

كلمة المركز
لا ينفصل الحديث عن نهضة الإمام الحسين 7 عن المنعطفات الخطيرة التي شهدها تاريخ
الإسلام السياسي بعد وفاة الرسول 9
، إذ ليس من المعقول أن تحتضر المبادئ والقيم الإسلامية في زمان الإمام الحسين 7 دون أن تكون هناك علاقة وثيقة بين حجم
تلك المؤامرة على الإسلام وبين تلك المنعطفات السياسية التي ألمّت به من قبل ، ولو
كانت الفترة ما بين الرسول وسبطه 9
مكرّسة لتعميق الخطّ المحمّدي في نفوس الأمّة لما حصل هذا الإنقلاب دون أن تنبس
الأمّة ببنت شفة ، على أنّ هناك نقاط التقاء كثيرة بين أسباب نهضة الإمام الحسين 7 والمنعطفات السياسية التي شهدها تاريخ
الإسلام السياسي في حياة الرسول 9
وبعد رحيله أيضا.
فالسقيفة ـ مثلاً ـ لم تبعد أصحاب
القرار الأموي الحاسم في التعايش نفاقا مع الإسلام بعد فتح مكّة عن السلطة ، بل
عملت على الضدّ من ذلك إذ أتاحت لهم الفرصة السانحة إلى ما يبتغون يوم تجاوزت
النصّ ، ولم تضع في حساباتها أيّا من العلم ، أو الاستقامة ، أو العدل ، أو
السابقة ، أو القرابة ، أو الشورى كشروط للخلافة ، واكتفت بشرط واحد فقط وجعلته
فوق كلّ اعتبار وهو أن لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد! وبهذا مهّدت الطريق
لكلّ من دبّ وهب للوصول إلى الخلافة ، واستامها كلّ مفلس بما ذلك الطلقاء.
والعجيب في الأمر أنّ السقيفة لم تقف
عند هذا الحدّ بل استمالت الطلقاء منذ اليوم الأوّل لانعقادها ، فرشت أبا سفيان
وقلّدت أولاده مناصبَ خطيرةً في دولة الإسلام ، ولم تكتف بهذا حتى قلّدت الأمر ـ
بحيلة مكشوفة ـ إلى الأموي عثمان!! وهكذا كانت تلك الفترة مليئة بالأحداث التي
كانت تجري على نسق واحد وترتيب واحد إلى أن انتهت بنتائجها الحتمية بوصول الوغد
معاوية بن أبي سفيان إلى الخلافة!!
وبدلاً من أن ينصهر معاوية وأسرته في
الدين الجديد الذي حكم الأمّة باسمه ، وينسى ما كان يقوله لأبيه :
يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا
|
|
بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
|
خالي وعمي وعمّ الأمّ ثالثهم
|
|
وحنضل الخير قد أهدى لنا الأرقا
|
لا تركننّ إلى أمر يكلّفنا
|
|
والراقصات في مكّة الخرقا
|
فالموت أهون من قول العداة : لقد
|
|
حاد ابن حرب عن العزّى إذا فَرَقا
|
فبدلاً من أن ينسى ذلك ظلّ وصف الطلقاء
يلاحق مخيلته ، وقرار الاستسلام ماثلاً أمام عينيه ، متجسّدا في سلوكه وتصرّفاته ،
وضلّ يواري ما تحمله الشجرة الملعونة في جوانحها من أحقاد على محمّد 9 باعتباره المسؤول الأوّل عن هزائم أبي
سفيان كلّها ، وعلى علي 7
باعتباره فتى الإسلام الأوّل الذي أذاق تلك الأسرة المنافقة ما تقدّم في
شعر معاوية نفسه ، ومن هنا جاء أمره
بشتم الوصي 7 على منابر
المسلمين ، وانتهى الأمر بأخذه البيعة إلى مثل يزيد الفاسق الفاجر الملعون.
وهكذا كانت السقيفة البوّابة الطبيعية
التي نفذ منها يزيد إلى الملك العضوض. وما كان الإمام الحسين 7 ليقف مكتوف الأيدي أمام هذا التحدّي
الخطير الذي أطاح بكلّ ما تبقى من قيم الإسلام ومثله ، وما كان 7 ليستسلم أمام محاولة معاوية بجعل
المنهج الأموي بديلاً عن الإسلام ، ومن هنا ولدت نهضة الحسين 7 لتدين لها كلّ المواقع المشرقة في
تاريخ الإسلام لأنّها هي التي صنعت بالدماء الزاكيات تاريخا جديدا له.
لقد تجسّد الإسلام كلّه في نهضة الحسين
، واجتمع الحقّ كلّه في ثورته على الطغاة المردة ، حتى صارت تلك الثورة الحمراء
القانية رمزا لكلّ حركة حرّة ترفض الضيم والخضوع للظلم والاستعباد والاضطهاد ، وصارت
شعارا لكلّ الثورات الإسلامية التي لا ترى حرمة وقدسية لكلّ حاكم مستبد مزيّف ما
لم يلتزم الإسلام عقيدة ونظاما ، وكانت فتحا جديدا بكلّ مقاييس الرسالة ، ولهذا
قال مفجّرها العظيم : ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح.
وهكذا استطاعت تلك الملحمة الحسينية أن
تحقّق أهدافها الرسالية وبأكثر من اتّجاه وصعيد ، حيث أيقضت روح المقاومة لدى
المسلمين فكانت الثورات والانتفاضات الشعبية التي قادها العلويون تترى للإطاحة
بعرش الطاغوت.
كما بعثت نهضة سيد الشهداء 7 من جديد قيم الرسالة ومفاهيم الإسلام
التي طُمِست وطواها النسيان ، وماكان الإسلام ليصل موقعه الذي نرى لولا تلك النهضة
، حيث أعادت للدين الحنيف قوّته بعد احتضاره ، واستطاعت بكلّ فخر أن تعرّي الواقع
التاريخي المزيّف المتخم بالمؤامرات ضدّ آل محمّد 9
والخطط المتراكمة في إقصائهم ما سالموا ، وتصفيتهم ما قاوموا باعتبارهم قطب الدين
الأوحد وقادته وحماته ، وأيقضت الأمّة من سباتها ونبّهتها على أنّه لا حرمة في
القاموس الأموي لأي دم في الإسلام ولو كان الدم دم الحسين 7 ، على أنّ الشجرة الملعونة قد حاولت ـ
قبل ذلك ـ سفك دم الوصي علي 7
، وسعت ـ من قبل ـ إلى إراقة دم النبي 9.
والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ
قد جاء مبيّنا لبعض أبعاد النهضة الحسينية وأسبابها ونتائجها بعبارة مشرقة ، ومنهج
علمي ، متضمّنا الكثير من المواقف النادرة والحقائق التاريخية سواء تلك التي سبقت
النهضة أو تزامنت معها.
آملين أن يزيد في وعي الأمّة بتاريخها ،
وما يتطلّبه حاضرها من السير في ركب الحسين وآل الحسين : لبناء مستقبلها بناء إسلاميا بعيدا عن
الذلّ والهوان وقدسية الحاكم المستبد.
واللّه الهادي إلى
سواء السبيل
مركز الرسالة
المقدَّمة
إن ثورة الحسين 7 ليست مجرّد حادثة تاريخية وقعت في
تاريخ المسلمين ثم انتهت ، وحينئذ فلا نحتاج إلاّ أن نقيّم نهضة الإمام الحسين 7 للإطاحة بعرش الطاغوت من ناحية
مسؤوليته ونقف عند ذلك ، وإنّما نعتقد أن ثورة الحسين 7 وحركته قضية تتجدد على مرّ العصور
والأيام ، ولا زالت هذه القضية ـ إلى يومنا هذا ـ تمدنا بالعطاء والقوة والعزيمة
والقدرة. وشأن قضية الحسين 7
شأن القرآن الكريم الذي لا يختص مضمونه بعصر نزوله ، وإنما يتجدد في كل عصر ويعالج
قضايا كل عصر ، فهو حي متجدد كالشمس والقمر ، كما ورد في روايات أهل البيت :. والحسين 7
هو قرآن ناطق لذا فإنّ قضيته وحركته لابدّ من أن نفهمها في كل عصر.
ونهضة الحسين 7 سجلت فخرا للمسلمين ، وقد عنى بها
العلماء والكُتاب من مختلف الطوائف ، واحتلت مكان الصدارة في الأحداث التي غيرت
مجرى التاريخ ، وستبقى بمُثلها وقيمها ومواقفها مدرسة للاجيال تضيء لها الطريق ، وتوفر
لها العطاء ، وهي ندية تتفجر بينابيع الخير والاصلاح حتى يرث اللّه الأرض ومن
عليها.
علما بان هذه النهضة قد تغلغلت في أعماق
الوجدان الشعبي للأمة بوجه عام وللمسلمين الشيعة بوجه خاص ، بحيث غدت جزءا من الجو
الثقافي العام للإنسان الشيعي ، وأسهمت ، ولاتزال تُسهم حتى الآن ، بدور
هام في تكوين شخصيته
الثقافية ، وأخلاقياته الإجتماعية والسياسية. ويلاحظ أن نهضة الحسين من بين جميع
الثورات في تاريخ الإسلام الحافل بالثورات ، هي النهضة الوحيدة التي لا تزال
ذكراها حيَّة غضَّة في حاضر المسلمين كما كانت كذلك في ماضيهم ، وهي الوحيدة من
بين الثورات ، الثورة التي دخلت في أعماق الوجدان الشعبي وكانت واعزا وحافزا لما
تلاها من ثورات ، يقول الكاتب والأديب :
« لم تنقضِ ستّ سنوات على مصرع الحسين
حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء ، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل
والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير. ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد
مديد الأجل ، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف وستون سنة! وكان مصرع الحسين هو
الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها ، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل
دولة تفتح لها طريقاً إلى الأسماع والقلوب » .
جدير بالذكر يركز البعض من الكُتاب
والباحثين على بُعد واحد من أبعاد نهضة الحسين 7
، فيتناولونه بالبحث والتحقيق وكأنه البعد الفريد في النهضة المباركة ، وفات هؤلاء
خطأ النظرة الاحادية الجانب ، التي تسهب في جانب أو بُعد واحد على حساب باقي
الأبعاد العديدة.
ونحن في هذا الكتيب قد تناولنا بصورة
مختصرة ولكن مركزة عدة أبعاد أساسية من نهضة الحسين 7
، وسلطنا الأضواء المعرفية على أبعاد لم
__________________
تتناولها الأبحاث
والدراسات الحسينية بصورة واسعة كالبعد العسكري والاعلامي.
ومن اللّه تعالى نستمد العون والتوفيق.
أولاً : البعد الغيبي
الإمام الحسين 7 إنسانٌ سماوي ، متصل بالغيب اتصالاً
وثيقا ، فقد رسم له الغيب دورا رساليا ، وحدد له خطوات المسير فنفذها ـ بدقة ـ على
الرغم من طابعها المأساوي. يقول الشهرستاني : « تلوح من السيرة الحسينية المثلى
انه مسبوق العلم بأنباء من جده وأبيه وأمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنه مقتول بسيف
البغي ـ خضع أو لم يخضع ، وبايع أو لم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا
الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة ، قوامها الشرع وزمامها
النبل » .
ومن أجل ذلك فقد رفض كل الدعوات
والنصائح التي تدعوه إلى عدم الخروج من مكة ، وتحذره من مغبة التوجه إلى العراق.
وهذا الفهم لايتنافى ـ بطبيعة الحال ـ مع الحسابات الواقعية التي كانت تحتم على
الإمام 7 بأن يأخذ
زمام المبادرة ، بعد أن استأثر الأمويون بالسلطة ، وطمسوا معالم الدين ، واتخذوا
مال اللّه دولاً وعباده خِولاً. اجل لقد تحرك الإمام 7
على ضوء المعطيات العملية ، ومنها : وصول يزيد الفاسق إلى سدة الحكم ، واكراهه
الحسين 7 على لزوم
البيعة له ، ولكن كان هذا
__________________
التحرك ـ مع ذلك ـ
بمشيئة وارادة إلهية.
وكشف عن هذه الرغبة الإلهية في عدة
مواقف ، منها : « جاء عبداللّه ابن عباس رضى الله عنه وعبداللّه بن الزبير فأشارا
إليه بالإمساك. فقال لهما إنّ رسول اللّه 9
قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال : فخرج ابن عباس وهو يقول : واحسيناه » .
فهنا تتطابق الحقائق الواقعية مع
الأوامر النبوية الصادرة عن عالم الغيب ، فالحسين 7
يدرك بصورة لايشوبها الشك أنه بين خيارين أحلاهما مرّ : إما البيعة قسرا ، أو
القتل حتما. وليس أمامه إلا المسير حسب أوامر الغيب ، المتمثلة بأمر الرسول 9 له بالتحرك. وإذا كان الحسين 7 هنا يفسر المسير بالأهل والنساء
والأطفال إلى كونهم ودائع رسول اللّه 9
عنده وخوفه عليهم من أزلام يزيد ، لا سيما وهو يعلم بأنهم لا يتورّعون عن فعل شيء
، فليس من المستبعد أن يستخدمهم هؤلاء كرهائن لثني الحسين 7 عن المسير إلى العراق. وهناك دلالة
عميقة استنبطتها العقول الكبيرة لتثبت من خلالها أن الحسين 7 ضحى بعياله من أجل الدين ، يقول « جارلس
ديكنز » ، الكاتب الانكليزي المعروف : « إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل
أهداف دنيوية ، فانني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن العقل
يحكم انه ضحى فقط لأجل الإسلام » .
__________________
ولكن الحسين 7 في موقف آخر يعزو أخذ العيال معه وفق
نظرة غيبية بحتة ، وفقا للمشيئة الإلهية ، وذلك لما «أراد العراق قالت له أمّ سلمة
: لا تخرج إلى العراق ، فقد سمعت رسول اللّه 9
يقول : يقتل ابني الحسين بأرض العراق وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة. فقال : «
واللّه إنّي مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضا ، وإن أحببت أن
أُريك مضجعي ومصرع أصحابي. ثمّ مسح على وجهها ، ففسح اللّه في بصرها حتى أراها ذلك
كلّه ، وأخذ تربة فأعطاها من تلك التربة أيضا في قارورة أخرى ، وقال 7 : فإذا فاضتا دما ، فاعلمي أنّي قد
قتلت. فقالت أمّ سلمة : فلمّا كان يوم عاشوراء نظرت إلى القارورتين بعد الظهر فإذا
هما قد فاضتا دما ، فصاحت » .
وبطبيعة الحال لا تكون الإرادة والمشيئة
الإلهية بدون حِكم بالغة ، بعضها يتصل بالحسين 7
من أجل تكريمه ، ورفعه إلى الدّرجات السامية التي لا تنال إلاّ بالشهادة الدامية ،
والبعض الآخر منها لكشف معدن أعدائه ، ولكي يدرك القاصي والداني بأن هؤلاء من أهل
الأهواء والمصالح ، وبعيدون ـ كل البعد ـ عن جوهر الدّين.
ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا بأن الحسين 7 ـ بعد أن استلم الأمر الإلهي ـ أصبح
شعلةً من حركة لا تخمد ، ولم يلتفت إلى النصائح والدعوات التي انهالت عليه من
القريب والبعيد ، محاولةً ثنيه عن عزمه ، وكانت بالحسابات الدنيوية قد تتّصف بشيء
من الواقعية ، فهو يتحرّك مع قلّة
__________________
العدد والعدّة ، ويأخذ
ـ مع ذلك ـ معه أطفاله وعياله ، ويتّجه إلى بلد كالعراق متعدّد الأعراق والفِرق ، ويتكوّن
من فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة ، وأهله ـ أهل الكوفة ـ كانوا
آنذاك خليطاً عجيباً متناثراً من البشر ، يُوصمون ـ من قبل الغير ـ بالغدر ، وقد
غدروا بأبيه وأخيه من قبل ، وإن كانوا ـ على وجه العموم ـ من أعوان أهل البيت
ومواليهم. زد على ذلك فان العراق بلد تتشكّل جغرافيته من سهول ممتدة ، وليس فيه
جبال وعرة ، ونتيجة لذلك ، فلا يمتاز بالأمن والمنعة للحسين 7 ، فهو لا يصلح لحرب العصابات كبلاد
اليمن. كل هذه الأسباب قد تضفي بعض المصداقية على تلك الدعوات المخلصة التي حثّت
الإمام الحسين 7
على استكشاف خياراته على ضوء معطيات الواقع. ولكن الإمام 7 خرج بوعيه من قفص الواقع وحساباته
المادية البحتة ، التي يدركها جيدا ، ولكنه استشف آفاق أوسع من كل ذلك ، هي آفاق
الغيب والشهادة التي تسمو على الحسابات المادية الآنية.
ومن مصاديق ذلك : « أنّ محمّد بن
الحنفية لما بلغه أن أخاه عازم على الخروج من مكّة إلى العراق ... صار إلى أخيه
الحسين 7 في الليلة
التي أراد الحسين 7
الخروج في صبيحتها عن مكّة. فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم
بأبيك وأخيك ، وقد خِفتُ أن يكون حالك كحال من مضى ، فإن رأيت أن تُقيم ، فانّك
أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال الحسين : يا أخي ، قد خِفتُ أن يغتالني يزيد بن
معاوية بالحرم ، فأكون الذي يُستباح به حرمةُ هذا البيت. فقال له ابنُ الحنفية : فان
خِفتَ ذلك فصِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ ، فإنك أمنع الناس به ، ولايقدر
عليك
أحد. فقال : أنظر
فيما قلت.
فلما كان السحر ارتحل الحسين 7 فبلغ ذلك ابنَ الحنفية فأتاه ، فأخذ
بزمام ناقته ، وقد ركبها ، فقال له : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال : بلى.
قال ابنُ الحنفية : فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال : أتاني رسول اللّه 9 بعدما فارقتُك ، فقال : يا حسين أخرج ،
فان اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال ابنُ الحنفية : إنا للّه وإنا اليه راجعون
، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك ، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال الحسين 7 : إن اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا.
فسلّم عليه ومضى » .
إذن فالمشيئة الإلهية تسمو فوق الحسابات
السياسية والقناعات الذاتية ، ولم يكن الحسين 7
خائفا على نفسه ـ مع تيقّنه بأن هؤلاء لا يتركوه وشأنه ـ بل كان خائفا على رسالته
ودينه. فقد تعهّد له « عبداللّه بن جعفر » بأخذ الأمان له ولأمواله ولأهله ، مع
ذلك أصغى الحسين 7
لنداء الغيب ، ولم يركن للأسباب. يقول الرّواة : « حاول عبداللّه بن جعفر إرجاع
الحسين 7 إلى مكّة ، فقد
كتب مع ولديه عون ومحمّد كتابا يقول فيه : أمّا بعدُ : فإنِّي أسألك باللّه لمّا
انصرفت حين تنظرُ في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه
هلاكُك واستئصال أهلِ بيتك ، إن هلكت اليوم طفئَ نورُ الأرض ، فإنّك عَلَمُ
المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ ، فلا تستعجلْ بالمسير فإنّي في أثر كتابي ، والسلامُ.
وصار عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أمانا ويُمنِّيَه
ليرجع عن وجهه ،
__________________
فكتب إليه عمرو بن
سعيد كتابا يُمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه ، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه
يحيى وعبداللّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع
، فقال : إني رأيت
رسول اللّه 9 في المنام ، وأمرني
بما أنا ماضٍ له ، فقالا له : فما تلك الرؤيا؟ قال : ما حدّثت أحدا بها ، ولا أنا
محدِّث أحدا حتى ألقى ربي جلّ وعزّ.
فلما أيس منه عبداللّه بن جعفر أمرَ ابنيه عونا ومحمّدا بلزومه والمسير معه
والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّه .
وكان الإمام يصغي بإذن متعاطفة مع الذين
نصحوه وأشاروا عليه بعدم الخروج أو بتغيير وجهة المسير ، كان يريد أن يسمع إلى ما
يريد الآخرون قوله ، ومن هذه الأقوال انطلقت آراء اتصفت بالحكمة وبعد النظر ، منها
رأي ذلك الشيخ الذي أشار عليه بالانصراف عن المسير إلى الكوفة ، وحذّره من النتيجة
المأساوية المتوقّعة ، وتساءل ـ محقا ـ لماذا لم يقم أهل الكوفة بالمقدمات
المطلوبة ، كالتمرّد على أتباع يزيد ، وتمهيد الأرضية المناسبة للثورة؟! وبذلك
يكفوه مؤنة القتال ، يروى أنه « لما سار 7
من زبالة
حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل فيها ، فلقيه شيخ من بني عِكرمة يقال له عمرو بن لوذان
، فسأله : أين تُريد؟ قال الحسين 7
:
__________________
الكوفة.
فقال له الشيخ : أنشدك اللّه لما انصرفت ، فواللّه ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ
السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك
الأشياء ، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكر ، فاني لا أرى
لك أن تفعل. فقال له : يا
عبد اللّه ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكن اللّه لا يُغلب على أمره ، ثم قال : واللّه
لا يَدَعُونني حتى يستخرجوا هذه العَلقةَ من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم
من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فِرَق الأمم
» .
كان الحسين 7 ينظر للغيب من وراء ستر رقيق ، ويعلم
أن القدر قد رسم له دورا لابد له من القيام به ، ومواجهة الحقيقة المرّة وهي الموت
المحقق. يروي الدَّينوري أنّه « لما سار الحسين 7
من بطن الرمّة
، لقيه عبداللّه بن مطيع ، وهو منصرف من العراق ، فسلم على الحسين ، وقال له : بأبي
أنت وأمي يا بن رسول اللّه ، ما أخرجك من حرم اللّه وحرم جدّك؟ فقال : إنّ أهل
الكوفة كتبوا إليَّ يسألوني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ ، وإماتة
البدع. قال له ابن مطيع : أنشدك اللّه أن لا تأتي الكوفة ، فواللّه لئن أتيتها
لتقتلن. فقال الحسين 7
: لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا. ثمّ ودّعه ومضى » .
وروى في مورد آخر : « إنّ عبداللّه بن
مطيع استقبل الحسين 7
، وهو
__________________
منصرف من مكّة يريد
المدينة ، فقال له : أين تريد؟. قال الحسين : أمّا الآن فمكة ، قال : خار اللّه لك
، غير أنّي أحبّ أن أشير عليك برأي. قال الحسين 7
: وما هو؟. قال : إذا أتيت مكة فأردت الخروج منها إلى بلد من البلدان ، فإيّاك
والكوفة ، فإنّها بلدة مشؤومة ، بها قتل أبوك ، وبها خذل أخوك ، واغتيل بطعنة كادت
أن تأتي على نفسه ، بل الزم الحرم ، فإنّ أهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا ، ثمّ ادع
إليك شيعتك من كلّ أرض ، فسيأتونك جميعا. قال له الحسين : يقضي اللّه ما أحب
» . وبذلك يظهر
أنّه 7 استسلم ـ
بالكامل ـ للمشيئة الإلهيّة.
وهذا الموقف لا يفسر بمعزل عن الظروف
الواقعية الصعبة المحيطه به ، التي تعصف مثل ريح السّموم ، وموقفه هذا ليس قفزا
على الواقع والوقائع بل ينسجم معها تمام الإنسجام ، فبنو أمية لايتركوه حيا حتى
يوقع لهم على صك العبودية والاستسلام ، من هنا أدرك أنه لابد من تقديم نفسه كبش
فداء خدمة للدّين والقيم ، لذلك اتخذ موقفا نهائيا بالمواجهة مع علمه المسبق
بالنتيجة ، ومن الشواهد على ذلك أنه قبل أن يخرج قام خطيبا في الناس ـ بعد أن صلّى
بين الرّكن والمقام ركعتين ـ فقال : « الحمدُ للّه ، وما شاءَ اللّه ، ولا قوّةَ إلاّ
باللّه ، وصلّى اللّه على رسوله. خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد
الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه.
كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ مني أكراشا جوفا
، وأجربة سغبا
__________________
(١) المصدر السابق : ١٧٤.
لا
محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويُوفّينا
أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول اللّه 9 لُحمتُه ، وهي مجموعة
له في حَظيرة القُدس ، تقرّ بهم عينُه ، ويُنجز بهم وعده. من كان باذلاً فينا
مهجته ، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مصبحا إن شاء
اللّه تعالى » .
وتابعت السماء اتصالها برجل الفداء ، وكانت
الإشارات التي ترد عليه واضحة بلجاء بيضاء كوضح النهار ، لا تحمل في طياتها سوى
النذر بأنه على موعد مع القدر ، قال أبو مخنف : حدَّثني عبدالرحمن بن جُندُب ، عن
عقبة بن سمعان قال : «لمّا كان في آخر الليل أمر الحُسين 7 بالاستسقاء من الماء ، ثمّ أمرنا
بالرحيل ، ففعلنا. قال : فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين 7 برأسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : إنّا
للّه وإنّا إليه راجعون ، والحمد للّه ربّ العالمين. قال : ففعل ذلك مرّتين أو
ثلاثا ، قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : إنّا للّه وإنّا
إليه راجعون ، والحمد للّه ربّ العالمين. يا أبت ، جعلت فداك! ممّا حمدت اللّه واسترجعت؟
قال : يا بني ، إنّي
خفقت برأسي خفقة ، فعنّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم
، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا
، قال له : يا أبت ، لا أراك اللّه سوءا ، ألسنا على الحقّ؟ قال : بلى والذي إليه مرجع
العباد. قال : يا أبت ، إذا لا نُبالي ، نموت
محقّين. فقال له : جزاك
اللّه من
__________________
ولد
خير ما جزى ولدا عن والده .
والأغرب من كل ذلك أنه كان يعلم مكان
مصرعه ومصرع أصحابه ، في كربلاء ، وأنه سيكون محلاً لقبره وقبور أهل بيته وأصحابه
، مع أن النتائج كانت في رحم الغيب!! كل ذلك بفضل أخبار الرسول 9 له ، ومن الشواهد التاريخية على ذلك
أنه « لما سار 7
والحُرّ يسايره ويُمانعه ، حتى إذا وصلوا كربلاء ، قال : ما اسم هذه الأرض؟
فقيل : كربلاء ، فقال 7
: اللهمّ
إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثمّ قال : هذا موضع كرب وبلاء ، إنزلوا ، هاهنا
محطّ رحالنا ، ومسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا ، بهذا حدثني جدي رسولُ اللّه 9 » .
وفي رواية أخرى اكتفى بالقول : « هذا موضع الكرب والبلاء ، هذا مناخ ركابنا ، ومحطّ
رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا
»
لقد أخذت إشارات الغيب تتوارد على
الإمام 7 في حلّه
وترحاله ، وفي يقظته ومنامه ، فكثيرا ما كان الرسول 9
يترائى لسبطه ، فمرّة يصدر له الأوامر بالنهوض ، وأخرى يحمل له بشائر الشهادة وقرب
اللِّحاق به ، وقد كشف الإمام 7
عن بعض تلك الاتصالات التي تحدث خلف ستار الغيب ، وقد أشرنا إلى البعض منها فيما
سبق ومنها : « لما زحف ابنُ سعد على مُخيَّم الحسين عصر اليوم التاسع من المحرم.
نادى : ياخيل اللّه اركبي
__________________
وأبشري. وكان الحسين
محتبيا بسيفه ، وقد خفق برأسه ، فسمعت أختهُ الصيحة ، فدنتْ من أخيها ، فقالت : يا
أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين 7
رأسه ، فقال : إنّي رأيتُ
رسول اللّه 9 الساعةَ في المنام ، فقال
لي : إنّك تروح إلينا. فلطمت أخته وجهها ، ونادت : بالويل!! فقال 7
: ليس لك الويل يا أخية. اسكتي رحمك اللّه
» .
علما بأن الحسين 7 جاء ـ قبل خروجه إلى مكّة ـ إلى قبر
جدّه رسول اللّه 9
فصلّى عند القبر ركعات ، ثم قال : « اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد ، وأنا ابنُ
بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم ، إنّي أُحبّ المعروف وأنكر
المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومن فيه إلاّ اخترت لي ما
هو لك رضا ولرسولك رضا ». وجعل يبكي حتى
إذا كان قريب الصباح وضع رأسه على القبر ، فأغفى ، فاذا هو برسول اللّه 9 قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه
وشماله وبين يديه ، فضمّ الحسين 7
إلى صدره ، وقبّل مابين عينيه وقال : « حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مرمّلاً
بدمائك مذبوحا بأرض كربٍ وبلاء من عصابةٍ من أُمتي ، وأنت مع ذلك عطشانُ لا تُسقى
، وظمآنُ لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجُونَ شفاعتي يوم القيامة ، وما لهم عند اللّه من
خَلاق. حبيبي يا حسين ، إنَّ أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ ، وهم مشتاقون إليك ، وإنّ
لك في الجِنان لدرجاتٍ لن تنالها إلاّ بالشهادة
».
فانتبه الحسين 7 من نومه فزعا مرعوبا ، وقصّ رؤياه على
أهل بيته
__________________
وبني عبد المطلب ، فلم
يكن في ذلك اليوم ـ لا في شرق الأرض ولا في غربها ـ قوم أشدّ غما من أهل بيت رسول
اللّه ، ولا أكثر باكيا وباكيةً منهم .
وروى ابن طاووس بإسناد ينتهي بأبي محمد
الواقدي وزرارة بن خلج ، قالا : « لقينا الحسين بن علي 8 قبل أن يخرج إلى العراق فأخبرناه ضعف
الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معه ، وسيوفهم عليه ... فقال : أعلم يقينا أنّ هناك
مصرعي ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي
» .
ومع علم الإمام 7 بالنتيجة مسبقا ، فإنّه تحرك على ضوء
الأسباب الواقعية ، وأعد لكل شيء عدته.
ثم تجدّد الاتصال بين الإمام 7 وعالم الغيب ، ولكن ـ هذه المرّة ـ
بتفاصيل أكثر وأغرب ، ففي يوم العاشر من المحرم وقت السحر ، خفق الحسين 7 برأسه خفقة بعدما أعيته الآلام المرهقة
، فاستيقظ ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم : « ما أراني إلاّ مقتولاً
» ، قالوا : وما ذاك يا أبا عبداللّه؟ قال : « رؤيا رأيتها في المنام
» ، قالوا : وما هي؟ قال : « رأيت
كلابا تنهشني أشدُّها عليَّ كلبا أبقع
» .
والأمر الذي يثير العجب والإكبار ، أن
هذه الاتصالات بالغيب مع تأكيدها للحسين 7
ـ ولأكثر من مرّة ـ أنه سوف يُقتل ، نجد أن الخوف لم
__________________
يأخذ طريقه إلى قلبه
، بل ازداد اصرارا على المضي في طريق ذات الشوكة حتى نهاية الشوط ، إذ وقف صامدا
صمودا اسطوريا ، وقف كالطود الشامخ لم تزعزعه الخطوب ، ومشى بخطى ثابتة على درب
واضح المعالم.
يقول حميد بن مسلم : « فواللّه ما رأيتُ
مكثورا
قطّ قد قُتل ولدُه وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه 7 ، إنْ كانت الرّجّالة لتشدُّ عليه
فيشدُّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها
الذِّئب » .
وإن كان هذا يدلُّ على شيء ، فهو يشير
إلى أن إشارات الغيب زادته قوّةً وصلابةً ، ومنحته شحنات معنوية عالية.
وهناك مواقف أخرى أفصح الإمام 7 فيها عن مكنون الغيب ، وقد اطلع أصحابه
وأهل بيته عن ذلك بمنتهى الوضوح والصراحة ، فمن المعلوم أنه خاطب بني هاشم قبل
خروجه بقوله : « أما
بعد ، فإنّه من لحق بي منكم استُشهد ، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح
» .
والأمر الآخر هنا الذي يثير الاستغراب
والدهشة ، ويكشف النقاب عن حقيقة اطلاع الحسين 7
على معالم الغيب ، أنه كشف في حياته عن ملامح ومواصفات قاتله ، فعن محمّد بن عمرو
بن حسين ، قال : « كنا مع الحسين بنهر كربلاء فنظر إلى شمر بن الجوشن ، فقال : صدق اللّه ورسوله!
__________________
قال
رسول اللّه 9 : كأني أنظر إلى كلب
أبقع يلغ في دماء أهل بيتي ، وكان شمر
أبرصا » .
وروى سالم بن أبي حفصة قال : «قال عمر
بن سعد للحسين 7
: يا أبا عبداللّه ، إنَّ قِبَلَنا ناسا سُفهاء ، يزعمون أني أقتلُكَ ، فقال له
الحسين 7 : إنّهم ليسوا بسفهاء
ولكنّهم حُلمَاء » .
ضمن هذا السياق تحقق ما أخبر به الإمام 7 عمر بن سعد بتبدد آماله بملك الرّي ، ودنو
نهايته المخزية ، وكان الإمام 7
قد قال له قبل بدأ القتال : « يا
عمر ، أنت تقتلني وتزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الرّي وجرجان ، واللّه لا
تهنأ بذلك أبدا ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فانك لا تفرح بعدي بدنيا ولا
آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب ، يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا
بينهم » .
وبذلك فقد بلغت الصلافة ذروتها عند ابن
سعد عندما واجه تحذيرات الإمام 8
الصادقة بالسخرية والاستهزاء.
روي أنّ الحسين بن علي 8 قال لعمر بن سعد : « إنّ ممّا يقرّ لعيني
أنّك لا تأكل من برّ العراق بعدي إلاّ قليلاً
، فقال مستهزئا : يا أبا عبداللّه ، في الشعير خلف ، فكان كما قال ، لم يصل إلى
الرَّي ، وقتله المختار » .
__________________
ولعلّ أبلغ تعنيف صدر عن الإمام 7 بحقّ هذا الشقي هو عندما فُجع (سلام
اللّه عليه) بفلذة كبده علي الأكبر ، عند ذلك اتجه 7
إلى السماء بقلب مفجوع ، والدموع تترقرق على لحيته الشريفة ، وقال : « قطع اللّه رحمك ، ولا
بارك لك في أمرك ، وسلّط اللّه عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم
تحفظ قرابتي من رسول اللّه 9 »
.
ودارت الأيام دورتها ، وإذا بابن سعد قد
ذُبح على فراشه ـ كما أخبر الإمام ـ على يد المختار الثقفي ، الذي اقتصّ من قتلة
الحسين 7 ، وشُوهد الأطفال
وهم يعبثون برأسه ويتخذونه غرضا بينهم!.
