بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الرسول الأعظم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، حملة الشريعة وقادة البشرية.

وبعد ، فقد عرفت مدارس الفقه الإمامي ـ وفي مقدمتها مدرسة النجف الأشرف التي تعتبر منذ قرابة ألف عام امتدادا لمدرسة الكوفة ـ بنوع من الدراسات امتازت بالأصالة والدقة والشمول ، نظراً لفتحها على نفسها باب الاجتهاد ومواصلتها لحركة البحث والتحقيق الرامية إلى استنتاج المعارف الإسلامية من أصح المصادر ، وبلوغ واقع الإسلام من أسلم طرقه.

وقد كان للدراسات الفقهية عند هذه المدرسة النصيب الأوفر من الدقة والعمق والشمول ، حيث أمكن لهذه المدرسة ، بما أوتيت من عناصر الحركة والانفتاح في مجال البحث والتحقيق ، وعلى يد رجالاتها النوابغ وعلمائها الأفذاذ ، أن ترسم طرائق البحث الفقهي الصحيحة ، وتحدد مناهجه السليمة وتميز قواعده المشتركة في عمليات الاستنباط عن غيرها من المسائل المختصة ، ثم فصلها عنها في مجال البحث والتصنيف والتدريس. فاتسعت على أساس


ذلك أبحاث أصول الفقه ، بعد أن كانت بصورة بدائية وأصبحت ذات شأن خطير واعتبرت علماً مستقلاً عن الفقه له أسسه ومناهجه الخاصة به ، بعد أن كانت تعيش على مائدة الفقه وتعتبر من توابعه.

والحق : أن الدراسات الأصولية الموسعة ، وما جدّ وتطور منها لتمثل ـ في رأيي ـ أبرز معالم الفكر الشيعي أصالة وعمقاً وتعبّر عن أروع ما تجلت به عبقرية علماء الإمامية وقدراتهم الفكرية الخلاقة ، في استنتاج القواعد العامة بتفاصيلها ودقائقها في مجالات مختلفة ، من قضايا العرف واللغة ، أو أحكام العقل والعقلاء ، أو أحكام الشرع المقدس. حتى أصبح البون شاسعاً جداً بين ما انتهت إليه الدراسات الأصولية الموسعة اليوم لدى علماء هذه الطائفة ، وبين ما كانت عليه من ذي قبل ، بحيث لا يمكن لأية حركة اجتهادية ترمي إلى بلوغ الحكم الشرعي ، أن تستغني عن هذه الدراسات ، وأن أية ممارسة فقهية للاستنباط ، بعيدة عن مناهج هذه الدراسات لتبدو هزيلة جداً حينما تقارن بممارسات الاستنباط القائمة على أساسها.

وهذا الكتاب ، هو الجزء الرابع من القسم الثاني من كتابنا ( بحوث في علم الأصول ) الّذي يمثل بدوره حلقة من حلقات تلك الحركة الفكرية ، حيث يعرض آخر ما انتهى إليه الفكر الأصولي في مرحلته الحاضرة من مراحل تطورها لدى علمائنا.

ويشتمل هذا الجزء على قسم تعارض الأدلة ـ التعادل والترجيح ـ من أبحاث علم الأصول ، التي استفدتها خلال تشرفي بحضور مجلس درس سيدي المفدي وأستاذي الأعظم ، سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ـ دام ظله الشريف ـ عند ما كان يواصل دورته الأولى من محاضراته في علم الأصول في جامعة العلم الكبرى « النجف الأشرف ».

وكان ـ دام ظله ـ قد أفاض في مباحث التعادل والتراجيح بتاريخ « ٨ شعبان لسنة ١٣٩٠ هجرية » حين انتهى به المطاف إليها في دورته الأصولية


الأولى. وقد أنهى تلك البحوث بتاريخ « ١٣ ربيع الثاني ١٣٩١ هجرية ».

ويمتاز بحث تعارض الأدلة من بين أبحاث علم الأصول ، بتكفله أهم القواعد الأصولية دوراً ، وأكثرها حاجة إليها في الفقه ، لأنها ذات اتصال مباشر بممارسات الفقيه لعملية استنباط الأحكام الشرعية.

وقد كان سيدي الأستاذ ـ دام ظله الشريف ـ يلقي هذه البحوث على غرار المنهاج المعهود والمتعارف لبحث التعادل والتراجيح في الدراسات الأصولية ، انسجاماً مع الظروف التدريسية العامة ، ولكنه أدخل عليها بعد ذلك شيئاً من التغيير في المنهجة ، مع إضافة بعض الفصول الّذي كان أنسب بهذه الأبحاث منه بالأبحاث الأصولية الأخرى ، فجاء الكتاب ـ نتيجة لذلك ـ مشتملاً على قسمين أساسيين. قسم التعارض غير المستقر وقسم التعارض المستقر. يسبقهما الحديث عن معنى التعارض لغة واصطلاحاً والبحث عن مبررات وجوده بين الروايات.

أما قسم التعارض غير المستقر فيشتمل على استعراض أقسام التعارض غير المستقر ، من الورود والحكومة والتخصيص والقرينيّة والأظهرية ، مع توضيح خصائص كل قسم منها وبيان ما يحتاج إليه كل قسم من مصادرات إضافية وراء دليل الحجية ليتم بها حلّ التعارض والجمع العرفي بين المتعارضين. وسوف نجد من خلال بحوث التعارض غير المستقر وأقسام الجمع العرفي أن قسم الورود منها لا يوجد فيه تعارض حقيقي بين الدليلين ولذلك لا يكون تقديم الدليل الوارد فيه بحاجة إلى أية مصادرة من مصادرات قواعد الجمع العرفي ، كما نجد أيضا الموضع الطبيعي لحالات التزاحم بين حكمين ـ باب التزاحم ـ وعلاقتها بباب التعارض ، حيث يتبرهن رجوع باب التزاحم إلى قسم الورود من التعارض غير المستقر.

وأما قسم التعارض المستقر ، فمنهج البحث فيه هو التحدث عن مسألتين رئيسيتين. تتكفل أولاهما : بعلاج التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية


العام ، وتتكفل الثانية : بعلاج التعارض على ضوء الأخبار الخاصة التي تتمثل في أخبار الطرح ، وأخبار العلاج.

ومن الملاحظ : أن هذه الأخبار بدورها قد ابتليت بمشكلة التعارض والاختلاف فيما بينها ، فتكون بحاجة إلى علاج تعارضها في المرتبة السابقة ، وسوف يتضح من بحوث هذا الكتاب أن ما يثبت في النتيجة بمفادها من قاعدة الطرح أو الترجيح مما يمكن تخريجه على مقتضى القاعدة الأولية في الجملة.

وأخيراً ، فإني إذا أبتهل إلى الله سبحانه أن يوفقني لتكميل هذه البحوث القيمة تأليفاً ونشراً ، أسأله تعالى أن يمتع المسلمين بدوام ظل سيدنا الأستاذ ـ دامت بركاته ـ وأن يديم أيام إفاداته العامرة ، إنه سميع مجيب.

النجف الأشرف ـ محمود الهاشمي


تمهيد

١ ـ تعريف التعارض

٢ ـ التعارض والتزاحم

٣ ـ كيف نشأ التعارض في الأدلة الشرعية

٤ ـ تقسيم البحث



تعريف التعارض

التعارض لغة :

التعارض ، لغة من ( العرض ) وهو ذو معان عديدة. والظاهر أن المعنى الملحوظ من بينها في هذه الصياغة هو العرض بمعنى جعل الشيء حذاء الشيء الآخر وفي قباله ، والعرضية بهذا المعنى كما قد تكون بملاك التماثل والمباراة بين الشيئين ، فيقال عارض فلان شعر المتنبي ، بمعنى أنشد مثله ، كذلك قد تكون بملاك التناقض والتكاذب بين شيئين ، فإنه أيضا نحو تقابل ومباراة بينهما يجعل أحدهما في عرض الآخر. فبهذه المناسبة وعلى أساس هذا الاعتبار سمي الكلامان المتكاذبان بالمتعارضين.

التعارض اصطلاحاً :

لقد نسب الشيخ الأنصاري ـ قده ـ للمشهور تعريف التعارض بأنه « تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد » (١) ولكن المحقق الخراسانيّ عدل عن ذلك إلى تعريف آخر ، فذكر أنه « تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات ، على وجه التناقض أو التضاد » (٢) مبرراً هذا العدول : بمحاولة إخراج موارد الجمع العرفي عن نطاق التعريف ،

__________________

(١) الرسائل ، ص ٤٣٣ ( ط ـ رحمة الله ).

(٢) كفاية الأُصول ص ٥٥١ ج ٢ ( ط ـ حقائق الأُصول ).


إذ التنافي بين المدلولين ثابت في موارد الجمع العرفي أيضا فيشمله تعريف المشهور بينما لا يشمله التعريف الآخر ، لعدم التنافي بحسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

وقد انتصرت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ لتعريف المشهور ، مؤكدة عدم شموله لموارد الجمع العرفي ، لعدم التنافي بين المدلولين في هذه الموارد.

وقد أوضح ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بأن الدليلين إذا كانت نسبة أحدهما إلى الآخر قابلة للجمع العرفي ، بأن كانت نسبة التخصص أو الورود أو الحكومة أو التخصيص فلا يوجد أي تناف بين مدلوليلهما ، ويخرجان عن التعارض.

« أما التخصّص ، فخروجه ـ عن التعارض ـ واضح. فإن التخصّص هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الآخر بالوجدان ، فلا مجال لتوهم التنافي بين الدليلين أصلاً. فإذا دل دليل على حرمة الخمر مثلاً لا مجال لتوهم التنافي بينه وبين ما دل على حلية الماء ، إذ الماء خارج عن موضوع الخمر بالوجدان.

وأما الورود ، فإنه أيضا رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر تكويناً ، غاية الأمر : أن هذا الرفع يتم بواسطة التعبد الشرعي ، فإنه بالتعبد الشرعي يتحقق أمران ، أحدهما : تعبدي ، وهو ثبوت المتعبد به ، والآخر : وجداني وهو ثبوت نفس التعبد ، فإنه عند قيام الأمارة في موارد الأصول العقلية يرتفع موضوع الأصل العقلي وجداناً ، ولكن بواسطة التعبد ، لأن موضوع الأصل العقلي هو عدم البيان ولو بالحجة التعبدية فثبوت التعبد بنفسه يكون بياناً ، فيرفع موضوع الأصل العقلي ، فلا منافاة بينهما.

وأما الحكومة ، فالوجه في خروجها عن التعارض : هو أن الحكومة على قسمين. الأول : ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً للمراد من


الدليل الآخر ، إما لورود أداة التفسير فيه مثل ( أي ) و ( أعني ) ، أو لصيرورة الدليل الحاكم لغواً عند فرض عدم وجود الدليل المحكوم ، كما في قوله 7 « لا رِبا بينَ الوَالدِ ووَلَدِهِ » الشارح لعقد الوضع في دليل حرمة الرّبا ، فيكون نافياً للحكم بلسان نفي الموضوع أو قوله 7 : « لا ضَرَر ولا ضرار » وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَليكم في الدّين مِن حَرَجٍ ) الشارح لعقد الحمل في الأدلة المثبتة للتكاليف بعمومها في موارد الضرر والحرج ، وبيان أن المراد ثبوتها في غير موارد الضرر والحرج.

الثاني : ما يكون أحد الدليلين رافعاً بمدلوله لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحاً له ، وذلك : كحكومة الأمارات على الأصول الشرعية ، فإن الأمارات لا تكون شارحة للأصول فإن جعل الأمارة لا يكون لغواً لو لم يكن الأصل مجعولاً ، ولكن الأمارة تكون موجبة لارتفاع موضوع الأصل بالتعبد الشرعي ، ولا تنافي بينهما ليدخل في التعارض.

والوجه في ذلك : أن الدليل المحكوم متكفل لبيان حكمه ولا يكون متكفلاً لتحقق موضوعه بل مفاده قضية شرطية ـ لما بينا من أن مرجع القضية الحقيقية إلى قضية شرطية ـ وأما الدليل الحاكم ، فهو يتصدى لبيان انتفاء الشرط ولا تنافي بين القضية الشرطية التي تدل على ثبوت التالي عند ثبوت الشرط وبين القضية الدالة على انتفاء الشرط ، لأن القضية الشرطية لا تتكفل بيان تحقق الشرط. ففي الأصل والأمارة يكون الموضوع المأخوذ في أدلة الأصول هو الشك ، وأما أن المكلف شاك أو غير شاك فهو خارج عن مفادها ، والأمارة ترفع الشك بالتعبد الشرعي فلا يبقى موضوع للأصل.

وظهر بما ذكرناه : أن الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه ، لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الاجتماع بلا فرق بين كون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم أو أضعف.


وأما التخصيص : فالوجه في خروجه عن التعارض هو أن حجية العام ـ بل حجية كل دليل ـ تتوقف على أمور ثلاثة : صدوره عن المعصوم ، وكون ظاهره مراداً للمتكلم ، وأن إرادته له جدية. ومن المعلوم أن بناء العقلاء على العمل بالظواهر إنما هو في مقام الشك في المراد الاستعمالي أو المراد الجدي دون فرض العلم بإرادته خلاف الظاهر أو أنه في مقام التقية أو الامتحان ، فلا يمكن الأخذ بالظهور مع قيام القرينة على الخلاف ، بلا فرق بين كونها متصلة أو منفصلة ، غايته أن القرينة المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور من أول الأمر ، دون القرينة المنفصلة فإنها تكشف عن كونه غير مراد للمتكلم.

وأيضا ، لا فرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية ، كالخبر فإنه قرينة قطعية غير وجدانية بل قرينة تعبدية ، غايته : أن القرينة القطعية مقدمة على الظهور بالورود ، لارتفاع موضوع حجيته وجداناً ، إذا لا يبقى معها شك في المراد ، بخلاف القرينة الظنية فإنها مقدمة بالحكومة لارتفاع موضوع حجيته بالتعبد الشرعي.

فالدليل الخاصّ وإن كان مخصصاً بالنسبة إلى الدليل العام لكنه حاكم بالنسبة إلى دليل حجية العام ، لأنه يرفع الشك في المراد من العام تعبداً ، فمرجع التخصيص إلى الحكومة بالنسبة إلى دليل الحجية فلا منافاة بينهما على ما تقدم.

كما أن مرجع الحكومة إلى التخصيص فإن مفاد قوله 7 ( لا رِبا بين الوَالد ووَلَدِهِ ) هو نفي حرمة الرّبا بينهما ، وإن كان بلسان نفي الموضوع ، فهو تَخصيص بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حرمة الرّبا عموماً ، لكنه تخصيص بلسان الحكومة.

فتحصل ، مما ذكرنا : أن الخاصّ يقدم على العام من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجية العام ، وإن كان تخصيصاً بالنسبة إلى نفس العام. وهذا هو الفارق بين التخصيص والحكومة المصطلحة فإن الدليل الحاكم حاكم على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية ، بخلاف التخصيص إذ


الخاصّ ليس حاكماً على نفس العام بل حاكم على دليل حجية » (١).

ونلاحظ في ضوء هذه الكلمات.

أولا ـ أن المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ لا يرى تلازماً بين التنافي بين المدلولين والتنافي بين الدلالتين ، فهو يعتقد أن الأول ثابت في موارد الجمع العرفي دون الثاني.

وثانياً ـ أن مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ التي يمثلها السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ تنفي التنافي بين المدلولين في موارد الجمع العرفي ، فضلاً عن التنافي بين الدلالتين.

وثالثاً ـ أن المحقق الخراسانيّ والمحقق النائيني ـ قدهما ـ يتفقان على لزوم إخراج موارد الجمع العرفي عن تعريف التعارض. ولا بد من تمحيص هذه الأمور الثلاثة.

اما فيما يتعلق بالأمر الأول ، فالصحيح هو أن التنافي في موارد الجمع العرفي كما يوجد بين المدلولين يوجد كذلك بين الدلالتين ، سواء كان المراد من الدلالة الظهور أو الحجية. أما التنافي بحسب الظهور ، فلأن الدليل المنفصل لا يرفع الظهور فيبقى التنافي بين الدليلين المنفصلين في موارد الجمع العرفي محفوظاً.

وأما التنافي بحسب الحجية فلأن حجية العام مع حجية ظهور الخاصّ لا محالة متنافيتان. نعم ، لو أريد من التنافي بحسب الدلالة ما سوف نشير إليه من التنافي بحسب اقتضائي دليل الحجية لشمولهما ، فلا يكون تناف في موارد الجمع العرفي ، لأن اقتضاء دليل الحجية لشمول العام معلق على عدم مجيء الخاصّ. غير أن هذا ليس مقصوداً للمحقق الخراسانيّ ـ قده ـ بقرينة أنه يرى التعارض هو التنافي بين الدلالتين على وجه التناقض أو التضاد ومن الواضح

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٤٧ ـ ٣٥٢.


أن التنافي بين اقتضائي دليل الحجية يكون بنحو التضاد دائماً ، لأن حجية كل من المتعارضين أمر وجودي مضاد لحجية الآخر.

وأما الأمر الثاني الّذي يرتبط بمدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ ففيما أفيد فيها بالنسبة إلى الحكومة يرد عليه.

أولا ـ ثبوت التنافي بين مدلولي الدليلين في موارد الحكومة بجميع أقسامه ، وما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من أن المحكوم لا نظر له إلى موضوعه فلا يتنافى مع مدلول الحاكم النافي لموضوع المحكوم ، سوف يأتي أنه غير تام. ومنه يعرف أن محاولة إرجاع التخصيص إلى الحكومة لو صحت فهي لا تجدي في رفع التنافي بين المدلولين أيضا.

ثانياً ـ أن عدم التنافي بين المدلولين في موارد الحكومة إن تم فإنما يتم في موارد الحكومة التي تتحقق بملاك رفع الدليل الحاكم لموضوع المحكوم ، وأما في موارد الحكومة المتحققة بملاك النّظر في الدليل الحاكم إلى عقد الحمل من الدليل المحكوم محضاً دون تصرف في موضوعه ، كما في حكومة ( لا ضرر ) على أدلة الأحكام الواقعية ، فلا يتم ما ذكر لنفي التعارض بين المدلولين ، لوضوح أن مفاد الحاكم والمحكوم في تلك الموارد ثابتان في عرض واحد ، فيتنافيان لانحفاظ الموضوع فيهما معاً مع تنافي محموليهما.

وفيما أفاده بالنسبة إلى التخصيص يرد عليه :

أن الكلام في وجود تناف بين المدلولين وعدمه إنما هو في مدلولي الدليلين الذين يتحقق الجمع العرفي بينهما ، فما هو محط الجمع العرفي هو محط البحث أيضا في تنافي المدلولين وعدمه ، وفي موارد التخصيص يوجد عندنا أنحاء ثلاثة من التقابل. أحدها : التقابل بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام. الثاني : التقابل بين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام. الثالث : التقابل بين نفس الدليل الخاصّ والدليل العام. أما التقابل الأول ، فلا تنافي فيه أصلاً ،


إذ لا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام ، لأن مفاد الأول حكم واقعي ومفاد الثاني حكم ظاهري ، ولا مانع من اجتماع هذين الحكمين معاً ثبوتاً ، بأن يكون الحكم الواقعي على طبق الخاصّ ، ويكون ظهور العام حجة أيضا.

وأما التقابل الثاني ، فيقدم فيه دليل حجية ظهور الخاصّ على دليل حجية ظهور العام بالورود ، باعتبار أن دليل حجية العام يقيد بعدم قيام الخاصّ على خلافه ، وبشمول دليل الحجية لظهور الخاصّ يرتفع هذا الموضوع وجداناً.

وأما التقابل الثالث ، فيقدم الخاصّ على العام بالتخصيص الّذي هو علاج عرفي لتعارض غير مستقر بين الخاصّ والعام ، حيث يفترض العرف أن للمتكلم في مقام تحديد مراده أن يعتمد على القرائن المنفصلة أيضا ، وهذا بنفسه السبب والمبرر للحل المتقدم في التقابل بين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام.

وفي ضوء هذا التحليل يتضح أمران.

الأول ـ أن محط الجمع العرفي إنما هو التقابل الثالث الّذي يكون بين الدليل الخاصّ والدليل العام نفسيهما ، فإن أراد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من إنكار التنافي بين المدلولين في موارد التخصيص دعوى : أن الجمع العرفي في هذه الموارد يتمثل في التقابل بين دليل حجية العام والخاصّ. ففيه : أن حل هذا التقابل بالورود أو الحكومة إنما يكون في طول جمع عرفي أسبق رتبة يحل به التقابل بين نفس العام والخاصّ ، فإنه لو لم نفرض ملاكاً يقتضي تقديم الخاصّ على العام في تلك المرتبة ، لم تكن نكتة للتقديم المذكور. ومجرد ما ذكر من أن حجية العام مقيدة بعدم العلم بالخلاف والخاصّ بعد حجيته علم تعبدي بالخلاف ، لا يكفي مبرراً لذلك التقديم ، إذ ليس ذلك بأولى من العكس فكما يمكن أن يقال : إن حجية ظهور العام في العموم موضوعها


الشك والخاصّ الحجة يرفع هذا الشك ، كذلك يمكن أن يقال : إن حجية ظهور الخاصّ موضوعها الشك والعام يرفعه ، فلا بد وأن نفترض في المرتبة السابقة سبباً لتقديم الخاصّ على العام ، وهو نفس الجمع العرفي بينهما.

وإن أراد بذلك : إنكار التنافي بين مدلولي الدليلين في ذلك الجمع العرفي الأسبق رتبة. فهذا واضح البطلان ، لأن هذا الجمع العرفي إنما هو بين نفس العام والخاصّ والتنافي بين مدلوليهما ظاهر.

الثاني ـ أن ما جاء في التقرير من جعل التعارض بين دليل الخاصّ ودليل حجية العام وكونه من الحكومة لا يخلو من تشويش والتباس ، فإن دليل الخاصّ لو لوحظ بنفسه مع دليل حجية العام فلا تعارض بينهما حتى بنحو غير مستقر ، لما تقدم من إمكان صدق مضمونهما معاً. وإنما التعارض بين مدلولي الخاصّ والعام من جهة ، وبين دليل حجية الخاصّ ودليل حجية العام من جهة أخرى. والأول يحل بالجمع العرفي الّذي يعين المراد من العام على طبق الخاصّ ، والثاني يحل بورود حجية الخاصّ على حجية العام.

وأما الأمر الثالث ، الّذي يرتبط بتعريف التعارض فالواقع أننا يجب أن نعرف ما ذا نقصد من وراء تعريف التعارض لنصوغه بالطريقة التي تفي بمقصودنا ، لأننا في حالات التعارض بين الدليلين نواجه عدة أسئلة.

الأول ـ أن هذا التعارض هل هو مستحكم بنحو يسري إلى دليل الحجية ، فيكون اقتضاء دليل الحجية الشمول لأحدهما منافياً فعلاً لاقتضائه شمول الآخر ، أو ان هذا التعارض بين الدليلين في مرحلة دلالتهما أو مدلوليهما لا يسري إلى دليل الحجية ، بل يحل في هذه المرحلة. وهو ما يسمى بالجمع العرفي؟

الثاني ـ أن هذا التعارض إذا كان مستحكماً وسارياً إلى دليل الحجية


فما هو مقتضى دليل الحجية؟ التساقط أو التخيير أو الترجيح؟

الثالث ـ أن التعارض سواء كان مستحكماً أو لم يكن مستحكماً هل عولج حكمه في دليل خاص وراء دليل الحجية العام؟ وهذا هو بحث الأخبار العلاجية.

وكل هذه الأسئلة يقع الجواب عليها في عهدة علم الأصول ، لدخول ذلك في نطاق وظيفته.

وعلى هذا الأساس يمكن القول : بأن المقصود من تعريف التعارض إذا كان التعارض المستحكم الساري إلى دليل الحجية ، باعتباره موضوع البحث في السؤال الثاني الّذي ينقح في مقام الجواب عنه الأصل الأولي من حيث التخيير أو التساقط ، فلا بد من صياغة التعريف بنحو يقتضي خروج موارد الجمع العرفي. ولكن عرفت أن تعريف المشهور ـ وكذا تعريف المحقق الخراسانيّ قده ـ لا يفي بذلك ، لأن موارد الجمع العرفي لا تخرج لا بفرض المنافاة بين المدلولين ولا بفرض المنافاة بين الدلالتين ، لانحفاظهما معاً في غير الورود من أقسام الجمع العرفي. وإنما الصحيح أن يقال في تعريفه حينئذ : إن التعارض هو التنافي بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما ، وبهذا العنوان قد ينطبق التعارض على دليلين غير متكاذبين في الدلالة والمدلول أيضا ، كدليلين ترخيصيين غير مثبتين للّوازم مع العلم الإجمالي بانتفاء أحد الترخيصين ، فإن هذين الدليلين متنافيان في مرحلة شمول دليل الحجية لهما لكنهما غير متكاذبين.

ولكن ، يبقى السؤال عن الهدف الفني الّذي يستهدفه الباحث وراء إخراج موارد الجمع العرفي عن موضوع بحث التعارض ، مع أن علم الأصول هو العلم الّذي يتعهد ببيان قواعد هذا الجمع. ويجيب عن السؤال الأول من الأسئلة الثلاثة المتقدمة ، كما أن السؤال الثالث أيضا لا يختص بغير موارد


الجمع العرفي ، فلا موجب لحصر التعارض المبحوث عنه هنا في خصوص ما يقع مورداً للسؤال الثاني خاصة. نعم لا بأس بالاستفادة من هذا التعريف لتعريف أحد قسمي التعارض الرئيسيين ، وهو التعارض المستقر الّذي سوف يقع موضوعاً للبحث في الأصل الأولي والأصل الثانوي على ما سوف يأتي بيانه.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض ، التعارض الّذي يقع مورداً للأسئلة الثلاثة جميعاً ، فلا بد في تعريفه بنحو يشمل موارد الجمع العرفي بأقسامه المتعددة ، وحينئذ فلا يصح التعريف المشهور ـ ولا تعريف المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ لذلك ، لأن المنافاة ، سواء جعلت بين الدلالتين أو المدلولين لا تشمل الورود من أقسام الجمع العرفي ، إذ لا منافاة بين الدليل الوارد والدليل المورود ، لا في المدلول ولا في الدلالة.

فالصحيح ، أن يقال في تعريفه : إن التعارض هو التنافي بين المدلولين ذاتاً بلحاظ مرحلة فعلية المجعول التي هي مرحلة متأخرة عن المرحلة التي يتعرض لها الدليل ، حيث إن الدليل متكفل للجعل لا لفعلية المجعول ، فكلما كان هناك تناف بين المدلولين بلحاظ مرحلة المجعول ـ أي لم يمكن اجتماع المدلولين في عالم الفعلية معاً ولو باعتبار التنافي بين موضوعهما ـ صدق التعارض بهذا المعنى ، سواء كان هذا التنافي ناشئاً من التنافي بين الجعلين أو لا. وبذلك يشمل التعريف موارد الورود أيضا ، لأن هذه الموارد لا يمكن فيها اجتماع المجعولين الفعليين وإن كان اجتماع الجعليين ممكناً. وإنما قيّدنا التنافي بين المجعولين بكونه ذاتياً ، لإخراج التنافي المصطنع بينهما الناشئ من تقييد موضوع خطاب بعدم خطاب آخر ، دون أن يكون ذلك على أساس التنافي الذاتي بين حكميهما مسبقاً.

وأما إذا كان المقصود من تعريف التعارض ، تحديد التنافي الحقيقي بين


دليلين ، فسوف نجد أن تعريف المشهور وتعريف المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ يفي بذلك ، دون الصيغة التي تفي بالمقصود الأول والصيغة التي تفي بالمقصود الثاني ، وذلك لأن الصيغة التي تفي بالمقصود الأول تكون أضيق دائرة من حالات التنافي الحقيقي ، لما تقدم من أن التنافي بين الدليلين بحسب المدلول والدلالة ثابت في غير الورود من أقسام الجمع العرفي ، والصيغة الثانية أوسع دائرة من حالات التنافي الحقيقي ، لأن عدم إمكان اجتماع المجعولين في الفعلية في موارد الورود لا يحقق تنافياً بين الدليلين ، لأن المرحلة التي يتعرض لها الدليل إنما هي الجعل لا المجعول. ويكون التعارض بموجب هذه الصيغة المستفادة من تعريف المشهور غير مختص بموارد التعارض المستحكم ، كما لا يكون شاملاً لقسم الورود من أقسام التعارض غير المستقر ، ولا حاجة في هذه الصيغة إلى الاهتمام بإخراج موارد الجمع العرفي جميعاً ، بل العكس هو الصحيح ، لأن المقصود بها ضبط حالات التنافي الحقيقي بين الدليلين وهي تشمل غير الورود من أقسام التعارض غير المستقر.

ويتلخص من ذلك كله : أن تعريف التعارض إن كان تعريفاً لمعنى مصطلح فالمسألة مسألة اختيار تبعاً للحاجة الفنية التي من أجلها وضع الاصطلاح ولهذا فالأنسب بهذه الحاجة هو الصيغة الثانية التي تستوعب الأسئلة الثلاثة التي يجب على علم الأصول معالجتها. وإن كانت الصيغة الأولى يمكن الاستفادة منها في تعريف قسم من التعارض يقع موضوعاً للبحث الأصولي. وإن كان تعريف التعارض تعريفاً لواقع موضوعي ، وهو حالات التنافي الحقيقي بين دليلين ، فكل من تعريف الشيخ الأعظم وتعريف المحقق الخراسانيّ ـ قدهما ـ يفي به ، للتلازم بين تنافي المدلولين وتنافي الدلالتين.

وسوف نعبر فيما يلي عن الصيغة الثانية بالتعارض الاصطلاحي وعن الصيغة الثالثة بالتعارض الحقيقي.

التعارض بين الأصلين وبين الأصل والأمارة :

والتعارض ، تارة : يفرض بين دليلين اجتهاديين ، كالتعارض بين


روايتين. وأخرى : يفرض بين أصلين عمليين ، كالتعارض بين أصل البراءة والاستصحاب. وثالثة : بين أصل عملي ودليل اجتهادي ، كالتعارض بين البراءة والرواية الدالة على الحرمة مثلاً ، فهل هنا أقسام ثلاثة للتعارض حقيقة؟

الصحيح ، أن الفرضين الأخيرين ليسا قسيمين للفرض الأول ، بل هما حالتان من حالاته ، ومصداقان آخران للتعارض بين الدليلين الاجتهاديين. وذلك : لأن حالات التعارض بين الأصلين العمليين ترجع في الحقيقة إلى التعارض بين دليلي حجيتهما بلحاظ ما يدل عليه كل منهما من جريان أصل لا يلائم جريان الأصل الآخر ، وليس التعارض بين الأصلين حقيقة ، إذ ليس للأصل مدلول ومحكي ليحصل التنافي بينهما بلحاظ مدلوليهما أو دلالتيهما ، وإنما للأصل معلول وأثر على فرض الوصول ، وهو المنجزية والمعذرية ، فلا دلالة له على نفي الأصل الآخر.

وأما حالات التعارض بين الدليل الاجتهادي والأصل ، كتعارض الخبر الدال على الحرمة مع البراءة عنها ، فمرجعها ـ في الحقيقة ـ إلى التعارض بين الدليل الاجتهادي الدال على البراءة ودليل حجية الخبر ، ولا تعارض بين نفس الخبر والبراءة ، إذ ليس للبراءة مدلول ومحكي ينافي مدلول الخبر بل لها أثر معلول لوصولها ، وهو التأمين ، وهو ينافي ما لحجية الخبر المذكور من معلول لوصوله وهو التنجيز. فالتنافي بحسب الحقيقة بين ثبوت التعذير الّذي هو أثر الأصل وثبوت التنجيز الّذي هو أثر الدليل الاجتهادي ، حيث يستحيل صدقهما معاً فيكون التعارض بين ما يدل على ذلك التعذير وهذا التنجيز.

وهكذا نعرف : أن التعارض يكون دائماً بين الدليلين ، ونقصد بالدليل كل ما كان متكفلاً للكشف عن حكم شرعي.


التعارض بين الدليل اللفظي والدليل العقلي :

والتعارض كما يمكن أن يفرض بين دليلين لفظيين كذلك يمكن أن يفرض بين دليلين عقليين ، أو دليل عقلي ودليل لفظي.

أما التعارض بين دليلين عقليين ، فلا بد وأن يفرض فيهما عدم كونهما معاً قطعيين بأن يكون أحدهما أو كلاهما ظنياً قام الدليل على حجيته تعبداً. وحينئذ ، فإن كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً كان الدليل القطعي وارداً على الدليل الظني ، لأن التعارض يقع ـ في الحقيقة ـ بين الدليل العقلي القطعي ودليل حجية ذلك الظن ، وقد أخذ في موضوع دليل الحجية الشك ، والدليل القطعي رافع له حقيقة. وأما لو كانا ظنيين معاً ، فيرجع التعارض بينهما إلى التعارض بين الدليلين الاجتهاديين الدالين على حجيتهما ، فلا بد من تطبيق قواعد التعارض عليهما.

وأما التعارض بين دليل عقلي ودليل لفظي ، فإن كان الدليل العقلي قطعياً كان وارداً على الدليل اللفظي أيضا لعين الملاك المتقدم ، وإن كان اللفظي قطعياً والعقلي ظنياً انقلبت النسبة وكان اللفظي وارداً على العقلي الظني ، لنفس السبب ، وإن كانا ظنيين معاً كان التعارض في الحقيقة بين دليل حجيتهما ، فتطبق عليهما قوانين باب التعارض.

والفرق الأساسي بين حالات التعارض في الأدلة اللفظية ، وحالات التعارض في غيرها ، أن ملاكات الجمع العرفي ـ باستثناء الورود ـ لا تتصور في غير الأدلة اللفظية الكاشفة عن مراد الشارع ـ على ما سوف تأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى ـ فإن إمكانية الجمع العرفي في حالة تعارض عقليين ظنيين أو عقلي ظني ولفظي ظني إنما تتوقع في رتبة دليلي الحجية للمتعارضين إذا كانا لفظيين لا في رتبة نفس المتعارضين ، وهذا بخلاف حالة تعارض الدليلين اللفظيين ، فإنه قد تكون إمكانية الجمع العرفي بينهما بنحو لا يستقر التعارض ولا يسري إلى دليل الحجية.


التَعارُض والتَزاحُم

التزاحم ، هو التنافي بين الحكمين بسبب عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في عالم الامتثال. ولا بد لنا بصدد تعريف التعارض من أن نعرف النسبة بين التزاحم الّذي هو نحو من أنحاء التنافي ، وبين التعارض الّذي عرفنا فيه نحواً من أنحاء التنافي أيضا.

وهنا لا بد وأن نلحظ كلا المعنيين السابقين للتعارض وهما ، التعارض الحقيقي والتعارض الاصطلاحي.

أما بالنسبة إلى التعارض الحقيقي ، فحالات التزاحم تخرج عنه إذا تم شرطان :

الأول ـ أن نلتزم في كل خطاب شرعي ـ بموجب مقيد لبي له ـ بقيد هو « عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية » فيكون موضوع الصلاة مثلاً من لم يشتغل بضد لها واجب لا يقل عنها في الأهمية ، وكذا في وجوب الإزالة.

الثاني ـ أن نلتزم بإمكان الترتب في الوجوبين المتزاحمين ، بأن يكون الوجوب الآخر مجعولاً على تقدير عصيان الوجوب الأول. فإن تم هذان الأمران كانت موارد التزاحم خارجة عن نطاق التعارض الحقيقي ، وأما إذا أنكرنا الأمر الأول ، وقلنا : بأن خطاب ( صل ) مثلاً غير مقيد بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية ، وأن إطلاقه بنفسه يدل على


عدم وجود مكافيء للصلاة في الأهمية ، فمن الواضح وقوع التعارض الحقيقي حينئذ بين إطلاق خطاب ( صل ) وإطلاق خطاب ( أزل ) لأن كلاً منهما يدل حينئذٍ على وجوب متعلقه مطلقاً حتى مع الاشتغال بالآخر ، ونتيجة هذا الإطلاق إلزام كل من الخطابين بصرف القدرة في متعلقه بدلاً عن متعلق الآخر.

كما أنا إذا قبلنا الأمر الأول وأنكرنا الأمر الثاني ، وقلنا باستحالة الترتب ، فسوف يحصل التنافي بين الخطابين ، ولو كانا مشروطين بالمخصص اللبي ، من ناحية أدائه إلى فعلية كلا الخطابين المجعولين في فرض العصيان ، وهذا يعني سراية التنافي إلى عالم الجعل واستحالة ثبوت الخطابين المشروطين بما هما مشروطان أيضا ، وهو معنى التعارض.

وأما دخول التزاحم إثباتاً ونفياً في التعارض الاصطلاحي ، فهو مسألة اختيار ، لأن مقوم التعارض الاصطلاحي التنافي بين المجعولين في عالم الفعلية ، فإن عمم هذا التنافي بين المجعولين للتنافي غير المباشر بينهما ـ ولو باعتبار ما يستتبعه المجعول من تنجز وامتثال ـ دخل التزاحم في التنافي المصطلح ، لأن كلا من المجعولين في موارد التزاحم ينافي المجعول الآخر ، لا بنفسه بل بامتثاله.

وأما نسبة البحث الأصولي في التزاحم إلى البحث الأصولي في التعارض الاصطلاحي ، فهي نسبة البحث الصغروي إلى البحث الكبروي ، لأن بحث التعارض الاصطلاحي يفي ببيان أحكام وقوانين التعارض المستحكم وأحكام وقوانين التعارض غير المستحكم « موارد الجمع العرفي » وعلى بحث التزاحم تقع عهدة تحقيق الصغرى ، إذ يبحث عما إذا كان هناك تعارض مستحكم في مورد التزاحم أولا ، وذلك عن طريق دراسة الأمرين السابقين اللذين يتوقف على تماميتهما خروج التزاحم عن التعارض الحقيقي ، فإن ثبت الأمران وانتفى التعارض المستحكم انفتح مجال للحديث عن قوانين الترجيح والتخيير في باب التزاحم ، وهي كلها في الحقيقة تطبيقات لقانون الورود الّذي يتعهد بحث التعارض الاصطلاحي بتنقيحه كبرويا ـ على ما يأتي تفصيله وتوضيحه إن شاء الله لدى دراسة نظرية الورود ـ.


كيفَ نشَأ التعَارضُ في الأدلةِ الشرعيَّة

وقد يتساءل عن منشأ وقوع التعارض بين الأحاديث الصادرة عن المعصومين : رغم أنهم جميعاً يفصحون عن أحكام الشرع المبين المنزّه عن التناقض والاختلاف. وقد ينطلق من ذلك للتشكيك في الأسس والأصول الموضوعية التي يبتني عليها الفقه الجعفري بل التراث الشيعي بكامله ، من الاعتقاد بعصمة الأئمة واعتبار أقوالهم والنصوص الصادرة عنهم كالقرآن الكريم والسنّة النبوية مصدراً تشريعياً يرجع إليها في مجال التعرف على أحكام الشريعة المقدسة. فتجعل من ظاهرة التعارض والاختلاف الملحوظة بين النصوص الصادرة عنهم دليلاً على الزعم القائل : بأن الأئمة ليسوا إلاّ مجتهدين كسائر الفقهاء والمجتهدين ، وليست الأحاديث الصادرة عنهم إلاّ تعبيراً عن آرائهم الاجتهادية الخاصة ، فيكون من الطبيعي حينئذ وجود الاختلاف والتعارض فيما بينها ، وبهذا تفقد هذه الأحاديث الشريفة قيمتها التشريعية والمصدرية. ولسنا هنا بصدد الدفاع عن عقيدة العصمة ، فإن لذلك مجالاً غير هذا البحث ، وإنما نود أن نشير فيما يلي إلى أهم العوامل التي يمكن أن تفسر ظاهرة التعارض الموجودة بين الأحاديث والنصوص الصادرة عن أئمتنا : ، دون أن يكون فيها ما يفقد قيمتها التشريعية.


١ ـ الجانب الذاتي للتعارض :

كثيراً ما لا يكون بين النصين المدعى تعارضهما أي تناف في الواقع ، ولكن الفقيه الممارس لعملية الاستنباط قد يُتراءى له التناقض بينهما على أساس الإطار الذهني الّذي يعيشه ويتأثر به في مجال فهم النص فيخطئ في تشخيص معنى النص إما لجهله باللغة وعدم اطلاعه على دقائقها ، أو لغفلته عن وجود بعض القرائن ، أو قرينية الموجود منها ، أو لعدم معرفته بطروّ تغيير في بعض الأوضاع اللغوية. فهو يفهم النص في ضوء ما يراه معنى له بالفعل ، ثم يفترض أنه كان معنى اللفظ في زمان صدور النص أيضا ، ولو من جهة أصالة عدم النقل والثبات العقلائية.

فكل واحد من هذه العوامل قد يسبب وقوع التعارض فيما بين النصوص لدى الفقيه الممارس لعملية الاستنباط ، ولكنه تعارض ذاتي وليس تعارضاً موضوعياً ثابتاً في واقع الأمر.

٢ ـ تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ :

ومن العوامل المؤثرة في نشوء ظاهرة التعارض بين الأحاديث وقوع النسخ في جملة من الأحكام الشرعية.

والنسخ ، إن أخذناه بمعناه الحقيقي ، وهو رفع الحكم بعد وضعه وتشريعه الّذي هو أمر معقول ، بل واقع في الأحكام العرفية بلا كلام وادّعي وقوعه في الأحكام الشرعية من قبل بعض الأصوليين ، فسوف لن يكون النسخ من باب التعارض والتنافي بين الدليلين بحسب الدلالة ومقام الإثبات ، لأن الدليل الناسخ حينئذٍ لا يكون مكذباً للدليل المنسوخ ، لا بلحاظ دلالته على أصل الحكم المنسوخ ولا بلحاظ دلالته على دوامه واستمراره ، وإنما يكون دالاً على تبدّل الحكم وتغيره ثبوتاً بعد أن كان نظر المشرّع على طبق


المنسوخ حدوثاً وبقاءً حقيقةً. فالنسخ في الشريعة على هذا الأساس وإن كان من الاختلاف والتنافي في الحكم ، وقد يكون له مبرراته من التدرج في مقام التقنين والتشريع أو غيره من المبررات ، إلاّ أنه يكون تنافياً في عالم الثبوت وليس من التعارض الّذي هو التنافي في عالم الإثبات.

وإن فسرنا النسخ في الشريعة بما يرجع إلى التخصيص بلحاظ عمود الزمان ، وأن الناسخ يكشف عن انتهاء أمد الحكم المنسوخ ومحدوديته بذلك الزمان ، وأن الناسخ يكشف عن انتهاء أمد الحكم المنسوخ ومحدوديته بذلك الزمان من أول الأمر وإن كان بحسب ظاهر دليله مطلقاً من ناحية الزمان ، فسوف يندرج النسخ في باب التخصيص الّذي هو أحد أقسام التعارض غير المستقر ، حيث تحصل المعارضة بين أصل دلالة الدليل المنسوخ على استمرار الحكم ودوامه وبين الدليل الناسخ. وقد يدور الأمر بين أن يكون الدليل المتأخر ناسخاً للحكم المتقدم ورافعاً لاستمراره ، أو يكون مخصصاً لبعض أفراده فيكون بياناً لإرادة الخصوص من أول الأمر. وقد بينت في محلّه مرجحات كل من التخصيص أو النسخ بما لا مجال هنا لشرحه.

وهكذا يتضح : أن تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ يكون أيضا أحد العوامل المستوجبة للتعارض بين الأحاديث والنصوص. ولكن التعارض على أساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي 6 ولا تعم النصوص الصادرة عن الأئمة : لما ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي 6 وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلاّ بياناً لما شرعه النبي 6 من الأحكام وتفاصيلها.

٣ ـ ضياع القرائن :

ومن جملة ما يكون سبباً في نشوء التعارض بين النصوص أيضا ، ضياع كثير من القرائن المكتنف بها النص أو السياق الّذي ورد فيه ، نتيجة للتقطيع أو


الغفلة في مقام النقل والرواية ، حتى كان يرد أحياناً التنبيه على ذلك من قبل الإمام نفسه. كما في الحديث الوارد في المسألة الفقهية المعروفة ( ولاية الأب على التصرف في مال الصغير ) حيث كان يستدل أصحابه على ولايته بما كان يروى عن النبي 6 « أنتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ » فجاء في رواية الحسين ابن أبي العلاء أنه قال : « قُلتُ لأبي عَبدِ اللهِ 7 : مَا يَحلّ للرّجُلِ مِن مَال وَالِدِهِ؟ قال : قُوتُهُ بِغَيرِ سرَفَ إذَا اضطرّ إليهِ. فَقُلتُ لَهُ قولُ رَسولِ الله 6 للرّجُلِ الّذي أتَاهُ فَقَدّمَ أبَاهُ فَقَالَ لَهُ : أنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ فَقَالَ : إنّمَا جَاءَ بِأبِيهِ إلى النّبيّ 6 فَقَالَ : يا رَسُولَ اللهِ هذَا أبِي ظَلَمَنِي مِيرَاثي مِن أمّي ، فَأخبَرَهُ الأبُ أنّهُ قَد أنفَقَهُ عَلَيهِ وَعَلى نَفسِهِ. فَقَالَ النّبيّ 6 :أنتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ ، وَلَم يَكُن عِندَ الرّجُلِ ، أو كَانَ رَسولُ اللهِ 6 يَحبِسُ الأبَ للابنِ؟ » (١).

فقد حاول الإمام 7 أن ينبه في هذه الرواية على أن الحديث المنقول عن النبي 6 قد جرد من سياقه ، وما كان يحتفّ به من القرائن التي يتغير على أساسها المدلول ، فإنّ قولَه 6 « أنت ومالك لأبيك » لو كان صادراً مجرداً عن ذلك السياق أمكن أن يكون دليلاً على حكم شرعي ، هو ولاية الأب على أموال ابنه بل نفسه أيضا ولكنه حينما ينظر إليه في ذلك السياق لا يعدو أن يكون مجرد تعبير أدبي أخلاقي.

وتكثر الغفلة عن القرائن فيما إذا كانت ارتكازية عامة تنشأ من البيئة وظروف النص ، فإن الراوي وإن كان مسئولاً في مقام النقل والرواية عن نقل النصّ بكامله وكامل ما يكتنف به من القرائن والملابسات التي تلقي ضوءاً على المعنى المقصود منه ـ ولذلك اعتبرنا سكوت الراوي عن نقل القرينة شهادة سلبية منه على عدم وجودها حين صدور النص ، وبذلك استطعنا أن نتخلص من مشكلة الإجمال إذا ما احتمل وجود قرينة مع النص لم تصل إلينا ، على

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به.


ما حققناه في محله ، ـ إلاّ أن القرائن إذا كانت ارتكازية عامة فلا تكون محسوسة لدى الراوي حين النقل كي يذكرها صريحاً ، لأنها حينئذ قضايا عامة معاشة في ذهن كل إنسان فلا يشعر الراوي بحاجة إلى ذكرها باللفظ ـ ولذلك استثنينا في محله عن قاعدة رفع إجمال النص حين احتمال وجود القرينة بشهادة الراوي السلبية المستكشفة من سكوته ، ما إذا كانت القرينة المحتملة قرينة ارتكازية عامّة ، لأن الراوي حينئذ يفترض وجودها ارتكازاً عند السامع أيضا فلا يتصدى لنقلها ، ولا يكون في سكوته شهادة سلبية بعدمها ـ فقد يبقى النص على هذا الأساس منقولاً بألفاظه مجرداً عن القرينة الارتكازية العامة ، فإذا ما تغير عبر عصور متعاقبة ذلك الارتكاز العام وتبدل إلى غيره ، تغيّر معنى النص لا محالة ، وإذا اعتبرنا مثل هذا الظهور حجة ، ولو تمسكاً بأصالة عدم القرينة كما هو مسلك المشهور ، فقد ينشأ على هذا الأساس التنافي بين هذا النص وغيره من النصوص المتكفلة لبيان نفس الحكم الشرعي.

٤ ـ تصرف الرّواة والنقل بالمعنى :

وتصرف الرّواة في ألفاظ النص ونقلهم له غير مكترثين بألفاظه وغير محافظين على حرفيته في أغلب الأحيان هو العامل الآخر في نشوء التعارض بين النصوص ، إذ من الطبيعي أن يقع حينئذ في دلالة النص أو مدلوله شيء من التغيير والتبديل ، بأن تتغير مرتبة دلالة النص ودرجة صراحتها ، أو يتغير مدلوله نتيجة غفلة الراوي أو جهله في مقام التصرف ، فينشأ على أساس ذلك التعارض أو تستحكم المعارضة بسبب التغيير الحاصل بحيث لولاه لكان من الممكن الجمع بين النصوص وحل المعارضة بأحد أنحاء الجمع العرفي التي سوف يأتي شرحها. وقد كان من الطبيعي على هذا الأساس أن يتأثر درجة التغير والتصرف في النص بمدى قدرة الراوي على ضبط تمام المعنى ونقله من دون تصرف فيه إلاّ بما لا يخل ، فكلما كان الراوي أعلم بدقائق اللغة وأعرف بظروف صدور النص وبيئته ، كان احتمال التغيير فيما ينقله إلينا


أضعف درجة وأقل خطورة. ومما يشهد على وجود هذا العامل في الروايات ما نجده في أحاديث بعض الرّواة بالخصوص من أصحاب الأئمة :. من غلبة وقوع التشويش فيها ، حتى اشتهرت روايات عمار الساباطي مثلاً ، بين الفقهاء بهذا المعنى ، لكثرة ما لوحظ فيها من الارتباك والإجمال في الدلالة أو الاضطراب والتهافت في المتن في أكثر الأحيان ، وقد صار العلماء يعتذرون في مقام الدفاع عن صحة ما يصح عن طريقه وعدم قدح اضطراب متنه في اعتباره ، بأنه من عمار الساباطي الّذي لم يكن يجيد النقل والتصرف في النصوص لقصور ثقافته اللغوية.

٥ ـ التدرج في البيان :

ومن أهم عوامل نشوء التعارض بين الروايات أيضا ، أسلوب التدرج الّذي كان يسلكه أئمتنا : في مجال بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس ، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله وكل أبعاده دفعة واحدة وفي مجلس واحد في أكثر الأحيان ، بل كانوا يؤجلون بيان التحديدات والتفاصيل إلى أن تحين فرصة أخرى ، أو يتصدّى الراوي بنفسه للسؤال عنها ثانية.

وهذه ظاهرة واضحة في حياة الأئمة : التثقيفية مع أصحابهم ورواة أحاديثهم ، يلحظها كل من تتبع ودرس الأحاديث الصادرة عنهم. وربما تلحظ هذه الحالة في الحديث الواحد. حيث يبين الإمام 7 الحكم الشرعي أولا على سبيل الإيجاز ويسكت عن التفاصيل لو لا إلحاح السائل بعد ذلك وتصدّيه بنفسه لفهم حدود الحكم ودقائقه ، كما نشاهد ذلك في مثل رواية العيص بن القاسم ، قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ 7 في حَدِيثٍ :وَكَره النّقَابَ ـ يعني للمرأة المحرمة ـ وَقَالَ تُسدِلُ الثّوبَ عَلى وَجهِهَا ، قُلتُ : حَدّ ذَلِكَ إلى أينَ؟ قَالَ : إلى طَرَفِ الأنفِ قَدَرَ مَا تُبصِرُ » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ٤٨ ـ من أبواب تروك الإحرام.


فإن جواب الإمام 7 بجواز إسدال المرأة الثوب على وجهها من دون تقييد ذلك بطرف الأنف ظاهر في جواز إسدالها على كامل وجهها ، ولكن تصدي السائل ثانيا للسؤال عن حد ذلك الحكم أوجب أن يبين الإمام 7 ، ما يكون منافياً مع الجواب الأول ومقيداً له.

ولعل السبب الّذي كان يدعو لهذا التدرج في البيان ، هو مراعاة حالة المتشرعة التي لم تكن تسمح لهم باستيعاب التفاصيل كلها دفعة واحدة في ظل تلك الظروف السياسية ، ومع تلك الإمكانات المحدودة المستعصي معها التعليم والتعلم من جهة ، وتطبيقاً لفكرة التدرج الطبيعي في مجال التربية والتثقيف على الأحكام الشرعية تلك الفكرة التي طبقها النبي 6 أيضا في بدء الدعوة إلى الإسلام ، من جهة أخرى. فكان من نتائج هذا الأسلوب أن اعتمد الأئمة في مقام تبليغ تفاصيل الأحكام الشرعية وتثبيتها في أذهان أصحابهم على القرائن المنفصلة والبيانات المتأخرة بعضها عن بعض ، فشاع على هذا الأساس التعارض والتنافي بين النصوص والأحاديث الصادرة عنهم بنحو التخصيص أو التقييد أو القرينة ، كما نجده في كتب الحديث التي بأيدينا اليوم.

٦ ـ التقية :

والتقية أيضا كان لها دور مهم في نشوء التعارض بين الروايات ، فلقد عاش أكثر الأئمة المعصومين : ظروفاً عصيبة فرضت عليهم التقية في القول أو السلوك.

ولا نريد هنا شرح الأسباب التأريخية التي دعت الأئمة : إلى الاتقاء في أحاديثهم أو التحفظ في حياتهم العملية ، فإن للحديث عن ذلك مجالاً آخر ، ولكنه ينبغي أن نشير إلى أن التقية التي كان يعملها الأئمة لم تكن تقية من حكام بني أمية وبني العباس فحسب ، بل كانوا يواجهون ظروفاً اضطرتهم


إلى أن يتقوا أيضا من المسلمين والرّأي العام عندهم ، فلا يصدر منهم ما يتحدى معتقدات العامة ويخالف مرتكزاتهم وموروثاتهم الدينية التي تدخلت في نشأتها عوامل غير موضوعية كثيرة في ظل الأوضاع التي حكمت المسلمين في تلك الفترة من التاريخ.

فإن المتتبع لحياة الأئمة : يلاحظ أنهم كانوا حريصين كل الحرص على كسب الثقة والاعتراف لهم بالمكانة العلميّة والدينية المرموقة من مختلف الفئات والمذاهب التي نشأت داخل الأمة الإسلامية ، وإن كلفهم ذلك بعض التنازلات والتحفظات ، لكي يستطيعوا بذلك أداء دورهم الصحيح ، وتمثيل ثقلهم التشريعي والمرجعي الّذي تركه لهم النبي 6 في الأمة في الوقت الّذي يحفظون به أيضا على حياتهم وحياة أصحابهم المخلصين ، وهذا هو السبب فيما يلاحظ في أحاديثهم من الاعتراف في كثير من الأحيان بالمذاهب الأخرى وفتاوى علمائها ، فيعددون أن فتوى أهل العراق كذا ، وفتوى أهل المدينة كذا ، وهكذا ، رغم أنهم لا يرون صحتها ، ولكنهم يقصدون من وراء ذلك عدم تحدّي تلك المذاهب التي راجت وشاعت بين فئات من الأمة يعتدّ بها ، في الوقت الّذي يسجلون فيه خطأها ومخالفتها مع ما هم أدرى وأعرف من غيرهم به.

وكذلك ما يلاحظ في بعض الأحيان من أنهم يحرصون على نسبة ما يفتون به ورفعه إلى النبي 6 مسنداً عن آبائهم : ، فلو لا أنهم كانوا يراعون المذاهب الأخرى لقطع الحجة عليهم كان يكفي مجرد ذكر الحكم الشرعي وبيانه لشيعتهم في الأخذ به. وهكذا نستطيع أن نفسر ظاهرة التقية في أحاديث أئمتنا : بما يتضح معه السبب لشيوعها بين الروايات الصادرة عنهم ، مع أن أكثرها تتكفل مسائل فقهية بعيدة عن شئون الخلافة الإسلامية وما يرتبط بالخلفاء آنذاك ، وقد بلغ الأمر بالأئمة : في التقية لا من الحكام فحسب بل من الأمة بصورة آكد أن جعلوا مخالفة العامة مقياساً لترجيح إحدى الروايتين


المتعارضتين على الأخرى ، على ما يأتي شرحه مفصلاً في مباحث الترجيح والمرجحات ( إن شاء الله تعالى ).

هذا علاوة على ما حاولوه من توضيح ظروف التقية أمام الأمة والرّأي العام التي كانوا يواجهونها لأصحابهم ورواة أحاديثهم الموثوقين ، لكي لا يرتابوا في أمرهم حينما تصلهم عن أحد الأئمة أحاديث مختلفة مغايرة مع ما هو معروف لديهم من مذهب أهل البيت : وفقههم. فقد ورد عن أبي بصير أنه قال : « سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ 7 عَنِ القُنُوتِ ، فَقَالَ :فِيمَا يُجهَرُ فِيهِ بِالقرَاءَةِ. فَقَالَ : فَقُلتُ لَهُ : إنّي سَألتُ أبَاكَ عَن ذَلِكَ فَقَالَ في الخَمسِ كُلّها؟ فَقَالَ : رَحِمَ اللهُ أبي إنّ أصحَابَ أبي أتَوهُ فَسَألُوهُ فَأخبَرَهُم بالحَقّ ثُمّ أتَوني شُكّاكاً فَأفتَيتُهُم بالتّقِيّة » (١).

ورواية أبي عمرو الكناني قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ 7 يا أبَا عَمرو أرَأيتَ لَو حَدّثتُكَ بحدِيثٍ أو أفتَيتُكَ بفُتيَا ثُمّ جِئتَني بَعد ذَلِكَ فَسَألتَني عَنهُ فَأخبَرْتُكَ بخِلافِ ذَلِكَ بأيّهِمَا كُنتَ تَأخُذُ؟ قُلتُ بأحدَثِهِمَا وَأدَعُ الآخَرَ. فَقَالَ : قَد أصَبتَ يا أبَا عَمروٍ أبَى اللهُ إلاّ أن يُعبَدَ سِرّاً. أمّا وَاللهِ لئن فَعَلتُم ذَلِكَ إنّهُ لَخَيرٌ ليَ وَلَكُم وَأبَى اللهُ عَزّ وجَلّ لَنَا وَلَكُم في دِينِهِ إلاّ التّقِيّةَ » (٢) ورواية أبي عبيدة عن أبي جعفر 7 قال : « قَالَ لي : يا زِيَادُ مَا تَقُولُ لَو أفتَينَا رَجُلاً مِمّن يتَوَلاّنَا بشَيءٍ مِنَ التّقِيّةِ؟ قَالَ :قُلتُ لَهُ : أنتَ أعلَمُ جُعِلتُ فِدَاكَ. قَالَ : إن أخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأعظَمُ أجراً. قال ، وفي رواية أخرى : إن أخَذَ بِهِ أُجِرَ

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١ ـ من أبواب القنوت.

(٢) جامع أحاديث الشيعة الجزء الأول باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.


وَإن تَرَكَهُ وَاللهِ أثِمَ » (١).

بل نجد في بعض الروايات أكثر من ذلك ، حيث يلاحظ أنهم لا يقتصرون في تطبيق مبدأ التقية على أنفسهم بل يأمرون الأصحاب بالتمسك به أيضا في أقوالهم وسلوكهم.

فقد روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا 7 قال : « قَالَ أبُو جَعفَر 7 في القُنُوتِ إن شِئتَ فَاقنُت وَإن شِئتَ فَلا تقنُت. قَالَ أبُو الحَسَنِ : وَإذَا كَانَتِ التّقِيّة فَلا تُقنِت وَأنَا أتَقَلّدُ هذَا » (٢) وعن عبد الله بن زرارة قال : « قَالَ لي أبُو عَبدِ اللهِ 7 : اقرَأ مِنّي عَلى وَالِدِكَ السّلامَ وَقُل إنّمَا أعِيبُكَ دِفَاعاً مِنّي عَنكَ ، فَإنّ النّاسَ وَالعَدُوّ يُسَارِعُونَ إلى كُلّ من قَرّبنَاهُ وَحَمِدنَاهُ مَكَانَهُ بإدخَالِ الأذَى فِيمَن نُحِبّهُ وَنُقَرّبُهُ ( إلى أن قال ) وَعَلَيكَ بالصّلاةِ السّتّةِ وَالأربَعِين ، وَعَلَيكَ بالحَجّ أن تَهِلّ بالإفرادِ وَتَنوِي الفَسخَ إذَا قَدِمتَ مَكّةَ فَطُفتَ وَسَعَيتَ فَسَختَ مَا أهلَلتَ بِهِ وَقَلَبتَ الحَجّ عُمرَةً ... ( إلى أن قال ) هذَا الّذِي أمَرنَاكَ بِهِ حَجّ التّمَتّع فَالزم ذَلِكَ وَلا يَضِيقُ صَدرُكَ ، وَالّذي أتَاكَ بِهِ أبُو بَصِير مِن صَلاة إحدَى وَخَمسِينَ وَالإهلالِ بالتّمَتّعِ بالعُمرَةِ لي الحَجّ وَمَا أَمَرنَا بِهِ مِن أن يَهِلّ بالتّمَتّعِ ، فَلِذَلِكَ عِندَنَا مَعَانٍ وَتَصَارِيفُ لِذلِكَ مَا تَسَعُنَا وَتَسَعُكُم ، وَلا يُخَالِفُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ الحَقّ وَلا يُضَادّهُ وَالحَمدُ للهِ رَبّ العَالَمِينَ » (٣).

وعن معاذ بن مسلم النحوي ، عن أبي عبد الله 7 « قال : بَلَغَني

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة باب ـ ٤ ـ من أبواب القنوت.

(٣) وسائل الشيعة ب ـ ٥ ـ من أبواب أقسام الحج.


أنّكَ تَقعُدُ في الجَامِعِ فَتُفْتي النّاسَ؟ قُلتُ : نَعَم ، وَأرَدتُ أن أسألَكَ عَن ذَلِكَ قَبلَ أن أخرُجَ ، إنّي أقعُدُ في المَسجِدِ فَيَجِيءُ الرّجُلُ فَيَسألُني عَن الشّيءِ فَإذَا عَرَفتُهُ بالخِلافِ لَكُم أخبَرتُهُ بِمَا يَفعَلُونَ ، وَيَجِيءُ الرّجُلُ أعرفُهُ بِمَوَدّتِكُم وَحُبّكُم فَأخبَرتُهُ بِمَا جَاءَ مِنكُم ، وَيَجِيءُ الرّجُلُ لا أعرِفُه وَلا أدرِي مَن هُوَ فَأقُولُ : جَاءَ عَن فُلانٍ كَذا وَجَاءَ عَن فُلانٌ كَذا فأدخِلُ قَولَكُم فِيمَا بَينَ ذَلِكَ. فَقَالَ 7 : اصنَع كَذا فَإنّي كَذا أصنَعُ » (١).

وواضح على ألسنة هذه الروايات ما ذكرناه من أن تقية الأئمة لم تكن تحفظاً من الحكام فحسب ، بل كانت مراعاة للناس والمذاهب المختلفة التي راجت عندهم أيضا.

٧ ـ ملاحظة ظروف الراوي :

وقد ينشأ التعارض بين الحديثين نتيجة أن الإمام حينما قال أحدهما كان يلاحظ حالة في السائل يتغير على أساسها الحكم الشرعي ويتأثر بها ، فإن الأحكام الشرعية قد تتغير باختلاف حالات العلم والجهل والنسيان والعذر ونحو ذلك ، فيكون الإمام في أحد الموردين قد أفتى سائله بما يكون وظيفته الشرعيّة المقرّرة له وهو بتلك الحالة لا مطلقاً ، ولكن السائل قد نقل ذلك الحكم كقضية مطلقة دون أن يلتفت إلى احتمال دخالة الحالة التي كان عليها في الحكم ، فيحصل من أجل ذلك التعارض بينه وبين ما صدر عن المعصوم في مورد آخر كانت تختلف فيه ظروف الراوي للحديث عن ظروف الراوي الأول. وقد ورد التنبيه على ذلك من قبل الأئمة أنفسهم أيضا في بعض الروايات ، حين عرض عليهم بعض موارد التعارض من كلماتهم ، فقد روى صفوان

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.


عن أبي أيوب قال : « حَدّثَني سَلَمَةُ بنُ مُحرَز أنّهُ كَانَ يَتَمَتّعُ حَتّى إذا كَانَ يَومُ النّحرِ طافَ بالبَيتِ وَالصّفا وَالمَروَةِ ، ثمّ رَجَعَ إلى مِنَى وَلَم يَطُف طَوافَ النّسَاءِ فوَقَعَ عَلى أهلِهِ ، فَذَكَرَهُ لأصحَابِهِ فَقَالُوا : فُلانٌ قَد فَعَلَ مِثلَ ذلِكَ فَسَألَ أبَا عَبدِ الله 7 فَأمَرَهُ أن يَنحَرَ بدنَةً. قَالَ سَلَمَة : فَذَهَبتُ إلى أبي عَبدِ اللهِ 7 فَسَألتُهُ ، فَقَالَ : لَيسَ عَلَيكَ شَيءٌ. فَرَجَعتُ إلى أصحَابي فَأخبَرْتُهُم بِمَا قَالَ لي. قَالَ : فَقَالُوا : اتّقاكَ وَأعطاكَ مِن عَينٍ كَدِرَة. فَرَجَعتُ إلى أبي عَبدِ اللهِ ، فَقُلتُ : إنّي لَقيتُ أصحابي فَقَالُوا : اتّقَاكَ ، وَقَد فَعَلَ فُلانٌ مِثلَ مَا فَعَلتَ فَأمَرَهُ أن يَذبَحَ بدنَةً ، فَقَالَ 7 صَدَقُوا ، ما اتّقَيتُكَ ، وَلَكِن فُلانٌ فَعَلَهُ مُتَعَمّداً وَهُوَ يَعلَم ، وَأنتَ فَعَلْتَهُ وَأنتَ لا تَعلَمُ ، فَهَل كَانَ بَلَغَكَ ذلِكَ ، قَالَ : قُلتُ لا وَاللهِ مَا كَانَ بَلَغَني. فَقَالَ : لَيسَ عَلَيكَ شَيءٌ » (١).

٨ ـ الدس والتزوير :

ومن جملة ما كان سبباً لحصول الاختلاف والتعارض بين الأحاديث أيضا ، عملية الدس بينها والتزوير فيها التي قام بها بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت : ، على ما ينقله لنا التأريخ وكتب التراجم والسير.

وقد وقع كثير من ذلك في عصر الأئمة أنفسهم على ما يظهر من جملة من الأحاديث التي وردت تنبه أصحابهم إلى وجود حركة الدس والتزوير فيما يروون عنهم من الأحاديث. فهذا محمد بن عيسى بن عبيد يروي لنا عن يونس ابن عبد الرحمن « أنّ بَعضَ أصحَابِنَا سَألَهُ وَأنَا حَاضِرٌ ، فَقَالَ لَهُ : يا أبَا مُحَمّدٍ مَا أشَدّكَ في الحَدِيثِ وَأكثَرَ إنكَاركَ لِمَا

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ـ ١٠ ـ من أبواب كفارات الاستمتاع.


يَروِيهِ أصحَابُنا ، فَمَا الّذي يَحمِلُكَ عَلى رَدّ الأحَاديثِ؟ فَقَالَ : حَدّثَني هِشَامُ بنُ الحَكَمِ أنّهُ سَمِعَ أبَا عَبدِ اللهِ 7 يَقُولُ : لا تَقبَلُوا عَلَينَا حَديثاً إلاّ مَا وافَقَ القُرآنَ وَالسّنّةَ ، أو تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِن أحادِيثِنَا المُتَقَدّمَة ، فَإنّ المُغيِرَةَ بنَ سَعيدٍ لَعَنَهُ اللهُ دَسّ في كُتُبِ أصحَابِ أبي أحَاديثَ لم يُحدّثْ بِهَا أبي ، فَاتّقُوا اللهَ وَلا تَقُولُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَولَ رَبّنا تَعَالى وَسُنّةَ نَبيّنَا مُحَمّد 6 ، فَإنّا إذَا حَدّثْنَا قُلنْا قَالَ اللهُ عَزّ وَجلّ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ 6. قَالَ يُونُسُ : وَافَيْتُ العَرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قطْعَةً مِنْ أصْحَابِ أبي جَعْفَر 7 وَوَجَدْتُ أصْحَابَ أبي عَبدِ اللهِ 7 مُتَوَافِرِينَ ، فَسَمِعتُ مِنهم وَأخَذتُ كُتُبَهُمَ فَعَرَضتُهَا مِن بَعدُ عَلى أبي الحَسَنِ الرّضا 7 ، فَأنكَرَ مِنهَا أحَادِيثَ كثِيرَةً أن يَكُونَ مِن أحاديِث أبي عَبدِ اللهِ 7 ، وَقَال لي : إنّ أبَا الخَطّابِ كَذِبَ عَلى أبي عَبدِ اللهِ 7. لَعَنَ اللهُ أبَا الخَطّابِ ، وَكَذلِكَ أصحَاب أبي الخَطّابِ ، يَدُسّونَ في هذِهِ الأحَاديِثِ إلى يَومِنَا هذَا ، في كُتُبِ أبي عَبدِ اللهِ 7 ، فَلا تَقبَلُوا عَلَينَا خِلافَ القُرآنِ ، فإنّا إن تَحَدّثنَا حَدّثنَا بمُوَافَقَةِ القُرآنِ ومُوَافَقَةِ السّنّةِ ... إلخ » (١).

وعملية التنبيه الأكيدة من الأئمة : على وجود حركة الدس ، والتي أعقبها التحفظ الشديد من قبل أصحاب الأئمة والسلف المتقدم من علماء الطائفة في مقام نقل الحديث وروايته وتطهير الروايات عمّا دُسّ فيها ، وإن كان لها الفضل الكبير البالغ في تحصين كتب الحديث عن أكثر ذلك الدس والتزوير ، إلاّ أن هذا لا يعني حصول الجزم واليقين بعدم تواجد شيء مما زوّر على الأئمة : في مجموع ما بأيدينا من أحاديثهم ، سيما إذا لاحظنا

__________________

(١) رجال الكشي ، ص ١٤٦.


أن العملية كانت تمارس في كثير من الأحيان عن طريق دس الحديث الموضوع في كتب الموثوقين من أصحاب الأئمة : كما تشير إليه رواية يونس بن عبد الرحمن ، فربما كان بعض ما نجده في كتب الأحاديث اليوم من الروايات المتعارضة المختلفة هو من بقايا ذلك التشويه والدس الّذي وقع فيها في تلك العصور. هذه هي أهم العوامل التي يمكن أن تذكر لتبرير حالات التعارض التي قد يواجهها الفقيه فيما بين الأحاديث الصادرة عن الأئمة :.

وينبغي أن لا ننسى بعد كل ذلك ، أن جملة كثيرة من الأحاديث ، بل الأصول والكتب التي صنفها أصحاب الأئمة : ، قد ضاعت وذهبت إدراج الرياح في تلك الفترة المظلمة من أيام هذه الطائفة ، ولم تصل إلينا منها ألاّ بعض أسمائها أو أسماء أصحابها ، كما هو واضح عند من راجع ، كتب الرّجال وتراجم المصنّفين وأصحاب الأصول من أصحاب الأئمة :. ولعل ما تحدثنا عنه قبل قليل من نشوء حركة الدس والتزوير بين أحاديث أصحاب أئمتنا : ، وما حصل من التحفظ والتثبت بعد ذلك من قبل العلماء في مجال نقل تلك الأحاديث وروايتها ، وانفتاح باب التشكيك والجرح والتعديل في رواة الأحاديث وأصحاب المصنفات ، كان له الدور البالغ ، علاوة على العوامل التأريخية والظروف الخارجية الأخرى ، في ضياع ذلك الجزء الكبير من تراثنا وأحاديث أئمتنا :.

ومن الطبيعي هنالك ، أن يكون قد خفي علينا أيضا في ضمن ما خفي وضاع ، الكثير من الروايات التي لو كانت بأيدينا اليوم لاستطعنا أن نعالج في ضوئها أكثر حالات التعارض الموجودة في الأحاديث ، باعتبار احتوائها على ما يصلح لأن يكون قرينة على المراد وشاهداً للجمع العرفي ورفع التعارض بين الروايات المتعارضة.


تقسيم البحث

يمكننا في ضوء المفهوم العام للتعارض الاصطلاحي أن نقسم التعارض إلى قسمين :

١ ـ تعارض غير مستقر.

٢ ـ تعارض مستقر.

ونريد بالتعارض غير المستقر : التعارض الّذي لا يستحكم ولا يسري إلى دليل الحجية ، لوجود أحد ملاكات الجمع العرفي. ونريد بالتعارض المستقر : التنافي بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما ، أي ذلك التعارض الساري إلى دليل الحجية.

وسوف نبدأ ببحث التعارض غير المستقر وندرسه من ناحيتين :

الأولى ـ تعيين حكمه بلحاظ دليل الحجية. وفي ذلك نستعرض ملاكات الجمع والتقديم العرفية.

الثانية ـ تعيين حكمه بلحاظ الأخبار العلاجية ، وفي ذلك نرى ما إذا كان للأخبار العلاجية إطلاق يشمل موارد التعارض غير المستقر.

ثم نتناول التعارض المستقر لندرسه أيضا من ناحيتين :

الأولى ـ بلحاظ دليل الحجية.

الثانية ـ بلحاظ الأخبار العلاجية.


القِسمُ الأوّل

التَعارُض غير المُستَقِرّ

درس التعارض غير المستقر من زاوية دليل الحجية

١ ـ الورود بالمعنى الأعم

٢ ـ القرينية بأنواعها

٣ ـ أحكام عامة للتعارض غير المستقر

ـ شروطه ونتائجه ـ



دَرس التَعارُض غير المُستَقِر

ّ مِن زاوية دَليل الحجيَّة

تمهيد

التعارض غير المستقر ـ كما تقدم ـ هو التعارض الّذي لا يسري إلى دليل الحجية ، وضابطه أن لا يوجد تناف في اقتضاءات دليل الحجية ، إما لعدم المحذور في فعلية كلا اقتضائية للشمول لكلا الدليلين ، وإما لعدم وجود اقتضاء فيه للشمول لكلا الدليلين واختصاص اقتضائه بأحدهما.

وعدم السراية إلى دليل الحجية يكون في حالتين.

الأولى ـ أن لا يكون التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة ، كما إذا كان التنافي والتعارض بين المجعولين الفعليين غير ناشئ من تنافي الجعلين ، كما هو الحال في موارد الورود. فإن الجعلين لا تنافي بينهما فيها وإنما لا يمكن اجتماع المجعولين الفعليين ، وحيث أن عدم إمكان الجمع يختص بعالم المجعول ولا يشمل عالم الجعل ، فلا يحصل تناف بين الدليلين في مرحلة الدلالة ، لأن كلاّ منهما ناظر في دلالته إلى عالم الجعل.

الثانية ـ أن يكون التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة ، بأن كان التنافي بين المجعولين بسبب التنافي بين الجعلين الموجب للتنافي بين


الدليلين في مرحلة الدلالة ، ولكن كانت دلالة أحد الدليلين مستحقة للتقديم على دلالة الدليل الآخر بلحاظ دليل الحجية ، بحيث لا يكون في دليل الحجية اقتضاء للشمول للدليل الآخر في عرض الشمول للدليل المستحق التقديم.

ومتى لم يكن التعارض الاصطلاحي مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة لم نحتج في نفي سراية التعارض إلى دليل الحجية إلى أي مئونة إثباتية ومصادرة إضافية ، زائداً على المسلمات الأولية. إذ يتعين في هذه الحالة شمول دليل الحجية بمقتضى إطلاقه لكلا الدليلين ما داما غير متنافيين في مرحلة الدلالة.

وأما في الحالة الثانية ، التي يكون التعارض الاصطلاحي فيها مستبطناً للتنافي في مرحلة الدلالة وعالم الجعل فنحتاج ـ لكي نثبت عدم سراية التعارض إلى دليل الحجية ـ إلى عناية زائدة ومصادرة إضافية تثبت : أن دليل الحجية لا اقتضاء فيه للشمول لأحد الدليلين بعينه ، فيكون اقتضاؤه لشمول الآخر بلا مزاحم ، أو نثبت بتعبير آخر : أن اقتضاءه للشمول لأحد الدليلين متفرع عن عدم اقتضائه للشمول للدليل الآخر.

ونستعرض فيما يلي أقسام التعارض غير المستقر.


الوُرود بالمَعنى الأعَمّ

١ ـ نظرية الورود العامة

٢ ـ الورود من أحد الجانبين

٣ ـ الورود من كلا الجانبين

٤ ـ أحكام الورود


نظريّة الوُرُود العَامّة

الورود ، هو أن يكون مفاد أحد الدليلين رافعاً لموضوع مفاد الدليل الآخر ونافياً له حقيقة ، وعلى هذا الأساس لا توجد أي معارضة في حالات الورود بين الجعلين ، لإمكان اجتماعهما فعلاً ولو كانا ذا مجعولين متنافيين ، لأنهما لا يقتضيان مجعوليهما في عرض واحد وإنما لا يمكن اجتماع المجعولين ، فطرفا المعارضة في موارد الورود هما المجعولان لا الجعلان.

وبرهان تقدم الدليل الوارد على المورود لا يحتاج إلى أي مصادرة إضافية ، لأن الوارد والمورود إن لوحظا بالنسبة إلى دليل الحجية فلا محذور في شموله لهما معاً ، لعدم التنافي بينهما في مرحلة الدلالة ما دام الجعلان غير متنافيين ، فيؤخذ بإطلاق دليل الحجية لهما معاً على القاعدة. وإن لوحظا بالنسبة إلى عالم فعلية المجعول فيتعين تقديم الوارد ، بمعنى أن المجعول في الدليل الوارد هو الّذي يكون فعلياً دون المجعول المورود. وهذا مستنبط من نفس فرض الورود وتقيد مفاد أحد الدليلين بعدم الآخر ، كما هو واضح.

وبهذا يعلم الوجه في عدم استقرار المعارضة وعدم سريانها إلى دليل الحجية.

والورود لا فرق فيه بين الوارد المتصل بالمورود والمنفصل عنه ، لأن الانفصال لا يغير من واقع الورود شيئاً ولا يخلق تنافياً بين الدليلين في مرحلة الدلالة ما دام الجعلان غير متنافيين ، فالوارد المتصل والوارد المنفصل حكمهما


واحد ، وهو ثابت لهما بملاك واحد.

والورود بالمعنى العام يمكن تقسيمه إلى الورود بالمعنى الخاصّ والتخصص. فالورود بالمعنى الخاصّ هو : أن يكون الرفع الحقيقي للدليل الوارد لموضوع الدليل المورود بالتعبد ، بحيث يكون التعبد. منشأ في الرفع الحقيقي. والتخصص هو أن يكون الرفع الحقيقي لا بتوسط التعبد والتخصص تارة : يكون بنظر إخباري ، كما لو قال : أكرم كل عالم ، ثم أخبر عن عدم كون زيد عالماً. وأخرى : بنظر إيجادي ، كما إذا قال : رفع ما لا يعلمون ، ثم أوجد العلم بالحرمة بواسطة دليل قطعي.

والفرق في الحقيقة بين التخصص والورود بالمعنى الخاصّ إنما هو في المتخصّص والمورود ، حيث إن المتخصّص سنخ دليل أخذ في موضوعه عنوان لا معنى لارتفاعه حقيقة بالتعبد ، والمورود سنخ دليل أخذ في موضوعه عنوان يمكن ارتفاعه حقيقة بالتعبد ، كعنوان قيام الحجة المأخوذ في موضوع البراءة الشرعية المساوية رتبة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه يرتفع حقيقة بالتعبد ، وليس الفرق بينهما في حقيقة الورود ونحوه ، فلا يترتب على هذا التقسيم أثر ، ولهذا سوف نتكلم عن الورود بالمعنى العام بدون تمييز بين هذين القسمين.

والورود كما يمكن تصويره من أحد الجانبين ، كذلك يمكن تصويره من كلا الجانبين ، بحيث يكون كل من الدليلين رافعاً بمرتبة من مراتبه موضوع الحكم في الدليل الآخر. وسوف نتكلم فيما يلي عن الورود من أحد الجانبين والورود من كلا الجانبين تباعاً.


الوُرُودُ مِن أَحَدِ الجانِبَين

والورود من أحد الجانبين ينقسم إلى أقسام خمسة. فإن الحكم الّذي يتكفل الدليل الوارد إثباته تارة ، يكون رافعاً لموضوع الدليل الآخر بمجرد جعله ، وأخرى ، يكون رافعاً لموضوعه بفعليته ، وثالثة ، يكون رافعاً له بوصوله ، ورابعة ، يكون رافعاً له بتنجزه ، وخامسة ، يكون رافعاً له بامتثاله. فهذه أقسام خمسة ترد لها أمثلة وشواهد كثيرة في الفقه ، ولذلك يجدر توضيحها في هذا المقام.

الأول ـ أن يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع الحكم في الدليل الآخر بمجرد جعله. ومثاله : ما يذكر في باب الزكاة من عدم تعلق الزكاة بشيء واحد مرتين ، ويفسر ذلك بأنه لا يشرع دخول عين واحدة زكوية في نصابين في السنة الواحدة. فمثلاً : لو كان يملك عشرين ناقة لمدة ستة أشهر ، وهذا هو النصاب الرابع في الإبل ، فهنا حكم مجعول غير فعلي وإنما مقدر على فرض بقاء هذا النصاب إلى آخر السنة ، وهو وجوب دفع أربع شياة عليه. ثم لو فرضنا أن إبله زادت وأصبحت على رأس ستة أشهر أخرى خمساً وعشرين ناقة ، وهذا هو النصاب الخامس ، الّذي يثبت فيه خمس شياة ، فيقع التعارض ـ حينئذٍ ـ بين دليلي جعل الزكاة في هذين النصابين ، فإذا ضم إلى ذلك ما ذهبوا إليه في هذا المورد من أن وجوب الزكاة الثانية مشروط بعدم تقدم ما


يقتضي وجوب الزكاة الأولى ، كان وجوب الزكاة الأولى بنفسه ـ قبل أن يصبح فعلياً ـ رافعاً لموضوع وجوب الزكاة الثانية. وهذا المثال وإن كان موضعاً للبحث فقهياً إلاّ أنه ذكرناه تقريباً لهذا القسم من أقسام الورود إلى الذهن.

الثاني ـ أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بفعليته رافعاً لموضوع الحكم الثابت بالدليل المورود ، كالدليل الدال من الكتاب أو السنة على حرمة شيء أخذ شرطاً في عقد الوارد بفعليته على الدليل الدال على وجوب الوفاء بالشرط إلاّ شرطاً خالف الكتاب أو السنّة ، فإن هذا الحكم بمجرد أن يصبح فعلياً يكون رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالشرط ، حيث يصبح هذا الشرط مخالفاً للكتاب أو السنّة. وبعبارة أخرى : يستحيل أن يكون الحكم المشروط بعدم الحكم الآخر فعلياً ، إذ لو أريد إثباته من دون إناطته بعدم وجود الحكم الآخر المنافي كان خلف ما هو مفروض في لسان دليله إثباتاً ، وإن أريد إثباته بما هو منوط بعدم الآخر فهو يستحيل الانطباق في المورد ، لأن عدم الآخر إنما يكون بارتفاع موضوعه الّذي يكون بالاشتغال بواجب لا يقل عنه في الأهمية ، وهو الواجب الأول لو فرض أنه ليس أقل أهمية ، فيرجع إلى اشتراط الأمر به بالاشتغال به وهو من طلب الحاصل المستحيل.

الثالث ـ أن يكون الوارد متكفلاً لحكم يكون بوصوله رافعاً لموضوع الحكم في الدليل المورود ، كالدليل القطعي المتكفل لحكم شرعي الوارد على دليل رفع ما لا يعلمون ، إذا اقتصرنا في الغاية على حاق اللفظ ، وهو العلم ولم نفسره بالتنجّز ، وإلاّ كان مثالاً للقسم الرابع ، فإن مجرد وصول الحكم بالدليل القطعي يكون رافعاً لموضوع البراءة ، وكذلك حال الدليل القطعي بالنسبة إلى دليل حرمة الإفتاء بغير علم.

الرابع ـ أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بتنجزه رافعاً


لموضوع الحكم في الدليل المورود وذلك من قبيل الدليلين الدالين على الحكمين المتزاحمين ـ بناءً على استحالة الترتب ـ فإن موضوع المهم لا يقيد بعدم امتثال الأهم كي يقتصر في التقييد عليه ، لأن هذا المقدار من التقييد لا يرفع مشكلة طلب الضدين عند القائل باستحالة الترتب ، إذ يبقى المحذور المذكور في صورة تركه للامتثالين معاً. وإنما يرتفع موضوع المهم بتنجز الأهم سواء امتثله أم لا.

