجع : ج ١ ، ص ٧٤


الحلّ كما قال السيد بحر العلوم.

وأمّا إذا قيل بأنّ الاستصحاب أصل عملي عبّدنا به الشارع بمقتضى لا تنقض اليقين بالشكّ دون أن يكون له أي امارية على البقاء فمن المناسب أخذ النسبة بين دليل الاستصحاب وبين أصالة الحلّ ، إذ بناء على هذا التقدير لا يكون نفس الاستصحاب دليلا على الحكم وإنّما الدليل على الحكم هو رواية لا تنقض اليقين بالشكّ فيلزم أخذ النسبة بين رواية لا تنقض وأصالة الحل.

إذن باختصار يمكننا أن نقول : انّ السيد الخميني 1 قد ربط بين المسألتين بين مسألتنا ـ وهي مسألة أخذ النسبة ـ وبين المسألة السابقة ، وهي أنّ الاستصحاب أصل أو امارة.

وفيه : انّ نسبة العموم والخصوص حينما يراد أخذها بين الدليلين فمن اللازم ملاحظة الكلامين الصادرين من المتكلّم الواحد ويقارن بين نفس الكلامين وتؤخذ النسبة بينهما بعد المقارنة.

وفي مقامنا حيث انّ الكلام الصادر من الشارع المرتبط بالاستصحاب هو قوله « لا تنقض اليقين بالشكّ » والكلام الصادر منه المرتبط بأصالة الحلّ هو قوله « كل شيء لك حلال » فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين هذين الكلامين.

وهذا من دون فرق بين أن نبني على أنّ الاستصحاب أصل أو امارة. ولا معنى لملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب وأصالة الحلّ ، إذ نفس الاستصحاب ليس هو الكلام الصادر من الشارع لتؤخذ النسبة بينه وبين أصالة الحل وإنّما الصادر منه « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والخلاصة انّ النسبة بما أنّه يراد ملاحظتها بين كلامي الشخص الواحد


فلا بدّ من ملاحظة نفس كلامي الشخص الواحد (١) ولا معنى لملاحظتها بين أمر لم يصدر منه ـ وهو نفس الاستصحاب في مقامنا ـ وبين المعارض.

قوله ص ٢٣٤ س ١٤ : وانّ المعول فيه : أي في الاستصحاب. ثمّ انّ هذا تقريب لا مارية الاستصحاب.

قوله ص ٢٣٤ س ١٥ : هو الحالة السابقة : أو قل استصحاب الحالة السابقة ، وهي استصحاب حالة الحرمة في الحيوان الجلاّل.

قوله ص ٢٣٥ س ٣ : انسياقا مع هذا التصوّر : أي انّ السيد بحر العلوم

__________________

(١) إنّما قيّدنا الكلامين بكونهما كلامين لشخص واحد باعتبار انّ الخاصّ لا يتقدّم على العامّ إلاّ من جهة كونه قرينة على التصرّف فيه ، ومن الواضح انّ الخاصّ لا يكون قرينة على التصرّف في العالم إلاّ في حالة صدور الكلامين من شخص واحد ، أمّا إذا صدرا من شخصين فلا يكون الخاص قرينة على التصرّف في العام بل يقع بينهما التعارض ، فمثلا إذا قال الثقة انّ كل نقطة من نقاط الدار نجسة وقال ثقة آخر انّ نقطة رقم (٢) من الدار طاهرة فمضمون خبر الثقة الثاني وإن كان أخص من مضمون خبر الثقة الأوّل إلاّ أنّه لا يطبّق عليهما قانون التخصيص إذ ما دام لم يصدرا من متكلّم واحد فلا يكون الخاص قرينة على التصرّف في العام.

إن قلت : بناء على لزوم صدور الكلامين من شخص واحد يلزم عدم تطبيق قانون التخصيص على الروايات الصادرة من أهل البيت : حيث انّ العام قد يصدر من إمام والخاصّ يصدر من إمام آخر.

قلت : كل الأئمّة : نور واحد ويعدّون بمثابة الشخص الواحد.

هذا توضيح ما أفاده السيد الشهيد.

ويمكن أن نقول انّ ما أفاده 1 من اشتراط صدور الكلامين من متكلّم واحد وإن كان متينا إلاّ أنّ التأكيد عليه غير ضروري فإنّ دفع التفصيل السابق لا يتوقّف على ذلك وإنّما يتوقّف على نكتة أنّ النسبة تؤخذ بين الكلامين الصادرين من الشخص لا بين ما لم يصدر منه والمعارض


حينما قال ان النسبة تؤخذ بين نفس الاستصحاب وأصالة الحل كان ذلك منه مبنيا على اعتقاده بأنّ الاستصحاب امارة كخبر الثقة.

قوله ص ٢٣٥ س ١٦ : في غير مجال القرينية : ومجال القرينية هو ما إذا كان الكلامان صادرين من شخص واحد.

قوله ص ٢٣٦ س ٧ : لأنّ مفاد الأدلة كلام الشارع : فمفاد لا تنقض اليقين بالشكّ ـ وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بشكل عام ـ هو الصادر من الشارع وليس الاستصحاب في شخص المورد هو الصادر من الشارع.



أركان الاستصحاب



أركان الاستصحاب

قوله ص ٢٣٧ س ١ : وللاستصحاب على الخ : للاستصحاب أركان أربعة على ما يستفاد من روايات « لا تنقض اليقين بالشك » : ـ

١ ـ اليقين السابق. والوجه في ركنيّته واضح حيث انّ الروايات اعتبرت اليقين وقالت لا تنقض اليقين.

٢ ـ الشكّ اللاحق. والوجه في ركنيّته واضح أيضا لأنّ الروايات عبّرت بكلمة الشكّ وقالت لا تنقض اليقين بالشكّ.

٣ ـ أن يكون المشكوك عين المتيقن ، كما إذا علمنا بعدالة زيد سابقا ثمّ شككنا في بقاء عدالته. أمّا إذا علمنا بعدالة زيد سابقا ثمّ شككنا في عدالة عمرو فلا يجري الاستصحاب.

والوجه في ذلك : انّه بدون فرض الاتحاد لا يصدق عنوان النقض فلا يصدق أنّ الشكّ نقض اليقين أو لم ينقضه إلاّ مع اتحاد متعلّقهما.

٤ ـ وجود الأثر الشرعي للحكم بالبقاء. وركنيّة هذا يمكن أن تبيّن ببيانات مختلفة كما سيأتي ، منها أنّه إذا لم يترتّب أثر شرعي على بقاء الشيء فالحكم ببقائه يكون لغوا.

هذه هي أركان الاستصحاب على سبيل الاجمال. والتفصيل أن يقال : ـ



الركن الأول أو اليقين السابق

الوجه في اعتبار اليقين السابق واضح حيث انّ الروايات اعتبرت ذلك. وعلى هذا فمجرّد ثبوت الحالة السابقة بدون يقين بها لا يكفي في جريان الاستصحاب.

لا يقال : انّ الروايات وإن اعتبرت اليقين السابق إلاّ أنّ ذلك من باب أنّه مرآة لحدوث الحالة السابقة ولا خصوصية له.

فإنّه يقال : هذا خلاف الظاهر ، فإنّ ظاهر كل عنوان مأخوذ في الدليل أنّه مأخوذ فيه على نحو الموضوعية لا الطريقية والمرآتية.

أجل إذا نظرنا إلى رواية عبد الله بن سنان التي هي الرواية الرابعة من الروايات الأربع السابقة لم نجد فيها ذكرا لليقين ، فالإمام 7 لم يقل انّك أعرته الثوب وأنت على يقين من طهارته وإنّما علّل بنفس الحالة السابقة حيث قال انّك أعرته إيّاه وهو طاهر. وعلى هذا فالرواية المذكورة يمكن أن يستفاد منها أنّ المناط في جريان الاستصحاب هو حدوث الحالة السابقة ، فمتى ما كانت الحالة حادثة سابقا جرى استصحابها وإن لم يكن المكلّف على يقين من حدوثها.

وإذا تمّت دلالة هذه الرواية على الاكتفاء بحدوث الحالة السابقة بلا اشتراط اليقين أمكن أن تكون قرينة على التصرّف في بقية الروايات فتحمل كلمة اليقين المذكورة في بقية الروايات على أنّها مرآة لحدوث الحالة السابقة


وليست ملحوظة بنحو الموضوعية.

والباعث لهذا الكلام الطويل هو الإشارة إلى أنّ اليقين لو كان معتبرا في جريان الاستصحاب بلا اكتفاء بحدوث الحالة السابقة تتولّد مشكلة حاصلها أنّ الثقة لو شهد صباحا بطهارة الثوب مثلا فلا إشكال في الحكم بالطهارة ، فإذا حدث عند المساء شكّ في بقاء تلك الطهارة فمن المتفق عليه فقهيّا جريان الاستصحاب فيقال انّ الطهارة كانت ثابتة صباحا وعند الشكّ في بقائها مساء يجري استصحابها.

وجريان هذا الاستصحاب وقع موردا للإشكال حيث انّ الطهارة حينما شهد بها الثقة صباحا لم يحصل اليقين بثبوتها إذ خبر الثقة لا يفيد اليقين بل يفيد الظنّ ، ومع عدم حصول اليقين بالطهارة فكيف تستصحب إلى المساء.

هذا حاصل الإشكال فيما يرتبط بركنية هذا الركن. وقد سجّل في الكتاب من أجوبة الأعلام ثلاثة : أولها للميرزا وثانيها للآخوند وثالثها لجملة من المحقّقين.

جواب الميرزا

١ ـ وأجاب الميرزا مستفيدا من مسلكه مسلك جعل العلمية بأنّ الامارة حينما تقوم على طهارة الثوب صباحا نحصل لنا العلم بالطهارة ـ حيث انّ الامارة على مسلك جعل العلمية تفيد العلم ـ وبعد حصول العلم بالطهارة فبالإمكان استصحابها ويرتفع الإشكال.

وإن شئت قلت : انّ حديث لا تنقض اليقين بالشكّ أخذ في موضوعه


اليقين ، وبعد قيام الامارة على طهارة الثوب تحصل ببركة دليل حجّية الامارة على يقين تعبّدي بالطهارة ، وبذلك يتّسع موضوع اليقين المأخوذ في حديث لا تنقض ، فبعد أن كان اليقين منحصرا بفرد واحد وهو اليقين الوجداني يصبح شاملا لفرد ثان وهو اليقين التعبّدي الحاصل من طريق الامارة. واتّساع الموضوع هذا هو ما يعبّر عنه بالحكومة فإنّها تعني كون أحد الدليلين موجبا لتوسعة أو تضييق موضوع الدليل الآخر تعبّدا.

وفيه : إنّا حتّى لو سلّمنا بمسلك جعل العلمية فلا نسلّم بحكومة دليل حجّة الامارة على دليل الاستصحاب فإنّ اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب يقين موضوعي ـ أي هو مأخوذ في موضوع الاستصحاب حيث قيل لا تنقض اليقين .. ودليل حجّية الامارة لا ينزل الامارة منزلة العلم بكلا قسميه بل ينزله منزلة العلم الطريقي فقط دون الموضوعي (١) إذ المدرك لحجّية خبر الثقة هو السيرة العقلائية ، والعقلاء حينما يعتبرون خبر الثقة علما وينزلونه منزلة العلم فمقصودهم تنزيله منزلة العلم الطريقي في المنجزية والمعذرية لا تنزيله منزلة العلم الموضوعي ، إذ العلم الموضوعي لا تداول له في حياة العقلاء ولم نجد حتّى مثالا

__________________

(١) العلم الطريقي هو العلم الذي لا يؤخذ في موضوع الحكم وإنّما دوره دور الطريق إلى الواقع فينجز عند الإصابة ويعذّر عند الخطأ ، فمثلا إذا كان لدينا سائل هو خمر في الواقع ولكن لم نعلم بذلك فهو حرام واقعا ، غاية الأمر حيث لا نعلم بحرمته فلا تكون حرمته منجزة أي لا نستحق العقوبة لو تناولناه.

وأمّا العلم الموضوعي فهو العلم المأخوذ في موضوع الحكم ومن دونه حصوله لا يكون الحكم ثابتا واقعا لا أنّه ثابت ولكنّه غير منجز. ومثاله اليقين المأخوذ في باب الاستصحاب فإنّه من دونه لا يجري الاستصحاب واقعا


واحدا له وإنّما المتداول بينهم هو العلم الطريقي فيتمسّكون بالعلم بما أنّه طريق إلى الواقع ومنجز ومعذر.

وما دام العلم الموضوعي لا تداول له في حياة العقلاء فحينما ينزّل العقلاء خبر الثقة منزلة العلم فمرادهم تنزيله منزلة العلم الطريقي إذ هو الشايع عندهم لا تنزيله منزلة العلم الموضوعي لعدم شيوعه عندهم.

وعليه فدليل حجّية الامارة وهو السيرة العقلائية لا يكون حاكما على دليل حجّية الاستصحاب الذي أخذ في موضوعه القطع لأنّ الحكومة فرع نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، وقد اتّضح أنّه لا نظر لدليل حجّية خبر الثقة إلى القطع الموضوعي لعدم شيوعه في حياة العقلاء. وقد تقدّم سابقا توضيح هذا المطلب في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٨٢.

جواب الآخوند

٢ ـ وأجاب الآخوند بأن جريان الاستصحاب لا يتوقّف على وجود اليقين ، فاليقين ليس ركنا من أركان الاستصحاب.

والوجه في ذلك : انّ مضمون دليل الاستصحاب جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فكأنّه يقول انّ الشيء إذا كان حادثا سابقا فهو باق.

وقد تقول : انّ مجرّد جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء لغو وبلا فائدة ، إذ ما الفائدة في أن يقال إذا كانت الطهارة مثلا ثابتة صباحا فهي باقية إلى المساء ، إنّ هذا غير نافع حيث لا يمكن الحكم في المساء ببقاء الطهارة إذ هي محكومة بالبقاء على تقدير حدوثها صباحا ، وحيث لا يعلم بحدوثها صباحا فلا يمكن الحكم


ببقائها مساء.

والجواب : انّ المفروض في المقام دلالة خبر الثقة صباحا على ثبوت الطهارة فإذا ضممنا إلى هذه الامارة على الحدوث الملازمة بين الحدوث والبقاء المستفادة من دليل الاستصحاب فسوف تكون تلك الامارة على الحدوث امارة على البقاء.

وأشكل السيد الخوئي على الآخوند بأنّه ما المراد من الملازمة المجعولة في دليل الاستصحاب؟ فإن كان المقصود منها الملازمة الواقعية ـ بمعنى أنّ دليل الاستصحاب يقول انّ الشيء إذا كان حادثا فيما سبق واقعا فهو باق واقعا ـ فهو باطل إذ لازمه أن يكون الاستصحاب امارة حيث انّه ينظر إلى الواقع ويحكم بالبقاء واقعا ويقول انّ الشيء باق واقعا ويكون نظير خبر الثقة ، فكما أنّه امارة لنظره إلى الواقع غاية الأمر قد يصيبه وقد لا يصيبه كذلك الاستصحاب يكون ناظرا إلى الواقع وبذلك يكون امارة لا أصلا عمليا.

وإن كان المقصود منها الملازمة في مرحلة التنجز ، بمعنى انّ الاستصحاب يقول انّ الشيء إذا كان منجزا في الزمان السابق فهو باق على المنجزية لا حقا فلازمه عند العلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين والعلم بعد ذلك تفصيلا بأنّ النجس هو الإناء الأوّل الحكم بتنجز الاجتناب عن الإناء الثاني أيضا ، حيث انّه حين حصول العلم الإجمالي تنجز وجوب الاجتناب عن كلا الإنائين فإذا زال العلم الإجمالي وعلم تفصيلا بنجاسة الإناء الأوّل زال التنجز الثابت بسبب العلم الإجمالي عن الإناء الثاني ويحدث تنجز بسبب الاستصحاب ، فالاستصحاب يقول عند ذلك : ما دام الإناء الثاني قد ثبت التنجز له في الزمان السابق بسبب


العلم الإجمالي فأنا أحكم ببقاء التنجز له في الزمان اللاحق (١) ، حيث انّي أجعل ملازمة بين حدوث التنجز وبقائه.

وواضح انّ هذا لا يمكن الالتزام به إذ لم يقل أحد انّ التنجز يبقى في أطراف العلم الإجمالي حتّى بعد زواله ـ العلم الإجمالي ـ بسبب العلم التفصيلي.

ويمكن الجواب عن كلام السيد الخوئي هذا بأنّ هناك احتمالا ثالثا في الملازمة ، فالاستصحاب لا يجعل الملازمة الواقعية ولا الملازمة في التنجز وإنّما يجعل الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري فهو يقول إن كان الشيء حادثا واقعا فهو باق في مرحلة الظاهر. وبناء على هذا لا يلزم أي إشكال.

وإذا بطل جواب السيد الخوئي فلا بدّ وأن نتصدّى نحن للردّ على ما ذكره الآخوند فنقول : انّ ما ذكره الآخوند يرجع إلى إنكار ركنية اليقين وأنّ اليقين ليس ركنا في باب الاستصحاب. ومثل هذه الدعوى لا بدّ للآخوند من إثباتها إذ كيف ينكر ركنية اليقين والحال أنّ حديث لا تنقض اليقين قد أخذ كلمة اليقين ، وظاهر ذلك أنّ اليقين معتبر بنحو الموضوعية لا المرآتية لحدوث الحالة السابقة.

والآخوند قد تصدّى لإثبات هذه الدعوى وقال انّ اليقين بما أنّه يصلح أن يكون كاشفا ومرآتا عن المتيقّن فأخذه في دليل الاستصحاب يكون بهذا الاعتبار ، أي بما أنّه طريق ومرآة لحدوث الحالة السابقة ولا يكون معتبرا بنحو الموضوعية.

ويعلّق السيد الشهيد على كلام الآخوند هذا قائلا : انّ كلام الآخوند لا بدّ

__________________

(١) طبيعي هذا يتمّ فيما لو كان الإناء الثاني يحتمل نجاسته بنحو الشبهة البدوية وأمّا إذا كان يقطع بعدم نجاسته بعد حصول العلم التفصيلي فلا مجال لجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجز


من إصلاحه أوّلا وبعد ذلك نأخذ بمناقشته.

أمّا إصلاحه فالآخوند ذكر أنّ اليقين يصلح أن يكون مرآة ، وهذا صحيح ولكن مجرّد صلاحية اليقين لذلك لا يثبت به أنّه قد أخذ بالفعل بنحو المرآتية. بل لا بدّ من إثبات ذلك من طريق الظهور بأن يقال انّ ظاهر حديث لا تنقض انّ اليقين قد أخذ بما هو مرآة إلى حدوث الحالة السابقة ولا يكفي مجرّد الصلاحية بلا ضمّ دعوى الظهور ، إذ يبقى كل من احتمال الموضوعية واحتمال المرآتية ثابتا ومع ثبوتهما فلا يمكن جريان الاستصحاب في موارد قيام الامارة لاحتمال أنّ اليقين معتبر بنحو الموضوعية.

وبعد هذا الاصلاح يأخذ 1 بمناقشة الآخوند قائلا : انّه ما المقصود من أخذ اليقين في حديث لا تنقض بما هو مرآة للمتيقن؟ إنّ في ذلك احتمالين : ـ

أ ـ أن يكون المقصود من المرآتية المرآتية الواقعية ، بمعنى أنّ اليقين مرآة واقعا وحقيقة للمتيقن. وهذا وإن كان صحيحا ولكن في خصوص اليقين القلبي ـ فاليقين القائم في قلب الشخص مرآة للمتيقّن ولذا لا يلتفت الإنسان حين حصول اليقين له إلى صفة اليقين بل إلى المتيقن ـ وليس تامّا في مفهوم اليقين المأخوذ في حديث لا تنقض فإنّه ليس مرآة حقيقة إلى المتيقّن وإنّما هو مرآة لأفراد اليقين.

ب ـ وإن كان المقصود من المرآتية أنّ العرف قد يستعمل أحيانا كلمة اليقين ويريد منها المتيقّن فهذا وإن كان صحيحا ولكنّه يحتاج إلى قرينة ، فإنّ كلمة اليقين المأخوذة في حديث لا تنقض ظاهرة في موضوعية اليقين وحملها على المرآتية يحتاج إلى قرينة خاصّة أو قرينة عامة ، وكلتاهما مفقودة.

أمّا فقدان القرينة الخاصّة فواضح حيث لم تقترن قرينة خاصّة بكلمة اليقين


تدل على أنّ المراد منها المتيقن.

وأمّا فقدان القرينة العامّة فلأنّ القرينة العامّة ليست هي إلاّ مناسبات الحكم والموضوع ، ومن الواضح انّها ـ مناسبات الحكم والموضوع ـ لا تأبى عن دخالة اليقين بنحو الموضوعية في جريان الاستصحاب.

ثمّ ذكر السيد الشهيد انّه كان من المناسب للآخوند لإثبات عدم ركنية اليقين بنحو الموضوعية في الاستصحاب التمسّك برواية عبد الله بن سنان حيث لم يعلل الإمام 7 الحكم بعدم وجوب غسل الثوب باليقين السابق بل بنفس الحالة السابقة حيث قال : انّك أعرته إيّاه وهو طاهر. هذا هو المناسب لا ما ذكره من أنّ ظاهر كلمة اليقين في الروايات اعتبار اليقين بما هو مرآة إلى المتيقن فإنّ هذا غير مقبول بعد عدم مساعدة القرينة الخاصّة والعامة عليه.

جواب جملة من المحقّقين

٣ ـ وقد ذكر جملة من المحقّقين في دفع الإشكال انّ كلمة اليقين المذكورة في قوله 7 : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يراد بها مطلق الحجّة على ثبوت الحالة السابقة فكأنّه قيل لا تنقض الحجّة على الحالة السابقة بالشكّ ، وتخصيص اليقين بالذكر من باب أنّه أحد مصاديق الحجّة وإلاّ فلا خصوصية له.

وبناء على هذا متى ما قامت الامارة صباحا على طهارة الثوب جرى الاستصحاب عند طروّ الشكّ في بقاء النجاسة مساء لأنّ جريان الاستصحاب لا يتقوّم بوجود خصوص اليقين حتّى يقال بعدم ثبوته في موارد الامارة وإنّما يتقوّم بقيام الحجّة سابقا ، والمفروض انّ الحجّة ثابتة سابقا لأنّ دليل حجّية الامارة يحقّق


مصداقا حقيقيا من مصاديق الحجّة.

وهذا الجواب يختلف عن الجواب السابق للآخوند ، ففيما سبق كان ينكر الآخوند ركنية اليقين ويقول انّ دليل الاستصحاب يريد جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ولا يريد الحكم بالبقاء عند اليقين بالحدوث ، وأمّا في هذا الجواب فيسلم بركنية اليقين ولكن يفسّر اليقين بمطلق الحجّة.

كما ويختلف هذا الجواب عن الجواب الأوّل للميرزا في أنّ قيام الامارة على الجواب الأوّل يكون حاكما على دليل الاستصحاب لأنّه بقيام الامارة يتحقّق فرد تعبّدي لليقين وتتّسع دائرة اليقين المعتبر في الاستصحاب اتساعا تعبّديا لا حقيقيا بينما على هذا الجواب يكون قيام الامارة واردا على دليل الاستصحاب إذ بقيام الامارة يتحقّق فرد حقيقي للحجّة وتتّسع دائرة اليقين اتساعا حقيقيا. ونحن نعرف أنّ الفرد المتحقّق إن كان فردا تعبّديا فالباب باب الحكومة وإن كان فردا حقيقيا فالباب باب الورود.

هذا حصيلة الجواب الثالث.

ويرده : انّ حمل كلمة اليقين على مطلق الحجّة الجامعة بين اليقين والامارة حمل على خلاف الظاهر وبحاجة إلى قرينة وهي مفقودة.

جواب السيد الشهيد

وبعد أن اتّضح الخلل في الأجوبة الثلاثة السابقة يبقى على السيد الشهيد التصدّي بنفسه للجواب عن المشكلة. وحاصل ما ذكره انّ المشكلة يمكن حلّها في بعض موارد الامارات وتبقى ثابتة في بعض آخر من الموارد.


موارد العلاج

أمّا الموارد التي يمكن فيها علاج المشكلة فهي الصور الأربع التالية. وفي هذه الصور الأربع يسلّم 1 بأنّ استصحاب الحالة السابقة الثابتة بالامارة لا يمكن جريانه بيد أنّه يمكن إبراز بديل عنه يمكن الاستعانة به عوضا عنه.

ولتوضيح الصور الأربع نقول : انّ الامارة تارة تكون ثابتة في شبهة موضوعية واخرى في شبهة حكمية.

مثال الأوّل : الامارة الدالّة على نجاسة ثوب معيّن صباحا ، فإنّ الثوب المعيّن موضوع خارجي جزئي ، ومتى ما كان الموضوع جزئيا فالشبهة موضوعية.

مثال الثاني : خبر زرارة الحاكم بنجاسة الماء المتغيّر ، فإن الماء الكلّي ـ لا الماء الخارجي المعيّن ـ موضوع كلّي ، ومتى ما كان الموضوع كلّيا فالشبهة حكمية.

ثمّ انّ الشكّ في البقاء تارة يكون شكّا في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية واخرى بنحو الشبهة الحكمية.

مثال الأوّل : أن يشكّ في المثال الأوّل السابق في عروض الغسل على الثوب المتنجس أو يشكّ في المثال الثاني في زوال التغيّر ، فإنّ الشكّ في هذين المثالين شكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية ، إذ الحكم الكلّي معلوم ولا شكّ فيه فيعلم انّ الثوب لو غسل طهر ولكن يشكّ في الموضوع الخارجي فلا يعلم هل طرأ الغسل خارجا أو لا. وهكذا في مثال الماء المتغير يعلم مثلا بأنّ زوال التغيّر مطهّر ولكن يشكّ في تحقّق زوال التغيّر وعدمه.


ومثال الثاني : تطهير الثوب المتنجس بالماء المضاف أو الشكّ في أنّ زوال التغير عن الماء بنفسه ـ أي لا بإلقاء كر عليه ـ مطهر أو لا ، فإنّ الشكّ في البقاء في هذين المثالين ناشىء من الشكّ في الحكم الكلّي فلا يعلم أنّ الغسل بالماء المضاف مطهر أو لا ، وهكذا لا يعلم أنّ زوال التغيّر بنفسه عن الماء مطهر أو لا.

ثمّ إنّ مجموع الصور على هذا أربع حاصلة من ضرب الصورتين الاوليتين في الصورتين الأخيرتين. وبعد هذا نأخذ باستعراض حال هذه الصور بالتفصيل.

الصورة الاولى

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة موضوعية وأنّ الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الموضوعية أيضا.

ومثال ذلك : ما إذا أخبر الثقة صباحا بأنّ الثوب قد تنجّس وشككنا مساء في طروّ الغسل عليه.

وفي هذه الحالة نعترف بأنّ استصحاب بقاء التنجس لا يجري ، إذ بقيام الامارة لا يحصل اليقين بثبوت التنجّس كي يستصحب ولكن يمكن التعويض عن ذلك باستصحاب آخر ، وذلك بأحد الشكلين التاليين : ـ

أ ـ أن نقول ما هو الغرض من إجراء استصحاب بقاء التنجّس مساء في الثوب؟ ليس الغرض إلاّ إثبات بقاء تنجّسه ، ونحن في هذا الشكل سوف نثبت بقاء التنجس مساء بلا اعتماد على استصحاب التنجّس السابق ، بأن يقال : انّ ثبوت التنجس مساء يحتاج إلى ركنين : أحدهما : ملاقاة النجاسة للثوب ، وثانيهما عدم طرو الغسل عليه. وكلاهما متوفّر فيثبت بقاء التنجس مساء.


أمّا توفّر الركن الأوّل فباعتبار الامارة حيث فرضنا انّ الثقة شهد بملاقاة النجاسة للثوب.

وامّا توفّر الركن الثاني فبتوسّط الاستصحاب حيث انّه توجد لحظة سابقة نجزم فيها بعدم غسل الثوب. وهذه اللحظة إن لم تكن قبل يوم أو يومين فهي لا أقل موجودة قبل سنة أو سنتين حين شراء الثوب من بائع الأقمشة. وإذا كان اليقين بعدم طروّ الغسل ثابتا في تلك اللحظة فنستصحبه إلى زمان الشكّ.

وبذلك يتوفر كلا الركنين وتثبت نجاسة الثوب مساء ، غاية الأمر أحد الركنين ثابت بالامارة والآخر ثابت بالاستصحاب (١).

والخلاصة : انّه لئن تعذّر علينا إجراء استصحاب التنجس السابق ومن ثمّ إثبات بقاء التنجّس في الثوب مساء فبإمكاننا إثبات ذلك بالطريق المتقدّم.

ب ـ انّ الامارة التي أخبرتنا صباحا بتنجّس الثوب هي في الحقيقة تخبر عن مطلبين : أحدهما ملاقاة النجاسة للثوب. وثانيهما انّ ذلك التنجس باق إلى الأبد ما لم يطرء الغسل.

ويمكن أن نصطلح على المطلب الأوّل بالمدلول المطابقي للامارة وعلى المطلب الثاني بالمدلول الالتزامي.

والامارة كما هي حجّة في الأوّل حجّة في الثاني أيضا. وعند قيام الامارة لئن لم يحصل لنا يقين بالمطلب الأوّل ـ أي بملاقاة النجاسة للثوب ـ فلا يجري

__________________

(١) ويصطلح على مثل استصحاب عدم طرو الغسل بالاستصحاب الموضوعي ، لأنّ عدم طرو الغسل موضوع ـ أو بالأحرى جزء لموضوع الحكم بالتنجيس ـ وليس حكما شرعيا فالاستصحاب الجاري فيه استصحاب موضوعي


استصحابه فلنا يقين بالمطلب الثاني ؛ إذ نجزم بعد قيام الامارة بحكم الشارع ببقاء التنجس في الثوب ما دام لم يغسل. ونحن نستصحب هذا البقاء التعبّدي المتيقّن فنقول هكذا : انّ الثوب كان محكوما صباحا جزما ببقاء التنجس فيه تعبّدا ما دام لم يغسل فإذا شكّ في طروّ الغسل فهذا معناه الشكّ في بقاء ذلك التعبّد الشرعي بالبقاء فنجري الاستصحاب فيه أي في البقاء التعبّدي.

وإن شئت قلت : إنّ لنا شكّين : شكّا في بقاء التعبّد بالنجاسة ، وشكّا في طرو الغسل ، والشكّ الأوّل مسبب عن الشكّ الثاني. وفي الشكل الأوّل اجري الاستصحاب في الشكّ الثاني بينما في الشكل الثاني اجري في الشكّ الأوّل.

الصورة الثانية

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة حكمية بينما الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الموضوعية.

ومثال ذلك : ان يدلّ خبر زرارة على نجاسة الماء المتغيّر. وهذه شهادة على مطلب كلّي. ونفترض انّ لدينا صباحا في الخارج ماء معيّنا متغيّرا ونشك في زوال تغيّره مساء. وفي هذه الصورة يجري الاستصحابان السابقان دون أي فرق.

أمّا الاستصحاب بشكله الأوّل فبأن يقال انّ بقاء النجاسة في المساء تحتاج إلى ركنين : أحدهما : ثبوت النجاسة عند تغيّر الماء ، وثانيهما بقاء التغير. والركن الأوّل ثابت بالامارة والركن الثاني ثابت بالاستصحاب فيستصحب بقاء التغيّر ، فإنّ التغيّر كان ثابتا على سبيل اليقين صباحا فإذا شكّ في بقائه مساء جرى استصحابه.


وامّا الاستصحاب بشكله الثاني فبأن يقال انّ الامارة على نجاسة الماء المتغيّر تدل بالالتزام على بقاء النجاسة تعبّدا ما دام لم يزل التغير فإذا شكّ في بقاء التعبّد بالنجاسة بسبب الشكّ في زوال التغير استصحب البقاء التعبّدي السابق.

الصورة الثالثة

وفي هذه الصورة نفترض انّ الامارة امارة في شبهة موضوعية بيد انّ الشكّ في البقاء شكّ بنحو الشبهة الحكمية.

مثال ذلك : أن تدل الامارة على نجاسة ثوب معيّن صباحا ثمّ في المساء يغسل بمائع مضاف. انّ المشكوك في المثال المذكور بما أنّه شيء خارجي معيّن وهو الثوب فالامارة المتعلّقة به امارة في شبهة موضوعية ولكن الشكّ في بقاء نجاسته حيث انّه ناشئ من الشكّ في الحكم الشرعي ـ حيث انّ الشكّ في حصول التطهير بالمائع المضاف شكّ في حكم كلي ـ فالشبهة من حيث البقاء شبهة حكمية.

وفي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب بشكله الأوّل السابق ويجري بشكله الثاني.

امّا انّه لا يجري بشكله الأوّل فلأنّ المطهر شرعا إن كان هو الغسل بالمطلق فهو ممّا يقطع بعدم حصوله على الفرض فلا معنى لإجراء استصحاب عدم حصوله فإنّ جريان الاستصحاب فرع الشكّ ، وإن كان هو الغسل بالمائع الأعمّ من المطلق والمضاف فهو ممّا يقطع بحصوله فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه أيضا (١).

__________________

(١) وقد تقول لماذا لا يجري الاستصحاب في عنوان المطهر الشرعي فيقال انّ المطهّر الشرعي نشكّ في طروّه فنستصحب عدمه ونقطع النظر عن حيثية الإطلاق والإضافة؟ ـ


وأمّا انّه يجري بشكله الثاني فلأنّ الامارة حينما دلّت صباحا على نجاسة الثوب فقد دلّت على نجاسته الظاهرية وبقائها تعبّدا إلى أن يطرأ المطهر الواقعي ، وحيث إنّنا نشكّ في حصول المطهر الواقعي ـ للشكّ في حصول التطهير واقعا بالغسل بالمائع المضاف ـ فيجري استصحاب بقاء النجاسة الظاهرية أو بكلمة اخرى يجري استصحاب البقاء التعبّدي.

الصورة الرابعة

وهذه الصورة عكس الصورة الاولى ، أي تكون الامارة امارة في شبهة حكمية ويكون الشكّ في البقاء شكّا بنحو الشبهة الحكمية.

مثال ذلك : ان تدلّ الامارة على حصول التنجس بملاقاة الشيء المتنجّس (١) ويفرض انّ لدينا ثوبا معيّنا صباحا لاقى اليد المتنجّسة ، وعند المساء غسلناه بالمائع المضاف. انّ حصول التنجس بملاقاة المتنجّس حيث انّه حكم شرعي كلّي فالامارة الدالة عليه امارة في شبهة حكمية ، والشكّ في البقاء حيث انّه ناشىء من الشكّ في حكم الشارع بمطهريّة الغسل بالمائع المضاف فالشبهة من

__________________

ـ والجواب : انّ المزيل للنجاسة شرعا امّا الغسل بالمطلق أو الغسل بمطلق المائع ، وأمّا عنوان المطهر فليس مركزا للأثر كي يجري الاستصحاب فيه ، وإذا كنّا نعبّر بعنوان المطهر أحيانا ونقول نستصحب عدم طروّ المطهر فذاك مرآة إلى عدم الغسل بالماء المطلق

(١) حصول التنجّس بملاقاة العين النجسة كالدم والبول ممّا لا إشكال فيه ولا كلام وإنّما الكلام بين الفقهاء في أنّ البول إذا لاقى اليد وجفّ لسبب وآخر ولاقت اليد الحاملة لرطوبة العرق بعد ذلك ثوبا أو أي شيء آخر فهل يتنجس الثوب أو لا. وهذا هو المبحث المعروف بأنّ المتنجس ينجس أو لا


حيث البقاء شبهة حكمية أيضا.

وهذه الصورة لا تختلف من حيث الحكم عن الصورة الثالثة المتقدّمة فالاستصحاب بشكله الأوّل لا يجري وبشكله الثاني يجري.

اما انّه بشكله الأوّل لا يجري فلنفس ما سبق حيث انّ المطهّر الشرعي إن كان هو الغسل بالماء المطلق فذاك ممّا يقطع بعدم حصوله فلا معنى لإجراء استصحاب عدمه ، وإن كان هو الغسل بالسائل الأعمّ من المطلق والمضاف فذاك ممّا يقطع بحصوله ولا معنى أيضا لجريان الاستصحاب فيه.

وامّا انّه بشكله الثاني يجري فلأنّ الامارة حينما دلّت على حصول التنجّس بملاقاة المتنجّس وفرض انّ الثوب لاقى اليد المتنجّسة فقد حصل القطع بالتنجّس الظاهري وحصل القطع ببقائه تعبّدا ما لم يطرأ المطهر الشرعي الواقعي فإذا شكّ في طروّه ـ للشكّ في أنّ الغسل بالمضاف مطهر أو لا ـ جرى استصحاب التنجس الظاهري أو بكلمة اخرى البقاء التعبّدي للتنجس.

الخلاصة

والخلاصة التي اتّضحت بعد استعراض هذه الصور الأربع انّ النجاسة الواقعية التي دلت الامارة عليها وإن لم يمكن استصحابها لعدم حصول القطع بها ـ إذ الامارة لا تفيد القطع ـ إلاّ أنّه يمكن التعويض عن ذلك باستصحاب آخر ، فإنّ النجاسة الظاهرية لمّا كان بقاؤها مغيى بعدم طروّ المطهر فالاستصحاب يمكن إجراؤه بشكلين ، فامّا أن يجرى في عدم طرو المطهر وهو استصحاب موضوعي ، أو يجرى في نفس النجاسة الظاهرية.


وإن شئت قلت انّ الاستصحاب امّا أن يجري لإثبات عدم تحقّق الغاية أو لإثبات بقاء الحكم المغيى. وعرفنا انّ الاستصحاب بشكله الثاني ـ أي استصحاب المغيّى ـ يجري في جميع الصور الأربع وأمّا بشكله الأوّل فيجري في الصورة الاولى والثانية فقط.

بعض الصور لا يجري فيها الاستصحاب البديل

وقد عرفنا انّ الاستصحاب البديل يجري في صور أربع. ويمكن أن نقدّم جامعا للصور الأربع المذكورة فإنّه في جميعها يفرض وجود حكم له قابلية الاستمرار إلى الأبد ما لم تطرأ الغاية الرافعة له ، فإنّ نجاسة الثوب أو الماء قابلة شرعا للبقاء إلى يوم القيامة ما دام لم تحصل الغاية الرافعة لها. هذا هو الجامع. وقد اتّضح انّ الاستصحاب يجري بأحد شكلين.

وهناك صورة لا يمكن فيها جريان الاستصحاب البديل ، وهي ما لو فرض انّ الحكم ليست له قابلية البقاء إلى الأبد ولم يتحدّد استمراره بغاية معيّنة.

مثال ذلك : ما لو قال المولى لعبده اجلس في المسجد إلى زوال الشمس ، فإذا امتثل العبد ذلك وجلس إلى الزوال ولكنّه شكّ بعد ذلك في استمرار الوجوب ـ من جهة احتمال انّ التقييد بالزوال لبيان الفرد الأفضل لا لارتفاع الوجوب حقيقة بعده ـ فلا يجري الاستصحاب ؛ إذ لا توجد غاية يشكّ في حصولها ليستصحب عدمها كما ولا يوجد حكم مغيى ليستصحب بقاؤه.

وفي هذه الصورة يبقى الإشكال ـ وهو أنّه كيف يجري الاستصحاب في مورد الامارة ـ مستحكما ؛ إذ لا يمكن استصحاب الحكم الواقعي لعدم حصول


اليقين به ولا استصحاب الحكم الظاهري لأنّ الامارة في هذه الصورة لا تدلّ على حكم ظاهري مغيى بغاية معينة إذ لا تدلّ على بقاء الوجوب ظاهرا ما لم تحصل الغاية الرافعة له.

ولا يمكن التخلّص من الإشكال إلاّ برفض ركنية اليقين كما رفضها من قبل الآخوند ولكن لا لما ذكره من الوجه ـ وهو أنّ التعبير باليقين في الروايات اريد به المرآتية لحدوث الحالة السابقة ، انّ هذه الدعوى خلاف ظاهر كلمة اليقين في الموضوعية وتحتاج إلى قرينة وهي مفقودة ـ بل للاستناد إلى رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة حيث علّل الإمام 7 عدم وجوب غسل الثوب الذي أعاره للذمي بحدوث الحالة السابقة دون اليقين بها ، إذ قال 7 انّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم يقل انّك أعرته إيّاه وأنت مستيقن بطهارته.

قوله ص ٢٣٧ س ١ : من أدلّته المتقدّمة : وهي روايات لا تنقض اليقين بالشكّ.

قوله ص ٢٣٧ س ٤ : مصحّح للتعبّد بها : إذ بدون الأثر العملي لا يصحّ التعبّد ببقاء الحالة السابقة.

قوله ص ٢٣٨ س ٤ : إذا تمّ الاستدلال الخ : وقد كان تامّا في نظر السيد الشهيد.

قوله ص ٢٣٨ س ١٠ : في الجملة : أي على نحو القضية المهملة فلم تدلّ على أنّها تبقى بعد زوال التغيّر أو لا.

قوله ص ٢٣٨ س ١١ : بعد زوال التغيّر : أي من قبل نفسه ، فإنّ تغيّر الماء تارة يزول بإلقاء كرّ عليه ، وهذا لا إشكال في حصول الطهارة به ، واخرى يزول


بنفسه بدون إلقاء كرّ طاهر عليه ، وهذا هو محلّ الشكّ.

ثمّ انّ المقصود من الماء المتغيّر في المثال المذكور هو الماء البالغ قدر كرّ ، وأمّا غير البالغ فلا إشكال في تنجّسه وإن لم يتغيّر ، كما ولا إشكال في بقاء نجاسته عند زوال تغيّره من قبل نفسه.

قوله ص ٢٣٨ س ١٥ : وإلغاء احتمال الخلاف : عطف تفسير للطريقيّة.

قوله ص ٢٣٨ س ١٥ : وبهذا : أي بسبب صيرورة الامارة علما وطريقا ببركة دليل حجّيتها.

قوله ص ٢٣٨ س ١٥ : القطع الموضوعي : كالقطع المأخوذ في روايات الاستصحاب فإنّه قطع مأخوذ في موضوع الاستصحاب حيث قيل : « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

قوله ص ٢٣٨ س ١٦ : على الدليل المتكفّل الخ : وهو دليل الاستصحاب حيث جعل الحكم بالبقاء مرتّبا على القطع بالحالة السابقة.

قوله ص ٢٣٩ س ١ : ومعنى الحكومة هنا : أي انّ الحكومة في محل كلامنا موسّعة وإن كانت في مورد آخر مضيقه.

قوله ص ٢٣٩ س ٢ : ومن مصاديق ذلك : أي من مصاديق الحكومة.

قوله ص ٢٣٩ س ٣ : وحكومة دليل الخ : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص ٢٣٩ س ٥ : وقد تقدّم الخ : هذا ردّ على كلام النائيني. وقد تقدّم ذلك في القسم الأوّل ص ٨٢.

قوله ص ٢٣٩ س ١٠ : على ما قيل في تفسيره : التعبير بذلك لتعدّد الاحتمالات في مقصود الآخوند.


قوله ص ٢٤٠ س ٦ : انّ مردّ هذا الوجه : أي الوجه الثاني الذي ذكره الآخوند.

قوله ص ٢٤٠ س ٨ : فلا بدّ له : أي لهذا الوجه.

قوله ص ٢٤٣ س ٥ : أركانه فيه : أي في الجزء الآخر.

قوله ص ٢٤٥ س ٨ : والغسل بالمضاف : الصواب : والغسل بالمطلق.

قوله ص ٢٤٥ س ١٢ : نفس المجعول : وهو البقاء التعبّدي.

قوله ص ٢٤٥ س ١٤ : ورافعا : عطف تفسير لغاية.

قوله ص ٢٤٦ س ٧ : المستفاد من دليل الحجّية : وهو الحكم بوجوب البقاء إلى الزوال.


الركن الثاني أو الشكّ في البقاء

قوله ص ٢٤٧ س ١ : والشكّ في البقاء الخ : والركن الثاني من أركان الاستصحاب الشكّ في البقاء. ويمكن تقريب ركنية هذا الركن بأحد بيانين : ـ

أ ـ أن نقطع النظر عن الروايات التي أخذت الشكّ في لسانها ونستدل على ذلك بالبرهان التالي (١) :

انّ الاستصحاب بما انّه حكم ظاهري فيعتبر في موضوعه الشكّ. والشكّ المذكور حيث انّه لا يمكن أن يكون هو الشكّ في أصل حدوث الحالة السابقة ـ وإلاّ كان المورد من موارد قاعدة اليقين لا الاستصحاب ـ فلا بدّ وأن يكون هو الشكّ في بقائها ، وهذا هو المطلوب.

ب ـ انّ نتوجّه إلى الروايات ونقول انّ الشكّ في البقاء معتبر في الاستصحاب لأنّ الروايات أخذته في لسانها وقالت لا تنقض اليقين بالشكّ.

وهل يوجد فارق عملي بين هذين البيانين أو هما واحد من هذه الناحية؟ نعم يوجد فارق عملي في موردين : ـ

المورد الأوّل

انّه بناء على البيان الأوّل يمكن جريان الاستصحاب في الفرد المردّد بينما

__________________

(١) هذا البيان الأوّل ذكر في عبارة الكتاب ثانيا وما ذكرناها ثانيا ذكر أوّلا ، وذاك غير مهمّ


على البيان الثاني لا يمكن ذلك. ولأجل ان يتجلّى ذلك لا بدّ أوّلا من إيضاح المقصود من استصحاب الفرد المردّد ، وإيضاح الفرق بينه وبين استصحاب الكلّي من القسم الثاني.

انّ استصحاب الكلّي من القسم الثاني يعني اليقين بوجود الكلّي سابقا ضمن أحد فردين أحدهما متيقن الارتفاع والآخر مشكوك الارتفاع (١) ، كما لو علم بوجود كلي الإنسان في المسجد امّا ضمن زيد أو ضمن خالد ، ونفرض إنّا نعلم انّه لو كان ضمن زيد فهو مرتفع جزما زمان الشكّ لأنّ زيدا نفرض رؤيته خارج المسجد زمان الشكّ ، وإن كان ضمن خالد فهو محتمل البقاء لأنّ خالدا نحتمل بقائه في المسجد إلى زمان الشكّ ، انّ تردّد الفردين بهذا الشكل يوجب التردّد في بقاء الكلّي. وهذا ما يسمّى باستصحاب الكلّي من القسم الثاني. والمعروف فيه جريان الاستصحاب في الكلّي لليقين بحدوثه والشكّ في بقائه. أجل الفردان لا يجري فيهما الاستصحاب لأنّ زيدا معلوم الارتفاع وخالدا مشكوك الحدوث.

وامّا استصحاب الفرد المردّد فيقصد منه إجراء الاستصحاب في الفرد الواقعي فيقال انّا لا نستصحب كلّي الإنسان ولا زيدا ليقال انّه معلوم الارتفاع ولا خالدا ليقال انّه مشكوك الحدوث بل نستصحب بقاء ذلك الفرد الداخل في المسجد واقعا ، فذاك الفرد المعيّن الذي دخل المسجد واقعا وفي علم الله سبحانه والذي هو مردّد بحسب علمنا نستصحب بقائه.

وقد تسأل متى يحقّ لنا استصحاب الكلّي دون الفرد المردّد ومتى يحقّ

__________________

(١) أو متيقن البقاء فإنّ ذلك لا يؤثّر في حقيقة استصحاب الكلي من القسم الثاني


العكس؟ والجواب : انّ الأثر الشرعي تارة يكون مترتّبا على الكلّي ـ كما لو دلّ الدليل متى ما كان إنسان في المسجد فيجب إكرامه ـ واخرى يكون مترتّبا على الفرد كما لو دلّ الدليل متى ما كان زيد في المسجد فيجب إكرامه ومتى ما كان خالد في المسجد فيجب إكرامه.

فإن كان الأثر الشرعي مترتّبا على الكلّي فلا بدّ من إجراء الاستصحاب في الكلّي لأنّ الفرد لا أثر له ليجري الاستصحاب فيه ، وإن كان الأثر الشرعي مترتّبا على كل واحد من الفردين فلا بدّ من إجراء الاستصحاب في الفرد دون الكلّي لعدم ترتّب الأثر عليه.

وبهذا اتّضح الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد المردّد.

والمعروف عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد. ولكن ما هي النكتة في ذلك؟

انّ النكتة هي انّ ذلك الفرد الواقعي الذي يراد استصحابه امّا أن يلحظ بما هو مرآة لذلك الفرد الثابت واقعا في علم الله سبحانه ـ فإذا كان الداخل في المسجد واقعا زيدا فالاستصحاب يكون جاريا في زيد وإن كان الداخل واقعا خالدا فالاستصحاب يكون جاريا في خالد ـ أو أن يلحظ الفرد بما هو عنوان الفرد وبقطع النظر عن المرآتية. وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ إجراء الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو مرآة لزيد وعمر لا يكون ممكنا إلاّ فيما إذا كان كلا الفردين ـ زيد وعمرو ـ مشكوك البقاء ولا يمكن جريانه فيما إذا كان أحد فرديه لا يوجد شكّ في بقائه بل يقطع بارتفاعه ، كما هو الحال في المقام حيث انّ عنوان الفرد لو كان مرآة لزيد فيقطع بارتفاعه.


وامّا الثاني فلأنّ إجراء الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد وبقطع النظر عن مرآتيته غير ممكن بعد ما كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان زيد وخالد دون عنوان الفرد (١).

وإن شئت قلت : انّ الاستصحاب في عنوان الفرد بما هو مرآة لا يجري من جهة انّ الشكّ في البقاء لا يكون متحقّقا على كلا التقديرين بل على أحد التقديرين دون الآخر. والاستصحاب في عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد لا يجري من جهة انّ الشكّ في البقاء وإن كان متحقّقا إلاّ أنّ الركن الرابع وهو ترتّب الأثر الشرعي ليس بمتوفّر.

وبعد اتّضاح الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد نعود إلى بيان الفارق العملي بين البيانين السابقين.

انّ الفارق العملي هو انّه بناء على البيان الأوّل يمكن إجراء الاستصحاب في الفرد المردّد دون أي محذور بخلافه بناء على البيان الثاني فإنّه لا يمكن جريانه.

امّا انّه يمكن جريانه على البيان الأوّل فلأنّ البيان الأوّل كان يقول انّ الشكّ في البقاء يعتبر ركنا في الاستصحاب من جهة أنّه ـ الاستصحاب ـ حكم ظاهري ، انّ هذا البيان وإن كان لازمه اعتبار الشكّ لتقوّم الحكم الظاهري بالشكّ إلاّ أنّه لا يلزم في الشكّ الذي يتطلّبه الحكم الظاهري أن يكون شكّا في

__________________

(١) هذا مضافا إلى أنّه لو فرض ترتّب الأثر على عنوان الفرد بما هو عنوان الفرد فالاستصحاب فيه وإن جرى إلاّ أنّه من قبيل استصحاب الكلّي فإنّ عنوان الفرد هو من قبيل عنوان الإنسان فكما انّ الاستصحاب في عنوان الإنسان استصحاب في الكلّي لا في الفرد المردّد كذلك الاستصحاب في عنوان الفرد دون أي فرق


البقاء على كلا التقديرين بل يكفي أن يكون الشكّ في البقاء ثابتا ولو على أحد التقديرين كما هو الحال في المقام فإنّ عنوان الفرد على تقدير كونه مرآة لخالد مشكوك البقاء وإن كان على تقدير كونه مرآة لزيد مقطوع الارتفاع إلاّ أنّ هذا غير مهمّ لأنّ الحكم الظاهري لا يتطلّب أكثر من وجود الشكّ ولو على أحد التقديرين.

وأمّا انّه لا يمكن جريانه على البيان الثاني ـ أي لو كان المستند في اعتبار الشكّ في البقاء هو الروايات ـ فلأنّ الروايات وإن لم تصرّح باعتبار عنوان الشكّ في البقاء إلاّ أنّ ذكر كلمة الشكّ بعد كلمة اليقين في قوله 7 : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يدلّ على أنّ الشكّ واليقين لا بدّ وأن يكون متعلّقهما واحدا ، فالشكّ يلزم أن يكون متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، ومن الواضح انّ عنوان الفرد لو كان مرآة لخالد فالشكّ واليقين وإن كانا متعلّقين بواحد حيث ان خالدا متيقن ونفسه مشكوك ولكنّه لو كان مرآة لزيد فلا يكون الشكّ واليقين متعلّقين بواحد فإنّ المفروض انّ زيدا على تقدير كونه هو الحادث ممّا يقطع بارتفاعه ولا يشك في ذلك. هذه هي حصيلة الثمرة بين البيانين.

المورد الثاني

والمورد الثاني الذي تظهر فيه الثمرة بين البيانين هي كما يلي : انّ زمان المشكوك تارة يكون متأخّرا عن زمان المتيقّن ومتصلا به (١) واخرى يكون من

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى إنّا لم نقل بأنّ زمان الشكّ قد يكون متأخّرا عن زمان اليقين بل قلنا انّ زمان المشكوك قد يكون متأخّرا عن زمان المتيقن. والمراد من المشكوك والمتيقن ما هو المتعلّق للشكّ واليقين ، وبين المطلبين فرق


المحتمل اتّحاده معه.

مثال الأوّل : ما هو المتداول في حالات الاستصحاب المتعارفة كما لو علم بنجاسة الثوب صباحا ثمّ شكّ عند المساء في بقاء النجاسة ، فإنّ زمان المشكوك ـ وهو المساء ـ متأخّر عن زمان المتيقّن ـ وهو الصباح ـ ومتّصل به.

ومثال الثاني : ما إذا كان الزمان الذي فيه المكلّف هو الساعة الثانية ، وعلم انّ ثوبه قد لاقى النجاسة امّا في الساعة الثانية التي هو فيها أو في الساعة الاولى ، ونفرض انّه كان يحتمل انّ النجاسة على تقدير إصابتها للثوب في الساعة الاولى قد زالت وطهر الثوب في الساعة الثانية بينما على تقدير حدوثها في الساعة الثانية فهي باقية ولم يطهر الثوب منها.

في هذه الحالة نرى انّ زمان المشكوك هو الساعة الثانية ، إذ في الساعة الثانية يشكّ في بقاء النجاسة ، كما وانّ المتيقّن ـ وهو النجاسة الحادثة امّا في الساعة الاولى أو الثانية ـ يحتمل حدوثه في الساعة الثانية أيضا. فالساعة الثانية إذن هي زمان المشكوك وهي ممّا يحتمل أن تكون زمانا للمتيقّن حيث انّ النجاسة المتيقّنة يحتمل حدوثها في الساعة الثانية.

وفي مثل هذه الفرضية لا يكون الشكّ في البقاء ـ الذي هو الركن الثاني في الاستصحاب ـ محرزا ، فإنّ الشكّ في البقاء يصدق فيما لو كان زمان المتيقّن الساعة الاولى ، أي فيما لو كانت النجاسة المعلومة بالإجمال قد حدثت في الساعة الاولى ، وأمّا إذا كان زمان المتيقّن الساعة الثانية الذي هو زمان المشكوك أيضا على الفرض فلا يصدق الشكّ في البقاء. وعليه فصدق الشكّ في البقاء وإن كان محتملا ولكنّه ليس محرزا على سبيل الجزم.


وفي هذا المثال وما يضاهيه تظهر الثمرة بين البيانين فإنّه على البيان الثاني الذي يلاحظ فيه لسان الروايات يمكن الإشكال في جريان الاستصحاب باعتبار عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء ، وأمّا على البيان الأوّل فليس تامّا لأنّ البيان الأوّل كان يقول انّ الاستصحاب حكم ظاهري يعتبر في موضوعه الشك ، ومن الواضح انّ الحكم الظاهري يكفي لإشباع حاجته وجود أصل الشكّ ولا يتوقّف على أن يكون الشكّ شكّا في البقاء بل يكفي أن يكون الشكّ في البقاء صادقا ولو على تقدير دون تقدير آخر ، وهذا في المقام صادق فإنّ عنوان الشكّ في البقاء صادق على تقدير حدوث النجاسة المتيقّنة في الساعة الاولى وإن لم يكن صادقا على تقدير حدوثها في الساعة الثانية.

ثمّ يضيف السيد الشهيد بعد ذلك قائلا : انّه يمكن أن يقال بصحّة جريان الاستصحاب حتّى على تقدير الأخذ بالبيان الثاني الناظر إلى لسان الروايات ، فإنّ الروايات لم تعبّر بالشكّ في البقاء حتّى يقال بعدم جريان الاستصحاب وإنّما ذكرت كلمة « الشكّ » بعد كلمة « اليقين » حيث قالت : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، وهذا أقصى ما يستفاد منه انّ متعلّق الشكّ لا بدّ وأن لا يتغاير مع متعلّق اليقين ـ فإذا كان اليقين متعلّقا بعدالة زيد صباحا فلا بدّ وأن يكون الشكّ مساء متعلّقا بعدالة زيد أيضا ولا يكفي تعلّق الشكّ بعدالة خالد (١) ـ سواء صدق عنوان الشكّ في البقاء أو لا ، فإنّ ذلك غير مهم ، ومن الواضح انّ متعلّق اليقين والشكّ في مقامنا واحد ، فإنّ الشكّ في الساعة الثانية متعلّق بنجاسة الثوب ، واليقين أيضا

__________________

(١) هذا هو المقصود من وحدة متعلّق اليقين والشكّ وليس المقصود تعلّق الشكّ بنفس حدوث المتيقّن حتّى يقال بأنّ ذلك مورد قاعدة اليقين


متعلّق بنجاسة الثوب.

وإذا كان الاستصحاب جاريا حتّى على تقدير الأخذ بلسان الروايات فهذا معناه بطلان الثمرة الثانية وانّ الصحيح هو الثمرة الاولى فقط.

ثمّ إنّ الإشكال في جريان الاستصحاب في المثال السابق إذا لم يندفع بالنكتة المتقدّمة ـ وهي انّ الروايات لم تعبّر بالشكّ في البقاء بل أقصى ما يستفاد منها اعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ ـ وبقي مستحكما لزم في موارد توارد الحالتين المتضادّتين أن لا يجري الاستصحاب في كل طرف حتّى مع فرض عدم معارضته بالاستصحاب في الطرف الآخر ، والحال انّ المعروف بين الأعلام انّ الاستصحاب في كل طرف قابل للجريان لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الطرف الآخر.

ولاستيضاح ذلك لا بدّ من التعرّف أوّلا على المقصود من موارد توارد الحالتين ثمّ التعرّف على وجه عدم قابلية كل طرف لجريان الاستصحاب فيه حتّى بقطع النظر عن المعارضة.

أمّا توارد الحالتين فالمقصود منه ما إذا كان لدينا موضوع واحد علمنا بطرو حالتين متضادّتين عليه ولم نعلم المتقدّم منهما والمتأخّر ، كما لو فرض انّ المكلّف في الساعة الثانية علم إجمالا بأنّه قد صدر منه الحدث والوضوء جزما ، ولكنّه لا يدري هل صدر منه الحدث أوّلا حتّى يكون على وضوء في الساعة الثانية أو صدر منه الوضوء أوّلا حتّى يكون على حدث في الساعة الثانية.

والمعروف بين الأصحاب في هذه الحالة انّ استصحاب الوضوء في نفسه قابل للجريان لو لا معارضته باستصحاب الحدث ، وهكذا استصحاب الحدث في


نفسه قابل للجريان لو لا معارضته باستصحاب الوضوء. بينما لو كان صدق عنوان الشكّ في البقاء معتبرا في جريان الاستصحاب ولم يكف اتحاد متعلّق الشكّ واليقين فاللازم أن لا يجري الاستصحاب في الحدث حتّى لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الوضوء وهكذا يلزم أن لا يجري الاستصحاب في الوضوء حتّى لو لم يكن معارضا بالاستصحاب في الحدث.

والوجه في ذلك : انّ المكلّف يشكّ في الساعة الثانية في صدور الحدث منه فزمان الحدث المشكوك هو الساعة الثانية ، وحيث انّه يحتمل كون الحدث المعلوم بالإجمال قد حصل في الساعة الثانية فهذا معناه انّه يحتمل اتّحاد زمان المتيقّن مع زمان المشكوك ، ولازمه عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء وبالتالي يلزم عدم جريان الاستصحاب في الحدث حتّى بقطع النظر عن استصحاب الوضوء.

وهكذا الكلام نفسه يأتي في استصحاب الوضوء ، أي يلزم عدم جريانه في نفسه حتّى بقطع النظر عن المعارضة لأنّ زمان الوضوء المشكوك هو الساعة الثانية ، وحيث انّ من المحتمل وقوع الوضوء المتيقّن في الساعة الثانية يلزم عدم إحراز صدق عنوان الشكّ في البقاء.

ولعلّ ما ورد في بعض تعابير صاحب الكفاية من تعليل عدم جريان الاستصحاب في بعض الموارد بعدم إحراز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين (١) يراد به هذا المعنى ، أي أنّ زمان المشكوك لمّا كان هو الساعة الثانية وزمان المتيقّن

__________________

(١) يأتي نقل هذا التعبير عند البحث عن جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ص ٣١٣ من الحلقة وينقل السيد الشهيد لذلك تفسيرين ليس هذا واحدا منهما


حيث انّه يحتمل أن يكون الساعة الثانية أيضا فلا يحرز صدق عنوان الشكّ في البقاء ، أي لا يحرز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

صياغة جديدة للركن الثاني

ثمّ انّ الصيغة السابقة للركن الثاني كانت تعبّر بالشكّ في البقاء كما تقدّم.

وقد يصاغ الركن المذكور بصياغة اخرى فيقال : يعتبر في الاستصحاب إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ فيما لو اريد رفع اليد عن اليقين السابق فلو لم يحرز ذلك لم يجر الاستصحاب.

أمّا مثال الحالة التي يحرز فيها صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ فواضح حيث انّ ذلك هو الحالة المتعارفة فالثوب إذا كنّا نحرز طهارته صباحا ثمّ شككنا مساء في بقائها فلو لم نرتّب آثار بقائها كان ذلك نقضا لليقين السابق بالشكّ.

وأمّا مثال الحالة التي لا يحرز فيها ذلك فكما لو فرضنا انّ لدينا ثوبين غسلناهما صباحا وتيقّنّا بطهارة كل واحد منهما تفصيلا ، وفي المساء حصل لنا علم إجمالي بأنّ نجاسة قد أصابت ـ أي في المساء ـ أحد الثوبين. فلو أخذنا بالصياغة السابقة وأخذنا عنوان الشكّ في البقاء بعين الاعتبار كان كل واحد من الثوبين قابلا لجريان الاستصحاب لو لا المعارضة إذ كل واحد من الثوبين معلوم الطهارة صباحا ويشك في بقائها مساء.

وأمّا إذا أخذنا بالصياغة الجديدة فلا يقبل الثوبان لجريان الاستصحاب حتّى بقطع النظر عن المعارضة إذ الثوب رقم (١) مثلا حينما نلاحظه نجد الشكّ فيه وإن كان ثابتا ولكنّه في نفس الوقت نحتمل أنّه هو ذاك الثوب الذي علم إجمالا


بطروّ النجاسة عليه ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا نحرز انّ رفع اليد عن الطهارة السابقة هو من باب نقض اليقين بالشكّ بل يحتمل أن يكون من باب نقض اليقين باليقين.

ويمكن أن نورد على هذا بإيرادين : ـ

أ ـ انّ ما ذكر مبني على تعلّق العلم الإجمالي بالواقع لا بالجامع وهو مرفوض.

وتوضيح ذلك : انّه لو قلنا بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع كما ذهب إلى ذلك الشيخ العراقي ـ وقد مرّ ذلك ص ٧٩ من هذه الحلقة ـ فما ذكر تام ، حيث انّ النجاسة المعلوم طروها بالإجمال إن كانت طارئة واقعا على الثوب رقم (١) فيلزم أن يكون العلم الإجمالي متعلقا بنجاسة الثوب المذكور ، ومعه فلا يكون رفع اليد عن اليقين السابق بالطهارة نقضا له بالشكّ بل باليقين بالنجاسة. ولكنا نرفض هذا المسلك ونقول ان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع ، أي بعنوان أحد الثوبين ، فاذا كانت النجاسة واقعا طارئة على الثوب رقم (١) فلا يكون العلم الإجمالي متعلقا به حتى يلزم عدم صدق نقض اليقين بالشكّ بل هو متعلق بنجاسة أحد الإنائين ، فاليقين بالطهارة متعلق بالإناء رقم (١) بينما اليقين الاجمالي بالنجاسة لم يتعلق به بل بأحد الإنائين.

ب ـ إنا لو سلمنا تعلق العلم الإجمالي بالواقع فمع ذلك لا يتم ما ذكر ، اذ حينما يقال بتعلق العلم الإجمالي بالواقع فليس المقصود إنّه يتعلق بالواقع بلا أن يشوبه شكّ ، كلا إنّ هذا غير مقصود وإلاّ يلزم عدم الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي.


واذا كان العلم المتعلق بالواقع يعيش الى جانبه الشكّ فالاستصحاب في كل واحد من الثوبين يكون قابلا للجريان لو لا المعارضة ، اذ كل طرف مادام يحتوي على الشكّ فلو لم يؤخذ باليقين السابق صدق نقض اليقين في المورد الذي يكون بقاء المتيقن فيه مشكوكا.

إن قلت : ان كل طرف اذا كان يحتوي على العلم والشكّ معا فاللازم عدم جريان الاستصحاب لأنا حينما نرفع اليد عن اليقين السابق بالطهارة فلا نرفعها بسبب الشكّ بل بسبب اليقين بالنجاسة فإنّ العاقل لا يقدم على نقض يقينه السابق بالشكّ ما دام يوجد الى جانبه ـ الشكّ ـ اليقين بل يرفع اليد عن اليقين السابق باليقين اللاحق.

قلت : إنّ هذا الكلام صحيح لو حملنا الباء في قوله 7 « بالشكّ » على السببية ، أمّا لو حملناها على الباء بمعنى المورد والمحل فلا يتم ، حيث يصير المعنى لا تنقض اليقين في المورد الذي يوجد فيه شكّ ، وحيث إنّ في كل واحد من الثوبين شكا فيشملهما حديث لا تنقض ويكون الاستصحاب فيهما قابلا للجريان لو لا المعارضة.

وقد تقول : ما هو الدليل على أنّ الباء موردية وليست سببية.

والجواب : انّ الباء لو كانت سببية فلازم ذلك أن يكون المنهي عنه حصة خاصة من النقض ، وهي نقض اليقين بسبب الشكّ ، وأمّا نقض اليقين بسبب آخر كالاستخارة أو القرعة فلا (١) ، وهذا ممّا لا يمكن الإلتزام به فإنّ اليقين السابق

__________________

(١) يمكن أن يقال ان النقض بالاستخارة أو القرعة نقض بسبب الشكّ أيضا لأنّ الاستخارة والقرعة لا يفيدان إلاّ الشكّ


لا يجوز رفع اليد عنه حتى بالاستخارة والقرعة ما دام لم يحصل يقين طارىء معارض له.

قوله ص ٢٤٧ س ٦ : ولكن سيظهر إلخ : وذلك بعد سطرين بقوله : وتتفرع على ركنية الشكّ إلخ.

قوله ص ٢٤٧ س ٦ : آثار إضافية : ذكر منها 1 أثرين أشار الى الأوّل تحت عنوان القضية الاولى والى الثاني تحت عنوان القضية الثانية.

قوله ص ٢٤٧ س ٧ : فانتظر : الاولى حذف كلمة « فانتظر » لأنها تدل على المدى البعيد والحال انّه سيذكر ذلك في السطر الآتي بقوله : وتتفرع على ركنية إلخ.

قوله ص ٢٤٧ س ٨ : وتتفرع على ركنيه إلخ : هذا إشارة الى الثمرة العملية بين البيانين. والقضيتان هما نفس ما عبرنا عنه سابقا بالموردين.

قوله ص ٢٤٧ س ١١ : جامع الإنسان : أي كلي الإنسان.

قوله ص ٢٤٨ س ١ : كما تقدم في الحلقة السابقة : ويأتي في هذه الحلقة ص ٢٩٥.

قوله ص ٢٤٨ س ٣ : بما هي أفراد : أي لا بما هي إنسان مثلا وإلاّ كان ذلك من استصحاب كلي الإنسان.

قوله ص ٢٤٨ س ٨ : لأننا حينما نلحظ الأفراد إلخ : في التعبير المذكور تأمل والمناسب : لأننا حينما نلحظ الفرد المردد بما هو مرآة للأفراد بعناوينها التفصيلية.

قوله ص ٢٤٨ س ٩ : على كل تقدير : بل على تقدير دون آخر.

قوله ص ٢٤٨ س ١٠ : وإذا لا حظناها بعنوان إجمالي : التعبير المناسب هكذا :

وإذا لا حظناه ـ عنوان الفرد المردد ـ لا بما هو مرآة بل نقصر النظر على الفرد أو


الإنسان الذي دخل المسجد واقعا.

قوله ص ٢٤٨ س ١١ : فالشكّ في البقاء ثابت : أي ولكن الركن الرابع ـ وهو ترتب الأثر العملي ـ غير متوفر.

وكان من المناسب ذكر هذه التكلمة هنا بدل ذكرها بعد أربعه أسطر ليستغنى عن ذكر الأسطر الستة الآتية.

قوله ص ٢٤٨ س ١٢ : فإن اريد باستصحاب الفرد المردد إلخ : هذه العبارة الى نهاية الصفحة تكرار واضح وكان بالإمكان الإستغناء عنها بالطريقة التي أشرنا إليها في التعليق السابق.

قوله ص ٢٤٩ س ١ : ومن هنا نعرف إلخ : هذا شروع في بيان الثمرة بين البيانين.

قوله ص ٢٤٩ س ٤ : مع احتمال قطعنا بخروجه : أوضح من هذا التعبير أن يقال : مع احتمال بقائه على أحد التقديرين.

قوله ص ٢٤٩ س ١١ : وطهر : أي واحتمل أنّه طهر. ولا يلزم فرض القطع بالتطهير بل لعل ذلك مخل ، اذ مع فرض القطع بالتطهير يكون عدم صدق عنوان الشكّ في البقاء مجزوما به لا محتملا كما فرض ذلك 1 بعد أسطر.

قوله ص ٢٤٩ س ١٢ : أساسا : أي حدوثا.

قوله ص ٢٥٠ س ٢ : وما قبله : كان من المناسب الإشارة بعد هذه العبارة الى الثمرة بين البيانين كما صنع ذلك في القضية الاولى.

قوله ص ٢٥٠ س ٨ : لا من أجل التعارض : هذا بيان لقوله « في نفسه ».


الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني

قوله ص ٢٥٢ س ٦ : وقد يقال إنّ الركن الثاني إلخ : عرفنا سابقا إنّ الركن الثاني للاستصحاب هو الشكّ في البقاء أو ما يقرب من ذلك من صياغات اخرى.

وهنا نقول انّ هذا الركن بجميع صيغه قد يسبب الإشكال في إمكان جريان الاستصحاب في باب الشبهات الحكمية.

ومثال ذلك : المرآة الحائض فان الدم ما دام لم ينقطع عنها أيام العادة يحرم على زوجها الإتصال الجنسي بها فإذا انقطع ولم تغتسل بعد فهل يجوز لزوجها الإتصال بها أو لا؟ إنّ هذه شبهة حكمية حيث انّ المشكوك هو الحكم الشرعي الكلي.

والمعروف صحة جريان الاستصحاب في الشبهة المذكورة (١) فيقال إنّ الحرمة كانت ثابتة سابقا عند نزول الدم فإذا شكّ في إنقطاعها عند انتهاء الدم جرى استصحابها. والإشكال يقول ان لازم الركن الثاني السابق عدم جريان

__________________

(١) وخالف في ذلك الشيخ النراقي 1 والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) حيث ذهبا الى عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما يأتي ذلك فيما بعد انشاء الله تعالى.

ثم إنّه يمكن التمثيل أيضا للشبهة الحكمية بمثال الماء المتغير فإنّ ماء الكر اذا تغير بالنجاسة فلا إشكال في تنجسه ، وأمّا إذا زال تغيره من قبل نفسه بدون إلقاء كر عليه ففي ثبوت الطهارة له وزوال النجاسة عنه كلام وإشكال. وقد قيل ببقائه على النجاسة تمسكا باستصحاب نجاسته السابقة. وهذا استصحاب في شبهة حكمية


الإستصحاب المذكور حيث انّه ـ الركن الثاني ـ يعتبر الشك في البقاء ، وفي الشبهات الحكمية لا يوجد شكّ في البقاء إذ المجال لثبوت الحكم الشرعي ليس هو إلاّ عالم الجعل والتشريع ، فحرمة الاتّصال الجنسي لا وجود لها إلاّ في عالم الجعل والتشريع ، وإذا رجعنا الى هذا العالم نجد انّ الأحكام الثابتة فيه ثابتة في آن واحد بلا تقدم لبعضها وتأخر للآخر ، ففي ذلك العالم ثبت في آن واحد حرمة الإتصال إن كان الدم ينزل والحرمة لو إنقطع الدم قبل الإغتسال والجواز بعد حصول الإغتسال ، إنّ هذا الأحكام شرعها الله سبحانه في آن واحد لا انّه شرع الحرمة الاولى وبقي تشريع الحرمة الثانية ينتظر انقطاع الدم وتشريع الجواز منتظرا حصول الاغتسال.

واذا كان تشريع هذه الأحكام الثلاثة قد حصل في وقت واحد فلا يمكن صدق الشكّ في بقاء الحرمة ، إنّ الحرمة الاولى لم تشرع أوّلا ليكون الشكّ في ثبوت الحرمة بعد إنقطاع الدم شكا في بقاء تلك الحرمة. وعليه فالشكّ في الحرمة الاولى ليس شكا في البقاء بل هو شكّ في أصل الحدوث فلا يجري الاستصحاب فيها ، فإنّ جريان الاستصحاب يحتاج الى يقين سابق وشكّ في البقاء ، وكلا هذين غير ثابت. أمّا الأوّل فلأنّ الحرمة المتيقنة هي الحرمة الاولى دون الحرمة الثانية. وأمّا الثاني فلان الحرمة الثانية لا يوجد شكّ في بقائها بل يشكّ في أصل حدوثها.

والجواب عن هذه الشبهة : إنّ موطن ثبوت الحكم لا ينحصر في عالم الجعل ليقال بعدم تحقق الشكّ في البقاء في هذا العالم بل له موطن ثان وهو عالم المجعول والفعلية ، أي عالم الخارج ، فإنّه في الخارج تتصف المرأة الحائض بالحرمة أيضا


فيشار الى المرأة خارجا ويقال هذه يحرم الإتصال الجنسي بها. ومثل هذه الحرمة الثابتة في عالم الخارج لها حدوث واستمرار وتقبل ذلك ـ لا كالحرمة في عالم الجعل ـ فيقال إنّ هذه المرأة كانت متصفة حين نزول الدم منها بالحرمة فإذا شكّ الآن في بقاء الحرمة لها جرى استصحابها.

وإن شئت قلت : إنّ الإشكال السابق يبتني على حصر موطن ثبوت الحرمة في عالم الجعل ، وهذا مطلب غير صحيح ـ فإنّ الحرمة لو انحصر موطنها في عالم الجعل لزم عدم ثبوت الحرمة للمرأة في عالم الخارج وكان من الجائز الإتصال الجنسي بها حالة نزول الدم لأنّ الحرمة مختصة بعالم الجعل وليست ثابتة في غيره ـ فإنّ الحرمة تثبت للموضوع الخارجي وتقبل الإتصاف بالحدوث والبقاء ويجري الاستصحاب بلحاظ هذا العالم وإن لم يمكن جريانه بلحاظ عالم الجعل.

قوله ص ٢٥٢ س ٦ : ان الركن الثاني : مهما كانت صيغته.

قوله ص ٢٥٢ س ٨ : بعد زوال التغير : أي من قبل نفسه.

قوله ص ٢٥٢ س ١٠ : فكل المجعول : ليس المقصود من المجعول هنا الحكم الفعلي بل الحكم الذي جعله الله سبحانه وشرّعه.

قوله ص ٢٥٣ س ١ : فإن حصص المجعول فيه : أي الحكم الذي جعل في عالم الجعل.

قوله ص ٢٥٣ س ٢ : عالم المجعول : المراد من عالم المجعول هنا عالم الحكم الفعلي.



الركن الثالث أو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة

قوله ص ٢٥٣ س ٧ : وهذا هو الركن الثالث : والركن الثالث من أركان الاستصحاب على ما تقدمت الإشارة له هو اتّحاد المشكوك مع المتيقن.

والوجه في ركنيته : انّه بدونه لا يصدق الركن الثاني ، فبدون إتّحاد المشكوك والمتيقن لا يصدق الشكّ في البقاء ، فاذا كنّا على يقين من عدالة زيد صباحا وحصل الشكّ في عدالة خالد مساء لم يكن الشكّ المذكور شكا في بقاء العدالة السابقة بل شكّ في عدالة اخرى.

ومن خلال هذا يتضح انّ هذا الركن الثالث ليس ركنا مستقلا في مقابل الركن الثاني بل هو أمر متفرع عليه ولا يستحق الذكر مستقلا تحت عنوان الركن الثالث.

ثم إنّ هذا الركن له صياغتان : صياغة للشيخ الآخوند ـ وهي اتحاد المشكوك والمتيقن ، وبكلمة اخرى وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة (١) ـ وصياغة للشيخ الأنصاري ، وهي إحراز بقاء الموضوع.

وقد واجه هذا الركن بصيغته الثانية إشكالا في الشبهات الموضوعية وبكلتا صيغتيه إشكالا في الشبهات الحكمية.

__________________

(١) وهذه الصياغة هي التي ذكرها السيد الشهيد في العنوان حيث كتب في العنوان « وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة »


الإشكال في الشبهات الموضوعية

ذكر الشيخ الأعظم 1 في كتابه الرسائل الصياغة التالية للركن الثالث : يشترط في الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع اذ بدون إحراز بقائه لا يكون الشكّ شكا في البقاء. وعلى هذا فلو كان عندنا خشب متنجس وتبدل بالاحتراق الى الرماد وشكّ في بقاء نجاسته لم يجر استصحابها لأنّ موضوع النجاسة وهو الخشب إن لم ينعدم جزما عند صيرورته رمادا فلا أقل من احتمال ذلك.

والركن الثالث بهذه الصياغة يلزم منه عدم جريان الاستصحاب في بعض الموارد نذكر منها اثنين : ـ

أ ـ اذا كان عندنا شيء موجود ثم شكّ في بقائه على الوجود فلا إشكال في صحة جريان استصحاب وجوده ، مع أنّ لازم الركن الثالث عدم جريانه لأنّ المستصحب هو الوجود ، وموضوعه هو الماهية ، ولازم الشكّ في بقاء الوجود الشكّ في بقاء الماهية لأنّ الماهية لا تتحقق إلاّ بالوجود فعند الشكّ في بقائه يشك في بقاء الماهية فيلزم عدم إحراز بقاء الموضوع فلا يجري الاستصحاب.

ب ـ إذا كان زيد عادلا في الزمان السابق ثم شكّ في بقاء عدالته فتارة يحرز بقائه على قيد الحياة ويشكّ في بقاء عدالته ، وفي هذه الحالة لا إشكال في صحة جريان استصحاب العدالة لأنّ الموضوع وهو حياة زيد محرز التحقق ، واخرى يفرض الشكّ في بقائه على قيد الحياة فيلزم عدم جريان استصحاب العدالة لعدم إحراز تحقق موضوعها وهو الحياة (١).

__________________

(١) أجل يمكن استصحاب الحياة أوّلا ليحرز بذلك الموضوع ثم يجرى استصحاب العدالة ـ


والإشكال في الموردين المذكورين نشأ من صياغة الركن الثالث المقترحة من قبل الشيخ الأعظم حيث عبّر بأنّه يلزم في جريان الاستصحاب احراز بقاء الموضوع ، وفي هذين الموردين حيث لا يحرز بقاء الموضوع فيرد الإشكال. وحيث انّه لا وجه صحيح لهذه الصياغة ـ اذ الأخبار عبّرت بلا تنقض اليقين بالشكّ ، وهذا لا يستفاد منه الصياغة المذكورة بل أقصى ما يستفاد منه أنّ المشكوك لا بدّ من اتحاده مع المتيقن بقرينه ذكر الشكّ بعد اليقين ، والتعبير بالنقض اذ بدون ذلك لا يصدق النقض ـ عدل الشيخ الآخوند الى صياغة اخرى للركن الثالث ، وهي أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد المشكوك مع المتيقن.

وبناء على هذه الصياغة لا مانع من جريان الاستصحاب في الموردين السابقين ، ففي المورد الأوّل حيث انّ متعلق الشكّ هو وجود الماهية ومتعلق اليقين هو وجود الماهية أيضا فاستصحاب الوجود يجري وإن كان موضوعه وهو الماهية غير محرز البقاء. وهكذا في المورد الثاني لا مانع من جريان الاستصحاب إذ متعلّق الشكّ هو عدالة زيد ومتعلق اليقين هو عدالة زيد أيضا فيجري استصحاب بقائها وإن كان موضوعها وهو حياة زيد ليس محرزا.

والخلاصة إنّ ما ذكره الشيخ الأعظم من افتراض أنّ المستصحب عرض كالعدالة مثلا ـ حيث إنها هي المستصحب في المورد الثاني وهي عرض ـ وافتراض موضوع لها ، وهو حياة زيد ، وافتراض لزوم إحراز بقاء الموضوع لا مبرر له.

__________________

ـ بعد ذلك.

وقد صرح بذلك الشيخ الأعظم نفسه في الرسائل ص ٤٠٠ س ١٣ طبع رحمة الله


قوله ص ٢٥٣ س ١٤ : وواجه في كلا المجالين إلخ : ولكن الإشكال في الشبهة الموضوعية لم ينشأ من صياغة الركن الثالث بالشكل المذكور في العنوان ، أي « وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة » وإنّما نشأ من الصياغة الاخرى المقترحة من قبل الشيخ الأعظم ، فكان من المناسب الإشارة الى أنّه واجه الإشكال في الشبهات الموضوعية على صياغة الشيخ الأعظم وواجهه بكلتا صيغتيه في الشبهات الحكمية.

قوله ص ٢٥٤ س ١٢ : من الصفات الثانوية : كالعدالة فإنّها صفة ثانية متأخرة عن الوجود.

الإشكال في الشبهات الحكمية

قوله ص ٢٥٥ س ٩ : وعند تطبيق هذا الركن إلخ : ذكرنا انّه بناء على الركن الثالث بكلتا صيغتيه يرد الإشكال على الاستصحاب في الشبهات الحكمية. ولنذكر أولا مثالا للاستصحاب في الشبهات الحكمية ثم نوضح كيفية ورود الإشكال عليه.

مثال ذلك : الماء المتغير بالنجاسة ، فإنّه نجس بلا إشكال ولكن اذا زال تغيره من قبل نفسه يحصل الشكّ في بقاء نجاسته. والمعروف التمسك لإثبات بقاء نجاسته بالاستصحاب فيقال انه كان نجسا حالة التغير فاذا شكّ في زوالها استصحب.

وهذا الاستصحاب يمكن الإشكال عليه بناء على صياغة الشيخ الآخوند للركن الثالث ـ وهي اشتراط اتحاد المشكوك والمتيقن ـ بأنّ الشكّ في بقاء الحكم


السابق لا يمكن حصوله الاّ إذا إفترض زوال بعض الخصوصيات السابقة الثابتة حالة اليقين اذ مع بقاء الخصوصيات بكاملها لا يتصور الشكّ كي يجري الإستصحاب ، فخصوصية الماء وخصوصية التغير إذا كانتا باقيتين ولم تنعدم إحداهما كان بقاء النجاسة قطعيا ولا يمكن جريان الاستصحاب. ومع افتراض زوال بعض الخصوصيات ـ كما لو افترض زوال خصوصية التغير ـ فلا يكون المشكوك متحدا مع المتيقن اذ المتيقن هو نجاسة الماء المتغير بينما المشكوك هو نجاسة الماء غير المتغير.

أجل هناك صورة واحدة يمكن فيها افتراض بقاء الخصوصيات بكامل حذافيرها ورغم ذلك يحصل الشكّ في بقاء الحكم ، وهذا كما في حالة احتمال النسخ ، فإنّ خصوصية الماء وخصوصية التغير قد تكونان باقيتين ومع ذلك يحتمل ارتفاع النجاسة من جهة احتمال نسخ الحكم بالنجاسة ورفعه عن الماء المتغير في التشريع الإسلامي فيجري استصحاب بقاءه بلا اختلال للركن الثالث.

ولكن هذا لا يمكن افتراضه الاّ في زمان النبي 6 حكم ، إذ في زمانه يمكن احتمال النسخ ، وأمّا في زماننا الذي نعيش فيه وهو ما بعد زمان النبيّ 6 فحيث لا يحتمل فيه النسخ فلا يمكن تصور الشكّ في بقاء الحكم الاّ مع انتفاء بعض الخصوصيات (١).