زد على ذلك ، فقد سبر أغوار الغيب وأخبر
عن كيفية شهادته ، وكيف أن جسده الشريف سيتقطّع إربا إربا في العراء وتصهره
الرّمضاء ، يروى أنه قبل أن يغادر مكّة ، قام خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه وبيّن
مدى اشتياقه لأسلافه واستهانته بالموت ، كما كشف عن غطاء الغيب مرّة أخرى ، عندما
قال 7 : « .. كأني بأوصالي
تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا
، لا محيص عن يوم خط بالقلم » .
التنبوء
بمصير القَتَلة
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ ، إذ
تنبّأ الحسين 7
بحالة الذّل والهوان والعار والتشرذم وكذلك السقوط السريع لأعدائه ، لقد تصوّر
يزيد لعنه اللّه
__________________
أنه سوف ينام قرير
العين وبمل ء جفونه بعد مصرع الحسين 7
، لكنه غفل عن العواقب الوخيمة التي تترتّب على فعله الشنيع في الدارين ، فقد عصفت
بعرشه رياح الثورات والانتفاضات ، وغدت اللَّعنات تطاردهم أينما حلّوا ورحلوا ، فتبدّدَ
شملهم ، وتَمزّقَ حكمهم. وها نحن نورد مجموعة من التنبؤات الحسينية ، التي تثبت ـ
بما لا يدع مجالاً للشك ـ استشفاف الإمام 7
لآفاق الغيب ، وخاصة ما يؤول إليه حال أعدائه من دمار وعار أبدي. قال لهم : « أعَلَى قتلي
تَحاثُّون! أما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه أسخط عليكم لقتله مني ، وأيم
اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم ، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، أما
واللّه أن لو قد قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم ، وسفك دماءكم ، ثمّ لا يرضى
لكم حتى يُضاعف لكم العذاب الأليم
» .
وفي موقف آخر يخترق حجاب الغيب ، ويُخبر
عن دخائل نفوسهم وما يترسب في قاع وعيهم ، فيخبر عن إصرارهم على قتله ، وما يترتب
عن ذلك من ذّل وهوان يلحق بهم بعد حين ، قال : « واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من
جوفي ، فاذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم
» .
وله قول آخر حول هذا الأمر ، قاله لأبي
هرة الأزدي عندما أتاه فسلّم عليه ثمّ قال : «يا بن رسول اللّه 9 ما الذي أخرجك عن حرم اللّه
__________________
وحرم جدّك رسول
اللّه 9؟ فقال
الحسين : ويحك يا
أبا هرة ، إنّ بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت
، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم اللّه ذلاً شاملاً وسيفا قاطعا ، وليسلطن
اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم
ودمائهم » .
وعليه فقد أزاح النقاب عن وجه الغيب ، وحدد
ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث وتطورات هي حُبلى بها ، وماذا يحل من
انتقام إلهي شامل ، وقصاص عادل بأعدائه ، قال : « واللّه لا يدع أحدا منهم إلاّ انتقم لي منه
قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم
» .
وفي نص آخر خاطبهم مستخدما تشبيها بليغا
، قائلاً : « ايم اللّه لا
تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق
المحور ، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدي
» .
وفي رواية قال : « وإنّي زاحف إليهم بهذه
الأسرة على كلب العدو وكثرة العدد وخذلة الناصر ، ألا وما يلبثون إلاّ كريثما يركب
الفرس حتى تدور رحا الحرب وتعلق النحور. عهد عهده إلي أبي 7.
فأجمعوا أمركم ثمّ كيدون فلا تنظرون ، إني توكلّت على اللّه ربي وربّكم ما من
دابّة
__________________
إلاّ
هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم
» .
النص المتقدم يكشف النقاب عن ان علم
الحسين 7 للغيب هو عن
طريق جدّه 9 ، فهو علم
عن ذي علم ، ومن الغرائب التي يجدها الباحث حول موضوع البعد الغيبي في النهضة
الحسينية أن هناك روايات متواترة ومشهورة تتناقلها الألسن عن المصير المأساوي
لحياة الحسين 7
، أفصح عنها النبي 9
في أكثر من مناسبة ، ولأكثر من شخصية ، وبصورة مبكرة ، أي منذ ميلاد الحسين 7 ، ومن الشواهد على ذلك روى الشيخ
الطوسي بأسانيد معتبرة إلى الإمام الرِّضا 7
عن آبائه ، عن اسماء بنت عميس ، قالت : لما ولدت فاطمة الحسين 8 كنت أخدمها في نفاسها ، فجاء النبي 9 فقال : هلّمي ابني يا أسماء.
فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام
في اليسرى. قالت : ثم بكى رسول اللّه 9
وقال : انه سيكون
لك حديث ، اللّهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك
.... قالت : ثم وضعه في حجره وقال : يا أبا عبداللّه ، عزيزٌ عليَّ
ـ ثم بكى ـ فقلت : بأبي أنت وأمي ، مم بكاؤك في هذا اليوم ، وفي اليوم الأول؟ قال 9 : أبكي على ابني هذا ، تقتله فئة باغية كافرة من
بني أمية ، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة
.. » . وفي موقف
آخر يكرّر النبي 9
هذه الحقيقة المرّة لأم الفضل ، ويفهمها ذلك بالفم الملآن وبالصراحة
__________________
القصوى التي لا
تحتمل التأويل ، قال لها بأن جبرئيل 7
أخبره بقتل الحسين 7
على يد أبناء أمته ، الأمر الذي حرك سحابةً قاتمةً من الحزن داخل نفسه ، فترقرقت
الدموع من عينيه.
روي بالإسناد عن أم الفضل لبابة بنت
الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب قالت : « دخلت على رسول اللّه 9 فقلت : يارسول اللّه ، إني رأيت حلما
منكرا الليلة. قال : وما
هو؟ قلت : إنه شديد. قال : وما هو؟
قلت : رأيت قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري ، قال رسول اللّه 9 : رأيت خيرا ، ستلد فاطمة ـ إن شاء اللّه ـ غلاما
يكون في حجرك. قالت : فولدت
فاطمة الحسين ، فكان في حجري كما قال رسول اللّه ، فدخلت يوما على رسول اللّه ، فوضعته
في حجره ، ثم حانت مني التفاتة ، فإذا عينا رسول اللّه 9 تهريقان الدموع. فقلت : يانبي اللّه بأبي
أنت وأمي ، مالك ، ومم بكاؤك؟ فقال : أتاني جبرئيل ، فأخبرني أن أمتي ستقتل أبني هذا
، وأتاني بتربة من تربته حمراء
» .
وروي : « أنّ النبي 9
كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين :
فقال لهم : كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى؟ فقال له الحسين 7
: أنموتُ موتا أو نُقتل؟ فقال : بل تُقتل يا بُنيَّ ظلما ، ويقتل أخوك ظلما ، وتُشرّد
ذراريكم في الأرض ، فقال الحسين 7 :
__________________
ومن
يقتُلنا يا رسول اللّه؟ قال : شِرار الناس
» .
ومن الجدير بالذكر أن أمير المؤمنين 7 كان على علم بما يحمله رحم الغيب من
مسلسل المآسي الذي سيقاسيه ولده الحسين 7
وأهل بيته من بعده ، وبأن الأحداث سوف تنفث سمّها ، وتبعث بلهبها لتكوي بيت علي
بعد رحيل النبي 9
، عندما يحين الحين ويصرع الحسين 7.
عن هرثمة بن سليم ، قال : «غزونا مع علي
7 صفين ، فلما
نزل كربلاء صلَّى بنا ، فلما سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال : واها لك يا
تربة! ليحشرنّ
منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب
» .
وفي رواية الدَّينوري : « أنّ الحسين 7
لمّا نزل بكربلاء قال : وما اسم هذا المكان؟ قالوا له : كربلاء. قال : ذات كرب
وبلاء. ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين ، وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ،
فأُخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم ، وهاهنا مهراق دمائهم. فسئل عن ذلك ، فقال
: ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون هاهنا
» .
وها هي كربلاء تكبر مكانتها يوما بعد
يوم ، وعلى حدّ وصف العقاد : « فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى ، ويزوره
غير المسلمين للنظر والمشاهدة ، ولكنّها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد ، لحقّ
لها أن تصبح مزارا لكلّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسية وحظا من
__________________
الفضيلة ، لأنّنا لا
نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم
لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء ، بعد مصرع الحسين » .
وليس أمير المؤمنين 7 وحده من آل البيت : من اطَّلع على هذا السرِّ المقدَّس ؛
سرّ شهادة الحسين 7
، فهو وعدٌ غير مكذوب ، يتوارثه أهل البيت :
، ورد عن الامام الصادق 7
: أنه قال : « دخل الحسين
يوما على أخيه الحسن 8 ، فلمّا نظر إليه بكى
، فقال : ما يُبكيك؟ قال : أبكي لما يُصنع بك. فقال الحسن 7
: إن الذي يُؤتى إليّ سُمّ يدسّ إليّ فاُقتل به. ولكن لايوم كيومك يا أبا عبداللّه
، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمّد 9
وينتحلون الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك
ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها يحلّ اللّه ببني أميّة اللعنة ، وتمطر السماء دما
ورمادا ، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش والحيتان في البحار
» .
لهذا فإننا لا نبالغ إذا ما قلنا بأن
واقعة الطفّ هي تخطيط غيبي وسر إلهي عظيم ، فقد لوحظت فيها آثار الغيب وبصماته
بصورة جليّة ، حتى بعد مصرع الحسين 7
من خلال الكرامات التي انكشفت للأعداء قبل الأصدقاء ، فهذا مسروق بن وائل الحضرمي
، الذي كان يطمح في الحصول
__________________
على رأس الحسين 7 لكي يصيب منزلةً عند ابن زياد ، فجأة
تخلّى عن القتال ، وترك الجيش عندما رأى بأم عينيه ما حَّل بابن حوزة ، هذا الشقي
الذي نادى على الحسين 7
بعدما حفر خندقا وأشعل فيه نارا لحماية مؤخرة جيشه من غدر الأعداء ، قال اللَّعين
: «يا حسين أبشر تعجّلت النار في الدنيا قبل الآخرة قال : ويحك أنا!
قال : نعم. قال : ولي
ربّ رحيم ، وشفاعة نبي مطاع كريم ، اللهم إن كان عندك كاذبا فحزه إلى النار.
قال : فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه فوثب فرمى به ، وبقيت رجله في الركاب ، ونفر
الفرس فجعل يضرب برأسه كلّ حجر وشجر حتى مات. وفي رواية : « اللهم حزّه إلى النار
، وأذقه حرّها في الدنيا قبل مصيره إلى الآخرة
» ، فسقط عن فرسه في الخندق ، وكان فيه نار. فسجد الحسين 7 .
وعندما لاحظ مسروق الحضرمي تلك الدعوة
المستجابة والكرامة الباهرة ، تخلّى عن القتال ، وفرّ بجلده من ساعته وهو يسرّ
لصاحبه : « لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا » .
ومن الذين لمسوا الآثار الغيبية وأدركوا
الغضبة الإلهية ، رجل من بني دارم ، كان يقول : « قتلت رجلاً من أصحاب الحسين ، وما
نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي آت فينطلق بي إلى جهنّم ، فيقذف بي فيها
حتى أُصْبِح. فسمعت بذلك جارة له فقالت : ما يدعنا ننام الليل » .
__________________
ممّا تقدّم تبيّن أنّ الإمام 7 قد كشف عن بعض ما خطه قلم الغيب من
حوادث يوم الطفّ وما أعقبه من آثار.
* * *
ثانيا : البعد العبادي
إنّ نهضة الإمام الحسين 7 كانت تكليفا إلهيّا ، ووظيفة شرعية ، وعبادة
عالية ، لا تقاس بها عبادة من العبادات ، وكذلك أفعال سائر الأئمّة : وتروكهم ، وجميع أفعالهم وحركاتهم.
ويظهر البعد العبادي جليّا في نهضة
عاشوراء من خلال صلاة الإمام الحسين 7
في كربلاء تحت أسنّة الحراب ، وإكثاره من الدعاء والاستغفار ، وتمسّكه بالقرآن
تلاوةً وعملاً من خلال محاوراته وسلوكه.
صلاة
الحسين 7 في
كربلاء :
ما أكثر الأحاديث التي تُظهر فضل وفضيلة
الصلاة ، وكونها عمود الدين ، وأحبّ الأعمال إلى اللّه عزّوجلّ ، وهي آخر وصايا
الأنبياء ، وقد أشاد القرآن قبل ذلك بمكانتها ، وذمَّ أقواما لاستهانتهم بها ، فقال
عزَّ من قائل : (
فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن
صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ )
، يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها ، وقال الرسول الأكرم 9 : « وليكن أكثر همّك الصلاة ، فإنّها رأس الإسلام
بعد الإقرار بالدين » . فالصلاة التي يقف فيها الإنسان بين
يدي جبار السماوات والأرض تُعطي زخما روحيا يزيد من قوّته على تحدّي معاناة الحياة
ومواجهة ما يأتي به الدهر من صروف.
والصلاة ـ إضافة إلى ذلك ـ هي معراج
المؤمن اليومي إلى عالم
__________________
الملكوت ، يحطم من
خلالها كل القيود والحواجز ، التي يضعها الاشرار أو التي تأتي بها الاقدار.
ثم ان الصلاة هي واحة الحرية في صحراء
الاستبداد ، فمن خلال نافذتها الواسعة يدخل الإنسان عالما ليس فيه حدود ولاسدود.
وهي أيضا بمثابة صمام الأمان للإيمان ، تنهى عن الفحشاء والمنكر اللذين يفسدان
الإيمان كما يفسد الخل العسل.
وقد اعترف كبار المفكرين بدور الصلاة في
مواجهة أعباء الحياة ، ومنهم الكسيس كاريل؛ هو من ألمع الأطباء الغربيين وحائز على
جائزة نوبل. يقول في كتابه ( الإنسان ذلك المجهول ) : إن الصلاة هي أعظم طاقة
مولدة للنشاط الإنساني عُرفت حتى الآن.
ولقد عرف المسلمون قيمة الصلاة والقوة
الدافعة التي هي سر من أسرارها الكثيرة ، وتمكن الإسلام من أن يخلق رجالاً من طراز
خاص يتمتعون بشخصيات قوية ورصينة كالسبيكة الصُلبة التي يصعب اختراقها ، نقلتهم
العبادة والصلاة خارج أسوار الذات كلما عصفت بهم أزمة أو انتابهم بلاء ، كانوا
يعتصمون بصلاتهم ويتزودون من زادها الروحي مثل مائدة شهية يقترب منها الإنسان
عندما يشعر بالحاجة إلى الطعام.
وأبرز مصداق ـ باتفاق المسلمين ـ لتلك
الشخصيات ، التي أدركت ما للصلاة من قوة معنوية كبيرة ، هم أهل البيت : الذين يجسدون المثل الأعلى في الالتزام
الديني ، كانوا يُولون الصلاة عناية فائقة ، لإدراكهم الواعي والعميق لأبعادها
وأسرارها وفضيلتها ، وتفاعلهم معها وانفعالهم
بها ، تقول كتب
السيرة بأن أهل البيت :
عندما يدخلون الصلاة يرتعدون ارتعاد المحموم ، ويرتجفون كريشة في مهب الريح ، ويقفون
في الصلاة بكل خضوع وخشوع.
وعندما ننتخب الحسين 7 ـ وهو أحد أقطاب آل البيت : ـ نموذجا لمعرفة مدى صلتهم بالصلاة ، حينئذ
نرى عجبا ، نرى هذه الشخصية الكبيرة تنصهر تماما في بوتقة الصلاة ، على الرغم من
المعاناة التي كان يقاسيها ، والمأساة التي نسجت من حوله خيوطها السوداء في
كربلاء.
كان ـ مع ذلك ـ عندما يقف للصلاة ينسى
ما حوله ومَن حوله ، مما دعا العرفاء الذين نظروا إلى النهضة الحسينية من زاويتها
العرفانية أو ما فوق العقلية أن يطلقوا عليها تسمية مدرسة العشق.
ففي تلك الليلة العصيبة ، ليلة العاشر
من المحرم ، اجتمعت كل الظروف والعوامل التي تبعث على اليأس والوهن والضعف ، تراه
يبدأ خطبته في مثل هذه الظروف بروح مختلفة تماما ، فجمع الحسين 7 أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن
الحسين زين العابدين 7
: « فدنوت منه
لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه : أُثني على اللّه
أحسن الثناء ، وأحمدُهُ على السراء والضراء ، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا
بالنبوة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا
من الشاكرين » .
إذا « في ظل تلك الظروف الصعبة والعسيرة
، ترى الحسين 7
ينطق
__________________
بالرّضا والتسليم
للظروف والعوامل الموضوعية ، لماذا؟ .. لأنه يعيش ظروفا معنوية عالية. إنه موحّد
للّه عقيديا وعمليا ، وعابد وساجد للّه » .
هذا الثبات المنقطع النظير هو ثمرة
يانعة من ثمار العبادة والصلاة اللتين جعلتا وجهه يتلألأ كالبدر كلما سقط شهيد
جديد من أهل بيته أو أصحابه ، حتى ان هذا الأمر قد أذهل أعداءه وكانوا يتجنّبون
التقرّب إليه لشدّة سطوع الأنوار المنبعثة من محيّاه وقسمات وجهه ، وكان وجهه
يزداد إشراقا كلما ازدحمت الخطوب وتكاثر الأعداء المحيطون به. حتى أن أحدهم أبدى
دهشته وإعجابه بقوله : « واللّه ما رأيت مكثورا قط قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه
أربط جأشا ، ولا أمضى جَنانا منه 7
، إنْ كانت الرّجّالة لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وشماله
انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب » .
أجل كان رابط الجأش ، علما بانه كان
يقاتل وهو في أشد حالات العطش. ما هو السر يا ترى؟. لا يمكن تفسير ذلك وفق
المقاييس المادية ، وانما يمكن إرجاعها إلى الزخم المعنوي الهائل الذي يحصل عليه
الحسين 7 من خلال جسر
الصلاة التي أخذت تُغذي بمائها المعنوي عروقه اليابسة وشفاهه الذابلة ، كما يُغذي
ماء الحياة العود اليابس.
خصوصا وانه لم ينس أو يتناس الصلاة ، حتى
في أحرج ساعاته قدوة بأبيه علي 7
الذي لم يؤخر صلاته المفروضة في أحرج ساعات الحرب ،
__________________
وخاصة في ليلة
الهرير يوم صفين. فصفّ قدميه لوجه اللّه مصلّيا ، والحرب قائمة على قدم وساق من
حوله ، ولما لاموه عليها ، بيّن لهم أن حربه من حيث الأساس هي لإقامة الصلاة ، التي
تنهى ـ في جوهرها ـ عن المنكر والبغي ، وكان ابنه الحسين 7 ينسج على منواله ، والشبل من ذاك
الأسد.
لقد اهتم بإقامة الصلاة في ذلك الوقت
العصيب عندما صاح مؤذنه أبو ثمامة الصيداوي ، وصلى بأصحابه ، ولكن صلاة الخوف قصرا
وسهام الأعداء تترى عليه بالرغم من استمهاله إياهم لإقامتها!
أيخشى الإمام 7 قتله في الصلاة وقد مضى أبوه قتيلاً في
محرابه؟ أم يخشى الموت صحبه وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع إلى القصاع ، ويحبّذون
الموت دونه لوجه اللّه وفي سبيل رسوله؟ يقول الشهرستاني : « لقد كانت صلاة الحسين 7 من أصدق مظاهر إخلاصه للّه وتمسّكه
بالشريعة » .
صلاة
تحت الحِراب
يقول الرّواة : « لما حلَّ وقت صلاة
الظهر يوم العاشر من المحرم ، أمر الحسين 7
زهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ، أن يتقدّما أمامه بنصف ممن تخلّف معه ،
ثم صلى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين 7
سهم ، فتقدّم سعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف يقيه بنفسه ... حتى سقط إلى الأرض وهو
يقول : اللهمَّ العنهم لعن عاد وثمود ، اللهمَّ أبلغ نبيك عنّي
__________________
السلام وأبلغه ما
لقيت من ألم الجراح ، فاني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك ، ثم قضى نحبه رضوان اللّه
عليه ، فوُجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح » .
علما بأن الحسين 7 حاول ليلة العاشر من المحرم تأجيل
القتال عندما بدأ جيش العدو يزحف باتجاه معسكره ، فأرسل أخاه العباس بن علي (سلام
اللّه عليه) ، ليتفاوض مع القوم حتى يُرجئوا القتال إلى الغد ، ولم يكن ذلك خوفا
من الموت أو خدعةً من أجل البحث عن مخرج ، بل لكي يجد متسعا إضافيا من الوقت يصلّي
فيه لربه ويُكثر من الدعاء والإنابة إليه ، فقد قال لأخيه العباس ( سلام اللّه عليه
) : « ارجع إليهم
فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوة وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلنا نصلّي لربنا
الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلمُ أني قد أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه
والدُّعاء والاستغفار » .
لقد أظهر الحسين 7 بلسان الحال بأن الصلاة هي أثمن ما في
الحياة ، وبأنّ لها نكهة خاصة في الظروف غير الطبيعية ، حيث تُزوّد الإنسان
المقهور بشحنات من النور ، ودفقات من الحرارة الروحية ، فتشد من عزيمته وتخفف من
وطأة الخطوب عنه.
والمفارقة العجيبة التي حصلت في واقعة
الطف ، أن الحسين 7
الذي صلى الظهر ـ كما أسلفنا ـ صلاة الخوف ، كان أعداؤه يخافون من صلاته ،
__________________
لأنهم وجدوا فيها
سلاحا فعالاً لتأجيج المشاعر وصحوة الضمائر عند مرتزقتهم ، لذلك حاولوا بشتى السبل
والحيل أن يمنعوه من إقامة شعائر الصلاة ، لولا المعارضة التي أبداها بعض قادة
وجنود الجيش الأموي ، وخشيتهم من انقلاب الأوضاع لغير صالحهم ، لا نقول هذا الكلام
جزافا وانما نستند إلى أقوال الرّواة الذين نقلوا بان الحسين 7 عندما طلب من أخيه العباس إرجاء أو
تأجيل القتال إلى الغد ، فقد توقف عمر بن سعد ولم يُبد أي موافقة على هذا الطلب ، ولكن
بعد المعارضة القوية والاستهجان الذي قُوبل به من قبل بعض أفراد قواته أذعن لهذا
الطلب المشروع ، ووافق على مضض ، وخاصة عندما احتج عليه عمرو بن الحجاج الزبيدي
الذي قال مستنكرا ومستهجنا : « واللّه
لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم من آل محمد 9!
فأجابوهم إلى ذلك » .
فكانت صلاة الإمام وعبادته الصادقة
عندما تقدّم الصفوف بسيماه الملائكي وهو يضع على رأسه عمامة رسول اللّه المعروفة
بالسحاب ، كانت تشكل عامل جذب لبعض النفوس الخيرة المتحيرة ، التي التبست عليها
الأمور ، وكانت تراقب سلوكيات المعسكرين لكي تتعرف على ملامح الحق ودلائل الصدق ، فوجدت
في الحسين 7 وأصحابه
سيماء الإيمان والصلاح والحرص على حقن الدماء ، لذلك انجذبت إلى جبهة الحسين 7 كما ينجذب الفراش نحو النور.
ويروى أنّ أصحاب الحسين 7 باتوا ليلة عاشوراء ولهم دوي كدوي
__________________
النحل ، ما بين راكع
وساجد وقائم وقاعد ، ومن أجل تلك المظاهر الإيمانية النقية تأثّر البعض من الطرف
المقابل وانضمّ إلى معسكر الحق.
يقول الرواة : « عبر عليهم ـ أي على
أصحاب الحسين 7
ـ في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً » .
وفي ظل هذه الأجواء ، فاننا لا نتجاوز
الحقيقة إذا ما قلنا بأن القيادة اليزيدية سعت إلى عرقلة ومنع تلك المظاهر
العبادية بشتى الأساليب وأقسى التدابير ، وعند استقرائنا لتلك الاجراءات وجدنا أن
الوثائق التاريخية تؤيد وتؤكد بأن هذه القيادة قد اتبعت أسلوبين أساسيين ، هما :
الأول
: أسلوب التشكيك
من خلال الإدعاء بأن صلاة الحسين 7 لا تقبل لأنه ـ حسب زعمهم ـ قد شقَّ
عصا الطاعة ، وفارق الجماعة ، ورفض البيعة ليزيد بن معاوية ، وقد برزت تلك المزاعم
الواهية بصورة علنية عندما استأذنهم الإمام 7
لأداء فريضة صلاة الظهر ، وطلب منهم أن يمهلوه حتى نهاية الصلاة ، فقال له الحصين
وهو أحد أقطاب الجيش اليزيدي : انها لا تُقبل منك!. فردّ عليه الصحابي الجليل حبيب
بن مظاهر الأسدي وقال له : زعمت انها لا تقبل من آل رسول اللّه ، وتُقبل منك يا
حمار! ، فحمل
الحصين عليه ، فخرج إليه حبيب بن مظاهر وضرب وجه فرس الحصين بالسيف فشبَّ به الفرس
، ووقع عنه ، فحمل أصحابه وجعل حبيب يحمل
__________________
فيهم ، فودع حبيب
الحسين 7 ، وهو لم
يكمل صلاته بعد ، فقال للحسين 7
: يا مولاي اني اُحب ان أُتم صلاتي في الجنة. فاستشهد رضى الله عنه. ولما قُتل
حبيب قال الحسين 7
بحقّه مقولة خالدة : « يرحمك اللّه يا حبيب ، لقد كنت تختم القرآن في ليلة واحدة
وأنت فاضل » .
وينبغي الإشارة هنا إلى أن أول قوة
قتالية أُرسلت من قبل القيادة العامة اليزيدية التي كانت مؤلفة من ألف فارس بقيادة
الحر الرياحي الذي التحق في صفوف قوات الحسين 7
فيما بعد ، قد صلى أفرادها وراء الإمام الحسين 7
في منطقة ذي حسم. فقد قال الحسين 7
للحر الرياحي : « أتريد أن تصلي بأصحابك؟ » قال : لا ، بل تصلِّي أنت ونُصلِّي
بصلاتك. فصلّى بهم الحسين بن علي 8
ثمّ دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحُرُّ إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمةً
قد ضُربَتْ له واجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه .
وهنا نتساءل فنقول : أليس الائتمام
بالإمام الحسين 7
من قبل تلك الجموع ـ التي جاءت أساسا من أجل صدّه ومحاصرته ـ يدلُّ دلالة واضحة
على كون الحسين 7
إمام حق وعدل تجوز الصلاة خلفه وتُقبل صلاة من اقتدى به؟
فهذا الموقف ـ إذا ـ يكشف زيف وتفاهة
تلك المزاعم ووهن ذلك
__________________
الاتهام الذي تفوّه
به الحصين بن نمير ومن شاركه في الرأي ، كما يكشف عن تلك الازدواجية في تصرفاتهم ،
فهم يصلون وراء الإمام تارة ، ثم يزعمون تارةً اُخرى بأن صلاته لا تُقبل! ثم
يهدّدونه بالقتل ، وينفذون تهديدهم.
علَّق العقاد ـ الأديب المصري المعروف ـ
على تلك الازدواجية أو المفارقة العجيبة ، بقوله : « مجمل ما يقال على التحقيق
أنّه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلاّ وهو طامع في مال ، مستميت في
طمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام ... وكان أعوان
يزيد جلاّدين وكلاب طراد في صيد كبير. وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي
يعهد في هذه الطغمة من الناس ، ونعني به مثال المسخاء المشوّهين ، أولئك الذين
تمتلى ء صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيّما من كان منهم على سواء الخلق وحسن
الأحدوثة ، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عِدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة ، فإذا
انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود » .
الثاني
: أسلوب التخويف
بلغ هذا الأسلوب أقسى أشكاله ، عندما
انهالت السهام على الإمام وصحبه وهم منهمكون في أداء شعيرة الصلاة ، علما بأن
الحسين 7 ومن معه قد
ألقوا السلاح ، وأظهروا السلام واستسلموا للصلاة ، واستأمنوهم
__________________
لذكر اللّه.
يتساءل الشهرستاني ، فيقول : « فهل ترى
مظهرا للدين والحق أصدق من هذا؟ أفلا تُحترم الصلاة وهي حرم اللّه؟! أو لم يسمعوا
كلام اللّه : (
وَلاَ
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُوءْمِنًا
) » .
ويُستنتج من كل ذلك بأن أعداء الحسين 7 قد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد
قسوة ، فلم تعد تؤثر فيهم مظاهر إسلامية أو عواطف بشرية. لكن مع ذلك استمر الإمام 7 بصلاته تحت مطر السهام ولم يستسلم
للتهديدات المبطّنة أو المكشوفة التي حاولوا من خلالها قطع صلاته بربّه ، والحيلولة
دون تأجيجه لمعنويات جنده وجذب الآخرين إلى صفه. وكما تمكنوا من قبل من اغتيال
أبيه وهو في محراب الصلاة ، حاولوا اغتياله ضمن خطة ماكرة وغادرة وهو في أثناء
الصلاة خصوصا بعد أن غدا هدفا مكشوفا ومجرّدا من وسائل الدفاع ، ولكن روح الفداء
التي تحلّى بها أصحابه في كربلاء عملت على إفشال تلك الخطة واحباطها ، فقد جعلوا
من أجسادهم دروعا تحول دون وصول سهام الغدر إلى قائدهم الحسين 7.
وقد أشرنا إلى موقف الصحابي سعيد بن
عبداللّه الحنفي الذي صدَّ السهام التي انطلقت باتجاه الحسين 7 وهو في أثناء الصلاة ، وبعد أن قضى
نحبه وجدوا في جسده ثلاثة عشر سهما!
__________________
وهذا صحابي آخر هو عمرو بن قرظة
الأنصاري قد بالغ في نصرة الحسين 7
وكان لا يأتي إلى قائده سهم إلاّ اتقاه بيده ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته ، فلم
يصل إلى الحسين 7
سوء حتى اُثخن بالجراح فالتفت إلى الحسين 7
وقال : يا ابن رسول اللّه أوفيت؟ فقال 7
: « نعم أنت
أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول اللّه عني السلام ، وأعلمه أني في الأثر
» .
بهؤلاء الأبطال تمكن الحسين 7 من إفشال خطة الاغتيال التي كانت
تستهدف تصفيته وهو منكب على الصلاة.
الصلاة
الخاصة
لم تقتصر صلاة الحسين 7 على الصلاة المعروفة بزمن محدد وشرائط
مقرّرة ، والمشتملة على الركوع والسجود وما إلى ذلك ، بل كانت له صلاة خاصة ـ إن
صحَّ التعبير ـ تستغرق جلّ وقته ، ويسهم فيها كل كيانه ، وهي مناجاته الدائمة
والمستمرة لربّه ، التي لم تنقطع في الرّخاء والشدة. فقبل خروج آخر أنفاسه الزّكية
من بدنه الطاهر ، جمع التراب ووضع جبهته عليه ، واستغرق في مناجاة ربّه ، ولم
يشغله ألم الجراح ولا نزع الروح عن الكلام مع معبوده الذي يخاطبه ولا يغفل لحظة
واحدة عن التطلّع إليه ، يناجيه وهو قرير العين ، مطمئن النفس بكلمات تفيض
بالمعاني السامية : « اللّهم
أنت ثقتي في كلّ كربٍ ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ
وعدّة ، كم من همٍّ يضعُفُ فيه الفؤاد ، وتقلُّ فيه الحيلةُ ،
__________________
ويخذُلُ
فيه الصديقُ ، ويشمتُ فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً منِّي إليك عمّن
سواك ، ففرّجته وكشفته ، وأنت وليُّ كلّ نعمةٍ ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ ، ومنتهى كلّ
رغبةٍ » .
وتعدّ الصلاة أحد الدوافع الأساسية
للنهضة الحسينية المباركة ، من أجل القضاء على عوامل الظلم وعناصر الفساد ، التي
استشرت في المجتمع بسبب سلوك سلاطين بني أمية ، إذن كانت صلاة الحسين 7 هي تجسيد كامل لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ ) .
هكذا كان اهتمام الحسين 7 وأهل بيته بالصلاة ، يستخدمونها كمعراج
يومي لسموّ نفوسهم ، وطاقة فذّة وقوّة خلاّقة لمواجهة مظالم أعدائهم ، وهي عندهم
رأسمال معنوي ثمين وخير موضوع ، لذلك كانوا يحافظون عليها ويقيمونها في مختلف
الظروف والأحوال ، وقد قيل لعلي بن الحسين 7
: ما أقلّ ولد أبيك؟ فقال : « العجب
كيف ولدت له ، كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرّغ للنساء؟
» .
من هنا يشهد الزائر للحسين 7 عند زيارته عن قرب أو بُعد ، فيقول : «
أشهد أنك
قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، وأطعت اللّه ورسوله
.. » وهي شهادة صادقة ستبقى تردّدها الملايين على مرّ السنين.
__________________
العبادة
الفاعلة
يمكننا تقسيم العبادة إلى نوعين : عبادة
مستكنة تبعث الفرد المسلم إلى الانزواء والاستكانة ، والانشغال بالنفس والابتعاد
عن المحيط الاجتماعي وتبعاته. وهناك عبادة فاعلة تبعث المسلم نحو الجهاد ومقاومة
الظلم في المجتمع ، وتدفع الفرد نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الشكل
من العبادة ينطبق تماما على عبادة الإمام الحسين 7
، فليس خافيا بأن الحسين 7
كان « يملك القدرة على الانزواء للعبادة ومكانه من الجنة مضمون ، ولكنه لم يكن من
طينة أولئك الذين اختاروا العبادة طريقا إلى الجنة بدلاً عن الجهاد والتضحيات ، لأنه
يدرك أن الطريق الأكمل إلى اللّه هو طريق الحق وطريق الحق ، هو الجهاد والنضال
والالتزام بمبادئ الثورة الاسلامية وتعاليمها ، وإذا جاز على غيره من صلحاء
المسلمين أن ينزوي في المساجد للعبادة ويتخلّى عن النضال والجهاد فلا يجوز ذلك على
الحسين 7 وارث الرسول
وعلي 8 بأن يتخلّى
عن وعيه النضالي ويلجأ الى زوايا المعابد تاركاً للجاهلية الجديدة المتمثلة في حكم
يزيد أن تستفحل في بطشها بقيم الحق والعدل وكرامة الانسان ، فلم يبق أمامه إلاّ
الثورة ، وبدونها لا يكون سبطا للرسول 9
وابناً لعلي 7 ووارثا لهما
، وقدره أن يكون شهيدا ، وابنا لأكرم الشهداء ، وأبا لآلاف الشهداء ، وأن يكون
المثل الأعلى لجميع الأحرار الذين يناضلون من أجل
الحق والعدل » .