كما أنا إنما لم نحكم بارتفاع موضوع المهم بمجرد فعلية الأهم ـ ليدخل المثال في القسم الثاني ـ لأن الفعلية أعم من التنجز ، ولا وجه للتقييد بالأعم مع ارتفاع المحذور بالتقييد الأقل ، فإن وجه تخصيص المهم بعدم الأهم إنما هو قبح إلزام المكلف بتحقيق المهم مع الأهم وهو لا يقدر عليهما ، ومن الواضح أن قبح إيجاب المهم مع الأهم إنما يكون عند تنجز الأهم المقتضي بحسب قانون العبودية إشغال العبد بالأهم ومنعه عن المهم ، وأما مع عدم تنجزه عليه فمن الواضح أن العقل لا يرى أي قبح أو استحالة في توجيه الخطاب بالمهم إليه فيتمسك بإطلاقه لإثباته.

ومن هذا القسم أيضا الواجبات التي يشترط فيها القدرة عقلاً وشرعاً بمعنى يرتفع بمجرد تنجز المنافي عليه ، من قبيل ما يذكر من أن وجوب الحج مشروط بعدم تنجز واجب آخر يتنافى معه ـ وإن كان هذا الشرط موضعاً للبحث فقهياً ـ وما يقال من أن الوضوء يتوقف على عدم تنجز وجوب صرف الماء في وجه آخر.

ومن هذا القسم أيضا ما يقال : في باب الزكاة من اشتراط عدم تنجز حرمة التصرف عليه في النصاب أثناء الحول ، فلو تنجز عليه ذلك ارتفع موضوع الزكاة ، لأنه مقيد بالتمكن من التصرف ومع تنجز الحرمة لا تمكن عليه.


الخامس ـ أن يكون الدليل متكفلاً لحكم يكون بامتثاله رافعاً لموضوع الحكم الثابت بالدليل المورود ، وذلك من قبيل الدليلين الدالين على حكمين متزاحمين بناء على إمكان الترتب ، فإنه بامتثال الحكم الأهم أو المساوي يرتفع موضوع الآخر ، ومنه أيضا الدليل الدال على وجوب صوم شهر رمضان الوارد على دليل وجوب الكفارة على المفطر ، فإنه بامتثاله يرفع موضوع الدليل الآخر ، وإن كان هذا وبعض الأمثلة المتقدمة خارجاً عن باب التعارض إذ لا تنافي فيها بين الجعلين ذاتاً وإنما هو من التعارض المصطنع الناشئ من مجرد تقييد موضوع أحد الدليلين بعدم حكم الدليل الآخر.


الوُرُود مِن كِلا الجانبَين

وأما الورود من كلا الجانبين ، فهو إنما يتعقل فيما إذا كان في كل من الدليلين تقييد بعدم الآخر. وهذا على أقسام أيضا.

الأول ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مشروطين بعدم وجود حكم آخر يعارضه أو يزاحمه مطلقاً ، كالدليل الدال على وجوب الحج مع الدليل الدال على وجوب النذر بعد فرض أن كلاّ منهما مشروط بعدم الآخر ، بحيث يكون ثبوت كل منهما رافعاً لموضوع الآخر ووارداً عليه. وهذا القسم من التوارد غير معقول في نفسه ، لأنه مستلزم لتقيد كل من الخطابين بعدم الآخر المستلزم لتوقف كل منهما على عدم الآخر ، وهو دور ، نظير ما يقال ، فيما إذا ادعي توقف الضد على عدم ضده الآخر ، وبهذا الاعتبار سوف يقع التنافي بين الدليلين لا باعتبار اجتماع الحكمين ، فإن المفروض أن كلاً منهما مشروط بعدم الآخر فلا يعقل اقتضاؤهما للجمع بين الحكمين ، بل لأجل القطع بكذب أحد الظهورين لاستحالة صدقهما معاً.

الثاني ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مشروطين بعدم وجود الآخر لا مطلقاً ، بل عدمه على تقدير عدم الأول ، أي أن كلاّ منهما موقوف على العدم اللولائي للآخر لا العدم الفعلي ، فلا دور ، وهذا يعني أنه موقوف على عدم تمامية مقتضي الحكم الآخر في نفسه حتى إذا لم يكن الأول موجوداً.


ومثاله ما لو فرضنا أن كلاً من دليلي وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر مقيد بعدم الآخر كذلك. وفي ذلك لا يمكن أن يصبح شيء من الحكمين فعلياً إذا بقينا وهذين الدليلين ، لعدم توفر الشرط المذكور في شيء منهما. نعم لو علمنا من الخارج بوجوب أحدهما تعييناً أو تخييراً كان ذلك الحكم المعين أو أحدهما المخير فعلياً ، وكذا لو علمنا بوجوب أحدهما إجمالاً ، فإنه يكون مورداً لقوانين العلم الإجمالي.

الثالث ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مقيدين بالعدم الفعلي للآخر ـ لا العدم اللولائي للآخر ـ إلاّ أنه لا يكون مقيداً بعدم المخالف مطلقاً ، بل يكون كل منهما مقيداً بعدم حكم يمتاز ذلك الحكم على الحكم الأول في أنه ليس مقيداً بقيد من قبيل قيد الأول الّذي يقتضي محكوميته للأول بل يكون هو الحاكم على الأول. وحينئذ يكون مقتضى دليل كل منهما وجوبه ولا يتقدم أحدهما على الآخر ، لأن المفروض أن ما قيد بعدمه كل واحد منهما هو حكم يفرض امتيازه عليه وليس في شيء من الحكمين امتياز كذلك فلا يوجد حاكم في المقام ، فيقع التعارض بينهما أو التزاحم.

الرابع ـ أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين أخذ في أحدهما العدم اللولائي للآخر ، كما في الصورة الثانية ، وفي الثاني عدم الآخر بالنحو الّذي مضى في الصورة الثالثة ، كما لو فرض أن وجوب النذر مشروط بالعدم اللولائي لما يزاحمه. ووجوب الحج مشروط بعدم حكم آخر مخالف له يمتاز بأنه ليس مقيداً بقيد من قبيل قيد الأول حتى يمنعه عن التقدم. وحينئذ يتقدم هذا الحكم ـ الأقل قيداً ـ على ذاك الحكم المقيد بالعدم اللولائي بالورود.

وهذا هو أحد الوجوه الفنية لتقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر ، حيث يقال : إن وجوب الوفاء بالنذر مقيد بأن لا يجب ما يزاحمه ولو كان وجوباً ثابتاً لو لا النذر. ولا إشكال في أن الحج واجب لو لا النذر ،


إذن فموضوع وجوب الوفاء بالنذر منتف ، وهذا بخلاف وجوب الحج فهو مقيد بعدم حكم مخالف له يمتاز بأنه ليس مقيداً بالقيد الّذي يجعل وجوب الحج صالحاً لرفعه. وهنا لا يوجد حكم كذلك ، فإن الحكم المخالف الموجود مقيد بالقيد المذكور ، فيكون موضوع وجوب الحج تاماً.

هذا كله ، لو فرض تقييد كل من الحكمين بعدم الحكم الآخر. وقد يفرض أن أحدهما يكون مقيداً بعدم الحكم المخالف ، لكن الآخر يكون مقيداً بعدم امتثال الحكم المخالف وفي مثل ذلك يتقدم الثاني على الأول بالورود ، باعتباره الأقل قيداً. وهذا وجه آخر من الوجوه الفنية لتقديم وجوب الوفاء بالنذر ، حيث يقال : إن دليل وجوب الوفاء بالنذر أخذ فيه عدم الحكم المخالف وأن لا يكون محلّلاً للحرام ، ودليل وجوب الحج أخذ فيه القدرة التي تشمل بعد توسيعها عدم اشتغال المكلف بامتثال حكم آخر. فإنه حينئذ يتقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر ، لاستحالة فعلية الثاني فإن فعليته قبل الاشتغال بامتثاله خلف فعلية الوجوب الآخر المستلزمة لارتفاعه ، وفعليته على تقدير امتثاله مستحيل أيضا ، لعدم معقولية تعليق وجوب شيء على امتثاله.

هذا ويمكنك بالتأمل استخراج أقسام أخرى للتوارد من كلا الطرفين.


أَحكامُ الوُرُود

وبعد أن اتضحت لدينا نظرية الورود ، وأقسامه يحسن بنا الحديث عن أحكام الورود. ويمكننا تلخيص أهم أحكام الورود فيما يلي :

الأول : أن ملاك التقديم بالورود لا يفرق فيه بين فرضي كون الدليل الوارد متصلاً بالدليل المورود أو منفصلاً عنه وقد تقدم توضيح ذلك في ذيل عرض نظرية الورود.

الثاني : أن الدليل الوارد يتقدم على الدليل المورود حتى لو كان ظهوره من أضعف الظهورات ، وكان ظهور الدليل المورود من أقوى الظهورات. وذلك لأن الوارد يرفع موضوع المورود حقيقة والمورود لا يتعرض لبيان حال موضوعه فلا يكون هناك أي تناف بينهما في الدلالة ، والترجيح بأقوائية الظهور إنما يتصور في فرض التنافي في الدلالة ولا تنافي فيها بينهما فيؤخذ بكليهما ، ولا محالة يرتفع موضوع المورود في مورد الوارد.

الثالث : أنه لا فرق في تقدم الوارد بين كونه قطعياً أو كونه حجة شرعاً ، أي لا فرق بين كون الخطاب الوارد ثابتاً وجداناً أو تعبداً ، وذلك : لأن دليل التعبد بصدور الخطاب الوارد يكون بنفسه تعبداً بالورود وبارتفاع موضوع دليل المورود أيضا وهو تعبد لا ينافي دلالة الدليل المورود ، ولا شيئاً من اقتضاءاته


بوجه ، فلا يمكن تصوير تعارض حقيقي لا بين نفس الوارد والمورود ولا بين دليل حجية الوارد والدليل المورود ولا بين حجية الوارد ودليل حجية المورود.

الرابع : أن الورود لا يحتاج إلى الناظرية بخلاف ما سيأتي في الحكومة إن شاء الله تعالى ، ويتفرع على ذلك أمران.

أ ـ أنه عند تعدد الآثار لموضوع الحكم في الدليل المورود لا نحتاج لإثبات جميع الآثار إلى إطلاق دليل الوارد ، فإن الحاجة إلى الإطلاق فرع الحاجة إلى النّظر ، فإذا كان الوارد إنما يثبت الموضوع تكويناً وحقيقة بلا حاجة إلى النّظر فلا محالة يترتب عليه جميع آثاره ولا حاجة للإطلاق.

ب ـ أنه لا يمكن تخيل اشتراط تأخر زمان الوارد عن زمان المورود ـ كما توهم ذلك في الدليل الحاكم ـ فإن الوارد ليس كالحاكم محتاجاً إلى النّظر إلى المورود حتى يتوهم أن النّظر إليه فرع ثبوته سابقاً عليه مثلا.

الخامس ـ إن الورود لا يحتاج إلى لسان لفظي ، لأنه ليس تصرفاً في الألفاظ من قبيل الحكومة التنزيلية وإنما هو تصرف معنوي حقيقي في ركن من أركان الدليل المورود ، وهو الموضوع ، وذلك يكون حتى في فرض عدم وجود لسان لفظي للدليل الوارد. وهذا بخلاف الحكومة التنزيلية كما سوف يتبين ذلك بوضوح عند دراسة نظرية الحكومة إن شاء الله تعالى.

السادس ـ انه إذا شك في الوارد لا يمكن التمسك بالمورود ، من دون فرق بين الشك في أصل الورود أو في حجمه وسعته بنحو الشبهة المفهومية أو بنحو الشبهة المصداقية ، ومن دون فرق بين الشك في الوارد المتصل أو الوارد المنفصل. فالتفصيلات التي تذكر في التمسك بالعامّ عند الشك في المخصّص بلحاظ كون المخصّص متصلاً أو منفصلاً أو كون الشك بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية إلى غير ذلك ، لا تأتي هنا ، لأن احتمال الوارد مساوق لاحتمال انتفاء موضوع المورود ، فيكون التمسك بالمورود تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لموضوع العام. نعم ، قد يحرز موضوع العام بالاستصحاب إذا لم تكن الشبهة مفهومية.


الوُرود بالمَعنى الأعَمّ

٥ ـ التزاحمُ ونظريّة الوُرود

١ ـ تفسير التزاحم على أساس نظرية الورود

٢ ـ مرجحات التزاحم وتخريجها على أساس الورود

٣ ـ حكم التزاحم في حالة عدم الترجيح

٤ ـ تنبيهات باب التزاحم


وفي ضوء نظرية الورود يمكن أن نعرف أن باب التزاحم ومرجحاته كلها تطبيقات لنظرية الورود. ولتوضيح ذلك سوف نتحدث في مقامين :

أحدهما ، في تحقيق خروج التزاحم عن باب التعارض الحقيقي ودخول الخطابين المتزاحمين في الورود. وذلك بتحقيق حال الشرطين اللذين اشترطناهما منذ البداية لخروج التزاحم عن باب التعارض الحقيقي. والآخر ، في استنباط مرجحات باب التزاحم من نظرية الورود المتقدمة.


تفسِير التزاحُم على أَساسِ نظريّة الوُرُود

قد عرفنا فيما سبق ، أن التزاحم هو التنافي بين الحكمين بسبب عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الامتثال. وخروج التزاحم بهذا المعنى عن التعارض الحقيقي يتوقف على ثبوت شرطين :

الأول ـ أن نلتزم بإمكان الترتب في الوجوبين المتزاحمين ، بأن يكون الوجوب الآخر مجعولاً على تقدير عصيان الوجوب الأول.

الثاني ـ أن نلتزم في كل خطاب شرعي بمقيد لبّي له يمنع عن التمسك بإطلاق الخطاب لحال الاشتغال بالضد الواجب ، فيكون موضوع وجوب الصلاة مثلاً ، من لم يشتغل بضد لها واجب ، وكذا في وجوب الإزالة.

فإن تم هذان الشرطان ، كانت موارد التزاحم خارجة عن نطاق التعارض


الحقيقي ، إذ لا يقع حينئذ أي تناف بين الجعلين ، بل كلاهما يكون ثابتاً على موضوعه ـ وهو القادر على متعلقهما ـ بنحو ينتج حكمين مشروطين على نحو الترتب ، وإنما التنافي في مرحلة فعلية المجعولين ، حيث يستحيل فعلية كلا الموضوعين في حال تصدي المكلف للامتثال ، لأن المكلف بحكم وحدة القدرة التي يملكها إذا صرف قدرته في أي واحد من الواجبين كان عاجزاً عن امتثال الواجب الآخر وهذا ليس تعارضاً بين الدليلين.

أما إذا أنكرنا الشرط الأول ، وقلنا باستحالة الترتب ، فسوف يحصل التنافي بين الخطابين ولو كانا مشروطين بالمخصص اللبي ، لأدائه إلى فعلية كلا المجعولين في فرض العصيان. وهذا يعني سراية التنافي إلى عالم الجعل ، واستحالة ثبوت الخاطبين المشروطين بما هما مشروطان أيضا ، فيحصل التعارض لا محالة بين الدليلين المتكفلين لذينك الخطابين.

كما أنه إذا قبلنا إمكان الترتب ، وأنكرنا الشرط الثاني وقلنا بأن خطاب ( صل ) مثلاً غير مقيد بالمقيد اللبي ، وأن إطلاقه بنفسه يدل على عدم وجود مكافئ للصلاة في الأهمية ، فمن الواضح وقوع التعارض الحقيقي حينئذ بين إطلاق خطاب ( صل ) وإطلاق خطاب ( أزل ) لأن كلاً منهما يدل على وجوب متعلقه مطلقا حتى مع الاشتغال بالآخر ، وهو مستحيل. فلا بد إذن من أجل بيان خروج التزاحم عن التعارض الحقيقي من تحقيق حال كلا هذين الشرطين.

أما الشرط الأول ، وهو إمكان الترتب ـ فيتكفل تحقيق حاله البحث المعروف ببحث الترتب الملحق ببحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

وأما الشرط الثاني ، فلا بد من تحقيق حاله في هذا البحث. وحينئذ نقول : إن هناك عدة وجوه يمكن أن تذكر في تقريب ذلك.

الوجه الأول ـ أن الخطابات الشرعية مقيدة طرّاً بالقدرة التكوينية ، إما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وإما


من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك. وإذا كانت القدرة مأخوذة في موضوع كلا الحكمين ، فبناءً على إمكان الترتب لا يلزم أي تناف بين الجعلين ، إذ لا محذور في ثبوت القضيتين المشروطتين بالقدرة حينئذٍ. نعم ، المجعولان لا يكونان فعليين معاً ، لأن المكلف لا يقدر على امتثال كلا التكليفين على الفرض ، فيكون اختيار أحدهما ـ تعييناً أو تخييراً ـ موجباً لعجزه عن امتثال الآخر تكويناً ، فيكون الحكم الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه. وهذا ليس تعارضاً.

وهذا الوجه بهذا المقدار من البيان غير تام. لأنه لو أريد من القدرة التكوينية على المتعلق المأخوذ في موضوع كل تكليف القدرة عليه حدوثاً وبقاء ، بأن يكون التكليف بالصلاة مثلاً مشروطاً بعدم العجز عنها وعدم صرف القدرة في الضد الآخر ، فثبوت أمر من هذا القبيل بالضدين المتزاحمين وإن كان خالياً عن محذور إلاّ أن لازمه ارتفاع التكليف وعدم تحقق العصيان لو اشتغل المكلف بضد الواجب ولو لم يكن واجباً. وهذا مما لا يلتزم به ، فإنه تعجيز بعد القدرة على التكليف فيكون عصياناً بلا إشكال. وإن أريد اشتراط التكليف بالقدرة على متعلقه حدوثاً فقط ، واعترف بأن التكليف يصبح فعلياً بمجرد توفر القدرة عليه في الآن الأول ، ولذلك لو صرف قدرته في غيره وعجّز نفسه كان عاصياً ، لزم منه ثبوت جعلين متنافيين لأن المكلف حدوثاً قادر تكويناً على كل من الواجبين في نفسه وإنما يصرف قدرته بقاءً في أحدهما ، فلو كانت القدرة الحدوثية كافية في ثبوت التكليف لزم منه فعلية الخطابين معاً في حق المكلف وعدم ارتفاع شيء منهما بامتثال الآخر. وبعبارة أخرى : يلزم من ذلك أن يكون الجعلان المشروطان بالقدرة بهذا المعنى أوسع من الجعلين الترتبيين ، حيث يكون موضوعهما محفوظاً حتى مع امتثال أحدهما وهو مستحيل ، فيحصل التعارض بين الدليلين لا محالة.

الوجه الثاني ـ أن يقال بأن الشرط وإن كان هو القدرة التكوينية حدوثاً ،


إلاّ أنه في موارد التزاحم لا توجد إلاّ قدرة واحدة على الجامع بين الواجبين تتعين في أحد الطرفين بتطبيق من المكلف ، فلا يكون أكثر من تكليف واحد فعلياً في حق المكلف في موارد التزاحم ، وأما التكليف الآخر فيرتفع بامتثال الأول موضوعاً ، فلا يقع تعارض بين دليلي الجعلين.

وهذا الوجه أيضا غير تام ، لأن شرطية القدرة سواء كانت بحكم العقل أو باقتضاء الخطاب ، تكفي فيها القدرة على الجامع بين الواجب وغيره ، ولذلك صح التكليف بأحد الضدين تعييناً ولا يشترط فيه القدرة عليه تعييناً. وعليه لو كان الشرط هو القدرة حدوثاً فهي محفوظة بلحاظ كلا المتزاحمين بنفس القدرة على الجامع بينهما.

الوجه الثالث ـ أن الخطاب كما هو مقيد لبّا بالقدرة التكوينية ـ ولو بمعنى القدرة البدلية على الجامع ـ كذلك مقيد لبّا بالقدرة الشرعية بمعنى عدم كون العبد مشغولاً بضد واجب لا يقل أهمية عن الواجب المفروض ، لاستحالة إطلاق الأمر في أحد المتزاحمين لفرض الاشتغال بالمزاحم الآخر الّذي لا يقل عنه أهمية ، لأن المراد بهذا الإطلاق إن كان هو التوصل إلى الجمع بين الضدين فهو مستحيل ، وإن كان هو صرف المكلف عن ذلك المزاحم فهو خلف فرض أنه لا يقل عنه في الأهمية بنظر المولى. فهذا برهان يثبت قيداً لبياً عاماً في كل خطاب ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه أهمية. وبذلك يرتفع التنافي بين الجعلين فلا يحصل التعارض بين دليليهما ، إذ يكون الجعل المفاد بكل منهما مشروطاً بعدم الاشتغال بما لا يقل عنه في الأهمية ، أي يكون مساوياً أو أهم. فإن فرض تساويهما معاً كان الجعلان معاً مشروطين بعدم الاشتغال بالآخر ، فيكون الترتب من الطرفين ، وإن كان أحدهما أهم من الآخر كان جعله مطلقاً وجعل الآخر مشروطاً بعدم الاشتغال بالأول ، فيكون الترتب من طرف واحد. ولا محذور في كلا الموردين بعد البناء على إمكان الترتب.


وبهذا التخريج ، اتضح أيضا وجه تحقق العصيان فيما إذا صرف المكلف قدرته في ضد ليس بواجب أو واجب مرجوح ، فإن موضوع الخطاب ، وهو القادر تكويناً وشرعاً بالمعنى المتقدم قد أصبح فعلياً في حقه ، واشتغاله بذلك الضد لا يرفع هذا الموضوع.

وربما يعترض على هذا التخريج الفني لفصل باب التزاحم عن التعارض باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ أنه لا موجب لافتراض تقيد الخطابات الشرعية بالمقيد اللبي المذكور ، لأنها ثبوتاً وإن كانت منوطة بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي ، إلاّ أن هذا القيد باعتبار أنه من شأن المولى ، وعليه إحرازه وتشخيصه فيكون مقتضى إطلاق الخطابات بحسب مقام الإثبات عدم تقيدها به ، وأن ملاكها أهم في مقام المزاحمة ، فيقع التعارض لا محالة بين إطلاق الخطابين المتزاحمين.

والجواب عن هذا الاعتراض : أن الأحكام لو كانت مجعولة على نهج القضايا الخارجية ، بأن كان نظر المولى فيها إلى خصوص الواجبات التي سوف يقع التزاحم بينها وبين هذا الواجب خارجاً ، أمكن دعوى الإطلاق وعدم تقيد الخطاب الشرعي بالمقيد المذكور ، إذ لعل المولى بنفسه قد شخص أهمية ملاك هذا الواجب ورجحانه على ما يزاحمه من الواجبات في تمام الموارد ، ولكن لا إشكال في أن الخطابات الشرعية ظاهرة في جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ، فيكون الحكم مرتباً على موضوعه المقدر الوجود ، وهو القادر ، والمفروض أنه ينقسم إلى من يكون مشتغلاً بالأهم أو المساوي ومن لا يكون ، فلا محيص عن تقيّد الخطاب بحسب مقام الإثبات أيضا بعدم الاشتغال بما لا يقل أهمية.

هذا ، مضافاً إلى أن ارتكازية القيد المذكور وبداهته في نظر العرف ، ووضوح أن الأحكام تختلف ملاكاتها من حيث الأهمية ، تمنع عن التمسك


بإطلاق الخطاب ولو كان مفاده القضية الخارجية ، لاتصاله بما يحتمل قرينيته على التقييد المذكور.

إن قلت : هب أن الخطاب ظاهر في جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ، ولكن المولى مع ذلك لم يقيده بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي من جهة إحرازه أن المكلف لا يبتلي بالاشتغال بواجب مساو أو أهم ـ ولو من جهة أن الأحكام الأخرى كلها أقل ملاكاً في نظره ـ فبقاء القضية الحقيقية على إطلاقها لا يستلزم منه نقض غرض المولى. فيكون الإطلاق في قوة التقييد من حيث النتيجة الخارجية.

قلت : هذا خلاف ظهور الخطاب في الجدية إطلاقاً أو تقييداً ، لأن إطلاق الحكم ـ بحسب مقام الإثبات ـ لفرض الاشتغال بالأهم أو المساوي وإن كان لا يضر بغرض المولى خارجاً ، إلاّ أنه مقيد لباً وغرضاً بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي على كل حال ، لأن المولى لا يأمر بالفعل واقعاً على تقدير الاشتغال بما يكون أهم أو مساوياً بنحو القضية الحقيقية التقديرية ، فيلزم عدم جدية الإطلاق وهو خلاف ظاهر الدليل أيضا.

الاعتراض الثاني ـ إن إطلاق الخطاب في دليل ( صلّ ) وإن كان مقيداً بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ، إلاّ أنه لم يقيد بعدم الاشتغال بالإزالة بعنوانها ، فعند الشك في دخول فرض الاشتغال بها في المقيد أو المطلق نتمسك بإطلاق الخطاب لنفي كون الاشتغال بها مصداقاً للاشتغال بواجب لا يقل أهمية. وكذلك الأمر في إطلاق خطاب ( أزل ) وهذا وإن كان من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه ، إلاّ أنه يصح التمسك به في أمثال المقام على أساس أحد المبنيين التاليين :

المبنى الأول ـ ما اختاره المحقق النائيني ـ قده ـ من جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه إذا كان لبياً ، كما إذا قال : « يجوز تقليد


العالم » وعرفنا بمخصص لبي أنه لا يريد « الفاسق » منهم ، وشك في عالم أنه مؤمن أو فاسق. حيث قد يطبق هذا المبنى على المقام فيقال علي أساسه ، بجواز التمسك بإطلاق الخطاب لنفي كون الاشتغال بالآخر مصداقاً للاشتغال بالواجب المساوي أو الأهم لأن المخصص في المقام لبي أيضا.

المبني الثاني ـ ما اخترناه نحن في مباحث العام والخاصّ ، من جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية إذا كانت شبهة حكمية في نفسها ، بحيث يكون من شأن المولى بما هو مولى الاطلاع عليها بخلاف الشبهة في موضوع خارجي نسبته إلى المولى والعبد على حد سواء. فيقال : إن المقام من قبيل الأول لا الثاني ، لأن فرض اشتمال ما يشتغل به المكلف من الواجبين المتزاحمين على ملاك أهم أو مساو أو مرجوح شبهة حكمية يرجع فيها إلى المولى وليس موضوعاً خارجياً بحتاً ، كما في الشك في عدالة زيد أو فسقه. فيمكن أن يتمسك فيها بإطلاق الخطاب.

والجواب عن هذا الاعتراض : أنه لا يمكن تطبيق شيء من هذين المبنيين على المقام ، لأنه لو فرض تماميّتهما في أنفسهما ـ وهذا بحث موكول إلى محله ـ ولم يفرق فيهما بين العموم والإطلاق ـ كما نفرق نحن في المبنى الثاني ـ فلا شك في عدم تماميتهما في المخصصات اللبية الارتكازية التي تعتبر بمثابة القرينة المتصلة بالخطاب ، إذ في مثل ذلك يكون العام مجملاً على أقل تقدير ، لأن اقترانه بذلك الارتكاز البديهي يكون من الاقتران بما يصلح للقرينية ، فلا يبقى له ظهور في الإطلاق ليرجع إليه على أحد المبنيين السابقين. والمقيد اللبي المدعى في المقام من هذا القبيل ، فإن ملاك هذا التقييد المتقدم شرحه مطلب بديهي عرفاً ولو إجمالاً.

وهكذا يتضح : أن كلاّ من الخطابين المتزاحمين ليس في دليله إطلاق ينافي إطلاق دليل الخطاب الآخر ، وهو معنى خروج باب التزاحم عن باب التعارض الحقيقي. كما يتضح أن كلاّ منهما في فرض المساواة ، أو أحدهما في فرض التفاضل وارد بامتثاله على الآخر ورافع لموضوعه ، وهو معنى دخول التزاحم في الورود.


مُرجّحاتُ بابِ التزاحُم

والآن نستعرض مرجحات باب التزاحم ، وسوف نرى أن ما يتم من هذه المرجحات هو خصوص ما يمكن إرجاعه إلى الورود.

الأول ـ ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية :

وقد عرّف المحقق النائيني ـ قده ـ على ما يظهر من تقريرات بحثه ، القدرة الشرعية بأنها القدرة التي تكون دخيلة في ملاك الوجوب ، بحيث لا مصلحة ملزمة في متعلقه عند العجز عن الإتيان به. وأن القدرة العقلية هي القدرة المأخوذة في موضوع التكليف لأجل استحالة تكليف العاجز لا لأجل عدم مقتضي التكليف وملاكه في حقه ، بل هو فعلي على وجه الإطلاق حتى في حال العجز.

والتحقيق : أن القدرة الشرعية المفروض دخلها في ملاك الوجوب لها أحد معانٍ ثلاثة :

المعنى الأول ـ القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الاضطراري.

المعنى الثاني ـ القدرة المقابلة للعجز الشامل للعجز الواقع باختيار المكلف للاشتغال بضد واجب.

المعنى الثالث ـ القدرة المساوقة لعدم المانع التكويني وعدم المانع المولوي


الشرعي ، ولو لم يكن مشتغلاً فعلاً بضد واجب بل مأموراً من قبل المولى بالاشتغال به.

وعلى المعنى الأول للقدرة الشرعية ، لا موجب لترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية. لأن الملاك من كل من الواجبين يكون فعلياً ، أما فعلية الملاك في المشروط بالقدرة العقلية فواضح. وأما فعليته في المشروط بالقدرة الشرعية ، فلوجود الشرط المأخوذ في الملاك ، وهو القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الاضطراري ، ومع فعلية الملاكين معاً يكون اختيار أي منهما تفويتاً للملاك الآخر ، فهما من هذه الناحية سواء.

وعلى المعنى الثاني للقدرة الشرعية ، يتم المرجح المذكور لأن الاشتغال بالمشروط بالقدرة العقلية لا يكون مفوتاً لملاك الآخر ، بل رافعاً لموضوعه بخلاف العكس فإنه مفوت لملاك المشروط بالقدرة العقلية لفعلية ملاكه ، وفي مثل هذه الحالة يكون إطلاق الخطاب المشروط بالقدرة العقلية لحال الاشتغال بالمشروط بالقدرة الشرعية بهذا المعنى غير ساقط ، لأن التقييد اللبّي العام الّذي يقتضي تقييد موضوع كل خطاب بعدم الاشتغال بسنخ ضد واجب لا يقل عن المتعلق أهمية إنما يقتضي التقييد بعدم الاشتغال بسنخ ضد واجب لا يكون ملاكه معلقاً على عدم الاشتغال بذلك المتعلق. وأما مثل هذا الواجب المقيد بالقدرة الشرعية ، فلا ضرورة لتقييد الخطاب الآخر المقيد بالقدرة العقلية بعدم الاشتغال به ، فالقيد العقلي العام في الحقيقة هو عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عن المتعلق أهمية ويكون ذلك الضد واجداً لملاك غير معلق على عدم الاشتغال بذلك المتعلق ، أو يكون معلقاً ولكن بنحو يماثله تعليق آخر في مقابله وأما الضد الواجب المنوط ملاكه بعدم الاشتغال بالمتعلق دون إناطة مماثلة في الطرف الآخر فلا ملزم عقلي للمولى بأخذ عدمه في موضوع خطابه ، بل يبقى الخطاب على إطلاقه ويكون الغرض منه صرف المكلف إلى ما لا يستوجب تفويت ملاك على المولى. وبعد تحديد التقييد اللبي بهذا النحو يتبرهن أن


الاشتغال بالمشروط بالقدرة العقلية يكون بامتثاله رافعاً لموضوع الخطاب الآخر ، بخلاف الآخر. وبذلك يتعين تقديمه كما أشير إليه في القسم الخامس من الورود.

وعلى المعنى الثالث للقدرة الشرعية ، يتم الترجيح المذكور أيضا ، لوضوح أن المشروط بالقدرة العقلية يكون بنفس فعليته وتنجزه رافعاً لموضوع الخطاب الآخر ، لتحقق المانع المولوي الشرعي بذلك دون العكس ، فيندرج في القسم الثاني من أقسام الورود. والترجيح في هذه الفرضية ليس بحاجة إلى إمكان الترتب ، كما كان كذلك بناء على المعنى السابق ، لأن القائل بامتناعه إنما يقول بذلك لاستلزامه فعلية الأمر بالضدين في فرض عدم الاشتغال بالأهم ، وفي المقام يكون المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث معلقاً على عدم فعلية الخطاب الآخر ، فما دام فعلياً يستحيل فعلية المشروط بالقدرة الشرعية ـ على ما أشرنا إليه في القسم الثاني من الورود ـ فلا يجتمع الحكمان في الفعلية.

ولو فرض أن أحد الخطابين كان مشروطاً بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني وكان الآخر مشروطاً بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، تقدم الأول على الثاني ، كما برهن عليه في ذيل القسم الرابع من أقسام الورود من الجانبين. كما أنه لو فرض أنهما معاً كانا مشروطين بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث أي عدم المانع المولوي إلاّ أن أحدهما كان مشروطاً بعدم الوجود الفعلي للمانع ، والآخر كان مشروطاً بعدم الوجود اللولائي فمانع ، أي عدم وجود أمر بالخلاف حتى لو لا هذا الأمر وبقطع النّظر عنه ، تقدم الأول على الثاني ، لأن العدم اللولائي غير صادق مع وجود الآخر فيكون موضوع الخطاب المشروط به مرتفعاً وموضوع الخطاب الآخر فعلياً على ما تقدم أيضا في القسم الرابع للورود من الجانبين.

وأما كيفية استظهار كون القدرة المأخوذة في موضوع التكليف عقلية


أو شرعية بحسب لسان الدليل ، فيما إذا لم تكن قرينة خاصة في البين. فهذا بحث إثباتي نتعرض له من خلال البحث عن مقتضى القاعدة في حالات الشك وتردد القدرة بين أن تكون عقلية أو شرعية.

مقتضى القاعدة إذا شك في كون القدرة شرعية أو عقلية :

إذا افترضنا عدم إحراز كون القدرة في أحد الخطابين المتزاحمين عقلية وفي الآخر شرعية ، لعدم دليل من الخارج ، وعدم قرينة من لسان دليل الحكمين يقتضي ذلك ، فلا محالة يشك في كون القدرة دخيلة في الملاك ـ أي شرعية ـ أم لا. وقد يفترض الشك في أحدهما دون الآخر ، بأن كان الآخر محرزاً دخل القدرة في ملاكه أو محرزاً عدمه ، فما هو مقتضى الأصل والقاعدة في أمثال ذلك بالقياس إلى هذا المرجح؟ فنقول تارة يبحث في تشخيص ما هو مقتضى الأصل العملي في موارد الشك. وأخرى في تشخيص ما هو مقتضى إطلاق دليلي الحكمين.

اما البحث الأول ـ فصور الشك والتردد في المقام عديدة :

الصورة الأولى ـ أن يشك في الخطابين معاً ولا يعلم أن القدرة فيهما شرعية أم عقلية. وحكم هذه الصورة على مستوى الأصول العملية هو التخيير وعدم ترجيح شيء منهما على الآخر ، إذ يحصل الشك في وجوب كل منهما على تقدير الاشتغال بالآخر ، مع العلم بوجوبه على تقدير عدم الاشتغال به ، فيكون من الشك في سعة التكليف ، وهو مجرى البراءة لا محالة.

الصورة الثانية ـ أن يحرز كون القدرة بالنسبة لأحد الخطابين ـ كالصلاة مثلاً ـ شرعية ويشك في الآخر ـ كالإزالة مثلاً ـ هل أن القدرة فيه شرعية أيضا أم عقلية؟

وهذه الصورة ، قد يدعى فيها لزوم الاحتياط ، لأن المكلف لو اشتغل


بالخطاب الّذي يحتمل أن تكون القدرة عقلية بالنسبة إليه لعلم بأنه لم يفوّت على المولى ملاكاً أصلاً ، لأن الخطاب الآخر قد افترض كون القدرة شرعية فيه. وأما إذا جاء بالآخر فهو يحتمل أنه قد فوّت على المولى ملاكاً كان فعلياً عليه.

إلاّ أن الصحيح ، هو التخيير في هذه الصورة أيضا ، لأن مرد هذا الشك بحسب الحقيقة إلى الشك في سعة الخطاب المشكوك نوعية القدرة المأخوذة فيه لحال الاشتغال بالآخر ، وهو من الشك في أصل التكليف خطاباً وملاكاً من دون ما يوجب التنجيز ، فيكون مجرى للبراءة لا محالة.

الصورة الثالثة ـ عكس الصورة السابقة ـ بأن يحرز كون القدرة في أحدهما عقلية ويشك في الآخر هل تكون القدرة بالنسبة إليه شرعية أو عقلية.

والصحيح في هذه الصورة ، هو ترجيح ما أحرز كون القدرة فيه عقلية احتياطاً ، لأنه يعلم بوجود ملاك فعلي للمولى حتى في حال الاشتغال بالخطاب الآخر وإنما يحتمل أن يكون المكلف معذوراً بتركه له حين الاشتغال بالآخر ، لأنه قد اشتغل بتحصيل ملاك آخر فعلي للمولى لا يقل عن الملاك الأول أهمية ، ولم يكن يقدر على الجمع بينهما. فيكون من موارد الجزم بتفويت ملاك فعلي مع الشك في العذر المبرر للتفويت ، وهو مجرى قاعدة الاحتياط ، كما في موارد الشك في القدرة على الامتثال. فلا يقاس بموارد الشك في التكليف من جهة الشك في سعة مباديه وضيقها الّذي يكون مجرى للبراءة. هذا كله فيما إذا أريد من القدرة الشرعية المعنى الثاني.

وأما لو أريد منها المعنى الثالث ، فالنتيجة في الصور الثلاث هي النتيجة السابقة من حيث جريان البراءة في الصورتين الأوليتين وجريان الاحتياط في الأخيرة ، إلاّ أنه إذا فرض دوران الأمر بين القدرة العقلية والمعنى الثالث للقدرة الشرعية جرت البراءة عن كلا الحكمين المتزاحمين في الصورة الأولى


والثانية ـ إذا لم يفرض علم إجمالي بثبوت أحدهما من الخارج. ـ لأنه يحتمل اشتراط كل منهما بعدم الآخر ـ العدم اللولائي لا الفعلي المستلزم للدور كما تقدم ـ وبما أنه يحتمل ثبوت كل منهما لو لا الآخر كان ثبوت كل منها مشكوكاً ، فيمكنه تركهما معاً. وأما إذا فرض الدوران بين القدرة الشرعية بالمعنى الثاني والمعنى الثالث فلا يمكنه تركهما معاً ، إذ على تقدير ذلك يكون المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني فعلياً لا محالة فالنتيجة العملية هي التخيير بينهما أيضا.

واما البحث الثاني ـ أي البحث عن مقتضى إطلاق دليلي الحكمين في صور الشك المذكورة ، فهناك ثلاث حالات متصورة بالنسبة إلى دليلي الحكمين المتزاحمين :

الحالة الأولى ـ أن يؤخذ في موضوع أحدهما القدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، بأن يقيد بعدم الأمر بالضد الآخر.

ومقتضى القاعدة في هذه الحالة هو التمسك بإطلاق دليل الحكم غير المقيد لإثبات فعليته وبالتالي وروده على الحكم الآخر ، فإن التقييد بالمعنى الثالث للقدرة الشرعية تقييد زائد على ما يقتضيه المقيد اللبي المتصل بالخطاب ، فيمكن التمسك لنفيه بإطلاق الدليل. وهذا أحد الوجوه الفنية لتقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بمثل العهد والشرط والنذر ، حيث يدعى استفادة هذا النحو من التقييد من لسان أدلة وجوب الوفاء المقيدة بأن لا يكون مخالفاً مع كتاب الله وشرطه ، فإنه تعبير عرفي عن عدم الأمر بالخلاف ، وهذا بخلاف دليل وجوب الحج فإنه مطلق من هذه الجهة. ويلحق بهذه الحالة أيضا ما إذا كان الحكمان معاً مقيدين بعدم الأمر بالخلاف غير أن أحدهما مقيد بعدم الأمر بالخلاف في نفسه ـ العدم اللولائي ـ والآخر مقيد بعدم الأمر بالخلاف بالفعل ، فإن إطلاق دليل الحكم الثاني يكون وارداً حينئذ على دليل الحكم الأول ، كما تقدم شرحه في أحكام الورود. وهذا وجه فني آخر لتقديم دليل


وجوب الحج على دليل وجوب الوفاء بالعهد والنذر ، حيث يدعى أن المستظهر من مثل لسان « ان شرط الله قبل شرطكم » الوارد في أدلة وجوب الوفاء تقيده بعدم الأمر بالخلاف في نفسه وبقطع النّظر عن وجوب الوفاء ، وسوف يأتي مزيد تفصيل وتحقيق لهذا المثال في الأبحاث المقبلة إن شاء الله تعالى.

الحالة الثانية ـ أن لا يؤخذ في لسان شيء منهما قيد القدرة ، أو يؤخذ فيهما معاً بنحو واحد ، وهذه الحالة لا يمكن إثبات الترجيح فيها لأحد الخطابين فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

الحالة الثالثة ـ أن تؤخذ القدرة قيداً في لسان أحد الدليلين دون الآخر ، وقد حكموا في هذه الحالة بترجيح ما لم يؤخذ في لسان دليله قيد القدرة على ما أخذ فيه ذلك ، بدعوى : استظهار كون القدرة عقلية فيما لم يؤخذ فيه قيد القدرة لساناً وشرعية فيما أخذت القدرة في لسان دليله.

ومستند الاستظهار الأول ، أحد أمرين :

الأول ـ التمسك بإطلاق المدلول الالتزامي للخطاب ، فإن مدلوله المطابقي ـ وهو التكليف ـ وإن كان مقيداً لبا بالقدرة فلا يشمل حال العجز إلاّ أن مدلوله الالتزامي ـ وهو الكشف عن الملاك ـ لا بأس بإطلاقه لحال العجز ، إذ لا برهان يقتضي تقييده بحال القدرة.

وهذا الأمر غير تام ، إذ يرد عليه :

أولا ـ أن المحقق في محلّه تبعية الدلالتين المطابقة والالتزامية ذاتاً وحجية ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لم يبق ملاك لحجية الالتزامية.

وثانياً ـ أن المقيد اللبي المخرج لحال العجز يعتبر بمثابة المخصص المتصل ـ على ما تقدم شرحه ـ والمقيد المتصل يمنع عن انعقاد الدلالة المطابقية ذاتاً لا حجيةً فقط ، والتبعية بين الدلالتين ذاتاً ووجوداً مما لا إشكال فيه. نعم


لو قلنا بمقالة السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في شرطية القدرة من أنها شرط عقلي في مرحلة الامتثال وليس شرطاً في الخطاب أصلاً ـ على ما أفاده في أبحاث الترتب ، وإن لم نعهد أنه قد التزم بما يتفرع عليه في مورد من الموارد ـ تمّ هذا الأمر ، حيث يكون إطلاق الخطاب بلحاظ كلا مدلوليه المطابقي والالتزامي تاما ذاتاً وحجية ، غاية الأمر عدم تنجز الامتثال عقلاً في حالات العجز ، وهو لا يمنع عن فعلية ملاك الخطاب كما هو واضح.

الثاني ـ التمسك بإطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني ـ وهو الملاك ـ بناءً على ما سلكه المحقق النائيني ـ قده ـ من أن للمادة محمولين في عرض واحد. أحدهما الحكم والخطاب ، والآخر الملاك ، وكما يقتضي إطلاق المادة إطلاق الحكم في تمام حالاتها ، كذلك يقتضي إطلاق الملاك ووجوده في تمام مواردها ، والمقيد اللبي المذكور إنما يقيد إطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول الّذي لا يعقل ثبوته في حال العجز ، وأما الملاك فيتمسك بإطلاق المادة لإثباته في حالة العجز.

وهذا الطريق غير تام أيضا ، لأن ما هو مدلول الخطاب ومفاده عرفاً إنما هو الحكم فقط ، فليس للمادة أكثر من محمول واحد وهو غير ثابت في موارد العجز ، وأما الملاك فيستكشف بالدلالة الالتزامية العقلية في موارد ثبوت الحكم.

وأما مستند الاستظهار الثاني ، فيمكن أن يكون أحد وجوه :

الأول ـ أن تقييد الحكم في لسان دليله بالقدرة يمنع عن انعقاد الإطلاق في الملاك لحال العجز ، فلا يثبت الملاك في حال العجز ، لا بالدلالة الالتزامية ولا بإطلاق المادة ، بل يكون ثابتاً في حال القدرة فقط ، وهو معنى كون القدرة شرعية.

ويرد على هذا الوجه : أن غايته عدم إمكان إحراز فعلية الملاك في حال العجز ، لا إحراز عدمها ودخل القدرة فيها الّذي هو معنى كون القدرة شرعية.


الثاني ـ إن مقتضى مولوية التقييد أن يكون أخذ القدرة في لسان الدليل على أساس دخلها في الملاك وأنها قدرة شرعية ، إذ لو كانت دخيلة في الخطاب فقط كان أخذها في لسان الدليل إرشاداً إلى ما هو ثابت بحكم العقل من المقيد اللبي.

ويرد عليه : أن المراد بالتقييد المولوي إن كان هو حصول التقييد بجعل من قبل المولى ، فهذا أمر محفوظ حتى في موارد عدم دخل القدرة في الملاك ، فإن تقييد الخطاب إنما هو من شئون المولى ، وتسمية القدرة عقلية ـ حينئذ ـ ليس بمعنى أن العقل هو المقيد ، بل بمعنى كونه هو الكاشف عن التقييد. وإن كان المراد بالتقييد المولوي التقييد الّذي يكون تحت سلطان المولى رفضه وتبديله إلى الإطلاق ، وهذا إنما يكون في تقييد الملاك بالقدرة لا تقييد الحكم. ففيه : أن المولوية بهذا المعنى لا يقتضيها ظهور الخطاب الصادر من المولى ، لأنها مئونة زائدة على كون التقييد عملاً صادراً من المولى.

الثالث ـ أن التقييد إن كان باعتبار دخل القدرة في الملاك كان تأسيساً وإلاّ كان تأكيداً لحكم ثابت في نفسه بمقتضى حكم العقل ، والأصل في الخطابات الشرعية أن تكون تأسيساً. وبعبارة أخرى : أن اشتراط القدرة في الخطاب ـ سواء كان من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، أو من جهة اقتضاء الخطاب تقييد متعلقة بالمقدور ـ بعد أن كان أمراً واضحاً مركوزاً عند العرف وبمثابة المقيد اللبي المتصل بالخطاب ، كان تصدي المولى مع ذلك للتصريح به وإبرازه ظاهراً في أنه بصدد إفادة معنى زائد على ما هو منكشف في نفسه ، وليس ذلك المعنى إلاّ دخل قيد القدرة في الملاك ، وأنه من دونها لا مقتضي للحكم.

وهذه الاستفادة لا بأس بها فيما إذا لم تكن في البين نكتة أخرى لإبراز هذا القيد اللبي المستتر. غير أنه ينبغي أن يلتفت إلى أن هذا الوجه يتهافت مبنى مع


الطريق الأول لإثبات القدرة العقلية فيما إذا لم يكن دليل الخطاب مقيداً بالقدرة بحسب لسانه ، وهو التمسك بالدلالة الالتزامية لإثبات الملاك في حال العجز ، فإنه يفترض أن المقيد اللبّي بمثابة القرينة المتصلة ، بينما يتوقف ذلك الطريق على افتراضه مقيداً منفصلاً كي ينعقد الإطلاق في الدلالة ذاتاً.

ثم إن غاية ما يثبت بهذا الوجه أو بغيره من هذه الوجوه لو تمّ شيء منها ، دخل القدرة المأخوذة في لسان الدليل في الملاك ، فإذا كان المأخوذ فيه عنوان القدرة والاستطاعة الظاهر في القدرة المقابلة للعجز التكويني فلا يثبت إلاّ دخل هذه القدرة في الملاك ، وهذا ينتج القدرة الشرعية بالمعنى الأول الّذي قلنا أنها لا تجدي في الترجيح ، وإن الّذي يجدي فيه دخل القدرة المقابل للعجز التكويني أو المولوي الناجم عن الاشتغال بالضد الواجب ، ومثل هذا لا يمكن استظهاره من مجرد ورود عنوان الاستطاعة في لسان دليل الحكم. نعم لو أبرز المقيد اللبي بحذافيره في ظاهر الدليل ، فقيل إذا استطعت ولم تكن مشتغلاً بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية ، أمكن إثبات القدرة الشرعية بالمعنى الثالث بأحد الوجوه المتقدمة إذا افترضنا تماميته.

وهكذا يتلخص إلى هنا ، أنه إذا كان قيد القدرة وارداً في لسان أحد الدليلين دون الآخر ، فإن كان الوارد عنوان القدرة والاستطاعة فقط ـ كما هو التعبير المفهوم عرفاً ـ فلا يمكن إثبات كون القدرة شرعية بالمعنى المفيد في مقام الترجيح ، بل يبقى الشك في ذلك المقتضى للرجوع إلى الأصول العملية على حاله. وإن كان الوارد في لسان الدليل هو نفس المقيد اللبي المستتر أي عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل في الأهمية ، فإن قبلنا كلا الاستظهارين السابقين تمّ الترجيح لا محالة ، وإلاّ فإن أنكرنا الاستظهار الأول فلم نقبل إمكان إثبات القدرة العقلية بإطلاق الخطاب ، وقبلنا الاستظهار الثاني ، وأن مجيء قيد القدرة في لسان الدليل يقتضي دخله في الملاك بمقتضى تأسيسية الخطابات الشرعية ، اندرجت هذه الحالة حينئذٍ في الصورة الثانية من الصور الثلاث ، وهي


ما إذا أحرز كون القدرة في أحد الخطابين المتزاحمين شرعية وشك في كونها شرعية أو عقلية في الآخر. وإن قبلنا الاستظهار الأول وأنكرنا الثاني اندرج المقام في الصورة الثالثة من تلك الصور وهي ما إذا أحرز كون القدرة في أحدهما عقلية وشك في شرعية القدرة للآخر أو عقليتها.

إلاّ أن كل هذا مجرد افتراض محض ، لما أشرنا إليه من أن التعبير العرفي لإبراز قيد القدرة لا يكون مطابقاً مع المقيد اللبي عادة فلا يقيد بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل أهمية ، وكيف يمكن للإنسان العرفي تشخيص ما لا يقل أهمية أو يقل؟ وإنما التعبير المعقول عرفاً أن يرد التقييد بعنوان عدم الاشتغال بواجب آخر ، فيقول مثلاً ( صلّ إن لم يكن لك شغل واجب ). وحينئذ نقول إنه إذا ورد خطاب مقيد بحسب لسان دليله بعدم الاشتغال بواجب ، تقدّم عليه في مقام التزاحم كل خطاب لم يكن مقيداً بمثل هذا القيد ، وذلك بأحد البيانات التالية :

البيان الأول ـ أن يستظهر بمقتضى إطلاق القيد أن كل واجب آخر يتقدم على هذا الواجب في مقام المزاحمة لا انه لا يزاحمه فحسب. وهذا الظهور العرفي واضح جداً فيما إذا افترض اتصال الخطابين أحدهما بالآخر وقيد أحدهما بعدم الاشتغال بالآخر.

البيان الثاني ـ ويتألف من مقدمتين :

أولاهما : أن المستظهر من إطلاق التقييد بعدم الاشتغال بواجب آخر أن أي واجب آخر يفترض بنحو القضية الحقيقية ، فلا يزاحمه هذا التكليف ، وهذا لا يمكن إلاّ بأن تكون القدرة في حق هذا التكليف شرعية ، أي دخيلة في ملاكه ، وإلاّ فلو كانت عقلية فلعل ملاكه أهم من بعض الواجبات المستلزم لعدم صحة التقيد إلاّ إذا فرضت القضية خارجة وأن المولى بنفسه لاحظ ملاك هذا الواجب مع كل واحد واحد من أحكامه فوجده مساوياً أو مرجوحاً منها


جميعاً ، وهذا خلاف ظهور التقييد في كونه على نهج القضية الحقيقية على ما تقدمت الإشارة إليه. وبهذا نبرهن على أن القدرة فيه شرعية.

الثانية : إن مقتضى إطلاق دليل الخطاب المطلق أن تكون القدرة فيه عقلية ولكن لا مطلقاً بل بالقياس إلى خصوص الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية. لأن مقتضى التمسك بإطلاقه لحال الاشتغال بالخطاب المشروط هو فعليته خطاباً وملاكاً ولا يكون هذا تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبّي ، بدعوى. أن الخطاب مقيد في نفسه بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه أهمية ، وفي المقام يحتمل ذلك. لأن المخصص اللبي إنما يكون بمقدار ما إذا كان الاشتغال بواجب غير مشروط بالقدرة الشرعية ، أي فعلي الملاك حين الاشتغال بهذا الخطاب ، وأما الضد الواجب الّذي لا يكون ملاكه فعلياً لو اشتغل بهذا الواجب فلا برهان عقلاً يقتضي تقييد إطلاق الخطاب بعدم الاشتغال به ـ على ما تقدم في تحقيق صياغة المقيد اللبي ـ بل يكون مقتضى إطلاق الخطاب بنفسه ثبوت الحكم خطاباً وملاكاً حتى لو اشتغل بالآخر. وبضمّ هاتين المقدمتين إحداهما إلى الأخرى يثبت الترجيح إذ يحرز بهما كون القدرة في الخطاب المشروط بحسب دليله شرعية وفي الخطاب المطلق بحسب دليله عقلية بالقياس إلى الخطاب المشروط ، فيكون دليله وارداً على دليله.

لا يقال : من المحتمل أن يكون الخطاب المقيد بحسب لسان دليله بعدم الاشتغال بواجب آخر مختلفاً حاله بالقياس إلى واجب وواجب ، بأن يكون بالقياس إلى الواجبات المشروطة بالقدرة الشرعية القدرة فيه شرعية أيضا ، ولهذا لم يكن مزاحماً معها. وبالقياس إلى الواجبات المشروطة بالقدرة العقلية القدرة فيه عقلية ، وإنما لم يزاحمها لعدم رجحان ملاكه على ملاكها.

فإنه يقال : هذا خلاف ما تقدم من استظهار كون التقييد بنحو القضية الحقيقية بالنسبة إلى كل واجب يمكن أن يفترض الّذي يقتضي أن تكون القدرة فيه شرعية مطلقاً.


البيان الثالث ـ ويتوقف على مقدمتين أيضا :

أولاهما : المقدمة الثانية المتقدمة في البيان السابق ، وهي دعوى : إمكان إحراز كون القدرة في الخطاب المطلق عقلية بالقياس إلى الخطاب المشروط.

الثانية ـ ما سوف يأتي من الترجيح باحتمال الأهمية في الخطابين المتزاحمين إذا كانا مشروطين بالقدرة العقلية.

وعلى ضوء هاتين المقدمتين يثبت الترجيح في المقام ، إذ يقال : إن الواجب المشروط بحسب لسان دليله بعدم الاشتغال بواجب آخر ان كانت القدرة فيه عقلية ، أي أن ملاكه فعلي حين الاشتغال بالواجب الآخر ، فلا بد وأن يكون الواجب الآخر ملاكه فعلياً أيضا ، وإلاّ لم يصح التقييد بل كان هو مقدماً عليه ، وحينئذ يكون احتمال الأهمية في ملاك الواجب الآخر المطلق موجوداً دون الواجب المشروط إذ لو كان أهم لما صح التقييد أيضا بل كان هو مقدما عليه ، فيترجح الواجب المطلق بملاك احتمال الأهمية. وإن كانت القدرة فيه شرعية فإطلاق الخطاب المطلق يقتضي كون القدرة فيه عقلية بالقياس إليه فيترجح عليه بملاك ترجيح غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها.

وبعبارة أخرى : إن مقتضى التمسك بإطلاق الخطاب المطلق ثبوته حتى حين الاشتغال بالخطاب المشروط ، فيكون وارداً عليه لا محالة ، ولا يكون تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبّي ، لأن المقيد اللبي إنما يخرج عن الإطلاق حالة الاشتغال بالواجب الآخر إذا ما توفّر شرطان. أحدهما ، أن يكون ملاكه فعلياً ـ أي أن القدرة فيه عقلية بالقياس إلى الواجب الأول ـ والثاني ، أن يحرز عدم أهمية الواجب الأول ـ على ما سوف يأتي في الترجيح بالأهمية ـ وفي المقام يعلم بانثلام أحد الشرطين ، إجمالاً ، وإلاّ لما صح تقييده بعدم الاشتغال بضد واجب ، فيكون المقيّد اللبي للخطاب المطلق غير شامل لحال الاشتغال بالخطاب المشروط جزماً.


ثم إن هناك بحثاً آخر حول هذا المرجح وهو أن ترجيح غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها هل يشمل صورة ما إذا كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم ملاكاً من غير المشروط بها أم لا.

الصحيح هو أن يقال : إن كان المراد بالقدرة الشرعية المعنى الثالث وهو عدم الأمر بالخلاف ، تمّ هذا الترجيح مطلقاً ، إذ يكون الخطاب المرجوح ملاكاً وارداً بنفس فعليته على الآخر ورافعاً لموضوعه فلا يكون له ملاك أهم من الآخر ومقدماً عليه.

وإن كان المراد القدرة الشرعية بالمعنى الثاني. فلا بد من التفصيل بين صورتين.

الصورة الأولى ـ أن يكون الخطاب المشروط بالقدرة الشرعية قد أبرز فيه هذا القيد بالتعبير العرفي المتقدم ، وهو عدم الاشتغال بواجب آخر ، وفي هذه الصورة يكون مقتضى إطلاق التقييد تقدم كل خطاب عليه ولو كان ملاكه مرجوحاً ، بالبيانات المتقدمة فيصح التعميم.

الصورة الثانية ـ أن يكون الشرط المبرز على وزان المقيد اللبي المستتر ، أي عدم الاشتغال بواجب لا يقل عنه أهمية. وفي هذه الصورة غاية ما يستفاد من هذا الاشتراط أن هذا الواجب لا يزاحم واجباً لا يقل عنه في الأهمية لا مطلق الواجب فالقدرة فيه شرعية بالقياس إلى ما لا يقل عنه في الأهمية لا مطلقاً ، والمفروض أن الواجب المطلق بحسب لسان دليله قد أحرز كون ملاكه مرجوحاً بالنسبة إلى الواجب المشروط ، فيكون مقتضى التمسك بإطلاق دليل الواجب المشروط فعليته خطاباً وملاكاً حال الاشتغال بالخطاب المطلق ، فيتقدم عليه لا محالة بالأهمية.

الثاني ـ ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل :

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في تقريب هذا المرجح ( أنه إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الآخر ، كما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء والأمر بتطهير البدن للصلاة ، فبما أن الوضوء له بدل ،


وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة أمره مع أمر التطهير فيقدم رفع الخبث ويكتفي في الصلاة بالطهارة الترابية (١).

وهذه البرهنة على الترجيح غريب في بابه ، إذ الكلام فيما له بدل طولي الّذي يكون متفرعاً على العجز من الإتيان بالمبدل وواضح أن الأمر يقتضي متعلقه بالخصوص ولو كان له بدل طولي وإنما لا يقتضي متعلقه بالقياس إلى بدله العرضي كما في الواجب التخييري ، فلو فرض أن لأحد الواجبين بدلاً عرضياً لا يزاحم مع الواجب الآخر كان ذلك خروجاً عن باب التزاحم موضوعاً ، لأن ما هو الواجب بحسب الحقيقة إنما هو الجامع بين المبدل وبدله العرضي والجامع لا يزاحم الواجب الآخر.

والصحيح في تخريج هذا المرجح أن نقول : تارة : يقصد البرهنة على هذا المرجح بعنوانه فيكون مرجحاً مستقلاً في عرض سائر المرجحات وأخرى : يراد البرهنة عليه بإرجاعه إلى مرجح آخر ينطبق عليه. فالمدعى في هذا الترجيح له صيغتان :

اما الصيغة الأولى ، فغاية ما يمكن أن يذكر في توجيهها : أن الاشتغال بالضد الواجب الّذي لا يقل أهمية وإن أخذ عدمه قيداً لبياً عاماً في كل خطاب ـ كما تقدم ـ ولكن المأخوذ عدمه كذلك إنما هو الاشتغال بضد واجب ليس له بدل ولا يمكن استيفاء ملاكه في فرض ترك الاشتغال به ، وإما الضد الواجب الّذي يمكن استيفاء ملاكه حتى مع ترك الاشتغال به عن طريق الإتيان ببدله فلا ملزم عقلاً بأخذ عدمه قيداً في الخطاب ولو كان أهم ملاكاً ، بل يعقل إطلاق الخطاب بالنسبة إليه بحيث يقتضي بنفسه صرف المكلف عن ذلك الضد الواجب وتوجيهه إلى ما ليس له بدل. وهذا معناه أن خطاب الواجب الّذي ليس له بدل يكون رافعاً بامتثاله لموضوع الخطاب الّذي له بدل دون

__________________

(١) أجود التقديرات ج ١ ، ص ٢٧٢.


العكس وهو معنى الورود ، وبه يتم الترجيح.

لا يقال : فيما إذا كان الواجب الّذي له بدل مضيقاً فترجيح ما ليس له بدل موقوف على ثبوت بدلية البدل عن الواجب الّذي له بدل مطلقاً ، أي ولو كان تعذر المبدل بسبب الاشتغال بالواجب الّذي ليس له بدل ، ومن الواضح أن دليل البدلية إنما يثبت البدلية في حال العجز التكويني عن المبدل أو العجز الشرعي ـ على فرض التوسعة في البدلية ـ والأول غير حاصل في الواجب المضيق ، لانحفاظ القدرة بعد على المبدل ، والثاني موقوف على أن يكون مشتغلاً بما هو أهم ، مما يعني أن الترجيح بعدم البدلية متوقف صغرى على أن يكون الاشتغال بما ليس له بدل في المرتبة السابقة اشتغالاً بالأهم ملاكاً الّذي هو مرجح مستقل في نفسه ، فتكون المرجحية به موقوفة على ثبوت الترجيح في المرتبة السابقة ، وهذا مستحيل.

فإنه يقال : إن العجز الشرعي غير موقوف على أهمية ما يشتغل به ، بل تكفي المساواة في الملاك لتحققه ، فلا يتوقف الترجيح بهذا المرجح على ثبوت الترجيح في المرتبة السابقة. نعم لو أريد بالعجز الشرعي الإلجاء المولوي فهو موقوف على أهمية ما ليس له بدل ملاكاً ، لكنه غير لازم كما هو واضح.

والتحقيق في حال هذه الصيغة : أنها تامة في نفسها ، ولكنها تتوقف على إثبات أن البدل في فرض العجز عن المبدل يكون وافياً بتمام ملاك المبدل أو بجلّه ، وأما إذا لم يثبت ذلك وفرض ان مقداراً مهماً من ملاك المبدل لا يستوفي بالبدل ، فقد يكون هذا المقدار مساوياً في الأهمية لملاك ما ليس له بدل أو أهم منه ، وفي مثل ذلك لا بد وأن يكون وجوب ما ليس له بدل مقيداً بعدم الاشتغال باستيفاء ذلك المقدار ، وينحصر وجه الترجيح حينئذ بالرجوع إلى الأهمية ولا يبقى لعنوان ما ليس له بدل أثر. وإثبات وفاء البدل بتمام ملاك المبدل يحتاج إلى قرينة خاصة ، ولا يفي به نفس دليل البدلية بلسانه العام.


وأما الصيغة الثانية لهذا المرجح ، وهو إرجاعه إلى مرجح آخر يتطابق معه ، فيمكن تقريرها في إحدى محاولتين.

المحاولة الأولى ـ إن عدم البدل وإن لم يكن بنفسه موجباً للترجيح إلاّ أنه ملازم مع مرجح آخر ، بمعنى أن هناك ضابطاً عاماً يحرز به وجود ذلك الترجيح في موارد عدم البدل دائماً ، وهو الترجيح بقوة احتمال الأهمية ، فإن ما ليس له بدل يكون احتمال أهميته ملاكاً أقوى دائماً مما له بدل ، فيما إذا لم يفرض دليل من الخارج يقتضي في مورد خاص خلاف ذلك. والوجه في ذلك ، هو قوانين حساب الاحتمال وكيفية تحديد القيم الاحتمالية التي تقول : إن كل كميتين كانت الاحتمالات المستلزمة لامتياز إحداهما على الأخرى متقابلة ـ أي موجودة في كل منهما ـ باستثناء احتمال واحد يكون مختصاً بإحداهما كانت القيمة الاحتمالية لامتياز تلك الكمية على أختها أكبر من القيمة الاحتمالية للعكس بحسب النتيجة. وتفصيل هذا القانون والبرهنة عليه خارج عن عهدة هذا البحث ، وموكول إلى محله من كتاب « الأسس المنطقية للاستقراء » وإنما نفترضه في هذا المجال أصلا موضوعياً مسلماً لنطبقه في محل الكلام. فإن قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما ليس له بدل ـ كالإزالة ـ أكبر من قيمة احتمال الأهمية في ملاك ما له بدل ـ كالصلاة ـ إذ يوجد بالنسبة إلى كل منهما احتمال الأهمية في نفسه ـ وهذان احتمالان متقابلان ـ ويوجد احتمال التساوي بينهما في الملاك وهذا الاحتمال بصالح ترجيح ما ليس له بدل ، إذ على تقدير التساوي تكون بدلية البدل عما له بدل ثابتة باعتبار حصول العجز الشرعي في صورة الاشتغال بما ليس له بدل الّذي لا يقل عنه أهمية ـ على ما تقدمت الإشارة إليه في الصيغة السابقة ـ وهذا يعني أن التزاحم بحسب الحقيقة إنما يقع بين تمام الملاك فيما ليس له بدل ومقدار منه فيما له بدل ـ وهو المقدار الفائت بتركه إلى البدل ، إذا كان يفوت منه شيء ـ فيكون ما ليس له بدل أهم ملاكاً في هذا التقدير ، وهذا يعني أنه يوجد احتمال


لامتياز كمية الملاك في الواجب الّذي ليس له بدل لا يوجد بالنسبة إلى ملاك ما له بدل ، وهو احتمال التساوي. فبمقتضى قانون الاحتمالات غير المتقابلة تزداد القيمة الاحتمالية لملاك ما ليس له بدل ، فيترجح على ما له بدل في مقام التزاحم.

لا يقال : التزاحم بحسب الحقيقة بين الكميتين من الملاك المتمثلتين في الإزالة مع بدل الصلاة من طرف ، والصلاة من طرف آخر ، فلا بدّ وأن تلحظ هاتان الكميتان وما في كل منهما من احتمالات الأهمية ، ومن الواضح أن احتمالات الأهمية فيهما متقابلة ، إذ يحتمل أهمية كل منهما ويحتمل تساويهما ، فلا موجب لترجيح إحداهما على الأخرى.

فإنه يقال : إذا كان احتمال تساوي ملاك كل مما له بدل وما ليس له بدل موجوداً في نفسه وكان احتمال أهمية كل منهما بنحو واحد ـ كما هو المفروض فيما إذا لم يكن دليل خاص على الخلاف ـ كان احتمال أهمية ملاك المجموع المركب من الإزالة وبدل الصلاة أكبر قيمة من احتمال أهمية ملاك الصلاة وحدها. لأن هذا المجموع فيه منشئان لاحتمال الأهمية ، أحدهما احتمال أهمية ملاك الإزالة على الصلاة في نفسه ، والآخر احتمال أهميته على أساس التساوي المحتمل بين ملاك الإزالة والصلاة باعتبار استلزامه إضافة جزء من ملاك الصلاة الّذي يستوفيه البدل على ملاك الإزالة ، ولا يوجد احتمال من هذا القبيل يقتضي العكس. فالحاصل. أن احتمال أهمية الملاك لفعل الإزالة مع بدل الصلاة يستمدّ قيمته من كل من احتمال أهمية الإزالة واحتمال مساواتها مع الصلاة في الملاك. وهذا بخلاف احتمال أهمية الملاك في فعل الصلاة وترك الإزالة التي ليس لها بدل ، على ما هو مشروح في محله لكيفية تحصيل القيم الاحتمالية في حساب الاحتمالات.

المحاولة الثانية ـ وتشتمل على كبرى وصغرى.

أما الكبرى ـ فما تقدم في المرجح السابق من تقديم المشروط بالقدرة


العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية.

وأما الصغرى ـ فباستظهار أن ما له بدل يكون مشروطاً بالقدرة الشرعية دون ما ليس له بدل.

والحديث عن الكبرى ومدى صحتها تقدم في المرجح السابق.

وأما البحث حول الصغرى ، فيمكن أن يقال في توجيهها : أن القدرة لم تؤخذ في لسان الدليل فيما ليس له بدل لا تصريحاً ولا تلويحاً ، فتكون القدرة بالنسبة إليه عقلية ، وأما بالنسبة إلى ما له بدل فقد أخذت القدرة قيداً في لسان دليله ، لأن فرض وجود البدل هو فرض تقييد وجوب البدل بعدم القدرة على المبدل ، وهو مساوق لتقييد دليل وجوب المبدل بالقدرة عليه ، وإلاّ اجتمع المبدل والبدل على المكلف. فتكون القدرة شرعية فيه.

وهذه المحاولة غير تامة. لأن كبرى ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية وإن كانت تامة على بعض معاني القدرة الشرعية ، كما أن إطلاق دليل الخطاب الّذي ليس له بدل لحال الاشتغال بواجب مشروط بالقدرة الشرعية وإن كان يثبت أن ملاكه فعلى في هذا الحال ، إلاّ أن كون القدرة شرعية فيما له بدل بمقتضى دليل البدلية غير تام. وقد تقدم في البحث الإثباتي من المرجح السابق وجهه.

ونضيف هنا اعتراضين آخرين يختصان بهذه المحاولة.

الاعتراض الأول ـ أنا لو سلمنا إمكان استظهار كون القدرة شرعية إذا أخذت قيداً في لسان الدليل ، فإنما نسلّمه فيما إذا كان التقييد بها متصلاً بدليل المبدل ، على أساس استظهار المولوية أو التأسيسية من التقييد ، بالنحو المتقدم شرحه. وأما إذا كان التقييد في دليل منفصل فلا يبقى ملاك للاستظهار المذكور. والأمر في المقام كذلك ، فإن دليل المبدل لم يرد فيه قيد القدرة وإنما ورد ذلك في دليل البدل المنفصل ، فلا يقتضي إلاّ تضييق الحكم المبدل


وتخصيصه بحال القدرة ، الأمر الّذي كان ثابتاً في نفسه بحكم العقل والمفروض أنه غير كاف لإثبات دخل القدرة في الملاك.

الاعتراض الثاني ـ أنا لو افترضنا اتصال دليل البدلية بدليل المبدل مع ذلك لا يمكن إثبات أن القدرة في الحكم المبدل شرعية ودخيلة في ملاكه ، لأن التقريب الّذي على أساسه سلمنا استظهار دخل القدرة في الملاك لم يكن يتم فيما إذا كانت هنا لك نكتة أخرى تستدعي ورود قيد القدرة في لسان الدليل ، وفي المقام يمكن أن يكون أخذ قيد العجز في دليل البدل بنكتة تحديد موضوع الأمر بالبدل ، فلا يتشكل ذلك الظهور السياقي في التأسيسية لإثبات أن القدرة إنما جاء في لسان الدليل من جهة دخلها في الملاك.

الثالث ـ الترجيح بالأهمية :

ويحتوي هذا الترجيح على ثلاثة شقوق.

١ ـ ترجيح معلوم الأهمية.

٢ ـ ترجيح محتمل الأهمية.

٣ ـ الترجيح بقوة احتمال الأهمية.

ولا بد من إقامة البرهان عل كل واحد من هذه الشقوق.

١ ـ ترجيح معلوم الأهمية :

وخلاصة هذا المرجح : أن أحد الواجبين المتزاحمين إذا ثبت كونه أهم من الواجب الآخر قدم عليه. ويمكن أن يبرهن عليه بأحد تقريبين.

التقريب الأول ـ إن القيد اللبي العام ـ كما عرفنا سابقاً ـ عدم الاشتغال بضد واجب لا يقل أهمية عن المتعلق ، وهذا القيد ينطبق على الاشتغال بالأهم بالنسبة إلى المهم ، فيكون رافعاً لموضوع وجوب المهم. ولكنه لا ينطبق على الاشتغال بالمهم ، لأنه اشتغال بواجب أقل أهمية بحسب الفرض ، فإطلاق دليل وجوب الأهم لفرض الاشتغال بالواجب الأقل أهمية لا برهان على سقوطه


ولا ملزم عقلاً بتقييده. وهذا يعني أن دليل وجوب الأهم رافع بامتثاله لموضوع وجوب المهم دون العكس ، وبذلك يطبق قانون الورود من جانب دليل الأهم على دليل المهم.

التقريب الثاني ـ إن العقل يحكم بلزوم تقديم الخطاب معلوم الأهمية على الآخر ـ ولو لم يتم إطلاق الخطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم ـ وذلك باعتبار أن تركه تفويت لملاك مولوي منجز من دون عذر ، لأن تحصيل ملاك المهم لا يشكل عذراً لتفويت الزيادة الملاكية الموجودة في الأهم بخلاف العكس. وبعبارة أخرى : أن الأمر دائر بلحاظ عالم الملاك وروح الحكم بين تحصيل الملاك الأقل أو الأكثر في مقام الامتثال والعقل يحكم بلزوم تحصيل الملاك الأكثر وعدم تفويته بعد تنجزه بالعلم بحسب الفرض. ولا نقصد بذلك كون سنخ المصلحة الموجودة في الخطابين واحد مع كونها بنحو أقل في المهم وبنحو أكثر في الأهم كي يقال : ربما لا يكون المتزاحمان ذا ملاكين متسانخين بل متباينين. وإنما نقصد بالملاك المصلحة التي تكون مورد اهتمام المولى لأنها التي تدخل في العهدة وتتنجز بحكم العقل لا مجرد المصلحة الواقعية ، فبلحاظ عالم اهتمامات المولى يتردد الأمر بين الأقل والأكثر كما هو واضح.

وهذا التقريب موقوف على أن يكون الملاك فعلياً على كل حال ، أي حتى في حال الاشتغال بالمهم ، وأما إذا كان الملاك الأهم تعليقياً ، أي مشروط بالقدرة الشرعية بالنسبة إلى المهم ، أو احتمل ذلك فلا يكون الإتيان بالمهم تفويتاً لملاك منجز.

وربما يحاول تعميم هذا الشرط على التقريب الأول ، بدعوى : أن إطلاق خطاب الأهم لفرض الاشتغال بالمهم إنما يمكن التمسك به فيما إذا كان ملاك الأهم فعلياً حتى حين الاشتغال بالمهم ، أي مشروطاً بالقدرة العقلية. وأما إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعية فلا يكون فعلياً حين الاشتغال بالمهم كي


يكون الورود من جانب الأهم فقط ، والعلم بالأهمية لا دخل له في تعيين كون القدرة عقلية في الأهم أم شرعية ، وإطلاق الخطاب أيضا تقدم أنه لا يمكن أن يثبت كون القدرة في الواجب عقلية إلاّ بالقياس إلى واجب آخر يثبت كون القدرة فيه شرعية ، فلا برهان على كون الإتيان بمعلوم الأهمية رافعاً لموضوع الآخر دون العكس.

وإن شئت قلت : أن خطاب المهم مقيد بعدم الاشتغال بما لا يقل عنه أهمية مع كون ملاكه فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم وفي المقام لا يحرز كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم لكي يكون الاشتغال به رافعاً لموضوع المهم.

والتحقيق : أن كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الاشتغال بالمهم ـ أي كون القدرة فيه عقلية بالقياس إلى المهم ـ يمكن إحرازه بنفس إطلاق الخطاب ، لأن القيد اللبي المأخوذ في كل خطاب بحسب الدقة عبارة عن عدم الاشتغال بضد واجب يشتمل على شرطين. أن لا يقل عنه في الأهمية ، وأن يكون ملاكه محفوظاً حين الاشتغال بالواجب الآخر ، فإذا انتفى أحد الشرطين كفى في التمسك بإطلاق الخطاب لفرض الاشتغال به إذ لا موجب لتقيد زائد ، وفي المقام يعلم بحسب الفرض بانتفاء الشرط الأول في المهم فالمقيد اللبي غير منطبق عليه فيصح التمسك بإطلاق خطاب الأهم لفرض الاشتغال بالمهم ، وبه يثبت فعليته خطاباً وملاكاً ويتم الورود. فاحتمال كون الملاك في الأهم مشروطاً بالقدرة الشرعية وعدم الاشتغال بالمهم منفي بنفس إطلاق خطاب الأهم ، فإن دائرة الملاك سعة وضيقاً كدائرة الخطاب يكون المرجع فيها إطلاق دليل الخطاب نفسه.

وأما ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في تخريج هذا الترجيح : « من أن التكليف بالأهم بما هو كذلك يصلح أن يكون معجزاً مولوياً للمكلف عن الطرف الآخر دون العكس فيكون نسبة الأهم إلى غيره كنسبة الواجب إلى


المستحب أو المباح ، فكما لا يمكن أن يكون المباح أو المستحب مزاحماً للواجب كذلك لا يمكن أن يكون المهم مزاحماً للأهم » (١).

فإن أريد به : أن نفس خطاب الأهم يكون معجزاً عن المهم بنحو يرجع إلى تقييده بعدم الأمر بالأهم ، فهذا يمنع عن إمكان الترتب بينهما ، وبالتالي يرتفع الأمر بالمهم سواء اشتغل بالأهم أم لا وهو خلف التزاحم. وإن أريد أن الاشتغال بالأهم يكون معجزاً. فإن قُصد معنى يرجع إلى تضييق دائرة الخطاب المهم في عالم الجعل رجع إلى التقريب الأول ، وإن قصد بعد الفراغ عن عدم الضيق في دائرة الخطاب كونه معجزاً في عالم الامتثال وبلحاظ حكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة فهو بلا موجب ، إلاّ إذا رجع إلى التقريب الثاني ، وقد عرفت حاله.

٢ ـ ترجيح محتمل الأهمية على غيره :

ويراد به أن احتمال الأهمية لو كان موجوداً في حق أحد الواجبين المتزاحمين دون الآخر قدم عليه. ويمكن تخريج هذا المرجح على أساس أحد وجوه.

الوجه الأول ـ ما هو المنساق من كلمات مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ « إنه بناءً على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمية أحدهما دون الآخر فقد علمنا بسقوط الإطلاق عن الآخر وباشتراطه بعدم الإتيان بمتعلق الأول. وأما ما يحتمل أهميته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به. وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمية على غيره في مقام المزاحمة » (٢).

وهذا الوجه بهذا المقدار من البيان يرد عليه إشكال التمسك بالعامّ في الشبهة

__________________

(١) أجود التقريرات المجلد الأول ، ص ٢٧٧ ـ محاضرات الجزء الثالث ، ص ٢٦٩.

(٢) محاضرات الجزء الثالث ، ص ٢٧٤.


المصداقية لمخصصه اللبي المتصل ، إذ المفروض التسليم بتقييد كل خطاب لباً بعدم الاشتغال بضد واجبٍ مساو أو أهم ، وفي المقام يحتمل مساواة الواجب الآخر معه في الأهمية. كيف ولو جاز هذا التمسك لدخل باب التزاحم في التعارض في الموارد التي يحتمل الأهمية في كل من الخطابين تمسكاً بإطلاقه لحال الاشتغال بالآخر.

الوجه الثاني ـ التمسك بأصالة الاشتغال العقلية ، بتقريب : أنه مع الإتيان بمحتمل الأهمية يعلم بسقوط الخطاب الآخر ، لأن الخطاب الآخر مقيد بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ومحتمل الأهمية لا بد وإن يكون أحدهما وهذا بخلاف الإتيان بغير محتمل الأهمية فإنه لا يعلم بسقوط خطاب محتمل الأهمية به لعدم إحراز كون ما أتي به مساوياً فيكون المورد من موارد الشك في السقوط فتجري أصالة الاشتغال.

ويرد على هذا الوجه : إن الشك في السقوط الّذي هو مورد لأصالة الاشتغال هو الشك في السقوط الناشئ من الشك في امتثال التكليف بعد الفراغ عن ثبوته ، وفي المقام إنما الشك في سعة دائرة القيد المأخوذ في موضوع الخطاب المحتمل أهميته من أول الأمر ، فيرجع لا محالة إلى الشك في التكليف الزائد. نظير ما إذا شك في وجوب إكرام زيد وأنه مقيد بعدم مجيء ابنه معه أو مقيد بعدم مجيء أحد معه ، فإنه يرجع إلى الشك في سعة الوجوب وضيقه وهو مجرى البراءة.

الوجه الثالث ـ التمسك بأصالة الاشتغال أيضا بتقريب آخر تقدم في ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، وحاصله : إن الاشتغال بكل منهما مفوّت لغرض لزومي للمولى ، ولكن هذا التفويت إذا انطبق على تفويت غير محتمل الأهمية بالاشتغال بمحتمل الأهمية فهو تفويت معذور فيه من قبل المولى جزماً ، وأما إذا انطبق على تفويت محتمل


الأهمية بالاشتغال بغيره فلا يعلم فيه بالمعذورية من قبل المولى لعدم إحراز المساواة. وكل تفويت يقيني لملاك المولى مورد للمنع العقلي ما لم يحرز المعذورية فيه من قبل المولى نفسه.

وهذا الوجه وإن كان تاماً كبروياً ، لكنه موقوف على إحراز كون القدرة في محتمل الأهمية عقلية كي يكون تفويت الملاك يقينياً ، ولا محرز لذلك سوى إطلاق الخطاب نفسه ، وقد تقدم في مناقشة الوجه الأول أن التمسك به يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

والتحقيق ، إمكان تتميم الوجه الأول وتعديله بحيث يتم الورود في المقام تمسكاً بإطلاق خطاب ما يحتمل أهميته من دون أن يكون تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وتوضيح ذلك : أن القيد العام إنما ثبت بالبرهان العقلي القائل بأن إطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالمساوي أو الأهم غير معقول ، لأنه إما يستلزم طلب الضدين أو صرف المكلف من الأهم أو المساوي إلى غيره ، والأول مستحيل ، والثاني خلاف غرض المولى. ومن الواضح أن هذا البرهان لا يقتضي التقييد بأكثر من صورة العلم بالأهمية أو المساواة ، وأما صورة الاشتغال بواجب مردد أمره بين المساواة والمفضولية فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق الخطاب لحال الاشتغال به بعد أن كانت الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقية بلحاظ حالات حصول العلم بالأهمية أو احتمالها لدى المكلفين ، إذ يكفي أن يكون الغرض من ورائه صرف المكلف عما يحتمل مفضوليته إلى ما يحتمل أهميته احتياطاً. ولا يجوز رفع اليد عن الإطلاق إلاّ بمقدار ما تم البرهان عليه. وهذا ينتج أن القيد العام هو عدم الاشتغال بضد واجب معلوم المساواة أو معلوم الأهمية أو محتملها ، وبذلك يكون الاشتغال بمحتمل الأهمية رافعاً أيضا لموضوع الخطاب الآخر ووارداً عليه دون العكس.


٣ ـ الترجيح بقوة احتمال الأهمية :

ويراد به أن احتمال الأهمية لو كان في أحد الواجبين المتزاحمين أقوى منه في الآخر قدم عليه ، والبرهان عليه ، نفس النكتة المتقدمة في ترجيح محتمل الأهمية بعد توسعتها. بأن يُقال : أن القيد اللبي المقدار المتيقن منه هو الاشتغال بما يعلم أنه ليس بأقل ـ أي مساو أو أهم ـ أو يحتمل فيه الأهمية احتمالاً مساوياً مع احتمال الأهمية في الآخر أو أقوى منه.