__________________

(١) الخصوصية الزائلة على نحوين فتارة تكون مدخليتها في ثبوت الحكم سابقا متيقنة ـ كما في مثال الماء المتغير ، فإنّ خصوصية التغير لها مدخلية في ثبوت النجاسة ولولاها لم تثبت النجاسة سابقا ـ ويشكّ في مدخليتها بقاء ، واخرى تكون مدخليتها في ثبوت الحكم سابقا محتملة كما هو الحال في خصوصية الحضور زمن المعصوم 7 ، فإنّ المكلّف إذا كان يعيش زمن المعصوم ـ


هذا على صياغة الشيخ الآخوند للركن الثالث.

وأمّا على صياغة الشيخ الأنصاري ـ وهي أنّه لا بدّ من إحراز بقاء الموضوع ـ فوجه الإشكال انّ الموضوع ليس الاّ عبارة عن خصوصية الماء وخصوصية التغير ، اذ الموضوع ليس الاّ عبارة عن مجموع الخصوصيات التي يفترضها المولى عند تشريعه للحكم ، فالمولى عند جعله للحكم بالنجاسة يفترض الماء والتغير ويقول لو كان هناك ماء وكان متغيرا بالنجاسة فهو نجس. واذا فرضنا تركب الموضوع من خصوصية الماء وخصوصية التغير وافترضنا انتفاء خصوصية التغير ـ ليحصل الشكّ في البقاء ـ فلازم ذلك عدم إحراز بقاء الموضوع لاحتمال مدخلية خصوصية التغير في موضوع الحكم بالنجاسة.

هذا هو حصيلة الإشكال على كلتا الصياغتين للركن الثالث.

وقبل الجواب عنه نذكر مقدمة حاصلها : إنّ كل عرض من الأعراض يحتاج الى موضوع والى سبب. وهو ـ العرض ـ يتعدد بتعدد موضوعه ولا يتعدد بتعدد سببه. فمثلا الحرارة عرض من الأعراض ، وتحتاج الى موضوع كالماء أو الخشب ، وأمّا مع افتراض وحدة الموضوع فالحرارة واحدة وإن تعدد سببها ، فالماء الواحد إذا حدثت له الحرارة سابقا بسبب النار ثم بقت بسبب الشمس لم يكن ذلك سببا لتعددها بل هي واحدة وإن كانت ذات سببين.

وباتضاح هذه المقدمة نأخذ بعرض الجواب. وحاصله : إنّ النجاسة مثلا عرض تحتاج الى موضوع وهو الماء أو البول ، وتحتاج الى سبب كالتغير مثلا.

__________________

ـ فيتيقن بثبوت وجوب صلاة الجمعة عليه وإذا عاش زمن الغيبة شك في بقاء ذاك الوجوب عليه لاحتماله مدخلية خصوصية الحضور في ثبوت الوجوب سابقا


والشكّ في بقاء الحكم السابق وإن كان يحتاج الى افتراض زوال بعض الخصوصيات وإلاّ لم يحصل الشكّ غير أنّ الخصوصية إذا كانت من قبيل السبب ـ ويعبر عن السبب بالحيثية التعليلية ـ فزوالها لا يوجب تغير الحكم بل هو واحد ، غاية الأمر حصل التغير في سببه. وأمّا إذا كانت الخصوصية الزائلة خصوصية راجعة الى الموضوع ـ كما إذا تحول البول الى بخار فإنّ البولية خصوصية معتبرة في الموضوع فإذا زالت لم يمكن استصحاب الحكم بالنجاسة ، لأنّ الخصوصية الراجعة الى الموضوع ـ وتسمى بالحيثية التقييدية ـ إذا تبدلت أوجب ذلك تغير الحكم بالنجاسة وكانت النجاسة السابقة المتيقنة غير النجاسة المشكوكة فلا يجري الاستصحاب.

وخلاصة الجواب : إنّ افتراض زوال بعض الخصوصيات وإن كان أمرا لازما الاّ أنّ الخصوصية الزائلة متى ما كانت حيثية تعليلية لم يضر ذلك في وحدة الحكم ويصدق أنّ المتيقن عين المشكوك كما ويصدق أنّ الموضوع محرز البقاء ، ومتى كانت حيثية تقييدية لم يجر الاستصحاب.

وبعد ان عرفنا هذا نطرح السؤال التالي : متى نعرف انّ الخصوصية هي من قبيل الحيثية التعليلية للحكم كيما لا يضر زوالها بجريان الاستصحاب أو من قبيل الحيثية التقييدية ليمتنع جريان الاستصحاب؟

والجواب : قد يقال إنّ الميزان في ذلك ملاحظة لسان الدليل ، فإن كان يعبر : الماء نجس إنّ تغير فحيثية التغير حيثية تعليلية ، وإن كان يعبر : الماء المتغير نجس فحيثية التغير حيثية تقييدية ، فإن أخذ الحيثية في الحكم حق للشارع ، كما وإن اخذها بنحو التعليل أو بنحو التقييد حق له أيضا ، وما دام ذاك حقا له فلا بدّ


من مراجعة لسان الدليل للاطلاع على كيفية أخذ الخصوصية.

وهذا الكلام يمكن مناقشته بإنّ أصل أخذ الحيثية في مقام الجعل ، وهكذا اخذها بهذا النحو دون ذاك وإن كان حقا للشارع ـ حيث انّ المولى في مقام الجعل يستحضر مفهوم الماء ومفهوم التغير ومفهوم النجاسة ، ومن حقه جعل التغير علة فيقول الماء نجس ان تغير ، كما وإنّ من حقه أخذه بنحو التقييد فيقول الماء المتغير نجس ـ الاّ أنّ الدليل ناظر الى عالم الجعل فهو يشخّص جعل المولى وانّه بهذا النحو أو بذاك ولكن تقدم ص ٢٥٣ من الحلقة انّ الاستصحاب لا يجري بلحاظ عالم الجعل اذ بلحاظ هذا العالم لا يتصور اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وإنّما يجري بلحاظ عالم الفعلية والخارج ، ومعه فاللازم لتشخيص حال الخصوصية وانّها حيثية تعليلية أو تقييدية من ملاحظة هذا العالم ، فإن كانت الخصوصية في هذا العالم علة جرى الاستصحاب ، كما هو الحال فى خصوصية التغير فإنها علة لثبوت النجاسة وليست جزء من الموضوع ، إذ من الواضح انّ النجاسة لا تنصب خارجا على التغير بل على ذات الماء ، فإنّه لا يقال التغير نجس بل يقال الماء نجس وما دامت خصوصية التغير علة خارجا فالاستصحاب يجري حتى وان فرض أخذها في لسان الدليل بنحو الحيثية التقييدية.

وإن كانت الخصوصية قيدا في الموضوع لم يجر الاستصحاب حتى وإن فرض أخذها في لسان الدليل بنحو الحيثية التعليلية ، كما هو الحال في خصوصية الإجتهاد ، فإنّ الحكم بجواز التقليد ينصب على الإجتهاد ، فالمجتهد يجوز تقليده فإذا زال الإجتهاد عن الشخص وشكّ في بقاء الحكم بجواز تقليده لم يجر استصحابه حتى ولو فرض أنّ لسان الدليل اخذ خصوصية الإجتهاد بنحو العلة ،


كما لو قال قلد العادل ان كان مجتهدا.

ثم بعد أن عرفنا انّ الميزان في تشخيص حال الحيثية لا يرجع فيه الى لسان الدليل بل المدار على لحاظ عالم الفعلية والخارج سوف نواجه السؤال التالي : هل المدار في تشخيص الموضوع بلحاظ عالم الخارج على النظر العرفي المسامحي أو المدار على النظر الدقي ، فإنّ النظرين قد يختلفان أحيانا.

مثال ذلك : إذا كان عندنا ماء بقدر كر وأخذنا منه كفا من الماء وشككنا بعد ذلك في بقائه على الكرية (١) فلو كان المدار في تحديد الموضوع على النظر الدقي فلا يجري استصحاب بقائه على الكرية إذ المتصف بالكرية سابقا مغاير للماء الموجود بالفعل ، فإنّ الماء السابق هو الماء الذي لم يؤخذ منه مقدار كف بينما الماء الموجود هو الماء الذي اخذ منه مقدار كف.

__________________

(١) لا يخفى أنّ الشكّ في بقاء الماء على الكرية بعد أخذ مقدار كف منه مثلا تارة يكون بنحو الشبهة الموضوعية واخرى بنحو الشبهة الحكمية.

مثال الأوّل : أن نعرف انّ مقدار الكر مثلا يساوي ٢٧ شبرا ويفرض انّ لدينا ماء معينا لا نعرف انّه بمقدار ٢٧ بلا زيادة أو هو بمقدار ٢٧ مع الزيادة ، فعلى التقدير الأوّل يكون أخذ مقدار كف منه موجبا لزوال الكرية عنه بخلافه على الثاني ، ففي هذه الحالة لا يكون الشكّ في بقاء الكرية ناشئا من عدم المعرفة بالحكم الشرعي في تحديد الكر بل هو ناشئ من الشكّ في الموضوع خارجا وانه يزيد على ٢٧ أو لا.

ومثال الثاني : أن نعرف مقدار الماء خارجا وأنّه ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣ ، بيد أنّه نجهل تحديد الكر في التشريع الإسلامي وانّه ـ ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣* ٢ / ١ ٣ أو ـ ٣* ٣* ٣. في مثل هذه الحالة إذا أخذنا مقدارا قليلا من الماء فسوف نشكّ في بقاء الكرية لاحتمال أنّ الشارع حدّد الكر بالتحديد الأوّل فتكون منعدمة ولاحتمال أنّه حددّه بالتحديد الثاني فتكون باقية. إنّ هذا شكّ في بقاء الكرية بنحو الشبهة الحكمية


أمّا لو كان المدار على النظر العرفي فالاستصحاب يجري لأنّ العرف يرى أنّ ذاك الماء وهذا الماء شيء واحد ، غاية الأمر تغير بعض عوارضه ، كالإنسان حالة لبسه لثيابه وحالة نزعها فإنّه هو هو وليس هو غيره.

والخلاصة انّه بعد عدم كون المدار على ملاحظة لسان الدليل فهل المدار على النظر الدقي أو على النظر العرفي؟

والصحيح : إنّ المدار على ملاحظة النظر العرفي ، اذ دليل الاستصحاب وهو « لا تنقض اليقين بالشكّ » خطاب عرفي صدر من إنسان عرفي الى إنسان عرفي فالميزان ليس الاّ النظر العرفي.

قوله ص ٢٥٥ س ١٤ : أي النسخ بمعناه الحقيقي : مرّ في الحلقة الثانية ص ٣٠٠ انّ المعنى الحقيقي لنسخ الحكم هو أن يجعل الحكم في لسان دليله مستمرا في جميع الأزمنة ولا يحدد بفترة معينة ثم يأتي الدليل الناسخ ويرفعه ، ومثل هذا النسخ نسخ بالمعنى الحقيقي. ومثال ذلك التوجه الى بيت المقدس في الصلاة فإنّ دليله لم يحدد وجوب التوجه بفترة زمنية معينة فحينما نسخ كان ذلك نسخا بالمعنى الحقيقي. وأمّا إذا كان الحكم منذ البداية محددا بفترة زمنية معينة فبانتهاء تلك الفترة يرتفع الحكم. وهذا ليس نسخا بحسب الحقيقة وإنّما هو نسخ مجازا.

قوله ص ٢٥٥ س ١٥ : وأمّا حيث لا نحتمل النسخ : كما هو الحال في زماننا زمان الغيبة ، فإنّ النسخ يختص بزمان النبي 6.

قوله ص ٢٥٥ س ١٧ : حينئذ : أي حين عدم احتمال النسخ.

قوله ص ٢٥٥ س ١٧ : المأخوذة فيها : أي في القضية المتيّقنة.

قوله ص ٢٥٥ س ١٨ : وذلك بأحد نحوين : الإشارة إلى هذين النحوين


ليست مهمة.

قوله ص ٢٥٦ س ١١ : ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيّة إلخ : فإنّ خصوصية التغير التي فرض زوالها وإن كنّا نجزم بأخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل ولكنّا نحتمل أنّ أخذها كذلك هو بلحاظ مرحلة الحدوث فقط دون مرحلة البقاء ، ولإجل هذا الإحتمال يكون زوالها سببا للشكّ في بقاء الحكم.

قوله ص ٢٥٦ س ١٧ : والحيثيّات الفعلية : عطف تفسير على الأسباب.

قوله ص ٢٥٧ س ٣ : فإنّ لها معروض : الصواب : فإنّ لها معروضا.

قوله ص ٢٥٧ س ٧ : العلّة والشرط : المراد من العلّة والشرط هنا واحد.

قوله ص ٢٥٧ س ١٣ : من الموضوع أو من القضيّة المتيقّنة : التعبير بالموضوع ناظر الى صياغة الشيخ الأعظم ، والتعبير بالقضيّة المتيقّنة ناظر الى صياغة الشيخ الآخوند.

قوله ص ٢٥٨ س ١٦ : كما تقدم : أي ص ٢٥٣.

قوله ص ٢٥٩ س ٦ : ودليلا : عطف تفسير لـ « جعلا ».

قوله ص ٢٥٩ س ٨ : المفروض واقعا : أي خارجا.

قوله ص ٢٩٥ س ١٠ : في الشبهة الحكميّة : وأمّا الشكّ في بقاء الكرّيّة بنحو الشبهة الموضوعيّة فتأتي الإشارة له ص ٢٦٠ س ١ من الحلقة.

قوله ص ٢٥٩ س ١٠ : اعتصام الكر : المقصود من الاعتصام الكرّيّة ، فإنّ الكرّيّة ملازمة للاعتصام. وتفسير العبارة : إذا أردنا أن نستصحب كرية الكرّ بعد ...

والمقصود من الكرّ : الماء الخارجي الذي كان متّصفا سابقا بالكرّيّة.

قوله ص ٢٦٠ س ٤ : وصدقه كذلك : أي صدق النقض عرفا.



الركن الرابع أو الأثر العملي

قوله ص ٢٦٠ س ٧ : والركن الرابع من أركان الإستصحاب إلخ : هذا هو الركن الرابع والأخير من أركان الإستصحاب. ولكن ما هو المقصود من هذا الركن؟ إنّ في المقصود منه ثلاثة احتمالات ، أو بتعبير آخر : يمكن بيانه بأحدى صيغ ثلاث.

وسوف نبدأ بالصيغة الثالثة ثمّ الثانية باختصار ثمّ بالصيغة الاولى بالتفصيل ، ونعود بعد ذلك من جديد إلى الصيغة الثانية والثالثة ، فإنّ هذه الطريقة أقرب إلى استيعاب مباحث الكتاب.

الصيغة الثالثة

يشترط في صحّة جريان الاستصحاب كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي.

مثال الأوّل : استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة زمان الغيبة ، فإنّ المستصحب وهو وجوب الجمعة حكم شرعي.

مثال الثاني : استصحاب بقاء عدالة زيد ، فإنّ العدالة ليست حكما شرعيّا ، وإنّما هي موضوع لجواز الائتمام أو لقبول الشهادة أو ...

وهذه الصيغة هي الظاهرة من بعض تعابير صاحب الكفاية. وبناء عليها


يرد الإشكال في مثل استصحاب الطهارة ، فإنّ طهارة الثوب لا إشكال في إمكان جريان الإستصحاب فيها ، كيف لا والإمام الصادق 7 في صحيحة زرارة الثانية أجرى الإستصحاب فيها ، والحال ليست هي حكما شرعيّا كما هو واضح وليست موضوعا لحكم شرعي بل هي متعلّق للحكم الشرعي.

والفاق بين المتعلّق والموضوع على ما اشير إليه سابقا هو أنّ كل ما يلزم إيجاده أو تركه يسمّى بالمتعلّق ، وكل ما يثبت الحكم على فرض وجوده يسمّى بالموضوع ، فالموضوع في باب الصلاة مثلا هو البالغ العاقل ودخول الوقت والقدرة ، فإنّ الحكم بوجوب صلاة الظهر يتوجّه لو فرض وجود بالغ عاقل قادر قد دخل عليه الوقت ، بينما طهارة الثوب وأخواتها من ركوع وسجود وتشهّد و ... هي متعلّق ، فإنّ طهارة الثوب يجب تحصيلها لا أنّ وجوب الصلاة يثبت لو فرض حصول طهارة الثوب إتّفاقا. وما دامت طهارة الثوب متعلّقا للتكليف وليست موضوعا فكيف يجري الإستصحاب فيها. إنّ هذا إشكال يتوجّه على الصيغة الثالثة.

الصيغة الثانية

إنّ شرط جريان الإستصحاب أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو التعذير ، فكلّما كان الإستصحاب قابلا لتنجيز المستصحب أو للتعذير عنه جرى وإن لم يكن ـ المستصحب ـ حكما ولا موضوعا لحكم شرعي.

وعلى ضوء هذه الصيغة يمكن جريان الإستصحاب في الحكم الشرعي وفي موضوعه وفي متعلّقه ، بل وفي عدم الحكم الشرعي أيضا ، فإنّ جميع هذه


الأربعة ما دام قابلا للتنجّز أو للتعذير فالإستصحاب يجري فيها.

مثال الأوّل : استصحاب بقاء وجوب الجمعة ، فإنّ وجوب الجمعة حكم شرعي وباستصحابه يصير منجّزا ، أي يستحق المكلّف العقاب على عدم امتثاله لو كان ثابتا واقعا.

مثال الثاني : استصحاب عدالة زيد ، فإنّ العدالة موضوع للائتمام ، فلو استصحبها المكلّف وصلّى خلف زيد وكان فى الواقع فاسقا فهو معذور ولا يستحق العقوبة على الصلاة خلفه.

مثال الثالث : استصحاب طهارة الثوب ، فإنّ طهارة الثوب متعلّق ، فلو استصحبها المكلّف وصلّى في الثوب وكان في الواقع نجسا فهو معذور.

مثال الرابع : استصحاب عدم حرمة التدخين ، فإنّ عدم الحرمة ليست حكما ، بل هي عدم حكم شرعي ، فإذا شكّ المكلّف في حرمة التدخين عليه أمكنه استصحاب عدم الحرمة الثابت حالة الصغر ، فلو دخّن وكان التدخين في الواقع محرّما فهو معذور.

الصيغة الاولى

وهذه الصيغة أوسع الصيغ فهي لا تعتبر في المستصحب أن يكون حكما أو موضوعا ـ كما على الصيغة الثالثة ـ كما ولا تعتبر أن يكون قابلا للتنجيز والتعذير ـ كما على الصيغة الثانية ـ وإنّما تعتبر ترتب الأثر الشرعي ولو بعد جريان الاستصحاب ، فلو فرض أنّ الاستصحاب لم يكن استصحابا لحكم شرعي ولا لموضوع حكم ، وهكذا لم يكن قابلا للتنجيز والتعذير بل كان يترتّب عليه الأثر


الشرعي بعد جريانه كفى ذلك في صحّة جريانه.

ولكن كيف نتصوّر مثل هذه الحالة؟ أي كيف نتصوّر استصحابا لا ينجّز ولا يعذّر ولكنه ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي!!!

إنّ مثل هذا يمكن تصوّره فيما لو كان لدينا موضوع خارجي معيّن لا يترتّب عليه أي حكم شرعي ولكن كان القطع به ممّا يترتّب عليه حكم شرعي ، كما في نزول ماء المطر ، فإنّه لا يترتّب عليه حكم شرعي ، بيد أنّ الشارع لو قال أنّ قطعت بنزول المطر يوم السبت وجب عليك التصدّق (١).

في مثل هذه الحالة لو فرض أنّ المكلّف لم يحصل له قطع يوم السبت بنزول المطر ـ كما لو فرض أنّه كان في غرفة لا يستطيع النظر إلى الخارج ليقطع بنزول المطر ـ ولكنّه كان على يقين من نزول المطر يوم الجمعة فيستصحب نزول المطر الثابت يوم الجمعة.

وهل بعد جريان الاستصحاب المذكور يثبت وجوب التصدّق؟

إنّ الجواب عن هذا يرتبط بالتعرّف على المجعول في باب الاستصحاب ، فإنّ قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة والعلميّة (٢) ـ بمعنى أنّ من

__________________

(١) القطع في هذا المثال يسمّى بالقطع الموضوعي لأنّه اخذ موضوعا لوجوب التصدّق فلم يترتّب وجوب التصدّق على ذات نزول المطر ليكون القطع طريقيا بل على القطع بنزوله

(٢) كما هو الحال على رأي السيّد الخوئي الذي مرّت الإشارة له ص ١٧ من هذه الحلقة حيث كان يرى أنّ الاستصحاب أمارة من الأمارات كخبر الثقة باعتبار أنّ المجعول في كليهما هو الطريقيّة والعلميّة.

أمّا كيف نستفيد من روايات لا تنقض اليقين بالشكّ أنّ المجعول في الاستصحاب هو العلميّة فهذا ما سيأتي توضيحه عند مناقشة الصيغة الثانية


استصحب نزول المطر يصير عالما ومتيقّنا بنزول المطر ، غاية الأمر هو متيقّن تعبّدا واعتبارا لا حقيقة ـ فالتصدّق واجب بعد جريان الاستصحاب ، إذ بعد جريانه وصيرورة المكلّف عالما تعبّدا بنزول المطر يترتّب الحكم بوجوب التصدّق. إنّ مثل هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه التنجيز والتعذير ولكنه ممّا يترتّب عليه حكم شرعي.

أمّا أنّه لا يترتّب عليه التنجيز والتعذير فلأنّ المستصحب ليس هو إلاّ نفس نزول المطر ، وبعد أن فرضنا أنّ نزول المطر لا يترتّب عليه حكم شرعي فلا معنى لتنجّزه بالاستصحاب أو للتعذير عنه.

وأمّا أنّه ممّا يترتّب عليه حكم شرعي فلأنّه بعد الاستصحاب يصير المكلّف عالما بنزول المطر ـ بناء على أنّ المجعول في باب الاستصحاب العلميّة ـ فيترتّب عليه حكم العالم بنزول المطر وهو وجوب التصدّق.

وبهذا البيان اتّضح ما يقال من أنّ الاستصحاب في بعض الموارد لا يقوم مقام القطع الطريقي ـ أي لا يكون منجّزا ولا معذّرا ـ ولكنّه يقوم مقام القطع الموضوعي. إنّ مثال هذا الاستصحاب قد يبدو غامضا لأوّل وهلة ، ولكنّه من خلال ما ذكرنا اتّضح مثاله وهو مثال وجوب التصدّق المترتّب على القطع بنزول المطر.

والخلاصة : إنّ الصيغة الاولى للركن الرابع هي أن يكون الاستصحاب ممّا يترتّب عليه أثر شرعي ولو بعد جريانه ، ولا يلزم فيه قابليّته للتنجيز والتعذير ولا أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم شرعي.

وقد تسأل : لماذا يكفي ترتّب الأثر ولو بعد جريان الاستصحاب؟


والجواب : انّه بفرض ترتّب الأثر الشرعي ولو بعد جريان الاستصحاب لا يلزم محذور اللغويّة من التعبّد بالاستصحاب ، فإنّ التعبّد بجريانه بدون أن يترتّب عليه أثر أصلا تعبّد قبيح ولغو ، أمّا إذا كان يترتّب عليه الأثر ولو بعد جريانه فلا لغويّة.

عود إلى الصيغة الثانية

والصيغة الثانية للركن الرابع تعتبر أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو للتعذير ـ بلا فرق بين أن يكون حكما أو عدم حكم أو موضوعا أو متعلّقا ـ ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر الشرعي بعد جريان الاستصحاب.

وهذه الصيغة كما هو واضح أضيق دائرة من الصيغة السابقة. ولكن ما هو المدرك لها الذي يعيّنها في مقابل الصيغة الاولى؟

إنّ المدرك لذلك هو نفس التعبير الوارد في روايات لا تنقض اليقين بالشكّ ، فإنّ المراد من النقض حيث لا يمكن أن يكون هو النقض الحقيقي ـ وعلى تقدير إرادة النقض الحقيقي يصير المعنى : يجب إبقاء اليقين في النفس ويحرم إزالة صفة اليقين وتبديلها إلى صفة الشكّ ـ لأنّه تكليف بغير المقدور إذ اليقين انتقض وتبدّل إلى الشكّ ولا يمكن للشاكّ بعد طرو الشكّ له الحفاظ على يقينه السابق وإبقائه في نفسه فيتعيّن أن يكون المراد النقض العملي ، أي يجب على الشاكّ أن يتعامل حالة شكّه معاملة المتيقّن في مقام العمل ، فإذا كان المتيقّن بطهارة ثوبه يدخل في الصلاة بلا توقّف وتردّد يلزم على الشاك في بقاء طهارة ثوبه الدخول في الصلاة أيضا.


وإذا كان المراد النقض العملي فهذا معناه افتراض أنّ اليقين سنخ يقين يقتضي جريا عمليّا معيّنا حتى يطبّق ذاك الجري العملي حالة الشكّ ، وواضح أنّ اليقين الذي يقتضي الجري العملي ليس هو إلاّ اليقين الطريقي دون الموضوعي ، فإنّ اليقين الطريقي حيث انّه متعلّق بالواقع وكاشف عنه فيمكن أن ينجزه أو يعذر عنه ، وهذا بخلافه في اليقين الموضوعي فإنّه لا يقتضي جريا عمليا حيث هو لا ينجز شيئا ولا يعذر ، فاليقين في مثال المطر ـ أي إن قطعت بنزول المطر وجب عليك التصدق ـ يقين موضوعي وهو ولا ينجز شيئا ولا يقتضي جريا عمليا اذ لو حصل القطع بنزول المطر فالتصدق وان تنجز الاّ أنّ ذلك ليس بسبب حصول القطع بل بسبب الدليل الذي رتّب وجوب التصدق على نزول المطر.

وبهذا يثبت أنّ الصيغة الاولى لا يمكن الأخذ بها اذ بناء عليها يلزم حمل اليقين على اليقين الموضوعي فالشاكّ في نزول المطر يصير بعد جريان الاستصحاب متيقنا بنزول المطر وقاطعا قطعا موضوعيا بذلك فيترتب عليه وجوب التصدق ، وهذا ما لا تفي به روايات لا تنقض اليقين بالشكّ فإنّها ناظرة الى اليقين الطريقي دون اليقين الموضوعي إذ الذي يقتضي الجري العملي ليس هو الاّ اليقين الطريقي.

إذن نحن من ناحية نفينا الصيغة الاولى ومن ناحية اخرى اثبتنا الصيغة الثانية ولم نعين الصيغة الثالثة.

أمّا إنّه نفينا الصيغة الاولى فلأنّه عليها ـ الصيغة الاولى ـ يصير الشاك في نزول المطر بمثابة القاطع قطعا موضوعيا ، وهذا ما لا تفي به روايات لا تنقض اليقين بالشكّ ، لأنّ المراد منها النهي عن النقض العملي ولازمه افتراض أنّ اليقين


ممّا له اقتضاء الجري العملي لو لا الشكّ ، والجري العملي من خصائص اليقين الطريقي دون الموضوعي.

وأمّا أنّه اكتفينا بالصيغة الثانية ولم نعين الثالثة فلأنّ اليقين يقتضي الجري العملي كلما كان المتيقن صالحا للتنجيز والتعذير ولا يختص بما إذا كان المتيقن حكما أو موضوعا لحكم.

هذه حصيلة توضيح مدرك الصيغة الثانية.

ويرده : انّ تعين حمل النقض على النقض العملي لا يتم إلاّ إذا كان النهي في لا تنقض نهيا تكليفيا ـ فإنّ التكليف لا يمكن تعلقه بالنقض الحقيقي بعد خروجه عن اختيار النفس ـ ولكن من المحتمل أن يكون المقصود من النهي المذكور الإرشاد إلى عدم إمكان حصول نقض اليقين فالروايات تنهى عن النقض إرشادا الى عدم إمكان حصوله باعتبار انّ الشارع ينزل الشاكّ منزلة المتيقن ويعتبره متيقنا.

وإن شئت قلت : كما انّ نهي الحائض عن الصلاة بلسان دعي الصلاة أيام اقرائك يراد به الإرشاد الى عدم قدرة الحائض على الصلاة كذلك النهي في لا تنقض اليقين بالشكّ إرشاد الى أنّ الشارع يعتبر الشاكّ متيقنا فلا يمكن حصول نقض اليقين منه (١) ، غاية الأمر أن الحائض لا تقدر على الصلاة حقيقة بينما الشاكّ

__________________

(١) وبهذا يتضح الوجه فيما أفاده السيد الخوئي ( دام ظله ) حينما قال إنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية والطريقية ، أي هو من الامارات ، إنّ الوجه في ذلك هو أنّه يفهم من روايات لا تنقض اليقين بالشكّ الإرشاد الى أنّ الشارع يعتبر الشاكّ متيقنا وذا علم بالحالة السابقة


لا يمكن النقض منه اعتبارا ، أي لإجل أنّ الشارع اعتبره متيقنا.

وباختصار : انّه بعد احتمال كون المقصود من النهي هو الإرشاد إلى عدم امكان تحقق النقض لا يتعين تفسير النقض بالنقض العملي ، ومعه فلا يتم التوجيه السابق للصيغة الثانية.

ولكن نحن وإن أبطلنا المدرك لتوجيه الصيغة الثانية الاّ أنّه تبقى نتيجة الصيغة الثانية هي المتعينة في مقابل الصيغة الاولى ، اذ بعد وجود احتمالين في روايات لا تنقض : إحتمال النهي عن النقض العملي الذي يتناسب ونتيجة الصيغة الثانية ، واحتمال الارشاد إلى اعتبار الشارع الشاك متيقنا الذي يتناسب ونتيجة الصيغة الاولى يتعين الحمل على ما يتناسب ونتيجة الصيغة الثانية فإنّه بعد احتمال الروايات لكلتا الصيغتين وإجمالها من هذه الناحية يتعين الأخذ بالقدر المتيقن ، وهو نتيجة الصيغة الثانية لأنّها ـ نتيجة الصيغة الثانية ـ أخص من نتيجة الصيغة الاولى.

عود إلى الصيغة الثالثة

والصيغة الثالثة تعتبر في المستصحب أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. وبناء على هذه الصيغة يرد الإشكال على استصحاب طهارة الثوب الذي أجراه الإمام 7 في صحيحة زرارة الثانية ، فإنّ طهارة الثوب متعلق وليست موضوعا.

وحاول البعض التخلص من هذا الإشكال بتحويل الطهارة من كونها متعلقا الى موضوع وذلك بالبيان التالي : إنّ الوجوب بعد تعلقه بطهارة الثوب


فالطهارة وإن صارت متعلقا لأنه يجب تحصيلها الاّ أنّ المكلف لو أتى بالطهارة وأوجدها سقط عنه الأمر ، فسقوط الأمر إذن معلق على الإتيان بالطهارة ويصير الإتيان بالطهارة موضوعا لزوال الأمر وسقوطه ـ اذ يصير المعنى : يسقط الأمر إن فرض حصول الطهارة ـ وبذلك يصح إجراء الاستصحاب في الطهارة.

ويرد على هذا التوجيه : ـ

أ ـ انّه لا يتم الاّ بعد تعميم الحكم لعدم الحكم ـ فإنّه في هذا التوجيه صار الإتيان بالطهارة موضوعا لعدم الوجوب ولسقوطه ـ مع أنّ ظاهر كلمة الحكم في الصيغة الثالثة القائلة بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكما أو موضوعا لحكم هو الحكم بمعنى وجود الحكم لا بالمعنى الشامل لعدم الحكم.

ب ـ إنّا لا نسلم انّ الإتيان بالمتعلق موجب لسقوط الأمر ، فالإتيان بالصلاة مثلا لا يوجب سقوط وجوب الصلاة وإنّما يوجب سقوط فاعليته لا فعليته.

والوجه في ذلك : انّ الوجوب مثلا يرجع في روحه وجوهره الى حبّ الشيء ، والحبّ لا يزول عند الإتيان بالمحبوب ، فمن أحبّ الطعام واشتاق إليه لا يزول حبّه وشوقّه عند تحقق الطعام بل يبقى الطعام محبوبا حتى بعد تناوله غاية الأمر لا يكون الحبّ محركا الى تناول الطعام من جديد.

فالحب إذن بعد تناول الطعام يبقى فعليا إلاّ أنّه تسقط فاعليته وتاثيره (١).

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الحلقة الثانية عند البحث عن مسقطات

__________________

(١) لا يقال إنّ الوجوب ليس هو مجرد الحبّ بل هو اعتبار خاص زائد على الحب.

فإنّه يقال : هذا صحيح الاّ أنّ روح الحكم وجوهره هو الحب والشوق


الحكم.

وبعد بطلان التوجيه المذكور يبقى الإشكال المورد على استصحاب طهارة الثوب مستحكما. ولا يمكن الجواب عنه الاّ برفض أصل الصيغة الثالثة من الأساس ، فإنّ الصيغة المذكورة هي السبب لورود الإشكال ، ولا داعي للإلتزام بها ، فإنّ المدرك لها لا يخلو من أحد أمرين كلاهما قابل للمناقشة : ـ

١ ـ إنّ المستصحب إذا لم يكن حكما ولا موضوعا لحكم فالتعبد ببقاء الحالة السابقة يكون لغوا ، فلإجل أن لا يلزم محذور اللغوية من الحكيم لا بدّ من فرض المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

ويرده : انّ كل مستصحب إذا كان قابلا للتنجيز والتعذير فالتعبد ببقائه لا يكون لغوا لأنّ فائدة التعبد ببقائه هي التنجيز أو التعذير ، ومن الواضح انّ قابلية المستصحب للتنجيز والتعذير لا تختص بالموارد التي يكون المستصحب فيها حكما أو موضوعا لحكم بل تعم الموارد الاخرى التي لا يكون المستصحب فيها حكما ولا موضوعا ، كما إذا كان المستصحب متعلقا لحكم شرعي كالمثال السابق لطهارة الثوب ، فإنّ الطهارة متعلق وليست حكما ولا موضوعا لحكم شرعي ومع ذلك يجري استصحابها ولا يكون لغوا لأنّه باستصحابها يصير المكلف معذورا لو لم تكن ثابتة واقعا.

٢ ـ إنّ مفاد لا تنقض اليقين بالشكّ هو جعل حكم مماثل ففي حالة الشكّ في بقاء وجوب الجمعة يجري الاستصحاب ويكون مفاد رواية لا تنقض اليقين بالشكّ إني أجعل في حالة الشكّ الذي هو زمان الغيبة وجوبا مماثلا للوجوب السابق المتيقن. وما دام مفاد دليل الاستصحاب ذلك فمن اللازم أن يكون


المستصحب حكما أو موضوعا لحكم فإنّه إذا كان حكما أو موضوعا فجعل الحكم المماثل يكون معقولا ، أمّا إذا لم يكن كذلك فلا يمكن جعل الحكم المماثل وبالتالي فلا يمكن جريان الاستصحاب (١).

ويرده : انّا لا نفهم من حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » جعل الحكم المماثل لينحصر جريان الإستصحاب بما إذا كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم. ودعوى فهم ذلك عهدته على مدعيه ، وإنّما المفهوم من حديث لا تنقض أحد احتمالات ثلاثة : ـ

أ ـ تنزيل الشاكّ منزلة المتيقن ، أي جعل الشاكّ في بقاء الحالة السابقة بمنزلة العالم ببقائها.

والمجعول في الاستصحاب بناء على هذا هو الطريقية والعلمية ويصير ـ الاستصحاب ـ من الامارات كما أفاد السيد الخوئي ( دام ظله ).

ب ـ الإرشاد الى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، فالطهارة زمان الشك منزلة الطهارة المتيقنة السابقة.

وبناء على هذا لا يصير الاستصحاب من الامارات حيث لم يجعل الشاكّ متيقنا ولكنّه يصير من الاصول التنزيلية.

__________________

(١) مثال المستصحب الذي يكون حكما : استصحاب بقاء وجوب الجمعة ، فإنّ الاستصحاب يجعل وجوبا مماثلا زمن الغيبة. ومثال المستصحب الذي يكون موضوعا لحكم : استصحاب بقاء عدالة زيد ، فإنّه بالاستصحاب يجعل المولى حكما مماثلا للحكم السابق الثابت للعدالة ، فإنّ العدالة وإن لم تكن حكما حتى يجعل الحكم المماثل له بيد أنّ لها حكما وهو جواز الائتمام ، ودليل الاستصحاب يجعل في زمان الشكّ حكما بجواز الائتمام مماثلا للحكم بالائتمام الثابت سابقا للعدالة


ج ـ أن يكون مفاده النهي المولوي ، وحيث إنّه لا يعقل توجه النهي المولوي إلى النقض الحقيقي فلا بدّ وأن يكون المقصود النهي عن النقض العملي.

وسواء كان مفاد حديث لا تنقض هو الإحتمال الأوّل أو الثاني أو الثالث فعلى تقدير جميعها لا ملزم لكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم بل يكفي أن يكون قابلا للتنجيز والتعذير ـ كما كانت تقرره الصيغة الثانية ـ فإنّه إذا كان قابلا لذلك فيمكن للشارع أن يعبدنا ببقاء اليقين أو ببقاء المتيقن أو بعدم النقض العملي.

وعليه فالصحيح هو ما تقرره الصيغة الثانية ، أي أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز ولا يلزم أن يكون حكما أو موضوعا لحكم.

قوله ص ٢٦٠ س ٦ : يمكن بيانه : أي بيان المراد وليس المقصود بيان الإستدلال عليه.

قوله ص ٢٦٠ س ١٠ : وقرينه الحكمة : ليس المراد من قرينه الحكمة مقدمات الحكمة بل صون كلام الحكيم عن اللغوية.

قوله ص ٢٦٠ س ١٣ : سوى ما ذكرناه : وهو ترتب الأثر العملي الشرعي ولو بعد الاستصحاب حتى لا تلزم اللغوية.

قوله ص ٢٦١ س ٢ : به : أي بالمستصحب. والاولى حذفه.

قوله ص ٢٦١ س ٨ : في بعض الموارد : والمراد به هو المورد المتقدم المشار له بقوله : كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له إلخ.

قوله ص ٢٦١ س ١٤ : كالاستصحابات الجارية إلخ : هذا راجع للأخير ، أي لقوله أو دخيلا في متعلق الحكم.


وقوله لتنقيح : أي لإثبات.

قوله ص ٢٦١ س ١٤ : شرط الواجب : كطهارة الثوب التي هي شرط في الصلاة.

قوله ص ٢٦١ س ١٤ : اثباتا ونفيا : استصحاب بقاء الطهارة الذي أشرنا له سابقا هو مثال للإثبات ، أي مثال لتحقق شرط الواجب. وأمّا مثال النفي فهو كاستصحاب عدم طهارة الثوب فيما إذا كانت الحالة السابقة هي عدم الطهارة.

قوله ص ٢٦٢ س ٤ : وهذا يفترض : أي الإقتضاء العملي لليقين.

قوله ص ٢٦٢ س ١٦ : غير أنّه يكفي : هذا رجوع إلى إثبات لزوم الأخذ بنتيجة الصيغة الثانية بعد مناقشة مدركها.

قوله ص ٢٦٣ س ٧ : قيدا : أي شرطا.

قوله ص ٢٦٤ س ٣ : وهذا لا يختص إلخ : أي إنتهاء التعبد الى التنجيز والتعذير.

قوله ص ٢٦٤ س ٣ : بما ذكر : أي بما إذا كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

قوله ص ٢٦٤ س ٤ : فإنّ التعبد بوقوع الامتثال : كما هو الحال في استصحاب بقاء الطهارة في الثوب فإنّه يعبدنا بحصول امتثال الأمر بطهارة الثوب.

قوله ص ٢٦٤ س ٤ : ينتهي الى ذلك أيضا : أي الى التنجيز والتعذير ، فإنّه باستصحاب طهارة الثوب يثبت العذر للمكلّف لو كان الثوب في الواقع نجسا.

قوله ص ٢٦٤ س ٧ : ظاهرا : مرتبط بجعل ، أي يجعل ظاهرا الحكم المماثل.


قوله ص ٢٦٤ س ١٠ : بعنوانه : أي بعنوان جعل الحكم المماثل. والمقصود : أنّ الحكم المماثل لئن ثبت أحيانا حالة الشكّ فذاك من باب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وليس من باب جعل الحكم المماثل بعنوانه.

قوله ص ٢٦٤ س ١٤ : وعلى كل حال : أي سواء كان مفاد حديث لا تنقض هو الإرشاد الى بقاء اليقين أو المتيقن أو النهي عن النقض العملي.

قوله ص ٢٦٤ س ١٦ : على أحد هذه الانحاء : أي امّا التعبد ببقاء اليقين أو التعبد ببقاء المتيقن أو التعبد بعدم النقض العملي.



الأصل المثبت



مقدار ما يثبت بالاستصحاب

قوله ص ٢٦٥ س ١ : لا شكّ في أنّ المستصحب : هذا هو المبحث المعروف بمبحث الأصل المثبت. وكان من المناسب الإشارة لذلك في العنوان.

وقبل توضيح مطالب الكتاب نشير الى مقدمات أربع : ـ

١ ـ في توضيح مصطلح مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة.

ومفاد كان التامة يعني ثبوت وجود الشيء بينما مفاد كان الناقصة يعني ثبوت شيء لشيء ، فثبوت الوجود لزيد هو مفاد كان التامة بينما ثبوت العلم لزيد هو مفاد كان الناقصة.

٢ ـ إنّ التنزيل على قسمين : ـ

أ ـ تنزيل واقعي. ومثاله الطواف بالبيت صلاة. وإنّما كان التنزيل المذكور واقعيا لانّه لم ينط بالشكّ.

ب ـ تنزيل ظاهري. ومثاله لا تنقض اليقين بالشكّ بناء على افادته لتنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، وإنّما كان التنزيل المذكور ظاهريا لأنّه منوط بحالة الشكّ.

وفي كلا التنزيلين تسري أحكام المنزل عليه الى المنزل. ولكن هل تسري جميع الأحكام الى المنزل أو بعضها؟ إنّ التنزيل إذا كان مطلقا ولم يقيد ببعض الآثار فجميع الآثار تسري الى المنزل وإلاّ فبحدود التقييد.


٣ ـ إنّ في مفاد دليل الاستصحاب ـ أي لا تنقض اليقين بالشكّ ـ ثلاثة احتمالات كما تقدّم هي : ـ

أ ـ تنزيل الشاكّ منزلة المتيقن. والمجعول في باب الاستصحاب على اساس هذا الإحتمال هو العلمية ويصير من الامارات كما اختار ذلك السيد الخوئي.

ب ـ تنزيل الشيء المشكوك منزلة المتيقن. وبناء على هذا يصير الاستصحاب من الاصول التنزيلية.

ج ـ النهي عن النقض العملي.

٤ ـ إنّ اليقين إذا تعلق بشيء صار منجزا لذلك الشيء. والنكتة في تنجيزه له أنّ اليقين طريق وكاشف عن الواقع فمتى ما تعلق بشيء تنجز ذلك الشيء بسبب انكشافه.

ولكن هل يتنجز خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين أو ما هو أوسع منه؟ الصحيح هو الأوّل لأنّ سبب التنجيز هو الإنكشاف ، وواضح ان المنكشف باليقين هو خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين دون الزائد عليه فالزائد على المتيقن لا يتنجز لعدم انكشافه.

وبعد الفراغ من هذه المقدمات الأربع نعود الى مباحث الكتاب.

إنّ استصحاب حياة الولد لا إشكال في أنّه يترتب على جريانه ثبوت المستصحب أي ثبوت الحياة. ولكن ليس المقصود من ثبوتها هو ثبوتها حقيقة بل تعبدا وعلى مستوى العمل. وإنّما السؤال والبحث عن آثار الحياة هل تثبت أو لا؟ والآثار على قسمين : أحكام شرعية وأحكام غير شرعية.

١ ـ أمّا الأحكام الشرعية فهي على ثلاثة أشكال : ـ


أ ـ أن يكون المستصحب موضوعا وله حكم شرعي ، كاستصحاب العدالة فإنّها موضوع ولها حكم شرعي ، وهو جواز الائتمام مثلا.

ب ـ أن يكون المستصحب حكما شرعيا وقد وقع بنفسه موضوعا لحكم شرعي آخر ، كوجوب الوفاء بالدين فإنّه حكم شرعي وله حكم شرعي وهو عدم وجوب الحج ، فإنّ من كان يجب عليه الوفاء بالدين سابقا ويشكّ في الزمان اللاحق في ذلك يستصحب بقائه وبذلك يثبت عدم وجوب الحج عليه.

ج ـ أن يكون المستصحب حكما شرعيا وله حكم شرعي وللحكم الشرعي الثاني حكم شرعي ثالث ، كما لو كان لدينا ماء طاهر في زمان سابق وشككنا في بقاء طهارته في زمان لاحق فباستصحاب بقائه على الطهارة تثبت طهارته الآن فإذا غسلنا به طعاما متنجسا تثبت بذلك طهارته ، وبثبوت طهارته تثبت حلية أكله. فطهارة الماء إذن حكم شرعي ولها حكم شرعي ، وهو طهارة الطعام المغسول به ، ولطهارة الطعام حكم شرعي وهو حلية الأكل.

وأمّا الأحكام غير الشرعية فقد ذكر لها 1 ثلاثة أمثلة : ـ

أ ـ استصحاب حياة الولد فإنّ لها ـ حياة الولد ـ اثرا غير شرعي وهو نبات اللحية.

ب ـ إذا كان جدار على وشك الانهدام والى جانبه شخص جالس ، وبعد مضي فترة علمنا بانهدام الجدار وشككنا في بقاء ذلك الشخص إلى جانبه حين انهدامه حتى يلزم موته. في مثل هذه الحالة قد يقال بإنا نستصحب بقاء الشخص إلى جانب الجدار لحين الانهدام وبذلك يثبت موته. انّ المستصحب في هذا المثال هو بقاء الشخص إلى جانب الجدار ، وأثره وهو الموت أثر غير شرعي إذ لا توجد


آية أو رواية تقول من كان باقيا إلى جنب الجدار وقت انهدامه فهو ميت.

ج ـ إذا كان لدينا حوض فيه كر من ماء وأخذنا منه مقدارا قليلا من الماء ، وبعد الأخذ منه شككنا في بقائه على الكرية فلا إشكال في جريان استصحاب بقائه على الكرية. ولكن جريان الاستصحاب له شكلان لا بدّ من التمييز بينهما : ـ

أحدهما : أن نشير إلى الحوض ـ لا إلى الماء الموجود فيه ـ ونقول كان فيه مقدار كر والآن كذلك. إنّ هذا الاستصحاب لا ينفع ، لأنّ أقصى ما يثبت به بقاء الكر في الحوض ولا يثبت به أنّ الماء الموجود فيه هو بمقدار كر. والمهم هو الثاني ، أي إثبات ان الماء الموجود فيه هو بمقدار كر لا إثبات أن الحوض يشتمل على الكر ، اذ اليد لو كانت متنجسة واريد تطهيرها فتطهيرها يترتب على وجود الكر في الحوض بل على كون الماء الذي يراد غسلها به بمقدار كر. ومن المعلوم انّ كون الحوض مشتملا على الكر شيء وكون الماء الموجود فيه بمقدار كر شيء آخر فإنّ ذاك ـ أي وجود الكر في الحوض ـ مفاد كان التامة بينما هذا ـ أي كون الماء يساوي كرا ـ مفاد كان الناقصة ، وأحدهما ليس عين الآخر. أجل بينهما ملازمة عقلية حيث إنّ الحوض إذا كان مشتملا على الكر فلازم ذلك عقلا كون الماء الموجود فيه بمقدار كر ، وليس بينهما ملازمة شرعية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الحوض مشتملا على الكر فالماء الموجود فيه لا بدّ وان يكون بمقدار كر. وما دامت الملازمة عقلية لا شرعية فالاستصحاب يكون من قبيل الأصل المثبت.

ثانيهما : أن نشير إلى الماء ـ لا إلى الحوض ـ ونقول هذا الماء كان بمقدار كر والآن كذلك. وهذا الاستصحاب لا محذور فيه لانّه من الأوّل استصحاب لمفاد


كان الناقصة وليس استصحابا لمفاد كان التامّة لإثبات مفاد كان الناقصة.

الآثار الشرعية

أمّا الآثار الشرعية فلا إشكال في ثبوتها بالاستصحاب. وهذا من دون فرق بين أن يكون مفاد دليل الاستصحاب الإرشاد إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن أو الإرشاد إلى تنزيل الشاكّ منزلة المتيقّن أو النهي التكليفي عن النقض العملي ، فإنّه على جميع الإحتمالات الثلاثة تثبت الآثار الشرعية.

الكلام على الإحتمال الأوّل

أمّا على تقدير الإحتمال الأوّل ـ أي كون المراد تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ـ فالأمر واضح لأنّه بعد تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الطهارة المتيقنة يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع الآثار الشرعية الثابتة للمنزل عليه إلى المنزل ، فكما انّ في التنزيل الواقعي ـ مثل الطواف البيت صلاة ـ يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية آثار الصلاة إلى الطواف كذلك في التنزيل الظاهري ـ وهو كالتنزيل في المقام ، حيث انّ دليل الاستصحاب ينزّل في حالة الشكّ المشكوك منزلة المتيقن ـ يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع آثار الطهارة المتيقنة إلى الطهارة المشكوكة.

فإن قيل : إن لا تنقض اليقين بالشكّ إذا كان يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة المتيقن بلحاظ جميع الآثار الشرعية بما في ذلك الآثار الشرعية غير المباشرة فذاك هو المطلوب ، وأمّا إذا لم يستفد ذلك منه وقلنا بأنّ القدر المتيقن منه


هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة فقط ، فيشكل الأمر حينئذ في ترتب الآثار غير المباشرة.

ووجه الإشكال : انّ حديث لا تنقض ما دام لا يستفاد منه التنزيل بلحاظ جميع الآثار بما في ذلك الآثار غير المباشرة فالآثار غير المباشرة لا يمكن القول بثبوتها إلاّ إذا ثبت موضوعها وهو الأثر المباشر ، وبما أن الأثر المباشر لم يثبت حقيقة ـ حيث انّ تنزيل المشكوك منزلة المتيقن لم يكن تنزيلا حقيقيا حتى يثبت أثره المباشر حقيقة وإنما كان تنزيلا ظاهريا فلا يكون الأثر المباشر ثابتا ـ فلا يمكن الحكم بثبوت ما ترتّب عليه وهو الأثر غير المباشر.

كان الجواب : إنّ حديث لا تنقض يستفاد منه تنزيلات متعدّدة بعدد الآثار ، وكل تنزيل يثبت به الأثر المباشر فقط ، فإذا أردنا مثلا استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس فالمستصحب هو طهارة الماء ، وحديث لا تنقض ينزّل طهارة الماء منزلة الطهارة المتيقّنة ، وهذا التنزيل تنزيل بلحاظ الأثر المباشر فقط ـ لأنّا فرضنا أنّ دليل التنزيل لا يستفاد منه إلاّ التنزيل بلحاظ الأثر المباشر باعتبار أنّ ذلك هو القدر المتيقّن ـ وبذلك يثبت الأثر المباشر ، أي طهارة الطعام ويكون ـ الطعام ـ منزّلا منزلة الطاهر الواقعي. وإذا صارت طهارة الطعام التي هي الأثر المباشر منزّلة منزلة الطاهر الواقعي نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه بتنزيل رقم (٢) (١). وهذا التنزيل رقم (٢) لا بدّ وأن

__________________

(١) قد تقول انّ دليل التنزيل أقصى ما يستفاد منه تنزيل المستصحب وهو طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي ولا يستفاد منه تنزيل الأثر المباشر وهو طهارة الطعام منزلة الطاهر الواقعي لنحصل على تنزيل جديد رقم (٢) وبالتالي على تنزيلات جديدة متعدّدة. ـ


يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا ، وهو حلّيّة الأكل ، فتكون حلّيّة الأكل منزّلة منزلة الحلّيّة الواقعيّة ، وبذلك نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه تنزيل رقم (٣). وهذا التنزيل لا بدّ وأن يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا وهكذا. وبهذا نحصل على تنزيلات متعدّدة كل واحد منها يكون بلحاظ الأثر المباشر.

الكلام على الإحتمال الثاني

وأمّا بناء على الاحتمال الثاني ، وهو تنزيل الشاك منزلة المتيقّن فقد يستشكل في تنجيز الآثار المباشرة فضلا عن غير المباشرة.

والوجه في ذلك : انّ استصحاب طهارة الماء حينما يجري يصير المكلّف بناء على الاحتمال الثاني بمنزلة المتيقّن بطهارة الماء ، ولكن هذا اليقين بما أنّه متعلّق بطهارة الماء فالمنكشف به هو طهارة الماء فقط دون آثارها ـ أي دون طهارة الطعام المتنجّس ـ لأنّ كل يقين لا يكشف إلاّ عن متعلّقه ولا يكشف عن آثار متعلّقه ، وما دام المنكشف هو المتعلّق فقط فالذي يتنجّز بسبب اليقين بطهارة الماء هو طهارة الماء فقط دون طهارة الطعام. وعلى هذا فآثار المتيقّن لا تتنجّز وإنّما الذي يتنجّز هو المتيقّن فقط.

إن قلت : إنّ استصحاب طهارة الماء إذا جرى وصار المكلّف بناء على الاحتمال الثاني متيقّنا بطهارة الماء فسوف يصير متيقّنا بطهارة الطعام أيضا لأنّ اليقين بشيء يستلزم حصول اليقين بآثاره. وإذا حصل اليقين بطهارة الطعام

__________________

ـ والجواب : إنّ الأثر المباشر وهو حلّيّة الطعام إذا لم ينزّل منزلة الحلال الواقعي فتنزيل طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي يكون لغوا


فسوف تثبت طهارة الطعام بسبب هذا اليقين الثاني المتعلّق بها وإن لم تثبت باليقين الأوّل المتعلّق بطهارة الماء.

قلت : إنّ اليقين بشيء إنّما يستلزم اليقين بآثاره في خصوص اليقين التكويني الوجداني دون اليقين التعبّدي ، فاليقين الوجداني بوجود النار يولّد اليقين بالحرارة والإحراق ، وأمّا اليقين التعبّدي بالنار فهو لا يولّد اليقين التعبّدي بالإحراق والحرارة ، فإنّ التعبّد لا بدّ من الاقتصار فيه على حدوده ولا يحقّ تجاوزها ، فزيد إذا اعتبرناه أسدا من حيث الشجاعة فلا يحقّ له الإفتراس لأنّا وإن اعتبرناه أسدا ومن حقّ الأسد الإفتراس إلاّ أنّا لم نعتبره أسدا إلاّ في حدود الشجاعة ولم نعتبره أسدا بلحاظ الإفتراس فلا بدّ من الإقتصار على مقدار الإعتبار وهو حيثيّة الشجاعة لا أكثر.

وفي المقام الأمر كذلك أيضا فإنّ الشارع وإن عبّد المكلّف بعد استصحاب طهارة الماء بأنّه عالم بطهارة الماء الاّ أنّ هذا لا يستلزم العلم بطهارة الطعام إذ التعبّد لا بدّ من الإقتصار فيه على حدوده.

والخلاصة انه على الاحتمال الثاني قد يستشكل في تنجّز الآثار المباشرة فضلا عن غيرها.

والجواب : إنّ تنجّز الحكم لا يتوقّف على اليقين التعبّدي به ليقال انّ اليقين التعبّدي بطهارة الماء لا يستلزم اليقين التعبّدي بطهارة الطعام بل يكفي في التنجّز العلم بتشريع الحكم المنضم إلى العلم بتحقّق الموضوع. فمثلا حرمة شرب الخمر تتنجّز فيما لو علم المكلّف بتشريع الحرمة لشرب الخمر وعلم أنّ شرب السائل الذي يريد شربه هو شرب للخمر لا شرب لعصير البر تقال ، أمّا إذا علم بتشريع


حرمة شرب الخمر ولم يعلم بأنّ شربه للسائل المشكوك شرب للخمر أو علم بأنّ شربه شرب للخمر ولكن لم يعلم بتشريع حرمة الخمر فلا تتنجّز عليه حرمة شرب السائل. وفي المقام نقول ذلك أيضا ، أي نقول انّ ثبوت طهارة الطعام يتوقّف على العلم بتشريع الحكم ـ أي العلم بأنّ طهارة الماء توجب طهارة الطعام المغسول به ـ والعلم بالموضوع ، أي أنّ الطعام مغسول بالماء الطاهر. وكلا الأمرين متحقّق. أمّا العلم بتشريع الحكم فذاك ثابت بالسنّة الشريفة ، حيث ثبت بالروايات أنّ غسل الشيء المتنجّس بالماء الطاهر يوجب طهارته. وأمّا العلم بالموضوع فهو ثابت بالاستصحاب حيث انّ استصحاب طهارة الماء يولّد العلم التعبّدي بأنّ الماء طاهر وأنّ غسل الطعام به غسل بالماء الطاهر (١).

هذا كلّه على الاحتمال الثاني.

__________________

(١) يمكن الجواب عن الاشكال بشكل آخر وهو أن يقال انّه في الاحتمال الثاني حينما ينزل الشاك في بقاء الطهارة منزلة المتيقّن بها فاليقين التعبّدي وإن كان يختص بخصوص متعلّقه وهو طهارة الماء ولا يتعدّى إلى طهارة الطعام ولكن نفس تنزيل الشك في بقاء الطهارة منزلة اليقين ببقائها لا بدّ وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي وهو طهارة الطعام إذ بدون ذلك يكون التنزيل لغوا وبلا فائدة.

ولئن قال قائل بعدم لزوم اللغويّة عقلا باعتبار انّه يكفي في عدم لزوم اللغويّة ثبوت أثر ما ولو كان هو المنجّزيّة كما هو الحال في المقام ، فإنّه بعد العلم بتشريع الحكم يكون استصحاب طهارة الماء مفيدا لاثبات تنجّز طهارة الطعام.

فجوابه انّه يمكن التمسّك بالفهم العرفي فيقال ان العرف يفهم من تنزيل شيء منزلة شيء آخر كون التنزيل بلحاظ التعبّد بالآثار


الكلام على الاحتمال الثالث

وأمّا على الاحتمال الثالث ـ وهو كون المراد من النهي عن النقض النهي عن النقض العملي ـ فباستصحاب طهارة الماء يلزم ترتيب الأثر وهو طهارة الطعام ، إذ المكلّف حينما كان متيقّنا بطهارة الماء في الزمان السابق فيقينه المذكور منجّز للأثر وهو طهارة الطعام ـ لأنّا ذكرنا قبل قليل أنّ اليقين بالموضوع بعد العلم بالتشريع موجب لتنجّز الحكم ـ ، وما دام منجّزا فيكون مقتضيا للتعامل مع الطعام معاملة الطاهر ، ومعه فيلزم بقاء التعامل المذكور على حاله في زمان الشك أيضا إذ على الاحتمال الثالث يلزم التعامل حالة الشك بنفس التعامل السابق الثابت حالة اليقين ، وما دام اليقين السابق منجّزا ومقتضيا لطهارة الطعام فيلزم بقاء الاقتضاء المذكور حالة الشكّ أيضا.

عودة إلى الإحتمال الثاني

فإن قيل انّه على الاحتمال الثاني وإن لزم باستصحاب طهارة الماء حصول اليقين التعبّدي بذلك ـ أي بطهارة الماء ـ ، وبالتالي يلزم تنجّز الأثر وهو طهارة الطعام إلاّ انّه يرد الاشكال في حلّيّة الطعام التي هي الحكم الثاني للمستصحب (١) ، فإنّه كيف يترتّب الحكم المذكور والحال انّ موضوعه لم يحصل يقين تعبّدي به وإنّما تنجّز لا أكثر.

__________________

(١) فإنّ المستصحب هو طهارة الماء وحكمه الأوّل هو طهارة الطعام وحكمه الثاني حلّيّة الأكل


وبكلمة اخرى انّ تنجّز الحكم الأوّل ـ وهو طهارة الطعام ـ إنّما ثبت باعتبار انّه باستصحاب طهارة الماء حصل علم تعبّدي بطهارة الماء التي هي الموضوع للحكم الأوّل ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الثاني ـ وهو حلّيّة الأكل ـ فلا وجه لتنجّزه إذ لم يحصل يقين تعبّدي بموضوعه ، فإنّه باستصحاب طهارة الماء حصل يقين تعبّدي بطهارة الماء فقط ولم يحصل علم تعبّدي بطهارة الطعام ـ وإنّما تنجّزت طهارة الطعام لا أكثر ـ حتى يتنجّز الحكم بحلّيّة الأكل.

قلنا : إنّ المستفاد من دليل حلّيّة الأكل أنّ المدار في ثبوت حلّيّة الأكل إنّما هو على ثبوت الحكم بطهارة الطعام ، فمتى ما ثبت تشريع الحكم بطهارة الطعام عند غسله بالماء الطاهر ثبت بعد ذاك الحكم بالحلّيّة.

إذن ثبوت الحكم بالحلّيّة موقوف على ثبوت تشريع الحكم الأوّل وثبوت موضوعه ، وحيث انّ تشريع الحكم الاوّل ثابت بالسنّة الشريفة ـ لدلالة الروايات على أنّ غسل الطعام بل وأي شيء من الأشياء بالماء الطاهر موجب لطهارته ـ وموضوعه ثابت أيضا ببركة الاستصحاب ـ حيث انّ استصحاب طهارة الماء ينجّز طهارة الطعام على ما تقدّم (١) ـ فتثبت حينئذ حلّيّة الأكل.

وإن شئت قلت : إنّا نسلّم أنّ الحكم بحلّيّة الطعام لا يتنجّز إلاّ بعد اليقين بموضوعه ولكن ليس المراد من اليقين بموضوعه إلاّ ما ذكرناه ، أي ثبوت تشريع الحكم الأوّل وتنجز موضوعه ، وكلاهما ثابت كما أوضحنا.

__________________

(١) في عبارة الكتاب ذكر ما مضمونه : إنّ طهارة الطعام محرزة. ولا بدّ وأن يكون المراد من الإحراز التنجز ، إذ باستصحاب طهارة الماء يحصل يقين تعبدي بطهارة الماء ولا يحصل يقين تعبدي بطهارة الطعام بل تتنجز طهارة الطعام لا أكثر


الآثار غير الشرعية

وما تقدم كان كله حديثا عن الآثار الشرعية.

وأمّا الآثار غير الشرعية فالمعروف بين الاصوليين عدم ثبوتها بالاستصحاب ، فمثلا باستصحاب حياة الولد لا يثبت نبات اللحية كما ولا يثبت الأثر الشرعي المترتب على ذلك كوجوب التصدق.

والوجه في ذلك : انّه إن كان المقصود باستصحاب حياة الولد اثبات الأثر العقلي فقط أي اثبات نبات اللحية فقط بلا التفات الى الأثر الشرعي المترتب على ذلك فيرد عليه أنّ الأثر العقلي حيث لا يرتبط بالشارع فالتعبد ببقاء حياة الولد لترتيب الأثر المذكور لغو وبلا فائدة.

وإن كان المقصود اثبات اللازم العقلي وما يترتب عليه من أثر شرعي فهذا معقول ولا تلزم اللغوية منه ، إذ من الوجيه التعبد ببقاء الحياة لإثبات نبات اللحية ومن ثم إثبات وجوب التصدق بيد أنّ هذا لا يستفاد من دليل الاستصحاب ، فإنّ القدر المتيقن من حديث لا تنقض هو التعبد ببقاء المستصحب بلحاظ آثاره الشرعية المباشرة ولا يستفاد منه التعبد بالبقاء بلحاظ الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية.

هذا هو الوجه ـ على سبيل الإختصار ـ في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت الآثار العقلية ولا الشرعية المترتبة عليها.

وإن أحببنا شيئا من التفصيل فيمكن أن نقول : تقدّم إنّ الإحتمالات في المراد من حديث لا تنقض ثلاثة : الإرشاد الى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ،


والإرشاد الى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة اليقين بالبقاء ، والنهي التكليفي عن النقض العملي.

فإن كان المقصود تنزيل الحياة المشكوكة منزلة الحياة المتيقنة فمن الواضح انّ القدر المتيقن من التنزيل المذكور والمنصرف إليه عرفا هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة دون الآثار العقلية ودون الآثار الشرعية المترتبة عليها.

وإن كان المقصود تنزيل الشكّ في الحياة منزلة اليقين ببقاء الحياة فمن الواضح انّ التنزيل المذكور أقصى ما يفيد هو اليقين التعبدي بالحياة التي هي المستصحب ولا يلزم منه اليقين التعبدي بنبات اللحية ، ومع عدم حصول اليقين التعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز الأثر الشرعي المترتب على ذلك وهو وجوب التصدق ، فإنّ تنجز الأثر الشرعي فرع اليقين التعبدي بموضوعه فإذا لم يحصل يقين تعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز وجوب التصدق المترتب عليه (١).

وإن كان المقصود النهي التكليفي عن النقض العملي فمن الواضح أنّ اليقين السابق بالحياة حيث انّه لا ينجز نبات اللحية ـ بإعتبار انها أثر عقلي والآثار العقلية لا تقبل التنجز ـ فلا يكون مقتضيا للعمل على وفق نبات اللحية ، ومع عدم اقتضائه له فلا يكون دليل الإستصحاب دالا على ثبوته وتنجزه إذ حديث لا

__________________

(١) لا يقال انّ تنجز وجوب التصدق لا يتوقف على اليقين التعبدي بنبات اللحية بل يكفيه تنجز نبات اللحية بعد إحراز الجعل كما تقدم ذلك سابقا حيث ذكر سابقا انّ تنجز حلية الطعام لا يتوقف على اليقين التعبدي بطهاره الطعام بل يكفيه العلم بالجعل المنضم الى تنجز الموضوع.

فإنّه يقال انّ ثبوت التنجز للأثر العقلي لا معنى له فإنّ التنجز يختص بالآثار الشرعية


تنقض على الإحتمال الثالث يقول انّ كل ما يقتضيه اليقين السابق في مقام العمل فلا بدّ من ابقائه حالة الشكّ ، وحيث إنّ اليقين السابق لا يقتضي في مقام العمل نبات اللحية فلا يكون دالا على ثبوت الأثر المذكور وتنجزه ، وبالتالي لا يتنجز وجوب التصدق فإنّ تنجزه فرع ثبوت موضوعه ـ وهو نبات اللحية ـ وتنجزه ، والمفروض عدمه.

إتضح مما سبق

وبهذا كله اتضح الوجه في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت اللوازم العقلية ولا اللوازم الشرعية المترتبة عليها. وفذلكة النكتة بإختصار : انّ التعبد بالاستصحاب بلحاظ الآثار العقلية فقط لغو ، والتعبد بلحاظ الآثار العقلية وما يترتب عليها من آثار شرعية وإن كان وجيها لكنه لا يستفاد من حديث لا تنقض فإنّ القدر المتيقن والمنصرف إليه عرفا هو التعبد بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة لا أكثر.

استثناء مما تقدم

ويستثنى من عدم ثبوت اللوازم العقلية ما كان لازما عقليا لنفس الاستصحاب دون المستصحب ، فإنّ اللازم العقلي تارة يكون لازما عقليا للمستصحب ، كما هو الحال في نبات اللحية فإنّه لازم عقلي للمستصحب أي الحياة ، واخرى يكون لازما عقليا للاستصحاب ، كما هو الحال في استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ لازم الاستصحاب المذكور تنجز وجوب الجمعة


واستحقاق العقوبة على مخالفته ، وهو لازم عقلي يحكم به العقل وليس لازما شرعيا كما وانّه ليس لازما للمستصحب أي لوجوب الجمعة ، فإنّ وجوب صلاة الجمعة لا يتنجز بثبوته الواقعي وإنّما يتنجز بسبب استصحابه. ومثل هذا الأثر العقلي يثبت ولا يكون من الأصل المثبت الذي هو غير حجّة.

والوجه في ذلك : أنّ اللازم العقلي المذكور لازم لحديث لا تنقض ـ لأنّ حديث لا تنقض بعد ما كان دالا على حجّية الاستصحاب ، والمفروض أنّ الأثر المذكور لازم لنفس الاستصحاب فيكون ثبوت الأثر المذكور لازما عقليا لنفس الحديث ـ وبما أنّ حديث لا تنقض امارة ودليل محرز وليس أصلا عمليا فيثبت اللازم العقلي المذكور لأنّ الامارة حجّة في لوازمها العقلية.

بناء على امارية الاستصحاب

ثم إنّ ما ذكر من عدم كون الاستصحاب حجّة في إثبات لوازمه العقلية مبني على كون الاستصحاب أصلا عمليا. وأمّا بناء على كونه أمارة ـ كما هو مختار السيد الخوئي حيث يرى أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية والطريقية ـ فتثبت لوازمه العقلية لما تقدم ـ في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٧٢ ـ من حجّية الأمارة في لوازمها العقلية (١) وفاقا للمشهور.

__________________

(١) وقد تقول انّه بناء على ذلك يلزم أن يقول السيد الخوئي بحجّية الاستصحاب المثبت لانّه يعتقد بأمارية الاستصحاب.

والجواب : أن السيد الخوئي لا يوافق المشهور في حجّية الأمارة في إثبات لوازمها العقلية كما تقدم ذلك في هذا القسم من الحلقة ص ٧٢


قوله ص ٢٦٥ س ١ : وعمليا : الأنسب التعبير : عملا.

قوله ص ٢٦٥ س ٢ : ولوازمه : عطف تفسير لآثار.

قوله ص ٢٦٦ س ١٣ : وأناطته بالشكّ : عطف تفسير لظاهريته.

قوله ص ٢٦٧ س ٥ : كان : الاولى حذفها.

قوله ص ٢٦٧ س ٧ : وهكذا : أي تثبت تنزيلات متعددة بعدد الآثار.

قوله ص ٢٦٧ س ١٢ : وإنّما يقع : الأولى حذف الجملة المذكورة الى قوله « وما دامت طريقية إلخ » ، لأنّ مضمون الجملة المذكورة ياتي بداية ص ٢٦٨ بقوله فانّ قيل أليس إلخ.

قوله ص ٢٦٨ س ٩ : والحكم : عطف تفسير للأثر.

قوله ص ٢٦٨ س ١٠ : وإن لم يسر إلى الحكم : أي وإن لم يسر اليقين التعبدي إلى الحكم.

قوله ص ٢٦٨ س ١٠ : ومنه يعرف إلخ : أي من تنجز الحكم بسبب اليقين التعبدي بموضوعه.

قوله ص ٢٦٨ س ١٢ : فيلزم : أي الجري على طبق حكمه.

قوله ص ٢٦٨ س ١٤ : فان قيل إلخ : هذا يرتبط بالإحتمال الثاني ورجوع اليه.

قوله ص ٢٦٩ س ٤ : وصغرى : لا بدّ من تفسير إحراز الصغرى بتنجيزها وإلاّ فهي ليست محرزة بالاستصحاب وإنّما المحرز هو المستصحب فقط دون الحكم الأوّل.

قوله ص ٢٦٩ س ٤ : جعلا وموضوعا : المراد من الجعل هو الكبرى ومن


الموضوع هو الصغرى.

قوله ص ٢٦٩ س ٨ : بما هي : أي بقطع النظر عن الآثار الشرعية المترتبة عليها.

قوله ص ٢٦٩ س ١٢ : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص ٤١٨.

قوله ص ٢٧٠ س ١ : وعلى هذا الأساس : أي على أساس البيان السابق.

قوله ص ٢٧٠ س ٨ : واستظهرنا إلخ : هذا عطف تفسير وتوجيه لامارية الاستصحاب.

قوله ص ٢٧٠ س ١١ : وأحكامها : أي الأحكام الشرعية للوازم العقلية. وهو عطف على اللوازم.

قوله ص ٢٧٠ س ١١ : على ما تقدم سابقا : في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٧٢.



تفصيل الشيخ الأعظم

والنراقي



عموم جريان الاستصحاب

قوله ص ٢٧١ س ١ : بعد ثبوت كبرى إلخ : وبعد إتضاح أنّ الاستصحاب حجّة للروايات الأربع السابقة يمكن طرح السؤال التالي : هل الاستصحاب حجّة بلا تفصيل أو هو حجّة في بعض الموارد دون بعض؟ هناك عدة تفاصيل في حجّية الاستصحاب. وقد نقل الشيخ الأعظم في رسائله أحد عشر قولا في هذا المجال. ونحن لا ننقل سوى قولين لأنهما المعروفان على الساحة الاصولية المعاصرة.

القول الأوّل

وهو للشيخ الأعظم وتبعه على ذلك الشيخ النائيني قدّس الله سرّه الشريف. وحاصله التفصيل بين موارد الشكّ في المانع فيكون الاستصحاب حجّة وبين موارد الشكّ في المقتضي فلا يكون حجّة.

توضيح ذلك : انّ الشكّ في بقاء المستصحب له أحد منشأين : ـ

١ ـ أن يكون المستصحب ذا قابلية واستعداد كامل للبقاء بيد أنّه يشكّ في بقائه من ناحية احتمال طرو المانع ، كما هو الحال في طهارة الثوب ، فإنّ الثوب لو كان طاهرا فطهارته قابلة للبقاء إلى يوم القيامة وإنّما يشكّ في بقائها أحيانا من ناحية احتمال طرو الرافع لها وهو اصابة النجاسة. والشكّ في البقاء في مثل هذا المورد يسمى بالشكّ في الرافع.


٢ ـ ان لا يكون المستصحب ذا استعداد للبقاء ، ومن أجل عدم ثبوت الاستعداد الكامل له يشكّ في بقائه كما هو الحال في الشمعة ذات اللهب ، فإنّه قد يشكّ أحيانا في بقاء نورها لا من ناحية احتمال هبوب الريح الموجب لإخمادها وإنما من ناحية احتمال ذوبانها وانعدامها بالكامل.

والمثال الشرعي لذلك : خيار الغبن بعد اتضاح الغبن ، فإنّه بعد مضي فترة قصيرة على اتضاح الغبن يشكّ في بقاء الخيار وليس ذاك من جهة احتمال الرافع إذ المفروض أنّ المغبون لم يقل اسقطت الخيار بل من ناحية احتمال ان نفس خيار الغبن ليس له استعداد للبقاء أكثر من ذلك. والشكّ في البقاء في الحالة المذكورة يسمى بالشكّ في المقتضي.

وبعد اتضاح هذا التفصيل قد تسأل عن توجيهه وأنّه لماذا كان الاستصحاب حجّة في موارد الشكّ في الرافع دونه في موارد الشكّ في المقتضي؟

والجواب : يمكن بيان ذلك بأحد وجهين : ـ

١ ـ إنّ حديث لا تنقض الذي ورد في الروايات السابقة ورد في موارد خاصة مثل الوضوء وطهارة الثوب ولم يرد كقاعدة كلية في جميع الموارد ولا يستفاد ذلك من مدلوله اللفظي. أجل استفدنا شموله لجميع الموارد من ناحية التعليل وكلمة « لا ينبغي » ، فإنّ نفس التعليل بقضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » والتعبير بكلمة لا ينبغي يدل على أنّ المطلب أمر ارتكازي إذ التعليل لا يكون عادة الاّ بأمر ارتكازي عرفي. وإذا رجعنا إلى ارتكاز العقلاء وجدنا انّ الثابت في اذهانهم حجّية الاستصحاب في خصوص موارد الشكّ في الرافع دون موارد الشكّ في المقتضي ، فالشيء الذي لا يحرزون استعداده الكامل للبقاء لا يحكمون


ببقائه وإنّما يحكمون ببقاء الشيء الذي له استعداد كامل للبقاء.

هذا حصيلة الوجه الأوّل. وهو وإن لم يذكره الشيخ الأعظم بل تبرع به السيد الشهيد ولكنه توجيه لطيف.

ويرده : انّ استفادة التعميم لا تنحصر بالتعليل وكلمة « لا ينبغي » بل يمكن استفادتهما من طريق آخر وهو اللام المذكور في كلمة الشكّ واليقين ، فإنّ الظاهر كونها لام الجنس ، أي لا تنقض جنس اليقين بجنس الشكّ. وبناء على هذا لا نحتاج في إثبات التعميم إلى مسألة الإرتكاز ليقال باختصاصه بموارد الشكّ في الرافع (١).

٢ ـ ما ذكره الشيخ الأعظم 1 في الرسائل ببيان يمكن أن ينحل إلى بيانين.

وقد اشير في الحلقة الثانية إلى كلا البيانين الذين تحتملهما عبارة الرسائل. ونحن نذكر هنا البيان الأوّل.

وحاصله : انّ كلمة النقض لا تستعمل في العرف الاّ في خصوص الإشياء التي لها استعداد كامل للبقاء ، فالجدار القوي الذي له استعداد البقاء يقال لمن هدمه : نقضه ، وأمّا الجدار الذي في طريقه إلى الإنهدام والوقوع على الأرض فلا يقال لمن هدمه : نقضه. وعليه فالروايات حيث إنّها عبرت بكلمة النقض فالمستفاد من ذلك إن الاستصحاب لا يجري إلاّ في خصوص الاشياء التي لها

__________________

(١) قد يقال بأنّ سبب حمل اللام على الجنس ـ على ما تقدم ص ٢١٠ من الحلقة ـ هو الإرتكاز المذكور ، ومع غض النظر عنه حسب الفرض كيف يمكن حينئذ إستفادة الجنسية من اللام؟

والجواب إنّا لا نريد إنكار الإرتكاز من اساسه ولا غض النظر عنه بالكامل بل هو ثابت جزما في حدود موارد الشكّ في الرافع ، وهذا المقدار من الثبوت يكفي لأن لا تكون اللام عهدية ، ومع عدم كونها عهدية يتعين كونها جنسية


اقتضاء واستعداد للبقاء دون ما ليس لها ذلك.

ويرده : إنّ اختصاص كلمة « النقض » بخصوص الأشياء ذات الاستعداد للبقاء وإن كان أمرا مسلما إلاّ إنّا نقول انّ كلمة النقض في الحديث لم تسند إلى المتيقن ليقال إنّ إسنادها إلى المتيقن قرينة على ضرورة كون المتيقن ذا استعداد للبقاء وإنما اسند إلى نفس اليقين ، ومن الواضح انّ اليقين أمر محكم وقوي يصح اسناد كلمة النقض إليه سواء كان متعلقه ذا استعداد للبقاء أم لا.

القول الثاني

وفي القول الثاني يفصل بين الشبهات الحكمية فلا يجري فيها الاستصحاب وبين الشبهات الموضوعية فيجري فيها الاستصحاب. وقد تبنى هذا التفصيل قديما الشيخ النراقي 1 وحديثا السيد الخوئي ( دام ظله ).

توضيح ذلك : انّه تقدم في الحلقة الاولى ص ١٥٤ ـ ١٥٦ أنّ للحكم التكليفي مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول. والمراد من الجعل : التشريع والحكم الإنشائي. والمراد من المجعول : الحكم الفعلي. فالحكم لا بدّ وأن يشرع أوّلا ثم يصير فعليا. وتشريعه هو الجعل وفعليته هو المجعول.

والشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا فى بقاء الحكم الإنشائي واخرى يكون شكا في بقاء الحكم الفعلي.

أمّا الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي فذاك لا يتصور إلاّ في موارد احتمال النسخ فإنّ التشريع لا يتصور الشكّ في ارتفاعه إلاّ في موارد احتمال النسخ ، وذلك لا يكون إلاّ في زمان النبي 6 ، فإنّه في زمانه 6 يمكن وقوع النسخ


ويمكن أن يشكّ المكلّف في بقاء التشريع وارتفاعه من ناحية احتمال النسخ.

وفي مثل هذه الحالة يجري الاستصحاب ولم يخالف في ذلك السيد الخوئي بل سلّم جريان استصحاب التشريع وبقاء الجعل دون أي إشكال.

وأمّا إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الفعلي فقد استشكل ( دام ظله ) في جريان الاستصحاب فيه.

ومثال ذلك : الماء المتغير بالنجاسة فإنّه لا إشكال في تنجسه ، ولكن إذا زال تغيره من قبل نفسه فسوف يشكّ في بقاء نجاسته. ولماذا هذا الشكّ ومن اين نشأ؟ فهل نشأ من ناحية احتمال نسخ التشريع؟ كلا ان هذا لا نحتمله إذ نجزم ببقاء التشريع وعدم زواله وإنما ينشأ من ناحية الشكّ في سعة الجعل وضيقه فنحن نجزم بثبوت تشريع النجاسة للماء حالة كونه متغيرا ونشك في جعل النجاسة وتشريعها حالة زوال التغير من قبل نفس الماء ، إنّ الشكّ في هذا الجعل الزائد هو السبب في الشكّ في بقاء النجاسة للماء بعد زوال تغيره ، ولو لا احتمال هذا الجعل الزائد المشكوك لما أمكن حصول الشكّ في بقاء الحكم الفعلي بالنجاسة.

اذن يمكننا ان نقول بشكل عام : إنّ الشكّ في بقاء المجعول ـ أي الحكم الفعلي ـ يلازم دائما الشكّ في الجعل الزائد. وما دام الأمر كذلك فاستصحاب بقاء المجعول يكون معارضا دائما بأصالة عدم الجعل الزائد ، فحينما نشكّ في بقاء النجاسة الفعلية بعد زوال التغير فاستصحابها وإن كان قابلا للجريان في نفسه ويثبت به بقاء النجاسة بعد زوال التغير إلاّ أنّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم الجعل الزائد ، فإنّ شكّنا في بقاء النجاسة حيث انّه ناشيء من الشك في


تشريع النجاسة للماء بعد زوال تغيره فيمكن جريان الأصل لنفي التشريع الزائد بأن نقول انه قبل التشريع الاسلامي نجزم بعدم تشريع النجاسة للماء لا حالة تغيره ولا بعد زوال تغيره ، وبعد التشريع الاسلامي نجزم بتشريع النجاسة للماء حالة تغيره ، وأمّا تشريعها بعد زوال التغير فهو مشكوك فيستصحب عدمه السابق الثابت قبل التشريع الاسلامي. إذن في موارد الشبهة الحكمية ـ كمثال نجاسة الماء المتغير ـ يكون استصحاب بقاء الحكم الفعلي قابلا للجريان في نفسه لو لا المعارضة إلاّ أنّه حيث يتعارض مع استصحاب عدم الجعل الزائد فلا يمكن جريانه ، فإنّ شمول حديث لا تنقض لكليهما معا غير ممكن ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

ثم انّه في الشبهات الموضوعية حيث لا توجد هذه المعارضة فيجري الاستصحاب فيها ، فمثلا إذا كنّا نجزم بالحكم وانّ النجاسة تبقى بعد زوال التغير أيضا بيد أنّه كان لدينا ماء خارجي معين متغير نشكّ في بقاء نجاسته من ناحية احتمال زوال تغيره ، فهذه الشبهة شبهة موضوعية والشكّ في بقاء النجاسة الفعلية فيها لم ينشأ من ناحية الشكّ في الجعل الزائد حتى يجرى استصحاب عدم الجعل الزائد ويكون معارضا لاستصحاب بقاء النجاسة الفعلية وانما الشكّ في بقاء النجاسة ناشىء من ناحية اخرى وهي احتمال بقاء التغير.

وباختصار : انّه في الشبهات الحكمية لا يجري استصحاب بقاء الحكم لمعارضته باصالة عدم الجعل الزائد ، وأمّا في الشبهات الموضوعية فحيث إنّ استصحاب بقاء الحكم الجزئي لا يكون معارضا بأصالة عدم الجعل الزائد فيجري.


الجواب عن التفصييل المذكور

وقبل أن نجيب عن التفصيل المذكور نشير إلى مشكلة اصولية أوّل من أثارها الشيخ العراقي نذكرها ونذكر حلها ثم نأخذ بعد ذلك في الجواب عن التفصيل المذكور.

إنّ المشكلة تقول انّا حتى لو قطعنا النظر عن أصالة عدم الجعل الزائد فاستصحاب بقاء الحكم في نفسه قابل للتأمل في بعض الصور.

توضيح ذلك : إنّ استصحاب بقاء الحكم له شكلان فتارة يفرض أنّ الحكم الكلّي صار فعليا ويشكّ في بقائه بعد كونه فعليا واخرى يفرض ان الحكم الكلي يشكّ في بقائه قبل صيرورته فعليا.

مثال الأوّل : أن يكون لدينا ماء معين في الخارج وهو متغير بالفعل ونرى تغيره الفعلي بالعين ، إنّ مثل الماء المذكور يتصف بالنجاسة الفعلية فإذا فرضنا زوال تغيره فسوف نشكّ في بقاء نجاسته الفعلية ، وفي مثل هذه الحالة يجري استصحاب بقاء النجاسة الفعلية دون أي إشكال ، إذ النجاسة الفعلية كانت ثابتة بنحو اليقين سابقا فإذا شكّ في بقائها بعد زوال التغير جرى استصحابها. ولكن من الذي يجري الاستصحاب؟ هل يجريه المكلّف العامي او المجتهد؟ الصحيح ان الذي يجريه هو المكلف العامي اذ الماء موجود امام المكلف العامي وهو الذي له يقين سابق وشكّ لا حق ، ولا معنى لأن يجريه المجتهد. أجل المجتهد يفتي العامي بأنّ الاستصحاب حجّة ويجري عند ما يكون لديه يقين سابق وشكّ لاحق ، وبعد هذا الإفتاء يقوم العامي نفسه بتطبيق الاستصحاب واجرائه لا أنّ


المجتهد يجريه ويفتي العامي بعد ذلك بنتيجته.