قرآن
ناطق
كان تعلّق الحسين 7 بالقرآن شديدا ، يتلوه في حلّه وترحاله
، ويجادل ويحاجج به أعداءه ، فمثلاً : « لما وجد الحسين 7 مروان بن الحكم في طريقه ذات يوم ، فأراد
منه مروان أن يبايع يزيد ، ولما كشف له الإمام عن معايب يزيد ، غضب مروان من كلام
الحسين ثم قال : واللّه لا تفارقني حتى تبايع ليزيد صاغرا ، فإنكم آل أبي تراب قد
ملئتم شحناء ، واُشربتم بغض آل بني سفيان ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم ، فقال الحسين
: إليك عني فإنك رجس ، وإني من أهل بيت الطهارة ، وقد أنزل اللّه فينا ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
، ) فنكس مروان رأسه ولم ينطق » .
والتحق الحسين 7 بقبر جده 9
يبكي ، تماما كما فعل أبوه علي بن أبي طالب عندما هددته زعامة بطون قريش بالقتل إن
لم يبايع ، فالتحق بقبر النبي 9
يبكي ويتلو الآية الكريمة : (
قَالَ
ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ
تُشْمِتْ بِيَ الاْءَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
)
فلما خرج من المدينة ليلة الأحد ليومين
بقيا من رجب سنة ستين
__________________
ببنيه واُخوته وبني
أخيه وجلَّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفية أخذ يتلو هذه الآية : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ
رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
، ) وتابع الحسين 7 حالة التمثّل بموسى ، فلما وصل إلى
مكّة قرأ آية : (
وَلَمَّا
تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ
السَّبِيلِ. )
وكانت اجاباته انتزاعات قرآنية ، فلما
خرج من مكة واعترضه عمرو بن سعيد أمير الحجاز ليرده ويمنعه من المسير الى العراق ،
ردّه ردّا قرآنيا حاسما ، بقوله 7
: ( فَقُل لِي عَمَلِي
وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ. )
ولما انتهى الى قصر مقاتل نزل ورأى فسطاطا مضروبا لعبيداللّه بن
الحرّ الجعفي ، فدعاه الى نصرته لكنه امتنع ، عندها أعرض الإمام 7 عنه قائلاً : ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً.
)
وقد حذر الجيش الأموي من الخسران وسوء
العاقبة ، فلما طلب منه قيس بن الأشعث أن ينزل على حكم يزيد ، قال له الحسين 7 ولمن معه : « عباد اللّه ( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِن كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
)».
__________________
ومع ذلك لم يستجيبوا
لدعوته الحقة بعدما غشيت الأطماع أبصارهم ، وغشي الجهل بصائرهم.
ولما تناهى إليه وهو في طريقه الى
الكوفة خبر مقتل سفيره قيس بن مسهّر الصيداوي ، تلا الآية الشريفة : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً
، ) وأثنى على وفاته ، وترحّم عليه.
وردّد نفس هذه الآية عندما تناهى إلى
سمعه مصرع مسلم بن عوسجة ، فمشى إليه ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الإمام 7 : « رحمك اللّه يا مسلم » ، ثم قرأ : ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
)
وعن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي ، قال
: « فلمّا أمسى حُسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون
، قال : فتمرّ بنا خيل لهم تحرسنا ، وإنّ حسينا ليقرأ : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ المُؤْمِنِيْنَ عَلَى
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّبِ
). فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت
تحرسنا ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ، مُيِّزْنا منكم. قال : فعرفته فقلت
لبُرير بن خُضَير : تدري من هذا؟ قال : لا ، قلت : هذا أبو
__________________
حرب السَّبيعي
عبداللّه بن شهر ، وكان مُضحاكا بطّالاً ... فقال له بُرير بن خُضَير : يا فاسق ، أنت
يجعلك اللّه في الطيّبين! » .
يبدو أنّ الحسين 7
كان يتعمّد رفع صوته عند قراءة القرآن بغية التأثير في نفوس الأعداء ، ولكنّ
المطامع قد سدّت منافذ السمع لديهم.
ولما لمح الإمام ابنه علي الأكبر 7 وهو يصول ويجول في الميدان ، رفع شيبته
نحو السماء قائلاً : (
إِنَّ
اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
)
وعندما دنا الجيش من معسكر الإمام ، دعا
الإمام براحلته فركبها ، ونادى بأعلى صوته : « أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا
حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ وحتى أعذر إليكم ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد
، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم (
فَعَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ
) » ، ثم قرأ : ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.
)
وكان أصحابه كذلك يستشهدون بالقرآن ، فمثلاً
: « أنّ حنظلة بن أسعد الشبامي قام بين يدي الإمام ونادى بأعلى صوته : يا قوم ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحٍ وَعَادٍ وَثَمُوْدَ وَالَّذِيْنَ مِنْ
بَعْدِهِمْ وَمَا
__________________
اللّه
يُرِيْدُ ظُلْما لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ
التّنَاد يَوْمَ تُوَلُّوْنَ مُدْبِرِيْنَ مَا لَكُم مِنَ اللّه مِنْ عَاصِمٍ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
) يا قوم لا تقتلوا حسينا ( فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ
افْتَرَى ،
) فقال الحسين
: يا ابن أسعد رحمك اللّه ، إنهم قد استوجبوا العذاب حيث ردّوا عليك ما دعوتهم
إليه من الحق » .
مما تقدم انكشف لنا طبيعة عبادة الحسين 7 في كربلاء القائمة أساسا على الصلاة
التي أقامها في أُتون هذه المأساة ، وقراءة القرآن الذي كان يكثر من قراءته ، والاحتجاج
به ، وتشخيص مصاديق بشرية تنطبق عليها آياته ، وما تخلّل ذلك من دعاء واستغفار بقي
الحسين 7 يلهج به حتى
لفظ آخر أنفاسه الكريمة.
__________________
ثالثا : البعد الأخلاقي
سلوك سيد الشهداء 7 وسيرته الأخلاقية تعكس سمو نفسه
وتربيته في حجر جدّه محمد 9
وأبيه علي 7 ، وتجسيده
للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.
وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه
السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف ، منها رفضه القاطع مبايعة يزيد
، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرت به في كربلاء
من حصار وعطش ومختلف التحدّيات ، بل استقبل الموت بعزّة وشموخ ، وسقى الحرّ وجيشه
طوال الطريق ، وقَبِل يوم عاشوراء توبة الحرّ.
ورفع البيعة عن أنصاره لينصرف من يشاء
منهم الانصراف ، وكان يعطف على أطفال مسلم بن عقيل بعد شهادة أبيهم ، كما صبر على
كل المصائب والشدائد التي واجهته في ذلك اليوم ومنها مقتل أصحابه وأهل بيته.
وعلى الرغم من كل تلك المواقف العصيبة
والوحدة القاتلة والعطش الشديد ، قاتل أعداءه كالليث ولم ترهبه كثرتهم. كان يرى
أنّ نهضته قائمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأشار عدّة مرّات
أثناء مسيره إلى كربلاء إلى هوان الدنيا وتصرّمها ، وبيّن زهده فيها ، وتحمّل في
يوم الطفّ كل ما رآه
من عدوّه من سوء الخلق ولؤم الطباع. وبعد استشهاده وجدوا على أكتافه آثار أكياس
الطعام التي كان يحملها إلى الفقراء ، إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية وسمات
نهضته الأخلاقية التي يمكن الإشارة إلى أهمها بالنقاط التالية :
١
ـ الإيثار :
وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة
من واقعة الطف ، والايثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس ، وبذل المال
والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته. وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل
الدين ، والفداء في سبيل الإمام الحسين 7
، والموت عطشا لأجل الحسين 7
، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحدا من بني هاشم يبرز إلى ميدان
القتال ، إيثارا منهم على أنفسهم.
وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام 7 عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم ، قاموا
الواحد تلو الآخر ، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية. يروي الشيخ المفيد ; : « أنّ الحسين 7 قال لأتباعه : ألا وإنّي لأظنّ أنّه
آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم
منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً.
فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبداللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك لنبقى
بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان اللّه عليه
واتّبعته الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين 7 : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا
أنتم
فقد أذنت لكم. قالوا : سبحان
اللّه ، فما يقول الناس؟! يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا ـ خير
الأعمام ـ ولم نرم معهم. بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا
ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل
معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : انخلّي
عنك ولمّا نعذر إلى اللّه سبحانه في أداء حقّك؟ أما واللّه حتى أطعن في صدورهم
برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به
لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه 9 فيك ، واللّه لو علمت أنّي أقتل ثمّ
أحيا ثمّ أحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتى ألقى
حمامي » .
ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين 7 ظهيرة يوم عاشوراء ، عندما وقف لصلاة
الظهر ، يقونه سهام العدو بصدورهم ، وخاض العباس نهر الفرات بشفاه عطشى ، ولما
أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه ، وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني
|
|
وبعده لا كنت أن تكوني
|
هذا الحسين وارد المنون
|
|
وتشربين بارد المعين
|
تاللّه ما هذا فعال ديني
__________________
ورمت زينب 3
بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها ، وحينما صدر
الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد 7
فدته زينب 3 بنفسها.
وهناك أيضا عشرات المشاهد الاُخرى التي
يعتبر كل واحد منها أروع من الآخر ، وكل موقف منها يعطي درساً من دروس الايثار
للأحرار ، فاذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل
العقيدة ، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي ، قال الإمام
الحسين 7 في بداية
مسيره إلى كربلاء : « من
كان باذلاً فينا مهجته ، وموطِّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل
مصبحا إن شاء اللّه تعالى » .
وهذه الثقافة نفسها ـ ثقافة الإيثار ـ
هي التي دفعت بعمرو بن خالد الصيداوي لأن يخاطب الحسين 7 في يوم عاشوراء قائلاً : « يا أبا
عبداللّه جعلت فداك قد هممت أن ألحق بأصحابك وكرهت أن أتخلّف فأراك وحيدا بين أهلك
قتيلاً. فقال له الحسين 7
: تقدّم
فإنّا لاحقون بك عن ساعة. فتقدّم فقاتل حتى قتل رضوان اللّه عليه
» .
كما أشارت زيارة عاشوراء إلى صفة
الايثار التي يتحلّى بها أصحاب الحسين ، فوصفتهم بالقول : « الّذين بذلوا مُهجهم
دون الحسين
__________________
7
» .
٢
ـ الشجاعة :
وهي الاقدام عند منازلة الخصوم وعدم
تهيّب المخاطر ، واقتحام الخطوب ، وتعتبر الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت
بها شخصية الإمام الحسين 7
وأصحابه وأهل بيته ، اذ نقرأ عن الاندفاع والحماس المنقطعي النظير الذي جسدوه في
سوح الوغى ، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادى ء. ورسمت ملحمة
كربلاء ـ منذ انطلاقها وحتى مراحلها الأخيرة ـ مشاهد تتجسد فيها معالم الشجاعة
بشتى صورها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين 7 في معارضة يزيد ورفض البيعة له ، وعزمه
الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار يزيد ، من أمثال ابن زياد ، وعدم
انهيار معنوياته لسماع الأخبار والاوضاع التي كانت تجري في الكوفة ، واعلانه على
الملأ عن الاستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين ، وعدم الخوف من
كثرة الجيش المعادي على الرغم من كثرة عدده وعدته ، ومحاصرة هذا الجيش له في
كربلاء ، مع عدم استسلامه ، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده واهل بيته
، وصور البطولة الفردية التي أبداها أخوه العباس ، وعلي الأكبر ، والقاسم ، وعامة
أبناء علي وأبناء
__________________
عقيل ، والخطب التي
ألقاها الامام السجاد وزينب 8
في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة
الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.
وعلى وجه العموم كان آل الرسول أمثلة
خالدة في الشجاعة والاقدام وثبات الجنان ، وكانت قلوبهم خالية من الخوف من مواجهة
الحتوف ، وكانت ساحات القتال في زمن الرسول 9
وحروب علي 7 في الجمل
وصفين والنهروان شاهدا يعكس شجاعة آل البيت :.
وقد اعتبر الامام السجاد 7 الشجاعة من جملة الخصال البارزة التي
منَّ اللّه بها على هذه الأسرة الكريمة ، وذلك لما قال في خطبته في قصر الطاغية
يزيد : « فضلنا أهل
البيت بستّ خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في
قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف
الملائكة وتنزيل الكتب » .
وكان لهذه الشجاعة موارد مختلفة ، فهي
في مجال القول واللسان ، وكذلك في تحمّل أهوال المنازلة ومقاتلة العدو ، والإغارة
الفردية على صفوف جيشه ، وكذلك في تحمّل المصائب والشدائد ، وعدم الانهيار والقبول
بالدنيّة. بدليل أنّه لما اشتدّ القتال ، قال : « أما واللّه لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى
ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي
» . حتى أنّ
__________________
العدو والصديق قد
أثنى على شجاعة الحسين 7
وصحبه وأهل بيته ، ألم يخاطب عمر بن سعد قومه بالقول : « الويل لكم ، أتدرون من
تبارزون! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب
» .
وما أمر المجرم عمر بن سعد بالهجوم
الشامل على أفراد جيش الإمام ورميهم بالحجارة إلاّ دليلٌ على تلك الشجاعة الفريدة.
وكنتيجة لما يتحلّى الحسين 7 وأسرته من شجاعة حصّلوا على أكبر عدد
من أوسمة الشهادة ، يقول عباس محمود العقاد : « فليس في العالم أسرة أنجبت من
الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة ... وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه
الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين » .
ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المقاتل عن
عدد قتلى العدو نتيجة لهجوم أصحاب الامام عليهم ، قد تكون مبالغاً فيها ، إلاّ أن
الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة ، التي
بذلت نفسها في سبيل اللّه ، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.
٣
ـ الشهامة والمروءة :
وتعتبر من المعالم الاخلاقية والنفسية
البارزة لدى الحسين 7
وأنصاره ، والتي تجسدت في ملحمة عاشوراء ، وهذه النفسية التي تجعل الانسان يشمئز
من الطغاة ، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم ، ويحب
__________________
الحرية والفضيلة ، ويتجنّب
الغدر ونقض العهد وظلم الضعفاء ، ويدافع عنهم ، ولا يتعرض للابرياء ، ويقبل العذر
، ويقيل العثرة ، ويعترف بالحق الانساني للآخرين. هذه الأمور كلها تعتبر من معالم
الشهامة والمروءة التي تجسدت على أرض الطف.
لقد رفض سيد الشهداء 7 عار البيعة ليزيد ، ولما واجه جيش
الكوفة في طريق كربلاء ، رفض اقتراح زهير بن القين الذي أشار عليه بمحاربة هذه
الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش ، وقال 7
: « وما كنت لأبدأهم بالقتال »
، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين 7.
ولما لقي جيش الحر وقد أضرّ بهم العطش
أمر بسقيهم الماء هم وخيلهم ، على الرغم من أنهم جاءوا لمجابهته واغلاق الطريق
عليه ، وكان من بينهم علي بن الطعان المحاربي الذي ما كان قادرا على شرب الماء من
فرط عطشه ، ويروي لنا القضية بنفسه ، قال : « كنت مع الحُرّ يومئذ فجئت في آخر من
جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين 7
ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ
الراوية. ثم قال : يابن أخي أنخ الجمل.
فأنخته فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين 7 : اخنث السقاء. أي اعطفه ، فلم أدر كيف
أفعل ، فقام فخنثه فشربت ، وسقيت فرسي » .
وهذا مثال آخر على مروءته 7.
ولما عزم الحر الرياحي على مفارقة جيش
عمر بن سعد والانضمام إلى
__________________
معسكر الحسين 7 ، وقف الحر بين يدي الحسين 7 منكسرا معلنا توبته واستعداده للتضحية
بنفسه قائلاً : هل لي من توبة؟ فقال له أبو عبد اللّه 7 : « نعم يتوب اللّه عليك ، فانزل » ، وهذا نموذج آخر على مروءة الحسين 7 ، فهو يقبل عذر المعتذر ، ولا يغلق باب
التوبة في وجهه.
وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حر
الرَّمضاء ، لما رأى الحسين 7
هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم : « ويلكُم! إنْ لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون
المعاد ، فكونوا في أمر دُنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم
وجهّالكم » .
وهذا أيضا شاهد آخر على مروءته وشهامته ، فهو ما دام حيّا لم يكن قادرا على رؤية
العدو وهو يهجم على عياله ، وقد شوهدت هذه الغيرة والحمية من الامام الحسين 7 وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من
المحرّم.
وهذه السجية قد استقاها من أبيه أمير
المؤمنين 7 الذي غلب
جيش الشام في صفين ، وانتزع منه شريعة الفرات ، ثم قال لجنده : « خلّوا بينهم
وبينه »
، ولكن لؤم معاوية الذي ورثه يزيد دعاه إلى منع الماء عن جيش الحسين بن علي 7.
روى الشيخ الصدوق 1 أنّ عبيداللّه بن زياد كتب إلى عمر بن
سعد : « إذا أتاك كتابي هذا ، فلا تمهلنّ الحسين بن علي ، وخذ بكظمه ، وحُلْ بين
__________________
الماء وبينه » . فالحسين 7
قد ورث الشهامة عن علي 7
، ويزيد ورث الخسة عن معاوية.
٤
ـ العزة ورفض الذّل :
وهي من أهم الدروس الأخلاقية التي ميّزت
نهضة كربلاء ، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء. قال الحسين 7 : « موت في عز خيرٌ من حياة في ذل
» . وقال 7 لما عرضوا عليه الاستسلام والبيعة : « لا واللّه لا أعطيكم
بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد
» . وفي كربلاء
حينما خيّروه بين البيعة أو القتال ، قال : « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛
بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنين
وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام
» .
وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدو مرتجلاً :
القتل أولى من ركوب العار
|
|
والعار أولى من دخول النار
|
لقد كانت نهضة كربلاء درسا عمليا من
دروس العزة والكرامة ورفض الذل ، واستلهم الثوار منها روح المقاومة والتحرّر.
__________________
٥
ـ الصبر :
ويعني الثبات والصمود والمقاومة ، ومجابهة
العوامل التي تعيق الإنسان عن بذل مساعيه في سبيل هدفه ، إضافة الى تحمّل المصاعب
والشدائد في سبيل أداء الواجب وإحراز النصر.
وقد رسمت واقعة كربلاء أجمل صور الصمود
والثبات في سبيل العقيدة وتحمّل الصعاب ، حتى أضحت سببا لمجد وخلود تلك الملحمة ، وكما
قال أمير المؤمنين 7
: « الصبر
يهوّن الفجيعة » ، فقد هانت بعين الحسين 7 هذه المصيبة الجسيمة بفعل الصبر
والصمود الذي تجسد في يوم عاشوراء ، لقد أنزل اللّه تعالى عليه الصبر بقدر
التحديات والمصائب التي ألّمت به ، وصدق الإمام الصادق 7 « إن اللّه ينزل الصبر على قدر المصيبة
» .
وفي ملحمة كربلاء كان الصبر مشهودا في
القول والعمل لدى سيد الشهداء 7
وأهل بيته وأصحابه الصابرين الأوفياء ، فلما أراد الخروج من مكة إلى العراق ألقى
خطبة قال فيها : « رضى
اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين
» .
__________________
وخاطب أصحابه في أحد المنازل على طريق
العراق ليلفت أنظارهم الى خطورة الموقف وصعوبة ما هم مقبلين عليه فقال : « أيها الناس ، من كان
منكم يصبر على حدّ السّيف وطعن الأسنّة فليقم معنا ، وإلاّ فلينصرف عنّا
» ، ولكن
أصحابه لم يبدر منهم إلاّ ما أحبّ هو من الصبر عند لقاء الأقران ، وتحمّلوا شدّة
العطش ، وضراوة هجوم العدو ، نتيجة الصبر والثبات على الشهادة على الرغم من قلّة
الناصر ، بل كانوا في غاية الفرح والسرور ، حتى ان بعضهم كان يمازح في تلك الساعة
، كما سيأتي. وكان الحسين 7
يكرر على أسماعهم ويذكرهم بأهمية الصبر ، قائلاً : « صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، فواللّه
لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا
» .
وعلّم درس الصبر للنساء لعلمه باتصافهن
بالرّقة وسرعة الجزع عند المصيبة ، فقد جمع أخته زينب 3 ونساءه ودعاهن الى الصبر والتحمل
قائلاً : « يا أختاه
تعزّي بعزاء اللّه ، فإنّ سكّان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع
البرية يهلكون ، ثمّ قال : يا أختاه يا أمّ كلثوم ، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة
وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيبا ، ولا تخمشن عليَّ وجها ،
ولا تقلن هجرا » .
وكانت كل لحظة من وقائع الحادثة تعبيرا
عن المقاومة والثبات ،
__________________
وحتّى الكلمات
الأخيرة التي تلفّظ بها سيد الشهداء حين سقط على الأرض إنّما تعكس هذه الروح من
الصبر والصمود ، إذ قال مخاطبا ربّه : « صبرا على قضائك ، ولا معبود سواك ، يا
غياث المستغيثين » .
٦
ـ الوفاء :
الوفاء معناه التمسك بالعهد والثبات على
الميثاق والعمل بالواجب الانساني والاسلامي في ازاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه
الخصلة من أولويات معجم عاشوراء ، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة ، وهي من
أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال علي 7
: « أشرف
الخلائق الوفاء » .
وكانت عاشوراء ساحة وفاء من جهة ، وغدر
من جهة اُخرى ، وضرب العباس بن علي 7
مثلاً في الوفاء ، فقد رفض كتاب الأمان الذي عرضه شمر بن ذي الجوشن عليه. ولم يترك
أخاه الحسين وحيدا ، وقدم أخوته الثلاثة فداءً له.
وعلى الضدّ من موقف أهل الكوفة الذين
كتبوا الى الحسين 7
يدعونه ، ولما جاءهم غدروا به ، وهبّوا لقتاله ، وقف آخرون على العهد وضحّوا
بأنفسهم فداءً للحسين 7
، وهم الذين أشارت اليهم الزيارة : « السلام على الأرواح التي حلّت بفِنائك
» .
__________________
وأشار الحسين 7 في خطبه وكلماته على طول الطريق الى
غدر وخذلان وغرور ونكث أهل الكوفة ، ونقضهم العهد ، وخلعهم البيعة ، وعاب فيهم هذه
الصفات. أما الحسين 7
فقد وفى بعهده مع ربّه ، وكثيرا ما تطالعنا الزيارات بعبارات ، من قبيل : « أشهد أنك بلغت ونصحت
ووفيت وأوفيت » . وجاء في زيارة العباس 7 : « وأُشهد اللّه أنّك مضيت على ما مضى عليه
البدريون والمجاهدون في سبيل اللّه ... فجزاك اللّه أفضل الجزاء ، وأكثر الجزاء ، وأوفر
الجزاء ، وأوفى جزاء ممن وفى ببيعته ، واستجاب له دعوته ، وأطاع ولاة أمره
» .
صفوة القول وصفت ثورة الحسين 7 بأنها قامت على أساس الأخلاق والمروءة.
وكانت جهادا للقضاء على الرذيلة ونشر الفضيلة. وكانت تنتهج الأسلوب الشريف عند
مواجهة الخصم ، وتحلّى أفرادها بالغيرة والشجاعة والتضحية ، والصبر عند الشدائد ، والثبات
على طريق الحق.
__________________
رابعا : البعد السياسي
هناك من يدرس القضية الحسينية مجرّدة عن
إطارها التاريخي ، فيصدر أحكاما مسبقة عنها ، والبعض من هؤلاء يتصوّر أن الحسين 7 قام بخروجه على يزيد بمغامرة غير
محسوبة النتائج ، وأن نهضته عبارة عن عمل انتحاري ، ومن هؤلاء محمد الغزالي الذي
ندد بنهضة الحسين 7
ووصفها بأنها « مجازفة لا أثر فيها لحسن السياسة ، وقد كان المتعين على الحسين ـ
حسب ما يراه الغزالي ـ أن يبايع ليزيد ، ويخضع لقيادة هذا الخليع الماجن الذي لا
يملك أية كفاءة لقيادة الأمة » .
وأحمد الشبلي ، هو الآخر وقع أسر ضيق
النَّظرة ، فقال : « نجيء إلى الحسين لنقر ـ مع الأسف ـ أن تصرفاته كانت في بعض
نواحي هذه المشكلة غير مقبولة؛ هو أولاً لم يقبل نصح الناصحين وخاصة عبد اللّه بن
عباس ، واستبد رأيه ، وثانيا نسي أو تجاهل خلق أهل الكوفة وما فعلوه مع أبيه وأخيه
، وهو ثالثا يخرج بنسائه وأطفاله كأنه ذاهب إلى نزهة خلوية أو زيارة قريب ويعرف في
الطريق غدر أهل الكوفة ، ومع هذا
__________________
يواصل السير اليهم
وينقاد لرأي بني عقيل ، ويذهب بجماعة من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ليأخذ
بثأر مسلم ، ياللّه قد تكون ولاية العهد ليزيد عملاً خاطئا ، ولكن هل هذا هو
الطريق لمحاربة الخطأ والعودة إلى الصواب » .
وفات هؤلاء الذين لم يخرجوا بوعيهم من
قفص النص ، أن هذه النهضة يقودها إمام معصوم ، وهي مدروسة ومخطط لها وليس على نحو
عَرَضي. صحيح أن الواقع الذي واجهه الحسين 7
صعب ومعقد ، ولكن الصحيح أيضا أن قوى التغيير لا تعترف بالأمر الواقع. والحسين 7 كان مصمما على التغيير مهما واجه من
مخاطر ، قال منذ البداية للناس وبدون أي لبس : « أيها الناس ، إنّ رسول اللّه 9
قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول
اللّه 9 ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ، فلم
يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد
لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرَّحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا
بالفيء ، أحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله ، وأنا أحق من غيّر ..
» .
انطلاقا من هذه المعطيات علينا أن ندرك
بأن ثورة الحسين 7
كانت أعظم وأقوى في دوافعها وأسبابها من أن يؤثّر في اندفاعها غدر الناس ، أو أن
يقف في طريقها خيانة الأعوان وانقلاب الأنصار. لقد صمّم الحسين 7
__________________
من البداية على أن
يمضي في نهضته وإن بقي وحده ؛ لأنه إن كان يوجد في عهد معاوية مايتطلّب السكوت
عليه أو المهادنة معه ، فان عهد يزيد لم يكن يوجد فيه شيء من هذا مطلقا. فقد بلغ
السيل الزبا ، ولم يبق أمام الحسين 7
مع يزيد إلاّ طريق الصراع المسلّح حتى النصر أو الاستشهاد.
ويكشف لنا عن هذا التصميم قوله 7 لما تقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر
الحسين 7 بسهم وقال :
اشهدوا لي عند الأمير أني أوّل من رمى ، وأقبلت السهام من القوم كأنّها المطر ، فقال
7 : لأصحابه «
قوموا
رحمكم اللّه إلى الموت الذي لابدّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم ... أما
واللّه لا أُجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي
» .
ويدلنا على حتمية الصراع والكفاح ضد حكم
يزيد في أي حال كان عليه ، قوله 7
أيضا في مجلس والي المدينة الذي طلب منه المسالمة مع يزيد وإعطائه البيعة والاعتراف
له بالخلافة فقال 7
: « يزيد رجل
فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله
» .
وهناك من وقع في أسر ضيق النَّظرة أيضا
، وتصور بأن حركة الحسين 7
كانت حركة قبليّة عشائرية تُعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين ، كانتا
تتصارعان على السلطة والهيمنة قبل الإسلام ،
__________________
واستمرّ هذا الصراع بينهما إلى ما بعد
الإسلام ، ذلك هو الصراع بين بني هاشم وبني أميّة. هذا التفسير تبنّاه أعداء
الحسين 7 ، ولعلهم
انطلقوا في هذا التفسير من العداء التاريخي المستحكم بين القبيلتين ، ذلك العداء
الذي عبّرت عنه جويرية بنت أبي جهل التي كشفت عن الوضع النفسي لبطون قريش ، فعندما
صعد بلال على ظهر الكعبة وأذَّن وسمعت الأذان ، قالت بعفوية : قد لعمري رفع لك
ذكرك ، أما الصلاة فسنصلّي ، لكن واللّه لا نحب من قتل « الأحبة أبدا » .
لقد عاش البطن الأموي رهينا لسلسلة من
العقد؛ لماذا يكون النبي من بني هاشم؟ كيف يثأرون من الهاشميين وبالذات آل محمد
وأهل بيته لقتلاهم في بدر؟ وقد نبّه النبي 9
الأمة إلى حقيقة المشاعر الأموية ، فقال : « إن أهل بيتي سيلقون من بعد أمتي قتلاً وتشريدا
، وإن أشد قومنا لنا بُغضا بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم
» .
ويبدو أن أصحاب هذا التفسير انطلقوا
كذلك من دوافع يزيد بن معاوية التي عبّر عنها أكثر من مرّة ، حيث قال عندما سمع عويل سبايا الحسين 7 :
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا
|
|
جزع الخَزرج من وقع الأسل
|
لأهلّوا واستهلّوا فرحا
|
|
ثمّ قالوا يا يزيد لاتُشَل
|
__________________
قد قتلنا القرم من ساداتهم
|
|
وعدلناه ببدر فاعتدل
|
لعبت هاشم بالملك فلا
|
|
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
|
لست من خندف إن لم أنتقم
|
|
من بني أحمد ما كان فعل
|
كان حاقدا على النبي محمّد 9 وعلى أهل بيته خاصة وعلى الهاشميين
عامة بعد أن أدرك طبيعة الصراع الدامي الذي جرى بين رسول اللّه وآله والهاشميين من
جهة ، وبين أبيه وجده وآل أبي سفيان والبيت الأموي من جهة أخرى ، وبعد أن أدرك أن
عليا 7 وحمزة
والهاشميين قتلوا أعمامه وأجداده وأقاربه ، يقول العلاّمة المجلسي : « ووجدت بخطّ
بعض الأفاضل نقلاً من خطّ الشهيد 1
، قال : لما جيء برؤوس الشهداء والسبايا من آل محمد :
أنشد يزيد لعنه اللّه :
لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت
|
|
تلك الشموس على ربى جيرون
|
صاح الغراب فقلت قل أو لا تَقُلْ
|
|
فقد قضيت من النبي ديوني »
|
وتبنّى هذا التفسير مجموعة من
المستشرقين حاولوا أن يفسروا القضية على أساس الصراع بين قبيلتين ، بل وحاولوا أن
يفسروا الصراع الذي احتدم بين رسول اللّه 9
وبين أبي سفيان على أنه امتداد لذلك الصراع القبلي والعشائري.
وأقل ما يمكن أن يقال عن تلك التفسيرات
بأنها نتائج هزيلة وغير ناضجة ، فمن يدرس ظاهرة أصحاب الحسين 7 ـ على سبيل المثال ـ يلاحظ أن قضية
الحسين 7 لا يمكن أن
تكون صراعا بين عشيرتين أو
__________________
قبيلتين ، لأن أصحاب
الحسين سواءً كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي والشعوبي ، أو
من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي ، بل وحتى من حيث
الانتماء المذهبي ، يمثلون نماذج وعينات متعددة ومختلفة. حيث نلاحظ أنّ هناك
اختلافا عظيما بين هؤلاء ، ولا يمكن أن تجمع كل هؤلاء أو توحّدهم قضية الصراع
القبلي. فإن قضية الصراع القبلي لا يمكن أن توحّد بين جون العبد الأسود مولى أبي
ذر ، وبين حبيب بن مظاهر الأسدي سيّد العشيرة العربي ، كما أنّه لا يمكن أن توحّد
بين أولئك الذين كانوا بالأمس أعداءً للحسين ، كالحر بن يزيد الرياحي وزهير بن
القين وغيرهما ممّن انضمّ إلى الحسين 7
أثناء المعركة عندما سمعوا حديثه أو استغاثته ، وبين من كان مواليا للحسين منذ
اليوم الأول.
ثم ما هو الشيء الذي جعل زهير بن القين
يتحوّل عن عثمانيته ، وعن اعتقاده بخط العثمانية ، الخط الذي أسّسه معاوية لتبرير
موقفه المعارض لعلي 7؟
وكان زهير بن القين إلى حين لقاء الحسين 7
يتبنّى هذا الخط العثماني. وكذلك موقف الحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان إلى آخر
لحظات المواجهة قائدا عسكريا كبيرا يقود جيش عمر بن سعد ، ثم تحوّل إلى جانب
الحسين 7 ليستشهد معه
، لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنة والنار ، فاختار الجنّة في اللحظة الأخيرة.
وهناك تفسير آخر يسقط أصحابه تحت حوافر
الفكر السياسي بمعناه البرغماتي (المصلحي) السائد ، انطلاقا من مقولة : ان السياسة
هي فن الممكن. فيذهب هؤلاء إلى أن هدف الحسين 7
كان هو الوصول إلى
السلطة وإقامة الحكم
الإلهي ، إلاّ أن هذا الإنسان الذي سعى إلى هذا الهدف لم تؤاته الظروف ولم يتمكّن
من تحقيق هذا الهدف ، وكان فشله في تحقيق هذا الهدف بسبب خذلان أهل الكوفة له ، ونتيجة
لخذلان شيعته له وتردّدهم في اتخاذ الموقف المناسب معه.