وأما صورة الاشتغال بما يكون احتمال الأهمية فيه أضعف من احتمالها في الخطاب الآخر فلا ضرورة لسقوط إطلاق ذلك الخطاب فيها ، إذ لا يلزم منه إلاّ صرف المكلف عما يكون احتمال الأهمية فيه أضعف إلى ما يكون احتمال أهميته أقوى ، وليس في هذا الاقتضاء ما يكون نقضاً للغرض المولوي بوجه من الوجوه. وهكذا يتضح من مجموع ما تقدم أن الواجب الأهم ـ علماً أو احتمالاً ـ في موارد التزاحم يكون وارداً على الواجب الآخر دون العكس لأن خطاب الواجب الآخر مقيد بعدم الاشتغال بالأهم بينما إطلاق خطاب الأهم ثابت في حال الاشتغال بالواجب الآخر. إلاّ أن هذا إنما يتم فيما إذا لم يكن خطاب الواجب الأهم قد ورد فيه ما يدل على تقييده بالقدرة الشرعية أو فرض تقييده بذلك ولكن لا بمعنى عدم الاشتغال بأي واجب آخر بل بالمقدار المأخوذ في المقيد اللبي المستتر ـ وهو عدم الاشتغال بضد واجب أهم أو مساو ـ فإنه في هاتين الحالتين يمكن التمسك بإطلاقه لحال الاشتغال بالواجب الآخر وأما إذا فرض ورود التقييد بالقدرة الشرعية بمعنى عدم الاشتغال بأي واجب آخر. فإن ورد ذلك في الخطاب الأهم خاصة تقدم الخطاب الآخر وكان وارداً عليه ، ولو كان هذا أهم ، لأن إطلاق خطاب الأهم في فرض الاشتغال بالمهم ساقط بحكم التقييد بالقدرة الشرعية وإطلاق خطاب المهم لفرض الاشتغال بالأهم ثابت لما تقدم من إمكان التمسك بإطلاق الخطاب لحال الاشتغال بضد واجب تكون القدرة فيه شرعية ، وبه نثبت أن القدرة


عقلية بالقياس إليه. ومنه يظهر أن الترجيح بالقدرة العقلية يتقدم على الترجيح بالأهمية إذا كانا في طرفين متقابلين. وإن كان ورود التقييد بالقدرة الشرعية بلحاظ الخطابين الأهم والمهم معاً فكان الملاك في كليهما مشروطاً بعدم الاشتغال بواجب آخر ، فهل يتم فيه الترجيح بالأهمية أم لا يتم؟ فيما يلي تحقيق ذلك.

سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية :

بعد الفراغ عن الترجيح بالأهمية يقع الكلام في أن هذا الترجيح هل يشمل المشروطين بالقدرة الشرعية أيضا أو يختص بالمشروطين بالقدرة العقلية. وقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى عدم الترجيح بالأهمية في المشروطين بالقدرة الشرعية ، لأن الأهمية إنما توجب التقديم فيما إذا كان كل من الملاكين تاماً وفعلياً ، وأما في المشروطين بالقدرة الشرعية حيث فرض كون كل من الملاكين موقوفاً على القدرة على تحصيله فلا محالة يكون أحد الملاكين غير ثابت في نفسه ، لاستحالة ثبوت كلا الملاكين مع عدم ثبوت القدرتين ولا يعلم إن ما لم يثبت من الملاك هل هو الأهم على تقدير وجوده أو غيره فالدوران ليس بين تفويت الملاك الأضعف وتفويت الملاك الأقوى ليتعين بحكم العقل تفويت الأضعف ، بل الدوران في أصل ثبوت الملاك وأنه واقعاً هل هو الأضعف أو الأقوى ، ولا موجب لترجيح احتمال كونه الأقوى على احتمال كونه الأضعف ، كما هو الحال في باب التعارض فيما إذا دل دليل على ثبوت ملاك وجوبي شديد ودل دليل آخر على ثبوت ملاك وجوبي آخر ضعيف بل استحبابي أيضا ، وعلمنا إجمالاً بكذب أحد الدليلين ، فإنه لا يقدم دليل الوجوب على دليل الاستحباب ، فكذلك في المقام لا يقدم احتمال الملاك الأقوى على احتمال الملاك الأضعف.

وقد اعترض عليه : بأن باب التعارض وإن كان كما أفيد ، حيث أن ملاك الوجوب الشديد لم يثبت لابتلاء دليله بالمعارض ولا علم لنا به من غير ناحية


دليله الساقط بالمعارضة ، فلا يتعين العمل على طبقه ، إلاّ أن باب التزاحم ليس كذلك حتى في مثل المشروطين بالقدرة الشرعية ، وذلك للعلم في المقام بفعلية الملاك الأهم. لأن الملاك الأهم على تقدير القدرة عقلاً وشرعاً ثابت بدليل وجوب الأهم بلا معارض ، وأما نفس تقدير القدرة عقلاً وشرعاً فهو محرز وجداناً إذ لا مانع عقلي ولا شرعي من الإتيان بالأهم. أما انتفاء المانع العقلي فواضح ، وأما المانع الشرعي فلان ما يتصور كونه مانعاً شرعياً هو الأمر التعييني بالآخر المانع عن صرف القدرة الواحدة في طرف الأهم ، وهذا الأمر التعييني بالآخر غير محتمل لوضوح أن تعيين الطرف الآخر بلا معين. بمعنى ان الأمر دائر بين التخيير وبين تعيين الأهم وأما تعيين غيره فغير محتمل ، فالقدرة على الأهم عقلاً وشرعاً تامة ، فيتم ملاكه وخطابه ويكون بذلك معجزاً مولوياً عن الوجوب الآخر ورافعاً لملاكه (١).

أقول : إن فرض أن القدرة الشرعية المأخوذة قيداً للملاك في الواجبين معاً كان على غرار المقيد اللبّي العام المأخوذ في كل خطاب ، وهو عدم الاشتغال بالأهم أو المساوي بالخصوص تمّ الترجيح بالأهمية ، كما أشرنا إليه سابقاً. إلاّ أنه خلاف المقصود في المقام ، إذ المفروض دخل القدرة في الملاك بلحاظ الاشتغال بأي واجب آخر سواءً كان أرجح منه ملاكاً أو مرجوحاً.

وحينئذٍ نقول : تارة : يراد بالقدرة الشرعية عدم الاشتغال بواجب آخر وأخرى : يراد عدم المعجز المولوي. فعلى الأول يكون الصحيح ما أفاده الميرزا ( قده ) من عدم الترجيح بالأهمية ، لا لما أفاده من قياسه على موارد التعارض واحتمال وجود الملاك الأهم ، بل لأن كل واحد من الخطابين مشروط بحسب الفرض ملاكاً وخطاباً بعدم الاشتغال بواجب آخر فيكون الاشتغال بكل منهما رافعاً للوجوب الآخر ملاكاً وخطاباً فيكون من التوارد من الطرفين الّذي هو معنى التخيير في باب التزاحم.

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات المجلد الأول ، ص ٢٧٦.


وعلى الثاني ، بأن يراد من القدرة الشرعية دخل المعجز المولوي في الملاك ، أي عدم الأمر بالخلاف المقتضي لصرف القدرة إليه تعييناً ـ وهذا هو المعنى الثالث للقدرة الشرعية فيما تقدم ـ فإن أريد بالمعجز المولوي الأمر التعييني بالخلاف المنجز على المكلف ، تمّ الترجيح بالأهمية في المقام أيضا. إذ الأهم سوف يكون ملاكه فعلياً على كل حال لثبوت القدرة عليه عقلاً وعدم المنجز للخلاف شرعاً فإن وجوب المهم وإن كان يحتمل تعينه ثبوتاً وإطلاقه لحال الاشتغال بالأهم ـ على ما سوف يأتي توضيح النكتة فيه ـ ولكنه لا منجز له إثباتاً بعد تقييد خطابه بالقدرة عقلاً وشرعاً بالمعنى المذكور ، فإذا أحرز فعلية ملاك الأهم على كل حال كان كالمشروط بالقدرة العقلية من حيث الترجيح ، بمعنى أنه يكون وارداً على وجوب المهم لأن إطلاقه لحال الاشتغال بالمهم يكون ثابتاً ورافعاً لموضوع وجوب المهم ملاكاً وخطاباً باعتباره معجزاً مولوياً.

وإن أريد بالمعجز المولوي واقع الأمر التعييني بالخلاف ، فإذا أريد الأمر بالخلاف الناشئ عن مقتض ملاكي للتعيين تمّ الترجيح بالأهمية أيضا ، لأن الخطاب المهم لا يحتمل في حقه تعيين ناشئ من ملاك يقتضيه. فيكون إطلاق وجوب الأهم رافعاً لموضوع وجوب المهم خطاباً وملاكاً باعتباره معجزاً مولوياً وأمراً تعييناً بالخلاف. وأما إذا أريد الأمر بالخلاف ولو دون مقتض ملاكي لتعيينه فلا يتمّ هذا الترجيح لأن كلاً من الواجبين سوف يكون مشروطاً ملاكاً وخطاباً بعدم الأمر بالخلاف تعييناً ، وكما يحتمل ثبوتاً جعل الوجوب التعييني للأهم أي جعل الإطلاق للأمر بالأهم كذلك يحتمل جعل خطابين مشروطين بعدم الاشتغال بالآخر أو جعل الإطلاق للأمر بالمهم ولو من باب اختيار أحد الجعلين المتساويين وترجيحه على الآخر بلا مرجح فإن صرف الأمر عن الأهم إلى المهم إنما يكون غير معقول فيما إذا ترتب عليه تفويت الأهم لا فيما إذا ارتفع به أصل ملاك الأهم كما في المقام بحسب الفرض. ومع هذا الاحتمال لا يصح التمسك بإطلاق خطاب الأهم لحال الاشتغال بالمهم ، كما لا يصح


التمسك بإطلاق خطاب المهم لحال الاشتغال بالأهم لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فهنا يتمّ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من احتمال وجود الملاك الأهم نظير موارد التعارض ، لأن كلاً من الخطابين يكون ثبوته محتملاً مع العلم بجعل أحدهما أو جعلهما مشروطين بعدم الاشتغال بالآخر ، فيكون من موارد احتمال الخطاب الأهم وهو ليس احتمالاً منجزاً لأنه من الشك في أصل التكليف. فالحاصل ، لا طريق في هذه الحالة إلى ترجيح الأهم لا بالإطلاق اللفظي ولا بأصالة الاشتغال.

طرق إثبات الأهمية :

لإثبات أهمية ملاك أحد الخطابين المتزاحمين على الآخر يتصور عدة وسائل وطرق يرتبط جلها بالاستظهار العرفي في ألسنة الخطابات الشرعية حسب ما فيها من نكات ومناسبات تختلف من مقام إلى مقام وأهمها ما يلي :

١ ـ التمسك بإطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالواجب الآخر الكاشف إنّا عن أهمية ملاكه ورجحانه على ملاك الآخر. وهذا الطريق يمكن الاستعانة به فيما إذا كان دليل ذلك الخطاب لفظياً مطلقاً ودليل الخطاب الآخر لبياً لا إطلاق فيه.

وفيه : أنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي بناءً على ما تقدم في تقرير أصل هذه المسألة من أن كل خطاب مقيد لباً بعدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم ، ولو لا ذلك لوقع التعارض بين إطلاق أدلة الواجبات المتزاحمة وبالتالي دخل التزاحم في باب التعارض.

٢ ـ أن يتكفل بعض الأدلة بيان مرتبة اهتمام المولى بتكليف معين على نحو يستفاد منه تقدمه في نظره على غيره ، كأن يكون أحد الأشياء التي صُرّح بأن الإسلام إنما بني عليها ، كما في حديث بني الإسلام على خمس.

٣ ـ أن يرد التشديد والتهويل على ترك ذلك الواجب ومخالفته نظير


ما ورد من التعبير بالكفر عن ترك فريضة الحج في الآية الكريمة أو أنه يموت يهودياً أو نصرانياً كما في الروايات ، فإن مثل هذه الألسنة أيضا صالحة لأن يستظهر منها مزيد اهتمام المولى به على نحو إن لم يوجب القطع بأهميته على غيره مما لم يرد فيه مثل ذلك اللسان فلا أقل من احتمال الأهمية.

٤ ـ استفادة الأهمية من الأدلة الثانوية المتكفلة لأحكام ذلك الواجب وخصائصه ، نظير ما ورد في حق الصلاة مما يستفاد منها أنها لا تترك بحال من الأحوال ، فإنه يستفاد منه أن الصلاة الأعم من الاختيارية والاضطرارية أهم من غيرها الّذي لم يدر فيه ذلك وإنها لم تكن تترك بحال لأن المولى يهتم بملاكاتها ، فيستظهر منه الأهمية قطعاً أو احتمالاً.

٥ ـ مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي التي تخلع على دليل الخطاب الشرعي ظهوراً عرفياً لتحديد الملاك وتشخيص الأهم منها والمهم ، وهذا إنما يكون في الأدلة المتكفلة لأحكام مركوزة بنفسها وبملاكاتها عند العقلاء ، نظير خطاب حرمة الغصب ووجوب حفظ النّفس المحترمة فيما إذا وقع التزاحم بينهما ، فإنه لا إشكال في لزوم حفظ النّفس المحترمة ولو أدى ذلك إلى إتلاف شيء من ماله أو التصرف فيه من دون إذنه باعتباره أهم ملاكاً ، إذ لا إشكال عرفاً وعقلائياً في أن ملاك حفظ المال وعدم التصرف فيه من دون إذن صاحبه يعتبر من شئون احترام الغير ومن تبعاته فلا يعقل أن يكون مزاحماً مع حفظ أصل وجود الغير وفي قباله ، وهذا الارتكاز العرفي المحمول عليه دليلي الحكمين المتزاحمين يعطي لدليل وجوب حفظ النّفس المحترمة ظهوراً في أهمية ملاكه وبالتالي انحفاظ إطلاقه لحال الاشتغال بالغصب أيضا ، المقتضي للورود وترجيح خطاب وجوب الحفظ على خطاب حرمة الغصب.

٦ ـ كثرة التنصيص على الحكم من قبل الشرع فإنه يدل أيضا على


مزيد اهتمام الشارع بملاك ذلك الحكم ولكن لا مطلقاً بل فيما إذا لم تكن نكتة أخرى تصلح لأن تكون هي المنشأ لها ، وتوضيح ذلك :

إن أكثرية النصوص في أحد الحكمين قد تنشأ من أهمية ذلك الحكم وقد تنشأ من مناشئ أخرى ، ككونه محلاً للابتلاء بدرجة أكبر أو كونه بياناً خالياً من المحذور باعتبار اتفاقه مع رأي العامة أو كونه مما يغفل عنه عادة أو كونه مورداً لسؤال الرّواة كثيراً ، إلى غير ذلك من المناشئ المحتملة ، وحينئذ : فإن جزمنا بشكل وآخر بعدم وجود أي منشأ للأكثرية بقطع النّظر عن الأهمية كانت بنفسها برهاناً إنّيّاً على الأهمية وثبت الترجيح بذلك ، وإلاّ فكما يوجد احتمال كون الأهمية سبباً للأكثرية كذلك يوجد احتمال نشوئها من نكات أخرى كالتي أشرنا إليها. وهذا الاحتمال الثاني يتقوى تبعاً لتعدد الأسباب المحتملة بدلاً عن الأهمية وتكثرها ، فكلما كانت البدائل المحتملة للأهمية أكثر كان احتمال نشوء الأكثرية من أحدها أكبر ، وكذلك يتقوى هذا الاحتمال تبعاً لمدى إحراز صغريات تلك الأسباب مع الشك في سببيتها فإذا أحرزنا مثلاً أن الحكم الّذي حصل على عدد أوفر من النصوص أكثر دخولاً في محل الابتلاء كان احتمال نشوء الأكثرية من دخوله كذلك أكبر من احتمال ذلك على تقدير الشك في كون دخوله في محل الابتلاء أكثر ، ومن الواضح أنه كلما قوي احتمال نشوء الأكثرية من النكات المحتمل سببيتها بدلاً عن الأهمية ضعف احتمال الأهمية ، والعكس صحيح أيضا ، ولكن ما لم يحرز نشوء الأكثرية من أحد تلك البدائل يبقى احتمال النشوء من الأهمية ثابتاً ، وكلما كان هذا الاحتمال ثابتاً على هذا النحو أدى إلى أن يكون قيمة احتمال أهمية الحكم ذي النصوص الأكثر عدداً أكبر من قيمة احتمال أهمية الحكم الثاني ، وذلك لأننا نواجه مجموعة من الاحتمالات في سبب الأكثرية وهي أطراف لعلم إجمالي ، لأن الواقع لا يخلو من أحدها وكل واحد منها يأخذ قيمة احتمالية بموجب تقسيم رقم اليقين على أطراف العلم


الإجمالي ، وواحدة من هذه القيم الاحتمالية في صالح افتراض أهمية الأول على الحكم الثاني ، وهي قيمة احتمال كون الأكثرية ناشئة من شدة الاهتمام ، وسائر القيم الاحتمالية الأخرى حيادية نسبتها إلى أهمية هذا أو ذاك على حد سواء ، وبذلك تكون قيمة احتمال أهمية الحكم الأول أكبر من قيمة احتمال أهمية الحكم الثاني ، لأن كل ما يلائم احتمال أهمية الحكم الثاني من الاحتمالات التي يضمها العلم الإجمالي المذكور يلائم احتمال أهمية الأول أيضا فهما من هذه الناحية مشركان ويمتاز احتمال أهمية الأول بأن بعض احتمالات ذلك العلم الإجمالي في صالح إثباته بالخصوص ، فلا محالة يكون أقوى.

وإن شئت قلت : إن كانت أكثرية نصوص الحكم الأول ناشئة من غير الأهمية من الأسباب الأخرى فهذا الافتراض لا يثبت أهمية الحكم الأول ـ كما هو واضح ـ ولا ينفيه ، لأن مجرد كون الداعي إلى تكثير النصوص هو الدخول في محل الابتلاء كثيراً لا يعني عدم أهميتها أو كون الثاني أهم منه. وإن كانت أكثرية نصوص الحكم الأول ناشئة من أهميته فهذا يحتم أهمية الأول على الثاني ، وبالتالي سوف يكون ما هو في صالح احتمال أهمية الأول أكبر مما هو في صالح احتمال أهمية الثاني. نعم إذا فرض وجود مانع عن تكثير النصوص على الحكم الثاني ولو كان أهم ، فإذا أحرز وجود مانع من هذا القبيل فسوف لا تجدي أكثرية نصوص الحكم الأول في تقوية احتمال الأهمية ، وأما إذا لم يحرز ذلك ـ سواء شك في أصل وجود ما يمنع أو كان يوجد شيء واحتمل مانعيته ـ فحساب الاحتمالات جار أيضا بالبيان المتقدم ، ولكن مع ملاحظة احتمال وجود المانع عن تكثير نصوص الحكم الثاني ، أي سوف يكون احتمال نشوء أكثرية نصوص الحكم الأول من الأهمية بصالح أهمية الحكم الأول على تقدير عدم المانع للحكم الثاني لا مطلقاً ، وهذا يعني أن الاحتمالات الحيادية تجاه أهمية الحكم الأول سوف تزداد ، حيث


يضاف عليها احتمال وجود المانع عن إبراز أهمية الحكم الثاني. وأيا ما كان فالمقياس هو ازدياد قيمة احتمال الأهمية زيادة عرفية بحيث لا يكون خلافه بالغاً درجة الاطمئنان.

هذا كله فيما إذا كنا نحسب الاحتمالات ونحن نواجه النصوص الصادرة عن المعصوم 7 واقعاً ، فنجد أنها في أحد الحكمين أكثر من الآخر ، وأما إذا كنا نواجه الروايات التي تنقل إلينا تلك النصوص فنجد أن ما تنقل أحد الحكمين أكثر مما تنقل الحكم الآخر ، أي الكثرة في النصوص في مرحلة الوصول ، فلا بدّ من إجراء حساب الاحتمالات أخرى في النقل والرواية لنفي احتمال أن تكون قلة الرواية للحكم الثاني ناشئة عن خصوصية فيها من قبيل توافر الدواعي لنقل الحكم الأول دون الثاني ، أو وجود موانع تقتضي عدم نقل الحكم الثاني ، بنفس البيان المتقدم أيضا.

٤ ـ ترجيح الأسبق زماناً :

إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين أسبق زماناً من الآخر ، فقد ذكروا لزوم تقديم الأسبق زماناً وترجيحه على المتأخر زماناً. وذلك باعتبار : أن الأسبق يصير خطابه فعلياً قبل فعلية مزاحمه فيكون تركه غير معذور فيه بخلاف ما إذا امتثل الأسبق فإنه لا يبقى معه مجال لفعلية الخطاب المتأخر ، حيث ترتفع القدرة عليه.

والصحيح ، عدم مرجحية الأسبقية ، وتوضيح ذلك :

إن الواجبين المتزاحمين تارة : يفترض أن القدرة مأخوذة فيهما عقلاً ، وأخرى : يفرض أنها مأخوذة شرعاً ، أي أنهما مشروطان بالقدرة الشرعية ، فعلى الأول يكون من الواضح عدم الترجيح بالأسبقية ، لأن كلا من الخطابين مقيد لباً بقيد واحد ، وهو عدم الاشتغال بضد واجب فعلي ملاكه ، مساو أو أهم ، وبرهان هذا التقييد الّذي تقدم شرحه مفصلاً لا يفرق فيه بين حالة


كون الضد الواجب مقارنا أو متقدماً زماناً ، فكما يكون الإتيان بالأسبق زماناً رافعاً لفعلية الخطاب المتأخر كذلك يكون الإتيان بالمتأخر في زمانه رافعاً لفعلية الخطاب المتقدم ، وهو معنى عدم الترجيح. وأما على الفرض الثاني ، فقد يتوهم الترجيح بتقريب : أن القدرة الشرعية بمعنى دخلها في الملاك فعلية في حق الأسبق بخلاف المتأخر لأن الإتيان بالأسبق يرفع القدرة على الواجب المتأخّر في ظرفه ، دون الإتيان بالواجب المتأخر فإنه لا يرفع القدرة على الأسبق في الزمان المتقدم وجداناً.

إلاّ أن هذا التقريب غير تام ، لأن الواجب المتأخر إن فرض أن ملاكه مشروط بالقدرة على الواجب في ظرف امتثاله بالخصوص ، فما ذكر من ارتفاع فعلية الخطاب المتأخر بامتثال المتقدم وإن كان ثابتاً إلاّ أنه ليس من جهة ترجيح أحد المتزاحمين بما هما واجبان على الآخر وإنما باعتبار أخذ قيد خاص في أحد الخطابين بنحو يرتفع بإتيان الفعل المتقدم ولو لم يكن واجباً أصلا ، وهذا خارج عن محل الكلام. وإن فرض أنه مشروط بمطلق القدرة المحفوظ مع الاشتغال بالضد ـ كما هو المفروض في موارد التزاحم ـ فهذه القدرة كما هي فعلية في حق الواجب الأسبق زماناً كذلك هي فعلية في حق المتأخر زماناً ، إذ يمكن للمكلف أن يحفظ قدرته للواجب المتأخر بترك المتقدم.

ويمكن تصوير الترجيح بالأسبقية الزمانية في إحدى حالتين أخريين.

الأولى ـ أن تكون القدرة الشرعية بمعنى دخل عدم الاشتغال بواجب مقارن أو متقدم في الملاك دون الواجب المتأخر.

فإنه في هذه الحالة سوف يكون الإتيان بالواجب الأسبق زماناً رافعاً بمقتضى هذا التقييد لإطلاق الخطاب المتأخر دون العكس. إلاّ أن هذا مجرد افتراض وتقييد زائد في دليل الخطاب ، وهو كما يمكن أن يفترض بهذا النحو يمكن ثبوتاً أن يفترض بنحو ينتج العكس بأن يقيد الخطاب بعدم الاشتغال


بواجب متأخر. وإن كان ظاهر إطلاق القيد لعله يناسب مع الافتراض المذكور في جملة من الموارد.

الثانية : أن تكون القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي الحاصل بنفس الأمر بالخلاف ، فإنه حينئذ سوف يكون الواجب المتقدم فعلي الملاك لعدم المنافي المولوي في زمانه إذا كان الآخر متأخراً وجوباً وامتثالاً كالواجب المعلق ، فيكون امتثاله رافعاً لموضوع الخطاب المتأخر.

وهذا أيضا تقييد زائد في الخطاب يُتّبع فيه لسان الدليل ، فإذا كان مقيداً بعدم الأمر الفعلي المقارن أو المتقدم بالخلاف دون المتأخر تمّ الترجيح وأما إذا كان مقيداً بعدم تكليف مولوي آخر منجز على المكلف من هذه الناحية ولو لم يكن خطابه فعلياً ، وقيل بوجوب حفظ المقدمات المفوتة فالمنافي المولوي موجود لا محالة ويكون التوارد من الطرفين.

وهكذا يتبرهن : أن هذا الترجيح لا يمكن تخرجه على أساس قوانين التزاحم العامة وإنما لا بد فيه من دليل خاص يثبت به تقييد أحد المتزاحمين بعدم وجود مزاحم أسبق زماناً عليه فيتقدم الأسبق بالورود.

نعم ، لا يبعد دعوى ترجيح الواجب الأسبق زماناً فيما إذا كان يحتمل فوات الواجب المتأخر زماناً في ظرفه بموت أو عجز أو غير ذلك فإنه مع وجود هذا الاحتمال يمكن أن يقال بلزوم تقديم الأسبق والمبادرة إليه ، وذلك تمسكاً بإطلاق خطابه لإثبات فعليته وتنجزه ، لأن المقيد اللبّي الّذي أبرزناه سابقاً لا يقتضي التقييد بأكثر من الاشتغال بواجب مساو أو أهم ، عرضي أو طولي ، يقطع بانحفاظ القدرة عليه في ظرفه ، نظير ما يقال في الترجيح بالأهمية الاحتمالية. إذ لا يكون الإطلاق في الخطاب الأسبق لغواً حينئذ بل من أجل الاحتياط والتحفظ على أحد الملاكين على كل حال.

هذه هي مرجحات باب التزاحم ، وقد عرفت رجوعها جميعاً إلى باب الورود ، فإن تمّ شيء منها تعين تقديم ذي المزية بقانون الورود وإلاّ فالمتعين بناء على إمكان الترتب الالتزام بالتخيير وتساوي الواجبين في مقام الامتثال.


حُكم التَزاحُم في حَالةِ عَدَم الترجيح

إذا فرض تساوي المتزاحمين وعدم ترجيح في أحدهما وقع البحث حينئذ عن ثبوت التخيير بينهما وكونه عقلياً أو شرعياً. ونقصد بالتخيير العقلي ، وجود خطابين شرعيين تعيينيين كل منهما مشروط بعدم امتثال الآخر وإنما يتخير بينهما في مقام الامتثال بحكم العقل ، ونقصد بالتخيير الشرعي وجود خطاب واحد تخييري بدلاً من خطابين مشروطين.

ومهم الثمرة الملحوظة من وراء هذا البحث مسألة وحدة العقاب وتعدده ، حيث يدعى أنه بناء على كون التخيير عقلياً يتعدد العقاب على العاصي إذا تركهما معاً ، لأنه يكون قد عصى خطابين شرعيين. وأما إذا كان التخيير شرعياً فلا يكون عاصياً إلاّ لخطاب واحد.

وقد أفاد المحقق النائيني ـ قده ـ تفصيلاً في المقام بين ما إذا كان التكليفان مشروطين بالقدرة الشرعية أو بالقدرة العقلية ، فحكم بالتخيير العقلي في الأول والشرعي في الثاني ، بتقريب. « انه لا وجه لسقوط أصل الخطاب في المشروط بالقدرة العقلية وإنما الساقط إطلاقه لحال الاشتغال بالآخر فيثبت خطابان مشروطان يتخير بينهما عقلاً ، وأما المشروط بالقدرة الشرعية فالتخيير الثابت فيه شرعي كشف عنه العقل فإن كلاً من الواجبين إذا كان واجداً لملاك إلزامي في ظرف القدرة عليه ـ كما هو المفروض ـ ففي فرض التزاحم


يكون أحدهما لا بعينه ذا ملاك إلزامي لا محالة فلا بد للمولى من إيجابه ، ضرورة أنه لا يجوز للحكيم أن يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه مع فرض وجدانه للملاك الإلزاميّ بمجرد عجز المكلف عن الإتيان بكلا الفعلين. وعليه فلا مناص للمولى الحكيم في المقام من إيجاب أحد الفعلين لا بعينه » (١).

والتحقيق ، أن يقال : تارة : يكون البحث علي مستوى عالم الإثبات وما يستفاد من دليل الخطابين المتزاحمين ، وأخرى : يكون البحث على مستوى عالم الثبوت وما يترتب على كون التخيير عقلياً أو شرعياً.

أما البحث الإثباتي ، فالصحيح هو أن التخيير عقلي على كل حال سواء كان الخطاب مشروطاً بالقدرة الشرعية ، أي كان الاشتغال بالضد الواجب رافعاً للملاك والخطاب معاً أم كانت القدرة عقلية. وذلك لأن ظاهر دليل كل من المتزاحمين هو الخطاب التعييني به غاية الأمر قد فرض تقييده بالمقيد اللبي عقلاً أو بأخذ القدرة فيه شرعاً ، ومن الواضح أن كل واحد منهما في فرض عدم الاشتغال بالآخر يكون مقدوراً فيكون إطلاقه لفرض عدم الاشتغال بالآخر ثابتاً ومقتضياً لكونه تعيينياً ملاكاً وخطاباً فلا موجب لرفع اليد عنه وافتراض وجود ملاك واحد بالجامع بينهما كما ذكره المحقق النائيني ـ قده ـ. وعليه فلو ترك المكلف امتثال الخطابين معاً يكون بذلك مخالفاً لتكليفين فعليين في حقه ومفوتاً لملاكين ثابتين للمولى وأما إذا امتثل أحدهما فيكون ممتثلاً لتكليف ورافعاً لموضوع تكليف آخر كما هو واضح.

نعم ، بناء على إنكار الترتب والقول باستحالته يقع التعارض بين الخطابين الظاهرين في التعيينية بلحاظ مورد التزاحم ، فإذا فرض العلم بثبوت التكليف في الجملة في مورد التزاحم وعدم سقوطه رأساً اندرج المقام في الشبهة الحكمية التي يحتمل فيها وجود تكليف بالجامع أو بهذا تعييناً أو بذاك تعييناً

__________________

(١) نقل بتصرف من أجود التقريرات الجزء الأول ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.


فيحكم فيها بما تقتضيه الأصول العملية المنقحة في محلها.

واما البحث الثبوتي ، فإذا فرضنا القدرة عقلية بمعنى أنها غير دخيلة في الملاك ، أو أن الدخيل في الملاك هو القدرة التكوينية المصححة لأصل التكليف بشيء ـ القدرة الشرعية بالمعنى الأول على المصطلح المتقدم ـ فسوف يكون ملاك التكليفين معاً فعلياً إلاّ أن المكلف عاجز عن استيفائهما. وفي مثل ذلك كما يمكن للمولى أن يجعل خطابين تعيينيين لكل منهما مشروطاً بترك الآخر ـ التخيير العقلي ـ كذلك يمكنه أن يجعل خطاباً واحداً بالجامع بينهما ـ التخيير الشرعي ـ إذ يكون الفرق بينهما حينئذ في مجرد كيفية صياغة التشريع لا أكثر ، وما قيل من تعدد العقاب على التارك لهما معاً فيما إذا كان التخيير عقلياً ووحدته إذا كان شرعياً ، غير تام على هذا التقدير لأن كون التخيير عقلياً وإن كان يستلزم فعلية الخطابين معاً على التارك لهما إلاّ أنه لا يستلزم تعدد العقاب عليه والوجه في ذلك : أن هناك عدة مسالك في تشخيص ما هو الميزان في تحقق العصيان وصحة العقوبة ، ذكرناها في أبحاث الترتب.

المسلك الأول ـ أن يكون الميزان في العقوبة القدرة علي الامتثال. فكلما لم يكن الامتثال مقدوراً لم يصح العقاب. وهذا هو المسلك الّذي جعله القائلون باستحالة الترتب منطلقاً للنقض على نظرية الترتب وأنها تستلزم العقوبة على أمر غير اختياري ، وبناء عليه لا يكون في موارد التزاحم إلاّ خطاب واحد وعقوبة واحدة.

المسلك الثاني ـ أن يكون الميزان في صحة العقوبة القدرة على التخلص من المخالفة سواء كان ذلك بالامتثال أو برفع الموضوع. وبهذا تصح العقوبة في موارد التزاحم إذا كان التخيير عقلياً ، لأن الفرار والتخلص من مخالفة كلا الوجوبين الترتيبين مقدور للمكلف.

المسلك الثالث ـ أن يكون الميزان في صحة العقوبة أن لا يفوّت على


المولى ملاكاً لزومياً يهتم به ، إذ لا موضوعية للخطاب بما هو جعل وتشريع في نظر العقل الّذي هو الحاكم المطلق في باب الإطاعة والعصيان ، وإنما هو مجرد طريق لإبراز اهتمام المولى بالملاك. ولهذا يتحقق العصيان أيضا بتفويت ملاك لزومي للمولى إذا استكشفه العبد عن غير طريق الخطاب.

والصحيح من هذه المسالك هو الأخير ، وبناء عليه لا يتعدد العقاب على العاصي في موارد القدرة العقلية سواء كان هناك خطاب واحد بالجامع أو خطابين مشروطين ، فإن أحد الملاكين في المقام فواته قهري على كل حال وليس بتفويت من المكلف.

وأما إذا كانت القدرة شرعية ودخيلة في الملاك. فإن كانت بمعنى وجود الملاك بمقدار وجود القدرة لا أكثر فكما لا يوجد إلاّ قدرة واحدة على أحدهما كذلك لا يوجد ملاك إلاّ في أحدهما ، فأيضاً لا يكون إلاّ عقوبة واحدة سواء جعل الخطاب بنحو التخيير العقلي أو الشرعي. وإن كانت القدرة الشرعية بمعنى دخل عدم الاشتغال بواجب آخر في الملاك فهناك ملاكان فعليان على تقدير تركهما معاً ، وهذا يعني أن المكلف كان يمكنه أن لا يفوت على المولى شيئاً من ملاكاته بالإتيان بأحدهما ، فيتعدد العقاب لا محالة ويكون التخيير عقلياً.

وهكذا يتضح : أن المقياس في تعدد العقوبة ووحدتها لا يرتبط بكون التخيير عقلياً أو شرعياً ، وإنما يرتبط بدخل عدم الاشتغال بالمزاحم في الملاك.

هذا كله فيما إذا لم يكن المتزاحمان مشروطين بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث ، وأما إذا كانت القدرة شرعية بهذا المعنى ـ عدم الأمر بالخلاف ـ فإن أريد به عدم المنافي اللولائي ـ لو لا الحكم الأول ـ ففي فرض تساوي الخطابين لا يمكن التمسك بإطلاق شيء من الدليلين لعدم تحقق الشرط المذكور ، فلا يثبت شيء من الحكمين ما لم يضم العلم من الخارج بانحفاظ حكم في الجملة ،


فتكون شبهة حكمية دائرة بين التخيير والتعيين. وإن أريد عدم المنافي الفعلي ففي هذه الحالة يحصل التعارض بين الدليلين ، لأن جعل وجوبين من هذا القبيل غير معقول في نفسه باعتبار استلزامه للدور المستحيل ، إذ يكون كل من الخطابين بجعله رافعاً لموضوع الآخر ـ على ما تقدم شرحه سابقاً ـ فيعلم بكذب أحد الإطلاقين لا محالة ، وهو معنى التعارض. ولو فرض التساقط وعدم الترجيح ، وضم إليه علم من الخارج بثبوت حكم في الجملة كانت شبهة حكمية دائرة بين التعيين والتخيير.


تنبيهاتُ بابِ التزاحُم

بقي التنبيه على أمور.

التنبيه الأول ـ هل يشترط في التزاحم بين الخطابين أن يكون التضاد بين متعلقيهما اتفاقياً لا دائمياً أو لا يشترط ذلك؟

الصحيح هو ذلك ، فإن موارد التضاد الدائمي تكون من موارد التعارض بين الخطابين. وتوضيح ذلك : انه في موارد التضاد الدائمي بين المتعلقين تارة : يفترض عدم وجود ضد ثالث لهما وأخرى : يفترض وجوده ، فإذا كان المتعلقان ضدين لا ثالث لهما كان وقوع التعارض بين دليلي الحكمين واضحاً ، لأنه لا يعقل التكليف بهما معاً لا جمعاً ، لاستلزامه الجمع بين الضدين ، ولا بدلاً بأن يشرط أحدهما أو كلاهما بعدم الأخر ، لأنه من تحصيل الحاصل إذ أن وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري فيكون أحد التكليفين أو كلاهما لغواً.

وأما إذا كانا من الضدين الذين لهما ثالث ، كما إذا ورد : تجب الصلاة عند طلوع الفجر. وورد في دليل آخر : يجب التمشي عند طلوع الفجر مثلاً. وهما ضدان لهما ثالث ، فهل يعامل معهما معاملة الخطابات المتزاحمة اتفاقاً فيقال بعدم التعارض بينهما لأن كل واحد منهما مقيد لباً بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم ولا يعقل أهمية كل منهما من الآخر فاما متساويان في الملاك


فيكون الترتب من الجانبين ، وإما أحدهما أهم فيكون الترتب من جانب واحد ، أو يقع بينهما تعارض؟ ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني.

والصحيح ، وقوع التعارض بين إطلاق الخطابين لا بين أصلهما. أما عدم التعارض بين أصل الخطابين فلأن ثبوت كل منهما مشروطاً بعدم الاشتغال بالآخر لا محذور فيه بعد البناء على إمكان الترتب ، وأما وقوع التعارض بين إطلاقيهما فلأن المتفاهم عرفاً ثبوت الإطلاق في كل منهما لحال الاشتغال بالآخر فيكون معارضاً مع إطلاق الخطاب الآخر كما يشهد بذلك الوجدان العرفي.

والتخريج الفني لهذا الوجدان العرفي : أن ما ذكر في ما سبق للمنع عن التمسك بمثل هذا الإطلاق في أدلة الأحكام باعتباره تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي المتصل ، غير جار في المقام لأن خصوصية كون التضاد بينهما دائمياً بنفسها قرينة عرفية على أن المولى ينفي مانعية الاشتغال بالآخر عن الأمر بهذا ، وعليه فلا بد من تطبيق قواعد باب التعارض بين إطلاقي كل من الخطابين لحال الاشتغال بالآخر فإن ثبت ترجيح لأحدهما كان مطلقاً والآخر مشروطاً بعدم الإتيان به. وإلاّ فيتساقطان ويثبت بهما حكمان مشروطان بنحو الترتب من الطرفين لما قلناه من عدم التعارض بين أصل الخطابين فإن إطلاق كل منهما لحال ترك الاشتغال بالآخر لا معارض له ، كما هو واضح.

التنبيه الثاني ـ قد اتضح مما تقدم في تعريف التزاحم أنه يستبطن وجود جعلين مترتبين من جانب واحد أو من جانبين ، ولذلك قلنا أن خروج التزاحم من باب التعارض الحقيقي موقوف على القول بإمكان الترتب. والمقصود في هذا التنبيه الإشارة إلى الموارد التي لا يمكن فيها الترتب فلا يكون من باب التزاحم ، حيث استعرض المحقق النائيني ـ قده ـ عدة موارد ادعى فيها عدم معقولية الترتب ، فيكون خارجاً عن باب التزاحم. ولا بد قبل التعرض


لهذه الموارد من أن نشير إلى الضابط العام لإمكان الترتب فنقول :

هناك شرطان أساسيان لإمكان الترتب.

الشرط الأول ـ أن لا يكون أحد الخطابين مشروطاً بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث وهو عدم الأمر بالخلاف ، إذ لو كان كذلك فسوف يستحيل ثبوته ولو بنحو الترتب ومشروطاً بعدم الاشتغال بالمنافي ، لأن الشرط عدم نفس الأمر الآخر وهو غير محفوظ حتى لو لم يشتغل بالمنافي.

الشرط الثاني ـ أن لا يكون ترك أحدهما مساوقاً مع تحقق الآخر ، كما في الضدين الذين لا ثالث لهما وإلاّ كان الأمر به ولو مشروطاً بعدم الآخر مستحيلاً لأنه من طلب الحاصل.

فإذا اتضح ما هو الضابط العام لإمكان الترتب نرجع إلى استعراض الموارد التي ادعي فيها استحالة الترتب وبالتالي خروجها عن باب التزاحم.

المورد الأول ـ ما إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة الشرعية إذ لا يكون حينئذ ملاك فيه لكي يعقل الأمر به ولو مترتباً.

ولا أدري ما ذا فهم السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من هذا البيان فأورد عليه بإشكال الدور ، وان الملاك إنما يستكشف بالخطاب دائماً فهو موقوف عليه في مقام الإثبات فلو كان الخطاب الترتبي يستكشف بالملاك وموقوفاً على إحرازه لزم الدور ولزم بطلان الترتب في جميع الموارد إذ لا علم لنا فيها جميعاً بالملاك إلاّ من ناحية الخطاب.

والصحيح ما أوضحناه آنفاً من أن القدرة الشرعية الدخيلة في الملاك إن أريد بها دخل عدم وجود المانع الشرعي والأمر بالخلاف في الملاك فلا يعقل الترتب ، لا لعدم إحراز الملاك في المرتبة السابقة كي يلزم الدور ، بل لانتفاء التكليف ملاكاً وخطاباً بانتفاء شرطه وهو القدرة بالمعنى المذكور.


وان أريد بها دخل عدم الاشتغال بالواجب الآخر في الملاك كان الترتب معقولاً لتحقق الشرط بترك الاشتغال بالواجب الآخر.

وقد ذكر في المقام بعض الأمثلة الفقهية كتطبيقات لهذا المورد من موارد عدم إمكان الترتب وبالتالي خروجها عن باب التزاحم.

( منها ) ما إذا كان الوضوء مزاحماً بواجب آخر أهم يقتضي صرف الماء فيه كما إذا توقف إنجاء نفس محترمة عليه ، وقد حكم المحقق النائيني ـ قده ـ بسقوط وجوب الوضوء والانتقال إلى التيمم بحيث لو توضأ به كان باطلاً لكونه مشروطاً بالقدرة الشرعية وهي منتفية.

والتحقيق ، هو الحكم بالصحّة لأن ما يمكن أن يذكر لإثبات كون القدرة شرعية في الوضوء أحد تقريبين.

التقريب الأول ـ كونه مما له بدل وهو التيمم ، وتقدم في البحث عن المرجحات أن ما يكون له بدل يكون مشروطاً بالقدرة الشرعية دائماً ولذلك يرجح عليه ما ليس له بدل.

وفيه : ما تقدم هناك مفصلاً من عدم إمكان استفادة ذلك من مجرد وجود البدل للواجب.

التقريب الثاني ـ ويتركب من مقدمتين :

أولاهما ، أن قوله تعالى ( فَلَم تَجِدُوا مَاءً فتيمّمُوا صَعِيداً .. ) (١). قد دل على التفصيل بين الوضوء والتيمم وان الثاني إنما يجب في فرض عدم وجدان الماء فيفهم منه بمقتضى كون التفصيل قاطعاً للشركة أن موضوع وجوب الوضوء هو الواجد للماء.

الثانية ، ان المراد من وجدان الماء ليس هو وجوده الخارجي بل

__________________

(١) ٤٣ النساء.


القدرة على استعماله وتيسر الوضوء به ولو بقرينة ذكر المرض مع السفر في الآية المباركة الدال على أن الميزان هو القدرة وعدم المشقة وهو معنى كون القدرة الشرعية في دليل وجوب الوضوء.

والتحقيق : انه تارة : يراد جعل إحراز أخذ القدرة الشرعية بالقرينة الداخلية أو الخارجية مانعاً عن إمكان الترتب في الأمر بالوضوء ، وأخرى يراد أن احتمال كون القدرة المأخوذة فيه شرعية أيضا مانع عن الترتب بحيث لا بد من إحراز عدم أخذها في إثبات الأمر الترتبي.

والأول باطل مبنى وبناء ، أما بطلان المبنى فلأن القدرة الشرعية لو كانت بمعنى يمنع عن الترتب ـ كما لو أريد منه عدم المنافي المولوي ـ فاحتمالها أيضا يكون مانعاً عن إمكان الترتب فلو كان الخطاب مشروطاً بما يحتمل أن يكون المراد منه القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ـ كقيد الوجدان في الآية الكريمة ـ لم يجز التمسك به لإثبات الأمر ولو مشروطاً لأنه مقيد بقيد يحتمل ارتفاعه بنفس ثبوت الخطاب الآخر ، بل لا بد من إحراز عدم أخذ القدرة الشرعية بالمعنى المذكور ولو بإطلاق ونحوه. نعم ، لو أريد بالقدرة الشرعية دخل عدم الاشتغال بالأهم في الملاك أمكن إثبات الأمر الترتبي حتى لو علم بأخذها فيه ، وهذا يعنى أن الصحيح هو التفصيل بين المعنيين للقدرة الشرعية لا بين إحراز أخذ القدرة الشرعية وعدم إحرازه. وأما بطلان البناء فلأنه :

أولا ـ يكفي الأمر الاستحبابي بالوضوء لتصحيح الوضوء فإنه غير مقيد بحسب لسان دليله بالقدرة الشرعية.

وثانياً ـ إن الخطاب الوجوبيّ أيضا لم تقم قرينة فيه على أخذ القدرة الشرعية في موضوعه فإنه وإن كان مقيداً بفرض القدرة باعتبار أخذ عنوان عدم وجدان الماء الّذي هو كناية عن العجز وعدم القدرة على الوضوء ولو بقرينة عطف المرض على السفر في موضوع آية التيمم فتكون القدرة عليه مأخوذة في موضوع وجوب الوضوء ولكن عنوان القدرة والاستطاعة لم يؤخذ بصورة مباشرة


في لسان دليل وجوب الوضوء. وما تقدم من إمكان استظهار دخل القدرة في الملاك بنكتة أن الأصل في قيود الخطاب أن تكون للتأسيس إنما يتم فيما إذا أنيط الحكم صريحاً بالقدرة في لسان دليله لا في مثل المقام الّذي ورد فيه العجز في دليل البدل لتأسيس حكم آخر عليه ثم علم منه بقرينة أن التفصيل قاطع للشركة أن نقيضه مأخوذ في الحكم المبدل إذ لا يلزم من عدم دخل القدرة في ملاك المبدل أن يكون دليل البدل تأكيداً كما هو واضح.

وأما الاتجاه الآخر الّذي ينطلق من افتراض أن الأمر الترتبي بالوضوء مبني على إحراز عدم دخل القدرة في الملاك ولو بإطلاق الخطاب ، فإن أريد من القدرة فيه ما يقابل العجز التكويني فيقال : إن القدرة بهذا المعنى إذا ثبت عدم دخلها في الملاك صح الأمر الترتبي وفي المقام لا يمكن إثبات ذلك لأن المثبت له اما هو إطلاق المادة أو المدلول الالتزامي للخطاب ـ على ما تقدم شرحهما مفصلاً ـ وكلاهما غير جار فيما نحن فيه لأن المقيد لدليل الوضوء متصل به فلا ينعقد إطلاق في المادة ولا دلالة التزامية في الأمر لإثبات الملاك في فرض العجز التكويني. فيرد عليه :

أولا ـ كفاية إطلاق الخطاب الاستحبابي في إثبات الأمر الترتبي بالوضوء كما تقدم آنفاً.

وثانياً ـ إن دخل القدرة التكوينية المقابلة للعجز التكويني في الملاك لا يضر بإمكان الترتب لانحفاظها في المقام وعدم ارتفاعها بمجرد ثبوت الأمر الأهم.

وثالثاً ـ تمامية إطلاق المادة والدلالة الالتزامية في المقام لو سلم بهما كبرويا.

أما الأول ـ فلان ما يصلح لرفعه هو أن يرد القيد في المادة ابتداء وقبل جعلها موضوعاً للحكم والملاك ولا يكفي مجرد كون التفصيل قاطعاً للشركة بعد ورود قيد عدم وجدان الماء في آية التيمم لثلم هذا الإطلاق.


وأما الثاني ـ فلأن الآية ليست ظاهرة في التفصيل من حيث الحكم والخطاب بل من حيث الوظيفة فلا يستفاد منها إلاّ التفصيل في الامتثال وأما اختصاص التكليف بالقادر عقلاً فهو مقيد عام منفصل بحسب الفرض وإلاّ لم يتم شيء من الطريقين كبروياً.

وإن أريد القدرة الشرعية المقابلة لعدم الاشتغال بواجب آخر ، فيرد عليه : مضافاً إلى الاعتراضات المتوجهة على المعنى المتقدم للقدرة. أنه لا يمكن استفادة هذا المعنى من عنوان عدم وجدان الماء الوارد في الآية الكريمة فإن غاية ما يمكن أن يذكر لتبرير هذه الاستفادة ذكر المرض مع السفر في آية التيمم والمريض يجد الماء عادة فلا بدّ وأن يراد من عدم الوجدان معني أوسع. ولكن هذه القرينة لا تقتضي أكثر من كفاية القدرة العرفية على الوضوء وهي محفوظة كما هو واضح.

وإن أريد القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي اتجهت الاعتراضات الأربعة باستثناء الاعتراض الثاني منها ، فإن القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي يمنع عن إمكان الترتب حيث يرتفع موضوع الأمر بنفس ثبوت الخطاب الآخر سواء امتثله أم لا فلا يعقل الأمر الترتبي كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وهكذا يتضح أن الأمر الترتبي بالوضوء محفوظ في موارد المزاحمة مع تكليف آخر أهم.

( ومنها ) ما إذا كان الوضوء حراماً لكونه تصرفاً في مال الغير بدون إذنه مثلاً فإنه بناء على الامتناع يدخل في باب التعارض وأما بناء على الجواز فمع عدم المندوحة يكون من التزاحم بين التكليفين الا إذا قيل بكون القدرة شرعية في الأمر بالوضوء فيكون باطلاً لعدم إمكان الأمر به ولو بنحو الترتب. وأما إذا كانت هناك مندوحة فالأمر بالوضوء فعلي على كل حال لأن ملاكه المشروط بالقدرة


الشرعية فعلي ، فإن قيل بمقالة المحقق ـ قده ـ من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق بحيث يمكن الأمر بالجامع المنطبق على الفرد المزاحم لتكليف أهم ـ كما هو الصحيح ـ صح الوضوء بالأمر العرضي وإلاّ ـ كما عليه المحقق النائيني ـ صح الوضوء بالأمر الترتبي بذلك الفرد لكون الملاك فعلياً على كل حال.

والصحيح ما تقدم من عدم اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية بالمعنى الّذي يستحيل معه الأمر بنحو الترتب.

( ومنها ) ما إذا توقف الوضوء على مقدمة محرمة كما إذا توضأ بماء مباح ولكنه موضوع في إناء مغصوب. والتحقيق في هذه الصورة أن يقال : تارة : يفرض الوضوء من الإناء المغصوب بنحو الارتماس الّذي يعد بنفسه تصرفاً في المغصوب وفي مثل ذلك يدخل هذا المثال في الصورة السابقة. وأخرى : يفرض الوضوء منه بنحو الاغتراف ، فإن اغترف الماء لوضوئه كله دفعة واحدة ووضعه في إناء آخر ثم توضأ منه لم يكن إشكال في صحة الوضوء لوجود أمر مطلق به بعد سقوط الحرمة بالعصيان في الزمن الأول إذ لا يبقى مزاحم للوضوء حين القيام به. وإن اغترف الماء شيئاً فشيئاً في مقام التوضؤ فإن عد هذا بنفسه تصرفاً في المغصوب عرفاً أيضا اندرج في الصورة السابقة حيث يجتمع فيه عنوان الوضوء مع الغصب ، وإن لم يعد بنفسه تصرفاً في المغصوب وإنما التصرف بالاغتراف الّذي يكون مقدمة للوضوء بالماء فقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى التفصيل بين صورتي الانحصار وعدمه فحكم بالبطلان في الأولى لعدم الأمر بالوضوء بعد أن كان مشروطاً بالقدرة الشرعية وبالصحّة في الثانية لفعلية الملاك بفعلية القدرة الشرعية على الوضوء فيمكن الأمر به ولو بنحو الترتب ، غاية الأمر يكون تطبيقه على هذا الفرد مستلزماً لارتكابه محرماً بسوء اختياره.

وقد خالف في ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فحكم بصحة الوضوء


حتى في صورة الانحصار بدعوى : « أن القدرة تتجدد عند كل جزء من أجزائه بالعصيان وبارتكاب المحرم حيث إن المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء ـ مثلاً ـ بمقدار غسل الوجه ، وبما أنه يعلم بارتكابه المحرم ثانياً وثالثاً إلى أن يتم الوضوء أو الغسل يعلم بطرو التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً على عصيانه بناء على ما ذكرنا من صحة الترتب وجوازه وإن وجود القدرة في ظرف الإتيان بالأجزاء اللاحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر. ومن المعلوم أنه لا فرق في ذلك بين أن القدرة تبقى من الابتداء أو تحدث في ظرف الإتيان بها وقد عرفت أنه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك » (١).

والصحيح أن القدرة الشرعية المأخوذة في خطاب الوضوء إن أريد منها دخل القدرة التكوينية أو عدم الاشتغال بالضد الأهم في الملاك فالوضوء صحيح في المقام بالخطاب الترتبي وإن أريد منها دخل عدم المنافي المولوي بأن كان مشروطاً بعدم وجود حكم شرعي على خلافه فلا يمكن تصحيح الوضوء لأن القدرة الشرعية بهذا المعنى قد عرفت أنها قيد شرعي محض لا بد في إثباته من تقييد الخطاب به بحسب لسان دليله ولا يخفى أن ظاهر الأمر بشيء مشروطاً بعدم المنافي المولوي أن لا يوجد مناف مولوي حين الإتيان به حدوثاً وبقاء ولا يكفي عدمه بقاء فقط ، أي أن لا يكون مناف مولوي منذ حدوث الأمر لا عدم المنافي حين الامتثال فقط لأنه مقتضى إشراط الحكم بعدم المنافي الظاهر في ترتبه عليه. وإن شئت قلت : إن المستفاد من دليل شرطية القدرة بهذا المعنى أن الأمر بالوضوء لا يجتمع مع فعلية الحكم المنافي لأنه يكون معلقاً على عدمه وفي المقام وإن كان كل جزء من أجزاء الواجب في ظرف الإتيان به لا يوجد مناف مولوي عنه بالخصوص إلاّ أنه باعتبار ارتباطية هذه الأجزاء وعدم إمكان

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه الجزء ٣ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.


فعلية الوجوب الضمني لكل منها مستقلاً عن وجوب الآخر لا يمكن فعلية الأمر بها لاستلزامها فعلية الأمر بالوضوء والمنافي المولوي معاً.

هذا ولكنك قد عرفت عدم الدليل على اشتراط القدرة الشرعية بالمعنى المذكور في خطاب الوضوء. كما أنه لو فرض استفادة ذلك من دليل الأمر الوجوبيّ المتمثل في الآية الكريمة كفانا الأمر الندبي المطلق في تصحيح الوضوء كما هو واضح.

المورد الثاني ـ إذا كان المتزاحمان طوليين في عمود الزمان مع كون المتأخر هو الأهم والقدرة فيهما عقلية فقد ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى استحالة الأمر بالمتقدم منهما ولو بنحو الترتب ـ وإنما قيدنا هما بكون القدرة فيهما معاً عقلية لأنها لو كانت فيهما معاً شرعية فقد تقدم منه ـ قده ـ أنه لا يجري حينئذ الترجيح بالأهمية ولا الترجيحات الأخرى الراجعة إليه أو إلى الترجيح بالقدرة العقلية غير الموجود في شيء منهما ويكون التخيير حينئذ شرعياً عنده لوجود قدرة واحدة على الجامع وملاك واحد ، ولو كانت في أحدهما عقلية وفي الآخر شرعية فقدم تقدم أيضا عدم إمكان الترتب عنده في المشروط بالقدرة الشرعية فلا يوجد إلاّ تكليف مطلق بالمشروط بالقدرة العقلية فقط ـ وقد أفاد في وجه ذلك أن الأمر بالمتقدم على نحو الترتب إنما يتصور على أحد وجوه أربعة ، كلها مستحيلة.

الأول ـ أن يكون مشروطاً بعدم الإتيان بالخطاب المتأخر وهو مستحيل لأنه يستلزم الشرط المتأخر وهو غير معقول عنده ، مضافاً إلى أنه لا يكفي هذا التقييد لدفع المنافاة بينه وبين خطاب وجوب حفظ القدرة المتولد بلحاظ الواجب المتأخر الأهم.

الثاني ـ أن يكون مشروطاً بعدم تعقب امتثال الأهم والتعقب شرط مقارن عنده ـ قده ـ وبه حاول تصحيح ما ثبت في الفقه مما ظاهره الإناطة


بالشرط المتأخر ، وهذا مستحيل أيضا لأنه لا يدفع المحذور الثاني في الوجه الأول ، مضافاً إلى أن التقييد بمثل هذا القيد بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه إثباتاً.

الثالث ـ أن يكون مشروطاً بعصيان خطاب وجوب حفظ القدرة وهو شرط مقارن ، وهذا مستحيل أيضا لأن عصيان وجوب حفظ القدرة إما يكون بنفس الواجب المتقدم أو بفعل آخر مضاد لهما ـ لو فرض وجوده ـ والتقييد بكليهما غير معقول إذ يلزم على الأول طلب الحاصل وعلى الثاني طلب الضدين.

الرابع ـ أن يكون مشروطاً بالعزم على عصيان الواجب المتأخر الّذي يكون شرطاً مقارناً وهو أيضا مستحيل باعتبار ما تقدم في محله من عدم إمكان الأمر الترتبي مشروطاً بالعزم على العصيان.

وهذا الّذي أفاده مما لا يمكن المساعدة عليه. إذ يرد على ما أفاده في إبطال الوجه الأول من استحالة الشرط المتأخر : أنه لا استحالة فيه على ما حققناه في محله ، خصوصاً في أمثال المقام الّذي يكون فيه الشرط المتأخر شرطاً في الخطاب فقط مع فعلية الملاك إذ المفروض كون القدرة في الواجبين عقلية وليس شرطاً في الاتصاف كي يتوهم استلزامه تأثير المتأخر في أمر تكويني متقدم.

ويرد على ما أبطل به هذا الوجه أيضا من بقاء المضادة بين الأمر الترتبي وبين خطاب وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر.

أولا ـ أنه مبني على أن يكون وجوب حفظ القدرة خطاباً شرعياً لا مجرد حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه إذ على هذا لا يكون هناك إلاّ حكم العقل بلزوم إطاعة التكليف الأهم وهو ليس حكماً آخر وراء التكليف الأهم كي تكون له محركية زائدة على


محركية ذلك التكليف وقد فرض الفراغ عن عدم المنافاة بين محركية الخطاب الأهم المطلق مع محركية الأمر الترتبي في مبحث الضد.

وثانياً ـ لو فرض أن وجوب حفظ القدرة خطاب شرعي أيضا وليس حكماً عقلياً بلزوم الطاعة فلا ريب أنه حكم طريقي محض للحفاظ على الواجب الأهم فليس لها محركية كي تكون منافية مع محركية الأمر الترتبي بالضد.

ويرد على ما أبطل به الوجه الثاني من بقاء محذور الثاني وهو المطاردة بين الأمر الترتبي ووجوب حفظ القدرة ما عرفته الآن. وعلى ما أبطل به هذا الوجه من عدم الدليل عليه إثباتاً ، أن الدليل موجود وهو إطلاق الأمر بالواجب المتقدم لحالة تعقبه بعصيان الواجب المتأخر إذ لا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق وبه يثبت الأمر الترتبي المشروط بتعقب عصيان الأهم.

ويرد على ما أبطل به الوجه الثالث أمران :

الأول ـ ان حفظ القدرة أمر وجودي فيكون عصيانه بعدم حفظ القدرة وهو ملازم مع الواجب المتقدم ملازمة عدم الضد لضده فيكون التقييد به كالتقييد في سائر موارد الترتب من حيث كون الشرط في الأمر الترتبي ترك الضد الآخر.

الثاني ـ إن عدم حفظ القدرة ولو فرض كونه بنفس الواجب المتقدم ومنطبقاً عليه أو على الضد الآخر مع ذلك لا محذور من تقييد الأمر به لأن القيد هو جامع عدم الحفظ الأعم من الإتيان بالواجب المتقدم أو بضد آخر بنحو صرف الوجود ، وواضح أن التقييد بالجامع بنحو صرف الوجود لا يسري إلى الأفراد كي يلزم مجموع المحذورين بل يبقى على الجامع بحده ومعه لا يكون الأمر بأحد فردي ذلك الجامع مشروطاً بتحقيق ذلك الجامع من طلب الحاصل أو طلب الضدين. نعم ربما يحصل هناك مانع آخر من الأمر الترتبي في المقام وذلك فيما إذا كان الجامع محرماً وقيل إنه عين الواجب


المتقدم أو معلول له فتسري الحرمة الغيرية إليه مثلاً فيلزم غائلة الاجتماع إلاّ أن هذا محذور آخر.

وأما إبطاله للوجه الرابع فهو غير تام أيضا لما أثبتناه في أبحاث الترتب من إمكان جعل الأمر الترتبي مشروطاً بالعزم على عصيان الأهم وتفصيله موكول إلى محله. وهكذا يتضح أن الترتب في المقام معقول فيكون مندرجاً في باب التزاحم.

المورد الثالث ـ ما إذا وقع التزاحم بين الواجب والحرام كما لو توقف الواجب على فعل ذلك الحرام وكان الواجب هو الأهم ملاكاً ، فإنه في مثل ذلك لا يعقل جعل الخطاب التحريمي على المقدمة المحرمة ولو بنحو الترتب.

وتحقيق الكلام في ذلك ، أنه تارة : يبنى على عدم وجوب مقدمة الواجب وأخرى : يبنى على وجوب الحصة الموصلة منها أو إمكان اختصاص الوجوب بها ، وثالثة : يبنى على وجوب مطلق المقدمة واستحالة تخصيص الوجوب بالموصلة فقط ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ قده ـ فعلى المسلك الأول والثاني قد يتصور إمكان جعل الخطاب التحريمي على المقدمة بنحو الترتب بأن تحرم على تقدير عدم الإتيان بالواجب الأهم.

إلاّ أن الصحيح هو حرمة الحصة غير الموصلة من المقدمة حرمة مطلقة لا مشروطة ، إذ لا مانع من حرمتها كذلك ولا تزاحم بينها وبين فعل الواجب بل يمكن امتثالهما معاً ومعه يكون إطلاق الهيئة في دليل الحرمة على حاله. نعم المقدمة الموصلة لا يعقل حرمتها لأنها تستلزم التكليف بغير المقدور بعد فرض إيجاب ذيها بل ومحذور اجتماع الحرمة والوجوب في واحد مع وحدة العنوان لو قيل بوجوبها لأن الواجب واقع المقدمة لا عنوانها.

لا يقال ـ الأمر دائر بين تقييد مدلول هيئة النهي عن المقدمة بما إذا لم يشتغل بذي المقدمة الأهم أو تقييد المادة بالحصة غير الموصلة منها ولا تَعَيّنَ


لأحدهما في قبال الآخر.

فإنه يقال ـ إطلاق المادة ساقط على كل حال ، لما قرر في محله من رجوع شرائط الهيئة طرّاً إليها في أمثال المقام. إذ لا يعقل إطلاق المادة وصدقها في مورد لا يثبت فيه مفاد الهيئة ، فتقيدها بالحصة غير الموصلة معلوم على كل حال ، ومعه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق الهيئة لإثبات حرمة مطلقة للمقدمة غير الموصلة.

وأما على المسلك الثالث ، فيستحيل جعل الحرمة للمقدمة على كل حال ، لأن جعلها ولو مشروطاً منافٍ مع عدم إمكان تخصيص وجوبها بالموصلة فلا محالة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذيها ، فيكون من باب التعارض لا التزاحم.

وما قد يدعى من أن الأمر الغيري بالمقدمة باعتباره مترشحاً من الأمر النفسيّ بذي المقدمة فيكونان في رتبة واحدة ـ أو على الأقل في رتبتين متصلتين ـ والتحريم الترتبي متأخر عن الأمر النفسيّ برتبتين لأنه متأخر عن ترك الواجب النفسيّ المتأخر عن الأمر به ، ومعه لا مانع من تعلقه بالمقدمة لعدم اجتماعه مع الوجوب الغيري في رتبة واحدة فاسد ، صغرى وكبرى. أما صغرى : فلأن المتأخر عن أحد المتلازمين ليس متأخراً عن الآخر. مضافاً إلى المناقشة في أصل تأخر الخطاب الترتبي بالمهم عن خطاب الأهم ، على ما تقدم في محله من أبحاث الترتب. وأما كبرى : فلما تقدم في تلك الأبحاث أيضا من أن غائلة اجتماع الضدين في واحد لا ترتفع بتعدد الرتبة. وهكذا يتضح أنه لا مجال للخطاب الترتبي التحريمي بالمقدمة المحرمة على تمام المسالك في بحث وجوب المقدمة ، بل إما خطاب تحريمي مطلق فلا تزاحم ولا تعارض ، أو خطاب تحريمي معارض مع الأمر بذي المقدمة.

ومنه يتضح الحال في تمام موارد التزاحم بين الواجب والحرام مع كون


الواجب أهم ولو لم يكن الحرام مقدمة للواجب ، أو بين الحرامين فإنه لا حاجة فيها إلى الترتب ، إذ لو كان عصيان الواجب مساوقاً مع امتثال الحرمة دائماً فجعل الخطاب التحريمي له ولو بنحو الترتب يكون لغواً. وإن كان عصيانه غير مساوق مع امتثال الحرمة بأن أمكنه فعل الحرام أيضا ، فلا مانع لجعل التحريم المطلق للحصة المقيدة بترك الواجب من ذلك الحرام من دون حاجة إلى الترتب ودفع إشكالات المطاردة بين التكليفين فيه ، إذ لا مانع من فعلية مثل هذا الخطاب التحريمي مع الأمر بالواجب الأهم ، لأن المكلف قادر على امتثالها معاً من دون أن يلزم طلب الجمع بين الضدين أصلاً. نعم إذا كان ترك الاشتغال بالواجب من شرائط الاتصاف بالنسبة للحرام ـ أي من شرائط حصول الملاك التحريمي فيه ـ كانت الحرمة مقيّدة بعدم الاشتغال به بنحو الترتب ، إلاّ أن هذا خلاف إطلاق الهيئة فيكون منفياً به. ودعوى ، دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة قد عرفت جوابها ، وهذا بخلاف التزاحم في باب الواجبات فإن الأمر المطلق بالمهم غير ممكن ولو قيدنا الواجب بالحصة الخاصة المقارنة لترك الأهم فإنه يستلزم الأمر بالقيد وهو ترك الأهم فيكون منافياً مع الأمر بالأهم ، ولذلك حاول المحقق العراقي ـ قده ـ إرجاع الأمر بالمهم في موارد الترتب إلى حرمة تركه المقرون بترك الأهم ، وقد سماه بوجوب سد باب عدمه المقرون بعدم الأهم ، دفعاً لمناقشات صاحب الكفاية ـ قده ـ على الترتب. وهذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ أنه خلاف ظاهر الأوامر إثباتاً.

المورد الخامس ـ موارد اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الجواز وعدم المندوحة ، فإنه يقع حينئذ التزاحم بينهما. فإذا كان النهي أهم ملاكاً. لم يعقل إطلاق الأمر في مورد النهي لاستلزامه التكليف بغير المقدور. فهل يمكن بقاؤه بنحو الترتب ، بأن يقول مثلاً إذا غصبت فصلّ ، أم لا يمكن ذلك؟ ـ ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني ، والصحيح هو الأول وتفصيل ذلك ، إنه إذا قيل بالجواز على أساس أن تعدد العنوان يستوجب


تعدد المعنون خارجاً دخل المقام في مورد تزاحم واجب ملازم مع الحرام خارجاً ، ولا إشكال في إمكان الأمر الترتبي فيه إذا لم يكن ارتكاب الحرام مساوقاً مع تحقق الواجب. وإذا قيل بالجواز على أساس المسلك القائل بأن تعدد العنوان يكفي لدفع غائلة الاستحالة ولو كان المعنون واحداً أو نحو ذلك من المسالك التي لا تلتزم بتعدد المعنون خارجاً فما يمكن أن يذكر للمنع عن إمكان الأمر الترتبي في المقام أحد وجهين ، كلاهما غير تام.

الوجه الأول ـ أن عصيان الحرام سوف يكون بنفس الصلاة فيها أو المشي مثلاً لأن المعنون واحد بحسب الفرض فيستحيل أن يؤمر بالصلاة مشروطاً بالغصب على نحو الترتب ، إذ لو رتب على الغصب الصلاتي كان طلباً للحاصل ، ولو رتب على الغضب المشي كان طلباً للضدين ، وكلاهما غير معقول.

وفيه : أن ما يتقيد به الأمر الترتبي إنما هو عصيان الخطاب الآخر الّذي هو الجامع بين الحركة الصلاتية في الغصب أو الحركة غير الصلاتية فيه وواضح أن التقيد بالجامع بنحو صرف الوجود لا يستلزم التقييد بكل فرد من أفراده ولا يسري إلى مصاديقه ، كما تقدمت الإشارة إليه سابقاً. نعم إذا فرض أن الأمر كان عبادياً فقد ينشأ محذور عدم إمكان التقرب بالفعل الحرام ولو كان مصداقاً لعنوان واجب إلاّ أن هذا محذور آخر لا ربط له بما هو المهم في المقام كما هو واضح.

الوجه الثاني ـ أن الصلاة مركب من جامع الحركة وكونها صلاةً ، وعصيان الخطاب التحريمي إنما يكون بالحركة في المغصوب التي هي التصرف فيه ، فيرجع الأمر الترتبي بالصلاة مشروطاً بالغصب إلى الأمر بالحركة الصلاتية في المغصوب على تقدير الحركة فيه ، وهذا معناه الأمر بضم الجزء الثاني على تقرير تحقق الجزء الأول ، أي الأمر بالحركة الصلاتية على تقدير


أصل الحركة لا الأمر بالصلاة التي هي عبارة عن مجموع الجزءين. وهذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ أنه خلاف ظاهر الدليل إثباتاً فلا يمكن التمسك به لإثبات الأمر الترتبي.

وفيه : أولا ـ أن الأمر بأصل الحركة في ضمن الصلاة أمر ضمني ، والأمر الضمني محركيته وتحصيله ضمني أيضا ، أي في ضمن تحصيل الكل ، وما هو الشرط المفروض حصوله إنما هو الحركة الاستقلالية أعني ذات الحركة ، فلا يلزم من طلب الحركة الضمنية على تقدير أصل الحركة ، تحصيل الحاصل.

وثانياً ـ أن البرهان على اعتبار القدرة في التكليف المقيد لإطلاقه في موارد العجز عندنا إنما هو استظهار كون التكليف بداعي الباعثية والتحريك ، وداعي الباعثية نحو غير المقدور أو نحو الأمر الحاصل غير معقول ، فلا يبقى في دليل الحكم إطلاق عرفاً لموارد عدم معقولية التحريك والبعث. وهذا البرهان لا يقتضي أكثر من تقييد إطلاق التكليف في مورد يكون فيه الواجب ممتنع الوجود أو ممتنع العدم ، إذ يكفي لإشباع ظهور الأمر بالمركب في كونه بداعي المحركية والباعثية أن يكون المركب بما هو مركب غير حاصل خارجاً.

ومن مجموع ما تقدم اتضح أن اللازم في صحة الترتب ودخول المورد في باب التزاحم توفر الشرطين المذكورين في مستهل البحث ، وهما أن لا تكون القدرة المقيد بها التكليف بمعنى عدم الأمر بالخلاف. وأن لا يكون عصيان الخطاب الآخر مساوقاً مع تحقق متعلق هذا التكليف.

كما أنه اتضح أن موارد التزاحم بين الواجب والحرام أو بين محرمين لا يحتاج فيها للتحفظ على الخطاب التحريمي إلى مبنى إمكان الترتب ، بل مقتضى القاعدة فيها ثبوت الحرمة مطلقاً مع تقييد الحرام بالحصة الخاصة المقرونة بترك مزاحمه.

التنبيه الثالث ـ في التزاحم بين الواجبات الضمنية. فقد ذهب المحقق


النائيني ـ قده ـ إلى عدم الفرق في تطبيق قواعد باب التزاحم بين الواجبات الاستقلالية المتزاحمة والواجبات الضمنية كما إذا وقع التضاد بين جزءين من مركب ارتباطي.

واستشكل فيه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ مدعياً أن التزاحم فيما بين الواجبات الضمنية الارتباطية توجب وقوع التعارض بين أدلتها.

والحق ما أفاده السيد الأستاذ. وفيما يلي نبرهن عليه بصيغ وتقريبات مختلفة.

الصيغة الأولى ـ أن الواجبات الارتباطية وجوباتها ارتباطية أيضا فتكون مجعولة بجعل واحد متعلق بالمركب لا بجعول متعددة. وهذا الجعل الواحد يشترط فيه ما يشترط في كل تكليف من القدرة على مجموع متعلقه ، فإذا وقع التضاد بين جزءين من هذا المجموع لم يعد مقدوراً للمكلف فيسقط الأمر به ، فإذا لم يقم دليل يدل على وجوب سائر الأجزاء في فرض العجز عن بعضها ، فلا يمكن إثبات وجوبها بدليل الأمر الأول. وإن قام دليل على عدم سقوط الواجب كلياً ـ كما جاء في باب الصلاة من أنها لا تترك بحال ـ دار الأمر بين التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزءين المتزاحمين أو بها مع أحدهما تعييناً ، وهذه شبهة حكمية في أصل التكليف وليس من باب التزاحم ، فلا بد فيها من الرجوع إلى الأصول والقواعد العامة.

الصيغة الثانية ـ أن الجزءين المتزاحمين إما أن يكونا معاً مؤثرين في الملاك المطلوب للمولى من الواجب الارتباطي مطلقاً ، أو تكون دخالتها فيه مخصوصاً بحال القدرة فقط ، أو يكون أحدهما المعين مؤثراً مطلقاً دون الآخر ، أو يكون الجامع بينهما مؤثراً. وليس شيء من هذه التقادير بالتزاحم. إذ على الأول يلزم سقوط التكليف رأساً للعجز عن إمكان تحصيل الملاك منه. وعلى الثاني يلزم ثبوت التكليف بسائر الأجزاء فقط. وعلى الثالث يلزم التكليف


بسائر الأجزاء مع ذلك الجزء المؤثر في الملاك ، وعلى الرابع يلزم التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزءين.

الصيغة الثالثة ـ إن الوجوب الضمني باعتباره غير مستقل في الجعل فأي شرط يفرض فيه لا بد وأن يكون شرطاً للجعل الاستقلالي فإذا أريد المعاملة مع الواجبين الضمنيين معاملة الواجبين الاستقلاليين المتزاحمين من حيث كون كل منهما مجعولاً على موضوعه ، وهو القادر عقلاً وشرعاً ، كان لازم ذلك أخذ هذا الموضوع في الخطاب الاستقلالي أيضا. ومن الواضح أن القدرة على كل منهما لا تكون إلاّ بترك الآخر فاشتراط إيجابهما بالقدرة معناه اشتراط ذاك الوجوب الاستقلالي بترك الاشتغال بالجزءين معاً فيئول الأمر الاستقلالي إلى الأمر بالمركب مشروطاً بعدم الاشتغال بشيء من أجزائه وهذا واضح الفساد.

الصيغة الرابعة ـ إن لازم إجراء التزاحم بين الواجبين الاستقلاليين فعلية إيجابهما عند تركهما معاً لفعلية شرط كلا الوجوبين. وفي المقام يستحيل هذا اللازم فيستحيل ملزومه. وهو الأمر المشروط بنحو الترتب. والوجه في استحالة اللازم ان الوجوبين في المقام جزءان تحليليان من وجوب واحد فإذا فرض ان المكلف ترك كليهما كان شرط كلا الأمرين الضمنيين فعلياً ، وبالتالي يصبح الأمر بالمركب كله فعلياً. وهذا معناه ثبوت أمر استقلالي واحد يطلب فيه الجمع بين المتضادين وهو محال ، لأنه من طلب الجمع بين الضدين لا الجمع في الطلب كما كان في الطلبين الاستقلاليين المتزاحمين. وهذه الصياغات الأربع ربما تذكر في قبالها شبهة حاصلها : أنه يمكن افتراض تعلق الأمر من أول الأمر بعنوان ما هو المقدور من أجزاء المركب ، وهذا عنوان جامع ينطبق على مجموع الأجزاء إذا كانت كلها مقدورة ، وعلى المقدور منها إذا كان بعضها تعييناً غير مقدور ، وحينما يقع تزاحم بين اثنين منها يكون ترك كل منهما محققاً للقدرة على الآخر فيكون مقدوراً ويكون


هو الواجب ، وهو معنى الأمر بكل منهما منوطاً بترك الآخر كما في الواجبين الاستقلاليين المتزاحمين.

وهذه الشبهة إن تمت بطلت كل الصياغات المتقدمة على أساسها. أما بطلان الصيغة الأولى فلأن الواجب ليس الأجزاء العشرة بعنوانها كي يسقط الوجوب بالعجز عن البعض ، وإنما الواجب هو المقدور منها وكل من الجزءين المتزاحمين مقدور على تقدير ترك الآخر. وأما بطلان الصيغة الثانية ، فلأن الدخيل في الملاك على هذا إنما هو المقدور من الأجزاء ، وكل من الجزءين على تقدير ترك الاشتغال بالآخر مقدور فيكون مأموراً به على هذا التقدير وهو معنى الترتب. وأما بطلان الصيغة الثالثة ، فلأنها كانت مبنية على أن يكون الأمر بالأجزاء بعنوانها مع أخذ عدم كل من الجزءين بعنوانه في موضوع الأمر بالآخر ، وأما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوان المقدور من الأجزاء فكأنه قال ، إذا كنت قادراً على شيء من الأجزاء فجيء به ، ولا محذور منه أصلاً ، إذ يكون كل من الجزءين على تقدير ترك الجزء الآخر مقدوراً فيكون كل منهما على تقدير ترك الآخر واجباً. وإن شئت قلت : إن المقدور في حقه هو أحد الجزءين فلا يجب أكثر من أحدهما عليه مع سائر الأجزاء. وأما بطلان الصيغة الرابعة ، فلأن الأمر إذا كان متعلقاً بالمقدور من الأجزاء فلا ينطبق إلاّ على سائر الأجزاء والجامع بين الجزءين المتزاحمين لا أكثر لأنه المقدور للمكلف ، فلا يلزم طلب الجمع. إلاّ أن هذه الشبهة على فرض تماميتها لا تجدي في تطبيق أحكام التزاحم بالنهج المتقدم في المقام ، إذ لو كانت القدرة شرعية في أحدهما عقلية في الآخر تعين الأمر بما تكون القدرة فيه عقلية دائماً واستحال الترتب ، وإن كانت القدرة شرعية فيهما معاً ثبت التخيير دائماً ولم يتم شيء من المرجحات المتقدمة ، أما الترجيح بالقدرة العقلية فواضح ، وأما الترجيح بالأهمية فلما تقدم من عدم جريانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأما الترجيح بما ليس له بدل فلما


عرفت من رجوعه إلى الترجيح بالأهمية الّذي لا مجال له في المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأما الترجيح بالأسبقية زماناً فقد عرفت عدم تماميته ، مع أنه لو أريد به سبق الوجوب فلا موضوع له هنا حتى لو قيل به في الواجبين الاستقلاليين لتعاصر الوجوبين الضمنيين زماناً ، ولو أريد به سبق الواجب فالأمر بالمتقدم يكون متعيناً دائماً ولا يمكن الأمر بالتأخر ولو ترك المتقدم لفوات الملاك بذلك لأنه واحد بحسب الفرض.

والتحقيق أن هذه الشبهة غير تامة ، وذلك.

أولا : لأن القدرة ان افترضت قيداً للوجوب تمت الصياغات الأربع للاستحالة لأن معناه الأمر بالأجزاء العشرة بعنوانها ولكن مشروطاً بالقدرة عليها. وان فرضت قيداً للواجب كما هو المقصود من الشبهة. كان من الأمر بالجامع بين المتزاحمين وهو يختلف عن باب التزاحم الّذي يوجد فيه أمران تعيينيان ولا يتأتى فيه البيان الّذي استطعنا أن نخرج به باب التزاحم على القاعدة عن باب التعارض الحقيقي ببركة المقيد اللبي المستلزم لدخوله في باب الورود. فإن جعل القدرة قيداً للواجب تصرف في ظهور الدليلين الدالين على وجوب كل من الجزءين بعنوانه فلا يكون جائزاً على القاعدة. بل مقتضى القاعدة أنه لو علم بعدم سقوط الواجب الاستقلالي في مورد التزاحم وقع التعارض بين دليلي الجزءين ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة هو السقوط المطلق للواجب باعتبار العجز عنه.

وثانياً ـ إن أدلة الأجزاء والشرائط ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئية والشرطية ولو كانت بلسان الأمر أو النهي. وهذا المفاد لا يجري فيه التزاحم أصلاً ، إذ ليس مفادها حكماً تكليفياً يستحيل ثبوته للمتزاحمين معاً كي نفتش عن المقيد اللبي له ، بل مقتضى إطلاقاتها لحال العجز ثبوت الجزئية أو الشرطية فيه أيضا ، فيلزم سقوط التكليف الاستقلالي بالمجموع رأساً. ولو فرض العلم من الخارج بعدم سقوطه وقع التعارض بين إطلاق دليلي الجزءين المتزاحمين


على أساس العلم بانتفاء إحدى الجزئيتين.

التنبيه الرابع : في جريان أحكام التزاحم فيما إذا وقع التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق. وقد نسب إلى المحقق الثاني ـ قده ـ القول بعدم جريانه فيهما لإمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد وبلا حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بالآخر باعتبار أن الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع بين الأفراد الطولية والإتيان بهذا الجامع مع الواجب المضيّق جمعاً مقدور فلا يلزم من الأمر بهما في عرض واحد المحال.

ونوقش في ذلك من قبل المحققين بوجوه لا يتم شيء منها.

الوجه الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ـ قده ـ من ابتنائه على كون القدرة شرطاً في التكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وأما لو كان الخطاب بنفسه يتطلب اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة لأن مفاده البعث والتحريك وهو لا يعقل نحو غير المقدور حتى لو أنكرنا التحسين والتقبيح العقليين وكان الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، فلا بد من أن يكون متعلق الأمر حينئذ مقيداً بالحصة المقدورة عقلاً وشرعا من أفراده. وهذا يعني أنه لا إطلاق في الواجب الموسع للفرد المزاحم لعدم القدرة عليه شرعاً ، وهو معنى عدم إمكان الأمر به في عرض الأمر بالواجب المضيق نعم يمكن الأمر به بنحو الترتب.

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بما حاصله : ( أن ما هو المشهور من أن الإنشاء إيجاد للمعنى باللفظ مما لا أساس له أصلاً وإنما حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلف وإبرازه بمبرز ما ، فلا نتصور للتكليف معنى غير ذلك كما أنا لا نتصور للإنشاء معنى ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباري ، واعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف لا يقتضي


الاختصاص بالحصة المقدورة ، فلا مقتضى من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبداً وإنما العقل يعتبرها شرطاً في لزوم الامتثال والإطاعة (١).

وهذا البيان مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك :

لأن المدعى في هذا الوجه ليس هو أخذ عنوان الباعثية والتحريك في المدلول التصوري لصيغة الأمر كي يربط بينه وبين ما هو الصحيح في تشخيص معنى صيغة الأمر أو الصياغة العقلانية للأحكام ، وإنما المدعى أن الخطاب المشتمل على التكليف مهما كان مدلوله اللفظي التصوري يكشف كشفاً تصديقياً عن أن داعي المولى من ورائه هو بعث المكلف وتحريكه نحو الفعل وليس المراد من الخطاب مجرد إخطار معناه أو لقلقة اعتبار ، ومثل هذا الظهور التصديقي لأدلة الأحكام مما لا ينبغي الإشكال فيه. ومبنياً عليه لا يعقل أن يتعلق الخطاب بغير المقدور.

والصحيح في الجواب : أن داعي الباعثية والتحريك لا يتطلب أكثر من مقدورية ما تعلق به الحكم ، والمتعلق في الواجب الموسع هو الجامع بين الأفراد لا كل فرد فرد والجامع بين الفرد المقدور وغير المقدور يكون مقدوراً لا محالة ، فلا موجب لتقييده بالفرد غير المقدور ، بل يبقى المتعلق هو الطبيعة الكلية ، فإذا ما حققه المكلف في ضمن أي فرد كان امتثالا للتكليف لا محالة.

نعم ، لو أرجعنا التخيير العقلي في باب الواجبات الموسعة إلى التخيير الشرعي الّذي يعني تعلق أمر بكل فرد مشروطاً بترك الأفراد الأخرى ، لم يكن الخطاب شاملاً للحصة غير المقدورة ـ كالفرد المزاحم ـ إلاّ بنحو الترتب. غير أن المحقق في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى الشرعي ، بل العكس هو الصحيح.

الوجه الثاني ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من أن إطلاق الواجب

__________________

(١) نقل باختصار من محاضرات الجزء الثالث ، ص ٦٦ ـ ٦٨.


الموسع للفرد المزاحم غير معقول ، بناء على المسلك القائل بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. لأن تقييده بالفرد المزاحم غير معقول وكلما استحال التقييد استحال الإطلاق (١).