ومثال الثاني : إجراء استصحاب نجاسة الماء بدون فرض وجود ماء في الخارج بالفعل ، وهذا كما هو الحال في المجتهد ، فإنّه حينما يجري استصحاب النجاسة لا يكون أمامه ماء متغير ثم يزول تغيره بل هو يفترض وجود ماء متغير ويفترض زوال تغيره بعد ذلك ، فالشكّ على هذا شكّ في بقاء الحكم الكلي قبل أن يصير فعليا.

وفي مثل هذه الحالة أشكل الشيخ العراقي بأنّ المجتهد كيف يجري الاستصحاب والحال أنّه لا يوجد لديه متيقن سابق ومشكوك لاحق بل انّ المتيقن والمشكوك متعاصران في زمان واحد ، فالمجتهد في آن واحد يعلم بثبوت النجاسة للماء المتغير ويشكّ في نفس الوقت في ثبوتها له بعد زوال تغيره لا أنّه يتيقن أولا بثبوت النجاسة للماء المتغير وبعد مضي فترة يحصل له الشكّ في بقاء النجاسة. وما دام المتيقن والمشكوك متعاصرين في آن واحد فكيف يجري الاستصحاب والحال أنّ الاستصحاب يتوقف على الشكّ في البقاء ، وهو ـ الشكّ في البقاء ـ لا يتصور مع تعاصر المتيقن والمشكوك.

إذن المشكلة الاصولية التي أبرزها الشيخ العراقي تختص بالاستصحاب الذي يجريه المجتهد أي باستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا.

وقد تقول في جوابها : فلنمنع إجراء المجتهد للاستصحاب حتى لا نقع في المشكلة المذكورة.

وهذا باطل فإنّه لا إشكال في أنّ بناء الفقهاء وارتكازهم على منح الحق للمجتهد في إجراء مثل هذا الاستصحاب ويستفيدون من حديث لا تنقض


قابلية الاستصحاب المذكور للجريان.

ثم إن هذه المشكلة تقدمت الإشارة لها سابقا ص ٢٥٢ من الحلقة وذكرنا في الجواب عنها أنّ النجاسة حينما تلحظ صفة عارضة على الماء الخارجي فبالإمكان الحصول على اليقين السابق بحدوثها والشكّ اللاحق في بقائها.

وهذا الجواب وإن ذكرناه سابقا ولكنه جواب مؤقت حيث يرجع في الحقيقة إلى إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي بعد فرض فعليته. وهو مما لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال في إجراء المجتهد لاستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا ، إنّ المشكلة كامنة في هذا الاستصحاب ولا بدّ من رفع هذه المشكلة عن المجتهد ، وما تقدم لا ينفعنا في حلّ هذه المشكلة وإنّما يرفع المشكلة عن الاستصحاب الأوّل الذي يجريه المكلّف العامّي.

الجواب عن مشكلة الشيخ العراقي

ويمكن حلّ المشكلة ـ أي في استصحاب المجتهد ـ بأنّ الصورة الذهنية للماء المتغير الموجودة في ذهن المجتهد يمكن لحاظها بأحد شكلين فيمكن لحاضها مرة بما هي صورة ذهنية ثابتة في عالم الذهن ، ويمكن لحاظها اخرى بما هي عين الخارج ، فإنّ الصورة الذهنية تلحظ أحيانا بما هي عين الخارج ويرى بها الخارج.

والمنبه الوجداني على ذلك أنّ الخطيب الحسيني مثلا حينما ينقل واقعة الطف نتألم ونأخذ بالبكاء ، كيف يفسر ذلك والحال أنّ نفس الواقعة لم نشاهدها بالعين ولم نعاصرها مباشرة والخطيب لم يقم سوى برسم بعض صور تلك


الواقعة في ذهننا.

من هنا نفهم أنّ الخطيب وإن لم يقم بعمل سوى رسم تلك الصور في الذهن إلاّ أنّ تلك الصور الذهنية يرى بها الخارج وكأن المستمع للخطيب يرى بسبب قراءة الخطيب الخارج.

وباتضاح هذا نقول انّ الصورة الذهنية للماء المتغير إن لو حظت بالشكل الاّول أي بما هي صورة ذهنية ـ واصطلح عليها 1 بالصورة الذهنية بالحمل الشايع ـ فلا يوجد يقين بحدوثها وشكّ في بقائها ، إذ الصورة الذهنية للماء حال تغيره والصورة الذهنية للماء بعد زوال تغيره موجودتان في الذهن في وقت واحد لا أنّ الاولى هي الحادثة أوّلا ويحصل اليقين بها ثم تحدث الثانية بعد ذلك ويحصل الشكّ بها.

أمّا إذا لو حظت الصورة الذهنية للماء المتغير بالشكل الثاني أي بما هي صفة للخارج وعين الخارج ـ واصطلح عليها 1 بالصورة الذهنية بالحمل الاولي ـ فيمكن فرض يقين سابق وشكّ لا حق ويجري الاستصحاب إذ بعد رؤية الخارج عن طريق الصورة الذهنية فبالإمكان حصول يقين سابق وشكّ لا حق. وحديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا بدّ وان ينزل عرفا على النظر إلى الصورة الذهنية بالشكل الثاني فإنّ العرف يفهم منه ذلك ، ومعه فيجري الاستصحاب دون أي إشكال. وقد تسأل كيف نحمّل العرف هذا الفهم ومن أين عرفنا ذلك؟

والجواب : إنّ الإنسان العرفي لو قدّمنا له حديث لا تنقض اليقين بالشكّ ثم سألناه عن حكم الثوب المتيقن سابقا بطهارته والمشكوك لا حقا في بقائها مع فرض أنّ الثوب ليس موجودا بالفعل وإنّما هو مجرد افتراض لاجابنا دون أي


تلكأ بالحكم ببقاء طهارته.

إنّ الحكم بطهارة الثوب مع أنّه غير موجود في الخارج بالفعل دليل واضح على أنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض اليقين بالشكّ النظر إلى الصورة الذهنية المفروضة في الذهن بما هي عين الخارج وإلاّ فاللازم أن لا يحكم بطهارة الثوب بل يقول احضروا لي ثوبا متيقن الطهارة ولتمض فترة ليحصل لي الشكّ في بقائها ثم بعد ذلك أحكم لكم بطهارة الثوب.

الجواب عن تفصيل السيد الخوئي

وبعد اتضاح الجواب عن المشكلة السابقة نعرّج على تفصيل السيد الخوئي ـ الذي كان حاصله أنّ الاستصحاب لا يجري في باب الاحكام لأنّ استصحاب بقاء الحكم الفعلي معارض بأصالة عدم الجعل الزائد ـ ونقول له انّه امّا أن يفهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية للماء المتغير بما هي صورة ذهنية أو يفهم منه النظر لها بما هي عين الخارج.

فانّ فهم منه النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية فاستصحاب بقاء المجعول لا يمكن جريانه إذ بهذا اللحاظ لا يوجد يقين سابق وشكّ لا حق ليجرى الاستصحاب وإنّما يوجد بهذا اللحاظ صورتان في الذهن متقارنتان من حيث الوجود لا تقدم لإحداهما على الاخرى ويعلم بثبوت الجعل لواحدة ـ وهي الصورة الذهنية للماء المتغير حالة تغيره ـ ويشكّ في ثبوته للاخرى فينفى بأصالة عدم الجعل الزائد.

وإن فهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية بما هي عين


الخارج جرى استصحاب بقاء المجعول ، ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا اللحاظ لا نظر إلى عام الجعل والذهن ليشكّ في الجعل الزائد وينفى بأصالة عدم الجعل الزائد المشكوك.

وبكلمة اخرى : إنّ الاستصحابين لا يمكن جريانهما في وقت واحد ليحصل بينهما المعارضة ، بل امّا أن يجري استصحاب بقاء المجعول فقط بلا معارضة بأصالة عدم الجعل الزائد أو يجري استصحاب عدم الجعل الزائد بلا معارضة باستصحاب بقاء المجعول.

إن قلت : لماذا لا نأخذ بكلا النظرين ـ أي النظر إلى الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية والنظر لها بما هي عين الخارج ـ ونحكم بأنّ كلا الاستصحابين قابل للجريان في نفسه لو لا المعارضة.

قلت : إنّ حديث لا تنقض لو كان يقبل الحمل على كلا النظرين فقابلية كل واحد من الاستصحابين للجريان في نفسه لو لا المعارضة مسلمة بيد أنّه يرفض قبول كلا النظرين ولا يحتمل إلاّ أحدهما ، ومعه فلا يكون كلا الاستصحابين قابلا للجريان في نفسه حتى بقطع النظر عن المعارضة.

أمّا لماذا لا يقبل حديث لا تنقض الحمل على كلا النظرين؟ النكتة واضحة فان النظرين بينهما تهافت إذ كل واحد منهما ينفي ما يثبته الآخر فالنظر إلى الصورة بما هي عين الخارج يقتضي الشكّ في بقاء المجعول وبالتالي يقتضي جريان الاستصحاب في المجعول وينفي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد المشكوك بينما النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية يقتضي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد وبالتالي يقتضي جريان أصالة عدم الجعل الزائد وينفي الشكّ في بقاء المجعول.


وبعد عدم إمكان تحميل كلا النظرين على الحديث فلا بدّ وأن يكون محمولا على أحدهما ، ولكنه على أي واحد منهما يكون محمولا؟ إنّه محمول على النظر إلى الصورة بما هي عين الخارج لما تقدم من إنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض هذا النظر ، ومعه فاستصحاب بقاء المجعول هو الأصل الجاري ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد.

قوله ص ٢٧١ س ١٠ : وكون الكبرى مسوقة إلخ : هذا أشبه بعطف التفسير للارتكاز العرفي.

قوله ص ٢٧٢ س ٣ : وهذا البيان كما ترى إلخ : هذا مناقشة للوجه المذكور.

قوله ص ٢٧٢ س ٤ : وظهور اللام إلخ : عطف على قوله استظهار الاطلاق إلخ.

قوله ص ٢٧٢ س ١٧ : كما تقدم في محله : أي فى الحلقة الاولى ص ١٥٤ ـ ١٥٦.

قوله ص ٢٧٣ س ١ : والشكّ فيه : أي في الحكم الشرعي. والمقصود : إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا في بقاء الحكم بمعنى بقاء الجعل ، واخرى يكون شكا فى بقاء الحكم بمعنى الشكّ في بقاء المجعول.

قوله ص ٢٧٣ س ٥ : هو النسخ بالمعنى الحقيقي : مصطلح النسخ بالمعنى الحقيقي مرّ في هذه الحلقة ص ٢٥٥ س ١٤ وتقدم توضيحه.

قوله ص ٢٧٣ س ٧ : والحكم المنشأ به : عطف تفسير لقوله « مجعولة ».

قوله ص ٢٧٣ س ١٤ : إذا كان ممكنا : وذلك في زمان النبي 6.



الاستصحاب التعليقي



استصحاب الحكم المعلق :

قوله ص ٢٧٩ س ١ : قد نحرز كون الحكم منوطا إلخ : بعد ان ثبتت حجّية الاستصحاب وقع الكلام بين الاصوليين في بعض المصاديق انها حجّة أو لا.

ومن تلك المصاديق استصحاب الحكم التعليقي ، فالمشهور قبل زمان الشيخ النائيني القول بحجّيته ومن بعد زمانه انعكست الشهرة إلى القول بعدم حجيته. ولا بدّ أوّلا من إيضاح المقصود من الاستصحاب التعليقي ثم بيان وجه الإشكال في حجّيته بعد ذلك.

إنّ الشيء الذي يراد استصحابه تارة يكون أمرا منجزا لا يشتمل على كلمة « إن » الشرطية ، واخرى يكون مشروطا ومشتملا على كلمة « إن » الشرطية.

مثال الأوّل : استصحاب وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ الوجوب الذي يراد استصحابه أمر منجز لا يشتمل على كلمة « إن » الشرطية. ويسمى مثل هذا الاستصحاب بالاستصحاب التنجيزي.

ومثال الثاني : استصحاب حرمة العصير العنبي ، فان الروايات الشريفة دلت على أن العصير العنبي المغلي حرام فلو فرض أنّ لدينا عنبا سخناه بالنار حتى غلا فلا إشكال في حرمته ، أمّا إذا بقي في الهواء إلى أن جفت رطوبته وصار زبيبا ثم سخناه بالنار بعد ذلك فهل يحرم أو لا؟ في هذه الحالة ذهب بعض الفقهاء


إلى الحرمة أيضا تمسكا بالاستصحاب فيشار إلى الزبيب ويقال : هذا كان يحرم سابقا ـ أي عند ما كان عنبا ـ إن غلا والآن نشكّ في بقاء تلك الحرمة فنستصحبها.

إنّ المستصحب في هذا المثال ـ كما نلاحظ ـ ليس هو الحرمة المنجزة بل الحرمة المعلّقة على الغليان والمشروطة بـ « إن » الشرطية ، فالحرمة الثابتة للعنب إن غلا هي التي يراد استصحابها.

ثم إنّا لو تأملنا في المثال وجدنا وجود ثلاث خصوصيات : العنبية ، والغليان ، ورطوبة العنب.

أمّا الخصوصية الاولى والثانية فيجزم بدخالتهما في الحرمة فلو لا العنبية (١) ولو لا الغليان فلا حرمة جزما. وأمّا الخصوصية الثالثة وهي الرطوبة التي زالت بسبب جفاف العنب وصيرورته زبيبا فممّا يشكّ في مدخليتها ، فلو كان لها مدخلية فالحرمة حالة الزبيبية منتفية جزما ولو لم يكن لها مدخلية فهي باقية إلى حالة الزبيبية جزما. إذن منشأ الشكّ في بقاء الحرمة هو الشكّ في مدخلية هذه الخصوصية.

ثم إنّه لا بدّ من فرض أنّ الخصوصية الثانية ـ وهي الغليان ـ غير متحققة ، إذ لو كانت متحققة بأن فرض غليان العنب فحالة الزبيبية لا تكون حاصلة بل لا بدّ من فرض أنّ العنب بقي ولم يغل إلى أن صار زبيبا ثم بعد ذلك غلا. والحرمة التي يراد استصحابها إنّما صارت معلقة بسبب عدم تحقق الخصوصية الثانية إذ مع تحققها تصير ـ الحرمة ـ منجزة لا معلقة.

__________________

(١) بأن كان الشيء تينا مثلا


وبكلمة مختصرة : إنّه يلزم في الاستصحاب التعليقي فرض خصوصيتين يجزم بمدخليتهما في الحكم ويفرض أنّ الخصوصية الثانية غير متحققة (١) ـ ليصير الحكم معلقا ـ ويفرض أيضا أنّ الخصوصية الثالثة التي يشكّ في مدخليتها ـ وهي خصوصية الرطوبة ـ منتفيه بسبب التحول إلى حالة الزبيبية وبعد انتفائها والتحول إلى حالة الزبيبية يفرض تحقق الخصوصية الثانية ـ وهي الغليان ـ التي كانت مفروضة الإنتفاء حالة العنبية.

تنبيه مهم

وينبغي الإلتفات إلى وجود حالة يكون الاستصحاب فيها منجزا بحسب الصورة والشكل ومعلقا بحسب الروح والحقيقة فالناظر له قد يغفل ويعدّه منجزا مع أنّه معلق واقعا.

ومثال ذلك : الماء المطلق فيما إذا شكّ في تحوله إلى الاضافة فانّه بسبب الشكّ المذكور سوف يشكّ في جواز الاغتسال به من الجنابة. وفي هذه الحالة يمكن استصحاب بقاء صفة الإطلاق له ، وهذا استصحاب تنجيزي ولا محذور فيه ، بيد أنّه لو قطعنا النظر عنه فقد يتخيل أنّ بالإمكان استصحاب جواز الاغتسال به فيقال : سابقا كان يجوز الاغتسال به والآن يشكّ في ذلك فيستصحب بقاء الجواز ويتصور أنّ ذلك من قبيل الاستصحاب التنجيزي ، والحال انّه استصحاب تعليقي ، فإنّ الشارع لم يجعل جواز الاغتسال ولم يقل انّ الماء المطلق يجوز الاغتسال به من الجنابة كي يستصحب ذلك وإنّما جعل جواز

__________________

(١) أي هي غير متحققة عند ما كانت الخصوصية الثالثة ـ وهي الرطوبة ـ متحققة


الدخول في الصلاة منوطا بالاغتسال بالماء ، فالجنب إن اغتسل جاز له الدخول في الصلاة ، فالحكم المجعول إذن حكم تعليقي واستصحابه من قبيل الاستصحاب التعليقي وإن كان بحسب الشكل والصورة استصحابا تنجيزيا.

إنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مثل هذه الاستصحابات التي قد يتخيل انّها تنجيزية اغترارا بصورتها هي في روحها استصحابات تعليقية.

الاعتراضات على الاستصحاب التعليقي

هناك اعتراضات ثلاثة توجه عادة إلى الاستصحاب التعليقي. وقبل الإشارة لها نذكر أشكالا يخطر في ذهن الطالب يقول انّ الاستصحاب التعليقي لا يجري من جهة عدم بقاء الموضوع فإنّ موضوع الحرمة سابقا هو العنب ، وهذا الموضوع قد زال وتبدل إلى الزبيبية.

وهذا الإشكال مدفوع بأن حالة الزبيبية لو سلّم انّها توجب تغير الموضوع وليست من قبيل التبدل في بعض الحالات الطارئة فيمكن أن يقال انّ المناقشة هذه مناقشة في المثال ، فإنّ خصوص هذا المثال يرد الإشكال المذكور فيه ، ولا يرد في بقية الأمثلة كمثال جواز الإغتسال بالماء من الجنابة الذي أشرنا له سابقا.

والإعتراضات الثلاثة هي كما يلي : ـ

الاعتراض الأوّل

وهذا الاعتراض للشيخ النائيني. وحاصلة إنّ ما يراد استصحابه فيه احتمالات ثلاثة على تقدير جميعها لا يجري الاستصحاب : ـ


أ ـ أن يستصحب بقاء الجعل والتشريع فيقال انّ تشريع الحرمة لشرب العنب إذا غلى كان ثابتا والآن يشكّ في بقائه. وهذا الاحتمال باطل لأنّ التشريع يجزم ببقائه ولا يحتمل نسخه. وعليه فالاستصحاب بناء على هذا الاحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الثاني من أركان الاستصحاب وهو الشكّ في البقاء.

ب ـ أن تستصحب الحرمة الفعلية الثابتة للعنب. وهذا باطل أيضا لانّ الحرمة الفعلية لم تكن ثابتة سابقا لتستصحب إذ المفروض عدم غليان العنب سابقا لتصير حرمته فعلية. وعليه فالاستصحاب بناء على هذا الإحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الأوّل وهو اليقين بالحدوث ، إذ المفروض عدم اليقين بحدوث الحرمة بل هناك يقين بعدمها.

ج ـ أن تستصحب الحرمة المعلّقة فيقال إنّ العنب كان قد ثبتت له الحرمة إن غلى ونحن نستصحب الحرمة المعلّقة المذكورة. وهذا باطل أيضا لأنّ الحرمة المعلّقة ليست أمرا مجعولا من قبل الشارع ليمكن له ـ الشارع ـ أن يعبدنا ببقائها فان المجعول للشارع هو الحرمة للعصير العنبي المغلي ، وأمّا الحرمة المشروطة بالغليان فليست مجعولا له وإنّما نحن ننتزعها من ذلك المجعول الشرعي.

جوابان عن الاعتراض الأوّل

وقد اجيب عن هذا الإعتراض بجوابين : ـ

١ ـ ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم 1 في الرسائل من إنّا نستصحب شقا رابعا غير تلك الشقوق الثلاثة السابقة ، فنستصحب سببية الغليان للحرمة فيقال إنّ غليان العنب كان سببا للحرمة والآن نشكّ في بقاء هذه السببية


فنستصحبها. والسببية حيث إنّها حكم منجز وليست معلقة فيكون استصحابها من قبيل الاستصحاب التنجيزي ـ الذي هو حجة جزما ـ لا التعليقي.

ويرده : انه ما الغرض من استصحاب بقاء السببية؟ فهل المقصود من إثبات بقائها إثبات الحكم الفعلي ، أي إثبات أنّ الحرمة للزبيب بعد غليانه ثابتة له بالفعل أو المقصود مجرد إثبات بقاء السببية دون أن يكون الغرض إثبات فعلية الحرمة للزبيب بعد غليانه؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فيرد عليه أنّ استصحاب السببية في الحالة المذكورة من قبيل الأصل المثبت إذ لم توجد آية او رواية تقول إنّ سببية الغليان للحرمة إذا كانت باقية فالحرمة ثابتة بالفعل للزبيب بعد غليانه وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية فإنّ الروايات الشريفة رتبت الحرمة على حصول ذات السبب ـ أي على حصول الغليان فقالت إن غلى حرم ـ ولم ترتبها على سببية الغليان للحرمة.

وإن كان المقصود هو الثاني ـ أي مجرد إثبات بقاء السببية لا أكثر ـ فيرده انّ الاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كان قابلا لإثبات التنجيز أو التعذير ، ومن الواضح انّ الحكم ببقاء السببية لا يقبل التنجيز ولا التعذير ، إذ السببية حكم وضعي والاحكام الوضعية لا تقبل التنجيز أو التعذير ـ وإنّما القابل لذلك هو الأحكام التكليفية ـ لأنها ليست أمرا مجعولا للشارع لتقبل ذلك ، فالشارع قال العصير العنبي المغلي حرام ولم يقل جعلت سببية الغليان للحرمة ، وهذا بخلافه في الاحكام التكليفية فهي حيث إنّها مجعولة للشارع تقبل التنجيز والتعذير.

٢ ـ ما ذكره الشيخ العراقي في ردّ الميرزا 1. وحاصله إنّا نختار الشق


الثاني وهو استصحاب الحرمة الفعلية. وقولكم إنّ الحرمة الثابتة حالة العنبية ليست فعلية باعتبار عدم تحقق الغليان خارجا حسب الفرض ـ إذ لو كان العنب قد غلى لم يصر زبيبا ـ مدفوع بأنّ صيرورة الحكم فعليا لا تتوقف على وجود موضوعه وتحققه في الخارج فعلا بل يكفي في صيرورة الحكم فعليا فعلية تصور الموضوع في ذهن الحاكم فإنّ الحاكم عند ما يتصور في ذهنه الموضوع بالفعل يصير الحكم فعليا ولا يلزم فعلية تحققه في الخارج. وبما أنّ الحاكم قد تصور الموضوع في ذهنه بالفعل فالحكم إذن فعلي ويجري استصحابه.

واستدل الشيخ العراقي على أنّ فعلية الحكم يكفي فيها فعلية تصور الموضوع في الذهن ولا يلزم فيها فعلية تحقق الموضوع في الخارج بانه لا إشكال في أنّ المجتهد يستصحب بقاء الاحكام ، فيستصحب بقاء النجاسة للماء المتغير فيما إذا زال تغيره من قبل نفسه والحال انّه لو كانت فعلية الحكم موقوفة على فعلية الموضوع خارجا يلزم عدم جريان استصحاب النجاسة إذ المجتهد حينما يجري استصحاب النجاسة لا يوجد في غرفته حوض فيه ماء متغير ليكون الموضوع متحققا في الخارج بالفعل وبالتالي ليكون الحكم بالنجاسة فعليا.

وعليه فاستصحاب المجتهد لنجاسة الماء المتغير يدل على أنّ فعلية الحكم لا تدور مدار فعلية الموضوع خارجا بل تدور مدار فعلية تصور الموضوع في الذهن.

وقد سجل الشيخ العراقي جريان استصحاب النجاسة في المثال المذكور نقضا على الشيخ النائيني القائل بأنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه خارجا (١).

__________________

(١) من خلال هذا يتضح أنّ ما قرآناه وسمعناه مرارا من أنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية ـ


الرد على الشيخ العراقي

والشيخ العراقي في كلامه السابق أفاد مطلبين : ـ

أحدهما : إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع خارجا بل يكفي فيها فعلية تصور الموضوع في الذهن.

ثانيهما : النقض الذي سجله ، وهو أنّ فعلية الحكم لو كانت تتوقف على فعلية الموضوع خارجا فكيف يجري المجتهد استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير والحال أنّه لا يوجد في غرفته ماء متغير.

أمّا بالنسبة إلى المطلب الأوّل فيرده أنّ تصور الموضوع لا يكفي لصيرورة الحكم فعليا ، إذ الصورة الذهنية للموضوع أمّا أن ينظر لها بما هي صورة ذهنية أو ينظر لها بما هي عين الخارج.

فإن نظر لها بما هي صورة ذهنية فلا يوجد سوى الجعل والتشريع ، فبمجرد النظر إلى الصورة الذهنية للعصير العنبي المغلي لا يتحقق المجعول الفعلي حتى يقال انّ هذا المجعول الفعلي ـ أي الحرمة الفعلية ـ كان سابقا متيقنا والآن يشك في بقائه وإنّما يتحقق الجعل فقط ويكون ثبوت هذا الجعل لصورة العصير

__________________

ـ موضوعه خارجا ـ التي قال بها الميرزا والسيد الخوئي والسيد الشهيد وجماعة آخرون ـ محل نظر عند الشيخ العراقي ، فإنّه يرى أنّ حقيقة الحكم عبارة اخرى عن الإرادة وليست اعتبارا مجعولا ، كما ويرى انّ فعلية الإرادة المشروطة لا تتوقف على الوجود الخارجي للشرط بل على تصور الشرط ولحاظه ، فانّ الإرادة أمر نفسي والأمر النفسي لا يمكن أن يناط بالأمر الخارجي.

راجع بدائع الأفكار ص ٣٢٧


العنبي المغلي معلوما وثبوته للزائد ـ وهو الصورة الذهنية للزبيب المغلي ـ مشكوكا.

وإنّ نظر إلى الصورة الذهنية بما هي عين الخارج ـ بأن نظر إلى صورة العصير العنبي المغلي بما هي مرآة للعصير العنبي المغلي الموجود في الخارج ـ ففي مثل ذلك وإن تحقق المجعول الفعلي وأمكن جريان استصحاب بقاء الحرمة إلى حالة الزبيبية إلاّ انّ هذا معناه أنّ فعلية الحكم تدور مدار تحقق الموضوع في الخارج ـ غاية الأمر على مستوى الإفتراض والتقدير ـ ولا يكفي وجوده التصوري بل لا بدّ من وجوده الخارجي ولو فرضا وتقديرا وحينئذ يحصل الشكّ في بقاء الحكم الفعلي بحرمة العصير ويجري استصحابه.

وأمّا بالنسبة إلى المطلب الثاني فيرده أنّ المجتهد حينما يجري استصحاب نجاسة الماء المتغير يتصور في ذهنه صورة الماء المتغير ويرى هذه الصورة بما هي عين الخارج فيحصل له الشكّ في بقاء النجاسة ، فوجود الماء المتغير في غرفته وإن لم يكن لازما إلاّ أنّه في نفس الوقت لا يكفي مجرد تصور صورة الماء المتغير في ذهنه والنظر لها بما هي صورة ذهنية بل لا بدّ من النظر لها بما هي عين الخارج.

وقد تقول : إذا كان تصور الموضوع في الذهن والنظر إلى الصورة بما هي عين الخارج يكفي في فعلية الحكم ويكفي في صحة جريان استصحاب بقاء الحكم الفعلي فلما ذا في مقامنا لا يكفي ذلك ، أي لماذا لا نقول انّ المجتهد يتصور صورة العصير العنبي المغلي ويراها بما هي عين الخارج ويجري الاستصحاب بعد ذلك.

والجواب : إنّ المجتهد لا يتصور صورة العصير العنبي المغلي بل يتصور


صورة العصير العنبي فقط بدون ضم صورة الغليان إلى ذلك ـ إذ مع تصور الغليان أيضا يلزم انّ العنب لم يبق ليصير زبيبا ـ أي يتصور بعض الموضوع لا جميعه بكامله ، ومن الواضح إنّا حينما نقول بكفاية تصور صورة الموضوع والنظر لها بما هي عين الخارج في صيرورة الحكم فعليا فالمراد أنّ تصور صورة جميع الموضوع بكامله والنظر لها بما هي عين الخارج يكفي في صيرورة الحكم فعليا لا أنّ تصور بعض الموضوع يكفي أيضا.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

وبعد بطلان الجوابين السابقين عن الاعتراض الأوّل يتصدى السيد الشهيد بنفسه للجواب ويقول : إنّ اعتراض الشيخ النائيني يتم على تقدير ولا يتم على تقدير آخر ، فإنّ الحكم المجعول من قبل الشارع تارة يكون بلسان « العصير العنبي المغلي حرام » واخرى يكون بلسان « العصير إذا غلي حرم ».

فإن كان باللسان الأوّل فما أفاده الميرزا في الاعتراض الأوّل تام حيث لا يمكن استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان لأنها ليست حكما مجعولا للشارع وإنّما هي قضية انتزاعية تنتزع من قول الشارع « العصير العنبي المغلي حرام ».

وأمّا إذا كان باللسان الثاني فالحرمة المشروطة يمكن استصحابها إذ هي بنفسها مجعولة للشارع وليست أمرا انتزاعيا حتى يقال بعدم إمكان جريان استصحابها (١).

__________________

(١) توجد الفاظ زائدة في عبارة الكتاب لم نشر إلى شرحها لعدم مدخليتها في المطلب


الاعتراض الثاني

إنّ الغرض من استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان بل ومن كل استصحاب هو اثبات التنجيز والتعذير إذ بدون ذلك يكون الاستصحاب لغوا وبلا فائدة ولا يمكن أن يعبدنا به الشارع. وفي المقام نقول إنّ استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة لا يترتب عليه التنجيز فلا يمكن جريانه فإنّ الحرمة المعلّقة لا تقبل التنجز بل القابل لذلك هو الحرمة الفعلية ، إذ الحرمة الفعلية حرمة ثابتة بالفعل فيمكن أن يستحق المكلّف على مخالفتها العقاب ـ وهذا هو معنى التنجز إذ هو يعني استحقاق العقوبة على المخالفة ـ وهذا بخلاف الحرمة المعلّقة فإنها حرمة غير ثابتة بالفعل لكي يستحق المكلّف على مخالفتها العقاب.

وباختصار : إنّ الغرض من الاستصحاب إثبات التنجز ، واستصحاب الحرمة المعلّقة لا يثبت إلاّ بقاء الحرمة المشروطة بالغليان ، وهي غير قابلة للتنجز.

وقد تقول : انّه يمكن إجراء استصحاب الحرمة المشروطة الثابتة حال العنبية وتثبت به الحرمة الفعلية حالة الزبيبية وبالتالي يثبت التنجز ، وذلك بتقريب انّ الاستصحاب إذا كان يثبت الحرمة المشروطة ويقول إنّ الزبيب لو غلى حرم ترتب على ذلك أنّه لو جئنا بالزبيب وجئنا بالنار ووضعنا الزبيب على النار حتى غلا صارت الحرمة فعلية إذ بتحقق موضوع الحكم خارجا ـ المراد من الموضوع في المقام هو العنب والغليان ـ يصير الحكم فعليا.

والجواب : إنّ استصحاب الحرمة المشروطة لا يثبت إلاّ بقاء الحرمة


المشروطة ولا يثبت صيرورتها فعليه بتحقق العنب والغليان خارجا وإنّما ذلك لازم عقلي ، إذ العقل يقول إذا كان الزبيب يحرم لو غلى فمتى ما تحقق الغليان بالفعل خارجا صارت الحرمة فعلية وليس ذلك لازما شرعيا إذ لا توجد آية او رواية تقول إذا كانت الحرمة المشروطة باقية فمتى ما تحقق الشرط ـ وهو الغليان ـ خارجا صارت الحرمة فعلية. وعليه فالاستصحاب المذكور من قبيل الأصل المثبت الذي لم تثبت حجّيته.

جوابان عن الاعتراض الثاني

ويمكن الجواب عن الاعتراض الثاني ببيانين : ـ

١ ـ إنّ تنجز الحكم لا يتوقف على فعليته ليقال إنّ إثبات الفعلية عن طريق استصحاب الحرمة المشروطة هو من قبيل الأصل المثبت ، بل انّ تنجز الحكم يكفي فيه وصول التشريع ووصول صغراه ، فمتى ما علم المكلّف بالتشريع وأنّ الزبيب يحرم لو غلى وعلم بالصغرى ـ أي انّ هذا زبيب وانّه قد غلى ـ حكم العقل بتنجز الحرمة عليه.

وفي المقام كلا المطلبين ثابت ، فالتشريع بحرمة الزبيب لو غلى معلوم وواصل من طريق الاستصحاب ، إذ استصحاب الحرمة المشروطة الثابتة حالة العنبية يثبت أن الحرمة المشروطة ثابتة إلى حالة الزبيبية أيضا. وأمّا الصغرى فهي ثابتة أيضا إذ كون الشيء زبيبا وكونه قد غلى بالنار ثابت بالوجدان ، ومعه تتنجز الحرمة ولا يلزم إشكال الاستصحاب المثبت فإنّه يلزم لو كان ثبوت التنجز بحاجة إلى إثبات كون الحكم فعليا في المرحلة الاولى ، أمّا إذا لم يحتج إلى


ذلك فلا يلزم.

٢ ـ إنّا لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ـ فاستصحاب وجوب الجمعة مثلا يعني جعل وجوب ظاهري لصلاة الجمعة في زمان الشكّ مماثل للوجوب السابق ـ فاستصحاب بقاء الحرمة المعلّقة يعني ثبوت حرمة معلقة للزبيب وأنّه يحرم لو غلى. ولازم ثبوت هذه الحرمة المعلّقة تحولها إلى حرمة فعلية عند تحقق الغليان خارجا. وهذا التحول وإن كان لازما عقليا وليس لازما شرعيا إلاّ أنّه ليس لازما للمستصحب بل هو لازم عقلي لنفس الاستصحاب. وقد تقدم (١) انّ لوازم نفس الاستصحاب حجّة.

أمّا لماذا لم يكن هذا التحول لازما عقليا لنفس المستصحب؟ النكتة في ذلك : انّ لازم المستصحب هو ذلك اللازم الذي يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي ، كما هو الحال في نبات اللحية فإنّه يترتب على حياة الولد بوجودها الواقعي ، فالولد إذا كان حيا في الواقع فلحيته نابتة سواء علم بالحياة أم لا ، إنّ مثل هذا اللازم الذي يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي يسمى بلازم المستصحب ولا يثبت بالاستصحاب. أمّا إذا كان اللازم لا يترتب على المستصحب بوجوده الواقعي وإنّما يترتب بعد جريان الاستصحاب فمثل هذا يكون لازما لنفس الاستصحاب ، وهذا كما الحال في المقام (٢) فإنّ ثبوت الحرمة

__________________

(١) ص ٢٧٠ من الحلقة

(٢) وكما هو الحال في استصحاب وجوب الجمعة فإنّه تترتب عليه المنجزية التي هي من اللوازم العقلية ، وهي لازم عقلي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب الذي هو الوجوب الواقعي ، فانّ الوجوب الواقعي بدون حصول العلم به من طريق الاستصحاب لا يكفي لحصول المنجزية


المعلّقة واقعا للزبيب قبل أن يحصل العلم بها من طريق الاستصحاب لا يكفي لصيروتها فعلية وإنّما تصير فعلية عند العلم بها بواسطة الاستصحاب ، فالمكلّف إذا علم بواسطة الاستصحاب أنّ الزبيب لو غلى حرم فحينذاك تصير حرمته فعلية عنه الغليان ، وأمّا إذا لم يعلم بذلك فبغليانه واقعا لا يصير محرما بالفعل.

والخلاصة : إنّ الحرمة الفعلية بعد تحقق الغليان مترتبة على العلم بالحرمة المعلّقة لا على الحرمة المعلّقة الواقعية ، ومعه فتكون من اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب وهي حجّة كما تقدم.

ثم انّ هذا الجواب ـ كما عرفت ـ مبنائي ، أي مبني على القول بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل.

الاعتراض الثالث

وفي الاعتراض الثالث يقال انّ الاستصحاب التعليقي حتى لو سلم من الاعتراضين السابقين ـ بأن فرض ان الحرمة المعلّقة التي يراد استصحابها كانت مجعولة بنفسها وفرض أن استصحاب الحرمة المعلّقة يكفي لصيرورتها حرمة فعلية بدون لزوم محذور الأصل المثبت ـ فمع ذلك لا يمكن جريانه من جهة اخرى ، وهي معارضته بالاستصحاب التنجيزى ، فإنّ الزبيب له حكمان يمكن أن يجري الاستصحاب في كليهما وهما : الحرمة المعلّقة الثابتة حالة العنبية ، والحلية الثابتة قبل الغليان ، فالزبيب قبل أن يأخذ بالغليان يحل أكله حلية فعلية فإذا شككنا في زوال تلك الحلية بالغليان جرى استصحابها ويثبت بقاؤها بعد الغليان ويكون ذلك معارضا لاستصحاب الحرمة المعلّقة.


وباختصار : إنّه قبل تحقق الشرط ـ وهو الغليان في مثالنا ـ يوجد حكم فعلي يجري الاستصحاب لإثبات بقائه بعد تحقق الشرط ويكون ذلك معارضا للاستصحاب التعليقي.

جوابان عن الاعتراض الثالث

وقد اجيب عن الاعتراض الثالث بجوابين : ـ

١ ـ ما ذكره الآخوند من أنّ حرمة العنب إذا كانت معلقة على الغليان فهذا معناه أن حلية العنب تنتهي عند تحقق الغليان ، ومن الواضح إنّ تلك الحرمة وهذه الحلية لا يوجد بينهما أي منافرة ، فالعنب في وقت واحد يمكن أن نقول هو حرام إن غلى وهو حلال بالفعل إلى أن يغلي.

وما دامت تلك الحرمة والحلية ثابتتين حالة العنبية على سبيل الجزم واليقين وليس بينهما أي منافرة فثبوتهما حالة الزبيبية عن طريق الاستصحاب أولى بعدم المنافرة فإنّه في حالة ثبوتهما الجزمي إذا لم يكن بينهما منافرة ففي حالة ثبوتهما الاستصحابي أولى بأن لا يكون بينهما منافرة.

ويرد ذلك : أنّ الحلية الفعلية التي يراد استصحابها ليست هي الحلية الثابتة حالة العنبية ليقال ان تلك الحلية مغياة بالغليان ، واستصحاب بقائها لا يتنافى وبقاء الحرمة المشروطة ، وإنّما يراد بها الحلية الثابتة حالة الزبيبية ، والحلية المذكورة لا يعلم انها مغياة بالغليان إذ لعلّ جفاف العنب أوجب حدوث حلية له مستمرة حتى بعد الغليان وغير مغياة به. وعلى هذا فنحن نشير إلى الزبيب قبل أن يغلي ونقول هو الآن حلال جزما فإذا شككنا في بقاء حليته هذه بعد غليانه


جرى استصحابها وثبت بذلك بقائها بعد الغليان.

إن قلت : إنّه يمكننا إثبات انّه لم تثبت حلية جديدة للعنب بعد جفافه وصيرورته زبيبا وانها حلية مغياة بالغليان أو لا جرى استصحاب تلك الحلية السابقة ويثبت أن الحلية الثابتة حالة الزبيبية هي مغياة أيضا.

قلت : إنّ أقصى ما يثبته استصحاب بقاء الحلية المغياة والثابتة حالة العنبية هو بقاء تلك الحلية المغياة إلى حالة الزبيبية ولكنه لا يثبت أنّ الحلية الثابتة بالفعل للزبيب هي نفس تلك الحلية السابقة المغياة إلاّ بالملازمة والأصل المثبت من باب أنّ تلك الحلية السابقة إذا كانت باقية ومستمرة إلى حالة الزبيبية فالحلية الثابتة للزبيب لا بدّ وأن تكون مغياة أيضا إذ لو لم تكن مغياة فلازمه ثبوت حليتين للزبيب ـ إحداهما هي الثابتة سابقا المغياة بالغليان والتي هي مستمرة بواسطة الاستصحاب والاخرى هي الحلية غير المغياة بالغليان ـ وحيث انّ ثبوت حليتين لشيء واحد غير ممكن فلا بدّ وأن تكون الحلية الثابتة حالة الزبيبية مغياة أيضا.

وإن شئت قلت : إنّ الزبيب قبل أن يغلي لا إشكال في حليته فيمكن أن نشير إليه ونقول هذا يجوز أكله الآن فإنّ كل زبيب يجوز أكله بلا إشكال. وهذه الحلية الثابتة له لا نعلم كونها مغياة بالغليان فمن الممكن أن تكون باقية إلى ما بعد الغليان ، وبالاستصحاب يثبت بقاؤها بعد الغليان. ولا يمكن أن يقال إنّ


استصحاب بقاء الحلية المغياة يثبت أنّ الحلية الثابتة للزبيب الآن هي مغياة أيضا إذ لا توجد آية او رواية تقول إذا كانت الحلية السابقة المغياة باقية فهذه الحلية الثابتة الآن للزبيب هي تلك الحلية السابقة المغياة بل ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية إذ لو لم تكن الحلية الثابتة الآن للزبيب هي نفس السابقة المغياة فلازم ذلك ثبوت حلية اخرى للزبيب غير الحلية السابقة الثابت استمرارها بالاستصحاب. وواضح أنّ الشيء الواحد لا يتحمل حليتين.

٢ ـ ما ذكره الشيخ الأنصاري والنائيني 1 من أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي فيكون الاستصحاب التعليقي هو المقدم.

أمّا كيف توجه الحكومة؟ ذكرا 0 في توجيه ذلك بيانا اعرض السيد الشهيد عن ذكره هنا لوهنة وتبرع هو بذكر بيان لطيف يرجع حاصله إلى أنّ الاستصحاب التعليقي أمّا أن نقول هو يثبت بقاء الحرمة المعلّقة إلى حالة الزبيبية دون أن يقوى على تحويلها إلى حرمة فعلية عند حصول الغليان إلاّ بنحو الملازمة العقلية والأصل المثبت أو نقول بأنّه يقوى على ذلك؟

فإن قلنا إنّه لا يقوى على ذلك ـ كما اختار ذلك أصحاب الاعتراض الثاني ـ فهو حينئذ لا يقبل الجريان في نفسه لأنّ التعبد به لغو وبلا فائدة بعد عدم ثبوت الحرمة الفعلية به. وما دام لا يجري في نفسه فلا تصل النوبة إلى معارضته بالاستصحاب التنجيزي ، فإنّ معارضته بذلك فرع قابليته لجريانه في نفسه.

وإن قلنا بانّه يقوى على ذلك ـ كما هو الحال على مسلك جعل الحكم المماثل حيث مرّ ص ٢٨٤ من الحلقة إمكان إثبات الفعلية بناء على المسلك المذكور ـ فيجري ويكون مقدما على الاستصحاب التنجيزي بالحكومة لأنّه إذا


جرى واثبت حرمة الزبيب حرمة فعلية بعد غليانه صار المكلّف عالما تعبدا بحرمة الزبيب وانّه ليس بحلال بالفعل ، وبصيرورة المكلّف عالما بإنتفاء الحلية الفعلية لا يبقى شكّ ليجري الاستصحاب التنجيزي لإثبات بقائها. وهذا هو معنى الحكومة فإنّ الدليل الحاكم هو الدليل الذي ينفي (١) عند جريانه موضوع الدليل الآخر نفيا تعبديا.

إن قلت : لماذا لا نجري الاستصحاب التنجيزي أوّلا ليكون هو الحاكم والرافع لموضوع الاستصحاب التعليقي.

قلت : إنّ الاستصحاب التنجيزي لا يرفع موضوع الاستصحاب التعليقي إذ الاستصحاب التنجيزي يثبت بقاء الحلية الفعلية للزبيب بعد غليانه ، ومن الواضح انّه لا توجد آية أو رواية تقول إذا كانت الحلية الفعلية باقية فالحرمة المعلّقة منتفية ، وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية والأصل المثبت.

وإن شئت قلت : إنّا قرأنا في الحلقة الثانية ص ٤٤١ انّه إذا كان لدينا أصلان وكان أحدهما ينفي موضوع الأصل الآخر دون العكس فالأصل الذي ينفي موضوع الأصل الآخر يسمى بالأصل الحاكم ويكون هو المقدم. ومن أمثلة ذلك : ما إذا لدينا ثوب متنجس وكان لدينا أيضا ماء نعلم بطهارته سابقا ونشكّ في طهارته الآن فإذا غسلنا الثوب به حصل لنا الشكّ في بقاء نجاسته. وفي هذه الحالة يوجد استصحابان متعارضان أحدهما استصحاب بقاء الماء على الطهارة وثانيهما : استصحاب بقاء الثوب على النجاسة ، واستصحاب طهارة الماء هو

__________________

(١) وعلى حدّ تعبير الكتاب : يعالج مورد الأصل الآخر ، فإنّ المقصود من معالجة مورد الأصل الآخر نفي موضوع الأصل الآخر


الحاكم والمقدم لأنّه إذا جرى اثبت أنّ الماء طاهر ، ومن اللوازم الشرعية لطهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ، وبذلك نصير عالمين بطهارة الثوب ويزول الشكّ في بقاء نجاسة الثوب الذي هو موضوع استصحاب بقاء نجاسة الثوب ، وهذا بخلاف استصحاب نجاسة الثوب فإنّه لا يورث العلم بنجاسة الماء إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الثوب باقيا على النجاسة فالماء نجس وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية والأصل المثبت.

هذا مثال للأصل الحاكم قرأناه في الحلقة الثانية. وفي مقامنا نقول نفس هذا الكلام ، أي نقول إنّ الاستصحاب التعليقي إذا جرى يكون نافيا لموضوع الاستصحاب التنجيزي فيكون هو الحاكم.

هذا حصيلة توجيه حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي.

ويرد عليه : انّه يتم لو سلمنا المبنى وان الاستصحاب التعليقي يثبت إضافة إلى بقاء الحرمة المعلّقة الحرمة الفعلية بدون محذور الأصل المثبت ، أمّا إذا قلنا إنّه لا يثبت ذلك بل يثبت بقاء الحرمة المعلّقة فقط فحينئذ لا يصير المكلّف عالما بالحرمة الفعلية وانتفاء الحلية الفعلية لينعدم موضوع الاستصحاب التنجيزي.

إن قلت : إنّ الاستصحاب التعليقي إذا لم يثبت الحرمة الفعلية فلا يجري في نفسه لأنّ التعبد به لغو وبلا فائدة.

قلت : بل ذاك ليس لغوا فإنّ المرجو من الاستصحاب أن يكون منجزا أو معذرا ، فمتى ما كان باستطاعته ذلك جرى ولا يلزم من التعبد به محذور اللغوية.

وفي المقام الأمر كذلك فإنّا ذكرنا فيما سبق (١) انّ استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة

__________________

(١) ص ١٨٤ من الحلقة


يكفي لإثبات التنجز بلا حاجة إلى إثبات الفعلية إذ يكفي لإثبات التنجز العلم بالكبرى والصغرى ، وفي المقام الأمر كذلك فإنّه باستصحاب بقاء الحرمه المعلّقة يصير المكلّف عالما بتشريع الحرمة المشروطة بالغليان للزبيب فإذا علم بكون الشيء زبيبا وعلم بغليانه صارت حرمته منجزة بلا حاجة إلى إثبات سبق الفعلية ، ومعه فلا يكون الاستصحاب التعليقي حاكما على الاستصحاب التنجيزي وبالتالي تكون المعارضة مستقرة بينها (١).

قوله ص ٢٧٩ س ١ : بخصوصيتين : هما العنبية والغليان.

قوله ص ٢٧٩ س ٢ : خصوصية ثالثة : هي الرطوبة وعدم الجفاف.

قوله ص ٢٧٩ س ٣ : إحدى تلك إلخ : وهي العنبية.

قوله ص ٢٧٩ س ٤ : والثانية معلومة الانتفاء : وهي الغليان.

قوله ص ٢٧٩ س ٥ : وهذا الافتراض يعني إلخ : أي افتراض أنّ الغليان لم يتحقق ، فإنّ حرمة العنب ما دامت مشروطة به فبعدم تحققه لا تكون الحرمة فعلية بل معلقة على حصوله.

قوله ص ٢٧٩ س ٧ : والقضية الشرطية : عطف تفسير على الحكم المعلق.

قوله ص ٢٨٠ س ٦ : والمجعول لا يقين بحدوثه : أي أنّ الحرمه الفعلية لا يقين بحدوثها بل هناك يقين بعدم حدوثها.

قوله ص ٢٨٠ س ١٦ : لذات السبب : وهو الغليان ، إذ قالت إن غلى حرم.

__________________

(١) من خلال هذا كله اتضح أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري للاعتراض الثالث ، أي إشكال المعارضة بالاستصحاب التنجيزي. هذا ما في الحلقة ولكن في التقرير ج ٦ ص ٢٩٢ دفع ذلك.

والنتيجة على ذلك هي جريان الاستصحاب التعليقي


قوله ص ٢٨١ س ٣ : أنّ المجعول : ليس المراد من المجعول الحكم الفعلي بل الحكم الذي جعله الشارع.

قوله ص ٢٨١ س ٦ : ولأنّه منوط إلخ : الصواب : لأنّه منوط إلخ بحذف الواو.

قوله ص ٢٨١ س ١٤ : على ما تقدم في الواجب المشروط : الحلقة الثالثة ح ١ ص ٣٣٢.

قوله ص ٢٨١ س ١٦ : على ما عرفت سابقا : ص ٢٥٢ من الحلقة.

قوله ص ٢٨٦ س ٧ : يعالج مورد إلخ : أي ينفي موضوع الأصل الثاني. هذا فيمّا إذا كان أحد الأصلين مخالفا للآخر. وقد يكونان متوافقين فيكون العلاج بنحو الإثبات لا النفي.

قوله ص ٢٨٦ س ١٢ : ولا يتعرض إلى الثبوت التقديري : عطف تفسير لقوله فلا ينفي الحرمة المعلّقة. والمقصود من الثبوت التقديري الحرمة المعلقة.



استصحاب عدم النسخ



استصحاب عدم النسخ

قوله ص ٢٨٧ س ١ : تقدم في الحلقة السابقة إلخ : ومن جملة أقسام الاستصحاب التي وقع الإشكال فيها استصحاب عدم النسخ. وقبل أن نوضح الإشكال لا بدّ من استذكار ما قرآناه في الحلقة الثانية ص ٢٩٩ عن النسخ.

إنّ كل حكم يحتوي على مرحلتين : مرحلة المصلحة والارادة ، ومرحلة الإعتبار والجعل. والنسخ تارة ينظر إليه مرتبطا بالمصلحة واخرى ينظر له مرتبطا بالجعل.

والمراد من النسخ المرتبط بالمصلحة أن يعتقد الإنسان وجود مصلحة في شيء معين ثم يتبين له بعد ذلك انتفاء المصلحة ، كما لو قرر شخص تأسيس مشروع معين لاعتقاده وجود المصلحة في ذلك وشرع فيه ثم تجلى في الاثناء عدم وجود المصلحة فيحصل له التراجع. إن تكشّف انتفاء المصلحة هو نسخ يرتبط بالمصلحة ، وهو مستحيل في حق الله سبحانه لأن لازمه الجهل فلا يمكن أن يعتقد سبحانه وجود المصلحة في حكم ويشرعه ثم ينكشف له عدم وجودها.

أجل يمكن أن يفترض أنّ الله سبحانه يعلم منذ البداية بأنّ المصلحة ثابتة في الحكم إلى أمد معين فإذا انتهى الأمد انتهت المصلحة وكان ذلك نسخا لها إلاّ أنّه نسخ لها بنحو المجاز. إذن النسخ المرتبط بالمصلحة بمعناه الحقيقي مستحيل في حق الله سبحانه وبمعناه المجازي ممكن.


وأمّا النسخ المرتبط بالجعل فهو على قسمين أيضا : حقيقي ومجازي.

أمّا الحقيقي فالمقصود منه أن يجعل الله سبحانه الحكم إلى الأبد بحسب لسان الدليل ، فلسان الدليل مطلق ولا يقيد بفترة محددة ـ ولكنه سبحانه يعلم أنّ المصلحة تقتضي جعله لفترة محددة ـ ثم في الأثناء يأتي الناسخ فيرفعه.

وأمّا المجازي فهو أن يجعل الحكم من الأوّل محددا بمدة معينة ثم ينتهي الأمد فيرتفع الحكم.

وإنّما كان هذا نسخا بنحو المجاز لأنّه لم يجعل مستمرا منذ البداية ليكون رفعه نسخا.

ثم ان نسخ الجعل بكلا قسميه الحقيقي والمجازي ممكن في حق الله سبحانه ، فالحقيقي منه ممكن أيضا ، إذ من الوجيه أن يشرّع الله سبحانه الحكم من دون تقييده بمدة إظهارا لهيبته وأهميته ـ وإن كان في الواقع يعلم عدم اقتضاء المصلحة لاستمراره ـ ثم يرفعه في الإثناء.

والخلاصة من كل هذا : إنّ النسخ المرتبط بالمصلحة بمعناه الحقيقي لا يمكن في حق الله سبحانه. وأمّا النسخ المرتبط بالجعل فهو ممكن في حقه بكلا معنييه الحقيقي والمجازي.

الشكّ في نسخ الجعل على قسمين

ثم إنّه بعد أن اتضح أنّ نسخ الجعل أمر ممكن في حق الله سبحانه نقول : انّ الشكّ في نسخ الجعل له قسمان : ـ

١ ـ إنّ يشكّ في نسخ نفس الجعل ، كما هو الحال في وجوب التوجه إلى بيت


المقدس فإنّه كان ثابتا فيمّا سبق فإذا شككنا في رفعه وتبدله إلى وجوب التوجه للكعبة المشرفة كان ذلك شكا في أصل النسخ.

٢ ـ أن يعلم بعدم حصول نسخ الجعل ولكن مع ذلك يحتمل ارتفاع الحكم لا من ناحية نسخ الجعل بل من ناحية تقيد الحكم منذ البداية بفترة معينة ، كما هو الحال في الشكّ في بقاء وجوب الجمعة زمن الغيبة ، فإنّ الشكّ في بقاء ذلك لم ينشأ من ناحية احتمال نسخ جعل الوجوب وإنّما هو ناشيء من ناحية احتمال ضيق الحكم المجعول وتحدده بفترة الحضور.

إذن الشكّ في بقاء الحكم تارة ينشأ من احتمال نسخ الجعل واخرى ينشأ من جهة احتمال ضيق المجعول وتقيده بفترة محددة.

وبعد اتضاح هذين القسمين نأتي إلى الاستصحاب لنرى أنّه هل يمكن أن يجري فيهما لإثبات عدم تحقق النسخ ـ فإنّ نقطة البحث هي هذه ، أي في إمكان استصحاب عدم النسخ ـ أو لا؟

أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل ، وهو الشكّ في نسخ أصل الجعل فالاستصحاب لا مانع منه فيمكن أن يقال مثلا ان جعل وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا فيما سبق فإذا شكّ في نسخه جرى استصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه لأنّ أركان الاستصحاب فيه متوفرة فيوجد يقين سابق بثبوت الجعل وشكّ في بقائه فيجري استصحابه.

أجل قد يستشكل فيه من ناحية أنّ استصحاب بقاء الجعل لا تكون له فائدة إلاّ إذا قصد من خلاله إثبات بقاء الوجوب الفعلي وإلاّ فمجرد بقاء جعل وجوب التوجه إلى بيت المقدس بلا أن يكون فعليا لا فائدة فيه ، ومن الواضح انّ


استصحاب بقاء الجعل لإثبات بقاء الوجوب الفعلي لا يتم إلاّ بنحو الملازمة العقلية والأصل المثبت إذ لا توجد آية ولا رواية تقول انّ الجعل إذا كان باقيا فالحكم الفعلي يكون باقيا أيضا وإنّما ذلك مما يحكم به العقل.

ويمكن دفع هذا الإشكال بأنّ إثبات فعلية الحكم لا داعي له فإنّ المهم إثبات تنجز الحكم ، وواضح انّ التنجز لا يتوقف على سبق فعلية الحكم بل يكفي فيه ـ كما تقدم ص ٢٨٤ من الحلقة ـ العلم بالجعل والعلم بتحقق الموضوع ، فإذا استصحب الجعل وعلم من خلاله بقائه في حق المكلّف وعلم بالصغرى ـ أي علم المكلّف بأنّ التوجه إلى هذه الجهة توجه إلى بيت المقدس ـ كفى ذاك في التنجز بلا حاجة إلى إثبات الفعلية ليلزم محذور الأصل المثبت.

وبالجملة : التمسك باستصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه لا محذور فيه.

ولكن هل يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات بقاء الجعل بأن يقال انّ مقتضى إطلاق دليل « توجّه إلى بيت المقدس » أنّ وجوب التوجه ثابت في جميع الازمنة؟ والجواب : كلا لا يمكن ، فإنّ الإطلاق إنّما يصح التمسك به فيمّا إذا شكّ في تقييد مفاد الدليل بأن يكون مفاد الدليل ثابتا ويشكّ في تقييده ، فمفاد اعتق رقبة مثلا وجوب عتق الرقبة ، فإذا شكّ في تقييد الوجوب المذكور بالإيمان كان مقتضى الإطلاق عدمه ، أمّا إذا لم يكن الشكّ في تقييد مفاد الدليل بل كان الشكّ في أصل ثبوت مفاد الدليل وعدمه فلا معنى للتمسك بالإطلاق ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الشكّ في نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس شكّ في بقاء مفاد دليل توجّه إلى بيت المقدس وعدمه ، فانّ مفاد الدليل المذكور هو وجوب التوجه إلى بيت المقدس ، والشكّ في نسخه وعدمه شكّ في بقاء مفاد الدليل


المذكور وعدمه وليس شكا في تقييد مفاد الدليل بعد إحراز ثبوته.

هذا كله بالنسبة إلى القسم الأوّل من قسمي الشكّ في بقاء الحكم.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني وهو الشكّ في بقاء الحكم من جهة احتمال تقييد الحكم المجعول بفترة محددة فمثاله الشكّ في بقاء وجوب الجمعة إلى زمن الغيبة.

وفي هذا القسم يجوز جزما التمسكّ بإطلاق الدليل لنفي التقييد بالفترة المحددة ، إذ الشكّ في القسم المذكور يرجع إلى الشكّ في تقييد مفاد دليل « يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله » بخصوص فترة الحضور وليس شكا في زوال مفاد الدليل.

وأمّا بالنسبة إلى الاستصحاب فقد يشكل على استصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه بانّ الافراد الذين عاشوا زمن الحضور هم غير الأفراد المتواجدين زمن الغيبة ، فالموضوع ليس واحدا ، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب.

ونفس هذا الكلام يأتي في استصحاب أحكام الشرائع السابقة كما لو اريد استصحاب حكم ثابت في شريعة عيسى 7 فقد يستشكل بأنّ الناس الذين عاشوا زمن تلك الشريعة هم غير الناس المعاصرين لهذه الشريعة فلا يجري الاستصحاب لعدم وحدة الموضوع. اللهم إلاّ إذا فرض أنّ شخصا أدرك كلتا الشريعتين ـ كما هو الحال في حق سلمان المحمدي بناء على ادراكه لشريعة عيسى 7 ـ فإنّ استصحاب بقاء حكم شريعة عيسى 7 يجري في حقه لوحدة الموضوع وعدم تغايره ، أمّا بالنسبة إلى غيره فلا يجري الاستصحاب لتغاير الموضوع.

هذا هو الإشكال في استصحاب عدم النسخ. وكل ما ذكرناه في هذا البحث إلى الآن فهو تمهيد لبيان هذا الاستصحاب وتمهيد لبيان الإشكال الوارد


عليه وانّ الموضوع ما دام ليس واحدا فلا يجري الاستصحاب.

ولعل أوّل من آثار هذا الإشكال هو الشيخ الأعظم في رسائله.

جوابان عن إشكال الاستصحاب

وهناك جوابان عن الإشكال المذكور هما : ـ

١ ـ إنّ الحكم في الزمان السابق لم يكن ثابتا للافراد والاشخاص الموجودة في ذلك الزمان (١) حتى يقال بأنّ تلك الافراد الموجودة في الزمان السابق تغاير الافراد الموجودة في هذا الزمان وإنّما الحكم ثابت لكل فرد من الافراد سواء كان موجودا في الزمان السابق أو في الزمان اللاحق. وبكلمة اخرى هو ثابت لعنوان المكلّف المقدر الوجود أعم من أن يكون موجودا في ذلك الزمان أو لا (٢).

وبناء على هذا يكون الموضوع واحدا غاية الأمر يكون وجوده متقدما زمانا في القضية المتيقنة ومتاخرا في القضية المشكوكة.

٢ ـ إنّه يمكن الإشارة إلى الشخص الموجود في هذا الزمان المتأخر ويقال إنّ هذا كان لو وجد في الزمان السابق لثبت له الحكم وهو الآن لو وجد لثبت الحكم له أيضا فالمستصحب هو القضية الشرطية بخلافه في الجواب السابق فإنّ المستصحب هو الحكم المنجز (٣).

__________________

(١) والحكم المجعول بهذا الشكل يصطلح عليه بأنّه مجعول بنحو القضية الخارجية ، فإنّه في القضية الخارجية يكون الحكم منصبا على الأفراد الموجودة بالفعل حين الحكم

(٢) والحكم المجعول بهذا الشكل يصطلح عليه بأنّه مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فإنّه في القضية الحقيقية يكون الحكم منصبا على مطلق الأفراد سواء كانت موجودة بالفعل أم لا

(٣) قد يشكل على الاستصحاب التعليقى المذكور بأنّ المتيقن هو أنّه لو وجد المكلّف في ـ


هذا ولكن إجراء الاستصحاب بكلا هذين الشكلين يتوجه له إشكال ، وهو أنّه معارض باستصحاب عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ، فإنّ كل شخص موجود في هذا الزمان يمكن أن يشار له ويقال هذا قبل أن يبلغ سن التكليف لم يكن وجوب صلاة الجمعة ثابتا في حقه فإذا شكّ في بقاء ذلك جرى استصحاب بقاء عدم الوجوب وكان ذلك معارضا لاستصحاب بقاء التكليف بأحد الشكلين السابقين. وهذه المعارضة تشبه تماما المعارضة المتقدمة في الاستصحاب التعليقي ، حيث قيل انّ استصحاب بقاء الحرمة المشروطة إلى حالة الزبيبية معارض باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل غليان الزبيب ، وكما كانت تلك المعارضة مانعة من حجّية الاستصحاب التعليقي كذلك المعارضة في المقام مانعة من حجّية استصحاب بقاء التكليف إلى زمن الغيبة.

قوله ص ٢٨٧ س ٢ : مبادئ الحكم : وهي المصلحة والإرادة. وأمّا النسخ بمعناه المجازي بالنسبة إلى مبادئ الحكم فهو ممكن.

قوله ص ٢٨٧ س ٢ : ومعقول بالنسبة إلى الحكم في إلخ : بلا فرق بين

__________________

ـ الزمان السابق لثبت له الحكم وأمّا أنّه لو وجد الآن فيثبت له الآن فهذا لم يكن متيقنا سابقا حتى يستصحب.

والجواب : إنّ مثل هذا الإشكال يعم كل استصحاب تعليقي فالزبيب مثلا حينما يشار له ويقال لو غلى في السابق حرم وهو الآن أيضا لو غلى حرم يأتي فيه مثل هذا الإشكال حيث يقال إن الزبيب كان يحرم لو غلى في الزمان السابق وأمّا أنه يحرم لو غلى الآن أي في حال الزبيبية فهو لم يكن متيقنا سابقا.

وحل الإشكال : انّ خصوصية التغاير من حيث الزمان لا تؤثر على الاستصحاب ، فالموضوع ما دام واحدا يجرى فيه الاستصحاب وإن اختلف من حيث الزمان


معناه الحقيقي والمجازي فإنّ كليهما معقول بالنسبة إلى عالم الجعل.

قوله ص ٢٨٧ س ٣ : وعليه فالشكّ إلخ : أي مادام النسخ بلحاظ عالم الجعل معقولا حتى بمعناه الحقيقي.

قوله ص ٢٨٨ س ١١ : وعلاج ذلك : هذا جواب الإشكال.

قوله ص ٢٨٨ س ١٣ : مباشرة : قيد لقوله « تنصب ».

قوله ص ٢٨٨ س ١٤ : على الموضوع الكلي : وهو عنوان المكلّف حيث انّ الحكم ينصب على كل مكلّف قدّر وفرض وجوده.

قوله ص ٢٨٨ س ١٥ : وفي هذه المرحلة : أي مرحلة صبّ الحكم على الموضوع الكلي المقدر الوجود.

قوله ص ٢٨٨ س ١٦ : وتأخر الموضوع إلخ : عطف تفسير لقوله إلاّ من ناحية الزمان.

قوله ص ٢٨٨ س ١٧ : وهذا يكفي : أي كون الحكم منصبا على كل فرد سواء كان موجودا في الزمان السابق أم في الزمان اللاحق.

قوله ص ٢٨٩ س ٣ : المجعول الكلّي : وهو وجوب صلاة الجمعة.

قوله ص ٢٨٩ س ٦ : على تقدير وجوده : أي في الزمان السابق.

قوله ص ٢٨٩ س ٦ : ولا يزال كما كان : أي لو وجد الآن لثبت له الحكم السابق. هذا هو المقصود وليس المقصود لو وجد في الزمان السابق لثبت له الحكم السابق.

قوله ص ٢٨٩ س ٧ : معروض الحكم : أي موضوع الحكم.

قوله ص ٢٨٩ س ١٢ : عموما : أي على كل استصحاب تعليقي.


استصحاب الكلّي



استصحاب الكلي

قوله ص ٢٩٠ : استصحاب الكلي إلخ : من جملة أفراد الاستصحاب التي وقع فيها الإشكال استصحاب الكلي.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نشير إلى مقدمة حاصلها : إنّ المستصحب تارة يكون أمرا جزئيا واخرى أمرا كليا.

مثال المستصحب الجزئي : استصحاب عدالة زيد أو وجوب صلاة الجمعة.

وأمّا استصحاب الكلي فهو على أقسام ثلاثة هي : ـ

١ ـ استصحاب الكلي من القسم الأوّل ، وهو أنّ نقطع بوجود الكلّي ضمن فرد معين ثم نشكّ في بقاء الكلّي بسبب الشكّ في بقاء ذلك الفرد ، كما لو علم بوجود كلّي الإنسان في المسجد ضمن زيد ثم شكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في بقاء زيد.

وفي هذا القسم يجري استصحاب الكلّي لو كان له أثر مختص به كما ويجري استصحاب الفرد لو كان له أثر مختص به.

٢ ـ استصحاب الكلّي من القسم الثاني وهو أن يقطع بوجود الكلّي ضمن فرد مردد بين الطويل والقصير (١) ، كما لو علم بوجود حيوان ذي خرطوم مردد بين البق والفيل (٢) ومضى يوم واحد على وجود الحيوان فإنّه يحصل الشكّ في

__________________

(١) يوجد لاستصحاب الكلّي من القسم الثاني صورة اخرى تأتي الإشارة لها إن شاء الله تعالى

(٢) فإنّ البق له خرطوم والفيل له خرطوم أيضا


بقائه لأنّه لو كان الحيوان الموجود هو البق فهو ميت جزما إذ البق لا قدرة له على البقاء أكثر من يوم ولو كان هو الفيل فهو باق جزما أو احتمالا.

والمثال الشرعي لذلك : ما إذا خرج من المكلّف سائل مردد بين البول والمني فإنّه يحصل له اليقين بكونه محدثا بكلّي الحدث المردد بين الأصغر والأكبر فإذا توضأ (١) فسوف يحصل له الشكّ في بقاء الحدث الكلّي إذ لو كان الحدث هو الأصغر فهو مرتفع جزما بسبب الوضوء والاّ فهو باق ، ففي مثل هذه الحالة يجري استصحاب كلّي الحدث ويترتب آثار كلّي الحدث كحرمة مس المصحف مثلا. وأمّا الفرد فلا يجري استصحابه ، فالجنابة لا يجري استصحابها لعدم اليقين بحدوثها كما وأنّ الحدث الأصغر لا يجري استصحابه لعدم اليقين بحدوثه بل وهناك يقين بارتفاعه لو كان حادثا. والمشهور في هذا القسم من استصحاب الكلّي جريانه.

٣ ـ استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، وهو أن يتيقن من وجود الكلّي ضمن فرد ويتيقن من ارتفاع ذلك الفرد ولكن يشكّ في وجود فرد ثان ، كما لو علم بوجود الإنسان في المسجد ضمن زيد وعلم بخروج زيد ولكن احتمل دخول عمرو حين خروج زيد من المسجد أو حينما كان زيد موجودا بعد في المسجد ، في مثل هذه الحالة سوف يشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال دخول عمرو في المسجد وبقاء الكلّي ضمنه.

__________________

(١) إنّما فرضنا أنه توضأ كيّما يحصل له الشكّ إذ بدون الوضوء يبقى المكلّف على يقين من بقاء الحدث ولا يحصل له الشكّ ، وهكذا لو فرض أنّه اغتسل بدون ضم الوضوء إليه فسوف يحصل له الشكّ في بقاء الحدث


والمثال الشرعي لذلك : ما إذا كانت أجزاء الصلاة عشرة وتعذر واحد منها فإنّه سوف يشكّ في وجوب الأجزاء التسعة الباقية. وقد يقال بامكان اثبات بقاء وجوب الاجزاء التسعة عن طريق الاستصحاب بأن يقال ان الاجزاء التسعة كانت واجبة سابقا والآن يشكّ في بقاء وجوبها فيجري استصحاب بقاء وجوبها. وهذا الاستصحاب لو تأملنا فيه لوجدنا أنّه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي إذ الاجزاء التسعة وإن كانت واجبة سابقا ولكن وجوبها كان وجوبا غيريا ومن باب المقدمة للوجوب النفسي للعشرة ، وبعد تعذر أحد الأجزاء فالأجزاء التسعة الباقية لا يحتمل وجوبها بالوجوب الغيري ، إذ بانتفاء الوجوب النفسي ينتفي الوجوب الغيري أيضا وإنّما يحتمل وجوبها ـ الأجزاء التسعة ـ بالوجوب النفسي بأن يكون قد حدث لها وجوب نفسي بعد انتفاء وجوبها الغيري.

إذن نحن لا نستصحب الوجوب الغيري. السابق للأجزاء التسعة لأنّه قد انتفى جزما كما ولا نستصحب وجوبها النفسي الجديد إذ لا يقين بحدوثه بل نستصحب كلّي الوجوب حيث إنّه متيقن الحدوث ضمن الوجوب الغيرى ويشكّ في ارتفاعه لاحتمال حدوث الوجوب النفسي.

والمعروف في هذا القسم من استصحاب الكلي عدم الجريان.

عودة إلى الكتاب

وبعد اتضاح هذه المقدمة نعود إلى الكتاب.

يقول 1 : إنّ المراد من استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الكلّي الجامع بين


فردين من الحكم أو الجامع بين فردين من الموضوع فيما إذا كان له ـ الموضوع ـ أثر شرعي.

مثال الجامع بين فردين من الحكم : استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي.

ومثال الجامع بين فردين من الموضوع : استصحاب كلّي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، فإنّ الحدث الأكبر والأصغر موضوع للحكم وليس بنفسه حكما شرعيّا.

الكلام في جهتين

والبحث في استصحاب الكلّي يقع في جهتين : ـ

الجهة الاولى

١ ـ في أصل جريان استصحاب الكلّي. قد يشكل على أصل جريان الاستصحاب في الكلّي ويقال انّ الاستصحاب لا يجري في الكلّي سواء كان من قبيل القسم الأول أو القسم الثاني أو القسم الثالث ، فعلى تقدير جميع الاقسام الثلاثة لا يجري الاستصحاب.

والاشكال المذكور له بيانان : بيان فيما إذا كان المستصحب كلّيا جامعا بين حكمين وبيان فيما إذا كان المستصحب كلّيّا جامعا بين موضوعين.

أمّا بيان الاشكال في باب الأحكام ـ ومثال استصحاب الكلّي في باب الأحكام استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي في المثال المتقدّم ـ فحاصله : انّه لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل


الحكم المماثل وأنّ استصحاب وجوب الجمعة مثلا معناه جعل وجوب ثان ظاهري في زمان الشك مماثل للوجوب السابق ، بناء على هذا المبنى لا يمكن استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، إذ مرجع استصحاب الكلّي إلى جعل وجوب كلّي في زمان الشك ، ومن الواضح انّ الموجود في الخارج حيث لا يمكن أن يكون كلّيّا ـ فإنّ الموجود في الخارج لا بدّ وأن يكون فردا جزئيّا لا كلّيّا إذ الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد ـ فلا يمكن جعله في زمان الشك فإنّ الشيء الذي لا يمكن وجوده في الخارج لا معنى لجعله ، ويكون جعله لغوا.

أجل كلّي الوجوب يمكن وجوده ضمن أحد الفردين فإنّ الوجوب النفسي مثلا فيه كلّي الوجوب ويمكن اجراء الاستصحاب في كلّي الوجوب ضمنه إلاّ أنّ هذا بحسب الحقيقة إجراء للاستصحاب في الجزئي لا في الكلّي.

وبكلمة مختصرة : إنّ الكلّي بما هو كلّي حيث لا يمكن وجوده في الخارج فجعله في زمان الشك من طريق الاستصحاب لا يكون معقولا ، والكلّي الموجود ضمن أفراده وإن كان يمكن وجوده في الخارج إلاّ ان جريان الاستصحاب فيه يرجع إلى استصحاب الجزئي لا الكلّي. هذا حصيلة الاعتراض في باب الأحكام.

والجواب عنه : إنّ الاعتراض المذكور مبني على المبنى المذكور وانّ مفاد دليل لا تنقض اليقين بالشك جعل الحكم المماثل ، أمّا بناء على انكار هذا المبنى والقول بأنّ مفاد دليل لا تنقض ابقاء اليقين ـ امّا بمعنى إبقائه زمن الشك اعتبارا وتعبّدا كما هو الحال بناء على مسلك جعل العلميّة الذي يختاره السيّد الخوئي ، أو بمعنى إبقائه زمن الشك بلحاظ المنجّزية والجري العملي كما هو مختار السيّد الشهيد ـ فلا بأس بجريان الاستصحاب في كلّي الوجوب إذ جعل المكلّف عالما


بمقدار الجامع من حيث المنجّزية أمر معقول ، كيف لا وفي باب العلم الاجمالي بثبوت أحد الوجوبين يكون المكلّف عالما بالجامع ـ المراد من الجامع أحد الوجوبين ـ ويتنجّز عليه مقدار الجامع دون أحد الفردين بالخصوص.

الاشكال في باب الموضوعات

وقبل بيان الاشكال في استصحاب الكلّي في باب الموضوعات نقدّم مقدّمة ثمّ نرجع لبيان الاشكال.

وحاصل المقدّمة : انّه وقع كلام في علم المعقول في أنّ الكلّى الطبيعي (١) هل هو موجود في الخارج أو لا؟ فهناك رأي يقول بأنّ طبيعة الشجر والإنسان والحجر وأمثال ذلك ليست موجودة في الخارج بل هي موجودة في الذهن وإنما الموجود في الخارج أفراد الإنسان مثلا دون نفس الإنسان ، وقد اشير في حاشية ملاّ عبد الله إلى هذا الرأي واشير إلى ردّه وأنّ الطبيعي موجود في الخارج (٢) لا بمعنى وجود أفراده دون نفسه ، بل هو بنفسه موجود في الخارج.

وبعد بطلان هذا الرأي فالإتّجاه الصحيح إذن هو القائل بوجود الطبيعي في الخارج. وأصحاب هذا الإتّجاه بعد اتّفاقهم على وجود الطبيعي في الخارج اختلفوا في كيفية وجود الطبيعي في الخارج. وفي هذا المجال يوجد رأيان : ـ

__________________

(١) المراد من الكلّي الطبيعي نفس الطبيعة والماهية ، فطبيعة الإنسان والشجر والحجر والماء والهواء والحيوان والتراب وكل جنس من الاجناس عبارة اخرى عن الكلّي الطبيعي

(٢) عدم وجود الطبيعي في الخارج أمر بعيد فإن لازمه أن لا يكون مثل النبي والامام انسانا بل هم أفراد للإنسان وليسوا انسانا وهو بعيد


١ ـ الرأي المشهور وهو أنّ الطبيعي موجود في الخارج بالحصص ، بمعنى أنّ زيدا فيه حصّة من طبيعي الإنسان ، وعمروا فيه حصّة اخرى ، وبكرا فيه حصّة ثالثة وهكذا ، ففي كل فرد حصّة من الطبيعي تختص به.

٢ ـ رأي الرجل الهمداني الذي التقى به ابن سينا في مدينة همدان ، حيث ينقل ابن سينا أنّه التقى في مدينة همدان بشيخ عزيز أو غريز المحاسن يظن أنّ الطبيعي موجود في الخارج بوجود واحد متّحد مع أفراده ، فللإنسان وجود واحد متّحد مع زيد وعمرو وبكر و ... وحمل عليه ابن سينا حملة شعواء (١) وكل من جاء بعد ابن سينا وقف مؤيّدا له في مقابل الهمداني. والسبب واضح ، فإنّ الطبيعي لو كان موجودا في الخارج بوجود واحد متّحد مع الأفراد فلازمه صيرورة الشيء الواحد أبيض أسود وحيّا ميّتا وطويلا قصيرا ، فإنّ زيدا وبكرا إذا فرض أنّ أحدهما أبيض والآخر أسود فلازم اتّحاد الإنسان معهما أن يكون الإنسان الذي هو شيء واحد أبيض وأسود. وهكذا إذا كان أحدهما حيّا والآخر ميّتا يلزم أن يكون الإنسان الذي هو متّحد معهما حيّا وميّتا.

وباختصار : يلزم أن يكون الإنسان الذي هو شيء واحد مجمعا للصفات

__________________

(١) حكاية ابن سينا مع الرجل الهمداني نقلها السبزواري في شرح المنظومة في قسم المنطق ص ٢٣ وفي قسم الحكمة ص ٩٩. قال في قسم المنطق : وقد صادف الشيخ في مدينة همدان رجلا من العلماء كبير السن عزيز المحاسن يقول انّ الطبيعي موجود بوجود واحد عددي في ضمن أفراده وقال في قسم الحكمة « ... كما زعمه الرجل الهمداني الذي صادفه الشيخ الرئيس بمدينة همدان ونقل أنّه كان يظن ان الطبيعي واحد بالعدد ومع ذلك موجود في جميع الأفراد ويتصف بالاضداد وشنع عليه الشيخ وقدح في مذهبه »


المتقابلة المتضادّة. وعلى هذا فالاتّجاه الصحيح في وجود الطبيعي هو الإتّجاه المشهور القائل بأنّ الطبيعي موجود في الخارج بالحصص.

إحتمالان في رأي الرجل الهمداني

ثمّ ان في مقصود الشيخ الهمداني القائل بوجود الطبيعي لا بالحصص احتمالين : ـ

أ ـ ان يكون الإنسان موجودا في الخارج بوجود واحد ، وذلك الوجود الواحد متّحد مع الأفراد المتعدّدة ، فالواحد يكون متّحدا مع الإثنين والثلاثة والأربعة و ...

ب ـ أن يكون الإنسان موجودا في الخارج بوجود مستقل مغاير لوجود الأفراد ، فالإنسان له وجود واحد ثابت في السماء مثلا أو في عالم آخر مناسب له وأفراده موجودة في الأرض ، والشجر له وجود واحد ثابت في السماء مثلا وافراده موجودة في الأرض ، وهكذا.

وظاهر المشهور الذين أوردوا على الرجل الهمداني بأنّ لازم رأيه انصاف الشيء الواحد بالصفات المتضادّة فهمهم الاحتمال الأوّل ، بل عبارة السبزواري المذكورة في شرح المنظومة هو الاحتمال الأوّل أيضا حيث قال « موجود في جميع الأفراد ». هذا ولكن ظاهر كلام السيّد الشهيد فيما يأتي الاحتمال الثاني.

نسبة الأب إلى الأبناء المتعدّدين

ثمّ انّه على رأي الرجل الهمداني تكون نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة


الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدين ، حيث انّ الطبيعي شيء واحد ، بينما أفراده متعدّدة ، ويمكن أن نصطلح على نسبته اليها ـ الأفراد المتعدّدة ـ بنسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعددين. وأمّا على رأي المشهور القائل بوجود الطبيعي بالحصص فنسبة الطبيعي إلى أفراده هي كنسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء المتعدّدين ، فكل فرد بمثابة الأبن الواحد ، والحصّة من الطبيعي الموجودة ضمنه بمثابة الأب الواحد المختص بابنه ، والحصّة الثانية من الطبيعي الموجودة ضمن الفرد الثاني بمثابة الأب الثاني للإبن الثاني وهكذا.

يقول السبزواري عند بيانه لرأي المشهور في مقابل رأي الهمداني :

ليس الطبيعي مع الافراد

كالأب بل أبا مع الافراد

عودة إلى الكتاب

بعد اتّضاح المقدّمة السابقة نعود إلى الكتاب من جديد لتوضيح الاشكال في استصحاب الموضوع الكلّي.

وحاصل الاشكال : ان الآثار الشرعيّة مترتّبة على عنوان الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر وليست مترتّبة على عنوان الحدث الكلّي فوجوب الغسل مثلا مترتّب على عنوان الحدث الأكبر لا على عنوان الحدث الكلّي ، وهكذا وجوب الوضوء مثلا مترتب على عنوان الحدث الأصغر لا على كلي الحدث. وما دام الأثر لم يترتب على كلّي الحدث فالاستصحاب لا يمكن أن يجري فيه لأنّه يشترط في جريانه ترتب الأثر الشرعي على المستصحب.

والجواب عن الإشكال المذكور : انّه ما المقصود من عدم ترتب الأثر على


الكلّي؟ فهل المقصود انّه في لسان الأدلة لم يرتّب الأثر على الكلّي بل رتّب على العناوين الخاصة؟

وإذا كان هذا المقصود فجوابه إنّا نفترض أنّ الأثر في لسان الأدلة مترتب على العنوان الكلّي كحرمة مس المصحف ، فإنّه لم يترتب على عنوان الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر وإنّما هو مترتب على عنوان الحدث الكلّي الجامع بين الأصغر والأكبر.

أو أنّ المقصود انّه حتى لو فرضنا ترتّب الأثر الشرعي في لسان الأدلة على عنوان الحدث الكلّي فمع ذلك لا يجري الاستصحاب في عنوان الحدث الكلّي باعتبار أنّ عنوان الحدث الكلّي أخذ في لسان الأدلة بما هو مرآة للخارج ولم يترتب عليه بما هو صورة ذهنية ، وما دام الأثر مترتبا على العنوان الذهني بما هو مرآة للخارج فلازم ذلك أنّ الاستصحاب يجري في الأمر الخارجي لا في الأمر الذهني ، وحيث انّ الموجود في الخارج هو الفرد الجزئي دون الكلّي فنتيجة ذلك هو أنّ الاستصحاب يجري في الفرد الجزئي ـ كالحدث الأصغر أو الأكبر ـ دون الأمر الكلّي.

وإذا كان هذا هو المقصود فجوابه انّ الكلام المذكور صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى ، فهو صحيح حينما قال إنّ الاستصحاب لا يمكن أن يجري في الصورة الذهنية للحدث الكلّي بما هي صورة ذهنية بل يجري فيه بما هو مرآة للخارج ، إنّ هذا صحيح لأنّ الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية ليست محطا للاثار.

وأمّا جهة الفساد فهو إنّه ذكر أنّ الاستصحاب إذا كان يجري في الصورة الذهنية بما هي مرآة للخارج فهذا لازمه جريان الاستصحاب في نفس الخارج.


ووجه الفساد : ان صبّ الحكم على العنوان بما هو مرآة للخارج ليس معناه صبّ الحكم على نفس الخارج ، إذ الخارج لا يمكن أن ينصبّ عليه الحكم ، فالوجوب لا يمكن أن ينصب على الصلاة الخارجية مثلا ، فإنّ الوجوب ثابت قبل أن يأتي المكلّف بالصلاة ولا يتوقف على الإتيان بالصلاة ، وفي ذلك دلالة واضحة على تعلّق الحكم بالصورة الذهنية للصلاة بما هي عين الخارج وليس متعلقا بنفس الخارج. وفي المقام يقال كذلك ، أي يقال إنّ الاستصحاب حكم من الإحكام ولا يمكن تعلقه بنفس الخارج بل هو متعلق بالعنوان الذهني بما هو مرآة للخارج ، ومعه فيندفع الإشكال إذ الاستصحاب دائما يجري في العنوان الذهني بما هو مرآة للخارج غاية الأمر في استصحاب الجزئي يجري الاستصحاب في الصورة الذهنية للحدث الأكبر مثلا بما هي مرآة للخارج وفي استصحاب الكلّي يجري الاستصحاب في الصورة الذهنية لكلّي الحدث بما هي مرآة للخارج.

الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد

هناك سؤال يقول إنّ الكلّي ما دام متحدا مع الفرد في الخارج ولا يوجد وجودان أحدهما للكلّي والآخر للفرد فما هو الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد ، فإنّ الكلّي ما دام عين الفرد في الخارج فكيف يكون الاستصحاب تارة استصحابا للكلّي واخرى استصحابا للفرد؟ ويمكن ذكر ثلاثة اجوبة عن هذا التساؤل هي : ـ

١ ـ ما تبناه السيد الشهيد ، وهو أنّ الاستصحاب لا ينصب على الخارج ليقال إنّ الخارج واحد فكيف يكون الاستصحاب استصحابا للكلّي تارة


وللجزئي اخرى بل ينصب على العنوان الملحوظ بما هو مرآة للخارج ـ والوجه في عدم صبه على الخارج هو أنّ الاستصحاب حكم من الاحكام ، والحكم لا يمكن أن يتعلق بالخارج مباشرة ، فالوجوب مثلا لا يمكن أن يتعلق بالصلاة الخارجية والاّ يلزم عدم ثبوته قبل الإتيان بها ـ ومادام هو منصبا على العنوان فالفرق واضح ، حيث يقال إنّ العنوان الذي ينصب عليه الاستصحاب تارة يكون عنوانا تفصيليا ملحوظا بما هو حاك عن الخارج واخرى يكون عنوانا إجماليا ملحوظا بما هو حاك عن الخارج.

فإن كان عنوانا تفصيلا كعنوان الحدث الأكبر كان الاستصحاب استصحابا للجزئي ، وإن كان عنوانا إجماليا كعنوان الحدث فالاستصحاب استصحاب للكلّي ، فالاختلاف إذن بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي إنّما هو في العنوان الذي ينصب عليه الاستصحاب ، ومجرد كون الخارج المحكي بالعنوانين واحدا ـ فإنّ الخارج المحكي بالعنوان التفصيلي هو الفرد والخارج المحكي بالعنوان الإجمالي هو طبيعي الحدث ، وواضح انّ الطبيعي وفرده موجودان في الخارج بوجود واحد ـ غير مهم بعد ما كان العنوانان اللذان يتمركز عليهما الاستصحاب مختلفين.

وقد تقول متى يحق لنا إجراء الاستصحاب في العنوان التفصيلي ومتى يحق اجراؤه في العنوان الإجمالي؟ والجواب : انّ هذا يتبع الأثر الشرعي ، فإن كان مترتبا في لسان الأدلة على عنوان الحدث الكلّي الإجمالي جرى الاستصحاب في العنوان الإجمالي وكان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي ، وإن كان مترتبا على العنوان التفصيلي كعنوان الحدث الأكبر جرى الاستصحاب في الفرد دون الكلّي.


٢ ـ ان التفرقة الصحيحة بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي هي ما تقدم بيد أنّه يفرق بينهما على ضوء رأي الرجل الهمداني في كيفية وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، فإنّ المنسوب إليه أن للكلّي وجودا في الخارج مستقلا عن وجود الافراد ، فللافراد في الخارج وجود وللكلّي وجود آخر يغاير وجود الأفراد (١).

وبناء على هذا يكون الفرق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد واضحا ، فإنّه في استصحاب الكلّي يكون مصب الاستصحاب وجود الكلّي المغاير لوجود الفرد بينما في استصحاب الجزئي يكون مصب الاستصحاب هو وجوب الفرد المغاير لوجود الكلّي.

والجواب عن هذه التفرقة واضح ، فإنّ الكلّي ليس له في الخارج وجود مغاير لوجود الفرد بل وجود الكلّي عين وجود الفرد.

هذا مضافا إلى أنّه حتى لو سلمنا اختلاف وجود الكلّي عن وجود الفرد فان التفرقة المذكورة باطلة ، اذ الاستصحاب لا ينصب على الخارج ليفرق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الجزئي بلحاظ عالم الخارج.

٣ ـ ما ذكره الشيخ العراقي 1 من أنّ كل فرد خارجي يتركب من شيئين :

الحصة من الطبيعي والمشخصات الخاصة ، فزيد مثلا مركب من الحصة ومن المشخصات الخاصة به. والاستصحاب إذا اجري في الحصة كان ذلك استصحاب الكلّي وإذا اجري في مجموع الوجود المركب من الحصة والمشخصات كان ذلك

__________________

(١) هذا يدل على أنّ السيد الشهيد يختار الاحتمال الثاني في تفسير رأي الشيخ الهمداني


استصحاب الفرد.

والجواب : إنّ الاستصحاب لا ينصب على الخارج ـ إذ الاستصحاب حكم ، والحكم لا ينصب على الخارج كما تقدم ـ ليحتاج إلى التفرقة بلحاظ عالم الخارج وإنّما ينصب على العنوان ، ومعه فاللازم التفرقة على ضوء العنوان فيقال إنّ الاستصحاب إذا كان منصبا على العنوان التفصيلي فهو استصحاب الجزئي وإن كان منصبا على العنوان الاجمالي فهو استصحاب الكلّي.

قوله ص ٢٩٠ س ٢ : بين شيئين خارجيين : كالحدث الأصغر والحدث الأكبر فإنهما شيئان وموضوعان خارجيان ، والجامع بينهما هو طبيعي الحدث.

قوله ص ٢٩٠ س ٢ : إذا كان له أثر شرعي : هذا قيد راجع إلى الجامع بين الشيئين الخارجيين.

قوله ص ٢٩٠ س ١٢ : بحده : أي بما هو جامع في مقابل النظر إليه بما هو موجود ضمن هذا الفرد بالخصوص أو ضمن ذاك الفرد بالخصوص.

قوله ص ٢٩٠ س ١٣ : ليس محطا للاستصحاب : لأنّ المفروض ترتّب الأثر على الجامع الكلّي وليس مترتبا على الفرد ليجري الاستصحاب في الفرد.

قوله ص ٢٩٠ س ١٤ : وهذا الاعتراض إلخ : هذا جواب الإشكال.

قوله ص ٢٩٢ س ٤ : وبما ذكرناه إلخ : أي من قوله في السطر الأوّل انّ الاستصحاب حكم شرعي ولا بدّ وأن ينصب التعبد فيه على عنوان.

قوله ص ٢٩٢ س ٩ : فهو إنّما يتعلق به : أي بالواقع الخارجي.

قوله ص ٢٩٢ س ١٠ : هو الواقع : أي هو الخارج الذي لو حظ من خلال العنوان التفصيلي المشير له.


قوله ص ٢٩٢ س ١٧ : على دعوى التعدد في الواقع : أي تعدد وجود الكلّي ووجود الفرد وتغايرهما في مقام الخارج.

أقسام استصحاب الكلّي الثلاثة

قوله ص ٢٩٣ س ١١ : الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلّي إلخ : ذكرنا سابقا أن الكلام في استصحاب الكلّي يقع فى جهتين تقدمت الاولى منهما وهذه هي الجهة الثانية. ويراد فيها تقسيم استصحاب الكلّي إلى أقسامه الثلاثة.

ونحن سابقا ذكرنا تقسيم استصحاب الكلّي إلى أقسامه الثلاثة. والسيد الشهيد هنا يذكر التقسيم المذكور بمنهجة اخرى ولكنها من حيث الروح لا تختلف عن المنهجة السابقة. أجل قد يضيف 1 بعض الزوائد التي لا تؤثر على الروح شيئا.

وحاصل ما ذكره : إنّ الشكّ في بقاء الكلّي له منشآن فتارة ينشا الشكّ في بقاء الكلّي من الشكّ في حدوث الفرد واخرى لا ينشأ من الشكّ في حدوث الفرد.

مثال الشكّ في البقاء الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد : ما لو علمنا بوجود حيوان ذي خرطوم في الحجرة مردد بين البق والفيل ، فإنّه بعد مضي فترة يشكّ في بقاء الكلّي ، والشكّ في بقائه ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد فحيث لا يعلم أنّ الفرد الحادث هو البق أو الفيل يشكّ في البقاء والاّ فلو لم يكن هناك شكّ بل كان يعلم بأنّ الحادث هو البق لجزم بارتفاع الكلّي ، ولو علم بإنّه الفيل لجزم ببقائه (١).

__________________

(١) وفي الكتاب ذكر بدل مثال البق والفيل مثال من خرج منه سائل مردد بين البول والمني فإنّه ـ


ومثال ثاني لذلك : ما لو علم بدخول زيد في المسجد ثم علم بخروجه وشكّ فى دخول عمرو مقارنا لخروج زيد ، فإنّ كلّي الإنسان في هذا المثال يشكّ في بقائه ، والشكّ المذكور ناشئ من الشكّ في حدوث عمرو فلإجل احتمال حدوث عمرو ودخوله في المسجد يشكّ في بقاء الكلّي.

ومثال الشكّ في الكلّي الذي لم ينشأ من الشكّ في حدوث الفرد : ما لو علم بدخول زيد في المسجد وشكّ بعد ذلك في خروجه ، فإنّه في هذا المثال يشكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد وليس منشأ الشكّ الشكّ في حدوث الفرد ، إذ الفرد الحادث معلوم بل الشكّ في بقاء الكلّي ناشئ من الشكّ في ارتفاع الفرد وخروجه من المسجد.

ومثال ثاني لذلك : ما إذا علم بدخول شخص في المسجد يشكّ أنّه زيد أو عمرو ، وعلى تقدير كونه زيدا فمن المحتمل خروجه وعلى تقدير كونه عمروا فمن المحتمل خروجه أيضا. وفي هذه الحالة سوف يشكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد ، وسبب الشكّ في البقاء ليس هو الشكّ في حدوث الفرد إذ حتى لو كان الفرد الحادث معلوما فمع ذلك يشكّ في بقاء الكلّي ، فلو علمنا بأنّ الداخل للمسجد هو زيد لشككنا في بقاء الكلّي ، ولو علمنا بأنّ الداخل هو عمرو لشككنا في بقاء الكلّي أيضا ، وهذا معناه أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسببا عن حدوث الفرد وإنّما هو مسبب عن احتمال ارتفاع الفرد الداخل.

__________________

ـ بعد الوضوء يشكّ في بقاء الحدث فيستصحب بقاء الحدث الكلّي. ثم إنّ السيد الشهيد ذكر لكلّ واحدة من صورتي الشكّ مثالا واحدا ، ونحن ذكرنا مثالين لأنّه يساعد بعد ذلك على فهم الاقسام


القسم الأوّل من استصحاب الكلي

وبعد اتضاح هذه الامثلة نقول : إن كان الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد فهذا هو القسم الأوّل من استصحاب الكلّي. وله شقان : ـ

أ ـ أن يعلم مثلا بدخول زيد في المسجد ويشكّ في خروجه ، ولإجل الشكّ في خروجه يشكّ في بقاء الكلّي فيستصحب ـ الكلّي ـ إذا كان له أثر شرعي.

ب ـ إن يعلم بأنّه قد دخل المسجد أمّا زيد ـ وعلى تقدير دخوله يشكّ في خروجه ـ أو عمرو ، وعلى تقدير دخوله يشكّ في خروجه أيضا ولإجل ذلك يشكّ في بقاء الكلّي فيستصحب.

وعلى تقدير كلا الشقين فالاستصحاب هو من قبيل القسم الاوّل من استصحاب الكلّي إذ في كليهما يعلم بحدوث الكلّي ضمن فرد ويشكّ في بقائه للشكّ في زوال الفرد.

وقد يستشكل في جريان استصحاب الكلّي في الشق الثاني بناء على رأي الشيخ العراقي في تفسير استصحاب الكلّي باستصحاب الحصة. ووجه الإشكال انّه في الشق الثاني نعلم بأنّ المسجد قد دخله أمّا زيد أو عمرو ، ومع هذا التردد فالحصة من الإنسان التي دخلت المسجد لا تكون متيقنة فلا يعلم إنّ الحصة الحادثة من الإنسان هل هي الحصة ضمن زيد أو الحصة ضمن عمرو. وهذا معناه أن الركن الأوّل من أركان الاستصحاب ـ وهو اليقين بالمستصحب ـ غير متوفر فلا يجري الاستصحاب. اللهم الاّ إذا لم نعتبر في جريان الاستصحاب اليقين بالمستصحب واكتفينا بالحدوث فإنّ الاستصحاب يجري بناء على هذا إذ


يعلم بحدوث إحدى الحصتين واقعا (١).

وهذا الإشكال يختص بما لو فسرنا استصحاب الكلّي بتفسير الشيخ العراقي ، أمّا لو فسرنا الكلّي بما ذكره الشيخ الهمداني ـ وهو انّ للأنسان وجودا واحدا وسيعا مغايرا لوجود الافراد ـ فلا يرد الإشكال المذكور لأنّ ذلك الوجود الوسيع الواحد متيقن الحدوث ويشكّ في بقائه فيجري استصحابه دون أي إشكال.

وهكذا لا يرد الإشكال المذكور بناء على رأي السيد الشهيد في تفسير استصحاب الكلّي ـ وهو إجراء الاستصحاب في العنوان الاجمالي الملحوظ بما هو عين الخارج ـ فإنّ عنوان الإنسان عنوان واحد متيقن الحدوث ومشكوك البقاء فيجري استصحابه.

ثم إنه ينبغي الالتفات إلى أن هذا الإشكال لو تم فهو يتم في خصوص الشق الثاني بناء على تفسير الشيخ العراقي لاستصحاب الكلّي ـ وهو تفسيره باستصحاب الحصة ـ وأمّا في الشق الأوّل فلا إشكال حتى بناء على تفسيره ، إذ في الشق الأوّل تكون الحصة من الإنسان متعينة وهي الحصة الموجودة ضمن زيد فإنها معلومة الحدوث مشكوكة البقاء فيجري استصحابها فلا إشكال حتى على رأي الشيخ العراقي فضلا على رأي السيد الشهيد والهمداني.

الشكّ في بقاء الكلّي الناشئ من حدوث الفرد

هذا كله فيمّا إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

__________________

(١) يمكن أن يقال إن اليقين بالحصة متوفر فإنّ هناك حصة متعينة في الواقع ـ وإن كانت هي مرددة لدينا بين الحصة في زيد والحصة في عمرو ـ وتلك الحصة لنا يقين بحدوثها فيجري استصحابها


وأمّا إذا كان ناشئا من الشكّ في حدوث الفرد فهو ذو حالتين : الحالة الاولى هي ما يسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، والحالة الثانية هي ما يسمى بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.

القسم الثاني من استصحاب الكلي

امّا الحالة الاولى التي تسمى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي فهي أن يعلم علما إجماليا بحدوث امّا البق أو الفيل ، وبعد مضي فترة يشكّ في بقاء الكلي لأجل الشكّ في حدوث الفرد ، فإنّ الفرد الحادث إن كان هو البق فالكلّي مرتفع وإن كان هو الفيل فالكلّي باق.

والمشهور في هذا القسم من استصحاب الكلّي جريانه وهو الصحيح. ولكن هناك اعتراضات خمسة على جريانه نذكرها مع الإجابة عليها (١) : ـ

الاعتراض الأوّل

إنّه بناء على تفسير الشيخ العراقي للكلّي ـ وهو تفسيره بالحصة ـ لا يوجد يقين بالحصة الحادثة إذ لا يعلم أنّ الحصة الحادثة هي الحصة ضمن البق أو الحصة ضمن الفيل ، ومع عدم اليقين بالمستصحب يكون الركن الأوّل من أركان الاستصحاب مختلا فلا يجري (٢) ، بل ويمكن أن يقال باختلال الركن الثاني أيضا وهو الشكّ في البقاء. والوجه في ذلك : انّ الحيوان الحادث إن كان هو الفيل فهو

__________________

(١) وفي الرسائل والكفاية ذكر اعتراضان من هذه الخمسة

(٢) تقدم فيما سبق الإشكال في ذلك وأنّ الحصة الحادثة في عالم الواقع يمكن استصحابها


باق جزما ولا يوجد شكّ في ارتفاعه وإن كان هو البق فيجزم بارتفاعه ولا يوجد شكّ في بقائه.

إذن استصحاب الكلّي من القسم الثاني لا يجري بناء على تفسير الكلّي بالحصة لاختلال ركنين من أركان الاستصحاب فيه وهما اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.

ويرده : إنّ الاعتراض المذكور مبني على تفسير الكلّي بالحصة ولا يتم بناء على تفسير السيد الشهيد له باستصحاب العنوان الإجمالي الملحوظ بما هو عين الخارج ، فإنّ العنوان الإجمالي كعنوان الحيوان ذي الخرطوم عنوان واحد يعلم بحدوثه ويشكّ في بقائه.

الاعتراض الثاني

إن الركن الثاني من أركان الاستصحاب ـ وهو الشكّ في البقاء ـ غير متوفر في استصحاب الكلّي من القسم الثاني ، إذ الشكّ لا يكون شكا في البقاء إلاّ إذا كان متعلقا بعين ما تعلق به اليقين ، وفي استصحاب الكلّي من القسم الثاني لا يكون الشكّ متعلقا بعين ما تعلق به اليقين إذ اليقين الثابت هو يقين إجمالي متعلق امّا بوجود البق أو بوجود الفيل ، أي هو متعلق بالواقع المردد لأنّ العلم الاجمالي يتعلق بالواقع المردد بينما الشكّ ليس متعلقا بذلك فليس لنا شكّ متعلق ببقاء أمّا البق أو الفيل إذ البق نجزم بعدم بقائه ولا نشكّ في بقائه ، ولئن كان لنا شكّ في البقاء فهو متعلق بخصوص الفيل إذ الفيل وإن كنا نجزم ببقائه على تقدير حدوثه إلاّ إنّا حيث نشكّ في أصل حدوثه فمن الصواب أن نقول لنا شكّ في بقائه باعتبار الشكّ


في أصل حدوثه.

ويرده : إنّ اليقين في مقامنا وإن كان يقينا إجماليا إلاّ إنّا لا نسلم أنّ العلم الإجمالي يتعلق بالواقع المردد وإنما هو يتعلق بالجامع ، فالجامع بين الفيل والبق وهو عنوان الحيوان ذي الخرطوم أو عنوان أحدهما معلوم حدوثا مشكوك بقاء.

أمّا العلم بحدوثه فواضح. وأمّا الشكّ في بقائه فلعدم العلم بكيفية حدوثه وانّه حدث ضمن البق حتى يكون مرتفعا أو ضمن الفيل حتى يكون باقيا.

الاعتراض الثالث :

إنّ الكلّي لا يتحقق إلاّ ضمن الفيل أو ضمن البق. والبق حيث لا يحتمل بقائه فلا معنى لاستصحاب الكلّي المتحقق ضمنه ، والفيل حيث لا يحتمل ارتفاعه فلا معنى أيضا لاستصحاب الكلّي المتحقق ضمنه فلم يبق إلاّ أن تستصحب الصورة الذهنية للكلّي بما هي صورة ذهنية ، وهذا باطل فإنّ الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية ليست محطا للآثار لتستصحب.

ويرده : إنّ الاستصحاب كما تقدم يجري في العنوان بما هو مرآة للخارج ، وعنوان البق وعنوان الفيل اللذان هما عنوانان تفصيليان وإن كان لا يمكن جريان الاستصحاب فيهما لأنّ العنوان الأوّل يعلم بعدم بقائه والثاني يعلم بعدم ارتفاعه إلاّ أنّ عنوان الحيوان ذي الخرطوم الذي هو عنوان إجمالي يشكّ في بقائه فيجري فيه الاستصحاب.

أجل لو فسّرنا استصحاب الكلّي بما اختاره الشيخ العراقي ـ وهو تفسيره باستصحاب الحصة ـ لكان جريان استصحاب الكلّي في المقام محلا للإشكال إذ


يصير من قبيل استصحاب الفرد المردد ، لان الحصة المعلومة سابقا والتي يراد استصحابها مرددة بين كونها الحصة الثابتة ضمن البق أو الثابتة ضمن الفيل.

الاعتراض الرابع

إنّ استصحاب الكلّي حتى ولو فرض تواجد جميع أركان الاستصحاب فيه ـ كاليقين السابق والشكّ اللاحق ـ فمع ذلك لا يجري من جهة وجود أصل حاكم عليه ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي ناشئ من احتمال حدوث الفيل إذ لإجل احتمال حدوث الفيل نحتمل بقاء الحيوان ذي الخرطوم وإلاّ فبقطع النظر عن ذلك لا يحصل الشكّ في بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، وعليه فالشكّ في بقاء الكلّي شكّ مسببي بينما الشكّ في حدوث الفيل شكّ سببي ، والأصل الجاري في الشكّ السببي يسمى بالأصل السببي ، وهو حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسببي المعبر عنه بالأصل المسببي. وفي المقام حيث نشكّ في حدوث الفيل فمقتضى الأصل عدم حدوثه (١) ، وهذا الأصل حاكم على استحصاب بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، إذ بأصالة عدم حدوث الفيل يثبت عدم حدوث الفيل ويحصل العلم تعبدا بعدم بقاء الحيوان ذي الخرطوم ، ومعه لا يجري استصحاب بقاء الحيوان ذي الخرطوم لارتفاع موضوعه وهو الشكّ في البقاء وتبدله إلى العلم بارتفاعه.

ويرده : انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكما على الأصل المسببي فيما إذا كانت السببية سببية شرعية لا عقلية وإلاّ كان من قبيل الأصل المثبت ، وفي المقام

__________________

(١) المراد من أصل عدم حدوث الفيل استصحاب عدم حدوثه


السببية عقلية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا لم يكن الفيل حادثا فالحيوان ذو الخرطوم لا يكون باقيا وإنّما ذلك ثابت من باب الملازمة العقلية.

الاعتراض الخامس

إنّ استصحاب بقاء الكلّي لو كان قابلا للجريان في نفسه ـ لتوفر جميع الاركان فيه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ـ فمع ذلك لا يجري من جهة وجود معارض له ، فإنّ عدم بقاء الكلّي يتحقق بانتفاء كلا فرديه ، وفي المقام كلا الفردين يمكن إثبات انتفائهما ، فإنّ بقاء البق منتف بالوجدان ، وبقاء الفيل منتف باستصحاب عدم حدوثه ، وبضم ذاك الوجدان إلى الأصل يثبت انتفاء كلا فردي الكلّي وبالتالي يثبت انتفاء نفس الكلّي. وعليه فاستصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان معارض لاستصحاب بقاء الكلّي.

وبكلمة مختصرة : إنّ استصحاب بقاء الكلّي لا يجري لمعارضته باستصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان.

ويرده : إنّ استصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان لا يثبت إنتفاء بقاء الكلّي إلاّ بالملازمة العقلية والأصل المثبت ، فإنّه لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الفيل لم يحدث وكان البق منتفيا بالوجدان فالحيوان ذو الخرطوم لا يكون باقيا وإنّما ذلك ثابت بالملازمة العقلية.

وإنّ شئت قلت : إنّا لو سألنا استصحاب عدم حدوث الفيل وقلنا له هل تقول بعد ضم الوجدان إليك إنّ الكلّي ليس بثابت شرعا لأجاب كلا ، ومادام استصحاب عدم حدوث الفيل لا يقول بعدم بقاء الكلّي فلا مانع من استصحاب


بقاء الكلّي لعدم وجود أصل ينفي بقائه شرعا. وعليه فاستصحاب بقاء الكلّي يجري بدون وجود أصل معارض له.

أجل لو فرض أنّ الأثر لم يترتب شرعا على بقاء الكلّي وإنّما كان مترتبا على بقاء الفيل وبقاء البق ـ كما لو فرض أنّ المكلّف نذر أنّ الفيل لو كان باقيا فاتصدق بدينارين ولو كان البق باقيا فأتصدق بدينار ولم ينذر أن الحيوان ذا الخرطوم لو كان باقيا فأتصدق ـ ففي مثل هذه الحالة لا يجري استصحاب بقاء الكلّي لعدم ترتب أثر على بقائه بل يجري الأصل لنفي الفردين فيقال نحن نشكّ في بقاء الفيل والأصل عدم بقائه والبق غير باق جزما فلا يجب التصدق لا بالدينارين ولا بالدينار.

ويمكن أن نذكر الرد على هذا الاعتراض بمنهجة اخرى فنقول : إنّ بقاء الكلّي امّا أن يكون له أثر أو لا يكون له أثر بل الأثر مترتب على الافراد.

فعلى الأوّل يجري استصحاب بقاء الكلّي ولا يعارضه استصحاب عدم حدوث الفيل المنضم إلى الوجدان إلاّ من باب الأصل المثبت.

وعلى الثاني لا يكون استصحاب بقاء الكلّي قابلا للجريان في نفسه ـ لعدم ترتب أثر عليه ـ حتى يعارض باستصحاب عدم حدوث الفيل. هذا كله في الحالة الاولى من القسم الثاني.

القسم الثالث من استصحاب الكلّي

وأمّا الحالة الثانية من القسم الثاني فهي تتمثل في استصحاب الكلّي من القسم الثالث كما لو علم مثلا بدخول زيد في المسجد وعلم بخروجه أيضا وشكّ


شكا بدويا (١) في دخول عمرو امّا مقارنا لخروج زيد أو قبل خروجه (٢).

والمشهور بين الاصوليين عدم جريان الاستصحاب المذكور لأنّ طبيعي الإنسان وإن كان موجودا في الخارج إلاّ أنّه موجود بالحصص وواضح أن الحصة من الإنسان الموجودة ضمن زيد يعلم بارتفاعها فلا يمكن جريان استصحابها ، والحصة من الانسان الموجودة ضمن عمرو يشك في اصل حدوثها فلا ايمكن جريان استصحابها أيضا.

أجل لو أخذنا برأي الرجل الهمداني القائل بأنّ الطبيعي موجود بوجود واحد ـ امّا مغاير لوجود أفراده أو متحد مع أفراده ـ فيمكن جريان استصحابه لأنّه بدخول زيد في المسجد يحصل العلم بوجود الكلّي في المسجد فإذا خرج زيد واحتمل دخول عمرو فسوف يحتمل ان ذلك الوجود باق في المسجد فيجري استصحابه.

ان قلت : إنّه بناء على رأي السيد الشهيد القائل بأن الاستصحاب يجري في العنوان فعنوان الإنسان حيث إنّه عنوان واحد مهما اختلفت الأفراد فاستصحاب بقاء كلّي الإنسان في المسجد يكون ممكنا ووجيها.

قلت : إنّ الاستصحاب وإن كان يجري في العنوان ولكنّه لا يجري فيه بما هو عنوان وإنّما يجري فيه بما هو حاك عن الخارج ، ومن الواضح انّ عنوان الإنسان بما هو حاك عن الحصة الخارجية من الإنسان الثابتة ضمن زيد مرتفع جزما ،

__________________

(١) وهذا بخلافه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي فإنّه كان يعلم إجمالا بحدوث امّا الفيل أو البق

(٢) المراد من القبلية ما يشمل حالة احتمال دخول عمرو مقارنا لدخول زيد


وبما هو حاك عن حصة الإنسان ضمن عمرو مشكوك الحدوث ، وليس العنوان واحدا ليقال إنّه معلوم الحدوث مشكوك البقاء.

وهذا كلّه بخلافه في استصحاب الكلّي من القسم الثاني فإنّه لا توجد حصة معلومة الارتفاع وحصة اخرى مشكوكة الحدوث بل هناك حصة واحدة يعلم يحدوثها ويشكّ في ارتفاعها إذ لعلّ الحصة الحادثة هي الحصة ضمن الفيل التي تصلح للبقاء.

قوله ص ٢٩٥ س ١٠ : المسبب : بكسر الباء الاولى.

قوله ص ٢٩٥ س ١١ : كما في المثال المتقدم : أي ص ٢٩٣ س ١٧ بقوله ومثال الثاني إلخ.

قوله ص ٢٩٦ س ٣ : بل لعدم الشكّ إلخ : المناسب : بل ولعدم الشكّ في البقاء أيضا.

قوله ص ٢٩٦ س ٥ : وقد تقدم إلخ : هذا مناقشة في الاعتراض المذكور.

قوله ص ٢٩٦ س ١١ : وهذا إنّما يتواجد : أي الشكّ في الواقع على ترديده.

قوله ص ٢٩٦ س ١٢ : على كل تقدير : أي على تقدير الفرد القصير والفرد الطويل.

قوله ص ٢٩٧ س ٧ : تبعا لأخذه إلخ : أي لإجل أخذ العنوان موضوعا للأثر بما هو حاك عن الواقع.

قوله ص ٢٩٧ س ١١ : نظرا إلى أن إلخ : الظاهر البدوي للعبارة أنّه تعليل لكون المقام من باب استصحاب الفرد المردد ولكنه بعيد ، فإنّ كون المقام من استصحاب الفرد المردد بناء على تفسير الكلّي بالحصة واضح لا يحتاج إلى


التعليل المذكور بل ولا يناسبه.

ومن المحتمل أن يكون تعليلا لقوله أمكن المنع عن جريانه في المقام ، أي أنّ استصحاب الفرد المردد لا يجري في المقام لأنّ أحد فرديه وإن كان مشكوك البقاء ـ وهو الطويل الأمد (١). إلاّ أنّ الثاني مقطوع الانتفاء.

قوله ص ٢٩٧ س ١٧ : عدم الأوّل : أي عدم حدوث الفرد الطويل. والمراد من الثاني : الكلّي.

قوله ص ٢٩٨ س ٩ : والتحقيق إلخ : هذا رد للإعتراض الخامس.

قوله ص ٢٩٨ س ٩ : بما هو وجود له : أي بما هو وجود للكلّي وليس بما هو وجود له في هذا الفرد أو ذاك الفرد.

قوله ص ٢٩٨ س ١١ : ضمن حصة خاصة : المراد من الحصة هنا وفيما بعد الفرد.

قوله ص ٢٩٨ س ١٢ : إلاّ بما هو وجود لهذه الحصة : وبعبارة أوضح يكون مترتبا على وجود الفرد ، فإنّ وجود الكلّي لهذه الحصة أو لتلك ليس إلاّ عبارة اخرى عن الفرد.

قوله ص ٢٩٨ س ١٦ : صرف الوجود : صرف وجود الشيء عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق عليه وجوده ، فصرف وجود الماء عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق عليه الماء كالقطرة الواحدة. وصرف وجود الكلّي في المقام عبارة عن أقل ما يمكن أن يصدق معه الكلّي وهو تحققه ضمن فرد واحد مهما كان.

__________________

(١) الفيل وإن كان مقطوع البقاء على تقدير حدوثه إلاّ أنّه باعتبار أنّ أصل حدوثه مشكوك فمن الصواب أن يقال إنّ بقائه مشكوك


قوله ص ٢٩٩ س ٢ : لا ينقح موضوع الأثر : إذ موضوع الأثر هو الفرد ، وباستصحاب بقاء الكلّي لا يثبت الفرد. والمراد من قوله « ينقح » : يثبت.

قوله ص ٢٩٩ س ١٦ : فلا بدّ أن يكون : أي العنوان الكلّي.

قوله ص ٢٩٩ س ١٧ : ومرآة للوجود الخارجي : عطف تفسير على سابقه.

قوله ص ٣٠٠ س ١ : إذ ليس هناك واقع خارجي إلخ : إلاّ على رأي الرجل الهمداني.

قوله ص ٣٠٠ س ٤ : خلافا للحالة السابقة : أي استصحاب الكلّي من القسم الثاني المشار له بعنوان الحالة الاولى للشق الأوّل.

قوله ص ٣٠٠ س ٥ : من هذا القبيل : أي يمكن الإشارة له ونقول هو متيقن الحدوث مشكوك البقاء.


الاستصحاب في

الموضوعات المركّبة



الاستصحاب في الموضوعات المركبة

قوله ص ٣٠١ س ١ : إذا كان الموضوع للحكم الشرعي الخ : تقدّم ص ٢٧٩ من الحلقة انّ هناك عدّة تطبيقات ومصاديق للاستصحاب وقع الاختلاف في حجّيتها بين الاصوليين. ورابع تلك المصاديق هو الاستصحاب في الموضوعات المركبة.

وتوضيح المقصود : انّ المستصحب تارة يكون أمرا واحدا بسيطا لا يتركّب من جزئين ، واخرى يكون مركّبا.

مثال البسيط : استصحاب عدالة زيد ، فإنّ العدالة شيء واحد.

مثال المركب : انفعال الماء ـ أي تنجّس الماء ـ فإنّه حكم منصب على الماء بشرطين : ملاقاته للنجاسة وعدم كونه كرا ، فموضوع الانفعال إذن مركّب من جزئين : الملاقاة وعدم الكرية.

امّا صورة بساطة الموضوع فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها ، فزيد إذا كان عادلا فيما سبق جرى استصحاب بقائه على العدالة ، وإذا لم يكن عادلا جرى ايضا استصحاب بقائه على عدم العدالة. وهذا ممّا لا إشكال فيه ولم يقع بين الاصوليين اختلاف من ناحيته.

وأمّا صورة تركّب الموضوع فقد وقع فيها الاختلاف بين الاصوليين ، فإذا كان لدينا ماء وأصابته نجاسة وشككنا في كرّيته فهل يمكن استصحاب عدم


كريته ويضمّ هذا الاستصحاب الى الوجدان ليلتئم بذلك تمام الموضوع ويحكم بالانفعال؟ إنّ هذه الصورة هي محل الكلام.

حالتان لتركّب الموضوع

ولصورة تركّب الموضوع حالتان : ـ

١ ـ أن لا يكون الموضوع ذات الملاقاة وذات عدم الكرية بل هو الملاقاة المقيّدة بعدم الكرية أو عنوان اقتران الجزئين أو عنوان مجموع الجزئين اللذين من العناوين الانتزاعية.

٢ ـ أن يكون الموضوع ذات الجزئين بمعنى أنّه في الزمان الواحد إذا تحقّقت ذات الملاقاة وذات عدم الكرية كفى ذلك في الحكم بانفعال الماء بلا حاجة إلى إثبات تقيّد الملاقاة بعدم الكرية أو عنوان اقتران الجزئين أو عنوان المجموع.

الحالة الاولى

امّا في الحالة الاولى التي لا يكون العنوان فيها منصبا على ذوات الأجزاء بل على عنوان تقيد الملاقاة بعدم الكرية أو على عنوان اقتران الجزئين أو عنوان مجموع الجزئين فاستصحاب عدم الكرية لا يمكن إجراؤه وضمّه إلى الوجدان لأنّ المقصود من الاستصحاب المذكور : ـ

إن كان هو مجرّد إثبات عدم الكرية وضمّه إلى الملاقاة بدون نظر إلى إثبات عنوان التقيد والاقتران والمجموع فهذا من الواضح عدم كفايته لأنّ المفروض انّ الانفعال لم ينصب على ذوات الأجزاء بل على عنوان التقيد واخويه.


وإن كان المقصود إثبات التقيد واخويه بمعنى ان نقول انّ الاستصحاب إذا جرى لإثبات عدم الكرية فبضمّه إلى الوجدان يثبت الاقتران والتقيّد وبعد ذلك يثبت الحكم فجوابه انّ هذا لا يتم إلاّ بناء على حجّية الأصل المثبت والملازمة العقلية إذ لم توجد آية أو رواية تقول إذا لم يكن الماء كرّا ولاقته نجاسة بالوجدان فقد تحقّق عنوان مجموع الجزئين أو اقتران أحدهما بالآخر أو تقيّد الملاقاة بعدم الكرية وإنّما ذلك ثابت بسبب الملازمة العقلية.

ولئن كان الاستصحاب قابلا للجريان في هذه الحالة فهو يجري لنفي عنوان التقيّد والاقتران والمجموع بأن يقال انّه قبل إصابة النجاسة للماء لم يكن عنوان تقيّد الملاقاة بعدم الكرية متحقّقا فيجري استصحاب عدم تحقّقه ، وهكذا وبنفس الطريقة يجري استصحاب عدم تحقّق عنوان المجموع أو عنوان الاقتران. وبذلك ينفى موضوع النجاسة ويحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة.

الحالة الثانية

وامّا في الحالة الثانية التي يكون الحكم فيها منصبا على ذوات الأجزاء ـ وهي الحالة التي وقعت محلا للكلام بين الاصوليين وإلاّ فالحالة الاولى لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيها في الجزء ـ فالمعروف بين الاصوليين انّ الاستصحاب يجري في بعض الأجزاء فإذا كانت الملاقاة معلومة بالوجدان وشكّ في عدم الكرية فلا محذور في جريان استصحاب عدم الكرية إن كانت الحالة السابقة هي عدم الكرية وبذلك يحكم بالانفعال ، كما ولا بأس باستصحاب الكرية إن كانت الحالة السابقة هي الكرية وبذلك يحكم بعدم الانفعال.


وبكلمة اخرى : انّ الاستصحاب في بعض الأجزاء يجري بشرطين : ـ

١ ـ أن يكون الحكم منصبا على ذوات الأجزاء دون عنوان التقيّد أو الاقتران أو المجموع.

٢ ـ أن يكون للجزء حالة سابقة متيقّنة يشكّ في بقائها.

هذا ـ أي جريان الاستصحاب في جزء الموضوع في الحالة الثانية ـ بيان لحكم الحالة الثانية على سبيل الإجمال. وأمّا على سبيل التفصيل فالكلام ينبغي أن يقع في نقاط ثلاث : ـ

١ ـ هل الاستصحاب يقبل الجريان في بعض الأجزاء فيما إذا كان الحكم منصبا على ذوات الأجزاء وكان للجزء حالة سابقة متيقّنة يشكّ في بقائها. وهذا تحقيق للحال في الكبرى ، أي كبرى جريان الاستصحاب في بعض الأجزاء فيما إذا توفّر الشرطان السابقان.

٢ ـ متى يكون الحكم منصبّا على ذوات الأجزاء دون عنوان التقيّد والمجموع والاقتران. وهذا تحقيق للحال في صغرى الشرط الأوّل.

٣ ـ متى يكون الجزء متيقّنا سابقا مشكوكا لاحقا. وهذا تحقيق للحال في صغرى الشرط الثاني.

النقطة الاولى

امّا بالنسبة إلى قابلية الاستصحاب للجريان في جزء الموضوع فالمعروف بين الاصوليين ثبوتها وعدم المحذور في جريان الاستصحاب في جزء الموضوع


فيما إذا كان الجزء الآخر محرزا (١).

والوجه في ذلك : انّ شرط جريان الاستصحاب كونه قابلا للتنجيز ، وفي المقام استصحاب عدم الكرية مثلا قابل لتنجيز وجوب الاجتناب عن الماء فيما إذا كانت الملاقاة محرزة ، فإنّ الملاقاة إذا كانت محرزة فباستصحاب عدم الكرية يتنجز وجوب الاجتناب عن الماء.

هذا ولكن قد يعترض على جريان الاستصحاب في جزء الموضوع بأنّ مفاد حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » بناء على مسلك جعل الحكم المماثل هو جعل حكم ثان ظاهري مماثل للحكم السابق ، وفي مقامنا حيث انّ عدم الكرية ليس له حكم ـ إذ الحكم وهو الانفعال منصبّ على كلا الجزئين دون كل واحد منهما ـ فلا يمكن بإجراء الاستصحاب فيه جعل مماثله ، وما له حكم ـ وهو كلا الجزئين ـ لا يراد إجراء الاستصحاب فيه (٢).

ويردّه : إنّ الاعتراض المذكور مبني على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ، وامّا بناء على إنكار هذا المبنى ـ كما هو الصحيح ـ والقول بأنّ شرط جريان الاستصحاب قابليته للتنجيز والتعذير فلا محذور في جريان

__________________

(١) المراد من إحراز الجزء الثاني ليس هو خصوص إحرازه بالوجدان بل الأعم من إحرازه بالوجدان أو بالتعبّد وذلك بجريان الاستصحاب فيه فيما إذا كان قابلا لجريان الاستصحاب فيه

(٢) وهذا الإشكال كما نراه مبني على مسلك جعل الحكم المماثل ولكن في التقرير ج ٦ ص ٣٠٤ بيّن الإشكال بشكل آخر لا يختص بمسلك جعل الحكم المماثل فقد ورد فيه : انّ شرط جريان الاستصحاب أن يكون منجزا ، والمنجزية حيث لا تثبت إلاّ للحكم الفعلي إذ الحكم الفعلي هو القابل للتنجز فالاستصحاب لا يجري في جزء الموضوع لأنّه ليس له حكم فعلي ليقبل التنجز بالاستصحاب وإنّما الحكم الفعلي ثابت لكلا الجزئين لا لأحدهما


الاستصحاب في جزء الموضوع ، إذ التنجز يحصل بالعلم بالكبرى والعلم بالصغرى ، وكلاهما ثابت.

أمّا العلم بالكبرى ـ أي بالجعل والتشريع ـ فلأنّ كل مكلّف له أدنى اطلاع على الأحكام الشرعية يعرف انّ الماء إذا كان قليلا ولاقته نجاسة تنجّس.

وامّا العلم بالصغرى ـ أي العلم بالموضوع وإنّ الملاقاة وعدم الكرية متحقّقان ـ فلأنّ الملاقاة محرزة بالوجدان حسب الفرض ، وعدم الكرية بجريان الاستصحاب فيه يصير معلوما بالتعبّد.

وبكلمة اخرى : انّه بعد العلم بتشريع تنجس الماء عند ملاقاة النجاسة له وعدم كرّيته وبعد افتراض إحراز ملاقاة النجاسة له فاستصحاب عدم الكرية يكون جاريا إذ به يثبت تنجز وجوب الاجتناب عن الماء ، ولا يتوقّف جريان الاستصحاب على أن يكون لعدم الكرية حكم ليجعل مماثله.

أجل بناء على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل فجريان الاستصحاب في عدم الكرية مشكل لعدم ثبوت حكم لعدم الكرية ليجعل مماثله بالاستصحاب (١).

هذا ولكن توجد ثلاثة أجوبة لدفع الإشكال على المبنى المذكور ـ مسلك جعل الحكم المماثل ـ كلّها لا يخلو من تأمّل. وهي :

__________________

(١) ممّن استشكل في جريان الاستصحاب في أحد جزئي المركب المحقّق الايرواني في رسالته الصغيرة « الذهب المسكوك في حكم اللباس المشكوك » ص ١٢ لبيان آخر غير ما ذكرناه هنا.

وهو ممّن يختار أيضا انّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل فراجع رسالته المذكورة ص ٣٦


١ ـ انّ الملاقاة إذا كانت محرزة بالوجدان فحيث انّ ثبوت تنجس الماء حينئذ لا يحتاج إلاّ إلى ثبوت عدم الكرية فكأنّ التنجس يصير حكما لعدم الكرية وليس حكما لكلا الجزئين ، ومعه فلا محذور في جريان الاستصحاب في عدم الكرية لأنّ له ـ عدم الكرية ـ حكما على ضوء هذا.

ويردّه : ان عهدة هذا الكلام على مدعيه فنحن لا نسلّم انّ تحقّق أحد الجزئين يكون موجبا لصيرورة الحكم الثابت لكلا الجزئين حكما للجزء الثاني ، فإنّ الجزء لا ينسلخ عن كونه جزء للموضوع بتحقّقه.

٢ ـ انّ موضوع الحكم إذا كان مركّبا من جزئين فالحكم المنصبّ عليهما ينحل إلى حكمين بعدد الجزئين فالجزء الأوّل يثبت له الحكم بالانفعال والجزء الثاني يثبت له الحكم بالانفعال أيضا. وهذا كما إذا قيل لا تشرب الخمر ، فكما أنّه ينحلّ إلى تحريمات متعدّدة بعدد أفراد الموضوع كذلك في المقام ينحل الحكم إلى أحكام متعدّدة بعدد الأجزاء.

وإذا كان لعدم الكرية حكم انحلالي فبالاستصحاب يثبت الحكم المماثل له.

ويردّه : انّ الحكم الصادر من الحاكم ما دام واحدا منصبّا على كلا الجزئين فلا معنى لانحلاله وثبوته لكل واحد من الجزئين وإلاّ يلزم خلف الفرض إذ الفرض ثبوت الحكم لكلا الجزئين لا لكل واحد منهما.

٣ ـ انّ الحكم بالانفعال إذا كان منصبّا على كلا الجزئين فكل جزء سوف يثبت له الحكم بالانفعال ولكن مشروطا بتحقّق الجزء الآخر. فالحكم بالانفعال ثابت للملاقاة بشرط تحقّق عدم الكرية ، وثابت أيضا لعدم الكرية بشرط تحقّق الملاقاة. ومعه فيمكن جريان الاستصحاب في عدم الكرية حتى بناء على مسلك


جعل الحكم المماثل بعد ثبوت الحكم المشروط لكل واحد من الجزئين.

ويردّه : انّ ثبوت الحكم المشروط لكل واحد من الجزئين بشرط تحقّق الجزء الآخر وإن كان أمرا مسلما إلاّ أنّه ليس حكما مجعولا من قبل الشارع وإنّما هو أمر انتزاعي ينتزعه العقل من ثبوت الحكم لكلا الجزئين ، فإنّ الحكم إذا كان ثابتا لكلا الجزئين فالعقل ينتزع ثبوت الحكم لكل واحد من الجزئين بشرط تحقّق الجزء الثاني. وهذا نظير ما تقدّم في حرمه العصير العنبي عند الغليان ، فكما انّ حرمة العصير العنبي بشرط تحقّق الغليان ليست حرمة مجعولة من قبل الشارع ليجري استصحابها إلى حالة الزبيبية وإنّما هي أمر انتزاعي ينتزع من ثبوت الحرمة للعصير المغلي كذلك في المقام لا يجري الاستصحاب في عدم الكرية لأنّ الحكم المشروط الثابت له ليس حكما مجعولا وإنّما هو أمر انتزاعي.

قوله ص ٣٠١ س ١ : وتمّت فيه أركان الاستصحاب : بأن كان متيقّنا سابقا مشكوك البقاء لا حقا.

قوله ص ٣٠١ س ١٠ : مباشرة : أي بلا إثبات العنوان الانتزاعي.

قوله ص ٣٠١ س ١١ : المتحصّل : أي الحاصل من حصول كلا الجزئين.

قوله ص ٣٠١ س ١٢ : بإثبات : أي بعد إثبات.

قوله ص ٣٠٢ س ٦ : ثبوتا : كاستصحاب بقاء عدم الكرية فيما إذا كانت الحالة السابقة هي عدم الكرية.

قوله ص ٣٠٢ س ٦ : أو عدما : كاستصحاب عدم عدم الكرية ـ أي الكرية ـ فيما إذا كانت الحالة السابقة هي الكرية.

قوله ص ٣٠٢ س ٩ : وعناصره : عطف تفسير على أجزاء الموضوع.


قوله ص ٣٠٢ س ١١ : هذا على سبيل الإجمال : أي ما ذكرناه في الحالة الثانية من جريان الاستصحاب.

قوله ص ٣٠٣ س ٣ : أو بتعبّد : فيما إذا كان الجزء الأوّل محرزا بالاستصحاب أيضا. ويمكن افتراض ذلك في بعض الموارد.

قوله ص ٣٠٣ س ١١ : في دليل الاستصحاب : متعلّق بقوله : « بجعل ».

قوله ص ٣٠٣ س ١٣ : كما عرفت سابقا : أي ص ٢٨٤.

قوله ص ٣٠٣ س ١٤ : ذا أثر عملي : حال من استصحاب الجزء. أي انّ الاستصحاب حال كونه ذا أثر عملي ـ وهو تنجيز الحكم ـ لا يحتاج جعله إلى التعبّد بالحكم المماثل.

ولعلّ الإتيان بكلمة « ذا » مجرورة ـ أي ذي أثر عملي ـ أولى كما في التقرير ج ٦ ص ٣٠٤ لتكون وصفا للاستصحاب.

قوله ص ٣٠٣ س ١٦ : الواصلة كبراه : فإن كبرى الحكم واصلة إذ الكل يعرف انّ الماء إذا لم يكن كرا ولاقته نجاسة تنجّس.

قوله ص ٣٠٣ س ١٧ : لأنّ إحراز الخ : هذه الجملة إلى قوله : « المترتب عليه » تتناسب والبيان الثاني للاعتراض المذكور في التقرير والذي نقلناه في الهامش ، ولا يحتاج إليها على البيان المذكور في الكتاب.

قوله ص ٣٠٤ س ١ : المترتّب عليه : أي على الموضوع.

قوله ص ٣٠٤ س ١ : وبهذا نجيب : أي هذا هو الجواب عن الاعتراض المذكور.

قوله ص ٣٠٤ س ٢ : في دليل الاستصحاب : متعلّق بجعل.


قوله ص ٣٠٤ س ٧ : ظاهرا : متعلّق بقوله : « ويثبت ».

قوله ص ٣٠٤ س ٩ : لأنّ وجود الشرط للحكم الخ : فإنّ وجود الجزء الأوّل شرط لتحقّق الحكم ، وبتحقّقه الوجداني لا تزول شرطيّته لتحقّق الحكم.

النقطة الثانية

قوله ص ٣٠٥ س ١٠ : وامّا النقطة الثانية الخ : وبعد الفراغ من النقطة الاولى يقع الكلام في النقطة الثانية وهي أنّه متى يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان الانتزاعي. وفي هذا المجال ننقل كلاما للشيخ النائيني حاصله انّ الموضوع لكل حكم لا يخلو من إحدى حالات ثلاث : ـ

١ ـ أن يكون مركّبا من العرض ومحلّه ، كما لو قيل أكرم الإنسان العالم ، فإنّ الحكم بوجوب الإكرام منصبّ على الإنسان والعالم ، أي على العالمية التي هي عرض وعلى محلّها وهو الإنسان.

٢ ـ أن يكون مركّبا من عدم العرض ومحلّه ، كما لو قيل تتحيض إلى الخمسين المرأة غير القرشية ، فإنّ مصبّ الحكم بالتحيّض إلى الخمسين هو المرأة وعدم القرشية ، أي المحلّ وهو المرأة وعدم العرض. وحيث انّ العرض هو القرشية فعدم العرض هو عدم القرشية.

٣ ـ أن يكون مركّبا من عرضين ثابتين امّا لمحل واحد أو لمحلّين.

مثال العرضين الثابتين لمحل واحد : يجب تقليد المجتهد العادل ، فإنّ موضوع وجوب التقليد هو الاجتهاد والعدالة ، وهما عرضان لمرجع التقليد الذي هو محل واحد للاجتهاد والعدالة معا.


ومثال العرضين الثابتين لمحلّين : الحكم بإرث الولد من والده بشرط موت الوالد وكون الولد مسلما حين موت الوالد ، فإنّ موضوع الحكم بالإرث مركب من موت الوالد واسلام الولد ، والموت عرض محلّه الوالد ، والإسلام عرض محلّه الولد ، فالموت والإسلام عرضان في محلّين.

وبعد اتّضاح هذه الحالات الثلاث لموضوع الحكم ذكر الشيخ النائيني 1.

الحالة الاولى

انّه في الحالة الاولى التي يكون الموضوع فيها مركّبا من العرض ومحلّه لا يكون الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على ذات الإنسان وذات العدالة ، فإنّ العدالة عرض ، والعرض دائما يلحظ بما هو وصف لمحلّه ولا يلحظ في ذاته مجرّدا عن محلّه ، فالإنسان المقيّد بالعدالة هو مصبّ الحكم لا ذات الإنسان بقطع النظر عن التقييد بالعدالة ولا ذات العدالة بقطع النظر عن التقييد بالإنسان ، فإنّ الحكم لو كان منصبّا على ذات الإنسان بقطع النظر عن التقييد بالعدالة وعلى ذات العدالة بقطع النظر عن التقييد بالإنسان فلازم ذلك أنّه متى ما وجدت ذات الإنسان ووجدت ذات العدالة ولو في إنسان آخر فالحكم بوجوب الإكرام يثبت للإنسان الأوّل وإن كان فاسقا لأنّ ذات العدالة متحقّقة حسب الفرض في الإنسان الثاني وذات الإنسان الأوّل متحقّقة. إنّ هذا يكشف بوضوح عن أنّ موضوع الحكم بوجوب الإكرام ليس هو ذات الإنسان وذات العدالة بل العنوان الانتزاعي ـ وهو تقيد الإنسان بالعدالة ـ له المدخلية في موضوع الحكم.

وإذا كان التقيّد له مدخلية في موضوع الحكم فالاستصحاب لا يمكن أن


يجري في العدالة ، فإذا كان لدينا إنسان وكان في الزمان السابق عادلا ويشكّ الآن في عدالته فالاستصحاب لا يمكن أن يجري في ذات العدالة ، فليس من الصحيح أن نقول إنّ العدالة كانت ثابتة سابقا والآن هي ثابتة أيضا فإنّ هذا الاستصحاب يثبت بقاء ذات العدالة ولا يثبت انّ الإنسان ـ كزيد مثلا ـ متّصف بالعدالة إلاّ من باب الملازمة العقلية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كانت العدالة باقية فالإنسان المذكور متّصف بها.

وعليه فإذا أردنا أن نجري الاستصحاب فلا بدّ من إجرائه في الاتصاف والتقيّد بأن نقول هكذا : انّ زيدا مثلا كان متّصفا بالعدالة في السابق فإذا شكّ الآن في بقاء اتصافه بالعدالة فمقتضى الاستصحاب بقاء اتصافه وتقيّده بالعدالة.

الحالة الثانية

وقبل بيان الحالة الثانية نذكر مقدّمة نوضّح فيها مصطلحين :

١ ـ العدم تارة يلحظ وصفا للمحل ، كما إذا قيل : « المرأة المتّصفة بعدم القرشية » ، فإنّ عدم القرشية لوحظ وصفا للمرأة.

ومثل هذا العدم يسمّى بالعدم النعتي لأنّه لو حظ نعتا ووصفا للمرأة.

واخرى لا يلحظ وصفا لمحلّه بل يلحظ في نفسه ، كما إذا قلنا « عدم القرشية ». إنّ عدم القرشية هنا لم يلحظ وصفا للمرأة بل لوحظ في نفسه. ويسمّى مثل هذا العدم بالعدم المحمولي. وإنّما سمّي بالمحمولي لأنّ ذات العدم يقع محمولا فنقول مثلا « زيد معدوم » و « المطر معدوم » و « شريك الباري معدوم » ، إنّ ذات العدم في هذه القضايا وقع محمولا ، ومن هنا فذات العدم يسمّى بالعدم المحمولي.


٢ ـ العدم الأزلي هو العدم الثابت من القديم حينما كان الله سبحانه ولم يكن معه شيء ، فمثلا قبل أن تولد المرأة القرشية وترى نور الوجود كانت ذاتها معدومة وكانت قرشيّتها معدومة أيضا. وعدم ذاتها وعدم قرشيّتها ليس ثابتا قبل ولادتها بسنة أو بسنتين أو بمائة سنة بل هو ثابت من القديم حينما كان الله ولم يكن معه شيء فمثل هذا العدم إذن يسمّى بالعدم الأزلي.

وإذا اتّضح لدينا هذا أمكن لو سئلنا : هل العدم المحمولي عدم أزلي أو لا؟ أن نجيب : نعم انّه أزلي إذ العدم المحمولي هو ذات العدم ، وذات كل عدم ثابتة من الأزل.

ولو سئلنا ثانيا : هل العدم النعتي عدم أزلي أو لا؟ فالجواب : كلا ليس أزليا لأنّ العدم النعتي يلحظ بما هو وصف للمرأة مثلا فلا بدّ من وجود المرأة أوّلا ليثبت بعد ذلك اتصافها بعدم القرشية ، فإنّ ثبوت الوصف فرع تحقّق الموصوف.

هذه هي المقدّمة التي أردنا عرضها. والآن نأخذ ببيان حكم الحالة الثانية التي يكون الموضوع فيها مركّبا من عدم العرض ومحلّه.

وفي هذه الحالة يكون الحكم منصبّا على التقيّد والاتصاف أيضا لا على ذوات الأجزاء ، فالحكم بالتحيض إلى خمسين لا يكون منصبا على ذات المرأة وذات عدم القرشية بل على اتصاف المرأة بعدم القرشية فإنّ عدم العرض حينما يقاس إلى محلّه يلحظ بما هو وصف له فالحكم يكون منصبا على اتصاف المحل بعدم العرض (١) إذ لو كان منصبّا على ذات المرأة وذات عدم القرشية (٢) لكان

__________________

(١) أي يكون منصبّا على العدم النعتي فإنّ عدم القرشية حينما يلحظ وصفا للمحل ويقال المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة فهو عدم نعتي

(٢) ذات عدم القرشية هو ما يعبّر عنه بالعدم المحمولي


لازم ذلك أنّه متى ما تحقّق ذات المرأة وتحقّق ذات عدم القرشية ولو في امرأة اخرى كفى ذلك في الحكم بتحيض المرأة الاولى إلى الخمسين ولو لم تكن متّصفة بعدم القرشية ـ بأن كانت قرشية ـ بل كان الاتصاف بعدم القرشية ثابتا في حقّ امرأة اخرى ، وهذا باطل جزما.

وما دام الحكم منصبّا على اتصاف المرأة بعدم القرشية ـ أي على العدم النعتي ـ لا على ذات عدم القرشيّة المسمّى بالعدم المحمولي الذي هو عدم أزلي ثابت من الأزل فالاستصحاب إذا أردنا إجرائه فأين نجريه ، فهل نجريه في العدم المحمولي أو نجريه في العدم النعتي؟ انّه لا يمكن إجراؤه لا في هذا ولا في ذاك.

أمّا أنّه لا يجري في ذات عدم القرشية ـ الذي هو عدم محمولي أزلي ـ فلأنّ ذات عدم القرشية وإن كان ثابتا منذ الأزل ومتيقّن الثبوت سابقا إلاّ أنّ استصحابه لا ينفع لإثبات الحكم إذ المفروض ترتّب الحكم على اتصاف المرأة بعدم القرشية لا على ذات عدم القرشية.

وأمّا أنّه لا يجري في العدم النعتي ـ أي في اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة ـ فلأنّه لا يوجد زمان سابق كان فيه الاتصاف بعدم القرشية ثابتا ليستصحب بقائه إلى زمان الشكّ ، فإنّ الاتصاف بعدم القرشية لا يثبت إلاّ بعد وجود المرأة ، لأنّه وصف ، وتحقّق الوصف فرع تحقّق الموصوف ، فقبل وجود المرأة لا يمكن ثبوت الاتصاف بعدم القرشية ، وبعد وجودها لا نجزم باتّصافها بعدم القرشية ليستصحب إلى الآن بل المرأة من حين أن تولد يشكّ في أنّها متّصفة بعدم القرشيّة أو هي متّصفة بالقرشية.

وباختصار : انّ العدم الأزلي المحمولي وإن كان متيقّن الثبوت سابقا إلاّ أنّ


استصحابه لا ينفع لعدم ترتّب الأثر عليه ، والعدم النعتي وإن كان الأثر مترتّبا عليه إلاّ أنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة ليجري استصحابها.

إن قلت : لماذا لا نجري استصحاب العدم المحمولي الأزلي لإثبات العدم النعتي ، بأن نقول انّ عدم القرشيّة الأزلي كان ثابتا سابقا فإذا شككنا في بقائه إلى الآن جرى استصحابه وثبت بذلك بقاء العدم الأزلي ، ولازم ذلك اتصاف المرأة بعدم القرشية الذي هو عدم نعتي.

قلت : انّ هذا لا يتمّ إلاّ بناء على الأصل المثبت والملازمة العقلية ، إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان عدم القرشية الثابت قبل ولادة المرأة مستمرا بعد ولادتها أيضا فهي متّصفة بعدم القرشية.

ومن هنا نعرف انّ الشيخ النائيني لا يحكم على المرأة التي تشكّ في كونها قرشية بالتحيض إلى الخمسين استنادا إلى استصحاب عدم قرشيتها الثابت قبل ولادتها لأنّه لا أثر له وإنّما الأثر للعدم النعتي وهو لا يجري استصحابه لما تقدم ، وإجراء استصحاب العدم الأزلي لإثبات العدم النعتي مثبت (١).

__________________

(١) أجل يمكن إجراء الاستصحاب بشكل آخر بأن يقال انّ الحكم بالتحيض إلى الخمسين مترتّب على اتصاف المرأة بعدم القرشية فنجري الاستصحاب في نفس الاتصاف بأن نقول انّه قبل ولادة المرأة كانت هناك ثلاثة أعدام أزلية فكانت ذاتها معدومة وكانت قرشيّتها معدومة وكان اتصافها بعدم القرشية معدوما أيضا ، وما دام الاتصاف بعدم القرشية معدوما من الأزل فنحن نجري استصحاب عدم الاتصاف بعدم القرشية الثابت من الأزل.

وهذا الاستصحاب جيد وصحيح ولكن بجريانه لا تتغير النتيجة الثابتة قبل جريانه ، فإنّه قبل جريانه لم يمكن الحكم على المرأة بالتحيض إلى خمسين ، وبعد جريانه لا يمكن الحكم أيضا بتحيّضها إلى خمسين إذ بالاستصحاب المذكور ننفي موضوع الحكم بلزوم ـ


ينبغي أن لا يخفى

اتّضح من خلال ما سبق انّ الحالة الاولى تشترك مع الحالة الثانية في نقطة وتختلف معها في نقطة اخرى ، فهما يشتركان في أنّ الحكم ليس منصبّا على ذوات الأجزاء ، ففي الحالة الاولى يكون الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على الاتصاف بالعدالة لا على ذات العدالة ، وفي الحالة الثانية يكون الحكم بالتحيض إلى خمسين منصبا أيضا على الاتصاف بعدم القرشية لا على ذات عدم القرشية. هذه نقطة اشتراك.

وهناك نقطة اختلاف ، وهي أنّه في الحالة الاولى كان بالإمكان إجراء الاستصحاب في نفس الاتصاف ، بأن يقال : كان الإنسان متّصفا بالعدالة سابقا فإذا شككنا في بقاء اتصافه بها جرى استصحاب بقاء الاتصاف ويثبت بذلك وجوب إكرامه ، وأمّا في الحالة الثانية فلا يمكن ذلك فلا يمكن أن يقال انّ الاتصاف بعدم القرشية كان ثابتا سابقا فإذا شككنا الآن في بقائه جرى استصحابه.

ولكن ليس من الصحيح ان نفهم من هذا الكلام انّ العدم النعتي لا يمكن جريان الاستصحاب فيه في جميع الأحوال بل هناك حالات يجري فيها الاستصحاب في العدم النعتي. ومثال ذلك : ما إذا كان الحكم بوجوب الإكرام منصبّا على الإنسان المتّصف بعدم الفسق ، فإنّ الاتصاف بعدم الفسق عدم نعتي وبالرغم من ذلك يمكن جريان الاستصحاب فيه ، كما لو كان زيد متّصفا سابقا

__________________

ـ التحيّض إلى خمسين فإنّ موضوع الحكم بالتحيّض إلى خمسين هو الاتصاف بعدم القرشية فإذا نفي باستصحاب العدم الأزلي لم يمكن الحكم بالتحيّض إلى خمسين


بعدم الفسق فإنّه يجري استصحاب بقاء اتصافه بعدم الفسق.

من هنا نعرف انّ الاتصاف بعدم القرشية إنّما لا يجري لخصوصية فيه بالخصوص ، وهي أنّ القرشية من الأوصاف التي لا تقبل التغيّر والتبدّل فهي إن كانت ثابتة فهي ثابتة من حين الولادة وإلى الأبد ، وهكذا بالنسبة إلى عدم القرشية ، وهذا بخلافه بالنسبة إلى الفسق وعدمه فإنّه قابل للتغيّر والتبدّل وليس من الأوصاف الثابتة المستمرة من حين الولادة بل من الممكن أن يولد الإنسان ثمّ يتّصف بعد ذلك بالفسق أو بعدمه أو يتّصف بالعدالة أو بعدمها.

الحالة الثالثة

وأمّا الحالة الثالثة التي يكون الحكم فيها منصبّا على العرضين لمحل واحد أو لمحلّين كوجوب التقليد المنصبّ على الاجتهاد والعدالة فقد ذكر فيها الشيخ النائيني أنّه لا يلزم افتراض كون الحكم منصبّا على التقيّد والاتصاف كما كان ذلك لازما في الحالتين السابقتين.

والوجه في ذلك : انّه فيما سبق كان الحكم منصبّا على العدالة والإنسان ، ومن الواضح ان الإنسان بالقياس إلى العدالة يعتبر محلا لها فيلزم أخذه متصّفا بالعدالة ، وهكذا بالنسبة إلى المرأة وعدم القرشية فإنّ المرأة بالقياس إلى عدم القرشية تعتبر محلا له فيلزم أخذها متّصفة بعدم القرشية ، وهذا بخلافه في هذه الحالة الثالثة فإنّ الاجتهاد بالقياس إلى العدالة لا يعتبر محلا لها ليأخذ متّصفا بها ، وهكذا العدالة بالقياس إلى الاجتهاد لا تعتبر محلا له لتأخذ مقيّده ومتّصفه به ، بل الحكم ينصبّ على ذات العدالة وذات الاجتهاد ، ومعه فيجري الاستصحاب فيهما ، فمتى ما ثبت


بالاستصحاب استمرار ذات العدالة وذات الاجتهاد في حقّ إنسان واحد جاز تقليده ولا حاجة إلى إثبات اتّصاف العدالة بالاجتهاد بل ذاك لا معنى له.

هذه حصيلة بيان الشيخ النائيني 1 في النقطة الثانية. وأمّا مناقشته فترجأ إلى بحث الخارج إنشاء الله تعالى.

قوله ص ٣٠٥ س ١٧ : فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إلخ : أي فنستصحب اتصاف الإنسان بالعدالة إن كان سابقا قد ثبت اتصافه بالعدالة.

قوله ص ٣٠٦ س ٤ : بما هو : أي بما هو عدم لا بما هو وصف لمحلّه.

قوله ص ٣٠٦ س ٥ : إنّما يجري في نفس التقيّد : أي فيما إذا كانت له حالة سابقة متيقّنة ، كما في استصحاب الاتصاف بعدم الفسق ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة متيقّنة كما في الاتصاف بعدم القرشية فلا يجري الاستصحاب فيه ، وإلى ذلك أشار 1 بقوله : « فإذا لم يكن العدم النعتي واجدا الخ ».

قوله ص ٣٠٦ س ٦ : والعدم النعتي : عطف تفسير على التقيّد.

قوله ص ٣٠٦ س ٨ : لم يجر استصحابه : أي العدم المحمولي.

قوله ص ٣٠٦ س ١٢ : وقرشيّتها : عطف تفسير على نسب المرأة.

قوله ص ٣٠٦ س ١٣ : الثابت : صفة لعدم قرشيّتها.

قوله ص ٣٠٦ س ١٦ : مباشرة : أي بلا إثبات العدم النعتي.

قوله ص ٣٠٧ س ١ : لهذا أصل مثبت : الصواب فهذا أصل مثبت.

قوله ص ٣٠٧ س ٣ : واتصاف الخ : عطف تفسير على التقيّد.

النقطة الثالثة

وفي النقطة الثالثة يبحث متى يصدق اليقين السابق والشكّ اللاحق؟


والجواب : إنّ عدم الكرية الذي يراد استصحابه له حالتان : ـ

١ ـ أن لا يعلم بارتفاعه وتبدله إلى الكرية بل يحتمل بقاؤه على عدم الكرية إلى الآن.

٢ ـ ان يعلم بارتفاعه وتبدله إلى الكرية فهو الآن يرى بالعين أنّه كر ولكن يحتمل ان تحوله إلى الكرية قد حصل بعد الملاقاة فهو الآن نجس ويحتمل أنّه حصل قبل الملاقاة فهو الآن طاهر.

أمّا في الحالة الاولى : فلا إشكال في صدق عنوان اليقين السابق والشكّ اللاحق ، فالماء ليس بكر سابقا جزما ويشكّ في تحوله إلى الكرية ، ومقتضى الاستصحاب بقاؤه على عدم الكرية وبذلك يحكم بنجاسته.

وأمّا في الحالة الثانية : فقد يقال بأنّ الشكّ في البقاء غير صادق ليجري الاستصحاب إذ المفروض أنّ الماء قد ارتفع عدم كريته وهو الآن كر جزما ومع الجزم بكريته فكيف يستصحب بقاء عدم كريته؟

وأجاب الاعلام عن ذلك بأنّ الماء وإن كان يعلم بتحوله إلى الكرية ولا يوجد فيه شكّ من هذه الناحية إلاّ أنّ ذلك لو لا حظنا عمود الزمان ، أي لا حظنا الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة وهكذا ، فإنّه بلحاظ الساعات وإن كان لا يوجد شكّ ـ فإذا كان قد ارتفع في الساعة الخامسة مثلا فقبل الساعة الخامسة يجزم ببقائه على عدم الكرية ومن الساعة الخامسة وما بعد يجزم بتحوله إلى الكرية ـ إلاّ أنّه لو لم نلاحظ عمود الزمان بل لا حظناه بالقياس إلى زمن الملاقاة فهو مشكوك البقاء إذ يشكّ في بقائه على عدم الكرية إلى زمن الملاقاة (١).

__________________

(١) ويمكن أن يصطلح على زمن الملاقاة بالزمن النسبي


ومادام الشكّ بلحاظ زمن الملاقاة صادقا فيجري الاستصحاب إذ موضوع الحكم بالنجاسة هو بقاء الماء على عدم الكرية إلى زمن الملاقاة وليس هو بقائه على عدم الكرية في الساعة الخامسة أو السادسة أو الرابعة وهكذا.

وباختصار : إنّ عدم الكرية لو لوحظ بالقياس إلى عمود الزمان فلا يوجد شكّ من حيث بقائه بينما لو لوحظ بالقياس إلى الزمن النسبي كان في بقائه شكّ فيجري الاستصحاب فيه باللحاظ الثاني.

صور ثلاث

ولتوضيح ما هو الحق في المسألة وتفصيل الكلام نقول :

إنّ تاريخ الملاقاة وتاريخ ارتفاع عدم الكرية إذا كانا معلومين فلا معنى لجريان الاستصحاب من جهة عدم وجود الشكّ ، فلو كنا نعلم أنّ الملاقاة حصلت ظهرا والماء تحول إلى الكرية عصرا فالاستصحاب لا معنى له إذ قبل العصر يعلم بكون الماء ليس بكر وبعده يعلم بصيرورته كرا.

إذن لا بدّ من فرض وجود جهالة أمّا في كلا الأمرين ـ أي الملاقاة والتحول إلى الكرية ـ أو في تاريخ احدهما.

وصور الجهالة المحتملة ثلاث : ـ

١ ـ أن يكون تاريخ كل واحد من الأمرين مجهولا فالملاقاة يجهل تاريخها والتحول إلى الكرية يجهل تاريخه أيضا.

٢ ـ أن يفرض أنّ تاريخ تحول الماء إلى الكرية مجهول وتاريخ الملاقاة معلوم.

٣ ـ أن يفرض العكس فتاريخ التحول إلى الكرية معلوم وتاريخ الملاقاة مجهول.


والآراء في هذه الصور ثلاثة (١) : ـ

١ ـ ما ذهب إليه جماعة منهم الشيخ الأعظم في الرسائل والسيد الخوئي من جريان الاستصحاب في عدم الكرية في جميع الصور الثلاث غاية الأمر ان الاستصحاب في الطرف الآخر قد يكون جاريا أيضا فيسقط كلا الاستصحابين بالمعارضة (٢). ففي مثال الملاقاة وعدم الكرية قد يقال بأنّ استصحاب بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة كما هو قابل للجريان كذلك نشكّ أنّ الملاقاة هل حصلت قبل تحول الماء إلى الكرية أو لا فيجري استصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمن التحول للكرية ، فالاستصحاب الأوّل قابل للجريان في جميع الصور غاية الأمر حيث انّه قد يقال بمعارضته بالاستصحاب الثاني فلا يجري من هذه الناحية (٣) ،

__________________

(١) وهذا البحث هو المعروف في الكتب الاصولية بالاستصحاب في مجهولي التاريخ أو مجهول التاريخ ومعلومه

(٢) ليس المقصود من سقوطهما بالمعارضة انهما يجريان ثم يتعارضان ثم يسقطان ، إنّ هذا لا معنى له إذ التعبد بجريان ما يلزم سقوطه لغو بل المراد انّه لاجل المعارضة لا يجري في نفسه ولا يشمله دليل التعبد

(٣) هذا وقد يقال إنّ استصحاب عدم تحقق الملاقاة قبل تحول الماء إلى الكرية لا يجري لعدم ترتب اثر شرعي عليه ، فإنّ مجرد عدم تحقق الملاقاة ليس له أثر وإنّما الأثر مترتب على الملاقاة فالملاقاة إن كانت حاصلة قبل التحول إلى الكرية فالماء نجس وإن كانت حاصلة بعد ذلك فهو طاهر.

إذن عدم حصول الملاقاة قبل تحول الماء إلى الكرية ليس له أثر إلاّ إذا اريد من استصحاب عدم الملاقاة قبل التحول إلى الكرية إثبات لازم ذلك وهو أنّ الملاقاة قد حصلت بعد التحول إلى الكرية وبذلك يكون الماء طاهرا إلاّ أنّ هذا كما هو واضح أصل مثبت إذ لا توجد آية أو رواية تقول إنّ الملاقاة إذا لم تحصل قبل التحول إلى الكرية فهي حاصلة بعد


أي من ناحية المعارضة لا لإجل أنّه لا يوجد فيه شكّ في البقاء.

٢ ـ ما ذهب إليه جماعة آخرون من جريان الاستصحاب في الصورة الاولى وفي الصورة الثانية وعدم جريانه في الصورة الثالثة ، أي هو يجري في صورة جهالة تاريخهما كما ويجري في صورة جهالة تاريخ ارتفاع عدم الكرية ، ولا يحري في صورة العلم بتاريخ ارتفاع الكرية وجهالة تاريخ الملاقاة.

٣ ـ ما اختاره الآخوند من عدم جريان استصحاب عدم الكرية في الصورة الاولى والصورة الثالثة وجريانه في خصوص الصورة الثانية فلا يجري استصحاب عدم الكرية فيمّا لو كان تاريخ الأمرين مجهولا كما ولا يجري في صورة العلم بتاريخ ارتفاع عدم الكرية ويجري في صورة الجهل بتاريخ ارتفاع الكرية فيمّا لو كان تاريخ الملاقاة معلوما.

دليل القول الاّول

ولماذا قال أصحاب القول الاوّل بجريان استصحاب بقاء عدم الكرية في

__________________

ـ التحول الى الكرية. وعليه فاستصحاب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة يجري بلا معارض وإن كان في أمثلة اخرى قد يكون الاستصحاب في الطرف الآخر قابلا للجريان لترتب الأثر الشرعي عليه فتصحل المعارضة ويسقطان. هكذا قد يقال.

والجواب : ان استصحاب عدم تحقّق الملاقاة قبل التحول إلى الكرية قابل للجريان باعتبار انه به ينفى موضوع الحكم بالتنجس وبالتالي ينفى الحكم بالتنجس إذ موضوع الحكم بالتنجس هو الملاقاة حالة عدم الكريه وبالاستصحاب المذكور ينفى ذلك ، وهذا المقدار يكفي لتحقيق الفائدة والاثر للاستصحاب فان فائدته لا ينبغي حصرها في اثبات الحكم بل هي اعم من اثبات الحكم ونفيه


جميع الصور الثلاث والحال انّ المفروض في الصورة الثالثة العلم بتاريخ ارتفاع عدم الكرية؟ الوجه في ذلك قد أشرنا إليه فيمّا سبق وهو أنّ التحول إلى الكرية بلحاظ عمود الزمان وان كان لا يوجد فيه شكّ في بعض الصور إلاّ انّه بالقياس إلى الزمن النسبي ـ أي بالقياس إلى زمن الملاقاة ـ يوجد فيه شكّ فيجري الاستصحاب بهذا اللحاظ فانّ الأثر مترتب على بقاء عدم الكرية في زمن الملاقاة وليس مترتبا على بقائه بلحاظ عمود الزمان أي بلحاظ الساعة الخامسة بما هي خامسة أو الساعة الرابعة بما هي رابعة وهكذا.

مناقشة القول الأوّل

إنّ القول الأوّل ذكر انّ الاستصحاب يجري في جميع الصور الثلاث بما في ذلك الصورة الثالثة ، وهي صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرية. والصحيح أنّه لا يجري في الصورة المذكورة.

والوجه في ذلك : انّ عدم الكرية وإن كان يشكّ في بقائه زمن الملاقاة إلاّ أنّه لا يمكن جريان استصحابه لأنّ تاريخ ارتفاع عدم الكرية قد فرضنا انّه معلوم وليكن هو زوال الشمس ـ الظهر ـ مثلا ، وامّا تاريخ حصول الملاقاة فهو مجهول فلا يعلم انّه زوال الشمس أيضا أو هو قبل ذلك أو هو بعده. ومن باب الفرض نفترض مؤقتا انّ زمن الملاقاة واقعا وفى علم الله سبحانه هو الساعة العاشرة أي قبل زوال الشمس بساعتين.

وبعد اتضاح هاتين الفرضيتين ـ فرضية انّ زمان ارتفاع الكرية هو الزوال وفرضية انّ الله سبحانه كان يعلم انّ الملاقاة حصلت في الساعة العاشرة وان كنا


نحن لا نعلم بذلك ـ نقول : انّ دليل تنجس الماء بالملاقاة فيه احتمالان : ـ

١ ـ فامّا ان يكون دالا على ترتب التنجس على بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة ، فإذا كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الساعة العاشرة فالتنجس مترتب على بقاء عدم الكرية إلى الساعة العاشرة شريطة اتصاف الساعة العاشرة بأنّه زمن الملاقاة.

٢ ـ أو يكون دالا على ترتب التنجس على بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة بدون التقييد بكونه زمن الملاقاة ، فلو كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الساعة العاشرة فلا بدّ من بقاء عدم الكرية إلى واقع الساعة العاشرة بدون حاجة إلى إثبات اتصافها بأنّها زمن الملاقاة.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون استصحاب بقاء عدم الكرية إلى زمن الملاقاة من قبيل الأصل المثبت لأنّ أقصى ما يقوله استصحاب عدم الكرية إلى الساعة العاشرة انّ عدم الكرية باق إلى الساعة العاشرة ولا يقول اكثر من ذلك ، أي لا يقول انّه باق إلى الساعة العاشرة التي هي زمن الملاقاة ، إذ المفروض اننا استصحبنا بقاء عدم الكرية ولم نستصحب بقاء عدم الكرية الثابت في الساعة العاشرة بما أنّها زمن الملاقاة ، فالاستصحاب المذكور أصل مثبت إذ لم توجد آية أو رواية تقول انّ عدم الكرية إذا كان باقيا إلى الساعة العاشرة فهو باق إلى الساعة العاشرة بما انّها زمن الملاقاة وانّما ذاك ثابت بسبب حكم العقل فانّ العقل يقول إذا كان عدم الكرية باقيا إلى الساعة العاشرة فحيث انّ الساعة العاشرة متصفة بانّها زمن الملاقاة فهو ـ عدم الكرية ـ باق إلى الساعة العاشرة المتصفة بانها زمن الملاقاة. ونحن فيما سبق ذكرنا انّ الاستصحاب في اجزاء الموضوع انّما


يجري فيما لو فرض انّ الاثر كان مرتبا على ذوات الاجزاء لا على عنوان الاتصاف والتقيد والاّ فيكون الاستصحاب في ذات الجزء لإثبات عنوان التقيد والإتصاف من قبيل الأصل المثبت (١). هذا كله على الاحتمال الأوّل.

وامّا على الاحتمال الثاني فاستصحاب بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة وإن لم يكن أصلا مثبتا لأنّه لا يراد بالاستصحاب اثبات شيء زائد على بقاء عدم الكرية إلاّ انّ واقع زمن الملاقاة (٢) كما يحتمل واقعا ان يكون هو ما قبل الظهر كالساعة العاشرة مثلا أو ما بعد الظهر كذلك يحتمل أن يكون هو الظهر ، وبما انّ الظهر قد فرضنا سابقا انّه زمن ارتفاع عدم الكرية فاستصحاب بقاء عدم الكرية إليه يكون ابقاء للمتيقن السابق إلى زمان يعلم فيه بارتفاعه ـ المتيقن ـ لا إلى زمان يشكّ فيه في بقائه ، أي يكون ابقائه إليه من قبيل نقض اليقين باليقين لا من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، وواضح انّ شرط جريان الاستصحاب انّ يكون

__________________

(١) ان قلت : ان الاستصحاب في المقام ليس من قبيل الاصل المثبت لأنّ الساعة العاشرة إذا فرضنا إنّها واقعا وفي علم الله سبحانه متصفة بكونها زمن الملاقاة فنحن بالاستصحاب لا نريد أن نثبت انّ الساعة العاشرة متصفة بأنها زمن الملاقاة إذ ذاك ثابت واقعا وفي علم الله سبحانه بلا حاجة إلى استصحاب وانّما نريد بالاستصحاب إثبات بقاء عدم الكرية إلى هذا الزمان المتصف بأنّه في علم الله زمن الملاقاة.

قلت : ان هذا هو عين الأصل المثبت فإنّه ـ أي الأصل المثبت ـ يعني تحميل شيء على الاستصحاب من الخارج ، وهنا الأمر كذلك ، فانّ الحالة السابقة المتيقنة هي ثبوت ذات عدم الكرية وامّا ثبوت عدم الكرية في زمن موصوف بانّه زمن الملاقاة فهذا لم يكن متيقنا سابقا ليثبت بقائه في الخارج بالاستصحاب وانّما يراد تحميله عليه من الخارج

(٢) في هذا الموضع قدمنا ما اخر في الكتاب واخرّنا ما قدم


المورد من مصاديق نقض اليقين بالشكّ لا من مصاديق نقض اليقين باليقين.

ونحن لا نقصد من خلال هذا الكلام دعوى انّ المورد هو على سبيل الحتم والجزم من موارد نقض اليقين باليقين بل نريد أن ندعي احتمال ذلك ، أي نريد ان ندعي انّه على تقدير كون زمن الملاقاة واقعا هو الساعة العاشرة مثلا وان كان لا يلزم نقض اليقين باليقين بل بالشكّ ولكن على تقدير كونه هو الظهر يلزم ذلك ، وهذا الشكّ يكفي للمنع من التمسك بعموم الدليل ، فانّ شرط التمسك بعموم دليل في مورد هو إحراز تحقق موضوعه في ذاك المورد ، فدليل اكرم كل عالم لا يجوز التمسك به لاثبات وجوب اكرام رجل إلاّ مع إحراز انّه عالم ، أمّا مع الشكّ فلا يجوز التمسك به لإثبات وجوب اكرامه إذ ذلك تمسك بالعام في الشبهة المصداقية (١) وهو لا يجوز.

ان قلت : انّ استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة وان كان لا يجري من جهة احتمال انّ المورد من موارد نقض اليقين باليقين ولكن هذا المحذور انّما يلزم على تقدير استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة ولكن لم لا نستصحب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة ، فانّ زمن الملاقاة بهذا القيد لا يحتمل انطباقه على الظهر وإنّما يحتمل انطباقه عليه لو اخذناه مجردا من القيد المذكور.

قلت : انّ هذا خلف الفرض لأنّ المفروض انا نتكلم على تقدير ترتب الأثر على بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة لا على بقائه إلى زمن الملاقاة بما

__________________

(١) كما اشير إلى ذلك في التقرير ج ٦ ص ٢١٠. وأمّا ما ذكر في الملاحق فلم نعرف وجهه


هو زمن الملاقاة وإلاّ كان ذلك هو الإحتمال الأوّل ويرد عليه حينئذ محذور الأصل المثبت.

وجاهة القول الثاني

ومن خلال ما سبق اتضح ان ما يقوله أصحاب القول الثاني ـ وهو انّ استصحاب عدم الكرية لا يجري فيمّا إذا علم بزمان ارتفاع عدم الكرية ـ وجوبه. ولكنا لا نقبل قولهم على اطلاقه فإنّه كان يتضمن انّ استصحاب عدم الكرية يجري فيما إذا كان كلا التاريخين مجهولا ، وجريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ لا يمكن قبوله على اطلاقه فإنّه يوجد في صورة جهالة التاريخين شقان لا يجري في احدهما استصحاب عدم الكرية ويجري في ثانيهما.

أ ـ فالشق الذي لا يجري فيه استصحاب عدم الكرية هو ما إذا كان زمان الملاقاة مرددا بين زمانين وكان زمان ارتفاع عدم الكرية مرددا بين نفس ذنيك الزمانين ، كما لو فرض انّ الملاقاة كانت مرددة بين الساعة الاولى والساعة الثانية وكان زمان ارتفاع عدم الكرية مرددا بنفس هذا المقدار وبهذا الشكل أي كان مرددا بين الساعة الاولى والثانية ، في مثل هذه الحالة يمكن ان نشير إلى الساعة الثانية ونقول انّ هذه الساعة نجزم فيها بارتفاع عدم الكرية ، إذ ارتفاع عدم الكرية سواء كان في الساعة الاولى أو الثانية فلا إشكال في تحققه في الساعة الثانية.

وإذا كنا نجزم بارتفاع عدم الكرية في الساعة الثانية فلا يجري حينئذ استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمان الملاقاة إذ من المحتمل ان يكون واقع زمن الملاقاة هو الساعة الثانية ، والمفروض انّه في الساعة المذكورة نجزم بارتفاع عدم


الكرية ، ومعه فيكون ابقاء عدم الكرية الذي هو المتيقن ابقاء له إلى زمن يعلم فيه بانتقاضه لا إلى زمن يشكّ فيه بانتقاضه كما تقدم إيضاح ذلك فيما سبق.