ولكن يرد على هذا الرأي أنّ الحسين 7 لم يكن هدفه الوصول إلى السلطة كغاية
ليستخدمها من أجل الوصول إلى الرئاسة وتحصيل المكانة المرموقة له ولأسرته. صحيح
أنّ الوصول إلى السلطة واستخدامها وسيلة لتطبيق مبادى ء الإسلام الحقَّة أمر محمود
ويقرّه الشرع ، بل ويحثّ عليه ، ولكن الصحيح أيضا أنّ الحسين 7 كان عالما ومدركا بأنّه لا يتمكّن من
الوصول إلى دفّة الحكم بسبب وعيه لطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية
المحيطة به والضاغطة عليه التي تحول دون ذلك. فهو مع اتّصاله بالغيب ـ كما أسلفنا
ـ إنسان واقعي يدرك بأنّ الشروط الواقعية أو العملية لم تتهيّأ بعد ، وقد صرّح
أكثر من مرّة لكلِّ من نصحه أو استشاره بأنّه مقتول لا محالة. ومع هذه القناعة
الراسخة في نفسه لا يمكن القول بأنّ هدفه السياسي كان يتثمّل بالسعي لاستلام
السلطة. لأنّ معنى ذلك أنّه 7
كان يسعى نحو هدف غير واقعي مع تقديره للوضع السياسي ويكون تحرّكه في مثل هذه
الحالة أقرب إلى عملٍ انتحاري.
ومما يعزز هذا الرأي ما ذهب إليه الشيخ
محمد مهدي شمس الدّين من أن الحسين 7
« كان يعلم بأن ثورته انتحارية لا تقوده إلى نصر سياسي آني ، وإنما تنبِّه الأمة
إلى الخطر ، وتضعها في مواجهته ، وتفجِّر فيها طاقة الثورة وروح الرَّفض ، وتحمل
الحكم على أن يحافظ على الحد الأدنى من
رعاية مبادى ء
الإسلام في سياساته » .
إذن فأصحاب هذا التفسير لم تتسع آفاق
تفكيرهم ، فتصوّروا القضية وكأنها نزاع وصراع على السلطة ، ولكن لا من أجل الهيمنة
والسيطرة فحسب ، وإنما من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل الإلهي ، ولكن الحسين لم
تؤاته الظروف رغم أن أهل الكوفة أرسلوا له آلاف الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى
جانبه ، ولكنهم خذلوه في اللحظة الأخيرة.
وفات هؤلاء ضرورة وضع كل فكرة وكل نظرية
في إطارها التاريخي الذي صدرت فيه ؛ أي في الظرف الزمني. وهؤلاء لم يضعوا فكرتهم
هذه لتنسجم مع الجو العام الذي كان يعيشه الحسين 7
، وعليه لا يمكن أن نفترض أن الحسين 7
غير مدرك للحقيقة التي أدركها هؤلاء المستشارون ، وهؤلاء المخلصون في نصحهم كابن
عباس وأم سلمة وعبداللّه بن جعفر وغيرهم الذين أشاروا عليه بعدم الخروج ، وأكدوا
له النتائج التي وقعت ، وذكروا له أنه لا يمكن في مثل هذه الظروف السياسية أن يحقق
الانتصار ويصل إلى الحكم.
ولم يكن الحسين 7 يستهدف الوصول إلى الحكم ، كان يعرف
أنّه لايصل إلى الحكم ، إلاّ أنّه كان يريد أن يحرّك الناس ويهزّ ضمائرهم ويوقظ
وجدانهم فيتحركوا. كان عليه أن يقدم دمه الغالي رخيصا في سبيل هذا الهدف ، وكان
عليه أن يُقتل ويُذبح عطشانا وبهذه الطريقة المأساوية التي
__________________
شملت الشيوخ
والغلمان والنساء والأطفال ، حتى تتحرك هذه الضمائر والقلوب وتهتزّ المشاعر
والعواطف.
إذن لم « تكن دوافعه عشائرية أو عاطفية
نابعة من بغضاء الهاشميين للأمويين ، ولا مصلحية ( براغماتية ) نابعة من الصراع
على الحكم بما هو تسلُّط دنيوي. فإن التاريخ الثابت لأئمة أهل البيت : ينفي عنهم هذا الزعم ، ويثبت أن حياتهم
كانت سلسلة من التضحيات في سبيل الصالح العام ، وأنهم إنما غُلبوا أمام خصومهم
الأمويين في معارك السياسة لأنهم كانوا يتبعون في تعاملهم مع الأمة ومع خصومهم ومع
أنصارهم مبادى ء ومقاييس أخلاقية ومبدئية تنبع من شعورهم بمسؤوليتهم الإسلامية في
الدرجة الأولى.
ويكفي هنا أن نذكر إضافة إلى التاريخ
الثابت أن الإمام زين العابدين علي بن الحسين 7
الذي شهد بنفسه فاجعة كربلاء ، وعاشها ساعة بعد ساعة بكل آلامها وأحزانها ، كان
يدعو لأهل الثغور ، وما ذلك الدعاء من الإمام زين العابدين إلاّ وعيا منه لدور
جيوش الثغور في حفظ المجتمع الإسلامي من أعدائه ، وإن كان هذا الجيش يحمي أيضا
نظام الأمويين » .
إذن فهي ـ أي الثورة ـ لم تكن حركة
قبلية أو إقليمية أو مذهبية ، ومن هنا فلا يجوز اعتبارها تراثا مذهبيا للشيعة ، لأن
صبغتها المذهبية جاءت نتيجة لعوامل تاريخية ليس هنا مجال بحثها.
هي ثورة دفعت إلى القيام بها مبادى ء
الإسلام وأحكامه لغاية تنبيه
__________________
الأمة على واقعها
السيء ، وحملها على تحسينه عن طريق إثبات شخصيتها الإسلامية في وجه الحاكم المنحرف
، وذلك بتصحيح نهج الحاكم.
وفي مقابل أولئك الذين وقعوا أسر ضيق
النظرة والتحيُّز غير المشروع ، أو الذين لم يسلكوا سبيل الانصاف فنظروا بمنظار
الحقد الأسود ، أو الذين نظروا بمنظار سياسي نفعي ( براغماتي ) ، نجد هناك نظرة
منصفة تنظر للقضية من زاوية أخرى ، فقد أدرك البعض الآخر بثاقب بصرهم أن القضية
أبعد من ذلك بكثير ، نظروا إليها على أنها كانت من أجل تثبيت الموقف الشرعي والحكم
الإسلامي تجاه ظاهرة الطغيان اليزيدي ، والحكم الكسروي الجديد الذي كان يجسده هذا
الحاكم المستهتر بالقيم والشعائر الإسلامية ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
المحافظة على وجود الرسالة الإسلامية واستمرارها من خلال تثبيت هذا الموقف وما
يمكن أن يحدث عنه من تفاعلات في الأمة. ومن ناحية ثالثة إيقاظ ضمير الأمة وهزّ
مشاعرها وأحاسيسها وتحريك وجدانها ، من أجل العمل على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة
ـ ظاهرة سيطرة الحكام المنحرفين ـ في حياتها.
فالدوافع الحقيقية لثورة الحسين 7 ـ إذن ـ كانت تتمثّل بهدف ثلاثي
الأبعاد؛ يركّز البعد الأوّل منه على تحديد الموقف الشرعي من أُناس تسلّقوا إلى
قمّة الهرم السلطوي الإسلامي بدون أهلية أو كفاءة ولم يتّصفوا بالشرعية ، وبعُد
آخر مستقبلي يتمثّل بحركة الإسلام المستقبلية التي يراد لها أن ترتكز على قواعد
الحقّ والعدم ، أمّا البُعد الثالث فيتعّلق بالأمّة ومسارها الحقيقي وأوضاعها
المختلفة التي تدهورت بفعل سيطرة وسطوة
حكام الجور
والطغيان.
وفي هذا الصدد يقول الاستاذ خالد محمد
خالد : « إن القضية التي خرج البطل حاملاً لواءها لم تكن قضية شخصية تتعلق بحق في
الخلافة .. أو ترجع إلى عداوة شخصية يضمرها ليزيد ، كما أنّها لم تكن قضية طموح
يستحوذ على صاحبه ، ويدفعه إلى المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح والخسران.
كانت القضية أجلّ وأسمى وأعظم. كانت قضية الإسلام ومصيره والمسلمين ومصيرهم ، واذا
صمت المسلمون جميعهم تجاه هذا الباطل الذي أنكره البعض بلسانه ، وأنكره الجميع
بقلوبهم ، فمعنى ذلك أن الإسلام قد كفّ عن إنجاب الرجال. معناه أن المسلمين قد
فقدوا أهلية الانتماء لهذا الدين العظيم. ومعناه أيضا أن مصير الإسلام والمسلمين
معا قد أمسى معلقا بالقوة الباطشة ؛ فمن غلب ركب ، ولم يعد للقرآن ولا للحقيقة
سلطان ..تلك هي القضية في روع الحسين ، وبهذا المنطق أصر على الخروج » .
موقف
الحسين 7 من
صلح الحسن 7
وهناك سؤال تردد ويتردد على الألسن على
امتداد الزمن ، وهو سبب سكوت الحسين 7
عن معاوية بن أبي سفيان ، مع كونه وابنه يزيد وجهين لعملة واحدة.
وكمحاولة للإجابة على ذلك لابدَّ من
إلقاء نظرة تاريخية مجملة ، لكي
__________________
تنضبط عدسة الرؤية
لدينا على منظور سليم ، وسوف نجد أنه « لما مضى الإمام الحسن بن علي 7 شهيدا نتيجة غدر خصمه معاوية ، قضى
الإمام الحسين 7
فترة طويلة في عهد معاوية لم يحرّك ساكنا ولم يدع إلى الثورة ، التزاما منه بشروط
صلح الحسن 7 وتقيّده به
حتى بعد وفاة أخيه وطيلة حياة معاوية بعد رحيل الحسن 7
رغم إلحاح الشيعة عليه بالثورة على معاوية لأنه نقض من جانبه كل شروط الصلح ولم يف
بشرط واحد منها.
لقد عانى المسلم الشيعي منذ عهد معاوية
بن أبي سفيان ألوانا شتَّى من الاضطهاد والملاحقة والترويع ؛ كان مطاردا من قبل
السلطة ، فقلما شعر بالأمن ، وكانت هذه السلطة تحاربه في مصادر عيشه إذا لم تقض
عليه ولم تصادر حرّيته ، وكان في أحسن الحالات مواطنا من الدرجة الثانية ، كل هذا
بسبب بعض مواقفه العقيدية ، وبسبب اتجاهه الفقهي ، حيث إنه تبع أئمة أهل البيت ، فكانوا
مرجعه في فقه الشريعة الإسلامية » .
مع كل ذلك كان الحسين 7 يرفض طلبهم بشدة ويذكر : « أنّ بينه
وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوزُ له نقضه حتى تمضي المدّةُ ، فإن مات معاوية نظر
في ذلك » .
حرصا منه على وحدة المسلمين ، مع أنه كان قادرا على أن يُثير جمهورا كبيرا من
المسلمين ضد حكم معاوية البغيض ، لا سيما وأنه تفنّن في التنكيل بشيعته.
على أن الحسين 7 لم يكن ملجوم اللّسان ، مختوم الشفتين
، فالشواهد
__________________
التاريخية تدلّ على
أنه لم يكفّ عن نقد سياسات معاوية وتجاوزاته.
وقد بلغت أنباء تردد الشيعة على الحسين 7 واستنهاضهم له وإلحاحهم عليه للقيام
بالثورة على معاوية إلى دمشق ، فأقلقت معاوية وأفزعته ، وخشي من أن يستجيب الحسين 7 لطلبهم ويلبي نداءهم ، فكتب إليه كتابا
يحذره غدر أهل العراق ، ويذكره بالعهد والميثاق الذي سبق منه ، وكتب فيه : « أمّا بعد ، فقد انتهت
إليَّ منك أمور ، لم أكن أظنّك بها ، رغبة عنها ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن
أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها ، فلا تنازع
إلى قطيعتك ، واتّق اللّه ، ولا تردنّ هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك
وأمّة محمد ، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون
» .
وجاء في تاريخ دمشق أنّ الحسين 7 كتب إليه : « أتاني كتابك ، وأنا
بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلاّ اللّه ، وما أردت لك محاربة
ولا عليك خلافا ، وما أظنّ لي عنداللّه عذرا في ترك جهادك ، ولا أعلم فتنة أعظم من
ولايتك أمر هذه الأمّة » .
وفي رواية الطبرسي أنّه أجابه : « أما بعد : فقد بلغني
كتابك ... وقلت فيما تقول انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمد 9
، واتّق شقّ عصا هذه
__________________
الأمّة
، وإن تردهم في فتنة ، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها ، ولا أعلم نظرا لنفسي
وولدي وأمّة جدي أفضل من جهادك ، فإن فعلته فهو قربة إلى اللّه عزّ وجل ، وإن
تركته فأستغفر اللّه لذنبي ، وأسأله توفيقي لإرشاد أموري ، وقلت فيما تقول إن
أنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني ، وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين ، منذ خلقت؟! فكدني ما
بدا لك إن شئت ، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على
نفسك ، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك ، وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم
ومثّلت بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا
إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا
» .
هذه بعض الفقرات من كتاب الحسين 7 إلى معاوية ، وهو بمثابة وثيقة تاريخية
خالدة تكشف عن حقيقة معاوية وطبيعة حكمه الفاسد الجائر. كما تُثبت ـ بما لا يدع
مجالاً للشك ـ أن الحسين 7
كسر قاعدة الصمت التي فرضها معاوية على المسلمين ، بعد أن انتقلت الأمور إلى مستوى
خطير لم يعد ممكنا السكوت عليه.
مؤتمر
سياسي عام
ومن مصاديق عدم سكوت الإمام على
انحرافات معاوية ، أنه 7
عقد في مكة مؤتمرا سياسيا عاما دعا فيه جمهورا غفيرا ممن شهد موسم الحج من
المهاجرين والانصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين ، فانبرى 7
__________________
خطيبا فيهم ، وتحدث
ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النبي 9
وشيعتهم من المحن والخطوب التي صبها عليهم معاوية ، وما اتخذه من الاجراءات
المشددة من إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثر عن الرسول الأعظم 9 في حقهم ، وألزم حضار مؤتمره بإذاعة
ذلك على المسلمين.
وفيما يلي نص حديثه فيما رواه سليم بن
قيس ، قال : « ولما كان قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن علي 8 ، وعبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن
جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومن حج من الأنصار ممن يعرفهم
الحسين وأهل بيته ، ثم أرسل رسلاً ، وقال لهم : لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول اللّه 9
المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي
، فاجتمع إليه بمنى أكثر من ألف رجل وهم في سرادق ، عامتهم من التابعين ، فقام
فيهم خطيبا فحمد اللّه واثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فان هذا الطاغية ـ يعني
معاوية ـ قد صنع بنا
وبشيعتنا ما قد علمتهم ورأيتم وشهدتم وبلغكم ، وإني أُريد أن أسألكم عن أشياء فان
صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتموا قولي ، ثم ارجعوا إلى
أمصاركم وقبائلكم ، من أمنتموه ووثقتم به من الناس ، فادعوهم الى ماتعلمون ، فإني
أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون
» .
وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر اسلامي عرفه
المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لاشاعة
فضائل أهل
__________________
البيت : وإذاعة مآثرهم التي حاولت السلطة حجبها
عن المسلمين.
ضرورة
النهضة
إن انحراف سلطة معاوية عن مسار الإسلام
الصحيح ، يستدعي النهضة لتصحيح المسار ، ولعلّ أبرز مظاهر الانحراف في عهد معاوية
يتمثّل بالنقاط التالية :
١ ـ تحريف مبادئ الاسلام ، وايجاد البدع
بغية القضاء على الاسلام.
٢ ـ اشاعة ثقافة الجبر والخنوع
والاستسلام.
٣ ـ نهب بيت المال وانفاقه في الأهواء
والمصالح الذاتية.
٤ ـ افساد الاخلاق واشاعة الشراب
والمجون والقمار.
٥ ـ إحياء العصبية القبلية والقومية ، والقيم
الجاهلية.
٦ ـ تعيين العناصر الفاسدة وغير المؤهلة
لمجرّد انتمائهم للأمويين.
٧ ـ التزييف والاعلام الكاذب.
٨ ـ اعتقال وسجن وقتل الشخصيات
الاسلامية البارزة والثورية التي تناصر أهل البيت.
٩ ـ أخذ البيعة بالإكراه ليزيد من الناس
ومن رؤساء القبائل.
ونتيجة لكل ذلك نجد أنّ الحسين 7 كان يشعر بضرورة الخروج والثورة على
سلطان معاوية والحكم الأموي المنحرف عن خط الإسلام ونواميس الحق والعدل ، لولا
التزامه وتقيّده بتنفيذ صلح أخيه الحسن 7
، ورعايته للعهد الذي أعطاه أخوه الحسن 7
لمعاوية ضمن شروط منها أن لا يخرج عليه لا هو ولا أحد من أهل بيته مادام حيا ، وفي
نفس الوقت
كان ينتظر تفاقم
النقمة العامة على معاوية وعلى الأمويين بصورة عامة لتكون الثورة أكثر شمولاً
وأقرب إلى فرص النجاح ، وهكذا كان.
فان نبأ هلاك معاوية كان أعظم بشارة
تلقاها العالم الإسلامي بالفرح والسرور ، وشعروا بأن كابوسا خانقا قد زال عن
صدورهم حتى قال يزيد ابن مسعود مبشرا بموته « إن معاوية مات فأهون به واللّه هالكا
ومفقودا ، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الجور ... » . وقال الحسن البصري : « أربع خصال كنّ
في معاوية ، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت مُوبقة : انتزاؤه على هذه
الأمّة بالسفهاء حتى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصّحابة وذو
الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكّيرا خمّيرا ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه
زيادا ، وقد قال رسول اللّه 9
: الولد للفراش ، وللعاهر الحجَرُ ، وقتلهُ حُجْرا ، ويْلاً له من حُجْر! مرّتين »
.
يتّضح مما تقدم أن الحسين 7 قد تريث بالثورة إلى أن هلك معاوية بن
أبي سفيان التزاما منه بعهده ، واحتراما لموقف أخيه الحسن 7 ، ولأسباب ومصالح أخرى أيضا. ولكنه في
خلال ذلك كان يصارح الرأي العام بسخطه وامتعاضه واستيائه من الوضع القائم ، إتماما
للحجة على الناس ، وإظهارا للحق ، وإيضاحا للواقع ، لكي يحيا من حيي عن بينة ويهلك
من هلك عن بينة ، ولذلك فبمجرّد أن هلك معاوية في أول رجب
__________________
سنة ستين للهجرة
أعلن الحسين 7 ثورته على
خلفه يزيد ، ودعا العالم الإسلامي لنصرته ومؤازرته على استئصال جرثومة الشر
والفساد من جسم الأمة الإسلامية ، معلنا للرأي العام الإسلامي دوافع نهضته ، قال
لهم : « إنّي لم
أخرج بطرا ولا أشرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنّما خرجت أطلب الصلاح في أُمة جدي
محمد ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن
أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق ، وهو أحكم الحاكمين
» .
وينبغي الإشارة هنا إلى أنه لما ثار في
النهاية على الحكم الأموي متمثلاً في يزيد بن معاوية ونظامه ، لم تكن نهضته رعاية
لمصلحته وعاطفته ، فتاريخه الشخصي وتاريخ أبيه وأخيه يشهد بأن مواقفهم تقوم دائما
على رعاية مصالح الإسلام العليا ، ومصالح المسلمين من جميع الجهات.
كان 7
يرى ـ مع غيره من قادة الرأي في المسلمين ـ أن تسنُّم يزيد ابن معاوية ذروة السلطة
، إذا نال الشرعية ولو بالسكوت عنه ، فإنه يشكل خطرا على الإسلام كدعوة ودين ، وكان
واضحا منذ البداية أن نظام يزيد لايكتفي من الحسين 7
وغيره من قادة الرأي بمجرّد السكوت عنه ، لقد كان يريد اعترافا رسميا واضحا
بشرعيته ، كان يريد منهم البيعة ليزيد.
والحسين 7
كما كان يعرف معاوية وأساليبه « كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره ينساق
مع عواطفه وشهواته وتلبية رغباته الى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلل
من التقاليد الاسلامية ،
__________________
ويندفع مع نزقه فيما
يعترضه من الصعاب من غير تقدير لما وراءها من المخاطر ، ومن أجل ذلك وقف من بيعته
موقف الرافض ، واعتبر البيعة ليزيد من أخطر الاحداث على مصير الامة ومقدراتها ، ولم
يجد بدّا من مقاومتها ، وهو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة ، وان شهادته ستؤدي
دورها الكامل وتصنع الانتفاضة تلو الأخرى حتى النصر ، ولم يكن باستطاعة يزيد
مواجهتها بالاساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها ، لأنه كما وصفه بعض
المؤرّخين من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي ، صغير العقل متهور ، سطحي
التفكير ، لا يهمّ بشيء إلاّ ركبه. ومن كان بهذه الصفات لابدَّ وأن يواجه الأحداث
بالأسلوب الذي يتّفق مع شخصيته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها
من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه » .
اشكاليات
واهنة
وقد يزعم البعض أن الحسين 7 لو استعمل التقية وصافح يزيد لاتقى
ببيعته شر أُمية ، ونجا من مكرها ، وصان حرمته ، وحفظ مهجته. لكن ذلك وهم ، فان
يزيد المتجاهر بالفسوق لا يقاس بمعاوية الداهية المتحفظ ، فبيعة مثل الحسين 7 لمثل يزيد غير جائزة بظاهر الشريعة ، ولذلك
تخلّف عن بيعته سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد اللّه بن عمر ، وعبداللّه
بن الزبير وغيرهم ، فأنكروا على معاوية استخلاف يزيد ،
__________________
وامتنعوا عن بيعته
حتى فارقوا الحياة ، وكان إمامنا الحسين 7
أولى بهذا الامتناع والإنكار.
كما أثار البعض اشكالية اُخرى مفادها أن
خروجه يمثل شقا لعصا الطاعة ، ويُعرّض الوحدة الإسلامية إلى الخطر. وقد بدا واضحا
لذوي البصائر أن المحافظة على الوحدة السياسية للمسلمين كانت تعني التفريط
بالمحتوى العقيدي والتشريعي للمؤسسة السياسية الإسلامية ، لذا قد يغدو التضحية
بالوحدة السياسية للمسلمين واجبا في سبيل حفظ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجا بعد أن
غدا الحكم الأموي يشكل خطرا ، لا على المسلمين كوحدة سياسية فحسب ، بل على الاسلام
نفسه .
ويرى إمام الأزهر السابق محمد عبده أنّه
: « إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع ، وحكومة جائرة تعطّله ، وجب على كل
مسلم نصر الأولى .. ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول 9 على إمام الجور والبغي الذي وليَ أمر
المسلمين بالقوَّة والمكر يزيد بن معاوية خذله اللّه وخذل من انتصر له من الكرامية
والنواصب » .
على هذا الصعيد فان البعض أشار على
الحسين 7 بضرورة
الانحناء أمام عاصفة التحول السياسي ، فدعا إلى مهادنة وموادعة يزيد ، ولكنه آثر
الوقوف في خط المواجهة الساخن ، لكونه يتبع منهجا في التفكير والسلوك لا يجامل فيه
على حساب الحق والقيم. ثم أن يزيد يريد منه الاستسلام
__________________
الكامل والخضوع
الأعمى ، وعليه فالفجوة القائمة بينهما واسعة لا يمكن رتقها ، لقد « قدر بأن بيعته
ليزيد تتناقض تماما مع الشرع ومع الحقيقة ومع معتقداته وخط الكمال الإسلامي الذي
يمثله ، وأن بيعته ليزيد ستكون بمثابة اعتراف بشرعية خلافة غير شرعية ، وفتوى
ضمنية بأهلية يزيد للخلافة ، وهو الرجل الذي يجاهر بفسقه ومجونه وحتى بكفره » .
ونتيجة لكل ذلك اتخذ الإمام قراره
النهائي بالامتناع عن بيعة يزيد ، وأعلن هذا القرار بكل وسائل الإعلان المعروفة في
زمانه ، وهذا القرار لم يكن اعتباطيا ، وإنما بني على قناعات دينية يقينية ، وحقائق
تاريخية وعقلية وفطرية معلومة بالضرورة .. رأى أن مبايعته ليزيد بن معاوية جريمة
كبرى وبكل المعايير الدينية والتاريخية والمنطقية ، لذلك امتنع عن البيعة ، وأعلن
هذا الامتناع بكل وسائل الإعلان. الامتناع عن البيعة في عرف الخلفاء وأركان دولتهم
، يعتبر خروجا على طاعة الخليفة الغالب ، وعدم القبول بخلافته.
ويدلنا على مدى احتقار الحسين 7 ليزيد وسقوط الأخير عن أدنى مستويات
الانسانية ، قوله 7
لمروان بن الحكم لما أشار عليه بالبيعة ليزيد ، فقال : « إنّا للّه وإنّا إليه
راجعون ، وعلى الإسلام السلام ، إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد » .
__________________
الفتح
المبين
ولكن هل حقّق الحسين 7 هدفه المطلوب بتلك التضحية الفريدة؟
المراد من هدف الإمام الحسين 7 هي الغاية التي كان يبتغي بلوغها أو
تحقيقها ، والتي بادر بثورته تلك من أجلها واستشهد في سبيلها. وتتلخص في ما يلي :
١ ـ إحياء الإسلام.
٢ ـ توعية المسلمين وكشف ماهيّة
الأمويين.
٣ ـ إحياء السنّة النبوية والسيرة
العلويّة.
٤ ـ اصلاح المجتمع واستنهاض الأمة. وفي
هذا الصدد قال : « إنّما
خرجت لطلب الاصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير
بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب
» .
٥ ـ انهاء استبداد بني اُميّة على
المسلمين.
٦ ـ تحرير إرادة الاُمة من حكم القهر
والتسلّط. وفي هذا الصدد يقول السيد الشهرستاني : « ولم تزل ولن تزال في الامم
نهضات أئمة هدى تجاه أئمة جور. ونهضة الحسين من بين النهضات قد استحقّت من النفوس
إعجابا أكثر ، لا لمجرد ما فيها من مظاهر الفضائل وإقدام معارضيه على الرذائل ، بل
لأن الحسين 7 في إنكاره
على يزيد كان يمثل شعور شعب حي ويجهر بما تضمره أُمة مكتوفة اليد ، مكمومة الفم ، مرهقة
بتأثير اُمراء
__________________
ظالمين ، فقام
الحسين 7 مقامهم في
اثبات مراميهم ، وفدى بكل غال ورخيص لديه باذلاً في سبيل تحقيق أُمنيته وأُمته من
الجهود ما لا يطيقه غيره ، فكانت نهضته المظهر الأتمّ للحق » .
٧ ـ اقامة الحقّ وتقوية أهله ، فقد خطب
بأنصاره في كربلاء قائلاً : « ألا
ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء
ربّه محقّا ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً
» .
٨ ـ توفير القسط والعدالة الاجتماعية
وتطبيق حكم الشريعة.
٩ ـ إزالة البدع والانحرافات. فقد كتب
إلى وجوه أهل البصرة ، قائلاً : « أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه 9
، فإنَّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري
أهدكم سبيل الرشاد » .
وقد حقق الحسين 7 أهدافه على الرغم من استشهاده ، فقد
بقي الإسلام محفوظا ومصانا من العبث والزوال ، وبقيت الأمة الإسلامية محتفظة
وملتزمة بالإسلام عقيدة وعملاً ، وان كان ذلك على الصعيد الفردي والشخصي. « لقد
انتصر الحسين 7
باستشهاده انتصاراً لم يسجل التاريخ انتصارا أوسع منه ، ولا فتحا كان أرضى للّه منه
، كان واثقا من هذا
__________________
الانتصار ومن هذا
الفتح ، كما كان واثقا من هزيمته عسكريا ، كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه إلى
الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق ، فقد قال فيه : « أما بعد فانه من لحق
بي منكم استشهد معي ، ومن تخلف لم يبلغ الفتح
» . فالفتح
الذي يعنيه من كتابه إلى الهاشميين ، هو ما أحدثته ثورته من النقمة العامة على
الأمويين ، وما رافقها من الانتفاضات التي أطاحت بدولتهم » .
والذي يثير العجب ويبعث على الاستغراب
أن الخصم المتمثل بيزيد وأزلامه يطلقون مصطلح (الفتح) على جريمتهم الكبرى التي
اقترفوها بقتل الحسين 7
وأهل بيته وأصحابه! فعندما تمّت مذبحة كربلاء أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن
معاوية ، فقال له يزيد الذي كان يترقّب أنباء مذبحة كربلاء بلهفة : ويلك ما وراءك
وما عندك؟ قال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح اللّه ونصره ، ورد علينا الحسين بن
علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته ، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا
أو ينزلوا على حكم الأمير عُبيداللّه بن زياد أو القتال ، فاختاروا القتال على
الاستسلام ، فغدونا عليهم مع شروق الشمس ، فأحطنا بهم من كل ناحية ... حتى أتينا
على آخرهم .. .
فزحر هذا يُسمّي قتل آل محمد وأهل بيت النبوة وذوي قربى النبي نصر اللّه والفتح!!
__________________
فمن ردود الفعل الّتي أحدثتها الثورة ، ما
روي أنّ زيد بن أرقم صاحب رسول اللّه 9
لمّا رأى ابن زياد في قصر الإمارة أخذ يضرب بالقضيب ثنايا أبي عبداللّه الحسين 7 قال له : « ارفع قضيبك عن هاتين
الشّفتين ، فواللّه الّذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه 9 عليهما ما لا أحصيه كثرة تُقبِّلُهما ،
ثمّ انتحب باكيا. فقال له ابن زياد : أبكى اللّه عينيك ، أتبكي لفتح اللّه؟ واللّه
لولا أنّك شيخٌ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك » . وهكذا يرتدي أزلام بني أمية رداء
الإسلام ويتبجّحون بمصطلحاته.
ومن الفتوحات السياسية الأخرى التي
أفرزتها واقعة الطف ، هي عزل الحكام عن المجتمع؛ إذ صار الناس ينظرون إليهم كحكام
استبداديين وسلاطين جور ، يحكمون بالقهر والقوة ، ولا يمت سلوكهم إلى الإسلام بصلة
مطلقا ، ولا يمثلون من الإسلام قليلاً ولا كثيرا. هذا بالاضافة إلى أن الحسين 7 قد بذر بتضحيته المباركة بذور الثورة
ضد أولئك الحكام وأمثالهم في نفوس الأمة الإسلامية ، ونمت تلك البذرة بسرعة وأثمرت
ثورات تحررية وانتفاضات شعبية عديدة في العالم الإسلامي عبر التاريخ وحتى اليوم.
يقول أحمد محمود صبحي : « وإن كان
الحسين بن علي 7
قد هزم على الصعيد السياسي والعسكري ، إلاّ أنّ التاريخ لم يشهد قط هزيمة انتهت
لصالح المهزومين مثل دم الحسين. فدم الحسين تبعته ثورة ابن الزبير ،
__________________
وخروج المختار ، وغير
ذلك من الثورات الاُخرى إلى أن سقطت الدولة الاُموية ، وتحوّل صوت المطالبة بدم
الحسين إلى نداء هزّ تلك العروش والحكومات » .
وصار الحسين 7 شعار كل ثورة إصلاحية ورمز كل حركة
ترفض الخضوع للظلم والاستعباد والاضطهاد. يقول المستشرق الألماني ( ماربين ) : « قدّم
الحسين للعالم درسا في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعز الناس لديه ومن خلال
اثبات مظلوميته وأحقيّته ، وأدخل الاسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما.
لقد أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أن الظلم والجور لا
دوام له. وانّ صرح الظلم مهما بدا راسخا وهائلاً في الظاهر إلاّ انّه لا يعدو أن
يكون أمام الحقّ والحقيقة إلاّ كريشة في مهب الريح » .
وأثبت الحسين 7 بثورته المباركة أن لا حرمة ولا قدسية
للحكام والأمراء إلاّ مع التزامهم الدقيق بالإسلام كعقيدة ونظام.
وعليه لم يكن هذا البذل والعطاء من قبل
الحسين 7 خالياً من
الهدف ، بل تحقق الهدف ، وإن لم يتمكّن الحسين 7
من الوصول إلى السلطة ، فضلاً عن أنه لم يبقَ على قيد الحياة ، فهي ثورة ناجحة
ومنتصرة ، بل هي فتح إلهي ، كما عبّر عنها زعيمها حينما قال : « ومن تخلّف عنّي لم
__________________
يبلغ
الفتح » .
وهنا نريد أن نؤكد على « أن الهدف هو
إحداث هزّة عنيفة في نفوس الناس ، وقد تحقق هذا الهدف ؛ لأن الأمة في زمنه كانت قد
تخلصت وشفيت من مرض الشك والارتياب بعد انكشاف واقع الامويين وافتضاح حكومة معاوية
، وشعور الأُمة بأن تجربة معاوية في الحكم ما هي إلاّ امتداد للجاهلية ، رغم ما
يرفعه من شعارات الإسلام ، وغدت تجربة الإمام علي 7
في الحكم أملاً وحلما في نظر الجماهير ، وأخذت تدرك وتعي بأن الإمام علي 7 كان يحارب في زمن معاوية بن أبي سفيان
جاهلية الأصنام والأوثان ، ولم يحاربه لأجل صراع قبلي أو لغرض شخصي. فالأمة قد
شفيت من مرض الشك ، ولكنها منيت بمرض آخر وهو مرض فقدان الارادة ، فأصبحت لا تملك
إرادتها في الرفض والاحتجاج ، بل أصبحت يدها ولسانها ملكا لشهواتها ، وقد فقدت
إرادة التغيير لأوضاعها الفاسدة ، كانت قلوبهم مع الإمام ولكن سيوفهم عليه كما قال
، الشاعر الفرزدق » .
وجد الحسين 7 أن الأمة تحتاج إلى صهر قوي لتتخلص من
الشوائب ، كما أراد لها أن تستيقظ من سباتها ، لكي تدرك عظم التحديات التي تنوء
تحت ثقلها ، وبعد شهادته 7
أسقط القناعات الفارغة التي تنظر
__________________
للحاكم ـ وإن بغى
وظلم ـ نظرة التقديس.