وفيه : أن الإطلاق المقابل للتقييد بتقابل العدم والملكة إنما هو الإطلاق بمعنى عدم التقييد الّذي هو معنى سلبي يستلزم سريان الحكم إلى فاقد القيد ، وليس المراد منه الإطلاق بمعنى شمول الحكم للمقيد ، فإن هذا معنى إيجابي لا يكون مقابلاً مع التقييد تقابل العدم والملكة عند صاحب هذا المبني ، وهذا يعني أن التقييد الّذي تستوجب استحالته استحالة الإطلاق في المقام هو التقييد بالفرد غير المزاحم ، وهو غير مستحيل. وأما التقييد بالفرد المزاحم المستحيل فيقابله الإطلاق للفرد غير المزاحم فلا بد وأن يقال باستحالته كنتيجة طبيعية لهذا المبنى.

الوجه الثالث ـ إنه مبني على القول بالواجب المعلق وإمكان تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب إذ سوف يكون الأمر بالواجب الموسع فعلياً حتى في زمان المزاحمة ـ الّذي هو زمان الواجب المضيّق ـ مع كون متعلقه استقبالياً لأنه غير مقدور شرعاً بالفعل وإنما يصبح مقدوراً في الزمن الثاني.

والجواب : ان القول باستحالة الواجب المعلق له أحد تخريجين.

الأول : ان الحكم يستبطن المحركية والباعثية ، وهي بحكم تضايفها مع الانبعاث والتحرك تكون ملازمة في الإمكان والامتناع لإمكان الانبعاث وامتناعه ، وليس المقصود استلزام التكليف للانبعاث خارجاً ، بداهة أن الخطاب يشمل العاصين أيضا ولا انبعاث لهم خارجاً. وإنما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً ، وإمكانية البعث تلازم

__________________

(١) محاضرات الجزء الثالث ، ص ٩٤.


إمكانية الانبعاث وفي مورد الواجب المعلق لا إمكانية للانبعاث خارجاً فلا يكون البعث ممكناً.

وهذا التخريج لو تمّ ثبتت استحالة تعلق الوجوب بالجامع بين الأفراد الطولية من أول الأمر في عرض الأمر بالواجب المضيّق ، بل لا بد من تأخره وتخصيصه بالزمان الثاني ، ومعه لا أمر يعم الفرد المزاحم إلاّ الأمر الترتبي. إلاّ أن هذا الوجه في نفسه غير تام ، فإن الخطاب وإن كان بداعي البعث والتحريك ولكنه لا يتطلب أزيد من إمكانية الانبعاث في مجموع عمود الزمان من الواجب الموسع ولا يلزم إمكانية الانبعاث في تمام آنات ذلك الزمان ، لأن الخطاب بطبعه الأولي وبلحاظ عالم اللغة لا يدل على أكثر من الجعل الّذي لا يتوقف ثبوته على إمكانية الانبعاث ، وإنما قيدناه بذلك بمقتضى الظهور السياقي الكاشف عن أن المدلول التصديقي من ورائه هو داعي البعث والتحريك ، وهذا يتحدد وفقاً لما يفهمه العرف من سياق الخطاب وهو لا يفهم من التكليف بواجب يطلب صرف وجوده في عمود الزمان أزيد من داعي البعث والتحريك في مجموع ذلك الزمان ، لا في كل آن آن منه.

الثاني ـ ان الواجب المعلق يستلزم أن يكون الحكم مشروطاً بشرط متأخر ، فإنه باعتبار تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب في الواجب المعلق لا محالة يكون مجيء ذلك الزمان شرطاً في صحة جعل الوجوب المتقدم فيكون مستحيلاً ، بناء على استحالة الشرط المتأخر ، نعم لو كان الشرط هو التعقب بالأمر المتأخر الّذي هو شرط مقارن لا متأخر أمكن جعله ثبوتاً ، لكنه خلاف ظاهر الدليل على شرطية نفس الزمان المتأخر في الواجب إثباتاً.

وهذا التخريج أيضا غير تام. فإنه مضافاً إلى ما حققناه في محله من معقولية الشرط المتأخر ، يرد عليه : أن شرطية القدرة وتقييد الخطاب به في المقام لم تكن بدليل خاص وإنما المقيّد حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو الظهور


السياقي المتقدم ، ومن الواضح أن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، ولا قبح في التكليف بالجامع من أول الأمر بعد ثبوت القدرة عليه ولو في الزمن المتأخر كما أنه لا ينافي الظهور السياقي المتقدم ، وهذا يعني أنا نتمسك بإطلاق الخطاب لإثبات الوجوب في المقام من أول الأمر ونستكشف منه بالملازمة أن الشرط هو تعقب القدرة الّذي يكون شرطاً مقارناً. فإن كل إطلاق كان مفاده ممكن الثبوت بوجه يكون مقتضى القاعدة التمسك به.

وهكذا يتبين أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق ـ قده ـ من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق.

التنبيه الخامس ـ ربما يتصور وقوع التعارض بين الخطابين في موارد التزاحم فيما إذا فرض الجهل بأحدهما. سواء قيل باستحالة الترتب في نفسه أو بإمكانه.

أما على الأول ، فلأن المفروض وقوع التعارض بين الخطابين لاستحالة ثبوتهما معاً واقعاً ، فلا بدّ من انتفاء أحدهما ، من دون فرق بين علم المكلف أو جهله ، فيكون نظير موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب الأمر من عدم الفرق في ارتفاع الأمر وبطلان العبادة فيها بين العلم بالحرمة أو الجهل بها.

وأما على الثاني ، فلما جاء في تقريرات المحقق النائيني ـ قده ـ من أن الترتب إنما يعقل فيما إذا كان الخطاب المترتب عليه وأصلاً للمكلف ومنجزاً عليه فلو لم يكن منجزاً لم يكن موقع للخطاب الترتبي لأحد وجهين.

الأول ـ انه لا يتحقق العصيان للخطاب المترتب عليه الّذي هو شرط للخطاب المترتب لأن المفروض عدم تنجزه.

الثاني ـ انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب لمكان عدم العلم بما هو موضوعه من كونه عاصياً للخطاب المترتب عليه ، لأن العلم بالعصيان فرع


العلم بالتكليف ، والمفروض أنه جاهل به (١).

والصحيح ، عدم التعارض بين الخطابين في موارد التزاحم مع الجهل بأحدهما ، وعدم صحة قياسه بموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع بل يمكن التمسك فيها بالخطاب الواصل منهما حتى لو قيل باستحالة الترتب فضلاً عما إذا قيل بإمكانه. والوجه في ذلك : ان محذور الامتناع المستوجب للتنافي بين الحكمين يختلف سنخاً في كل من البابين عنه في الباب الآخر ، فالامتناع في باب الاجتماع إنما يكون في مركز سابق على الحكم ، أي في مرحلة مبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة ، حيث يدعى ـ بناء على الامتناع ـ استحالة اجتماع الكراهة والإرادة على موضوع واحد ، وهذا لا ربط له بمرحلة الامتثال وتحرك المكلف خارجاً في مقام الطاعة كي يتأثر بتنجز التكليف عليه وعدم تنجزه ، بل تكون الاستحالة على تقدير صحتها ثابتة سواء وصل الحكم إلى المكلف أم لا. وأما الامتناع في المقام فيكون بلحاظ عالم الحكم وما يستتبعه من اقتضاء التحريك نحو الامتثال ، والتحريك نحو امتثال الضدين معاً غير معقول ، وأما مع قطع النّظر عن ذلك فلا يلزم من إرادتهما محذور اجتماع الضدين أو المثلين. كما أن مبادئ الحكم من الحب والبغض أمور تكوينية فلا ضير في تعلقهما بالضدين فتمام النكتة في المحذور ينحصر في هذا الباب بمرحلة الجعل وما يستتبعه من التحريك نحو الامتثال الّذي هو فعل اختياري مباشر للمولى ، فلا بدّ وأن يلحظ هذا المحذور وحدوده ليرى أنه يجري في موارد الجهل بأحد الحكمين أم لا؟ والصحيح ان هذا المحذور غير جار في موارد الجهل بأحد الحكمين المتزاحمين وعدم تنجزه. أما على المسلك القائل بأن الحكم مجرد اعتبار وهو شامل حتى لموارد العجز ، غاية الأمر لا يحكم العقل بلزوم الطاعة فيها ، فلوضوح أنه على هذا المسلك يعقل الأمر بالضدين مطلقاً إذ لا محذور فيه غير أن العقل

__________________

(١) فوائد الأصول الجزء الأول ، ص ٢٢٢.


لا يحكم بلزوم الطاعة لأكثر من واحد منهما ، فإذا كان التكليف الأهم غير منجز حكم العقل بتنجز التكليف المهم ولزوم امتثاله.

وأما على المسلك القائل باختصاص التكليف بموارد القدرة وعدم ثبوته في موارد العجز ، فإن كان هذا التقييد بملاك قبح تكليف العاجز لكونه إحراجاً له على العصيان ، فواضح أيضا أنه لا يقتضي أكثر من تقييد التكليف وإخراج موارد تنجز التكليفين معاً ، وأما إذا كان أحدهما غير منجز فلا يلزم من إطلاق الآخر أي إحراج على العصيان. وإن كان التقييد باعتبار ما تقدم من استظهار كون التكليف بداعي التحريك والبعث فلا يشمل الا موارد إمكان الانبعاث خارجاً ، والضدان لا يمكن الانبعاث إليهما. فلأن المقصود من داعي البعث والتحريك ليس هو البعث الفعلي للمكلف ، أو إذا انقاد وكان مطيعاً. والا يلزم عدم ثبوت التكليف في موارد الجهل به وعدم وصوله إلى المكلف خصوصاً إذا كان قاطعاً بالعدم ، إذ لو أراد أن يكون منقاداً لم يعقل منه الانبعاث أيضا ، بل يلزم على الأول عدم التفات المولى إلى وجود العاصين ، وإنما المقصود استظهار كون الداعي من التكليف هو الانبعاث على تقدير الانقياد ووصول التكليف ـ بنحو قيد المراد لا الإرادة ـ.

وان شئت قلت : ان الداعي من التكليف هو الانبعاث الاقتضائي وحيث لا مانع عقلاً وشرعاً ، ومن الواضح أن هذا المعنى يعقل ثبوته بلحاظ كلا الضدين في موارد عدم تنجز أحدهما ، إذ لا يلزم من إطلاق الأمر في كل منهما مشروطاً بعدم تنجز الآخر محذور التنافي بين الداعويتين لا ذاتاً ، ولا عرضاً بلحاظ اقتضاء كل منهما لاستحقاق الامتثال ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأنه لو فرض تنجز التكليف المجهول ارتفع التكليف المعلوم فلا يكون مقتضياً للامتثال ، وهذا يعني عدم اجتماعهما في اقتضاء الامتثال معاً فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق الخطاب الواصل في فرض عدم تنجز الخطاب الآخر.


وبهذا اتضح الوجه الفني لتصحيح الضد العبادي عند القائلين باستحالة الترتب فيما إذا كان التكليف الأهم مجهولاً بينما يحكم بالبطلان في موارد الاجتماع بناء على الامتناع ولو كانت الحرمة مجهولة ، رغم أن الموردين على أساس ذينك المبنيين يكون كلاهما من باب التعارض بين دليلي الحكمين ، حيث اتضح أن الخطاب لا بد أن يتقيد بناء على الامتناع بعدم النهي واقعاً وأما في باب التزاحم فيكفي تقييده بعدم تنجز الأهم ولو قيل باستحالة الترتب.

ومنه يعرف ما في كلام المحقق النائيني ـ قده ـ فإنه على القول بإمكان الترتب أيضا يكون الخطاب الترتبي مشروطاً بعدم تنجز الآخر لا بعصيانه الّذي هو تقييد زائد في دليله ، فإن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، وعدم تنجز الآخر شرط محرز لدى المكلف.

هذا ، مضافاً إلى أنه على القول بلزوم تقييد الأمر الترتبي بعصيان الآخر فلا موجب لفرض تقييده بعنوان العصيان بل يكفي لدفع غائلة المطاردة بين الحكمين أن يقيد بترك الضد الآخر الّذي هو أمر محرز أيضا. كما أنه عرف من هذا البيان : أن المقيد اللبي للخطابات الّذي به أخرجنا باب التزاحم عن التعارض ليس هو عدم الاشتغال بضد واجب واقعاً ، بل عدم الاشتغال بضد واجب منجز فإذا فرض عدم تنجز وجوب الضد الأهم كان الأمر بالمهم فعلياً حتى لو اشتغل بالضد ، وهذا يعني أن ما تقدم من أحكام التزاحم من التخيير عند التساوي والترجيح بالأهمية ونحوها من المرجحات المستلزمة لورود أحد الخطابين على الآخر مخصوصة بما إذا كان الحكمان المتزاحمان وأصلين منجزين.

التنبيه السادس ـ في تطبيق فكرة التزاحم على مسألة فقهية معروفة ، وهي ما إذا وقع التزاحم بين وجوب الحج على المستطيع ووجوب الوفاء بالنذر ونحوه ، كما إذا نذر زيارة أبي عبد الله الحسين 7 في يوم عرفة. والصحيح


تقديم خطاب وجوب الحج على خطاب وجوب الوفاء في مقام التزاحم ، وذلك بأحد التقريبات التالية :

التقريب الأول ـ ترجيحه بالأهمية ، فانا حتى إذا فرضنا ان القدرة في وجوب الوفاء عقلية وان ملاكه مطلق ثابت على تقدير الاشتغال بالحج ، مع ذلك رجحنا وجوب الحج ، لأن القدرة فيه عقلية أيضا ، فيكون ملاكه مطلقاً. وهو أهم إما جزماً أو احتمالاً. وقد تقدم صحة الترجيح بالأهمية.

أما كونه مشروطاً بالقدرة العقلية ، فبمقتضى إطلاق دليله فإنه وإن قيد بالاستطاعة بحسب لسانه إلاّ أن المراد من الاستطاعة ـ بلحاظ نفس الآية ـ ما يقابل العجز التكويني وما يلحق به عرفاً من المشقة والحرج ـ وبلحاظ الروايات ـ ما فسرت به من الزاد والراحلة. وعلى أي حال لا تكون بمعنى عدم الاشتغال بواجب آخر ، فلو كان أخذ عنوان الاستطاعة في لسان دليل ظاهراً في دخلها في الملاك فغاية ما يثبت في المقام دخل القدرة التكوينية في وجوب الحج وهي محفوظة ، ودعوى : أن الخطاب مقيد لباً بعدم الاشتغال بالضد الواجب المساوي أو الأهم ومعه لا يمكن التمسك بإطلاق الدليل لحال الاشتغال بالضد لإثبات فعلية ملاكه ، إلاّ على مسالك غير تامة.

مدفوعة : بما تقدم من تمامية الإطلاق في الخطاب لحال الاشتغال بالضد الواجب الّذي علم أنه ليس بأهم بل اما مساو أو مرجوح ، فضلاً عما إذا كان يعلم بمرجوحيته.

وقياس المقام على دليل وجوب الوضوء الّذي كان مشروطاً بالقدرة بحسب لسان دليله فاستظهر منه كون القدرة شرعية فيه غير تام ، إذ مضافاً إلى عدم تمامية الاستظهار المذكور في المقيس عليه ـ كما تقدم ـ أن نكتة تلك الاستفادة عطف المريض في الآية الكريمة على المسافر مع تمكنه من الماء خارجاً ، مما قد يجعل قرينة على إرادة معنى أوسع للقدرة. ومثل هذه النكتة غير موجودة في المقام.


وأما أهمية ملاك الحج ، فإن لم نقطع بها على ضوء ما ورد في الأحاديث الكثيرة من التأكيد على الحج واهتمام الشريعة به وجعله أحد أركان الدين حتى عبر عن تركه بالكفر في الآية الكريمة وجاء في وصف تاركه بأنه يموت نصرانياً أو يهودياً على ما في بعض الروايات ، فلا أقل من أن هذه المجموعة الضخمة من التأكيدات تستوجب انتفاء احتمال أهمية وجوب الوفاء في قبال احتمال أهمية وجوب الحج أو ضعفه على أسوأ التقادير ، وهو كاف في الترجيح بالأهمية كما تقدم.

التقريب الثاني : ترجيح وجوب الحج باعتبار كون القدرة فيه عقلية وفي وجوب الوفاء شرعية. أما الأول فلما تقدم في التقريب السابق. وأما الثاني فباعتبار ما ورد في لسان أدلة وجوب الوفاء بالشرط ونحوه من ( أنّ شَرطَ اللهِ قَبلَ شَرطِكُم ) (١) الظاهر في أن هذا الوجوب لا يزاحم وجوباً شرطه الله تعالى.

التقريب الثالث : إنه لو سلمنا وافترضنا أن القدرة في وجوب الحج شرعية أيضا ، بمعنى اشتراطه ملاكاً وخطاباً بعدم الاشتغال بواجب آخر مع ذلك نرجحه على وجوب الوفاء باعتبار كون القدرة الشرعية في وجوب الوفاء أخس من ذلك ، لأنها بمعنى عدم الأمر بالخلاف ، إذ الظاهر من اشتراط عدم مخالفة النذر لشرط الله تعالى أن لا يكون على خلافه إلزام من الشارع سواء اشتغل به أم لا ، ولذلك لا يكون النذر وأشباهه منعقداً ولو لم يشتغل المكلف بالحج ، وهذا بخلاف الاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج فإنها لا ترتفع بمجرد الأمر بالخلاف :

التقريب الرابع : لو افترضنا أن القدرة في وجوب الحج شرعية بالمعنى المذكور عن عدم الأمر بالخلاف مع ذلك لا بد من تقديم وجوب الحج على

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١٣ من أبواب مقدمات الطلاق.


وجوب الوفاء بالنذر وشبهه باعتبار أن المستظهر عرفاً من أدلة وجوب الوفاء اشتراط القدرة الشرعية اللولائية فيه لا مجرد القدرة الشرعية بالفعل ، أي أن المستفاد منها اشتراط عدم أمر شرعي بالخلاف في نفسه وبقطع النّظر عن وجوب الوفاء لأن الظاهر من القبلية في قوله شرط الله قبل شرطكم أن التكاليف والالتزامات الشرعية المفروضة من قبل الله تعالى لا بد وأن تلحظ في المرتبة السابقة على شروطكم وبقطع النّظر عنها ، فإذا كانت ثابتة كذلك فلا يصل الدور إلى شروطكم ، وهو معنى القدرة الشرعية اللولائية. بينما دليل وجوب الحج حتى لو دل على اعتبار القدرة الشرعية فيه لا يستفاد منه أكثر من اعتبار القدرة الشرعية بالفعل ، وقد تقدم أيضا أن المشروط بالقدرة الشرعية الفعلية يتقدم على المشروط بالقدرة الشرعية اللولائية.

هذه هي التقريبات الصحيحة في تخريج الحكم بتقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وشبهه في موارد التزاحم. ولا يخفى أن طرف المزاحمة مع وجوب الوفاء تارة يكون أصل وجوب : الحج وأخرى : يكون فوريته بناء على وجوبها ، فعلى الأول تتم الوجوه الأربعة جميعاً لترجيح وجوب الحج. وعلى الثاني قد لا تتم إلاّ الثلاثة الأخيرة منها. ثم إنه ربما يحاول تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر بوجهين آخرين.

أولهما : إن القدرة في وجوب الوفاء شرعية ، باعتبار أن موضوعه هو الوفاء بالالتزام والتعهد الصادر من المكلف وهو لا يتعهد إلاّ في حدود العمل المقدور له ، فما التزم به المكلف هو الفعل المقدور وخطاب وجوب الوفاء موضوعه ما التزم به المكلف فيكون الفعل المقدور أيضا. فإذا ضممنا إلى هذا أن القدرة في وجوب الحج عقلية كما تقدم ، تم ترجيحه على وجوب الوفاء.

وفيه : أن الالتزام والتعهد وإن كان مقيداً بالمقدور لباً إلاّ أنه ينبغي أن يراد بالمقدور فيه ما يقابل العجز التكويني الّذي لا يتأتى الالتزام


الجدي به من قبل الإنسان العاقل الملتفت ، لا ما يقابل الأمر بالخلاف أو الاشتغال بضد واجب ، إذ لعله يلتزم الإتيان بالفعل على كل حال ولو بقصد التخلص عن الأضداد الواجبة في مقام المزاحمة ، فهذا البيان لا يبرهن على أكثر من دخل القدرة التكوينية في وجوب الوفاء وقد تقدم أنه لا يكفي لترجيح الواجب الآخر عليه.

الثاني : ترجيح وجوب الحج على وجوب الوفاء بالأسبقية زماناً ، بناء على أن وجوب الوفاء بالنذر وشبهة لا يصبح فعلياً من حين انعقاد النذر ، ولا من حين تحقق ما علق عليه النذر خارجاً لئلا يلزم منهما التعليق في الإيجاب المستحيل مثلاً ، وإنما يصبح فعلياً حين أداء الفعل المنذور ـ وهو يوم عرفة في المثال ـ وأما الحج فلا إشكال في فعلية وجوب الخروج إليه وتهيئة الزاد والراحلة له من زمان خروج الرفقة فيكون أسبق زماناً.

وفيه : إن فرض أن القدرة في الواجبين عقلية فقد تقدم عدم تمامية الترجيح فيه بالأسبقية الزمانية ، وإن فرض أنها شرعية فإن أريد من تقدم الحج زماناً ـ لوجوب الخروج إليه من زمان خروج الرفقة ـ تقدم الوجوب الغيري المقدمي فهو يستلزم تقدم الوجوب النفسيّ للحج أيضا ، وهذا خلف الالتزام باستحالة الواجب المعلق المفترض في هذا الوجه ، وإن أريد به تقدم وجوب الخروج الثابت بحكم العقل من باب وجوب المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب ، فهذا لا يصح إلاّ في واجب يكون ملاكه فعلياً في الوقت وهو متوقف على أن تكون القدرة فيه عقلية وأما إذا كانت شرعية كما هو المفروض فلا تجب مقدماته المفوتة قبل الوقت على ما حقق في محله.

لا يقال ـ قد يفرض أن شرط فعلية الملاك ثبوت القدرة على الواجب ولو قبل الوقت بالقدرة على مقدماته المفوتة.

فإنه يقال ـ لو استظهر ذلك من دليل شرطية القدرة أيضا بطل الترجيح بالأسقية لأن المتأخر زماناً سوف


يكون ملاكه فعلياً ويكون الاشتغال بالمتقدم تفويتاً له لا رافعاً لموضوعه كما هو واضح.

هذا مضافاً إلى ما تقدم في بحث الترجيح بالأسبقية بحسب الزمان من احتياجه إلى استظهار تقييد زائد في دليل الخطاب فلا يمكن تخريجه على القاعدة.

التنبيه السابع ـ كان البحث حتى الآن في التزاحم الحقيقي الّذي يكون خارجاً عن باب التعارض الحقيقي ، إلاّ أن هناك قسماً آخر من التزاحم يكون من باب التعارض قد اصطلح عليه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ بالتزاحم بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ، وفيما يلي نتحدث عن هذا النحو من التزاحم وأحكامه.

التزاحم الملاكي :

التزاحم الملاكي ـ كما عرفه صاحب الكفاية ـ هو أن يقع تناف بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ، وذلك في الموارد التي لا يمكن فيها فعلية الحكمين معاً ولو بنحو الترتب ، كموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ، وموارد التضاد بين الواجبين بنحو يكون ترك أحدهما مساوقاً مع فعل الآخر التي تقدم عدم إمكان الأمر الترتبي فيها ، وموارد التضاد الدائمي بين الخطابين بناء على مسلك المشهور من وقوع التعارض فيها بين أصل الدليلين ، ففي هذه الموارد إذا فرض إحراز ملاكي الحكمين سوف يقع التزاحم الملاكي بينهما.

والفرق بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحقيقي يتلخص في النقاط التالية :

١ ـ إن موارد التزاحم الحقيقي لم تكن فيها منافاة بين الحكمين المتزاحمين بحسب عالم الجعل بل كل منهما كان ثابتاً على موضوعه المقدر الوجود ـ وهو القادر ـ من دون محذور. وإنما التنافي في مرحلة فعليتهما ، بمعنى أن امتثال


أحدهما كان يرفع موضوع الآخر فلا يكون فعلياً. وأما في التزاحم الملاكي فالتنافي يكون بين الجعلين على كل حال اما من جهة وحدة موضوعهما المستلزم لاجتماع الضدين واما من جهة كون عصيان أحدهما مساوقاً مع حصول متعلق الآخر المستلزم لطلب الحاصل ، وكلاهما مستحيل.

وإن شئت قلت : إن تقييد موضوع كل جعل بالقادر عقلاً وشرعاً مع افتراض إمكان الترتب كان يكفي لارتفاع التنافي بين الجعلين في موارد التزاحم الحقيقي ـ على ما تقدم مفصلاً ـ ولكنه لا يكفي لرفع التنافي بينهما في موارد التزاحم الملاكي لبقاء محذور استحالة اجتماع الحكمين المتضادين على شيء واحد أو محذور استحالة طلب الحاصل على حاله حتى لو فرض إشراط أحدهما بعصيان الآخر ، كما هو واضح.

٢ ـ ويتفرع على ما سبق أنه ما دام لا يوجد تناف بين الجعلين في موارد التزاحم الحقيقي فلا تعارض بين الدليلين المتكفلين لهما لأن الدليل مفاده الجعل لا فعلية المجعول ، وأما في موارد التزاحم الملاكي فيوجد تعارض بين الدليلين ما دام لا يعقل ثبوت الجعلين معاً.

٣ ـ ويتفرع على ما سبق أيضا ، أن لا حاجة في موارد التزاحم الحقيقي إلى بذل عناية من قبل المولى في ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو التخيير بينهما ، لأن المولى ليس من وظيفته تحديد موضوع الجعل وما هو مرتفع منه أو ثابت ، وإنما العقل هو الّذي يشخص ذلك. وأما في التزاحم الملاكي فلا مناص عن تصرف من قبل المولى نفسه إذا أريد ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، لأن هذا التزاحم يواجهه المولى في مرحلة الجعل فيكون من وظيفته تحديده إطلاقاً أو تقييداً ، فمن دون ترجيح لأحدهما على الآخر في مقام الجعل لا يكون للعقل شأن فيهما كما هو واضح. وعلى ضوء هذه الفروق سوف ندرس التزاحم الملاكي من ناحيتين.


أولا ـ في تنقيح الموضوع وكيفية إحراز الملاكين في المورد.

وثانياً ـ في أحكام التزاحم الملاكي من الترجيح بمرجحات باب التزاحم أو مرجحات باب التعارض.

١ ـ طرق إثبات الملاكين في باب التزاحم :

قد اتضح فيما سبق أن موارد التزاحم الملاكي مندرجة في باب التعارض بين الأدلة ، فإذا كان مقتضى الأصل عند التعارض هو التساقط فكيف يمكن إحراز انحفاظ الملاك في مورد التعارض ، إذا لم يفرض دليل خارجي يدلنا عليه كما هو الغالب؟

وفيما يلي عدة محاولات لإثبات الملاك في موارد التزاحم الملاكي نستعرضها مع مناقشة كل منها.

المحاولة الأولى ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ـ قده ـ في حاشيته على الكفاية في بحث اجتماع الأمر والنهي وحاصله : التمسك بالدلالة الالتزامية للخطاب بعد سقوط الدلالة المطابقة على الحكم فإن خطاب ( صلّ ) كما يدل على وجوب الصلاة كذلك يدل على وجود مقتضي الوجوب وملاكه فيها ، وكذلك الحال في خطاب ( لا تغصب ) وغاية ما يقتضيه محذور الامتناع عدم إمكان ثبوت الحكمين المتضادين في المجمع ، وأما المقتضي لكل منهما فلا برهان على استحالة اجتماعهما في مورد واحد والدلالة الالتزامية تابعة للمطابقة وجوداً وذاتاً لا حجية واعتباراً (١).

وهذه المحاولة غير تامة ، وذلك :

أولا ـ لما سوف يأتي في موضعه من أن الصحيح هو التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية ذاتاً وحجية.

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ، الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.


وثانياً ـ النقض بسائر موارد التعارض بين الأدلة ـ كما في التعارض بنحو التباين بين وجوب شيء وحرمته ـ فإنه لا يقال فيها بالتزاحم الملاكي ، مع أن البيان المذكور جار فيها أيضا.

وكأن المحقق العراقي ـ قده ـ الّذي حاول أيضا إحراز الملاك في المجمع بنفس البيان المتقدم ، قد تفطن إلى ورود هذا النقض فصاغ مرامه بنحو آخر وحاصله : أن الخطاب كما يتكفل طلب الفعل أو الترك كذلك يدل بالالتزام على الردع من نقيضه ، وكما أن المدلول الأول يكشف إنا عن وجود الملاك ومبادئ الطلب فيما تعلق به كذلك المدلول الثاني يكشف عن سلب جميع مباديه عنه ، فتتشكل لكل خطاب مداليل أربعة بحسب النتيجة فإذا ورد الخطابان المتعارضان على مادة واحدة كما في أكثر موارد التعارض البحث مثل ( صلّ ولا تصلّ ) وقع التعارض بين المداليل الأربعة جميعاً ، لأن كلا منهما كما ينفي المدلول المطابقي للآخر كذلك ينفي المدلول الالتزامي له من اشتماله على الملاك ومبادئ الحكم ، ولذلك لا يبقى ما نحرز به الملاك. وأما إذا ورد الخطابان على عنوانين مختلفين ، كما في موارد الاجتماع من قبيل ( صل ولا تغصب ) فإن فرض أن الغصب والصلاة عنوانان متباينان لا يوجد بينهما جزء مشترك لم يكن تعارض بين المدلول الالتزامي للخطابين ، إذ غاية ما يقتضيه كل منهما سلب مبادئ الحكم عن نقيض عنوانه وهو غير العنوان الآخر ، وإن فرض وجود جزء مشترك بينهما فيكون طلب أحدهما مقتضياً سلب المبادئ عن نقيض ذلك المجموع لا نقيض كل جزء ، فلا ينافي ثبوتها في المجموع الآخر (١). وبهذا فصل بين صورة تعلق الخطابين بموضوعين مستقلين يكون أحدهما بحسب العنوان غير الآخر فيجري في مثله التزاحم الملاكي ، وبين صورة تعلق الخطابين بعنوان واحد فلا محيص من إجراء حكم

__________________

(١) نقل بتصرف من المقالات ، الجزء الأول ، ص ١٣١.


التعارض البحت عليه (١).

وهذا البيان أيضا غير تام ، إذ يرد عليه بالإضافة إلى ما ذكرناه من أن الصحيح هو التبعية بين الدلالتين في الحجية ، أن الخطاب لا يدل على انسلاخ نقيضه عن الملاك لا بمدلوله المطابقي ولا بدلالته على الردع من النقيض ، وإنما غاية ما يقتضيه الدلالة على أن مبادئ الطلب فيما تعلق به أقوى مما في نقيضه وأنه لا يوجد في ذلك النقيض مصلحة غالبة ولا مساوية وأما أصل وجود الملاك فيه فلا نافي له. مع أنه لو سلم ذلك بقي النقض في بعض موارد التعارض البحت على حاله ، كما إذا فرض تعلق لأمر بالمطلق وتعلق النهي بالمقيد ولو كان من نفس عنوان المطلق ـ من قبيل ( صل ولا تصل في المغصوب ) فإن الأمر سوف لا دليل إلاّ على انسلاخ نقيض الصلاة عن مبادئ الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها في ترك المقيد بما هو ترك للمقيد ، كما هو واضح.

المحاولة الثانية ـ التمسك بإطلاق المادة بالتقريب المتقدم عن المحقق النائيني ـ قده ـ لإثبات الملاك في موارد العجز لإثبات كون القدرة عقلية في الخطاب ، حيث يدعى أن للمادة محمولين عرضيين ، أحدهما الحكم ، والآخر الملاك ، وما لا يعقل ثبوته في موارد الاجتماع إنما هو إطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول دون الثاني ، فلا موجب لرفع اليد عنه.

وهذه المحاولة قد تقدم فيما سبق عدم تماميتها ، فراجع.

المحاولة الثالثة ـ التمسك بإطلاق المادة بتقريب آخر أفاده المحقق الأصفهاني ـ قده ـ حيث قال : « وهنا طريق آخر لإحراز المصلحة المقتضية ، وهو إطلاق المادة ، فإنه لا ريب في أن المولى الّذي هو في مقام الحكم الحقيقي الفعلي يكون في مقام بيان تمام موضوع حكمه والمفروض عدم تقيد موضوع حكمه بعدم الاتحاد مع الغصب مثلاً لفظاً ، وأما تقيده من حيث أنه موضوع الحكم الفعلي بعدم الاتحاد مع الموضوع المحكوم بحكم مضاد لحكمه عقلا فهو لا يكاد يكون قرينة حافة باللفظ ليصح الاتكال عليه عرفاً في مقام التقييد

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.


المولوي ، فتقييد مفاد الهيئة عقلاً لا يوجب تقييد المادة مولوياً. فتمام موضوع الحكم نفس طبيعة الصلاة المطلقة وإن لم يكن لها حكم عقلاً لمكان حكم مضاد أو لمانع آخر من جهل أو نسيان ، فتكون المصلحة قائمة بذات الصلاة المطلقة فالمولى وإن كان في مقام بيان موضوع حكمه حال فعلية الحكم لكنه إذا ثبت أن طبيعة الصلاة المطلقة لفظاً هي تمام الموضوع في هذه الحالة فهي ذات المصلحة في جميع الأحوال ، لما عرفت من عدم إمكان الاتكال في تقييد الموضوع على القرينة العقلية البرهانية » (١).

وبهذا الطريق حاول ـ قده ـ إحراز الملاك في موارد التزاحم الملاكي بين إطلاق الخطابين لا أصلهما كما في موارد اجتماع الأمر والنهي. وكأنه اتجاه عام لديه يثبت به الملاك في تمام موارد المانع العقلي عن فعلية مدلول الهيئة.

إلاّ أن هذه المحاولة أيضا لا يمكن المساعدة عليها ، وذلك لأنه إن أراد أن التقييد العقلي البرهاني لا يوجب انثلام إطلاق المادة بل يحتاج في رفع اليد عن إطلاق المادة إلى أن يكون القيد مبرزاً في عالم اللفظ ، فمن الواضح أن إطلاقها كما ينثلم بالمقيدات اللفظية فلا يمكن التمسك به ، كذلك ينثلم بالمقيد العقلي لأنه يكشف عن أن متعلق الحكم ثبوتاً ليس هو الطبيعة المطلقة بل المقيدة.

وإن أراد أن المقيد العقلي إنما يقيد مدلول الهيئة وهو الحكم لا المادة ، لأن البرهان العقلي قام على عدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين لا أكثر ، فالحكم وإن لم يكن ثابتاً في مورد المانع العقلي إلاّ أنه في مورد ثبوته يكون متعلقاً بذات المادة من غير قيد ، ففيه :

أولا ـ ان المقيد العقلي في موارد الاجتماع منصب على المادة ابتداء إذا فرض وجود المندوحة ، لأن مفاد الهيئة وهو الوجوب فعلى على كل حال ،

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الثاني من المجلد الأول ، ص ٩١.


وإنما الممتنع إطلاق المادة للفرد المحرم فلا بدّ وأن يكون مقيداً بغيره.

وثانياً ـ لو فرض أن المقيد يقيد الهيئة ابتداء ، كما في موارد العجز أو موارد اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة ، مع ذلك لا يجدي التمسك بإطلاق المادة في حال فعلية الحكم لنفي دخل القيد في الملاك. والوجه في ذلك ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن قيود الواجب على قسمين شرائط الاتصاف بالملاك وشرائط وجود الملاك وتحققه خارجاً ، والتمسك بإطلاق المادة غاية ما يقتضيه نفي دخل القيد في الواجب بالنحو الثاني وأما دخله فيه بالنحو الأول فالنافي له هو إطلاق الهيئة دائماً لأن شرائط الاتصاف تكون من شرائط الحكم ، فالذي يجدي في نفي شرطية قيد كذلك إنما هو التمسك بإطلاق الهيئة والمفروض تقيدها وعدم إمكان التمسك بإطلاقها لحال وجود المانع العقلي ، فلا يمكن إثبات فعلية الملاك في موارد سقوط الحكم.

وإن أراد أن البرهان العقلي إنما قام على عدم إمكان شمول الأمر وإطلاقه للفرد المتحد مع الحرام ـ وكأن هذا مقصوده من تقييد مفاد الهيئة لا كون الوجوب مشروطاً ـ وهذا غاية ما يقتضيه ضيق دائرة الأمر وعدم إمكان شموله الفرد المتحد مع الحرام لا تقييد متعلقه بقيد عدم الاتحاد معه ـ بحيث يكون هذا التقيد مطلوباً أيضا كما هو لازم التقييد اللفظي ـ بل يبقى المطلوب في غير الفرد المحرم ذات الطبيعة لا غير ، فيثبت أن ما فيه الملاك ذات الطبيعة أيضا.

ففيه : إن البرهان العقلي بعد أن كشف عن أن متعلق الأمر ثبوتاً ليس هو ذات الطبيعة بلا قيد وإنما الطبيعة المقيدة بغير الحرام ـ إذ لا واسطة بينهما ـ فلا يبقى إطلاق ليمكن أن يستكشف به عدم مطلوبية التقيد بعدم الحرام ، فإن النافي لذلك إنما هو إطلاق المتعلق والمفروض استحالته ثبوتاً. وإن شئت قلت : أن غاية ما يقتضيه هذا البيان أن لا يستكشف من تقيد متعلق الأمر ثبوتاً بالحصة غير المحرمة مطلوبية التقيد لأنه ضروري عقلاً حيث يستحيل الإطلاق ،


نظير ما يقال في باب التعبدي والتوصلي من عدم إمكان استكشاف الإطلاق من عدم التقييد بقصد الأمر لاستحالة التقييد ، لا أن يستكشف منه عدم المطلوبية وعدم دخله في الملاك.

ثم أنه لو تم شيء من هذه المحاولات الثلاث لإثبات الملاك ففي خصوص موارد التزاحم الملاكي بين إطلاقي الخطابين ـ كموارد اجتماع الأمر والنهي ـ يكون له معارض نافي للملاك ، وهو ما حقق في بحث التعبدي والتوصلي من أن مقتضى إطلاق الهيئة لما بعد الإتيان بالحصة غير الاختيارية ـ بناء على القول باختصاص الخطابات بالحصة الاختيارية ـ وكذلك بعد الإتيان بالحصة المحرمة ـ بناء على الامتناع ـ هو عدم الأجزاء ولزوم الإتيان بحصة اختيارية وغير محرمة.

فإن هذا الإطلاق كما يثبت عدم الأجزاء هناك كذلك يثبت عدم وفاء الحصة المحرمة بالملاك هنا ، إذ لو كان وافياً به لكان مسقطاً للأمر فيكون عدمه قيداً فيه لا محالة.

لا يقال ـ إن إطلاق الهيئة هذا ساقط على كل حال لأن البرهان العقلي على التقييد ـ بناء على القول بالامتناع ـ يدور أمره بين أن يقيد المادة بغير الحصة المحرمة ، أو يقيد الهيئة بما إذا لم يأت بالمجمع ، وقد ذكر في محله : أنه لا معين لأحدهما في قبال الآخر ، فلا يمكن جعله معارضاً مع الدلالة الالتزامية المثبتة للملاك.

فإنه يقال ـ أولا : أن غايته حصول معارض آخر لإطلاق الهيئة إضافة إلى الدلالة الالتزامية المثبتة للملاك.

وثانياً : قد حققنا في محله أن الصحيح عند الدوران بين رفع اليد عن إطلاق المادة أو إطلاق الهيئة رفع اليد عن إطلاق المادة والتمسك بإطلاق الهيئة ، لسقوط إطلاق المادة على كل حال.

لا يقال ـ إن هيئة الأمر التي يراد التمسك بإطلاقها في المقام لها مقيد لبي متصل ، وهو حكم العقل البديهي باستحالة بقاء الأمر بعد امتثاله ، فيكون


المتعلق مقيداً بفرض عدم الإتيان به فلا يشمل حالات وجود المتعلق خارجاً ، وطرو مخصص منفصل على المتعلق لا يوجب توسعة دائرة الإطلاق في الهيئة ، لأن ظهورها الإطلاقي سقط ذاتاً بالمقيد المتصل وإنما يعود الإطلاق إلى الحجية بسقوط مقيدة عن الحجية إذا كان منفصلاً ومزاحماً مع الحجية لا الظهور.

فإنه يقال ـ أولا : النقض بموارد تقييد إطلاق المتعلق بالمقيدات المنفصلة ، فإن لازم هذا البيان عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة فيما إذا جيء بفرد فاقد للقيد من أفراد الطبيعة ، لجريان نفس النكتة المتقدمة فيه ، مع أنه لا إشكال عند أحد في عدم الاجتزاء به ولزوم الإتيان بالمقيد.

وثانياً ـ إن الصحيح عدم سقوط الخطاب بالامتثال عن الفعلية ، وإنما الساقط فاعليته فقط ، فإن المحبوب لا يخرج عن كونه محبوباً بوجوده في الخارج ، كما أن العلة لا تخرج عن كونها علة بتحقق المعلول ، على شرح وتفصيل موكول إلى محله ، وبناء عليه يرتفع الإشكال موضوعاً حيث يكون مفاد الهيئة فعلياً على كل حال فإذا فرض تقيد المادة بقيد زائد ـ ولو بدليل منفصل ـ كان اللازم الإتيان بالمقيد لا محالة.

وثالثاً ـ لو سلمنا التقييد المذكور ، فإنما نسلم تقييد مدلول الهيئة بعدم الامتثال ، أي عدم الإتيان بما يكون متعلقاً له ثبوتاً لا عدم المادة المأخوذة في ظاهر اللفظ إثباتاً ، فإن البرهان لا يقتضي أكثر من ذلك. وإطلاق المادة إنما يحرز صغرى هذا القيد وأن هذا الفرد امتثال ، فإذا ورد التقييد ولو في دليل منفصل كان نافياً لصغرى القيد المذكور فيصح التمسك بإطلاق الهيئة. فاتصال مدلول المادة بالهيئة لا يؤثر شيئاً بعد أن لم يكن هو المقيد على كل حال.

نعم فيما إذا لم يثبت تقييد المادة وإنما وجد معارض له ـ كما في المقام بناء على تساقط الإطلاقين المتزاحمين ملاكاً في المجمع ـ لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة سواء قيل بتقييده بعدم الامتثال أم لا إذ على الأول يكون من التمسك


بالعامّ في الشبهة المصداقية بعد عدم إمكان إحراز صغراه ، وعلى الثاني لا يثبت كون الأمر متعلقاً بالمقيد.

إلاّ أن هذا لا يضر في المقام لأن المقصود إبراز معارض في قبال الدال على وجود الملاك في المجمع من إطلاق المادة أو الدلالة الالتزامية ، وواضح أن نتيجة الجمع بين إطلاق الهيئة لما بعد الإتيان بالمجمع وإطلاق خطاب النهي للمجمع أن الأمر متعلق بغير المتحد مع الحرام وأنه غير واجد للملاك ، ومعارضة إطلاق النهي مع إطلاق الأمر غاية ما يلزم منه أن تكون المعارضة بينهما من جهة محذورين. أحدهما ، التضاد بين الحكمين. والآخر ، التكاذب في إثبات الملاك ونفيه.

وهكذا يتضح ، أن الصحيح عدم وجود ما يثبت الملاك في موارد التزاحم الملاكي بعد سقوط الخطاب إلاّ ما قد يفرض من الأدلة الخاصة في بعض الحالات.

٢ ـ أحكام التزاحم الملاكي :

ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى أن موارد التزاحم الملاكي ملحقة بباب التعارض البحث بين الدليلين فلا بد من تطبيق قواعد التعارض عليها ولم تلاحظ مدى تأثير مرجحات باب التزاحم الحقيقي عليه.

وفيما يلي نتحدث أولا عن مدى تأثير مرجحات التزاحم الحقيقي على هذا القسم من التزاحم ثم نتحدث عن تطبيق قواعد التزاحم عليه.

١ ـ تطبيق مرجحات باب التزاحم :

إذا فرض وجود شيء من مرجحات باب التزاحم الحقيقي في موارد التزاحم الملاكي من قبيل ما إذا كان أحدهما أهم من الآخر أو مشروطاً بالقدرة العقلية في حين أن الآخر مشروط بالقدرة الشرعية أو غير ذلك من المرجحات ، فهل يمكن أن يثبت به الترجيح بنحو يرتفع التعارض من البين كما هو الحال في موارد التزاحم الحقيقي أم لا؟


الصحيح هو التفصيل. ولأجل توضيحه لا بد من استعراض صور وجود كل واحد من تلك المرجحات.

١ ـ الترجيح بالأهمية. وهذا المرجح كان يحتوي على ثلاثة شقوق : الترجيح بالأهمية المعلومة ، والترجيح باحتمال الأهمية ، والترجيح بقوة احتمال الأهمية.

أما الشقان الأولان فيمكن تطبيقهما في المقام على التفصيل التالي :

أ ـ إذا كان إحراز وجود الملاك الأهم في مورد التزاحم بدليل خارجي فسوف يتقدم الحكم الأهم لا محالة ، إذ يعلم حينئذ بكذب الخطاب الآخر تفصيلاً. لأن جعله في ذلك المورد خلف فعلية الملاك الأهم فلا يكون إطلاق دليله حجة ، فيتمسك بإطلاق دليل الخطاب الأهم لا محالة.

ب ـ إذا كان إحراز وجود الملاك الأهم في مورد التزاحم من نفس الخطاب ـ بناء على إمكان ذلك ـ فسوف يقع التعارض بين دليل الحكمين لا بحسب المدلول المطابقي لهما فحسب ، بل تسري المعارضة إلى الدال على فعلية الملاك الأهم أيضا لأن المدلول المطابقي للخطاب غير الأهم يكذب فعلية الآخر ملاكاً أيضاً فلا يمكن إثبات ملاكه حتى على مقالة المشهور القائل بإمكان إثبات الملاك مع سقوط الخطاب. ويترتب على هذا القول في هذه الصورة نتيجة غريبة هي لزوم الإتيان بالخطاب غير الأهم بحكم العقل رغم تعارض دليليهما وذلك لأن ملاكه محرز الوجود علي كل حال بخلاف الأهم فيشك في أنه هل يتدارك ملاكه فيما إذا تركه إلى الأهم فيكون تفويته مرخصاً فيه من قبل المولى ، أم لا؟ وقد تقدم في بحث الترجيح بالقدرة العقلية منجزية الملاك المحرز كلما شك في رضاء المولى بتفويته. إلاّ أن هذه النتيجة إنما تترتب في موارد التزاحم الملاكي بين خطابي الضدين اللذين لا ثالث لهما أو الضدين الدائمين أو موارد الاجتماع بناء على الجواز وتعدد المعنون وعدم المندوحة إذا قلنا بمسلك المحقق النائيني


ـ قده ـ من عدم إمكان الترتب فيها ـ على ما تقدمت الإشارة إليه في بعض التنبيهات المتقدمة ـ لا ما إذا كان التزاحم الملاكي بين دليلي الإلزام بالنقيضين من قبيل ( صل ولا تصلّ ) أو موارد الاجتماع بناء على الامتناع ، لأن الملاك غير الأهم المحرز فيهما إنما يكون بمعنى المصلحة والمفسدة لا الحب والبغض والإرادة والكراهة ، لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، وما يكون منجزاً ولا يجوز تفويته عقلاً إنما هو الملاك الفعلي بمعنى الإرادة والكراهة لا ذات المصلحة والمفسدة.

وأما الشق الثالث أعني قوة احتمال الأهمية ، فغير مجد في المقام ولو أحرز وجود الملاك الّذي يكون احتمال أهميته أقوى بالعلم الخارجي ، إذ لا يتولد منه العلم بكذب أحد الخطابين ما دامت الأهمية محتملة في الطرفين فيكون من التعارض بين المدلولين المطابقيين فحسب.

٢ ـ الترجيح بالقدرة العقلية : وهذا المرجح تارة : يراد منه ما يقابل القدرة الشرعية بمعنى عدم المنافي المولوي ، وأخرى : يراد منه ما يقابل القدرة الشرعية بمعنى عدم الاشتغال بالآخر.

أما المعنى الأول ـ فهو يوجب الترجيح في مورد التزاحم الملاكي بين إطلاقي الخطابين لا أصلهما إذ يكون إطلاق الخطاب المشروط بالقدرة العقلية رافعاً لموضوع إطلاق الآخر. وأما إذا كان التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين كما في مورد التضاد الدائمي أو التعارض بنحو التباين ، فسوف يقع التعارض بين الدليلين ولا يمكن فيه الترجيح إذ يلزم منه إلغاء الخطاب المشروط رأساً ، فيكون دليله مكذباً لأصل الخطاب الآخر ويسري التعارض منه إلى ما يثبت الملاك أيضا لاستحالة اجتماع الأمر المشروط مع ملاك الآخر ، لأن فرض ثبوت الملاك يستلزم تأثيره في جعل الحكم الاخر المساوق لارتفاع موضوع الأمر المشروط.

نعم ، إذا فرض ثبوت الملاك غير المشروط بالعلم الخارجي تم الترجيح ،


باعتبار ما ذكرناه في فرض أهمية أحد الملاكين المحرز بدليل خارجي من حصول العلم بكذب الخطاب الآخر المستلزم لسقوطه عن الحجية.

وأما المعنى الثاني للقدرة الشرعية ، فهو إنما يتعقل في باب التضاد بين الخطابين لا التناقض ،

إذ لا يعقل أن يكون الملاك في الأمر بشيء مشروطاً بعدم الإتيان بنقيضه الّذي يساوق الإتيان به ، فإنه لا معنى لأن يكون الإتيان بفعل سبباً في اتصافه بالملاك ، إلاّ بأن يرجع إلى التضاد بين متعلق الحكمين.

والصحيح في هذا المرجح حينئذٍ هو التفصيل بالنحو المتقدم في الترجيح بالأهمية بين ما إذا أحرز الملاك غير المشروط من الخارج فيعلم بكذب الخطاب المشروط وسقوطه عن الحجية ، لأن جعله مطلقاً خلف كونه مشروطاً ملاكاً ، وجعله مشروطاً بترك الآخر تحصيل للحاصل ، وبين ما إذا أحرز الملاك غير المشروط من دليل الخطاب نفسه فيقع التعارض بينهما ويسري إلى الدال على الملاك غير المشروط.

٣ ـ ترجيح ما لا بدل له : وهذا المرجح إن أريد منه عدم البدل العرضي كما في الصلاة في المغصوب مع وجود المندوحة حيث يكون للصلاة بدل عرضي فحاله حال المرجحين السابقين فيصح التفصيل بين ما إذا كان الملاك فيما لا بدل له محرزاً من الخارج فيعلم بسقوط الآخر وتعين ما لا بدل له ملاكاً وخطاباً ، لأن ماله مندوحة لا يمكن أن يزاحم في مقام الجعل ما لا مندوحة له من الملاكات وبين ما إذا كان الملاك محرزاً من نفس دليل الحكم فتقع المعارضة بين إطلاق ما له بدل عرضي لمورد التزاحم المقتضى لفعلية ملاكه ، وبين دليل الحكم الآخر ، لأنه يكون نافياً له ملاكاً وخطاباً. وإن أريد من البدلية الطولية فقد تقدم في أبحاث التزاحم الحقيقي أنه راجع إلى أحد المرجحين السابقين وليس مرجحاً مستقلاً ، وعرفت مدى انطباقهما في موارد التزاحم الملاكي. وأما الترجيح بأسبقية الواجب زماناً فقد تقدم عدم تماميته هناك. ولو فرض صحة الترجيح بها هنالك في المشروطين بالقدرة


الشرعية لفعلية القدرة على الأسبق عقلاً وشرعاً قبل مجيء الواجب المتأخر ، فلا مجال لتوهم صحته في هذا المقام ، لوضوح أن التعارض لا يرتفع لمجرد أن يكون مفاد أحد الدليلين المتعارضين متقدماً على الآخر زماناً. وهكذا يتضح أن مرجحات باب التزاحم الحقيقي يمكن تطبيقها على التزاحم الملاكي في الجملة لا بوصفها ترجيحاً لأحد الحكمين في مقام الفعلية ، بل باعتبار ارتفاع التعارض بين الجعلين على أساسها إذا حصل العلم بسقوط أحدهما تعييناً فيكون الآخر حجة بلا معارض ، فإن موارد التزاحم الملاكي تكون من باب التعارض بين الخطابين المتزاحمين فلا يمكن فيها ترجيح أحد المتزاحمين إلاّ بعد سقوط الآخر عن الحجية. ومنه يعرف أنه لا يختلف الحال في موارد التزاحم الملاكي بين أن يكون الحكمان منجزين معاً أو لا يكون أحدهما منجزاً ، خلافاً للتزاحم الحقيقي الّذي كان مشروطاً بوصول الحكمين المتزاحمين ، فإن التزاحم الملاكي بعد أن عرفت أنه من باب التعارض فلا يفرق فيه بين فرض تنجزهما وعدمه شأن تمام موارد التعارض بين الأدلة. والنكتة في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من أن التنافي بين الجعلين في موارد التعارض ليس ناشئاً من ضيق القدرة في عالم الامتثال لكي يرتفع بعدم تنجز أحدهما.

٢ ـ تطبيق قواعد باب التعارض :

بعد أن عرفت أن باب التزاحم الملاكي مندرج في باب التعارض ولو فرض إحراز ملاكيهما ، يقع البحث عن مدى تأثير إحراز الملاكين على جريان قواعد باب التعارض فيه من الترجيح بحسب الدلالة أو السند أو التساقط عند فقد المرجحات.

والكلام عن المرجحات الدلالية تارة ، والسندية أخرى ، والتساقط ثالثة.

١ ـ المرجحات الدلالية :

أما الترجيح بحسب الدلالة فلا إشكال في انطباقه كما في موارد التعارض البحث ، فيما إذا فرض وجود أحد موجبات الترجيح الدلالي. وإنما الكلام


في أن مجرد إحراز أقوائية أحد الخطابين ملاكاً من الآخر هل يكون موجباً لترجيح دلالي جديد يجمع علي أساسه بين الخطابين أم لا.

ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ إلى الأول حيث قال : « فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة فتفطن » (١).

وكأن مقصوده : إن أقوائية أحد الخطابين ملاكاً تقتضي عرفاً أن يحمل الخطاب الأضعف ملاكاً على الحكم الفعلي إذ لا يحتمل العكس ، فيكون من حمل الظاهر علي النص. والصحيح أن هذا الجمع مما لا يمكن المساعدة عليه إذ لو أريد أعماله فيما إذا أحرز وجود الملاك الأقوى في مورد التعارض بالعلم الخارجي فقد عرفت مما سبق أنه في هذه الحالة يعلم بسقوط الخطاب الأضعف ملاكاً عن الحجية فترتفع المعارضة من البين. وإن أريد أعماله فيما إذا كان إحراز وجود الملاك الأقوى بنفس الخطاب ففي هذه الحالة وإن لم يكن يعلم بسقوط أحدهما إلاّ أن إعمال هذا الجمع مما لا يساعد عليه العرف سواء أريد من الحكم الاقتضائي مجرد ثبوت مقتضي الحكم ، بمعنى ثبوته الاقتضائي في مرتبة ثبوت مقتضية ، أو أريد ما هو أقرب إلى مفاد الهيئة وهو الحكم الحيثي الطبعي بمعنى أنه لو خلي وطبعه لكان فعلياً.

إذ لو أريد تطبيقه في موارد التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين ـ كما في الضدين الذين لا ثالث لهما أو التعارض بنحو التباين ـ فمن الواضح أن حمل أحد الدليلين على الحكم الاقتضائي يكون طرحاً لذلك الدليل وإلغاء لمفاده عرفاً ، إذ ظاهر الدليل أنه يتكفل حكماً ينتهي إلى مقام العمل ولو في الجملة.

وإن أريد تطبيقه على مورد يكون التزاحم الملاكي فيه بين إطلاق الخطابين ـ كما في صل ولا تغصب ـ فيرد عليه : أن الدليل الأقوى ملاكاً وإن كان نصاً في الحكم الفعلي إلاّ أن شموله لمورد التزاحم يكون بالإطلاق ، وعلاج التعارض بين الإطلاقين كما يمكن أن يكون بحمل الحكم على بالاقتضائي كذلك

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ، ص ٢٤٢ ( ط ـ مشكيني ).


يمكن أن يكون بتقيد أحد الإطلاقيين. هذا كله ، مضافاً إلى ما سوف يأتي الحديث عنه من أن قواعد الجمع بين الدليلين المتعارضين ترجع كلها إلى ملاك القرينية أو الأظهرية وكلاهما مخصوص بما إذا كانت هناك نكتة في الدلالة تقتضي القرينية أو الأقوائية فلا يكفي فيها مجرد انتفاء احتمال في أحد الدليلين موجود في الآخر صدفة.

٢ ـ المرجحات السندية :

وأما المرجحات السندية المستفادة من الأخبار العلاجية فلا إشكال في عدم انطباقها في موارد التزام الملاكي بين إطلاقي الخطابين ، بناء على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى من اختصاصها بموارد سريان التعارض إلى السند ، وفي مورد التعارض بين إطلاقي الدليلين لا تسري المعارضة إلى السند.

وأما مورد التزاحم الملاكي بين أصل الخطابين الّذي يكون التعارض فيه مستوعباً لتمام مدلول الدليلين ، فقد يتوهم التفصيل في تطبيق المرجحات السندية بين ما إذا كان إحراز وجود الملاكين بدليل خارجي وبين ما إذا أحرز من نفس الخطاب ، فعلى الأول يتم تطبيق المرجحات السندية لكون التعارض فيه يسري إلى ، السندين وعلى التقدير الثاني لا يمكن تطبيقها لبقاء السند على الحجية في إثبات الملاك لكل من الخطابين.

غير أن الصحيح عدم الفرق بين التقديرين ، لأن الموضوع في الأخبار العلاجية التي هي مهم الدليل على الترجيح السندي هو الخبران المختلفان وهو منطبق في المقام على كلا التقديرين. بل لا يبعد دعوى أن هذا داخل في القدر المتيقن من مورد تلك الأخبار ، حيث لا يمكن تخصيصها بموارد التعارض البحت النادرة بناء على إمكان إثبات الملاك بنفس الخطاب.

هذا ، مضافاً إلى أن استكشاف الملاك إذا كان على أساس بقاء الدلالة


الالتزامية على الحجية بعد سقوط المطابقية ، وكان الملاك لازماً لصدور الخطاب لا لظهوره وإطلاقه ، وقيل في بحث حجية لوازم الأمارات بأن حجيتها من جهة أنها في عرض المدلول المطابقي مما قامت عليه الأمارة لوجود حكاية تقديرية ومستترة عنها ، فسوف يكون لدينا في المقام شهادتان من الراوي ، شهادة بصدور أصل الخطاب ، وشهادة أخرى بلازمه وهو ثبوت الملاك ، والتعارض السندي لا بد وأن يلحظ في كل منهما مستقلاً عن الآخر ومن الواضح أن التعارض يكون سارياً إلى الشهادة الأولى في كل من الدليلين فتنطبق عليهما المرجحات السندية.

٣ ـ التساقط :

وأما تساقط الدليلين في موارد التزاحم الملاكي عند فقد المرجحات الدلالية والسندية بنحو يمكن الرجوع فيها إلى الأصول العملية ، كما هو الحال في سائر موارد التعارض البحث ، فالصحيح هو التفصيل بين القول بالتساقط الجزئي في موارد التعارض أو التساقط المطلق ، ونقصد بالتساقط الجزئي سقوط كل من الدليلين في إثبات مفاده تعييناً مع بقائهما على الحجية في نفي الثالث. فإنه إذا قلنا بذلك فسوف لن يختلف الحال في موارد التزاحم الملاكي عنه في موارد التعارض الأخرى ، وأما إذا قلنا بالتساقط الكلي وإمكان الرجوع إلى الأصول العملية ولو كانت منافية مع مدلول الدليلين ففي مورد إحراز الملاكين ـ التزاحم الملاكي ـ لا يمكن المصير إلى الأصول العملية أحيانا ، إذ قد يحصل من الرجوع إليها الترخيص في المخالفة العملية. ونذكر له مثالين.

١ ـ أن يقع التزاحم الملاكي بين أمرين متعلقين بضدين دائميين ولهما ثالث ، بناء على مسلك المشهور من وقوع التعارض بين أصل الخطابين في هذه الموارد ، فإنه وإن فرض سقوط كل منهما لإثبات وجوب متعلقة إلاّ أنه مع ذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة عن الوجوبين لأنه يؤدي إلى جواز


تركهما إلى ثالث وهو تفويت لملاك فعلى كل حال ، لما أشرنا إليه سابقاً من أن الملاك التام ـ وهو المحبوبية ـ لا مانع من وجوده في الضدين معاً. وإن شئت قلت : أنه ترخيص في المخالفة القطعية لتكليف معلوم إذ يعلم في المقام إجمالاً اما بوجوب أحدهما تعينياً لو كان ملاكه أقوى ، أو وجوب الجامع بينهما ، فيكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير. نعم يمكن إجراء البراءة عن التعيين في كل منهما.

٢ ـ ما إذا فرض إحراز الملاكين في المتعارضين بنحو التباين مع كون أحدهما أعم مورداً ولكنه بنحو لا يمكن تخصيصه بالأخص ، كما إذا ورد ( تصدق على كل فقير ولا يجوز التصدق على الفقير القادر على العمل ) ، وفرض ندرة الفقير غير القادر على العمل. فإنه بناء على التعارض البحث بينهما يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن كل من الوجوب والحرمة ، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية ، وأما بناء على إحراز الملاكين ووقوع التزاحم بينهما فلا يمكن إجراء الأصل المؤمن عن الحكمين معاً إذ يلزم منه تفويت ملاك فعلى لإيجاب التصدق على الفقير غير القادر من العمل الثابت بمقتضى إطلاق الخطاب بحسب الفرض.

التنبيه الثامن ـ في التزاحم بين المستحبات.

ربما يتصور اختصاص التزاحم وأحكامه بالواجبات وعدم جريانه في الخطابات الاستحبابية ، كما التزم السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بذلك خارج بحثه. بدعوى : أن الأوامر الاستحبابية لا يلزم من إطلاق أدلتها لحال التزاحم بين متعلقاتها محذور التكليف بغير المقدور ، لجواز ترك المستحب على كل حال فلا تعارض بين إطلاقاتها ليفتش عن مقيد لبي يرفع به التنافي فيما بينها ، كما هو الحال في أدلة الواجبات.

والتحقيق أن يقال : إن هذا يختلف باختلاف الوجه الّذي يستند إليه في المنع عن شمول الأمر للضدين في عرض واحد.


فإن كان الوجه في ذلك استلزمه إحراج المكلف على الوقوع في العصيان. فهذا المحذور مخصوص بالأوامر الوجوبية ولا يجري في الأوامر الاستحبابية لعدم تحقق العصيان بمخالفتها.

وإن كان الوجه في ذلك استلزمه طلب الجمع بين الضدين ـ كما زعمه القائلون باستحالة الترتب ـ أو كان الوجه فيه ما هو الصحيح من أن الخطابات ظاهرة في داعي الباعثية والمحركية فلا تشمل موارد عدم إمكان التحرك والانبعاث فلا بد من افتراض تقيدها لباً بحال عدم الاشتغال بضد واجب مساو أو أهم كما برهنا عليه فيما سبق ، فهذان الوجهان لا يفرق فيهما بين الأوامر الوجوبية والأوامر الاستحبابية إذ كما لا يعقل طلب الجمع بين الضدين وجوباً كذلك استحباباً ، وكما أن الأمر الوجوبيّ ظاهر في داعي الباعثية والمحركية كذلك الأمر الاستحبابي فإنه لا فرق بينهما إلاّ من حيث شدة الطلب وضعفه. فلو كان للأمر الاستحبابي بأحد الضدين إطلاق حتى لحال الاشتغال بضده المستحب الأهم أو المساوي ، فإن كان الغرض منه الإتيان به مع الإتيان بالآخر جمعاً فهو مما لا يمكن التحريك نحوه ، وإن كان الغرض منه صرف المكلف عن الضد المساوي أو الأهم إليه فهو جزاف ، كما تقدم في شرح البرهان على المقيد اللبي.

نعم ، لو فرض أن دليل الاستحباب كان بلسان المحبوبية والرجحان لا الطلب أمكن إطلاقه حتى لحال الاشتغال بغيره لأن المستحيل إطلاق الطلب للضدين في عرض واحد لا إطلاق مباديه كما أشرنا إليه فيما سبق.

ثم إنه إذا ضممنا إلى هذا الكلام من السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ مبناه في دلالة الأمر على الوجوب القائل بأن مفاد الأمر ليس إلاّ الطلب وأما الوجوب فيثبت بحكم العقل إذا لم يقترن الأمر بترخيص من المولى في الترك فسوف تترتب على ذلك نتائج في باب التزاحم لا يلتزم بها السيد الأستاذ نفسه. إذ ينتج من ذلك.

أولا : إن إخراج باب التزاحم عن باب التعارض لن يحتاج فيه إلى القول


بإمكان الترتب في مطلق الأوامر إذ لا مانع من إطلاق ما هو مفادها حينئذ ـ وهو الطلب ـ للضدين معاً ، وإنما المحذور في وجوب الضدين بناء على استحالة الترتب ، والمفروض أنه حكم عقلي ينتزع من الطلب حيث لا ترخيص في الترك ، وفي موارد التزاحم يكون إطلاق الأمر لكل منهما دالاً بالتزام على جواز ترك الآخر إليه ، لأن فعله ملازم مع ترك الآخر فلا يعقل عدم الترخيص فيه مع طلب ملزومه ، فلا ينتزع العقل وجوبه في قبال الآخر.

وثانياً ـ عدم اندراج التزاحم في باب الورود ، سواء قيل بإمكان الترتب أو باستحالته ، لعدم التنافي بين ما هو مفاد الخطابين ـ وهو الطلب ـ لا في مرحلة الجعل ولا المجعول.

وثالثاً ـ عدم جريان شيء من أحكام التزاحم المتقدمة من الترجيح والتخيير فيه ، لأن ذلك فرع لزوم تقييد الخطاب بعدم الاشتغال بالمساوي والأهم فيكون كل منهما وارداً على الآخر بامتثاله ، فإذا فرض عدم لزوم التقييد فيما هو مفاد الأمر لم يكن شيء من الخطابين رافعاً لموضوع الآخر ولو كان أرجح.

ورابعاً : إمكان إثبات الملاك بإطلاق الخطاب في موارد العجز وعدم القدرة وبالتالي إثبات كون القدرة عقلية في الواجب.

وبعض هذه النتائج يترتب أيضا على القول بدلالة الأمر على الوجوب لفظاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة.



القرينية بأنواعِهَا

القرينية الشخصية ( الحكومة )

القرينية النوعية

( التقييد التخصيص ، الأظهرية )



القَرينيّة الشخصِيَّة

١ ـ نظرية الحكومة :

الحكومة عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر بمعنى اشتماله على خصوصية تجعله ناظراً إلى مدلول الدليل الآخر ومحدوداً للمراد النهائيّ منه. ومن هنا نستطيع أن نعتبر الحكومة عبارة عن القرينية الشخصية لأحد الدليلين على الآخر حيث يكون الدليل الحاكم مشتملاً بحكم نظره إلى الدليل المحكوم على ظهور ثان زائداً على ظهوره الأول المخالف مع مفاد الدليل المحكوم وهو الظهور في أن المتكلم يجعل الظهور الأول هو المحدد النهائيّ لمرامه من الدليل المحكوم. وبذلك يكون الاختلاف بين الحكومة والتخصيص أو غيره من المجموع العرفية الأخرى اختلافاً جوهرياً لا بحسب اللفظ ولسان الدليل فحسب ، إذ القرينية في التخصيص قرينية نوعية عرفية وليس بإعداد شخصي من المتكلم نفسه على ما سوف يأتي توضيحه قريباً إن شاء الله.

وبهذا يعرف أيضا الفارق بين الحكومة والورود ، فإن موارد الورود تكون خارجة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين على ما تقدم توضيحه في نظرية الورود ، في حين أن الحكومة ـ فيما إذا كان الدليل الحاكم يثبت خلاف ما يثبته المحكوم ـ يكون من حالات التعارض بين الدليلين مدلولاً ودلالة ، لأن نسبة الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم نسبة القرينة إلى ذي القرينة والقرينة


تنافي ذا القرينة ومجرد كون القرينة شخصية لا نوعية وبإعداد المتكلم نفسه لا بقانون عرفي عام لا يستوجب رفع التنافي بين الدليلين كما هو واضح. وعلى هذا الأساس كان لا بد في إثبات عدم سريان التعارض في حالات الحكومة إلى دليل الحجية وكونها من التعارض غير المستقر من التسليم بكبرى عرفية تقول : بأن ظهور ما يعده المتكلم لتفسير كلامه يكون هو المحدد النهائيّ لمدلول مجموع كلامه ، إذ من دون التسليم بهذه الكبرى كمصادرة عقلائية في باب المحاورات لا يكفي مجرد فرض الحكومة ونظر أحد الدليلين للآخر مبرراً لتقديمه عليه في الحجية. وهذه المصادرة التي افترضناها لنظرية الحكومة تكفي بنفسها لتخريج الحكومة وتقديم الدليل الحاكم على المحكوم سواء كان متصلاً به أو منفصلاً عنه فلا نحتاج في تقديم الحاكم المنفصل إلى مصادرة إضافية ـ كما نحتاج إليها في التخصيص على ما سوف يأتي ـ فإن نكتة أن للمتكلم أن ينصب القرينة بنفسه لتحديد مرامه من خطابه نسبتها إلى القرينة المتصلة والمنفصلة على حد سواء وإن كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة من حيث تأثيرها على ظهور ذي القرينة وهدمها له في حين أن القرينة المنفصلة تهدم الحجية فحسب.

هذا ولكن هناك بيانين آخرين يترددان في كلمات مشهور المحققين لوجه تقديم الحاكم على المحكوم غير ما ذكرناه ، وهما.

البيان الأول : دعوى خروج موارد الحكومة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين لأن الدليل المحكوم يدل على قضية شرطية مفادها ثبوت الجزاء على تقدير ثبوت الشرط ، فقوله تعالى ( وَحَرّمَ الرّبا ) (١) يدل على قضية شرطية مفادها أن ما كان رباً فهو حرام والقضايا الشرطية لا تتكفل إثبات الشرط أو نفيه إذ لا نظر لها إلاّ إلى الملازمة بين ثبوت الجزاء وثبوت الشرط والدليل الحاكم الدال على أنه لا ربا بين الوالد وولده ناظر إلى الشرط في

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٣٧٥.


الدليل المحكوم إثباتاً أو نفياً ، فليس ما هو محط النفي في أحد الدليلين محط الإثبات في الدليل الآخر كي يتحقق التعارض بينهما.

وهذا البيان واضح البطلان ، ذلك أن القضية الشرطية وإن لم تكن متكلفة لإثبات الشرط أو نفيه ولكنها دالة على فعلية الجزاء عند تحقق الشرط ، بمعنى أنها بضميمة الدليل المثبت لفعلية الشرط ـ ولو كان هو العلم بتحققه ـ تدل على فعلية الجزاء والدليل الحاكم ينفي فعليته بنفي فعلية شرطه ، فإن كان الشرط المأخوذ في الشرطية ـ وهو الرّبا في المثال ـ ما كان ربا بنظر الشارع واعتباره ، إذن كان الدليل الدال على عدم اعتبار الزيادة بين الوالد والولد رباً وارداً عليه لا حاكماً لأنه يرفع موضوعه حقيقة لا تعبداً ، وإن كان الشرط ما هو رباً حقيقة فالتعارض بين مدلولي الدليلين ثابت لا محالة.

على أن هذا البيان قاصر عن إثبات وجه التقديم في جميع حالات الحكومة وأقسامها ، لأن منها ما لا يكون بلسان نفي الموضوع على ما يأتي تفصيله.

البيان الثاني ـ إن الدليل الحاكم يتعرض إلى شيء زائد لا يتعرض إليه الدليل المحكوم ، فالحاكم مثلاً يتعرض إلى أن الربابين الوالد وولده ليس رباً إضافة على تعرضه لعدم الحرمة. لكن المحكوم يتعرض لحرمة الرّبا فقط ولا يتعرض لكون ذلك رباً أو لا ، فيتقدم الأول على الثاني.

وهذا البيان أيضا لا يرجع إلى محصل ، فإن مجرد فرض تعرض الحاكم إلى شيء زائد لا يتعرض إليه المحكوم لا يكون سبباً للتقدم. نعم ، هذا يستلزم النّظر إلى المحكوم فيتقدم عليه بملاك القرينية الشخصية ولذا يتقدم عليه حينما يوجد النّظر وحده ولا يوجد تعرض لشيء زائد كما في بعض أقسام الحكومة من قبيل حكومة إطلاق دليل نفي الضرر والحرج على إطلاقات أدلة الأحكام الأولية.

إن قلت : قد يكون المقصود من هذا البيان تطبيق نكتة أخرى لتخريج الحكومة وهي نكتة تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما ،


وذلك بتقريب : أن الحاكم يتعرض بمدلوله اللفظي لتحديد المراد الجدي من الدليل المحكوم ، بينما دلالة الدليل المحكوم إنما يكون بمقتضى الأصل والظهور الحالي والدلالة اللفظية أقوى وأظهر من مقتضى الأصل العقلائي.

قلنا : إن دلالة الدليل على جدية مدلوله أيضا يكون بمقتضى الأصل والظهور الحالي فيما إذا لم يكن صريحاً ، فلو لا افتراض نكتة النّظر وان حجية الظهور في الدليل المحكوم مقيدة بعدم نصب المتكلم نفسه قرينة شخصية على خلافه مما يجعل الأصل والظهور الحالي في جديد مدلول الحاكم حاكماً على حجية الظهور الحالي للدليل المحكوم ومحرزاً لموضوع ارتفاعه. أقول : لو لا هذه النكتة التي هي المصادرة التي ادعيناها لنظرية الحكومة لم يبق موجب للتقديم لأن الظهور التصديقي في كل من الحاكم والمحكوم كثيراً ما يكون بدرجة واحدة من الظهور والكاشفية وبملاك واحد.

٢ ـ أقسام الحكومة :

قد عرفت أن الدليل الحاكم يشتمل على خصوصية تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم وقرينة شخصية على تحديد المراد النهائيّ منه. وهذه الخصوصية تكون بأساليب ثلاثة رئيسية.

١ ـ لسان التفسير ، بأن يكون أحد الدليلين مفسراً للآخر ، سواء كان ذلك بأحد أدوات التفسير البارزة. مثل أو وأعني ، أو بما يكون مستبطناً لذلك. وهذه حكومة تفسيرية.

٢ ـ لسان التنزيل ، بأن يكون أحد الدليلين منزلاً لشيء منزلة موضوع الدليل الآخر كما إذا قال ( الطّوَافُ بالبَيتِ صَلاةٌ ) فإنه يكون حينئذ ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم من خلال التنزيل ، إذ لو لا نظره إليه وفرض ثبوت ما رتّب من الحكم على ذلك الموضوع فيه لم يكن التنزيل معقولاً وهذه حكومة تنزيلية.


٣ ـ مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة بالدليل الحاكم وو التي تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم ، من قبيل ما يقال في أدلة نفي الضرر والحرج من ظهورها في نفي إطلاقات الأحكام الأولية لا نفي الحكم الضرري والحرجي ابتداء باعتبار أنه لم يكن من المترقب في الشريعة جعل أحكام ضررية بطبيعتها وإنما المترقب جعل أحكام قد تصبح ضررية أو حرجية في بعض الأحيان ، فتكون أدلة نفي الضرر والحرج بهذه المناسبة ناظرة إلى تلك الإطلاقات وبحكم الاستثناء منها ، ولنصطلح على هذا اللون من الحكومة بالحكومة المضمونية. والجامع بين أقسام الحكومة كلها ، أن الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم بمعنى أنه يشتمل على ظهور زائد يدل على أن المتكلم يريد تحديد مفاد الدليل المحكوم على ضوء الدليل الحاكم فيكون قرينة شخصية عليه.

وليعلم أن القرينة الشخصية كما تتحقق في حالات الحكومة عن طريق نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، كذلك قد تتحقق على أساس تعيين أحد الدليلين للقرينية بموجب قرار شخصي عام من المتكلم ، كما إذا عين الشارع المحكمات التي هي أم الكتاب للقرينية على المتشابهات وتحديد المراد النهائيّ منها. فإنه في مثل ذلك يتقدم ظهور الدليل الّذي عين قرينة على ظهور الدليل الآخر بنفس ملاك تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم وإن لم يكن مشتملاً على خصوصية النّظر إلى الدليل الآخر.

هذا ، والسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لم يفسر الحكومة بتفسير جامع وإنما قسمها رأساً إلى قسمين وكأنه مشترك لفظي بينهما.

١ ـ الحكومة بملاك النّظر والشرح ، بحيث لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغواً. ومثّل لها بحكومة أدلة الأحكام الواقعية بعضها على بعض ، كحكومة دليل نفي الرّبا بين الوالد وولده على دليل حرمة الرّبا ، وحكومة دليل لا ضرر ولا ضرار على أدلة الأحكام الأولية.


٢ ـ الحكومة بملاك رفع الموضوع ، ومثل لها بحكومة الأحكام الظاهرية بعضها على بعض ، كحكومة الأمارات على الأصول العملية (١).

وكأن مقصوده ـ دام ظله ـ أن الحكومة في الأحكام الواقعية يكون بملاك النّظر دائماً إذ لو لا المحكوم للغا الحاكم ، في حين أنه ليس الأمر كذلك في حكومة الأحكام الظاهرية بعضها على بعض ، فإن دليل حجية الأمارة لا يلغو وإن فرض عدم ورود « رفع ما لا يعلمون » مثلا.

إلاّ أنك ترى أنه في باب الأحكام الواقعية أيضا قد لا يلغو الحاكم لو لم يرد المحكوم ، كما في حكومة دليل حجية الأمارة وجعلها علماً ـ حسب مبناهم ـ على دليل حرمة الإفتاء بغير العلم الّذي هو من أدلة الأحكام الواقعية.

وعلى أي حال ، فالحكومة لا تكون إلاّ بملاك النّظر والقرينية الشخصية وفرضها تارة بملاك النّظر وأخرى بملاك رفع الموضوع غير صحيح. وإنما الاختلاف في وسائل إثبات الناظرية وأساليبها التي تقدمت الإشارة إليها. وما أفيد في حكومة دليل الأمارة على دليل الأصل بملاك رفع الموضوع لو أريد منه ملاك مستقل للحكومة غير الناظرية ، فيرد عليه : أنه إن فرضت الغاية في الأصل مطلق ما يعتبره الشارع علماً فالدليل الّذي جعل الأمارة علماً يكون وارداً على دليل الأصل لا حاكماً عليه. وإن فرضت الغاية العلم الوجداني الّذي هو المعنى الحقيقي له ، فإن كان دليل جعل الأمارة علماً تعبداً إنما يجعل ذلك استطراقاً إلى ترتيب ما رتب في دليل الأصل على العلم من الأثر العملي ، أصبح ناظراً إلى مفاده ، وإن لم يكن كذلك وإنما دل على مجرد فرض غير العلم واعتباره علماً فهذا لا أثر له ، ولا يثبت به آثار العلم لا بالدليل المحكوم ، لأن الغاية فيه العلم الحقيقي لا الاعتباري ، ولا بالدليل الحاكم ، لأنه لم يدل على ترتيب أثر شرعي وإنما غايته أنه اعتبر ما ليس بعلم علماً ولا قيمة لمجرد هذا الاعتبار.

__________________

(١) نقل مع تصرف من مصباح الأصول ، ص ٣٤٨ ـ ٣٤٩.


٣ ـ أحكام الحكومة :

وبعد أن اتضحت نظرية الحكومة وحقيقتها لا بد وأن نشير إلى أهم أحكامها وهي كما يلي :

١ ـ إن الدليل الحاكم كالتخصيص من حيث أنه إذا كان متصلاً بالكلام يرفع الظهور وإذا كان منفصلاً عنه فيرفع الحجية دون الظهور. وهذا واضح بعد أن عرفنا أن ملاك الحكومة إنما هو القرينية الشخصية ، فإن القرينة كلما اتصلت بذي القرينة كانت صالحة لرفع الظهور وجعل مدلوله على وفق القرينة وإذا انفصلت عنه فتهدم حجيته ، بناء على المصادرة العقلائية المتقدمة القائلة بأن للمتكلم أن يحدد المراد النهائيّ لمدلول كلامه ، وأما ظهوره المنعقد فيبقى على حاله على توضيح وتفصيل تأتي الإشارة إليه في الجمع العرفي والقرينية النوعية.

٢ ـ إن موازين التمسك بالمحكوم عند الشك في الحاكم المنفصل بأقسامه هي نفس موازين التمسك بالعامّ عند الشك في مخصصه المنفصل بأقسامه ، فيجوز التمسك بالمحكوم في باب الحكومة عند ما يجوز التمسك بالعامّ في باب التخصيص ولا يجوز الأول حينما لا يجوز الثاني. كما أن ابتلاء الدليل الحاكم بالإجمال إذا كان متصلاً بالدليل المحكوم كابتلاء المخصص المتصل بذلك من حيث تأثيره على ما اتصل به وسريان الإجمال منه إليه ، والسبب في كل ذلك هو ما تقدم من أن تقديم الدليل الحاكم يكون بملاك القرينية.

٣ ـ إن الدليل الحاكم يتقدم ولو كانت دلالته من أضعف الظهورات على الدليل المحكوم ولو كانت دلالته من أقوى الظهورات ولا يطبق عليهما قانون تقديم أقوى الظهورين ، لأن حجية الظهور في الدليل المحكوم مقيدة ـ بحكم المصادرة المفترضة للحكومة ـ بأن لا يرد تفسير من المتكلم على الخلاف فأي ظهور يدل على ورود ذلك التفسير مهما كان ضعيفاً يستحيل


أن يكون مزاحماً في الحجية مع ظهور الدليل المحكوم فلا تنتهي النوبة إلى تقديم أقوى الظهورين ، وهذا هو السبب في عدم ملاحظ النسبة أو درجة الظهور بين مفاد الدليل الحاكم ومفاد الدليل المحكوم في موارد الحكومة.

٤ ـ بعد أن عرفت أن الحكومة إنما تكون بالنظر فلا بدّ في إثبات أي حكم بالدليل الحاكم رفعاً أو وضعاً من إحراز نظر ذلك الدليل الحاكم إليه.

فلو دل الدليل على أن الطواف بالبيت صلاة ، فالمقدار الّذي يثبت من آثار الصلاة وأحكامها للطواف بهذا الدليل للطواف إنما يكون بمقدار نظر هذا الدليل إلى أحكام الصلاة ، لأن نكتة الحكومة إذا كانت عبارة عن النّظر والتفسير فلا محالة تتحدد بحدوده.

وكذلك الحال في حكومة أدلة نفي الحرج والضرر على أدلة الأحكام الأولية فإنها تحكم على أدلة الأحكام بمقدار إطلاق نظرها إليها لا أكثر وهذا واضح.

٥ ـ إن الحكومة تختص بالأدلة اللفظية ولا معنى لها في الأدلة العقلية واللبية ، لأن الحكومة على ما عرفت لا تكون تصرفاً حقيقياً في الدليل المحكوم ثبوتاً وإنما هي خصوصية النّظر في الدليل الحاكم إلى مفاد الدليل المحكوم والنّظر من شئون الدلالة اللفظية وخصائصها ، سواء كان نظراً تفسيرياً أو تنزيلياً أو بمناسبات الحكم والموضوع. فإن التفسير أسلوب من أساليب التعبير والتنزيل لا واقع له إلاّ في عالم التعبير والاستعمال ، ومناسبات الحكم والموضوع تنشئ ظهوراً في الدليل اللفظي فيصبح ذاك الظهور حجة وليست هي حجة مستقلة ، ولذلك لا يصح إعمالها وتحكيمها في الفقه على الأدلة اللبية كالإجماع ونحوه.


القَرينيّة النوعِيَّة

القرينية معناها : أن تكون هناك إفادتان ودلالتان تكون إحداهما معدة إعداداً عرفياً عاماً لتفسير الدلالة الأخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر. والفرق بين الدليل القرينة والدليل الحاكم أن الدليل الحاكم معد إعداداً شخصياً من قبل المتكلم لتفسير الدليل المحكوم بقرينة نظر المتكلم فيه إلى الدليل المحكوم ، وأما في المقام فالإعداد قد لا يكون بجعل شخصي من قبل المتكلم وإنما يكون بجعل عرفي فهو إعداد نوعي لا شخصي ، ومقتضى عرفية المتكلم متابعته للعرف في ذلك فيثبت بأصالة المتابعة كون المتكلم قد أعد القرينة لتفسير ذي القرينة غير أن إعداده لذلك منكشف بكاشف نوعي لا بكاشف شخصي كما هو الحال في موارد الحكومة.