ب ـ والشق الثاني الذي يجري فيه استصحاب عدم الكرية (١) هو ما إذا كان زمن تردد ارتفاع عدم الكرية أوسع من زمن تردد الملاقاة ، كما لو فرض انّ الملاقاة كانت مرددة بين الساعة الاولى والساعة الثانية ولكن ارتفاع عدم الكرية كان مرددا بين الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة ، ففي مثل هذه الحالة يجري استصحاب بقاء عدم الكرية إلى واقع زمن الملاقاة ، لانّ زمن الملاقاة ان كان في علم الله سبحانه هو الساعة الاولى فيجري استصحاب عدم الكرية إلى الساعة الاولى بلا مانع إذ في الساعة المذكورة لا نتيقن بارتفاع عدم الكرية ـ فإنّ الارتفاع واقعا وان كان حصوله في الساعة الاولى محتملا إلاّ انّه لا يقين به ، وهكذا يجري لو كان زمن الملاقاة واقعا هو الساعة الثانية ، اذ الساعة الثانية لا يقين بارتفاع عدم الكرية فيها وإنّما اليقين بارتفاع عدم الكرية ثابت في الساعة الثالثة ، إذ الساعة المذكورة يجزم فيها بارتفاع عدم الكرية على جميع التقادير ، والمفروض انا لا نريد استصحاب عدم الكرية إلى الساعة الثالثة وانّما نريد استصحابه إلى واقع زمن الملاقاة الذي هو مردد بين الساعة الاولى والساعة الثانية.

القول الثالث هو الصحيح

ومن خلال كل هذا اتضح انّ الاستصحاب يجري في الصورة الثانية فقط

__________________

(١) اشير إلى هذا الشق في الكتاب ص ٣١٣ س ٢ بقوله : مثلا نرى جريان إلخ


ولا يجري في الصورة الاولى في شقها الأوّل كما ولا يجري في الصورة الثالثة. وهذا معناه اختيار القول الثالث ولكن لا على اطلاقه إذ نختلف معه في الصورة الاولى فإنّه يقول بعدم جريان استصحاب عدم الكرية فيها بكلا شقيها بينما نحن نقول بجريانه في الشق الثاني منها فقط.

جريان الاستصحاب في الصورة الثانية

ان البيان المتقدم لعدم جريان استصحاب عدم الكرية ـ وهو امّا لزوم محذور الأصل المثبت أو عدم إحراز كون المورد من موارد نقض اليقين بالشكّ ـ تام كما اتضح في الصورة الثالثة وفي الشق الأوّل من الصورة الاولى ، ولا يتم في الصورة الثانية ، ففي الصورة المذكورة يجري استصحاب عدم الكرية لأنّ المفروض فيها انّ تاريخ الملاقاة معلوم وهو الساعة التاسعة مثلا بخلاف تاريخ ارتفاع الكرية فإنّه مردد بين الساعة الثامنة والساعة التاسعة والساعة العاشرة ، ومن الواضح ان استصحاب عدم الكرية إلى زمن الملاقاة الذي هو الساعة التاسعة ليس من باب نقض اليقين باليقين لأنّ الساعة التاسعة لا يتيقن فيها بارتفاع عدم الكرية وإنّما يتيقن بارتفاعه في الساعة العاشرة ، إذ في الساعة المذكورة يعلم بارتفاع عدم الكرية على جميع التقادير.

قوله ص ٣٠٨ س ١ : في فترة سابقة هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء : هذه العبارة تكرر ذكرها أكثر من مرة ، ولعل ابدالها بقوله : « في فترة حصول الملاقاة » أولى ، إذ هو اخصر وأوضح.

قوله ص ٣٠٨ س ٦ : في الجزء : وهو عدم الكرية في المثال.


قوله ص ٣٠٨ س ٨ : الاستشكال : تكرر التعبير بكلمة الاستشكال.

ولعل التعبير بالاشكال أولى.

قوله ص ٣٠٨ س ٩ : الزمان في نفسه : أي عمود الزمان. وإنّما عبر عنه بالزمان في نفسه لأجل انّه لم يلحظ بالقياس إلى زمن الملاقاة.

قوله ص ٣٠٨ س ٩ : أي زمان الجزء الآخر : وهو الملاقاة.

قوله ص ٣٠٩ س ٣ : الجزء المراد استصحابه : وهو عدم الكرية.

قوله ص ٣٠٩ س ٤ : تواجد الجزء الآخر : وهو الملاقاة.

قوله ص ٣٠٩ س ١٢ : صورة واحدة : وهي الصورة الثانية.

قوله ص ٣٠٩ س ١٦ : بما أشرنا إليه آنفا : أي ص ٣٠٨ س ٨ بقوله : وقد اتجه المحققون في دفع إلخ.

قوله ص ٣١٠ س ٢ : بما هي : أي بما هي قطعات الزمان في مقابل لحاظها بما هي زمن الملاقاة.

قوله ص ٣١٠ س ٢ : كما إذا كان زمان الارتفاع معلوما : فانّه إذا كان زمن ارتفاع عدم الكرية معلوما فلا يوجد شكّ بلحاظ قطعات الزمان بما هي قطعات الزمان.

قوله ص ٣١٠ س ٦ : ونلاحظ على هذا القول انّ زمان إلخ : أي نلاحظ عليه انّ استصحاب عدم الكرية لا يمكن ان يجري في الصورة الثالثة التي يعلم فيها بزمان ارتفاع عدم الكرية.

قوله ص ٣١٠ س ١٢ : في جميع الصور : فانا فيما سبق وان خصصنا عدم الجريان بخصوص الصورة الثالثة إلاّ انّه الآن نقول انّه على التقدير الأوّل لا يمكن


جريان استصحاب عدم الكرية في جميع الصور الثلاث لا في خصوص الثالثة.

قوله ص ٣١٠ س ١٤ : منذ البداية : أي ص ٣٠١ س ٩.

قوله ص ٣١١ س ٧ : بما هو كذلك : أي بالوقوع في زمن الملاقاة بما هو زمن الملاقاة.

قوله ص ٣١١ س ١٠ : هو الزوال : فيما سبق عبر بالظهر. والمناسب توحيد التعبير.

قوله ص ٣١١ س ١٨ : فيهما : أي في مجهولي التاريخ.

قوله ص ٣١٢ س ٩ : قد تعبدنا : بضم التاء والعين وكسر الباء وسكون الدال.

قوله ص ٣١٢ س ١٣ : معا : أي لا يجري في كلتيهما.

قوله ص ٣١٢ س ١٧ : جزما : قيد لقوله لا علم.

قوله ص ٣١٣ س ٥ : مرة : الصواب : مرددة.

قوله ص ٣١٣ س ٧ : لأنّه : أي واقع زمن الملاقاة.

قوله ص ٣١٣ س ١١ : ابدا : قيد لقوله فليس من المحتمل.



شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

ذكرنا فيما سبق انا نختار القول الثالث (١) الذي هو قول الآخوند بيد ان المستند الذي نعتمد عليه يغاير مستند الآخوند فنحن تمسكنا بانّ المورد لا يحرز كونه من موارد نقض اليقين بالشكّ بل لعله من موارد نقض اليقين باليقين ، بينما الآخوند علل عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة في صورة جهالة التاريخين بان المورد لا يحرز فيه اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين. وفي المقصود من هذا الكلام يوجد تفسيران : ـ

١ ـ انّه لو فرض اليقين بعدم كرية الماء قبل الظهر وفرض وجود ساعتين بعد الظهر يعلم في احدى الساعتين بارتفاع عدم الكرّيّة وتبدله إلى الكريه وفي الساعة الاخرى يعلم بحدوث الملاقاة من دون أن يميّز المتقّدم عن المتأخر ، ففي مثل هذه الحالة إذا اردنا استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمن الشكّ الذي هو زمن الملاقاة فإن كان زمن الملاقاة الذي هو زمن الشكّ هو الساعة الاولى فهذا لازمه اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين ويجري الاستصحاب على هذا التقدير دون أي محذور ، وأمّا إذا كان هو الساعة الثانية فلا يمكن جريان الاستصحاب إذ لازم

__________________

(١) ولكن لا على اطلاقه بل مع فارق وهو انا لا نقول بعدم جريان استصحاب عدم الكرية في صورة جهالة التاريخين بكلا شقيها بل في خصوص الشق الأوّل


وقوع الملاقاة في الساعة الثانية أن ارتفاع عدم الكرّيّة وتبدّله إلى الكريه قد حصل في الساعة الاولى ، وحيث ان ارتفاع عدم الكرّيّة أمر معلوم ومتيقّن فيلزم حصول فاصل بين زمان اليقين بعدم الكريه وزمان الشكّ في بقائه ، وذلك الفاصل هو اليقين بارتفاع عدم الكرّيّة في الساعة الاولى ، ومعه فلا يجري الاستصحاب لأنّ شرط جريان الاستصحاب احراز عدم تخلّل اليقين بانتقاض المتيقّن السابق ، أمّا مع احتمال تخلّل اليقين بالانتقاض بين زمان اليقين وزمان الشكّ فلا يجري.

ويرد على هذا البيان : ـ

أ ـ ان الملاقاة لو كانت حادثة في الساعة الثانية فالكرّيّة وان كان من المحتّم حدوثها في الساعة الاولى ولكن هذا لا يعني انها سوف تصير معلومة الحدوث في الساعة المذكورة ، بل هي معلومة على سبيل الاجمال أي يعلم بحدوثها في إحدى الساعتين لا في الساعة الاولى بالخصوص فان العلم الاجمالي يتعلق بالجامع ـ وهو حدوث الكرية في احدى الساعتين ـ لا بالواقع كما كان يقوله الشيخ العراقي (١) ، فالكرّيّة إذا كانت حادثة واقعا في الساعة الاولى فالعلم الاجمالي لا يتعلّق بحدوثها في الساعة الاولى وإنّما يكون متعلّقا بالجامع أي بالكرّيّة في إحدى الساعتين.

فما افاده الشيخ الآخوند يتم بناء على ما يقوله الشيخ العراقي ولا يتم على مقالة غيره القائلة بتعلّق العلم الاجمالي بالجامع. وعليه فلا احتمال أبدا لانفصال

__________________

(١) راجع القسم الثاني من الحلقة الثالثة ص ٧٩


الشكّ عن اليقين بالعلم بالانتقاض ، أي بالعلم بالكرّيّة.

ب ـ ان بيان الآخوند المذكور لو تمّ فلازمه عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتى في الصورة الثانية التي التزم فيها بجريان الاستصحاب فإنّه في الصورة المذكورة يفرض العلم بتاريخ حدوث الملاقاة وانه الساعة الثانية مثلا بينما تاريخ حدوث الكرّيّة مجهول فلعلّه الساعة الاولى أو الساعة الثانية أو الساعة الثالثة أو الساعة الرابعة أو ... وحيث ان من المحتمل واقعا حدوثها في الساعة الاولى فيلزم على بيان الآخوند ان تصير الساعة الاولى ساعة العلم بالكريه والانتقاض وبذلك يحصل فاصل بين الشكّ واليقين وهو الساعة الاولى التي يعلم فيها بالانتقاض.

٢ ـ والتفسير الثاني لمقصود الآخوند هو ان تنجّس الماء لم يثبت بحسب دليله الشرعي لمجرد ثبوت عدم الكرّيّة في الساعة الاولى ـ إذ لم يقل الدليل الشرعي ان الماء يتنجّس إذا لم يكن كرّا في الساعة الاولى ـ وإنّما هو ثابت للماء بشرط عدم كرّيّته في زمن الملاقاة ، فعدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة هو موضوع التنجّس. وما دام الموضوع للتنجّس هو ذلك فمتعلّق الشكّ في البقاء لا يكون هو ذات عدم الكرّيّة بل هو بقاء عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لأنّ العدم المقيّد هو الموضوع للأثر ، ولازم هذا أنّا لو فرضنا ان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الساعة الثانية فزمان الشكّ يصير هو الساعة الثانية ولا يكون هو الساعة الاولى إذ المفروض تقيّد الشكّ في بقاء عدم الكرّيّة بزمن الملاقاة فقبل زمن الملاقاة لا شكّ. وإذا لم يكن الشكّ ثابتا في الساعة الاولى يلزم وجود فاصل بين زمان اليقين ـ وهو ما قبل الظهر ـ وزمان الشكّ وهو الساعة الثانية ، وذلك الفاصل هو


الساعة الاولى.

وبكلمة اخرى ان الأثر اذا كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة فزمن الشكّ يصير مردّدا بين الساعة الاولى والساعة الثانية ، فلربّما هو الساعة الاولى فيما إذا كانت الملاقاة حادثة واقعا في الساعة الاولى ولربّما هو الساعة الثانية فيما إذا كانت الملاقاة حادثة واقعا في الساعة الثانية. وحيث اننا نحتمل حدوث الملاقاة في علم الله سبحانه في الساعة الثانية ، فيلزم على هذا التقدير ان تصير الساعة الاولى فاصلا بين زمان الشكّ وزمان اليقين.

أجل لو فرض ان الدليل رتّب الأثر على بقاء عدم الكرّيّة الى الساعة الاولى فالساعة الاولى تصير زمن الشكّ ولا يحصل حينذاك فاصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ ولكن المفروض ان الدليل لم يرتّب الأثر على ذلك بل رتّبه على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة.

الفارق بين التفسيرين

والفرق بين التفسيرين هو أنّه على الأوّل كان يقال من المحتمل وجود فاصل هو العلم بانتقاض الحالة السابقة ، أي العلم بحدوث الكرّيّة ، بينما على هذا التفسير يقال من المحتمل وجول فاصل هو نفس الساعة الاولى بما هي ساعة اولى (١).

__________________

(١) يمكن ان يورد على التفسير الثاني ما ذكره السيّد الخوئي من انه لا محذور في وجود فاصل بين الشك واليقين ما دام لم يكن هو العلم بالانتقاض


مناقشة التفسير الثاني

ويمكن مناقشة التفسير الثاني بمناقشتين : ـ

١ ـ ان هذا التفسير ذكر ان التنجّس مترتّب على عدم الكرية المقيّد بزمن الملاقاة كما وذكر ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل قبل زمن الملاقاة وكلا هذين المطلبين قابلان للتأمّل.

أمّا المطلب الأوّل فباعتبار ان الأثر ليس مترتّبا على تقيّد عدم الكرّيّة بزمن الملاقاة فإنّه مرّ ص ٢١٠ من الحلقة ان الاستصحاب في أجزاء الموضوعات المركّبة لا يجري إلاّ إذا كان الأثر منصبّا على ذوات الأجزاء لا على عنوان التقيّد وإلاّ لم يجر الاستصحاب في ذات الجزء لأنّ استصحاب ذات الجزء لإثبات عنوان التقيّد أصل مثبت.

هذا مضافا إلى ان الواقع هو ذلك ، فإنّ المستفاد من الأدلّة ترتّب الأثر على ذوات الاجزاء لا على عنوان التقيّد ، فإنّ قوله 7 « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » يستفاد منه بالمفهوم ان الماء ينجس عند عدم كرّيّته وفرض الملاقاة ولا يستفاد من اعتبار التقيّد.

وأمّا المطلب الثاني فلانّا لا نسلّم ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل إلاّ في زمن الملاقاة ، فلو كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الساعة الثانية فالشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة حاصل في الساعة الاولى أيضا وإلاّ لم يكن الشكّ ثابتا لا في الساعة الاولى ولا في الساعة الثانية. أمّا عدم ثبوته في الساعة الاولى فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو


الساعة الثانية ، وأمّا عدم ثبوته في الساعة الثانية فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو الساعة الاولى ، ومن الواضح ان انتفاء الشكّ في كلتا الساعتين خلاف الوجدان.

ومن خلال هذا كلّه تجلّى ان الأثر مترتّب على ذات عدم الكرّيّة لا على العدم المقيّد ، وما دام مترتّبا على ذات عدم الكرّيّة فبالامكان اثبات بقاء ذات عدم الكرّيّة بالاستصحاب ، فببركة الاستصحاب نسحب عدم الكرّيّة من زمان اليقين الذي هو ما قبل الظهر إلى الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة و ... ، ويثبت ان عدم الكرّيّة عدم واحد متصل من زمن اليقين إلى زمن الشكّ ، كما وان زمن الشكّ متصل بزمن اليقين فإنّا نشكّ في ذات عدم الكرّيّة منذ الساعة الاولى التي هي متصلة بزمن اليقين ، غاية الأمر ان التنجّس لا يترتّب على ذات عدم الكرّيّة وحده بل عند اجتماعه مع الملاقاة فإذا كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الذي الساعة الثانية فالأثر يكون مترتّبا في الساعة الثانية.

وعليه فلو كان هناك محذور فالمحذور هو تأخّر زمن ترتّب الأثر عن زمن اليقين ـ وإلاّ فلا محذور من غير هذه الناحية إذ زمن الشكّ متصل بزمن اليقين ، وعدم الكرّيّة المشكوك والمتيقّن عدم واحد متصل ـ وهذا لا محذور فيه ولذا تجد ان زيدا مثلا لو كان مجتهدا عادلا عند طلوع الفجر وفرض الشكّ في بقائه على الاجتهاد بعد طلوع الشمس فإنّه لا اشكال في جريان استصحاب بقائه على الاجتهاد حتى وان لم يكن الأثر مترتّبا في فترة من الشكّ ، كما لو فرض زوال العدالة بعد طلوع الشمس لمدّة ساعتين فإنّه بعد مضي الساعتين يجري الاستصحاب وان لم يجر من حين طلوع الشمس لفرض زوال العدالة وعدم


ترتّب الأثر (١) ، ففترة ترتّب الأثر وان كانت متأخرة عن زمان اليقين بالاجتهاد إلاّ ان ذلك لا يمنع من جريان الاستصحاب.

٢ ـ ان التفسير المذكور لو تمّ فلازمه عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتى في الصورة التي اختار فيها الآخوند جريان الاستصحاب ، وهي الصورة الثانية التي يكون فيها تاريخ الملاقاة معلوما وتاريخ ارتفاع عدم الكرّيّة مجهولا ، كما لو فرض ان الملاقاة تحقّقت في الساعة الثانية ولم يعلم ان عدم الكرّيّة ارتفع في الساعة الاولى أو الثانية الثالثة أو الرابعة ... فإنّه في هذه الصورة ذكر الآخوند ان عدم الكرّيّة الثابت قبل الظهر يجري استصحابه إلى الساعة الثانية التي هي ساعة الملاقاة والحال ان الأثر لو كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة فلازمه عدم تحقّق الشكّ في الساعة الاولى لأنها ليست ساعة الملاقاة بل يحدث الشكّ في الساعة الثانية ، وبذلك تصير الساعة الاولى فاصلا بين زمان اليقين ـ وهو ما قبل الظهر ـ وزمان الشكّ وهو الساعة الثانية.

تفسيران آخران

نقل السيد الشهيد تفسيرين لكلام الآخوند المتقدم ويمكن اضافة تفسيرين آخرين ـ وبهذا تصير مجموع التفاسير أربعة ـ هما : ـ

١ ـ ان يكون المقصود نفس ما استند إليه السيد الشهيد ، فإنّه استند في

__________________

(١) إذ مع زوال العدالة لا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد لأنّ شرط جواز التقليد توفر الاجتهاد والعدالة فإذا اختلّت العدالة فلا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد وحده


توجيه عدم جريان استصحاب عدم الكرية في الصورة الثالثة وشق من الصورة الاولى إلى احتمال كون المورد من موارد نقض اليقين باليقين وليس من موارد نقض اليقين بالشكّ ، ولعل مقصود الآخوند هو هذا أيضا كما اشير إلى ذلك في التقرير ج ٦ ص ٣١٢ (١).

٢ ـ ما تقدمت الاشارة له في ص ٢٥٠ س ١٣ من الحلقة حيث قال 1 : « وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين » والمقصود من كلمة « هذا » هو احتمال كون زمان المشكوك وزمان المتيقن واحدا.

قوله ص ٣١٣ س ١٣ : وان كان قريبا جدا إلخ : وإنّما كان قريبا وليس نفسه باعتبار ان الآخوند يقول بعدم جريان الاستصحاب في الصورة الثالثة وفي الصورة الاولى بكلا شقيها بينما السيد الشهيد يقول بعدم جريانه في الصورة الثالثة وفي خصوص الشق الأوّل من الصورة الاولى.

قوله ص ٣١٤ س ٣ : قليلا : أي ليس بكرّ.

قوله ص ٣١٤ س ١٤ : فيه : أي في عدم الكرية.

قوله ص ٣١٥ س ٥ : اطلاقا : أي ابدا.

قوله ص ٣١٥ س ١٧ : عبادته : الصواب : عبارته.

قوله ص ٣١٦ س ٢ : التفسيرات : الصواب : التفسير.

قوله ص ٣١٦ س ٦ : وبصورة مستقلة عن الملاقاة : عطف تفسير لقطعات الزمان.

__________________

(١) حيث انّه في التقرير ذكر ثلاثة تفاسير لكلام الآخوند هذا احدهما والآخران هما التفسيران المتقدمان


قوله ص ٣١٦ س ١٦ : رمان : الصواب : زمان.

قوله ص ٣١٧ س ٧ : فقد يتبادر : التعبير بـ « قد » إشارة إلى عدم التسليم بعدم ثبوت الشكّ قبل زمان الملاقاة لما أوضحناه سابقا.

قوله ص ٣١٨ س ٤ : فانّ المناط اتصال إلخ : إذ مع عدم الاتصال لا يكون المشكوك والمتيقن واحدا بل يكونان متعددين فالمشكوك يصير غير المتيقن والمتيقن غير المشكوك ، ومعه فلا يجري الاستصحاب لأنّ شرط جريانه وحدة المتيقن والمشكوك.

قوله ص ٣١٨ س ٨ : عند الطلوع : لعل الاولى التعبير : بعد طلوع الشمس.

قوله ص ٣١٨ س ١٠ : إلى ساعتين إلخ : لعل الاولى التعبير : بعد ساعتين من طلوع الشمس.

قوله ص ٣١٩ س ٨ : وذلك اكتفاء إلخ : بالنسبة إلى البحث عن الأصل السببي والمسببي لم يكتف 1 بما تقدم في الحلقة الثانية بل عاد إليه هنا لتكميله وتعميقه ص ٣٦٣.



تعارض الأدلّة الشرعية



البحث عن الخاتمة :

الابحاث التي يتعرض لها 1 في الخاتمة المتكفلة لمبحث تعارض الأدلة الشرعية أربعة هي : ـ

١ ـ التمهيد. وفيه يتعرض إلى تحديد المقصود من التعارض المصطلح.

٢ ـ قاعدة الجمع العرفي. وفيه يتعرض إلى خمس جهات للبحث.

٣ ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الأولية ، بمعنى انّه لو خلينا نحن ودليل حجّية الخبر وقطعنا النظر عن الاخبار العلاجية فهل مقتضاه تساقط الخبرين المتعارضين أو التخيير بينهما.

٤ ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الثانوية ، بمعنى انّ الاخبار العلاجية هل يستفاد منها التخيير بين الخبرين أو لزوم الأخذ بما يشتمل على المرجح.

ما هو التعارض المصطلح :

قوله ص ٣٢٥ س ١ : التعارض المصطلح هو التنافي إلخ : يمكن منهجه الابحاث المذكورة هنا ضمن النقاط التالية : ـ

١ ـ ما هو المقصود من التعارض المصطلح؟

ولتوضيح ذلك نذكر المقدمة التالية : ان التنافي بين الحكمين له ثلاثة اشكال : ـ


أ ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الانشاء والتشريع المعبر عنها بمرحلة الجعل ، كما لو ورد دليلان احدهما يقول صل وثانيهما يقول لا تصل ، فان الحكمين المذكور بين لا يمكن للمولى تشريعهما فإذا شرّع صل فلا يمكنه تشريع لا تصل ، والعكس بالعكس.

ب ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الفعلية المعبر عنها بمرحلة المجعول.

ومثال ذلك : دليل توضأ ان كنت واجدا للماء ودليل تيمم ان كنت فاقدا للماء ، فانّ الدليلين المذكورين لا منافاة بينهما في مرحلة التشريع إذ يمكن تشريعهما معا بيد أنّه لا يمكن صيرورتهما فعليين معا ، فان وجوب الوضوء لا يصير فعليا إلاّ عند وجدان الماء الذي لازمه عدم فعلية الحكم بوجوب التيمم لانتفاء موضوعه.

إذن التنافي بينهما هو في مرحلة الفعلية فلا يمكن صيرورتهما في وقت واحد فعليين وليس في مرحلة تشريعهما. ويدخل الدليلان في الحالة المذكورة تحت باب الورود.

ج ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الامتثال دون مرحلة التشريع والفعلية.

ومثال ذلك : ما إذا كان شخصان قد أوشكا على الغرق فإذا لم يمكن إلاّ انقاذ احدهما كان انقاذ كل واحد منهما ضدا لأنقاذ الآخر حيث لا يمكن تحققهما ويكون وجوب انقاذ كل واحد منهما مقيدا بعدم إنقاذ الآخر.

في هذا المثال لا نلمس تنافيا بين تشريع الحكمين فتشريع وجوب انقاد كل غريق أمر معقول ، كما ولا تنافي في مرحلة الفعلية فانّه لو لم يمتثل المكلّف الحكمين ولم ينقذ لا هذا ولا ذاك كان كلا الحكمين فعليا في حقه لتحقق شرطه


ويكون عاصيا لهما بعد صيرورتهما فعليين ، ومن هنا نشعر بالوجدان استحقاقه لعقابين.

وعليه فان كان هناك تناف فهو في مرحلة الامتثال بمعنى انّه لا يمكن امتثال كلا الحكمين معا فمع امتثال الحكم الأوّل لا يمكن امتثال الحكم الثاني ، والعكس بالعكس. ويدخل الدليلان في هذه الحالة تحت باب التزاحم.

وإلى هنا تنتهي المقدمة التي أردنا عرضها.

وبعد اتضاح ذلك نقول : انّ التعارض بالمعنى المصطلح هو التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل والإنشاء.

وإن شئت قلت : انّ كل دليل حيث انّه يدل على الجعل والتشريع فمن الوجيه ان نقول ان التعارض هو التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما ، فانّ مدلول كل دليل حيث انّه الجعل فيصح ان نعبر عن التعارض تارة بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ الجعلين واخرى بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما.

وإذا أردنا ان نذكر مثالا للتعارض فهو مثل صل ولا تصل ، لأنّ التنافي بينهما في مرحلة الجعل ، امّا مثل وجوب الوضوء ووجوب التيمم أو وجوب انقاد هذا الغريق ووجوب انقاذ ذاك الغريق فليس من التعارض المصطلح في شيء لعدم التنافي بينهما في مرحلة الجعل.

لا تعارض بين الاصلين

٢ ـ من خلال ما تقدم يتضح ان التعارض لا يتحقق إلاّ بين الدليلين المحرزين ، أي بين الخبرين مثلا ، إذ كل خبر يدل على الجعل فإذا كان بين الجعلين


تناف تحقق التعارض بين الخبرين. وأمّا الاصول العملية فلا يتحقق بينها تعارض. فمثلا لو شككنا في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فأصل البراءة يقتضي عدم الوجوب بينما الاستصحاب يقتضي بقاء الوجوب الثابت عصر الحضور إلاّ انّه لا تعارض بينهما لأن التعارض يثبت بين الدليلين باعتبار التنافي في الجعل الذي يكشفان عنه ، ومن الواضح انّ الاستصحاب ليس له كاشفية عن الجعل بل هو بنفسه جعل فانّ معنى الاستصحاب وجوب إبقاء الحالة السابقة ، ومن المعلوم انّ وجوب إبقاء الحالة السابقة هو بنفسه حكم شرعي نظير وجوب الصلاة ، فكما انّ قولنا تجب الصلاة حكم وجعل شرعي وليس دليلا يدل على الجعل الشرعي كذلك قولنا يجب الأخذ بالحالة السابقة هو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي. ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى أصل البراءة ، فانّ معناه عدم وجوب المشكوك ، وهو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي نظير قولنا يجوز شرب الماء.

أجل ان كان هناك تعارض فهو بين الدليل الدال على الاستصحاب والدليل الدال على أصل البراءة فقول المعصوم 7 « لا تنقض اليقين بالشكّ » وقوله « رفع عن امتي ما لا يعلمون » يتحقق بينهما التعارض ، إذ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الذي يكشف عنه الآخر فحديث لا تنقض يكشف عن جعل الاستصحاب الذي يتنافى مع جعل أصل البراءة الكاشف عنه حديث رفع عن امتي ما لا يعلمون.

ان قلت : إذا لم يكن تعارض بين الاستصحاب وأصل البراءة فكيف يعبر أحيانا بانّ الاستصحاب معارض لاصل البراءة كما في المثال المتقدم لصلاة الجمعة.


قلت : انّ التعارض المذكور لا يقصد به التعارض المصطلح بل يقصد به التعارض اللغوي وهو التنافي بين الشيئين فانّ الاستصحاب يقتضي نتيجة تتنافى والنتيجة التي يقتضيها أصل البراءة فذاك يقتضي تنجز وجوب الجمعة بينما هذا يقتضي المعذرية من وجوب الجمعة.

لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز

وكما انّه لا تعارض بين الأصلين كذلك لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز لنفس النكتة المتقدمة ، فانّ الأصل لا يكشف عن الجعل كيما يحصل التنافي بينه وبين الجعل الكاشف عنه الدليل المحرز. ولئن كان هناك تعارض فهو بين دليل الأصل ودليل حجّية ذلك الدليل المحرز.

لا تعارض بين القطعيين

٣ ـ انّ التعارض لا يتحقق بين الدليلين القطعيين ولا بين الدليل القطعي والدليل الظنّي وإنّما يتحقق بين الدليلين الظنّيين.

أمّا انّه لا يتحقق بين الدليلين القطعيين (١) ـ كما لو كانت آيتان كل منهما نص صريح في مضمون يتنافى ومضمون الاخرى ـ فلأن لازمه القطع بتحقق المتنافيين.

وأمّا انّه لا يتحقق بين الدليل القطعي والظنّي فلأنّه مع وجود آية قطعية

__________________

(١) المقصود من الدليل القطعي ما كان قطعيا من حيث السند والدلالة ، أمّا ما كان قطعيا من حيث السند دون الدلالة أو بالعكس فهو ليس دليلا قطعيا.


الدلالة على معنى معين فالآية الاخرى لا يبقى لها ظهور كاشف عن المعنى ولا يكون حجّة فيه ، وكيف يكون حجّة فيه ونحن نعلم ببطلانه وعدم ثبوته!!! ولو كان باقيا على افادته للظن يلزم اجتماع القطع والظن بالمتنافيين ، وهو غير ممكن كما لا يمكن القطع بتحقق النهار والظن بتحقق الليل.

وامّا تحققه بين الدليلين الظنيين فذاك واضح (١).

اقسام ثلاثة للدليل الظني

٤ ـ ان الدليلين الظنيين اللذين يمكن تحقق التعارض بينهما لهما اشكال ثلاثة : ـ

أ ـ ان يكونا لفظيين كآيتين أو روايتين.

ب ـ ان يكونا غير لفظيين كتقريرين من قبل المعصوم 7.

ج ـ ان يكون احدهما لفظيا وثانيهما غير لفظي.

أمّا إذا كانا لفظيين فالتعارض بينهما له نحوان : ـ

١ ـ ان يكون تعارضا غير مستقر.

٢ ـ ان يكون تعارضا مستقرا.

__________________

(١) وقد يقال انّه ليس ممكنا أيضا لأنّ الظن بالمتنافيين مستحيل أيضا.

والجواب : انّه ليس المقصود من كون الدليل ظنيّا كونه مفيدا للظن الشخصي حتى يقال انّه لا يمكن تحقق الظن الشخصي بالمتنافيين وإنّما المراد كونه مفيدا للظن النوعي فخبر الثقة مفيد للظن النوعي ، أي ان غالب أفراد الخبر تفيد الظن والكاشفية ، ومن الواضح انّ الظن النوعي بالمتنافيين أمر معقول.


والمقصود من التعارض غير المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لجمع بينهما ولم ير بينهما تعارضا ، كما هو الحال في العام والخاص فانّ العرف يرى الخاص قرينة مفسرة للمراد من العام ، ولئن كان بينهما تعارض فهو غير مستقر بنظر العرف. وأحيانا يتصرف العرف في كلا الدليلين كما لو قيل صل صلاة الليل ولا تصل صلاة الليل ، فانّه قد يقال بتصرفه في كليهما فيحمل الأوّل على الاستحباب بقرينه الثاني والثاني يحمله على نفي الوجوب بقرينه الأوّل.

والمقصود من التعارض المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لم يجمع بينهما ، نظير دليل صل ولا تصل فان العرف لا يجمع بينهما بحمل الأوّل على حالة عدم الاغماء والثاني على حالة الاغماء مثلا.

وفي موارد التعارض المستقر لا يمكن لدليل حجّية السند شمول كلا المتعارضين كما ولا يمكن لدليل حجّية الظهور شمولهما معا ، لأن لازم الشمول لهما معا ثبوت كل واحد منهما وانتفاؤه في وقت واحد ، إذ كل واحد منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر فلو شملهما دليل الحجّية معا لزم ثبوت مفادهما معا وعدم ثبوته في وقت واحد.

وعدم إمكان شمول دليل حجّية السند والظهور لهما هو ما يعبر عنه بان التعارض يسري إلى دليل الحجّية ، فانّ المقصود من سراية التعارض له هو انّه ـ دليل الحجية ـ لا يمكن ان يشملهما معا لوقوع التنافي في مدلوله وان جعل كل واحد منهما ثابت وغير ثابت.

وهن قاعدة الجمع اولى من الطرح

ثم انّ الميزان في باب التعارض غير المستقر إمكان الجمع بين الدليلين في


نظر العرف ، أمّا إذا كان الجمع ممّا لا يستسيغه العرف ـ كحمل حديث ثمن العذرة سحت على العذرة النجسة وحمل حديث لا بأس بثمن العذرة على العذرة الطاهرة ـ فهو ما يسمى بالجمع التبرعي (١) وهو ممّا لا عبره به إذ لم يقم دليل على انّ الجمع ولو لم يكن عرفيا اولى من الطرح.

ظهور الحال

ذكرنا انّ ظهور احد الكلامين إذا كان قرينة على تفسير الظهور الآخر في نظر العرف جمع بينهما بما يراه العرف.

ونفس هذا الذي ذكرناه في ظهور الكلام يأتي في ظهور الحال فإذا أراد الامام 7 تعليم زرارة الوضوء وبيّن كيفية الوضوء بدون اشارة إلى المضمضة كان ظهور حاله في بيان أجزاء الوضوء وكيفيته دالا على عدم جزئية المضمضة وإلاّ لأتى بها ، فإذا فرضنا في قضية اخرى ان الامام 7 توضأ وأتى بالمضمضة فالعرف يجمع بين ظهور الحال في القضية الاولى وبين ما يقتضيه ظهور الحال في القضية الثانية بحمل المضمضة على انّها جزء مستحب لم يات به الامام في القضية الاولى وأتى به في القضية الثانية.

الدليلان غير اللفظيين

هذا كله في الدليلين اللفظيين ، وأمّا الدليلان غير اللفظيين فالتعارض بينهما

__________________

(١) سمي بذلك لعدم وجود مبرر للجمع سوى التبرع.


مستقر دائما ، فانّ تقرير المعصوم 7 ليس له لسان يمكن ان يفسر التقرير الآخر بخلافه في ظهور الكلام وظهور الحال فإنهما صالحان لذلك عرفا.

وما دام التعارض بين التقريرين مستقرا فالتعارض يسري إلى دليل حجّيتهما فإذا كان دليل حجّية التقريرين دليلا لفظيا لوحظ نوع التعارض فيه هل هو مستقر أو لا ، وإذا لم يكن دليلا لفظيا ـ كما إذا كان سيرة العقلاء ـ فالتعارض مستقر حتما.

قوله ص ٣٢٥ س ٥ : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص ٤٤٩.

قوله ص ٣٢٥ س ٧ : وجعل : عطف تفسير لمدلول.

قوله ص ٣٢٦ س ٣ : كذلك : أي متعارضان بحسب النتيجة.

قوله ص ٣٢٧ س ١ : من هذه الناحية : أي ناحية كونهما لفظيين أو غير لفظيين.

قوله ص ٣٢٨ س ٦ : ومثل الكلام في ذلك إلخ : أي مثل ظهور الكلام في صلاحيته لتفسير الكلام الآخر ظهور الحال.

قوله ص ٣٢٨ س ١٠ : وما يشبههما : كظهور الحال.



الورود والتعارض

قوله ص ٣٢٩ س ١ : وعلى ضوء ما تقدم نعرف إلخ : تقدم في الحلقة السابقة ص ٤٥٢ المقصود من الورود وانّه عبارة عن كون احد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر رفعا حقيقيا أو مثبتا لموضوع الدليل الآخر اثباتا حقيقيا.

مثال الرفع : دليل صحة اجارة الشيء المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد ، فانّه على ضوء هذين الدليلين لا يجوز استئجار الجنب لدخول المسجد إذ الدليل الثاني إذا اثبت حرمة إدخال الجنب في المسجد انتفى موضوع الدليل الأوّل ـ وهو كون الشيء مباحا ـ وبانتفائه ينتفي حكمه بصحة الإجارة ، فالدليل الثاني إذن وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه رافع لموضوعه.

ومثال الإثبات : دليل جواز الإفتاء استنادا إلى الحجّة ودليل حجّية خبر الثقة ، فإنّه بمقتضى الدليل الثاني يثبت مصداق جديد للحجّة ويجوز الاستناد إليه في مقام الإفتاء ، فالدليل الثاني وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه محقق لفرد من موضوع الدليل الأوّل الذي هو الحجة.

وباتضاح معنى الورود بقسميه نطرح السؤال التالي : هل باب الورود داخل تحت باب التعارض أو لا؟ الصحيح خروجه عنه.

أمّا خروج الورود بالاثبات عن باب التعارض فواضح لانّ دليل حجّية خبر الثقة بعد اثباته الحجّية لخبر الثقة فدليل جواز الافتاء سيقول للمكلف انّي


اسمح لك بالاستناد إلى خبر الثقة والإفتاء على طبقه ولا يقول لا يحق لك ذلك ليتحقق التعارض بينهما.

وأمّا خروج الورود بالنفي عن باب التعارض فلأنّ دليل صحّة اجارة المباح وان كان يقول لا تصح الاجارة على إدخال الجنب ويرفض صحة استئجاره ، وبذلك تحصل المعارضة بين حرمة إدخال الجنب وصحّة اجارته إلاّ انّ هذه المعارضة ليست في مقام الجعل والتشريع فانّ تشريعهما معا شيء معقول فيصح من المولى ان يقول تصح الاجارة على المباح ويحرم إدخال الجنب في المسجد للكنس وإنّما التنافي بينهما من حيث المجعول ، بمعنى انّه لا يمكن ثبوت الحرمة الفعلية لادخال الجنب وفي نفس الوقت تصح اجارته لكنس المسجد بل متى ما تحققت الحرمة الفعلية لإدخال الجنب لم تكن اجارته صحيحة بالفعل.

ومع عدم التنافي بينهما في مقام التشريع فلا تعارض بينهما بالمعنى المصطلح لانّ التعارض بالمعنى المصطلح على ما تقدم يعني التنافي في مقام الجعل والتشريع.

ثم انّه ذكر في تحديد الورود كون الإثبات بسبب الدليل الوارد إثباتا حقيقيا وكون النفي نفيا حقيقيا. وهذا القيد ـ أي كون الإثبات أو النفي حقيقيا ـ ما ذا يراد به؟

انّ القيد المذكور يراد به الاحتراز عن الحكومة فانّ الدليل الحاكم يثبت فردا أو ينفي فردا بيد انّ الإثبات والنفي حاصل بالتعبد والاعتبار لا حقيقة ، فمثلا حينما يقول أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني الفاسق ليس بعالم وان درس ما درس نجد انّ الدليل الثاني حاكم يرفع عنوان العالم عن العالم الفاسق إلاّ انّ هذا الرفع ليس رفعا حقيقيا إذ العالم الفاسق عالم حقيقة. وهكذا حينما يقول


أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني المتقي عالم نجد انّ الدليل الثاني حاكم يثبت عنوان العالم للمتقي إلاّ انّ ذلك بالاعتبار والتعبد وإلاّ فالمتقي بمجرد تقواه لا يصير عالما حقيقة. هذا في الحكومة.

وامّا في الورود فالرفع والإثبات حقيقي فإنّ دليل حجّية خبر الثقة يحقق عنوان الحجّة لخبر الثقة حقيقة ، ودليل حرمة إدخال الجنب ينفي عنوان المباح ـ الذي هو موضوع دليل صحّة الاجارة ـ حقيقة وليس بالاعتبار والتعبد.

تقسيم الورود

يمكن تقسيم الورود باعتبار من الاعتبارات إلى أقسام ثلاثة هي : ـ

١ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بفعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم فعلية الدليل الوارد.

٢ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بوصوله لا بمجرد فعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم العلم بالدليل الوارد.

٣ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بامتثاله لا بفعليته ووصوله ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم امتثال الدليل الوارد.

مثال الأوّل : دليل صحّة الاجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد فانّ حرمة إدخال الجنب متى ما كانت فعلية تحقق بذلك عدم صحّة الاجارة حتى وان لم تصل الحرمة الفعلية (١).

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى انّ فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فمتى ما صدق عنوان إدخال الجنب ـ


ومثال الثاني : دليل القرعة لكل أمر مشكل ودليل اصالة الحلية ، فلو كان لدينا مائع مردد بين الخل والخمر فهو مشكل قبل الالتفات إلى اصالة الحلية امّا بعد الالتفات إلى اصالة الحلية وان كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام فلا يبقى عنوان المشكل صادقا ، وكيف يبقى صادقا والشارع يقول انّه حلال!!

إذن ببركة اصالة الحلية يرتفع عنوان المشكل ولكن لا يرتفع بمجرد تشريع اصالة الحلية وفعليته بل لا بدّ وان يصل إلى المكلّف ويعلم بثبوت الحلية في حقه فإنّه حينذاك يرتفع عنوان المشكل.

ومثال الثالث : الصلاة المزاحمة بإزالة النجاسة عن المسجد فانّ دليل وجوب الصلاة التي هي الواجب المهم مقيد بعدم الاشتغال بامتثال الإزالة التي هي الأهم فدليل وجوب الإزالة وارد على دليل وجوب الصلاة بمعنى انّه بامتثاله يرفع موضوع وجوب الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٣١٧.

تقسيم ثاني للورود

وهناك تقسيم ثاني للورود ـ باعتبار آخر ـ وهو انّ الورود تارة يكون من جانب احد الدليلين دون الآخر واخرى يكون من كلا الجانبين.

أمّا الورود من جانب واحد فمثاله ما تقدم ، فانّ دليل وجوب الإزالة مثلا هو الوارد على دليل وجوب الصلاة بلا عكس.

__________________

ـ تحققت الحرمة الفعلية حتى وان لم يعلم بها المكلّف ولم تصثل له فانّ الوصول ليس شرطا لفعلية الحكم وانّما هو شرط للتنجز واستحقاق العقوبة.


وأمّا الورود من الجانبين فله اشكال ثلاثة : ـ

١ ـ ان يكون الورود من الجانبين ـ بمعنى انّ كلا منهما مقيد بعدم الآخر ـ ويكون كل واحد منهما رافعا لموضوع الآخر بالفعل.

٢ ـ ان يكون الورود من الجانبين ويكون معقولا وممكنا إلاّ انّ احدهما يرفع موضوع الآخر بلا عكس.

٣ ـ ان يكون الورود من الجانبين ولا يكون معقولا.

مثال الأوّل : ان يكون كل واحد من الحكمين مقيدا بعدم ثبوت الآخر لو لا المعارضة ، كما لو فرض انّ شخصا استطاع للحج وكان قد نذر زيارة الامام الحسين 7 يوم عرفة وفرض انّ وجوب الحج مقيد بعدم ثبوت وجوب الوفاء بالنذر لو لا المعارض وفرض أيضا انّ وجوب الوفاء مقيد بعدم ثبوت وجوب الحج لو لا المعارض ، فانّ الورود حينئذ يصير من الجانبين ويرتفع بسببه كلا الحكمين ، فإنّ الحج حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بالنذر فيكون وجوب الوفاء بالنذر منتفيا ، وهكذا وجوب الوفاء بالنذر حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بوجوب الحج فيكون وجوب الحج منتفيا.

ومثال الثاني : ان يفرض ان دليل وجوب الحج مقيّد بعدم امتثال النذر بينما وجوب الوفاء بالنذر لم يقيد بعدم امتثال وجوب الحج بل بعدم ثبوت وجوب الحج. في مثل هذه الحالة يكون كل واحد من الحكمين واردا على الآخر حيث ان كل واحد منهما مقيّد بعدم الآخر ـ غاية الأمر أحدهما مقيّد بعدم وجوب الثاني بينما الثاني مقيّد بعدم امتثال الأول (١) ـ إلاّ انه لا يكون كل واحد منهما رافعا للآخر

__________________

(١) وقد تقدّم في التقسيم السابق ان الورود يتحقّق تارة بالتقييد بعدم امتثال الحكم الآخر ـ


بل يكون وجوب الحج هو الرافع لوجوب الوفاء بالنذر بلا عكس ، فإنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر إذا كان ثابتا وغير مرتفع فأمّا ان يكون ثابتا في حالة عدم امتثال النذر ، أو يكون ثابتا في حالة امتثاله ، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّه في حالة عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج ثابتا بالفعل (١) ، ومع ثبوته بالفعل ينتفي وجوب الوفاء بالنذر لأنّه مقيّد بعدم ثبوت حكم على خلافه ، ووجوب الحج حكم ثابت مخالف لوجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا الثاني فلأنّ ثبوت وجوب الوفاء بالنذر في خصوص حالة امتثاله معناه ان الحكم لا يثبت إلاّ على تقدير امتثاله وهو باطل لأنّ الامتثال فرع الحكم فلا يمكن ان يكون ثبوت الحكم فرع الامتثال وإلاّ يلزم الدور.

ومثال الثالث : ما إذا كان دليل وجوب الحج مقيّدا بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للوفاء ، وهكذا وجوب الوفاء مقيّد بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للحج. والورود هنا ثابت من الجانبين لأنّ كلاّ منهما مقيّد بعدم الوجوب الفعلي للآخر ولكنه مستحيل إذ كل واحد منهما ـ لو لا حظناه أولا ـ صالح لرفع الآخر ، أي صالح لأن يكون مانعا من وجود الآخر ورافعا له ، وإذا كان كلّ منهما مانعا من الآخر فيكون وجود كل واحد منهما موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف وجود الشيء على عدم مانعه ، ومن الواضح ان ذلك مستحيل للزوم الدور لأنّ الأول إذا كان موقوفا على عدم الثاني من باب توقّف الشيء على عدم مانعه ،

__________________

ـ ويتحقّق اخرى بالتقييد بعدم وجود الحكم الآخر.

(١) لأنّ وجوب الحج مقيّد حسب الفرض بعدم امتثال النذر ، فعند عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج فعليّا.


وعدم الثاني حيث انه موقوف على وجود الأول ـ إذ مع عدم الوجود الفعلي لكلّ واحد منهما يكون الآخر موجودا بالفعل ـ فيلزم توقّف وجود الأول على وجود الأول ، وهو ما ذكرناه من الدور.

وعليه فيلزم التعارض بين الحكمين ويلزم تطبيق احكام التعارض ـ التي هي تقديم الأقوى سندا أو دلالة ـ لعلمنا بكذب أحد التوقفين ، إذ ثبوت كلا التوقفين مستحيل للزوم الدور فيكون أحد التوقفين كاذبا.

إن قلت : ما هو الفرق بين هذا الشكل والشكل الأول.

قلت : انه في الشكل الأول كان كل واحد منهما موقوفا على عدم ثبوت الآخر لو لا المعارض ، فالحج لو لا المعارضة بالنذر إذا كان وجوبه ثابتا فلا وجوب للوفاء بالنذر ، وهكذا النذر لو لا المعارضة بالحج إذا كان وجوب الوفاء به ثابتا لم يكن وجوب للحج. ومثل هذا الورود من الجانبين معقول ويرتفع كلا الحكمين ولا يكون هذا ولا ذاك ثابتا ، لأنّ كل واحد منهما حيث انه ثابت في نفسه لو لا المعارضة بالآخر فيكون الموضوع لارتفاع كل واحد منهما محقّقا فيرتفعان معا.

وهذا بخلافه في هذا الشكل فإنّ الموضوع لارتفاع كل واحد منهما ليس هو ثبوته في نفسه ولو لا المعارض بل هو ثبوته بالفعل ، فإذا كان الأول ثابتا بالفعل ـ أي كان ثابتا حتى بعد المعارضة لا بقطع النظر عنها ـ فالثاني مرتفع ، وإذا كان الثاني ثابتا بالفعل فالأول مرتفع ، وحيث ان كل واحد منهما لا يمكن ان يكون ثابتا بالفعل فتحصل المعارضة للعلم بعدم امكان ثبوت كلا التوقفين.

قوله ص ٣٢٩ س ١ : بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة السابقة : أي ص ٤٥٢.


قوله ص ٣٢٩ س ١٣ : ثم ان ورود إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الأول.

قوله ص ٣٣٠ س ٨ : بعدم كونها كذلك : أي بعدم كونها اجارة على الحرام.

قوله ص ٣٣٠ س ١٤ : وقد يتّفق التوارد من الجانبين إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الثاني.

قوله ص ٣٣٠ س ١٥ : ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين : بمعنى ان كل واحد منهما يكون رافعا للآخر بالفعل.

قوله ص ٣٣١ س ٥ : ولو لا الآخر : عطف تفسير لقوله « في نفسه ».

قوله ص ٣٣١ س ٦ : وهذا معنى إلخ : أي عدم تحقّق الموضوع لكل واحد منهما بالفعل.

قوله ص ٣٣١ س ٨ : ان يكون الحكم في أحد الدليلين إلخ : وهو الحكم بوجوب الوفاء بالنذر. والمقصود من الحكم الثاني هو الحكم بوجوب الحج.

قوله ص ٣٣١ س ١٢ : ان ينطبق مدلوله : مدلول دليل الحكم الأول ثبوت الحكم الأول بالفعل.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : صالحا لرفع الآخر : أي صالحا لكونه مانعا من وجود الآخر.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : لو بدأنا به : أيّ لو لا حظناه أولا.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : ولمّا كان من المستحيل إلخ : توجد قبل هذه الجملة مقدمة مضمرة ، وهي انه اذا كان كل منهما صالحا لرفع الآخر ومانعا منه فكل منهما اذن يكون وجوده موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف الشيء على عدم


مانعه ، ولمّا كان من المستحيل إلخ.

قوله ص ٣٣٢ ص ٤ : يقع التعارض إلخ : للعلم بكذب أحد التوقفين.

قوله ص ٣٣٢ س ٥ : على الرغم من ورود كل منهما على الآخر : بمعنى صلاحيته لرفع موضوع الآخر.



قاعدة الجمع العرفي

قوله ص ٣٣٣ س ١ : ونتكلم في هذه القاعدة إلخ : ذكرنا فيما سبق ان التعارض على قسمين : مستقر وغير مستقر.

والمقصود من التعارض غير المستقر التعارض في الموارد التي يوجد فيها جمع عرفي. وعليه فيمكن ان نقول ان البحث عن قاعدة الجمع العرفي بحث عن أحكام التعارض غير المستقر. ويقع ص ٣٦٦ ، ص ٣٨١ من الحلقة الكلام عن التعارض المستقر.

والبحث عن قاعدة الجمع العرفي يقع في خمس جهات : ـ

١ ـ المقصود من قاعدة الجمع العرفي.

٢ ـ أقسام الجمع العرفي أو بتعبير آخر : أقسام التعارض غير المستقر ـ وهي الحكومة والتخصيص والتقييد ـ وبيان نكتة الجمع العرفي في كل قسم.

٣ ـ أحكام عامّة للأقسام الثلاثة للجمع العرفي.

٤ ـ نتائج الجمع بالنسبة إلى الدليل المحكوم والعام والمطلق الذي هو الدليل المغلوب.

٥ ـ بيان بعض المصاديق التي وقع الكلام في انّها من مصاديق الجمع العرفي أو لا.


النظريّة العامّة للجمع العرفي

هذا هو البحث في الجهة الاولى من الجهات الخمس المتقدّمة. والبحث في هذه الجهة يمكن منهجته في نقاط خمس : ـ

١ ـ المقصود من قاعدة الجمع العرفي : ان كل ظهور هو حجّة ويؤخذ به ما لم يصدر من المتكلم ظهور ثان اعدّه مفسّرا للظهور الأول وإلاّ أخذ العقلاء بالظهور الثاني ـ ويسمى بالقرينة ـ دون الظهور الأول.

٢ ـ ان إعداد ظهور ثان لتفسير الظهور الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا.

والمراد من الإعداد الشخصي : ان يعدّ نفس المتكلم ـ لا العرف ـ الظهور الثاني لتفسير الظهور الأول ، كما لو فرض ان المتكلم قال في كلامه الثاني اني أقصد من ظهور كلامي الأول كذا.

ومن أمثلة الإعداد الشخصي : الدليل الحاكم بالنسبة الى الدليل المحكوم ، فإنّ المتكلم أعدّ الدليل الحاكم ليكون ناظرا ومفسّرا للكلام الأول المحكوم.

والمراد من الإعداد النوعي : ان يعدّ العرف ـ لا شخص المتكلم ـ الكلام الثاني مفسّرا للكلام الأول ، وشخص المتكلم لا دور له سوى انه واحد من العرف ويجري على طبق الالتزامات العرفية دون ان يكون هو المعدّ بخصوصه.

ومن أمثلة ذلك : الخاص بالنسبة إلى العام ، فإنّ الخاص يعدّه العرف مفسّرا للعام ولا خصوصية للمتكلم في هذا الإعداد وإنّما هو واحد من العرف ويجري على الموازين العرفية.


٣ ـ تقدّم في القسم الأول من الحلقة الثالثة في مبحث حجّيّة الظهور ان لكل كلام ظهورا تصوريّا وظهورا تصديقيّا (١).

والظهور التصوريّ هو خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من اصطكاك حجرين. ومنشأ هذا الظهور هو الوضع.

والظهور التصديقي هو ظهور الكلام في ان المتكلم استعمله في معناه الحقيقي.

وتقدّم أيضا ان القرينة إذا كانت متّصلة فهي لا تهدم الظهور التصوري وإنّما تهدم الظهور التصديقي ، فكلمة يرمي مثلا في جملة رأيت أسدا يرمي لا تمنع خطور الحيوان المفترس من كلمة الأسد وإنّما تمنع الظهور التصديقي ، أي الظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس فلا يبقى ظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس.

وأمّا إذا كانت القرينة منفصلة فهي لا تمنع من أصل انعقاد الظهور التصديقي المذكور وإنّما تمنع حجّيّته ، فإذا قال المتكلم رأيت أسدا ثم ذكر في كلام ثان كلمة يرمي فالكلام الأول يبقى ظاهرا في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس غاية الأمر لا يبني العرف على حجّيّته بسبب قرينة الكلام الثاني. ورفع اليد عن حجّيّة ظهور الكلام الأول لأجل القرينة المنفصلة هو عبارة عن الجمع العرفي.

٤ ـ عرفنا ان إعداد الكلام الثاني لتفسير الكلام الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا يقوم به شخص المتكلم ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا عرفيّا لا يختص

__________________

(١) المقصود هو الظهور التصديقي الأول ولا يهمّنا الآن الظهور التصديقي الثاني


بشخص المتكلم.

والسؤال المطروح هنا : كيف نعرف ان المتكلم أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟ وكيف نعرف ان العرف أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟

أمّا فيما يخص السؤال الأول فجوابه ان الطريق لمعرفة الإعداد الشخصي هو الظهور ، فمتى ما كان الكلام الثاني للمتكلم ظاهرا في انه قد أعدّه مفسّرا للأول اخذ بذلك الظهور وحكم بإعداد الكلام الثاني مفسرا للأول. ومثال ذلك ما لو قال المتكلم في كلامه الثاني اني أقصد من كلامي الأول كذا.

وأمّا فيما يخص السؤال الثاني فجوابه ان الطريق لمعرفة استقرار بناء العرف على عدّ الكلام الثاني مفسّرا هو وصل الكلام الثاني بالكلام الأول فإذا ارتفع التعارض بينهما ولم يبق ظهور الكلام الأول عدّ العرف الكلام الثاني في صورة انفصاله قرينة مفسّرة للكلام الأول ـ إذ من لوازم القرينة انها تزيل ظهور الكلام في صورة اتصالها به ـ وكان الحجّة عندهم الكلام الثاني دون الكلام الأول ، حيث ان الكلام الثاني قرينة والكلام الأول ذو القرينة ، والعرف يثبت الحجّيّة للقرينة دون ذي القرينة. فمثلا لو قال المتكلم أكرم العلماء وبعد مدّة ذكر كلاما منفصلا قال فيه لا تكرم العلماء الفسّاق ، فإنّ هذا الكلام الثاني لو وصل بالأول وقيل هكذا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء الفسّاق لم ير بين الكلامين معارضة بسبب ارتفاع ظهور الكلام الأول في الاستعمال في العموم ، وهذا بخلاف ما لو قيل صلّ ثم قيل منفصلا : لا تصلّ ، فإنّ الكلام الثاني لو وصل بالكلام الأول لم يرتفع التعارض بينهما وكان ظهور الكلام الأول في وجوب الصلاة باقيا.

٥ ـ ان الجمع العرفي يختص بحالة ما إذا كانت القرينة منفصلة دون ما إذا


كانت متصلة إذ في حالة اتصال القرينة ـ كما لو قال المتكلم أكرم العلماء العدول ـ لا يبقى ظهور لأكرم العلماء في العموم ليعارض ظهور العدول ويجمع بينهما جمعا عرفيا ، بخلافه في صورة االانفصال ، كما لو قيل اكرم العلماء ثم قيل بعد فترة لا تكرم العلماء الفساق فانّ ظهور الكلام الثاني يتعارض وظهور الكلام الأوّل فيجمع العرف بينهما بالتخصيص.

وباختصار انّ الجمع العرفي فرع التعارض غير المستقر ومع كون القرينة متصلة لا يبقى ظهور للكلام الأوّل ليحصل التعارض ويجمع بالجمع العرفي.

قوله ص ٣٣٣ س ٢ : أو أقسام التعارض غير المستقر : حيث انّ موارد الجمع العرفي هي عبارة اخرى عن موارد التعارض غير المستقر لذا عبر بالتعبير المذكور الذي هو بمثابة عطف التفسير لسابقه.

قوله ص ٣٣٣ س ٩ : وكشف المراد النهائي له : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص ٣٣٣ س ١٠ : في هذه الحالة : أي حالة اعداء الظهور الثاني مفسرا للأوّل.

قوله ص ٣٣٤ س ٣ : وهذا الاعداد تارة إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثانية.

قوله ص ٣٣٤ س ٣ : شخصيا : كان من المناسب إضافة الجملة التالية : بمعنى انّ شخص المتكلم اعدّ الكلام الثاني كمفسر للكلام الأوّل وتقوم عليه قرينة خاصة.

قوله ص ٣٣٤ س ١٠ : وكل قرينة ان كانت إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثالثة.

قوله ص ٣٣٤ س ١١ : اساسا : أي أصلا وابدا.


قوله ص ٣٣٤ س ١٢ : لما تقدم : أي في القسم الأوّل من هذه الحلقة في مبحث حجّية الظهور.

قوله ص ٣٣٤ س ١٤ : والقرينة الناشئة : هذا إشارة إلى النقطة الرابعة.

قوله ص ٣٣٤ س ١٥ : من قبيل إلخ : هذا من قبيل الصراحة التي هي اعلى مستوى من الظهور ، فانّ المتكلم لو قال أقصد من كلامي الأوّل كذا كان ذاك صريحا في الاعداد الشخصي.

قوله ص ٣٣٥ س ١ : إلى احراز ذلك : أي البناء العرفي.

قوله ص ٣٣٥ س ١ : غالبا : لعل التعبير بكلمة « غالبا » احتراز عن الموارد التي يكون فيها البناء العرفي المذكور واضحا بلا حاجة إلى الطريق المذكور.

قوله ص ٣٣٥ س ٦ : اساسا : أي حتما وبالكلية.

قوله ص ٣٣٥ س ٨ : وعلى هذا الضوء : هذا إشارة إلى النقطة الخامسة.

قوله ص ٣٣٥ س ١٠ : لما عرفت : أي من انّ العرف في موارد القرينة وذي القرينة يجمع بتقديم القرينة. وقد اشير إلى ذلك في النقطة الاولى.

قوله ص ٣٣٥ س ١٠ : كما انّ بناء العرف إلخ : هذه الجملة إلى قوله « ويقدم بملاك القرينية » لا نراها إلاّ تكرارا بلا موجب لما ذكر في النقطة الرابعة.


أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر

قوله ص ٣٣٦ س ١ : من أهم أقسام إلخ : أقسام الجمع العرفي ثلاثة هي : الحكومة ، التقييد ، التخصيص.

وقد تسأل لماذا لا تعد موارد الورود قسما رابعا من أقسام الجمع العرفي؟

والجواب : انّ الجمع العرفي يختص بصورة وجود ظهورين متعارضين بشكل غير مستقر ، ومن الواضح انّه في موارد الورود لا يوجد تعارض أصلا حتى يجمع عرفا بين الظهورين ، فمثلا دليل صحّة الإجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد لا يرى بينهما أي تعارض عرفا ليجمع بينهما بجمع عرفي.

وبعد هذا نذكر أقسام الجمع العرفي الثلاثة وهي : ـ

الحكومة

ومثال الحكومة واضح فدليل لا ربا بين الوالد وولده حاكم على قوله تعالى « وحرم الربا » ويقدم بالحكومة. ولكن ما هو المقصود بالدقة من كلمة الحكومة؟

انها تعني النكتة الموجبة لتقدم الحاكم على المحكوم فلو كانت نكتة التقدم هي نظر الحاكم إلى المحكوم فالمقصود من الحكومة هو النظر.


وقد تقول : هل هناك نكتة لتقدم الحاكم سوى النظر؟ والجواب : انّه يوجد في نكتة تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم اتجاهان : ـ

١ ـ ما اختاره الشيخ النائيني 1 (١) من انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم هي انّه لا يذكر مطلبا يرفضه الدليل المحكوم بل يذكر مطلبا إضافيا يسلمه الدليل المحكوم ، فانّ دليل « وحرم الربا » الذي هو الدليل المحكوم يرجع إلى قضية شرطية : أي انّ كل معاملة إذا صدق عليها عنوان الربا فهي محرمة ، ومن الواضح انّ القضية الشرطية لا تثبت الشرط أي الموضوع فلا تقول انّ هذه المعاملة ربا أو تلك ليست بربا بل تقول ان كانت ربا فهي محرمة. وإذا رجعنا إلى الدليل الحاكم الذي يقول لا ربا بين الوالد وولده وجدناه ينفي صدق عنوان الربا على المعاملة بين الوالد وولده ، وهذا كما قلنا مطلب لا يرفضه الدليل المحكوم فانّ الدليل المحكوم لا يقول انّ المعاملة بين الوالد وولده هي من الربا حتى يرفض مقالة الدليل الحاكم.

ويرده : انّ مقالة الدليل الحاكم يرفضها الدليل المحكوم فانّ مفاد الدليل المحكوم انّ المعاملة متى ما صدق عليها عنوان الربا واقعا وكانت ربا واقعا فهي محرمة فالمدار على صدق عنوان الربا واقعا ـ إذ المدار في العناوين المأخوذة في الأدلة على صدقها الواقعي فحينما يقال الخمر حرام يراد به انّ ما يصدق عليه الخمر واقعا هو حرام ـ ومن الواضح انّ الدليل الحاكم لا ينفي صدق عنوان الربا واقعا على المعاملة الجارية بين الوالد وولده لتكون المعارضة معدومة وإنّما ينفي

__________________

(١) أشار لذلك السيد الخوئي في مصباح الاصول ج ٣ ص ٢٥٤


صدقه اعتبارا وتعبدا فهو يقول انا اعبّدك بانّ المعاملة بين الوالد والولد ليست ربوية ، وما دام لا ينفيها واقعا فالمعارضة تبقى على حالها ولا ترتفع ، إذ ما دامت المعاملة بين الوالد وولده ربا واقعا فهي محرمة بمقتضى الدليل المحكوم بينما الدليل الحاكم يقصد من وراء نفيه للموضوع تعبدا نفي الحرمة (١).

٢ ـ والاتجاه الثاني ما تبناه جماعة منهم السيد الشهيد. وحاصله انّ الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من باب انّه ناظر إليه ، فالمعارضة وان كانت ثابتة خلافا للشيخ النائيني إلاّ انّ الدليل الحاكم لما كان ناظرا إلى الدليل المحكوم فنفس النظر إلى الدليل المحكوم واعداد الدليل الحاكم ليكون مفسرا للدليل المحكوم موجب للتقديم عرفا ، حيث انّ النظر يوجب قرينية الدليل الحاكم ، والقرينة مقدمة على ذي القرينة في مقام الحجّية.

__________________

(١) وأيضا يرد على الاتجاه المذكور انّه يوضح فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى موضوع الدليل المحكوم ولا يوضح نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم ، فانّ الدليل الحاكم تارة يكون ناظرا إلى الموضوع في الدليل المحكوم كما هو الحال في مثال الربا فانّ دليل لا ربا بين الوالد وولده ينفي عنوان الربا الذي هو موضوع في الدليل المحكوم ، واخرى يكون ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم كما في مثال « لا ضرر » فانّ المقصود لا حكم في صورة الضرر فهو ناظر إلى نفي الحكم الثابت في الأدلة الأولية. والشيخ النائيني في بيانه هذا أوضح نكتة تقدم دليل « لا ربا بين الوالد وولده » على دليل « وحرم الربا » وهي انّ دليل « وحرم الربا » لا يقول ان هذه المعاملة أو تلك ربا أو لا فلا يتنافى ودليل لا ربا بين الوالد وولده ، ولم يوضح لماذا يتقدم دليل لا ضرر فإنّه لم ينظر إلى نفي موضوع الدليل المحكوم ليقال انّ الدليل المحكوم لا يثبت موضوعه فلا يرفض مقالة الدليل الحاكم بل هو ينظر إلى نفي الحكم ومن الواضح انّ الدليل المحكوم يثبت الحكم وليس حياديا من هذه الناحية ويأتي من السيد الشهيد التنبيه على هذه الملاحظة ص ٣٣٧ من الحلقة تحت عنوان والفارق الآخر


وباختصار : ان الدليل الحاكم مقدم من باب انّه ناظر ومفسر ، الأمر الذي يوجب ان يكون قرينة على الدليل المحكوم. وهذا من دون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل المحكوم أو منفصلا عنه فانّه على كلا التقديرين يتقدم على الدليل المحكوم ، غاية الأمر في صورة اتصاله به لا يبقى ظهور المحكوم معارضا للدليل الحاكم (١) بينما في صورة انفصاله عنه يكون معارضا ولكن يتقدم الحاكم من باب النظر والتفسير.

اقسام النظر

ذكرنا فيما سبق انّ النكتة الموجبة لتقدم الدليل الحاكم هي النظر. والنظر له أشكال ثلاثة : ـ

١ ـ ان يكون نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم نظرا صريحا ، كما لو كان الدليل الحاكم مسوقا بلسان التفسير ، كأن يقول « اقصد بالكلام الأوّل كذا » أو ما يشبه ذلك.

٢ ـ ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم وليس صريحا في ذلك ويفرض انّه ناظر إلى موضوع الدليل المحكوم ، كما هو الحال في دليل « لا ربا بين الوالد وولده » فإنّه ناظر إلى موضوع الربا الثابت في دليل

__________________

(١) لعل الاولى عدم التعميم لصورة اتصال الدليل الحاكم وانفصاله والاقتصار على صورة الانفصال ، إذ في صورة الاتصال حيث لا يبقى للدليل المحكوم ظهور يعارض به الدليل الحاكم فلا يكون المورد من موارد تعارض الظهورين وبالتالي لا يكون من موارد الحكومة ، فانّ الحكومة شكل من اشكال الجمع العرفي وهو يختص بمورد تعارض الظهورين ، والتعارض لا يتحقق عند اتصال القرينة. وقد نبه على ذلك 1 سابقا ص ٣٣٥ س ٨ ـ ١٠ من الحلقة


« وحرّم الربا » فهو يرفع موضوع الربا ويثبت انّه غير صادق.

وينبغي الالتفات إلى انّ الدليل الحاكم حينما ينفي صدق عنوان الربا لا ينفيه حقيقة ، كيف والمعنى الحقيقي للربا هو الزيادة وهي ـ كما هو واضح ـ صادقة في المعاملة بين الوالد وولده فلا بدّ وان يكون المقصود إذن نفي ذلك ادعاء واعتبارا ، ويقصد من وراء نفي الموضوع ادعاء نفي الحكم أي نفي الحرمة ، فانّ من أحد الاساليب البلاغية في اللغة العربية لنفي الحكم نفيه عن طريق نفي موضوعه ، فبدلا من التصريح بنفي الحرمة مباشرة ينفى صدق عنوان الربا.

٣ ـ ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم ويفرض انّه ناظر إلى الحكم الثابت في الدليل المحكوم لينفيه كما هو الحال في حديث لا ضرر ، فانّ المقصود منه انّه لا حكم ضرري في الاسلام فهو ناظر إلى الحكم الثابت في الأدلة الاولية لينفيه ولا بدّ مسبقا من افتراض وجود احكام كي ينفيها حالة الضرر.

وهكذا حديث « لا ينجّس الماء ميتة ما لا نفس له » ، فإنّه ينفي الحكم بالنجاسة الثابت في الأدلة الاولية التي يستفاد منها تنجس الماء بملاقاة النجاسة.

مقارنة بين الاتجاهين

ذكرنا انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم فيها اتجاهان : اتجاه للميرزا يقول بانّ الدليل الحاكم يقدم من باب أنّه يبين مطلبا لا ينفيه الدليل المحكوم ، واتجاه ثان يقول بانّ التقدم من باب النظر. ويوجد بين هذين الاتجاهين فارقان : ـ

١ ـ انّه على الاتجاه الثاني لا يتقدم الدليل الحاكم إلاّ إذا كان ناظرا إلى


الدليل المحكوم فلو لم يكن ناظرا لم يكن حاكما بينما على الاتجاه الأوّل لا يشترط في تقدم الدليل الحاكم النظر ، إذ على الاتجاه المذكور يتقدم الدليل الحاكم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم فهو يرفع عنوان الربا ويكون اشبه بالدليل الوارد الذي يتقدم على الدليل المورود من باب انّه يرفع موضوعه ، فكما انّ الدليل الوارد يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المورود بلا حاجة إلى النظر كذلك الدليل الحاكم على اتجاه الميرزا يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم بلا حاجة إلى النظر (١).

٢ ـ والفارق الثاني هو انّ اتجاه الميرزا لا يفسر نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الحكم في الدليل المحكوم كدليل نفي الجرح أو نفي الضرر أو عدم تنجس الماء بميتة ما لا نفس له بل يفسر فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الموضوع في الدليل المحكوم ، وهذا بخلافه على الاتجاه الثاني فانّ نكتة النظر الموجبة لتقدم الدليل الحاكم تعم كلتا حالتي الدليل الحاكم. وقد تقدمت الاشارة إلى هذا فيما سبق.

التقييد

والقسم الثاني من اقسام الجمع العرفي هو التقييد فالدليل على التقييد مقدم على دليل الاطلاق في نظر العرف.

__________________

(١) ان قلت : فعلى هذا ما الفرق بين الحكومة والورود ما دام قد افترض ان وجه التقدم في كليهما رفع الموضوع؟

قلت : ان رفع الموضوع في الدليل الوارد رفع حقيقي بينما في الدليل الحاكم رفع تعبدي


والدليل على التقييد له أشكال ثلاثة : ـ

١ ـ ان يكون دالا على التقييد بلسان التقييد ، كما لو قال المولى اعتق رقبة ثم قال انّ الحكم السابق مقيد بالايمان.

وفي هذا الشكل يتقدم الدليل المقيد من باب النظر والحكومة حيث انّه بلسانه ناظر إلى الدليل المطلق ويكون داخلا في القسم الأوّل من أقسام الجمع العرفي وهو الحكومة.

٢ ـ ان لا يكون لسانه لسان التقييد وانّما يثبت حكما موافقا لدليل المطلق ولكن في دائرة أضيق ، كما لو قيل اعتق رقبة ثم قيل اعتق رقبة مؤمنة ، فانّ كلا الدليلين يقول اعتق رقبة إلاّ انّ الثاني يقول ذلك في دائرة أضيق.

وفي هذا الشكل تارة يفرض عدم العلم بوحدة الحكم بل يحتمل صدور حكمين من قبل المولى احدهما يدل على وجوب عتق مطلق الرقبة والثاني يدل على وجوب عتق الرقبة المؤمنة من باب انّها الفرد الأفضل ، فعتق الكافرة واجب وعتق المؤمنة واجب أيضا إلاّ انّ عتق المؤمنة أفضل فردي الواجب.

وفي مثل ذلك لا يتحقق تعارض بين المطلق والمقيد اذ لا محذور في صدور حكمين احدهما مطلق وثانيهما مقيد بالفرد الأفضل (١).

واخرى يفرض العلم بوحدة الحكمين ، وفي مثله يحصل التعارض إذ الحكم الواحد لا يمكن ان يكون مطلقا ومقيدا ، وهذا بدون فرق بين كون المقيد متصلا أو منفصلا. غاية الأمر إذا كان متصلا فلا ينعقد ظهور للمطلق في

__________________

(١) انّما اكتفي في رفع التعارض بعدم العلم بوحدة الحكم ولم يشترط العلم بتعدد الحكم من باب انّه إذا لم يعلم بوحدة الحكم فمقتضى ظهور كل أمر في انّه تاسيسي لا تأكيدي التعدد


الاطلاق بخلاف ما إذا كان منفصلا فإنّه ينعقد ظهور للمطلق في الاطلاق ولكن يقدم ظهور المقيد عليه للقاعدة العرفية المتقدمة وهي انّ كل كلام على تقدير اتصاله بكلام آخر إذا كان رافعا لظهوره فعلى تقدير انفصاله يقدم عليه ، وهنا كذلك فانّ دليل اعتق رقبة مؤمنة على تقدير اتصاله بدليل اعتق رقبة يرفع ظهوره في الاطلاق فيتقدم عليه في صورة انفصاله.

أجل هناك رأي ينسب للشيخ الأعظم الانصاري يقول انّ المقيد المنفصل يتقدم على المطلق لا من باب انّه على تقدير اتصاله يزيل ظهور المطلق في الاطلاق بل من باب انّ المطلق لا يبقى له ظهور في الاطلاق على تقدير ورود المقيد بلا فرق بين كونه متصلا أو منفصلا ، فكما انّ المقيد المتصل يزيل ظهور المطلق في الاطلاق ويتقدم عليه من هذا الباب أي من باب انّه يزيل ظهور المطلق من اساسه كذلك الحال في المقيد المنفصل فانّه بمجرد صدوره من المتكلم يزول ظهور المطلق في الاطلاق ويتقدم عليه من هذه الناحية.

ويعتمد هذا الرأي على الاعتقاد بانّ قرينة الحكمة التي هي المنشأ للظهور الاطلاقي ترتكز على عدم ذكر المقيد المتصل والمنفصل لا خصوص عدم ذكر المقيد المتصل.

ولكن تقدم في القسم الأوّل من هذه الحلقة في بحث حجّية الظهور ص ٢٩٠ ابطال هذا الرأي وقلنا : الصحيح انّ المقيد إذا كان منفصلا فظهور المطلق في الاطلاق لا يزول ولكن مع ذلك يتقدم المقيد عليه في نظر العرف للقاعدة العرفية المتقدمة.

٣ ـ ان يكون الدليل المقيد دالا على إثبات حكم مضاد للحكم المطلق ، كما


لو قيل اعتق رقبة ثم قيل لا تعتق الرقبة الكافرة (١). وفي هذا الشكل إذا فرض انّ الدليل المقيد ارشادي ، أي يرشد إلى انّ الحكم الأوّل مقيّد بعدم الكفر ـ وكأنّه يقول ارشدك إلى انّ الحكم الأوّل مقيد بعدم الكفر ـ فلا إشكال في تقدمه على المطلق من باب النظر والحكومة ويكون حاله حال الشكل الأوّل الذي يتقدم فيه الدليل المقيد من باب النظر والحكومة.

إذن لأجل ان يحصل الاختلاف بين هذا الشكل والشكل الأوّل لا بدّ من فرض النهي في هذا الشكل نهيا تكليفيا لا إرشاديا.

ثم انّه في هذا الشكل يتقدم الدليل المقيد على الدليل المطلق سواء إحرز وحدة الحكم أم لا ، ولا حاجة إلى اعتبار إحراز وحدة الحكم إذ لا يمكن للمتكلم ان يقول في أحد الحكمين يجب عتق مطلق الرقبة بما في ذلك الكافرة ويقول في حكم ثان لا يجوز عتق الكافرة ، فانّ المنافاة واضحة.

وقد تسأل لماذا يتقدم الدليل المقيد في هذا الشكل على الدليل المطلق في حالة احراز وحدة الحكم وكذا في حالة عدم احراز ذلك؟

انّ النكتة هي القاعدة العرفية المتقدمة التي تنص على انّ كل كلام على تقدير اتصاله بكلام ثان إذا رفع ظهوره ففي حالة انفصاله يتقدم عليه عرفا من باب القرينية.

__________________

(١) ويعبر عن هذه الحالة بالمطلق والمقيد المختلفين سلبا وإيجابا فانّ المطلق موجب بينما المقيد سلبي ، وهذا بخلافه في الحالة السابقة فانّ المقيد موافق للمطلق في الايجاب إذ كلاهما إيجابي


التخصيص

والقسم الثالث من أقسام الجمع العرفي هو التخصيص. وهو على ثلاثة أشكال أيضا كما مرّ في التقييد : ـ

١ ـ ان يكون التخصيص بلسان التخصيص ، كما لو قال المتكلّم أكرم العلماء ثم قال انّ الحكم باكرام العلماء مختص بالعدول.

وفي هذا الشكل لا إشكال في تقدم الدليل المقيد من جهة النظر والحكومة.

٢ ـ ان لا يكون التخصيص بلسان التخصيص وانّما يفرض توجه الحكم في الخاص إلى عنوان أضيق من عنوان العام مع اتفاقهما في السلب والإيجاب ، كما إذا قال المتكلّم اكرم العلماء ثم قال اكرم العلماء العدول.

وفي هذا الشكل إذا فرض عدم إحراز وحدة الحكم فيحكم بتعددهما بمقتضى ظهور كل حكم في التأسيس ولا يتحقق التعارض بينهما لنفس النكتة المتقدمة في التقييد. واذا احرز وحدتهما تحقق التعارض بينهما وحكم بتقدم الخاص للقاعدة العرفية المتقدمة ، فانّ الخاص على تقدير اتصاله بالعام يرفع ظهوره في العموم ففي حالة انفصاله يقدم بالقرينية.

٣ ـ نفس الشكل الثاني مع افتراض الاختلاف في السلب والإيجاب بان يفرض انّ الحكم في الخاص نقيض لحكم العام ـ مثل اكرم كل عالم ولا تكرم النحوي ـ أو ضد له مثل اكرم كل عالم ويحرم اكرام النحوي (١). وفي هذا الشكل

__________________

(١) التعبير بـ « يحرم اكرام النحوي » اولى من تعبير السيد الشهيد « لا يجب اكرام النحوي » فانّ ـ


يقدم الخاص أيضا للقاعدة العرفية المتقدمة.

وبهذا اتضح انّه في جميع الاشكال الثلاثة يقدم الخاص عند معارضته للعام للقاعدة العرفية ـ كما في الشكلين الأخيرين ـ أو للحكومة كما في الشكل الأوّل ، غاية الأمر مع فرض اتصال الخاص بالعام لا ينعقد للعام ظهور في العموم ومع انفصاله ينعقد له ظهور في العموم ولكن يقدم الخاص عليه للقاعدة العرفية القاضية بقرينية الخاص المنفصل على تقدير ازالته للظهور حالة الاتصال.

نقطتان وقع الخلاف فيهما

كل ما ذكرناه فيما سبق لم يقع محلا للخلاف وانّما وقع الخلاف في نقطتين : ـ

١ ـ انّ الخاص حينما حكم بتقدمه على العام فهل نكتة تقدمه هي كونه خاصا فالخصوصية بما هي خصوصية موجبة لتقدمه أو انّ نكتة تقدمه هي الأظهرية فالخاص بما انّه أظهر من العام يقدم عليه ، فلو قيل مثلا اكرم كل عالم ثم قيل اكرم العالم العادل فالخاص ظاهر في وجوب اكرام العالم العادل وظهوره في ذلك أقوى من ظهور العام فانّ العام لم يرد في خصوص العالم العادل بخلاف الخاص.

وقد تقول ما هي الثمرة في هذا الخلاف ما دام الخاص يتصف دائما بكلتا النكتتين فهو دائما خاص وأظهر؟

انّه يمكن أحيانا فرض الثمرة ، كما لو قيل لا يجب اكرام الفقراء ثم قيل اكرم الفقير القانع ، فانّه لو كان المدار على الأخصية فاللازم تقدم الخاص لأنّه اخص

__________________

ـ حكم الخاص في كلا المثالين نقيض حكم العام وليس احدهما ضدا والآخر نقيضا


بينما لو كان المدار على الأظهرية فالحكم بتقدمه مشكل ، فانّ تخصيصه للعام بحاجة إلى ظهورين : ظهوره في الشمول لمورده أي للفقير القانع وظهور صيغة اكرم في الوجوب ، إذ لو لا دلالة اكرم على الوجوب لا يمكن استفادة وجوب اكرام خصوص الفقير القانع ليكون مخصصا للعام ، ونحن إذا سلمنا اقوائية الظهور الأوّل ـ أي ظهور الخاص في الشمول لمورده ـ من ظهور لا يجب اكرام الفقراء في الشمول للفقير القانع فلا نسلم اقوائية ظهور صيغة اكرم في الوجوب من ظهور لا يجب اكرام الفقير في نفي الوجوب ، فانّ كلمة « لا يجب » صريحة في نفي الوجوب ودلالتها على نفي الوجوب أقوى من دلالة أكرم على الوجوب ، فلو كان المدار على اقوائية الظهور فلا يمكن الحكم بتقدم الخاص لأنّ ظهوره الثاني في الوجوب اضعف من ظهور لا يجب في نفي الوجوب.

والصحيح : انّ الموجب لتقدم الخاص ليس هو أظهريته بل أخصيته ، والنكتة في ذلك انّ الموجب لتقدمه هو القاعدة العرفية المتقدمة ، وهي انّ الخاص حيث يزيل ظهور العام على تقدير اتصالة فعلى تقدير انفصاله يكون قرينة مقدمة على العام ، ومن الواضح انّ هذه القاعدة العرفية لا تختص بحالة ما إذا كان ظهور الخاص اقوى بل تشمل كلتا الحالتين فالخاص وان لم يكن اقوى ظهورا متى ما اتصل بالعام ازال ظهوره ورفع التعارض فيكون في حالة انفصاله قرينة متقدمة على العام حتى على تقدير عدم اقوائية ظهوره.

أجل نحن بهذا لا نريد ان ننكر قدسية الأظهرية وانها من موجبات التقدم على الدليل الظاهر بل نحن نسلم بانّ الاظهرية من القرائن الصالحة لتقدم الاظهر في المواطن الاخرى بيد انا ندعي انّ الخاص في مقامنا يتقدم لا من باب أظهريته بل من باب أخصيته.


كبرى انقلاب النسبة

٢ ـ والنقطة الاخرى التي وقع فيها الخلاف هي انّه لو كان لدينا عامان أحدهما يقول مثلا يجب اكرام الفقراء وثانيهما يقول لا يجب اكرام الفقراء فالنسبة بين هذين الدليلين هي المعارضة والتباين فإذا فرضنا ورود دليل ثالث أخص من الدليل الأوّل يقول لا يجب اكرام الفقراء الفساق (١) فهذا الدليل الثالث يخصص الدليل الأوّل جزما ويصبح مضمون الدليل الأوّل يجب اكرام خصوص الفقراء العدول. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وانّما الإشكال في أنّ النسبة بين الدليلين الأولين العامين هل تلحظ بعد تخصيص العام الأوّل بالدليل الثالث أو تلحظ قبل تخصيصه بذلك ، فانا لو أردنا ان نلحظ النسبة قبل التخصيص بالدليل الثالث كانت نسبة التباين بينما لو أردنا لحاظها بعد التخصيص بالدليل الثالث كانت نسبة العموم والخصوص المطلق ، فانّ العام بعد تخصيصه بالدليل الثالث يصبح هكذا : يجب اكرام الفقراء العدول ، ونسبته إلى الدليل الثاني القائل لا يجب اكرام الفقراء هي نسبة الأخص المطلق إلى الأعم.