وعموما أحدثت ثورة الحسين 7 هزّةً عميقة في نفوس وقناعات قطاعات
واسعة من الناس ، فمن جهة موقف شيعة أهل البيت ، فقد استقبلوا النهاية الفاجعة
بالحزن ، والندم ، والغضب. قال ابن سعد : أخبرنا علي بن محمد ، عن حباب بن موسى ، عن
جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن حسين ، قال : « حُملنا من الكوفة إلى يزيد بن معاوية فغصّت طرق
الكوفة بالناس يبكون ، فذهب عامة الليل ما يقدرون أن يجوزوا بنا لكثرة الناس ، فقلت
: هؤلاء الذين قتلونا وهم الآن يبكون
» .
حزنوا بسبب فظاعة ما حدث بكربلاء ، وندموا
لأنهم قصَّروا في النصرة والمساندة ، وغضبوا على النظام الأموي لأنه ارتكب الجريمة
البشعة. وقد تفاعل الندم مع الحزن فولَّد عندهم مزيدا من الغضب ، وولَّد عندهم
رغبةً حارةً في التكفير عبَّروا عنها بمواقفهم من النظام ورجاله شعرا ، وخُطبا ، وثورات
استمرت أجيالاً ، وجعلت من شعار (يالثارات الحسين) شعارا لكل الثائرين على
الأمويين.
ومن الشواهد على تلك الهزة التي أحدثتها
هذه النهضة في كيان الأمة ، أنه لما لقي عبيد اللّه بن الحر الجعفي الحسين 7 فدعاه إلى نصرته والقتال معه فأبى ..
قال الحسين 7 : « فإذا أبيت أن تفعل فلا
تسمع الصيحة علينا ،
__________________
فواللّه
لا يسمعها أحد ثم لا ينصرنا فيرى بعدها خيرا أبدا
». قال عبيد اللّه : فواللّه لهبت كلمته تلك ، فخرجت هاربا من عبيد اللّه بن زياد
مخافة أن يوجّهني إليه ، فلم أزل في الخوف حتى انقضى الأمر. فندم عبيد اللّه على
تركه نصرة الحسين 7
، فقال
:
فيا لك حسرة ما دمت حيا
|
|
تردد بين حلقي والتراقي
|
حسينا حين يطلب بذل نصري
|
|
على أهل العداوة والشقاق
|
ولو أنّي اُواسيه بنفسي
|
|
لنلت كرامة يوم التلاقِ
|
مع ابن المصطفى نفسي فداه
|
|
فولى ثم ودع بالفراق
|
غداة يقول لي بالقصر قولاً
|
|
أتتركنا وتزمع بانطلاق
|
فلو فلق التلهّف قلب حي
|
|
لهم اليوم قلبي بانفلاق
|
فقد فاز الاُولى نصروا حسينا
|
|
وخاب الآخرون اُولو النفاق
|
ولم يكتفِ عبيد اللّه بن الحرّ بالندم
وحده ، بل سعى هو وغيره ممّن تخلفّ عن الحسين 7
إلى بلورة حالة الندم إلى الانتقام ، فلما قتل الحسين 7 ندم عبيداللّه بن الحرّ والمسيّب بن
نجبة الفزاري وجميع من خذل الحسين 7
ولم يقاتل معه ، فقالوا : ما المخرج والتوبة ممّا صنعنا؟ فخرجوا فأتوا عين الوردة
وهي بناحية قرقيسيا ، فلقيهم جمع أهل الشام وهم عشرون ألفا عليهم الحصين بن نمير ،
فقاتلوهم ، فترجّل سليمان بن صرد
__________________
وقاتل حتى قُتِل
وقُتِل عامة أصحابه ورجع من بقي منهم إلى الكوفة .
وأما موقف عامة المسلمين غير الملتزمين
بالخط السياسي للشيعة وأئمة أهل البيت :
، فقد واجه هؤلاء الكارثة بالدهشة والاستنكار ، وقد هالهم ما كشفت عنه عملية قمع
الثورة من أسلوب معاملة الأمويين لخصومهم السياسيين ، هذا الأسلوب الذي لايحترم
شريعةً ولا أخلاقا ، ولا يقيم وزنا حتى للأعراف الاجتماعية ، حتى ان البعض من
الناس أخذ يقابل قاتل الحسين بالازدراء والاحتقار ، ولم يرد 7 ، قال ابن سعد : « أخبرنا مالك بن
إسماعيل أبو غسان النهدي ، قال : حدّثني عبد الرحمن بن حميد الرواسي ، قال : مرّ
عمر بن سعد ـ يعني ابن أبي وقاص ـ بمجلس بني نهد حين قتل الحسين ، فسلّم عليهم فلم
يردّوا 7 » .
وقد وجدوا اللّوم والتقريع والتوبيخ على
فعلتهم الشنيعة هذه حتى من أقرب المقربين منهم ، قال ابن سعد : « أخبرنا أحمد بن
عبد اللّه بن يونس ، قال : حدّثنا شريك ، عن مغيرة ، قال : قالت مرجانة لابنها
عبيد اللّه بن زياد : ياخبيث ، قتلت ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله]
وسلّم؟! لا ترى الجنة أبدا » .
ولا شك في أن هذا الاكتشاف لهول الجريمة
اليزيدية ، قد دفع بكثير
__________________
من الناس العاديين
إلى إعادة النظر في مواقفهم من النظام الأموي وولائهم له.
وحتى أولئك الذين استقبلوا العزم على
الثورة بفتور ، وقدّموا نصائحهم بالكفِّ عنها ، لم يستطيعوا أن يثبتوا على موقفهم
الأول السلبي بالنسبة إلى الثورة ، فاضطروا إلى مجاراة الرأي العام في الدهشة
والاستنكار ، فقد كان زيد بن أرقم أحد الحاضرين في مجلس عبيد اللّه بن زياد في
الكوفة لما أدخلت عليه السبايا ورؤوس الشهداء ، فبكى لما رأى ابن زياد يضرب بقضيب
في يده ثنايا الإمام الحسين 7
، ولما زجره ابن زياد لبكائه وهدَّده ، قال : « أنتم ـ يا معشر العرب ـ العبيد بعد
اليوم ، قتلتم ابن فاطمة ، وأمَّرتم ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ، ويستعبد
أشراركم ، فرضيتم بالذلّ ، فبعدا لمن رضي بالذُّل » .
تجدر الإشارة الى أن قتل الحسين 7 وأهله وأصحابه بهذه الطريقة الوحشية قد
أثار استنكار بعض رجالات أهل الأديان الأخرى ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ،
قال : « لقيني رأس الجالوت فقال : واللّه إنّ بيني وبين داود لسبعين أبا ، وإن
اليهود لتلقاني فتعظّمني ، وأنتم ليس بينكم وبين نبيكم إلاّ أب واحد فقتلتم ولده!!
» .
ثمّ « إنّ الثورة ولَّدت أخطارا كبرى
على النظام الأموي ما كانت في الحسبان ، وذلك بعد ان تفجَّر الموقف كلّه ، واندفع
شيعة أهل البيت إلى
__________________
التصلُّب في مواقفهم
بعد أن كانوا طيلة عهد معاوية أميل إلى المهادنة والتسامح ، كما أحدثت تصفية
الثورة ـ بالطريقة الدموية الفضيعة التي حدثت وتسامع بها المسلمون ـ تغييرا كبيرا
في مواقف جماعات كبيرة من المسلمين بالنسبة إلى الأمويين ودولتهم ، ونقدِّر أن هذا
التغيّر جعل هذه الجماعات مؤهَّلة لاتخاذ مواقف سلبية عملية ضدّ النظام الأموي بعد
أن تغير موقفها منه » .
صفوة القول حققت ملحمة عاشوراء جملة من
النتائج القيمة ، يمكن حصرها بالنقاط التالية :
١ ـ إنهاء الهيمنة الفكرية لبني اُميّة
على أذهان الناس.
٢ ـ شعور المجتمع بالذنب والتقصير لعدم
مناصرة الحقّ وأداء التكليف.
٣ ـ هدم مشاعر الخوف والهلع من النهوض
ومقارعة الظلم.
٤ ـ إيقاظ روح المقاومة لدى الناس ، فقد
أوجدت نهجا تحرريا ظل على مدى التاريخ يؤرق عيون الجبابرة والمتكبرين ويقضّ
مضاجعهم ، وقدم الحسين 7
درسا في الحريّة والمروءة حتّى لغير المسلمين.
يقول نيكلسون ، المستشرق المعروف : « كان
بنو اُميّة طغاة مستبدين ، تجاهلوا أحكام الاسلام واستهانوا بالمسلمين ، ولو درسنا
التاريخ لوجدنا أن الدين قام ضد الطغيان والتسلّط ، وأن الدولة الدينية قد واجهت
النظم الامبراطورية. وعلى هذا فالتاريخ يقضي بالانصاف في أن دم الحسين 7 في
__________________
رقبة بني اُميّة » .
٥ ـ ظهور مفاهيم جديدة مستمدة من
عاشوراء.
٦ ـ قيام ثورات عديدة وانتفاضات مستلهمة
من ملحمة كربلاء.
٧ ـ ازدهار الطاقات الأدبية وظهور أدب
عاشوراء.
٨ ـ انتشار منابر الوعظ والإرشاد كأداة
لتوعية الناس.
٩ ـ بعثت ثورة الحسين من جديد جميع
القيم والمفاهيم الدينية التي طمست وطواها النسيان بفعل المؤامرات والخطط المدروسة
التي وضعها بنو اُميّة. واعيد إلى الواجهة رأي الدين في الحكومة والحاكم وبيت
المال وحقوق الاُمّة. وسرت في بناء الايمان والعقيدة روح جديدة ، وكشف النقاب عن
التحريف ، وغدت النفوس الذليلة عزيزة وقادرة على الوقوف بوجه الطاغوت.
١٠ ـ إحياء رسالة الإسلام وإعادة الروح
الإسلامية إلى الجسد الإسلامي ، وفي هذا الصدد يقول الكاتب المصري عبد الرحمن
الشرقاوي : « فلست أعلم حقا أصرح ولا عدلاً أوضح من قومة الإمام الحسين 7 ومن ثورته ونهضته. لقد كانت قومته
لإحياء رسالة الإسلام ، بعد أن كادت تقضي على يد أعدائها ومناوئيها ، ولبعث الروح
الإسلامية وهي تكاد تقترب من الاحتضار. وكانت ثورته لإعادة الحقّ الضائع إلى أهله
المضَيَّعين ، وإنصاف المظلوم من الظالم ، ورعاية حقوق الضعفاء من جور المستكبرين.
وكانت نهضته لإعلاء كلمة الحق ورفع راية الحقيقة ، كانت
__________________
هذه المعاني كلّها
في قيام الإمام الحسين بن علي ، بل كان الإسلام كلّه في ثورته ، وكان الحقُّ كلّه
في نهضته » .
وذهب لياقة علي خان ، أول رئيس وزراء
باكستاني ، أبعد من ذلك ، فقد اعتبر شهادة الامام الحسين 7 مع ما فيها من الحزن مؤشر ظفر نهائي
للروح الاسلامية الحقيقية ، لأنها كانت بمثابة التسليم الكامل للارادة الالهية.
وأضاف قائلاً : « علينا أن نتعلم منها وجوب عدم الخوف والانحراف عن طريق الحقّ
والعدالة مهما كان حجم المشاكل والأخطار » .
__________________
خامسا : البعد الإعلامي
سخرت قوى الخير الإعلام لنشر المبادئ
الحقة ، والدعوات الصادقة ، وإزالة الكثير من الشبهات العالقة في عقول الناس ، وبالمقابل
استغلته قوى الشر من أجل نشر مبادئها الهدّامة وتحقيق مآربها الشريرة ، فأقامت
سياجا هائلاً من التعتيم على مبادئ الحق والعدل ، وشنت الحملات التشهيرية على
رموزه ووضعتهم ـ زورا وبهتانا ـ في قفص الاتهام من أجل أن ينفضّ الناس من حولهم.
والإمام الحسين 7 ـ كما هو معروف ـ من الذين آمنوا بدور
الإعلام الرّسالي الهادف في فضح وتعرية قوى الشر والعدوان ودحض أباطيلهم وكشف
دخائل نفوسهم ، كما آمن بأنّ كلمة الحق الصادقة لابد وأن تجد لها في أُذن الباطل
وقعا ، لذلك عمل ـ بلا كلل أو ملل ـ على الجهر بدعوته بعد أن رأى أن الحق لا يُعمل
به والباطل لا يُتناهى عنه ، وبعد عدم اقتناعه بشرعية الحكم وصلاحية القائمين عليه
، فأخذ يُلقي حججه المدوّية المجلجلة فيقرع بها آذان أعدائه ويفحم بها ألسنتهم ، في
وقت كان السكوت فيه من ذهب ، لأن الطرف المعادي كان يعتمد منطق القوة والتضليل
وقلب الحقائق ، مع ذلك سرعان ما ارتدّت سهام اليزيديين إلى نحورهم ، وانكشف ـ
للقاصي والداني ـ كذب إعلامهم ، فسخط الرأي
العام الإسلامي
عليهم بعد مقتل الحسين 7
، ولم يستمر يزيد بعد ذلك إلا ثلاث سنين ، بفعل الانتفاضات والثورات التي عصفت
بحكم بني اُمية فقوضت كيانهم ، وأصبحوا أثرا بعد عين.
ذلك الأمر بطبيعة الحال لم يتم صدفة أو
ينطلق من فراغ ، بل حدث كل ذلك بفعل الإعلام الحسيني الهادف ، وكذلك مواقف العقيلة
زينب (سلام اللّه عليها) وابن أخيها الإمام السجاد 7
وباقي السبايا ، الذين شهدوا معركة كربلاء الدامية بكل فصولها وتفاصيلها ، فكشفوا
للرأي العام جرائم الحرب اليزيدية ، ولم يتركوا مناسبة إلاّ واغتنموها في سبيل
الكشف عن جرائم بني أمية ودحض أباطيلهم وكشف زيف إعلامهم ، الأمر الذي أحدث هزةً
عنيفة في نفوس الناس ، فانقلب موقفهم المهادن مع بني اُمية رأسا على عقب ، والأسئلة
التي نطرحها هنا : ماهي الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسين 7 من أجل إعلان دعوته ، وتبيان أحقية
موقفه ومواجهة إعلام أعدائه؟ وبالمقابل ماهي الأساليب الإعلامية اليزيدية التي
طوّقت بستارٍ من التضليل عقول عدد غير قليل من الناس ودفعتهم إلى محاربة الإمام
الحسين 7 والفتك به
بتلك القسوة والوحشية المنقطعة النظير؟!
فالبحث ـ إذن ـ يتناول الأساليب
الإعلامية للجبهتين :
الإعلام
الحسيني في مقابل الإعلام اليزيدي :
لقد أمعنا النظر في عدة مصادر ، واستقرأنا
الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسين 7
، فوجدنا انها تتمثل بصورة أساسية بالأساليب التالية :
أ
ـ الاتصال الشخصي والجمعي :
يقول علماء الإعلام بانهما من أقوى
الوسائل الإعلامية قديما وحديثا ، فمن خلالهما تتم مناظرة أو محادثة شخص أو مجموعة
أشخاص عن طريق الاتصال المباشر ، فيحصل تماس بين المُلقي والمتلقي منه فيكون التأثير
فعالاً ، وسوف أورد شواهدَ على نوعي الاتصال بعد تبيان الفارق بينهما :
١
ـ الاتصال الشخصي :
ويتم عن طريق اتصال الإمام الحسين 7 بنفسه أو أحد من أهل بيته أو أصحابه
بشخص آخر ، فيشرح له دواعي نهضته وبطلان ادعاءات أعدائه. ومن أمثلة ذلك : اتصال
الإمام الحسين 7
بزهير بن القين ، الذي كان يتحاشى ـ كما تذكر المصادر ـ اللِّقاء به ، فكان يساير
الحسين 7 لما أقبل من
مكة ، ولكن اذا أراد الإمام 7
النزول في مكان اعتزله ناحية ، فلما كان في بعض الايام نزل الإمام 7 في مكان لم يجد زهير بدا من أن ينزله.
فبينما كان زهير يتغدّى مع جماعة من بني فزارة وبجيلة ، إذ أقبل رسول الحسين 7 حتى سلم ثم قال : يا زهير بن القين ، إن
الحسين 7 بعثني إليك
لتأتيه ، فتردّد زهير ، فقالت له زوجته : سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن رسول اللّه 9 ثم لا تأتيه ، فلو أتيته فسمعت من
كلامه. فمضى إليه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه! .. فأمر
بفسطاطه وثقله ومتاعه
فحول إلى الحسين 7 وغدا من خلّص أصحابه وفوق ذلك تحول إلى وسيلة إعلامية
ناطقة.
ومن الشواهد الأخرى على الاتّصالات
الفردية التي قام بها الحسين 7
فقد اتّصل بعبيداللّه بن الحرّ الجعفي « وكان من أشراف أهل الكوفة ، وفرسانهم.
فأرسل الحسين إليه بعض مواليه يأمره بالمسير إليه ، فأتاه الرسول فقال : هذا
الحسين بن علي يسألك أن تصير إليه. فقال عبيداللّه : واللّه ما خرجت من الكوفة
إلاّ لكثرة من رأيته خرج لمحاربته وخذلان شيعته ، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على
نصره ، فلست أحبّ أن يراني ولا أراه. فانتعل الحسين حتى مشى ، ودخل عليه قبّته ، ودعاه
إلى نصرته.
فقال عبيداللّه : واللّه إنّي لأعلم أنّ
من شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ، ولم أخلف لك بالكوفة
ناصرا ، فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة ، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت ، ولكن
فرسي هذه الملحقة واللّه ما طلبت عليها شيئا قطّ إلاّ لحقته ، ولا طلبني وأنا
عليها أحد قط إلاّ سبقته ، فخذها فهي لك ، قال الحسين : أما إذا رغبت بنفسك عنّا
فلا حاجة لنا إلى فرسك » .
__________________
٢
ـ الاتصال الجمعي :
وذلك من خلال مخاطبة الإمام الحسين 7 أو أحد أصحابه للجيش اليزيدي في عدة
مواقف ، الأمر الذي دفع بقادة هذا الجيش أن يصدروا أوامر من أجل إحداث الضجيج
والصياح والجلبة والحركة ليحجبوا كلامه عن أسماع المحاربين ، وهذا أسلوب يشبه نوعا
ما التشويش الإذاعي الذي تتبعه بعض الحكومات في أوقات الحروب والأزمات في وقتنا
الحاضر ، وكانت السلطات اليزيدية تظهر توجسا واضحا من النداءات والخطب والاتصالات
التي يلقيها أو يقوم بها الإمام الحسين 7
وأصحابه ، والتي أحدثت تأثيرا واضحا على عقول ومواقف بعض أفراد الجيش اليزيدي ، فالتحقوا
بجبهة الحسين 7
، ومنهم كبار الضباط أمثال : الحر بن يزيد الرياحي. وكشاهد على ذلك النوع من
الاتصال ما روي انه « لما ضيقوا على الحسين 7
حتى نال منه العطش ومن أصحابه ، قام 7
واتكأ على قائم سيفه ونادى بأعلى صوته ، فقال : انشدكم اللّه هل تعرفون أن جدّي
رسول اللّه 9؟ قالوا : اللّهم
نعم. قال : انشدكم اللّه هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا : اللّهم نعم.
قال : انشدكم اللّه هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى 9؟ قالوا : اللّهم نعم .. إلى أن قال : فبم
تستحلون دمي وأبي صلوات اللّه عليه الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يُذاد
البعير الصادر عن الماء ..؟ قالوا : قد علمنا ذلك كله! ونحن غير تاركيك حتى تذوق
الموت عطشا!! » .
__________________
وقد استمر الحسين 7 في اتصالاته وإلقاء خطبه المتتابعة على
الجمع المعادي ، وكان يطمح بأن تتحرك ضمائرهم ويزيل الصدأ عن قلوبهم ، فرمى بآخر
سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال.
وفي هذا الصدد كانت للبطل المجيد زهير
بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرّماح حيث تصيب ، فركب فرسه وتعرض
لهم قائلاً : « يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب اللّه نذار ، ان حقا على المسلم
نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا
وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة
وأنتم أمة ، إن اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيه محمد 9 لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا
ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد ، فانكم لا تدركون منهما إلاّ
بسوء عمر سلطانهما كلّه ، ليسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم
، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه
وهانى ء بن عروة وأشباهه » .
ب
ـ الرّسل والمراسلات :
وهما وسيلتان إعلاميتان تمكّن الإمام
الحسين 7 من خلالهما
من إيصال صوته وتبيان موقفه إلى عدد من زعماء الأقاليم ووجوه القوم ، فقد
__________________
كتب إلى جماعة من
أشراف البصرة كتابا مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين ، يدعوهم فيه إلى نصرته
ولزوم طاعته منهم : يزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر ابن الجارود العبدي ، جاء في
بعض فقراته : « أنا أدعوكم
إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه 9 ، فإن السنّة قد
أميتت ، وإنّ البدعة قد أحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد
» .
تقول المصادر التاريخية بأن أنصار
الحسين 7 في البصرة ،
قد استجابوا لدعوته هذه حتى أن أبا خالد يزيد بن مسعود النهشلي قد كتب إلى الإمام
الحسين 7 كتابا جاء فيه
: « .. فأقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشد تتابعا
في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها وكضّها ، وقد ذللت لك بني سعد
وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع » فلما قرأ الحسين 7 الكتاب قال : « مالك آمنك اللّه يوم
الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر
» . فلما تجهز
المشار إليه للخروج إلى الحسين 7
بلغه قتله قبل أن يسير!.
كما أجاب الإمام 7 على الكتب المتواترة التي تدفقت إليه
كالسيول من أهل الكوفة ، يقول أرباب المقاتل بأنه قد ورد على الحسين 7 منها في وقت واحد ستمائة كتاب! ثم
تواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها في نوب
__________________
متفرقة اثني عشر ألف
كتاب .
وبعض تلك الكتب ورد عليه من أقطاب
الكوفة. فعلى سبيل المثال : قدم عليه هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبداللّه الحنفي
، بكتاب هو آخر ما ورد على الحسين 7
من أهل الكوفة وفيه : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي أمير المؤمنين
أما بعد : فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعَجَلْ العَجَلْ يابن رسول
اللّه ، فقد اخضرّت الجنات ، وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فاقدم
علينا إذا شئت ، وإنّما تُقدم على جند مجندة لك. والسلام عليك ورحمة اللّه وعلى
أبيك من قبلك.
فقال الحسين 7 لهاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن
عبداللّه الحنفي : خبِّراني
من اجتمع على هذا الكتاب الذي كتب به إليَّ معكما؟
فقالا : يا بن رسول اللّه شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، ويزيد
بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد بن عمير بن عطارد » . وهؤلاء من كبار رجالات الكوفة وأهل
الحلّ والعقد فيها.
وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار
هانئ بن عروة قد بايعه ثمانية عشر ألفا ، وقد كتب إلى الإمام الحسين 7 : « أما بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب
أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا ، فعجِّل الإقبال
__________________
حين يأتيك كتابي » .
ولمّا تنصّلوا من بيعتهم خاطبهم الحسين 7 قائلا : « أيّها الناس إنها
معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقَدِمَت عليّ
رسلكم : أن اقدم علينا ... » .
وهنا يقتضي التنوية على أن هناك من يرى
بأن هذه الكتب والرسائل هي عبارة عن مكيدة يزيدية للإيقاع بالحسين 7 في كمين بالعراق.
وفي هذا الخصوص يقول المحامي أحمد حسين
يعقوب : « فليس معقولاً أن يبايع أربعون ألفا اليوم ويتنكروا غدا لبيعتهم فلا يثبت
أحد منهم على الإطلاق!! والمعقول الوحيد أن البيعة قد كانت بالإتفاق مع دولة
الخلافة ، مقابل جُعل للمبايعين ، وإن تنصّل المبايعين من بيعتهم قد تمَّ أيضا
بالإتفاق مع دولة الخلافة!! وهو مايعرف بلغة المخابرات المعاصرة بالاختراق!! حيث
ينظمّ إلى التنظيم المراد اختراقه مجموعة من العيون تتظاهر بعضويتها لهذا التنظيم
، وتنقل ماتسمعه ، أو تتدخل بمشاريعه!.
لقد اكتشف أهل الكوفة مكيدة الكتب
والرسائل التي أُرسلت إلى الإمام الحسين 7
، وأنها من تدبير الدولة لغايات استدراج الإمام إلى المكان الذي تريده!! ثم إنه لن
يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن عدم موالاته لدولة الخلافة ، لأن هذا الإعلان يؤدي
إلى قطع العطاء ، ويؤدي إلى الموت أيضا! ولن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن ولائه
لعلي بن
__________________
أبي طالب 7 أو لأحد من أهل بيته ، لأن عقوبة هذا
الإعلان هي الموت وهدم الدار ، وهذه العقوبة كانت سارية قبل قدوم مسلم وبعد موته ،
مما يؤكد أن فكرة البيعة أيضا كانت من تدابير دولة الخلافة » .
وأيا كان الأمر مكيدةً أم حقيقة ، فقد
أرسل الحسين 7 مسلم بن
عقيل 7 ابن عمه
وثقته من أهل بيته ، وسلّمه رسالة موجهة إلى أهل الكوفة ، يعدهم فيها بالقبول ، فسار
مسلم بن عقيل بكتاب الحسين 7
حتى وصل الكوفة ، فلما وقفوا على كتابه كثر استبشارهم بقدومه ، ثم أنزلوه في دار
المختار الثقفي ، وصارت الناس تختلف إليه ، فقرأ على جمع كبير منهم كتاب الحسين 7 وهم يبكون حتى بايعه منهم ثمانية عشر
ألفا كما يقول ابن طاوُس .
ولكن ابن زياد أخذ يزحزحهم عن مواقفهم بالتهديد والاغراء ، أو ما يطلق عليه حاليا
سياسة العصا والجزرة ، فنقضوا البيعة وتفرقوا عن ابن عقيل الذي اُعتقل وقُتل بعد
ذلك بصورة مروّعة!.
ج
ـ استثمار موسم الحج :
بما أن موسم الحج يشكل ملتقىً إسلاميا
كبيرا على مر العصور ، يجتمع فيه المسلمون الوافدون من كلّ فج عميق ، فقد استفاد
منه دعاة الاصلاح والتغيير في بث الأفكار وكسب وتعبئة الأنصار. والإمام الحسين 7 بدوره قد أدرك مالهذا المكان المقدس من
أهمية استثنائية بوجود بيت اللّه الذي يشكل أمانا للخائفين ، ويمنح حرية التحرك
والتبليغ ، وخاصة أثناء موسم
__________________
الحج الذي هو بمثابة
مؤتمر إسلامي جماهيري سنوي ، يؤدي فيه المسلمون فريضة الحج ، ويتداولون فيه شؤون
وشجون العالم الإسلامي.
من هذا المنطلق ، توجه الحسين 7 إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين
للهجرة ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة. وأخذ خلال هذه المدة
يبث فيها دواعي نهضته ويبين حقانية موقفه ، كما قام بفضح السلطة اليزيدية القائمة
، وكشف للملأ بأنها سلطة استبدادية وغير شرعية تقوم على مرتكزات انتهازية ومصلحية
وقمعية ، وغدت أحاديثه على كل شفة ولسان ، وتركت آثارها على الرأي العام الإسلامي
آنذاك ، فثارت ثائرة السلطة الحاكمة ، وأرادت بشتى السُبل احتواء وتحجيم ومن ثم
إسكات الصوت الحسيني الهادر.
وحينما أدرك الإمام 7 ببصيرته وخبرته بأن السلطة تريد التخلص
منه بمختلف الحيل ولو بالقتل في جوف الكعبة ، فخاف على حرمة الكعبة وقدسيتها من أن
يُراق دمه فيها ، لذلك قرر الخروج من مكة قبل إكمال مناسك الحج ، فكان لخروجه
المفاجى ء صدا إعلاميا كبيرا في أوساط المسلمين ، حتى أنه 7 لمّا سار نحو العراق ونزل بالثعلبية
أتاه رجل من الكوفة يكنى ابا هرة الازدي ، فسلم عليه ثم قال : يا ابن رسول اللّه ،
ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدك رسول اللّه 9؟!.
فقال الحسين 7 : « ويحك يا أبا هرة ، إن
بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عِرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وايم اللّه لتقتلني
الفئة الباغية » .
__________________
د
ـ الخطابة :
وهي وسيلة إعلامية قوية سواء قبل
الإسلام أو بعده ، حيث ينقل الخطيب آراءه ومواقفه للجماهير بصورة مباشرة ، فيحدث
فيهم التأثير المطلوب وخاصة إذا كان الخطيب مفوها يمتلك ناصية الفصاحة والبيان
وقوة الحجة والقدرة على التأثير والإقناع ، وتأجيج المشاعر وإثارة العواطف ، وبالنتيجة
سيتمكن من استمالتهم نحو قضيته.
والإمام الحسين 7 كما يقول الكاتب الكبير عباس محمود
العقاد : « قد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء » لذلك استفاد من قدراته الخطابية ، فلم
يترك فرصة إلاّ واغتنمها في سبيل إيصال صوته ، وكان لخطبه الأثر البالغ في زعزعة
بعض أفراد الجيش المعادي عن مواقفهم والتحاق قسم منهم بمعسكره 7 ـ كما نوهنا سالفا ـ وقد استعرضنا
شواهد من خطبه في فقرة الاتصال الجمعي ، وهنا نلفت النظر إلى أن خطب الحسين 7 غير موجهة لأعدائه فحسب ، بل إنّ كثيرا
ما خاطب أهل بيته وأصحابه ، فكانت خطبه بمثابة المصل الواقي الذي يمنحهم المناعة
ضد جراثيم الدعاية اليزيدية التي تهدف إلى التشكيك بقضيتهم العادلة ، وفك عُرى
التلاحم والتناصر فيما بينهم وبين قائدهم
__________________
الإمام الحسين 7. فكان ( سلام اللّه عليه ) يتبع مع أهل
بيته وأصحابه مبدأ المصارحة والمكاشفة ، وهو أسلوب يقول عنه علماء الإعلام بأنه من
أهم وسائل مكافحة الشائعات ، التي تكثر ـ عادة ـ أوقات الحروب والأزمات.
كان الحسين 7 يوجه خطبه أولاً إلى أصحابه بغية ترصين
جبهته الداخلية وتخليصها من العناصر الدخيلة. ومن الشواهد الدالّة على ذلك أنه لما
عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال : « الحمد للّه ما شاء اللّه ، ولا قوة إلاّ باللّه
، وصلّى اللّه على رسوله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. وما
أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا ملاقيه » ثم أضاف
قائلاً : « من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا
فانني راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى
» .
هذه خطبته في مستهل حركته ، أما عندما
اشتدّ الخناق عليه بورود كتاب عبيد اللّه بن زياد إلى الحر الرياحي يأمره بالتضييق
الشديد على الحسين 7
، حينئذ قام بأصحابه خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه غاية الثناء ، وذكر جده
المصطفى فصلى عليه ، ثم قال : « قد
نزل ما ترون من الأمر ، وإن الدنيا قد تنكّرت وتغيرت وأدبر معروفها ، واستمرت حتى
لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى
الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في
__________________
لقاء
اللّه ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما
» .
وكان لخطبته هذه وما سبقها تأثير فعال
على عقول وقلوب الأصحاب ، فعبّروا عن عميق تأثرهم بعبارات بليغة ، استمع إلى رد
فعل زهير بن القين على هذه الخطبة ، قال للحسين 7
: « قد سمعنا ـ هداك اللّه يا ابن رسول اللّه ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا
باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة! » .
هـ
ـ الشعر :
لم يترك الإمام الحسين 7 وسيلة إعلامية في عصره إلاّ واستخدمها
في سبيل الكشف عن زيف بني أمية وضلاهم ، بعد أن جعلوا بدعايتهم المضلّلة على
القلوب أكنة ، وعلى الأسماع وقرا ، وعلى الأبصار غشاوة.
فمن الضرورة بمكان أن يلجأ الحسين 7 إلى الوسائل الإعلامية السائدة
والمتاحة له كالخطابة والمراسلات واللقاءات الفردية والجماعية ، وكذلك لجأ إلى
الشعر كوسيلة مؤثرة في نفوس الناس ، ومن الشواهد على ذلك أنه لما قُتل مسلم ابن
عقيل 7 ، استعبر
الحسين 7 باكيا ، ثم
قال : « رحم اللّه مسلما ، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنته ورضوانه ، أما
إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا .. » ثم أنشأ يقول :
فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة
|
|
فان ثواب اللّه أعلى وأنبلُ
|
__________________
وإن تكن الأبدان للموت أُنشئت
|
|
فقتل امرى ءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ
|
وإن تكن الأرزاق قسما مقدّرا
|
|
فقلّة حرص المرء في السعي أجملُ
|
وإن تكن الأموال للترك جمعها
|
|
فما بال متروك به المرء يبخلُ
|
ومنها لما نزل الحسين 7 بأهل بيته وأصحابه ونزل الحرّ الرياحي
قبل انضمامه لجبهة الحسين وأصحابه ناحية ، وجلس الحسين 7 يصلح سيفه ويقول :
يا دهرُ أُفٍ لك من خليلِ
|
|
كم لك بالإشراق والأصيلِ
|
من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ
|
|
والدهرُ لايقنعُ بالبديلِ
|
وكلُ حيّ سالك ٌ سبيلِ
|
|
ما أقرب الوعد من الرحيلِ
|
وإنما الأمرُ إلى الجليل
ولمّا سايره الحرّ وقال له : « يا حسين
إنّي أذكِّرك اللّه في نفسك ، فإنِّي أشهدُ لئن قاتلت لتُقتلنَّ ، فقال له الحسين 7 : أفبالموت تخوِّفُني؟ وهل يعدو بكم
الخطبُ أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأَوس لابن عمّه ، وهو يُريد نصر رسول
اللّه 9 فخوّفه ابن
عمّه وقال : أين تذهبُ؟ فإنّك مقتولٌ ، فقال
:
سأمضي فما بالموت عارٌ على الفتى
|
|
إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما
|
وآسى الرجال الصالحين بنفسه
|
|
وفارق مثبورا وباعد مجرما
|
فإن عشْتُ لم أندم وإن مت لم أُلَمْ
|
|
كفى بك ذُلاًّ أن تعيشَ وترغما»
|
__________________
كما استشهد بأبيات من الشعر عندما خاطب
أهل الكوفة ، بعد أن استكبروا وأصروا على محاربته ، فبعد أن ألهبهم بسياط كلمات
التأنيب والتقريع ، ومنها قوله : « تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أحين
استصرختمونا والهين ، فاصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم ، وحششتم
علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم!