وإذا اتضح ذلك يتبين : أن ملاك تقدم القرينة على ذي القرينة هو نفس ملاك تقدم الحاكم على المحكوم ، لأن مجرد كون الكاشف عن نكتة التقدم شخصياً أو نوعياً لا يضر بانحفاظها وتأثيرها في عدم سريان المعارضة إلى دليل الحجية. والقرينية لها ثلاث مراتب تبعاً للرتب المتصورة للظهور في نفسه ، فإن الظهور على ثلاث مراحل.

الأولى ـ درجة الظهور التصوري ، وهو الظهور الّذي ينشأ بسبب الوضع والّذي لا يتوقف على أكثر من سماع اللفظ ولو كان من غير ذي شعور على ما


حققناه مفصلاً في أبحاث الوضع.

الثانية ـ درجة الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الاستعمالية ، وهو عبارة عن ظهور حالي في المتكلم يدل على أنه قاصد استعمال اللفظ في معناه وإخطاره إلى ذهن السامع ، ولذلك كان هذا الظهور دلالة تصديقية لا تصورية وبحاجة إلى أن يكون اللفظ صادراً من ذي شعور يتأتى منه الإرادة والقصد.

الثالثة ـ درجة الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الجدية ، الّذي هو عبارة عن ظهور حالي في التكلم أيضا يدل على أنه قاصد لمعنى كلامه جداً وليس بهازل أو ممتحن أو غير ذلك ، حيث أن ظاهر حال كل متكلم ملتفت أن داعيه منه هو الجد وبذلك تكون هذه المرحلة من الظهور دلالة تصديقية أيضا وبحاجة إلى أن يكون اللفظ صادراً عن ذي شعور كما هو الحال في الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الاستعمالية.

ومنشأ هذين الظهورين التصديقيين الحالييّين هو الغلبة الخارجية ، فإن الغالب فيمن يتكلم بكلام أن يكون قاصداً تفهيم معناه للمخاطب لا ناطقاً باللفظ فقط. وجديّاً في إرادته ذلك المعنى لا هازلاً أو ممتحناً أو متقياً.

ولا يبعد أن يكون ملاك هذه الغلبة هو التعهد النوعيّ العقلائي من قبل المتكلم في حالات المحاورة على قصد المعنى وإرادته جداً كلما يتكلم بكلام ، فإن التعهد يمكن أن يكون منشأ للدلالة التصديقية وتفسيراً لها ، وإن لم يكن يصلح لتفسير الدلالة الوضعيّة التصديقية عندنا ، على ما حققناه وشرحناه مفصلا في أبحاث الوضع.

فإذا اتضحت هذه المراحل الثلاث للظهور ، رجعنا إلى القرينية لنرى كيف تتصور في كل من هذه المراحل ، فنقول :

أما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الأولى ، فلكي نفهم ذلك يجب أن نعرف أن الظهور التصوري للكلام تارة : يكون بسبب مفردات الكلام كما في أسد وشجرة وعالم ، وأخرى : يكون متحصلاً من هيئة المفرد أو الجملة ، وثالثة :


يكون بسبب ما نسميه بالسياق أو الهيئة التركيبية لمجموع الكلام ، فإن السياق بهذا المعنى قد يكون له مدلول تصوري وظهور زائد على الظهورات التصورية للمفردات والهيئات فحينما يقال : ( صلّ صلّ ) بنحو التكرار يكون التكرار دالاً على التأكيد ، ودلالته على ذلك تصورية ولهذا تكون محفوظة حتى عند سماع ذلك من لافظ بدون شعور ، فكما أن الدلالة لصلّ محفوظة لو صدرت من لافظ غير ذي شعور كذلك دلالة التكرار ـ الّذي هو لون من السياق ـ على التأكيد محفوظة حتى في هذه الحالة. وهذا يعني أن التأكيد بنحو المدلول التصوري مفهوم من الكلام قبل الوصول إلى مرتبة انتزاع المدلول التصديقي منه. وكذلك الأمر في قولنا ( أسد يرمي ) فإن هذه الجملة تدل على الرّجل الشجاع لا بحسب مرحلة المدلول التصديقي فحسب بل بحسب مرحلة المدلول التصوري أيضا ولهذا لا ينتقش منها في الذهن إلاّ ذلك عند سماعها ولو من لافظ غير ذي شعور ، وهذا يعني أن ضم كلمة ( يرمي ) إلى ( أسد ) أوجد سياقاً غيّر من الظهور التصوري لكلمة ( أسد ) وأنشأ ظهوراً تصورياً آخر في الرّجل الشجاع وهو الّذي يشكل الظهور التصوري الفعلي للكلام ، لأن الصورة التي يبرزها هي التي تستقر في النّفس ، وفي مثل هذه الحالة تكون كلمة ( يرمي ) قرينة بحسب مرحلة الظهور التصوري لأنها أدت إلى إيجاد سياق أوجب تغيير الظهور التصوري وقلبه إلى ظهور آخر.

وأما كيف يتكون للسياق ظهور تصوري بحيث قد يغلب الظهور التصوري الأولي للمفردات ، فهذا يتم بأحد سببين.

الأول ـ أن يكون السياق بنفسه موضوعاً لإفادة صورة معينة ، فكما أن وضع المفرد لمعناه يوجب دلالته التصورية عليه كذلك وضع السياق لمعنى ـ من قبيل وضع التكرار للتأكيد ـ يوجب الدلالة التصورية للسياق على ذلك المعنى.

الثاني ـ أن يكون نتيجة للأنس الذهني ، ففي مثل جملة ( رأيت أسداً


يرمي ) لو لاحظنا الظهورات التصورية لمفردات السياق نجد أن لدينا صورتين على مستوى التصور ، إحداهما صورة مطابقة لما تقتضيه المفردات بطبعها الأول الّذي وضعت له في اللغة وهي صورة حيوان مفترس بين يديه قوس وسهم يرمي بهما ، وصورة أخرى ثانوية تدل عليها المفردات بملاحظة مناسبتها للصورة الأولى وهي صورة رجل شجاع يرمي بالسهم. ورغم أن الأولى هي الصورة التي تتطابق مع المدلول الأولى للمفردات مع ذلك يستقر في الذهن بلا تأمل أو تردد الصورة الثانية لبعد الصورة الأولى عن الذهن وعدم اعتياد الذهن على رؤيتها فتكون هذه الغربة وعدم الأنس الذهني سبباً لخطور الصورة الثانية التي هي المدلول الثانوي المناسب مع الكلام واستقرارها في الذهن. هذا إذا كانت القرينة نصاً في معناها بحيث لم يكن يحتمل التأويل فيها وأما إذا كانت تتحمل التأويل بأن يراد من الرمي في المثال الرمي بالنظر مثلاً ، فمسألة عدم الأنس مع المعنى الحقيقي لمفردات الجملة لا تقتضي إلاّ صرف الذهن عن ذلك المعنى وأما تعيينه في معنى مجازي يكون تصرفاً في معنى اللفظ المتقدم ذكراً أو معنى مجازي يكون تصرفاً في مدلول اللفظ متأخر ، فبحاجة إلى إضافة نكتة زائدة.

وهذه النكتة بالإمكان تصويرها بأحد نحوين :

الأول ـ أن تكون الدلالة التصورية في أحدهما أقوى من دلالتها في الآخر ، فتتغلب عليها في مرحلة إخطار المعنى إلى ذهن المخاطب ، فإن الأقوائية والأظهرية كما تتصور بلحاظ مرحلة الدلالات التصديقية كذلك تتصور بلحاظ مرحلة الدلالة التصورية ، لأن منشأ الدلالة التصورية إنما هو القرن والأنس الحاصل بين اللفظ والمعنى في عالم الذهن ، وهذا له مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، فكلما كان الاقتران بين اللفظ ومعناه آكد كانت الدلالة التصورية أقوى وأظهر.

وهذا التصوير صحيح في نفسه ، لكنه لا يصلح لتفسير كافة موارد


القرينية ، فإن بعضها لا يشترط فيها أن تكون أظهر من ذي القرينة.

الثاني ـ أن الظهور التصوري لكل ما يكون ذيلاً في الكلام وفضلة يتقدم على الظهور التصوري لكل ما يكون متقدماً عليه وركناً من الكلام ، لأن هذا هو المنسجم مع طبيعة دور القرينة ـ وهو النّظر إلى مدلول ذي القرينة في مقام تحديد المراد النهائيّ منه ـ فإن جعل المتقدم ناظراً إلى تحديد المتأخر الّذي لم يذكر بعد ـ وقد لا يكون متعيناً في نظر المتكلم نفسه فضلاً عن السامع ـ خلاف الطبع جداً. وهذا هو الّذي يفسر لنا وقوع القرائن غالباً فضلة في الكلام.

وهذا التصوير صحيح أيضا ، وعلى أساسه يمكن تخريج القرينية حتى في مورد لا يكون فيه ظهور القرينة أقوى من ظهور ذيها.

وهكذا نقصد بالقرينية في مرحلة الظهور التصوري كل ما أوجب سياقاً أعطى للكلام مدلولاً تصوريا يختلف عن المدلول التصوري الّذي يقتضيه الطبع الأولى لمفرداته ، سواء كان إعطاء السياق لذلك على أساس الوضع أو على أساس الأنس الذهني.

وأما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الثانية من الظهور ، أي الظهور التصديقي بلحاظ المراد الاستعمالي ، فهو بأن ينضم إلى الكلام ما يكون معداً لتفسير المراد الاستعمالي منه وتغيير مدلوله التصديقي الاستعمالي ، فإن كان هذا الاعداد ثابتاً بقرينة شخصية من قبل المتكلم كان المفسر واجداً لملاك الحكومة ـ كما إذا قال رأيت أسداً وأعني بذلك الرّجل الشجاع ـ وإن كان الإعداد ثابتاً بكاشف نوعي وجعل عرفي كان المفسر مجرد قرينة وليس حاكماً. وإن كان يتقدم بنفس ملاك تقدم الحاكم كما عرفت سابقاً.

وأما تصور القرينية بلحاظ المرحلة الثالثة من الظهور ، فهو بأن يوجد ما يكون معداً من قبل المتكلم لتفسير المراد التصديقي الجدي من الكلام السابق ، فإن كان معداً من قبل المتكلم لتفسير المراد التصديقي الجدي من


الكلام السابق كان الإعداد مبرزاً بقرينة شخصية فهو حاكم ، وإن كان مبرزاً بقرينة نوعية وهي القرار العرفي فهو مجرد قرينة وليس حاكماً.

ويجب ان يلاحظ هنا : أن القرينية بلحاظ المرحلة الأولى لا تحتاج في إثبات تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة وعدم سريان التعارض إلى دليل الحجية إلى أي مصادرة إضافية وراء كبرى حجية الظهور ، لأن المفروض إفناء ظهور القرينة لظهور ذي القرينة. وإنما نحتاج إلى مصادرة إضافية في تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة في مرحلة المدلول التصديقي بقسميه. والمصادرة هي نكتة تقدم الحاكم على المحكوم ، أي أن ما يعد من قبل المتكلم لتفسير كلامه يكون ظهوره هو المعوّل عليه في فهم مراده النهائيّ ، مضافاً إلى دعوى كون القرينة معداً إعداداً عرفياً لذلك الأمر الّذي يحقق بضم أصالة المتابعة صغرى تلك الكبرى. وهذه المصادرة وإن كانت تشترك مع المصادرة التي نحتاج إليها في القرائن المنفصلة والتي سنوضّحها الآن ، باعتبارهما معاً بملاكات عقلائية عامة ، إلاّ أنها تختلف عنها في أن هذه المصادرة ترجع إلى كيفية تطبيق كبرى حجية الظهور على الدليل لأنها تجري في مرحلة تشخيص أصل الظهور التصديقي في الدليل فلا تتضمن تصرفاً أو تقييداً في كبرى حجية الظهور ، وأما مصادرات القرائن المنفصلة فهي بحسب الحقيقة تضييقات على كبرى حجية الظهور باعتبار انحفاظ صغراها وعدم انثلامها بالقرينة المنفصلة. وأما الفرق بين ما تحتاجه القرينة المنفصلة من مصادرات وما تحتاجه القرينة المتصلة في مرحلة المدلول التصديقي فهو أن الأولى بحاجة إلى توسيع نطاق المصادرة التي تحتاجها الثانية ، وهي أن يقال : أن إعداد البيان الأخص لكي يكون مفسراً لا يختص بفرض الاتصال بل يجري في فرض الانفصال أيضا ، وهذه التوسعة هي التي عبر عنها المحقق النائيني ـ 1 ـ بالقاعدة القائلة : « أن كل ما كان قرينة وهادماً للظهور التصديقي على فرض اتصاله فهو قرينة هادم للحجية على فرض انفصاله » وهذه التوسعة لا تتنافى مع بقاء


أصل الظهور التصديقي إذا كانت القرينة منفصلة ، إذ يوجد في الحقيقة بناء نوعي من العقلاء على عدم الاعتماد في توضيح مرامهم بالكلام على ما ينفصل عنه ، وهذا البناء هو ميزان الظهور التصديقي المحفوظ مع احتمال القرينة المتصلة بل مع الجزم بها أيضا. والتوسعة التي ذكرناها مرجعها إلى بناء طولي من قبل العقلاء حاصله : أنه في حالة الخروج عن مقتضى البناء الأول المشار إليه والاعتماد على المنفصلات فلا بد وأن يكون ذلك بنحو تحكيم القرينة على ذي القرينة.

وفي ضوء هذا التحليل للقرينية ينبغي أن ندرس فيما يلي أنواع الجمع العرفي المعروفة من التقييد والتخصيص والأظهرية.


التقييد

التقييد هو رفع اليد عن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة باعتبار وجود دال على التقييد. وهذا الدال تارة : نفرضه متصلاً ، كما إذا قال ( أكرم الشعراء ولا تكرم فساقهم ) وأخرى : نفرضه منفصلاً ، ففي الصورة الأولى لا يوجد أي تعارض حقيقي بين الدالين لأن معارضة الإطلاق للدال على التقييد فرع تمامية مقدمات الحكمة ووجود دال متصل على التقييد رافع لمقدمات الحكمة فهو وارد على دليلية الدال الآخر على الإطلاق لا على مفاده ، وهو نحو من الورود يغاير الورود المتقدم ، فإن ما تقدم من الورود كان يعني ارتفاع الموضوع لمفاد أحد الدليلين بسبب مفاد الآخر وأما هذا فيعني ارتفاع دليلية أحد الدليلين بسبب دليلية الدليل الآخر. وهذا هو ملاك عدم استحكام التعارض وسرايته إلى دليل الحجية ، إذ لم يبق بعد الورود المذكور دليلان ، بل دليل واحد.

وأما في الصورة الثانية ، فالملاك المتقدم للتقييد في الصورة الأولى لا يجري فيها إلاّ إذا قلنا أن مقدمات الحكمة التي هي منشأ الدلالة الإطلاقية تتوقف على عدم الدليل على التقييد ولو منفصلاً فيكون الدال المنفصل على التقييد وارداً على مقدمات الحكمة وبالتالي على دليلية معارضه. فلا بد من الكلام أو لا في تحقيق ذلك ، ثم الكلام ثانياً على فرض عدم تماميته في نوع المصادرة


الإضافية التي يحتاجها التقييد بالمنفصل لإثبات عدم سراية المعارضة إلى دليل الحجية. فالكلام إذن في أمرين.

الأمر الأول ـ في أن مقدمات الحكمة التي هي منشأ الدلالة الإطلاقية هل تتوقف على عدم الدال على التقييد ولو منفصلاً فيكون المقيد المنفصل وارداً أيضا على دليليتها أم لا؟ الصحيح : أن الدلالة الإطلاقية تتوقف على عدم المقيد المتصل فحسب ، ومجيء المقيد المنفصل لا يرفع الدلالة الإطلاقية وإنما يوجب سقوطها عن الحجية. والبرهان على ذلك : ما نجده من تمامية الدلالة الإطلاقية وانعقادها وصحة التمسك بها بمجرد انتهاء المتكلم من المطلق وعدم نصب قرينة على تقييده ، في حين أن الدلالة الإطلاقية لو كانت متوقفة على عدم القرينة المنفصلة على التقييد أيضا لما أمكن إثبات الإطلاق في مورد ولا نسد باب مقدمات الحكمة ، إذ لا يمكن إحراز شرطه وهو عدم التقييد المنفصل. ولا يتوهم : إمكان إحرازه بأصالة عدم القرينة ، لأن أصالة عدم القرينة إنما تجري فيما إذا كان هناك ظهور في مقام الإثبات يقتضي إفادة معنى واحتمل ورود القرينة على خلافه ففي مثل ذلك تجري أصالة عدم القرينة ، ومرجعها لباً إلى أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عن كشفه النوعيّ لمجرد الاحتمال. وأما في المقام ، فلا يوجد ـ بقطع النّظر عن مقدمات الحكمة ـ أي ظهور يقتضي إفادة الإطلاق.

وإن شئت قلت : إن أصالة عدم القرينة إنما تجري فيما إذا كانت القرينة المنفية بالأصل موجبة لتكذيب ظهور متحقق في مقام الإثبات ، لأن هذا الظهور بنفسه يكون كاشفاً نوعياً عن عدمها ، وأما إذا لم تكن موجبة لذلك فلا كاشف نوعي عن عدمها ولا يجري العقلاء أصالة عدم القرينة فيه لأنهم يجرون هذا الأصل بلحاظ الطريقية والكاشفية لا من باب التعبد الصرف. وهناك محاولة من السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ ذكرها لإثبات تقديم العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي مفادها توقف الدلالة الإطلاقية على عدم


التقييد بالمنفصل في موارد الشك في التقييد ، من دون أن يبتلي المطلق بالإجمال. وهي : أن عدم بيان المقيد الّذي هو جزء من مقدمات الحكمة إنما هو عدم مطلق التقييد سواء كان متصلاً أو منفصلاً ، ولكن لا بأن يكون عدم القرينة المنفصلة المتأخرة شرطاً في انعقاد الإطلاق المتقدم حتى يبتلي المطلق بمحذور الإجمال وعدم إمكان إحراز الإطلاق فيه ، بل بأن يكون الظهور الإطلاقي في كل زمان موقوفاً على عدم بيان القيد إلى ذلك الزمان فعند ما يرد الخطاب المطلق ولا قرينة على التقييد انعقد بذلك ظهور يكشف بالفعل عن الإطلاقي ويبقى هذا الظهور مستمراً ما دام لم يجئ القرينة على التقييد ، فإذا جاءت القرينة ارتفع هذا الظهور لمجيء البيان الكاشف عن أن المراد الجدي كان هو المقيد من أول الأمر (١)

وبهذا التقريب يتفادى محذور الإجمال عند احتمال القرينة المنفصلة فيمكن إحراز الإطلاق ، لأن الظهور الإطلاقي فعلي مع قطع النّظر عن القرينة المحتملة فيكون مكذباً لاحتمال وجود القرينة وكاشفاً عن عدمها.

وقد فرع ـ دام ظله ـ على تصويره للدلالة الإطلاقية بالنحو المذكور نتائج عديدة ، أهمها تقديم العموم على الإطلاق في مقام التعارض باعتبار كون العام بياناً صالحاً لرفع الدلالة الإطلاقية المتوقفة على عدم البيان.

هذا ، والصحيح : عدم تمامية التوجيه المذكور أيضا ، فإنه إذا كان المقصود من ارتفاع الظهور ، وكشف القرينة المنفصلة عن إرادة المقيّد من أول الأمر ، ارتفاع حجيته لا أصل ظهوره وكاشفيته ، فهذا يعني تمامية الدلالة الإطلاقية وعدم توقفها إلاّ على عدم التقييد المتصل فتكون الدلالة الإطلاقية الحكمية كالدلالة الأداتية الوضعيّة من حيث انعقادهما بمجرد انتهاء الكلام وعدم اتصال القرينة على الخلاف ، ولكن هذا عكس المقصود تماماً ولا يكون

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٣٧٧.


وجهاً لتقديم العموم على الإطلاق.

وإن كان المقصود من ارتفاع الظهور الفعلي أن القرينة المنفصلة تهدم الظهور التصديقي للمطلق في إرادة الإطلاق فعندئذ لا يبقى معنى محصل للتقريب المذكور ، إذ المتكلم إما أن يكون ظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام مراده الجدي بشخص خطابه المطلق ، فهذا يعني أن مجرد عدم نصب القرينة متصلاً بالمطلق كاف في انعقاد الظهور التصديقي المذكور ، ولا يكون هذا الظهور مرفوعاً بعد ذلك بمجيء القرينة المنفصلة وإنما ترتفع حجيته كما هو واضح. وإما أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده الجدي من مجموع خطاباته لا خطابه المطلق خاصة. فهذا يعني عدم انعقاد ظهور تصديقي لإرادة الإطلاق من الخطاب المطلق إلاّ بعد ملاحظة مجموع ما صدر أو سوف يصدر من خطابات إذا كان المتكلم ممن يتدرج في مقام بيان مرامه ، فيعود محذور الإجمال عند احتمال وجود المقيد ولو منفصلاً. وليست هناك حالة وسطى بين الحالتين كي يقال مثلاً أننا نفرض أن ظاهر حال المتكلم في كل زمان أن يفصح عن مراده بلحاظ مجموع ما صدر من كلماته إلى ذلك الزمان ، لأن ذلك يعني أن للمتكلم في كل زمان مراداً يختلف عن مراده في الزمان الآخر باختلاف ما صدر منه ، وهذا خلف ، إذ المفروض أن هناك حكماً واقعياً واحداً يكشف المخصص متى جاء عن حدوده وقيوده من أول الأمر.

هذا ، مضافاً إلى أن هذا التقريب يرد في حقه تساؤل آخر حاصله : أن الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكل زمان هل هو وصول البيان أو يكفي وجوده الواقعي ولو لم يصل. أما الأول فلا معنى لادعائه لوضوح أن خصوصية الوصول غير دخيلة في تكوين الظهورات بل في الحجية والتنجيز والتعذير فحسب.

وأما الثاني فيلزم منه الإجمال في كل زمان احتملنا فيه وجود بيان على التقييد ، إذ على تقدير وجوده واقعاً يكون الإطلاق مرتفعاً في ذلك الزمان ،


ولا يمكن التمسك فيه بأصالة عدم القرينة لنفي هذا الاحتمال لأنها فرع وجود كاشف فعلي عن الإطلاق كما تقدمت الإشارة إليه.

الأمر الثاني ـ فيما يمكن أن يكون أساساً لتقديم المقيدات المنفصلة. والصحيح أن ما يمكن أن يكون أساساً لذلك هو القرينية بوصفها ملاكاً للجمع العرفي على ما تقدم توضيحه. وعلى هذا الأساس نقول : أن تقديم المقيد على المطلق بملاك القرينية بعد فرض انعقاد الظهور الإطلاقي في المطلق بالفعل يتوقف على دعوى قرينيته بلحاظ المرحلة الثالثة من الظهور بأن يقال ، ان البيان المخالف الأخص موضوعاً معد عرفاً لتفسير الأعم ولو كان منفصلاً عنه. وهكذا نرى : أن إثبات تقدم المقيد المنفصل على المطلق وعدم سريان التعارض بينهما إلى دليل الحجية موقوف على التسليم كبروياً بنكتة تقدم الحاكم على المحكوم وأن ظهور ما يعده المتكلم لتفسير كلامه يكون هو المحدد النهائيّ لمدلول مجموع كلماته ، وضم مصادرة أخرى تثبت صغرى هذه النكتة ، وهي وجود كاشف نوعي عن إعداد المتكلم للبيان المخالف الأخص موضوعاً لتفسير الأعم ، والكاشف النوعيّ هو بناء العرف على ذلك ، وأصالة تبعية المتكلم للبناءات العرفية في مجال المحاورة.


التخصيص

التخصيص عبارة عن رفع اليد عن الإطلاق الثابت بالوضع وأدوات العموم باعتبار وجود دال على التخصيص ، والدال على التخصيص تارة يكون متصلاً بالعامّ وأخرى يكون منفصلاً عنه ، فالبحث يقع في مقامين.

المقام الأول ـ في التخصيص بالمتصل : وهو ما إذا كان الدال على التخصيص متصلاً بالعامّ. ولا إشكال في تقديم المخصص المتصل على العام وإنما يقع البحث عنه في الجواب على السؤالين التاليين.

الأول ـ ما هو التخريج الفني لملاك تقديم الخاصّ المتصل على العام.

الثاني ـ ما يبحث عنه عادة في مباحث العام والخاصّ ، من أن العام كيف صح أن يكون حجة في تمام الباقي مع أن نسبته إليه أو غيره من مقادير الأفراد غير المخصصة على حد سواء.

ولتوضيح الجواب على هذين السؤالين لا بد من استعراض أقسام التخصيص بالمتصل ، فإنه يقع بأحد أنحاء ثلاثة. وهي تختلف في النكات والخصوصيات التي على أساسها يمكن أن يصاغ الملاك الفني للتقديم.

القسم الأول ـ التخصيص بالمتصل الّذي يكون مدخولاً لأداة العموم ، كما هو الحال في التخصيص بالوصف وشبهه من قبيل ( أكرم كل عالم عادل ).


وفي هذا القسم من التخصيص لا نواجه بحسب الحقيقة أي تعارض أو تناف بين الدال على العموم والدال على التخصيص ، لا بلحاظ مرحلة المدلول التصوري ولا بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي. لأن أدوات العموم موضوعة للدلالة على عموم أفراد مجموع ما يقع مدخولاً لها لا خصوص ما يتعقبها ويتصل بها من العناوين. وهذا يعني أن التقييد بالوصف يتم في مرحلة سابقة على العموم ويكون العموم طارئاً على العنوان المقيد من أول الأمر.

وعلى هذا الأساس يتضح : أنه لا موضوع في هذا القسم من التخصيص بالمتصل للسؤالين المطروحين آنفاً إذ لم تنعقد دلالتان فعليتان إحداهما في العموم ، والأخرى في الخصوص ويراد تقديم إحداهما على الأخرى كي يفتش عن ملاك للتقديم.

كما أن العام إنما كان حجة في تمام الباقي في هذا القسم باعتبار أن عمومه لم يخصص ولم يقتطع منه شيء أصلاً وإنما انصب العموم من أول الأمر على العنوان المقيد ، فيكون الباقي هو تمام العام.

القسم الثاني ـ التخصيص بالاستثناء ، من قبيل ( أكرم كل الشعراء إلا الفساق ) وفي هذا القسم من التخصيص المتصل تكون الدلالة على العموم منعقدة في نفسها لاكتمال مدخول الأداة قبل الاستثناء لعدم كون الاستثناء جزءً من مدخولها وإنما هو نظير قولنا ( أكرم هؤلاء العشرة إلاّ زيداً ) من حيث انعقاد الدلالة على العشرة في نفسها ولكنه قد اقتطع منها المستثنى.

والتحقيق في هذا القسم : أنه يوجد فيه ثلاث دلالات. إحداها : دلالة الأداة على العموم. والثانية : دلالة أداة الاستثناء على الاقتطاع وعدم شمول حكم المستثنى منه للمستثنى. والثالثة : دلالة الحالة السياقية المتحصلة من العام المتعقب بالاستثناء على العموم المقتطع منه بمقدار الخاصّ المستثنى. وهذه الدلالة هي التي تستقر في الذهن أخيراً ، فإن للحالة السياقية تأثيراً في تكوين الظهور


التصوري للكلام على ما تقدم شرحه سابقاً.

والدليل على ما ندعيه : ما يشهد به الوجدان من انسباق المدلول المذكور إلى الذهن من مجرد سماع اللفظ ولو لم يكن من متكلم ذي شعور ، ولا يكون ذلك إلاّ على أساس تأثير الحالة السياقية في المدلول التصوري للكلام بقطع النّظر عن مدلوله التصديقي والإرادة التصديقية من ورائه.

وبهذا يتضح : أنه في هذا القسم ولو كان يوجد بحسب ما هو المدلول الأولي للكلام دلالتان متنافيتان تدل إحداهما على العموم ، والأخرى على الخصوص ، إلاّ أنه مع ذلك لا يوجد تعارض حقيقي بين الدليلين ، لأن دليلية الدليل إنما تكون بدلالته النهائيّة المستقرة ، والدلالتان المذكورتان ليستا كذلك لأنهما تندمجان في الدلالة الثالثة السياقية التي هي الدلالة المستقرة من مجموع الكلام. ومنه يظهر الجواب على السؤالين المطروحين في مستهل البحث ، فإننا أيضا لا نواجه في هذا القسم من التخصيص دلالتين مستقرتين متنافيتين كي يتساءل عن وجه تقديم إحداهما على الأخرى ، ووجه حجية العام بعد تقديم الخاصّ عليه في تمام الباقي ، وإنما هي دلالة واحدة على العام المقتطع منه بمقدار الخاصّ فتكون هي موضوع حجية الظهور. وقد تقدم في بحث القرينية أن ما هو قرينة بلحاظ مرحلة الظهور التصوري وما يوجب سياقاً يعطي للكلام مدلولاً تصورياً يختلف عن مدلوله التصوري الأولي لا نحتاج في إثبات تقديم ظهورها ـ وهو الخاصّ في المقام ـ على ظهور ذي القرينة ـ وهو العام ـ وعدم سريان التعارض منهما إلى دليل الحجية إلى أي مصادرة إضافية زائداً على حجية الظهور.

القسم الثالث ـ التخصيص بما لا يكون قيداً لمدخول أداة العموم ولا تكملة للجملة الدالة عليه كالاستثناء ، وإنما يكون جملة مستقلة تعقبت العام ودلت على خلاف حكمه في موضوع تكون نسبته المنطقية إلى موضوع العام العموم والخصوص المطلق من قبيل ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم الفقيه ).


وللإجابة على السؤالين السابقين في هذا القسم من التخصيص يمكن أن تذكر عدة محاولات :

المحاولة الأولى ـ دعوى تعميم النكتة التي ذكرناها في القسم السابق من التخصيص بالمتصل إلى هذا القسم بتقريب : أن الجملتين المتعاقبتين وإن كان لكل منهما بحسب طبعهما الأولي مدلولاً تصورياً ينافي الآخر إلاّ أن سياق التعاقب بين جملتين متنافيتين تكون نسبة موضوع إحداهما إلى موضوع الأخرى العموم والخصوص المطلق يعطي للكلام ظهوراً تصورياً ثالثاً هو العام المقتطع منه بمقدار الخاصّ فيكون هو المدلول التصوري النهائيّ للكلام.

وعلى أساس هذه المحاولة سوف لن نحتاج أيضا في إثبات تقديم الخاصّ على العام وعدم سريان التعارض إلى دليل الحجية إلى مصادرة إضافية زائداً على حجية الظهور ، بل يكون حكم هذا القسم هو حكم القسم السابق ، وصيغة الإجابة على السؤالين فيه نفس تلك الصيغة المتقدمة.

إلاّ أن هذه المحاولة مما لا يمكن المساعدة عليها ، لأن هذا الظهور التصوري الثالث إنما يكون بأحد منشأين. الوضع أو الغرابة وعدم أنس الذهن للمعنى الأولي ـ على ما تقدم شرحه في بحث القرينية ـ والأول من هذين المنشأين عهدة ادعائه في المقام على مدعيها ، إذ لم يثبت أن سياق التقارن بين جملتين إحداهما أعم من الأخرى موضوع لغة لمدلول تصوري ثالث. والثاني منهما أيضا لا ينطبق في المقام ، لأن الحديث في هذا القسم عن جملتين مستقلتين يوجد بينهما التناقض المنطقي ، وواضح أن عدم التناقض من شئون مرحلة المدلول التصديقي لا التصوري فلا يكون منشأ للتأثير في المداليل التصورية.

ومما ينبه الوجدان العرفي على عدم وجود مثل هذه الدلالة التصورية الثالثة هو أنا لو سمعنا الجملتين من لافظ غير ذي شعور لم نكن نتصور أكثر من


معنيين متناقضين منطقياً في حين أن الدلالات السياقية التصورية لا يفرق فيها بين سماع اللفظ من ذي شعور أو غير ذي شعور.

المحاولة الثانية ـ وتبتني على ما ذهب إليه المحقق النائيني ـ قده ـ في بحث العام والخاصّ من أن أدوات العموم تدل على عموم ما يراد من مدخوله لا ما وضع له مدخوله ، فإنه بناء على أساس هذا المبنى سوف تكون دلالة الأداة على العموم في طول الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة التي تحدد ما يراد من مدخوله. ويكون كل ما يمنع عن جريان مقدمات الحكمة لإثبات إطلاق مدخول الأداة رافعاً لموضوع دلالتها على العموم ، ومن الواضح أن الخاصّ المتعقب للعام صالح لأن يكون بياناً مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة بمقداره وإن لم يكن جزءً من مدخول الأداة فيرتفع موضوع العموم ولا ينعقد من أول الأمر إلاّ بمقدار الباقي الّذي قد تمت فيه مقدمات الحكمة.

وعلى أساس هذه المحاولة سوف يكون الموقف من السؤالين المطروحين في أول البحث نفس الموقف الّذي كنا نقفه في القسم الأول من التخصيص بالمتصل وهو الخاصّ الّذي يكون جزءً من مدخول الأداة ، إذ هما يشتركان في ورود التقييد في المرتبة السابقة على العموم وعدم انعقاد العموم إلاّ بمقدار المقيد فلا تعارض بين عام وخاص كي يتساءل عن وجه تقديم الخاصّ أو وجه حجية العام المخصص في تمام الباقي كما هو واضح.

وقد يناقش في هذا الأصل الموضوعي الّذي تبتني عليه هذه المحاولة بلزوم لغوية وضع أدوات العموم إذا فرض أن دلالتها على ذلك في طول إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة.

غير أن هذا النقاش يكفي في مقام رده أن يقال : بأن الثمرة المطلوبة لتصحيح الوضع واللغة لا يشترط فيها أن تكون ثمرة فقهية أو أصولية وإنما يشترط فيها أن تكون ثمرة بحسب اللغة وعالم معاني الألفاظ ، بأن تكون هنالك صورة جديدة من المعنى يحققها الوضع الجديد للفظ وهذا محفوظ في المقام


باعتبار أن المعنى المتحصل ببركة أدوات العموم ، وهو سريان الحكم إلى كل فرد فرد من ذلك العنوان العام ، لم يكن يمكن تحصيله بالإطلاق ومقدمات الحكمة فإنها لا تفي إلاّ بإثبات الحكم على الطبيعة دون الأفراد.

والصحيح في إبطال هذا المسلك أن يقال : بأنه خلط بين الدلالة التّصورية والدلالة التصديقية. إذ ما ذا يقصد بالمراد في القول بأن أداة العموم وضعت لتدل على العموم بلحاظ ما يراد من مدخولها؟ فهل يقصد مفهوم المراد أو يقصد واقع المراد؟ لا مجال لتوهم الأول إذ من الواضح عدم تبادر مفهوم المراد إلى الذهن من العام. والثاني مدلول تصديقي وليس مدلولاً تصورياً فلا يمكن أن يكون هو مدلول الأداة لأن المداليل اللفظية الوضعيّة تصورية وليست تصديقية ، على ما حققناه مفصلاً في مباحث الوضع. فلو كانت أدوات العموم غير موضوعة لعموم ما يصدق عليه العنوان المدخول عليه الأداة لزم أن لا يكون لها مدلول تصوري ولا ينتقش في الذهن شيء عند سماعها من لافظ غير ذي شعور كالجدار مثلاً وهذا واضح الفساد ، إذ لا شك في أننا حينما نسمع العام من لافظ غير ذي شعور ننتقل إلى معنى العموم أيضا.

هذا ، مضافاً إلى أن الالتزام بهذا المسالك لا يكفي في تصحيح هذه المحاولة للإجابة على كلا السؤالين السابقين في جميع الحالات ، بل يبقى السؤال عن وجه تقديم الخاصّ على العام قائماً فيما إذا فرض أن دلالة الخاصّ كانت أيضا بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، كما إذا افترضنا ان دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالإطلاق وورد ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم الفقيه ) فإنه في مثل ذلك كما يمكن جعل الخاصّ رافعاً للإطلاق ومقدمات الحكمة من العام كذلك يمكن اعتبار العام رافعاً للإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية في صيغة الأمر فيحمل على الاستحباب.

المحاولة الثالثة ـ دعوى أن الخاصّ المتعقب للعام إنما يتقدم عليه باعتبار


الأظهرية وأقوائية دلالته من دلالة العام ، فينطبق عليه قانون تقديم الأظهر على الظاهر وتقديم أقوى الدلالتين على أضعفهما.

وهذه المحاولة فيها نقطتان من الضعف.

الأولى ـ أنها لا تتمكن من تفسير تقدم الخاصّ على العام في مورد أظهرية دلالة العام من دلالة الخاصّ ، كما لو قال ( لا يجب إكرام أي عالم ، وأكرم النحوي ) وبنينا على أن دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي تكون أضعف من دلالة الأداة على العموم ، فلا بد وأن يحمل الأمر في الخاصّ على الاستحباب حينئذ ، لأقوائية دلالة العام اللفظية على إطلاق صيغة الأمر الحكمي. فلما ذا يحمل العام على مَن عدا النحويين ويخصص الأقوى بالأضعف والأظهر بالظاهر؟

الثانية ـ إن هذا التفسير لو تم فإنما يعالج المشكلة الأولى في السؤالين المتقدمين. وأما المشكلة الثانية المرتبطة بالسؤال عن وجه بقاء العام حجة في تمام الباقي فلا تعالج بهذا التفسير. ولذلك التجأ أصحاب هذه المحاولة في علاج هذه المشكلة إلى بيان آخر ، وهو دعوى : التبعيض في الدلالات من حيث الحجية. حيث أن العام كان يدل على إرادة تمام أفراده فكل فرد منها كان مراداً ضمناً وعند ما تسقط إرادة بعض الأفراد بالتخصيص لا موجب لسقوط الباقي بل يبقى العام حجة في دلالاتها التضمنية الأخرى.

وقد نسب هذا البيان إلى الشيخ الأعظم ـ قده ـ مع حمل كلامه على إرادة مرحلة الدلالة الاستعمالية التي تكون على وزان المدلول التصوري للكلام. ومن ثم أشكلوا عليه : بأن الدلالة الاستعمالية هي الدلالة على إرادة إخطار المعنى الموضوع له اللفظ في ذهن السامع ، فإذا لم يرد العموم فقد استعمل اللفظ في غير ما وضع له رأساً. ومن هنا طبق المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ والسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ هذا البيان على مرحلة الدلالة التصديقية الثانية


للكلام ، بتقريب : ان هناك دلالات جدية بعدد الأفراد ، فكل فرد يشمله العموم يكون ظاهر حال المتكلم دخوله في مراده الجدي ، فإذا سقط بعض تلك الدلالات فلا وجه لسقوط الباقي.

إلاّ أن هذا البيان أيضا لا يتم في العام المجموعي ولو فرض تماميته في العام الاستغراقي ـ كما أشرنا إلى ذلك في أحد تنبيهات الاستصحاب ـ إذ لا توجد في العام المجموعي دلالات تصديقية عديدة بعدد أفراد العام ، بل هناك دلالة تصديقية واحدة على إرادة المجموع كموضوع واحد ذي حكم واحد ، في حين أن مبنى حجية العام في تمام الباقي لا يفرق فيه بين العام المجموعي والعام الاستغراقي.

المحاولة الرابعة ـ ما ذكره المحقق النائيني ـ قده ـ من تقدم الخاصّ على العام بملاك القرينية ، وقد تقدم في بحث القرينية ، أن القرينة هي الدلالة المعدة إعداداً نوعياً لتفسير دلالة أخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر ، وقد ذكرنا أن ذلك تارة يكون بلحاظ المرحلة التصورية من الدلالة وأخرى بلحاظ المرحلة التصديقية الاستعمالية أو الجدية.

فإن أريدت القرينية بلحاظ مرحلة الدلالة التصورية ، وأن الخاصّ الّذي يتعقب العام يشكل سياقاً يعطي الكلام مدلولاً تصورياً ثالثاً يتحصل من المزج بين الدلالتين الأوليين ، فهذا رجوع إلى المحاولة الأولى التي تقدم بيانها وبيان ما يتفرع عليها ، والظاهر أن أصحاب هذه المحاولة لا يقصدون القرينية بلحاظ هذه المرحلة. وإن أريدت القرينية بلحاظ الدلالة التصديقية ، وأن الخاصّ المتعقب يكون مفسراً للمدلول التصديقي الاستعمالي من العام ، فملاك تقديم الخاصّ المتصل على العام سوف يكون نفس ملاك تقدم الحاكم ، مع فارق أن الحاكم يثبت بإعداد شخصي ، والقرينة تكون إعداداً نوعياً عاماً ، ولذلك كان لا بد من افتراض وجود قرار نوعي على إعداد الخاصّ عرفاً لتفسير


المدلول التصديقي من العام ، الأمر الّذي يحقق بضم أصالة المتابعة صغرى نكتة الحكومة وأن ما يعد من قبل المتكلم لتفسير كلامه يكون ظهوره هو المعول عليه في فهم مراده ، كما شرحنا ذلك مفصلاً في بحث القرينية.

وهذا التخريج لتقدم الخاصّ على العام تام.

وأما حجية العام في تمام الباقي فقد لجأ أصحاب هذه المحاولة إلى تخريجها على أساس التكملة التي مضت في المحاولة السابقة. والتي تقدم أنها لا تفي بحل الأشكال في العام المجموعي.

والصحيح أنه يمكن تخريج حجية العام في تمام الباقي على أساس المحاولة نفسها فإن نكتة التقديم التي ذكرت فيها وهي كون الخاصّ قرينة نوعية على خلاف العموم لا تختص بالجانب السلبي من القرينية ، وهو إخراج مقدار مدلول الخاصّ عن العام فحسب ، بل الخاصّ معد عرفاً للقرينية بأصله على الجانب السلبي وهو إخراج مقدار الخاصّ وبحدّه على الجانب الإيجابي وهو كون الباقي بتمامه داخلاً تحت العموم ، أي كونه محدداً للعام ومفسراً للمراد منه كما هو الحال في الحاكم تماماً إلاّ من ناحية كون الاعداد نوعياً في القرينية وشخصياً في الحكومة ، على ما تقدم توضيحه في بحث القرينية.

وإن شئت قلت : إن مخالفة العام المجموعي بعدم إرادة شيء من أفراده أشد عناية وأكثر مخالفة في مقام المحاورة من إرادة البعض فيكون مقتضى الأصل عدم المخالفة الزائدة. وبهذا نثبت حجية الدلالات الارتباطية إذا كانت تضمنية على ما سوف يأتي الحديث عنه عند البحث عن مسألة التبعية بين الدلالة المطابقية والالتزامية في الحجية.

المقام الثاني ـ في التخصيص بالمنفصل ، وهو ما إذا كان الدال على التخصيص في خطاب منفصل عن خطاب العام.

وهنا لا تفيد المحاولات المتقدمة في التخصيص المتصل لإثبات تقديم


الخاصّ على العام ما لم تضف إليها مصادرة جديدة زائداً على المصادرات المتقدمة.

نعم ، تستثنى من تلك المحاولات المحاولة الثانية التي كانت تبتني على الرّأي القائل بأن أدوات العموم وضعت لعموم ما يراد من مدخوله ، بحيث كان لا بد من تحديد المراد في المرتبة السابقة بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإن هذه المحاولة لو ضممنا إليها الرّأي القائل بأن الإطلاق يتوقف على عدم البيان المتصل والمنفصل معاً كانت وافية لتخريج نظرية التخصيص المنفصل ، ولكنه قد تقدم في نظرية التقييد أن عدم البيان الّذي هو إحدى مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق يراد به عدم البيان المتصل بالخصوص.

كما أن المحاولة الثالثة القائلة بتقديم الخاصّ المتصل لكونه أظهر وأقوى دلالة لو أريد منها التقدم في الحجية مع انعقاد كلا الظهورين ذاتاً لجرت في المقام أيضا. وأما لو أريد منها تقدم مقتضى الظهور الأقوى على مقتضى الظهور الأضعف في مقام التأثير لإيجاد الظهور النهائيّ الكاشف عن المراد ـ كما هو المنسجم مع القاعدة المشهورة القائلة بأن المخصص المتصل يهدم أصل الظهور في العام والمخصص المنفصل يهدم حجية ـ فهذه نكتة مختصة بالمخصص المتصل ولا يمكن تعميمها إلى المخصص المنفصل من دون افتراض مصادرة إضافية.

والمصادرة الإضافية التي تحتاجها نظرية التخصيص بالمنفصل يمكن توضيحها بافتراض إحدى الحالات التالية.

الحالة الأولى ـ أن يكون المخصص رغم انفصاله عن العام بحسب السماع وتعاقب الألفاظ متصلاً به بحسب عالم اقتناص المراد وفهمه من الكلام ، من قبيل ما إذا أخذه السعال إلى فترة في أثناء كلامه أو غشي عليه ثم بعد ارتفاع السعال أو الغشوة أتم كلامه وذكر الخاصّ ، فإنه بحسب النظام العرفي في المحاورة


لا إشكال في اعتبار هذا الخاصّ متصلاً بالعامّ والفاصل الزمني الواقع بينه وبين العام ملغى في مقام اقتناص المراد. ولذلك لا يقتنص السامع مراد المتكلم بمجرد سماعه لذلك العام بدعوى أنه لم يوصل به مخصصاً وإنما ينتظر إلى أن يفيق ليرى ما ذا يعقب عليه.

ويلحق بهذا ما لو لم يأخذه مانع قهري ولكنه كان هناك شاهد حال أو مقال يشهد بأن له كلاماً واحداً يذكره بشكل متقطع ، كالأستاذ المحاضر في موضوع واحد خلال أيام عديدة ، فإذا ثبت من حال المتكلم أو مقاله أنه سنخ شخص على خلاف النظام العام للمحاورة يتدرج في مقام بيان تمام مراده يقطع الكلام الواحد ويذكر العام في وقت والخاصّ في وقت آخر ، فإنه حينئذ يكون الخاصّ المنفصل متصلاً في كلام هذا الشخص من حيث كشفه عن المدلول التصديقي وإن لم يكن متصلاً بلحاظ المدلول التصوري.

وفي هذه الحالة لا نحتاج إلى مصادرة إضافية زائداً على ما تقدم في التخصيص المتصل إلاّ أنه باعتبار مخالفة هذا التقطيع مع الوضع العرفي والاعتيادي في مقام المحاورة يحتاج إلى وجود ما ينص على أن المتكلم يخالف العرف في الوضع الاعتيادي المذكور وأنه يلغي الفواصل الزمنية عن التأثير في افتراض الكلام مكتملاً وصالحاً لاقتناص المراد منه.

الحالة الثانية ـ أن يرد تعبد من المتكلم على إعطاء حكم الاتصال للظهورات المنفصلة وترتيب آثاره الشرعية عليها رغم كونه غير متصل حقيقة ، وهذا إنما يعقل في حق المتكلم المشرع ، وهو أيضا لا يحتاج إلى مزيد مصادرة وعناية غير ثبوت أصل هذا التعبد والتزيل.

الحالة الثالثة ـ ما إذا لم يفترض شيء مما سبق في الحالات السابقة ، ويحتاج تقديم الخاصّ على العام في ذلك إلى افتراض مصادرة جديدة هي توسيع لنطاق المصادرة التي كنا نحتاج إليها في بعض أقسام التخصيص المتصل ، وذلك بأن


يقال : إن إعداد البيان الأخص لكي يكون مفسراً لما هو المراد من العام لا يختص بفرض الاتصال بل يجري في فرض الانفصال أيضا. وبعبارة أخرى : أن الأمر دائر بين أن يكون المتكلم قد جعل كلامه الخاصّ قرينة على مراده من العام أو بالعكس بعد أن صدر منه مخالفة الفصل بين القرينة وذي القرينة على أي حال ، وهذا وإن لم يكن بالدقة من الدوران بين الأقل والأكثر في المئونة والمخالفة لأن ما هو القرينة إنما هو الخاصّ المتصل والمفروض عدم الانفصال فسواء أريد جعل الخاصّ المنفصل قرينة على العام أو العكس فليس هنالك أكثر من مخالفة واحدة. إلاّ أنه مع ذلك كأن في الثاني مزيد مئونة ومخالفة بحيث تكون بمثابة مخالفتين في التكلف والعناية ، فتكون منفية بأصالة عدم المخالفة الزائدة.

وهذه التوسعة هي المعبر عنها في كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ والتي أرسلها كأصل مسلم به ، من أن كلما كان على فرض اتصاله قرينة هادمة للظهور كان في فرض الانفصال قرينة هادمة للحجية.

وهكذا يتضح : أن التخصيص بالمنفصل لا بد من تخريجه على أساس إحدى هذه الحالات ولا أثر في المقام للبحث عن أن النصوص الشرعية من أي قسم منها وإن كان يترتب على تعيين ذلك بعض الفوارق والآثار المرتبطة ببحث حجية الظهور من مباحث علم الأصول.


الأظهَرُ والظاهِر

ويعني بهما في المقام الدلالتان المتنافيتان اللتان تمتاز إحداهما على الأخرى بالأقوائية أو الصراحة. وهما أيضا تارة : يكونان متصلين في كلام واحد ، وأخرى : يكونان في كلامين منفصلين. وقد ذهبوا إلى تقديم الأظهر على الظاهر في كلا القسمين.

أما القسم الأول ، أي المتصلان ، فقد ذهبوا فيه إلى أن الأظهر يهدم ظهور الظاهر. ويمكن تخريج ذلك فنياً بأحد وجوه.

الأول ـ افتراض وقوع التزاحم بين المقتضيين للظهور التصوري من كل منهما في مقام التأثير لتعيين الصورة النهائيّة المستقرة في الذهن من اللفظ فيتغلب المقتضي الأقوى في مقام التأثير الّذي يتمثل في الأظهر بحسب الفرض ، فيكون المدلول التصوري المستقر من اللفظ على وفق الأظهر. فمثلاً قولنا ( رأيت أسداً يرمي ) يتزاحم فيه مقتضيان تصوريان أحدهما ما يقتضيه ( أسد ) من إعطاء صورة الحيوان لا الرّجل الشجاع ، وما يقتضيه ( يرمي ) من إعطاء صورة الرمي بالنبل لا بالنظر. وبعد غرابة إرادة المعنيين معاً على الذهن وعدم تقبله لصورة حيوان مفترس يرمي بالنبل ، فلا محالة يقع التزاحم بين المقتضيين المذكورين ويتغلب أقواهما لا محالة في تثبيت الصورة النهائيّة من بين الصورتين الحيوان المفترس الّذي يرمي بنظره ، والرّجل الشجاع الّذي يرمي بقوسه ـ على


ما تقدم شرحه في بحث القرينية بلحاظ المدلول التصوري ـ وهذا التطبيق وإن كان في مدلولي الكلمتين المستعملتين في الجملة الواحدة فهو تحليل للاستعمالات المجازية إلاّ أن نفس الفكرة ربما يدعى تطبيقها على موارد الظاهر والأظهر اللذان يكونان جملتين مستقلتين ، وبناء عليه ، لا يحتاج في تقديم الأظهر إلى أي مئونة أو مصادرة زائدا على كبرى حجية الظهور كما هو واضح.

إلاّ أن هذا الوجه مما لا يمكن المساعدة عليه ، لما تقدم في بحث التخصيص من أن القرينية بلحاظ مرحلة المدلول التصوري اما يكون بالوضع أو بالمناسبة ، وكلاهما لا يتم في الجملتين المستقلتين كما هو في الظاهر والأظهر.

الثاني ـ أن لا يقع تزاحم بين مقتضي الظهورين التصورين ، كما إذا فرض أنه لا يصعب على الذهن أن يتصور مدلوليهما معاً ، كما لو قال ( أكرم العلماء ، ولا بأس بترك إكرامهم ) فإن معنى الجملتين معاً ينطبع في الذهن على حد سواء ، غير أنه لا يمكن التصديق بإرادتهما معاً فيكون التزاحم بلحاظ مرحلة الظهور التصديقي. هنالك يقال : بأن الظهور التصديقي ينعقد على طبق ما يكون ظهوره التصوري أقوى وآكد ـ سواء كان منشأ الظهورات التصديقية هو الغلبة النوعية ، على أساس أن الغالب للمتكلم أن يقصد مدلول كلامه جداً ، أو التعهد النوعيّ من قبل المتكلم بأنه متى ما يأتي بكلام له معنى تصوري فهو قاصد له جداً وتكون الغلبة في طول هذا التعهد بنكتة أن الغالب فيمن يتعهد بشيء أن يفي بتعهده ـ إذ يمكن أن يقال بناء على الاتجاه الأول : بأن هناك تعهداً آخر على أن المتكلم كلما جاء بكلامين أحدهما أقوى وآكد في مدلوله التصوري يكون مقصوده على طبق الأظهر دون الظاهر. وبهذا يرجع هذا التقريب بحسب روحه إلى التقريب الآتي القائم على أساس القرينية. أو يقال : بوجود غلبة نوعية ابتداء في أن المتكلم المتعهد بإرادة المعنى من كلامه جداً يكون قاصداً للمعنى الأظهر في موارد صدور كلامين مختلفين منه ،


وبذلك ينعقد الظهور التصديقي النهائيّ على طبق الأظهر. فإن غلبة مطابقة المراد مع المدلول التصوري تشتد وتتأكد باشتداد الظهور في المدلول التصوري إذ كلما كان الظهور التصوري أقوى كانت غلبة إرادته وعدم إرادة خلافه أكثر وكذلك يقال بناءً على الاتجاه الثاني.

وبناء على هذا التخريج سوف لن نحتاج في تقديم الأظهر إلى أي مصادرة إضافية زائداً على كبرى حجية الظهور لأن الظاهر وإن كان محفوظاً في مرحلة الظهور التصوري إلاّ أنه في مرحلة الظهور التصديقي الّذي هو موضوع الحجية لا يوجد إلاّ ظهور واحد على وفق الأظهر كما هو واضح.

الثالث ـ تطبيق ما مضى في التخصيص من مصادرة القرينية بلحاظ المدلول التصديقي بالنحو المتقدم شرحه ، غاية الأمر لا بد وأن يفترض أن هذه القرينية في طول القرائن الأخرى كالتخصيص والتقيد والحكومة فلا تصل النوبة إليها إلاّ حيث لا يمكن علاج التعارض على أساس تلك القرائن. هذا كله في القسم الأول.

وأما القسم الثاني ، وهو ما إذا كان الظاهر والأظهر منفصلين فقد ذهبوا فيه إلى تقديم الأظهر على الظاهر في الحجية إلاّ أن شيئاً من الوجوه الثلاثة المتقدمة لا يتم فيه ، لأنها جميعاً موقوفة على انعقاد الدلالة التصورية أو التصديقية على خلاف الظاهر وهي لا تنعقد بالمنفصلات ، فنحتاج على هذا الأساس في إثبات تقديم الأظهر على الظاهر المنفصلين إلى مصادرة إضافية زائداً على ما تقدم في المتصلين وذلك بتعميم إحدى الحالات الثلاث التي ذكرناها لتخريج التخصيص بالمنفصل إلى الظاهر والأظهر أيضا.

إلاّ أن قاعدة تقديم الأظهر على الظاهر ـ سواء في المتصلين أو المنفصلين ـ إنما يمكن إعمالها فيما إذا كانت الأظهرية أو النصوصية في مرحلة الدلالة


بحسب ما يكتنف بالكلام من ملابسات وقرائن ، ولا تكفي النصوصية المتولّدة من مجرد علم خارجي يحصل صدفة ، كما ذا انتفى من الخارج احتمال في أحدهما موجود في الآخر. والوجه في ذلك واضح على ضوء ما تقدم ، فإن ملاك هذا التقديم إما القرينية أو التزاحم بين المقتضيين في مقام التأثير وكلاهما يختصان بما إذا كان الخطاب بما له من درجة الكشف والظهور قرينة أو أقوى اقتضاء من الآخر.

ثم أنه يمكن أن يخرج على أساس هذه القاعدة الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل ما يوافق منهما للعامة على التقية كجمع عرفي في حالات التعارض. وذلك بتطبيق الأظهرية أو النصوصية على مرحلة الظهور التصديقي من الدليلين المتعارضين فيما إذا أوجبت الموافقة أو المخالفة مع مجموع الملابسات والقرائن اختلافاً في درجة الظهور في الجدية.

إلاّ أن هذا الجمع لا يبعد أن يكون طولياً بالنسبة إلى أنحاء الجمع العرفي الأخرى فلا تصل النوبة إليه إلاّ بعد عدم إمكان التوصل إلى جمع عرفي بأحد تلك الأنحاء. وتطبيقاً لهذه الكبرى نستشهد بما ورد في الفقه في مسألة طهارة أهل الكتاب ونجاستهم ، فإن فيها طائفتين من الروايات دلت إحداهما بالصراحة على طهارة الكتابي ، ودلت الأخرى بالظهور على نجاسته (١) فلو لا أنه كان يمكن علاج هذا التعارض في مرحلة المدلول الاستعمال بحمل الأخبار الظاهرة في النجاسة على التنزه كنا نجمع بينهما بحمل أخبار الطهارة على التقية باعتبار موافقتها للعامة ومخالفة أخبار النجاسة لها.

ولعل النكتة في تأخر مرتبة هذا الجمع أن الجمع بأحد الأنحاء الأخرى أكثر شيوعاً وعمومية من الجمع بلحاظ مرحلة الدلالة الجدية ، فإن إرادة المقيد من المطلق أو الخاصّ من العام بناء عقلائي نوعي بخلاف إرادة التقية مما ظاهره الجدّ فهي عناية شخصية لظروف خاصة بالإمام فتكون أشد مخالفة.

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من بحوث في شرح العروة الوثقى ، ص ٢٦٣.


هذه هي أقسام التعارض غير المستقر التي لا يسري التعارض فيها إلى دليل الحجية وإنما يعالج بتقديم الوارد والحاكم والمقيد والخاصّ والأظهر على ما يقابله من مورود ومحكوم ومطلق وعام وظاهر.

وينبغي التنبيه على نقطتين لهما ارتباط وثيق ببحث التعارض غير المستقر.

النقطة الأولى ـ في ملاحظة النسبة بين الدليل الّذي حكمنا بتقديمه من أقسام التعارض غير المستقر ـ كالخاص مثلاً ـ وبين دليل حجية ما يقابله ـ كالعام ـ وأنها هل تكون نسبة الدليل الوارد إلى المورود أو الحاكم إلى المحكوم؟ وهذا بحث نظري مجرد بعد الفراغ عن أصل التقديم.

وقد ذهبت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ إلى أن النسبة بينهما هي الحكومة ، بمعنى أن الخاصّ رافع لموضوع حجية العام تعبداً لا وجداناً.

وقد ذكروا في تقريب ذلك أن دليل الحجية قد أخذ في موضوعه مجموع أمرين. الظهور ، وعدم العلم بإرادة الخلاف ، فالعام إذا ورد خاص حجة في قباله كان علماً بإرادة خلاف العموم منه ، ولكنه علم تعبدي لا وجداني فيكون حكومة لا وروداً. ـ بناء على أن الحكومة هي ارتفاع الموضوع تعبداً ـ.

والصحيح : أن النسبة هي الورود لا الحكومة ، ذلك أن مثل العام مقيد حجية بعدم نصب الخاصّ قرينة على خلافه ولو منفصلاً ، فمع ورود الخاصّ يرتفع ما هو موضوع الحجية عن العام حقيقة ووجداناً فيكون وروداً لا حكومة.

وهذا واضح بناء على الحالتين الأولى والثالثة من الحالات التي خرجنا عليها التخصيص المنفصل ، لأن الحجة إنما هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلم والّذي لم يعد المتكلم ما يكون قرينة على خلافه وإرادته لغيره وينتفي هذا الموضوع بورود الخاصّ ولو منفصلاً بعد أن افترضنا قرينيته.


وأما بناء على الحالة الثانية ، وهي ما إذا فرض تنزيل الخطابات المنفصلة منزلة المتصلات في الآثار الشرعية ، فهذا التنزيل وإن كان يعقل فيه أن يكون على أساس الحكومة ونظر دليل حجية الخاصّ المنفصل إلى دليل حجية العام لتنزيله إياه منزلة العام المتصل به الخاصّ في الآثار الشرعية المترتبة عليه ، إلاّ أنه بعد ثبوت هذا التنزيل تكون حجية العام مقيدة لباً بعدم ورود القرينة على خلافه ، فيكون الخاصّ بوروده رافعاً لموضوع حجية العموم ، فالحاكم إنما هو دليل حجية الخاصّ لا نفسه.

وبهذا يتضح : أن ما أفيد من قبل مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ في توجيه الحكومة غير تام. فإن كل دليل وإن كانت حجيته مقيدة لباً بعدم العلم على خلافه ، إلاّ أن هذا لا يكفي ملاكاً لتقديم الخاصّ على العام فضلاً عن كونه حاكماً عليه ، إذ لا موجب لافتراض الخاصّ هو الحجة في مقابل العام دون العكس كي يتحقق علم تعبدي على خلاف العموم ما لم توجد في المرتبة السابقة نكتة تستوجب تقديم أحد الظهورين المتعارضين على الآخر ، فلا بد من ملاحظة تلك النكتة ليرى هل تقتضي أن تكون النسبة بين الخاصّ ودليل حجية العام الورود أو الحكومة كما صنعنا آنفاً. وقد تقدم شطر من الكلام حول هذا الموضوع في أول الكتاب حينما كان يراد جعل هذا التقريب بنفسه نكتة لتقديم الخاصّ على العام.

بل التحقيق أنه لا يمكن أن يكون الدليل الخاصّ حاكماً على دليل حجية العام ولو تجاوزنا هذه النقطة ، لأن أدلة الحجية أدلة لبية وهي لا تتحمل الحكومة ، لأنها ـ على ما تقدم ـ عبارة عن كون أحد الدليلين مفسراً وشارحاً للمقصود من الدليل الآخر وهو غير معقول في الأدلة اللبية التي ليس لها ألسنة وظهورات كي تفسر وتشرح.

النقطة الثانية ـ في وجه تقديم سند القرينة الظني ـ كالخالص الثابت بخبر الثقة ـ على دلالة ذي القرينة ـ كالعام ـ ولنفترض لمزيد التوضيح أن سند


العام قطعي ، فنقول : إن ظهور العام يكون إمارة ظنية على عدم صدور الخاصّ ، كما أن سند الخاصّ يكون إمارة ظنية على عدم إرادة عموم العام ، فقد يقال بوقوع التعارض بينهما فإن الظهور وإن كانت حجيته مقيدة بعدم القرينة على الخلاف ، إلاّ أن ذلك حيث تثبت القرينة وأما حيث لم تثبت فيكون الظهور بنفسه مكذباً ونافياً لوجود القرنية على الخلاف ، وهذا هو معنى أصالة عدم القرينة. وهذا يعني أن مقتضى الحجية في كل من ظهور العام وسند الخاصّ فعلي في نفسه فيقع التعارض بينهما لا محالة.

والصحيح ، تقديم سند الخاصّ ولو كان ظنياً على ظهور العام. وذلك بأحد تقريبات.

١ ـ إن سند الخاصّ الظني إذا كان حجة عند العقلاء على حد الظهور ـ كما في خبر الثقة الّذي هو المهم في المقام ـ كان اللازم ملاحظة سيرتهم العملية في موارد معارضته للعام ، ولا ينبغي الإشكال في أن سيرتهم منعقدة على العمل بالخاص وتخصيص العام على أساسه ، فيكون مقتضى عدم ردع الشارع عنها إمضائه لحجية سند الخاصّ الظني. هذا إذا كان الدليل على الحجية هو السيرة العقلائية ، وأوضح من ذلك ما إذا كان دليل الحجية هو السيرة المتشرعية. فإنه لا إشكال ولا ريب في انعقادها عند الرّواة وأصحاب الأئمة : على العمل بالرواية المخصصة لعموم أو إطلاق ، ولو كان في دليل قطعي السند.

٢ ـ لو فرضنا إجمال السيرة العملية مع ذلك قد يقدم سند الخاصّ الظني على دلالة العام تمسكاً بإطلاق الأدلة اللفظية المثبتة لحجية السند ـ إذا تم شيء منها ، كما هو الصحيح في بحث حجية خبر الثقة ـ لعدم انحصار أدلة حجيته بالسيرة العقلائية أو المتشرعية التي تعتبر دليلا لبياً لا إطلاق فيه كما هو الحال في دليل حجية الظهور.

إلاّ أن هذا التقريب موقوف على أن يكون الدليل اللفظي متعرضاً للتعريف


بكبرى الحجية مطلقاً ، أما إذا لم يتضمن ذلك صريحاً وإنما عول في مقام بيان الحجة على ما هو المركوز لدى العرف بدرجة يستغنى معها عن التصريح به ـ كما في رواية : العمري وابنه ثقتان فما أديا فعني يؤديان ـ أو صرّح بكبرى الحجية ولكن في سياق إمضاء ما هو المرتكز في أذهان العقلاء. فلا ينعقد فيه إطلاق حينئذ حتى يتمسك به كما هو واضح.

٣ ـ لو فرضنا أن سند الخاصّ لم يكن حجة عند العقلاء وإنما ثبتت حجيته بدليل شرعي ، فكان عمل العقلاء في مورد ذلك الخاصّ بعموم العام لا بسند الخاصّ الظني ، مع ذلك قلنا بلزوم تقديم سند الخاصّ تمسكاً بإطلاق دليل اعتباره شرعاً لا من جهة كونه ردعاً عن إطلاق السيرة العقلائية على العمل بعموم العام كي يقال : بأن مثل هذه الإطلاقات لا تصلح لردع سيرة بالغة الارتكاز في أذهان العقلاء ، بل باعتبار أن مدلول السيرة العقلائية على حجية الظهور ليس بنحو القضية الخارجية كما أفاده بعض المحققين ، بل بنحو القضية الحقيقية القاضية بحجية كل ظهور ما لم تثبت قرينة على الخلاف ، فإذا ثبتت حجية دليل عند الشارع وكونه تاماً في مقام إثبات مراده كان صالحاً لإثبات القرينة ورفع حجية ذلك الظهور. وكذلك العكس ، أي إذا نفي الشارع حجية طريق ثابت عند العقلاء ـ كالقياس مثلاً ـ فردع عنه كان الظهور حجة في مقابل تلك الحجة المرفوضة شرعاً وإن كانت أخص وكان العقلاء يعملون بها ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما أشرنا إليه وحققناه مفصلاً في بحث السيرة من استفادة إمضاء النكتة العامة والكبرى المرتكزة عليها سيرة العقلاء بنحو القضية الحقيقية لا خصوص العمل الخارجي الّذي كان عليه جريهم في عصر الإمضاء. وعلى هذا الأساس يتضح وجه تقديم سند الخاصّ الظني ما دام معتبراً شرعاً ـ ولو لم يكن معتبراً عند العقلاء ـ على ظهور العام القطعي سنداً.


أحكامٌ عامّة

لِلتعارُض غير المُستَقِرّ

١ ـ شروطه العامة

٢ ـ نتائجه بالنسبة لكل من المتعارضين



الشّرُوط العامّة لِلتعَارُضِ غير المُستَقِرّ

بعد أن استعرضنا أقسام الجمع العرفي في التعارض غير المستقر الّذي لا يسري إلى دليل الحجية ، يحسن بنا أن نتحدث عن الشروط العامة التي يخضع لها جميع أقسام الجمع العرفي ، أو ما قد يدعى كونه شرطاً لها وهي أربعة.

الأول ـ أن يكون المتكلم بكلا الكلامين اللذين يجمع بينهما بأحد أنحاء الجمع العرفي المتقدمة واحداً أو بحكم الواحد ، وأما مع فرض التعدد فلا يتأتى الجمع المذكور.

وهذا الشرط ثابت في كل أقسام الجمع العرفي القائم على القرينية ، كالجمع بالتخصيص أو بالتقييد أو بتقديم الأظهر على الظاهر ، لوضوح أن الجمع في هذه الموارد يستند إلى كون القرينة معدة لتفسير ذي القرينة ومن المعلوم أن هذا الإعداد العرفي إنما هو في القرينة الصادرة من نفس الشخص الّذي صدر منه ذو القرينة. وكذلك يثبت هذا الشرط في موارد الجمع بالحكومة لأنه مبني على الإعداد الشخصي للمتكلم وهو فرع وحدة مصدر الخطابين أيضا كما هو واضح.

وأما الورود فإن كان الورود فيها بلحاظ الجنبة الإنشائية للدليل الوارد بأن كان متكفلاً لجعل مولوي يقتضي رفع موضوع الجعل في الدليل الآخر ، فهذا أيضا يتوقف على الشرط المذكور. لأن رافعية جعل لموضوع جعل آخر


إنما تكون في داخل تشريعات جهة واحدة. نعم لو فرض أن شخصاً أناط حكمه بعدم صدور الحكم من الآخر يكون صدور الحكم من الآخر وارداً عليه. ولكن من الواضح أنه لا تعارض حتى الاصطلاحي فضلاً عن الحقيقي بين المجعولين في هذا الفرض لتعدد الحاكم وإنما هو من التعارض المصطنع.

وأما إذا كان الورود بلحاظ الجنبة الإخبارية ، بأن كان الوارد متكفلاً للاخبار عن عدم انطباق موضوع المورود على فرد فهذا لا يتوقف على وحدة المصدر للوارد والمورود كما هو واضح.

ثم إن المراد بكون المتكلم بحكم الواحد ، المتكلمون المتعددون الذين يمثلون جهة واحدة بحيث تكون كلماتهم كلها كلمات تلك الجهة من قبيل الأئمة من أهل بيت العصمة : الممثلين لجهة الشريعة ، ولا دخل في ذلك كون الممثلين معصومين من الخطأ أو غير معصومين ، فلو فرض أن أشخاصاً غير معصومين كانوا يمثلون جهة واحدة غير الشريعة لسرى الجمع العرفي إلى كلماتهم ، لتعقل الإعداد الخاصّ والإعداد العام للقرينية فيها ما داموا يمثلون جهة واحدة بنحو يعتبر كل واحد منهم كلام الآخر بمثابة كلامه ، فإن هذا يتيح له أن يعد كلام الآخر لتفسير كلامه.

الثاني ـ أن لا يكون هناك علم إجمالي بعدم صدور أحد الخطابين اللذين بينهما جمع عرفي من الشارع ، وإلاّ لم تجد إمكانية الجمع العرفي في عدم إسراء التعارض إلى دليل الحجية ، لأن الجمع العرفي إنما يوجب علاج التعارض الدلالي بين الخطابين ومع العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يكون التعارض بين مدلولي الخطابين بل بين نفس الخطابين ولا معنى حينئذ للجمع العرفي ، فيكون التعارض مستقراً وسارياً إلى دليل الحجية.

الثالث ـ أن يبقى مجال للتعبد بمقدار من دلالة ذي القرينة ، وأما إذا اقتضى الجمع العرفي إلغاء التعبد بدلالته رأساً فلا مجال حينئذ لإعمال الجمع


العرفي. ومثاله ما إذا فرض أن الجمع العرفي اقتضى حمل أحد المتعارضين على كونه إخباراً عن واقعة خارجية لا إنشاء مولوياً ، فإنه في مثل ذلك لا يبقى مجال للتعبد بدلالة ذي القرينة لعدم انتهاء دلالته التي تتعين على أساس الجمع العرفي للأثر العملي. والوجه في هذا الشرط هو أنه مع عدم إمكان التعبد بدلالة ذي القرينة كذلك يكون التعارض بحسب الحقيقة بين القرينة ودليل التعبد بسند ذي القرينة ، أي أن التعارض يسري إلى دليل التعبد بالسند ، وذلك لأن ذا القرينة إذا كان التعبد بسنده بعد الجمع العرفي ممكناً فالتعارض ليس في دليل السند بل في دليل حجية الظهور ، والمفروض تقدم أحد الظهورين على الآخر بلحاظ هذا الدليل. وأما إذا كان التعبد بالسندين مع الجمع العرفي غير ممكن فهذا يعني التعارض بين التعبد بسند القرينة والتعبد بسند ذي القرينة وهو معنى سريان التعارض إلى دليل حجية السند ، ولا موجب بلحاظ هذا الدليل لتقديم أحد السندين على الآخر فيتساقطان.

وقد يبنى على هذا الشرط عدم صحة كون الحمل على التقية جمعاً عرفياً بين الدليلين بلحاظ مرحلة ظهورهما التصديقي في الإرادة الجدية لكون المخالف للعامة نصاً في الإرادة الجدية دون الآخر ، فيؤول غير النص على أساس النص من باب حمل الظاهر على الأظهر ، فإنه قد يقال : بأن هذا الجمع ليس صحيحاً لأن حمل الخبر الموافق على التقية يوجب إلغاء التعبد بدلالته رأساً ومعه لا يمكن شمول دليل التعبد بالسند له ، فيحصل التعارض بين التعبدين بالسندين ، ومعه لا ينفع إمكان الجمع العرفي (١).

ولكن التحقيق عدم صحة هذا الشرط ، وذلك لأن دليل التعبد بالسند مقيد لباً بوجود أثر عملي لمفاد السند المتحصل بعد ملاحظة سائر القرائن ، فإذا فرض أن ما هو المفاد العرفي للسند المتحصل بعد ملاحظة القرائن لم يكن له أثر عملي فهو خارج عن موضوع دليل التعبد بالسند ، وهذا يعني أن دليل

__________________

(١) كما جاء في كفاية الأصول للمحقق الخراسانيّ ـ قده ـ.


التعبد بالسند بشموله لسند القرينة يقتضي كون المفاد العرفي لذي القرينة سنخ مفاد لا أثر عملي له ، ومعه يخرج سند ذي القرينة موضوعاً عن دليل التعبد لأنه أخذ في موضوعه أن يكون للمفاد العرفي أثر عملي ، وهذا بخلاف العكس.

الرابع ـ أن يكون التعارض غير المستقر بين الدليلين ذاتياً قائماً على أساس التناقض أو التضاد ، وأما إذا كان التعارض بالعرض وعلى أساس العلم الإجمالي بمخالفة مدلول أحدهما للواقع فسوف يطبق عليه قواعد الجمع العرفي وتقديم أقوى الدليلين ، فإذا افترضنا مثلاً ورود أمرٍ بصلاة الظهر في يوم الجمعة الظاهر في وجوبها ، وورد دليل آخر صريح في وجوب الجمعة فيها وعلم من الخارج بعدم جعل فريضتين على المكلف في وقت واحد ، فلا يمكن جعل الدليل الصريح في وجوب الجمعة قرينة لحمل الأمر بالظهر على الاستحباب.

وقد استفيد هذا الشرط من كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ وما يمكن أن يذكر وجهاً فنياً لتخريجه أحد أمور.

الوجه الأول ـ أن يكون ذلك قياساً على ما تقدم في الشرط الثاني المتقدم ، فكما لا يقدم الخاصّ على العام إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما كذلك لا يقدم أقوى الدليلين على أضعفهما إذا كان يعلم إجمالاً بكذب مفاد أحدهما.

وهذا الوجه واضح الاندفاع ، إذ القياس المذكور في غير محله. لأن قوانين الجمع العرفي موضوعها الظهوران المتنافيان في كلام متكلم واحد فلا بد من إحراز صدور الكلامين عن متكلم واحد كي يمكن تطبيقها عليهما ، وفي موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الراويين ـ السندين ـ لم يحرز بعد صدور الكلامين من متكلم واحد لكي نطبق قواعد الجمع العرفي. وهذا بخلاف المقام الّذي لا يعلم فيه بكذب أحد السندين وإنما علم بمخالفة مفاد إحدى الروايتين للواقع ، فبمقتضى حجية السند يحرز صدور الكلامين معاً من متكلم واحد فتجري عليهما قواعد الجمع العرفي.


وإن شئت قلت : إن العلم الإجمالي بكذب أحد السندين لا يستوجب تعارضاً في الخطابات الشرعية كي يطبق عليها قواعد التعارض وإنما يوجب تعارضاً بين شهادتي الراويين ومن الواضح أن تقديم إحدى الشهادتين على الأخرى في مقام النقل لا موجب له حتى إذا افترضنا صراحة ألفاظها في مقام الشهادة ونقل المشهود به ، لأن كلام شخص لا يكون قرينة على مراد شخص آخر ، كما هو واضح ، وهذا بخلاف المقام فإن الشهادتين لا تنافي بينهما من حيث إثبات المشهود به وإنما التنافي بين الخطابين الشرعين.

الوجه الثاني ـ قياس المقام بموارد اشتباه الحجة باللاحجة ، بدعوى : أن العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين يوجب سقوط معلوم الكذب عن الحجية واقعاً فيكون أحدهما غير حجية في نفسه ، فيدخل في موارد معارضة دليلين علم بعدم حجية أحدهما تفصيلاً ثم اشتبه الأمر وتردد غير الحجة مع الحجة منهما ، فإنه لا يحكم في ذلك بتقديم أقوى الظهورين ، كما هو واضح.

وهذا الوجه أيضا لا يمكن المساعدة عليه. لأن موضوع الحجة هو الظهور الّذي لم تصل قرينة على خلافه ولم يعلم مخالفته للواقع ، والعلم الإجمالي بالمخالفة نسبته إلى كل منهما على حد واحد ، أي نسبة احتمالية وليست يقينية فالقياس على مورد العلم التفصيليّ بعدم حجية أحدهما المعين ثم اشتباهه بالحجة في غير محله.

الوجه الثالث ـ أن تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما إنما يكون بملاك القرينية واعتبار العرف الظهور الأقوى مفسراً للمراد من الظهور الأضعف ، وهذا إنما يصح فيما إذا كان الدليل الأقوى متعرضاً بمفاده لمفاد الآخر ومجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في ذلك.

وهذا الوجه أيضا لا يمكن المساعدة عليه. لأنه لو أريد به أن القرينية موقوفة على أن يكون الدليل القرينة بحسب مدلوله المطابقي مفسراً لمدلول الآخر وقرينة عليه عرفاً ، فالكبرى ممنوعة ، فإن القرينية كما تتعقل في المدلول


المطابقي لدليل بالقياس إلى دليل آخر كذلك تتعقل في المدلول الالتزامي له. وإن أريد به أن العلم الإجمالي في موارد التعارض بالعرض لا يحقق دلالة عرفية صالحة للقرينية فالصغرى ممنوعة ، فإن كلاً من الدليلين يحتوي على دلالة التزامية على قضية شرطية فحواها أنه لو كان أحد المفادين كذباً فهو مفاد الآخر والعلم الإجمالي بالكذب بحسب الحقيقة يحرز الشرط من هذه القضية فليس هو القرينة على التصرف في الاخر وإنما القرينة تلك الدلالة الالتزامية في الدليل الأقوى ، وبذلك يتضح أن كل تعارض بالعرض يرجع بعد التحليل إلى تعارض بالذات بين المدلول الالتزامي لكل من الخطابين مع المدلول المطابق للآخر ، ويحل هذا التعارض بتطبيق قوانين الجمع العرفي بينهما من أول الأمر ، بحمل مدلول الدليل الأضعف على ما يوافق الدليل الأقوى على تقدير وجود كذب في البين ، والعلم الإجمالي دوره الحقيقي إنما هو إحراز هذا التقدير لا أكثر.

الوجه الرابع ـ قد تقدم أن أحد الدليلين المنفصلين إنما يصلح أن يكون قرينة على الآخر ورافعاً لحجيته فيما إذا فرض كونه قرينة رافعة لأصل الظهور على تقدير اتصاله به ، وفي موارد التعارض بالعرض لو فرض الجمع بين الدليلين المتعارضين في مجلس واحد مع ذلك لا يصلح الدليل الأقوى منهما للقرينية على الدليل الأضعف وهدم ظهوره ، بل تكون نسبة العلم الإجمالي بالخلاف إليهما على حد واحد. وهذا يعني عدم صلاحية أقوى الدليلين للقرينية على أضعف الدليلين في موارد التعارض بالعرض.

وهذا الوجه غير تام أيضا ، لأنه لو أريد من فرض الاتصال والجمع بين الدليلين الجمع بينهما فقط مع كون العلم الإجمالي بالكذب منفصلاً عنهما لكونه ثابتاً بدليل آخر خارج عنهما ، فما ذكر من عدم انثلام ظهور الدليل الأضعف وإن كان صحيحاً إلاّ أنه ليس من الاتصال بين أقوى الظهورين وأضعفهما ما دام الدليل على العلم الإجمالي المستوجب للتعارض منفصلاً


وإن أريد الجمع بينهما مع دليل العلم الإجمالي بحيث يكون العلم الإجمالي بيّنا وواضحاً في مقام التخاطب ـ كما إذا كان مركوزاً في الذهن العرفي ـ فلا نسلم عدم القرينية أو الأظهرية المستلزمة لانثلام الظهور الأضعف بسبب الظهور الأقوى فإن ملاك تقدم أقوى الظهورين على أضعفهما سواء كان هو القرينية أو الأقوائية في مقام التأثير ـ على ما تقدم شرحه ـ محفوظ في المقام أيضا.

وهكذا يتضح أنه لا فرق في تطبيق قواعد الجمع العرفي والتعارض غير المستقر بين أن يكون التعارض بين الدليلين بالذات أو بالعرض.


نتائج الجَمع العُرفيّ

بعد فرض تطبيق قواعد الجمع العرفي على الدليلين المتعارضين يقع البحث عن مقتضاها ونتائجها بلحاظ كل من الدليل الغالب والدليل المغلوب. ولا إشكال في أن مفاد الدليل الغالب لا بد من الأخذ به ، وأما حال الدليل المغلوب وتشخيص ما يتبقى له من مدلول بعد تقديم الدليل الغالب عليه ، فيتصور على خمسة أنحاء.

١ ـ أن لا يبقى له مدلول عملي رأسا فيلغو شمول دليل الحجية له ويخرج عن موضوعه تخصّصاً ، على ما تقدم شرحه في الشروط العامة للتعارض غير المستقر. ومثال ذلك موارد الحمل على التقية أو على جملة خبرية غير مولوية بقرينة منفصلة.

٢ ـ أن يبقى الدليل المغلوب محتفظاً بتمام مدلوله ، كما هو الحال قبل الجمع العرفي. ومثال ذلك موارد الجمع العرفي بالورود التي لا تنافي فيها بين الجعلين وإنما بين المجعولين في مقام الفعلية.

٣ ـ أن يبقى الدليل المغلوب محتفظاً بجزء من مدلوله ويقتطع منه جزئه الآخر ، كما هو الحال في موارد التخصيص والتقييد التي يبقى فيها العام أو المطلق حجة في الباقي.

٤ ـ أن يثبت للدليل المغلوب مفاد يغاير مفاده الأول يعيّنه الدليل


الغالب ، كما في الحكومة بلسان أعني فيما إذا حدد له الحاكم مفاداً مغايراً مع ما كان يفهم منه لولاه.

٥ ـ أن يثبت للدليل المغلوب مفاد مغاير مع مفاده الأول يعينه الدليل المغلوب نفسه ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان الدليل المغلوب يتحمل أكثر من معنى واحد وإن كان ظاهراً في واحد منها وهو الّذي عارضه فيه الدليل الغالب. وحينئذ إذا افترضنا أن المعنى الآخر كان هو البديل الوحيد للمعنى الأولي الّذي رفع اليد عنه بالدليل الغالب لم نكن بحاجة في إثبات ذلك المعنى إلى افتراض عناية إضافية ، وأما إذا لم يكن ذلك المعنى هو البديل المنحصر بأن كانت هنا لك مجازات عديدة للفظ مثلاً ، فلا بد في تعيين أحدها بالخصوص من افتراض ظهور ثانوي للدليل المغلوب في إرادة ذلك المعنى على تقدير عدم إرادة معناه الحقيقي الأولي.

ويمكننا أن نطبق أكثر هذه الأنحاء من النتائج على المثال الفقهي المعروف ، وهو حمل دليل الأمر على الاستحباب بعد مجيء دليل الترخيص ، وذلك بحسب اختلاف المباني في وجه دلالة الأمر على الوجوب. فإنه على مسلك مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ القائل بأن الوجوب مستفاد بحكم العقل وليس مدلولاً لفظياً للأمر يندرج هذا المثال في النحو الثاني ، حيث لا يكون أي تناف بين مدلول دليل الترخيص مع الأمر بل يبقى دليل الأمر محتفظاً بتمام مدلوله ـ وهو الطلب ـ وإنما الّذي ارتفع موضوعه هو حكم العقل بالوجوب.

وبناء على المسلك القائل بأن الوجوب يستفاد من الأمر ببركة الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة ، حيث أن إطلاق الطلب يقتضي الطلب المطلق الّذي هو الوجوب. يكون هذا المثال من النحو الثالث الّذي يتبقى فيه للدليل المغلوب جزء من مدلوله ، وهو أصل الطلب.