__________________

(١) انّما لم يكن هذا الدليل الثالث اخص من الدليل الثاني باعتبار انّه موافق له فذاك يقول لا يجب اكرام الفقراء وهذا يقول أيضا لا يجب اكرام الفقراء ، غاية الأمر الفساق منهم ، فكلاهما ينفيان وجوب اكرام الفساق ويتفقان على ذلك فلا معنى للتخصيص


وبالجملة هل تلحظ النسبة بين الدليلين الأولين قبل انقلابها إلى نسبة العموم والخصوص المطلق أو تلحظ بعد انقلابها إلى نسبة العموم والخصوص المطلق؟

ويمكن طرح هذا التساؤل بشكل ثان : انّ النسبة التي يراد الحصول عليها بين الدليل الأوّل والثاني ـ كنسبة الأخصية أو غيرها مثلا ـ هل تلحظ بين ظهوري الدليلين الأولين بما هما ظهوران أو تلحظ بين ظهورهما بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه؟

فان كان المدار على الظهورين بما هما ظهوران فمعنى ذلك مراعاة النسبة بين الدليلين قبل انقلابها ، وان كان المدار على الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه فمعنى ذلك مراعاة النسبة بعد انقلابها فانّه بعد تخصيص الثالث للأوّل يصير ظهور الأوّل حجّة فيما عدا الفساق. إذن يوجد في هذه المسألة احتمالان.

ومن البديهي انّ الفتوى التي يفتي بها الفقيه تختلف باختلاف هذين الاحتمالين ، فانّه لو كان المدار على النسبة بعد الانقلاب فاللازم هو الحكم بعدم وجوب اكرام الفقير الفاسق ووجوب اكرام الفقير العادل.

امّا عدم وجوب اكرام الفقير الفاسق فللتمسك بالدليل الثالث الذي لا معارض له.

وامّا وجوب اكرام الفقير العادل فللدليل الأوّل ، فإنّه بعد تخصيصه بالثالث يصبح مضمونه هكذا : يجب اكرام الفقير العادل ، وهذا المضمون يخصص الدليل الثاني الذي يقول لا يجب اكرام الفقراء فتصبح نتيجة الدليل الثاني بعد تخصيصه بالدليل الأوّل هكذا : لا يجب اكرام الفقراء الفساق. هذا لو لا حظنا النسبة بعد الانقلاب.


امّا لو لا حظناها قبل الانقلاب فاللازم هو الحكم بعدم وجوب اكرام الفقير الفاسق وعدم وجوب اكرام الفقير العادل.

امّا عدم وجوب اكرام الفقير الفاسق فللدليل الثالث الذي لا معارض له.

وامّا عدم وجوب اكرام الفقير العادل فلأنّ الدليل الأوّل وان دلّ على وجوب اكرامه إلاّ انّه معارض بالدليل الثاني ، ومع المعارضة يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية وهو البراءة من حرمة أو وجوب اكرامه (١).

ولنرجع إلى التساؤل المطروح من جديد وهو انّ المدار هل على النسبة بعد انقلابها أو على النسبة قبل انقلابها؟

وقبل الاجابة نلفت النظر إلى انّ طرح هذا التساؤل وجيه لو كان الدليل الثالث المخصص للأوّل منفصلا عنه دون ما إذا كان متصلا به ، إذ في صورة الاتصال لا ينعقد للدليل الأوّل ظهور في العموم ابدا حتى يقال انّ المدار هل على الظهور في العموم الثابت قبل التخصيص أو على الظهور الحجّة الثابت بعد التخصيص.

وبعد اتضاح هذا نقول : انّ في الجواب عن التساؤل السابق يوجد اتجاهان : ـ

١ ـ الاتجاه القائل بانّ المدار على الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه ، أي انّ المدار على النسبة بعد انقلابها. ومن أنصار هذا الاتجاه الشيخ النائيني 1.

٢ ـ الاتجاه القائل بانّ المدار على الظهورين بما هما ظهوران ، أي المدار على

__________________

(١) وسنذكر فيما بعد مثالا شرعيا واقعيا لذلك


النسبة قبل انقلابها. ومن أنصار هذا الاتجاه الشيخ الآخوند 1.

امّا الاتجاه الأوّل فاستدل له النائيني بانّ المعارضة بين الدليل الأوّل والدليل الثاني لا تتحقق إلاّ بين ظهوريهما بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه فانّ المعارضة لا تتحقق إلاّ بين الحجّتين ولا معنى لتحققها بين الحجّة واللاحجّة فما لا يكون حجّة لا يعارض الحجّة ، وظهور الدليل الأوّل حيث انّه ليس حجّة في العموم بل هو حجّة في خصوص العدول فالمعارضة تتحقق بين ظهور الدليل الأوّل في خصوص العدول وبين ظهور الدليل الثاني وهي نسبة الأخص المطلق إلى الأعم ولا معنى لتحققها بين ظهور الدليل الأوّل في العموم للفساق والعدول وظهور الدليل الثاني. هذا حصيلة ما أفاده 1.

وفيه : انّ دعوى انّ المعارضة لا تتحقق إلاّ بين الحجّتين وان كانت دعوى مقبولة صحيحة إلاّ انّه لا بدّ من التمييز بين مسألتين : مسألة المعارضة بين الظهورين الأولين ، ومسألة قرينية الأوّل على تخصيص الثاني ، فالمعارضة وان كانت لا تتحقق بين الظهورين إلاّ بمقدار ما يكونان حجّة فيه إلاّ انّ قرينية الأوّل على تخصيص الثاني من المحتمل ان لا تدور مدار الظهورين بالمقدار الذي يكونان حجّة فيه وانّما تدور مدار الظهورين في حدّ انفسهما ، بمعنى انّ ظهور الدليل الأوّل متى ما كان خاصا في نفسه (١) صلح حينذاك لتخصيص الثاني ولا تكفي أخصيته الناشئة من تخصيصه بالدليل الثالث وخروج الفساق منه. انّ هذا الاحتمال وجيه بل هو المطابق للمرتكزات العرفية.

__________________

(١) كما اذا ورد منذ البداية خاصا وبلسان يجب اكرام الفقراء العدول


والوجه في ذلك : ان العرف حينما يقدم الأخص على الأعم لا يقدمه إلاّ من باب أظهريته في الشمول لمورده من الأعم (١) ، ومن الواضح انّ مجرد خروج الفساق من الدليل الأوّل بسبب الدليل الثالث لا يصيّر ظهوره ـ أي الأوّل ـ في العدول أقوى من ظهور الدليل الثاني في العدول ليقدم عليه وانّما يكون ظهور الدليل الأوّل في العدول أقوى لو فرض وروده منذ البداية في خصوص العدول بلسان يجب اكرام الفقراء العدول ، ولكن هذا خلاف المفروض ، فانّ المفروض انّ الدليل الأوّل ورد منذ البداية عاما للعدول والفساق وخرج منه بعد ذلك بسبب الدليل الثالث الفساق وذلك لا يوجب اقوائية ظهوره في العدول من ظهور الدليل الثاني في العدول ليصير مخصصا له.

قوله ص ٣٣٦ س ٦ : مفهومها : أي الحكومة.

قوله ص ٣٣٦ س ٦ : وملاكه : عطف تفسير لنكتة التقديم.

قوله ص ٣٣٧ س ٥ : منجزة : أي ليست شرطية. والمقصود من كلمة فعلية ومنجزة واحد.

قوله ص ٣٣٨ س ٧ : ظهور تصديقي : وهو الظهور في الاستعمال ، أي لا يبقى للمحكوم ظهور في استعماله في معناه الثابت له لو لا الحاكم.

قوله ص ٣٣٨ س ٩ : لما عرفت : من القاعدة العرفية.

قوله ص ٣٣٨ س ١٦ : حقيقة : أي واقعا. وهو قيد لـ « ناظرا ».

__________________

(١) الظاهر انّ ما أفاده السيد الشهيد هنا من انّ الأخص يقدم على الأعم من باب أظهريته وقوة دلالته يتنافى وما تقدم منه 1 في النقطة السابقة من انّ الأخصية ـ لا بما هي موجبة للأظهرية ـ موجبة لتقدم الأخص


قوله ص ٣٣٨ س ١٧ : ان يكون التقبل العرفي : أي انّ العرف لا يقبل مفاد الحاكم كنفي الحكم الضرري مثلا إلاّ بعد افتراض ثبوت احكام أولية في المرتبة السابقة إذ ثبوت نفي الحكم الضرري دون ثبوت احكام سابقة ينظر لها لغو وبلا معنى.

ثم انّ عدم تقبل العرف لمفاد الحاكم إلاّ مع افتراض سبق حكم لا يختص بهذا الوجه بل يعم الوجهين السابقين أيضا.

قوله ص ٣٣٩ س ١ : افتراض : الافتراض هنا بمعنى الوجود لا بمعنى مجرد الفرض ولو لم تكن له واقعية.

قوله ص ٣٣٩ س ١ : مدلول الدليل الحاكم : المراد من المدلول هو الحكم.

قوله ص ٣٣٩ س ٢ : لا ينجس إلخ : المناسب في التعبير : لا ينجّس الماء ميتة ما لا نفس له.

قوله ص ٣٣٩ س ٢ : بالنسبة إلى أدلة الاحكام : هذا يرجع إلى « لا ضرر ».

وقوله وأدلة التنجيس يرجع إلى قوله « لا ينجس الماء إلخ ».

قوله ص ٣٤٠ س ٥ : للمقيد : متعلق بثبوت. ولعل الاولى حذفه.

قوله ص ٣٤٠ س ١٠ : وحينئذ فان كان الخطابان إلخ : كان من المناسب ذكر صورة الاتصال قبل قوله « وقع التعارض بين الظهور الأوّل ... » والتقدير هكذا : وفي هذه الحالة ان لم تعلم وحدة الحكم فلا تعارض. وان علمت وحدة الحكم المدلول للخطابين فان كان الخطابان متصلين لم ينعقد للأوّل ظهور في الاطلاق لأنّه فرع عدم ذكر ما يدل على القيد في الكلام ، والخطاب الآخر المتصل يدل على القيد فلا تجري قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق. وان كان الخطابان


منفصلين انعقد الظهور في كل منهما ووقع التعارض بين ظهور الأوّل في الاطلاق بقرينة الحكمة وظهور الثاني في احترازية القيود لما تقدم في بحث الاطلاق من انّ الاطلاق إلخ.

قوله ص ٣٤١ س ٧ : متقدمة : الصواب : متقومة.

قوله ص ٣٤١ س ٩ : في حصة من المطلق : فانّ الكافرة حصة من مطلق الرقبة ، والدليل المقيد يثبت الحكم المضاد في هذه الحصة من المطلق.

قوله ص ٣٤١ س ١٢ : لا ارشادا إلى مانعية : لعل الأوضح التعبير التالي : لا ارشادا إلى تقيد الحكم بعتق الرقبة بالايمان.

قوله ص ٣٤٢ س ٢ : بالاداة : التقييد بذلك للاحتراز عن المطلق فانّه قد يستفاد منه العموم أيضا ـ كما في قوله تعالى أحل الله البيع ـ ولكن بمقدمات الحكمة لا بالأداة.

قوله ص ٣٤٢ س ٨ : اكرما كل عالم : الصواب : اكرم كل عالم.

قوله ص ٣٤٣ س ١ : وعلى أي حال : أي سواء كان الخاص متكفلا لإثبات سنخ حكم العام في دائرة أخص أو مثبتا لنقيضه أو لضده فلا خلاف إلخ.

قوله ص ٣٤٣ س ٣ : ظهور تصديقي : أي ظهور استعمال العام في العموم.

قوله ص ٣٤٣ س ٧ : مباشرة : أي لا بما انّها موجبة لا قوائية الظهور.

قوله ص ٣٤٣ س ٨ : لمورده : أي لمورد الخاص.

قوله ص ٣٤٣ س ٩ : في الشمول له : أي لمورد الخاص.

قوله ص ٣٤٣ س ١٦ : من ظهور العام في العموم : المناسب : اقوى من ظهور العام في الشمول لمورد الخاص.


قوله ص ٣٤٣ س ١٦ : ولكن قد لا يكون الثاني كذلك : العبارة موهمة. والمقصود : انّ ظهور اكرم في الوجوب ليس اقوى من ظهور لا يجب في نفي الوجوب.

قوله ص ٣٤٤ س ٧ : ثم انّ المراد بالأخصية إلخ : هذا شروع في البحث عن كبرى انقلاب النسبة. وكان من المناسب الاشارة إلى ذلك تحت عنوان صغير.

وهذا البحث من الابحاث التي قد يتكرر حاجة الفقيه لها في مقام الاستنباط.

قوله ص ٣٤٤ س ٨ : بين مفادي الدليلين إلخ : لعل التعبير الأوضح : بين ظهوري الدليلين بما هما ظهوران.

قوله ص ٣٤٤ س ١٠ : من قبيل : والمثال الشرعي لذلك ما دلّ على انّ الله سبحانه خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، كما ورد ذلك في مرسلة حريز ، وما دلّ على عدم تنجس الماء ما دام كرا حتى ولو تغير ، من قبيل ما دلّ على انّ الماء إذا بلغ قدر كر فلا بنجسه شيء ، وهما متعارضان بنحو العموم من وجه ، ومادة المعارضة هي ماء الكر المتغير ، فالاوّل يثبت النجاسة والثاني ينفيها ، فلو كنا نحن وهذين الدليلين لكنّا نحكم بالطهارة على ماء الكر المتغير لأصالة الطهارة ، ولكن يوجد دليل ثالث أخص من الأوّل ، ويتمثل ذلك الدليل الثالث في مجموعة من روايات تدل على انّ الماء القليل ينجس بمجرد الملاقاة وان لم يتغير.

فبناء على قبول كبرى انقلاب النسبة يلزم تخصيص الدليل الأوّل بالثالث


وبذلك يخرج القليل من الدليل الأوّل ويبقى الكر تحته فقط ويصير مضمونه : خلق الله ماء الكر طهورا لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر ـ وهذا المضمون أخص مطلقا من الدليل الثاني لأنّ الأوّل يقول الكر بالخصوص لا ينجس إلاّ بالتغير والثاني يقول ماء الكر لا ينجس مطلقا. وبعد تخصيص الثاني بالأوّل تكون النتيجة انّ ماء الكر انّما لا ينجس فيما لو لاقته نجاسة ولم يتغير وينجس لو تغير ، وهذه عكس النتيجة السابقة التي نحصل عليها لو لم نلحظ انقلاب النسبة.

قوله ص ٣٤٤ س ١٥ : ظهوره التصديقي : أي ظهوره الاستعمالي.

قوله ص ٣٤٥ س ٤ : فهما متساويان : لعل الأوضح : فهما متباينان. والمراد بالتساوي هنا ليس التساوي بالمعنى المذكور في المنطق بل بمعنى انّه ليس احدهما أخص من الآخر. وبتعبير أصرح المقصود من التساوي هنا التباين.

قوله ص ٣٤٦ س ٢ : الداخلتين في مجال المعارضة : يمكن ابدال هذا التعبير بقوله : بمقدار الحجّية.

قوله ص ٣٤٦ س ٨ : في بعض مدلوله : وهو الفساق.

قوله ص ٣٤٦ س ٩ : للبعض الآخر : وهو العدول. والمقصود : انّ سقوط العام الأوّل في الفساق لا يجعله كأنّه وارد منذ البداية في خصوص الفقراء العدول.



أحكام عامة للجمع العرفي

قوله ص ٣٤٧ س ١ : للجمع العرفي بأقسامه إلخ : للجمع العرفي ثلاثة احكام يشترك فيها جميع اقسامه. وهي : ـ

١ ـ لا يمكن الجمع العرفي إلاّ عند تمامية شرطين : ـ

أ ـ ان يكون الدليلان كلامين أو ما بحكم الكلامين.

والمراد من ما بحكم الكلامين مثل ظهور الحال.

ثم انّ الوجه في هذا الشرط واضح ، فانّ مثل التقرير ليس له لسان ليفسر به التقرير الآخر ، وهذا بخلافه في الكلام وما بحكمه فانّ له لسانا يمكن تفسير الكلام الآخر به.

ب ـ ان يكون الدليلان صادرين من متكلم واحد أو من متكلمين تجمعهما جهة واحدة كالامامين الباقر والصادق 8 اللذين يمثلان الشرع الاسلامي الذي هو جهة واحدة.

والوجه في هذا الشرط واضح أيضا ، إذ المتكلم الواحد يعقل انّ يفسر بعض كلامه بعضه الاخر ، وامّا المتكلمان فلا معنى لأن يفسر كلام أحدهما كلام الآخر.

٢ ـ انّ مورد الجمع العرفي هو التعارض بين الظهورين فمتى ما كان ظاهران احدهما يعارض الآخر امكن الجمع العرفي بينهما بتعديل دلالة احدهما بما


يتناسب ودلالة الآخر ، امّا إذا لم يكن التعارض تعارضا بين الظهورين وانّما كان بين الصدورين فلا معنى للجمع العرفي ، كما إذا علمنا انّ احدى الروايتين لم تصدر من المعصوم 7 لبيان الحكم الواقعي واشتبهت الروايتان ولم يمكن تمييز الصادرة عن غير الصادرة فلا معنى للتوفيق بينهما بالجمع العرفي لما ذكرنا من اختصاصه بتعارض الدلالتين ولا معنى لتطبيقه عند تعارض الصدورين بل يلزم تطبيق أحكام باب التعارض عليهما بان يقدم المشهور أو الموافق للكتاب الكريم ونحو ذلك.

٣ ـ انّ الدليلين المتعارضين اللذين يمكن الجمع العرفي بينهما ـ كالعام والخاص ـ لا يخلوان من أحد حالات أربع : ـ

أ ـ ان يكون كل من العام والخاص (١) قطعي الصدور ، كما إذا كانا واردين في القرآن الكريم.

وفي مثل هذه الحالة لا تعارض بينهما من حيث الصدور لانّ المفروض انّ كلا منهما قطعي. وامّا من حيث الدلالة فلا تعارض بينهما أيضا فانّ شمول دليل حجّية الظهور للعام لا يعارض بشموله للخاص بل العرف بعد ما كان يأول ظهور العام لحساب الخاص ويجمع بينهما بالحمل على التخصيص فلازم ذلك انّ دليل حجّية الظهور يشمل ظهور الخاص فقط ولا يشمل ظهور العام فالخاص حجّة في ظهوره دون العام.

__________________

(١) ورد في عبارة الكتاب التعبير بالقرينة وذي القرينة. ونحن ابدلنا كلمة القرينة بالخاص وكلمة ذي القرينة بالعام. وانّما ذكرنا العام والخاص من باب المثال للدليلين الذين يمكن الجمع العرفي بينهما لا لخصوصية فيهما وإلاّ فيمكن ابدالهما بالمطلق والمقيد أو بالحاكم والمحكوم


ب ـ ان يكون كل من العام والخاص ظني السند ، كما إذا كان كل واحد منهما من قبيل اخبار الاحاد.

وفي هذه الحالة لا تعارض بينهما أيضا لا من حيث الدلالة ولا من حيث السند.

امّا عدم التعارض بينهما من حيث الدلالة فلما تقدم في الحالة السابقة من انّ دليل حجّية الظهور يشمل الخاص دون العام.

وامّا عدم التعارض بينهما من حيث السند فلأنّه بعد ما كان العرف يجمع بينهما بحمل العام على الخاص فلا يبقى مانع من شمول دليل حجّية الخبر لكليهما ويثبت بذلك صدورهما معا فانّ المعارضة بين السندين انّما تتحقق لو بقي العام على عمومه والخاص على خصوصه إذ شمول دليل الحجّية لكلا الخبرين غير ممكن حينئذ فلا يمكن التعبد بصدور العام بما هو عام والخاص بما هو خاص ، امّا بعد تعديلهما عرفا فلا محذور في شمول دليل حجّية السند ـ وهو مفهوم آية النبأ مثلا ـ لهما معا.

ج ـ ان يكون الخاص قطعي السند والعام ظني السند ، كما إذا كان الخاص واردا في القرآن الكريم والعام من قبيل الخبر الواحد.

وفي هذه الحالة لا تعارض بينهما أيضا لا من حيث الدلالة ولا من حيث السند.

امّا من حيث الدلالة فلنفس النكته المتقدمة.

وامّا من حيث السند فلأنّه بعد إجراء التعديل العرفي بينهما لا محذور في التعبد بصدور العام.


د ـ عكس الصورة السابقة بان يكون الخاص ظني السند والعام قطعي السند ، كما إذا كان الخاص من قبيل خبر الواحد والعام واردا في الكتاب الكريم.

وفي هذه الحالة قد يقال بانّ المقابل لظهور العام ليس هو فقط ظهور الخاص ليقال بانّ ظهور الخاص مقدم على ظهور العام للجمع العرفي وانّما المقابل لظهور العام أمران : ظهور الخاص وسند الخاص ، إذ المفروض انّ سند الخاص ظني فلإجل ان يتقدم الخاص على العام لا بدّ من ثبوت ظهوره وصدوره معا ولا يكفي ثبوت ظهوره دون صدوره ، فانّ الخاص إذا لم يثبت ظهورا أو لم يثبت صدورا كفى ذلك في تقدم العام عليه فتقدم العام يكفي فيه امّا عدم ثبوت الخاص من حيث الظهور أو عدم ثبوته من حيث الصدور.

وإذا اتضح أنّ تقدم الخاص على العام بحاجة إلى ثبوت الخاص ظهورا وصدورا فمعنى ذلك أنّ المعارض لظهور العام ليس هو ظهور الخاص فقط بل هو مجموع الأمرين من ظهور الخاص وسند الخاص ، ومن الواضح انّ التسليم بتقدم الخاص على ظهور العام لا يستلزم التسليم بتقدم مجموع الأمرين ـ ظهور الخاص المنضم إلى سند الخاص ـ على ظهور العام.

وان شئت قلت : انّا لا نريد ان نقول انّ شمول دليل حجّية الظهور للعام يعارضه شمول دليل حجّية الظهور للخاص حتى يقال بانّ العرف يقدم ظهور الخاص على ظهور العام ، بل المعارض لذلك هو دليل حجّية صدور الخاص فشمول دليل حجّية الظهور للعام معارض بشمول دليل حجّية الصدور للخاص (١) ومن هنا استشكل البعض في تخصيص العام الوارد في القرآن الكريم

__________________

(١) المراد من دليل حجّية الظهور هو السيرة العقلائية الجارية على التمسك بالظهور ، كما وان ـ


بالخاص الوارد في السنة الشريفة ، وما ذاك إلاّ لأن شمول دليل حجّية الظهور للعام الكتابي معارض بشمول دليل حجّية الصدور للخاص الخبري.

والخلاصة : انّه في هذه الحالة الرابعة قد يستشكل في تقدم الخاص على العام أي يستشكل في الجمع العرفي بينهما بالتخصيص. ووجه الإشكال هو المعارضة السابقة الآنفة الذكر.

ويرده : انا لا نسلم بالمعارضة السابقة ، فانّ حجّية ظهور العام مقيدة بعدم ثبوت صدور الخاص الصالح للتخصيص فإذا ثبت بدليل حجّية الصدور انّ الخاص صادر ارتفع بذلك موضوع حجّية العام ، لأنّ المفروض انّه مقيد بعدم صدور الخاص. وهذا معناه انّ دليل حجّية صدور الخاص حاكم على دليل حجّية ظهور العام ورافع لموضوعه وليس بينهما معارضة.

وانّما قلنا بالحكومة دون الورود من جهة انّ دليل حجّية صدور الخاص لا يثبت صدور الخاص حقيقة وانّما يثبته تعبدا فهو رافع لموضوع حجّية ظهور العام تعبدا لا حقيقة.

ومن خلال هذا يتضح انّ تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري لا إشكال فيه من هذه الناحية ، ولئن كان فيه إشكال فهو من ناحية اخرى ، وهي قصور أدلة حجّية الخبر عن الشمول للخبر المخالف للعموم الكتابي فالخبر المخالف للعموم الكتابي لا دليل على حجّيته حتى يمكن ان يكون مخصصا للعموم الكتابي ، فانّ أدلة حجّية الخبر لا تشمل الخبر المخالف للكتاب إذ هو زخرف

__________________

ـ المراد من دليل حجّية الصدور هو مثل مفهوم اية النبا


وباطل. ولكن سيأتي فيما بعد ان شاء الله (١) دفع هذه الشبهة.

قوله ص ٣٤٨ س ٦ : وبدليل حجّية السند : عطف تفسير على قوله بالتعبد.

قوله ص ٣٤٨ س ٦ : مثلا كما في أخبار الاحاد : الظاهر انّ الصواب : كما في اخبار الاحاد مثلا.

قوله ص ٣٤٩ س ٦ : بالذات : أي فقط.

__________________

(١) ص ٣٨٧ من الحلقة


نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب

قوله ص ٣٥١ س ١ : لا إشكال في انّ كل إلخ : حاصل هذا المبحث انّه لو قال المولى اكرم كل فقير وقال بعد ذلك لا تكرم الفقير الفاسق فإذا واجهنا فقيرا وجزمنا بفسقه فلا إشكال في دخوله في حكم الخاص وعدم وجوب اكرامه ، وإذا جزمنا بعدم فسقه فلا إشكال أيضا في دخوله في حكم العام ووجوب اكرامه. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وانّما الإشكال في صورة الشكّ والتردد في انّ الفقير الذي واجهناه هل هو فاسق (١) حتى لا يجب اكرامه أو ليس بفاسق حتى يجب اكرامه فما هو الموقف في مثل هذه الحالة؟ والجواب ان صورة الشكّ تنقسم إلى قسمين : ـ

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

١ ـ وفي القسم الأوّل يفرض انّ الشكّ في الفسق لم ينشأ من الشكّ في مفهوم الفسق وعدم تحدده بل يفرض انّ مفهوم الفاسق واضح وهو المرتكب لمعصية من المعاصي الكبيرة ، وانّما الشكّ في انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا؟

__________________

(١) بهذا يتضح المقصود من العنوان المذكور في عبارة السيد الشهيد « نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب » فالدليل المغلوب هو العام. والمقصود انّه بعد الجمع بالتخصيص وحمل العام على الخاص فهل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير مشكوك الفسق أو لا


فالشكّ انّما هو في المصداق وليس في المفهوم. وفي هذا القسم توجد اجابتان : ـ

أ ـ جواز التمسك بالعام بتقريب انّ العام دال على وجوب اكرام كل فقير بما في ذلك الفقير المشكوك ، وهو حجّة في ذلك ولا ترفع اليد عن حجّيته إلاّ بحجّة اقوى ، والحجّة الأقوى ليس هو إلا الخاص ، والخاص حيث لا يجوز التمسك به ـ لفرض عدم العلم بفسق المشكوك حتى يتمسك به لإثبات عدم وجوب اكرامه ـ فلا يكون حجّة في مقابل حجّية العام.

وباختصار بناء على هذا الرأي يكون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية أمرا جائزا.

ب ـ والرأي الثاني وهو المشهور يقول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. وهذا هو الصحيح.

والوجه في ذلك انّه لو اريد التمسك بالعام ـ اكرم كل فقير ـ لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك فسقه فالإحتمالات في ذلك ثلاثة : ـ

أ ـ ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك ان فرض انّه لم يكن فاسقا. وهذا الاحتمال وان كان صحيحا ولكنه غير نافع ، فانّ الوجوب في الاحتمال المذكور وجوب مشروط ، وحيث انّ الشرط لا يحرز تحققه فالوجوب الفعلي لا يحرز تحققه أيضا ، وواضح انّ الوجوب النافع هو الوجوب الفعلي دون الوجوب المشروط.

ب ـ ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك حتى على تقدير فسقه. وهذا الإحتمال باطل ، إذ مع وجود الحجّة الأقوى وهو الخاص الدال على عدم جواز اكرام الفاسق كيف يتمسك بالعام لأثبات وجوب اكرام


الفقير الفاسق.

ج ـ ان يتمسك بالعام لإثبات انّ الفقير المشكوك هو فقير غير فاسق وانّه يجب اكرامه بالفعل. وهذا الاحتمال هو المطلوب ، ولكن لا يمكن إثباته لأنّ أقصى ما يقوله الدليل العام وأي دليل آخر : انّ الفقير لو لم يكن فاسقا فاكرامه واجب ، امّا انّ هذا الشخص أو ذاك هو فاسق بالفعل أو لا فذاك لا يقوله ، فانّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه وانّما يقول لو كان موضوعي ثابتا فانا ثابت.

وبكلمة اخرى : انّ مفاد الدليل العام هو الجعل ـ أي الحكم المشروط وانّ الشخص لو كان فقيرا غير فاسق فيجب اكرامه ـ لا المجعول وانّ الشخص الفقير بالفعل هو غير فاسق وبالفعل يجب اكرامه (١).

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية

٢ ـ وهناك قسم ثان لصورة الشكّ وهي ان نفترض انّ الفقير المشكوك نعلم بعدم كونه فاعلا للكبيرة وانّما هو فاعل للصغيرة ولكن مع ذلك نشكّ في وجوب اكرامه من جهة الشكّ في مفهوم الفاسق الذي ورد في الخاص فلا يعلم انّه يختص بفاعل الكبيرة أو يعم مرتكب كل ذنب ولو كان صغيرا ، وهذا بخلافه في

__________________

(١) ويمكن بيان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بوجه آخر اخصر ، وهو انّه بعد ورود الخاص يصير مضمون العام هكذا : اكرم كل فقير غير الفاسق فنحصل بذلك على حجّتين : اكرم كل فقير غير الفاسق ولا تكرم الفقير الفاسق ، ومن الواضح انّ إدخال الفقير المشكوك تحت الحجّة الاولى وهي العام دون الثانية ترجيح بلا مرجح بل يلزم الرجوع إلى مقتضى الاصول العملية


القسم السابق فانّ مفهوم الفاسق كان معلوما لنا وهو عبارة عن فاعل الكبيرة مثلا بيد انا نشكّ انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا.

إذن الشكّ في صدق الفاسق تارة يكون بنحو الشبهة المصداقية واخرى بنحو الشبهة المفهومية.

والحديث السابق كله كان يدور حول التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، والآن يقع الكلام في جواز التمسك بالعام في الشبهة المفهومية فالفقير المشكوك الذي نجزم بانّه فاعل للصغيرة دون الكبيرة هل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرامه أو لا؟ والصحيح : نعم يجوز التمسك بالعام.

والوجه في ذلك : انّ العام يقول كل فقير بما في ذلك مرتكب الصغيرة أو مرتكب الكبيرة يجب اكرامه ، وهو حجّة في مفاده هذا ولا ترفع اليد عنه إلاّ بحجّة أقوى وهي الخاص ، وحيث انّ عنوان الفاسق الوارد في الخاص لا يجزم بانطباقه على مرتكب الصغيرة فلا يكون ـ أي الخاص ـ حجّة في مقابل العام وانّما يكون حجّة في خصوص مرتكب الكبيرة وترفع اليد عن العام في خصوص مرتكب الكبيرة.

ان قيل : ما الفارق بين هذا القسم والقسم السابق ، ولماذا لا نطبق البيان المذكور في القسم السابق على هذا القسم أيضا؟

قلت : انّه قبل ورود الخاص كان الدخيل في وجوب الاكرام هو الفقير لا غير ، وبعد ورود الخاص صار المدار في وجوب الاكرام على الفقر وعدم الفسق. وحينما نقول بدخالة عدم الفسق في وجوب الاكرام فليس المقصود دخالة لفظ عدم الفسق والتسمية باسمه ، فانّ من الواضح انّ الالفاظ لا مدخلية


لها في ذلك ، فلو تغير اسم عدم الفسق وصار يسمى باسم آخر فلا اشكال في عدم تغير الحكم. إذن الدخيل في وجوب الاكرام هو واقع عدم الفسق ، وحيث انّ القدر المتيقن في المراد من الفسق واقعا هو فاعل الكبيرة فقط فيكون الخاص حجّة بالنسبة إلى فاعل الكبيرة فقط ، وامّا فاعل الصغيرة فيبقى تحت العام بلا حجّة معارضة. وهذا كلّه بخلافه في القسم السابق ـ أي الشبهة المصداقية ـ فإنّ أمر الخاص لم يدر بين الأقل والأكثر حتى يقال بانّ القدر المتيقن هو الأقل والخاص حجّة في الأقل فقط بل علمنا بانّ العام حجّة في غير فاعل الكبيرة والخاص حجّة في فاعل الكبيرة ، وحيث انّ المشكوك لا يعلم بانّه فاعل للكبيرة أو لا فإدخاله تحت الحجّة الاولى دون الثانية بلا مرجح.

قوله ص ٣٥١ س ١ : من الافراد التي كانت داخلة في نطاق ذي القرينة : أي من الأفراد التي يصدق عليها عنوان الفقير الذي هو العنوان المأخوذ في العام.

قوله ص ٣٥١ س ٥ : من تلك الافراد : أي التي يصدق عليها عنوان الفقير والداخلة تحت ذي القرينة.

قوله ص ٣٥١ س ٦ : فهو على اقسام : الصواب فهو على قسمين.

قوله ص ٣٥١ س ٧ : الشكّ في الشمول : أي شمول الفاسق المأخوذ في القرينة.

قوله ص ٣٥٣ س ٢ : على حكمه : أي على حكم مرتكب الكبيرة وانّه يجب اكرامه.



تطبيقات للجمع العرفي

قوله ص ٣٥٥ س ١ : هناك حالات ادعي إلخ : عرفنا فيما سبق انّه متى ما أمكن الجمع العرفي بين الدليلين وجب ذلك. وقد وقع الكلام في بعض الموارد في انّ العرف كيف يجمع بين الدليلين. وفيما يلي نذكر شطرا من تلك الموارد.

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء

١ ـ هناك بحث حاصله انّه لو كان لدينا جملتان شرطيتان لهما شرط متعدد وجزاء واحد كما لو قيل ان خفي الأذان فقصر ، وقيل أيضا ان خفيت الجدران فقصر (١) ـ فحيث انّه أحيانا يتحقق شرط الجملة الاولى دون الجملة الثانية أي يتحقق خفاء الاذان بدون خفاء الجدران فيحصل التعارض في مثل الحالات المذكورة ، فانّ مقتضى منطوق الجملة الاولى انّ خفاء الاذان ما دام قد تحقق كفى ذلك في وجوب التقصير وان لم تخف الجدران بينما مفهوم الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران إذا لم يتحقق فلا يجب التقصير حتى وان خفي الاذان.

__________________

(١) التعبير المذكور لا يوجد في الروايات وانما الموجود في صحيحة محمد بن مسلم « قلت لأبي عبد الله 7 : الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال : اذا توارى من البيوت » الوسائل : باب ٦ من صلاة المسافر حديث ١. وفي صحيحه ابن سنان : « اذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الاذان فقصر » المصدر السابق حديث ٣.


إذن التعارض يتحقق بين منطوق كل جملة وإطلاق مفهوم الجملة الثانية. أمّا بين نفس المنطوقين فلا تعارض ، إذ منطوق الاولى يدل على انّ خفاء الاذان موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الجدران للتقصير ، وهكذا منطوق الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الاذان للتقصير.

وما دام التعارض متحققا بين منطوق كل واحدة ومفهوم الاخرى فما هو الوجه في حلّ التعارض المذكور؟

قد يقال بانّ المنطوق مقدم على المفهوم فيؤخذ بمنطوق كلتا الجملتين ويهجر مفهومهما ، ونتيجة الأخذ بالمنطوقين انّ للتقصير احدى علتين : خفاء الاذان ، خفاء الجدران ، فمتى ما تحقق واحد منهما وجب التقصير.

امّا لماذا يقدم منطوق كل واحدة على مفهوم الاخرى؟ انّ ذلك لاحدى نكتتين : ـ

أ ـ انّ المنطوق حيث انّه اقوى وأظهر من المفهوم فيقدم عليه.

ب ـ انّ منطوق كل واحدة حيث انّه أخص من المفهوم فيقدم عليه من باب الأخصية.

والوجه في أخصية المنطوق : انّ اطلاق مفهوم الجملة الثانية مثلا يقول انّ الجدران إذا لم تخف فلا يجب التقصير ، وهذا مطلق يشمل صورة خفاء الاذان وعدمه بينما منطوق الجملة الاولى يقول إذا خفي الاذان فقصر ، وحيث انّ هذا أخص فيقدم بالاخصية.

وكلتا النكتتين قابلة للتأمل.


امّا الاولى فلأنّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تنشأ من دلالة المنطوق على خصوصية العليّة الانحصارية (١) التي تستلزم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فلو لا دلالة المنطوق على الخصوصية المذكورة لم تحصل الدلالة على المفهوم. وما دامت الدلالة على المفهوم ناشئة من دلالة المنطوق على الخصوصية فيمكننا ان نقول على ضوء ذلك انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين المنطوقين ـ فدلالة الجملة الاولى على انّ خفاء الاذان علّة منحصرة للتقصير يتعارض ودلالة الجملة الثانية على انّ خفاء الجدران هو العلة المنحصرة ـ وليس بين منطوق واحدة ومفهوم الاخرى ليقال انّ المنطوق أظهر من المفهوم فيقدم عليه.

امّا الثانية فلانّ التعارض في الحقيقة ليس هو بين ذات المنطوق وإطلاق المفهوم ليقال انّ ذات المنطوق أخص مطلقا من إطلاق المفهوم فيقدم عليه بالأخصية وانّما هو بين إطلاق المنطوق لإحدى الجملتين وإطلاق مفهوم الاخرى ، والنسبة بين الاطلاقين حيث انّها العموم من وجه فلا وجه لتقدم المنطوق بل لا بدّ من التساقط والرجوع إلى الاصول العملية.

والوجه في كون التعارض تعارضا بين إطلاق منطوق واحدة وإطلاق مفهوم الاخرى هو انّ إطلاق منطوق كل جملة شرطية يقتضي ان الشرط علّة

__________________

(١) هذا على رأي المشهور فإنّه يرى انّ الدلالة على المفهوم تنشأ من دلالة الجملة على انّ الشرط علة منحصرة للجزاء بينما السيد الشهيد يرى انّ خصوصية التوقف تكفي أيضا للدلالة على المفهوم فاحدى الخصوصيتين تكفي للدلالة على المفهوم فامّا ان يثبت انّ الجملة الشرطية مثلا موضوعة للتوقف ، أي توقف الجزاء على الشرط أو يثبت أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.


تامّة وليس جزء العلّة ، فإطلاق منطوق إذا خفي الاذان فقصر هو انّه متى ما خفي الاذان وجب التقصير سواء انضم إليه خفاء الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة تامّة للتقصير وليس جزء العلة والجزء الثاني خفاء الجدران. وهكذا إطلاق منطوق إذا خفيت الجدران فقصر يقتضي انّ خفاء الجدران علّة تامّه لوجوب التقصير وليس جزء العلّة.

إذن إطلاق المنطوقين يقتضي انّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة وليس علّة ناقصة. وهذا الإطلاق يقابله التقييد بالواو فانّ خفاء الاذان لو كان جزء العلّة فلازمه انّ الموجب للتقصير خفاء الاذان وخفاء الجدران. هذا بالنسبة إلى إطلاق المنطوقين.

وامّا بالنسبة إلى إطلاق المفهومين فهو يقتضي انّ العلّة منحصرة وواحدة وليس هناك علتان للتقصير ، فانّ مفهوم الجملة الاولى يدل بإطلاقه انّه إذا لم يخف الاذان فلا يجب التقصير سواء خفيت الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة منحصرة وواحدة وليس خفاء الجدران علّة ثانية ، وهكذا إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقتضي انّه إذا لم تخف الجدران فلا يجب التقصير سواء خفي الاذان أم لا. وهذا الاطلاق للمفهوم يقابله التقييد بـ « أو ».

وبالجملة انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين إطلاق منطوق الشرطيتين وإطلاق المفهوم لهما ، فانّه لو أخذنا بإطلاق منطوق الاولى منضما إلى إطلاق منطوق الثانية فالنتيجة هي انّ كل شرط علّة تامّة فلوجوب التقصير علتان : خفاء الاذان وخفاء الجدران ، بينما لو أخذنا بإطلاق المفهومين كانت النتيجة انّ وجوب التقصير له علّة واحدة لا علتان ، والأخذ بكلا الاطلاقين غير ممكن


فامّا ان يؤخذ بإطلاق المنطوقين والقول بانّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المفهومين ، أو ان يؤخذ بإطلاق المفهومين والقول بانّ العلّة للتقصير واحدة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المنطوقين.

وعليه فالمعارضة في الحقيقة هي بين إطلاق المنطوقين وإطلاق المفهومين. والنسبة بينهما هي العموم من وجه.

ومادة المعارضة بينهما هي ما إذا تحقق أحد الشرطين بدون الشرط الثاني فإذا تحقق خفاء الاذان وحده يحصل التعارض بينهما لأنّ إطلاق منطوق الاولى يقول التقصير واجب بينما إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقول هو ليس بواجب ، وهكذا إذا تحقق شرط الجملة الثانية وحده فانّه يتحقق التعارض ، فإذا تحقق خفاء الجدران وحده فإطلاق منطوق الجملة الثانية يقول يجب التقصير بينما إطلاق مفهوم الجملة الاولى يقول لا يجب التقصير ، فللتعارض إذن مادتان ، الاولى حالة تحقق الشرط الأوّل وحده ، والثانية حالة تحقق الشرط الثاني وحده.

وامّا مادة عدم التعارض فهي ما إذا تحقق كلا الشرطين ، فانّ منطوق كل واحدة من الجملتين يقول يجب التقصير ، ومفهوم كل واحدة لا يأبى ذلك (١).

ومن كل هذا نخرج بهذه النتيجة وهي انّ الجمع العرفي متعذر في المقام ، فانّ الجمع العرفي موقوف على أخصية المنطوق أو أظهريته ، وقد اتضح بطلان الأخصية وبطلان الأظهرية.

__________________

(١) لا يخفى انّ التعارض بنحو العموم من وجه هنا يختلف عنه في سائر الموارد ، ففي سائر الموارد مادة التعارض واحدة ومادة عدم التعارض متعددة ، وامّا هنا فمادة التعارض متعددة بينما مادة عدم التعارض واحدة. وهذا يمكن عدّه من الالغاز العلمية.



أصالة التداخل في الاسباب أو في المسببات

٢ ـ والمورد الثاني الذي وقع الكلام في توفر الجمع العرفي فيه وعدمه هو ما لو كان لدينا شرطان نعلم بكون كل واحد منهما شرطا مستقلا تامّا ، كما إذا قيل إذا افطرت فاعتق وقيل أيضا إذا ظاهرت فاعتق ، فانّ الافطار وحده علّة تامّة لوجوب العتق ، والظهار وحدة علّة تامّة أيضا لوجوب العتق. فلو فرض انّ انسانا أفطر وظاهر فسوف نواجه السؤالين التاليين : ـ

أ ـ هل بحدوث السببين يحدث مسببان ، أي وجوبان أو يحدث وجوب واحد لا أكثر؟ فان قلنا بحدوث وجوبين فهذا معناه انّ السببين لا يتداخلان ولا يصيران سببا واحدا بل يبقى كل منهما سببا مستقلا مغايرا للسبب الآخر. وهذا ما يصطلح عليه بعدم تداخل الاسباب. وامّا لو قيل بانّ الوجوب الحادث واحد فمعنى ذلك تداخل السببين وصيرورتهما سببا واحدا.

والصحيح في الجواب : انّ السببين لا يتداخلان بحيث يحدث وجوب واحد.

والوجه في ذلك : انّ ظاهر كل جملة شرطية انّه بحدوث الشرط يحدث الجزاء ، فبحدوث شرط الجملة الاولى يحدث وجوب وبحدوث شرط الجملة الثانية يحدث وجوب آخر. واستنادا إلى الظهور المذكور قيل بانّ الأصل في الاسباب عدم التداخل.

ب ـ إذا بنينا على انّ السببين لا يتداخلان ، أي يحدث وجوبان فنواجه


سؤالا آخر ، وهو ان امتثال الوجوبين هل يتحقق بامتثال واحد أو انّ لكل وجوب امتثالا خاصا به؟ فان قلنا بلزوم امتثالين فهذا معناه عدم تداخل المسببين في مقام الامتثال بينما لو قلنا بكفاية امتثال وتحرك واحد فهذا معناه تداخل المسببين في مقام الامتثال.

والجواب عن السؤال المذكور هو عدم التداخل بين المسببين في مقام الامتثال.

والوجه في ذلك : ان كل وجوب يقتضي امتثالا وتحركا خاصا به فالوجوب الحادث عند الافطار يقتضي امتثالا خاصا به وهكذا الوجوب الحادث عند الظهار يقتضي امتثالا خاصا به. ولإجل هذه النكتة قيل انّ الأصل في المسببات عدم تداخلها في مقام الامتثال.

إشكال وجواب

وقد يشكل على الحكم بتعدد الوجوبين وتعدد امتثالهما بالاشكال التالي : انّ الوجوبين إذا كانا متعددين فالمتعلق لهما امّا ان يكون شيئا واحدا ـ وهو طبيعي العتق ـ أو يكون شيئا متعددا ، بان يكون الوجوب الاوّل متعلقا بفرد من العتق والوجوب الثاني متعلقا بفرد ثان من طبيعي العتق.

فان كان متعلق الوجوبين شيئا واحدا ، وهو طبيعي العتق فمن اللازم الاكتفاء بامتثال وعتق واحد ، حيث انّ الطبيعي يتحقق بفرد واحد ولا يتوقف على ايجاد فردين والحال انّه حكمنا فيما سبق بعدم الاكتفاء بامتثال واحد بل لا بد من امتثالين.


وان كان المتعلق للوجوبين متعددا ـ بان كان متعلق الوجوب الثاني فردا ثانيا ـ فهذا الإحتمال وان كان لازمه عدم الاكتفاء بامتثال واحد ، وهو جيد من هذه الناحية إلاّ انّه باطل من حيث مخالفته لظاهر الاطلاق ، فانّ العتق في كلتا الجملتين مطلق ولم يقيد بالمرة الثانية فلم يقل إذا ظاهرت فاعتق مرة ثانية وانّما ذكر من دون التقييد المذكور ، وهذا لازمه انّ المتعلق واحد وهو طبيعي العتق وليس متعددا.

هذا حصيلة الإشكال. وقبل الجواب عنه نشير إلى مطلب حاصله : انّه وقع كلام في انّ الوجوبين مثلا هل يمكن تعلقهما بشيء واحد كطبيعي الغسل مثلا؟

قد يقال بعدم إمكان ذلك لأن لازم وحدة المتعلق اجتماع المثلين في شيء واحد وهو مستحيل. وقد يقال بإمكان ذلك ، باعتبار انّ الوجوب أمر اعتباري ، ولا محذور في اجتماع الاعتبارين في شيء واحد.

وبعد الالتفات إلى المطلب المذكور نرجع إلى الاشكال لنجيب عنه بما يلي :

إذا قلنا بإمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبامكاننا اختيار الشق الأوّل من الشقين المذكورين في الاشكال بان يقال انّ متعلق الوجوبين في الجملتين الشرطيتين شيء واحد وهو طبيعي العتق. وما ذكر من محذور لزوم الاكتفاء بعتق واحد مدفوع بانّ الوجوب ما دام متعددا فالتحرك يكون متعددا أيضا فانّ الوجوب الأوّل يقتضي تحركا خاصا إلى طبيعي العتق والوجوب الثاني يقتضي تحركا ثانيا نحو الطبيعي فلأجل اقتضاء كل وجوب تحركا خاصا به نحو الطبيعي


يلزم ايجاد الطبيعي مرتين.

وأمّا إذا قلنا بعدم إمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبإمكاننا اختيار الشق الثاني من الشقين السابقين ، بانّ يقال بتعلق الوجوب الثان بفرد ثاني من العتق. ودعوى ان التقييد بالفرد الثاني لا يمكن الالتزام به لمخالفته لظاهر الاطلاق مدفوعة بانّ القرينة على التقييد بالفرد الثاني موجودة ، وهي تعدد الوجوب ، فانّ تعدد الوجوب بعد افتراض عدم إمكان تعلقهما بشيء واحد بنفسه قرينة على تقييد الوجوب الثاني بفرد ثان من العتق. وهذا نحو جمع عرفي بين الوجوبين ، فانّ الوجوبين بعد عدم إمكان اجتماعهما في شيء واحد فالعرف يجمع بينهما بتقييد متعلق الوجوب الثاني بفرد ثان.

ومن خلال كل هذا اتضح انّ القسم المذكور من مصاديق الجمع العرفي بخلاف الأوّل ـ أي إذا خفي الاذان فقصر وإذا خفيت الجدران فقصر ـ فانّه ليس من مصاديق الجمع العرفي.


تعارض الأحكام الأولية والثانوية

٣ ـ لا إشكال في انّ شرب الماء مثلا مباح كما ولا إشكال في انّ المكلّف لو نذر شربه صار واجبا.

وقد يقال انّ الحكم بالاباحة الذي هو حكم أولي يتعارض مع الحكم بوجوب الشرب الثابت بالنذر الذي هو حكم ثانوي ، فانّ الشيء الواحد لا يمكن ان يكون مباحا وواجبا.

وقد يقال بإمكان الجمع العرفي بين الحكمين المتعارضين المذكورين ، وذلك بان يقال انّ الحكم بالاباحة ثابت للماء بعنوان انّه ماء ومؤداه انّ عنوان الماء لا اقتضاء فيه لا للوجوب ولا للحرمة ، ولإجل عدم اقتضائه لا لهذا ولا لذاك كان مباحا ، بينما الحكم بالوجوب ثابت للماء بعنوان ثان وهو عنوان المنذور فلأجل انطباق عنوان المنذور على الماء صار شربه واجبا. ومؤدى الحكم بالوجوب انّ الماء إذا انطبق عليه عنوان المنذور اقتضى لزوم الفعل ، وبناء على هذا البيان ترتفع المنافاة بين الحكم بالاباحة والحكم بالوجوب فلا محذور في ان يكون الشيء الواحد بعنوانه الاولي مباحا ولا يقتضي الوجوب ولا الحرمة بينما بعنوانه الثاني يقتضي الوجوب.

ويمكن التعليق على ذلك : بانّ البيان المذكور لرفع التعارض والمنافاة وان كان جيدا إلاّ انّه يزيل التنافي بشكل كامل ومن الاساس بحيث لا يبقى للجمع


العرفي مجال ، فانّ الجمع العرفي فرع تحقق المعارضة بشكل ضعيف وغير مستقر ، والبيان المذكور يزيل المعارضة حتى بشكلها الضعيف غير المستقر فلا تبقى أرضية للجمع العرفي.


تعارض الشمولية والبدلية

٤ ـ إذا واجهنا دليلين أحدهما يقتضي الشمولية وثانيهما يقتضي البدلية وكانا متعارضين بنحو العموم من وجه فما هو الموقف اتجاه ذلك؟ كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فالدليل الأوّل يقتضي وجوب اكرام فقير واحد على سبيل البدل بينما الدليل الثاني لا يقتضي حرمة اكرام فاسق واحد على سبيل البدل بل يقتضي حرمة اكرام كل فاسق بنحو الشمول.

والنسبة بين الفقير والفاسق نسبة العموم من وجه. ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها ما لو كان شخص واحد فقيرا وفاسقا ، فان مقتضى الأوّل وجوب اكرامه بينما مقتضى الثاني حرمة اكرامه.

والجواب : انّه تارة يفرض انّ احد الدليلين يستند في دلالته إلى الوضع والدليل الثاني يستند إلى مقدمات الحكمة ، واخرى يفرض انّ كليهما يستند إلى الوضع أو كليهما يستند إلى مقدمات الحكمة.

فعلى الأوّل يقدم ما كانت دلالته مستندة إلى الوضع.

ومثال ذلك : ما سبق ، أي اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فان دلالة الأولّ على البدلية تستند إلى مقدمات الحكمة بينما دلالة الثاني على الشمولية تستند إلى كلمة « كل » التي هي موضوعة للعموم. وفي هذا المثال يقدم الدليل الثاني الذي يقول لا تكرم كل فاسق بدون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل الأوّل أو منفصلا عنه.


امّا الوجه في تقدمه في صورة الاتصال فواضح ، إذ مع الاتصال لا ينعقد للمطلق ـ وهو كلمة فقير في « اكرم فقيرا » ـ ظهور في الاطلاق أصلا ، لأنّ شرط انعقاد الاطلاق عدم القرينة المتصلة على التقييد ، وواضح انّ دليل لا تكرم كل فاسق الذي فرض اتصاله بالأوّل صالح لان يكون قرينة متصلة على التقييد.

وأمّا الوجه في تقدمه في صورة الانفصال فلانّ المطلق وان انعقد ظهوره في الاطلاق ـ لفرض انّ القرينة منفصلة والقرينة المنفصلة لا تمنع من انعقاد الاطلاق ـ إلاّ انّ الدليل الثاني الذي فرض دلالته بالوضع يقدم على الدليل الأوّل من جهة اقوائية ظهوره بالقياس الى ظهور المطلق فان الظهور الناشيء من الوضع اقوى من الظهور الناشيء من الاطلاق ، والعرف يجمع بين الدليلين المختلفين في درجة الظهور بتقديم الأقوى ظهورا.

هذا كله لو كانت دلالة أحد الدليلين تستند إلى الوضع ودلالة الآخر تستند إلى مقدمات الحكمة.

امّا لو كان كلا الدليلين يستند إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة ـ كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق بناء على انّ كلمة الفاسق التي هي اسم جنس محلى بالالف واللام لم توضع للعموم وانّما يستفاد العموم منها بواسطة مقدمات الحكمة ـ فما هو المقدم؟

قيل بانّ الدليلين متكافئان ويتساقطان في مادة المعارضة وهي الفقير الفاسق ويرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية.

وقيل بانّ الدليل الشمولي ـ أي دليل لا تكرم الفاسق ـ هو المقدم. ويمكن انّ تذكر ثلاثة وجوه في نكتة تقدمه : ـ


أ ـ ان يقال بانّ الدليل الشمولي يقدم من باب اقوائية ظهوره.

والوجه في ذلك : انّ الدليل الشمولي يدل على مطلب واحد بينما الدليل البدلي يدل على مطلبين ، فمثلا دليل لا تكرم الفاسق الذي هو شمولي يدل على مطلب واحد وهو تعدد الحكم بحرمة الاكرام بعدد افراد الفاسق فلكل فرد من أفراد الفاسق حكم بالحرمة ، بينما دليل اكرم فقيرا الذي هو بدلي يدل على مطلبين فهو يدل على ثبوت حكم واحد بوجوب الاكرام ويدل أيضا على انّ الحكم الواحد المذكور وسيع يمكن تطبيقه على أي فقير.

وباتضاح هذا نقول : انّ اهتمام الإنسان ببيان أصل الحكم أقوى من اهتمامه ببيان سعته.

وبكلمة ثانية احتمال خطا الإنسان في بيان أصل الحكم أضعف من احتمال خطاه في بيان سعته ، واحتمال انّه لا يريد أصل الحكم أضعف من احتمال عدم ارادته لسعته. وإذا قبلنا هذا المطلب نقول انّ الدليل الشمولي هو المقدم ، إذ غاية ما يلزم من تقدمه الحكم بانّ المتكلّم لا يريد السعة الثابتة في الدليل البدلي بينما لو قدمنا الدليل البدلي فلازم ذلك الحكم بانّ المتكلم لا يريد أصل الحكم بحرمة الاكرام بالنسبة إلى بعض أفراد الفاسق ، أي الفقير الفاسق. وحيث انّ احتمال عدم ارادة أصل الحكم أضعف من احتمال عدم إرادة السعة فلا بدّ من تقديم الدليل الشمولي لأنّ المحذور اللازم من تقدمه ـ وهو عدم إرادة السعة ـ اخف وأهون.

ب ـ وهذا الوجه يتوقف على مقدمة حاصلها انّه تقدم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٣٠٩ كلام حاصله : انّ التكليف هل يمكن تعلقه بالجامع بين


المقدور وغير المقدور أو يختص بالحصة المقدورة؟ فهل يمكن ان يقول المولى لعبده يجب عليك أحد الامرين : الجلوس في البيت أو الطيران إلى السماء؟

اختار الشيخ النائيني عدم إمكان تعلق التكليف بالجامع واختصاصه بالحصة المقدورة وهي الجلوس في البيت.

وفي مقابل ذلك اختار المحقق الكركي والسيد الخوئي والسيد الشهيد إمكان تعلق التكليف بالجامع ، حيث انّ متعلق التكليف وان كان من اللازم ان يكون مقدورا إلاّ انّ بعض أفراد الجامع ما دام مقدورا فنفس الجامع يصير مقدورا ويمكن توجه التكليف إليه ومن الوجيه ان يقول المولى لعبده يجب عليك امّا الجلوس في البيت أو الطيران الى السماء.

وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ خطاب اكرم فقيرا يطلب الجامع ، أي احدى الحصتين من اكرام الفقير العادل واكرام الفقير الفاسق ولكن بعد الالتفات إلى الخطاب الشمولي الذي يقول لا تكرم الفاسق المنحل إلى تحريمات بعدد افراد الفاسق يصير اكرام الفقير الفاسق غير مقدور شرعا لثبوت التحريم له بواسطة خطاب لا تكرم الفاسق ، ومع زوال القدرة الشرعية عنه فلا يمكن ان يشمله خطاب اكرم فقيرا لانّه تكليف ، والتكليف يختص بالحصة المقدورة ـ وهي اكرام الفقير العادل ـ على رأي الشيخ النائيني.

وقد تقول : انّ هذا يتم لو لا حظنا أولا دليل لا تكرم الفاسق ولكن لم لا نلحظ أوّلا خطاب اكرم فقيرا.

وجوابه : انّ خطاب لا تكرم الفاسق وارد على خطاب اكرم فقيرا ، أي رافع لموضوعه حقيقة ، فانّ موضوع خطاب اكرم فقيرا هو الافراد المقدورة ، وخطاب لا تكرم الفاسق يرفع الموضوع المذكور رفعا حقيقيا ويجعل اكرام الفقير


الفاسق غير مقدور شرعا. ومن الواضح انّ الخطاب الوارد هو المقدم على الخطاب المورود ولا معنى لان يقال لم نلحظ الدليل الوارد أولا ليتقدم على الدليل المورود. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويرده : ان هذا الوجه مبني على مسلك الشيخ النائيني القائل باختصاص التكليف بالحصة المقدرة وعدم إمكان توجهه إلى الجامع بين المقدور وغير المقدور ، امّا بناء على ما هو الصحيح من إمكان توجه التكليف إلى الجامع فاكرام الفقير وان صار غير مقدور شرعا بسبب الدليل الشمولي إلاّ انّ ذلك لا يمنع من بقاء خطاب اكرم فقيرا متوجها إلى الجامع فتجب احدى الحصتين امّا اكرام الفقير العادل الذي هو مقدور شرعا وعقلا أو اكرام الفقير الفاسق الذي هو غير مقدور شرعا.

ج ـ ان خطاب اكرم فقيرا يقتضي ترخيصات متعددة بعدد افراد الفقير فهو يرخص المكلّف في تطبيق الاكرام على هذا الفقير وعلى ذاك الفقير و ... وخطاب لا تكرم الفاسق يتنافى مع واحد من هذه الترخيصات فهو يرفض الترخيص في تطبيق اكرام الفقير على الفقير الفاسق ، وبقطع النظر عن هذه الترخيصات فلا منافاة بين ذات مضمون خطاب اكرم فقيرا ومضمون لا تكرم الفاسق إذ لا منافاة بين ان يقال « اكرام فقير ما من الفقراء واجب » وبين ان يقال « اكرام الفاسق محرم ». إذن المنافاة تحصل بسبب الترخيصات المتعددة وبقطع النظر عنها لا منافاة.

وإذا كانت المنافاة ثابتة بين الترخيص المستفاد من خطاب اكرم فقيرا والالزام المستفاد من خطاب لا تكرم الفاسق نطبق ما قرآناه في رقم (٣) (١) من انّه متى ما اجتمع دليلان احدهما ترخيصي والآخر إلزامي قدّم الالزامي ، وهنا

__________________

(١) تحت عنوان « تعارض الاحكام الأولية والثانوية ».


يقدم الالزامي أيضا وهو خطاب لا تكرم الفاسق.

ويرده : انّ المنافاة ثابتة بقطع النظر عن الترخيصات ، فانّ مضمون كل واحد من الخطابين يتنافى ومضمون الخطاب الآخر فمضمون خطاب اكرم فقيرا ثبوت الوجوب لاكرام الفقير بلا مدخلية قيد العدالة وهو يتنافى وثبوت الحرمة لاكرام الفاسق حتى لو كان فقيرا فثبوت كل واحد من الحكمين بنحو مطلق غير ممكن فانّ وجوب اكرام فقير ما الذي هو مطلق وغير مقيد بالعدالة يتنافى وحرمة اكرام الفاسق الذي هو مطلق وغير مقيد بان لا يكون فقيرا.

اللهم إلاّ ان يقال انّ خطاب اكرم فقيرا يقول انّه من ناحيتي لا موجب لأن تتقيد ايها المكلّف بحصة دون اخرى فلا موجب لان تتقيد من ناحيتي باكرام خصوص الفقير العادل ، ومن الواضح انّ هذا لا يتنافى ولزوم التقيد بإكرام خصوص الفقير العادل من ناحية اخرى ، أي من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق ، ويكون ذلك اشبه بخطاب « شرب الماء مباح » وخطاب « يجب الوفاء بالنذر » فكما انّه لا منافاة بين الخطابين المذكورين من ناحية انّ الأوّل يثبت الإباحة لعنوان الماء بما هو ماء والثاني يثبت الوجوب له بعنوان النذر كذلك لا منافاة بين خطابي اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق لما ذكر من النكتة (١).

__________________

(١) هذا ويمكن الاشكال على ما ذكر بانّ لازمه ارتفاع المعارضة بين العام والخاص وهكذا بين العامين من وجه بل وبين المتباينين تباينا كليا أيضا فيلزم عدم معارضة خطاب اكرم العلماء لخطاب لا تكرم الفساق لانّ الخطاب الأوّل يقول انّه من ناحيتي لا موجب للتقيد باكرام العالم العادل وهذا لا يتنافى ولزوم التقيد باكرام العالم العادل من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق. بل وهكذا يلزم ارتفاع المنافاة بين خطاب صل وخطاب لا تصل لأنّ الأوّل يقول انّه من ناحيتي تكون الصلاة واجبة وهذا لا يتنافى وان تكون محرمة من ناحية الخطاب الثاني.


تقدم الامارة على الأصل

٥ ـ لا اشكال في انّه متى ما اجتمعت الامارة مع الأصل قدمت الامارة التي هي دليل اجتهادي على الأصل الذي هو دليل فقاهتي. وهذا مما لا خلاف فيه بين الاصوليين ، وانّما الخلاف في النكتة الفنية والصناعية لتقدم الامارة على الأصل.

وقبل ان نبين ذلك نشير إلى انّه تقدم ص ٣٢٦ من الحلقة انّ التعارض المصطلح لا يطلق على الامارة المنافية للأصل لأنّ التعارض المصطلح يراد به التنافي بين الدليلين باعتبار كشفهما عن جعلين متنافيين ، وواضح انّ الأصل ليس دليلا كاشفا عن الجعل بل هو بنفسه جعل وحكم شرعي فكما انّ حرمة شرب الخمر حكم شرعي كذلك حرمة نقض الحالة السابقة حكم شرعي ، وعليه فالمعارضة المصطلحة تتحقق بين دليل الامارة ودليل الأصل لأنّ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الآخر.

وبعد اتضاح هذا نعود إلى بيان نكتة تقدم الامارة على الأصل. انّ النكتة يمكن ان تبين باحد الوجوه التالية : ـ

الورود

أ ـ انّ دليل الامارة وارد على دليل الاصل ، أي رافع لموضوع الأصل رفعا


حقيقيا ، لانّ موضوع أصل البراءة مثلا هو عدم العلم لقوله 7 رفع عن امتي ما لا يعلمون. والمراد من العلم ليس هو العلم الوجداني بمعنى الانكشاف التام بدرجة ١٠٠% بل المراد به المرآتية للحجّة فكأنّه قيل الحكم مرفوع عند عدم الحجّة ، ومن الواضح انه بدليل حجّية الامارة تصير الامارة حجّة حقيقة ويرتفع بذلك موضوع الأصل ارتفاعا حقيقة.

ويرده : انّ تفسير كلمة العلم الواردة في دليل الأصل بالحجّة دون الانكشاف التام خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلاّ بقرينة ، وهي مفقودة.

الحكومة

ب ـ انّ دليل الامارة حاكم على دليل الأصل لانا نسلم انّ المراد من العلم المأخوذ في موضوع دليل الأصل ليس هو العلم بما هو مرآت إلى الحجّة بل المراد به العلم الوجداني بما هو كاشف تام بيد انا نقول بناء على مسلك جعل العلمية يصير دليل حجّية الامارة دالا على انّ الامارة بمثابة العلم واليقين الموضوعي الماخوذ في موضوع دليل الأصل ، وبصيرورة الامارة علما وقيامها في مورد على حكم معين يصير الحكم معلوما تعبدا ويرتفع موضوع الأصل تعبدا.

ان قيل : انّ الحكومة لو تمت فهي تتم بالنسبة إلى أصل البراءة مثلا ولا تتم بالنسبة إلى الاستصحاب بناء على رأي السيد الخوئي ، فقد تقدم ص ١٧ من الحلقة انّه يرى انّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية فالشارع يجعل المكلّف حالة الشكّ عالما ببقاء الحالة السابقة ، وبناء عليه يكون المجعول في كل من الامارة والاستصحاب هو العلمية ومعه فلا وجه لحكومة الامارة على الأصل ،


إذ كما انّ الامارة توجب العلم كذلك الاستصحاب يوجب العلم.

وأجاب : السيد الخوئي ( دام ظله ) عن الاشكال المذكور بانّ الامارة والاستصحاب وان كانا يشتركان في كون المجعول في كليهما هو العلمية إلاّ انّه يبقى اختلاف بينهما في ناحية اخرى ، وهي انّ الاستصحاب أخذ في موضوعه الشكّ حيث قيل لا تنقض اليقين بالشكّ بينما دليل الامارة لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ـ فمفهوم آية النبأ مثلا يقول وان جاء العادل فلا تتبينوا من دون أخذ كلمة الشكّ وعدم العلم ـ بل يمكن ان يقال انّ مقتضى اطلاق دليل حجّية الامارة ثبوت الحجّية للامارة حتى في حالة العلم بمخالفتها للواقع ، غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم خروج حالة العلم بالخلاف من دليل حجّية الامارة لعدم إمكان ثبوت الحجّية لها حالة العلم بمخالفتها للواقع ، فالخارج ليس هو إلاّ حالة العلم الوجداني بالخلاف وامّا حالة العلم التعبدي بالخلاف الحاصلة بسبب جريان الاستصحاب فهي باقية تحت دليل حجّية الامارة.

وبالجملة انّ عنوان الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية الامارة بينما أخذ في موضوع دليل الاستصحاب.

ويترتب على هذا الفارق انّ الامارة هي الحاكمة على الاستصحاب لانّه بقيامها يحصل العلم ويرتفع عنوان الشكّ الذي اخذ في موضوع دليل الاستصحاب بينما جريان الاستصحاب لا يرفع موضوع الامارة لانّ موضوعها لم يقيد بالشكّ ليرتفع بالاستصحاب (١).

__________________

(١) وقد مرت الاشارة إلى هذه النكتة أوائل الحلقة ص ١٢.


مناقشة مسلك الحكومة

وبعد اتضاح مسلك حكومة دليل الامارة على دليل الاصل ناخذ بمناقشته بما يلي : انّ حكومة دليل على دليل تتوقف على نظر الحاكم إلى المحكوم. ودليل حجّية الامارة حيث انّه غير ناظر إلى دليل الأصل فلا يمكن ان يكون حاكما عليه. امّا لماذا لم يكن دليل الامارة ناظرا إلى دليل الأصل؟

الوجه في ذلك : انا لو اخذنا المصداق المهم للامارة ـ وهو خبر الثقة أو الظهور ـ لرأينا انّ اقوى دليل على حجّيته هو احد أمرين : السيرة العقلائية وسيرة أصحاب الائمة :. وكلا هذين الدليلين ليس ناظرا إلى موضوع دليل الأصل (١) ، أي ليس ناظرا إلى تنزيل الامارة منزله القطع الموضوعي ـ الذي هو موضوع الأصل ـ ليكون حاكما عليه.

امّا انّ سيرة العقلاء ليست ناظرة إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي فلأنّ القطع الموضوعي لا وجود له في حياة العقلاء لتكون سيرتهم الجارية على حجّية الخبر أو الظهور ناظرة إليه ومنزّلة للخبر منزلته ، فانا لم نعهد لحدّ الآن ولو حكما واحدا لدى العقلاء يكون القطع ماخوذا في موضوعه بحيث عند عدم حصول القطع لا يكون الحكم ثابتا واقعا وانّما المتداول بينهم القطع الطريقي ـ أي القطع الملحوظ بما هو طريق إلى الواقع وكمنجز له أو معذّر ـ وهم

__________________

(١) موضوع دليل الاصل هو عدم العلم ، أو بكلمة اخرى : هو العلم نفيا ، فاليقين بالنفي الماخوذ في موضوع الأصل يقين موضوعي ، أي هو يقين ماخوذ في موضوع الأصل.


بسيرتهم الجارية على حجّية الخبر ناظرون إلى القطع المذكور فانّه لا اشكال في انعقاد سيرتهم على جعل الخبر منجزا ومعذرا كالقطع ، وهذا معناه ثبوت سيرتهم على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي في المنجزية والمعذرية (١).

ان قلت : انّ سيرة العقلاء الجارية على حجّية الامارة وان لم تكن ناظرة إلى تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ولكن لم لا نقول انّ دليل حجّية السيرة وهو الامضاء الشرعي ناظر إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي.

قلت : انّ الامضاء الشرعي يتقدر بقدر السيرة ، وحيث انّ المفروض انعقاد السيرة على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي ولم يثبت انعقادها على تنزيلها منزلة القطع الموضوعي فيتقدر بالمقدار المذكور الذي انعقدت عليه السيرة لا أكثر. هذا كله في المدرك الأوّل لحجّية الامارة وهو السيرة العقلائية.

وامّا انّ سيرة اصحاب الائمة : ليست ناظرة إلى القطع الموضوعي فلأنّ أصحاب الائمة بما هو اصحاب الائمة ويعيشون التشريع الاسلامي وان امكن نظرهم إلى القطع الموضوعي ـ فانّ القطع الموضوعي بعيد عن حياة العقلاء بما هو عقلاء وليس بعيدا عن المتشرعة الذين يعيشون التشريع ـ ولكنا لا نجزم بانعقاد سيرتهم على العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي وانّما القدر المتيقن من سيرتهم هو العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الطريقي كمنجز ومعذر (٢).

__________________

(١) تقدمت الاشارة إلى هذا المطلب أكثر من مرة. راجع القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٨٢.

(٢) لا يخفى انّ المناقشة المذكورة من قبل السيد الشهيد مبنائية أي على مبناه الذي يرى فيه انّ الحكومة تنحصر بمورد النظر ولا تتم على مبنى السيد الخوئي الذي يرى انّ الحكومة لا ـ


النصية والأخصيّة

ج ـ والوجه الصحيح في تقدم الامارة على الأصل هو النصية والأخصية.

امّا النصية فالمراد منها انا نجزم بشمول دليل حجّية الامارة لموارد اجتماع الامارة مع الأصل المخالف لها ، فلو اخبر الثقة بحرمة التدخين ـ وأصل البراءة كما هو واضح يقتضي حليته ـ فلا إشكال في انّ العقلاء يأخذون بخبر الثقة ولا نحتمل انّ اخذهم به مختص بالموارد التي يخبر فيها الثقة بما يوافق البراءة ، أي في صورة الاخبار بالحلية.

وهذا كله بخلاف دليل الأصل فانا لا نجزم بشمول دليله للأصل المجتمع مع الامارة المخالفة له فلعل دليل البراءة مثلا يختص بالبراءة التي لا تكون مخالفة لأمارة من الامارات. انّ الجزم بشمول دليل حجّية الامارة لمورد الاجتماع بخلاف دليل حجّية الأصل هو المقصود من قولنا يقدم دليل الامارة على الأصل عند اجتماعه معه من باب النصية.

وامّا الاخصية فليس المراد منها الأخصية المصطلحة بمعنى انّ دليل حجّية الامارة اخص من دليل الأصل ـ كما يلوح ذلك من كلمات الشيخ الأعظم في أوائل مباحث البراءة عند البحث عن نكتة تقدم الامارة على الأصل ـ وانّما المراد

__________________

ـ تختص بموارد النظر بل لها موردان : احدهما : موارد النظر. ثانيهما : الموارد التي يكون فيها أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر تعبدا كما هو الحال في مقامنا أي دليل الامارة الرافع تعبدا لموضوع الأصل. راجع مصباح الاصول ج ٣ ٣٤٨ ـ ٣٤٩. كما ويمكن مراجعة تقرير السيد الشهيد ج ٧ ص ١٦٩ ـ ١٧٠ حيث يشير 1 إلى رأي السيد الخوئي هذا ومناقشته.


منها نكتة تقدم الخاص على العام ، فانّ نكتة تقدم « لا تكرم العالم الفاسق » على دليل « اكرم العلماء » مثلا هو انّه لو قدّم العام وحكم بوجوب اكرام كل عالم بما في ذلك الفاسق لزم الغاء الخاص بشكل كليّ وعدم بقاء مورد له يمكن العمل به فيه ، وهذا بخلاف ما لو قدم الخاص فانّه لا يلزم منه إلغاء العام راسا بل يبقى له مورد وهو العلماء العدول.

انّ نفس هذا البيان يجري في مقامنا ، فانّ الامارة حينما تقوم في مورد فحتما يوجد أصل يجري معها امّا موافق لها أو مخالف ، إذ لا يمكن خلو مورد من الموارد من أصل من الاصول العملية.

وإذا كانت الامارة مقترنة بالأصل دائما فنقول : انّ الامارة لو كانت حجّيتها تختص بصورة كون الأصل موافقا لها فهذا معناه إلغاء دليل حجّية الامارة راسا ، إذ في مورد الأصل الموافق للامارة يكون العمل في الحقيقة بالأصل لا بالامارة ، فانّ الثقة لو اخبر بحليّة التدخين فإذا حكمنا بالحلية لم يكن الحكم المذكور مستندا إلى خبر الثقة ، إذ حتى لو لم يخبر الثقة بذلك كنا نحكم بذلك استنادا إلى البراءة.

إذن انحصار حجّية الامارة بمورد موافقتها للأصل هو بمثابة الغائها في الحقيقة ، ومن هنا لو سمعنا شخصا يحكم بان الامارة لا تكون حجّة إلاّ إذا كانت موافقة للاصل لاستغربنا ولقلنا له انّ هذا معناه عدم حجّيتها إذ عند موافقها للأصل يكون الاستناد بحسب الحقيقة إلى الأصل.

وعليه فالامارة عند اجتماعها بالاصل المخالف لها لا بدّ وان تكون هي


المقدمة كيما لا يلزم الغائها. هذا هو المراد من الأخصية (١).

__________________

(١) وكان من المناسب ان يشير 1 في عبارة الكتاب إلى ذلك فانّ هذا مطلب دقيق وحريّ بالتوضيح. وقد اشير إليه في التقرير ج ٦ ص ٣٥٠.


تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي

٦ ـ إذا كان لدينا ماء معلوم الطهارة سابقا ومشكوك الطهارة فعلا وغسلنا به ثوبا معلوم النجاسة بالفعل فسوف نشكّ في حصول الطهارة للثوب لاحتمال كون الماء نجسا. وفي مثل هذه الحالة يجري استصحابان متعارضان : استصحاب الطهارة في الماء وهو يقتضي حصول الطهارة للثوب واستصحاب النجاسة في الثوب.

والاستصحاب الاول يسمى بالاستصحاب السببي ، والثاني يسمى بالاستصحاب المسبّبي.

ووجه التسمية واضح ، فإنّ الشكّ في طهارة الماء حيث انه سبب للشكّ في نجاسة الثوب فالاستصحاب الجاري في طهارة الماء يكون استصحابا سببيا ، وحيث ان الشكّ في نجاسة الثوب مسبّب عن الشكّ في طهارة الماء فالاستصحاب الجاري في نجاسة الثوب يكون استصحابا مسببيا.

والمعروف ان الاستصحاب السببي مقدّم بالحكومة على الاستصحاب المسببي فيجري استصحاب طهارة الماء وتثبت بذلك طهارته ، ومن ثمّ طهارة الثوب بلا معارضة باستصحاب نجاسة الثوب.

وقد وجّه غير واحد من الأعلام حكومة الاستصحاب السببي : بأن استصحاب طهارة الماء إذا جرى حصل العلم بطهارة الماء وبجميع آثارها ـ طهارة


الماء ـ التي أحدها طهارة الثوب ، وبذلك يزول الشكّ في نجاسة الثوب ـ الذي هو موضوع الاستصحاب المسببي ـ ويحصل العلم بطهارته ولكن تعبّدا لا حقيقة فإنّ الاستصحاب السببي وان أفاد العلم بناء على ان المجعول فيه هو الطريقية والعلميّة كما هو رأي الشيخ النائيني والسيّد الخوئي حسبما تقدّم ص ١٧ من الحلقة إلاّ أنه علم تعبّدي لا وجداني حقيقي.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بوجهين : ـ

١ ـ ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي يتوقّف على ان يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى جعل الاستصحاب علما لا بلحاظ خصوص العلم الطريقي الذي وظيفته المنجّزيّة والمعذريّة بل جعله علما حتى بلحاظ العلم الموضوعي المأخوذ في موضوع الأصل ، وهذا غير ثابت ، فكما ان الأمارة لم يثبت جعلها علما بلحاظ العلم الموضوعي كذلك الاستصحاب لم يثبت ان المجعول فيه هو العلميّة بلحاظ العلم الموضوعي ، غاية الأمر الأمارة لم يثبت قيامها مقام القطع الموضوعي من باب قصور السيرة العقلائيّة والمتشرعية ، وأمّا الاستصحاب فلم يثبت فيه ذلك من باب قصور حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » عن إفادة ذلك ، فإنه لو استفيد من الحديث المذكور جعل العلميّة فأقصى ما يستفاد منه جعلها بلحاظ القطع الطريقي ـ أي بلحاظ المنجّزيّة ـ دونه بلحاظ القطع الموضوعي.

٢ ـ لو سلّمنا كون المجعول في باب الاستصحاب هو العلميّة حتى بلحاظ القطع الموضوعي فنقول ان الأصل السببي لا يكون دائما استصحابا ـ ليقال ان المجعول في الاستصحاب هو العلميّة ، الأمر الذي يوجب زوال الشكّ الذي هو


الموضوع في الأصل المسببي ـ بل قد يكون أحيانا مثل أصل الطهارة الذي ليس المجعول فيه العلميّة جزما ، كما لو فرض ان لدينا ماء لا نعرف حالته السابقة من حيث الطهارة والنجاسة وغسلنا به ثوبا نجسا ، فإنّ الأصل الجاري في الماء ليس هو استصحاب الطهارة ـ لفرض جهالة حالته السابقة ـ بل هو أصالة الطهارة فيحكم بطهارة الماء استنادا لقاعدة الطهارة وبالتالي يحكم بطهارة الثوب ولا يعتنى للأصل الجاري في الثوب وهو استصحاب النجاسة ، فبالرغم من كون الأصل الجاري في الثوب هو استصحاب النجاسة ـ الذي قيل بأنّ المجعول فيه هو العلميّة ـ لم يعتن به وحكم على طبق أصالة الطهارة في الماء التي لم يجعل فيها العلمية.

ان هذا يدلّل على ان نكتة تقدّم الأصل السببي لا تكمن في ان المجعول في الاستصحاب السببي هو العلميّة بل تكمن في شيء آخر.

النكتة الصحيحة

والنكتة الصحيحة في تقدّم الأصل السببي على المسببي هي ان الأصل السببي يعالج ـ أي يثبت أو يرفع ـ موضوع الأصل المسببي ، والمرتكز في ذهن العقلاء والعرف ان كل أصل يعالج موضوع الأصل الآخر فهو مقدّم عليه ولا تحصل المعارضة بينهما ، فمثلا إذا شكّ في مجيء زيد من جهة الشكّ في حياته فاستصحاب الحياة يجريه العرف ويحكم بالحياة ومن ثمّ بالمجيء بدون ان يعارض ذلك باستصحاب عدم المجيء ، وحيث ان روايات الاستصحاب ناظرة الى المرتكزات العرفيّة ولا تقصد بيان مطلب يخالف ذلك بقرينة جملة « فليس


ينبغي لك ... » فيكون المستفاد منها ـ روايات الاستصحاب ـ جريان الأصل السببي دون الأصل المسببي.

وباختصار ان نفس كون أحد الأصلين يعالج موضوع الأصل الآخر نكتة عرفيّة لتقدّمه قبل ان تصل النوبة الى قضيّة كون أحد الأصلين ملغيا للشكّ المأخوذ في موضوع الأصل الآخر (١).

__________________

(١) وبيان النكتة بهذا الشكل بيان جميل وان كانت عبارة الكتاب فيها قصور وغموض ولكن عبارة التقرير ج ٦ ص ٣٥٦ واضحة فيما ذكرناه. وما ذكر في قسم الملاحق لم نفهم معناه.


معارضة الاستصحاب للأصول الأخرى

٧ ـ وإذا حصلت المعارضة بين الاستصحاب وبقيّة الاصول فما هو الموقف؟ فمثلا عند الشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة لا إشكال في اقتضاء الاستصحاب بقاء الوجوب على عكس البراءة حيث تقتضي عدم ثبوت الوجوب.

وفي هذه الحالة ذهب مشهور الاصوليين إلى تقدّم الاستصحاب للجمع العرفي (١) ، فالاستصحاب مقدّم على البراءة من جهة حكومته عليها ، فإنه بناء على كون المجعول في الاستصحاب الطريقيّة والعلميّة يصير ـ الاستصحاب ـ من الاصول المحرزة أي يحرز لنا تعبّدا بقاء الوجوب ويحصّل العلم تعبّدا بذلك وينفي الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فالاستصحاب حاكم على البراءة من جهة نفيه لموضوع البراءة تعبّدا.

ان قلت : كما ان الشكّ مأخوذ في موضوع البراءة كذلك هو مأخوذ في موضوع الاستصحاب فلماذا صار الاستصحاب هو الرافع لموضوع البراءة بلا عكس؟

قلت : ان ذلك من جهة ان المجعول في الاستصحاب العلميّة والطريقيّة فبجريانه يحصل العلم تعبّدا ببقاء وجوب الجمعة ويزول الشكّ ، وهذا بخلاف

__________________

(١) المقصود من الجمع العرفي هنا الحكومة.


العكس فإنه ليس المجعول في البراءة العلميّة ليكون موجبا تعبدا لزوال الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب.

مناقشة الحكومة

ثمّ انه يمكن مناقشة حكومة الاستصحاب على بقيّة الأصول بنفس المناقشة التي تقدّمت في باب الأمارة ، فكما لم نقبل فيما سبق حكومة الأمارة على الاستصحاب باعتبار انه لا يستفاد من دليل حجيّة الأمارة أكثر من تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي في المنجزيّة والمعذريّة ولا يستفاد تنزيلها منزلة القطع الموضوعي للقصور في السيرة العقلائيّة حسب البيان المتقدّم كذلك نقول هنا ان حديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا يستفاد منه أكثر من كون الاستصحاب منجّزا ومعذّرا ، أي هو بمثابة القطع الطريقي ولا يستفاد منه كونه بمثابة القطع الموضوعي ليكون حاكما وناظرا لموضوع بقيّة الأصول.

التخريج الصحيح

والتخريج الصحيح لتقدّم الاستصحاب على بقيّة الاصول هو ان الاستصحاب أظهر في الشمول لمادّة الاجتماع. وهذه الأظهريّة ناشئة من كلمة « أبدا » المذكورة في روايات الاستصحاب فإنّها موضوعة لإفادة العموم ، ففي المثال المتقدّم لصلاة الجمعة الذي اجتمع فيه الاستصحاب المقتضي لبقاء الوجوب والبراءة المقتضية لانتفائه يكون دليل الاستصحاب أظهر في الشمول


للمورد المذكور من دليل البراءة ، حيث ان أدلّة البراءة لا تشتمل على كلمة « أبدا » ليكون ظهورها مساويا لظهور الاستصحاب في شمول مادّة الاجتماع.

قوله ص ٣٥٦ س ٣ : امّا بافتراض الشرطين علّتين مستقلّتين : أي امّا ان نأخذ بإطلاق المنطوقين ونحكم بأنّ كل شرط علّة مستقلّة للجزاء ، ولازم ذلك تقييد المفهوم.

قوله ص ٣٥٦ س ١١ : وثبت بالدليل : أي عرفنا ذلك من الخارج.

قوله ص ٣٥٧ س ٣ : وتحركين : عطف تفسير.

قوله ص ٣٥٧ س ٨ : مادّة الأمر في أعتق : وهي العتق.

قوله ص ٣٥٨ س ١١ : والإرادة : عطف تفسير على الوضع.

قوله ص ٣٥٩ س ٣ : أو حكمين : بكسر الحاء وسكون الكاف.

قوله ص ٣٥٩ س ٩ : عن إرادتها : أي إرادة سعة الحكم.

قوله ص ٣٥٩ س ١٠ : يستدعي التخلّف الأوّل : أي تخلّف بيان أصل الحكم عن إرادته.