» وبعد أن أكمل خطبته المدوية ، تمثل بأبيات فروة بن مسيك المرادي :
فإن نُهزم فهزّامون قُدما
|
|
وإن نُغلب فغير مغلَّبينا
|
وما إن طبنا جُبن ولكن
|
|
منايانا ودولة آخرينا
|
إلى أن قال :
فقل للشامتين بنا أفيقوا
|
|
سيلقى الشامتون كما لقينا
|
ولما برز إلى القتال قرع أسماعهم بسنان
بيانه قبل أن يقرعهم بحدِّ سيفه. يروي ابن شهرآشوب أنّه « حمل على الميمنة وقال :
الموت خيل من ركوب العار
|
|
والعار أولى من دخول النار
|
ثمّ حمل على الميسرة وقال :
أنا الحسين بن علي
|
|
أحمي عيالات أبي
|
آليت أن لا أنثني
|
|
أمضي على دين النبي »
|
من جميع هذه الشواهد الشعرية يتبين لنا
بأن الحسين 7 قد استخدم
__________________
الشعر كوسيلة
إعلامية عبّر من خلاله عن مكنون نفسه وشكواه من أهل زمانه ، وكشف بواسطته عن عزمه
على مواجهة الحقيقة المرّة ، المتمثلة بشهادته المحققة ، بعد أن أدرك بأنه يخوض
معركة خاسرة من الناحية العسكرية الصرفة ، ولكنها سوف تحقق نصرا مبدئيا مؤزرا بعد
حين ، وعندها سيُعاد للحق مكانته ويخسر الباطل جولته ، وهو ماحصل بالفعل بعد
شهادته.
وتجدر الإشارة إلى أن الرّوايات قد
تواترت على أن الحسين 7
كان ينشد الشعر ولكن لأغراض الحكمة ، يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد : « ولخبرته
بالكلام وشهرته بالفصاحة ، كان الشعراء يرتادونه وبهم طمع في إصغائه أكبر من طمعهم
في عطائه » .
فيما تقدم استعرضنا الأساليب الإعلامية
الرئيسية ، التي اتبعها الإمام الحسين 7
من أجل إظهار دعوته وسحب البساط الإعلامي المتهرى ء من تحت أرجل أعدائه الذين
صوروا للرأي العام بأنه طالب ملك ، وأنّ غايته من ثورته ليست دينية إسلامية عامَّة
وإنما هي غاية شخصية ، وعندما يئس من تحقيق هدفه أبدى استعداده للخضوع والتسليم.
وتعكس هذا المظهر رواية ورد فيها « أن الحسين قال لعمر بن
سعد : إذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده
». والذي يدلّ على كذب هذا الخبر مارواه كثير من المؤرخين الأثبات عن عقبة بن
سمعان ، وكان مولىً للسيدة الرباب زوجة الإمام الحسين وهو من الرجال القليلين
الذين سلموا من
__________________
المذبحة في كربلاء ،
فهو شاهد عيان ، قال : « صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ، ومن مكة إلى العراق ، ولم
أفارقه حتى قتل ، وسمعت جميع مخاطباته الناس إلى يوم مقتله ، فواللّه ما أعطاهم ما
يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور
المسلمين ، ولكنه قال : دعوني
أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر
إلامَ يصير إليه أمر الناس ، فلم
يفعلوا » .
إن هذه المحاولة فشلت في تحقيق نجاح
يذكر بعد أن تصدى شهود العيان لدحضها وتكذيبها.
والمحاولة الثانية هي تصوير الحسين
وأنصاره للرأي العام بأنهم خوارج ، أو أنهم بغاة خرجوا على الشرع والشرعية المتمثلة
بيزيد بن معاوية ، وتمرَّدوا على إمامهم ، وشقوا عصا الطاعة ، وشتَّتوا الجماعة.
ولقد حاول ابن زياد منذ وصل إلى الكوفة وباشر بقمع حركة مسلم بن عقيل ، أن يترك في
أذهان الناس انطباعا بأن الحركة هي من صنع الذين خرجوا على الشرعية. ولاشك في أن
المساعي المبذولة لطبع ثورة الحسين بهذا الطابع قد غدت أكثر جدّيَّة وكثافة لأجل
تطويق ردود الفعل السلبية لدى الجماهير. ولم تفلح هذه المحاولة في كسب تصديق
الجماهير ، وبدلاً من أن توضع ثورة الحسين خارج الشرعية ، فقد وضع النظام الأموي
برمته خارج الشرعية ورفضته أعداد متزايدة من الناس بعد أن وعت بفعل
__________________
النهضة الحسينية مدى
بعده عن الصدق في دعواه تمثيل الإسلام.
أساليب
الإعلام اليزيدي
امتاز الإعلام اليزيدي بغوغائية الإدعاء
والبرغماتية ( النفعية ) من خلال إتباعه للوسائل الإعلامية التالية :
١
ـ الترهيب والترغيب :
اعتمد الخطاب الإعلامي اليزيدي من حيث
الأولوية على منطق القوة وأدوات القهر ، فقد ضرب يزيد بعرض الحائط وصية أبيه الذي
أوصاه بان لا يمس الحسين 7
بسوء إذا أبى البيعة ، فلما مات معاوية تواترت الأوامر من يزيد إلى ابن عمه الوليد
ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة ومن الحسين بن علي 8 وابن الزبير بصورة خاصة.
وكان مروان بن الحكم من زعماء الأمويين
في المدينة ورجل الظل في إمارة المدينة ، متحمسا لتنفيذ تعليمات يزيد بحذافيرها
وإجبار الحسين 7
على البيعة ولو باستخدام القوة! .. فطلب من الوليد بأن يحبس الحسين 7 حتى يبايع أو تُضرب عنقه. وهذا نص
عبارته للوليد كمصداق جليّ لهذا النهج الإعلامي : « واللّه لئن فارقك الحسين
الساعة ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثرَ القتلى بينكم وبينه ، احبس
الرّجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين 7 وقال : أنت ـ يا ابن الزّرقاء ـ تقتلني أو هو؟! كذبتَ
وأثِمْت » .
__________________
وكان الوليد ومروان يبغيان إخضاع الحسين
7 ليزيد ، ولكن
ذاك بالسياسة ، وهذا بالتهديد.
ولم يتعرض الإمام 7 وحده لحملة الترهيب اليزيدية ، بل تعرض
لها قبل ذلك ـ ولكن بصورة أخرى ـ رسوله وابن عمه مسلم بن عقيل رضى الله عنه ومن
ناصره وبايعه في الكوفة ، لمّا بلغ خبر مقتل هانئ بن عروة خرج مسلم 7 بمن بايعه إلى مواجهة ابن زياد الذي
تحصن بالقصر الأميري في الكوفة ، وتمكن من إحكام الحصار عليه ، ففكر ابن زياد في
وسيلة يتمكن من خلالها من إلقاء الرعب في قلوب الكوفيين ، فأمر بعض زعماء الكوفة ،
وكانوا يتملقون له ويكسبون رضاه من أجل الجاه والنفوذ ، بالإشراف على الجماهير
الغاضبة المحتشدة حول القصر ، ومحاولة بث روح التخاذل بين صفوفها من خلال ترهيبهم
بعسكر الشام القادم ، فلم يزالوا يخاطبون الناس بأساليب الترغيب والترهيب حتى جاء
الليل ، فجعل أصحاب مسلم 7
يتفرقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض ما نصنع بتعجيل الفتنة ، أن نقعد في منازلنا وندع
هؤلاء القوم حتى يُصلح اللّه ذات بينهم!
، فلم يبق مع مسلم 7
سوى عشرة أنفس.
وهكذا كان أثر الدعاية وأساليب الحرب
النفسية التي استخدمها اليزيديون من أجل تبريد الهمم واحباط العزائم وبث روح
التخاذل.
٢
ـ التكذيب :
استخدمت هذه الوسيلة منذ أقدم العصور ، فقد
كانت الأقوام والأمم
__________________
السالفة تتهم
أنبياءها ومصلحيها بالكذب من أجل إلقاء ظلال من الشك على دعواتهم الخيّرة. وعلى
هذا المنوال نسجت الدعاية اليزيدية عندما أوحت للسذّج من الناس بأن الحسين 7 ( وحاشاه ثم حاشاه ) كذّاب ومفترٍ وغير
مؤهل للخلافة! كما حاولت السلطة أن تسخّر بعض أنصار الحسين 7 ، الذين وقعوا أسارى في قبضتها من أجل
اقناع الناس بمصداقية إعلامها ، ولكن محاولتها هذه قد باءت بالفشل ، عندما تقطعت
حبال كذبها بفعل وعي وصلابة أنصار الحسين 7
وإيمانهم بقائدهم وقضيتهم.
ومن الشواهد على هذا المنحى أن ابن زياد
لما ألقى القبض على سفير الحسين 7
إلى أهل الكوفة ، وهو قيس بن مسهر الصيداوي ، أمره أن يشرف على الناس من شرفة قصره
، ويلعن الحسين 7
ويُعلن للملأ أنه ـ حاشاه ـ كذّاب وابن كذّاب! .. فصعد الصيداوي إلى حيث أراد ابن
زياد ، ثم ألقى على الجموع التي جمعوها وحشدوها نظرة وابتسامة ثم صاح : « أيّها
الناس ، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه ، وأنا
رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي
طالب 7 وصلى عليه ،
فأمر به عبيداللّه أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع » رحمة اللّه عليه.
ومن الشواهد الأخرى على هذا النهج
المذموم أنّه « خرج يزيد بن معقل من معسكر عمر بن سعد ، فقال : يا بُرير بن حُضير
كيف ترى اللّه
__________________
صنع بك؟! قال برير :
صنع اللّه ـ واللّه ـ بي خيرا ، وصنع اللّه بك شّرا! قال يزيد بن معقل : كذبت وقبل
اليوم ما كنت كذّابا » .
فهو ينسب الكذب لأحد أقطاب جبهة الحسين 7 مع اعترافه الصريح بأنّه معروف بالصدق
وما كان كذّابا! والأغرب من ذلك أنّ علي ابن قرظة كان في جبهة عمر بن سعد ، وقد
استشهد شقيقه عمرو بن قرظة الأنصاري في جبة الحسين 7
، فساءه ذلك ، « فنادي ، يا حسين! يا كذّاب ابن الكذّاب! أضللت أخي وغررته حتى
قتلته؟! قال الحسين 7
: إنّ اللّه لم يضلّ أخاك ، ولكنّه هدى أخاك وأضلّك! قال : قتلني اللّه إن لم أقتلك
أو أموت دونك! فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه » . فهو ينسب الكذب للحسين 7 ريحانة رسول اللّه 9.
زد على ذلك أنّ ابن زياد لما أُدخل عليه
عيال الحسين 7 خاطب زينب 3 بالقول : « الحمد للّه الذي فضحكم
وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم. فقالت زينب : الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمد 9 وطهّرنا من الرجس تطهيرا ، وإنّما
يفتضح الفاسق ويكذبُ الفاجر ، وهو غيرنا » .
وبذلك ألقمته حجرا.
٣
ـ اللّعن والسّباب وكيل الاتهامات :
وهي سياسة أموية عريقة سنَّها معاوية في
خلافه مع الإمام علي 7
__________________
عندما اتهم عليا 7 بتفريق كلمة المسلمين ، وأمر عمّاله
بسبّ أمير المؤمنين 7
على المنابر حتى وصل الأمر بمعاوية أنه قتل أُناسا لم يطيعوه في لعنه واتهامه لعلي
7 ، ولم يكتفِ
بذلك ، بل أخذ ينتحل الأحاديث القادحة في علي 7
وصحبه الأبرار. وتوجد شواهد كثيرة على هذا الأسلوب الإعلامي غير الأخلاقي منها : لما
ألقى ابن زياد القبض على مسلم بن عقيل 7
أخذ يكيل له الاتهامات ، ويُمطره بوابل من الشتائم وبكل ما يُشين .. قال له : « أخبرني
يا مسلم ، بماذا أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئم ، فشتت أمرهم بينهم ، وفرقت كلمتهم؟
فقال مسلم 7 : ما لهذا
أتيت ، ولكنكم أظهرتم المنكر ، ودفنتم المعروف ، وتأمرتم على الناس بغير رضى منهم
، وحملتموهم على غير ما أمركم اللّه به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم
لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا
أهل ذلك » .
وبذلك أبطل جميع مزاعمه ، وردّ الحق إلى نصابه ، بأسطر قليلة لخّص فيها دواعي ثورة
الحسين العظيمة.
٤
ـ التظاهر بالحق وقلب الحقائق :
الدعاية اليزيدية جمعت كيدها وحصرت همها
من أجل قلب الحقائق الناصعة ، التي دفعت بالإمام الحسين 7 إلى إعلان ثورته ، فقد اتبعت هذه
الدعاية المغرضة وسيلة للتضليل الديني ، فأخذت تعزف على نغمة : أن الحسين قُتل
بسيف جدّه
، بدعوى أنه فرّق الأمة وخلق الفتنة ، ويريد
__________________
هؤلاء من هذا
الإدعاء بأن ما لاقاه الحسين 7
من قتل وابتلاء هو من صنع اللّه! ..هذا المنطق الذي يطمس الحقائق بصورة صارخة ، قد
ظهر جليّا من خلال خطب الطاغية يزيد وواليه ابن زياد سواء في الكوفة أو الشام.
يقول المؤرخون : « جلس ابن زياد في
القصر الأميري وأذن للناس عموما ، وجيء برأس الحسين 7
فوضع بين يديه ، واُدخل نساء الحسين 7
وصبيانه إليه ، فجلست زينب بنت علي 7
متنكرة ، فسأل عنها فقيل : زينب بنت علي 7
، فأقبل إليها ، فقال : الحمد للّه الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت : إنما
يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع اللّه باخيك
وأهل بيتك؟ ـ لاحظ التزييف الديني ، فقد نسب ما اقترفته يده الآثمة إلى اللّه! ـ
فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع
اللّه بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم » .
والآن فلنترك الكوفة ونذهب إلى الشام ، فنجد
يزيد قد وضع رأس الحسين 7
أمامه ، وجعل ينكث ثنايا الحسين 7
بقضيب خيزران! .. أثار هذا الموقف زينب 3
حينما لم تجد أحداً يردّ عليه ، فوقفت تقذفه بحمم الحق ، ووضعت الأمور في نصابها
الصحيح ، فقالت له ضمن ما قالت :
__________________
« أظننت يا يزيد حيث
أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تُساق الأُسراء أن بنا
هوانا على اللّه وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك ، ونظرت
في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك
ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول اللّه تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
) » .
ثم دعت الناس ـ ضمنيا ـ إلى التقييم
السليم للمواقف والأشخاص من خلال التفريق بين أولاد الأنبياء وأبناء الطلقاء أقرأ
المقطع الآخر من هذه الخطبة البليغة ، الذي وجّهت فيه زينب 3 سياط كلماتها إلى الطاغية يزيد ، فذكّرته
بأنه من أبناء الطلقاء الذين أطلقهم الرسول 9
يوم فتح مكة .. قالت له : « أمن
العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول اللّه 9
سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ
أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدني والشريف ، ليس
معهنّ من رجالهنّ ولي ولا من حماتهنّ حمي! وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد
الأولياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! ـ إلى أن تقول ـ : ألا فالعجب كل العجب
لقتل حزب اللّه النجباء بحزب
__________________
الشيطان
الطلقاء .. » .
وتجدر الإشارة إلى أن علي بن الحسين 8 قد قام بدور إعلامي كبير ، فضح فيه
أسلوب التضليل ووضع النقاط على الحروف ، فدحض أباطيلهم وأظهر بلسان الحال والمقال
زيفهم ونفاقهم.
ولسبايا أهل البيت دور في كشف الحقائق ،
فمن المعروف أن كلّ ثورة تستلزم ساعدا ولسانا ، ودما ورسالة ، عملاً وإعلاما. وخطب
زينب والسجاد 8
والبقية الباقية من واقعة كربلاء أثناء سبيهم ، كان لها دور مهم في فضح حقيقة
العدو وإفشال إعلامه الكاذب ، وتوعية الناس على حقيقة الثورة وماهية شخصية أبي عبد
اللّه 7 وشهداء الطف
، وهذا ما جعل الأمويين عاجزين عن إسدال الستار على جرائمهم أو محوها من الأذهان.
بقي علينا أن نشير إلى أن الرأي العام
الإسلامي قد انقلب ضد الاُمويين بعد شهادة الإمام الحسين 7 بعد أن تبين للداني والقاصي زيف وخداع
البراقع الدينية التي تستر بها هؤلاء من أجل خداع الآخرين ، علما بأن أنصار الحسين
7 قد اكتشفوا
بصورة مبكرة زيف الدعاية اليزيدية ، فقد خاطب نافع ابن هلال الجملي شمر بن ذي
الجوشن القائد اليزيدي بهذه الكلمات المعبّرة : « أما واللّه أن لو كنت من
المسلمين لعظُم عليك أن تلقى اللّه بدمائنا ، فالحمد للّه الذي جعل منايانا على
يدي شِرار
__________________
خلقه » .
جدير بالذكر أن التزييف المذكور وقلب
الحقائق لم يكشفه أنصار الحسين 7
فحسب ، بل تعداهم بعد ذلك إلى سائر المسلمين ، وخاصة في الكوفة والشام ، وذلك بعد
أن تبين للمسلمين بأن الدّين مجرد مضغة بين أسنان اليزيديين يلوكونها في إعلامهم
من أجل البقاء في السلطة ، ولو استدعى الأمر إلى قتل عترة النبي وسبي حريمهم ، ومن
أجل ذلك عبَّر الرأي العام الإسلامي عن استنكاره وغضبه لتلك الجرائم البشعة ، وشجبه
لتلك الأساليب الخسيسة ، ظهر ذلك في موقف زيد بن أرقم من أصحاب رسول اللّه عندما
رأى ابن زياد ينكث ثنايا رأس الحسين 7
حين وضعه أمامه في اُجانة ، فصاح به مغضبا : « ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فواللّه
الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه 9
عليهما ما لا أُحصيه كثرةً تقبلهُما ، ثمّ انتحب باكيا. فقال له ابن زياد : أبكى
اللّه عينيك ، أتبكي لفتح اللّه؟ ـ لاحظ التزيف ـ واللّه لولا أنّك شيخ قد
خَرِفْتَ وذهب عقلك لضربتُ عنقك » .
كما ظهر ذلك أيضا في موقف عفيف الأزدي
الذي وقف كالجبل الشامخ ، فردّ على ابن زياد الذي أراد أن يتظاهر بالحق ويقلب
الحقائق
__________________
عندما صعد المنبر
بعد مقتل الحسين 7
فقال : « الحمد للّه الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه ، وقتل
الكذّاب ابن الكذّاب ، فقام إليه عبداللّه بن عفيف الأزدي فقال : يا عدوّ اللّه ، إنّ
الكذّاب أنت وأبوكَ ، والّذي ولاّك وأبوه ، يا ابن مرجانة ، تقتل أولاد النبيين
وتقوم على المنبر مقام الصِّدِّيقين؟! فقال ابن زياد : عليَّ به ، فأخذته الجلاوزة
، فنادى بشعار الأزد ، فاجتمع منهم سبعمائة رجل فانتزعوه من الجلاوزة ، فلمّا كان
الليل أرسل إليه ابن زياد مَنْ أخرجه من بيته ، فضرب عنقه وصلبه في السَّبخةِ ; » .
كما انكشف الزيف اليزيدي لأهل الشام ، يشهد
بذلك أرباب المقاتل ، فقد نقلوا « بأن شاميا نظر إلى فاطمة بنت الحسين 7 فقال ليزيد وكان مخدوعا به : يا أمير
المؤمنين ، هب لي هذه الجارية؟ فقال يزيد : هذه فاطمة بنت الحسين .. فقال الشامي ـ
وقد اتضحت له حقيقة الحال ـ : لعنك اللّه يا يزيد ، أتقتل عترة نبيك ، وتسبي
ذريّته؟! واللّه ما توهّمت إلاّ أنهم سبي الروم. فقال يزيد : واللّه لألحقنّك بهم
، ثم أمر به فضربت عنقه » .
وهكذا انهار صرح الدعاية الأموية الذي
بنته على جرف هارٍ من ترهيب وتكذيب ولعن وسباب واتهامات عارية عن الصحة ، تعمل على
قلب الحقائق وتزييف الوقائع .. وظهرت الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار ، وبقي
ذكر الإمام الحسين 7
وأصحابه يملأ أسماع الدنيا بعد
__________________
انقشاع الغبار الذي
أثاره الإعلام المضاد الذي كان أشبه بسحابة تائهة تأتي لحظة لتغطي ضوء الشمس ثم
تذهب سريعا لتعود الشمس بسطوعها وإشراقها.
سادسا : البعد العسكري
كُتب الكثير من البحوث ، التي تتناول
جوانب مختلفة من واقعة الطف ، واحتل الجانب المأساوي منها حيزا كبيرا ، لكن الجانب
العسكري لم يحتل من تلك المواضيع سوى حيزا يسيرا ، ولم يتم التطرق إليه إلاّ بصورة
هامشية.
وعلى الرغم من كون واقعة الطف من حيث
الأساس انتفاضة عقائدية وثورة مبادئ ، إلاّ أنها انتهت بمعركة حربية قد أفرزت على
قصرها دروسا قتالية تستحق البحث والدراسة ، ونحن في هذه الدراسة الموجزة ، نحاول
تسليط الأضواء على بعض تلك الدروس والمواقف ، وندعو أصحاب الاختصاص العسكري بأن
يولوا اهتماما أكبر بالجانب العسكري من واقعة الطف ، لكي تستفيد منها الأجيال ، وفيما
يلي أهم جوانب البعد العسكري :
١
ـ الموقف العام
وجد الحسين 7 نفسه بعد وفاة معاوية وتسلم يزيد ابنه
مقاليد السلطة الإسلامية أمام خيارين أحلاهما مرّ ، إما المهادنة والذِّلة ، أو
المواجهة والتصدّي مع قلّة العدد والعُدة ، لكن مع إصرار السلطة الحاكمة
على انتزاع البيعة
منه ، وبما عُرف عنه من شهامة ومناقبية ، اختار المواجهة والثورة ورفع شعارا
تعبويا هو : « هيهات منا
الذلة »
، وقرر الخروج من المدينة المنورة خوفا على ثورته من أن يُقضى عليها وهي في المهد
، وتوجه في أول الأمر إلى مكة المكرمة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، واختار
في مسيره الطريق العام ، ولم يسلك الطرق الفرعية الوعرة ، مما يغلب على الظن بأن
الحسين 7 كان يبتغي
إعلان دعوته على الرأي العام ، وهذا الأمر لا يتحقق على الوجه الأكمل لو سلك الطرق
الجانبية التي قد تُؤمّن له الاستتار لا غير.
يروي الشيخ المفيد 1 « أنّ الحسين 7 سار إلى مكّة ولزم الطّريق الأعظم ، فقال
له أهل بيته : لوتنكّبتَ الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير لئلاّ يلحقك الطّلب؟
فقال : لا واللّه لا
أُفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض
» . وفي رواية
أنّه 7 قال لهم : «
أتخافون
الطلب؟ قالوا : أجل! فقال الحسين 7 : لن أحيد الطريق حذر الموت
» .
وأيضا سلك الطريق العام لما خرج قاصدا
العراق ، علما بأنّ السلطات الحاكمة أرادت منعـه من الخروج من مكّة ، قالوا : « لمّا
خرج من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها ، عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند ،
فقال : إنّ الأمير يأمرك بالانصراف ، فانصرف ،
__________________
وإلاّ منعتك. فامتنع
عليه الحسين ، وتدافع الفريقان ، واضطربوا بالسياط. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد ، فخاف
أن يتفاقم الأمر ، فأرسل إلى صاحب شرطة ، يأمره بالانصراف » .
ثم إن عدم اتجاه الإمام الحسين 7 إلى العراق بصورة مباشرة ـ وهو مقصده
الرئيسي ـ وذهابه إلى مكة في موسم الحج ، يعطينا قناعة راسخة بأنه يريد إعلان
دعوته على الملأ ، وخاصة في هذا الوقت الذي يكون عادةً وقتا مناسبا لتجمع الحجيج
من كل فجٍّ عميق.
مهما يكن من أمر فانه 7 توجه إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة
ستين للهجرة ، فأقام بها وقضى فيها عدة أشهر : شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.
ولابدّ من التنويه على أن مكة أصبحت
القاعدة الرئيسية للمعارضة ضد السلطة الأموية ، وفيها تحصّن عبد اللّه بن الزبير
المعارض الثاني للسلطة ، وكان بإمكان الإمام أن يتحصّن في مكة ، ويستفيد من موقعها
الديني المقدس ، وطبيعة أرضها الوعرة الصالحة لخوض حرب العصابات ، لكن الإمام 7 غادرها خوفا على قدسيتها من الدَّنس
وخشيةً من إراقة الدماء فيها.
فبادر بالخروج منها قبل أن يبادر الطرف
المعادي ويسعى لمحاصرته أو اغتياله ، حتى أن الفرزدق الشاعر عندما لاقى الحسين 7 في الطريق سأله باستغراب قائلاً له : «
ما أعجلك عن الحج؟! ... فأجابه الحسين 7
:
__________________
لو
لم أعجل لأخذت » .
أما السلطة الأموية ، فبعد أن تبين لها
بأن الحسين 7 ـ وهو الذي
تحسب له ألفَ حساب ـ قد رفض البيعة وغادر المدينة ، ثارت ثائرتها ووضعت قواتها في
المدينة ومكة والكوفة في حالة استنفار دائم لمراقبة تحركات الإمام في حلّه وترحاله.
يروي الدينوري : « أنّ يزيدا كتب إلى
عبيداللّه بن زياد : قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد فصل من مكّة متوجّها إلى ما
قبلك ، فأدرك العيون عليه ، وضع الأرصاد على الطرق ، وقم أفضل القيام ، غير ألا
تقاتل إلاّ من قاتلك ، واكتب إليَّ بالخبر فيكلّ يوم » .
ثمّ إنّ زياد وامتثالاً لأمر يزيد « وجه
بالحصين بن نمير ـ وكان على شرطه ـ في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة ، وأمره أن
يقيم بالقادسية إلى القطقطانة
، فيمنع من أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز إلاّ من كان حاجّا أو معتمرا
ومن لا يتّهم بممالاة الحسين » .
وقد اتخذ الحسين القائد مجموعة من التدابير الاحترازية ، وهي :
أولاً : الحماية
الشخصية :
عند لقاء سيّد الشهداء 7
بوالي المدينة ، الوليد ابن عتبة ، بعد موت معاوية ، سار اليه وبرفقته جماعة من
شبّان بني هاشم وسيوفهم مسلولة ومخفيّة تحت ثيابهم ، وأوصاهم بالبقاء خارج
__________________
الدار ، فاذا ارتفع
صوت الإمام من الداخل ، فعليهم باقتحام الدار والعمل بما أمرهم به.
يروي الشيخ المفيد 1 « أنّ الوليد ـ والي المدينة ـ أنفذ
إلى الحسين 7 في الليل
فاستدعاه ، فعرف الحسين الّذي أراد فدعا جماعةً من مواليه وأمرهم بحمل السلاح ، وقال
لهم : إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولستُ آمن أن يكلّفني فيه أمرا لا
أجيبه إليه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن
سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منَّي » .
ولم يكن هذا التدبير الوقائي إلاّ
احترازا من أي خطر أو سوء قد يبديه الوليد ، وذكروا أنّ المرافقين له بلغ عددهم
ثلاثين شخصا .
ثانيا : استطلاع
التحركات المعادية :
لمّا سار أبو عبد اللّه 7
مع عياله وأتباعه من المدينة إلى مكّة ، أبقى أخاه محمد بن الحنفية في المدينة
كعين استطلاعية لموافاته بأيّ تحرّك من جانب السلطة ، واطلاع الإمام على ما يجري
في المدينة ، قائلاً له : « أمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة فتكون لي
عينا عليهم لا تخف عليّ شيئا من اُمورهم » .
ثالثا : إفشال
محاولة الاغتيال :
« بلغ الإمام 7
أنّ يزيدا أرسل جماعة بإمرة عمرو بن سعيد الأشدق لقتله أو القبض عليه ، فعمل
الإمام 7 على
__________________
إفشال خطّة الاغتيال
لأجل صيانة حرمة الحرم الإلهي ، ولكي لا يراق دمه في مكّة ، فاستبدل الحجّ بالعمرة
، وخرج من مكّة في الثامن من ذي الحجة » .
كما دسَّ إليه يزيد بعض رجال شرطته
لاغتياله ، يقول عبد اللّه بن عباس في رسالته ليزيد : « وما أنسى من الأشياء فلست
بناسٍ اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه 9
إلى حرم اللّه ، ودسّك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة ، فخرج
منها خائفا يترقّب ، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما ، وأعزّ أهلها بها
حديثا ، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما ، واستحلّ بها قتالاً » .
وقد زاد من توجّس السلطة اليزيدية وصول
سفير الحسين 7 مسلم ابن
عقيل إلى الكوفة ، وقيامه بأخذ البيعة للحسين 7
، وتهيئته المقدمات اللازمة لمقدم الإمام 7
، وسعيه للسيطرة على بيت الإمارة في الكوفة.
وكانت الاستخبارات الأموية نشطة وفعالة
في الكوفة ، فقامت بإرسال التقارير الدورية عن تحركات مسلم بن عقيل 7 ، وكذلك عن حالة أمير الكوفة النعمان
بن بشير الذي كان ـ حسب تقييمهم ـ ضعيفا أو متضاعفا لعدم تصديه الحازم لنشاطات
مسلم بن عقيل 7
، ولعدم سيطرته على الأوضاع المضطربة في هذه الإمارة ذات الأهمية الاستراتيجية.
__________________
درست القيادة الأموية في الشام الموقف
من جميع جوانبه ، فقد عقد يزيد ابن معاوية مجلسا استشاريا بحضور أحد كبار مستشاريه
ويدعى سرجون النصراني ، وكان الأخير قد أشار على يزيد برأي أبيه معاوية ، وهو أن
يولّي عبيد اللّه بن زياد والي البصرة آنذاك على المِصرين ـ البصرة والكوفة ـ وذلك لما عُرف عنه من قسوة متناهية
وسعة حيلة ، فأصدر يزيد بن معاوية أمرا عسكريا مقتضبا إلى عبيداللّه بن زياد تقدح
عباراته نارا وشَرَرا ، ومما جاء فيه : « فسر حين تقرأ كتابي الكوفة ، فتطلب ابن
عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام » . وفي رواية الطبري : « وكتب إليه أن
يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده » .
لقد وجدت القيادة الأموية بأنّ مرور
الوقت ليس في مصلحتها ، فكل تأخير أو تهاون سوف يؤدي إلى وصول الحسين 7 إلى العراق ، ومن يُهيمن على هذا البلد
الحيوي فسوف يتمكن من تهديد معقل القيادة وخطوط مواصلات الشام ، وربما يجدد العراق
على الشام حرب صفين في وقت تخلو أرض الشام من الداهيتين معاوية وابن العاص.
ثمّ إنّ الحسين 7 أخذ يتعرّض للقوافل التجارية لبني أمية
، وهي ـ كما هو معروف ـ تشكل العصب الاقتصادي للنظام الأموي ، قالوا : « لما فصل
الحسين بن علي من مكّة سائرا ، وقد وصل إلى التنعيم لحق عيرا مقبلة
__________________
من اليمن ، عليها
ورس وحناء ، ينطلق
به إلى يزيد بن معاوية ، فأخذها وقال لأصحاب الإبل : من أحبّ منكم أن يسير معنا
إلى العراق أوفيناه كراه ، وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من هاهنا أعطيناه
من الكرى بقدر ما قطع من الأرض. ففارقه قوم ، ومشى معه آخرون » .
وصل عبيد اللّه إلى الكوفة ليلاً متخفيا
وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين 7 ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين رأوا
عبيداللّه أنه الحسين ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلموا عليه وقالوا :
مرحبا يا بن رسول اللّه ، قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه ، ولما أدرك خطورة الموقف ، قام
بالسيطرة على المراكز الحساسة في المدينة ، وعزل أميرها النعمان بن بشير ، واتبع
أسلوب الترغيب والترهيب مع أهلها ، وأخذ باعتقال وإعدام كبار الزعماء الموالين
للحسين 7 ، وتمكن
بواسطة مخابراته من تحديد مكان إقامة مسلم بن عقيل 7
في دار هانئ بن عروة
، فسارع إلى اعتقاله وإعدامه ، كما اتخذ تدابير عسكرية عاجلة منها إرسال مجموعة من
دوريات الاستطلاع لمراقبة حدود الحجاز وسد منافذ الطرق منها وإليها ، كما أرسل
دورية قتالية مؤلفة من ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، لتحول دون وصول
الحسين 7 إلى الكوفة
أو الأقاليم القريبة منها ، إذ كان التخوف
__________________
الأموي شديدا من
وصول الدعوة الحسينيّة إلى ما وراء الفرات وحدود بلاد العجم.
٢
ـ المعلومات
يقرر القائد خطته وفقا للمعلومات التي
يتمكن من الحصول عليها ، وكلما كانت المعلومات أوثق وأدق كلما كانت الخطة محكمة ، ويجب
أن تتضمن المعلومات نية العدو ، وعدد قواته وتنظيمها ، وأنواع أسلحتها وتجهيزاتها
، وأسلوب قتالها ، وطبيعة الأرض التي سوف تدور رحى الحرب عليها.