وبناء على المسلك المختار في باب الأمر من أن دلالته على الوجوب بالوضع


لا بد في حمله على الاستحباب من تطبيق النحو الخامس ودعوى : أن الأمر له ظهور وضعي أولي في الوجوب ، وظهور ثانوي في الاستحباب عند عدم إرادة الوجوب منه. فإن الميزان في الحجية إنما هو الظهور دائماً ، فما لم يكن للكلام ظهور في المعنى المراد إثباته لا يمكن تعيينه من بين المعاني المحتملة ، كما هو واضح.


القِسم الثاني

التعَارُض المُستَقِرّ



تقسيم البَحث في التعارُض المُستَقِرّ

التعارض المستقر ـ على ما تقدم ـ عبارة عن التنافي بين الدليلين بنحو يسري إلى دليل الحجية ، فيقع التنافي في اقتضاءات دليل الحجية العام لشمول الدليلين معاً. وهذا النحو من التعارض إنما يكون في الموارد التي لا ينطبق عليها أحد أقسام الجمع العرفي المتقدمة في التعارض غير المستقر.

والبحث عن التعارض المستقر يقع في مسألتين رئيسيتين.

المسألة الأولى ـ أن التعارض إذا كان مستقراً وسارياً إلى دليل الحجية ، فما هو مقتضى دليل الحجية العام فيها؟ التساقط أو التخيير أو الترجيح.

المسألة الثانية ـ أن التعارض المستقر هل عولج حكمه في دليل خاص وراء دليل الحجية العام؟ وما هو ذاك العلاج ، وهل يشمل التعارض غير المستقر أيضا أم لا؟



المَسألة الأولى

حكم التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية العَام

١ ـ حكم التعارض المستقر إذا كان غير مستوعب لتمام مدلول الدليل.

٢ ـ حكم التعارض المستقر إذا كان مستوعباً لتمام مدلول الدليل.

١ ـ متى يكون التعارض مستقراً.

٢ ـ فرضيات التعارض المستقر وأحكامها.

« أ ـ تحديد مركز التعارض بين الدليلين.

ب ـ تأسيس الأصل في فرضيات التعارض.

١ ـ بلحاظ دليل الحجية الواحد.

٢ ـ بلحاظ دليلين للحجية ».

٣ ـ تطبيقات مشكوك فيها للتعارض المستقر.

« أ ـ العموم الوضعي والإطلاق الحكم.

ب ـ الشمولي والبدلي.

ج ـ موارد انقلاب النسبة ».


ولتحديد ما يقتضيه دليل الحجية العام في موارد التعارض المستقر ينبغي أن يلاحظ أن التعارض المستقر ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول ـ التعارض المستقر غير المستوعب لتمام المدلول ، أي التعارض بنحو العموم من وجه.

القسم الثاني ـ التعارض المستقر المستوعب لتمام المدلول ، كما في التعارض بنحو التباين. ولا بد من الحديث عن أحكام كل من القسمين.


١ ـ حُكم التَعارُضِ المُستَقِرّ

غير المستوعِبِ لِتمامِ المَدلول

إذا كان التعارض المستقر بين الدليلين غير مستوعب لتمام مدلولهما ، بأن كان بنحو العموم من وجه ، فإذا كان مورد الافتراق لدلالة كل منهما أو أحدهما بنحو لا يعقل حجية الدليل فيه بالخصوص خرج ذلك عن هذا القسم واندرج في التعارض المستقر المستوعب على الأول ، حيث تسري المعارضة حينئذ إلى مورد الافتراق منهما. وفي التعارض غير المستقر على الثاني.

وأما إذا كان مورد الافتراق لهما قابلاً لأن يكون الدليل حجة بلحاظه بالخصوص ، فلا إشكال ولا ريب أن مقتضى القاعدة حينئذ بقاء الدليلين المتعارضين على الحجية سنداً ـ لو كانا ظنيين ـ لإثبات مدلول كل منهما في مورد افتراقه عن الآخر ، إذ لا موجب لتوهم سريان الإجمال إلى السند الظني إلاّ دعوى : أن المعارضة وإن كانت بين الدلالتين أولا وبالذات إلاّ أنه يعلم إجمالاً اما بكذب إحدى الدلالتين أو كذب السند الظني ، فيكون السند الظني داخلاً في أطراف العلم الإجمالي بالكذب. وكما يكون رفع اليد عن إحدى الدلالتين كافياً لانتفاء التعارض كذلك يكون رفع اليد عن سند ظني رافعاً للتعارض ، فلا موجب لترجيح حجية السند على حجية الدلالة.

وهذا التوهم غير صحيح : لأن حجية الدلالة متعينة للسقوط على أي حال. وتوضيح ذلك : أن الدوران بحسب الحقيقة ليس بين التمسك بدليل حجية السند الظني


أو أو دليل حجية الدلالة الظنية ، بل الدليل المتمسك به في المقام هو دليل حجية السند لا غير ، وأما حجية الدلالة وآثارها فتثبت ثبوتاً ظاهرياً تعبدياً بدليل حجية السند ، لأننا لا نواجه النص الصادر المعصوم 7 حقيقة وواقعاً لكي نواجه دليل حجية الظهور وإنما نحرز النص بشهادة الراوي وببركة دليل حجية هذه الشهادة ، ومن الواضح أن هذا إحراز ظاهري ، فتكون حكومة ظاهرية لا واقعية ويكون التمسك بدليل حجية الشهادة وإطلاقها لإثبات تمام الآثار الشرعية المترتبة على الواقع ظاهراً والتي منها حجية الظهور في مادة التعارض. وعلى أساس هذا التوضيح يتبين أن الأمر دائر بين الأقل والأكثر في إطلاق دليل واحد وهو دليل حجية الشهادة ، حيث يدور الأمر بين الأخذ به بلحاظ الأثر المترتب في مورد الافتراق أو ترك الأخذ به رأساً الّذي يعني عدم ترتيب شيء من آثار الشهادة ، فيكون إطلاقه لترتيب الأثر في مورد التعارض ساقطاً على كل حال وأما الآثار المترتبة على حجية الدلالة في مورد الافتراق فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل حجية الشهادة بلحاظها ، ولا يقصد بحجية السند أكثر من هذا المعنى ، كما هو واضح.

هذا كله بلحاظ مورد الافتراق للدليلين المتعارضين. وأما مورد الاجتماع منهما فيستقر التعارض فيه لا محالة ، ولا بد حينئذٍ من تطبيق ما سوف نذكره في التعارض المستوعب من مقتضى الأصل الأولي أو الثانوي ، فإنه على ما سوف يظهر لا يفرق فيه بين أن يكون التعارض مستوعباً أو غير مستوعب.


٢ ـ حُكمُ التَعارُضِ المُستَقِرّ

المُستَوعِبِ لِتمَامِ المَدلول

إذا كان التعارض المستقر مستوعباً لتمام مدلول الدليلين بحيث لا يبقى بعد تقديم أحدهما مجال للآخر ، كما في موارد التعارض بنحو التباين ، فيقع الكلام عنه تارة : في تنقيح الموضوع وأنه متى يكون التعارض مستقراً ، وأخرى : في أحكامه.

أما البحث في تنقيح الموضوع ، فقد يحاول إخراج المتعارضين عن التعارض المستقر ، والجمع بينهما انطلاقاً من قاعدة أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فيؤخذ بكل من الدليلين في جزء من مفاده.

والواقع أن هذه القاعدة يمكن تقريبها بأحد وجهين :

الأول ـ التفسير المدرسي والبدائي لها ، وهو أننا نأخذ بكل من الدليلين في جزء من مدلوله ونطرح جزئه الآخر ليكون قد عملنا بهما معاً ، فلو ورد مثلاً ( ثمن العذرة سحت ولا بأس ببيع العذرة ) حملنا الأول على عذرة غير المأكول والثاني على عذرة المأكول ، فإن العمل بهما في تمام مدلولهما وإن كان متعذراً إلاّ أن هذا لا يسوغ طرحهما في تمام مفادهما ، لأن الضرورات تقدر بقدرها دائماً ، فليعمل بشيء من مدلول كل منهما فيكون جمعاً بين الدليلين.

وهذا التفسير واضح البطلان ، فإن ترك جزء من مفاد كل دليل أخذاً


بما يقابله من الدليل الآخر اعتباط وجزاف ، إذ كما يمكن الأخذ بجزء من المفاد في كل منهما كذلك يمكن طرح كلا الجزءين من مفاد أحدهما والأخذ بكلا جزئي مفاد الآخر ، فالجزء المطروح من مفاد كل منهما كالجزء الّذي أخذ به من الآخر من حيث كونه موضوعاً للحجية فترجيحه على الآخر بلا مرجح.

الثاني ـ تفسير هذه القاعدة على أساس الجمع العرفي ، بدعوى : أن موارد التعارض يمكن فيها الجمع العرفي بوجه من الوجوه في أغلب الحالات ولأجل توضيح هذه الفكرة نطبقها على الموردين التاليين.

المورد الأول ـ أن يجمع بينهما بحسب الموضوع ، وذلك فيما إذا ورد مثلاً ( لا بأس ببيع العذرة ) و ( ثمن العذرة سحت ) ، فإنه يخصص الموضوع في كل منهما بغير موضوع الآخر ، بدعوى : أن في كل منهما دلالتين. دلالة وضعية على ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة المستفادة من اسم الجنس ، ودلالة إطلاقية على شمول الحكم لتمام الأفراد المستفادة من مقدمات الحكمة. والمعارضة بحسب الحقيقية ليست بين الدالين على القضيتين المهملتين بل بين الدلالة الإطلاقية من كل منهما مع مدلول الآخر ، وباعتبار كون الدلالة على القضية المهملة وضعية والدلالة الوضعيّة أقوى وأظهر من الدلالة الإطلاقية ، فيرفع اليد لا محالة عن إطلاق كل منهما بالظهور الوضعي في الآخر ، وبذلك لا تصل النوبة إلى تعارض الدلالتين الإطلاقيتين وتساقطهما ، فيستخلص قضيتان مهملتان تتعيّنان في القدر المتيقن من كل طرف ، فيحكم في المثال بحرمة بيع عذرة غير المأكول ، وجواز بيع عذرة المأكول.

المورد الثاني ـ الجمع العرفي بينهما بحسب المحمول ، كما إذا ورد أمر بشيء ظاهر في وجوبه مع ورود ترخيص في تركه بلسان ظاهر في إباحته بالمعنى الأخص ، فإنه يمكن أن يجمع بينهما بحمل الأمر على مطلق الرجحان ،


لأن كلاّ من الدليلين يكون له دلالة ظهورية ودلالة صريحة ، فالأمر يدل بمظاهره على الوجوب ويكون صريحاً في الرجحان ، ودليل الترخيص ظاهر في الإباحة بالمعنى الأخص ونصّ في نفي الإلزام ، فيرفع اليد عن ظهور كل منهما بصراحة الآخر وينتج الاستحباب.

وهذا الوجه في تفسير قاعدة الجمع غير تام أيضا. وذلك باعتبار أن أحد الدليلين إنما يتقدم على الدليل الآخر المعارض له بالجمع العرفي ، فيما إذا كان مدلوله متعيناً للقرينية ـ ولو بملاك النصوصية أو الأظهرية ـ بحيث لا يحتمل فيها أن يكون هادماً لمدلول الدليل المعارض ، وفي المقام ليست استفادة الرجحان من دليل الأمر ، أو القضية المهملة من المطلق ، بدلالة مستقلة صريحة أو أظهر من مدلول الدليل المعارض لكي يكون قرينة عليه ومورداً لقاعدة الجمع العرفي ، وإنما هو مدلول مستخلص من مفادين يتردد بينهما الدليل ويكون على أحدهما معارضاً مع الدليل الآخر ، لأنه يهدم أصل ظهوره ، وعلى الآخر قرينة عليه. ومثل هذه الدلالة لا تكون مورداً للجمع العرفي.

وتفصيل ذلك وتحقيقه بأن يقال : إن الدليل إذا تردد مفاده بين معنيين محتملين في أنفسهما يكون على أحدهما معارضاً وعلى الآخر صالحاً للقرينة ، فتارة : يفترض ظهوره في المعنى الصالح للقرينية ، وأخرى : يفترض ظهوره في المعنى المعارض ، وثالثة : يكون مجملاً مردداً بينهما.

أما الصورة الأولى ، فلا إشكال فيها فيها في تقديم أحد الدليلين على الآخر بعد افتراض أن مفاده الظاهر منه صالح للقرينية على الآخر. ولعل من أمثلة ذلك ما إذا كان دليل الترخيص ظاهراً في الإباحة العامة ـ نفي الإلزام ـ كما إذا ورد ( لا تصل في الحمام ) و ( لا بأس بالصلاة في الحمام ) فإن دليل الترخيص وإن كان يحتمل في حقه الإباحة الخاصة وبناء عليها يكون هادماً


لأصل النهي ، إلاّ أنه باعتبار استظهار الإباحة العامة منه يتعين في القرينية على دليل النهي وحمله على التنزه.

وأما الصورة الثانية ، فإنه وإن كان يحتمل فيها أن يكون المراد من الدليل معناه القرينة خلافاً لظاهره المعارض ، ولكن هدم ظهور الدليل الآخر ليس بأشد حالاً من إهمال الظهور في مفاد الدليل الّذي يكون بظاهره معارضاً. وبعبارة أخرى : الأخذ بالمفاد الّذي يصلح للقرينية على الدليل الآخر لا دليل عليه ولا حجة تعيّنه ، وإنما الحجة ـ وهو الظهور ـ تعين المفاد الّذي لا يصلح للقرينية. ومن أمثلة هذه الصور الموردان المتقدمان للجمع التبرعي بين الدليلين حيث أن دليل الترخيص مفاده الظاهر ـ وهو الإباحة بالمعنى الأخص ـ معارض مع دليل الأمر ، وكذلك دليل تجويز بيع العذرة ، فإن ما هو ظاهره ولو بمقتضى الإطلاق ومقدمات الحكمة معارض مع دليل النهي عن بيع العذرة وغير صالح للقرينية عليه. وما قيل فيهما من الجمع العرفي بحمل الظاهر على النص ورفع اليد عن الإطلاق الحكمي بالظهور الوضعي لاسم الجنس مغالطة واضحة ، وذلك : لأن الجمع العرفي بين الدليلين المنفصلين يكون بملاك القرينية لا غير ، على ما تقدم شرحه فيما سبق. والقرينية فرع تعين مفاد ما يراد جعله قرينة في المرتبة السابقة لكي يفسر به المراد من ذي القرينة فلا تتم فيما إذا كان مفاد الدليل مردداً بين ما يصلح للقرينية وما يكون معارضاً ـ كما هو الحال في المقام ـ ولهذا لا نقول بالقرينية في أمثال هذه الموارد حتى إذا كانت إحدى القضيتين مجملة مرددة بين المطلق والمقيد ، كما إذا لم تتم فيها مقدمات الحكمة في نفسها ، واتصلت إحداهما بالأخرى ، فإنه لا تجعل المهملة قرينة على إرادة المقيد من المطلقة نعم لو كانتا منفصلتين كانت المطلقة حجة في مورد الإجمال من الأخرى من باب عدم العلم بالمعارض.

إن قلت : من جملة وجوه الجمع العرفي حمل الظاهر على الأظهر لا


بملاك القرينية بل باعتبار تزاحم مقتضى الظهور والدلالة في كل من الظاهر والأظهر وحصول ظهور نهائي على وفق الأظهر ، على ما تقدم شرحه فيما سبق. وهذا وجه يمكن تطبيقه على المورد الثاني في المقام ، بدعوى : ان دلالة اسم الجنس على القضية المهملة باعتبارها بالوضع تكون أقوى وأظهر من دلالة مقدمات الحكمة على الإطلاق فيتقدم عليها ويرفع اليد عن القضيتين الثابتتين بمقدمات الحكمة في كل واحد منهما بالدلالة الوضعيّة في الأخرى.

قلنا ـ إن تقديم الأظهر على الظاهر على أساس التزاحم بين مقتضيات الظهور وإن كنا نقبله على ما تقدم في الأبحاث السابقة ، إلاّ أن ذلك يصح في الأظهر المتصل بالظاهر لا المنفصل عنه ـ كما هو المفروض في موارد التعارض المستقر ـ لأن الدلالة المنفصلة لا تكون مؤثرة سلباً أو إيجاباً في مرحلة الظهور ، فهذا الجمع إنما يتم فيما إذا فرض اتصال القضيتين إحداهما بالأخرى.

وأما الصورة الثالثة ، فهي وإن كانت كالصورة السابقة من حيث عدم إمكان إعمال قاعدة الجمع العرفي فيه ، لإجمال الدليل وعدم الحجة على تعيين المفاد الصالح للقرينية ، إلاّ أنه يمكن أن يتوصل ـ بقاعدة عقلية لا بجمع عرفي ـ إلى نفس النتيجة المطلوبة من الجمع العرفي ، بمعنى رفع الإجمال وتعيين مفاد الدليلين بنحو يرتفع التعارض من البين في بعض أمثلة هذه الصورة وأبرز مثال لذلك ما ورد في تحديد الكر من تحديده تارة : في مرسلة ابن أبي عمير بألف ومائتا رطل. وأخرى : في رواية محمد بن مسلم بستمائة رطل (١) ، مع إجمال كلمة الرطل وتردده بين الرطل الملكي الّذي هو ضعف الرطل العراقي وبين الرطل العراقي حيث يمكن رفع الإجمال والتنافي بين الدليلين وتحديد مقدار الكر بستمائة بالرطل المكي وألف ومائتا رطل بالعراقي ، لا على أساس حمل رواية محمد بن مسلم على المكي والمرسلة على العراقي فإنه لا معين لذلك مع الإجمال والتردد ، بل باعتبار أننا لا نعلم بكذب شيء من الروايتين بحسب منطوقهما اللفظي ، فيكون كل منهما محتمل الصدق والمطابقة للواقع ، وإذا لم نعلم بكذب واحد منهما كان مقتضى القاعدة شمول الحجية

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ١١ من أبواب الماء المطلق ، حديث ـ ١ ، ٣.


لهما معاً فتثبت بذلك قضيتان مجملتان تدلان على أن الكر ستمائة رطل وألف ومائتا رطل. وصدق مثل هاتين القضيتين معاً يلزم منه عقلاً قضية ثالثة هو أن الكر ستمائة رطل بالمكي وألف ومائتا رطل بالعراقي ، إذ لو كان أقل من هذا المقدار أو أكثر لما صدقت القضيتان معاً على إجمالهما بل كانت إحداهما كاذبة لا محالة.

وبعبارة أخرى : إن رواية الستمائة تدل على أن الكر ليس بأكثر من ستمائة رطل مكي ـ لأنه سواء أريد بالرطل فيهما الرطل المكي أو العراقي فهو لا يزيد على هذا المقدار لأن الرطل العراقي أقل من المكي بحسب الفرض ـ ورواية الألف والمائتين تدل على أن الكر ليس بأقل من ألف ومائتي رطل بالعراقي ـ سواء أريد بالرطل فيهما المكي أو العراقي ـ لأن المكي أكثر من العراقي بحسب الفرض فلا يمكن أن يقل الكر عن ألف ومائتين بالعراقي ولا تدل على أنه أكثر من ستمائة رطل مكي لاحتمال إرادة العراقي منه بحسب الفرض وهو نصف المكي ، فيكون مقتضى الجمع بين هاتين النتيجتين أن الكر لا يزيد على ستمائة رطل بالمكي ولا ينقص عن الألف ومائتين بالعراقي.

وهكذا اتضح : أن الجموع التبرعية المدعاة بقاعدة أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح لا يمكن تخريجها على أساس قواعد الجمع العرفي.

نعم ، نستثني من ذلك حالة واحدة يكون الموقف فيها من الدليلين المتعارضين موافقاً مع الجمع التبرعي ولكن لا بملاك الجمع العرفي والقرينية بل بملاك العلم الوجداني بسقوط الإطلاق في كلا الدليلين الأمر الّذي ينتج الاقتصار على القدر المتيقن لكل منهما. وتلك الحالة هي ما إذا كان الدليلان معاً قطعيي السند والجهة. وكان لكل منهما قدر متيقن مستفاد ولو من الخارج ، كما إذا فرضنا أن قوله ( ثمن العذرة سحت ) القدر المتيقن منه عذرة غير مأكول اللحم وقوله ( لا بأس ببيع العذرة ) القدر المتيقن منه المأكول ، فإنه يعلم تفصيلاً حينئذ بسقوط الإطلاق في كل واحد من الدليلين بالقياس إلى ما


هو المتيقن من الآخر ، فتكون النتيجة نفس النتيجة المستحصلة في الجمع التبرعي.

ويلحق بهذه الحالة أيضا ما إذا كان أحد هذين الدليلين قطعي السند والجهة دون الآخر وكان له قدر متيقن وقلنا بكبرى انقلاب النسبة ـ التي سوف يأتي الحديث عنها ـ فإنه في هذه الحالة يعلم تفصيلاً بسقوط الإطلاق في الدليل ظني السند بالمقدار المقابل مع المتيقن من الدليل القطعي ، فتنقلب النسبة بينهما ويصبح الدليل الظني أخص من القطعي فيتقدم عليه بملاك الأخصية

إلاّ أن هذا كما عرفت مبتنٍ على القول بانقلاب النسبة ، وسوف يأتي أنه غير تام بل تبقى نسبة التعارض المستقر بين الدليلين على حالها ولو علم بسقوط شيء من مفاد أحدهما ، فيدخل المقام بناء على ذلك في فرضية التعارض بين الدليل القطعي السند والدليل الظني السند ، وسوف يأتي التعرض له.

ولو افترضنا في المثال السابق قطعية سند الدليل الثاني أيضا دون جهته ودلالته انقلبت النسبة بين الدلالتين فيجمع بينهما ـ بناء على نظرية انقلاب النسبة ـ وأما بناء على إنكارها فيقع التعارض بين إطلاق الدلالة الظنية في الدليل قطعي السند والجهة وبين المجموع المركب من أصالة الجد وإطلاق الدلالة في الدليل الآخر.


فرضيّات التَعارُضِ المُستقِرّ وأَحكامُها

وأما البحث عن أحكام التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية العام ، فتارة : يكون على مستوى ما يقتضيه دليل الحجية العام من دون افتراض علم من الخارج بثبوت الحجية في الجملة في مورد التعارض ونصطلح عليه بالأصل الأولي. وأخرى : يكون عما يقتضيه دليل الحجية بعد افتراض العلم من الخارج بانحفاظ الحجية في الجملة حتى في موارد التعارض ، وعدم التساقط المطلق. ونصطلح عليه بالأصل الثانوي. ثم أن الدليلين المتعارضين تارة : يفترض قطعية سندهما معاً بحيث يعلم بصدورهما عن الشارع. وأخرى : يفترض ظنية سندهما معاً بأن يكون صدورهما ثابتاً بدليل الحجية. وثالثة : يفترض قطعية سند أحدهما وظنية سند الآخر. والبحث عن هذه الفرضيات الثلاث يقع من ناحيتين.

الناحية الأولى ـ في تحديد مركز التعارض بين الدليلين في كل منها.

والناحية الثانية ـ في مقتضى الأصل الأولي والثانوي بلحاظ دليل الحجية الّذي وقع مركزاً للتعارض.

أ ـ تحديد مركز التعارض بين الدليلين :

أما في الفرضية الأولى ، التي يكون الدليلان قطعيين سنداً ولم يقطع ببطلان


مفاد أي واحد منهما في نفسه مع تعذر الجمع العرفي فمركز التعارض فيها إنما هو دليل حجية الظهور لا السند ، لأنه قطعي بحسب الفرض

وأما في الفرضية الثانية ، التي يكون الدليلان ظنيين سنداً فلا إشكال أن مركز التعارض فيها دليل حجية السند إذا كانت الدلالة قطعية.

وإنما الكلام في تحديد مركز التعارض فيما إذا لم تكن الدلالتان قطعيتين حيث قد يقال بأنه لا موجب لسريان التعارض إلى دليل حجية السند ، لأن كلاً منهما يحتمل مطابقتة للواقع ، بأن يكون كلا الظهورين المتعارضين صادراً من المولى حقيقة ، فلا يقاس بموارد قيام أمارتين متعارضتين في الموضوعات مثلاً ، كما إذا شهدت بيّنة بعدالة زيد وأخرى بفسقه ، الّذي يسري فيه التعارض إلى دليل حجيتهما للعلم بكذب أحدهما.

والصحيح أن يقال : أن هناك تقادير ثلاثة لحجية السند.

التقدير الأول ـ وهو التقدير الصحيح ـ أن تكون حجية كل من سند الرواية ودلالتها ثابتة بجعل واحد يثبت حجية المجموع بنحو الارتباط كما إذا كان دليل الحجية قد دل على لزوم اتباع مفاد الرواية وما أخبر به الثقة ، أي النتيجة المتحصلة من مجموع سنده ودلالته.

وبناء على هذا التقدير ، لا إشكال في سريان التعارض إلى دليل حجية السند ، لأنه لو أريد إثبات مجموع الحجيتين في كل من الطرفين بدليل الحجية فهو مستحيل ، وإن أريد إثبات إحدى الحجيتين في أحد الطرفين أو كليهما فهو خلف الارتباطية في جعل الحجيتين.

التقدير الثاني ـ أن تكون حجية السند مستقلة وغير مشروطة بحجية الظهور ، أي يكون مفاد دليل الحجية التعبد بأصل الصدور دون أن يكون ناظراً بمدلوله المطابقي إلى مفاد الرواية ويكون دوره الحكومة الظاهرية على دليل حجية الظهور ، بمعنى إحراز صغرى ذلك الدليل تعبداً. وبناء على


هذا التقدير تثبت الحجية للسندين معاً وتترتب آثار الصدور الثابتة للأعم من المعنى الظاهر المعارض وغير الظاهر. فلو كان هناك أثر يترتب على الأعم من المعنيين نرتّبه لا محالة ، فإذا افترضنا أن الدليل كان مفاده ظاهراً في وجوب شيء ويحتمل فيه الاستحباب أثبتنا بدليل حجية السند ـ على هذا التقدير ـ الجامع بين الوجوب والاستحباب ، فإن كان ظهوره مما يمكن الأخذ به ـ كما في غير مورد التعارض ـ أثبتنا الوجوب أيضا ، وإذا كان ظهوره معارضا ثبت الجامع بمجرده لأن الصدور يستلزم الجامع ، وحينئذ إذا فرض أن المعارض كان ظاهراً في الإباحة مع احتمال الاستحباب فيه أيضا أمكن إثبات الجامع في كل منهما بنحو القضية المجملة المرددة بين الوجوب والاستحباب في الأول ، والاستحباب والإباحة في الثاني ، فإذا استبعدنا احتمال التقية كان مقتضى صدق كل من الرّاويين ومطابقة كلامهما للواقع ثبوت الاستحباب لا محالة. وقد تقدم في مستهل البحث عن التعارض المستقر أن هذا نحو من الجمع بين الدليلين ، وعلى أساسه حدّدنا مقدار الكر بالوزن في أخبار الرطل المتعارضة في ألف ومائتي رطل عراقي.

غير أنا قيّدنا هذا الجمع بما إذا كان مفاد الدليلين مجملاً مردداً بين ما يمكن معه صدق الدليلين ومالا يمكن. ولم نعمله فيما إذا كانا ظاهرين في معنيين متعارضين وذلك باعتبار ما بيناه في التقدير الأول المختار في حجية السند من أن حجيته ارتباطية وليست مستقلة فلا محالة يسري التعارض من الظهورين إلى السندين. وبعبارة أخرى : إن هناك حجية واحدة جعلت لما هو المتحصل من اخبار الراوي الثقة ، وما هو المتحصل منه فيما إذا كان معارضاً بخبر آخر لا يمكن حجيته بخلاف ما إذا كان مفاده مجملاً مردداً من أول الأمر بين المعنيين ، فإن ما هو المتحصل منه ـ وهو الجامع بين المعنيين ـ يمكن التعبد به ، ثم تعيينه في أحدهما بالنحو الّذي شرحناه آنفاً.

التقدير الثالث ـ أن تكون حجية السند مستقلة جعلاً عن حجية الظهور


ولكنها مقيدة بحجيته ، بأن تكون الحجة من الأسانيد ما يكون على تقدير ثبوته حجة بحسب الظهور أيضا.

وبناء على هذا التقدير ، تارة : يفترض أن الشرط في حجية السند حجية ظهوره في نفسه وبقطع النّظر عن المعارضات ، أي أن الشرط ثبوت مقتضي الحجية في ظهوره ، وأخرى : يكون الشرط حجيته بالفعل. فعلى التقدير الأول لا يسري التعارض إلى السندين بل يكون دليل الحجية شاملا لهما فيتعبد بصدور الحديثين معاً وحينئذ ، على القول بتعارض الأحكام الظاهرية بوجودها الواقعي يكون السندان كاشفين عن ظهورين معتبرين متعارضين واقعاً ، وعلى القول بتعارض الأحكام الظاهرية بوجودها الواصل ، أي في مرحلة وصولهما ، يكون السندان كاشفين عن ظهورين معتبرين وموجدين بذلك التعارض بينهما ، وعلى كلا التقديرين لا بأس بالتعبد بالسند ويثبت به الجامع بين المعنى الظاهر وغيره ، كما هو الحال على التقدير السابق.

وعلى التقدير الثاني لا تثبت حجية شيء منهما ، لأن ثبوتها لهما معاً محال إذ يستلزم عدم ثبوتها. وبعبارة أخرى : يستحيل اجتماع الشرطين معاً في هذه الحالة فيكون من قبيل موارد التوارد من الجانبين المستحيل. وهذا يعني أن مركز التعارض في هذه الحالة دليل حجية السندين كما كان كذلك على التقدير الأول.

وأما في الفرضية الثالثة ، التي يكون أحد الدليلين ظنياً سنداً والآخر قطعياً مع تعذر الجمع العرفي ، كما إذا تعارض خبر الثقة مع ظهور قرآني ، فإن فرض أن الدليل الظني السند قطعي الدلالة كان مركز التعارض دليل حجية السند الظني ودليل حجية الظهور في الدليل القطعي. وإن فرض أن الدليل الظني السند ظني الدلالة أيضا كان التعارض بين دليل حجية الظهور في كل منهما ويسري إلى دليل حجية السند الظني أيضا ، بحسب ما تقدم في الفرضية السابقة.


ب ـ تأسيس الأصل في فرضيات التعارض الثلاث :

والكلام تارة : يقع فيما إذا كان مركز التعارض دليلاً واحداً ، وأخرى : فيما إذا كان مركز التعارض دليلين. والأول يكون في الفرضيتين الأولى والثانية ، والثاني يكون في الفرضية الثالثة.

١ ـ حكم التعارض بلحاظ دليل الحجية الواحد :

إذا كان مركز التعارض بين المتعارضين دليلاً واحداً للحجية ، كما في التعارض بين القطعيين سنداً الّذي يكون مركز التعارض فيه دليل حجية الظهور لكل منهما ، أو التعارض بين الظنيين سنداً الّذي يكون مركز التعارض فيه دليل حجة السند لكل منهما ، فاما أن يفترض انحصار دليل الحجية في السيرة العقلائية أو دليل لفظي يتقدر بمقدارها ، ولو باعتبار ظهوره في الإمضاء. وإما أن يفترض وجود دليل لفظي على الحجية له إطلاق لكل حالة لم يقم برهان عقلي على امتناع شمولها لها.

فعلى الأول لا محيص عن التساقط وعدم حجية شيء من المتعارضين ، لقصور مقام الإثبات وعدم مساعدته لإثبات الحجية في حالات التعارض ، حيث لم يحرز وجود ارتكاز عقلائي يساعد على ثبوت الحجية في مورد التعارض ، لا بدلاً ولا تعييناً.

وعلى الثاني ، لا بد من البحث أولا عن مقتضى الأصل الأولي المستفاد من ذلك الدليل اللفظي المطلق ، وأنه هل يقتضي التخيير أو الترجيح أو التساقط. وثانياً عن مقتضى الأصل الثانوي ، لو فرض قيام دليل على عدم التساقط المطلق.

أ ـ مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين دليلين :

أما الحديث عن مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين دليلين ، فالأقوال


فيه ثلاثة : أحدها التساقط المطلق ، والثاني بقاء الحجية في الجملة ، والثالث التفصيل بنحو يأتي عن المحقق العراقي ـ قده ـ.

أما القول بالتساقط ، فقد ذهب إليه المشهور. وتوضيح برهانهم على ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ أن إعمال دليل الحجية في المتعارضين يتصور بأحد أنحاء أربعة كلها باطلة ، فلا يبقى الا التساقط.

النحو الأولى ـ افتراض شمول دليل الحجية لهما معاً. وهذا غير معقول لأدائه إلى التعبد بالمتعارضين وهو مستحيل.

النحو الثاني ـ افتراض شمول دليل الحجية لواحد منهما بعينه. وهذا غير معقول أيضا لاستلزامه الترجيح بلا مرجح.

النحو الثالث ـ افتراض شمول دليل الحجية لكل منهما على تقدير عدم الأخذ بالآخر ، لأن ثبوت الحجية المقيدة في كل من الطرفين لا محذور فيه وإنما المحذور في الحجيتين المطلقتين فلا موجب لرفع اليد عن أصل دليل الحجية بالنسبة إلى كل منهما في الجملة ، وإنما يرفع اليد عن إطلاق الحجية فيهما. وهذه الحالة أيضا باطلة ، لاستلزامها اتصاف كل منهما بالحجية عند عدم الأخذ بهما معاً ، فيعود محذور التعبد بالمتعارضين.

النحو الرابع ـ افتراض حجية كل منهما مقيدة بالأخذ به لا بترك الآخر دفعاً للمحذور المتجه على النحو السابق. وهذا باطل أيضا ، إذ لازمه أن لا يكون شيء منهما حجة في فرض عدم الأخذ بهما فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع ويرجع فيه إلى الأصول اللفظية أو العملية وهذا ما لا يلتزم به القائل بالتخيير ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل والّذي ترجع روحه إلى الحجية المقيدة في كل منهما ، فإنه لو تمّت أخبار التخيير فهي بنفسها تدل ـ ولو بالالتزام العرفي ـ على لزوم الأخذ بأحدهما وأنه على تقدير تركهما يؤاخذ


على مخالفة الواقع ، وهذا بخلاف المقام إذ لم يستفد بمقتضى القاعدة إلا التقييد في حجية كل منهما وإشراطها بالأخذ به وأما وجوب الأخذ به فلم يدل عليه دليل (١).

والتحقيق : أن هذا المقدار من البيان لا يمكن أن يكون برهاناً على التساقط ولا يصح السكوت عليه بهذا الصدد. إذ أقل ما يمكن أن يناقش فيه ـ بغض النّظر عن المناقشات التي سوف تتبين من خلال الأبحاث المقبلة ـ إنه من الممكن الالتزام بإعمال دليل الحجية على النحو الرابع من دون محذور ، إذ نتساءل : انه هل من المحتمل بحسب الارتكاز العرفي والمتشرعي الانفكاك بين حجيتين مشروطة كل واحدة منهما بالأخذ وبين وجوب الأخذ بإحدى هاتين الحجتين؟ فإن كان الانفكاك محتملاً التزمنا بالحجيتين المشروطتين تمسكاً بما يمكن من دليل الحجية ولا يلزم محذور. وإلاّ كان دليل الحجية الصالح لإثبات هاتين الحجيتين بالمطابقة دالاً بالالتزام على وجوب الأخذ بأحدهما.

والصحيح : هو أن الموقف ليس بشكل واحد في جميع فروض التعارض بل يختلف باختلاف حالاتها. فقد يقتضي الموقف التخيير ، وقد يقتضي الترجيح ، وقد يقتضي التساقط ، بل قد يقتضي أحياناً الجمع بينهما.

وتوضيحاً لذلك نقول : إن هناك فروضا أربعة.

الفرض الأول ـ أن يعلم من الخارج ـ ولو بحسب الارتكاز العقلائي ـ أن ملاك الحجية ومقتضيها لو كان موجوداً في مورد التعارض فهو في أحدهما المعين أقوى من الآخر ، بحيث يراه المولى أرجح في مقام جعل الحجية له. وفي هذه الفرضية مقتضى الأصل ترجيح ذلك الدليل ، لأن إطلاق دليل الحجية له يثبت حجيته المطلقة ولا يعارضه إطلاقه للآخر لأنه معلوم السقوط

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٣٦٦.


حيث يعلم بعدم حجيته إما مع الآخر ، كما لو لم يكن ملاك الحجية ثابتاً في مورد التعارض أصلا ، أو لوحده باعتباره مرجوحاً في ملاك الحجية ، فلا محذور في الأخذ بإطلاق دليل الحجية في الآخر.

الفرض الثاني ـ أن يفترض العلم الخارجي بأن ملاك الحجية إن كان محفوظاً في موارد التعارض فنسبته إليهما على حد واحد. وفي هذه الحالة يثبت التخيير لأن إطلاق دليل الحجية لكل منهما على تقدير الأخذ بالآخر ساقط جزماً إما لعدم وجود الملاك رأساً أو لأن الملاك في أحدهما ليس بأقوى منه في الآخر ، فلا يقتضي حجيته بالتعيين ، فيبقى إطلاق دليل الحجية لكل منهما على تقدير الأخذ به بلا معارض ، وبذلك يتجه التخيير في هذا الفرض.

الفرض الثالث ـ أن نحتمل الترجيح لأحدهما المعين ولا نحتمله في الآخر. وحينئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجية لشمول الآخر عند الأخذ بالأول ، اما لعدم ملاك للحجية فيه رأساً أو لوجوده فيهما بنحو التساوي أو لوجوده في الأول بنحو أرجح منه في الثاني ، وعلى جميع هذه الاحتمالات يكون الإطلاق المذكور ساقطاً عند الأخذ بالخبر المحتمل رجحانه فيكون إطلاق دليل الحجية للخبر المحتمل رجحانه بلا معارض فيتمسك به. وبهذا يثبت عدم التساقط المطلق ويدور الأمر حينئذ بين الترجيح والتخيير فيدخل في البحث القادم عن مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين بعد قيام دليل على عدم التساقط المطلق ويكون الدليل المثبت لعدم التساقط المطلق نفس إطلاق دليل الحجية العام مع ضم العناية المفترضة.

الفرض الرابع ـ ما إذا احتملنا الترجيح في كل من الطرفين سواء احتمل التساوي أولا. وهذه الفرضية هي التي يتبادر فيها الحكم بالتساقط لأن احتمال الترجيح والحجية المطلقة في كل منهما معارض به في الآخر ، والتخيير ـ أي الحجية المقيدة في كل منهما ـ أيضا لا يمكن إثباته بدليل الحجية العام ، لا لما


أفاد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بل لأن إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما على تقدير الأخذ به أو عدم الأخذ بالآخر معارض بإطلاقه لشمول الآخر في نفس هذا التقدير.

والتحقيق في المقام أن يقال : إن التعارض بين الدليلين تارة : يكون التنافي بينهما بالعرض. وأخرى : يكون التنافي بينهما بالذات. ونقصد بالتنافي بالعرض ما إذا كان كل منهما دالاً على حكم متعلق بموضوع غير ما تعلق به الآخر بحيث كان ثبوتهما معاً في أنفسهما معقولاً ولكنه يعلم من الخارج بعدم ثبوت أحدهما إجمالاً ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر في يوم الجمعة وعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، إذ لا تجب صلاتان في وقت واحد. ونقصد بالتعارض الذاتي ما إذ كان الدليلان مما لا يمكن ثبوت مفادهما معاً في نفسه ، إما لتضاد المفادين ، كما كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته ، أو لتناقضهما كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على نفي الوجوب عنه. فالأقسام ثلاثة.

أما القسم الأول ـ وهو التعارض بالعرض على أساس العلم الإجمالي من الخارج بكذب أحد الدليلين ، فيمكن أن تذكر بشأنه عدة محاولات للمنع عن الحكم بتساقطهما.

المحاولة الأولى ـ دعوى الالتزام بكلا الدليلين فيما إذا كانا يدلان على حكمين إلزاميين لا ترخيصيين ، إذ لا يلزم منهما محذور الترخيص في المخالفة وبذلك نكون قد عملنا بكلا الدليلين إذ كل دليل لا بد وأن يعمل به ما لم يلزم منه محذور.

ولكن الإشكال على هذه المحاولة بهذا المقدار من البيان واضح ، إذ هنا لك ملاكان للتعارض. أحدهما : الترخيص في المخالفة القطعية. والآخر : أن


يكون أحد الدليلين منجزاً لتكليف والآخر معذراً عنه ، فإن هذا أيضا مستحيل. وفي محل الكلام وإن كان التعارض بالملاك الأول منتفياً إذا كان الدليلان إلزاميين ، إلاّ أن التعارض بالملاك الثاني موجود ، لأن كلاً من الدليلين يكون حجة في مدلوله الالتزامي أيضا الّذي ينفي ما أثبته الآخر فيقع التعارض بين المدلول المطابقي لكل منهما مع المدلول التزامي للآخر بالملاك الثاني. وبهذا يختلف المقام عن الأصلين الإلزاميين في موارد العلم الإجمالي بالخلاف ، فإن حجية الأصل إنما تكون بمقدار المؤدى المطابقي لا الالتزامي.

المحاولة الثانية ـ ان التساقط ـ حسب ما عرفنا في إبطال الحالة الأولى ـ إنما جاء من قبل الدلالتين الالتزاميتين مع أن الدلالتين الالتزاميتين متعينتان للسقوط على كل حال اما تخصيصاً أو تخصصاً ، لأن الجمع بين الدلالات الأربع غير ممكن فاما أن يسقط الجميع فتكون الدلالتان الالتزاميتان ساقطتين أيضا بالتخصص حيث لا موضوع لحجيتهما بعد سقوط المطابقتين ـ بناء على ما هو الصحيح من التبعية بين المطابقية والالتزامية في الحجية ـ واما أن تسقط الالتزاميتان فقط دون المطابقيتان وهو معنى التخصيص ، وعلى كلا التقديرين تكون الالتزاميتان ساقطتين ، فتبقى المطابقيتان على الحجية من دون معارض.

وهذه المحاولة باطلة أيضا. إذ توجد في المقام معارضتان بحسب الحقيقة ، لأن المدلول الالتزامي لكل من الدليلين يعارض معارضة مستقلة مع المدلول المطابقي للآخر ، والدلالة الالتزامية الداخلة في ميدان التعارض مع المطابقية في كل من هاتين المعارضتين ليست تابعة لمعارضها المطابقي في الحجية بل تابعة للدلالة المطابقية الأخرى فلا تكون متعينة للسقوط في مقابل ما يعارضها على كل حال ، بل يمكن افتراض سقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها الالتزامية وبقاء دلالة التزامية مع المطابقية في الطرف الآخر. هذا مضافاً إلى أن هذا التقريب مبنى على افتراض الطولية بين حجية الدلالة الالتزامية وحجية الدلالة المطابقية بحيث تكون الأولى مشروطة بالثانية فيدور الأمر بين التخصيص


والتخصص ، مع أن الشيء الّذي حققناه في محله إنما هو مجرد التلازم بين الحجيتين فلا تخصص على كل حال.

المحاولة الثالثة ـ أن الحكم بسقوط المتعارضين إنما يكون فيما إذا كان مقتضي الحجية في كل منهما تاماً في نفسه وأما إذا كان مقتضي الحجية غير تام في أحدهما المعين كان الآخر حجة بالفعل ، وهذا واضح.

وبناءً عليه يقال : ان الدلالتين الإلزاميتين لا تصلحان لمعارضة المطابقيتين إذ لو كانتا صالحتين لذلك كان معناه توقف عدم الحجية الفعلية للدلالة المطابقية لدليل وجوب الظهر مثلاً على اقتضاء الحجية للدلالة الالتزامية لدليل وجوب الجمعة ـ بناء على التبعية ـ ونفس الشيء يقال في حق عدم حجية الدلالة المطابقية لدليل وجوب الجمعة. وهذا يعني أن عدم الحجية لكل من الدلالتين المطابقيتين يكون موقوفاً على حجية الآخر وهو مستحيل لاستلزامه مانعية كل منهما عن الآخر ، وإذا لم يمكن ثبوت اقتضاء الحجية للدلالتين الالتزاميتين معاً وكان ثبوته لإحداهما دون الأخرى ترجيحاً بلا مرجح ، فلا يثبت في شيء منهما ، وهو معنى عدم صلاحيتهما لمعارضة الدلالتين المطابقتين.

والجواب ـ ما ذكرناه في رد المحاولة السابقة من أن التبعية بين الدلالتين في الحجية لا يعنى الطولية والتوقف وإنما يراد بها مجرد التلازم وعدم الانفكاك ، على ما سوف يأتي الحديث عنه مفصلاً.

المحاولة الرابعة ـ إن الدلالتين الالتزاميتين ، وإن كان لا يعلم بسقوطهما على كل حال ، إلاّ أنهما يتساقطان بالإجمال والتعارض الداخليّ فيما بينهما ، فتبقى الدلالتان المطابقيتان بلا معارض. ومنشأ التعارض الداخليّ بين الدلالتين الالتزاميتين هو العلم الإجمالي بثبوت تكليف إلزامي منجز ، وذلك فيما إذا علم بصدق أحد المدلولين المطابقيين ، فإنه لا يمكن حينئذٍ حجية المدلولين الالتزاميين معاً حتى لو قيل بعدم التبعية لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعية.

وهذه المحاولة بهذا المقدار من البيان أيضا لا تتم ، وذلك لوضوح أن


مجرد وجود معارضة ثالثة بين الدلالتين الالتزاميتين أنفسهما لا يُنجي المعارضة بين الدلالة المطابقة من طرف والالتزامية من الطرف الآخر عن التساقط ، بل تكون الدلالة الالتزامية في كل طرف مبتلاة بمعارضتين في مرتبة واحدة. وتكون المعارضة مع الدلالة المطابقية بملاك التناقض ومع الدلالة الالتزامية الأخرى بملاك العلم الإجمالي ، فلا وجه لملاحظة المعارضة الثانية في مرتبة أسبق من المعارضة الأولى فتسقط الجميع في عرض واحد. بل مقتضى مسلك المشهور من أن المحذور في شمول دليل الحجية لموارد العلم الإجمالي محذور ثبوتي وليس إثباتياً وهو مخصص منفصل أن تكون المعارضة على أساس التناقض متقدمة رتبة على المعارضة بملاك العلم الإجمالي ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة بين الدلالتين الالتزاميتين بملاك العلم الإجمالي. لأن المعارضة بملاك التناقض مستوجب للإجمال الداخليّ وسقوط أصل الإطلاق في دليل الحجية بالنسبة للمتعارضين لأن محذور استحالة التناقض مخصص متصل عرفاً لدليل الحجية فلا إطلاق في دليل الحجية لشمول الالتزاميتين في نفسه حتى يقع التعارض بينهما بملاك العلم الإجمالي.

المحاولة الخامسة ـ إن البرهان الّذي يستند إليه للتساقط في موارد التعارض بصورة رئيسية إنما هو برهان الترجيح بلا مرجح ، حيث أننا لو أردنا أن نأخذ بأحد الدليلين دون الآخر كان ترجيحاً بلا مرجح ، بمعنى أن نسبة دليل الحجية إلى كل منهما على حد سواء فلا معين للاستناد إلى أحدهما دون الآخر. إلاّ أن هذا البرهان إنما يمكن تطبيقه فيما إذا افترض تمامية دليلية المتعارضين من سائر الجهات بحيث لم يبق إلاّ محذور التعارض والترجيح بلا مرجح ، وأما إذا افترض أن أحدهما المعين كان مبتلى بمحذور آخر ولو قطع النّظر عن محذور هذا التعارض ، كان في تقديمه على معارضه ارتكاب محذورين ، وفي مثل ذلك يتعين هذا الدليل للسقوط ويكون معارضه حجة ، لأن تقديمه عليه ليس فيه ترجيح بلا مرجح إذ الآخر في نفسه لم يتم ولم ينج من محذور الترجيح بلا مرجح كي


يقابل هذا الدليل. وينتج من هذا البيان قاعدة كلية يكون المقام تطبيقاً من تطبيقاتها ، وهي : أنه متى ما كانت لدينا طائفتان من الأدلة وكان كل واحد من أفراد إحدى الطائفتين يعارض فرداً بعينه من أفراد الطائفة الأخرى وكانت إحدى الطائفتين إضافة إلى هذه المعارضة توجد بين أفرادها معارضة داخلية بحيث لا يمكن الالتزام بتمام أفرادها في نفسها تقدمت الطائفة الأولى التي أفرادها سليمة عن المعارضة الداخلية على الطائفة الثانية ، لأن ترجيح أفرادها ليس ترجيحاً بلا مرجح بعد عدم تمامية أفراد الطائفة الأخرى في نفسها لمحذور مستقل بها.

وفيه : أن مجرد التعارض الداخليّ بين إحدى الطائفتين لا يوجب سلامة الطائفة الأخرى ، لأن كل فرد في الطائفة الأولى له معارضان ، فرد من الطائفة الثانية وفرد من نفس طائفتها ، وإطلاق دليل الحجية لا يمكن أن يشمل الثلاثة معاً وشموله لبعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح في عرض واحد ، إلاّ إذا افترضنا أن المعلوم بالإجمال كذبه في الطائفة الأولى بمقدار المعلوم بالإجمال في مجموع الطائفتين وأما إذا كان أقل ـ كما هو كذلك في المقام حيث أن المعلوم بالإجمال كذبه إحدى الدلالتين الالتزاميتين واثنتين من مجموع الدلالات الأربع ـ كان إطلاق دليل الحجية ـ أو دليل الأصل ـ لغير المعلوم كذبه في دائرة العلم الإجمالي الصغير معارضاً مع إطلاقه لسائر الأفراد. ولذلك اشترطنا في انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير تساوي المعلومان الإجماليان كماً.

المحاولة السادسة ـ إن العلم الإجمالي بسقوط إحدى دلالتين من مجموع الدلالات الأربع منحل بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الدلالتين الالتزاميتين الترخيصيتين لأن إطلاق دليل الحجية للالتزاميتين ساقط تعييناً ، لأن حجية إحدى الالتزاميتين بعينها ساقطة بمنجزية العلم الإجمالي وحجية إحداهما لا بعينه لا أثر له ، إذ لا يثبت بها إلاّ نفي أحد الوجوبين لا بعينه وهو ثابت


وجداناً بحسب الفرض للعلم بعدم ثبوت وجوبين ولولاه لما كان تعارض بين الدليلين. وتمام النكتة : أن المدعي ليس هو دعوى انحلال العلم الإجمالي بكذب اثنين بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الالتزاميتين ليقال أن المعلوم الثاني أقل عدداً ، بل انحلال العلم الإجمالي بسقوط الحجية عن اثنين بالعلم التفصيليّ بسقوط الحجية عن الالتزاميتين بسبب تنجز العلم الإجمالي بالإلزام ، ولهذا تجري النكتة نفسها لو كان الالتزامي مطابقياً أو المطابقي التزامياً وتقتضي حينئذ سقوط المطابقيتين دون الالتزاميتين. وهذه المحاولة صحيحة بمرّ الصناعة.

هذه هي المحاولات التي يمكن أن يخرج على أساسها حجية الدليلين في الجملة إذا كان التعارض بينهما عرضياً. وقد عرفت أن بعضها صحيح بقطع النّظر عن ملاحظة الارتكازات العقلائية ، وأما إذا أريد ملاحظتها وتحكيمها على دليل الحجية العام ـ كما هو الصحيح ـ فالتفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الأدلة الاجتهادية ليس مقبولاً عرفاً ، بل يرى العرف إجمال دليل الحجية العام وعدم شموله للمدلولين المطابقي والالتزامي معاً. نعم يمكن إثبات حجية أحد الدليلين المتعارضين في مدلولية المطابقي والالتزامي ببيان يأتي في القسم الثالث على ما سوف نشير إليه إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني ـ أن يكون التعارض ذاتياً على نحو التناقض ونقصد به ما إذا كان فرض كذب أحدهما مساوقاً مع صدق الآخر ولو لم يكونا من النقيضين اصطلاحاً. والصحيح في هذا القسم هو التساقط المطلق لأن المحتملات المتصورة للحجية ثلاثة. حجيتهما بصورة مطلقة ، وحجية أحدهما المعين ، وحجية أحدهما تخييراً ، وكلها غير معقولة في هذا القسم ، فيتعين التساقط.

أما بطلان الأول ، فلأن افتراض الحجية بالنسبة إليهما معاً معناه اجتماع التنجيز والتعذير معاً ، فحجية الدليل الدال على الوجوب مثلاً تنجيز للوجوب ،


وحجية الدليل الدال على نفي الوجوب تعذير عنه ولا يمكن ثبوتهما معاً. وبهذا يفترق هذا القسم عن القسم السابق حيث لم يكن ينشأ من الأخذ بالدليلين في مدلولهما الأولي المطابقي هناك هذا المحذور.

وأما بطلان الثاني ، فلأن تعيين أحدهما للحجية ترجيح بلا مرجح.

وأما بطلان الثالث ، فلأن التخيير يتصور على أنحاء عديدة.

١ ـ حجية كل منهما بشرط عدم حجية الآخر.

٢ ـ حجية كل منهما بشرط عدم صدق الآخر وعدم مطابقته للواقع.

٣ ـ حجية كل منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر.

٤ ـ حجية كل منهما بشرط الالتزام به.

٥ ـ حجية الفرد المردد منها.

٦ ـ حجية الجامع بينهما.

٧ ـ حجية غير ما علم إجمالاً كذبه.

وكل هذه الأنحاء المتصورة بدواً لتخريج الحجية التخييرية غير معقولة في المقام ، لأنها جميعاً تفقد شرطاً أو أكثر من شروط التخيير في الحجية التي سوف نذكرها وبتوضيح ذلك يتضح أيضا بطلان ما يمكن أن يفترض للتخيير من أنحاء أخرى للحجية في الجملة ، فنقول :

إن الشروط الضرورية في الحجية التخييرية تتضح بعد ملاحظة غرض الأصولي من التخيير في الحجية ، وهو رفع التنافي بين اقتضاءات دليل الحجية لشمول المتعارضين بتقييد حجية كل منهما بحالة دون الحالة التي يكون الآخر حجة فيها. وتقييد الحجية بنحو يعالج التعارض إنما يتم إذا توفرت الشروط التالية :


الشرط الأول ـ أن لا تكون الحجيتان المشروطتان باقيتين على التعارض كالحجيتين المطلقتين ، وهذا واضح.

الشرط الثاني ـ أن تكون تلك الحجية المشروطة معقولة ، في نفسها ، بأن لا يستلزم من تقييد الحجيتين المحال.

الشرط الثالث ـ أن لا تكون الحجية المشروطة في أحد الطرفين منافية للحجية المطلقة في الطرف الآخر ، وإلاّ لوقع التعارض بين دلالة دليل الحجية على الحجية ولو بالمقدار المشروط في كل طرف ، مع إطلاق دليل الحجية في الطرف الآخر.

الشرط الرابع ـ أن لا تكون الحجية المشروطة حجية مباينة مع ما يستفاد من دليل الحجية العام ، بل تكون حصة من حصصها التي بقيت من باب أن الضرورات تقدر بقدرها دائماً.

هذه هي الشروط التي لو توفرت في الحجية المشروطة أمكن إثباتها بدليل الحجية العام. وكل الأنحاء الستة التي ذكرناها آنفاً للتخيير والحجية المشروطة تفقد شرطاً أو أكثر من هذه الشروط. فالنحو الأول وهو الحجية المشروطة بعدم حجية الآخر فاقد للشرط الثاني من الشروط ، لأن لازمه مانعية حجية كل منهما عن حجية الآخر ، والتمانع من الطرفين دور محال. نعم هي واجدة للشرائط الثلاثة الأخرى ، إذ لا تعارض بين الحجيتين المشروطتين ، لأن فعلية كل منهما ترفع فعلية الآخر فلا يقع التنافي بينهما فالشرط الأول والثالث محرزان ، كما أن الشرط الرابع محرز من جهة أن الحجية المشروطة كذلك حصة من الحجية المطلقة وليست مباينة معها.

والنحو الثاني ، وهو الحجية بشرط كذب الآخر ، فاقد للشرط الثاني ، لأن كذب الآخر في النقيضين مساوق مع صدق الأول فجعل الحجية على هذا التقدير لغو ، إذ لو فرض إحراز كذب الآخر كان يعلم بصدق الأول فلا


حاجة معه إلى جعل الحجية ، ولو فرض عدم إحراز ذلك لم تكن الحجية المذكورة إلاّ كالعلم بصدق أحدهما واقعاً غير مجد شيئاً ، بمعنى أنه غير منجز ولا يوفر غرض الحجية التخييرية للفقيه وهي تعيين الحجة في أحدهما والاستناد إليها ، وأما سائر الشرائط فهي متوفرة في هذا النحو أيضا.

والنحو الثالث ، وهو الحجية المشروطة بعدم الالتزام بالآخر ، يفقد الشرط الثالث من الشرائط المتقدمة إذ حجية كل منهما كذلك معارض بإطلاق حجية الآخر لفرض الالتزام بالأول ، كما أنه إذا أريد من الالتزام الموافقة الالتزامية فقدنا الشرط الأول أيضا ، لأنه في حال عدم الالتزام بشيء منهما سوف تثبت الحجيتان معاً فيقع التنافي بينهما.

والنحو الرابع ، وهو الحجية بشرط الالتزام به أيضا فاقد لبعض الشروط ، إذ لو أريد منه الالتزام العملي انتفى الشرط الأول والثاني والثالث جميعاً لأنه بالإمكان أن يعمل عملاً منسجماً مع كلا الدليلين فلو كان أحدهما يدل على عدم الوجوب والآخر ينفيه ، أمكنه العمل بكلا الدليلين لأن عدم الوجوب لا ينافي الإتيان بالفعل فتثبت الحجيتان معاً ويقع التنافي بينهما وهو خلف الشرط الأول ، كما أن أصل حجية دليل بشرط العمل به غير معقول ثبوتا لأنها لغو ، إذ الحجية تكون من أجل الإلزام بالعمل فإذا أنيطت بالعمل كان تحصيلاً للحاصل وهذا خلاف الشرط الثاني ، كما أن الحجية المشروطة بهذا النحو في أحدهما تعارض الحجية المطلقة في الآخر ، وهذا خلاف الشرط الثالث.

وأما لو أريد من الالتزام الموافقة الالتزامية ، فالشرط الثالث منثلم أيضا ، لأن الحجية كذلك في أحدهما يعارضها إطلاق حجية الآخر. وأما الشرطان الأول والثاني ، فإن أريد من الموافقة الالتزامية معنى لا يمكن حصوله في حق النقيضين معاً من دون أن يكون ذلك المعنى مساوقاً أو ملازماً


مع العمل فالشرطان محفوظان ، وإلاّ بأن أريد مجرد البناء الّذي قد يحصل في حق النقيضين انتفى الشرط الأول أيضا.

وأما النحو الخامس ، وهو حجية الفرد المردد ، والنحو السادس ، وهو حجية الجامع بينهما ، فيشتركان في فقدان الشرط الثاني حيث أن الحجية كذلك لو أريد منها إيصال مفاد أحد الدليلين بعينه وإثبات الضيق أو التوسعة به على المكلف فهو غير حاصل بهذه الحجية ، لأن نسبتها إلى كليهما على حد سواء وإن أريد بها إيصال أحد المفادين إجمالاً ، فهذا بنفسه حاصل في هذا القسم من التعارض ، للعلم وجداناً بصدق أحد النقيضين فجعل مثل هذه الحجية لغو ولا يستفيد منها الفقيه عملياً إذ لا يمكن تعيين الحجة في أحدهما الّذي هو الغرض الأصولي من التخيير في الحجية.

كما أنه يختص كل واحد منهما بمفارقة تتجه عليه. وتوضيح ذلك : أن حجية الفرد المردد تارة : تقرب ببيان أن الفرد المردد مشمول لإطلاق دليل الحجية العام على حد مشمولية الفردين المعيّنين ، فإطلاقه للفرد المردد لا يعارض بشيء فلا موجب لسقوطه. وأخرى تقرّب ببيان آخر : وهو أن مقتضي الحجية في كل من الفردين تام في نفسه وإنما لم تثبت الحجية فيهما لوجود المانع ، وهو إنما يمنع عن حجيتهما معاً وأما حجية أحدهما المردد فلا محذور فيه ولذلك لم يكن محذور في ثبوت الحجية إذا قام دليل على حجية أحدهما المعين ، فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليل الحجية في كليهما ، بل يرفع اليد عنه بلحاظ أحدهما وتبقى الحجية في أحدهما.

ويرد على البيانين : أن الفرد المردد بالمعنى المقابل للجامع أي الفرد المردد المصداقي غير معقول ، لأن التردد يساوق الكلية ولا يجامع التشخص ـ على ما حققناه في محله ـ فلا يوجد فرد ثالث بين الفردين المعينين كي يكون لدليل الحجية إطلاق آخر له.


ويرد على البيان الأول : إنه لو سلمنا فلسفياً وجود الفرد المردد فلا نسلم إطلاق الدليل له عرفاً وإنما الدليل له إطلاقان للفردين المعينين وقد سقطا بالتعارض فإثبات الحجية لهذا العنوان بدليل الحجية العام غير ممكن ، وهذا يعني انثلام الشرط الرابع من الشروط المتقدمة.

ويرد على البيان الثاني : أن الكاشف عن الملاك وثبوت مقتضي الحجية انما هو إطلاق الدليل نفسه ، فإذا فرض سقوط الإطلاقين في دليل الحجية للفردين فمن أين نستكشف انحفاظ مقتضي الحجية في أحدهما.

وأما حجية الجامع بينهما ـ الفرد المردد المفهومي ـ فلتقريبها بيانان أيضا.

البيان الأول ـ أن الجامع بين الدليلين دليل أيضا ، فإذا سقط إطلاق دليل الحجية لشمول الدليلين بعنوانهما يبقى إطلاقه للجامع بينهما.

البيان الثاني ـ إن كلاً من الدليلين المتعارضين يشتركان في الدلالة على الجامع بين الحكمين وإنما يتنافيان في تشخيص خصوصية هذا الجامع وانه إلزام أو ترخيص مثلاً ، فإذا سقطت حجيتهما بلحاظ الخصوصيّتين فلتبق حجيتهما بلحاظ الجامع ، فتمّ الحجية على الجامع بين المفادين.

وكلا هذين البيانين غير تام ، إذ يرد على البيان الأول :

أولا ـ إن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً يحكي عن مدلول معين كي يشكل فرداً ثالثاً لموضوع دليل الحجية ، فالشرط الثاني مفقود.

وثانياً ـ أنه لو فرض أن الجامع بينهما دليل فالعرف لا يستفيد من دليل الحجية العام أكثر من إطلاقين للفردين المتعارضين ، فالشرط الرابع مفقود.

ويرد على البيان الثاني : انه تفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية التحليلية للدليل الواحد نظير ما إذا أخبرنا الثقة بوجود زيد في الغرفة ، ونحن


نعلم بعدم وجوده فيه ، فيقال ببقاء الخبر على الحجية في إثبات وجود كلي الإنسان في الغرفة ، وهو غير صحيح ، فإن الدليل إنما يحكي عن ثبوت الجامع في ضمن الفرد والحصة الخاصة ، أي يحكي عن وجود الجامع بمقدار ما هو مرتبط بذلك الفرد الّذي علم بانتفائه فلا كاشفية ولا حكاية له عن ثبوت الجامع مع قطع النّظر عن ذلك الفرد لكي يكون حجة فيه ، بل المقام أوضح بطلاناً من المثال لعدم وجود جامع حقيقي بين المفادين. وليس هذا من قبيل الدلالات التضمنية غير التحليلية في باب العمومات أو المطلقات والتي تبقى على حجيتها ولو علم بكذب بعضها الآخر.

وإن شئت قلت : إن حجية هذه الدلالة التضمنية وإن كانت داخلة في إطلاق دليل الحجية إلاّ أنها كانت داخلة فيه ضمن حجية أصل ذلك الدليل لإثبات الخصوصية لا أن حجيته لإثبات الخصوصية وحجيته لإثبات الجامع فردان مستقلان لإطلاق دليل الحجية حتى يبقى أحدهما على حاله ولو سقط الآخر. فالشرط الرابع مفقود في المقام أيضا.

وأما النحو السابع ، وهو حجية غير معلوم الكذب منهما ، فيرد عليه : ما أوردناه على النحو الثاني ، وهو حجية كل منهما بشرط كذب الآخر ، من لغوية جعل مثل هذه الحجية ، فيكون الشرط الثاني مفقوداً ، لأن غير ما علم إجمالاً كذبه يعلم بصدقة في النقيضين ، فلو أريد من هذه الحجية تنجيز غير ما علم كذبه من الدليلين على المكلف فيما لو أحرز شرط هذه الحجية ، فهذا غير معقول لأنه حينما يحرز ذلك يحرز صدق الآخر ، فيحرز الحكم الواقعي ولا يبقى مجال لجعل الحجية. ولو أريد منها إيصال مفاد أحد الدليلين إجمالاً فهو ثابت بالعلم الوجداني ، وباعتباره دائراً بين الإلزام والترخيص لا يكون منجزاً ، فجعل مثل هذه الحجية لغو ولا يستفاد منها فائدة الحجية التخييرية من تعيين الحجة في أحد الدليلين المتعارضين والاستناد إليها ولو تنزلنا عن هذا الإيراد ، بافتراض عدم العلم بصدق أحدهما ـ كما


في غير المتناقضين ـ ورد عليه : أنه مع احتمال كذبهما معاً يكون المعلوم إجمالاً كذبه غير متعين في كثير من الأحيان حتى في الواقع ونفس الأمر ، لتساوي نسبة العلم إليهما لو كانا كاذبين معاً فيكون غير المعلوم بالإجمال أيضا غير متعين ومع عدم التعين الواقعي يستحيل جعل الحجية له ثبوتاً ، فيكون الشرط الثاني مفقوداً. كما أنه لا يشمله إطلاق الدليل إثباتاً ، فيكون الشرط الرابع مفقوداً.

وهكذا يتلخص : ان مقتضى القاعدة والأصل الأولي في المتعارضين من هذا القسم ـ المتعارضان بنحو التناقض ـ هو التساقط المطلق.

القسم الثالث ـ أن يكون التعارض ذاتياً على نحو التضاد. ونقصد بالتضاد ما يقابل القسم الثاني ، أي التقابل بنحو يمكن فيه كذب الدليلين معاً ولكنه لا يمكن صدقهما معاً.

والمتجه في هذا النوع من التعارض هو الحكم بالتخيير على مقتضى الأصل الأولي بنحو من الأنحاء السبعة المتقدمة لتصوير الحجية التخييرية ، وهو النحو الثاني والنحو السابع ـ على معنى يرجع لباً إلى النحو الثاني أيضا ـ وتفصيل ذلك : أن الحجية التخييرية بالنحو الثاني ـ وهو حجية كل منهما شروطاً بعدم صدق الآخر ـ معقول في هذا القسم وإن لم يكن معقولاً في القسم السابق ، لتواجد كل شروطها فيه. إذ الشرط الأول ، وهو عدم التنافي بين الحجيتين المشروطتين محفوظ من جهة أن هذه الحجية مقيدة في كل طرف بكذب الآخر ، وهذا يمنع عن فعلية كلتا الحجيتين بنحو يلزم التنافي في إطلاقات دليل الحجية. أما بناء على مسلك المشهور من تقوّم الحجية بالوصول ـ ولو إجمالاً ـ وأن الأحكام الظاهرية تتعارض في مرحلة الوصول فلأن الواصل من هاتين الحجيتين إحداهما لا أكثر ، إذ لا يعلم إلاّ بكذب أحد الضدين إجمالاً


فتكون حجية أحدهما هي الواصلة بوصول موضوعها إجمالاً فلا يقع تناف بين الحجتين.

وأما بناء على المسلك المختار من ثبوت الأحكام الظاهرية واقعاً كالأحكام الواقعية ، فأيضاً لا محذور في البين لعدم مانع عن إطلاق دليل الحجية لكل منهما مشروطاً بكذب الآخر لاحتمال أن الثابت واقعاً فعلية إحدى الحجيتين ، ومجرد احتمال كذبهما معاً لا يمنع عن صحة التمسك بإطلاقه لإثبات الحجيتين المشروطتين اللتين يعلم بتحقق شرط إحداهما إجمالاً.

كما أنه لا تنافي بين هذه الحجية المشروطة في أحد الطرفين والحجية المطلقة في الطرف الآخر ، لأن الحجية المشروطة لا تصبح فعلية في أحد الطرفين تعييناً إلاّ إذا علم بكذب الآخر تعييناً ، ومعه لا موضوع للحجية المطلقة فيه حتى تتنافى مع الحجية المشروطة ، فالشرط الثالث محفوظ. وكذلك الشرط الرابع ، فإن هذه الحجية حصة من حصص الحجية المطلقة المستفادة من دليل الحجية العام وليست حجية جديدة. وأما الشرط الثاني ، وهو معقولية جعلها ، فقد يتوهم عدم توفره ، لأنه لو أحرز شرط هذه الحجية وهو كذب أحدهما المعين خرج المورد عن التعارض بين الحجتين ، وإن لم يحرز ذلك لم تبق فائدة لجعلها إذ لا يحصل منها علم بالمنجز شرعاً.

ولكن الصحيح : توفر هذا الشرط ، لأن فائدة هذه الحجية إحراز حجية أحد الدليلين إجمالاً حيث يعلم بكذب أحدهما فيعلم إجمالاً بفعلية إحدى الحجيتين ، وهذا أمر زائد لم يكن محرزاً لو لا الحجية المشروطة ، إذ مفاد الدليلين يحتمل كذبهما معاً. وليس فرض كذب أحدهما مساوقاً مع صدق الآخر. والنتيجة العملية الفقهية لإحراز هذه الحجية الإجمالية نفي الثالث ، فالفقيه يمكنه أن يفتي بعدم الثالث استناداً إليها. وهذا هو التخريج الفني الصحيح لنظرية نفي الثالث في موارد التعارض ، والتي حارت الصناعة الأصولية في كيفية تخريجها بعد البناء على المسلك الصحيح القائل بتبعية الدلالة


الالتزامية للمطابقة في الحجية.

وأما الأنحاء الأخرى للحجية التخييرية. فبين ما لا يتم في هذا القسم ، وما لا بد من إرجاعه لباً إلى النحو المتقدم للحجية المشروطة. فالنحو الأول وهو حجية كل منهما مشروطاً بعدم حجية الآخر ، يرد عليه. محذور الدور والتمانع من الطرفين المتقدم في القسم السابق. والنحو الثالث وهو حجية كل منهما مشروطاً بعدم الالتزام بالآخر وكذلك النحو الرابع وهو حجية كل منهما مشروطاً بالالتزام به ترد عليهما نفس المحاذير والمناقشات المتجهة عليهما في القسم السابق.

وأما النحوان الخامس والسادس ـ وهما حجية أحدهما المردد مصداقاً وحجية الجامع بينهما ـ فمحذور اللغوية الّذي كان يشكل به عليهما في القسم السابق غير متجه في هذا القسم ، لما تقدم من عدم اللغوية فيما إذا لم يكن فرض كذب أحد الدليلين مساوقاً مع صدق الآخر ، غير أن المناقشات الخاصة المتجهة هناك من عدم معقولية الفرد المردد مصداقاً وعدم مساعدة العرف على أن يكون فرداً ثالثاً من دليل الحجية ، وأن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً ثالثاً ، والجامع بين المدلولين مدلول تضمني وهو لا يبقى على الحجية بعد سقوط المدلول المطابقي ، فكلها متجهة هنا أيضا.

وأما النحو السابع والأخير من تلك الأنحاء ـ وهو حجية غير معلوم الكذب منهما ـ فإنما يعقل هنا لو كان المعلوم كذبه له تعين وامتياز واقعي فيما إذا كانا معاً على خلاف الواقع ، بأن كان يعلم بكذب ما رواه الثقة الواقفي مثلاً واشتبه الأمر ولم يعرف أيهما للواقفي وأيهما لغيره ، فإنه في مثل ذلك يوجد تعين واقعي لغير معلوم الكذب إجمالاً.

لا يقال : هذا يخرجه عن باب التعارض ويجعله من اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن ما هو معلوم الكذب خارج من دليل الحجية في نفسه بمقتضى تخصيصه ولو لباً بعدم العلم بالخلاف ،

فإنه يقال : المقيد إنما يخرج معلوم الكذب المنجز لا أكثر من ذلك


فدليل الحجية شامل في نفسه لكل من الدليلين ولا يكون التمسك به من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه اللبي.

إلاّ أن هذا يرجع بحسب الروح إلى النحو الثاني ، إذ معناه حجية كل منهما مشروطاً بعدم كونه المعلوم كذبه المساوق لكون الآخر كذباً.

تلخيص واستنتاج :

وهكذا يتبين أن مقتضى صناعة الأصل الأولي لو كان دليل الحجية العام لفظياً تعبدياً فيما إذا كان بين الدليلين تناف ذاتي بنحو التناقض بالمعنى المتقدم هو التساقط. وفيما إذا كان بينهما تناف ذاتي بنحو التضاد هو الحجية في الجملة والتي من نتائجها نفي الثالث. وفيما إذا كان التعارض بينهما عرضياً هو إعمال كلا الدليلين في مدلوليهما المطابقيين في خصوص ما إذا علم بصدق أحدهما وكانا إلزاميين. هذا كله مع قطع النّظر عن الارتكازات العقلائية وتحكيمها على الدليل العام للحجية. وأما إذا حكمنا الارتكازات العقلائية التي تأبى التفكيك بين المداليل المطابقية والالتزامية ، فإذا فرض العلم بصدق أحد المفادين كان كفرضية التناقض التي حكمنا فيها بالتساقط ، لجريان ما ذكرناه في ذلك القسم فيه حرفاً بحرف. وإذا فرض عدم العلم بصدق أحد المفادين بحيث احتملنا كذبهما معاً كان كفرضية التضاد التي أثبتنا فيها الحجية في الجملة بنفس البيان المتقدم أيضا.

وبما أن الصحيح في دليل الحجية العام أنه ليس دليلاً لفظياً تعبدياً فالمتعين هو التساقط المطلق في باب التعارض وعدم ثبوت الحجية التخييرية على مقتضى القاعدة الأولية ، وإن شئت قلت : إن هذا النحو من الحجية لو لم يدع كونه على خلاف الارتكاز العقلائي في باب الحجية القائمة على أساس الطريقية والكاشفية فلا أقل من أنه لا ارتكاز على وفاقه ، فلا يمكن إثباته لا بأدلة الحجية اللبية ولا بالأدلة اللفظية ، لأن الأدلة اللبية المتمثلة في السيرة العقلائية قد


عرفت عدم اقتضائها هذا النحو من الحجية ، والأدلة اللفظية المتمثلة في بعض الآيات أو الروايات القطعية ، بين ما لم يصرح فيه بكبرى الحجية وإنما قدرت الكبرى باعتبار مركوزيتها ـ كما في مثل قوله 7 العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك فمعنى يؤديان ـ والمفروض عدم وفاء تلك الكبرى المركوزة لإثبات هذا النحو من الحجية ، وبين ما صرح فيه بالكبرى ولكن في سياق إمضاء ما عليه البناء العقلائي ، فلا يكون فيه إطلاق أوسع مما عليه السيرة العقلائية نفسها.

ومن خلال مجموع ما ذكرناه اتضح الحال في القول الثاني ، وهو القول ببقاء الحجية في الجملة في تمام موارد التعارض.

وأما القول الثالث الّذي ذهب إليه المحقق العراقي ـ قده ـ فهو ـ على ما جاء في تقريرات بحثه ـ التفصيل بين ما إذا كان الخبران متنافيين بحسب مدلولهما فيحكم فيه بالتساقط المطلق ، وبين ما إذا لم يكن تناف بين مدلول الخبرين ، بل يمكن صدقهما معاً لكنه علم بكذب أحد الرّاويين المستلزم لدلالة كل منهما بالملازمة على كذب الآخر فيحكم فيه بالحجية وتنجيز مدلولهما على المكلف ، وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله : إن كلاً من الخبرين في الفرض الثاني وإن كان يكذّب الآخر بالالتزام إلاّ أنه لا يدل على عدم مطابقة مدلوله للواقع فلعل ما تضمنه من الحكم ثابت في الشرع ، وهذا يعني أن هذه الدلالة التزامية لا يترتب عليها أثر عملي لكي يكون حجة ومعارضاً مع مدلول الآخر ، إذ لو أريد بها نفي الحكم الشرعي الواقعي الّذي دل عليه الآخر فقد عرفت عدم دلالته على ذلك ، وان أريد إيقاع المعارضة بينهما باعتبار الدلالة على عدم صدور الكلام المنقول للآخر ولو لم ينته إلى نفي ذات المدلول ففيه : أن عدم الصدور بمجرده لا يترتب عليه تنجيز أو تعذير لكي تقع المعارضة بينهما.

وهذا التفصيل غير تام وذلك.

أولا ـ للنقض بموارد التكاذب بين الأمارتين صريحاً بحسب مدلولهما


المطابقيتين ، كما إذا أخبر أحدهما عن صدور كلام معين من المعصوم ونفي الآخر صدور شخص ذلك الكلام عنه ، فإن لازم هذا البيان بقاء الدليل المثبت على الحجية ، مع أن التعارض وعدم الحجية في مثله من الواضحات ارتكازاً وعقلائياً.

وثانياً ـ الحل ، وحاصله : أنه تارة : نبني على أن دليل حجية السند يحقق تعبداً صغرى الحكم الظاهري بحجية شخص ذلك الظهور المنقول عن المعصوم 7 وأخرى : نبني على أنه ينجز الحكم الواقعي المفاد بالخبر ابتداء.

فعلى الأول ، يكون التعارض في المقام واضحاً ، إذ كما يكون كل من الخبرين محققاً لصغرى حجية شخص الظهور المنقول به فيكون منجزاً بهذا الاعتبار ، كذلك ينفي بدلالته الالتزامية تلك الصغرى فيكون معذراً عنه بهذا الاعتبار ، ومجرد احتمال وجود الحكم واقعاً لا يضر بذلك لأن المنجز إنما هو حجية الظهور التي تكون انحلالية بعدد أشخاص الظهورات ، كما هو واضح.

وعلى الثاني ، قد يشكل الأمر ، حيث يقال : أن المدلول التزامي لكل منهما لا ينفي وجود الحكم واقعاً حتى يكون معذراً عما ينجزه المدلول المطابقي للآخر ، ومجرد الدلالة على كذبه لا يكفي لإسقاطه عن الحجية ، لأن حجية الأمارات ليست مقيدة بعدم الكذب واقعاً أو بعدم قيام الحجة على كذبه وإنما الأمارة حجة مطلقاً ، غاية الأمر لا يعقل ثبوت الحجية له في موارد العلم الوجداني بالخلاف الّذي يكون حجة ذاتاً ، كما حقق في محله.

إلاّ أن الصحيح مع ذلك وقوع التعارض والتساقط بين الخبرين على هذا المسلك أيضا ، وذلك : لأننا يمكننا بالتلفيق بين مدلولين التزاميين للخبرين معاً التوصل إلى التعذير عن ذلك الحكم الواقعي المجهول فيكون معارضاً مع الخبر المنجز له ، فإن الحاكي لصدور الخطاب المثبت للحكم يدل بالالتزام


على أن ذلك الحكم الواقعي مقرون بصدور ذلك الخطاب وليس حكماً مجرداً عنه ، والخبر الآخر يدل بالالتزام على أنه إذا فرض عدم وجود حكم واقعي مجرد عن ذلك الخطاب فلا حكم أصلاً ، فينتج بالتلفيق بين المدلولين التعذير عن ذلك الحكم. وإن شئت قلت : أن الحكم المقرون بشخص ذلك الخطاب ينفيه الخبر النافي والحكم غير المقرون به ينفيه الخبر المثبت وبالجمع بينهما ينفي أصل الحكم الواقعي ويؤمن عنه.

وعلى أية حال ، لا إشكال أن البناء العقلائي القاضي بالحجية من باب الطريقية والكاشفية لا يرى انحفاظ نكتة الحجية في الخبرين المتكاذبين. فهذا التفصيل مما لا يكن المساعدة عليه.

ب ـ نظرية نفي الثالث :

ثم إنه بناء على التساقط المطلق ـ كما ذهب إليه المشهور ـ هل يمكن نفي الحكم الثالث المخالف مع مفاد كلا الدليلين المتعارضين فيما إذا لم يكن يعلم بصدق أحدهما أم لا يمكن ذلك ، فيجوز الالتزام بحكم ثالث مخالف لمفادهما إذا اقتضاه الأصل؟

ذهب مشهور المحققين إلى إمكان ذلك. وقد أفيد في تخريجه وجهان.

الوجه الأول ـ ما ذكره صاحب الكفاية ـ قده ـ من أن التعارض بين الدليلين غاية ما يستلزمه العلم بكذب أحدهما ، فالذي يسقط عن الحجية هو أحدهما المعلوم كذبه إجمالاً وأما الآخر فلا وجه لرفع اليد عن حجيته ، وحجيته وإن كانت غير مفيدة بالقياس إلى المدلول المطابقي منهما لعدم إمكان تعيين الحجية في أحد الطرفين ، إلاّ أنها مفيدة بلحاظ المدلول الالتزامي ، وهو نفي الثالث (١).

__________________

(١) راجع كفاية الأصول الجزء ٢ ، ص ٣٨٥ ( ط ـ مشكيني ).


وهذا الوجه غير صحيح على ضوء ما تقدم. إذ لو أريد من بقاء حجية أحدهما حجية أحدهما المفهومي أي الجامع بينهما ، أو أحدهما المصداقي ـ الفرد المردد ـ فهي غير معقولة ثبوتاً ، لما تقدم من أن الجامع بين الدليلين ليس دليلاً والفرد المردد ليس فرداً ثالثاً بين الفردين ، وأن دليل الحجية العام لا إطلاق له لمثل هذه العناوين بحسب مقام الإثبات عرفاً. وإن وأريد حجية غير معلوم الكذب من الدليلين بوجوده الواقعي فهذا إنما يعقل فيما إذا كان هناك تعين واقعي لمعلوم الكذب ـ على ما تقدم تفصيله أيضا ـ فلا يتم فيما إذا كان العلم الإجمالي بالكذب ناتجاً من مجرد التعارض بين الدليلين وتنافي مدلوليهما.

الوجه الثاني ـ ما نسب إلى المحقق النائيني ـ قده ـ من أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية ذاتاً ، إلاّ أنها غير تابعة لها حجية ، لأن كلاً منهما فرد مستقل لدليل الحجية العام فإذا انعقدت الدلالة المطابقية ذاتاً انعقدت الدلالة الالتزامية أيضا وسقوط الدلالة المطابقية بعد ذلك عن الحجية لوجود المعارض لا يستوجب سقوط الدلالة الأخرى وخروجها عن إطلاق دليل الحجية ما دام لا محذور في بقائها على الحجية. وعليه ، يكون الثالث منفياً بالدلالة الالتزامية لكل من الدليلين المتعارضين ، لأن التعارض بينهما بلحاظ مدلوليهما المطابقيين ، وأما الثالث فكلاهما متفقان على نفيه بحسب الفرض.

وهذا الوجه أيضا غير تام ، لأن الصحيح تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية. وهذه كبرى كلية تظهر ثمرتها في موارد كثيرة ، فلا بد من تنقيحها وتمحيصها في هذا المقام. فنقول :

يمكن أن يبرهن على عدم التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية بعدة تقريبات.

التقريب الأول ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في إبطال الوجه المتقدم ، ويتألف من نقض وحل. أما النقض فبموارد :


منها ـ ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلاً ، وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشيء آخر كوقوع الدم عليه مثلاً ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة باعتبار أن الإخبار عن وقوع البول على الثوب اخبار عن نجاسته لكونها لازمة لوقوع البول عليه ، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم ـ للعلم بالخلاف ـ لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم. ولا نظن أن يلتزم به فقيه.

ومنها ـ ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر فقامت بينة على كونها لعمرو ، وبينة أخرى على كونها لبكر ، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم كون الدار لزيد وأنها مجهول المالك؟

ومنها ـ ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر فلا حجية لواحد منهما في مدلوله المطابقي ـ مع قطع النّظر عن المعارضة ـ لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين ، فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي والحكم بعدم كون الدار لزيد لكونهما موافقين فيه ، فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟

ومنها ـ ما لو أخبرت بينة عن كون الدار لعمرو واعترف عمرو بعدم كونها له فتسقط البينة عن الحجية لكون الإقرار مقدماً عليها ، كما أنها مقدمة على اليد فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي للاعتراف هل يمكن الأخذ بمدلولها الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقه.