قوله ص ٣٥٩ س ١١ : يستدعي التخلّف الثاني : أي تخلّف بيان سعة الحكم عن إرادتها.

قوله ص ٣٥٩ س ١١ : تعيّن ذلك : أي تقديم الشمولي.

قوله ص ٣٥٩ س ١٣ : عقلا وشرعا : هما تمييز لكلمة « المقدورة ».

قوله ص ٣٦٠ س ٨ : ان حرمة إكرام الفقير الفاسق : الأولى حذف كلمة « الفقير » فإن دليل حرمة إكرام الفاسق يقول : لا تكرم الفاسق ولا يقول لا تكرم الفقير الفاسق وإلاّ صارت نسبته إلى دليل الواجب نسبة الأخص المطلق إلى


الأعم لا الأخص من وجه إلى الأعم من وجه.

قوله ص ٣٦١ س ٤ : ولكن أخذ إلخ : هذا مناقشة للقول بالورود.

قوله ص ٣٦١ س ١١ : ومن أمثلة ذلك : أي من أمثلة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

قوله ص ٣٦٢ س ٥ : خاصّة : أي وأمّا حالة العلم التعبّدي بالخلاف الحاصلة بسبب جريان الاستصحاب فهي باقية تحت دليل حجيّة الأمارة.

قوله ص ٣٦٢ س ٨ : فيجعل : الصواب : فبجعل.

قوله ص ٣٦٢ س ١٠ : كما تقدّم : أي ص ٣٣٧ حيث اختار 1 الاتجاه الثاني الذي يقول بأنّ نكتة تقدّم الحاكم هي النظر لا غير.

قوله ص ٣٦٢ س ١١ : في المقام : هذا حشو لا حاجة لذكره. ثمّ ان ذكر الخبر والظهور هو من باب كونهما المصداقين البارزين للأمارة.

قوله ص ٣٦٣ س ٧ : عموما : أي في غير مورد الأصل المخالف من الموارد التي يكون القطع الموضوعي مأخوذا فيها.

قوله ص ٣٦٣ س ١٥ : كما تقدّم في الحلقة السابقة : ص ٤٤٢.

قوله ص ٣٦٤ س ٥ : كذلك : أي جعل الطريقيّة والغاء الشكّ كما هو الحال في قاعدة الطهارة.

قوله ص ٣٦٤ س ٦ : مفاده : أي مفاد المسببي.

قوله ص ٣٦٤ س ١٢ : موضوع الحكم : المراد من الحكم هو الحكم بطهارة الثوب فإن موضوعه هو طهارة الماء.

قوله ص ٣٦٤ س ١٢ : في مرتبة أسبق : أي قبل ان تصل النوبة إلى الغاء


الشكّ.

قوله ص ٣٦٤ س ١٤ : بنفسها : أي لا بما انها تلغي الشكّ وتوجب جعل العلميّة.

قوله ص ٣٤٤ س ١٧ : بالجمع العرفي : المراد من الجمع العرفي هنا هو الحكومة.

قوله ص ٣٦٥ س ١٢ : بالاداة : أي بواسطة كلمة « ابدأ » التي هي موضوعة لافادة العموم.



التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية

قوله ص ٣٦٦ س ١ : نتناول الآن التعارض إلخ : ذكرنا فيما سبق انّ التعارض على قسمين : مستقر وغير مستقر. ولحدّ الآن كان كلامنا في التعارض غير المستقر حيث كنا نتحدث عن قاعدة الجمع العرفي التي هي عبارة اخرى عن مورد التعارض غير المستقر.

وامّا التعارض المستقر فالمراد به التعارض الذي لا يمكن رفعه بالجمع العرفي كما هو الحال في الدليلين المتباينين أو الدليلين الذين بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه.

وفي التعارض المستقر يسري التنافي إلى دليل الحجّية بمعنى انّ دليل الحجّية لا يمكن انّ يشملهما معا كما ولا يمكن ان يشمل احدهما.

ثم انّ البحث في التعارض المستقر يقع من زاويتين : ـ

أ ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الاولية ، أي لو قطعنا النظر عن الأخبار العلاجية ـ التي تحكم بالتخيير بين المتعارضين أو ترجيح ما يشتمل على المرجح ـ وقصرنا النظر على دليل حجّية خبر الثقة وهو مفهوم آية النبأ مثلا فهل المناسب الحكم بحجّية كلا المتعارضين أو أحدهما أو لا هذا ولا ذاك.

ب ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الثانوية ، أي لو لا حظنا الأخبار العلاجية فهل المناسب الحكم بالتخيير أو الأخذ بما يشتمل على المرجح. وفي


البداية نتحدث عن حكم المتعارضين من الزاوية الاولى ، أي التحدث عن حكمهما لو قصرنا النظر على دليل حجّية خبر الثقة مثلا وقطعنا النظر عن الاخبار العلاجية وامّا التحدث من الزاوية الثانية فيأتي ص ٣٨١ من الحلقة.


المتعارضان بمقتضى القاعدة الأولية

والمعروف بين الاصوليين انّ القاعدة الاولية تقتضي تساقط المتعارضين عن الحجّية.

والوجه في ذلك : انّ شمول دليل الحجّية ـ كمفهوم آية النبأ مثلا ـ لكلا المتعارضين غير ممكن ، وشموله لهذا بالخصوص دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وشموله لأحدهما غير المعين باطل أيضا لأنّ مفهوم آية النبأ مثلا يقول خبر هذا العادل حجّة وذاك حجّة والثالث حجّة وهكذا ولا يقول انّ أحد اخبار العدول بلا تعيين حجّة ، فمفاد دليل الحجّية هو حجّية كل خبر على سبيل التعيين لا حجّية احد الاخبار على سبيل التخيير. وبعد بطلان هذه الشقوق الثلاثة يتعين الشق الرابع وهو التساقط.

ثم انّ شقوق هذا البيان حيث انها ثلاثة ولا ينتهى إلى التساقط إلاّ بعد ابطالها فلنأخذ بالتحدث عن كل واحد منها.

الشق الأوّل

امّا الشق الأوّل ـ وهو عدم امكان شمول دليل الحجّية لكلا المتعارضين ـ فما ذكره المشهور في توجيهه قد يقال انّه تام في بعض الحالات وغير تام في بعض الحالات الاخرى.


توضيح ذلك : انّ الدليلين المتعارضين لا يخلوان من احدى حالات ثلاث : ـ

أ ـ ان يكون مفاد احدهما حكما إلزاميا ومفاد الآخر نفي ذلك الحكم الالزامي ، كما إذا قال أحدهما انّ صلاة الجمعة واجبة وقال الآخر انّها غير واجبة.

وفي هذه الحالة يصح ما ذكره المشهور من عدم إمكان شمول دليل الحجّية لهما معا ، إذ لازم شموله لهما تنجز وجوب صلاة الجمعة وعدم تنجزه ، وهو مستحيل.

ب ـ ان يكون مفاد كل واحد منهما حكما ترخيصيا ويعلم إجمالا ببطلان أحد الترخيصين ، كما إذا قال احدهما صلاة الجمعة غير واجبة وقال الآخر صلاة الظهر غير واجبة.

وهنا يصح ما ذكره المشهور أيضا ، إذ لازم شمول دليل الحجّية لهما معا الترخيص في تركهما معا ، أي ترك صلاة الجمعة وترك صلاة الظهر ، وهو باطل لانّه ترخيص في المخالفة القطعية العملية.

ج ـ ان يكون مفاد كل واحد منهما حكما إلزاميا. وهذه الحالة لها شقان فتارة يكون الحكمان الالزاميان متنافيين تنافيا ذاتيا ، كما إذا كان احدهما يقول صلاة الجمعة واجبة ويقول الآخر صلاة الجمعة محرمة. وفي هذا الشق يصح كلام المشهور أيضا ، إذ لازم شمول دليل الحجّية لهما صيرورة صلاة الجمعة واجبة ومحرمة ، وهو غير ممكن.

واخرى يكون الحكمان الالزاميان متنافيين تنافيا عرضيا ، كما إذا كان


احدهما يقول صلاة الجمعة واجبة ويقول الآخر صلاة الظهر واجبة ، فانّه لا تنافي بين الحكمين المذكورين بالذات ، إذ أي محذور في ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة وثبوته لصلاة الظهر أيضا ، غاية الأمر حيث نعلم من الخارج بعدم وجوب كلتا الصلاتين المذكورتين يحصل التنافي بينهما.

وفي هذا الشق يمكن ان يقال بعدم صحّة كلام المشهور ، إذ لا محذور في شمول دليل الحجّية لكلا الخبرين فانّ غاية ما يلزم إتيان المكلّف بكلتا الصلاتين ، وهو ممّا لا محذور فيه ، لعدم لزوم مخالفة عملية قطعية من ذلك بل كل ما يلزم هو المخالفة الالتزامية ، وهي غير محرمة ، وهذا بخلافه في حاله رقم ( ب ) ، فانّ اللازم من شمول دليل الحجّية فيها لكلا المتعارضين المخالفة العملية القطعية وهي غير جائزة.

والخلاصة : انّ كلام المشهور صحيح في الحالة الاولى والثانية والثالثة بشقها الأوّل وغير صحيح في الحالة الثالثة بشقها الثاني. هكذا قد يقال.

جواب التوهم

ويمكن الجواب عن التوهم المذكور بانّ المحذور لا يمكن فقط في انّ لازم شمول دليل الحجّية لكلا المتعارضين ثبوت وجوب الجمعة ووجوب الظهر ليقال بانّ ذلك لا يشكّل محذورا ما دام لا يلزم من ثبوتهما مخالفة عملية قطعية بل يلزم محذور ثان ، وهو انّ الدليل الأوّل الذي يقول الجمعة واجبه له مدلول مطابقي وهو ثبوت وجوب الجمعة ، ومدلول التزامي وهو نفي وجوب الظهر ، وهكذا الدليل الثاني له مدلول مطابقي وهو وجوب الظهر ، ومدلول التزامي وهو نفي


وجوب الجمعة. وشمول دليل الحجّية لكلا الدليلين بما لهما من مدلول مطابقي والتزامي يلزم منه ثبوت المتنافيين ، أي ثبوت الوجوب للجمعة ونفيه ، وثبوت الوجوب للظهر ونفيه. وبالجملة المحذور لا يكمن فقط في ثبوت المدلولين المطابقيين بل يمكن في انّ المدلول المطابقي لكل واحد من الدليلين يتنافى والمدلول الالتزامي للآخر ، ولازم حجّتيهما معا ثبوت المتنافيين.

إن قلت : نسلّم ان لازم شمول دليل الحجّية لكلا الدليلين حصول المعارضة والمنافاة إلاّ أنّ منشأ هذه المعارضة هي الدلالة الالتزامية لكل من الدليلين وإلاّ فلو قصرنا النظر على المدلولين المطابقيين فلا معارضة ـ إذ لا مانع من ثبوت الوجوب للجمعة وللظهر ـ ، وما دامت المنافاة ناشئة من المدلولين الالتزاميين فلنطرح الدلالتين الالتزاميتين ونقول انّ دليل الحجّية يشمل الدلالتين المطابقيين فقط دون الالتزاميتين.

قلت : انّ المعارضة في المقام ليست واحدة بل توجد معارضتان فالدليل الأوّل يقول بمدلوله المطابقي الجمعة واجبة ، وهذا يتعارض والمدلول الالتزامي للدليل الثاني الذي يقول الجمعة ليست واجبة ، وهذه معارضة اولى. والدليل الثاني يقول بمدلوله المطابقي الظهر واجبة وهذا يتعارض والمدلول الالتزامي للدليل الأوّل الذي يقول الظهر ليست واجبة. وهذه معارضة ثانية.

ونحن إذا لا حظنا المعارضة الاولى وجدنا انّ المعارضة والمنافاة ثابتة بين المدلول المطابقي للدليل الأوّل والمدلول الالتزامي للدليل الثاني ، ونسبه المعارضة والمنافاة لكل منهما واحدة ، وترجيح شمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي دون الالتزامي ليس أولى من العكس فلماذا لا يقال بأنّ دليل الحجّية يشمل المدلول


الالتزامي دون المطابقي ما دامت منافاة كل واحد منهما للآخر بدرجة واحدة.

وهكذا الكلام في المعارضة الثانية فإنّ منافاة كل منهما للآخر ما دامت بدرجة واحدة فشمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي دون الالتزامي ليس أولى من العكس ، بل المناسب سقوط كلا المتعارضين في المعارضة الاولى وسقوطهما أيضا في المعارضة الثانية.

إن قلت : إنّ المرجح لسقوط المدلول الالتزامي في كلتا المعارضتين عن الحجّية موجود ، وهو انّا نجزم بأنّ المدلولين الالتزاميين في كلتا المعارضتين ساقط عن الحجّية حتما ، إذ دليل الحجّية امّا أن لا يكون شاملا للمدلولين الالتزاميين ، وبذلك يلزم سقوطهما عن الحجّية ، وامّا أن لا يكون شاملا للمدلولين المطابقيين ، وبذلك يلزم سقوط المدلولين الالتزاميين عن الحجّية أيضا لأنّ المدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابقي في الحجّية فإنّ سقطت الدلالتان المطابقيتان عن الحجّية ولم يشملهما دليل الحجّية سقطت الدلالتان الالتزاميتان عن الحجّية أيضا.

إذن الدلالتان الالتزاميتان لا إشكال في سقوطهما عن الحجّية ، وهذا بخلاف الدلالتين المطابقتيين فإنّه لا جزم بسقوطهما عن الحجّية ، وكفى بهذا مرجّحا لشمول دليل الحجّية للمدلولين المطابقيين دون الالتزاميين.

قلت : إنّا لو لا حظنا المعارضة الاولى لم نجد المدلول الالتزامي فيها ـ الذي هو أحد طرفي المعارضة ـ مدلولا التزاميا للمدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته حتّى يكون سقوط المدلول المطابقي عن الحجّية موجبا لسقوطه أيضا عن الحجّية وإنّما هو مدلول التزامي للمدلول المطابقي الواقع طرفا في المعارضة الثانية.


وهكذا لو لا حظنا المعارضة الثانية لم نجد المدلول الالتزامي فيها متفرعا على المدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته بل هو متفرّع على المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى فلا يلزم من سقوط المدلول المطابقي الواقع طرفا لمعارضته عن الحجّية سقوطه عن الحجّية (١).

الشق الثاني

وامّا الشق الثاني ـ وهو انّ شمول دليل الحجّية للواحد المعين ترجيح بلا مرجّح ـ فهو لا يتمّ غالبا ، فهناك ثلاث حالات لا يتمّ فيها وحالة واحدة يتم فيها. أمّا الحالات الثلاث التي لا يتمّ فيها فهي : ـ

١ ـ إذا علمنا بأنّ نكتة حجّية خبر الثقة غير ثابتة لا في هذا الخبر ولا في ذاك حالة تعارضهما فيسقطان عن الحجّية بلا حاجة إلى التمسّك بمحذور

__________________

(١) إن قلت : انّ البيان المذكور مقبول ولكنّه لا يمنع من حصول الجزم بسقوط الدلالتين الالتزاميتين عن الحجّية ، فإنّ سقوط المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى عن الحجّية يوجب سقوط مدلوله الالتزامي الثابت في المعارضة الثانية عن الحجّية. وهكذا سقوط المدلول المطابقي الثابت في المعارضة الثانية عن الحجية يوجب سقوط مدلوله الالتزامي الثابت في المعارضة الاولى.

قلت : لا نسلّم حصول الجزم بسقوط المدلولين الالتزاميين عن الحجّية ، إذ من الممكن واقعا عدم شمول دليل الحجّية للدليل الأوّل ـ الذي يقول صلاة الجمعة واجبة ـ بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، أي عدم شمول دليل الحجّية للمدلول المطابقي الثابت في المعارضة الاولى والمدلول الالتزامي الثابت في المعارضة الثانية واختصاصه بشمول الدليل الثاني بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي


الترجيح بلا مرجّح. فمثلا لو علمنا بسبب الارتكاز العقلائي انّ النكتة التي من أجلها حكم الشارع بحجّية خبر الثقة هي إفادته للظنّ الشخصي والكاشفية الشخصية عن الواقع ففي حالة التعارض لا تكون النكتة المذكورة ثابتة في الخبرين فلا يمكن أن يكون كلا الخبرين مفيدا للظنّ الشخصي بالواقع وإلاّ يلزم حصول الظنّ الشخصي بثبوت المتنافيين. ومع عدم إفادة هذا الخبر ولا ذاك للظنّ الشخصي يسقطان معا عن الحجّية بلا حاجة لملاحظة محذور الترجيح بلا مرجّح ، بل حتّى لو قلنا بأنّ الترجيح بلا مرجّح أمر ممكن ولا محذور فيه لا يمكن الحكم بحجّية الخبرين لعدم ثبوت نكتة الحجّية فيهما.

إذن في هذه الحالة يسقط الخبران المتعارضان عن الحجّية بملاحظة لملاحظة محذور الترجيح بلا مرجّح.

٢ ـ ان نعلم بواسطة الارتكاز العقلائي وبقطع النظر عن دليل حجّية خبر الثقة انّ النكتة التي من اجلها اثبت الشارع الحجّية لخبر الثقة ليست هي افادته للظن الشخصي بل هي قابليته وشأنيته في نفسه لافادة الظن وهو ما يصطلح عليه بالظن النوعي.

وفي مثل هذه الحالة تكون نكتة حجّية خبر الثقة ثابتة في كلا الخبرين ، فانّ كلا منهما صالح في نفسه لإفادة الظن حتى مع فرض المعارضة ، ولكن إذا فرضنا انّ راوي خبر رقم (١) اوثق من راوي خبر رقم (٢). وفرضنا انّ الأوثقية توجب الجزم ولا أقل احتمال ان يكون ثبوت نكتة الحجّية فيه أقوى من ثبوتها في خبر رقم (٢) ـ باعتباران الأوثقية إذا لم توجب الجزم بقوة افادة الخبر للظن فلا أقل من احتمال استلزامها لذلك ـ فلا يكون شمول دليل الحجّية للخبر رقم (١)


فقط ترجيحا بلا مرجح ، فانّ الخبر رقم (٢) لا يخلو ملاكه واقعا من احدى حالتين فامّا ان يكون مساويا لملاك خبر رقم (١) أو أضعف ، وعلى كلا التقديرين لا يكون حجّة.

امّا عدم حجّيته في صورة ضعفه فواضح ، وامّا عدم حجّيته في صورة المساواة فلإنّه في صورة تساوي الملاكين لا يمكن ثبوت الحجّية للخبرين.

وبالجملة : في هذه الحالة لا بأس بشمول دليل الحجّية لاحد الخبرين ـ أي خبر رقم (١) ـ بلا لزوم محذور الترجيح بلا مرجح.

٣ ـ ان يفرض انّ نكتة حجّية خبر الثقة لم تكن معلومة لنا والارتكاز العقلائي لم يتمكن من تحديدها فلا يدرى انها افادة الظن الشخصي ـ ويترتب على ذلك عدم ثبوت ملاك الحجّية لا في هذا ولا في ذاك لعدم إمكان افادتهما معا للظن الشخصي ـ أو افادة الظن النوعي ليترتب على ذلك ثبوت ملاك الحجّية في كلا الخبرين.

وفي هذه الحالة وان كنا لا نجزم بثبوت ملاك الحجّية في الخبرين ـ لاحتمال انّ الملاك هو افادة الظن الشخصي المفقود في الخبرين ـ بل يحتمل انتفاؤه في كليهما بيد انّا لو كنا نجزم أو لا أقل نحتمل انّ ملاك الحجّية على تقدير ثبوته واقعا في الخبرين فثبوته في خبر رقم (١) اقوى من ثبوته في خبر رقم (٢) لفرض أوثقية راوي خبر رقم (١) ففي مثل ذلك لا يكون شمول دليل الحجّية لخبر رقم (١) مستلزما لمحذور الترجيح بلا مرجح ، إذ خبر رقم (٢) نعلم بعدم حجّيته لأنّ حاله لا تخلو واقعا من أحد أمرين فامّا ان لا يكون ملاك الحجّية واقعا ثابتا فيه أو يكون ثابتا فيه بنحو ضعيف ، وعلى كلا التقديرين لا يكون حجّة ، وهذا


بخلافه في خبر رقم (١) فانّا نحتمل ثبوت ملاك الحجّية فيه بنحو قوي.

وبالجملة انّه في هذه الحالة (١) أيضا لا يكون شمول دليل الحجّية لأحد الخبرين موجبا للترجيح بلا مرجح.

إذن في هذه الحالات الثلاث لا نحتاج إلى محذور الترجيح بلا مرجح وانّما نحتاج اليه في حالة واحدة ، وهي ما إذا لم نحتمل ثبوت الملاك القوي في احدهما بالخصوص بل كنا نحتمل قوة الملاك في كل منهما بدرجة واحدة.

الشق الثالث

وامّا الشق الثالث ـ وهو عدم ثبوت الحجّية للواحد غير المعين ـ فقد ذكر في وجه بطلانه انّ ثبوت الحجّية للواحد غير المعين خلاف مفاد دليل الحجّية فانّ مفاد مفهوم آية النبأ مثلا هو الحجّية التعيينية ، أي حجّية هذا الفرد وذاك الفرد وليس مفاده الحجّية التخييرية ، أي حجّية الجامع وهو أحد الخبرين. هذا ما قيل في وجه بطلان هذا الشق.

ويمكن ان يقال في مناقشته انّ مصداق الحجّية التخييرية لا ينحصر بثبوت الحجّية للجامع ـ أي أحد الخبرين ـ ليقال انّ ذلك خلاف المفاد العرفي لدليل حجّية الخبر بل هناك مصداق ثان وهو ان يكون هذا الفرد من الخبر حجّة ان كان الخبر الآخر كاذبا ، وذاك الفرد من الخبر حجّة أيضا ان كان هذا الخبر

__________________

(١) فرق هذه الحالة عن سابقتها انّه في السابقة كنا نحرز بسبب الارتكاز العرفي توفر ملاك الحجّية في كلا الخبرين ، وامّا في هذه الحالة فلا يحرز توفره فيهما وانّما يحتمل ثبوته فيهما كما ويحتمل عدم ثبوته فيهما.


كاذبا ، فالحجّية تكون ثابتة لكل واحد من الفردين ـ لا للجامع وهو عنوان أحد الخبرين ـ مشروطة بكذب الآخر. وثبوت الحجّية التخييرية بهذا النحو لا يخالف مفاد الدليل ، غاية الأمر يخالف اطلاقه ـ فانّ مقتضى اطلاق دليل الحجّية انّ هذا الفرد من الخبر حجّة سواء كان الثاني صادقا أم كاذبا ـ وهذا لا محذور فيه فانّ الضرورة تدعو إلى التقييد المذكور ، وحيث انّ الضرورة تقدر بقدرها فلا نرفع اليد عن أصل دليل الحجّية بالنسبة إلى كل واحد من الخبرين وانّما نرفعها عن إطلاقه.

أجل لا بدّ من الالتفات إلى ان هذا التقييد يصح في حالة التضاد ولا يصح في حالة التناقض.

مثال التناقض : صل ولا تصل. وفي هذه الحالة لا يصح التقييد المذكور فلا يمكن ان يقال انّ دليل صل حجّة ان كان دليل لا تصل كاذبا ، إذ لازم كذبه صدق الأوّل فتكون حجية دليل صل منوطة بصدقه ، وهذا غير معقول ، فانّ الحجّية لا تثبت للدليل بشرط صدقه ، إذ على تقدير صدقه لا يحتاج إلى إثبات الحجّية بل يكون إثباتها لغوا.

ومثال التضاد : تجب صلاة الجمعة وتحرم صلاة الجمعة. وفي هذه الحالة يمكن التقييد المذكور إذ كذب الثاني لا يستلزم صدق الأوّل لامكان ان تكون صلاة الجمعة مستحبة.

ان قلت : انّ إثبات الحجّية التخييرية بهذا الشكل الجديد المقترح لغو وبلا فائدة ، فانّا حيث لا نميز الخبر الكاذب فلا يمكن ان نعرف الخبر الثابت له الحجّية.

قلت : ان عدم المعرفة بالخبر الثابت له الحجّية لا تلزم منه اللغوية ، إذ


احيانا ينتفع به في بعض المجالات ، كما لو كان أحد الدليلين يقول صلاة الجمعة واجبة والآخر يقول صلاة الجمعة محرمة ، فانّ أحد الدليلين إذا كان حجّة واقعا ـ ولو لم يمكن تشخيصه ـ فاللازم من ذلك انتفاء الإحتمال الثالث ، فاستحباب صلاة الجمعة أو كراهتها الذي هو احتمال ثالث يمكن نفيه ما دام أحد الدليلين الأولين حجّة.

خلاصة ما تقدم

إتضح من كل ما تقدم الامور التالية : ـ

١ ـ انّ شمول دليل الحجّية لأحد الدليلين بالخصوص ـ كخبر رقم (١) ـ لا يكون ترجيحا بلا مرجح ما دمنا نجزم أو نحتمل انّ ملاك الحجّية فيه أقوى.

٢ ـ انّا إذا لم نجزم ولم نحتمل قوة الملاك في أحد الدليلين فلا يمكن ثبوت الحجّية لهما بشكل مطلق.

٣ ـ انّ ثبوت الحجّية لكلا الخبرين بشكل مطلق وان لم يكن ممكنا ولكن ذلك لا يمنع من ثبوتها لهما بشكل مشروط في صورة التضاد دون التناقض.

خلاصة النظرية العامّة

وعلى هذا فالنظرية العامة ـ وبكلمة اخرى : القاعدة الأوليّة ـ في التعارض المستقر يمكن صياغتها بالشكل التالي : إذا كان ملاك الحجّية أقوى في أحد الدليلين جزما أو احتمالا فهو الحجّة وإلاّ فكل منهما حجّة بنحو مشروط. وهذا كما لا يخفى يخالف نظرية المشهور ، فإنّهم يرون انّ القاعدة تقتضي تساقط


المتعارضين.

هذا ما نذكره الآن مؤقتا وإلاّ فسيأتي ص ٣٧٩ من الحلقة موافقة المشهور في اقتضاء القاعدة للتساقط دون الحجّية المشروطة.

قوله ص ٣٦٦ س ٢ : يسري إلى دليل الحجّية : بمعنى انّه لا يمكن ان يشملهما معا كما ولا يمكن ان يشمل احدهما.

قوله ص ٣٦٧ س ١٨ : المدلول المطابقي : أي وجوب الجمعة الذي هو مدلول مطابقي للخبر الأوّل ووجوب الظهر الذي هو مدلول مطابقي للخبر الثاني.

قوله ص ٣٦٨ س ١٢ : سقوط الطرفين معا : أي سقوط المدلول المطابقي والالتزامي معا في المعارضة الاولى والثانية لا سقوط خصوص المدلول الالتزامي في المعارضة الاولى والثانية.

قوله ص ٣٦٨ س ١٤ : سواء رفعنا إلخ : تفسير لقوله « على أي حال ».

قوله ص ٣٦٩ س ١٥ : بقطع النظر عن دليل الحجّية : أي انّ مفهوم آية النبأ مثلا وان لم يفهم منه انّ نكتة حجّية خبر العادل هي افادته للظن النوعي مثلا إلاّ انّ العقلاء بارتكازهم يحكمون بانّ النكتة التي من أجلها جعل الشارع الحجّية لخبر العادل هي افادته للظن النوعي.

قوله ص ٣٧٠ س ٨ : وانّما الطريق إلى إحرازه إلخ : العبارة موهمة حيث تدل على انّ الارتكاز العقلائي وان لم يحدد نكتة الحجّية ولكن مفهوم آية النبأ مثلا يحدد ذلك ، وهذا جزما غير مراد ، فانّ دليل الحجّية إذ كان يحدد الملاك فلا معنى لقوله بعد ذلك انّ ملاك الحجّية في هذه الحالة نحتمل ثبوته في كلا الخبرين


ونحتمل عدم ثبوته بل لا بدّ وان يجزم امّا بثبوته أو بعدم ثبوته.

قوله ص ٣٧٠ س ١٤ : على تقدير ثبوته : أي لو كان ملاك الحجّية ثابتا واقعا في الخبرين.

قوله ص ٣٧٠ س ١٤ : ومن أمثلة ذلك : أي احتمال اقوائيّة الملاك.

قوله ص ٣٧٠ س ١٥ : الطريقية : وعلى تعبيرنا الظن النوعي.

قوله ص ٣٧٠ س ١٦ : لا يحتمل كونها إلخ : أي وانّما يحتمل وجودها في الأوثق والأفقه خاصة أو وجودها في كليهما بشكل متساوي.

قوله ص ٣٧١ س ١٢ : إذا لم يكن كذب كل من الدليلين إلخ : أي إذا لم يكن بينهما تناقض بل تضاد.

قوله ص ٣٧٢ س ٧ : دون احتمال مماثل في الآخر : أي بدون ان نحتمل الأقوائية في الآخر.

قوله ص ٣٧٢ س ٨ : في غير ذلك : أي إذا لم يجزم ولم يحتمل الأقوائية في احدهما.

قوله ص ٣٧٢ س ٩ : منجزا : أي مطلقا وبشكل غير مشروط.

قوله ص ٣٧٢ س ١٠ : مع ذلك : أي مع عدم إمكان شمول دليل الحجّية لهما بشكل منجز.

قوله ص ٣٧٢ س ١٣ : هذه هي النظرية العامّة إلخ : ولكن سيأتي ص ٣٧٩ من الحلقة التراجع عنها وانّ القاعدة الاولية تقتضي التساقط كما ذكر المشهور.



تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقر

قوله ص ٣٧٢ س ١٦ : ومن اجل تكميل إلخ : هناك عدة تنبيهات ترتبط بالقاعدة الاولية ـ وبتعبير الكتاب : النظرية العامّة ـ في التعارض هي : ـ

التنبيه الأوّل

ذكرنا انّ المقصود من القاعدة الاولية في المتعارضين هي ملاحظة دليل الحجية وقصر النظر عليه بلا ملاحظة الروايات العلاجية. ودليل الحجّية هذا قد يكون واحدا وقد يكون متعددا.

وتوضيح ذلك يتم بملاحظة الحالات التالية : ـ

١ ـ إذا حصل التعارض المستقر بين دليلين وكانا معا قطعيين من حيث السند وظنيين من حيث الدلالة (١) فلا يحصل تعارض من حيث الصدور إذ لا نحتاج إلى إثبات التعبد بالصدور ليكون تطبيق دليل حجّية الخبر على الأوّل معارضا بتطبيقه على الخبر الثاني ، لأنّ المفروض ثبوت صدورهما بسبب القطع بلا حاجة إلى التمسك بدليل حجّية الخبر ، وانّما المعارضة تحصل بين الظهورين

__________________

(١) ينبغي ان لا يغيب عن الذهن انّ المفروض في الدلالتين في جميع الحالات عدم إمكان الجمع العرفي بينهما ـ بان كانت النسبة بينهما نسبة التباين أو العموم من وجه ـ وإلاّ كان التعارض بينهما تعارضا غير مستقر.


فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ودليل حجّية الظهور كما هو واضح حيث انّه دليل واحد فحكم المعارضة يكون ملحوظا بالقياس إلى دليل واحد.

٢ ـ إذا فرض عكس ما سبق بان كان الدليلان قطعيين من حيث الدلالة وظنيين من حيث السند فالمعارضة لا تحصل بين الدلالتين إذ بعد القطع بالدلالة فلا يحتاج إلى دليل حجّية الظهور ليكون تطبيقه على أحد الظهورين معارضا لتطبيقه على الظهور الآخر وانّما تحصل المعارضة بين السندين فشمول دليل حجّية الخبر لهذا الخبر يعارض شموله للخبر الآخر ، وحيث انّ دليل حجّية الخبر دليل واحد فالمعارضة إذن تلحظ بالقياس إلى دليل واحد لا إلى دليلين.

٣ ـ إذا افترض انّ كلا الدليلين ظنّي من حيث السند ومن حيث الدلالة فلا إشكال في حصول المعارضة بين الظهورين فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ولكن هل هناك معارضة بين السندين بمعنى انّ تطبيق دليل حجّية الخبر على ذاك الخبر يكون معارضا لتطبيقه على هذا الخبر؟

قد يقال بعدم وجود معارضة من حيث الصدور ، فانّ منشأ التعارض في الحقيقة هو الظهوران فالتعبد بالظهورين غير ممكن ولو قطعنا النظر عن الظهورين المتنافيين فلا معارضة ولا محذور في التعبد بصدور كلا الخبرين ، وعليه فالتعارض يسري إلى دليل حجّية الظهور فقط ولا يسري إلى دليل حجّية الخبر.

وجوابه : انّ التعبد بالصدورين عند افتراض قطع النظر عن الظهورين لغو


وبلا فائدة فانّ التعبد بصدور الخبر لا معنى له إلاّ إذا كان المقصود منه التعبد بصدور الخبر بما له من مفاد وظهور ، وهذا معناه انّ التعبد بالصدور والتعبد بالظهور أمران مترابطان بمعنى انّه لا يمكن التعبد بالصدور بقطع النظر عن التعبد بالظهور كما ولا يمكن التعبد بالظهور بقطع النظر عن الصدور للغوية التعبد باحدهما دون الآخر.

٤ ـ إذا افترض انّ احد الدليلين قطعي السند ظنّي الدلالة والآخر على العكس ، أي ظنّي السند قطعي الدلالة فلا بدّ من عزل اثنين من ساحة المعارضة ، وهما السند القطعي من الدليل الأوّل والدلالة القطعية من الدليل الثاني ، إذ السند بعد قطعيته وهكذا الدلالة بعد قطعيتها لا يحتاجان في حجّيتهما إلى تطبيق دليل الحجّية عليهما ليكون تطبيقه عليهما معارضا لتطبيقه على السند أو الدلالة في الآخر.

إذن المعارضة تنحصر بين الدلالة الظنّية في الخبر الأوّل والسند الظنّي في الخبر الثاني فدليل حجّية ظهور الخبر الأوّل يعارض دليل حجّية الصدور في الخبر الثاني فانّ التعبد بصدور الخبر الذي له دلالة قطعية معارضة لدلالة الآخر ينافي التعبد بظهور الخبر الذي صدوره قطعي ، ومعه فان كان لأحدهما مرجح رجح وإلاّ طبقت النظرية السابقة للتعارض المستقر وهي ثبوت الحجّية لكل من الخبرين بنحو مشروط.

٥ ـ إذا افترض انّ أحد الدليلين ظنّي من حيث السند والدلالة معا والآخر قطعي من حيث الدلالة وظنّي من حيث السند فلا بدّ من عزل الدلالة القطعية للدليل الثاني من ساحة المعارضة لعدم احتياج حجّيتها إلى دليل التعبد ليكون


جريانه معارضا لجريان دليل التعبد في الآخر ، وانّما المعارضة تستحكم بين دليل حجّية الظهور في الخبر الأوّل ودليل حجّية الصدور في الخبر الثاني ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل الذي له ظهور معارض لظهور الخبر الثاني ـ مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما ـ يتنافى والتعبد بصدور الخبر الثاني الذي له ظهور معارض للأوّل.

وينبغي ان يكون واضحا انّا حينما نقول بدخول ظهور الدليل الأوّل في مجال المعارضة فبالتبع لا بدّ من فرض دخول سند الأوّل في المعارضة إذ الظهور لا يمكن حجّيته بلا حجّية سنده ، لما أشرنا إليه سابقا من الترابط بين التعبد بالظهور والتعبد بالسند وانّ التعبد بأحدهما دون الآخر لغو وبلا فائدة. وعليه فالمعارضة في هذه الحالة تكون ثلاثية الاطراف فالتعبد بالسند والدلالة في الخبر الأوّل يتعارض والتعبد بالسند في الخبر الثاني.

٦ ـ إذا افترض انّ الخبر الأوّل ظنّي من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي من حيث الدلالة وقطعي من حيث السند فيجري نفس ما ذكرناه في الحالة الخامسة ، أي لا بدّ من حذف السند القطعي في الخبر الثاني من ساحة المعارضة للنكتة السابقة وتستقر المعارضة بين الظهورين للخبرين ، فشمول دليل الحجّية لظهور الخبر الأوّل يعارض شموله لظهور الخبر الثاني. وطبيعي يدخل في مجال المعارضة أيضا السند الظنّي في الخبر الاوّل ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل بدون التعبد بصدوره لغو وبلا فائدة فتكون المعارضة ثلاثية الاطراف أيضا فدليل التعبد بالصدور والظهور في الخبر الأوّل يعارض دليل التعبد بالظهور في الخبر الثاني.


خلاصة ما تقدم

إتضح مما تقدم انّ دليل الحجّية الذي تلحظ المعارضة بالقياس إليه هو دليل واحد في الحالتين الأوليتين ـ وهو دليل حجّية الظهور في الحالة الاولى ودليل حجّية السند في الحالة الثانية ـ بينما هو دليلان في بقية الحالات ، فدليل حجّية الظهور في أحد الخبرين يتعارض ودليل حجّية الصدور في الخبر الثانى.

صور اخرى

وهناك صور اخرى لم يشر لها في الكتاب نذكر منها : ـ

١ ـ فرض الخبر الأوّل قطعيا من حيث السند والدلالة معا والخبر الثاني ظنّيا من حيث السند والدلالة معا.

والسبب في عدم الاشارة لهذه الصورة واضح لعدم امكان سراية المعارضة إلى دليل الحجّية في الصورة المذكورة ، فإنّ الخبر الأول ما دمنا قد فرضناه قطعيا من حيث السند والدلالة فلا حاجة إلى تطبيق دليل الحجّية عليه وإنّما الذي يحتاج إلى تطبيق دليل الحجّية هو خصوص الخبر الثاني. وهل ذلك ممكن؟ كلاّ انّه غير ممكن ، إذ بعد القطع بصدور الخبر الأول ودلالته يكون التعبّد بصدور وظهور الخبر الثاني تعبّدا بثبوت المتنافيين وهو مستحيل.

٢ ـ فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي الدلالة قطعي السند.

٣ ـ فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني قطعي


الدلالة ظنّي السند.

والنكتة في عدم الاشارة لهاتين الصورتين هي نفس النكتة السابقة ، فإنه مع القطع بصدور ودلالة الخبر الأول لا يمكن التعبّد بدلالة أو صدور الخبر الثاني وإلاّ يلزم التعبّد بثبوت المتنافيين.

التنبيه الثاني

انّ التعارض المستقر له مصداقان : التباين ، مثل تحرم الجمعة وتجب الجمعة ، والعموم من وجه ، مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق (١). وما ذكرناه سابقا من مقتضى القاعدة الأوليّة ـ وهو انّ أحدهما لو كان أقوى من حيث ملاك الحجّية فهو الحجّة وإلاّ كان كل منهما حجّة بنحو مشروط ـ لا يختص بالمتباينين بل يعم ما اذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه أيضا.

أجل هناك فارق واحد بينهما ، وهو انّه في مورد التباين يتعارض الظهوران وبسبب تعارضهما يتعارض السندان أيضا ويتساقطان ، فشمول دليل السند ـ وهو مفهوم آية النبأ مثلا ـ لذاك السند معارض بشموله لهذا السند. وأمّا في صورة العموم من وجه فالتعارض بين الظهورين لا يسري إلى السندين بنحو يتساقطان تماما بل يبقيان على حجّية السند بلحاظ مادتي الافتراق وانّما يسقطان بلحاظ خصوص مادّة الاجتماع التي هي مادّة المعارضة بين الظهورين.

ان قلت : كيف يتعارض الظهوران ولا يتساقط السندان!! انّ هذا غير

__________________

(١) وأطلق في الكتاب على التباين بالتعارض المستوعب ـ حيث لا يوجد فيه مورد لا يتعارضان بلحاظه ـ وعلى العموم من وجه بالتعارض غير المستوعب.


مقبول ، فإنّ الظهورين لا يتعارضان إلاّ بعد ثبوتهما ، وهو ـ ثبوتهما ـ لا يتحقّق إلاّ بعد ثبوت صدورهما عن طريق دليل حجّية السند فسبب التعارض إذن هو دليل حجّية السند ، ومعه فيكون التعارض ثابتا أوّلا بين السندين ولا بدّ من تساقطهما ولا يعقل تعارض الظهورين وتساقطهما بلا فرض التعارض بين السندين وتساقطهما.

قلت : انّ تساقط السندين وان كان أمرا لازما إلاّ انّه لازم بمقدار التعارض الثابت بين الظهورين ، وما دام التعارض ثابتا بمقدار مادّة الاجتماع فالسندان يسقطان بالمقدار المذكور ولا موجب لسقوطهما بلحاظ مادتي الافتراق ، نعم في المتباينين حيث انهما متعارضان بلحاظ جميع الموارد فالمناسب سقوط سندهما عن الحجّية رأسا وبالكلّية.

وان شئت قلت : انّ التعبّد يعنى ثبوت مفاد الدليل بلحاظ آثاره التي أهمها حجّيته ، وحيث انّ حجّية العموم بلحاظ مادّة الاجتماع لا يمكن ثبوتها فالتعبّد بالسندين يسقط بلحاظ المادّة المذكورة ، أي مادّة الاجتماع ، وأمّا بلحاظ مادتي الافتراق فحيث انّ حجّية العموم باقية فالتعبّد بالسند باق أيضا باللحاظ المذكور أي بلحاظ مادتي الافتراق.

استحكام التعارض بين السندين

ونحن كنّا نذكر سابقا انّ التعارض يستحكم بين الظهورين أوّلا ـ بلا فرق بين المتباينين أو العامّين من وجه ـ ومن ثمّ يسري الى السندين. والآن نستدرك ونقول انّ هذا ذكرناه من باب تبسيط الفكرة وإلاّ فبحسب الحقيقة الأمر


على العكس فالتعارض يثبت منذ البداية بين السندين لا بين الظهورين.

أمّا انّ سريان التعارض من الظهورين الى السندين كان مذكورا من باب تبسيط الفكرة فتوضيحه : انّ التعارض بين السندين إنّما يحصل باعتبار الظهورين ، فكأنّ الذهن يخيّل له انّ التعارض يثبت أوّلا بين الظهورين وبسبب تعارضهما يسري التعارض الى السندين.

واما ان الامر بحسب الحقيقة يقتضي العكس فذلك باعتبار انه لا معنى لتحقق التعارض بين الظهورين أوّلا ، فإنّ التعارض بين الظهورين متوقّف على تحقّق الكلامين ليتحقّق ظهورهما ومن ثمّ تعارضهما ، ومن الواضح انّه بقطع النظر عن حجّية السند لا نملك بأيدينا كلامين وظهورين ليتحقّق التعارض بينهما ويسري إلى السندين ، وانّما نملك دليل حجّية السند فقط. إذن التعارض يثبت أوّلا بين السندين لأنّهما الثابتان في اليد ، وأمّا الظهوران فلا يثبتان في اليد إلاّ بعد حجّية السندين.

التنبيه الثالث

لا اشكال في انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة متعارضان ومتساقطان عن الحجّية. ولكن هل يمكن بواسطتهما نفي الاحتمال الثالث ـ وهو استحباب الجمعة مثلا ـ أو لا؟ قد يقال بإمكان ذلك لأحد وجوه ثلاثة : ـ

١ ـ انّ كلا من دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة مشتمل على مدلول مطابقي ومدلول التزامي ، فالمدلول المطابقي للأوّل وجوب الجمعة ومدلوله الالتزامي عدم استحباب الجمعة ، وهكذا المدلول المطابقي للثاني وجوب الظهر ومدلوله


الالتزامي عدم استحباب الظهر. والتعارض بين الدليلين المذكورين انّما هو ثابت بلحاظ المدلولين المطابقيين فيسقطان عن الحجّية بهذا اللحاظ ، وأمّا بلحاظ المدلول الالتزامي ـ وهو نفي استحباب الجمعة ـ فلا تعارض بينهما ليسقطان عن الحجّية بل هما باقيان عليها بلحاظه ، وبذلك ينتفي احتمال الاستحباب.

ويرده : انّ هذا البيان تام على المبنى القائل بعدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط الدلالة المطابقية وليس تامّا على ما هو الصحيح من سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط المطابقية عن الحجّية.

٢ ـ انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة نعلم بكذب واحد منهما ، وأمّا الثاني فلا علم بكذبه ، ونحن نطبّق دليل حجّية الخبر على الدليل الثاني الذيّ لا نعلم بكذبه. وإذا ثبتت حجّيته ـ وان كنّا لا نعرفه على سبيل التفصيل ـ يثبت بذلك انتفاء احتمال الاستحباب.

لا يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الثاني الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل الذي يعلم بكذبه أو يقال هو معارض بتطبيقه على هذا الخبر بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

فإنّه يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر المعلوم كذبه غير معقول بعد العلم بكذبه ، ومعه فلا معنى لأن يكون تطبيق دليل الحجّية عليه معارضا لتطبيقه على الخبر الذي لا يعلم بكذبه.

وأمّا ما قيل من انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل مثلا الذي يقول الجمعة واجبة ، فهو مدفوع بأنّ الخبر الأوّل لعلّه واقعا هو الخبر الذي لا يعلم بكذبه وليس غيره ليكون


تطبيقه على أحدهما معارضا لتطبيقه على الآخر. وهكذا لا معنى لأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الثاني مثلا الذي يقول الظهر واجبة.

والوجه في ذاك انّ الخبر الذي لا يعلم بكذبه لعلّه واقعا هو نفس الخبر الثاني وليس غيره لتتحقّق المعارضة في مقام التطبيق. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويردّه : انّ دليل تجب الجمعة وتحرم أمّا أن يجزم بصدق أحدهما ولا يحتمل كذبهما معا ، أو لا يجزم بصدق أحدهما بل يحتمل كذبهما معا.

فإن كان يجزم بصدق أحدهما فهذا وحده يكفي لنفي الاحتمال الثالث بلا حاجة لتطبيق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب ، فإنه بعد العلم بصدق أحدهما ينتفي الاحتمال الثالث.

وأمّا إذا لم يجزم بصدق أحدهما بل كان يحتمل كذبهما معا ففي مثل هذه الحالة نقول لو فرض انّهما واقعا وفي علم الله سبحانه كانا كاذبين معا ـ أي كان احتمال كذبهما مطابقا للواقع ـ فلا تميّز حينئذ لمعلوم الكذب عن غيره حتى في الواقع وعلم الله ، ومعه فلا معنى لأن يكون أحدهما حجّة دون الآخر ، إذ المفروض انّ كليهما كاذب واقعا لا انّ أحدهما كاذب دون الآخر لتثبت الحجّية لغير معلوم الكذب واقعا.

٣ ـ تطبيق ما ذكر سابقا ، وهو انّه لا مانع من شمول دليل الحجّية لكل واحد منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ، وحيث انّ أحدهما كاذب جزما فيكون الآخر حجّة ، وبحجّيته ينتفي الاحتمال الثالث.

ولعلّ مقصود صاحب البيان الثاني هذا البيان الثالث ، فكأنّه يريد من قوله


« نطبّق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب » تطبيقه على كل واحد منهما مشروطا بكذب الآخر.

ومن هنا عدّ السيّد الشهيد هذا البيان الثالث تعميقا للبيان الثاني ، وما ذاك إلاّ لاحتمال وحدة مقصودهما (١).

التنبيه الرابع

انّ كل ما ذكرناه سابقا في بيان مقتضى القاعدة الأولية وبقية الأحكام الاخرى كنّا نفترض فيه انّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يمكنه مثلا شمول المتعارضين بنحو مشروط. وهذا كان مجرّد افتراض وإلاّ فالواقع ليس كذلك فإنّ دليل حجّية الامارات غالبا ليس دليلا لفظيا وإنّما هو دليل لبّي يتمثّل في سيرة العقلاء أو سيرة المتشرعة أو الإجماع. ولئن كانت هناك أدلة لفظية تدل على حجّية بعض الامارات ـ كمفهوم آية النبأ الدال على حجّية الخبر ـ فهي إرشاد وامضاء لسيرة العقلاء ولا تريد بيان مطلب أكثر ممّا انعقدت عليه سيرة العقلاء.

__________________

(١) يرد على البيان الثالث نفس ما أورد على البيان الثاني ، بأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على كل واحد منهما بشرط كذب الآخر لا يتم لاحتمال كذبهما معا وفي علم الله سبحانه.

إن قلت : انّ هذا معناه تحقّق الشرط لحجّية كل واحد منهما فيكون كل واحد منهما حجّة وبذلك ينتفي الاحتمال الثالث أيضا.

قلت : كيف تثبت الحجّية لكل منهما مع فرض كذبهما واقعا أو العلم بكذب واحد منهما على الأقل ، فإنّ الحجّية لا يمكن ثبوتها لما يعلم كذبه.


وإذا كان دليل الحجّية دليلا لبّيا فسوف تتغير نتيجتان من النتائج التي انتهينا إليها سابقا وهما : ـ

١ ـ إنّا كنّا نقول سابقا ـ خلافا للمشهور ـ بعدم تساقط المتعارضين بالتعارض المستقر بل يشملهما دليل الحجّية بنحو مشروط وكنّا نستفيد من ذلك في نفي الاحتمال الثالث. وهذا يتم بناء على أنّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يدل على حجّية كل امارة سواء كانت الاخرى كاذبة أم لا ، وحيث انّ دليل الحجّية بإطلاقه المذكور لا يمكن أن يشمل كلا المتعارضين فيشملهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ؛ إذ تعذّر التمسّك بدليل بما له من إطلاق لا يستدعي رفع اليد عن أصله بل عن إطلاقه فقط ويؤخذ به بنحو مشروط فإنّ الضرورة تقدر بقدرها.

أمّا إذا لم يكن دليل الحجّية لفظيا له الإطلاق المذكور بل كان مثل سيرة العقلاء فمن الوجيه أن يقال حينئذ بسقوط كلا الدليلين عن الحجّية ـ كما قال المشهور ـ ولا يكونان حجّة بنحو مشروط ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على العمل بالخبر غير المعارض أمّا المعارض فلا يعمل العقلاء به أبدا حتّى بنحو مشروط.

ومن هنا نعرف انّ النتيجة التي انتهى إليها المشهور وهي التساقط وعدم الحجّية بنحو مشروط نتيجة صحيحة بعد ما كان دليل الحجّية دليلا لبّيا. وما ذكرناه سابقا من الحجّية المشروطة يتمّ بناء على افتراض دليل الحجّية دليلا لفظيا ذا إطلاق.

٢ ـ تقدّم سابقا ص ٣٧٥ من الحلقة انّه متى ما تعارض خبر الثقة الذي هو ظني السند مع الكتاب الكريم الذي هو قطعي السند وقع التعارض بين دليل حجّية الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.


وهذا يتم بناء على انّ دليل حجّية الخبر دليل لفظي ، وامّا بناء على كونه السيرة فالمناسب ان يقال بعدم حجّية الخبر أصلا ـ فيما إذا كان معارضا لظهور القرآن الكريم بنحو لا يمكن الجمع بينهما ـ لا أنّه حجّة ويعارض ظهور القرآن الكريم لأنّ سيرة العقلاء لم تجر على العمل بالخبر الظني عند معارضته بالدليل القطعي السند كالقرآن الكريم.

قوله ص ٣٧٣ س ٧ : كما تقدّم : ص ٣٢٧ س ٩.

قوله ص ٣٧٤ س ٨ : بمفرده : أي بمعنى معارضة دليل حجّية الظهور هناك لدليل حجّية الظهور هنا.

قوله ص ٣٧٤ س ٨ : كذلك : أي بمفرده. والمقصود انّ دليل حجّية السند هناك لا يعارض دليل حجّية السند هنا.

قوله ص ٣٧٤ س ١٧ : لما عرفت من الترابط : أي لا يمكن التعبّد بالصدور بقطع النظر عن الظهور كما لا يمكن التعبّد بالظهور بقطع النظر عن التعبّد بالصدور.

قوله ص ٣٧٥ س ١ : والمحصل النهائي : أي لما ذكر في الحالة الخامسة.

قوله ص ٣٧٥ س ١٢ : ومن هنا الخ : أي من انّ معنى التعبّد بالسند هو حجّية مفاد الدليل وانّه بدون التعبّد بالسند لا يعقل ثبوت مفاد الدليل.

قوله ص ٣٧٨ س ١٣ : وهذا يكفي لنفي الثالث الخ : ولكن سيأتي منه 1 التراجع عن ذلك ص ٣٧٩ من الحلقة.

قوله ص ٣٧٩ س ١٤ : على النحو المذكور : أي بكذب الآخر.



المتعارضان بمقتضى القاعدة الثانوية

قوله ص ٣٨١ س ١ : الروايات الخاصة الواردة الخ : كل ما ذكرناه كان ناظرا إلى مقتضى القاعدة الأولية. وقد اتّضح انّها تقتضي التساقط.

وأمّا القاعدة الثانوية ـ أي ما تقتضيه الأخبار العلاجية ـ فهي تقتضي ما يلي : ـ

١ ـ إذا عارض خبر الثقة الذي هو ظني السند ظاهر القرآن الكريم الذي هو قطعي السند فقد ذكرنا سابقا انّ دليل حجّية صدور الخبر يعارض دليل حجّية ظاهر الكتاب ويتساقطان (١).

هذا ولكن بعض الأخبار العلاجية يستفاد منها سقوط الخبر عن الاعتبار في مثل هذه الحالة فهو ليس بحجّة أبدا لا أنّه حجّة وتقع المعارضة بين دليل حجّيته ودليل حجّية ظهور القرآن الكريم ويتساقطان.

وهذه المجموعة من الأخبار بعضها بلسان انّ الخبر غير الموافق للكتاب الكريم زخرف أو لم نقله ، وبعضها بلسان انّ الخبر إذا لم يكن معه شاهد من كتاب الله فلا يؤخذ به ، وبعضها بلسان ما خالف كتاب الله فدعوه.

__________________

(١) هذا ما ذكره 1 قبل التراجع وإلاّ فما ذكره ص ٣٧٩ من الحلقة تحت عنوان « الثانية » يوافق الأخبار العلاجية المذكورة.

ومن هنا تعرف النكتة في تعبيره بـ « قد » حيث قال : « عما قد يكون الخ ».


وأطلق 1 على هذه المجموعة من الأخبار بألسنتها الثلاثة اسم أخبار العرض لأنّها تدلّ على لزوم عرض كل خبر من الأخبار على كتاب الله والأخذ بالموافق وترك غيره.

٢ ـ إذا عارض خبر الثقة خبرا آخر بشكل لا يمكن الجمع العرفي بينهما فقد ذكرنا انّ القاعدة الأولية تقتضي التساقط وفاقا للمشهور (١). هذا ولكن هناك مجموعة تدل على التخيير بين الخبرين أو تعيّن الأخذ بالمخالف للعامة مثلا (٢) وعدم تساقطهما.

واصطلح 1 على هذه المجموعة بالأخبار العلاجية.

وسوف نأخذ بالتحدّث عن هاتين المجموعتين من الأخبار.

فارق بين المجموعتين

ويوجد فارق بين المجموعتين ، فالمجموعة الثانية ـ اخبار العلاج ـ ناظرة إلى الخبرين المتعارضين ، وأمّا المجموعة الاولى ـ أخبار العرض ـ فهي ليست ناظرة إلى الخبرين المتعارضين بل إلى الخبر غير المعارض بمثله ولكنه مخالف للقرآن الكريم لا أكثر.

وإنّما عدّ هذا القسم تحت باب التعارض والحال لا يوجد فيه تعارض بين

__________________

(١) لما تقدّم من التراجع وموافقة المشهور.

(٢) مورد التخيير صورة فقدان المرجّح في أحد الخبرين ، ومورد التعيين ما لو كان أحدهما مشتملا على المرجّح. واختار البعض كالآخوند الخراساني التخيير حتّى في حالة اشتمال أحد الخبرين على المرجح.


خبرين ليس الا من جهة تحقق المعارضة بين دليل حجّية سند الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.

روايات العرض على الكتاب

ذكرنا انّ أخبار العلاج تنقسم إلى مجموعتين. ونتحدّث الآن عن المجموعة الاولى التي اصطلح عليها اسم أخبار العرض.

وهذه المجموعة يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجاميع : ـ

المجموعة الاولى

ما ورد بلسان ان غير الموافق لم نقله أو زخرف مع الاقتران بلسان الإنكار والتحاشي كقوله 7 : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (١) ، فإنّ المستفاد من هذا الحديث تحاشي الأئمّة : من نسبة الخبر غير الموافق إليهم.

وهذا التحاشي يدلّ عرفا على انّ خبر الثقة غير الموافق للكتاب ليس حجّة.

وبهذا يتقيّد دليل حجّية خبر الثقة بخصوص الخبر الموافق للكتاب ـ طبيعي لو فرض انّ دليل الحجّية دليل لفظي ذو إطلاق وليس دليلا لبّيا كالسيرة ـ ولا يشمل الخبر غير الموافق.

وبهذا يبطل ما ذكرناه سابقا من وقوع التعارض بين دليل حجّية خبر الثقة ودليل حجّية ظهور الكتاب ، فإنّ خبر الثقة بناء على هذا ساقط عن الحجّية

__________________

(١) الوسائل : ج ١٨ أبواب صفات القاضي باب ٩ حديث ١٢.


ولا يمكن معارضته لظاهر الكتاب.

إشكالات ثلاثة

وقد أشكل على هذه المجموعة بثلاثة إشكالات :

أ ـ انّ هذه المجموعة لا تسلب الحجّية عن الخبر غير الموافق لتكون مخصّصة لدليل حجّية الخبر بخصوص الخبر الموافق وإنّما هي تنفي صدور الأخبار غير الموافقة للكتاب فلو فرض انّ عدد الأخبار غير الموافقة مائة خبر فالمجموعة المذكورة تقول انّ الأخبار المائة غير الموافقة ليست صادرة منّا أهل البيت فهي إذن تتعارض وشهادة راوي تلك الأخبار المائة بصدورها من الأئمّة : ولا تنفي حجّية الخبر غير الموافق حتّى يخصّص دليل الحجّية بخصوص الخبر الموافق.

وفيه : انّ تحاشي الأئمّة : من نسبة الأخبار غير الموافقة إليهم وإنكارهم لها يفهم منه عرفا سلب الحجّية عنها.

ب ـ انّ هذه المجموعة تقول انّ غير الموافق زخرف فلو فرض انّ خبرا لا يوجد مضمونه في القرآن الكريم ـ كالخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان ـ فهو ممّا يصدق عليه عنوان غير الموافق للكتاب ولو لأجل عدم وجود مضمونه في القرآن الكريم فيلزم أن لا يكون حجّة ، والحال انّ هذا لا يمكن الالتزام به ، إذ كيف يقال انّ مثل الخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان ليس بحجّة.

ويردّه : انّ ظاهر لسان « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » اعتبار صدق غير الموافق بنحو السالبة بانتفاء المحمول ولا يكفي صدق السالبة


بانتفاء الموضوع ، أي يستفاد منها انّ الخبر إذا كان مضمونه في القرآن الكريم ولم يكن موافقا له فهو زخرف ولا يستفاد منها انّ الخبر إذا لم يكن موافقا للقرآن الكريم من جهة عدم وجود مضمونه فيه فهو زخرف. وهذا نظير ما لو قيل « عبدي ليس بجميل » ، فإنّ ظاهره ملكه للعبد ونفي الجمال عنه لا انّه ينفي الجمال من باب انّه لا عبد له أصلا.

ج ـ انّ هذه المجموعة تدل على انّ كل خبر مخالف للكتاب ولو بنحو العموم والخصوص المطلق فهو ليس بحجّة بيد انّا لمّا كنّا نجزم بصدور أخبار كثيرة منهم : مخصّصة له نسبتها إليه نسبة العموم والخصوص المطلق ـ إذ لم يترك الأئمّة ( صلوات الله عليهم ) غالبا عاما من عمومات الكتاب إلاّ وخصّصوه بمخصّص ـ فلا بدّ من تأويل المجموعة المذكورة ومخالفة ظاهرها وحملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي أو على المخالفة في باب اصول الدين مثلا.

ويرده : لا نسلّم انّ المجموعة المذكورة ظاهرة في عدم حجّية المخالف إذا كانت مخالفته للقرآن الكريم بنحو العموم والخصوص المطلق كي يلزم تأويلها وحملها على اصول الدين أو التباين الكلّي وإنّما هي من الأول ظاهرة في الاختصاص بخصوص الخبر المخالف بنحو التباين الكلّي. والقرينة على الاختصاص المذكور تحاشي الأئمّة : من نسبة الأخبار المخالفة إليهم ، والمخالف بنحو العموم والخصوص المطلق لا معنى لإنكارهم له وتحاشيهم من نسبته إليهم بعد وضوح جريان سيرتهم بشكل واضح على تخصيص عمومات الكتاب وعدم ترك عموم بلا تخصيص.

إذن المجموعة المذكورة لا حاجة إلى تأويلها بل هي من الأوّل ظاهرة في


الاختصاص بالمخالف للكتاب بنحو التباين الكلي.

المجموعة الثانية

ما ورد بلسان انّ الخبر يكون حجّة فيما إذا كان له شاهد من كتاب الله العزيز أو السنّة القطعية لرسوله الكريم ، كما ورد ذلك في رواية عبد الله بن أبي يعفور : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله 6 وإلاّ فالذي جاء به أولى به » (١).

ولسان هذه المجموعة يمتاز عن لسان المجموعة السابقة في ان السابقة لم تنف الحجية عن الخبر بجميع حصصه بل عن خصوص الخبر غير الموافق للكتاب دون الخبر الموافق للكتاب أو الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب الكريم ، وامّا هذه المجموعة فهي تنفي الحجّية عن الخبر بجميع حصصه ، إذ نفت الحجّية عن الخبر الذي ليس معه شاهد من الكتاب ، ويبقى الخبر الذي له شاهد من الكتاب الذي لا معنى لجعل الحجّية له فإن جعل الحجّية للخبر في خصوص حالة وجود شاهد له من الكتاب الكريم لغو فلا معنى لان يقال ان الخبر حجة اذا كان القران الكريم يشهد بصحته اذ عند وجود الشاهد من القران الكريم يكون الحجّة هو القرآن الكريم دون الخبر ويكون جعل الحجّية للخبر لغوا.

وهذا المفاد للمجموعة المذكورة يواجه ايرادين : ـ

أ ـ انّ خبر ابن أبي يعفور ونظائره خبر واحد ، وما دام خبرا واحدا فلا

__________________

(١) الوسائل : ج ١٨ أبواب صفات القاضي باب ٩ حديث ١١.


يمكن الاستدلال به على نفي حجّية الخبر الواحد ، إذ ذلك دور واضح.

ب ـ انّ خبر ابن أبي يعفور مخالف للقرآن الكريم وليس عليه شاهد منه ـ إذ القرآن الكريم يقول في مفهوم آية النبأ انّ خبر العادل حجّة ـ بل الشاهد منه على العكس فيلزم أن لا يكون حجّة لأنّه بنفسه يقول انّ ما ليس عليه شاهد فالذي جاء به اولى به ، وحيث انه ليس عليه شاهد بل الشاهد على العكس فيلزم من قبول مضمونه سلب الحجّية عنه ، أي يلزم من حجّيته عدم حجّيته (١).

المجموعة الثالثة

ما ورد بلسان نفي الحجّية عن الخبر فيما إذا كان مخالفا للكتاب ، فقد ورد في رواية جميل : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام فى الهلكة ، انّ على كل حقّ حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه » (٢).

وهذه المجموعة لها السمات التالية : ـ

أ ـ انّها لا تسلب الحجّية عن الخبر بجميع حصصه كما هو الحال في المجموعة الثانية بل هي كالمجموعة الاولى تنفي الحجّية عن حصة واحدة من الخبر وهي

__________________

(١) كما ويمكن الايراد على هذه المجموعة مضافا إلى ما تقدّم بأنّ مضمونها لا يمكن قبوله ، إذ لازمه عدم حجّية الأخبار التي لا يوجد لها مضمون في القرآن الكريم ولا يصدق ان عليها شاهدا من كتاب الله ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، وكيف يلتزم بعدم حجّية الخبر الدالّ على انّ صلاة الصبح ركعتان أو انّ الشكّ في الثنائية مبطل أو انّ الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء أو ..

(٢) الوسائل : ج ١٨ أبواب صفات القاضي باب ٩ حديث ٣٥.


الخبر المخالف للقرآن الكريم.

ب ـ انّ ذكر القرآن الكريم ليس لخصوصية فيه وإنّما ذلك من باب انّه مصداق للدليل القطعي ، وعليه فالمدار في سلب الحجّية عن الخبر هو مخالفته للدليل القطعي سواء كان ـ الدليل القطعي ـ هو القرآن الكريم أم السنّة النبوية الشريفة المتواترة.

ج ـ انّ المراد في المجموعة الاولى من الخبر المخالف هو خصوص المخالف للقرآن الكريم بنحو المباينة الكلية بقرينة استنكار الأئمّة : وتحاشيهم من نسبة الخبر المخالف لهم وإلاّ فالمخالف بالعموم من وجه لا وجه للتحاشي عنه. هذا في المجموعة الاولى ، وأمّا هذه المجموعة فحيث لا تشتمل على لسان التحاشي بل على لسان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فلا وجه لحمل المخالف فيها على خصوص المباين الكلي بل يشمل المخالف بنحو العموم من وجه أيضا.

اعتراضان

وقد اعترض على هذه المجموعة باعتراضين : ـ

الأوّل

انّ هذه المجموعة لا تسلب الحجّية عن خصوص الخبر المخالف للقرآن الكريم بل عن مطلق الامارة المخالفة سواء كانت خبرا أم غيره فانّ لسانها لم يذكر فيه لفظ الخبر بل قيل : « فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ». وعليه فتكون النسبة بين هذه المجموعة ودليل حجّية الخبر هي العموم من وجه ـ حيث انّ هذه المجموعة تسلب الحجّية عن مطلق الامارة المخالفة أعم


من أن تكون خبرا أو غيره ، ودليل حجّية الخبر يثبت الحجّية لمطلق الخبر أعم من أن يكون مخالفا للكتاب أو موافقا ، ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها هي الخبر المخالف الذي هو محل بحثنا ـ لا العموم والخصوص المطلق كي تخصص هذه المجموعة دليل حجّية الخبر بخصوص الخبر غير المخالف.

ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض بما يلي : ـ

أ ـ انّ هذه المجموعة وإن كانت نسبتها إلى دليل حجّية الخبر نسبة العموم والخصوص من وجه إلاّ أنّها تقدّم عليه من باب الحكومة والنظر فانّها فرضت الفراغ عن حجّية الخبر في الجملة وتنظر إلى الحجّية الثابتة في الجملة وتحدّدها بخصوص الخبر الموافق ، فهي نظير دليل لا تصل فيما لا يؤكل لحمه الناظر الى دليل وجوب الصلاة لبيان مانعية لبس ما لا يؤكل لحمه من صحة الصلاة وانّ مطلق الصلاة ليس مصداقا للواجب بل خصوص الصلاة التي لا تشتمل على لبس ما لا يؤكل لحمه.

ب ـ لو سلّمنا عدم حكومة هذه المجموعة على دليل حجّية الخبر فنقول انّ النسبة بين هذه المجموعة ودليل حجّية الخبر وإن كانت هي العموم من وجه ويتعارضان في مادة الاجتماع وهي الخبر المخالف للكتاب إلاّ أنّنا ندّعي انّه لا بدّ في مادة الاجتماع من ترجيح المجموعة والحكم بعدم حجّية الخبر.

والوجه في ذلك : انّ الخبر هو الفرد البارز والمتيقن من الامارات التي قيل عنها « فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف فدعوه ». فلو لم نرجّح في مادة الاجتماع المجموعة وجعلناها ـ المجموعة ـ مختصة بغير الخبر بحيث يكون المقصود من قوله 7 : « فما وافق كتاب الله ... » انّ غير الخبر من الامارات إذا


وافق كتاب الله ... فاللازم من ذلك إخراج الفرد البارز والمتيقن عن المجموعة وجعلها مختصة بالفرد الذي ليس ببارز ولا متيقن وهو بعيد بل مستهجن ، وهذا بخلاف ما لو اخرجنا مادة الاجتماع من دليل حجّية الخبر فإنّه لا يلزم اختصاصه بالفرد غير البارز بل يبقى شاملا لفرد بارز وهو الخبر الموافق للكتاب.

الثاني

انّ هذه المجموعة حيث انّها تسلب الحجّية عن الخبر المخالف فمقتضى إطلاقها عدم حجّية المخالف بجميع أقسامه بما في ذلك المخصص والمقيد والحاكم ولا تختص بالمباين الكلي والأعم من وجه ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، فإنّه لا إشكال في قبول الأخبار المخصّصة أو المقيّدة للقرآن الكريم ، كيف لا!! ويلزم بقاء العمومات القرآنية على عمومها ، وهذا ما لا نحتمله أبدا.

وقد أجاب الأعلام عن هذا الاعتراض بوجهين : ـ

أ ـ انّ المخصص والمقيّد والحاكم لا يصدق عليه عنوان المخالف (١) حتّى يكون مشمولا للمجموعة الثالثة التي تسلب الحجّية عن المخالف فإنّ المخصص وأخويه قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم ، والقرينة لا يصدق عليها انّها مخالفة لذي القرينة.

ب ـ انّا نجزم بصدور أخبار مخصّصة أو مقيّدة أو حاكمة على العمومات القرآنية جزما إذ لم يترك أهل البيت ( صلوات الله عليهم ) دليلا قرآنيا بلا تخصيص

__________________

(١) أي عرفا. وليس المراد عدم صدق عنوان المخالف عليها عقلا ودقة ليرد ما يأتي بعد قليل من صدقه عليها.


أو تقييد أو حاكم ، وهذا بنفسه يصلح أن يكون قرينة على أنّ المراد من المخالف الذي سلبت عنه الحجّية هو المخالف بنحو التباين أو الأعم من وجه وإلاّ فكيف صدر منهم : المخصص والمقيّد والحاكم.

وإذا لم يصلح هذا قرينة على ما نقول فلا أقل من أن يقال هكذا : انّا نجزم بأنّ عمومات القرآن الكريم لم تبق بأجمعها على عمومها بل بعضها خصّص وإن كنّا لا نعرف العام المخصّص على سبيل التفصيل بل على سبيل الإجمال (١). وبعد العلم بتخصيص بعضها يسقط عموم كل واحد منها عن الحجّية فإنّ أصالة العموم في الأوّل معارضة بأصالة العموم في الثاني ـ وهذا نظير ما لو كان لدينا أواني عشرة علمنا بطروّ النجاسة على واحد منها فإنّ أصالة الطهارة لا يمكن جريانها في أي إناء من الأواني لمعارضتها بجريانها في البقية ـ وبسقوطها عن الحجّية لا يصدق حينئذ على الأخبار المخصّصة عنوان المخالف ، إذ بعد فرض سقوط الأدلة القرآنية عن الحجّية فهي مخالفة إذن لأي شيء؟ وإذا لم يصدق على الأخبار المخصصة عنوان المخالف فتكون باقية على الحجّية.

مناقشة الوجهين

ويمكن مناقشة الوجهين المذكورين بما حاصله : انّ في المراد من عنوان المخالفة في المجموعة الثالثة ثلاثة احتمالات : ـ

__________________

(١) دعوى طرو التخصيص على بعض عمومات القرآن قضية واضحة لكل مسلم فإنّ كل مسلم يعرف ان عمومات القرآن لم تبق جميعا على عمومها بل بعضها خصّص جزما وإن كان لا يعرف على سبيل التفصيل العام الطارىء عليه التخصيص.


١ ـ ان يراد بها انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية ليس حجّة حتّى ولو كانت الدلالة القرآنية غير حجّة قبل ورود الخبر المخالف ، فلو فرض قبل ورود الخبر المخالف انّ الدلالة القرآنية لم تكن حجّة لبعض الأسباب فالخبر المخالف لها لا يكون حجّة.

٢ ـ ان يراد بها ان الدلالة القرآنية إذا كانت حجّة قبل ورود الخبر المخالف فهو غير حجّة ما دام مخالفا للدلالة التي هي حجّة قبل وروده.

٣ ـ أن يراد بها انّ الدلالة القرآنية إذا كانت حجّة قبل ورود الخبر المخالف وبعده ـ ولا يكفي حجّيتها قبل وروده ـ فهو غير حجّة.

ولا شكّ في أنّ أظهر الاحتمالات هو الثاني ، إذ الأوّل باطل جزما فإنّ الدلالة القرآنية إذا لم تكن حجّة في نفسها وكان وجودها كعدمها فلا وجه لسقوط الخبر المخالف لها عن الحجّية. وهل يحتمل انّ المخالفة لغير الحجّة موجبة للاسقاط عن الحجّية!!!

وهكذا الثالث باطل أيضا ، إذ لو كان اللازم حجّية الدلالة القرآنية حتّى بعد ورود الخبر المخالف فمقتضى ذلك أن تبقى المجموعة الثالثة التي تنهى عن الخبر المخالف بلا مصداق لأنّ الظهور يسقط عن الحجّية بعد وجود المخصّص له أو المقيّد أو الحاكم أو المعارض بنحو المباينة الكلية ولا يوجد ظهور يبقى على الحجّية بعد وجود المخصص ونحوه ، ومعه يلزم أن لا يبقى لدينا خبر مخالف لدلالة قرآنية معتبرة.

فالمتيقن على هذا هو الاحتمال الثاني ، أي انّ الدلالة القرآنية متى ما كانت حجّة في نفسها فالخبر المخالف لها ساقط عن الحجّية.


ولنعد إلى صلب الموضوع وهو انّه يوجد في المراد من عنوان الخبر المخالف ثلاثة احتمالات.

فإن أخذنا بالاحتمال الأوّل ـ وهو انّ الدلالة القرآنية ولو لم تكن حجّة في نفسها لا يكون الخبر المخالف لها حجّة ـ فالمناسب بطلان كلا الوجهين السابقين المذكورين من قبل الأعلام.

أمّا وجه بطلان الأوّل ـ وهو انّ المخصص واخويه لا يصدق عليهما عنوان المخالف ـ فلأنّ المخصص الذي هو قرينة منفصلة وإن أوجب بعد وروده تخصيص العام وإسقاط دلالته عن الحجّية إلاّ أنّ المفروض انّ الدلالة القرآنية التي هي ليست حجّة في نفسها توجب أيضا إسقاط الخبر المخالف لها عن الحجّية.

وأمّا انّ الثاني ـ وهو انّه بعد العلم بطرو التخصيص على بعض العمومات القرآنية تسقط جميعها عن الحجية ولا يصدق على الخبر المخصّص عنوان المخالف للدلالة المعتبرة ـ باطل ، فلأنّ العلم الإجمالي بطروّ التخصيص على بعض العمومات القرآنية وإن أوجب سقوط جميع العمومات القرآنية عن الحجّية إلاّ أنّ المفروض انّ المخالفة للدلالة القرآنية غير المعتبرة أيضا توجب سلب الحجّية عن الخبر.

وإن أخذنا بالاحتمال الثاني ـ وهو انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية المعتبرة في نفسها ليس حجّة ـ فالوجه الأول باطل والثاني صحيح.

امّا انّ الثاني صحيح فلأنّ الأخبار المخالفة والمخصصة للقرآن حتى لو قطعنا النظر عنها فمع ذلك لا تكون العمومات القرآنية حجّة للعلم الإجمالي الثابت لدى


كل مسلم بطرو التخصيص على بعض العمومات القرآنية (١) ، ومع عدم حجّية العمومات القرآنية في نفسها فلا تكون الأخبار المخصصة ساقطة عن الحجّية لعدم مخالفتها لما هو حجّة في نفسه.

وأمّا انّ الأوّل ليس بصحيح فباعتبار انّه لو قطعنا النظر عن الخبر المخصص أو المقيّد أو الحاكم فالعمومات القرآنية حجّة في نفسها ويصدق على الخبر المخصص مثلا انّه مخالف لما هو حجّة في نفسه (٢).

وإن أخذنا بالاحتمال الثالث ـ وهو انّ الخبر المخالف للدلالة القرآنية التي هي حجّة بعد وروده أيضا ليس حجّة ـ فكلا الوجهين صحيح.

امّا صحّة الوجه الثاني فلنفس ما تقدّم على الاحتمال الثاني ولا نكرّر.

وامّا صحّة الوجه الأوّل فلأن العام القرآني بقطع النظر عن الحيثية القرآنية لا يبقى على الحجّية بعد ورود الخاص ، ومع عدم بقائه على الحجية فلا يصدق

__________________

(١) اللهم إلاّ أن يقال انّ هذا العلم الإجمالي بطروّ المخصص على بعض العمومات منحل إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي حيث عثرنا بالتفصيل على مخصصات بقدر ما هو المعلوم بالإجمال ويبقى الشكّ في تخصيص الباقي شكا بدويا ، ومعه فلا مانع من حجّية العمومات التي لم يعلم بطروّ المخصصات عليها.

(٢) هذا ولكن يمكن أن يقال انّ العام بقطع النظر عن الخاص وإن كان حجّة في نفسه إلاّ أن الخاص لا يصدق عليه عرفا انّه مخالف للعام. ولئن كان يصدق عليه عنوان المخالف فذاك عقلا ودقة وامّا عرفا فلا ، وعليه فالخبر الخاص أو المقيد أو الحاكم لا يكون مشمولا للمجموعة الثالثة لعدم صدق عنوان المخالف عليه عرفا.

ونحن نستغرب من السيد الشهيد 1 رفضه للردّ الأوّل المذكور من قبل الأعلام فإنّه ردّ عرفي يطابق الوجدان ولا محيص عنه.


على الخبر الخاص عنوان المخالف كيما يسقط عن الحجّية.

النتيجة النهائية

وحيث انّ المستظهر من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة هو الاحتمال الثاني فالرد الأوّل لا يكون صحيحا (١) وإنّما الصحيح هو الرد الثاني.

جواب ثان عن المجموعة الثالثة

بعد انّ أجاب 1 عن المجموعة الثالثة بالردّ الثاني ـ الذي تقدّمت الإشارة له ص ٣٨٧ س ٧ من الحلقة ـ تصدى الآن لذكر ردّ آخر عليها.

وحاصله : انّ المجموعة الثالثة وإن كان عنوان الخبر المخالف المذكور فيها مطلقا وشاملا لجميع أقسام المخالف بما في ذلك المخصص والمقيّد والحاكم إلاّ أنّه يوجد مخصص لهذا الإطلاق يخرج هذه الثلاثة ـ المخصص والمقيّد والحاكم ـ من بين أقسام المخالف ، وذاك المخصص هو رواية عبد الرحمن عن الإمام الصادق 7 : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه » (٢) ، حيث تدل على انّ الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن معارضا بخبر مثله فهو حجّة وإنّما المانع من حجّيته هو معارضته بخبر آخر مثله ، إذ لو كانت المخالفة للكتاب الكريم كافية وحدها

__________________

(١) تقدّم انّ رفض الردّ الأوّل مخالف للوجدان العرفي.

(٢) الوسائل : كتاب القضاء الباب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ٢٩.


لإسقاط الخبر عن الحجّية حتّى ولو لم يكن معارضا بمثله فلا داعي لقوله 7 : « إذا ورد عليكم حديثان ... » بل كان المناسب أن يقال : إذا ورد عليكم حديث مخالف للكتاب فدعوه ولو لم يكن له معارض.

وبالجملة الرواية المذكورة تدل على انّ الخبر المخالف للكتاب حجّة عند عدم معارضته بمثله.

ولا نريد أن ندعي من خلال هذا الكلام انّ الرواية المذكورة يستفاد منها حجّية كل خبر مخالف للكتاب حتّى ولو كان مباينا له ، انّ هذا باطل ، إذ الرواية ليست في مقام البيان من هذه الناحية ليتمسّك بإطلاقها لإثبات حجّية كل خبر مخالف للكتاب ، وإنّما يستفاد منها انّ الخبر المخالف ـ إذا فرض عدم معارضته بمثله ـ هو في الجملة حجّة ، والقدر المتيقن من ذلك هو الخبر المخصّص والمقيّد والحاكم.

وإنّما قلنا انّ هذه الرواية ـ أي رواية عبد الرحمن ـ أخصّ من أخبار المجموعة الثالثة باعتبار انّ المجموعة الثالثة تسلب الحجّية عن كل خبر مخالف سواء كان مباينا كليا أو أعمّ من وجه أو أخص مطلقا أو مقيدا أو حاكما ، وهذه الرواية يستفاد منها من باب القدر المتيقن حجّية ثلاثة أقسام من المخالف وهو الأخص مطلقا والمقيّد والحاكم ، وحيث انّ مفاد هذه الرواية أضيق من مفاد المجموعة الثالثة فيكون ـ مفاد الرواية ـ أخصّ منه فيخصّص المجموعة الثالثة التي تسلب الحجّية عن كل خبر مخالف بخصوص الخبر المخالف بنحو المباينة أو الأعم من وجه.

قوله ص ٣٨١ س ٢ : أحدها : هذا القسم لا ينظر إلى الخبرين المتعارضين


بل ينظر إلى الخبر المعارض لظاهر القرآن الكريم دون أن يعارض بخبر مثله. وقد تقدّمت الإشارة لذلك فيما سبق.

قوله ص ٣٨١ س ٢ : الدليل القطعي السند : وهو القرآن الكريم والسنّة المتواترة للرسول الكريم 6.

قوله ص ٣٨١ س ٥ : عمّا قد : تقدّمت الإشارة إلى النكتة في ذكر كلمة « قد » سابقا.

قوله ص ٣٨٢ س ١١ : على تقدير ثبوت الإطلاق فيه : أي لو كان مستند دليل حجّية السند إطلاقا لفظيا ولكن تقدّم انّه السيرة التي لا إطلاق فيها.

قوله ص ٣٨٣ س ١٦ : على ذلك : أي على التخصيص والتقييد.

قوله ص ٣٨٤ س ٣ : يرويه من نثق به الخ : لعلّ هذا تفسير لاختلاف الحديث.

قوله ص ٣٨٥ س ٧ : المعارض : المناسب التعبير بالمخالف ، لأنّ رواية جميل سلبت الحجّية عن الخبر المخالف للكتاب دون المعارض له.

قوله ص ٣٨٥ س ١٢ : التي تقتضي الخ : وهي المخالفة بنحو التباين الكلي.

قوله ص ٣٨٧ س ٢ : تعارضا مستقرا : أي بنحو التباين أو العموم من وجه. وقوله : « أو غير مستقر » : أي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة.

قوله ص ٣٨٧ س ١٥ : لأنّ القرينة المنفصلة : هذا إشارة إلى بيان عدم صحّة الوجه الأوّل. والمراد من القرينة المنفصلة : المخصص والمقيّد والحاكم.

قوله ص ٣٨٨ س ٧ : لمقتضي : بكسر الضاد. وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه الكلمة بتعبير : واجدة للحجّية الخ.


قوله ص ٣٨٨ س ٨ : لأنّ مقتضى الخ : هذا بيان لصحّة الوجه الأوّل. وأمّا بيان صحّة الوجه الثاني فلم يشر له لاتّضاحه من خلال ما ذكره على الاحتمال الثاني.

قوله ص ٣٨٨ س ٩ : القرينة المنفصلة : وهي المخصّص أو المقيّد أو الحاكم.

قوله ص ٣٨٨ س ١٠ : واختصت المخالفة الخ : أي ولازم بقاء العام على الحجّية بعد ورود القرينة المنفصلة انّ الخبر المخالف للكتاب إنّما يسقط عن الحجّية بسبب مخالفته للكتاب فيما إذا كانت مخالفته على وجه لا تصلح للقرينية كما إذا كان مبائنا أو أعمّ من وجه حيث انّ العام لا يسقط عن الحجّية بعد ورود عام مبائن له أو أعمّ من وجه (١).

قوله ص ٣٨٨ س ١٣ : بعد الاعتراف الخ : لأنّه لم يقبل 1 الوجه الأوّل المشار له ص ٣٨٧ س ٤ من الحلقة الذي كان يقول انّ الخبر المخصّص أو المقيّد أو الحاكم لا يصدق عليه عنوان المخالف.

قوله ص ٣٨٨ س ١٤ : للمعارضة غير المستقرة : أي للمخصّص والمقيّد والحاكم.

قوله ص ٣٨٨ س ١٦ : في نفسه : المقصود أي لو لا المعارضة بخبر مثله.

قوله ص ٣٨٩ س ٦ : لو لا التعارض : المقصود : أي لو لا التعارض. وهو تفسير لقوله : « في نفسيهما ».

قوله ص ٣٨٩ س ٧ : في الحجّية الاقتضائية : وهي الحجّية الثابتة للخبر

__________________

(١) عدم سقوط العام عن الحجّية بعد ورود المبائن له أو الأعمّ من وجه أوّل الكلام.


على تقدير عدم معارضته بخبر آخر مثله.

قوله ص ٣٨٩ س ١٠ : وهو مورد القرينية : أي مورد المخصّص والمقيّد والحاكم.

روايات العلاج

قوله ص ٣٨٩ س ١٣ : ويمكن تصنيف الخ : ذكرنا سابقا انّ الروايات على قسمين. والقسم الأوّل منها هو الناظر إلى معارضة الخبر للكتاب الكريم من دون معارضته بخبر آخر مثله. وقد اتّضح انّ سلب الحجّية لا يشمل الخبر المخالف للكتاب بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة وذلك لوجهين أحدهما أشار له 1 ص ٣٨٧ س ٧ وثانيهما أشار له ص ٣٨٨ س ١٣. وإلى الآن كان الكلام في القسم الأوّل. وأمّا القسم الثاني فهو ناظر إلى صورة معارضة الخبر بخبر آخر مثله.