والإمام الحسين 7 كقائد ميداني كان يسعى جاهدا للحصول
على المعلومات أولاً بأول عن عدوه ، والملاحظ أنه اتبع ثلاثة أساليب أساسية :
الأسلوب
الأول : استنطاق المسافرين والاستفسار منهم
ومن أمثلة ذلك أن الإمام 7 لما بلغ منطقة ذات عرق تلقى بشر بن
غالب الأسدي قادما من العراق ، فسأله عن أهلها ، فقال : خلفت القلوب معك والسيوف
مع بني أمية! فقال الحسين 7
حينئذ : « صدق أخو
بني أسد ، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
» . وكنا قد
تطرقنا إلى مقابلة الحسين 7
للفرزدق الشاعر والشيء الجديد هنا أن الفرزدق يذكُر أن الحسين 7 بادره بالسؤال التالي مستفسرا : « أخبرني عن الناس خلفك؟
» فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ،
__________________
والقضاء ينزل من
السماء ، واللّه يفعل ما يشاء. فقال الحسين 7
للفرزدق : « صدقت للّه الأمر
، وكل يوم ربنا هو في شأن .. » .
فالإمام 7
يطّلع على الموقف بنفسه أولاً بأول ، وينقله إلى أصحابه حتى يتعرفوا على المستجدات
ويكونوا على بصيرة من أمرهم.
ومن الشواهد ذات الدلالة على هذا
الأسلوب ، أنّه « لمّا رحل الحسين من زرود تلقّاه رجل من بني أسد ، فسأله عن
الخبر. فقال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، ورأيت
الصبيان يجرون بأرجلهما. فقال : إنّا
للّه ، وإنّا إليه راجعون ، عند اللّه نحتسب أنفسنا.
فقال له : أنشدك اللّه يا ابن رسول
اللّه في نفسك ، وأنفس أهل بيتك ، هؤلاء الذين نراهم معك ، انصرف إلى موضعك ، ودع
المسير إلى الكوفة ، فواللّه مالك بها ناصر.
فقال بنو عقيل ـ وكانوا معه ـ : ما لنا
في العيش بعد أخينا مسلم حاجة ، ولسنا براجعين حتى نموت ، فقال الحسين : فما خير في العيش بعد
هؤلاء ، وسار » .
فسار الحسين 7 حتى انتهى إلى بطن العقيق ، فلقيه رجل
من بني عكرمة ، فسلم عليه ، وسأله الإمام بطبيعة الحال عن الأخبار فأخبره « بتوطيد
ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العذيب رصدا له. ثمّ قال له :
__________________
انصرف بنفسي أنت ، فواللّه
ما تسير إلاّ إلى الأسنّة والسيوف ، ولا تتكلنّ على الذين كتبوا لك ، فإنّ أولئك
أوّل الناس مبادرة إلى حربك. فقال له الحسين : قد ناصحت وبالغت ، فجزيت خيرا » .
الأسلوب
الثاني : المكاتبات
كان الحسين 7 يكتب باستمرار إلى أنصاره وشيعته في
الولايات والبلدان ، وخاصة إلى اليمن والكوفة والبصرة ، وهي المناطق المعروفة بحب
آل البيت : وموالاتهم ،
ينقل تعليماته إليهم ويطلع على كل المستجدات ، ولكن وسيلة المكاتبات هذه لا يمكن
الاعتماد عليها كليا في الحصول على المعلومات ونقلها ، وذلك لأن حامل الكتاب في
بعض الاحيان يقع في فخ مخابراتي ويُكتشف أمره ويتعرض بالتالي إلى العقوبة القاسية
أو يتعرض للتعذيب من أجل الكشف عن الجهة المكلف بإرسال الكتاب إليها ، كما حصل مع
قيس بن مسهر الصيداوي الذي كلفه الحسين 7
بايصال كتاب سري للغاية إلى سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد
وجماعة الشيعة بالكوفة ، فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ـ صاحب عبيد
اللّه بن زياد ـ ليفتشه ، فأخرج قيس الكتاب ومزّقه ، فحمله الحصين بن نمير إلى
عبيد اللّه ، فلما مَثُل بين يديه قال له : من أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب 7
وابنه. قال : فلماذا خرَّقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم ما فيه. فحاول عبيد اللّه التحقيق
__________________
معه وانتزاع
الاعتراف منه. وقال له : وممن الكتاب وإلى من؟ قال : من الحسين 7 إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف
أسماءهم ، فغضب ابن زياد وقال : واللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم
، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا قطعتك إربا إربا ، فقال
قيس : أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأما لعن الحسين وأبيه وأخيه فأفعل. فصعد
المنبر فحمد اللّه وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين ، ثم لعن عبيد اللّه بن
زياد وأباه ، ولعن عُتاة بني أمية عن آخرهم ، ثم قال : أيها الناس ، أنا رسول
الحسين اليكم ، وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه ، فأمر عبيد اللّه بإلقائه من أعالي
القصر .
وفي رواية الشيخ المفيد 1 : « أنّه قال : أيّها الناس ، إنّ هذا
الحسين بن عليٍّ خيرُ خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه وأنا رسوله إليكم
فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب 7 وصلى عليه » .
من هذا الموقف يظهر لنا جليا بأن الإمام
يختار حملة كُتبه من ذوي الخبرة والكفاءة والشجاعة والأمانة للتقليل من الآثار
السلبية للمكاتبات التحريرية.
الأسلوب
الثالث : الاستطلاع
اتبع الحسين القائد 7 هذا الأسلوب في مسيره نحو العراق ، كان
__________________
يستطلع بنفسه
وأحيانا يؤلف دورية استطلاع قليلة العدد ، تكون في طليعة قواته ، ليحصل من خلالها
على المعلومات عن مدى اقتراب دوريات العدو التي تحاول صده عن الوصول إلى هدفه ، ويحاول
التعرف على الطُرق ومصادر المياه ، ومن مصاديق ذلك أن الإمام الحسين 7 عندما وصل منطقة الثعلبية ونزل بها ، نظر
إلى سواد مرتفع ، فقال لأصحابه : « ما هذا السواد
»؟ فقالوا : لا علم لنا بذلك. فقال : « انظروا ثانية ». فقالوا : خيلٌ مقبلة. فقال
: « اعدلوا بنا
عن الطريق ». لأنه لا يريد المواجهة العسكرية قبل
الوصول إلى الكوفة. قال وهو واقف للاستطلاع : « فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا
» .
وإذا هم ألف فارس يقدمهم الحر بن يزيد
الرياحي. وهذه الحادثة مفادها : أن الحسين 7
عندما بلغ منطقة ذي حسم كبّر رجلٌ من أصحابه تكبيرة الإعجاب ، وكان ضمن قوات
الاستطلاع التي وضعها الإمام في طليعة الرَّكب ، فقد تصور هذا الرجل أنه رأى نخيل
الكوفة ، فلذلك أخذ يُكبّر بأعلى صوته ، مبشرا بالوصول إليها ، ولكن الجماعة
المكلفة بالاستطلاع لم تقتنع بذلك ، وبعد التدقيق في صحة الخبر تبين لهم أنها رؤوس
رماح ، تحكي عن قدوم قوة عسكرية ، فتحيز الحسين 7
برحله إلى هضاب ذي حسم ، واتخذ وضعا دفاعيا مرتجلاً ، وأصدر تعليماته العسكرية فقد
« خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها
من بعض ، وأن يكونوا هم بين
__________________
البيوت إلا الوجه
الذي يأتيهم منه عدوهم » .
ومهما يكن من أمر فإن الحسين 7 كان يستطلع أكثر الأوقات بنفسه أو
بواسطة مفرزة استطلاع من أجل الحصول على المعلومات المتيسرة ـ ولو على وجه
السُّرعة ـ عن العدو وعدد قواته وتجهيزاته وتحركاته.
٣
ـ تمحيص القوات وتطهيرها
سعى الإمام 7 إلى تطهير قواته من عناصر الفتنة
والخذلان وأصحاب الأهواء والمصالح ، إدراكا منه بأن قوة الجيش لاتُقاس بعدد جنوده
بل بمدى تحلّيهم بعناصر الضَّبط الذي هو أساس الجندية ، ومدى درجة إيمانهم بحقانية
الحرب التي سوف يخوضونها.
ومعنى الضبط : هو إطاعة الأوامر
وتنفيذها بحرص وأمانة وإخلاص وعن طيب خاطر ، وهذه الأمور يفتقد إليها بعض من التحق
بجيش الإمام طلبا للمنصب أو المَغْنم ، فهؤلاء ـ أقصد أهل الأهواء والمطامع ـ
بدأوا بالتفرُّق سرا وعلانيةً ، ليلاً ونهارا بمجرّد سماعم بشهادة مسلم بن عقيل
(سلام اللّه عليه) ، الذي تناهى إلى أسماعهم في منطقة زبالة.
والحسين القائد 7 لم يخفِ هذا الأمر الجلل عن جنده ، فقد
عقد مؤتمرا عاما لأهل بيته وأصحابه ، وقام خطيبا فأطلعهم على ذلك الخبر المؤسف حول
شهادة سفيره وعميد بيته مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه) ، ولم يبدِ من مظاهر الحزن
سوى الإكثار من الاسترجاع ، وأخفى كل مشاعر حزنه
__________________
في سويداء قلبه ، لأن
العيون لدى الشدائد شاخصة إلى قائدها ، فإن بدا عليه لائحة حزن عمّ الغم وضعفت
المعنويات وخارت العزائم ، مع ذلك فإن ثلّة من الملتحقين به بدأوا بالتخلي عنه
إيثارا للراحة وطلبا للعافية.
يذكر الشيخ المفيد 1 أنه لما تناهي لهم في منطقة زبالة خبر
مقتل مسلم ( سلام اللّه عليه ) أخرج الإمام الحسين 7
للناس كتابا فقرأه عليهم ، وجاء فيه :
« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّه
أتانا خبر فظيع؛ قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبداللّه بن يقطر ، وقد
خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام
» .
بعدها دعا الحسين 7 أصحابه للتفرُّق ، وبيّن لهم أن طرق
النجاة مفتوحة أمامهم ، وليست هذه المرّة الأولى التي يطلب فيها الحسين 7 من أصحابه بالتفرُّق عنه ، فقد جدَّد
ذلك الطلب قبل معركة عاشوراء ، عندما جمع قواته وقال لهم : « ان القوم يطلبونني ولا
يريدون بدلاً عني » وطلب منهم أن
يتخذوا من اللَّيل جملاً ليستر انسحابهم ويحفظ ماء وجوههم ، قال لهم : « .. فجزاكم اللّه جميعا
عني خيرا ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من
أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ، فإنّهم لا يريدون
غيري .. » . فتفرَّق
__________________
أصحاب الأهواء
والمصالح ، وبقي معه خلّص أصحابه الَّذين بايعوه على الموت وأظهروا من السَّمع
والطاعة لقيادته ما يصلح أن يكون نموذجا يُحتذى به .. كانوا يتسابقون إلى الموت ، ويقونه
من السِّهام والرِّماح بأبدانهم ، ويذودون عن قائدهم كما تذود اللّبوة عن أشبالها.
٤
ـ الحوار وعدم البدء بالقتال
سار الحسين 7 مع أهل بيته وخُلّص أصحابه سيرا حثيثا
نحو العراق ، ولم يفتّ من عضده مقتل سفيره مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه) ، وخذلان
أهل الكوفة له ، فقرر المضي إلى آخر الشوط ، فلما وصل على بعد مرحلتين من الكوفة ،
ظهرت ـ كما أسلفنا ـ طلائع دورية الحر بن يزيد الرياحي القتالية المؤلفة من ألف
فارس ، فقال الحسين 7
للحر مستفهما : « ألنا .. أم علينا؟ ». طرح الإمام 7
هذا السؤال لأن بعض القوات كانت تلتحق في صفوف جيشه أثناء تقدمه ، فقال الحر
الرياحي : بل عليك يا أبا عبد اللّه! .
وبعد مناقشات ومشادات كلامية بين
الجانبين ، حاول الإمام 7
إقناع الحر بالسماح له بالمسير نحو الكوفة ، وعرض عليه الكتب المرسلة إليه من
زعمائها وأهل الرأي فيها ، لكن الحر أصرّ على رفض هذا الأمر ، وتمخّض النقاش عن
حلّ وسط يُرضي الطرفين ؛ وهو أن يسلك الإمام 7
طريقا لا يدخله إلى الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة ، وكانت قوات الحر الرياحي
__________________
تواكب سير قافلة
الحسين (سلام اللّه عليه) حتى لا تحيد عن الخطة المرسومة لتحركها.
قال الشيخ المفيد 1 : « تردّد الكلام بينهما حتى قال له
الحسين 7 : فإذا كنتم على خلاف ما
أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم ، فإنّني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه
، فمنعه الحرّ وأصحابه من ذلك. وقال : بل خذ يا ابن رسول اللّه طريقا لا يدخلك
الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة ، لأعتذر أنا إلى ابن زياد بأنّك خالفتني في الطريق
، فتياسر الحسين 7
حتى وصل إلى عذيب الهجانات قال : فورد كتاب عبيداللّه بن زياد إلى الحرّ يلومه في
أمر الحسين 7 ، ويأمره
بالتضييق عليه ، فعرض له الحرّ وأصحابه ومنعوه من السير ، فقال له الحسين 7 : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق. فقال
له الحرّ : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيداللّه قد وصل يأمرني فيه بالتضييق ، وقد
جعل عليَّ عينا يطالبني بذلك » .
وهكذا انقلب الموقف رأسا على عقب بصدور
أمرٍ عسكري صارمٍ من عبيد اللّه بن زياد يطلب فيه من الحر الرياحي أن يُضيق الحصار
على قوات الإمام ويوقف مسيرتها ، وعيّن ابن زياد ضابط استخبارات عسكرية كلّفه
بمراقبة مدى التزام الحر الرياحي بهذا الأمر الصادر إليه ، وكان النَّص الحرفي
للأمر هو : « أما بعد ، فجعجع بالحسين ، حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، ولا
تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ، ولا
يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك
__________________
أمري والسلام » .
قاوم الحسين 7 هذا الأمر الصارم بكل قوة وعزم ، لكنه
أبقى باب الحوار مع الحر مفتوحا ، فكلما أراد الإمام المسير كانوا يمنعونه تارة
ويسايرونه أُخرى حتى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرم.
ولم يكتف ابن زياد بالقوة الضاربة
المؤلفة من ألف فارس التي أرسلها في طليعة قواته مع الحر الرياحي ، حتى أرسل قوةً
أُخرى إضافية لتشديد الحصار المضروب على قوات الإمام 7
، وقد بلغت هذه القوة خمسة آلاف مقاتل بقيادة عمر بن سعد ، وكانت مكتملة التسليح
والتجهيز ، وتملك مواد الإعاشة ووسائل التمويل من غذاء وماء.
وعندما أخذ الحل السِّلمي يتضاءل رويدا
رويدا وباتت احتمالاته شبه معدومة ، اقترح بعض قادة جيش الحسين الميدانيين
المبادرة بالقتال ، وفي هذا الصدد قال زهير بن القين : « إنِّي واللّه ما أراه
يكون بعد الذي ترون إلا أشد مما ترون ، يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء الساعة
أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قِبَل لنا به ، فقال
الحسين 7 : ما كنت لأبدأهم
بالقتال » .
وتجدر الإشارة إلى أن ابن القين لم يصل
إلى قناعته بالحرب إلاّ بعد أن بالغ في النُّصح بحيث وصل الأمر إلى أن يُرمى بسهم
من قبل شمر بن ذي الجوشن الذي عنّفه على المبالغة في نصحه ، وقال له : « اسكت ..
أبرمتنا
__________________
بكثرة كلامك » . علما بأنّ ابن القين ـ حسب رواية
الطبري : « قد خرج على فرس له ذنوب ، شاكٍ في السلاح ، فقال : يا أهل الكوفة ، نذار
لكم من عذاب اللّه نذار! إنّ حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن
إخوة ، وعلى دين واحد وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة
منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة ... قال : فسبُّوه
، وأثنوا على عُبيداللّه بن زياد ، ودعوا له ، وقالوا : واللّه لا نبرح حتى نقتل
صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيداللّه سِلما. فقال لهم : عباد
اللّه ، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سُمَيّة ، فإن
لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن
معاوية ، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. قال : فرماه شِمر بن
ذي الجوشن بسهم » .
وهكذا نلاحظ بأن الإمام 7 قد بالغ مع أصحابه في الدعوة إلى
السِّلم مع الحرص الشديد على مَدّ جسور الفهم والتفاهم مع أعدائه ، وعليه كان يحجم
عن إصدار أوامر القتال على الرغم من تدفّق القوات المعادية من حوله كالسيول حرصا
منه على حقن دماء المسلمين وحلّ النِّزاع بالطرق السِّلمية ، لاسيما وانه اتبع
وسائل سلمية عديدة منها : تذكيرهم بالكتب المرسلة إليه والعهود التي قطعت له
بالولاء والنصرة ، كما أنه عرّفهم بنفسه
__________________
وحسبه ونسبه وقربه
من رسول اللّه 9
، زد على ذلك أنه عقد مباحثات مطولة مع أركان وقادة الجيش المعادي له.
يروي الطبري أنّ أحد الحضور في كربلاء
قد أقرّ باتّباع الحسين 7
للمنطق في حواره معهم لتبيان الحقائق ، قال : « فواللّه ما سمعت متكلّما قط قبله
ولا بعده أبلغ في منطق منه » .
وذكر الطبري كذلك أنّ الحسين 7 خاطبهم قائلاً : « أمّا بعد فانسبوني
فانظروا من أنا؟ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك
حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم 9 ، وابن وصيّه ، وابن
عمّه ، وأوّل المؤمنين باللّه والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة
سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمي؟ أولم يبلغُكم
قول مستفيض فيكم : إنّ رسول اللّه 9 قال لي ولأخي : هذان
سيّدا شباب أهل الجنّة! فإنْ صدّقتموني بما أقول ـ وهوالحقّ ـ فواللّه ما تعمّدت
كذبا مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فإنّ
فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ... أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي!
فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له
حبيب بن مظاهر : واللّه إني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنّك
صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع اللّه على قلبك » .
__________________
يذكر أبو مخنف في مقتله : بان الحسين 7 كان يجلس مع ابن سعد ليلاً ويتحدثان
طويلاً حتى يمضي من اللّيل شطره ، قال : « فتكلما فأطالا حتى ذهب من اللّيل هزيع ،
ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه » .
وكانت أساليب الحسين 7 السِّلمية تقابلها نزعة حربية طاغية
ورغبة ملحّة بتعجيل القتال من قبل بعض قادة الجيش المعادي كشمر بن ذي الجوشن الذي
كان يصرّ على القتال ووضع الحدّ للحوار الدائر بين الجيشين ، وقد استغرب الحر
الرياحي من اندفاع شمر للقتال ، وتعجله بالشر ، فالتفت الحر الرياحي لابن سعد ، وقال
: أمقاتل أنت هذا الرجل؟! فقال ابن سعد : إي واللّه قتالاً أيسره أن تقطع الأيدي
وتطيح الرؤوس. عندئذ انعقدت الدهشة لسان الحر وأصابه مثل الإفكل ـ أي الرِّعدة ـ
فقال له المهاجر بن أوس : واللّه إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة
لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال : واللّه إنّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة
والنار ، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وأُحرقت. ثم التحق بصفوف
الحسين 7 .
تجدر الإشارة إلى أن موقف ابن سعد
القائد الميداني كان مترددا في البداية بالقتال ، وكان بين الاقدام والاحجام ، ويلتمس
العذر في بداية الأمر ، ولكن المغريات التي قُدمت اليه كالحصول على ولاية الرّي قد
قلبت
__________________
قناعته رأسا على عقب
، فرجَّح خِيارَ الحربِ على السِّلم ، واطلق إشارة بدأ القتال بسهم من قوسه معلنا
الحرب على أبناء الرسول 9!
٥
ـ الأعمال التمهيدية
أدرك الحسين 7 أن القتال أصبح خيارا لا مفرّ منه ، بعد
أن تلاشت آماله في السَّلام المشرِّف ، وواجه الحقيقة المرّة من حيث كونه محاصر من
جميع الجهات ، ومصدود عن الماء ووسائل التموين والإعاشة ، مع كل ذلك لم يقف مكتوف
اليدين ، بل أعدّ قواته للدفاع المستميت ، وقام بجملة من الأعمال التمهيدية ، كان
من أبرزها ما يلي :
١ـ انتخب موضعا بنى فيه مقر قيادته ، حيث
أمر بفسطاط فنصب عند الصباح من يوم المواجهة.
٢ـ رتّب موضعه الدفاعي بالعمق ، فبعد أن
وجد معسكره في بقعة جرداء لا تتوفر فيها مزايا الدفاع ، سبرَ غور الوهاد والأنجاد
، وأشرف على سلسلة هضاب وروابي تليق حسب مزاياها الطبيعية بأن تتخذ للحرم والخيم ،
وكانت الرَّوابي والتلال متدانية على شاكلة الهلال ، وهو المسمى ( الحير ) أو ( الحائر
) .. ثم أن الإمام الحسين 7
رأى بجنب هذه وجنوبها رابية مستطيلة أصلح من اختها للتحصن ، لأن المحتمي بفنائها
يكتنفه من الشمال والغرب ربوات تقي من عاديات العدو برماة قليلين من صحب الإمام
الحسين 7 ، اذا
اختبأوا في الرَّوابي ، وتبقى من جهتي الشرق والجنوب جوانب واسعة تحميها أصحاب
الإمام الحسين 7
ورجاله ، ومنها يخرجون إلى لقاء العدو أو تلقّي الرُّكبان ، فنقل إلى هذا الموضع
حرمه
ومعسكره ويُعرف الآن
( المخيم ).
فصارت منطقة الحائر منطقة حرام
(بالاصطلاح العسكري المعاصر) فاصلة بينه وبين معسكر الأعداء ، وأمر أصحابه أن
يقربوا البيوت بعضها من بعض ، حتى تتمكن قواته من خوض المعركة بقوة أقل ، وتوقع
بالعدو خسائر أكثر ، قال أبو مخنف : « فقال الحسين 7
: أما لنا
ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم في وجه واحد
، فقلنا له : بلى هذا ذو حسم ( اسم جبل ) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت
القوم إليه فهو كما تريد ، قال : فأخذ إليه ذات اليسار ، قال : وملنا معه ، فما
كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا ، فلما رأونا وقد عدنا عن
الطريق عدلوا إلينا ، كأن أسنتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير. قال : فاستبقنا
إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين 7
، فأمر بأبنية فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي » .
وهذا النص يثبت لنا بأن الحسين 7 كان يفكر تفكيرا عسكريا راقيا ، وكان
لا يستبدّ برأيه بل يستشير أصحابه ، ويسأل دائما عن المكان المناسب لكي يُتّخذ
كموضع دفاعي ، والنصّ صريح ـ أيضا ـ بأن كل طرف كان يتسابق مع الطرف الآخر ، ويسعى
للحصول على المكان المناسب لخوض الحرب.
٣ ـ قام بمحاولات جريئة للوصول إلى شاطى
ء الفرات المحروس بقوات محصنة تحصينا جيدا ، وموزعة كمائنها على المشرعة بصورة
شبكة
__________________
يصعب اختراقها ، ولكن
رواة المعركة ـ كأبي مخنف ـ قد اعترفوا بأن العباس ( سلام اللّه عليه ) تمكن من
اختراق صفوف القوات المكلفة بحراسة المشرعة ، وجلب الماء ، ولكن في محاولته الثانية لجلب الماء
تمكنت الكمائن المنصوبة في طريقه من منعه من إيصال ماء القربة إلى العيال والأطفال
، بواسطة قناصيها المنتشرين بين النَّخيل ، فقد أمطروه بسيل من السِّهام ، نفذ
أحدها إلى القربة وأراق ما فيها من الماء ، ثم أن أحد أفراد هذه الكمائن تمكن من
إصابة العباس ( سلام اللّه عليه ) بعمود من حديد على هامته.
ضمن هذا السياق يُروى أن الحسين 7 قام ـ أيضا ـ باختراق تحصينات وحشود
العدو المنتشرة على المشرعة ، ودخل الفرات ، وأراد أن يشرب الماء لولا الخدعة التي
منعته من ذلك ، وهي : مناداة القوم عليه بأن الأعداء قد هجموا على حرمه وخيمه ، فكيف
يهنأ ابن الزهراء بشرب الماء وقد هتكت حُرمة حَرمه!.
٤ ـ حفر خندقا حول المخيم ، وملأه حطبا
، وأضرم فيه نارا ، لأجل أن تكون جبهة الحرب ضيقة ومن جهة واحدة ، ويبدو أن شمر بن
ذي الجوشن كان يخطط لتطويق قوات الإمام الحسين 7
، وكان يحاول الالتفاف على هذه القوات من الخلف ، ولكن خبرة الإمام 7 بشؤون الحرب وتحسّبه لكل الاحتمالات
الطارئة قد أحبطت هذه المحاولة.
ومما يعزز ذلك ، ما نقله أبو مخنف عن
الضحاك المشرقي ، قال : « لما
__________________
اقبلوا نحونا فنظروا
إلى النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا ، إذ أقبل الينا منهم رجل يركض على فرس
، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا ، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطبا
تلتهب النار فيه ، فقفل راجعا. فنادى بأعلى صوته : ياحسين استعجلت النار في الدنيا
قبل القيامة ، فقال الحسين : من
هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ، فقالوا : نعم
أصلحك اللّه هو هو ، فقال : يابن
راعية المعزى أنت أولى بها صِليّا
» .
وفي موقف آخر يكشف أبو مخنف تفاصيل أكثر
عن خطة الدفاع التي وضعتها القيادة الحسينيّة عند نشوب المعارك الحربية ، فيقول :
« وكان الحسين 7
أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية ، فحفروه في ساعة من اللّيل
فجعلوه كالخندق ، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وقالوا : إذا عَدَوا علينا
فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا ، وقاتلنا القوم من وجه واحد ، ففعلوا
وكان لهم نافعا » .
وأيضا ما رواه أبو مخنف من أن ( جبيرة
الكلبي ) وقيل ( ابن حوزة ) قال للحسين 7
بعد أن وقف بإزاء الخندق : « اتعجلت بالنار في الدنيا قبل الآخرة؟! .. فدعا عليه
الحسين 7 قائلاً : ابشر
بالنار ـ أو ـ اللهمّ حُزه إلى النار » .
وكشف لنا الدَّينوري ـ بإيجاز ـ عن
الملامح العامّة للأسلوب الميداني
__________________
الذي اتّبعه الحسين 7 ، قال : « وأمر الحسين أصحابه أن يضموا
مضاربهم بعضهم من بعض ، ويكونوا أمام البيوت ، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدودا ،
وأن يضرموا فيه حطبا وقصبا كثيرا ، لئلا يؤتوا من أدبار البيوت ، فيدخلوها » .
٥ ـ عقد الحسين 7 مؤتمرا حربيا لقادته وقواته واختار
اللّيل وقتا لانعقاده ، حتى لا تنكشف استعداداته من قبل مراصد العدو ، فقد أطلعهم
على الموقف العصيب الذي يواجهونه ، وبين لهم بأن الحرب وشيكة الوقوع ، وسمح لمن
أراد الانسحاب منهم بالذهاب وأحلّه من بيعته ، وأمر الباقين بالصبر والجهاد حتى
يقضي اللّه أمرا كان مفعولاً.
٦ ـ جمع الحسين 7 قواته وقسمها حسب التقسيم التقليدي
السائد إلى ميمنة وميسرة وقلب ، فجعل زهير بن القين ومعه عشرون فارسا على الميمنة
، يقول أبو مخنف : « وعبّأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان
وثلاثون فارسا ، وأربعون راجلاً ، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن
مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه ، وجعلوا البيوت من ظهورهم
» ، وأدخل
الأطفال والحرم إلى الخيمة. وتمكن من ترتيب قواته بحيث تبقى تحت تصرفه قوة عسكرية
احتياطية يعالج بها المواقف الطارئة.
٧ ـ أجّج معنويات جنوده إلى درجة أصبحوا
يستأنسون بالموت
__________________
والشهادة استئناس
الرضيع بمحالب اُمّه ، ويستبشرون بالجنة ويعدون الساعات إليها ، حتى أن البعض منهم
كبُرير كان يضحك ويمازح أصحابه وكأن شيئا لم يكن!.
كانت الميزة الأساسية لقوات الإمام
الحسين 7 تتمثل
بالقوة المعنوية العالية ، فقد أثبتت كل الحروب في جميع أدوار التاريخ أنّ التسليح
والتنظيم الجيّدين والعدّة العددية غير كافية لنيل النصر والصمود في وجه العدو ما
لم يتحلَّ المقاتلون بالمعنويّات العالية.
ولعل من أبرز العوامل التي عملت على شحذ
معنويات القوات الحسينيّة ، هو إحساسهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها ، وكذلك
حقانية ومظلومية الإمام الحسين 7
، كما لعبت العبادة وخاصة الصلاة دورا في شحن العزائم وشحذ الهمم .. يقول الرواة :
« بات الحسين 7
وأصحابه تلك الليلة ـ ليلة عاشوراء ـ ولهم دويّ كدويّ النحل ، ما بين راكع وساجد
وقائم وقاعد ، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً »
.
ويبدو أن المعنويات العالية التي كان
يتحلى بها أفراد الجيش الحسيني ، جعلت بعض أفراد جيش يزيد يتيقن صدق وحقانية جبهة
الحسين ، فالتحقوا بجبهته ، كما نقل الرواة أيضا بأن الحسين 7 طلب من أخيه العباس أن يحاول تأجيل
القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، قال له : « فان استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوَةِ ، وتدفعهم
عنا العشية لعلنا نصلي لربنا
__________________
الليلة
وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني قد أحبُّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، والدُّعاء
والاستغفار » .
يبدو أن الحسين 7 يريد بذلك إضافة إلى الجانب العبادي أن
يُؤجج العامل المعنوي في نفوس مقاتليه القليلي العدد والعُدة ، ليصمدوا في المعركة
غير المتكافئة التي يخوضونها. يقول (توماس كارليل) ، الفيلسوف والمؤرخ الانكليزي :
« أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء ؛ هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ
باللّه ، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين
الحقّ والباطل ، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه
» .
٦
ـ سير القتال
يمكن تقسيم واقعة الطف ـ حسب التعبير
العسكري المعاصر ـ إلى صفحتين قتاليتين هما :
أولاً
: القتال الجماعي
ابتدأت المعركة عندما تقدم عمر بن سعد
نحو معسكر الحسين 7
وأطلق سهما باتجاهه وقال : « اشهدوا لي أنّي أول رام ، فقال الحسين 7 : قوموا إلى الموت الذي لا بد منه ، فنهضوا
جميعا ، والتقى العسكران الرَّجالة
__________________
مع الفُرسان ، واشتد
الصراع » .
ثم أقبلت السهام ترشق أصحاب الحسين 7 كأنها المطر ، عندها قال الإمام القائد
لأصحابه : « إن هذه
السهام رسل القوم إليكم ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة
» .
بعدها أصدر شمر بن ذي الجوشن ، وهو من
أبرز قادة أركان الجيش الأموي ، أوامره بالهجوم الجماعي عندما قال : احملوا عليهم
حملة رجل واحد .. وافنوهم عن آخرهم.
وصف أبو مخنف ضراوة المعركة ، فقال : « وقاتلوهم
حتى انتصف النهار أشد القتال ، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم الا من وجه واحد
لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض ، قال : فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالاً
يقوضونها ـ أي يهدمون البيوت ـ عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم ، قال : فأخذ
الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوّض
وينتهب فيقتلونه من قريب ويعقرونه ، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال : أحرقوها
بالنار ولا تدخلوا بيتا ولاتقوضوه ، فجاءوا بالنار فأخذوا يحرقون. فقال الحسين 7 : دعوهم فليحرقوها ، فانهم لو قد
حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا ـ أي يصلوا ـ إليكم منها ، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا
من وجه واحد » .
__________________
لاحظ كيف أن الحسين القائد كان يخطط
بمنتهى الحكمة ، ويضع بنظر الاعتبار معالجة خطط وأفكار شمر ( لعنه اللّه ) ، وكيف
أنه أراد أن يكون اتجاه المعركة من وجه واحد ، مراعيا قلة عدد قواته ، وحماية
نسائه وأطفاله من أن يُعتدى عليهن ، أو يقعن رهينةً بيد عدوه.
ومع النقص الشديد في عددهم قاتل جند
الحسين ببسالة منقطة النظير ، وبالنتيجة سقطوا في ساحة الوغى بين شهيد وجريح ، وذلك
لشدة قصف السهام ، وكون ميدان القتال بالنسبة لأصحاب الحسين 7 المحاصرين ضيقا لا يتسع للانتشار
والتبعثر الذي يقلل ـ عادة ـ من الخسائر في الأرواح.
ثانيا
: المبارزة الفردية
«من جملة تقاليد الحرب التي كانت معروفة
عند العرب ، هي أن يبرز الى ساحة القتال خصمان من الفريقين ، ويعرّفا نفسيهما
ويرتجزان ثم يتبارزان. وفي بعض المواقف كان النزال الفردي يحسم مصير القتال ، وبعد
أن يتبارز عدّة أشخاص في النزال الفردي ، يبدأ الهجوم الشامل » . والمبارزة تعني بروز الاشخاص للقتال
الفردي. وفي يوم عاشوراء استمر النزال الفردي حتى الظهر ، وحين كان جيش الكوفة
يستشعر الضعف كان يهجم على أحد أصحاب الحسين بشكل جماعي حتّى يقتلوه. وقد استشهد
بعض أنصار الحسين في النزال الفردي ، وبعضهم استشهدوا في الهجوم
__________________
الشامل الذي شنّه
جيش الكوفة على مخيم الحسين في بداية المعركة.
ابتدأت المبارزة الفردية بتوجه الحر
الرياحي بعد التحاقه بصفوف قوات الإمام الحسين 7
يطلب الإذن له بالبراز ، قال للحسين 7
: « جعلت فداك ، أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع ، وجعجع بك ، وما ظننت أنّ القوم
يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى اللّه تعالى فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسين 7 : نعم يتوب اللّه عليك. فنزل وقال : أنا
لك فارسا خير منّي لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري. ثمّ قال : فإذا كنت أوّل
من خرج عليك ، فأذن لي أنّ أكون أوّل قتيل بين يديك ، لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك
محمدا 9 غدا يوم
القيامة » .
فبرز إلى الميدان ، وهو القائد الحربي المجرّب ، فأخذ يفتك بقوات العدو ، ويتوغل
بين صفوفها في العمق ، مما أوقع في صفوفها خسائر فادحة بين قتيل وجريح ثم استشهد
رضى الله عنه.