وأما الحل : فهو أن الإخبار عن الملزوم وإن كان اخباراً عن اللازم إلاّ أنه ليس اخباراً عن اللازم بوجوده السعي بل اخبار عن حصة خاصة هي لازم له ، فإن الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس اخباراً عن نجاسة الثوب


بأي سبب كان بل اخبار عن نجاسته المسببة من وقوع البول عليه فبعد العلم بكذب البيّنة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب يعلم كذبها في الاخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأما النجاسة بسبب آخر فهي وإن كانت محتملة إلاّ أنها خارجة عن مفاد البيّنة رأساً. وكذا الكلام في المقام ، فالخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الإباحة التي هي لازمة للوجوب لا على عدم الإباحة بقول مطلق ، والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الإباحة اللازمة للحرمة لا مطلق عدم الإباحة فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضا. وكذا الحال في سائر الأمثلة التي ذكرناها (١).

أقول : بالإمكان المناقشة في كل من النقض والحل ، ففيما يتعلق بالنقض يناقش.

أولا ـ أن هذه النقوض تشترك كلها من أن المشهود به فيها من قبل البينة أو غيرها هو الموضوع الخارجي المحسوس به ، وأما الحكم بالنجاسة أو الملكية فليس ثبوته شرعاً باعتباره مدلولاً التزامياً للشهادة ، كيف وقد لا يعتقد الشاهد بترتب ذلك الحكم وإنما يثبت الحكم ثبوتاً واقعياً بدليله الوارد في الشبهة الحكمية ، وثبوتاً ظاهرياً في مورد الشهادة بدليل حجية الشهادة وهذا يعني أن ترتبه يكون أثراً شرعياً مصححاً للحجية لا مدلولاً التزامياً للمشهود به. وعلى هذا الأساس ، إذا أريد تطبيق دليل حجية الشهادة في موارد النقض على المدلول الالتزامي لمفاد البينة ابتداء فهو ليس موضوعاً آخر لدليل حجية الشهادة ، وإن أريد تطبيقه على الشهادة بالملاقاة ـ الموضوع الخارجي ـ لترتيب آثارها فالمفروض سقوطه بالعلم الوجداني ، وان أريد تطبيقه بلحاظ الجامع بين ذلك الموضوع الخارجي وغيره ، بدعوى : انحلال الشهادة بالملاقاة مع البول إلى الشهادة بجامع الملاقاة والشهادة بالخصوصية ، والساقط من هاتين الشهادتين الثانية لا الأولى ، فالجواب : أن الشهادة بالجامع

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.


شهادة تضمنية تحليلية ، وقد تقدم أن حجيتها ضمنية أيضا ، كيف ولو كان مثل هذه الدلالات باقية على الحجية لأمكن إثبات كل شيء بالشهادة الكاذبة على أي شيء ، لانحلالها إلى الشهادة على الجامع بينه وبين الشيء المراد إثباته ـ ولو كان جامعاً انتراعياً ـ فتكون حجة في إثبات الجامع ، وبنفي ذلك الفرد المعلوم كذبه يتعين الآخر لا محالة ، وهذا واضح البطلان.

وثانياً ـ أن بعض هذه النقوض ليس من باب سقوط الدلالة المطابقية بل من باب عدم ترتب الأثر عليها ، لعدم توفر شرائط الحجية كلها ـ كما في النقض الثالث ـ والمدعى عند القائل بالتبعية سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط المطابقية ، لا توقف حجيتها على حجية المدلول المطابقي وترتب أثر شرعي عليه بالفعل.

وفيما يتعلق بالحل يناقش : بأنه إذا أريد قياس المقام على البينة في الأمثلة المتقدمة ، فقد عرفت أن المدلول الالتزامي فيها لم يكن بنفسه موضوعاً جديداً لدليل حجية الشهادة وإنما مصحح جعل الحجية للشهادة بالموضوع الخارجي ولكن الدلالة الالتزامية للظهور في الكلام الصادر من المعصوم 7 كشف لفظي عن لازم المدلول المطابقي وليس مصحح جعل الحجية للمدلول المطابقي كما هو واضح ، وان أريد أن المدلول الالتزامي إنما هو الحصة الخاصة المقارنة مع الملزوم فتكون المعارضة سارية إليه أيضا ، فالجواب : أن هذا إنما يتم في المداليل الالتزامية التي لها تخصص وتعين في نفسها مع قطع النّظر عن المقارنة المنتزعة بلحاظ المدلول المطابقي ، فتكون بنفسها مما لا تجتمع مع المدلول في الدليل الآخر ، وأما إذا لم يكن لها تعين كذلك فلا يتم هذا الوجه ، لأن المدلول الالتزامي حينئذ ذات اللازم ، والدلالة الالتزامية دلالة عليه بما هو هو لا بما هو لازم مقارن ، فالتلازم نسبة بين المتلازمين وليس مأخوذاً في أحد الطرفين فمع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وعدم مشموليتها لدليل الحجية العام لا مانع من بقاء الدلالة الالتزامية للكلام على حجيتها ما دام مدلولهما محتمل الثبوت في نفسه والدلالة عليه محفوظة ذاتاً ووجوداً.


وبعبارة أخرى : أن عدم الترخيص المستفاد من دليل الوجوب مثلاً وإن كان على تقدير ثبوت الوجوب مقارناً مع الوجوب إلاّ أن دليل الوجوب يدل على ذات عدم الترخيص أولا ـ على أساس برهان استحالة اجتماع الضدين ـ وينتزع في طول ذلك ثانياً وبعد ثبوت المدلول المطابقي عنوان التقارن بينهما ، والّذي يدخل ميدان التعارض الدلالة على التقارن لا الدلالة على عدم الترخيص.

التقريب الثاني ـ ان الدلالة الالتزامية العقلية ليست من دلالة اللفظ على المعنى بل من دلالة المعنى على المعنى ، فهناك بحسب الحقيقة دالان ومدلولان ، أحدهما الكلام ومدلوله المعنى المطابقي ، والآخر نفس المعنى المطابقي ومدلوله المعنى الالتزامي ، لأن الملازمة العقلية ملازمة تصديقية بين واقع المعنيين بوجوديهما الحقيقيّين فإذا سقطت الدلالة اللفظية في إثبات مدلوله فلا يبقى ما يدلنا على المعنى الالتزامي ، وهو معنى التبعية بينهما في الحجية.

وهذا الوجه لو تم لأثبت التبعية بمعنى توقف حجية الدلالة الالتزامية على حجية المطابقية لا مجرد الملازمة بينهما وعدم الانفكاك ، كما هو الحال على الوجه السابق.

إلاّ أن هذا الوجه غير تام أيضا ، لأن الملازمة العقلية إنما تكون بين ثبوت المعنى المطابقي واقعاً وثبوت المعنى الالتزامي كذلك لا ثبوتهما التعبدي ، فإن أريد من عدم الدال على المعنى الالتزامي عند سقوط الدلالة المطابقية عدم ذات الدال على المعنى الالتزامي فهو غير صحيح ، فإن الدال عليه ذات المعنى المطابقي وهي غير ساقطة وإنما الساقط حجيتها ، وإن أريد عدم التعبد بثبوت الدال على المعنى الالتزامي فهو صحيح إلاّ أنه لم يكن هو الدال على المعنى الالتزامي ، وإلاّ لثبتت حجية لوازم الأصول العملية أيضا لثبوت التعبد بمداليهما المطابقية.

وإن أريد أن حجية الدلالة المطابقية ينقح تعبداً موضوع حجية الدلالة


الالتزامية ، حيث يثبت بها وجود المعنى المطابقي الدال على المعنى الالتزامي ، فيترتب عليه حجيته تعبداً نظير إثبات الحكم الشرعي بالبينة المحرزة لموضوعه تعبداً ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية فلا يمكن إثبات حجية الدلالة الالتزامية لعدم إحراز موضوعها ولو تعبداً. ففيه : أن المعنى المطابقي ليس موضوعاً لحجية المعنى الالتزامي بل ملازماً عقلاً مع المعنى الالتزامي فالنسبة بينهما هي النسبة بين الأمرين التكوينيين المتلازمين لا نسبة الموضوع إلى حكمه الشرعي الّذي يكون مصحح جعل الحجية للأمارة الحاكية عن موضوعه.

وإن شئت قلت : إن موضوع الحجية في الأمارات تلك الدرجة من الكشف التصديقي الثابت في موارد قيامها ، وهي كما توجد بالنسبة إلى المدلول المطابقي كذلك توجد بالنسبة إلى المدلول الالتزامي ، ومجرد سقوط الكشف الأول عن الحجية لا يستوجب ارتفاع الكشف الثاني.

التقريب الثالث ـ وهو الوجه المختار ـ إن ملاك الحجية في الدلالتين واحد فلا تبقى نكتة لحجيته الدلالة الالتزامية إذا سقطت الدلالة المطابقية. وتوضيح ذلك : إن نكتة الحجية وملاكها في الاخبار والحكاية إنما هو أصالة عدم الكذب ـ بالمعنى الشامل للاشتباه ـ وفي الإنشاء والقضايا المجعولة أصالة الظهور وإرادة المعنى من اللفظ ، وإذا سقطت الدلالة المطابقية بظهور كذبها في باب الأخبار أو عدم إرادتها في باب الإنشاء فافتراض عدم ثبوت المدلول الالتزامي لها لا يستدعي افتراض كذب زائد في الاخبار أو مخالفة زائدة في الإنشاء لأن هذه الدلالة لم تكن بدال إخباري أو إنشاء مستقل وإنما كانت من جهة الملازمة بين المدلولين فتكون من دلالة المدلول على المدلول وليست دلالة واجدة لملاك مستقل للكاشفية والحجية.

وعلى هذا الأساس صح التفصيل في التبعية بين الدلالة الالتزامية البينة عرفاً ـ أي الدلالة التصورية ـ والدلالة الالتزامية غير البينة ـ الدلالة التصديقية


العقلية ـ حيث لا نلتزم بالتبعية في الأولى ، إذ لو كانت الدلالة الالتزامية بدرجة من الوضوح بحيث تشكل ظهوراً في الكلام زائداً على مدلوله المطابقي فسوف يكون عدم إرادة المتكلم لها مخالفة إضافية زائداً على ما يستلزمه عدم إرادته للمدلول المطابقي فيكون مثل هذه الدلالة الالتزامية مستقلة عن الدلالة المطابقية في ملاك الحجية فلا تتبعها في السقوط.

وعلى هذا الأساس أيضا صح التفصيل بين الدلالة التضمنية التحليلية والدلالة التضمنية غير التحليلية ولو كانت ارتباطية ـ كما في دلالة العام المجموعي ـ فإن الأولى لا تبقى على الحجية بعد سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لعدم لزوم خطأ آخر أو مخالفة زائدة من سقوطها بينما الثانية تبقى على الحجية ولو سقط المدلول المطابقي ، فلو علم من الخارج عدم إرادة العموم من العام المجموعي للعلم بخروج فرد معين منه مع ذلك يصح التمسك به لإثبات الحكم على مجموع الباقي ، كما هو الحال في العموم الاستغراقي ، ولا تخريج فني لذلك إلاّ ما أشرنا إليه في المقام من أن الدلالة التضمنية في العام المجموعي وإن كانت ارتباطية ولكن مخالفة العام المجموعي بعدم إرادة شيء من أفراده أشد عناية وأكثر مخالفة من إرادة البعض منه فيكون مقتضى الأصل عدم المخالفة الزائدة ، وهو معنى عدم التبعية.

ج ـ التعارض بين الأدلة المتعددة :

لا فرق في ما هو مقتضى الأصل الأولي في موارد التعارض المستقر بين ما إذا كان التعارض بين دليلين أو أكثر ، فكما يحكم بتساقطهما في الأول يحكم بتساقط الجميع في الثاني ـ إذا لم تفرض خصوصية تقتضي تعين بعضهما للسقوط ، على ما سوف يأتي الحديث عنه في نظرية انقلاب النسبة ـ والوجه في ذلك واضح ، فإنه سوف يقع التنافي في اقتضاء دليل الحجية لشمول كل واحد منها مع اقتضائه لشمول الآخر فشموله لها جميعاً غير ممكن وشموله


لبعض دون بعض ترجيح بلا مرجح ، من دون فرق بين أن تكون هناك معارضة واحدة بين مجموع تلك الأدلة أو أكثر ، كما إذا تعارض دليل مع دليلين بملاكين مختلفين. ومن دون فرق بين أن تكون المعارضة من جهة التنافي بين مدلول كل منها مع مدلول الآخر أو من جهة التنافي بين الرواية ، كما إذا علم بكذب أحد الرّواة وعدم صدور ما ينقله عن المعصوم 7. وبهذا يعرف أن موارد اختلاف النسخ في نقل الرواية تكون من باب التعارض أيضا.

إلاّ أنه ربما يتصور في خصوص ما إذا وقع الاختلاف والتهافت في طريق نسخة واحدة دون طريق النسخة الأخرى أو الرواية المعارضة ، إمكان إنجاء النسخة الأخرى أو المعارض الّذي لم يقع اختلاف في طريق نقلهما عن المعارضة. ومن تطبيقات هذه الكبرى في الفقه رواية ذريح المعروفة في العصير العنبي المغلي قال : « سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ 7 يَقُول : إذا نَشّ العَصِيرُ أو غَلا حَرُمَ » (١). حيث أنها نقلت في التهذيب بـ ( أو ) ونقلها صاحب الوسائل عن الكافي بـ ( و) ونقلها صاحب البحار عن الكافي بـ ( أو ) فيدعى حينئذ اختصاص التعارض بطريقي النسختين الواردتين في مقام تعيين عبارة الكافي ويبقى نقل التهذيب سليماً عن التعارض.

والتحقيق ـ على ما أوضحناه في محله في الفقه (٢) ان الأمر يختلف باختلاف المبنى في كيفية تصور حجية الخبر مع الواسطة. فالتصور المتعارف لحجيته هو أن يقال : بأن المخبر المباشر لنا يخبرنا عن خبر من قبله فيثبت لنا خبر من قبله على أساس حجية إخبار المخبر المباشر ومن قبله يخبر عن خبر من قبله فيثبت لنا ذلك الخبر وهكذا ، فبناء على هذا التصور لا معارض لنقل التهذيب

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٣ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٢) بحوث في شرح العروة الوثقى الجزء الثالث ، ص ٤٠٥.


لأن كتاب البحار يثبت خبر من قبله وهكذا إلى أن يصل إلى الكافي وكذلك كتاب الوسائل فيتعارضان في تعيين خبر الكافي قبل أن يصلا إلى إثبات خبر ذريح فنقل التهذيب عن ذريح يبقى بلا معارض إذ لا يوجد ما يصلح لمعارضته ، أما نقل الكليني فلأنه لم يثبت اشتماله على الواو مع تهافت نسخ الكافي وأما نقل البحار فلأن التهذيب ينقل عن ذريح أنه نطق بـ ( أو ) والبحار ينقل عن الكافي أنه قال أن ذريحاً نطق بالواو ولعل كلا هذين الكلامين صادقان. لكن المختار في تصوير حجية الخبر مع الواسطة أن الناقل المباشر عن الإمام ينقل. حكماً واقعياً ونقله له موضوع لحكم ظاهري منجز للواقع وهو الحجية فالناقل عنه ناقل لموضوع ذلك الحكم الظاهري وهذا النقل الجديد يشمله دليل الحجية بهذا اللحاظ ويكون بنفسه موضوعاً لحكم ظاهري منجز لذلك الحكم الظاهري المنجز للواقع وهكذا إلى أن نصل إلى الناقل المباشر لنا الّذي يكون نقله موضوعاً لحكم ظاهري عاشري مثلاً ويكون حجة لأنه نقل موضوع حكم الشارع فيثبت ذلك الحكم ، وبناء على هذا التصور يقع التعارض لا محالة بين خبر التهذيب وخبر البحار وخبر الوسائل في عرض واحد ويسقط الكل فإن نقل التهذيب موضوع لحكم ظاهري ينجز الحرمة عند النشيش ونقل البحار موضوع لحكم ظاهري يعذر عن الحرمة عند النشيش من دون غليان فلا محالة يتعارضان ويتساقطان ، غاية الأمر أن نقل البحار له معارض آخر وهو نقل الوسائل فيسقط الكل في عرض واحد.

د ـ مقتضى الأصل الثانوي :

وأما ما تقتضيه القاعدة إذا افترضنا العلم من الخارج بحجية أحد الدليلين المتعارضين وعدم تساقطهما المطلق ، فيقال عادة في هذا المجال : أنه تارة نفرض القطع بأن ملاك الحجية في أحدهما المعين أقوى منه في الآخر ، وأخرى : نفرض القطع بتساويه فيهما ، وثالثة : نفرض احتمال تعين الملاك وأقوائيته


في أحد الطرفين تعييناً ، ورابعة : نحتمل تعيّنه في كل من الطرفين. ففي الأول يثبت الترجيح ، وفي الثاني يثبت التخيير ، وفي الثالث والرابع يكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية من طرف واحد أو كلا الطرفين ، وسوف يأتي البحث عن حكمه.

أقول : قد عرفت مما تقدم أنه في الفروض الثلاثة الأولى لسنا بحاجة إلى افتراض علم خارجي يدلنا على عدم التساقط ، بل كان يكفي دليل الحجية وحده لإثبات نفس النتائج المفترضة في التقادير الثلاثة ، فالحاجة إلى ضم دليل خارجي على عدم التساقط إنما تظهر في التقدير الأخير الّذي يبحث فيه عن مقتضى الأصل الثانوي ، وأنه التخيير أو التعيين.

وأيا ما كان ، فالذي علينا البحث عنه هنا هو التفتيش عن مقتضى الأصل الثانوي في موارد علم فيها بعدم التساقط المطلق وتردد الأمر بين تعيين الحجية في أحد الطرفين المتعارضين أو التخيير بينهما. وقد ذكروا : أن مقتضى الأصل التعيين.

والتحقيق : أنه تارة : يبحث مع افتراض عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف إلزامية في مجموع الشبهات ، وأخرى : يبحث مع افتراض انحلال هذا العلم بموارد حددت فيها تفصيلاً التكاليف بالوجدان أو التعبد بحيث لم يبق مانع من الانتهاء إلى الأصول العملية المؤمنة في غير دائرة ما علم تفصيلاً من الشبهات.

فعلى الفرضية الأولى. ـ إذا كان احتمال التعيين في أحد الدليلين المتعارضين فقط ، وفرض التزام الفقيه به كان حجة عليه لا محالة ، سواء كان دليلا إلزامياً أم ترخيصياً. وإذا فرض عدم الالتزام به وإنما التزم بالآخر ، أو لم يلتزم بشيء منهما ، أو كان احتمال التعيين في كل من الطرفين وارداً ، فالنتيجة في جميع هذه التقادير الثلاثة عدم ثبوت الحجية لأحدهما المعين ولزوم


لاحتياط في مقام العمل ، وذلك للشك في حجية كل منهما وعدم إمكان رفع اليد عن مقتضى العلم الإجمالي الكبير المقتضى للاحتياط في تمام الأطراف.

لا يقال ـ لا بد من الالتزام بشيء منهما ، إذ المفروض ثبوت الحجية في الجملة ولو بدليل خارجي المستلزم لوجوب الالتزام بأحدهما في الجملة.

فإنه يقال ـ وجوب الالتزام بأحدهما في الجملة الثابت في موارد التخيير وعدم التساقط المطلق إنما يراد به حكم طريقي فحواه تنجز الواقع على المكلف إذا لم يلتزم بشيء منهما وليس حكماً تكليفياً مستقلاً عن الواقع المشتبه ، والمفروض أن الواقع منجز بالعلم الإجمالي الكبير وان المكلف لا بد وأن يحتاط بلحاظه ، فلا مخالفة في ترك الالتزام بهما مع الاحتياط.

وأما على الفرضية الثانية ، فتارة : يفترض وجود علم إجمالي بالتكليف في خصوص مورد التعارض ، كما إذا دل أحد الدليلين على نفي وجوب الجمعة والآخر على نفي وجوب الظهر وكان يعلم إجمالاً بوجوب أحدهما ، وحكم هذه الصورة حكم الفرضية السابقة أيضا ، بمعنى أن ما يلتزم به يكون هو الحجة إذا كان محتمل التعيين ، وإلاّ فالاحتياط. وأخرى : لا يفترض وجود علم إجمالي في مورد التعارض. وحينئذ تارة : يتكلم فيما إذا تعارض دليل الإلزام مع دليل الترخيص ، وأخرى : فيما إذا تعارض دليلان كلاهما يدل على الحكم الإلزاميّ.

وقبل الدخول في تفاصيل القسمين لا بد وأن نوضح : أن الحجية التخييرية ترجع بحسب روحها وصياغتها الثبوتية إلى مجموع أحكام ثلاثة. حجية كل من الطرفين مشروطة بالأخذ به مع وجوب الالتزام بأحدهما وجوباً طريقياً لأن كل الفرضيات الأخرى لتصوير حقيقة الحجية التخييرية كانت غير معقولة باستثناء فرضية حجية كل منهما مشروطاً بكذب الآخر الّذي كان معقولاً في بعض أقسام التعارض ولكنها لم تكن مفيدة لتعيين الحجة في أحد


الطرفين حين الأخذ به وإنما كان يظهر أثره في نفي الحكم الثالث فقط ـ على ما تقدم شرحه مفصلاً ـ وهذا هو الفارق بين الحجية التخييرية والوجوب التخييري ، فإن الأخير يعقل جعله كحكم واحد متعلق بالجامع بخلاف الحجية فإنها لا يعقل تعلقها بالجامع فلا محالة ترجع لباً إلى حجيّتين مشروطتين في الطرفين مع إيجاب الالتزام بأحدهما كحكم طريقي ـ ونقصد بالحكم الطريقي ما شرحناه قبل قليل من تنجز الواقع على المكلف فيما إذا لم يلتزم بشيء منهما وعدم إمكان رجوعه إلى الأصول المؤمّنة ـ ونكتة ذلك لغوية جعل الحجية المشروطة من دونه. فالدليل على الحجية التخييرية بدلالته على هذا الوجوب الطريقي يكون مخصصاً لأدلة الأصول المؤمنة. وبهذا يعرف أيضا أنه لو كان الواقع منجزاً بنفسه إما لعدم انحلال العلم الإجمالي الكبير أو لوجوب الاحتياط في كل شبهة ولو كانت بدوية ، فلا موجب لجعل الوجوب الطريقي.

وعلى ضوء هذا المعنى نقول : إذا فرضنا التعارض بين دليلين يدل أحدهما على حكم إلزامي ، والآخر على حكم ترخيصي وكان يعلم بثبوت الحجية لأحدهما في الجملة ولكنها ترددت بين أن تكون تخييرية أو تعيينية ، فهناك ثلاث صور تختلف النتيجة العملية باختلافها.

الصورة الأولى ـ ما إذا كان احتمال التعيين في دليل الإلزام بالخصوص. وحكم هذه الصورة أنه إذا التزم الفقيه بدليل الإلزام تمت لديه الحجة على الإلزام للقطع بحجيته في هذا الحال على كل تقدير ، وأما إذا لم يلتزم به فيدور الأمر بين ثبوت الحجية المطلقة لدليل الإلزام أو ثبوت الحجية التخييرية التي كانت عبارة عن الأحكام الثلاثة المتقدمة ، وحينئذ قد يتوهم : أن العلم الإجمالي هذا دائر بين متباينين لأن الحجية المطلقة لدليل الإلزام مباينة مع الأحكام الثلاثة ، فيجب الاحتياط.

إلاّ أن الصحيح ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ عدم منجزية مثل هذا العلم الإجمالي ، لجريان الأصل المؤمن عن الحجية المطلقة ـ التعيين ـ من دون


معارض لأن الحجية التخييرية لا معنى لإجراء الأصل المؤمن عنها ، لأن مئونتها مشتركة بينها وبين الحجية المطلقة فتكون ثابتة بالعلم الوجداني على كل حال ، إذ كلتا الحجيتين تشتركان في تنجيز الإلزام فيما إذا التزم بدليل الوجوب أو لم يلتزم بشيء منهما وتزداد مئونة الحجية المطلقة لدليل الإلزام وتظهر فيما إذا التزم بدليل الترخيص ، فما يجري عنه الأصل المؤمن إنما هو الحجية التعيينية لدليل الإلزام.

وبتعبير آخر : تجري أصالة البراءة عن الإلزام المحتمل في صورة الالتزام بدليل الترخيص ولا يعارض بأصل مؤمن آخر ، لأنه لو لم يلتزم بشيء منهما أو التزم بدليل الإلزام لم يكن الأصل المؤمن جارياً في حقه لعلمه بالمنجز حينئذ المتمثل في الوجوب الطريقي أو الحجة على الإلزام. وهذه نتيجة التخيير وجواز الأخذ بدليل الترخيص الّذي لا يحتمل تعينه. وبهذا يتضح أن إطلاق فتوى المشهور بالتعيين في كافة صور الدوران بينه وبين التخيير غير تام.

الصورة الثانية ـ ما إذا كان محتمل التعيين دليل الترخيص. والحكم في هذه الصورة هو إجراء الأصل المؤمن عن الحجية التخييرية لدليل الإلزام ، لأنها تتضمن كلفة زائدة بخلاف الحجية التعيينية لدليل الترخيص. وبالتعبير الآخر : تجري البراءة عن الإلزام الواقعي المشكوك سواء التزمنا بدليل الإلزام أو بدليل الترخيص أو لم نلتزم بشيء منهما ، إذ على جميع التقادير لا علم لنا بالمنجز لأن الحجة لو كانت متعينة في دليل الترخيص فلا تنجيز أصلاً ومع احتمال ذلك لا يبقى علم منجز فيمكن إجراء البراءة. نعم لو التزمنا بدليل الترخيص لقطعنا بالحجة على الترخيص فيمكن الاستناد إليه في الإفتاء بمضمونه. فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين.

الصورة الثالثة ـ أن نحتمل التعيين في الدليلين الإلزامي والترخيصي معاً ، وحكم هذه الصورة. كما في الصورة السابقة من حيث جريان الأصل المؤمن عن الحجية التعيينية والتخييرية المحتملتين لدليل الإلزام ، لأن فيهما معاً كلفة زائدة ،


دون الحجية التعيينية لدليل الترخيص. فالنتيجة في هذه الصورة تعيين دليل الترخيص أيضا ، نعم تختلف الصورتان في أنه لا يمكن الإفتاء بمضمون دليل الترخيص حتى لو التزم به الفقيه في هذه الصورة لاحتمال تعيين دليل الإلزام عليه. بينما كان يمكن ذلك في الصورة السابقة.

هذا كله إذا كان الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية لدليلين متعارضين أحدهما يدل على الإلزام والآخر على الترخيص.

وأما إذا كان المتعارضان معاً يدلان على الإلزام ، فتارة : يفترض أن الحكمين الإلزاميين المفادين بهما سنخ حكمين يمكن الاحتياط فيهما ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الصدقة على الفقير ودل الآخر على وجوب زيارة الحسين 7 وعلم بكذب أحدهما إجمالاً. وأخرى : يفترض أن الحكمين الإلزاميين لا يمكن فيهما الاحتياط ، كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته. وفي كلا الفرضين ، تارة : يكون احتمال التعيين في أحد الطرفين ، وأخرى : يكون احتمال التعيين في كلا الطرفين ، فمجموع الصور أربع.

أما الصورة الأولى ـ وهي ما إذا أمكن الاحتياط واحتمل التعيين في أحدهما ـ فيلزم فيها الأخذ بالدليل المحتمل تعيّنه ، لأنه بالأخذ به يقطع بالحجة على الإلزام في أحد الطرفين ، والتعذير عن الطرف الآخر المحتمل بالدلالة الالتزامية ، وبذلك يكون قد أفرغ ذمته بالتعبد ، بينما إذا التزم بالآخر حصل العلم الإجمالي بوجود إحدى حجتين إلزاميتين وهو منجز ، كما أنه إذا لم يلتزم بشيء منهما حصل العلم الإجمالي بحجية الدال على الإلزام الّذي كان يحتمل تعينه ، أو ثبوت الوجوب الطريقي المنجز للواقع وهو علم إجمالي منجز أيضا.

وأما الصورة الثانية ـ وهي ما إذا أمكن الاحتياط واحتمل التعيين في


الطرفين معاً فيجب فيها الاحتياط وامتثال كلا الدليلين ، لأنه سواء التزم بأحدهما أو لم يلتزم يحصل علم إجمالي منجز ، ولا يكون الالتزام بأحدهما موجباً للعلم بالفراغ عن التكليف ولو تعبداً.

وأما الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا لم يكن الاحتياط مع احتمال التعيين في أحد الطرفين ـ فيجب فيها الأخذ بالدليل المحتمل تعيّنه حيث يقطع معه بالحجة على الحكم الواقعي ، ولا يجوز تركه إلى الأخذ بالآخر أو تركهما معاً إذ يتشكل على الثاني علم إجمالي بالمنجز الّذي هو إما الحجية التعيينية أو الوجوب الطريقي. وعلى الأول ، علم إجمالي بحجية أحدهما وهو علم بالحجة المنجزة فيكون كالعلم بالواقع ، فلا يمكن إجراء البراءة عن مفاد محتمل التعيين لا من جهة الدوران بين الوجوب والحرمة وما قد يقال فيه من عدم جريان البراءة عن شيء منهما. فإنه لا دوران بينهما هنا لاحتمال كذب كلا الدليلين ، بل من جهة تشكل هذين العلمين الإجماليين المنجزين. كما أنه لا ينبغي أن يتوهم عدم منجزيّتهما بدعوى : أن المقام من موارد دوران الأمر بين المحذورين فلا يعقل التنجيز فيه ، لإمكان الموافقة القطعية عن طريق الالتزام بالطرف الّذي يقطع بحجيته وتفريغ الذّمّة بالعمل على طبقه حين الالتزام به ، فما نحن فيه حاله حال دوران الأمر بين المحذورين قبل الفحص الّذي يكون العلم الإجمالي فيه منجزاً ، وأثره دفع المكلف إلى الفحص عن الحجة على الحكم الشرعي وتحصيل الموافقة القطعية له ، فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين.

لا يقال : جعل الحجية التخييرية للمتعارضين الدائر مفادهما بين المحذورين لغو في نفسه ، لأن المكلف يطابق عمله مع أحدهما على كل حال.

فإنه يقال : أن التنجيز المذكور تخيير في المسألة الأصولية وليس تخييراً في المسألة الفقهية كي يلغو جعله في موارد الدوران بين المحذورين ، إذ يترتب عليه الأثر في مثل الإفتاء وثبوت اللوازم.


الصورة الرابعة ـ نفس الصورة المتقدمة مع افتراض احتمال التعيين في كلا الدليلين ـ وحكمها جريان البراءة عن احتمال التعيين في كل من الطرفين. وبتعبير آخر : إجراء البراءة عن كل من الوجوب والحرمة الواقعيين المحتملين لأنه على جميع التقادير يتشكل علم إجمالي دائر بين محذورين ، ولا يمكن موافقته القطعية فيكون حاله حال الدوران بين المحذورين بعد الفحص ، مع فرق من ناحية أنه لا دوران هنا بين احتمال الوجوب والحرمة فقط ، بل يحتمل عدمهما أيضا ـ إذا لم يفترض العلم بصدق أحد الدليلين ـ وإن كان منفياً بالحجة المعلومة إجمالاً ، فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التخيير.

وهكذا اتضح أن مقتضى الأصل الثانوي عند الدوران بين التعيين والتخيير ليس هو التعيين دائماً كما ذهب إليه المشهور ، بل قد تثبت نتيجة التخيير.

٢ ـ حكم التعارض بلحاظ دليلين للحجية :

إذا كان مركز التعارض بين الدليلين المتنافيين دليل حجية السند في أحد المتعارضين ودليل حجية الظهور في المعارض الأخرى. كما هو الحال في الفرضية الثالثة من فرضيات التعارض الرئيسية ، أي ما إذا تعارض دليل ظني السند كخبر الثقة مع دليل قطعي كالكتاب الكريم مع تعذر الجمع العرفي ـ فتارة : يفرض أن دلالة الخبر قطعية ، بحيث لا يحتاج في التمسك به إلى دليل حجية الظهور ، وأخرى : تفرض الحاجة إليه.

فعلى التقدير الأول ، يكون التعارض ابتداء بين دليل حجية السند الظني ودليل حجية ظهور الدليل القطعي. وبما أن الأخير منحصر في السيرة العقلائية والمتشرعية التي هي من الأدلة اللبية ، فقد يتوهم : تعيّن السند الظني للحجية لأن دليل حجية الظهور لا بد وأن يقتصر فيه على قدره المتيقن وهو غير مورد التعارض ، بينما دليل حجية السند الظني غير منحصر في الأدلة اللبية بل فيه ما يتضمن إطلاقاً لفظياً ـ كما إذا تم الاستدلال على حجية خبر الثقة بالآيات


أو الروايات القطعية السند ـ فيمكن التمسك بإطلاقه لحالات التعارض أيضا. وأما الأدلة اللفظية الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والعترة فهي مسوقة لبيان عصمتهما ومرجعيتهما التشريعية ، وليست بصدد بيان حجية دلالات القرآن أو الأحاديث ولو كانت ظنية.

وفيه : أن أدلة حجية خبر الثقة اللفظية إمضائية فتتحدد بحدود ما قامت على اعتباره سيرة العقلاء والمفروض أنها غير شاملة لموارد التعارض.

وقد يدعى العكس وتعين الدليل الظني للسقوط بأحد تقريبين.

١ ـ دعوى : انصراف أدلة حجية الخبر عن مورد علم فيه خلافه من نفس المتكلم ، كما إذا سمعه بنفسه يبين خلاف ما ينقله المخبر. فكأن دليل حجية السند تنزيل للراوي منزلة المتكلم في مورد لا يصل إليه ، فلا يعم صورة اطلاع السامع مباشرة على رأيه ، والدليل القطعي في حكم السماع مباشرة. فإذا خالفه خبر الثقة خرج عن موضوع الحجية.

٢ ـ ما تقدم في أبحاث حجية خبر الثقة ، من أن حجيته الثابتة بالسيرة العقلائية الممضاة شرعاً ليست تعبدية ، وإنما بملاك الطريقية ودرجة الكشف النوعيّ المحفوظة فيه ، فإذا انسلخت عنه تلك الدرجة بقيام إمارة نوعية معتبرة ومعتدّ بها عند العقلاء على خلاف ما أخبر به الثقة سقط عن الاعتبار عندهم. وهذا بخلاف حجية الظهور الثابتة بالسيرة العقلائية أيضا ، فإن ديدنهم على العمل به حتى يعلم بالخلاف فلا يكفي مجرد قيام سند ظني على خلافه ولو كان معتبراً لإسقاطه عن الحجية.

فإذا تم شيء من هذين التقريبين كان ظهور الدليل القطعي حجة ويسقط الدليل الظني على القاعدة ، وإلاّ رجعنا إلى ما كان يقتضيه الأصل الأولي والثانوي المتقدم شرحهما مفصلاً فيما إذا كان مركز التعارض دليل الحجية الواحد.


وإما إذا كان الدليل الظني سنداً ظنياً دلالة أيضا ، فمركز التعارض أولا وبالذات وإن كان حجية الظهور إلاّ أنه يسري إلى دليل حجية السند ، بناء على ما هو الصحيح من ارتباطية حجية السند وحجية الظهور جعلاً ـ وقد تقدم شرحه ـ فلو قلنا في التقدير السابق بتقديم ظهور الدليل القطعي لأحد التقريبين المتقدمين حكم بذلك هنا أيضا.

وإن قلنا في التقدير السابق بتقديم الدليل الظني في الحجية تمسكاً بإطلاق الدليل اللفظي على حجية الخبر ، فلا يمكن إجراء هذا البيان هنا إذ المفروض ظنية دلالة الخبر فيكون بحاجة إلى التمسك بدليل حجية الظهور والمفروض سقوطه في موارد التعارض ، فيكون دليل حجية السند ساقطاً أيضا.


تطبيقاتٌ مشكوكٌ فيها لِلتَعارُض المُستَقِرّ

وَبَيَانُ أحكَامِهَا

بعد أن اتضحت أحكام التعارض المستقر وغير المستقر على مقتضى القاعدة والأصل الأوّلي والثانوي ، ينبغي البحث عن حالات من التعارض وقعت مورداً للنزاع في كونها صغرى من صغريات التعارض غير المستقر أو المستقر. وأهم هذه الحالات ما يلي :

أولا ـ إذا تعارضت دلالة وضعية ـ كالعموم ـ مع دلالة حكمية ـ كالإطلاق ـ.

ثانياً ـ إذا تعارض المطلق الشمولي مع المطلق البدلي.

ثالثاً ـ موارد انقلاب النسبة.

ولا بد من تحقيق حال كل واحد من هذه الموارد.

أ ـ تعارض الدلالة الوضعيّة مع الدلالة الحكمية :

والمثال المعروف لهذه الحالة من حالات التعارض ، ما إذا تعارض عام مع المطلق بنحو العموم من وجه من قبيل ما إذا ورد ( أكرم كل شاعر ) ، وورد أيضا ( لا تكرم فاسقاً ) فهل يقدّم العام على المطلق فيحمل المطلق على غير موارد شمول العام كجمع عرفي بينهما فلا تسري المعارضة إلى دليل


الحجية أو يحكم باستقرار التعارض بينهما في مادة الاجتماع؟

وتوضيحاً لذلك نبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في المتصلين.

المقام الثاني ـ في المنفصلين.

أما المقام الأول : وهو ما إذا ورد العام الوضعي متصلاً بالمطلق الحكمي كما إذا قال : ( أكرم كل الشعراء ولا تكرم الفاسق ). فتارة : يُبنى على أنّ دلالة العام موقوفة على جريان مقدمات الحكمة في متعلق أداة العموم ، كما بنى عليه المحقق النائيني ـ قده ـ وأخرى : يُبنى على المسلك المشهور المنصور من أن أدوات العموم بنفسها تثبت إطلاق مدخولهما من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيه.

فعلى المسلك الأول ، سوف لن نتعقل وجهاً فنياً لتقديم العموم على الإطلاق بعد ان كانت دلالتهما معاً بمقدمات الحكمة ، فيكون حالهما حال المطلقين المتعارضين ، فلا يصح ـ على هذا المسلك ـ تقديم العام على المطلق في فرض انفصالهما أيضا ، كما هو واضح.

وأما على المسلك الثاني ، فقد قيل بتقديم العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي بتقريب معروف حاصله : ان دلالة الإطلاق إنما تكون بمقدمات الحكمة فتكون مشروطة بعدم البيان. وأمّا دلالة العام فهي فعلية لكونها بالوضع فتكون صالحة للبيانية وبالتالي رافعة لموضوع مقدمات الحكمة.

والتحقيق : أنه ينبغي أن يلاحظ ما المراد بالبيان في عدم البيان الّذي هو من مقدمات الحكمة ، فإنه يحتمل فيه أحد معانٍ ثلاثة :

الأول ـ بيان القرينة على التقييد.

الثاني ـ ما يكون بياناً بالفعل سواء كان قرينة أم لا.


الثالث ـ ما يكون بياناً في نفسه لو لا الإطلاق.

فعلى الاحتمال الأول القائل بأن الإطلاق موقوف على عدم بيان ما يصلح للتقييد ، تكون الدلالة الإطلاقية منعقدة في نفسها كالدلالة الوضعيّة في العام لأن عموم العام وإن كان بياناً في نفسه في مادة التعارض بينهما إلاّ أنه ليس بياناً بنحو التقييد والقرينية.

وعلى الاحتمال الثاني لا تتم الدلالة الحكمية لما ذكر من أن العام رافع لموضوعها.

وكذلك على الاحتمال الثالث فإن العام أيضا يكون بياناً في نفسه صالحاً لرفع موضوع الإطلاق. بل بناء على هذا الاحتمال لو كانا مطلقين أيضا لا موضوع للدلالة الإطلاقية لأن البيان اللولائي صادق على كل منهما ، وهذا بخلافه على المبنى الأول والثاني ، فإن المطلقين المتصلين يكونان متزاحمين في اقتضاء الظهور لتمامية مقدمات الحكمة في كل منهما.

وأما المقام الثاني : وهو ما إذا كانا في خطابين منفصلين ، فقد ذهب الشيخ الأنصاري ـ قده ـ إلى تقديم العام تطبيقاً لنفس التقريب المتقدم في المتصلين من أن الدلالة الإطلاقية تعليقية متفرعة على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها. ومن جملة هذه المقدمات عدم بيان الخلاف والعام صالح لأن يكون بياناً على خلاف المطلق ، وأما دلالة العموم فإنها بالوضع والأداة فتكون دلالة فعلية منجزة والدلالة المنجزة ترفع موضوع الدلالة التعليقية ، ويستحيل العكس.

وخالف في ذلك المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ مدّعياً أن عدم البيان الّذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ج ٢ ، ص ٤٠٤ ( ط ـ مشكيني ).


فالمطلق وإن كانت دلالته تعليقية بخلاف العام إلاّ أن المعلّق عليه إنما هو عدم البيان المتصل بالمطلق لا مطلق عدم البيان ولو منفصلاً. فمع عدم اتصال البيان بالمطلق تنعقد دلالة فعلية له على حدّ دلالة العام فيكون من تعارض دلالتين فعليتين ناجزتين ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ما لم يفترض ملاك آخر للترجيح ، وهو كما يحتمل تحققه في العام يحتمل تحققه في المطلق.

وجاءت بعد ذلك مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ لتؤكد صحة الاتجاه الّذي سلكه الشيخ ـ قده ـ من توقف المطلق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل ، بعد إجراء تعديل عليه.

وتوضيح ذلك : ان المسلك القائل بتوقف الإطلاق على عدم البيان الأعم من البيان المتصل والمنفصل يواجه إشكالاً عويصاً حاصله : أنه يستلزم عدم جواز التمسك بالإطلاق كلما شك في ثبوت الحكم لفرد أو حال مما يشمله الإطلاق ، لاحتمال وجود مقيّد منفصل لم يصل إلينا ، إذ الشك في ذلك يساوق ، الشك في ثبوت الإطلاق وعدمه ، والتمسك بالإطلاق ـ كالتمسك بكل ظهور ـ فرعُ إحراز أصل الظهور الإطلاقي في الدليل. وأصالة عدم القرينة على الخلاف إنما تجري فيما إذا كان ظهور في مقام الإثبات يقتضي إفادة معنى واحتمل ورود قرينة على خلافه ومرجعها لُبّاً إلى أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عن كشفه النوعيّ لمجرد الاحتمال.

وهذه المشكلة حاولت مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ التغلب عليها ببيان يحفظ لها في نفس الوقت موقفها من نزاع الشيخ الأنصاري والمحقق الخراسانيّ ـ قدهما ـ وذلك بافتراض أن الإطلاق في كل زمان فرع عدم البيان إلى ذلك الزمان ، لا عدم البيان ولو متأخراً. فعند ما يتكلم المولى بالخطاب المطلق ولم ينصب قرينة على التقييد ينعقد بذلك ظهور فعلي على إرادة الإطلاق ، وهذا الظهور يبقى مستمراً ما دام لا قرينة على خلافه. فإذا جاءت القرينة ارتفع هذا الظهور من حينه لمجيء البيان الكاشف عن أن المراد الجدي للمولى


هو المقيد لا المطلق. وبذلك يتفادى محذور الإجمال عند احتمال القرينة المنفصلة ، إذ يمكن إحراز الإطلاق لأن الظهور في الخطاب المطلق فعلي مع قطع النّظر عن القرينة المنفصلة فيكون مكذباً لاحتمال وجودها (١).

وهذه المحاولة في دفع إشكال الإجمال عن الاتجاه الّذي سلكه الشيخ ـ قده ـ مما لا يمكن المساعدة عليه. بل لو فرض توقّف الإطلاق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل لأجملت المطلقات وما أمكن التمسك بشيء منها في موارد احتمال صدور بيان منفصل على التقييد ، فنفس وضوح عدم سقوطها وتمسك العرف بها دليل آخر على أن المأخوذ في مقدمات الإطلاق إنما هو عدم البيان المتصل خاصة ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ قده ـ.

والوجه في ذلك : إنه إذا كان المقصود من ارتفاع الظهور الإطلاقي في كل زمان بورود البيان المنفصل في ذلك الزمان ، هو ارتفاع حجيته باعتبار القرينة والجمع العرفي لا ارتفاع ظهوره ودلالته التصديقية على إرادة الإطلاق ، فهذا صحيح فيما إذا كان البيان المنفصل صالحاً للقرينية والجمع العرفي لا في محل الكلام الّذي يكون المعارض جزء من مدلول العام. فإذا افترضت صلاحية هذا المقدار للقرينية والجمع العرفي أيضا كان لا بد من إبراز نكتة أخرى لها غير مسألة تنجيزية الظهور في العام وتعلقيّته في المطلق.

وإن كان المقصود ارتفاع أصل الظهور التصديقي في المطلق بورود البيان ولو منفصلاً ، بحيث يكون مجيء القرينة في كل زمان موجباً لارتفاع الظهور التصديقي بلحاظ ذلك الزمان ـ كما هو ظاهر كلمات هذه المدرسة ـ فهذا مما لا نتعقله. وقد ذكرنا في بحث التقييد أن المتكلم إما أن يكون ظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام مراده الجدّي بشخص خطابه المطلق ، فهذا يعني أن مجرّد عدم نصب البيان والقرينة على التقييد متصلاً بالمطلق كافٍ في انعقاد الظهور الإطلاقي وفعليّته ولا يكون

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ، ص ٣٧٧.


مرفوعاً بعد ذلك بمجيء المنفصل. وإمّا أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده الجدي بمجموع خطاباته ، وهذا يعني أنه لا ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق أصلاً إلاّ بعد ملاحظة مجموع ما يصدر عنه ، لأنه لا يفصح عن تمام مراده دفعة واحدة بل تدريجاً ، فيعود محذور الإجمال عند احتمال وجود بيان منفصل ولو متأخراً. وليس هناك حالة وسطى للمتكلم بين الحالتين كي يقال مثلاً أننا نفترض أن ظاهر حال المتكلم في كل زمان أنه يبيّن تمام مراده بلحاظ مجموع ما صدر منه إلى ذلك الزمان ، فإن ذلك يعني أن للمتكلم في كل زمان مراداً يختلف عن مراده في الزمان الآخر باختلاف ما يصدر عنه ، وهذا خلف ما هو المفروض من أن هناك حكماً واحداً ثابتاً في الواقع يكشف المقيد أو المخصص ـ متى ما جاء ـ عن حدوده من أوّل الأمر.

هذا بالإضافة إلى أن هذه المحاولة ـ كما قلنا فيما سبق ـ لا يفي بالمقصود تماماً لأن الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكل زمان هل هو وصول البيان والقيد إلى المكلف أو صدوره واقعاً؟

أما الأول ، فلا معنى لادعائه. إذ من الواضح أن خصوصية الوصول غير دخيلة في تكوّن الظهور التصديقي لكلام المولى الّذي هو كاشف تكويني عن مراده. وإنما يتعقّل دخالته في الحكم بالحجية والمنجزيّة.

وأما الثاني ، فيلزم منه أننا لو احتملنا ورود بيان منفصل في الزمان الثاني يبتلي المطلق بالإجمال بلحاظ ذلك الزمان لأنه على تقدير صدور البيان واقعاً يكون الإطلاق مرفوعاً في هذا الزمان ، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم القرينة لأنه فرع وجود كاشف فعلي في ذلك الزمان. نعم يمكن التمسك باستصحاب بقاء الظهور الإطلاقي المنعقد في الزمان الأول لو فرض عدم احتمال وجود البيان من أول الأمر. وهذا إثبات لنتيجة الإطلاق بالأصل العملي لا اللفظي الّذي هو الغرض من الإطلاق.

فالصحيح : ما عليه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ من أن الإطلاق الثابت


بمقدمات الحكمة يكفي فيه عدم البيان المتصل فينعقد الظهور الإطلاقي ويتم بنفس فراغ المتكلم من كلامه المطلق إذا لم ينصب قرينة على التقييد.

غير أنه مع ذلك يمكن دعوى وجود نكتة أخرى نوعية تقتضي تقديم العام على المطلق في مورد التعارض بملاك الأظهرية التي تقدّم كونها أحد أقسام التعارض غير المستقر.

وتوضيح ذلك :

ان المتكلم له ظهوران حاليان كاشفان عن الإرادة الجدية ، أحدهما الظهور السلبي في أن ما سكت عنه ولم يذكره في مرحلة الإثبات غير ثابت في مرحلة الثبوت والجد ، فليس هناك شيء قد قصده ولم يقله ، وهذا هو أساس الظهورات الإطلاقية في المطلقات. والآخر الظهور الإيجابي في أن ما ذكره في مرحلة الإثبات ثابت في مرحلة الثبوت أيضا ، فليس هناك شيء قد قاله ولم يقصده ، وهذا هو أساس الظهورات التقييدية في المقيدات.

والظهور الأول من هذين الظهورين الحاليين التصديقيين أضعف من الثاني بشهادة تقديم المقيد على المطلق. فإذا كان الأمر كذلك ، صح أن يقال بتقدم العام على المطلق في مورد التعارض ، باعتبار أن دلالة الأول من الظهور الإيجابي ودلالة الأخير من الظهور السلبي ، وقد افترضنا أن الظهور الإيجابي أقوى عند العرف من الظهور السلبي وأظهر ، فيتقدم العام على المطلق بالأظهرية النوعية ما لم يكن المطلق محفوفاً إطلاقه بخصوصيات إضافية صدفة تجعله في ذلك المورد أقوى من العموم.

ب ـ تعارض الإطلاق البدلي والشمولي :

إذا تعارض دليل مطلق يدل على شمول الحكم لتمام أفراده ، كما إذا ورد ( لا تكرم الفاسق ) وهو ما نصطلح عليه بالمطلق الشمولي مع مطلق آخر


دل على ثبوت الحكم على فرد واحد مما ينطبق عليه من قبيل ( أكرم فقيراً ) وهو ما نصطلح عليه بالمطلق البدلي فهل يحكم بتقديم الأول على الأخير في مورد التعارض ـ وهو الفقير الفاسق ـ فيحرم إكرامه أم لا؟ نسب إلى الشيخ الأنصاري ـ قده ـ القول بالتقديم ، وخالف فيه المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ مدعياً أن كلاهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي قد تقتضي الشمولية وقد تقتضي البدلية وقد تقتضي غيرهما ، فلا موجب للتقديم (١).

وقد حاول المحقق النائيني ـ قده ـ توجيه ما اختاره الشيخ ـ قده ـ وتقريبه بوجوه أوجهها : أن تقييد الإطلاق الشمولي معناه رفع اليد عن جزء مدلول الخطاب ، لأن المطلق الشمولي منحل بحسب الحقيقة إلى دلالات عديدة بعدد أفراد الطبيعة المطلقة ، فتقديم المطلق البدلي عليه يستلزم رفع اليد عن بعض هذه الدلالات ، وهذا بخلاف العكس فإن مدلول المطلق البدلي إنما هو حكم واحد متعلق بصرف وجود الطبيعة المحفوظ حتى لو خرج بعض الأفراد عنه لأن صرف الوجود لا يقتضي ملاحظة كل فرد وإثبات الحكم عليه.

وقد ناقش السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في هذه المحاولة من جهتين :

أولاهما ـ إن الميزان في تقديم دليل على آخر هو القرينية أو الأظهرية لا الاستحسانات والمناسبات ومجرد كون الإطلاق في أحد الدليلين شمولياً انحلالياً وفي الآخر بدلياً لا يتضمن قرينية الشمولي ولا أظهريته بعد أن كان كل منهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

ثانيتهما ـ ان المطلق البدلي أيضا مستلزم لحكم شمولي ينحل على أفراد المطلق ، فإن الوجوب المستفاد من أكرم فقيراً وإن كان بدلياً ومتعلقاً بصرف وجود الطبيعة إلاّ أن لازمه الترخيص في تطبيق هذا الواجب على كل فرد من أفراد طبيعة الفقير ، وتقييد المطلق البدلي يلزم منه رفع اليد عن بعض هذه

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١. ص ١٦٩ ( ط ـ مشكيني ).


الأحكام الترخيصية لا محالة ، فتقييد كل من الإطلاقين مستلزم للتصرف في جزء مدلول الآخر ، ومعه لا مرجح لأحدهما على الآخر (١).

أقول : أما المناقشة الأولى : فيمكن دفعها بأنه إن أريد ان تقديم أحد الظهورين على الآخر لا بد وأن يكون بملاك القرينية والجمع العرفي ، فهذه الكبرى لم يظهر من كلام المحقق النائيني ـ قده ـ في المقام إنكارها ، وإنما الظاهر أنه يحاول دعوى تقديم المطلق الشمولي على البدلي باعتباره واجداً لأحد ملاكات القرينية على ما سوف نشير إليه.

وإن أريد إنكار الصغرى وأن مجرد الشمولية لا يحقق القرينية فهذا ما يحتاج إلى بحث ونظر في وجه القرينية الّذي يحاوله المحقق النائيني ـ قده ـ.

وأما المناقشة الثانية ، فيمكن دفعها أيضا بأنّا لو سلمنا دلالة المطلق على أحكام ترخيصية شمولية فهي دلالة عقلية وليست ظهوراً لفظياً في الخطاب ، وهذا بخلاف شمولية الدليل الشمولي فإنها دلالة عرفية ومدّعي التقديم إنما يقول بتقديم ما يكون مدلوله العرفي شمولياً على ما يكون مدلوله العرفي بدلياً.

والتحقيق ان يقال : إن الشمولية والبدلية ليستا من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة فإن مقدمات الحكمة لا تقتضي إلاّ مطلباً واحداً دائماً في جميع المقامات ، وهو أن ما أخذ موضوعاً للحكم في مقام الإثبات ـ وهو الطبيعة ـ تمام الموضوع له ثبوتاً وأما الشمولية والبدلية أي كون الحكم بنحو صرف الوجود أو مطلق الوجود فيستفاد من دال آخر وبنكتة أخرى عقلية أو لفظية ، على ما حققنا ذلك مفصلاً في أبحاث الأوامر.

والمعارضة بين المطلق الشمولي والبدلي ليس بلحاظ الشمولية والبدلية فيهما وإنما بين الإطلاق من طرف ومجموع الإطلاق والشمولية في الطرف الآخر ، إلاّ أنه باعتبار صراحة الدال على الشمولية بحيث لا يحتمل عرفاً

__________________

(١) نقل بتصرف عن مصباح الأصول ص ٣٧٨.


التصرف فيها سوف يتمركز التعارض بين الدال على الإطلاق في كل منهما ، فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر.

هذا ، ويمكن تقريب تقديم المطلق الشمولي على البدلي بأحد وجوه :

الأول ـ أن يقال بأقوائية الظهور الإطلاقي في المطلق الشمولي من الظهور الإطلاقي في المطلق البدلي ، لأنه يتكفل أحكاماً عديدة بنحو الانحلال بخلاف المطلق البدلي الّذي لا يتكفل إلاّ حكماً واحداً ، وأما الترخيصات المستفادة منه بالالتزام فهي أحكام وضعية انتزاعية ، بمعنى أنها ترخيصات في تطبيق ذلك الحكم الواحد على أي فرد من أفراد الطبيعة يختاره المكلف ، فيدّعي أن التعهد العقلائي أو الغلبة الخارجية على إرادة المتكلم لتمام مدلول الخطاب إثباتاً وعدم إرادة خلافه ـ الّذي هو ملاك الظهور الإطلاقي في المطلق الشمولي ـ أقوى وآكد منهما في المطلق البدلي ، لأن الاهتمام النوعيّ ببيان أصل حكم برأسه أشد من الاهتمام ببيان حدوده وتطبيقاته سعة وضيقاً ، فيندرج المقام في باب تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما الّذي تقدم أنه أحد أقسام التعارض غير المستقر والجمع العرفي. ولعل هذا التقريب هو مقصود الميرزا ـ قده ـ من كلامه الّذي نقلناه آنفاً.

الثاني ـ تطبيق كبرى حققناها في بحث اجتماع الأمر والنهي لتقديم دليل الحكم الإلزاميّ على دليل الحكم الترخيصي بدعوى : أن المطلق البدلي يستبطن الترخيص في تطبيق الحكم على أي فرد شاء من أفراد الطبيعة ، فيعامل معه معاملة الدليل الترخيصي.

والتحقيق : ان تلك الكبرى لا تنطبق في المقام ، لأنها تحاول نفي المعارضة بين الدليل الإلزاميّ والدليل الترخيصي بدعوى : أنه لا يستفاد من الدليل الترخيصي عرفاً أكثر من إثبات الترخيص لعدم المقتضي في ذلك العنوان الترخيصي للإلزام ، فلا ينافي ثبوت حكم إلزامي بلحاظ عنوان آخر منطبق


عليه إذا لم يكن ملازماً معه ، وهذا الأمر لا يمكن تطبيقه فيما نحن فيه ، لأن المفروض دلالة الدليل البدلي على الحكم الإلزاميّ ، كما أن المفروض عدم اجتماعه مع الحكم الشمولي في مادة الاجتماع ، إذ لو لا ذلك لم يكن بينهما تعارض أصلاً ، ولما احتيج إلى تقديم أحدهما على الآخر. ومجرد استلزام الحكم البدلي للترخيصات الشمولية لا ينفع في دفع هذه المعارضة.

نعم لو ادعي ـ كمصادرة إضافية على تلك الكبرى ـ أن العرف يفهم من الإطلاق البدلي الّذي مرجعه إلى الترخيص في تطبيق الواجب على أي فرد شاء من الطبيعة عدم المقتضي لتقييده قدّم الإطلاق الشمولي عليه باعتباره مقتضياً للتقييد ، ولعل هذا مقصود الميرزا ـ قده ـ مما ينقل عنه من أن إطلاق المطلق البدلي متوقف على عدم المانع من تطبيق الطبيعة على أي فرد والإطلاق الشمولي مانع.

الثالث ـ تطبيق مبنى المحقق النائيني ـ قده ـ في باب الواجب الموسع من اقتضاء الأمر اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً بمقتضى ظهور الأمر في الباعثية والمحركية التي لا تكون إلاّ في حق الحصة المقدورة عقلاً والمحرّم الشرعي كالممتنع العقلي ، فإنه بناء على هذا المبنى يقال في المقام : أنه إذا ورد ( أكرم فقيراً ، ويحرم إكرام الفاسق ) قدمنا مقتضى دليل الحكم الشمولي ـ وهو الحرمة ـ على مقتضى دليل الحكم البدلي ـ وهو الوجوب ـ فيحكم بحرمة إكرام الفقير الفاسق ـ لأن الإطلاق الشمولي يثبت حكماً تعيينياً على كل فرد من أفراد الطبيعة ، فيكون بشموله للفقير الفاسق مستوجباً لأن يكون إكرامه غير مقدور شرعاً. فيكون رافعاً لموضوع الأمر البدلي.

وفيه ، أولا : عدم تمامية المبنى في نفسه ، على ما أشرنا إليه في محله.

ثانياً : اختصاصه بما إذا كان المطلق الشمولي متضمناً لحكم إلزامي ، فلا يتم في جميع موارد التعارض بين المطلق الشمولي والمطلق البدلي.


ج ـ نظرية انقلاب النسبة :

ويقصد بانقلاب النسبة ما إذا ورد مخصص لأحد المتعارضين بنحو لو لوحظ المتعارضان بعد أعماله انقلبت النسبة بينهما من التعارض المستقر إلى التعارض غير المستقر. وفحوى هذه النظرية أنه لا بد في هذه الحالة من تطبيق قواعد التعارض غير المستقر على المتعارضين ، ومرد هذا البحث بحسب الحقيقة إلى تشخيص النسبة بين الدليلين المتعارضين وأنه هل ينبغي أن تلحظ بالقياس إلى مدلولهما مع قطع النّظر عما يرد على كل منهما من القرائن المنفصلة أو تلحظ بعد إعمال تلك القرائن ، وفيما يلي نتحدث عن نظرية انقلاب النسبة في ثلاث جهات :

الجهة الأولى ـ في تحقيق حال أصل النظرية وأن النسبة بين الدليلين المتعارضين هل تنقلب حقاً بعد ورود مخصص لأحدهما أم لا؟

المشهور بينهم عدم الانقلاب. إلاّ أن مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ قد جعلت هذه النظرية نتيجة طبيعة لما تقدم في نظرية التخصيص من المصادرات المفترضة وجعلتها من تطبيقاتها الواضحة التي يكفي. ـ بحسب زعمها ـ مجرد تصورها للتصديق بصحتها.

والمتحصل من مجموع كلمات هذه المدرسة في البرهنة على هذه النظرية يمكن إرجاعه إلى أحد بيانين :

البيان الأول : ويتركب من مقدمتين. أولاهما ـ أن المعارض لا يكون معارضاً إلاّ بمقدار ما يكون حجة فيه إذ لا معنى لمعارضة الحجة مع اللاحجة. ثانيتهما ـ أن كبرى القرينية والجمع العرفي بين العام والخاصّ التي تقدم الحديث عنها في بحث التعارض غير المستقر بصورة مفصلة تقتضي قرينية كل حجة أخص على الحجة الأعم.

وبناء على التسليم بهاتين المقدمتين ، إذا ورد على أحد الدليلين المتعارضين


ما يخصص مدلوله بنحو يكون ما عدا المقدار المخصص أخص من معارضه ، فسوف يكون المقدار الحجة من العام المخصص أخص من المعارض الآخر ، فيتقدم عليه بقانون التخصيص. ونحن لا نشك في صحة المقدمة الأولى من هاتين المقدمتين وإنما نختلف مع هذه المدرسة في المقدمة الثانية التي رتبتها وادعت بداهتها بعد الفراغ عن نظرية التخصيص. والواقع أن مجرد الفراغ عن نظرية التخصيص والجمع العرفي بين العام والخاصّ بحمل العام على الخاصّ لا تثبت ما حاولته هذه المدرسة من تقديم كل حجة أخص على حجة أعم. ذلك أن كل دليل لفظي يتضمن اعتبارين ، اعتبار أنه كلام له ظهور كاشف عن مرام المتكلم ، واعتبار أنه حجة في إثبات ذلك المرام. والمعارضة بين الدليلين وإن كان بلحاظ الاعتبار الثاني دائماً ، لأن التعارض إنما هو التنافي في الحجية ، إلاّ أن المصادرة العقلائية الإضافية زائداً على الحجية التي كانت هي مدرك نظرية التخصيص كما يُعقل أن تقتضي تقديم الخاصّ بما هو حجة على العام ، كذلك يعقل أن تقدم الخاصّ بما هو كلام ظاهر على العام ، وتشخيص أن ملاك التقديم أي الأخصيتين لم يتقدم البحث عنه ولم يُقم برهان عليه. فلا يصح تفريع هذه المسألة على تلك. بل لا بد من تحقيق ذلك في هذا المقام ، على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى.

البيان الثاني : ويترتب من مقدمتين أيضا ، أولاهما ـ أن كل كلام يصدر من المولى يحتوي على ثلاثة ظهورات ، الظهور التصوري ، والظهور التصديقي الاستعمالي ، والظهور التصديقي الجدي ، ـ وقد تقدم شرح هذه الظهورات ـ والمخصص سواء كان متصلاً أو منفصلاً يرفع الظهور الثالث لا محالة ، حيث يكشف عن عدم إرادة العموم جداً ، وإنما يختلف المخصص المتصل عن المنفصل في ارتفاع الظهور الثاني بل الأول أحياناً. ثانيتهما ـ ان كل دليل يكشف عن المراد الجدي ويكون بحسب ظهوره الكاشف أخص مطلقاً من الدليل الآخر يتقدم عليه بالتخصيص. وعلى


أساس هاتين المقدمتين تكون النظرية واضحة الصحة ، فإنه إذا ورد التخصيص على أحد المتعارضين ارتفع ظهوره الكاشف عن إرادة العموم جداً وأصبح المراد منه ما عدا مقدار التخصيص ـ بحكم المقدمة الأولى ـ فينقلب أخص مطلقاً ـ بحسب هذا الظهور المتبقي ـ من معارضه ، فيتقدم عليه بالتخصيص ـ بحكم المقدمة الثانية ـ.

وتعليقنا على هذا البيان : أنه ما ذا يراد بارتفاع الظهور الكاشف عن المراد الجدي في موارد التخصيص بالمنفصل؟ فهل يراد ارتفاع نفس الدلالة التصديقية على الإرادة الجدية التي هي من الدلالات الحالية ، أو المراد ارتفاع حجية هذه الدلالة. فإذا أريد الأول كانت المقدمة الأولى من المقدمتين اللتين تألف منهما البيان مرفوضة ، لوضوح أن الدليل المنفصل لا يرفع الظهور الحالي في جديّة ما أظهره المتكلم بكلامه إذ بعد انعقاد هذا الظهور على أساس القرائن الحالية والمقالية المكتنفة بالكلام لا معنى لانثلامه وانقلابه عمّا وقع عليه.

أضف إلى ذلك : أن الالتزام بارتفاع الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل يستلزم محذور الإجمال دائماً في موارد احتمال المخصص المنفصل بنحو لا يمكن التمسك لنفيه بأصالة العموم ، نظير ما كان يلزم من القول بتوقف الظهور الإطلاقي في المطلق على عدم البيان المنفصل ، لأن الحجة في الكشف عن المراد في الأدلة اللفظية إنما هو هذا الظهور التصديقي ، فلو كان ثبوته موقوفاً على عدم ورود المخصص الكاشف عن الخلاف ولو منفصلاً كان احتمال وروده مستلزماً لإجمال الظهور التصديقي وعدم إمكان التمسك به.

وإن أريد الثاني ، وأن المخصص المنفصل يرفع حجية الظهور التصديقي فالمقدمة الأولى تامة ولكن المقدمة الثانية سوف تكون راجعة إلى البيان الأول وهو دعوى : أن الميزان في التخصيص أن يكون أحد الظهورين بما هو حجة أخص من الآخر وإن لم يكن كذلك بما هو ظهور.


والصحيح : عدم انقلاب النسبة بين الدليلين المتعارضين ، لأن كل النكات والمصادرات المتقدمة لتخريج نظرية التخصيص لا تقتضي أكثر من تقديم الخاصّ بحسب ظهوره على العام. وتوضيح ذلك : أن الوجوه التي ذكرناها لتخريج نظرية التخصيص المنفصل ثلاثة. وكلها لا تصلح لإثبات انقلاب النسبة. أما الأول ، وهو أن يقال بإلغاء الفواصل الزمنية بين الخطابات الشرعية في مقام اقتناص المراد منها. فلو أريد به الإلغاء الحقيقي فهذا واضح البطلان ولم يدعه أحد أيضا ، إذ لازمه عدم انعقاد الظهور من العموم لا في موارد التخصيص بالمنفصل ولا في موارد مجيء المعارض. وإن أريد به اعتبار تلك الفواصل ملغية بين ذي القرينة والقرينة فحسب ـ كالعام مع مخصصه مثلاً ـ فمن الواضح أن هذا لا يقتضي الانقلاب إلاّ بافتراض مصادرةً زائدة ، أي بافتراض إلغاءين طوليين. أحدهما ، إلغاء الفاصل الزمني بين العام والخاصّ واعتبار هما بحكم الكلام المتصل. والآخر ، إلغاء الفاصل الزمني بين العام الآخر وهذا الكلام المتصل الّذي تكوّن ببركة الإلغاء الأول. فما لم يدّع الإلغاء الثاني لا يمكن تفسير انقلاب النسبة على هذا الأساس. وهذا معنى احتياج تطبيق ذلك التخريج إلى افتراض مصادرة زائدة تتمثل في الإلغاء الثاني ، بينما التخصيص الساذج الاعتيادي لم يكن يتوقف إلاّ على التسليم بالإلغاء الأول ، ولا ملازمة بين الإلغائيين كما هو واضح.

وأما الثاني ـ وهو أن يكون المخصص المنفصل منزلاً في الآثار الشرعية منزلة المخصص المتصل تعبداً فلأن غاية ما يفترض فيه من عناية التنزيل إلغاء خصوصية الانفصال تعبداً وتنزيلاً مع التحفظ على الشرائط الأخرى التي لا بد من توفرها في المخصص المتصل من قبيل كونه بحسب الظهور أخص ، وهذا لا ينطبق في المقام ، فإن العام المخصص بالمنفصل ليس مصداقاً لموضوع دليل التنزيل لأن الموضوع الّذي يعطيه دليل التنزيل حكم الأخص المتصل هو الأخص المنفصل والعام المخصص بالمنفصل ليس أخص. نعم إذا افترضنا


تنزيلين طوليين أحدهما تنزيل العام المخصص بالمنفصل منزلة العام المخصص بالمتصل ـ وهذا ينتج أن العام المخصص بالمنفصل يصبح بمثابة أخص منفصل بالنسبة إلى العام الآخر ـ والثاني تنزيل هذا الأخص المنفصل بسبب التنزيل الأول منزلة أخص متصل بالعامّ المذكور ، تم انقلاب النسبة ، إلاّ أن هذه عناية زائدة على التنزيل المفترض في هذا الوجه أيضا.

وأما الثالث ـ وهو تطبيق القاعدة التي تقول : كلما كان على تقدير اتصاله قرينة هادمة للظهور كان على تقدير انفصاله هادماً للحجية ، والمخصص كذلك. فربما يتوهم إمكان تخريج نظرية انقلاب النسبة على أساسه. لأنا إذا جمعنا بين الأدلة الثلاثة ـ الدليلان المتعارضان والمخصص المنفصل لأحدهما ـ وافترضنا صدورهما في مجلس واحد ارتفع التعارض من البين وأصبح العام المخصص أخص من معارضه وهادماً لعمومه فلا بد وأن يكون في فرض الانفصال هادماً لحجيته.

إلاّ أن هذا التطبيق يحتوي على مغالطة ، لأن الّذي يكون على تقدير اتصاله هادماً للعموم إنما هو العام المتصل به مخصصه ومقتضى تطبيق القاعدة المذكورة ـ بدون إضافة مصادرة جديدة ـ أن العام المتصل به مخصصه كما يكون قرينة تهدم ظهور العام الآخر في فرض الاتصال يكون أيضا قرينة تهدم حجيته في فرض الانفصال. ومن الواضح أن هذا لا يصدق في محل الكلام ، إذ لا يوجد عندنا عام متصل به مخصص إلى جانب العام الآخر لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ، فلا بد من إضافة مصادرة جديدة من قبيل أن يقال مثلاً : إن كل كلامين كانا على فرض اتصالهما يشكلان قرينة على كلام ثالث بموجب القاعدة السابقة فهما يشكلان نفس القرينة على الكلام الثالث أيضا مع عدم اتصال أحدهما بالآخر ، ومن الواضح أن هذا معنى زائد أيضا لم يكن مفترضاً في القاعدة المصححة لقرينية الخاصّ سابقاً ولم يكن يحتاجه مدعي القرينية في موارد التخصيص الاعتيادي. وهذا يعني أن قانون انقلاب النسبة وكونه


جمعاً عرفياً لا يكفي في استنباطه المقدار الّذي يحتاجه من مصادرات عقلائية إثبات القرينية في موارد التخصيص الاعتيادي.

وهناك وجه آخر لتصحيح انقلاب النسبة على أساس القاعدة المرزائية بدلاً عن إضافة مصادرة جديدة وهو أن يقال : إن المراد بالأخصية التي هي ميزان القرينية الهادمة للظهور على فرض الاتصال وللحجية على فرض الانفصال أخصية ما هو المقدار الحجة لا أخصية ذات المدلول. وهذا أيضا افتراض لمعنى واسع للقاعدة المرزائية لم يكن يتوقف عليه تفسير قرينية المخصص المنفصل في الموارد الاعتيادية ، إذ في تلك الموارد كما يكون المخصص المنفصل أخص بما هو حجة كذلك هو أخص بلحاظ ذات مدلوله ، فالتسليم بأن الأخصية ملاك للقرينية بموجب تلك القاعدة لا يكفي تخريجاً لعرفية انقلاب النسبة وكونه جمعاً عرفياً إلاّ مع إثبات كون الأخصية ملحوظة بالنسبة إلى مقدار ما هو حجة من مفاد الدليل لا إلى ذاته.

والصحيح : أن الأخصية التي هي ميزان القرينية بحسب المرتكز العقلائي إنما هي الأخصية بلحاظ ذات المدلول لا بلحاظ المقدار المعتبر منه ، لأن النكتة النوعية الملحوظ عقلائياً في هذه القرينية بعد وضوح أن البناءات العقلائية في أمثال المقام ليست تعبدية وإنما هي بنكات الطريقية والكاشفية ، هي أن الأخصية توجب مرتبة من تركيز نظر الدليل على الحكم الخاصّ أقوى من مرتبة تركيز نظر الدليل العام على ذلك الحكم الخاصّ المشمول له بالعموم ، وهو معنى الأظهرية النوعية. ومن الواضح أن هذه الدرجة من التركيز التي تشكل نكتة للأظهرية النوعية وبالتالي لقرينية الخاصّ على العام إنما هي من شئون الأخصية بلحاظ ذات المدلول لا الأخصية بلحاظ ما هو المقدار الحجة منه ، لأن مجرد سقوط جزء من المدلول عن الحجية لسبب خارجي لا يغير شيئاً من درجة ظهور اللفظ بالنسبة إلى باقي الأفراد ، ولا يعطي للدليل ظهوراً أشد بالنسبة إلى تلك الأفراد الباقية لكي يصلح للقرينية على عام ما. نعم غاية


الأمر أنه يعلم من الخارج بأن هذا الدليل الّذي سقط جزء من مدلوله عن الحجية لسبب خارجي لو كان له محصّل ومفاد جدّي فهو في الأفراد الباقية ، وأما درجة دلالة لفظ الدليل على تلك الأفراد وقوة ظهوره في إرادتها فلا تختلف بعد التخصيص عنها قبله. فهو نظير القدر المتيقن من الخارج ، فإن القدر المتيقن من الخارج لا يجعل الدليل صريحاً بنحو يصلح للقرينية على تخصيص دليل آخر ، ولهذا لا يكون قوله ( ثمن العذرة سحت ) مخصصاً لقوله ( لا بأس بثمن العذرة ) بغير ما هو القدر المتيقن منه لأن هذا التيقن لا يجعل دلالة الدليل بما هو دليل على حكم عذرة ما لا يؤكل لحمه نصاً أو أقوى من دلالته على حكم عذرة ما يؤكل لحمه.

وهكذا يتضح : عدم كفاية شيء من الوجوه التي تقدمت في نظرية التخصيص لإثبات انقلاب النسبة. وأنه لا بد من افتراض مصادرة إضافية إذا أريد إثباته.

الجهة الثانية ـ في استعراض صور التعارض بين الدليلين المتعارضين إذا ورد على أحدهما أو كلاهما مخصص منفصل ليتبين موارد تطبيق نظرية انقلاب النسبة ، وتوضيح حال بعض النتائج المتفقة معها غير المبتنية عليها مما قد يتوهم ابتنائها عليها. وقبل البدء بذكر صور التعارض لا بد من توضيح ما يلي : إن هناك نكتتين ينبغي التمييز بينهما.

الأولى ـ إذا كان أحد الدليلين بحسب ما هو حجة من مدلوله أخص من الدليل الآخر تقدم عليه بالتخصيص ولو لم يكن بحسب تمام مدلوله أخص. وهذه هي نكتة نظرية انقلاب النسبة التي لم نوافق عليها في الجهة السابقة.

الثانية ـ إن أحد الدليلين المتعارضين إذا سقط عن الحجية في شيء من مدلوله كان معارضه حجة في ذلك المورد لا محالة ، وإن كان التعارض باقياً بينهما بلحاظ الموارد الباقية تحت ما هو الحجة من مدلول كل منهما. وهذه


النكتة تامة وغير مرتبطة بانقلاب النسبة إذ لا شك في أن التعارض والتساقط بين الدليلين في أي جزء من مدلولهما فرع ثبوت مقتضي الحجية لهما في ذلك الجزء ، فإذا لم يكن مقتض للحجية في أحدهما لم يكن مانع من حجية الآخر ، كما هو واضح.

وعلى هذا الضوء نقول : هنالك صور ثلاث رئيسية لانقلاب النسبة ينبغي استعراضها بما تحتوي عليها كل واحدة من شقوق وأقسام.

الصورة الأولى ـ المتعارضان بنحو التباين كما إذا ورد ( تستحب الصدقة على كل فقير ) وورد ( تكره الصدقة على فقير ) مع افتراض ورود مخصص بأحد الأنحاء التالية :

النحو الأول ـ أن يرد دليل واحد يخصص أحدهما فقط. كما إذا ورد ( لا تستحب الصدقة على الفقير الهاشمي ) الّذي هو مخصص دليل الاستحباب. وهذا هو القدر المتيقن من موارد تطبيق نظرية انقلاب النسبة حيث يجمع بين الأدلة الثلاثة بتخصيص دليل الاستحباب ثم تخصيص دليل الكراهة بدليل الاستحباب المخصص ، بناء على انقلاب النسبة بينهما. وعلى القول بعدم انقلاب النسبة يحكم بتساقط الدليلين المتعارضين في غير مورد المخصص مع الأخذ بمفاد العام غير المخصص في مورد تخصيص العام المخصص على أساس النكتة الثانية المتقدمة.

النحو الثانية ـ أن يرد دليل واحد يخصص كلا العامين المتعارضين بالتباين ، كما إذا ورد ( تحرم الصدقة على الفقير الهاشمي ) المخصص لدليل الاستحباب والكراهة معاً. وفي هذه الحالة يبقى التعارض بين العامين مستحكماً سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا. لبقاء نفس النسبة بينهما بعد إعمال التخصيص أيضا.

النحو الثالث ـ أن يرد مخصصان كل واحد منهما يخصص العامين


المتعارضين معاً ـ سواء كان بينهما تعارض بالعموم من وجه المستلزم للتساقط في مورد الاجتماع ، أو بالعموم المطلق المستلزم لتقييد أحدهما بالآخر ، أو لم يكن تعارض بينهما ـ فإنه على جميع هذه التقادير تكون النتيجة كما في النحو السابق ، حيث تبقى النسبة بين العامين على التباين بعد إعمال التخصيص أيضا.

النحو الرابع ـ أن يرد مخصصان أحدهما يخصص كلا العامين المتعارضين والآخر يخصص أحدهما ، وهذا تلفيق ـ بحسب الحقيقة ـ بين النحوين الأول والثاني. وفي هذه الحالة لا ينتج المخصص المشترك نسبة جديدة بين المتعارضين وإنما لا بد من ملاحظة المخصص المختص ، فإن كانت نسبته إلى المقدار الباقي من العام بعد تخصيصه بالمخصص المشترك العموم والخصوص كان من النحو الأول ، وإلاّ كان من أحد شقوق النحو الآتي.

النحو الخامس ـ أن يرد مخصصان كل منهما يتفرد بتخصيص أحد العامين. وهنا شقوق عديدة.

الأول ـ أن لا يكون تعارض بين المخصصين ، بأن يكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، كما إذا ورد ( لا يكره التصدق على الفقير التميمي ) المخصص لدليل الكراهة وورد ( لا يستحب التصدق على الفقير الهاشمي ) المخصص لدليل الاستحباب. وهذا الشق تارة : يفترض فيه استيعاب المخصصين معاً حقيقة أو عرفاً لتمام مدلول العامين وأخرى : يفترض عدم استيعابهما لذلك بحيث يبقى مقدار من أفراد العامين غير مشمول للمخصصين ففي الفرض الأول تثبت حجية كل من العامين المتعارضين في مورد تخصيص الآخر على أساس النكتة الثانية المتقدمة ، لسقوط مقتضي الحجية عن كل من العامين في مورد التخصيص. فينتج في المثال استحباب التصدق على غير الهاشمي ـ الّذي يساوق التميمي بحسب الفرض ـ وكراهته على غير التميمي. ـ الّذي يساوق الهاشمي بحسب هذا الفرض ـ وفي الفرض الثاني سوف تكون النسبة بين المقدار الحجة لكل من العامين بعد إعمال التخصيص العموم من


وجه ، فيتعارضان في الأفراد غير المشمولة للمخصصين ، والنتيجة على كل حال هو التساقط في مورد الاجتماع وبقاء الحجية لهما في موردي الافتراق ـ وهما موردي المخصصين ـ من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة ، وعدم انقلابهما.

الثاني ـ أن تكون النسبة بين المخصصين العموم من وجه من حيث الموضوع ، سواء كانا متعارضين من حيث الحكم أولا. فإنه في الحالتين معاً ، تكون النتيجة حجية العامين المتعارضين فيما ورد فيه التخصيص على الآخر والتساقط في غيره ، إما لانقلاب النسبة بينهما إلى العموم من وجه ، أو لأنهما متباينان كما هو على القول بعدم الانقلاب.

الثالث ـ أن تكون النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق ، فيكون أحدهما أكثر تخصيصاً لعامه من تخصيص الآخر. وهنا أيضا تارة : يفترض عدم التنافي بين المخصصين وأخرى : يفترض تنافيهما. ففي الحالة الأولى سوف تنقلب النسبة بين العامين المتعارضين إلى العموم والخصوص المطلق حيث يصبح العام المخصص بأعم الخاصّين أخص من العام المخصص بأخص الخاصّين فيخصص أحدهما بالآخر على القول بانقلاب النسبة ، وأما على القول بعدم انقلابها فيقع التعارض بينهما ولا تثبت الحجية إلاّ لأحدهما في مورد افتراقه عن الآخر. أي تثبت حجية العام المخصص بأخص الخاصّين في المقدار الزائد من التخصيص الوارد على العام الآخر على أساس النكتة الثانية المتقدمة. وفي الحالة الثانية يتخصص أعم الخاصّين بأخصهما فيكون كالشق الأول من حيث ورود مخصصين غير متعارضين على العامين.

الرابع ـ أن يكون الخاصان متساويين موضوعاً ـ ولا بد أن يفرض عدم التنافي بينهما حكماً وإلاّ سقطا بالمعارضة ـ وفي هذه الحالة تكون النتيجة هي التعارض بين العامين على كل حال أيضا.

الصورة الثانية ـ المتعارضان بالعموم من وجه ، كما إذا ورد ( يستحب


إكرام الشعراء ) وورد ( يكره إكرام الفاسق ) مع افتراض ورود مخصص بأحد الأنحاء التالية.

النحو الأول ـ أن يرد مخصص واحد يخرج مورد افتراق أحد العامين عن مدلوله. وفي هذه الحالة تنقلب النسبة بين العامين من وجه إلى العموم والخصوص المطلق فيخصص أحدهما بالآخر بناء على القول بانقلاب النسبة. وبناء على عدم الانقلاب يبقى التعارض بينهما في مورد الاجتماع على حاله.

النحو الثاني ـ أن يرد خاص واحد بلحاظ مورد اجتماع العامين من وجه المتعارضين ، وفي هذه الحالة سواء كان الخاصّ مخصصاً لأحد العامين بلحاظ مورد اجتماعه مع الآخر أو لكليهما ، فالنتيجة هي حجية كل من العامين في غير مورد التخصيص ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

النحو الثالث ـ أن يرد مخصصان كل منهما يخرج مورد افتراق أحد العامين من وجه ويخصصه فيه كما إذا ورد ( يستحب إكرام الشعراء ) وورد ( يكره إكرام الفاسق ) ثم ورد على الأول مخصص يخرج الشاعر العادل ، وعلى الثاني مخصص يخرج الفاسق الجاهل. وبعد إعمال التخصيص في هذا الحال على العامين المتعارضين سوف يختص المقدار الحجة في كل منهما بمورد الاجتماع فيتعارضان فيه ويتساقطان ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه. إلاّ أن البحث في هذا القسم إنما يقع في سريان التعارض إلى الخاصّين وعدمه ، إذ على القول بسريان التعارض إلى الخاصّين تسقط الأدلة الأربعة جميعاً ، وعلى القول بعدم سريانه إليهما لا يسقط غير العامين المتعارضين. وقد اختار المحقق النائيني ـ قده ـ عدم السريان ، وخالفه في ذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فحكم بسقوط الأدلة الأربعة جميعاً. وقد أفاد في وجهه : « والتحقيق هو الثاني ، لما ذكرناه سابقاً من أن منشأ التعارض في أمثال هذه المقامات إنما هو العلم الإجمالي بعدم صدور أحد المتعارضين ، وفي المقام


ليس لنا علم إجمالي بعدم صدور خصوص أحد العامين من وجه بل لنا علم بعدم صدور أحد هذه الأدلة الأربعة ، إذ لو لم يصدر أحد العامين أو أحد الخاصّين لم يكن تناف بين الثلاثة الباقية ، أما لو لم يصدر أحد العامين فواضح ، وأما لو لم يصدر أحد الخاصّين فلأنه بعد تخصيص أحد العامين يصير أخص من العام الآخر فيخصص به ، فإذا لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة الأربعة وطرح أحدها والأخذ بالثلاثة الباقية ، ومع فقد الترجيح والحكم بالتخيير يتخير بين الأدلة الأربعة بطرح أحدها والأخذ بالباقي » (١).

وهذا البيان غير تام. وذلك.