وروايات هذا القسم المسماة بروايات العلاج يمكن تصنيفها إلى مجموعات متعدّدة كروايات التخيير ، وروايات الترجيح ، وروايات التوقف ، وروايات الأخذ بالاحتياط ، غير انّه قصر 1 كلامه على أهمّ هذه وهي روايات التخيير وروايات الترجيح.

روايات التخيير

والمراد من روايات التخيير الروايات التي تثبت الحجّية لأحد الخبرين لا على سبيل التعيين.


والكلام في هذه الروايات يقع في مقامين : ـ

أ ـ في تصوير جعل الحجّية بنحو التخيير واقعا وفي عالم الثبوت ، إذ قد يقال بعدم إمكان ذلك.

ب ـ في دلالة الروايات بالفعل على ثبوت الحجّية التخييرية بعد إمكانها واقعا.

البحث الثبوتي

أمّا بالنسبة إلى البحث الثبوتي فقد يقال انّ جعل الحجّية بنحو التخيير أمر غير ممكن ثبوتا.

والوجه في ذلك : انّ الحجّية بنحو التخيير امّا أن تكون راجعة إلى جعل حجّية واحدة أو تكون راجعة إلى جعل حجّتين مشروطتين ، وكلاهما غير ممكن.

امّا ان جعل الحجّية الواحدة أمر غير ممكن فذلك باعتبار انّ جعل الحجّية الواحدة لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة كلّها باطلة.

أ ـ أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة للخبر رقم (١) دون الخبر رقم (٢).

وهذا باطل ، لأنّ لازم هذا الاحتمال كون الحجّية الثابتة تعيينية ، أي ثابتة لأحد الخبرين بالخصوص وليست تخييرية.

ب ـ أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة لأحد الخبرين. ونفرض انّها ثابتة للأحد الثابت في الخبر الأوّل وللأحد الثابت في الخبر الثاني (١).

__________________

(١) وملاحظة الأحد ـ الذي هو الجامع ـ بهذا الشكل يصطلح عليه بالجامع بنحو مطلق ـ


وهذا باطل أيضا ، لأنّ لازمه ثبوت الحجّية لكلا الخبرين المتعارضين وهو مستحيل ، إذ المتعارضان بعد فرض تعارضهما لا يمكن حجّيتهما معا وإلاّ لزم ثبوت المتعارضين (١).

ج ـ أن تكون الحجّية الواحدة ثابتة للأحد بما هو أحد ، أي لأحد الخبرين بما هو أحد الخبرين من دون ملاحظة الأحد ثابتا في هذا الخبر أو في ذاك الخبر (٢).

وهذا باطل أيضا ، فإنّ ثبوت الحجّية للخبر يعني انّه حجّة في إثبات مدلوله وما يكشف عنه ، وواضح انّ الأحد بما هو أحد بدون ملاحظته ساريا في هذا الخبر أو ذاك لا مدلول له يكشف عنه ليمكن ثبوت الحجّية له بمعنى التعبّد بثبوت مدلوله الذي يكشف عنه.

وأمّا ان جعل حجّتين مشروطتين أمر غير ممكن فذاك باعتبار انّ جعل الحجّتين المشروطتين فيه احتمالان كلاهما باطل.

أ ـ ان تجعل الحجّية للخبر الأوّل مشروطة بالالتزام به كما وتجعل حجّية ثانية للخبر الثاني مشروطة بالالتزام به. وهذا الاحتمال باطل لأنّ لازمه انتفاء كلتا الحجّتين عن الخبرين إذا لم يلتزم بهذا ولا ذاك والحال انّه لا إشكال في ثبوت إحدى الحجّتين.

__________________

ـ الوجود.

والمراد من كلمة « مطلق الوجود » الإستغراقية والشمول.

(١) هذا مضافا إلى استحالة ثبوت الواحد للاثنين وإلاّ يلزم صيرورة الواحد اثنين.

(٢) ويسمى ملاحظة الجامع بهذا الشكل بالجامع بنحو صرف الوجود.


ب ـ انّ تجعل الحجّية للخبر الأوّل بشرط ترك الالتزام بالخبر الثاني ، كما وتجعل للخبر الثاني بشرط ترك الالتزام بالأوّل.

وهذا باطل أيضا لأنّ لازمه ثبوت كلتا الحجّتين في حقّ المكلّف عند تركه الالتزام بكل منهما والحال هو يعلم بثبوت أحدى الحجتين في حقّه لا كلتيهما إذ لا يمكن ثبوت المتعارضين معا في حقّ المكلّف.

جواب الإشكال

ويمكن الجواب عن الإشكال الثبوتي المذكور باختيار جعل حجّتين مشروطتين ، فلأجل أن لا يلزم الإشكال يمكن للمولى التوصّل إلى ذلك عن طريق تشريع جعلين فأوّلا يجعل الوجوب لأحد الالتزامين بأن يقول يجب على المكلّف الالتزام بأحد الخبرين ولا يحق له ترك التزامهما معا. وهذا الوجوب وجوب طريقي بمعنى انّه لم ينشأ عن مصلحة في نفس الالتزام بأحدهما وإنّما شرّع لغرض ان لا يلزم ثبوت كلتا الحجّتين في حقّ المكلّف عند تركه الالتزام بكلا الخبرين كما أشرنا إلى ذلك في الاحتمال الثاني المتقدّم. هذا هو الجعل الأوّل.

وثانيا يجعل الحجّية للخبر الأوّل عند ترك الالتزام بالخبر الثاني ويجعل الحجّية للخبر الثاني عند ترك الالتزام بالخبر الأوّل. وبهذا يتمّ التوصل إلى الحجّية التخييرية دون أي إشكال.


البحث الاثباتي أو روايات التخيير

وبعد أن ثبت إمكان جعل الحجّية بنحو التخيير واقعا ننتقل إلى عالم الإثبات ـ أي الروايات ـ لنرى هل يمكن أن نستفيد من الروايات جعل الحجّية لأحد الخبرين بنحو التخيير أو لا؟ توجد في هذا المجال عدّة روايات نذكر منها ثلاثا : ـ

الرواية الاولى

وهي رواية ابن مهزيار حيث يحدث انّي قرأت في رسالة وجهها عبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن الهادي 7 عن نافلة الفجر (١) هل يجوز الإتيان بها في المحمل الثابت على ظهر الدابة أو لا بدّ من الإتيان بها على وجه الأرض فإنّ الأصحاب قد اختلفوا في ذلك بسبب اختلافهم في الروايات المنقولة عن الإمام الصادق 7 ففي بعضها يقول ـ الإمام الصادق 7 ـ : صلّها في المحمل وفي بعضها الآخر يقول : لا تصلّهما إلاّ على الأرض فاعلمني كيف تصنع أنت يا سيدي لاقتدي بك؟

__________________

(١) الوارد في الرواية ركعتا الفجر. والمراد بهما في مصطلح الروايات نافلة الفجر التي هي ركعتان قبل صلاة الصبح والتي قال عنها الصدوق والمحقّق في المعتبر ـ حسب نقل صاحب الحدائق في حدائقة ج ٦ ص ٣٧ ـ انّها أفضل من صلاة الليل


فكتب 7 في الجواب : موسّع عليك بأية عملت (١).

وفقرة الاستدلال : قوله 7 : موسّع عليك بأيّة عملت » حيث يدل على أنّ المكلّف عند تعارض الخبرين يتخيّر في الأخذ بأي واحد منهما شاء.

وقبل مناقشة الاستدلال بالرواية المذكورة نشير إلى مقدّمة حاصلها : انّ التخيير له نحوان : ـ

أ ـ التخيير الثابت في مثل شرب الماء حيث نقول انّ المكلّف مخير واقعا بين شرب الماء وعدمه. ومثل هذا التخيير يسمّى بالتخيير الواقعي وهو عبارة اخرى عن الإباحة ، فإنّ إباحة أي شيء من الأشياء تعني تخيّر المكلّف بين الفعل والترك.

ب ـ التخيير الثابت في الأخذ بهذا الخبر أو بذاك ، فلو فرض وجود خبرين أحدهما يقول صلاة الجمعة واجبة وثانيهما يقول صلاة الجمعة محرّمة فالمكلّف مخيّر بينهما بمعنى انّه لو اختار الأوّل ثبت في حقّه وجوب الجمعة ويكون ملزما بالإتيان بها ولا يكون فعلها وتركها مباحا له ، وإذا اختار الثاني ثبتت في حقّه الحرمة ويكون ملزما بالترك ولا يباح له فعلها وتركها.

ومثل هذا التخيير يسمّى بالتخيير الظاهري لأنّه تخيير في الأخذ بأحدى الحجّتين ، وحيث انّ الحجّية حكم الظاهري فالتخيير في الحجّية يعني التخيير في الحكم الظاهري.

وبوضوح فردي التخيير يتّضح انّ التخيير النافع في مقامنا هو التخيير

__________________

(١) الوسائل : كتاب الصلاة الباب ١٥ من أبواب القبلة حديث ٨.


الظاهري الثابت بين الخبرين دون التخيير الواقعي الذي يعني الإباحة.

هذه هي المقدّمة التي أردنا عرضها. وبعد هذا نأخذ بذكر مناقشتين على الاستدلال بالرواية : ـ

١ ـ انّ ظاهر الرواية وإن كان هو التخيير إلاّ أنّ المقصود منها التخيير الواقعي ـ أي إباحة الصلاة في المحمل أو على الأرض ـ دون التخيير الظاهري بمعنى الأخذ بأحد الخبرين. ووجه الظهور في ذلك هو السؤال والجواب فسؤال الراوي بقطع النظر عن جواب الإمام 7 ظاهر في السؤال عن التخيير الواقعي ، وهكذا جواب الإمام 7 بقطع النظر عن السؤال ظاهر في التخيير الواقعي.

امّا انّ سؤال السائل بقطع النظر عن جواب الإمام 7 ظاهر في السؤال عن التخيير الواقعي فذلك لبيانين : ـ

أ ـ انّ الواقعة المسؤول عنها ما دامت واقعة معينة ـ وهي الصلاة في المحمل ـ فالسؤال عن حكمها ظاهر في السؤال عن حكمها الواقعي ، ولو كان المقصود السؤال عن حكمها الظاهري فلا بدّ من فرض الواقعة كلية غير معينة بأن يقول السائل هكذا : لو تعارض خبران في مورد من الموارد فما هو الحكم.

وما دام السؤال ظاهرا ـ بسبب تعيين الواقعة ـ في السؤال عن الحكم الواقعي فلا وجه لصرف الإمام 7 نظره عن بيان الحكم الواقعي إلى بيان الحكم الظاهري.

ب ـ توجد في السؤال جملة هي ظاهرة بل صريحة في السؤال عن الحكم الواقعي وهي قوله : « فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك » فإنّ هذا واضح في السؤال عن الحكم الواقعي الذي يسير الإمام 7 على طبقه.


وامّا انّ جواب الإمام 7 ـ حتّى بقطع النظر عن سؤال السائل ـ ظاهر في الجواب عن الحكم الواقعي فذاك باعتبار انّ الإمام 7 عالم بالأحكام الواقعية وهو منصوب ومتصد لبيانها ، ولا معنى لأن يعرض 7 عن بيان الأحكام الواقعية إلى بيان الأحكام الظاهرية ، فإنّ بيان الأحكام الظاهري وظيفة المجتهد الذي هو جاهل بالأحكام الواقعية ، فالمجتهد قد يسأل عن حكم واقعة معيّنة فيجيب بأنّي لا أعلم حكمها الواقعي ولكن حيث انّه يوجد فيها خبران متعارضان فالمكلّف مخيّر في الأخذ بأحد الخبرين ، انّ مثل هذا الجواب مناسب للمجتهد دون الإمام 7 بل الإمام 7 متى ما أجاب فجوابه ظاهر في بيان الحكم الواقعي فيما إذا فرض انّ القضية التي وجّه له السؤال عن حكمها واقعة معينة ، وامّا إذا كانت كلية غير معينة ـ كما لو سئل 7 عن الواقعة الكلية التي تعارض فيها خبران ـ فجوابه ظاهر في بيان الحكم الظاهري وهو التخيير مثلا. وفي مقامنا حيث انّ الواقعة قد فرضت معينة فجواب الإمام 7 ظاهر في النظر إلى بيان الحكم الواقعي.

٢ ـ لو سلّمنا انّ الإمام 7 ناظر في جوابه إلى بيان الحكم الظاهري وهو التخيير في الأخذ بأحد الخبرين فنقول انّ محل كلامنا هو في الخبرين المتعارضين تعارضا مستقرا ـ أي الذين لا يمكن الجمع العرفي بينهما ـ وإن حكمهما هل هو التخيير أو لا ، وواضح انّ رواية ابن مهزيار وإن فرض فيها وجود خبرين متعارضين والإمام 7 وإن أجاب التخيير في الأخذ بأحدهما إلاّ أنّ التعارض بين الخبرين المفروضين في الرواية ليس تعارضا مستقرا بل هو غير مستقر حيث انّه يمكن الجمع العرفي بينهما فإنّ أحد الخبرين يدل على الأمر والآخر يدل على


النهي ، والعرف متى ما واجه أمرا ونهيا متوجهين إلى شيء واحد حمل الأمر على الترخيص والنهي على الكراهة ـ فلو قيل صل صلاة الليل ولا تصل صلاة الليل فالعرف يحمل الأمر على الاستحباب والنهي على الترخيص في تركها ـ وفي مقامنا يحمل العرف أمر صل في المحمل على الترخيص في أداء الصلاة في المحمل والنهي على كراهة الصلاة في المحمل. وما دام الجمع العرفي بين الخبرين ممكنا في مقامنا فلعلّ تخيير الإمام 7 في الأخذ بأحد الخبرين يختص بهذا المورد ـ أي بمورد التعارض غير المستقر الذي يمكن فيه الجمع العرفي ولا يعمّ موارد التعارض المستقر ـ وذلك باعتبار ان المكلف مرخص واقعا في المقام في أداء الصلاة في المحمل وعلى الأرض فلأجل هذا الترخيص الواقعي بين أداء الصلاة في المحمل وأدائها على الأرض خيّر الإمام 7 في الأخذ بأحد الخبرين ، وواضح انّ هذا لا يستلزم التخيير بين الخبرين في الموارد التي لا يكون المكلّف فيها مرخّصا واقعا بين الفعل والترك كما هو الحال في موارد التعارض المستقر التي يكون فيها كل من الأمر والنهي إلزاميا.

الرواية الثانية

وفي الرواية الثانية يكتب الحميري إلى الإمام الحجّة ( صلوات الله عليه وعلى آبائه الطيّبين الطاهرين ) عن المصلّي فيما إذا قام من التشهّد هل عليه أن يكبّر أو يكفيه أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد فكتب 7 : انّ في ذلك حديثين أحدهما يقول انّ المصلّي كلّما انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير وثانيهما يقول إذا جلس المصلّي من السجدة الثانية وأراد أن يقوم فليس عليه


تكبير. وبعد ذلك ذكرت الرواية : « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ». ثم ذكر الإمام 7 في آخر الرواية « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » (١).

وفقرة الاستدلال واضحة ، وهي قوله : « وبأيّهما أخذت من جهة التسليم (٢) كان صوابا ». ولعلّ دلالة هذه الرواية على التخيير في الأخذ بأحد الخبرين أوضح من دلالة الرواية السابقة حيث ورد فيها « وبأيّهما أخذت ... » ، فإنّ التعبير بالأخذ قد يستشعر منه الأخذ في مقام الحجّية دون التخيير الواقعي بينهما في مقام العمل.

هذا ويمكن مناقشة الاستدلال بهذه الرواية بأنّ الاستدلال بها ليس بلحاظ كلام السائل ، إذ لم يفترض فيه ـ كلام السائل ـ وجود خبرين متعارضين وإنّما فرض ذلك في جواب الإمام 7 ـ حيث قال ان في ذلك خبرين وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا ـ ولكن التمسّك به ـ جواب الإمام 7 ـ غير ممكن لامور ثلاثة : ـ

أ ـ انّ الإمام 7 وإن حكم بالتخيير إلاّ أنّ المقصود من التخيير هو التخيير الواقعي لا الظاهري لنفس النكتة المتقدّمة في الرواية المتقدّمة سابقا ، فإنّ الواقعة ما دامت معينة فالسؤال عنها يكون ظاهرا في السؤال عن حكمها الواقعي وهكذا جواب الإمام 7 ظاهر في بيان الحكم الواقعي إذ ذلك هو المناسب للإمام 7 العارف بالأحكام الواقعية.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الصلاة باب ١٣ من أبواب السجود ، حديث ٨.

(٢) أي من جهة التسليم والانصياع للحقّ.


ب ـ انّ جواب الإمام 7 اشتمل على جملة « وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ». وهذه الجملة هل هي من تتمّة الحديث الثاني المنقول عن الإمام الصادق 7 أو هي تبرّع من الإمام الحجّة المنتظر 7؟ انّ في ذلك احتمالين.

فإن أخذ بالاحتمال الثاني (١) وقيل انّها تبرّع من الإمام الحجّة 7 فلا يتحقّق تعارض بين الخبرين المنقولين عن الإمام الصادق 7 ، إذ الحميري سأل عن القيام بعد التشهّد هل يحتاج إلى تكبير أو لا ، وواضح انّ الحديث الأوّل المنقول عن الإمام الصادق 7 يشمل بإطلاقه حالة القيام بعد التشهّد ويدلّ على أنّ المصلّي كلّما انتقل من حالة إلى اخرى بما في ذلك القيام بعد التشهّد فعليه التكبير ، بينما الحديث الثاني لا يدلّ على نفى التكبير حيث انّه ـ الحديث الثاني ـ يقول انّ المصلّي بعد السجدة الثانية إذا قام مباشرة (٢) فليس عليه تكبير ، وهذا لا يشمل القيام بعد التشهّد الذي ليس فيه قيام من السجدة الثانية مباشرة.

وإذا اتّضح انّ الحديث الأول يدل على ثبوت التكبير في القيام بعد التشهد بينما الحديث الثاني ساكت عن ذلك فلا يتحقّق تعارض بين الحديثين بالنسبة إلى القيام بعد التشهّد الذي هو مورد سؤال الحميري. وما دام التعارض غير متحقّق فلا معنى لحكم الإمام الحجّة 7 بالتخيير بينهما ، إذ التخيير فرع التعارض وإذ لا تعارض لا تخيير.

ومن هنا نستكشف انّ الإمام الحجّة 7 حينما حكم بالتخيير فليس مراده

__________________

(١) قدّمنا الاحتمال الثاني على الأوّل خلافا لما في الكتاب لكونه أوضح للطالب.

(٢) القيام مباشرة من السجدة الثانية يتحقّق في الركعة الاولى أو الثالثة من الرباعية.


التخيير الظاهري الثابت بين الخبرين وإنّما مراده الإباحة التي هي عبارة عن التخيير الواقعي فكأنّه 7 يريد أن يقول : يباح لك التكبير أخذا بالخبر الأوّل وعدم التكبير أخذا بالخبر الثاني وبأيّهما أخذت كان صوابا حيث انّ الإباحة تلتئم مع الأخذ بكل واحد من الحديثين. هذا كلّه على الاحتمال الثاني.

وإن أخذنا بالاحتمال الأوّل وقلنا بأنّ جملة « وكذلك التشهّد الأوّل ... » جزء من الحديث الثاني (١) فالتعارض بين الحديثين ثابت ، حيث انّ الأوّل يثبت التكبير في الانتقال من كل حالة بما في ذلك الانتقال إلى القيام بعد التشهّد بينما الثاني ينفي ذلك ، وما دام التعارض متحقّقا فحكم الإمام المنتظر 7 بالتخيير وجيه من هذه الناحية ولكن لو نظرنا إلى الحديثين المنقولين عن الإمام الصادق 7 وجدنا انّ التعارض وإن كان متحقّقا بينهما بيد انّه تعارض غير مستقر أي يوجد جمع عرفي بينهما ـ فإنّ الحديث الثاني أخصّ من الحديث الأوّل ، حيث إنّ الأوّل يثبت التكبير في الانتقال من كل حالة بينما الثاني ينفي التكبير في حالة معينة وهي حالة الانتقال من السجدة أو التشهّد إلى القيام فيجمع عرفا بينهما بتخصيص الأوّل بالثاني ويكون الثاني مقدّما من جهة التخصيص ، بل وهناك جهة اخرى لتقديمه وهي الحكومة ، فالحديث الثاني حاكم وناظر إلى

__________________

(١) ويشهد لهذا الاحتمال انّ الحميري ما دام قد سأل عن القيام بعد التشهّد فلا بدّ وأن يكون كلا الحديثين الذين ينقلهما الإمام الحجّة 7 يرتبطان بذلك ولا معنى لأن يرتبط خصوص الحديث الأوّل بذلك دون الثاني ، بل انّ قول الإمام 7 انّ في ذلك ـ أي في القيام بعد التشهّد الذي هو المورد ـ حديثين يدل على أن كلا الحديثين يرتبط بذلك لا خصوص الأوّل وإلاّ لما صدق انّ في ذلك حديثين.


الأوّل ، نظير ما لو قيل أكرم كل عالم ثمّ قيل انّ الحكم بإكرام كل عالم لا يشمل العالم الفاسق فكما انّ هذا يتقدّم بالحكومة والنظر إلى دليل أكرم كل عالم كذاك حديث « انّ الانتقال من السجدة أو التشهّد ليس فيه تكبير » حاكم وناظر إلى دليل « التكبير ثابت في الانتقال من كل حالة لاخرى » ـ ونحن لا نحتمل انّ الإمام 7 يحكم بالتخيير في موارد الجمع العرفي ، وكيف يحتمل أن يقال أنت مخيّر في العمل بالحاكم أو بالمحكوم بل لا إشكال في لزوم العمل بالحاكم وتقديمه على المحكوم ولا يحتمل التخيير بينهما.

إذن حكم الإمام المنتظر 7 بالتخيير مع انّ أحدهما حاكم والآخر محكوم دليل واضح على أنّ التخيير لا يراد به التخيير الظاهري الثابت بين الخبرين بل التخيير الواقعي بمعنى الإباحة فكأنّه 7 يريد أن يقول : يباح لك التكبير أخذا بالحديث الأوّل وعدمه أخذا بالحديث الثاني وبأيّهما أخذت كان صوابا.

ج ـ لو سلّمنا دلالة الرواية على انّ المراد من التخيير في كلام الإمام المنتظر 7 هو التخيير بين الخبرين لا بمعنى الإباحة فنقول انّ الخبرين اللذين نقلهما عن جدّه الإمام الصادق ( صلوات الله عليهم أجمعين ) هما مقطوعا الصدور (١) ـ وإلاّ فلا يحتمل أن يكون الخبر الذي ينقله بنفسه 7 مظنونا بالنسبة إليه بل انّ التعبير بالحديثين يدل على انّ نسبتهما إلى الإمام الصادق 7 قطعية ـ ويحتمل انّ التخيير الذي حكم به 7 يختص بخصوص الخبرين مقطوعي

__________________

(١) لا يقال كيف يكونان مقطوعي الصدور مع انّهما متعارضان.

فإنّه يقال : لا محذور في ذلك ما دامت دلالتهما ظنية وعلى مستوى الظهور لا قطعية.


الصدور من جهة مزيد الاهتمام بهما ولا يعمّ الخبرين مظنوني الصدور بل الحكم فيهما هو التساقط لعدم مزيد الاهتمام بهما.

وبالجملة انّ محل كلامنا هو في مطلق الخبرين المتعارضين بما في ذلك المظنونان ولا يختص بالمقطوعين بل انّ صورة الظنّ بالصدور هي الصورة المهمّة والشايعة عادة.

الرواية الثالثة

والرواية الثالثة مرسلة الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا 7 : « قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيّهما أخذت » (١).

وهذه الرواية أحسن حالا من الرواية السابقة لعدم ورود أي واحد من الإشكالات الثلاثة السابقة عليها ، فإنّ الواقعة لم يفرض كونها واقعة جزئية معيّنة حتى يكون ظاهر السؤال والجواب النظر إلى حكمها الواقعي ، وبذلك لا يرد الإشكال الأوّل ، كما وانّه لم يفترض حكومة أحد الحديثين على الآخر حتى لا يحتمل ثبوت التخيير بينهما ، وبهذا لا يرد الإشكال الثاني ، كما وانّه لم يفترض انّ الحديثين قطعيان فلا يرد الإشكال الثالث.

إذن هذه الرواية أحسن الروايات دلالة على التخيير المطلوب ، وهو التخيير في الأخذ بأحد الخبرين إلاّ أنّها مع الأسف ضعيفة بالإرسال ، فإنّ

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ٤٠.


الطبرسي نقلها في الاحتجاج عن الحسن بن الجهم بدون ذكر السند.

قوله ص ٣٩٠ س ١٣ : ومن الواضح الخ : أي ولكن يردّ هذا الاحتمال ، أي احتمال ثبوت الحجّية للجامع بنحو صرف الوجود.

قوله ص ٣٩١ س ٢ : في الحالة المذكورة : أي المشار لها في السطر الأوّل بقوله : « في حالة ترك الالتزام بشيء منهما ».

قوله ص ٣٩٢ س ٥ : من قبله : أي من قبل السائل.

قوله ص ٣٩٢ س ٥ : على الحكم الخ : أي الحكم بجواز الصلاة في المحمل الذي تعارض فيه الخبر الأوّل والثاني المنقولان عن الإمام الصادق 7 ، فالسؤال إذن سؤال عن واقعة معينة فرض فيها اختلاف الخبرين.

ومن هنا يتّضح انّ الألف واللام في كلمة « الخبران » للعهد والإشارة إلى الخبرين المنقولين عن الإمام الصادق 7.

قوله ص ٣٩٢ س ١٣ : فيما إذا الخ : متعلّق بقوله « المناسب ».

قوله ص ٣٩٣ س ١ : بحمل : متعلّق بقوله جمع عرفي.

قوله ص ٣٩٣ س ٤ : بالمعنى المدعى : وهو التخيير بين خبرين متعارضين تعارضا مستقرا.

قوله ص ٣٩٥ س ٣ : وعدم استحكام الخ : الواو استينافية. وكلمة « عدم » مبتدأ خبرها « أمر واضح ».



روايات الترجيح

قوله ص ٣٩٦ س ١١ : المجموعة الثانية الخ : كان الكلام فيما سبق في استعراض روايات التخيير. والآن يقع الكلام في روايات الترجيح. وهي على أنحاء ثلاثة : ـ

أ ـ ما دلّ على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بصفات الراوي ، كالترجيح بالأوثقية والأفقهية ونحوهما ، فإنّ هذه الصفات صفات للراوي ، فالراوي تارة يكون أوثق وأفقه واخرى غير أوثق ولا أفقه.

ب ـ ما دل على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بنفس الرواية ، كالترجيح بالشهرة ، فإنّ الشهرة صفة للرواية حيث يقال انّ الرواية مشهورة أو غير مشهورة.

ج ـ ما دلّ على لزوم الترجيح بمرجّحات ترتبط بمضمون الرواية ، كالترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فإنّ الموافقة والمخالفة صفتان لمضمون الرواية ، فإنّ مضمون الرواية تارة يكون موافقا أو مخالفا للكتاب أو للعامة.

وبعد اتضاح هذا نأخذ باستعراض ثلاث روايات تدل على لزوم الترجيح

الرواية الاولى

وهي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الإمام الصادق 7 : « إذا ورد


عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (١). والرواية المذكورة تشتمل على مرجّحين هما موافقة الكتاب ومخالفة العامة. وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص ٤٦٥ الحديث عن هذه الرواية واتّضح انّها تامّة الدلالة على المرجحين المذكورين.

الرواية الثانية

وهي رواية عمر بن حنظلة (٢). والرواية المذكورة طويلة المتن واسعة المضمون إلاّ أنّ عمر بن حنظلة ـ مع الأسف ـ لم تثبت وثاقته ولكن الذي يهوّن الخطب انّ الأصحاب تلقّوا الرواية المذكورة بالقبول الحسن ، ومن هنا اصطلح عليها بالمقبولة فقيل مقبولة عمر بن حنظلة.

ونسجّل من الرواية المذكورة خمس فقرات ترتبط بمحلّ البحث : ـ

١ ـ سأل ابن حنظلة الإمام الصادق 7 عن رجلين وقع بينهما نزاع في دين أو ميراث هل يمكن التحاكم إلى قضاة الجور؟ فأجابه 7 بالرفض فسأله إذن لمن نتحاكم؟ فقال 7 : إلى رجل من الشيعة روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا.

٢ ـ قال : فإن اختار أحدهما حاكما وثانيهما حاكما آخر واختلف الحاكمان في

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء باب ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ٢٩.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ، ص ٦٧ ، حديث ١٠.


الحكم بسبب استناد كل منهما إلى حديث من أحاديث أهل البيت :؟ فقال 7 : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...

٣ ـ فقال ابن حنظلة انّهما متساويان من ناحية الصفات المذكورة ، فأجاب 7 : ينظر إلى الرواية التي يستند إليها كل واحد من الحكام فيؤخذ بالرواية المشهورة وتترك الرواية الشاذّة النادرة.

٤ ـ قال ابن حنظلة : انّ الروايتين متساويتان من حيث الشهرة فأجاب 7 : يؤخذ بالرواية الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة.

٥ ـ فقال ابن حنظلة : انّ حكّام العامة يوافقون كلتا الروايتين ، فأجاب 7 : « ارجئه حتى تلقى امامك ».

والرواية المذكورة تختلف عن الرواية الاولى من حيث عدد المرجّحات ، فبينما كانت الاولى تذكر مرجّحين هما : موافقة الكتاب ومخالفة العامة نجد هذه الرواية تذكر قبل هذين المرجّحين مرجّحين آخرين هما : ـ

أ ـ الترجيح بصفات الراوي كالأوثقية والأفقهية.

ب ـ الترجيح بالشهرة ، فالرواية المشهورة هي المقدّمة.

ومن هنا قد يقال بحصول المعارضة بين هذه الرواية والرواية الاولى ، فالاولى تدل على انّ عدد المرجّحات اثنان والثانية تدل أنّها أربعة ، اذن روايات العلاج بينما كانت تريد علاج التعارض بين الروايات أصبحت هي مبتلاة بالتعارض فهي أشبه بالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل.

هذا ولكن يمكن أن يقال انّ دلالة الرواية الثانية إن تمّت على هذين المرجّحين الجديدين ـ بأن دفع ما يأتي من الإشكالين الموجّهين إلى هذين


المرجّحين ـ فبإمكانها أن تتقدّم على الرواية الاولى بالتقييد ، فإنّ الرواية الاولى مطلقة حيث تدل على أنّ المدار على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فالموافق والمخالف هو المقدّم سواء فرض انّه يوجد قبل ذلك مرجّح آخر أو لا ، وهذا الإطلاق يقيّد بالرواية الثانية ، بأن يقال انّ الموافق للكتاب والمخالف للعامة هو المقدّم فيما إذا لم يكن الخبر الآخر مشتملا على الشهرة أو الأوثقية.

اعتراضان على الترجيح بالشهرة وصفات الراوي

هذا وقد يعترض على هذين المرجّحين ، أي الترجيح بالشهرة وصفات الراوي باعتراضين : ـ

١ ـ انّ مقبولة ابن حنظلة وإن دلّت على الترجيح بصفات الراوي والشهرة إلاّ أنّها بقرينة الفقرة الخامسة التي تقول : « ارجئه حتى تلقى امامك » تختص بزمان حضور الإمام 7 ولا تعم زماننا هذا الذي هو زمان الغيبة ، وواضح انّ المهم هو زمان الغيبة لانه محل ابتلائنا.

ويمكن دفع هذا الاعتراض بوجهين : ـ

أ ـ انّ اختصاص الفقرة الأخيرة بزمان الحضور لا يشكّل بمجرّده قرينة على اختصاص الفقرات السابقة بذلك ولا يوجب تقييد إطلاقها ـ الشامل لزمان الغيبة والحضور ـ بخصوص زمان الحضور.

ب ـ انّ الترجيح بالأوثقية لا يحتمل اختصاصه بزمان الحضور فإنّ الأوثقية إنّما توجب الترجيح من باب أنّها تستلزم قوّة صحّة حكم الحاكم ، وواضح انّ هذه القوّة كما هي ثابتة في زمان الحضور ثابتة في زمان الغيبة ايضا. وهكذا الشهرة إنّما توجب الترجيح من باب أنّها تستلزم قوّة صحّة الرواية وذلك


لا يختص بعصر الحضور. هذا كلّه في الاعتراض الأوّل (١).

٢ ـ انّ الترجيح بالصفات وبالشهرة ليسا من مرجّحات الراوي والرواية وإنّما هما من مرجّحات الحكم والحاكم فالإمام 7 ذكرهما من باب انّهما مرجّحان لحكم الحاكم الأول على حكم الحاكم الثاني أو بالعكس ولم يذكرهما كمرجّحين لهذه الرواية على تلك. وواضح انّ كلامنا إنّما هو في مرجّحات إحدى الروايتين على الاخرى لا في مرجّحات حكم هذا الحاكم على الآخر.

ويمكن الجواب بأنّ الاعتراض المذكور وجيه بالنسبة إلى صفات الراوي وليس وجيها بالنسبة إلى الشهرة ، أي انّا نسلّم انّ صفات الراوي هي من مرجّحات الحكم والحاكم لا الراوي والرواية ولا نسلّم ذلك بالنسبة إلى الشهرة بل ندّعي انّ الشهرة ذكرها الإمام 7 كمرجّح للراوي والرواية لا للحكم والحاكم. إذن لنا دعويان : ـ

أ ـ وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى صفات الراوي كالأوثقية والأعدلية.

ب ـ عدم وجاهته بالنسبة إلى الشهرة.

الدعوى الاولى

امّا وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى صفات الراوي فذلك باعتبار

__________________

(١) الظاهر انّ هذا الاعتراض لا يختصّ بخصوص هذين المرجّحين ـ أي الصفات والشهرة ـ بل يعمّ المرجّحين الآخرين وهما الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة.

اللهمّ إلاّ أن يقال انّ الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة حيث وردتا في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله وهي مطلقة من حيث زمان الحضور والغيبة لذا لا إشكال فيهما من هذه الناحية.


بيانين : ـ

أ ـ انّ الإمام 7 أضاف الصفات إلى الحاكم دون الراوي حيث قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ... » ، فانظر إلى كلمة الحكم وإلى ضمير أعدلهما وأفقههما الراجع إلى الحاكمين دون الراويين.

ب ـ انّ الأعدلية والأوثقية لو كانتا من مرجّحات الراوي والرواية دون الحكم والحاكم فمن المناسب تطبيق الإمام 7 لهما ـ الأعدلية والأوثقية ـ على جميع الوسائط في سلسلة السند ولا أقل على خصوص الراوي المباشر عن الإمام 7 ، فلو كان الراوي المباشر عن الإمام 7 في الرواية الاولى زرارة وفي الثانية محمّد بن مسلم فمن المناسب ملاحظة الأعدلية والأوثقية في زرارة ومحمّد ابن مسلم أو ملاحظتهما في جميع الوسائط بينما نرى انّ الإمام لاحظهما في أوّل سلسلة السند ، أي في هذا الحاكم وذاك الحاكم.

واحتمال انّ الإمام 7 طبّق ذلك على الحاكمين من باب أنّهما راويان مباشران عن الإمام 7 ضعيف إذ لم يفرض فيهما ذلك ، أي انّهما راويان مباشران. ولئن كانا راويين فهما راويان غير مباشرين ، والمناسب حينئذ تطبيقهما على جميع الوسائط أو خصوص الراويين المباشرين كما هو ـ أي تطبيقهما على خصوص الراويين المباشرين ـ عمل المشهور ومقتضى القاعدة.

أمّا انّ عمل المشهور جار على ذلك ـ أي تطبيق الأوثقية والأعدلية على خصوص الراويين المباشرين كزرارة ومحمّد بن مسلم ـ فواضح فانّهم يقولون هذه الرواية مقدّمة على تلك لأنّ الراوي لها أعدل أو أوثق ويقصدون من الراوي لها مثل زرارة ومحمّد بن مسلم الذي هو راو مباشر.


وأمّا انّ ذلك تقتضيه القاعدة ـ أي انّ القاعدة تقتضي ملاحظة الأعدلية والأوثقية في خصوص الراوي المباشر دون جميع الوسائط ـ فباعتبار انّ المعارضة ثابتة بين زرارة ومحمّد بن مسلم ، فلو كان زرارة ينقل عن الإمام 7 وجوب الجمعة ومحمّد بن مسلم ينقل حرمتها فالمعارضة ثابتة بين نقليهما ، فإنّ صلاة الجمعة موضوع واحد وأحدهما ينقل حرمته والآخر وجوبه ، وما دامت المعارضة ثابتة بين نقليهما فمن المناسب ملاحظة انّ أيّهما أعدل أو أفقه ، وبقية الوسائط لا معارضة بينها ليلاحظ انّ أيهّما أعدل أو أوثق ، فإنّ الناقل عن زرارة لا ينقل وجوب الجمعة بل ينقل انّي سمعت زرارة ، وهكذا الناقل عن محمّد بن مسلم لا ينقل حرمة الجمعة بل ينقل انّي سمعت محمّد بن مسلم ، أي انّ موضوع نقليهما ليس شيئا واحدا ليتحقق التعارض بينهما وبالتالي لتطبق الأعدلية والأوثقية عليهما بل موضوع نقل هذا مغاير لموضوع نقل ذاك.

وإن شئت قلت في تبيان وجه عدم المعارضة بين نقليهما ـ أي نقل الناقل عن زرارة ونقل الناقل عن محمّد بن مسلم ـ انّ نقل الناقل عن زرارة ـ لو كان زرارة هو الأعدل ـ حاكم ومقدّم على نقل الناقل عن محمّد بن مسلم ، ومع حكومة أحد النقلين على الآخر فلا معارضة بينهما لتلاحظ الأوثقية والأعدلية.

والوجه في حكومة نقل الناقل عن زرارة : انّ الناقل عن زرارة حينما يقول حدثني زرارة فهو كأنّه يقول حدّثني الأعدل الذي بثبوت نقله لا يكون نقل الناقل عن محمّد بن مسلم حجّة لأنّ محمّد بن مسلم حسب الفرض مفضول وليس أفضل ، والمفروض أيضا انّ حجّية نقل المفضول مشروطة بعدم المعارضة بنقل الأفضل ، وإذا كان زرارة هو الأفضل والأعدل فالناقل عنه حينما يقول


حدّثني زرارة فهو كأنّه يقول حدثني الأفضل وبالتالي كأنّه يقول انّ شرط حجّية نقل محمّد بن مسلم مختل لأنّ شرط حجّية نقله عدم المعارضة بنقل الأفضل ـ وهو زرارة ـ والمفروض ثبوته.

والخلاصة : انّ القاعدة تقتضي ملاحظة الأوثقية والأعدلية في الراويين المباشرين عن الإمام 7 دون بقية الوسائط فإنّ نقل الناقل عن زرارة بعد كونه حاكما على نقل الناقل عن محمّد بن مسلم فلا معارضة بينهما لتلاحظ أوثقية وأعدلية أحدهما (١).

الدعوى الثانية

وأمّا عدم وجاهة الاعتراض الثاني بالنسبة إلى الشهرة فلأنّ الإمام 7 وإن كان في بداية الرواية وجّه نظره إلى مرجّحات الحاكم والحكم إلاّ انّه من الفقرة الثالثة ـ التي ذكر فيها الشهرة ـ قطع نظره عن مرجّحات الحكم والحاكم وأخذ ينظر إلى مرجّحات الراوي والرواية فلاحظ تعبير الفقرة الثالثة حيث يقول 7 : « ينظر إلى ما كان من روايتهما ... المجمع عليه بين أصحابك ... » أي ينظر إلى الرواية المجمع عليها (٢) فيؤخذ بها وتترك الرواية غير المشهورة.

إشكال على الترجيح بالشهرة

هذا ولكن الشهرة وإن كانت من مرجّحات الرواية لا الحكم والحاكم للبيان

__________________

(١) لا يخفى انّ عبارة الكتاب في هذا المقام غامضة جدا وقاصرة عن أداء المطلب.

(٢) المقصود من المجمع عليه هو المشهور كما يتجلّى ذلك من خلال ملاحظة بقية عبائر المقبولة.


المتقدّم إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن عدّها من المرجّحات ، إذ إنّ كلامنا في مرجّحات إحدى الحجّتين على الحجّة الاخرى لا في مسقطات إحدى الروايتين عن الحجّية.

توضيح ذلك : انّ الرواية إذا كانت مشهورة وينقلها كثير من الرواة فذلك ممّا يوجب الاطمئنان بصدورها بل القطع وبذلك تسقط الرواية الاخرى غير المشهورة عن الحجّية ، فإنّ شرط حجّية الرواية فيما إذا كانت ظنيّة الصدور عدم معارضتها بنقل نص قطعي الصدور فيما إذا كانت المعارضة مستقرة ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ص ٣٨١ ـ ٣٨٩ من الحلقة تحت عنوان روايات العرض على الكتاب.

إذن الشهرة وإن كانت من مرجّحات الرواية إلاّ أنّها ليست من مرجّحات حجّة على حجّة بل موجبة لسقوط الرواية غير المشهورة عن الحجّية ، وكلامنا في المرجّح دون المسقط.

أجل لو فرض انّ الشهرة لم تكن بمعنى اشتهار نقل الرواية بل بمعنى اشتهار الفتوى على طبقها بين العلماء فهي لا توجب الاطمئنان أو القطع بصدور الرواية ، ولكن الظاهر انّ المقصود من الشهرة هو شهرة الرواية من حيث نقلها لا شهرة العمل بها لأنّ الشهرة لم تنسب في المقبولة إلى العمل بل إلى نفس الرواية.

إن قلت : انّ الشهرة إذا كانت موجبة للقطع بصدور الرواية فمن المناسب ذكرها في المقبولة أوّل المرجّحات والحال انّ الإمام 7 عدّ أوّل المرجّحات صفات الراوي وهي الأعدلية وأخواتها وعدّ ثاني المرجّحات الشهرة ، وهذا ليس مناسبا لأنّ اعمال الإمام 7 للترجيح بصفات الراوي في المرحلة الاولى يدلّ على أنّه 7 قد فرض كلتا الروايتين حجّة وأراد ترجيح إحداهما على الاخرى بالأوثقية وأخواتها ، ومن الواضح انّ هذا ـ أي فرض كلتا الروايتين


حجّة ـ يتنافى وكون إحدى الروايتين مشهورة والاخرى غير مشهورة بناء على كون الشهرة من موجبات سقوط الرواية غير المشهورة عن الحجّية.

قلت : صحيح انّ المناسب ذكر الشهرة في بداية المرجّحات والإمام 7 قد فعل ذلك أيضا أي أنّه ذكر الشهرة أوّل المرجّحات. ووجه ذلك واضح فإنّ مرجّحات الرواية ابتدأ بها الإمام 7 من الفقرة الثالثة التي تشتمل على الشهرة ، وأمّا صفات الراوي التي ذكرها قبل ذلك فلم يذكرها من باب مرجّحات الرواية بل من باب أنّها مرجّحة لأحد الحاكمين على الآخر فكأنّ الإمام 7 يريد أن يقول انّه عند تعارض الحاكمين لا بدّ من ترجيح الأوثق والأعدل ، وعند التساوي من هذه الناحية لا بدّ من إعمال المرجّحات بين الروايات وأوّلها الشهرة.

النتيجة المقبولة

ومن خلال كل هذا يتّضح انّ المرجّحين الإضافيين اللذين تشتمل عليهما المقبولة ، وهما الترجيح بالصفات والترجيح بالشهرة لا يمكن عدّهما من المرجّحات.

أمّا الترجيح بالصفات فباعتبار أنّه من مرجّحات الحاكم دون الرواية.

وأمّا الشهرة فباعتبار أنّها من مسقطات الرواية غير المشهورة عن الحجّية وليست من مرجّحات حجّة على حجّة.

الرواية الثالثة

والرواية الثالثة من الروايات الدالة على المرجّحات رواية زرارة التي نقلها


ابن أبي جمهور الاحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلاّمة الحلّي 1 (١) ، والعلاّمة بدوره رفعها إلى زرارة من دون ذكر السند ، ومن هنا سمّيت الرواية المذكورة بمرفوعة زرارة.

والرواية هذه تشتمل على خمس فقرات هي : ـ

١ ـ يأتي عنكم الخبران المتعارضان. فقال 7 : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.

٢ ـ فقال زرارة هما متساويان من هذه الناحية. فقال 7 : خذ بالأعدل والأوثق.

٣ ـ فقال هما متساويان من هذا الجانب. فقال 7 : خذ بما خالف العامة.

٤ ـ فقال هما متساويان : فقال 7 : خذ بالخبر الموافق منهما للاحتياط.

٥ ـ فقال هما متساويان. فقال 7 : إذن فتخيّر أحدهما.

ومن خلال هذا يتّضح انّ عدد المرجّحات المذكورة في هذه الرواية أربعة وهي بالترتيب التالي : الشهرة ، صفات الراوي ، مخالفة العامة ، موافقة الاحتياط. وفي حالة التساوي من جهة جميع هذه المرجّحات حكم 7 بالتخيير.

وقد يعترض على هذه الرواية بنفس الاعتراض المذكور في المقبولة فيقال انّها ذكرت أوّل المرجّحات الشهرة والحال أنّها ليست من المرجّحات إذ إحدى الروايتين إذا كانت مشهورة في مقام النقل فالاخرى التي هي غير مشهورة تسقط عن الحجّية ، لأنّ شرط حجّية الرواية ذات السند الظني عدم معارضتها

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة الجزء الأوّل أبواب المقدّمات ص ٦٢.


بنص قطعي الصدور ـ فيما إذا كانت المعارضة مستقرة ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك تحت عنوان روايات العرض على الكتاب. وعليه فالشهرة ليست من المرجّحات بل من مسقطات الرواية غير المشهورة عن الحجّية.

ويردّه : انّ الشهرة في هذه الرواية لا نفسّرها بشهرة النقل الموجبة للقطع بالصدور بل بشهرة العمل على طبق الرواية ، وواضح انّ شهرة العمل على طبق الرواية لا توجب القطع بالصدور.

وممّا يدل على أنّ المقصود من الشهرة هو شهرة العمل لا شهرة النقل انّ زرارة فرض بعد ذلك إنّ كلتا الروايتين مشهورة وأيضا الإمام 7 أخذ بإعمال المرجّحات الاخرى بعد افتراض زرارة شهرتهما معا ، وواضح انّ الشهرة إذا كانت شهرة في النقل وموجبة للقطع بالرواية فكيف فرض زرارة كلتا الروايتين قطعية!! انّ هذا معناه القطع بالمتنافيين وهو مستحيل (١).

وأيضا مع فرض كون كلتا الروايتين قطعية لا معنى لإعمال الترجيح بالأوثقية وأخواتها من صفات الراوي ، فإنّ الأوثقية إنّما عدّت من المرجّحات لأنّها توجب قوة احتمال صدور الرواية ، ومع افتراض القطع بصدور الرواية لا يكون احتمال الصدور ضعيفا ليحاول تقويته بالأوثقية.

هذا ولكن الذي يهوّن الخطب انّ الرواية المذكورة ضعيفة السند ، إذ سند العلاّمة إلى زرارة غير معلوم. وقد طعن في هذه الرواية (٢) الشيخ يوسف

__________________

(١) يمكن أن يقال انّ القطع بصدور الروايتين لا يستلزم القطع بتحقّق المتنافيين لاحتمال كون الدلالة ظنّية ، ولعلّه من أجل هذا لم يشر في عبارة الكتاب إلى لزوم المحذور المذكور

(٢) كما نقل ذلك الشيخ الأعظم في رسائله


البحراني ـ الذي ليس دأبه الطعن ـ في نفس الرواية وفي مؤلف غوالي اللئالي وفي الكتاب نفسه.

هذا مضافا إلى أنّ اقتصار ابن أبي جمهور على نقل الرواية عن العلاّمة وعدم نقل غيره لها عن العلاّمة بل ولا نقل العلاّمة نفسه لها في كتبه الكثيرة يصلح أن يكون مؤشرا قويا إلى ضعفها.

نتيجة ما تقدّم

والنتيجة من كل ما تقدّم هو انّ عدد المرجّحات اثنان هما : الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة ، إذ الرواية الثالثة وهي المرفوعة ضعيفة السند ، والمقبولة وإن ذكرت مرجّحين إضافيين ـ الترجيح بالصفات والترجيح بالشهرة ـ إلاّ أنّ الترجيح بالصفات هو من مرجّحات الحاكم ، والشهرة ليست من المرجّحات بل من المسقطات. وعليه فمتى ما توفّر هذان المرجّحان ـ الموافقة والمخالفة ـ أخذ بهما وإلاّ فيرجع بعد تعارض الروايتين وفقدان المرجّح إلى ما تقتضيه القاعدة وهو التساقط (١).

وفي الختام

وفي الختام نذكر عدّة نقاط : ـ

__________________

(١) فإنّه وإن ذكر 1 ابتداء انّ القاعدة تقتضي حجّية كل من الخبرين بنحو مشروط إلاّ أنّه بعد ذلك رجع إلى ما تبنّاه المشهور وهو التساقط


النقطة الاولى

انّ من هجر أخبار الترجيح وحملها على استحباب إعمال المرجّحات وأخذ بإخبار التخيير ـ كالآخوند (١) ـ وقع الخلاف بينهم في أنّ التخيير هل هو منسوب إلى الحجّية بحيث يكون التخيير تخييرا في حجّية أحد الخبرين أو هو منسوب إلى العمل بحيث يكون المكلّف مخيّرا في العمل بأحد الخبرين.

فإن كان التخيير منسوبا إلى الحجّية فحيث انّ الحجّية حكم اصولي فيكون التخيير تخييرا في المسألة الاصولية ، وأمّا إذا كان التخيير منسوبا إلى العمل فهو حكم فرعي فقهي ، إذ يكون حاله حال التخيير بين شرب الماء وتركه فكما انّ هذا تخيير في مقام العمل وهو حكم فقهي كذلك التخيير في العمل بهذا الخبر أو ذاك يكون حكما فقهيا.

وقد تسأل عن الفارق العملي بين التخييرين.

والجواب : انّ التخيير في الحجّية يمكن أن يقال باختصاصه بالمجتهد ولا يعمّ العامي ، لأنّ الحجّية حكم اصولي فإذا قيل باختصاص الأحكام الاصولية بالمجتهد وعدم عموميّتها للعامي لزم كون التخيير بالالتزام بأحد الخبرين مختصا بالمجتهد فإذا فرضنا انّ أحد الخبرين يدلّ على وجوب الجمعة والآخر على حرمتها واختار المجتهد الخبر الأوّل الدالّ على الوجوب فسوف يفتي مقلّديه

__________________

(١) وأمّا السيد الشهيد فهو لم يقل بالتخيير بل قال بلزوم إعمال المرجّحات ـ أي موافقة الكتاب ومخالفة العامة ـ عند وجودها وإلاّ فيتمسّك بالقاعدة وهي التساقط ، وأمّا التخيير فلا ينتهى إليه.


بوجوب الجمعة ، وبذلك يتعيّن على مقلّديه الإتيان بصلاة الجمعة ولا يحقّ لهم تركها ، وهذا بخلافه في التخيير العملي ، فإنّه لا يختص بالمجتهد بل يعمّ العامي ، ويمكن للمجتهد أن يفتي مقلّديه بالتخيير في العمل بأحد الخبرين فإذا اختار العامي الخبر الدال على الوجوب لزمه أداء الجمعة بينما لو اختار الخبر الآخر لزمه تركها ، ولعلّ المجتهد يختار الخبر الدال على الوجوب فيلزمه أداء الجمعة بينما العامي يختار الخبر الدال على الحرمة فيتعيّن عليه تركها.

كما وانّه يلزم بناء على كون التخيير تخييرا في الحجّية ان المجتهد إذا اختار الخبر الأول ثبت مضمونه ـ وهو الوجوب ـ في حقّه وجاز له نسبته إلى الله سبحانه بأن يقول انّ حكم الله سبحانه هو الوجوب ، وامّا بناء على كون التخيير تخييرا في العمل فلا يصح له نسبة الوجوب إلى الله سبحانه إذ المكلّف مخيّر في مقام العمل ولا تكون حجّية أحد الخبرين ثابتة في حقّه ليسوغ له نسبة مؤداه إلى الله سبحانه.

ثمّ إنّه ما دمنا ننكر القول بالتخيير من الأساس فلا داعي لتحقيق انّ الحقّ هو نسبة التخيير إلى الحجّية أو نسبته إلى العمل.

النقطة الثانية

وأيضا اختلف القائلون بالتخيير في أنّه ابتدائي أو استمراري ، يعني انّ المجتهد لو اختار الخبر الأوّل الدالّ على وجوب الجمعة مثلا فهل له بعد ذلك حق اختيار الخبر الثاني الدالّ على الحرمة. وهكذا العامي لو اختار الخبر الأوّل مثلا فهل له الحقّ في اختيار الخبر الثاني؟ فإن كان له الحقّ في ذلك فالتخيير إذن


استمراري ، وإن لم يكن له الحقّ المذكور فهذا معناه انّ التخيير ابتدائي ثابت ابتداء وليس مستمرا.

وقد اختار البعض انّه استمراري وتمسّك لذلك بالاستصحاب ، أي أنّه لو اختير الخبر الأوّل مثلا وشكّ في بقاء حقّ اختيار الخبر الثاني استصحب بقاء حقّ الاختيار.

ويمكن التعليق على ذلك بأنّ التخيير لو كان تخييرا في الحجّية فجريان الاستصحاب قابل للتأمّل ، وأمّا لو كان تخييرا في العمل بأحد الخبرين فلا محذور في استصحابه.

أمّا انّ التخيير لو كان تخييرا في الحجّية فاستصحابه قابل للتأمّل فذاك باعتبار أنّ استصحاب حق التخيير استصحاب تعليقي ، وقد تقدم تأمّل البعض في جريانه.

والوجه في كونه تعليقيا ان حقّ التخيير في الحجّية يرجع في روحه إلى أنّ المكلّف لو اختار الخبر الأوّل كان هو الحجّة في حقّه ، ولو اختار الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّه ، فالمكلّف إذا اختار في اليوم الأوّل الخبر الأوّل وشكّ في اليوم الثاني في بقاء حق اختيار الخبر الثاني فهذا معناه أنّه يشكّ في اليوم الثاني في أنّه لو اختار الخبر الثاني فهل يكون حجّة في حقّه أو لا ، وحينئذ يجري الاستصحاب ويقول في اليوم الثاني : انّ الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّي قبلا ـ أي قبل اختيار الخبر الأوّل ـ لو اخترته والآن ـ أي بعد اختيار الأوّل ـ لو شككت في بقاء ذلك استصحبته فيثبت بذلك في اليوم الثاني انّي إن اخترت الخبر الثاني فهو الحجّة في حقّي ، وواضح انّ هذا الاستصحاب تعليقي ، إذ المستصحب ـ وهو إن


اخترت الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّي ـ قضية تعليقية تشتمل على كلمة « إن » الشرطية (١).

وامّا انّ التخيير لو كان تخييرا في العمل فاستصحابه يجري بلا محذور فذاك من جهة انّ التخيير في العمل بأحد الخبرين يشبه تماما تخيّر المكلّف في فعل شرب الماء وتركه ، فكما انّ هذا التخيير عبارة اخرى عن الإباحة التي هي حكم فعلي غير تعليقي ويجوز استصحابه دون أي محذور كذلك التخيير في العمل بأحد الخبرين هو عبارة اخرى عن إباحة العمل بهذه الرواية أو بتلك التي هي حكم فعلي تنجيزي.

ثمّ انّه مادمنا ننكر القول بالتخيير من الأساس فالبحث عن كون التخيير ابتدائيا أو استمراريا يكون بلا داعي.

النقطة الثالثة

إذا تمّت دلالة روايات التخيير على التخيير وهكذا تمت دلالة روايات الترجيح على لزوم إعمال المرجّحات كموافقة الكتاب ومخالفة العامة فسوف يقع

__________________

(١) قد يقال إن بالإمكان إجراء الاستصحاب بنحو لا يكون تعليقيا بل تنجيزيا ، وذلك بأن يقول المكلّف انّ الخبر الثاني كان لي حقّ اختياره سابقا والآن استصحب بقاء حقّ الاختيار ، ومثل هذا الاستصحاب تنجيزي لأنّ المستصحب ـ وهو حقّ اختيار الخبر الثاني ـ ليس أمرا تعليقيا مشتملا على « إن » الشرطية.

والجواب : انّ حقّ اختيار الخبر الثاني وإن كان بحسب الصورة أمرا تنجيزيا وليس تعليقيا إلاّ أنّه بحسب الروح تعليقي ، فإن كون المكلّف له حقّ اختيار الخبر الثاني معناه أنّه إن اختار الخبر الثاني كان هو الحجّة في حقّه.


التعارض بينهما ، إذ الاولى تحكم بلزوم التخيير وترفض إعمال المرجحات بينما الثانية تقتضي العكس.

فبينما هي تريد علاج التعارض بين الروايات نجد ابتلائها هي في نفسها بالتعارض فهي كما قلنا سابقا أشبه بطبيب يداوي الناس وهو عليل.

ومن هنا يقع التسأوّل عن كيفية علاجها ورفع التعارض الواقع فيما بينها.

واختار الشيخ الآخوند في العلاج حمل روايات الترجيح على الاستحباب فقال انّ روايات الترجيح تدل على أنّ إعمال المرجّحات شيء مستحسن وليس بلازم ، وهذا لا ينافي التخيير الذي حكمت به روايات التخيير. واستشهد على ما ذكره بعدّة قرائن من جملتها انّ الروايات التي تذكر المرجّحات اختلفت في عدد المرجّحات فبعضها يذكر أربعة مرجّحات وبعضها يذكر أقل من ذلك ، وهكذا تختلف في كيفية ترتيب المرجّحات ، فبعضها يقدّم هذا ويؤخر ذاك وبعضها يقدّم ويؤخر بالعكس ، وهذا الاختلاف في الكم والكيف شاهد صدق على أنّ إعمال المرجّحات شيء مستحب وليس بواجب. هذا ما ذكره الآخوند.

ويردّه : انّ حمل الأحكام الإرشادية على الاستحباب شيء مرفوض عرفا وإنّما القابل لذلك هو الأحكام التكليفية ، فمثلا لو قال أحد الدليلين لا بأس بشرب العصير العنبي المغلي وقال الدليل الآخر العصير العنبي نجس فلا يقبل العرف حمل الدليل الثاني على استحباب النجاسة ، فإنّ النجاسة لا معنى لحملها على الاستحباب ، وهذا بخلاف ما لو كان الدليل الثاني يقول لا تشرب العصير العنبي ، فانّه لا يأبى عن حمله على كراهة شرب العصير. وهكذا الحال في المقام ، فإنّ روايات الترجيح التي تأمر بالأخذ بالخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامة


هي مرشدة إلى حجّية الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامة ، ومن الواضح انّ العرف يأبى عن حمل ذلك على الاستحباب فلا معنى لاستحباب حجّية الموافق أو المخالف.

وعلى هذا فالصحيح في توجيه الجمع بين الروايات هو تطبيق قانون الإطلاق والتقييد ، فإنّ الروايات الآمرة بالتخيير مطلقة وتدل بإطلاقها على أنّ الحكم بالتخيير يعمّ حالة وجود المرجّح وحالة عدمه فتقيد بصورة فقدان المرجّح وتصير النتيجة : تخيّر إن لم يكن مرجّح.

النقطة الرابعة

انّ الأخبار التي تأمر بالتخيير أو التي تأمر بإعمال المرجّحات ـ وبكلمة جامعة : اخبار العلاج ـ هل تختص بصورة التعارض المستقر التي لا يمكن فيها الجمع العرفي ـ كما في المتباينين أو العامين من وجه ـ أو تعمّ صورة الجمع العرفي أيضا التي يكون التعارض فيها غير مستقر كما هو الحال في العام والخاص المطلق؟

نسب إلى الشيخ الطوسي في استبصاره وعدّته عمومية الأخبار لموارد الجمع العرفي فإذا ورد حديث عام والآخر خاص رجّح العام إن كان مخالفا للعامة أو موافقا للكتاب ، ومع التساوي يتخيّر في العمل بأحدهما. والمستند لهذا الرأي ليس إلاّ التمسّك بالإطلاق وعدم تقييد اخبار العلاج بصورة عدم إمكان الجمع العرفي.

وفي مقابل ذلك قيل بالاختصاص بموارد عدم إمكان الجمع العرفي. واستدل


على ذلك بأنّ ظاهر أخبار العلاج تحيّر السائل عند مواجهته للخبرين المتعارضين ، فانظر إلى قول زرارة في مرفوعته : « يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ » ، إنّ تعبيره هذا واضح في تحيّره ، ومعلوم أنّه في موارد العام والخاص التي يجمع فيها العرف بالتخصيص لا تحيّر للعرف بل يخصّص العام بالخاصّ ، وهذا قرينة واضحة على اختصاص اخبار العلاج بالمتعارضين اللذين يتحيّر العرف اتجاههما ، ولا يكون ذلك إلاّ في موارد التعارض المستقر كالمتباينين أو العام والخاص من وجه.

هذا ولكن الأولى الاستشهاد على اختصاص اخبار العلاج بموارد التعارض المستقر ببيان آخر (١) حاصله : انّه لو رجعنا إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي تقول : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ... » (٢) لاستفدنا منها انّ الخبر لا يسقط عن الحجّية بمجرّد مخالفته للقرآن الكريم فلو لا وجود الخبر الثاني المعارض له لكان من اللازم الأخذ به وإنّما الذي أوجب التوقّف عن الأخذ

__________________

(١) إذ البيان السابق يمكن التأمّل فيه من ناحية أنّه في موارد التعارض غير المستقر وإن كان لا تحيّر للعرف اتجاه المتعارضين حيث يجمع بينهما بالتخصيص مثلا إلاّ أنّ السائل كزرارة يحتمل عدم رضا الشارع بطريقة الجمع العرفي ولذلك سأل عن الموقف الشرعي.

هذا مضافا إلى أنّ بعض الروايات لم يسأل فيها الراوي عن حكم المتعارضين ليقال بأنّ سؤاله ظاهر في التحيّر بل ابتدأ الإمام 7 ببيان حكم المتعارضين وتقديم الموافق أو المخالف كما هو الحال في الرواية الاولى أي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله.

(٢) عدم الاستشهاد بالرواية الثانية والثالثة يتّضح من خلال مراجعتهما.


به هو معارضته بالخبر الآخر ـ إذ لو كانت معارضته للقرآن الكريم بمجرّدها توجب سقوطه عن الحجّية حتّى ولو لم يكن له خبر معارض لكان من اللازم أن يقول الإمام 7 : إذا ورد عليكم خبر مخالف للكتاب فدعوه حتّى وإن لم يكن هناك خبر ثان معارض له ـ ولازم هذا ان تكون مخالفة الخبر للكتاب الكريم بشكل ومخالفته للخبر الثاني بشكل ثان ، إذ لو كانت المخالفتان من نمط واحد ، بأن كانت مخالفة الخبر للكتاب الكريم بنحو العموم والخصوص المطلق ، وهكذا مخالفته للخبر الثاني كانت بهذا النحو لما كان وجه للتأمّل في حجّية الخبر من ناحية معارضته للخبر الثاني ، إذ كما انّ مخالفته للكتاب الكريم لم توجب التأمّل في حجّيته فكذاك مخالفته للخبر الثاني يلزم أن لا توجب ذلك.

وإذا ثبت انّ مخالفة الخبر للكتاب الكريم تغاير مخالفته للخبر الثاني فنقول : انّ مخالفة الخبر للكتاب الكريم بما انّها بنحو العموم والخصوص المطلق ـ إذ لو كانت بنحو التباين أو العموم من وجه فمن اللازم سقوطه عن الحجّية في نفسه حتّى ولو لم يكن له معارض لما تقدّم من أخبار العرض التي تقول ما خالف قول ربّنا فهو زخرف ـ فلا بدّ وأن تكون مخالفته للخبر الثاني امّا بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه ، أي لا بدّ وأن تكون المعارضة بنحو مستقر. وبهذا يثبت المطلوب وهو انّ اخبار العلاج لا تشمل إلاّ الخبرين اللذين بينهما معارضة مستقرة.

النقطة الخامسة

انّ التعارض المستقر تارة يكون مستوعبا ، كما هو الحال في المتباينين ،


واخرى يكون غير مستوعب ، كما هو الحال في العامين من وجه.

والقدر المتيقن من اخبار العلاج هو الخبران المتعارضان بنحو التباين.

ولكن هل تشمل العامين من وجه أيضا أو لا؟ قد يقال بعدم شمولها لهما ، فإنّ من جملة المرجحات الترجيح بالأوثقية وأخواتها التي هي مرجحات صدور إحدى الروايتين ، ومثل هذا المرجّح ـ أي المرجّح الصدوري ـ لو شمل أحد الخبرين ، بأن فرض كون راويه أوثق فقدّم من حيث الصدور وحكم بعدم صدور الخبر الآخر الذي راويه ليس بأوثق فحينئذ نسأل هل ان الخبر غير الأوثق يحكم بعدم صدوره من حيث مادة الاجتماع ـ التي هي مادة التعارض ـ ومادتي الافتراق أو يقال بسقوطه من حيث مادة الاجتماع فقط؟ وكلاهما باطل.

أمّا طرحه من حيث مادة الاجتماع ومادتي الافتراق فذاك لأنّه بلا موجب ، إذ أقصى ما يقتضيه التعارض هو سقوط الخبر غير الأوثق في مادة المعارضة ، وأمّا سقوطه في مادتي الافتراق فهو بلا داع.

وامّا طرحه من حيث مادة الاجتماع فقط فذاك من ناحية أنّه يلزم التفكيك في الصدور الواحد ، فإنّ الخبر إذا كان صادرا فهو صادر بلحاظ مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، وإن كان غير صادر فهو غير صادر بلحاظ مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، وامّا كونه صادرا بلحاظ مادتي الافتراق وعدم كونه صادرا بلحاظ مادة الاجتماع فهو غير ممكن.

هكذا قد يقال في وجه عدم شمول أخبار العلاج للعامين من وجه.

بيد انّ السيد الخوئي في مباني الاستنباط ج ١ ص ٤٩٨ نقل عن شيخه النائيني القول بالتفصيل بين المرجّحات الصدورية والمرجحات المضمونية ،


فالمرجّحات الصدورية كالترجيح بالأوثقية لا يمكن أن تشمل العامين من وجه لما تقدّم من المحذور ، وهو أنّ سقوط غير الأوثق بلحاظ كلتا المادتين بلا موجب (١) وبلحاظ مادة الاجتماع فقط غير ممكن (٢).

وأمّا سقوط المرجّحات المضمونية كالترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة ـ فإنّ مضمون الخبر هو الذي يتّصف بأنّه موافق للكتاب أو مخالف للعامة ـ فلا محذور في شمولها للعامين من وجه فيمكن أن يقال انّ دلالة الخبر المخالف للكتاب لا يؤخذ بها في مادة الاجتماع ويؤخذ بها في مادة الافتراق ، إذ دلالة الخبر متعدّدة فله دلالة في مادة الاجتماع ودلالة اخرى في مادة الافتراق ، ولا محذور في الأخذ بأحدى الدلالتين وطرح الاخرى.

قوله ص ٣٩٧ س ١١ : حكما : بفتح الحاء والكاف والميم.

قوله ص ٣٩٧ س ١٢ : رد : فعل ماضي.

قوله ص ٣٩٨ س ٢ : المجمع عليه : أي المشهور بقرينة قوله فيما بعد : ويترك

__________________

(١) بل الموجب موجود ، فإنّ أخبار العلاج إذا كان لها إطلاق يشمل العامين من وجه يدلّ على سقوط الخبر غير الأوثق من حيث مادة الاجتماع ومادة الافتراق معا فسقوطه في كلتيهما يكون مع الموجب وهو إطلاق أخبار العلاج وشمولها للعامين من وجه.

وهذا هو وجه تضعيف كلام النائيني الذي يستشعر ـ التضعيف ـ من تعبير السيّد الشهيد : « وقد نقل ... ».

(٢) بل هو ممكن لما تقدّم ص ٣٧٦ من الحلقة من عدم المحذور في سقوط السند الواحد بلحاظ مادة الاجتماع فقط.

والوجه في ذلك انّ التعبّد سهل المؤونة فيمكن التعبّد بصدور الخبر بلحاظ مادة الاجتماع دون مادة الافتراق.


الشاذ الذي ليس بمشهور.

قوله ص ٣٩٨ س ٤ : فإنّ المجمع الخ : لا داعي لنقل هذه الجملة إلى قوله :

« إلى الله » إلاّ التبرّك.

قوله ص ٣٩٨ س ١٠ : حكامهم : يقرأ بالرفع. وقوله : « الخبرين » مفعول به.

قوله ص ٣٩٩ س ٣ : بوجوه : المناسب : بوجهين.

قوله ص ٣٩٩ س ١٢ : وتأكيد موردها : عطف تفسير للكاشفية.

قوله ص ٤٠٠ س ٢ : كالترجيح بالشهرة : المناسب التعبير : وليس صحيحا بالنسبة إلى الشهرة ، فإنّ غير الصفات الذي يكون موردا للإشكال ليس هو إلاّ الشهرة ـ كما يستفاد ذلك من قوله ص ٣٩٩ س ٣ « وبالشهرة » وأيضا قال : « هذين الترجيحين » ـ وإلاّ فالموافقة للكتاب والمخالفة للعامة لم يعمّم الإشكال لهما من ناحية انّ رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قد دلّت على الترجيح بهما بدون أن يرد عليها أي إشكال.

قوله ص ٤٠٠ س ١١ : كما هو عمل المشهور : أي تطبيق الترجيح بالصفات على خصوص الراوي المباشر عن الإمام 7.

قوله ص ٤٠٠ س ١٦ : اختلاف : الصواب : اختلال.

قوله ص ٤٠١ س ٥ : وغيرها : المناسب حذف ذلك.

قوله ص ٤٠٢ س ١٢ : أو الحديثان : لعلّ الفارق بين الخبرين والحديثين انّ الثاني خاص بالرواية المنقولة عن النبي 6 بخلاف الأوّل. ويحتمل أنّ الثاني يختصّ بالرواية القطعية الصدور بخلاف الأوّل.

قوله ص ٤٠٣ س ٤ : موافقان للاحتياط : بأن كان أحدهما دالاّ على


الحرمة والآخر على الوجوب. امّا إذا كان أحدهما دالاّ على إباحة الشيء والآخر على حرمة ذلك الشيء فالخبر الدالّ على الإباحة يكون مخالفا للاحتياط فإنّ الاحتياط يقتضي الترك بينما الدال على الحرمة موافق للاحتياط. وإذا كان كلاهما دالاّ على الإباحة فكلاهما يكون مخالفا للاحتياط.

قوله ص ٤٠٥ س ٣ : سابقا : أي قبل اختيار الخبر الأوّل.

قوله ص ٤٠٥ س ٣ : وهو الآن : أي بعد اختيار الخبر الأوّل.

قوله ص ٤٠٥ س ٣ : استصحابا : مفعول لأجله.

قوله ص ٤٠٥ س ٣ : وعلى أي حال : أي سواء كان الاستصحاب تعليقيا أم تنجيزيا.

قوله ص ٤٠٦ س ٦ : وبقطع الخ : المقصود : أي وبقطع النظر الخ.

قوله ص ٤٠٧ س ٧ : رأسا : أي في مادة الاجتماع والافتراق.

تمّ هذا الشرح بيد الفقير إلى رحمة ربّه الغني باقر الايرواني في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب عام ألف وأربعمائة واثني عشر هجرية ٢٥ / رجب المرجب / ١٤١٢ ه‍ في بلدة قم الطيبة. واشكر الله سبحانه على هذا التوفيق.



محتويات الكتاب

الاستصحاب................................................................... ٥

تحديد الاستصحاب........................................................... ٧

قاعدة اليقين والمقتضي والمانع................................................... ٧

أدلة الاستصحاب............................................................. ٩

الرواية الاولى............................................................... ١٠

الرواية الثانية................................................................ ١٢

اإشكال وجواب............................................................. ٢٢

تفصيل الكلام في فقرتي الاستدلال............................................ ٢٤

الفقرة الاولى................................................................ ٢٤

الجهة الاولى................................................................. ٢٤

الجهة الثانية................................................................. ٢٦

الجهة الثالثة................................................................. ٣٠

الجهة الرابعة................................................................ ٣١


الفقرة الثانية................................................................ ٣٢

الرواية الثالثة................................................................ ٣٧

اعتراضات على الرواية الثالثة................................................. ٣٨

الاعتراض الأوّل............................................................. ٣٨

الاعتراض الثاني............................................................. ٣٩

ردود على الاعتراض الثاني................................................... ٤١

الردّ الأوّل.................................................................. ٤١

الرد الثاني.................................................................. ٤٣

الرد الثالث................................................................. ٤٦

حمل الرواية على قاعدة الاشتغال اليقيني........................................ ٤٨

الاعتراض الثالث............................................................ ٥٠

الرواية الرابعة............................................................... ٥٣

روايات اخرى.............................................................. ٥٤

مقامات خمسة............................................................... ٥٥

الاستصحاب................................................................ ٥٧

أصل أو امارة............................................................... ٥٧

الاستصحاب أصل أو امارة.................................................... ٥٩

عود إلى عرض المشكلة....................................................... ٦٣

وماذا يكون الاستصحاب بعد هذا............................................. ٦٤

كيفية الاستدلال بالاستصحاب............................................... ٦٦


أركان الاستصحاب........................................................... ٧٣

أركان الاستصحاب......................................................... ٧٥

الركن الأول أو اليقين السابق................................................. ٧٧

جواب الميرزا................................................................ ٧٨

جواب الآخوند.............................................................. ٨٠

جواب جملة من المحقّقين...................................................... ٨٤

جواب السيد الشهيد......................................................... ٨٥

موارد العلاج............................................................... ٨٦

الصورة الاولى............................................................... ٨٧

الصورة الثانية............................................................... ٨٩

الصورة الثالثة............................................................... ٩٠

الصورة الرابعة.............................................................. ٩١

الخلاصة.................................................................... ٩٢

بعض الصور لا يجري فيها الاستصحاب البديل................................. ٩٣

الركن الثاني أو الشكّ في البقاء................................................ ٩٧

المورد الأوّل................................................................. ٩٧

المورد الثاني............................................................... ١٠١

صياغة جديدة للركن الثاني................................................. ١٠٦

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني....................................... ١١١


الركن الثالث أو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة............................. ١١٥

الإشكال في الشبهات الموضوعية............................................. ١١٦

الإشكال في الشبهات الحكمية............................................... ١١٨

الركن الرابع أو الأثر العملي................................................ ١٢٧

الصيغة الثالثة.............................................................. ١٢٧

الصيغة الثانية.............................................................. ١٢٨

الصيغة الاولى............................................................. ١٢٩

عود إلى الصيغة الثانية...................................................... ١٣٢

عود إلى الصيغة الثالثة...................................................... ١٣٥

الأصل المثبت............................................................... ١٤٣

مقدار ما يثبت بالاستصحاب............................................... ١٤٥

الآثار الشرعية............................................................. ١٤٩

الكلام على الإحتمال الأوّل................................................. ١٤٩

الكلام على الإحتمال الثاني................................................. ١٥١

الكلام على الاحتمال الثالث................................................ ١٥٤

عودة إلى الإحتمال الثاني.................................................... ١٥٤

الآثار غير الشرعية......................................................... ١٥٦

إتضح مما سبق............................................................. ١٥٨

استثناء مما تقدم............................................................ ١٥٨


بناء على امارية الاستصحاب................................................ ١٥٩

تفصيل الشيخ الأعظم والنراقي............................................... ١٦٣

عموم جريان الاستصحاب.................................................. ١٦٥

القول الأوّل............................................................... ١٦٥

القول الثاني............................................................... ١٦٨

الجواب عن التفصييل المذكور............................................... ١٧١

الجواب عن مشكلة الشيخ العراقي........................................... ١٧٣

الجواب عن تفصيل السيد الخوئي............................................ ١٧٥

الاستصحاب التعليقي........................................................ ١٧٩

استصحاب الحكم المعلق :.................................................. ١٨١

تنبيه مهم................................................................. ١٨٣

الاعتراضات على الاستصحاب التعليقي...................................... ١٨٤

الاعتراض الأوّل........................................................... ١٨٤

جوابان عن الاعتراض الأوّل................................................ ١٨٥

الرد على الشيخ العراقي.................................................... ١٨٨

الجواب عن الاعتراض الأوّل................................................ ١٩٠

الاعتراض الثاني............................................................ ١٩١

جوابان عن الاعتراض الثاني................................................. ١٩٢

الاعتراض الثالث.......................................................... ١٩٤


جوابان عن الاعتراض الثالث................................................ ١٩٥

استصحاب عدم النسخ...................................................... ٢٠٣

استصحاب عدم النسخ..................................................... ٢٠٥

الشكّ في نسخ الجعل على قسمين........................................... ٢٠٦

جوابان عن إشكال الاستصحاب............................................ ٢١٠

استصحاب الكلّي........................................................... ٢١٣

استصحاب الكلي.......................................................... ٢١٥

عودة إلى الكتاب.......................................................... ٢١٧

الكلام في جهتين........................................................... ٢١٨

الجهة الاولى............................................................... ٢١٨

الاشكال في باب الموضوعات................................................ ٢٢٠

إحتمالان في رأي الرجل الهمداني............................................ ٢٢٢

نسبة الأب إلى الأبناء المتعدّدين.............................................. ٢٢٢

عودة إلى الكتاب.......................................................... ٢٢٣

الفارق بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد.............................. ٢٢٥

أقسام استصحاب الكلّي الثلاثة.............................................. ٢٢٩

القسم الأوّل من استصحاب الكلي.......................................... ٢٣١

الشكّ في بقاء الكلّي الناشئ من حدوث الفرد................................. ٢٣٢

القسم الثاني من استصحاب الكلي........................................... ٢٣٣

الاعتراض الأوّل........................................................... ٢٣٣


الاعتراض الثاني............................................................ ٢٣٤

الاعتراض الثالث :........................................................ ٢٣٥

الاعتراض الرابع........................................................... ٢٣٦

الاعتراض الخامس......................................................... ٢٣٧

القسم الثالث من استصحاب الكلّي.......................................... ٢٣٨

الاستصحاب في الموضوعات المركّبة........................................... ٢٤٣

الاستصحاب في الموضوعات المركبة.......................................... ٢٤٥

حالتان لتركّب الموضوع.................................................... ٢٤٦

الحالة الاولى............................................................... ٢٤٦

الحالة الثانية............................................................... ٢٤٧

النقطة الاولى.............................................................. ٢٤٨

النقطة الثانية.............................................................. ٢٥٤

الحالة الاولى............................................................... ٢٥٥

الحالة الثانية............................................................... ٢٥٦

ينبغي أن لا يخفى.......................................................... ٢٦٠

الحالة الثالثة............................................................... ٢٦١

النقطة الثالثة.............................................................. ٢٦٢

صور ثلاث............................................................... ٢٦٤

دليل القول الاّول.......................................................... ٢٦٦


مناقشة القول الأوّل........................................................ ٢٦٧

وجاهة القول الثاني......................................................... ٢٧١

القول الثالث هو الصحيح.................................................. ٢٧٢

جريان الاستصحاب في الصورة الثانية........................................ ٢٧٣

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين.................................... ٢٧٧

الفارق بين التفسيرين....................................................... ٢٨٠

مناقشة التفسير الثاني....................................................... ٢٨١

تفسيران آخران............................................................ ٢٨٣

تعارض الأدلّة الشرعية....................................................... ٢٨٧

البحث عن الخاتمة :........................................................ ٢٨٩

ما هو التعارض المصطلح :.................................................. ٢٨٩

لا تعارض بين الاصلين..................................................... ٢٩١

لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز.......................................... ٢٩٣

لا تعارض بين القطعيين..................................................... ٢٩٣

اقسام ثلاثة للدليل الظني.................................................... ٢٩٤

وهن قاعدة الجمع اولى من الطرح............................................ ٢٩٥

ظهور الحال............................................................... ٢٩٦

الدليلان غير اللفظيين...................................................... ٢٩٦

الورود والتعارض.......................................................... ٢٩٩


تقسيم الورود............................................................. ٣٠١

تقسيم ثاني للورود......................................................... ٣٠٢

قاعدة الجمع العرفي......................................................... ٣٠٩

النظريّة العامّة للجمع العرفي................................................. ٣١٠

أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر.................................... ٣١٥

الحكومة.................................................................. ٣١٥

اقسام النظر............................................................... ٣١٨

مقارنة بين الاتجاهين....................................................... ٣١٩

التقييد.................................................................... ٣٢٠

التخصيص................................................................ ٣٢٤

نقطتان وقع الخلاف فيهما.................................................. ٣٢٥

كبرى انقلاب النسبة....................................................... ٣٢٧

أحكام عامة للجمع العرفي.................................................. ٣٣٧

نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب................................. ٣٤٣

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية......................................... ٣٤٣

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية........................................... ٣٤٥

تطبيقات للجمع العرفي..................................................... ٣٤٩

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء................................................ ٣٤٩

أصالة التداخل في الاسباب أو في المسببات.................................... ٣٥٥


إشكال وجواب............................................................ ٣٥٦

تعارض الأحكام الأولية والثانوية............................................. ٣٥٩

تعارض الشمولية والبدلية................................................... ٣٦١

تقدم الامارة على الأصل.................................................... ٣٦٧

الورود.................................................................... ٣٦٧

الحكومة.................................................................. ٣٦٨

مناقشة مسلك الحكومة..................................................... ٣٧٠

النصية والأخصيّة.......................................................... ٣٧٢

تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي....................................... ٣٧٥

النكتة الصحيحة........................................................... ٣٧٧

معارضة الاستصحاب للأصول الأخرى...................................... ٣٧٩

مناقشة الحكومة........................................................... ٣٨٠

التخريج الصحيح.......................................................... ٣٨٠

التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية...................................... ٣٨٥

المتعارضان بمقتضى القاعدة الأولية........................................... ٣٨٧

الشق الأوّل............................................................... ٣٨٧

جواب التوهم............................................................. ٣٨٩

الشق الثاني................................................................ ٣٩٢

الشق الثالث.............................................................. ٣٩٥


خلاصة ما تقدم............................................................ ٣٩٧

خلاصة النظرية العامّة...................................................... ٣٩٧

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقر....................................... ٤٠١

التنبيه الأوّل............................................................... ٤٠١

خلاصة ما تقدم............................................................ ٤٠٥

صور اخرى............................................................... ٤٠٥

التنبيه الثاني............................................................... ٤٠٦

استحكام التعارض بين السندين............................................. ٤٠٧

التنبيه الثالث.............................................................. ٤٠٨

التنبيه الرابع............................................................... ٤١١

المتعارضان بمقتضى القاعدة الثانوية........................................... ٤١٥

فارق بين المجموعتين........................................................ ٤١٦

روايات العرض على الكتاب................................................ ٤١٧

المجموعة الاولى............................................................ ٤١٧

إشكالات ثلاثة............................................................ ٤١٨

المجموعة الثانية............................................................. ٤٢٠

المجموعة الثالثة............................................................. ٤٢١

اعتراضان................................................................. ٤٢٢

الأوّل..................................................................... ٤٢٢


الثاني..................................................................... ٤٢٤

مناقشة الوجهين........................................................... ٤٢٥

النتيجة النهائية............................................................. ٤٢٩

جواب ثان عن المجموعة الثالثة............................................... ٤٢٩

روايات العلاج............................................................ ٤٣٣

روايات التخيير............................................................ ٤٣٣

البحث الثبوتي............................................................. ٤٣٤

جواب الإشكال........................................................... ٤٣٦

البحث الاثباتي أو روايات التخيير............................................ ٤٣٧

الرواية الاولى.............................................................. ٤٣٧

الرواية الثانية.............................................................. ٤٤١

الرواية الثالثة.............................................................. ٤٤٦

روايات الترجيح........................................................... ٤٤٩

الرواية الاولى.............................................................. ٤٤٩

الرواية الثانية.............................................................. ٤٥٠

اعتراضان على الترجيح بالشهرة وصفات الراوي.............................. ٤٥٢

الدعوى الاولى............................................................ ٤٥٣

الدعوى الثانية............................................................. ٤٥٦

إشكال على الترجيح بالشهرة............................................... ٤٥٦


النتيجة المقبولة............................................................. ٤٥٨

الرواية الثالثة.............................................................. ٤٥٨

نتيجة ما تقدّم............................................................. ٤٦١

وفي الختام................................................................. ٤٦١

النقطة الاولى.............................................................. ٤٦٢

النقطة الثانية.............................................................. ٤٦٣

النقطة الثالثة.............................................................. ٤٦٥

النقطة الرابعة.............................................................. ٤٦٧

النقطة الخامسة............................................................ ٤٦٩

المحتويات................................................................... ٤٧٥

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ٤

المؤلف:
الصفحات: 487