بعدها برز برير بن خضير منفردا إلى
الميدان شاهرا سلاحه ، فخرج في مقابله يزيد بن المفضل فاتفقا على المباهلة إلى
اللّه تعالى في أن يقتل المحق منهما المبطل ، وتلاقيا فقتله برير الذي استمر يجدل
أفراد العدو إلى أن قُتل.
ثم خرج وهب بن جناح الكلبي مبارزا ، وكانت
معه امرأته ووالدته ، وبعد أن أجهده التعب ، واشتد به العطش رجع إليهما وقال : « يا
أماه أرضيت أم لا؟ فقالت الأم : ما رضيت حتى تُقتل بين يدي الحسين 7 »
،
__________________
وقصته الكاملة مدونة
في كتب المقاتل ، ونحن قد اقتصرنا على موضع الحاجة وخاصة فيما يتعلق بالجانب
العسكري.
استمرت المبارزة الفردية ، وخرج عندئذ
مسلم بن عوسجة ، فسقط على الأرض مضرجا بدمه وبه رمق ، فمشى إليه الحسين القائد 7 ومعه حبيب بن مظاهر ، فأوصى مسلم بن
عوسجة حبيبا بأن يقاتل دون الحسين 7
حتى الموت.
ثم خرج عمر بن قرظة الأنصاري ، وكان قد
جعل من جسده درعا يتقي به السِّهام والرِّماح التي تنهال على الحسين 7 كالمطر ، فلا يأتي إلى الحسين 7 سهم الا اتقاه بيده ، ولا سيف الا
تلقاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين القائد سوء حتى أُثخن بالجراح ، عندئذ
التفت إلى قائده الحسين 7
وقال له : يابن رسول اللّه ، أوفيت؟ .. فقال الحسين القائد : « نعم أنت أمامي في
الجنة » .
ولم يقتصر القتال على الأحرار من الرجال
، بل شارك فيه العبيد ، حيث برز جون مولى أبي ذر إلى الميدان ، فقال له الحسين 7 : « أنت في إذن مني ، فإنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا
تبتل بطريقنا » . فرفض القعود بإصرار ، وله كلمات
معبّرة يذكرها أرباب المقاتل ، تدل على الوفاء والإباء.
بعدها برز من تبقى من الأنصار واحدا بعد
الآخر حتى ذاقوا الحِمام ، وبقي مع الإمام الحسين 7
أهل بيته ، وهم بدورهم وردوا الميدان ابتداءً من
__________________
ولده علي الأكبر إلى
أخيه وقائد أركان حربه أبي الفضل العباس (سلام اللّه عليه) ، وانتهاءً بابن أخيه
عبد اللّه بن الحسن بعد أن سبقه إلى الشهادة أخيه القاسم بن الحسن 8 ، وفي نهاية المطاف لم يسلم من القتل
حتى الطفل الرَّضيع عبد اللّه بن الحسين الذي أصبح هدفا لسهام حرملة بن كاهل
الأسدي ، وكان من أبرز القناصين وأكثرهم دقة في إصابة الهدف ، فسدد رميته إلى نحر
الرَّضيع فذبحه من الوريد إلى الوريد وهو على صدر والده!!
لقد سطّر أولاد الحسن والحسين 8 ملاحم بطولية رائعة ، وعلى سبيل
الاستشهاد لا الحصر أراد عبد اللّه بن الحسن أن يدافع عن عمه الحسين 7 وهو جريح ، واتقى ضربةً وجهت للإمام
المطروح بيده فقطعتها إلى الجلد ، ثم رماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه!
بعدها استمر القتال الفردي بعد تصفية
القاعدة إلى القيادة ، فبادر الحسين القائد إلى البراز ، فلم يزل يُقاتل كل من
بَرزَ إليه حتى قَتلَ ـ كما يصف الرّواة ـ مقتلةً عظيمةً ، فقد وصف أحد الرجال
الذين شهدوا معركة الطفّ ـ وهو حُميد بن مسلم ـ حال الحسين 7 وهو يخوض غمار الحرب ، فقال : « واللّه
ما رأيت مكثورا قط ، قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً
منه 7 ، إن كانت
الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا
شد فيها الذئب »
، وكانوا ينهزمون بين يديه. واستمر الحال على ذلك المنوال حتى أُثخن
__________________
بالجراح.
عن جعفر بن محمد بن علي : ، قال : « وجد بالحسين 7 حين قُتل ثلاث وثلاثين طعنة وأربع
وثلاثون ضربة ، قال : وجعل سِنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين إلاّ شدّ عليه
مخافة أن يغلب على رأسه » .
وكان 7
يقوم بدور حربي مزدوج؛ فمرّة يشنُ هجوما مقابلاً ، ومرّة أخرى عند اشتداد العطش
وتزايد الطعان يتمسك بموقف الدفاع. كان يحمل عليهم ويحملون عليه ، وهو مع ذلك يطلب
شربة من ماءٍ فلا يجد حتى كثرت جراحه ، فبينما هو واقف إذ اتاه حجر فوقع على جبهته
، فأخذ الثوب ليمسح الدَّم عن جبهته ، فأتاه ـ حسب وصف الراوي المذكور ـ سهم مسموم
له ثلاث شعب فوقع على قلبه ، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره ، فانبعث الدم كأنه
ميزاب ، فضعف عن القتال .
ولما أحس القوم بضعفه حملوا على مقر
قيادته ، فطعن شمر فسطاط الحسين 7
بالرمح وقال : « عليّ بالنار اُحرقه على من فيه. فقال الحسين 7 : يابن ذي الجوشن أنت الداعي بالنار
لتحرق على أهلي؟ أحرقك اللّه بالنار » .
أما الطعنة القاضية التي وجهت للحسين 7 ، فكانت من قبل صالح بن وهب حيث سددها
إلى خاصرته ، فسقط عندئذ عن فرسه إلى الأرض
__________________
على خده الأيمن ،
بعدها أصدر شمر أمرا يطلب فيه الإجهاز الجماعي على الإمام 7 قائلاً لأصحابه : ما تنتظرون بالرجل؟!
.. فحملوا عليه من كل جانب ، وأفرغ كل منهم حقده إما بطعنة رمح أو رمية سهم أو
ضربة سيف أو رشقة حجر.
بعد ذلك احتزوا رأسه الشريف ، وتسارعوا
إلى سلب ملابسه ، ثم تسابقوا على نهب ما في رحله ، قال الراوي : « ثمّ أقبلوا على
سلب الحسين؛ فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره » .
قال : « وتسابق القوم على نهب بيوت آل
الرسول وقرّة عين البتول حتى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها » .
وهذه هي مصاديق الحرب غير العادلة التي
لاتتطابق مع الأعراف والقواعد الإنسانية التي توجب احترام الأموات وعدم التمثيل
بهم ، كما توجب احترام حياة وأملاك الأبرياء وحسن معاملة الأسرى وعدم التعرض بسوء
لغير المقاتلين وخاصة النساء والأطفال والمرضى.
نقض
اُصول الحرب
لقد خرق جيش الكوفة في واقعة كربلاء
جميع اُصول الحرب في تعامله مع أصحاب وعيال الحسين ، إليك في مايلي أمثلة على ذلك
:
١ ـ الهجوم
الجماعي على رجل واحد :
وهذا خرق لمبادى ء القتال
__________________
الفردي الذي يقضي
بأن يبرز رجل واحد مقابل رجل واحد ويتبارزان في الميدان ، ففي كربلاء حصل هجوم
جماعي على رجل واحد وهو الحسين 7.
يقول الشيخ المفيد 1 : « وحملت الجماعة على الحسين 7 فغلبوه على عسكره ، واشتدَّ به العطش ،
فركب المسنّاة يريد الفرات ... فاعترضته خيل ابن سعد.
وقال : لمّا رجع الحسين 7 من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر
بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاط به » .
وفي رواية ابن طاوس : « وصاح شمر
بأصحابه ما تنظرون بالرجل قال : وحملوا عليه من كلّ جانب؛ فضربه زرعة بن شريك على
كتفه اليسرى ، وضرب الحسين 7
زرعة فصرعه ، وضربه آخر على عاتقه المقدّس بالسيف ضربه كبا 7 بها لوجهه ، وكان قد أعيا وجعل ينوء
ويكبّ ، فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ، ثمّ انتزع الرمح فطعنه في بواني
صدره ... فقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه : إنزل ويحك إلى الحسين فأرحه ، قال : فبدر
إليه خولي بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه فأرعد ، فنزل إليه سنان بن أنس النخعي فضرب
بالسيف في حلقه الشريف ... ثمّ احتز رأسه المقدّس » .
٢ ـ
التعرّض بالسلاح للنساء والأطفال : فمن المتعارف عليه أن
__________________
للنساء والأطفال
حصانة في الحروب ، ولكن في كربلاء ، اُحرقت الخيام بأمر شمر بن ذي الجوشن على
النساء والأطفال الذين بقوا بلا ملاذ آمن ، فقد هجموا على من في الخيام وشرّدوهم
في البراري ولمّا يزل الإمام 7
حيّا يقاتل.
ولما رأى الحسين 7 هجوم الجيش على خيام عياله صاح : « .. انا الذي اُقاتلكم
وتقاتلوني ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيا
» .
لم تجد هذه المناشدة أذنا صاغية ، من
أُناس وضعوا القيم تحت أقدامهم ، وانساقوا وراء نزعتهم الجاهلية المتلهّفة للسَّلب
والنهب. فلم يغضّوا الطرف عن مناشدة الحسين 7
فحسب ، بل تجاهلوا أوامر قيادتهم التي دعتهم ـ في الظاهر ـ إلى وقف الانتهاكات
الشائنة لكرامة وممتلكات نساء بيت النبوّة.
نقل الشيخ المفيد 1 : « وجاء عمر بن سعد فصاح النساءُ
وبَكيْن ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ، ولا تعرِّضوا لهذا
الغلام المريض
، وسألته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرن به فقال : من أخذ من متاعهنّ شيئا
فليردّه عليهنّ ، فواللّه ما ردّ أحد منهم شيئا » .
ضمن هذا السياق ضربوا بعرض الحائط
الدعوات الدينية والإنسانية
__________________
التي تقرّ بحقّ
المريض بالرعاية بدليل : أنّ عبيداللّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين 7 أمر بعليِّ بن الحسين ـ وكان مريضا ـ
فغُلَّ بغُلٍّ إلى عنقه .
وقبل ذلك هدّده بضرب عنقه لولا تدخّل عمّته زينب سلام اللّه عليها عندما قالت لابن
زياد : يا بن زياد ، إنّك لم تبق منّا أحدا ، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه فتركه ثمّ سيّره إلى الشام مع سبايا
أهل البيت :.
٣ ـ سبي
المرأة المسلمة :
المرأة المسلمة لا يجوز سبيها. وعلي 7
لم يسبِ أحدا في جميع حروبه ، وكان يوصي أصحابه وأفراد جيشه أن لا يتعرضوا للنساء
، لكن جيش يزيد سبى المتبقين من عيالات أهل بيت النبوة وأصحابهم الميامين ، من
أمثال : زينب وام كلثوم وسكينة ... وساقوهم سبايا الى الكوفة والشام. هذه الفعلة
الشائنة حزّت في نفس زينب 3
الأبية ، فوجّهت إلى يزيد سؤالاً استنكاريا ، قالت له فيه : « أمن العدل يا ابن
الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول اللّه 9
سبايا قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد » .
وفي دار الخلافة طلب أحد أهل الشام من
يزيد أن يهبه فاطمة بنت الحسين كجارية ، إلاّ أنّ زينب تصدت له بشدّة .
__________________
ويقتضي التنويه على أن ما تطرقنا إليه
من دروس عسكرية هو غيض من فيض ، فالدروس العسكرية والمواقف الحربية التي تمخضت عن
معركة الطف القصيرة كثيرة وغنية بالعبر والتجارب. وهذه المعركة الغنية بالدروس
نستفيد منها في صراعنا ضد القوى الغاشمة والمتجبرة ، حيث نخرج بنتيجة حاسمة هي :
أن الدم سوف ينتصر على السيف ، وأن أبواق القوة لا تستطيع كتم صوت الحق ، وأن
المعركة لا تقاس من الناحية العسكرية بعدد الخسائر بالأرواح ، بل تقاس بالحصول على
هدف القتال المستقبلي والمعنوي المتمثل بفضح سياسة وأساليب القوى المتجبرة والتصدي
لها.
خصائص
جند الحسين 7
ليست كربلاء مأساة فاجعة ، ومناسبة
للعويل والبكاء وحسب ، بل هي في جوهرها مهرجان للحق ، وعيد للتضحية حيث تتجسد ـ
مفهوميا وميدانيا ـ عظمة الثبات ، وروعة البطولة ، وعزّة الإيمان ، وجلال التضحية.
إن جذوة الحق والصمود التي أضاءها
الإمام الحسين 7
وأصحابه بدمائهم الزكية ، لم يخب نورها باستشهاده ، بل ازدادت ألقا واندفاعا على
نحو يبهر الألباب ، لذلك أخذت قوى الإيمان في كل مكان وزمان تتزود من الوقود ـ
المعرفي والسلوكي ـ لمحطة كربلاء من خلال دراسة متأنية لأحداثها ومواقف الناس
وأدوارهم فيها.
ونحن في هذه الفقرة نبحث عن الخصائص
الأساسية ، التي جعلت من جيش الحسين 7
الذين يقارب عددهم الخمسون إذا ما استثنينا
الحسين 7 وأهل بيته ، يقفون مع قائدهم بكل شجاعة
وصمود ، ويواجهون جيشا يمتاز بالتفوق العددي الساحق ، فلم يتعجلوا النصر ، وما
أبعده عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم ، وبمثل عددهم ، إنما كانوا يتعجلون الجنّة ، إذ
لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير. أليست هذه الظاهرة النادرة تستحق البحث
والنظر من قبل علماء الاجتماع أو من قبل علماء النفس؟
نفر قليل قد رفضوا الباطل ، واختاروا
الحق ، ثم مزقوا جدار الصمت ، وجهروا بالمقاومة ، وصمدوا صمودا اسطوريا ، فالذين
اتبعوا الإمام الحسين 7
من غير بني هاشم هم نخبة الأمة الإسلامية ، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الأموي
بقوله للجيش : « أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، وتقاتلون قوما
مستميتين »
، وقال عنهم الإمام علي 7
: « ليس مثلهم
إلا شهداء بدر » .
فالذين اتبعوا الإمام الحسين 7 ونالوا شرف الشهادة بين يديه ، نماذج
بشرية عجيبة حقا ، حللت واقعها تحليلاً دقيقا ، وأصغت لنبيها وهو يأمرها بنصر
الحسين 7 ، فاختارت
ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة.
لقد طلب الحسين 7 إرجاء القتال ليجعل أهله وأصحابه في
حلٍّ من كل التزاماتهم تجاهه ، ومن أجل ذلك جمعهم تحت جنح الظلام ، وقال لهم بعد
أن حمد اللّه وأثنى عليه : « أما
بعد ، فاني لا أعلم أصحابا أوفى من
__________________
أصحابي
، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني خيرا ، ألا وإنِّي
لأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعا في
حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمامٌ ، هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جملاً
» .
ترى هل يتقبل الجيش المتكون من الأهل
والأنصار رأيه هذا؟ .. كلا ، ولماذا؟ لأن العظمة ، ولأن البطولة كانتا في ذلك
اليوم على موعدٍ مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولاً ، لتحققا بهم أروع
مشاهدهما ، وأسمى أمجادهما. من أجل ذلك ، لم يكد البطل يفرغ من كلماته ، حتى
تحولوا جميعا إلى اُسود تزأر بكلمات الرّفض وتشرق بدموع العطف والمودة ، هبوا جميعا
يُعطون البيعة على موت محقق ، فقالوا له : « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا
اللّه ذلك أبدا » .
كل ذلك جعلنا نتساءل عن الخصائص
الرئيسية التي امتاز بها أصحاب الحسين 7
، والتي كانت السبب وراء وقوفهم مع قائدهم في ذلك الموقف العصيب ، في وقت لم يكن
لهم في إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل ، وليس أمامهم سوى القتل ، فمن خلال
دراستنا لسلوكهم ومواقفهم في كربلاء نجد هذه الخصائص تتمثل بما يلي :
١
ـ عدالة القضية
لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة ، ولم
يرغب ـ وهو على وشك لقاء
__________________
ربّه ـ في التكفير
عن خطئه ، تاركا أمر المسلمين للمسلمين ، بل إنه أمعن في تحويل الإسلام إلى ملك
عضوض ، فأخذ البيعة ليزيد كولي عهد له .. انتزعها بالذهب وبالسيف ، ثم هاهو يزيد
يتربع على عرش أبيه بعد وفاته ، فيهمل أمر المسلمين ، ويعكف على اللّهو بفهوده
وقروده حتى يُلقب بـ ( يزيد القرود )! .. ثم يسلط قواده ورجاله على العباد ويستبيح
البلاد ، ويرسل إلى الأصحاب والأشراف من أجل مبايعته!
رفض الإمام الحسين 7 طلب البيعة الذي تقدم به ( الوليد بن
عتبة ) أمير المدينة ، وخرج من المدينة هو وبعض أقطاب المعارضة كعبد اللّه بن
الزبير وتوجه إلى مكة ، وهناك في الحرم الآمن أحس بعدم الأمن ، وخشي على الكعبة
المشرفة من أن تُنتهك حرمتها بقتله واغتياله ، لذلك خرج يريد العراق بناءً على
الكتب المرسلة إليه من أهله ، التي تدعوه إلى القدوم ، وتعده بالسمع والطاعة.
أدرك أصحاب الحسين 7 عدالة قضيته ، وأنه حين خرج إلى الكوفة
لم يكن طالبا لدنيا ولا جاه ، وإنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يعطى ولا
يُغلب. لقد رأى القائد ( الحسين 7
) وصحبه ( الجند ) أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية ، يتعرض لمحنة
قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان ، ورأى الحسين 7
ويشاركه في هذه الرؤية جنده أن خطيئة الصمت والسكوت تجتاح السواد الأعظم من الناس
رغبةً ورهبةً أحيانا. وقد وعى الأصحاب جيدا المستجدات ، لما امتازوا به من وضوح في
الرؤية ، فصمموا على اختيار الخيار الأصعب ، المتمثل بالانضمام إلى جبهة الحسين 7 الذي أعلن هدفه ـ منذ البداية ـ وبدون
لبس أمام الناس.
وبعد أن تبين للأصحاب الخيط الأبيض من
الأسود من التطورات السياسية ، التي عصفت بالساحة الإسلامية آنذاك ، باتوا على
يقين بأن الحسين 7
هو القائد الرّباني الجدير بالخلافة ، وأن يزيد رجل شهواني مغامر يتستر خلف سواتر
الدين من أجل تأمين البقاء في السلطة ، لذلك اندفعوا إلى آخر الشوط مع قيادتهم
الحقة ، ولم يكتفوا بالشجب والاستنكار ، في وقت كان السكوت فيه من ذهب ، وقد سكت
البعض
سكوت الأموات ، في هذا الوقت العصيب
سارع الأصحاب بالالتحاق بقائدهم الحسين 7
بعد أن تيقنوا من عدالة قضيته ، وقاتلوا بجنبه حتى آخر رمق ، وأفضل شاهد على ذلك
الطراز من الجُند ( زهير بن القين ) الذي التقى بالإمام 7 في مكان يُدعى ( زرود ) حيث أبصر
الإمام فسطاطا مضروبا ، فسأل عنه فعلم أنه لـ ( زهير بن القين ) فأرسل في طلبه ، فتثاقل
أول الأمر ، ثم ذهب إلى لقائه ضَجِرا .. وحين التقيا أسرَّ الحسين 7 إليه حديثا ، لم يكد الرجل يسمعه حتى
تهلَّل وجهه ، وامتلأ غبطة وبشرا ، ثم سارع فنقل فسطاطه إلى جوار فسطاط الحسين 7 ، وقال لمن كان معه من أهله : « من
أحبَّ منكم أن يتبعني ، وإلاَّ فإنه آخر العهد بيننا » . ثم التفت إلى زوجته وقال لها : « أما
أنت ، فالحقي بأهلك ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء » ، وانصرف أَقرباؤه عائدين إلى موطنهم ،
مصطحبين معهم
__________________
زوجته. ترى ماذا قال
له الحسين 7 حين ناجاه؟!
.. هل وعده بمنصب أو مغنم؟ .. لو كان ذلك ، ما سرَّح زوجته ، ولا قال للذين كانوا
معه موِّدعا إياهم : إنه آخر العهد بيننا .. ثم بأَيِّ مغنم يعدُه ( الحسين ) وقد
جاءته الأنباء بمقتل رُسُله ، وشراسة عدُوّه ..؟ أغلب الظن أنه حدَّثه عن قضيته
العادلة ، ثم ختم حديثه معه قائلاً : تلك هي القضية ، ففيمَ إبطاؤُك عن الجنَّة؟.
وبالمقابل كان جند يزيد يتذرّعون بمختلف
السبل والحيل في سبيل الفرار من جبهة القتال ، وذلك لعدم إيمانهم بالقضية التي يدافعون
عنها. يروى أنّ ابن زياد قد « وجّه الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشبث بن ربعي
، وشمر بن ذي الجوشن ، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره. فأمّا شمر فنفذ لما وجّهه له
، وأمّا شبث فاعتلّ بمرض. فقال له ابن زياد : أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى
قتال عدوّنا. فلمّا سمع شبث ذلك خرج ... قالوا : وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى
قتال الحسين في الجمع الكثير ، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلاّ القليل ، كانوا
يكرهون قتال الحسين ، فيرتدعون ويتخلّفون » .
ونتيجة لذلك استخدم ابن زياد أسلوب
التهديد والوعيد لحمل الناس على الخروج لقتال الحسين 7.
يروى أنّ ابن زياد بعث سويد بن
عبدالرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره أن يطوف بها ، فمن وجده قد تخلّف
أتاه به. فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم
الكوفة في طلب
__________________
ميراث له ، فأرسل به
إلى ابن زياد ، فأمر به ، فضربت عنقه. فلمّا رأى الناس ذلك خرجوا .
٢
ـ الإيمان بالقيادة
لابد لكل قضية عادلة من قيادة حقة ،
والايمان بالقضية العادلة يستدعي أيضا الايمان بالقيادة المخلصة القادرة على
الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق وأحسن الأساليب المشروعة ، وتحريك ماهمد من الطاقات وجمعها
وتوظيفها لصالح القضية المنشودة.
وقيادة الحسين 7 الحقة ، بما اكتسبته من قدسية وشرعية ،
وبما اتصفت به من عصمة وحكمة وبُعد نظر ، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة ، ليس
فيها مساومة ولا انصاف حلول ، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ
والمخلِّص ، ونتيجة لذلك التحقت بها ثلّة مؤمنة ، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع
الناس ؛ نظرا لدقّة الظروف وخطورة الاحتمالات ، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال
ولاته القساة أفواه الناس ، وزرعوا الخوف في النفوس ، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية
الصمت والعافية ، انضمت هذا الفئة القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين ، وآمنت
بقيادته ، وأخذت تدين له بالسمع والطاعة ، ووطنت نفسها على التضحية والفداء.
والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه
، وعبأهم روحيا وفكريا
__________________
ليكونوا في مستوى
الأحداث ، واتبع معهم سياسة المكاشفة والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم
السياسية بـ ( الغلاسنوست ) ، كان يطلعهم على الموقف أولاً بأول ، ويرصد ويحلل كل
شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم ، ويبين لهم ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من
أحداث جسام حبلى بها ، وأبقى أمامهم كل أبواب النجاة مفتوحة على مصراعيها ، ولكن
مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب ، ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسين 7 ، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه.
واكتفي ـ في هذه الفقرة ـ بهذا الموقف ، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه
التفرق عنه ، لأن القوم لا يريدون غيره ، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي ، فقال : «
لا واللّه يا ابن رسول اللّه ، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك
وفيه رسول اللّه محمد 9.
ثم قال : واللّه ، لو علمت أني أُقتل فيك ثم أُحرق ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين
مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك » .
وقال زهير بن القين : « واللّه يا ابن
رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرّة ، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك
» .
ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة ، قال
: « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى
أطعن في صدروهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح
__________________
أُقاتلهم به لقذفتهم
بالحجارة ، واللّه لا نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّه 9 فيك ، واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ
أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى
ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ، ثمّ هي الكرامة التي
لا انقضاء لها أبدا » .
وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسين 7 بهذا العمق لفتت نظر العديد من الكتاب
والباحثين ، المسلمين منهم وغير المسلمين ، ومنهم جورج جرداق ، العالم والأديب
المسيحي ، فقال : « حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء ، كانوا
يقولون : كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون : لو أننا نقتل
سبعين مرّة ، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا » .
ومن خلال هذه المواقف المشرفة ، ضرب
الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة التي آمنوا بها ، وجادوا بأنفسهم ، فباعوها
صفقة رابحة من أجل قضيتهم العادلة.
٣
ـ التضحية الغالية
تعتبر التضحية من لوازم الإيمان سواءً
بالقضية أو بالقيادة ، فمن آمن بشيء ضحى من أجله ، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ
الإسلام من خطر السقوط في وهدة الظلم والضلال ، وكان الأنصار تبعا لرؤية قائدهم
__________________
الحسين 7 قد استشعروا الخطر المحدق بالأمة من
جراء سيطرة يزيد الفاسق ، الذي حَرَف الأمة عن مسارها الصحيح وحرَّف مبادءها الحقة
، وقوَّض دعائم مجدها ، كانوا كقائدهم الحسين قد وطّنوا أنفسهم لتحمّل كل الضغوط ،
وكان بإمكانهم أن يستسلموا أو أن ينسحبوا تحت جنح الظلام ، لكن إرادتهم كارادة
قائدهم واحدة لا تتجزأ هي انقاذ الإسلام ، يقول واشنطن ايروينغ ، المؤرخ الامريكي
الشهير : « كان بميسور الامام الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لارادة يزيد ،
إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سببا لانبثاق الثورات في الاسلام لم تكن تسمح له
الاعتراف بيزيد كخليفة ، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لاجل انقاذ
الاسلام من مخالب بني اُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة ، بينما سقط جسمه على رمضاء
الحجاز ـ والصحيح هو كربلاء ـ اللاهبة ، أيها البطل ، ويا اُسوة الشجاعة ، ويا
أيها الفارس يا حسين » .
واذا كان أكثر مايمنع الناس عن التضحية
، حب المال والملذات ، وحب الحياة ، فان الأصحاب قد قطعوا علائق الدنيا تلك ، عندما
رأوا في بداية مسيرهم نحو العراق ضباب الحرب ، وعندما دخلوا ـ من بعد ذلك ـ في
أتونها ولسعهم لهيبها ، فلم يتهيبوا من رؤية الكتائب الجرارة التي تحيط بهم من كل
حدب وصوب ، بل صمموا على التضحية بالنفوس وهي أغلى مايمكن التضحية به. يقول الكاتب
المصري خالد محمد خالد وحقا ما يقول : « إن اللَّوحة التي رسمتها تضحيات الحسين وأهله
وصحبه ، بوَّأت
__________________
هذا الشرف وتلك
الجدارة أعلى منازل الذُّرى ، إنهم لم يقدموا على التضحية ذاتها .. وهكذا جعلوها
وسيلة وغاية .. كما أكدوا معنى أنها مثوبة نفسها ، وأنها قيمة بذاتها » .
ومن أبرز الشواهد العامة على مدى تسابق
جند الإمام على التضحية بالنفوس ، تقدم شباب أهل البيت ، ليأخذوا مكانهم في الصف
الأول عند شروع الطرفين في صفحة القتال الجماعي ، فدفعهم الأنصار عن محلهم ،
قائلين لهم بلسان الحال والمقال : معاذ اللّه أن تموتوا ونحن أحياء ، نشهد مصارعكم
، بل نحن أولاً ثم تجيئون على الأثر. وتقدم الأنصار واقتحموا الميدان في مشهد فريد
، جسّد القدوة في القدرة الرائعة على التضحية الغالية.
٤
ـ الانضباط التام
وهو الالتزام الصارم بأوامر وتوجيهات
القيادة ، وينتج غالبا من قوة الشخصية ، والإيمان بالقضية ، يقول الجنرال كورتوا :
« إن قوي الشخصية هو من حافظ على التفكير الواضح المنطقي رغم المتاعب ، وبحث عن
الحقيقة ، وتمسك بها بكل اصرار مهما كلفه الأمر ، وثبت في المأزق بكل صبر ولو
انسحب الجميع من حوله » .
ونحن نجد أن هذه الصفات تنطبق بحذافيرها
على جند الإمام ، الذين
__________________
انقادوا ـ طواعيةً ـ
لتوجيهات قائدهم الحسين 7
وخضعوا له عن طيب قلب ، نتيجة لطغيان حالة من الغليان والحماس والعشق للشهادة ،
فعلى سبيل المثال ، نقرأ عن موقف عابس الشاكري ، وكيف أنه نزل الى المعركة بعد أن
تقاعس الأعداء عن منازلته وانهالوا عليه بالحجارة ، فرمى بسيفه جانبا ، ونزع درعه
، ثم واجه جحافل الأعداء وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان ، ومع هذا الاندفاع الذي
قلّ نظيره ، فانه لم يخرج عما رسمته له قيادته من حدود ، وإنما أراد التعبير عن
استهانته بالموت في سبيل قضيته العادلة وحبه لقائده وهيامه للشهادة ، كما أنه أراد
بث الرّعب في صفوف أعدائه وإظهار استخفافه بجمعهم. ويبدو ـ أيضا ـ أنه أراد أن
يقوم بمظاهرة احتجاج ، يُظهر فيها للملأ بأن القوة الباغية لا تستطيع إخماد جذوة
الحق المتّقدة في القلوب. وكأن لسان حاله يقول : ليأت الموت ، وليأت القتل ، ولتأت
الشهادة! ..ليجيء ذلك كله ، فذلك دورهم في الحياة. أن يُعلِّموا الناس في جيلهم ، ولكل
الاجيال ، أنّ الوقوف إلى جانب الحق ، والتضحية المستمرة في سبيله ، هما أصدق مظهر
لشرف الإنسان.
* * *
فهرس المحتويات
كلمة المركز.................................................................. ٥
المقدَّمة....................................................................... ٧
أولاً : البعد الغيبي.......................................................... ١٠
التنبوء بمصير القَتَلة............................................................. ٢٤
ثانيا : البعد العبادي......................................................... ٣٣
صلاة الحسين 7 في كربلاء .................................................. ٣٣
صلاة تحت الحِراب............................................................. ٣٧
الأول : أسلوب التشكيك....................................................... ٤٠
الثاني : أسلوب التخويف....................................................... ٤٢
الصلاة الخاصة................................................................. ٤٤
العبادة الفاعلة.................................................................. ٤٦
قرآن ناطق.................................................................... ٤٧
ثالثا : البعد الأخلاقي....................................................... ٥٢
١ ـ الإيثار .................................................................. ٥٣
٢ ـ الشجاعة ................................................................ ٥٦
٣ ـ الشهامة والمروءة ......................................................... ٥٨
٤ ـ العزة ورفض الذّل ....................................................... ٦١
٥ ـ الصبر .................................................................. ٦٢
٦ ـ الوفاء ................................................................... ٦٤
رابعا : البعد السياسي....................................................... ٦٦
موقف الحسين 7 من صلح الحسن 7........................................ ٧٦
مؤتمر سياسي عام.............................................................. ٧٩
ضرورة النهضة................................................................ ٨١
اشكاليات واهنة............................................................... ٨٤
الفتح المبين.................................................................... ٨٧
خامسا : البعد الإعلامي................................................... ١٠٠
الإعلام الحسيني في مقابل الإعلام اليزيدي ...................................... ١٠١
أ ـ الاتصال الشخصي والجمعي .............................................. ١٠٢
١ ـ الاتصال الشخصي ..................................................... ١٠٢
٢ ـ الاتصال الجمعي ....................................................... ١٠٤
ب ـ الرّسل والمراسلات ..................................................... ١٠٥
ج ـ استثمار موسم الحج .................................................... ١٠٩
د ـ الخطابة ................................................................ ١١١
هـ ـ الشعر ............................................................... ١١٣
أساليب الإعلام اليزيدي...................................................... ١١٨
١ ـ الترهيب والترغيب ..................................................... ١١٨
٢ ـ التكذيب .............................................................. ١١٩
٣ ـ اللّعن والسّباب وكيل الاتهامات .......................................... ١٢١
٤ ـ التظاهر بالحق وقلب الحقائق ............................................. ١٢٢
سادسا : البعد العسكري.................................................. ١٢٩
١ ـ الموقف العام............................................................ ١٢٩
أولاً : الحماية الشخصية ...................................................... ١٣٢
ثانيا : استطلاع التحركات المعادية ............................................ ١٣٣
ثالثا : إفشال محاولة الاغتيال .................................................. ١٣٣
٢ ـ المعلومات.............................................................. ١٣٧
الأسلوب الأول : استنطاق المسافرين والاستفسار منهم........................... ١٣٧
الأسلوب الثاني : المكاتبات.................................................... ١٣٩
الأسلوب الثالث : الاستطلاع................................................. ١٤٠
٣ ـ تمحيص القوات وتطهيرها................................................ ١٤٢
٤ ـ الحوار وعدم البدء بالقتال................................................ ١٤٤
٥ ـ الأعمال التمهيدية....................................................... ١٥٠
٦ ـ سير القتال............................................................. ١٥٦
أولاً : القتال الجماعي......................................................... ١٥٦
ثانيا : المبارزة الفردية......................................................... ١٥٨
نقض اُصول الحرب........................................................... ١٦٣
١ ـ الهجوم الجماعي على رجل واحد ......................................... ١٦٣
٢ ـ التعرّض بالسلاح للنساء والأطفال ....................................... ١٦٤
٣ ـ سبي المرأة المسلمة ...................................................... ١٦٦
خصائص جند الحسين 7................................................... ١٦٧
١ ـ عدالة القضية........................................................... ١٦٩
٢ ـ الإيمان بالقيادة.......................................................... ١٧٣
٣ ـ التضحية الغالية......................................................... ١٧٥
٤ ـ الانضباط التام.......................................................... ١٧٧
فهرس المحتويات.............................................................. ١٧٩
|