أولا ـ لورود النقض بما إذا ورد مخصصان كل واحد منهما يخصص أحد الدليلين المتعارضين بنحو يبقى التعارض بينهما على حاله بعد التخصيص أيضا ، كما إذا كان موضوع الخاصّين واحداً ـ وقد تقدمت الإشارة إلى حكمه في الحالات السابقة ـ فإنه لا إشكال في إعمال المخصصين وإيقاع التعارض بين العامين والحكم فيهما بالتخيير أو الترجيح ، سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا. مع أنه بناء على ما أفيد في هذا البيان لا بد من إيقاع المعارضة بين الأدلة الأربعة جميعاً للعلم إجمالاً بعدم صدور أحدها بحيث لو تعين في واحد منها لارتفع التعارض المستحكم.

وثانياً ـ أن فرضية التعارض بالنحو المذكور غير مخصوص بالأدلة ظنية السند كي يكون العلم الإجمالي بعدم صدور أحدها موجباً لسريان التعارض إلى سندها جميعاً ، بل يمكن افتراض هذا اللون من التعارض بين الأدلة قطعية الصدور التي لا يوجد فيها غير الظهورات المتعارضة ، والعلم الإجمالي بعدم جدية أحدها منحل بالعلم التفصيليّ بعدم جدية ظهور أحد العامين من وجه للتعارض بينهما على كل تقدير ، فلا يبقى مانع من الأخذ بظهور الخاصّين.

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٤٠٠ ـ ٤٠١.


وثالثاً ـ أن التعارض السندي يكون بأحد ملاكين.

الملاك الأول ـ أن يعلم إجمالاً بكذب أحد السندين ، بمعنى عدم صدور الكلام عن المعصوم 7 رأساً وكذب النقل.

الملاك الثاني ـ ويتحقق حيث ينقل من قبل راويين كلامان عن المعصوم يحتمل صدورهما معاً غير أن ظاهر كل منهما لا يلائم ظاهر الآخر ، فيقع التعارض في دليل حجية الظهور بين ظهوريهما ويسري إلى دليل حجية السند ، باعتبار لغوية بقاء حجية السند مع سقوط الدلالة.

فإن قصد السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ من تعارض الأدلة الأربعة جميعاً حصول التعارض على أساس الملاك الأول ـ كما يساعد عليه تعبير التقرير حيث عبر بالعلم الإجمالي بكذب أحدها ـ فهذا الملاك للتعارض لو فرض وجوده فلا إشكال في استلزامه سقوط الأدلة الأربعة جميعاً ، لوقوع التكاذب بين شهادة الراوي في كل واحد منها مع شهادة الراوي في الثلاثة الباقية.

إلاّ أن وجود مثل هذا العلم الإجمالي عناية زائدة لم تفترض في المسألة ، ومجرد فرض التعارض بين الظهورات لا يستلزم العلم بعدم صدور أحدها وكذب الراوي في مقام النقل ، لوضوح إمكان صدور البيانات المتعارضة عن المعصومين :. فلو فرض وجود علم إجمالي من هذا القبيل في مورد ما فهو لعناية إضافية ، لو تمت اقتضت إجمال السند ولو لم يكن تعارض يحسب الدلالة ، كما إذا ورد عام وخاص وعلم إجمالاً بكذب أحد السندين.

وإن كان مقصوده ـ دام ظله ـ التعارض على أساس الملاك الثاني ، فالتعارض على هذا الأساس إنما يسري إلى السند فيما إذا أجملت الدلالة وسقط الظهور عن الحجية ، بأن كان التعارض الدلالي مستحكماً ولا تعارض كذلك بالنسبة إلى دلالة المخصصين في المقام ، إذ لو ادعي ذلك على أساس تعارض كل خاص مع مجموع العامين والخاصّ الآخر ، فالجواب : أن هذه المعارضة


غير مستقرة فيما نحن فيه ، لأن الخاصّ مقدم على العام المعارض له بالقرينية والمقدم على أحد أجزاء المجموع مقدم على المجموع فلا يعقل أن يكون معارضاً معه ، والسر فيه : أنه لا يوجد هنا تعارض مستحكم بين أطراف أربعة ، وإنما توجد ثلاث معارضات كل منها بين طرفين ، المعارضة بين الخاصّ مع عامه في كل طرف والمعارضة بين العامين بنحو العموم من وجه. والأوليان غير مستقرتين وإنما المستقر المعارضة الثالثة فحسب سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلأنه لا وجه لملاحظة تخصيص أحد العامين بمخصصه قبل الآخر حتى يصبح ذلك العام أخص مطلقاً من العام الآخر ، فإنه ترجيح بلا مرجح.

وإن ادعي ذلك على أساس أن كلاً من العامين يعارض مجموع دليلين المخصص والعام الآخر ، لأنهما بمجموعهما مستوعبان لتمام مدلول العام ، فيكون نظير استيعاب المخصصات لتمام مدلول العام. فالجواب : أن المجموع المركب من العام الآخر والمخصص وإن كان معارضاً مستوعباً لتمام مدلول العام الأول إلاّ أن هذه المعارضة منحلة إلى تعارض غير مستقر وتعارض مستقر ، لأن هنالك معارضتين إحداهما بين العام ومخصصه ، والأخرى بين العامين من وجه. والمعارضة الأولى فيها جمع عرفي فلا تكون من التعارض المستقر حتى يسري إلى السند. ولا يقاس بموارد استيعاب المخصصات لتمام مدلول العام ، لأن كل واحد من المخصصات لو لوحظ وحده كانت معارضته للعام غير مستقرة ، إلاّ أنه لا يمكن تقديمها على العام ، لا جمعاً ولا بدلاً ، فتسقط الجميع عن الحجية.

إن قلت ـ إن قواعد الجمع العرفي إنما تكون من أجل علاج التعارض غير المستقر والجمع بين الأدلة بنحو لا تسقط عن الحجية ، فلا تنطبق فيما إذا لزم من تطبيقها إلغاء دليل رأساً ، كما في المقام.

وإن شئت قلت : إن نظرية التخصيص بالمنفصل لما كانت بملاك التوسعة


في القرينية وتنزيل المخصص المنفصل منزلة المتصل ، فلا تقتضي التخصيص إلاّ في مورد لو فرض اتصال الأدلة المتعارضة ، كانت القرينية محفوظة ، وهذا غير محفوظ في المقام ، إذ لو فرض اتصال الأدلة الثلاثة جميعاً وصدورها في مجلس واحد لم يكن التعارض بين العامين فقط بل كان الإجمال سارياً إلى الأدلة الثلاثة كلها.

قلت : إن قواعد الجمع العرفي ليس من أجل علاج التعارض بين الأدلة بنحو لا تسقط عن الحجية بحيث يكون تطبيقها مشروطاً بعدم استلزامه إلغاء حجية أي واحد من المتعارضين. وإنما هي من أجل التقريب نحو مراد المتكلم فلا موجب لعدم تطبيقها إذا تمت مقتضياتها ولو لزم منه إلغاء دليل برأسه ، وإنما لم يطبق التخصيص على المخصصات المستوعبة لتمام مدلول العام الواحد باعتبار عدم تمامية المقتضي فيها ، لعدم صلاحية مجموعها للقرينية والكشف عن المراد من العام ، وبعضها وإن كان صالحاً لذلك إلاّ أن ترجيحه على غيره بلا مرجح.

وعلى هذا الأساس ، لو فرض صدور الأدلة الأربعة في مجلس واحد متصلاً. كان كل من الخاصّين تام الاقتضاء في الكشف عن المراد من العام المتصل به. وينحصر التعارض والإجمال في العامين فقط. ويكون هذا من قبيل ما إذا لم تنعقد دلالة تصورية من أول الأمر في العامين إلاّ بلحاظ مورد اجتماعهما فحسب ، كما لو قيد مدخول أداة العموم في كل منهما بمورد اجتماعه مع الآخر.

وهكذا يتضح أن مجرد كون رفع اليد عن أحد الأدلة موجباً لارتفاع التعارض المستقر فيما بينها لا يشكل مقياساً فنياً لسريان التعارض إليها جميعاً. بل لا بد من تحديد مركز التعارض في كل منها وتشخيص ما يكون منها غير مستقر فيطبق عليه قواعد الجمع العرفي ، وما يكون منها مستقراً فيطبق عليه الترجيح أو التخيير أو التساقط.


الصورة الثالثة ـ العام الواحد مع ورود تخصيصات عديدة عليه ، ومن أجل سهولة استيعاب حكم هذه الصورة بشقوقها ، نفترض ورود مخصصين بأحد الأنحاء التالية :

النحو الأول ـ أن يكون المخصصان بحسب الموضوع متباينين ، فيكون ما يشمله أحدهما غير ما شمله الآخر ، ويفرض عدم استيعابهما لتمام مدلول العام تارة ، واستيعابهما له أخرى ولو عرفاً. ففي الفرض الأول لا ريب في تقديم المخصصين معاً على العام تطبيقاً لقاعدة التخصيص ، سواء قيل بانقلاب النسبة أولا. وفي الفرض الثاني يقع التعارض بين العام ومجموع الخاصّين وهو تعارض مستقر يسري إلى السند في الأدلة الثلاثة ، كما تقدمت الإشارة إليه.

النحو الثاني ـ أن يكون المخصصان بحسب الموضوع عامين من وجه ، فإن كانا بمجموعهما مستوعبين تمام مدلول العام فحكمه حكم القسم الثاني من النحو المتقدم ، وإن كانا غير مستوعبين فحكمه حكم القسم الأول من النحو المتقدم إلاّ أنه يختلف عنه في وجود مجال لتوهم انقلاب النسبة في هذا النحو ـ على القول به ـ لو لوحظت النسبة بين العام مع أحد المخصصين بعد تخصيصه بالآخر. ولكنه توهم لا يذهب إليه حتى القائلين بانقلاب النسبة ، لأن نسبة الخاصّين إلى العام على مستوى واحد فملاحظة أحدهما في التخصيص قبل الآخر ترجيح بلا مرجح. ومنه يعرف أيضا حال دعوى : تخصيص العام بمورد اجتماع المخصصين ، إذا كانا غير متنافيين أولا إعمالاً لكلا المخصصين ، ثم ملاحظة النسبة بين العام وبين موردي الافتراق من المخصصين وقد انقلبت إلى العموم من وجه ، فإن هذا أيضا مستلزم لمحذور الترجيح بلا مرجح ، لأن الخاصّ قرينة على العام بتمام مفاده فملاحظة جزء من مفاده في مقام التخصيص قبل جزئه الآخر ترجيح بلا مرجح.

وأيا ما كان ، فالمخصصان في هذا النحو من التعارض تارة : يكونان متنافيين وأخرى : لا يكونان كذلك. ويحكم في الحالة الأولى بالتعارض بين الخاصّين


في مورد الاجتماع والرجوع فيه إلى العام بوصفه مرجعاً فوقياً ، ويخصص العام بهما في موردي الافتراق من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

وأما في الحالة الثانية فإن كان الخاصان صادرين في زمان واحد خصص العام بكل منهما لا محالة ، من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه ، لما أشرنا إليه من أن نسبة المخصصين إلى العام على حد واحد فلا وجه لملاحظة أحدهما مع العام قبل الآخر ، أو تخصيص العام أولا بهما في مورد الاجتماع ثم ملاحظة العام مع الخاصّين في موردي الافتراق كي تكون النسبة عموماً من وجه.

وإن كان الخاصان مترتبين زماناً ، فقد أثار فيه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ شبهة ثم حاول الإجابة عليها.

« أما الشبهة ـ فهي أن العام بعد ورود المخصص المتقدم لا يكون حجة إلاّ في المقدار الباقي ، إذ به يكشف عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، فحين ورود المخصص الثاني تكون النسبة بينه وبين العام المخصص العموم من وجه لا محالة.

وأما الجواب : فهو أن الأئمة : كلهم بمنزلة متكلم واحد ، فإنهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي 6 ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم ، فإنه لو لا أن كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحد بالخاص من شخص آخر. فإذاً يكون الخاصّ الصادر من الصادق 7 مثلاً مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين 7 مثلاً بحسب مقام الثبوت وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الإثبات ، وكذا الخاصّ الصادر من الباقر 7 مثلاً ، فكما أن الخاصّ المقدم زماناً يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، كذلك الخاصّ المتأخر يكشف عن عدم تعلق الإرادة


الجدية من لفظ العام بالمقدار الّذي يكون مشمولاً له ، وكلاهما في مرتبة واحدة (١).

والتحقيق : أن هذا الكلام ليس جواباً على هذه الشبهة وإنما هو جواب على شبهة أخرى وقع الخلط بينهما. وتوضيح ذلك : أن حديث نظر الخطابات الشرعية إلى زمان واحد ـ وهو زمان التشريع ـ يثبت أن زمان مدلول الخطابات كلها واحد وليس كل خطاب يشرع به حكم جديد من حين صدور الخطاب وبهذا يتم الجواب على شبهة أخرى تورد في عكس مسألتنا ، وهو ما إذا ورد خاص متقدم على عامه ، حيث يشكل على تخصيص العام به : بأن النسبة بينهما عموم من وجه ، لأن الخاصّ يشمل الأفراد في الزمن قبل مجيء العام بخلاف العام فلا تكون النسبة العموم والخصوص المطلق بل من وجه. فيكون الجواب بالالتفات إلى النكتة التي أبرزها السيد الأستاذ في المقام ، فإنه إذا كانت الخطابات كلها تكشف عن أحكام ثابتة ومشرّعة في زمن واحد فالنسبة بينهما لا تختلف ، سواء تقدم العام أو الخاصّ.

إلاّ أن هذه النكتة أجنبية عن الشبهة المثارة في هذا البحث ، لأن جهة الإشكال أن العام لا يبقى حجة بعد المخصص الأول إلاّ في الباقي ، وكون الخطاب يكشف عن أحكام مشرعة في زمان واحد لا يجعل الخاصّ الثاني حجة قبل وروده ، بل الحجة قبله هي العموم ، فإذا كان الميزان في التخصيص ملاحظة النسبة بين المقدار الحجة من كل دليل ـ كما هو مبنى انقلاب النسبة ـ فلا محالة تكون النسبة بين المقدار الحجة من العام حين مجيء المخصص الثاني العموم من وجه ، فالإجابة على هذه الشبهة لا بد وأن تكون بتوحيد زمان الدال والحجة لا الدال والمدلول ، كما هو واضح.

والصحيح في الجواب : أن تحكيم المخصص على العام وتخصيصه به في

__________________

(١) مصباح الأصول ص ٣٩٣.


كل زمان موقوف على حجية الخاصّ في ذلك الزمان ، فليس ورود الخاصّ في زمان معناه ارتفاع حجية العام إلى الأبد ، ولذلك يرجع العام حجة فيما إذا ورد عليه مخصص أو معارض بعد ذلك ، وعلى هذا الأساس يعرف : أن تخصيص العام في زمن ورود الخاصّ الثاني بالنسبة إلى كل من المخصصين موقوف على حجية ذلك المخصص في ذلك الزمان ، ولا تجدي حجيته في زمن أسبق ، ومن الواضح ، أن حجية كل واحد من المخصصين في زمان صدور الخاصّ الثاني في رتبة واحدة ، وإن كانت إحدى الحجيتين بقائية والأخرى حدوثية. فتخصيص العام بإحداهما قبل الأخرى ترجيح بلا مرجح.

ولو لا هذه النكتة للزم تأسيس فقه جديد بملاحظة الأدلة الشرعية المتعارضة وتحديد النسب والعلاقات فيما بينها.

النحو الثالث ـ ما إذا كانت النسبة بين الخاصّين العموم والخصوص المطلق ، وفي هذا النحو من التعارض ، تارة : يفرض ورود أخص المخصصين منفصلاً عن العام ، وأخرى : يفرض اتصاله به.

أما الفرض الأول ، فالحكم فيه هو تخصيص العام بكلا المخصصين ، سواء كان بينهما تناف أم لا وسواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، إذ لا وجه لملاحظة أحد المخصصين في مقام التخصيص قبل الآخر على ما تقدم شرحه.

وأما الفرض الثاني ، فتارة : لا يكون العام المخصص قد ورد في دليل آخر مجرداً من مخصصه المتصل ، وأخرى : يكون كذلك. ففي الحالة الأولى ، كما إذا ورد ـ أكرم كل شاعر ، ولا تكرم الكذاب منهم ـ وورد في دليل منفصل ـ لا يجب إكرام الشاعر الفاسق ـ لا بد من معاملة العام المخصص بالمتصل مع المخصص المنفصل معاملة العامين من وجه ، سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، لأن العام لم ينعقد ظهوره في العموم من أول الأمر. لاتصال القرينة على التخصيص.

نعم ، لو فرض أن الخاصّ المتصل كان مخالفاً مع الخاصّ المنفصل كما


إذا ورد ـ أكرم الشعراء ويحرم إكرام الكذاب منهم ـ وورد ـ يكره إكرام الشاعر الفاسق ـ فبناء على انقلاب النسبة يخصص المخصص المنفصل بالمخصص المتصل أولا ، وبعد ذلك تنقلب النسبة بينه وبين العام إلى العموم والخصوص المطلق بسبب ما طرأ عليه من تخصيص. وبناء على إنكار انقلاب النسبة تبقى المعارضة بينهما في مادة الاجتماع على حالها.

وقد ترد هنا الشبهة المتقدمة في الجهة السابقة ، من أن مقتضى القاعدة القائلة بأن ما كان على تقدير اتصاله قرينة رافعاً للظهور كان على تقدير انفصاله رافعاً للحجية ، أن يخصص العام بأعم المخصصين أيضا ، لأنه إذا ورد متصلاً كان مخصصاً للعام في عرض المخصص الآخر.

والجواب : أن طرف الإضافة والمعارضة ينبغي أن يكون محفوظاً في فرضي الاتصال والانفصال ، فلا بد وأن يبقى ذلك الظهور ـ الّذي لو كان المخصص متصلاً به كان رافعاً له ـ على حاله حين الانفصال حتى يتقدم عليه في الحجية ، وفي المقام لو كان أعم الخاصّين متصلاً كان معارضاً مع ذات العام بعرضه العريض ، لا العام المخصص ، لأن المخصصين نسبتهما إليه على حد سواء ، ولكنه على تقدير الانفصال يكون المعارض هو العام المخصص بالمتصل الّذي لا ينعقد فيه الظهور التصديقي إلاّ بمقدار الباقي الّذي تكون نسبته إلى المخصص المنفصل عموماً من وجه ، فما هو طرف المعارضة على فرض الاتصال غير ما هو طرف المعارضة على فرض الانفصال ، فلا تنطبق القاعدة التي تقضي بأن كل ما يكون قرينة في حال الاتصال يكون كذلك حال الانفصال ، لأنها إنما تصدق في حالة كون طرف المعارضة لما هو المرشح للقرينية واحداً في فرضي الاتصال والانفصال.

وأما في الحالة الثانية ، ففيما يتعلق بالخاص المنفصل مع العام المخصص يكون الحكم كما في الحالة الأولى من التعارض بنحو العموم من وجه ، وإنما يمتاز هذا الفرض على سابقه في مورد الاجتماع وأنه


هل يصح الرجوع فيه إلى العام الوارد في دليل ثان مجرداً عن المخصص كمرجع فوقي بعد التعارض أم لا؟

ذهب المحقق النائيني ـ قده ـ إلى الثاني مدعياً في وجه ذلك : ( أن أعم الخاصّين يدخل ميدان المعارضة في مورد الاجتماع مع أعم العامين ، ولا يكون مخصصاً ، لأنه إنما يصلح للمخصصية إن لم يكن مبتلىً بالمعارض ، والمفروض ابتلائه بمعارضة العام المخصص بالمتصل فلا يمكن أن يخصص أعم العامين ) (١).

والصحيح هو الأول : لأن أعم الخاصّين ـ الخاصّ المنفصل ـ وإن لم يكن صالحاً لتخصيص أعم العامين في مورد الاجتماع ـ وهو الشاعر الفاسق غير الكذاب ـ لأن التخصيص فرع حجية الخاصّ في نفسه وعدم ابتلائه بالمعارض وهو في المقام مبتلى بالمعارض ، إلاّ أن عدم صلاحيته لتخصيصه لا يجعل العام الأعم صالحاً للمعارضة معه ، بل يستحيل معارضته معه لأن المعارضة بين الدليلين فرع حجية كل منهما في نفسه وأعم الخاصّين لو كان حجة في مورد الاجتماع لكان مخصصاً لأعم العامين ومقدماً عليه ، وهذا يعني أن حجية العام في مادة التعارض ـ بين أعم الخاصّين والعام المخصص بالمتصل ـ موقوفة على سقوط أعم الخاصّين عن الحجية في تلك المادة وإلاّ لكان صالحاً للقرينية ورفع حجية العام ، وما كانت حجيته موقوفة على عدم حجية الآخر يستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة معه وأن يكون صالحاً للمانعية عن حجيته كما هو واضح ، وإذا استحال وقوع العام طرفاً للمعارضة مع أعم الخاصّين تعين كونه مرجعاً بعد التعارض بين أعم الخاصّين والعام المخصص بالمتصل ، لأن المقتضي لحجيته في هذه الحالة موجود والمانع مفقود ، أما وجود المقتضي فلأن ظهور العام في العموم منعقد لأن المفروض عدم اتصال

__________________

(١) نقل بتصرف من أجود التقريرات الجزء الثاني ، ص ٥١٩ ـ ٥٢٠.


أي مخصص متصل به ، وأما عدم المانع فلأن ما يحتمل كونه مانعاً إنما هو معارضة أعم الخاصّين له ، وقد تبرهن امتناع وقوعه طرفاً للمعارضة مع أعم الخاصّين.

هذه مهم صور التعارض بين الأدلة المتعددة استعرضناها لتوضيح موارد انقلاب النسبة وتمييز النتائج المترتبة عليه عما لا يتوقف ترتبه عليه. وربما بقيت صور أخرى جانبية يظهر حكمها بمراجعة الخصوصيات والنكات المتقدمة.

الجهة الثالثة : في موقف القائلين بعدم انقلاب النسبة وتحقيق الحال في ذلك. إن هنالك أربع حالات للدليلين المتعارضين في موارد انقلاب النسبة ـ ولنفرضها فيما إذا ورد دليلان متعارضان بنحو التباين وورد مخصص على أحدهما ومنه يعرف الحال في سائر الموارد ـ.

الحالة الأولى ـ أن يكون العام المخصص ظنياً سنداً وجهة ، وحكم هذه الحالة التعارض والتساقط في غير مورد التخصيص إذا كان العام غير المخصص ظنياً سنداً أيضا. وإلاّ تعين العام المخصص للسقوط باعتباره مخالفاً للدليل القطعي.

الحالة الثانية ـ أن يكون العام المخصص قطعياً سنداً وجهة ، بأن لا يكون أصل صدوره غير جدي وإن كان يحتمل ذلك في عمومه. وفي هذه الحالة سوف يقطع بثبوت مفاد العام المخصص في الجملة وبنحو القضية المهملة ، وبضم هذه القضية المهملة المتيقنة إلى المخصص تتشكل له دلالة التزامية على ثبوت حكم العام المخصص في غير مورد التخصيص في الجملة ، وهذه الدلالة الالتزامية تكون مخصصة لعموم العام الآخر بمقدار تلك القضية المجملة المهملة ، فإن كان لها قدر متيقن تعين فيه ووقع التعارض بين العامين بلحاظ باقي الأفراد إذا كانا متكافئين ، وإلاّ بأن كانت القضية المهملة مرددة بين مجموع الباقي كان من موارد إجمال المخصص ودورانه بين المتباينين المستوجب


لتشكل علم إجمالي بالتخصيص ، فإن قيل بسقوط العام في موارد دوران المخصص بين متباينين عن الحجية رجعنا إلى حكم العام المخصص في تمام الباقي ، وإن قيل ببقاء حجيته لإثبات الحكم في أحد المتباينين إجمالاً ليتشكل علم إجمالي بالحجية ، فهذا غير منتج في المقام ، لسقوط هذه الحجة على كل حال بالمعارضة ، فلا يتشكل علم إجمالي بالحجة ليكون منجزاً فيما إذا كان مفادها حكم إلزامي.

لا يقال : قد تقدم في مستهل البحث عن التعارض المستقر أن القضية المهملة المرددة بين الجزئية والكلية لا تصلح للقرينية والجمع العرفي ، وبهذا دفعنا محاولات الجمع التبرعي بين المطلقين المتعارضين الرامية إلى تحكيم المهملة في كل منهما على الإيجاب الكلي للمطلق الآخر. فهذه الدلالة الالتزامية للمخصص منتزعة من العام المخصص بالنحو المذكور.

فإنه يقال : لا نريد بالقضية المهملة ما ينتزع من مدلول العام المخصص ، وإنما نريد بها القضية المعلومة إجمالاً من شهادة الراوي القطعية وانتفاء احتمال التقية ، فإن هذا العلم بانضمامه إلى دليل التخصيص يشكل دلالة التزامية تصلح لتخصيص العام الآخر.

وإن شئت قلت : إن المخصص يدل على قضية شرطية هي أنه لو كان حكم العام المخصص ثابتاً في الجملة ، فهو في دائرة الباقي ، وهذه الدلالة صالحة للقرينية وتخصيص العام الآخر بحكم أخصيتها ، وشهادة الراوي القطعية تثبت الشرط فيها فيتم التخصيص ، ولا يمكن للعام أن يعارض شيئاً منهما ، أما الشرط فلكونه قطعياً ، وأما الجزاء على تقدير الشرط فلكونه أخص.

الحالة الثالثة ـ أن يكون العام المخصص ظني السند قطعي الجهة ، وحكم هذه الحالة كما في الحالة السابقة. ولتوضيح ذلك نقول : أن العام المخصص يحتوي على دالين ومدلولين.


الدال الأول ـ كلام الراوي ومدلوله صدور الحديث من المعصوم 7

الدال الثاني ـ كلام المعصوم 7 ومدلوله الحكم العام المستفاد منه ببركة أصالة العموم. ومدلول الدال الأول يلازم عقلاً ثبوت الحكم المفاد بالحديث في الجملة ، إذ المفروض قطعية الجهة ، فلو كان الراوي صادقاً في شهادته كان الحكم ثابتاً في الجملة. وقد بينّا في الحالة السابقة أن للمخصص دلالة التزامية على قضية شرطية مفادها أنه لو ثبت حكم العام في الجملة فهو في غير دائرة التخصيص ، وقد كان شرطها مقطوعاً به في الحالة السابقة ولكنه في المقام يثبت بالدال الأول ـ وهو شهادة الراوي ـ تعبداً وبه يتم التخصيص.

لا يقال : عموم العام غير المخصّص ينفي حجية سند العام المخصص ، لأن المعارضة تسري إلى سند العام المخصص بعد أن كان غير قطعي.

فإنه يقال : عموم العام إنما ينفي حجية الدال الأول فيما إذا لم يكن المخصص في البين ، لعدم صلاحية الدلالة الالتزامية على ثبوت الحكم في الجملة المستفادة من شهادة الراوي للحديث العام بمجردها للقرينية وتخصيص العام الآخر ، لأنها وإن كانت أخص إلاّ أنها دلالة لشهادة الراوي فلا تصلح لتقييد كلام الإمام 7 وأما بعد فرض ورود الخاصّ من المعصوم 7 فسوف تتشكل تلك الدلالة الالتزامية في حديث الإمام نفسه فتصلح للقرينية والتخصيص.

الحالة الرابعة ـ أن يكون العام المخصص قطعي السند ظني الجهة ، بحيث يحتمل فيه عدم الإرادة الجدية وإن كان على خلاف الأصل. والحكم في هذه الحالة استحكام التعارض بين العامين كما كان في الحالة الأولى ، لأن الخاصّ وإن كان يدل على قضية شرطية بالالتزام وهي أخص من العام غير المخصص ولكنه لا يوجد في هاتين الحالتين ما يثبت الشرط لهذه الشرطية الأخص


لا بالوجدان ـ لفرض ظنية الجهة ـ ولا بالحجة ، لأن أصالة الجد لا تدل على جدية القضية المهملة المنتزعة من العام ، وإنما تدل على جدية ما هو المدلول لكلام المعصوم 7 وما هو المدلول إنما هو القضية المطلقة لا المهملة المنتزعة عقلاً ، وأصالة الجد في القضية المطلقة ساقطة بالمعارضة بحسب الفرض.


المَسألة الثَانية

حكم التعارض المستقر من زاوِيَة الأخبار الخاصّة

١ ـ أخبار الطرح

٢ ـ أخبار العلاج

أ ـ أخبار التخيير

ب ـ أخبار الترجيح

ح ـ أخبار التوقف والإرجاء

٣ ـ تنبيهات المسألة

٤ ـ ملتقى المسألتين


بعد أن اتضح فيما سبق مقتضيات دليل الحجية العام في موارد التعارض بين الأدلة. تنتهي النوبة إلى دراسة حالات التعارض من زاوية الأخبار الخاصة ليرى ـ بحسب النتيجة ـ هل يثبت بها ما يخالف تلك المقتضيات أم لا ، فإن مشكلة التعارض والاختلاف في الروايات الصادرة عن المعصومين : قد واجهها أصحاب الأئمة : أيضا فتصدوا لمعرفة الموقف الشرعي منها وكيفية علاجها عن طريق السؤال عنهم : ، فوردت أحاديث كثيرة ترتبط بهذا الشأن ، ودراسة هذه الأحاديث وتحديد معطياتها تقع في فصلين :

الفصل الأول ـ فيما تقتضيه أخبار الطرح.

الفصل الثاني ـ فيما تقتضيه أخبار العلاج.


أَخبارُ الطّرح

ونقصد بأخبار الطرح الروايات المستفيضة التي تأمر بعرض الحديث على الكتاب والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه. وقد وردت هذه الأخبار بألسنة مختلفة بالإمكان تصنيفها إلى ثلاث طوائف نبحث عنها تباعاً.

الطائفة الأولى ـ ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين :.

ومن نماذج هذه الطائفة رواية أيوب بن حمر قال : « سَمِعتُ أبَا عَبدِ اللهِ 7 يَقُولُ : كُلّ حَدِيثٍ مَردُود إلى الكِتَابِ وَالسّنّةِ وَكُلّ شَيءٍ لا يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ زُخرُفٌ » (١).

ومثلها رواية أيوب بن راشد عن أبي عبد الله 7 قال : « مَا لَم يُوَافِق مِنَ الحَدِيثِ القُرآنَ فَهُوَ زُخرُفٌ » (٢) وهما صحيحتان سنداً.

والتعبير بالزخرف فيهما يجعلهما من أمثلة هذه الطائفة الدالة على التحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب منهم.

ومن نماذج هذه الطائفة أيضا رواية هشام بن الحكم وغيره عن أبي

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.


عبد الله 7 قال : « خَطَبَ رَسُولُ اللهِ 6 فَقَالَ : يا أيّهَا النّاسُ مَا جَاءَكُم عَنّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللهِ فَأنَا قُلتُهُ وَمَا جَاءَكُم يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فَلَم أقُلهُ » (١).

ولكنها غير نقية السند لورود محمد بن إسماعيل فيه ، وهو مردد بين من ثبت توثيقه ومن لم يثبت. وإنما جعلناها من أمثلة هذه الطائفة باعتبار أن التعبير بـ ( لم أقله ) يفهم منه عرفاً استنكار الصدور والتحاشي عنه لا مجرد الاخبار بعدمه.

وهكذا يتضح أن مفاد هذه الطائفة استنكار صدور ما لا يوافق الكتاب الكريم والسنة الشريفة عنهم. ويقع الحديث بعد هذا حول هذا المفاد من جهات عديدة.

الأولى ـ في تحديد المراد مما لا يوافق الكتاب ، فهل يراد منه المخالفة مع الكتاب بأن يكون هنالك تعرض من الكتاب ولا يوافقه الحديث ، أو يعم ما إذا لم يكن الكتاب متعرضاً لذلك الموضوع أصلاً ، فيكون عدم موافقة الحديث معه من باب السالبة بانتفاء الموضوع؟

لا ينبغي الإشكال في أن المستظهر عرفاً هو الأول ، لأن جملة ما لا يوافق الكتاب وإن كانت قضية سالبة وهي منطقياً أعم من السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول ، إلاّ أن المتفاهم العرفي منها هو السالبة بانتفاء المحمول بأن يكون عدم الموافقة للكتاب مع وجود دلالة كتابية ، ويؤيده : أن الحديث الثالث عبر عما يقابل موافقة الكتاب بالمخالفة ، فيكون شاهداً على إرادة هذا المعنى من عدم الموافقة.

الثانية ـ في أن المستفاد من هذه الطائفة هل هو نفي الصدور كجملة خبرية أو نفي الحجية؟ ويترتب عليه ، أنه على التقدير الثاني تكون هذه الطائفة كالطائفة الثالثة الآتية مقيدة لإطلاق دليل الحجية العام بما إذا لم يكن

__________________

(١) المصدر السابق.


الخبر مخالفاً مع القرآن الكريم ـ على أبحاث وتفاصيل سوف يأتي التعرض لها ـ وعلى التقدير الأول يقع التعارض بين شهادة الراوي بصدور الخبر المخالف مع هذه الطائفة النافية لصدور ذلك عنهم وقد يطبق عليهما حينئذ قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، بل قد يقال بتقديم الخبر المخالف على أساس الجمع العرفي إذ يحتمل صدوره عنهم واقعاً فيكون تخصيصاً في عموم هذه الطائفة ، فإن الجمل الخبرية كالجمل الإنشائية تقبل التخصيص فيحكم بعدم صدور ما يخالف الكتاب عنهم إلاّ في ذلك المورد.

إلاّ أن هذا الكلام غير تام. وذلك أولا : لأن الإخبار بصدور ما يخالف الكتاب عنهم في موردٍ كلام للراوي لا المعصوم فلا يصلح لتخصيص الجملة الخبرية من كلام المعصوم 7 فإن قواعد القرينية والجمع العرفي إنما تجري في الكلمات الصادرة عن متكلم واحد.

وثانياً ـ إباء ألسنة هذه الطائفة عن التخصيص باعتبار ما ورد فيها من لسان الاستنكار وأن ما خالف الكتاب زخرف باطل.

وثالثاً ـ أن مدلول هذه الروايات نفي صدور صرف وجود المخالف للكتاب عنهم ، وأنه لا يصدر منهم ذلك ولو مرة واحدة ، وليس المقصود أنهم لا يخالفون الكتاب في كل فرد فرد من أحاديثهم ، فإن هذا لم يكن هو المحتمل أو المتوقع حصوله ، فصدور حديث واحد كاف لأن يكون طرحاً لمفاد هذه الطائفة وتكذيباً لها. وحينئذ ، إذا احتملنا صدور الحديث المخالف عنهم واقعاً وقع التنافي بين هذه الروايات والخبر المخالف بلحاظ المروي وإن استبعدنا صدوره عنهم على تقدير صدور هذه الطائفة وقع التنافي بينهما بلحاظ الرواية ، إذ يعلم إجمالاً بكذب الشهادة في أحدهما ، ويكون تطبيق أحكام التعارض المستقر من الترجيح أو التخيير مبنياً في هذه


الحالة على القول بتعميمها لموارد التعارض بملاك التكاذب في الرواية أيضا ، على ما سوف يأتي الحديث عنه.

الثالثة ـ فيما تشمله هذه الطائفة من أقسام التعارض بين الخبر والكتاب الكريم. فهل تشمل جميع أقسام التعارض المستقر وغير المستقر أو المراد ، منها قسم خاص فقط. والبحث عن هذه الجهة سوف نتعرض له بصورة مفصلة فيما يأتي عند التعرض لمعنى المخالفة مع الكتاب ، إلاّ أنه ينبغي الإشارة في المقام إلى أنه لا يبعد أن يكون المتفاهم من هذه الطائفة بقرينة لسان التحاشي والاستنكار عدم صدور ما يكون مخالفاً مع الكتاب منهم بمعنى عدم صدور ما يكون مستوجباً لطرح القرآن وتكذيبه لا مجرد المخالفة معه بالتخصيص أو التقييد ، بل ولا المخالفة بنحو العموم من وجه مما لا يستلزم طرح الكتاب وقد شاع لدى المتشرعة صدوره منهم كثيراً ، فإن هذا هو الّذي يناسب أن يستنكر ويتحاشى منه.

الطائفة الثانية ـ ما دل على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقاً مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية أبي يعفور قال : ( سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ عَنِ اختِلافِ الحَدِيثِ يَروِيهِ مَن نَثِقُ بِهِ وَمِنهُم مَن لا نَثِقُ بِهِ؟ قَال : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثٌ فَوَجَدتُم لَهُ شاهِداً مِن كِتابِ اللهِ أو مِن قولِ رَسُولِ اللهِ 6 وَإلاّ فالّذِي جاءكُم بِهِ أولى بِهِ » (١).

والتعبير باختلاف الحديث الوارد في كلام السائل ـ سواء أريد به تنوع الحديث بمعنى مختلف الحديث ، أو أريد به تعارض الحديث وتهافته أو أريد الحديث المختلف المتناقض مع المسلمات والمركوزات الدينية الثابتة بالكتاب والسنة ـ لا يضرّ بالاستدلال ، لأن الاستدلال إنما يكون بجواب الإمام 7 الّذي يحتوي على كبرى كلية مستقلة تدل على أن كل حديث ليس عليه شاهد

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.


من الكتاب الكريم أو السنّة النبوية فلا يؤخذ به.

والتفسير المشهور لمفاد هذه الطائفة : أن كل حديث لا يكون في القرآن دلالة ، ولو بالعموم أو الإطلاق ، توافق مدلوله وتشهد عليه لا يكون مقبولاً.

ونحن نجعل البحث حول الاستدلال بهذه الطائفة مبنياً على هذا التفسير ، تاركين التعرض لتفسير آخر محتمل في معنى هذه الروايات جميعاً إلى نهاية المطاف ، فنقول :

يمكن أن يسجل على الاستدلال بهذه الطائفة عدة مفارقات.

الأولى ـ أن مفادها عرفاً في حكم إلغاء حجية خبر الواحد مع كونها أخبار آحاد ، ولا يمكن الاستناد في إلغاء حجية خبر الواحد إلى خبر واحد. أما كون مفادها بحكم الإلغاء فباعتبار أنها وإن دلت على عدم حجية خصوص ما ليس عليه شاهد من الكتاب الكريم ، إلاّ أن ذلك مساوق عرفاً لإلغاء الخبر مطلقاً ، فإن الغرض العرفي من جعل الحجية للخبر إثبات ما لا يوجد عليه دليل مسلم من كتاب أو سنّة قطعية به.

وأما أن خبر الواحد لا يستند إليه في إلغاء حجية خبر الواحد. فلأنه يستلزم الخلف كما هو واضح.

وهذا الاعتراض ، صحيح لا دافع له.

الثانية ـ لو افترضنا أن المستفاد من هذه الطائفة إلغاء حجية صنف خاص من الأخبار تخصيصاً لدليل الحجية العام ، مع ذلك يقال : بأن تخصيص أدلة حجية خبر الواحد العامة بخصوص الخبر الّذي عليه شاهد من الكتاب الكريم تخصيص غير عرفي ، فتكون معارضة معها لا مخصصة ، ومعه لا يبقى ما نثبت به حجية هذه الطائفة التي هي من أخبار الآحاد أيضا.

وهذا الاعتراض مبني على انحصار أدلة حجية الخبر في الأدلة اللفظية ،


وأما إذا كان هناك دليل لبي متمثل في السيرة العقلائية أو المتشرعية يدل على حجيته أيضا فلا مانع من أن يقال : أن هذه الطائفة تصلح أن تكون رادعة عن السيرة في جزء من مدلولها مع بقائها ممضاة في جزئها الآخر الّذي يندرج فيه نفس هذه الطائفة ـ بقطع النّظر عن مناقشات قادمة ـ.

الثالثة ـ أن دليلية هذه الطائفة مستحيلة ، لأنه يلزم من دليليتها عدم دليليتها إذ هي أيضا مما لا شاهد عليها من الكتاب الكريم ـ بناء على عدم صحة الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن لنفي حجية خبر الواحد ـ وكل ما يلزم من ثبوته عدمه محال.

والجواب : أن مفاد هذه الأخبار ـ شأن كل قضية عامة ـ يحتوي على إطلاقات عديدة بعدد مصاديق الأخبار الآحاد التي لا شاهد عليها من الكتاب ، ومن جملتها إطلاقها لنفسها بوصفها خبراً واحداً لا شاهد عليه من القرآن الكريم ، والّذي يلزم من دليليته عدم دليليته إنما هو هذا الإطلاق خاصة ، فتكون حجيته مستحيلة دون حجية إطلاقاتها الأخرى.

لا يقال ـ لا يحتمل التفكيك بين خبر وخبر مما لا شاهد عليه من الكتاب ، فسقوط الحجية في بعضها يستلزم سقوطها في الكل ، وبهذا أبطلنا في بحث حجية خبر الثقة الاستدلال بالإجماع المنقول من قبل السيد المرتضى ـ قده ـ لنفي حجية خبر الواحد.

فإنه يقال ـ احتمال التفكيك بين خصوص هذه الأخبار التي لا شاهد عليها من الكتاب وغيرها مما لا شاهد عليه منه موجود هنا وإن لم يكن مثل هذا الاحتمال عرفياً في الفرق بين إخبار السيد وغيره. وذلك باعتبار أن هذه الطائفة ، رغم كونها مما لا شاهد عليها من الكتاب الكريم ، تكون مقربة بحسب النتيجة إلى الكتاب الكريم ، فمن المعقول أن تكون حجة لأجل إسقاط الخبر المخالف للكتاب الكريم عن الحجية.


الرابعة ـ إن هذه الطائفة إما أن تحمل بحسب المفاد على الطائفة السابقة فتكون إخباراً عن عدم صدور ما لا شاهد عليه من الكتاب الكريم عنهم : ـ كما إذا حملنا ما ورد في ذيلها من قوله 7 فالذي جاءكم به أولى به ، على الاستنكار بمعنى أنه أولى به من الإمام 7 كناية عن كونه من جعل نفسه ـ وإما أن يكون مفادها نفي حجية الخبر الّذي لا يكون عليه شاهد من الكتاب ـ كما إذا كان طرف الإضافة في الأولوية الواردة في الذيل هو السائل لا الإمام ، بمعنى أن الّذي جاء به أولى به من المنقول إليهم لأنه أدرى بصدقة أو كذبه ـ وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يتم الاستدلال.

أما على الأول ، فللعلم بمخالفة هذا المفاد للواقع الّذي كان يمارسه الأئمة : على كل حال ، بعد وضوح أن دورهم لم يكن يقتصر على مجرد شرح الأدلة الشرعية الأخرى والاجتهاد في إطارها على حد ما كان يمارسه فقهاء المذاهب الأخرى ، بل كان لهم علاوة على ذلك دور إبراز ما لم يتعرض إليه الكتاب الكريم ولم يستوعبه المقدار الواصل للمسلمين من السنّة النبوية الشريفة في تفاصيل الأحكام وجزئياتها ، حتى كان صدور ذلك عنهم متواتراً إجمالاً من خلال الأحاديث الكثير الواردة عنهم في مختلف أبواب الفقه. فلا بد من حمل هذه الطائفة ـ بناء على هذا التفسير ـ على التقية والمجاراة مع مذاق العامة ، إذا لم يشكل وضوح هذا المعنى بنفسه في ذهن المتشرعة آنذاك قرينة على تعيين معنى آخر لها.

وأما على التفسير الثاني ، فأيضاً لا يمكن الأخذ بإطلاق مفادها لأن حجية خبر الثقة في الجملة كان أمراً مرتكزاً لدى المتشرعة ونقلة الأحاديث ، حتى بالنسبة لما لا شاهد عليه من الكتاب الكريم ، ولذلك وجد ذلك الاهتمام البالغ على نقل الروايات وضبطها ودراستها والاستجازة في مقام نقلها عن الرّواة وأصحاب المصنفات والأصول. وهذا يشكل قرينة لبية متصلة بالخطاب تصرفه إلى معنى آخر ولو أن يكون هو إلغاء الخبر عن الحجية في خصوص


أصول الدين والعقيدة.

وهذا يعني العلم بعدم مطابقة مضمون هذه الروايات للواقع في الفروع فلا بد إما من حملها على التقية أو تقييدها بالأصول والعقائد.

الخامسة ـ أن هذه الطائفة تكون مخالفة للكتاب أو ما يكون كالكتاب سنة قطعية ، سواء استظهرنا منها نفي الحجية مطلقاً ، أو كان مفادها تخصيص الحجية بما عليه شاهد من الكتاب ، لأنها تخالف أدلة حجية خبر الثقة القطعية. فإنها وإن كان فيها ما يمكن تخصيصه بهذه الطائفة ـ من قبيل آية النبأ ، بناء على عموم دلالتها للخبر في الشبهات الحكمية والموضوعية ـ فتحمل على الموضوعية ، غير أن فيها ما لا يمكن تخصيصه بها ، إما لوروده في الشبهات الحكمية خاصة ـ كآية النفر ـ أو لكون الشبهة الحكمية القدر المتيقن من مدلوله أو مورده ـ من قبيل الروايات القطعية التي استدللنا بها على حجية ما يؤديه الثقة المأمون عن المعصوم 7 ـ وحينئذ لا بد من القول بسقوط هذه الطائفة عن الحجية ، بأحد البيانات التالية :

١ ـ إنها مشمولة لنفسها فيلزم من حجيتها عدم حجيتها. بالتقريب الّذي أبطلنا به الاستدلال على حجية خبر الواحد بإجماع السيد المرتضى ـ قده ـ ولا يرد عليه ما أوردناه في دفع الأمر الثاني من وجاهة احتمال التفكيك في الحجية بين هذا الخبر بالخصوص وبين غيره مما ليس عليه شاهد من الكتاب. فإن هذا الاحتمال إنما يتجه فيما إذا لم تكن هذه الطائفة معارضة مع الكتاب الكريم ، بل مجرد أنه لا شاهد عليها منه ، وأما مع فرض المعارضة معه ـ سيما إذا كانت بنحو التباين ـ فهي أولى بالسقوط من غيره.

٢ ـ إنها مشمولة للطوائف الدالة على إلغاء ما خالف الكتاب عن الحجية ، أو نفي صدوره عنهم : فتسقط عن الحجية بهذا الاعتبار ، أما إذا كانت تلك الطوائف بمجموعها تبلغ حد التواتر الإجمالي فواضح ، وأما إذا كانت


أخبار آحاد وادعي أن هذه الطائفة تشملها أيضا باعتبارها مما لا شاهد عليه من الكتاب فغايته أن يقع التنافي بينهما والتعارض ، حيث يكون إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما موجباً لخروج الآخر عنه ، فيتعارض الإطلاقان لدليل الحجية ، فلا تثبت حجية شيء منهما. ومعه لا يثبت تقييد زائد في دليل الحجية العام.

٣ ـ لو قطعنا النّظر عن روايات طرح ما خالف الكتاب مع ذلك قلنا أن هذه الطائفة تتعارض مع جملة من أدلة الحجية التي وردت في الشبهات الحكمية ، أو التي لا يمكن تخصيصها بغيرها ، وبعد التعارض يرجع إلى مثل آية البناء من أدلة الحجية العامة ، باعتبارها مرجعاً فوقانياً. من دون فرق بين أن يكون المستظهر من مثل رواية ابن أبي يعفور إلغاء الحجية رأساً ، أو تخصيصها بما إذا كان عليه شاهد من الكتاب ، لأن في أدلة الحجية ما لا يمكن تخصيصه بذلك أيضا ، فإن مثل آية النفر أو ما دل من الروايات القطعية على لزوم اتباع ما جاء به الثقة المأمون ، مما لا يمكن أن يكون المراد منه خصوص ما توجد معه دلالة قرآنية ، إذ لو كان النّظر إلى ذلك لكفى أن يعوّل على القرآن الكريم ويأمر بالرجوع إليه من دون حاجة إلى التأكيد على ضرورة النفر والتبليغ والاتباع والإطاعة لما يقوله الثقة المأمون.

٤ ـ لو قطع النّظر عن العموم الفوقاني ـ كما إذا لم يتم الاستدلال بآية البناء ـ مع ذلك أمكن أن يقال : أن النسبة بين رواية ابن أبي يعفور وآية النفر ـ المستفاد من إطلاقها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار حجية الخبر ـ هي العموم من وجه لشمول الرواية الأخبار الواردة في غير الفروع التي لا تشملها آية النفر ـ إن صح استظهار اختصاصها بذلك بقرينة كلمة التفقه في الدين ـ وشمول الآية لصورة حصول العلم من الخبر ولا تشملها الرواية ، فإذا فرضنا وجود رواية واحدة ـ ولو غير قطعية سنداً ـ دلت على حجية خبر الثقة في الفروع بالخصوص ـ كما قد يستظهر ذلك من بعض روايات حجية خبر الثقة بقرينة ما ورد فيها من الأمر بالسماع للراوي والإطاعة ـ فسوف تكون النتيجة


حجية خبر الثقة في الفروع ، لأن هذه الرواية الخاصة بعد إثبات حجيتها بإطلاق الآية تصلح أن تكون قرينة على تخصيص إطلاق رواية ابن أبي يعفور فيكون رفع اليد عن إطلاقها بالقرينة ، بخلاف العكس. فيختص نفي حجية خبر الثقة بالخبر الوارد في أصول الدين ونحوها.

وإن شئت قلت ـ أن تمامية مقتضي الحجية لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم تخصيصها بما دل على حجية خبر الثقة في الفروع. وهو فرع عدم ثبوت حجيته بإطلاق آية النفر ، وما يكون فرع عدم شيء يستحيل أن يمنع عن ذلك الشيء ، وإلاّ لزم الدور.

هذا كله لو افترضنا أن رواية ابن أبي يعفور تنفي حجية خبر الثقة مطلقاً ، وأما على التفسير الآخر لها ، وكونها تنفي حجية ما ليس عليه شاهد من الكتاب خاصة ، فالأمر أوضح ، لأن الرواية المخصصة سوف تكون حجة على كل حال ، لأنها مما عليه شاهد من الكتاب المتمثل في إطلاق آية النفر.

الطائفة الثالثة ـ ما يكون مفاده نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم. من قبيل رواية السكوني عن أبي عبد الله 7 قال : « قَالَ رَسُولُ اللهِ 6 إنّ عَلى كُلّ حَقّ حَقِيقَةً وعَلى كُلّ صَواب نُوراً ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ ». ورواية جميل ابن دراج عن أبي عبد الله 7 أنه قال : « الوُقُوفُ عِندَ الشّبهَةِ خَيرُ مِنَ الاقتِحَامِ في الهَلَكَةِ ، إنّ عَلى كُلّ حَقّ حَقِيقَةً وَعَلى كُلّ صَواب نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ » (١) ..

والأولى وإن كانت غير نقية سنداً إلاّ أن الثانية صحيحة.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.


وقد اشتملت هذه الطائفة من أخبار الطرح على عقدين. عقد سلبي يردع عن حجية ما خالف الكتاب الكريم ، وعقد إيجابي يأمر بأخذ ما وافق الكتاب الكريم. ولا بد من الحديث حول كل من العقدين في نقاط.

الأولى ـ أن مفادها هل يكون جملة خبرية ـ وهي استنكار صدور ما يخالف الكتاب عنهم ـ فتكون كالطائفة الأولى ، أو مجرد نفي الحجية التعبدية المستفاد من الأمر الإرشادي بترك ما خالف الكتاب؟ قد يدعي الأول بقرينة ما ورد فيها من أن على كل صواب نوراً فما لا نور عليه ـ وهو الخبر المخالف للكتاب ـ ليس بصواب فلا يكون صادراً عنهم.

إلاّ أن الصحيح هو الثاني ، لأن هذه الجملة لا تعدو أن تكون تعبيراً متعارفاً عن أن الحق يتضح والصواب تبدو دلائله وتبشر أماراته في أغلب الأحيان ، وليس إخباراً عن ملازمة دائمية بين الصدق وبين ظهور النور والحقيقة. ومما يشهد على عدم إرادة الاستنكار ونفي الصدور قوله 7 في صدر رواية جميل ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) الظاهر في وجود الشبهة واحتمال المطابقة للواقع. فلا يستفاد من هذه الطائفة أكثر من نفي حجية ما خالف الكتاب الكريم.

الثانية ـ قد يقال أن هذه الطائفة لا تختص بأخبار الآحاد بل تشمل كل أمارة تؤدي إلى مخالفة الكتاب فتختلف عن الطائفتين السابقتين الظاهرتين بمقتضى سياقهما في النّظر إلى حجية الرواية والسند خاصة. ومن هنا قد يستشكل في تخصيص دليل الحجية العام بها.

إلاّ أن الصحيح ، تقديم إطلاق هذه الطائفة ـ لو تمت ـ على دليل حجية الخبر باعتبار حكومتها عليه ، إذ هي كأدلة المانعية والشرطية فرض فيها الفراغ عن أصل حجية خبر الثقة ليستثنى منها حالة خاصة. فتكون ناظرة إلى دليل الحجية العام وحاكمة عليه ، مضافاً إلى أن القدر المتيقن منها هو


خبر الثقة باعتباره الفرد البارز والمتعارف والداخل في محل الابتلاء وقتئذ الّذي كان يترقب مخالفته للكتاب تارة وموافقته له أخرى ، فلا يمكن تخصيصها بغير خبر الثقة.

الثالثة ـ إن هذه الطائفة يحتمل في مفادها عدة احتمالات.

الأول ـ أن تكون ناظرة إلى ما كان يعتمد عليه العامة في الفقه من الأحاديث أو الأقيسة والاستحسانات فتردع عنها وترشد إلى أن ما ينبغي الاعتماد عليه إنما هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة القطعية ، فتكون كسائر الأدلة الرادعة عن العمل بغير الكتاب وما يكون بحكمه.

وهذا الاحتمال ينفيه تطبيق نفس العنوان في الطوائف الأخرى على ما ينقل عنهم من الروايات المخالفة للكتاب وأنه زخرف باطل لم نقله ، فلا موجب لافتراض اختصاصها بأحاديث العامة وأقيستهم.

الثاني ـ أن تكون متعرضة لخصوص ما يخالف الكتاب وما يوافقه ، فتلغي المخالف عن الحجية وتأمر بأخذ الموافق مع السكوت عن الخبر الّذي لا يوافق الكتاب ولا يخالفه. وهذا الاحتمال يبعده ظهور هذه الروايات في أنها بصدد إعطاء ضابط عملي للمكلفين ، فكيف يتغافل عن هذا الصنف من الروايات التي تشكل أكثر ما صدر عنهم من أحاديث.

الثالث ـ أن يراد من الموافقة عدم المخالفة ، فلا تدل على نفي حجية ما لا يوافق الكتاب ولا يخالفه.

الرابع ـ أن يراد من المخالفة عدم الموافقة ، فتدل على نفي حجية ما لا يوافق الكتاب ولا يخالفه.

ولا يبعد تعين الاحتمال الأخير منهما. بقرينة قوله 7 « إن لكل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً » وجعل التفصيل في الحكم بلزوم أخذ ما يوافق


الكتاب وطرح ما يخالفه من تفريعات تلك الكبرى ، فكأنه يقول ، خذ بما يوافق الكتاب لأنه نور على الصواب ، وحينئذ سوف تصبح هذه الطائفة من حيث المفاد كالطائفة السابقة الدالة على إلغاء مالا شاهد عليه من الكتاب عن الحجية ، والّذي قد يكون عرفاً بحكم إلغاء الخبر عن الحجية مطلقاً ، فلا بد من تخصيصها بالخبر في أصول الدين مثلاً أو حملها على التقية ، على أساس المناقشات المتقدمة في التعليق على تلك الطائفة.

الرابعة ـ أن العقد الإيجابي من مدلول هذه الطائفة دل على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب. فهل يستظهر منه تأسيس حجية جديدة غير حجية خبر الثقة ، فتكفي الموافقة للكتاب في حجية الخبر ولو كان من غير ثقة ، أو أنه إرشاد إلى رفع المانع عن الحجية الناتج من مخالفة الخبر للكتاب ، فلا يكون حجة إلاّ إذا اجتمعت شرائط الحجية الأخرى فيه ، شأنه في ذلك شأن أدلة الشرطية والمانعية الأخرى؟

الظاهر هو الثاني ، سواء فسرنا الموافقة بعدم المخالفة أو بوجود مضمونه في الكتاب. أما على الأول فلأن مجرد عدم المخالفة لا يصلح لأن يكون سبباً للحجية بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية في باب الحجية القائمة على أساس الطريقية والكاشفية. وأما على الثاني ، فلأن تأسيس حجية ما يوجد مضمونه في الكتاب وإن لم يكن لغواً عقلاً ، حيث يمكن أن يظهر أثره فيما إذا فرضنا أن تلك الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجية بالتخصيص ونحوه ثم ورد خبر يوافقها ويكون أخص من ذلك المخصص ، فإنه على تقدير جعل الحجية لهذا الخبر ترجع الدلالة القرآنية إلى الحجية ببركة حجية ذلك الخبر بمقدار مفاده. إلاّ أن هذا مجرد أثر عقلي وليس عرفياً ، بل المتفاهم من الأمر بأخذ ما يوافق الكتاب التعويل على الكتاب لا جعل الحجية للخبر الموافق معه. نعم لا مانع من حجيته بدليل آخر إذا اجتمعت سائر شروط الحجية فيه ، لأن المانع هو المخالفة مع الكتاب والمفروض انتفائها.


الخامسة ـ أن العقد السلبي في هذه الطائفة دل على إلغاء ما يخالف الكتاب عن الحجية ، والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين أو العموم من وجه كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ، لأن ذلك كله يصدق عليه المخالفة فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقاً سواء كان تعارضاً مستقراً أو غير مستقر.

وقد أجاب المحققون عن هذا الإشكال بأحد جوابين.

الأول ـ أن المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ليست بمخالفة عرفاً لأن الخاصّ والمقيد والحاكم تكون قرينة على المراد من العام والمطلق والمحكوم فلا تعارض بينهما.

الثاني ـ وجود علم إجمالي بصدور كثير من المخصصات والمقيدات للكتاب عن الأئمة : ، وهذا إن لم يشكل قرينة متصلة تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى الأنحاء الأخرى من المخالفة ، أي التعارض المستحكم فلا أقل من سقوط الإطلاقات القرآنية عن الحجية بالتعارض الداخليّ فيما بينها على أساس هذا العلم الإجمالي ، فتبقى الأخبار المخصصة على حجيتها.

أقول : تارة ، يراد من المخالفة المخالفة مع دلالة قرآنية يكون مقتضي الحجية فيها ثابتاً حتى بعد مجيء الخبر المخالف ، كما في موارد عدم قرينية الرواية المخالفة وعدم وجود ما يسقط الظهور القرآني عن الحجية في نفسه. وأخرى : يراد المخالفة مع دلالة قرآنية يكون مقتضي الحجية فيها محفوظاً بقطع النّظر عن الرواية المخالفة فيشمل صورة قرينية الخبر المخالف وتكون هذه الطائفة بنفسها دليلاً على سلب الحجية عن القرينة المخالفة. وثالثة : يراد المخالفة مع دلالة قرآنية ولو لم يكن مقتضي الحجية محفوظاً فيها حتى لو قطع النّظر عن الخبر المخالف باعتبار علم إجمالي بالتخصيص والتقييد ونحو ذلك.

فعلى الاحتمال الأول يتم كلا الجوابين ، لعدم انحفاظ مقتضي الحجية


إذا كان الخبر المخالف قرينة ، اما للقرينية ، أو للعلم الإجمالي بالتخصيص المستوجب سقوط الظهورات القرآنية عن الحجية.

وعلى الثاني يتم أحد الجوابين فقط وهو فرض وجود علم إجمالي مسقط لمقتضي الحجية في الآيات ، وأما بدونه فإطلاق الطائفة الآمرة بالطرح يقتضي سقوط الخبر المخالف ولو كان قرينة.

وعلى الاحتمال الثالث ، لا يتم شيء من الجوابين ، لأن مقتضى الحجية غير دخيل في ملاك الطرح على هذا الاحتمال.

والجواب بافتراض العلم الإجمالي حيث يتم يتوقف على عدم التسليم بانحلاله بالموارد التي ثبت فيها ورود التخصيص والتقييد على الآيات القرآنية بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

والأوجه من هذه الاحتمالات أوسطها ، باعتبار أن الظاهر من الأمر بطرح ما يخالف الكتاب توجيه المكلف نحو العمل بالكتاب وهذا لا يناسب إلاّ مع انحفاظ مقتضي الحجية فيه بقطع النّظر عن ورود الخبر المخالف فينتفي الاحتمال الثالث ، كما أن الاحتمال الأول منفي بالإطلاق ، لأن عنوان المخالفة صادق على أي حال. وهذا يعني أن الجواب الأول غير تام والجواب الثاني موقوف على عدم الانحلال.

ويمكن أن يجاب أيضا ، بعد الاعتراف بتمامية الإطلاق لشمول موارد المعارضة غير المستقرة أن هناك مخصصاً لهذا الإطلاق ، وهو ما ورد في بعض الأخبار العلاجية مما يستفاد منه الفراغ عن حجية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه. ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله. قال : « قَالَ الصّادِقُ : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفَانِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَردّوهُ ،


فَإن لَم تَجِدُوهُمَا في كِتَابِ اللهِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى أخبَارِ العَامّةِ .. إلخ » (١).

فإن الظاهر من قوله 7 إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، أن الإمام 7 بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في أنفسهما لو لا التعارض ، فيكون دليلاً على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في حجية كل منهما الاقتضائية. نعم لا يوجد فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب ، لأنه ليس في مقام بيان هذه الحيثية ليتم فيه الإطلاق ، فلا بد من الاقتصار على المتيقن من مفاده ، ولا يبعد أن يكون القدر المتيقن منه هو المخالفة على نحو القرينية والجمع العرفي كما في موارد التخصيص والتقييد والحكومة.

السادسة ـ هل تصدق المخالفة فيما إذا كان الخبر مخالفاً مع إطلاق من القرآن الكريم ، كما تصدق فيما إذا كان مخالفاً مع عمومه ، أم لا؟ ذهب السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ إلى الثاني ، مدعياً في وجه ذلك : « أن الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة ، فالمستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه كي يقال أن مخالفه زخرف وباطل » (٢).

وهذا الّذي أفاده ـ دام ظله ـ مما لا يمكن المساعدة عليه. لأنه لو أريد منه تطبيق المبنى المتقدم اختياره له في باب المطلقات من توقف تمامية الإطلاق على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل ، والكتاب إذا كان بالعموم كان بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق في الخبر وإذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة لم يحكم العقل بالإطلاق في شيء منهما. ففيه :

أولا ـ عدم تمامية المبنى ، على ما تقدم توضيحه مفصلاً.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٣١.


وثانياً ـ لو سلمت تماميته فهو يتوقف على أن تكون دلالة الدليل المنفصل بالوضع كي تكون صالحة لرفع الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فلا يصح تطبيقه على المطلقين ، إذ لا يكون شيء منهما صالحاً لذلك إلاّ على معنى غير تام للبيان المأخوذ عدمه قيداً في مقدمات الحكمة ، على ما تقدمت الإشارة إليه في أبحاث التعارض غير المستقر. فالظهور في المطلقين معاً منعقد وعنوان المخالفة صادق على الخبر المعارض مع إطلاق الكتاب أيضا.

وإن أريد : ان الإطلاق دلالة سكوتية فلا يكون لفظاً وكلاماً ليكون قرآناً ، ففيه :

أولا ـ ان الإطلاق وإن كان يستفاد من السكوت وعدم ذكر القيد إلاّ أن عدم ذكر القيد متصلاً بالخطاب يجعل الكلام ظاهراً في الإطلاق بحيث يكون السكوت حيثية تعليلية لإطلاق الخطاب القرآني نفسه.

وثانياً ـ إن الإطلاق لو فرضناه سكوتاً مع ذلك كان كالدلالة اللفظية القرآنية من حيث كونه دلالة قطعية سنداً. والمفروض ـ على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ أن الميزان المستفاد من هذه الروايات في طرح ما يخالف الكتاب كونه مخالفاً مع دليل قطعي السند وعلى أساسه عمم هذا الحكم إلى المخالفة مع السنّة القطعية.

وان أريد : أن الإطلاق ليس ظهوراً مستفاداً من الكتاب الكريم ، وإنما هو بحكم العقل فالمخالفة بين الخبر وبين حكم العقل لا الكتاب.

ففيه : أن الإطلاق ومقدمات الحكمة عبارة عن تحليل حال المتكلم في مقام كشف تمام مراده من كلامه باعتباره إنساناً عاقلاً ملتفتاً ولا يقصد بها براهين عقلية. ولذلك لم يكن يستشكل أهل العرف في استفادة الإطلاق كظهور عرفي لكلام المتكلم.

فالصحيح ، عدم الفرق في أنحاء المخالفة بين المخالفة مع عموم الكتاب


الكريم ، أو إطلاقه.

السابعة ـ إذا كانت المخالفة بنحو العموم من وجه ، فهل يسقط الخبر عن الحجية رأساً أو في خصوص مورد التعارض؟ الصحيح هو الثاني ، لأن العنوان الوارد في لسان هذه الأخبار ـ وهو اسم الموصول في قوله « ما خالف الكتاب » ـ مطلق يشمل كل أمارة تخالف الكتاب الكريم وليس مخصوصاً بالحديث أو الرواية ، ومن الواضح أنه في موارد التعارض بنحو العموم من وجه يكون المخالف مع الكتاب إطلاق الحديث لا أصله فلا موجب لسقوط سنده.

وإن شئت قلت : أن هذه الحالة ليست بأشد مما إذا علم بعدم مطابقة الإطلاق للواقع ، فكما أن ذلك لا يؤدي إلى سقوط سند الحديث كذلك الحال في مورد المعارضة مع إطلاق الكتاب أو غيره من الأدلة القطعية. فإن نكتة هذا السقوط إنما هو قطعية المعارض.

والطائفة الأولى وإن كانت ظاهرة في إسقاط السند عن الحجية على ما تقدمت الإشارة إليه ، إلاّ أنها مع ذلك لا تقتضي طرح السند في محل الكلام ، لأن المستفاد منها عرفاً إسقاط السند الّذي لو أخذ به لزم منه طرح مفاد الكتاب القطعي ، وفي موارد التعارض بنحو العموم من وجه لا يلزم منه ذلك ، إذ لم يكن التعارض من جهة المنافاة بين أصل الدلالتين وإنما من جهة خصوصية الإطلاق في الخبر بحيث لو لم يكن يشمل مورد الافتراق لكان مقدماً على إطلاق الكتاب الكريم.

الثامنة ـ هل يتعدى من مخالفة الكتاب إلى مخالفة السنة القطعية النبوية أو مطلق السنة القطعية أم لا؟

الصحيح أن يقال : أن الدلالة القرآنية تشتمل على ثلاث خصائص.

الخصية الأولى ـ أنها كلام الله سبحانه وتعالى المعجز.


الخصيصة الثانية ـ أنها قطعية الجهة حيث لا يحتمل فيها التقية ونحوها.

الخصيصة الثالثة ـ أنها قطعية الصدور.

وتشترك السنة النبوية القطعية مع الكتاب الكريم في اثنتين من هذه الخصائص وهما الثانية والثالثة ، كما تشترك السنة القطعية غير النبوية مع الكتاب في الأخيرة منها فيما إذا لم تكن قطعية الجهة كما هو الغالب. ولا بد وأن ينظر بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية لهذا الحكم أن المستفاد من هذه الأخبار دخالة أي واحدة من هذه الخصوصيات في الحكم بطرح المخالف.

أما الخصيصة الأولى فلا يحتمل ـ بحسب المناسبات ـ دخلها في الحكم بالطرح ، فإنها تناسب مثل الحكم باحترام القرآن الكريم أو وجوب الإنصات لآياته أو تلاوته مثلاً لا الحكم بالحجية القائمة على أساس الكاشفية والطريقية. وأما الخصيصة الثانية والثالثة فاحتمال دخالتها معاً في المقام وإن كان معقولاً في نفسه ، ولكن لا يبعد دعوى أن المنسبق إلى الذهن العرفي من هذه الروايات الحكم بإلغاء ما يخالف الكتاب الكريم على أساس كونه قطعياً سنداً لأن قطعية السند هي الصفة البارزة والطابع العام الواضح لدى المتشرعة عن القرآن الكريم كدليل شرعي ، وأما مسألة التقية فلم تكن معروفة لدى الجميع ، خصوصاً في مثل عصر النبي 6 الّذي أسندت إليه في جملة من هذه الروايات قاعدة طرح ما خالف الكتاب. فالصحيح تعميم الحكم بالطرح إلى المخالفة مع كل دليل قطعي السند.

التاسعة ـ قد أشرنا فيما سبق إلى أنه يمكن تفسير مفاد هذه الأخبار بنحو آخر لا يحتاج معه إلى جل الأبحاث المتقدمة ، وذلك التفسير هو : أنه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم ، أو ما ليس عليه شاهد منه ، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم ، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذ أن الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع


طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة. وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدية مع آياته. فمثلاً لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس وبيان خستهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن ، قلنا أن هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسئولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم. وأما مجيء رواية تدل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم وما فيه من الحث على التوجه إلى الله والتقرب منه عند كل مناسبة وفي كل زمان ومكان. وهذا يعني أن الدلالة الظنية المتضمنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة ، خصوصاً إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه.

ومما يعزز هذا الفهم ، مضافاً إلى أن هذا المعنى هو مقتضى طبيعة الوضع العام للأئمة المعصومين : ودورهم في مقام بيان الأحكام الأمر الّذي كان واضحاً لدى المتشرعة ورواة هذه الأحاديث أنفسهم والّذي على أساسه أمروا بالتفقه في الدين والاطلاع على تفاصيله وجزئياته التي لا يمكن معرفتها من القرآن الكريم ، مما يشكل قرينة متصلة بهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى. ما نجده في بعضها من قوله ( إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من الكتاب ) فإن التعبير بالشاهد الّذي يكون بحسب ظاهره أعم من الموافق بالمعنى الحرفي ، مع عدم الاقتصار على شاهد واحد خير قرينة على أن المراد وجود الأمثال والنّظائر لا الموافقة الحدية.

وقد جاء هذا المعنى في رواية الحسن بن الجهم عن العبد الصالح : « قَال : إذَا جَاءكَ الحَدِيثَانِ المُختَلَفَانِ فَقسهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ وَأحَادِيثِنا فَإن أشبَهَهَا فَهُوَ حَقّ وإن لَم يُشبِههَا فَهُوَ بَاطِلٌ » (١).

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة المجلد الأول ، ص ٦٤.


وهذه الرواية وإن كانت واردة في فرض التعارض ، إلاّ أنها بحسب سياقها تشير إلى نفس القاعدة المؤكد عليها في مجموع أخبار الباب.

وعلى هذا الأساس يتضح أنه لا يستفاد من أخبار الطرح إلغاء الأدلة الظنية المعارضة مع الكتاب الكريم معارضة لا توجب إلغاء أصل مفاد قرآني واضح ، كما في موارد التعارض غير المستقر ، بل التعارض بنحو العموم من وجه أيضا ، وإنما نحكم بسقوطها في مورد المعارضة بمقتضى القاعدة المتقدم شرحها في المسألة السابقة.



أَخبارُ العِلاج

وهي الأحاديث الواردة عن المعصومين : لعلاج حالات التعارض والاختلاف الواقع بين الروايات.

والطريف أن هذه الأخبار قد ابتلت بنفسها بالتعارض فيما بينها ، لأنها وردت بمضامين مختلفة قد يستفاد من بعضها التخيير. وقد يستفاد من بعضها التوقف أو الإرجاء ، وقد يستفاد من بعضها الترجيح بالأحدث زماناً ، أو بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة أو غيرها من المرجحات. فلا بدّ من تحديد مدلولها ، ليرى هل يتمخض منها مطلب زائد على مقتضى القاعدة الأولية المنقحة في المسألة السابقة أم لا.

وفي هذا الضوء يمكننا أن نصنف أخبار العلاج إلى ثلاث طوائف.

١ ـ أخبار التخيير.

٢ ـ أخبار الترجيح.

٣ ـ أخبار التوقف والإرجاء.

وفيما يلي نتحدث عن كل قسم من هذه الأقسام تباعاً.


اخبار التخيير

ذهب المشهور إلى التخيير في حالات التعارض إذا لم يكن يوجد أحد المرجحات القادمة ، وقد استندوا في ذلك إلى عديد من الروايات.

منها : رواية سماعة عن أبي عبد الله 7 « سَألتُهُ عَنِ الرّجُلِ اختَلَفَ عَلَيهِ رَجُلانِ مِن أهلِ دِينهِ في أمرٍ كِلاهُمَا يَروِيهِ أحَدُهُمَا يَأمُرُ بِأخذِهِ وَالآخَرَ يَنهَاهُ عَنهُ كَيفَ يَصنَعُ؟ فَقَالَ : يُرجِئُهُ حَتّى يَلقَى مَن يُخبِرَهُ فَهُوَ في سِعَةٍ حَتّى يَلقَاهُ » (١). وهي تامة سنداً.

وأما دلالتها ، فتقريب الاستدلال بها على مدعى المشهور ـ التخيير ـ أن قوله 7 ( فهو في سعة حتى يلقاه ) ظاهر في جواز الأخذ بأيهما شاء وهو معنى التخيير ، وأما قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) فهو راجع إلى الحكم الواقعي وكيفية اكتشافه فلا ينافي التخيير في الحجية الّذي هو حكم ظاهري.

وقد أورد عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ : بأن موردها ما إذا دار الأمر بين محذورين بقرينه ما افترض فيها من أن أحد المخبرين يأمر بشيء والآخر

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.


ينهي عنه ، والتخيير في مثل ذلك على مقتضى القاعدة فليس في الرواية حكم جديد (١).

وهذا الإيراد قابل للدفع.

فإنه أولا ـ التخيير العملي في موارد الدوران بين المحذورين إنما ينتهى إليه فيما إذا لم يكن أصل حاكم ، كعموم فوقاني يثبت أحد الحكمين الإلزاميين أو أصل عملي منجّز له ، وإلاّ كانت النتيجة التعيين لا التخيير فيمكن أن يقال : مقتضى إطلاق الرواية لفرض وجود مرجع من هذا القبيل كون التخيير المذكور تخييراً في الحجية فيكون أمراً زائداً على مقتضى القاعدة.

وثانياً ـ ان أريد أن غاية ما يستفاد منها التخيير في الحجية في موارد الدوران بين المحذورين وهو ثابت في نفسه بحكم العقل ، فمن الواضح أن العقل لا يحكم إلاّ بالتخيير في مقام العمل لا التخيير في الحجية المساوق مع حجية ما يلزم به وتعيينه. وان أريد أن غاية ما يستفاد من السعة عدم المنجزيّة والعذر في مقام العمل ، فهذا لا يتوقف على أن يكون النّظر إلى فرض الدوران بين المحذورين ، بل هو إشكال آخر على الرواية حتى لو فرض إطلاق مفادها من حيث المورد ، لأنه يساوق البراءة الجارية في غير موارد الدوران بين محذورين أيضا. وهو مرتبط بما يستظهر من قوله 7 ، ( فهو في سعة حتى يلقاه ) من حيث كون المراد السعة في الأخذ بأحدهما في مقام العمل بالحجة أو مجرد الترخيص الظاهري في مقام الامتثال.

وثالثاً ـ أن التخيير في موارد الدوران بين المحذورين ـ عند من يقول به ـ إنما هو فيما إذا كان جنس الإلزام معلوماً ، فحمل التخيير في الرواية على التخيير العملي الثابت بمقتضى القاعدة في موارد الدوران بين المحذورين موقوف على افتراض ورودها في مورد العلم بجنس الإلزام ، مع أن السائل

__________________

(١) مصباح الأصول ، ص ٤٠٠.


لم يظهر من سؤاله فرض العلم بالإلزام وإنما الّذي فرضه ورود خبرين متعارضين وهذا لا يلزم العلم منه بجنس الإلزام إذ يحتمل كذبهما معاً. فإن أراد السيد الأستاذ من التخيير المستفاد من الرواية ما يقابل البراءة فإذا كان يستفيد العلم بجنس الإلزام من مجرد فرض السائل روايتين إحداهما تأمر والأخرى تنهى ، فهو غير تام كما عرفت. وإذا كان يدعي أن جامع الإلزام يثبت بنفس هذين الخبرين المتعارضين ، لدلالة الرواية على حجية أحدهما في الجملة فهذا أمر زائد على مقتضى القاعدة ، ويكون من حيث النتيجة العملية كالحجية التخييرية لأحدهما في موارد الدوران.

وإذا أراد من التخيير المستفاد من الرواية ما يعم البراءة وعدم التخيير غاية الأمر أنها بملاك العجز وعدم القدرة على الاحتياط لا بملاك الجهل ، وهو لا يفرق فيه بين فرض العلم بجنس الإلزام وعدمه ، فهذا مرجعه إلى مناقشة أخرى في الرواية وهي دعوى : أن مفادها ليس بأكثر من السعة بمعنى البراءة وعدم المنجزية لا التخيير ، سواء كان موردها فرض الدوران بين المحذورين أم لا.

والتحقيق ، أن الاستدلال بهذه الرواية على التخيير المزعوم غير تام ، وذلك لوجهين :

الأول ـ قوة احتمال أن يكون الملحوظ فيها حالات التعارض الواقعة في أصول الدين ونحوها من مسائل الجبر والتفويض والقضاء والقدر والبداء والمشيئة بقرينة التعبير الوارد في كلام السائل ( أحدهما يأمر بأخذه ) فإن النّظر لو كان إلى الفروع كان الأنسب أن يعبّر بالأمر بفعله. إذ التعبير بالأخذ يناسب الأمور الاعتقادية. وكذلك التعبير الوارد في جواب الإمام 7 من قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) فإن الإرجاء ـ وكذلك التعبير بمن يخبره ـ يناسب الاعتقادات التي تطلب فيها المعرفة لا الفروع التي يطلب فيها الامتثال ويكون الإرجاء فيها موجباً عادة للتفويت ، مضافاً إلى قلة فروض الدوران


بين المحذورين في الفروع. ولا أقل من الاحتمال المستوجب للإجمال وعدم انعقاد الإطلاق في الرواية. وبناء عليه ، لا يستفاد من السعة في الحديث التخيير أصلاً ، إذ لا معنى له في الاعتقادات والمعارف الدينية. وإنما يكون المراد السعة من حيث الاعتقاد والالتزام بمؤداه فلا يلتزم بشيء منهما حتى يلقى من يخبره بالواقع.

الثاني ـ إن قوله 7 ( فهو في سعة حتى يلقاه ) كما يحتمل فيه أن يكون بياناً لمطلب على خلاف مقتضى القاعدة وهو التخيير في الحجية ، والسعة من حيث الأخذ بكل منهما ، كذلك يحتمل فيه أمران آخر ان لا يتم معهما الاستدلال.

١ ـ أن يكون تأكيداً للجملة الأولى ، وهي قوله ( يرجئه حتى يلقى من يخبره ) ويكون المقصود أنه في سعة من حيث الوصول إلى الواقع المجهول إلى أن يلقى الإمام. فلا يجب عليه الفحص أو شد الرحال إلى الإمام 7 كي يتوصل إلى الحكم الشرعي الواقعي. وأما الوظيفة العملية التي لا محيص عنها في الواقعة المجهولة ، فلا يتعرض لها الحديث بمدلوله اللفظي ، ولكن يفهم ـ ولو بمقتضى الإطلاق المقامي ـ أن وظيفته بعد ورود الخبرين كوظيفته قبل ورودهما ، فلا ينشأ من وصولهما كلفة زائدة ، وإلاّ لكان يتعرض لها.

٢ ـ أن يكون المراد من السعة السعة العملية في مقام تفريغ الذّمّة عن الواقع المجهول بعد تعارض الدليلين ، فيكون بياناً لعدم نشوء تنجيز زائد من ناحية الخبرين.

ونحن إن لم ندع تعين أحد هذين الاحتمالين في قبال الاحتمال الأول لتفسير جملة « فهو في سعة حتى يلقاه » فلا أقل من مساواتهما لذلك الاحتمال الّذي هو مناط الاستدلال فيكون الدليل مبتلى بالإجمال.

ومنها ـ رواية علي بن مهزيار قال : « قرأتُ في كِتَاب لِعَبدِ اللهِ بنِ مُحَمّد إلى أبي الحَسَنِ 7 : اختَلَفَ أصحَابُنَا في رِواياتِهِم عَن


أبي عَبدِ اللهِ 7 في رَكعَتَي الفجرِ في السّفَرِ ، فَرَوَى بَعضُهُم أن صَلّهِمَا في المَحمِلِ ، وَرَوَى بَعضُهُم لا تُصَلّهِمَا إلاّ عَلى الأرضِ ، فَأعلِمني كَيفَ تَصنَعُ أنتَ لأقتَدِي بِكَ في ذَلِكَ؟ فَوَقّعَ 7 : مُوَسّعٌ عَلَيكَ بِأيّةٍ عَمِلتَ » (١).

وفقرة الاستدلال منها قوله 7 ( موسع عليك بأية عملت ) الواضح في الدلالة على التخيير وإمكان العمل بكل من الحديثين المتعارضين.

ولكن يرد عليه.

أولا ـ ان الظاهر منها إرادة التوسعة والتخيير الواقعي لا التخيير الظاهري بين الحجيتين لظهور كل من سؤال الراوي وجواب الإمام 7 في ذلك. أما ظهور السؤال فلأنه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الّذي تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي. على أن قوله ( فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك ) كالصريح في أن السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة. فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النّظر في كلام الإمام 7 إلى ذلك أيضا ، إذ لا وجه لصرف النّظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام.

وأما ظهور الجواب في التخيير الواقعي ، فباعتبار أنه المناسب مع حال الإمام 7 العارف بالأحكام الواقعية والمتصدي لبيانها فيما إذا كان السؤال عن واقعة معينة بالذات.

وثانياً ـ لو تنزلنا وافترضنا أن النّظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجية ، مع ذلك لا يمكن أن يستفاد التخيير في حالات التعارض المستقر الّذي هو المقصود في المقام ، لأن موردها التعارض بين ما يأمر بالصلاة على الأرض

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٥ ـ من أبواب القبلة.


وما يدل على الترخيص في إيقاعها في المحمل ، وهو مما فيه جمع عرفي بحمل دليل الأمر على الاستحباب. فيكون مدلول الحديث حجية كل من الخبرين في نفسه لعدم التعارض بينهما ، والتوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل الأمر ، لكون الأمر استحبابياً لا لزومياً ، فهذا المعنى أيضا صالح عرفاً لأن يكون هو المراد من قوله 7 ( موسع عليك بأية عملت ).

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الغيبة بسنده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في مكاتبة بتوسط الحسين بن روح عن الحجة 7 « يَسألُني بَعضُ الفُقَهَاءِ عَنِ المُصَلّي إذَا قَامَ مِنَ التّشَهّدِ الأوّلِ إلى الرّكعَةِ الثّالِثةِ هَل يَجِب عَلَيهِ أن يُكبّر ، فَإنّ بَعضَ أصحَابِنَا قَالَ : لا يَجِبُ عَلَيهِ التّكبِيرُ وَيُجزِيهِ أن يَقُولَ بِحَولِ اللهِ وَقُوّتِهِ أقُومُ وَأقعُدُ؟ فَكَتَبَ في الجَوَابِ : أنّ فِيهِ حَدِيثَينِ ، أمّا أحَدُهُمَا فَإنّهُ إذَا انتَقَلَ مِن حَالَةٍ إلى أخرَى فَعَليهِ التّكبِيرُ ، وَأمّا الآخَرُ فَإنّهُ رُوِيَ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن السّجدَةِ الثّانِيَةِ ذَكَرَ ثُمّ جَلَسَ ثَمّ قَامَ فَلَيسَ عَلَيهِ في القِيَامِ بَعدَ القُعُودِ تَكبِيرٌ ، وَكَذلِكَ التّشهد الأوّلُ يَجرِي هذَا المَجرَى ، وَبِأيّهِمَا أخَذتَ مِن بَابِ التّسليمِ كَانَ صَواباً » (١) وفقرة الاستدلال منها قوله 7 ( بأيهما أخذت من التسليم كان صواباً ) بل الاستدلال بها لعله أوضح منه بالرواية السابقة باعتبار كلمة ( أخذ من جهة التسليم ) التي قد يستشعر منها النّظر إلى الحجية والتعبد بأحد الخبرين.

والصحيح عدم تمامية الاستدلال بها ، لأن السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين وإنما سأل من مسألة اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي ،

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود.


وإنما يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب الإمام 7 من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيهما شاء. إلاّ أن هذا الجواب غير دال على التخيير المطلوب ، وذلك لعدة أمور.

الأول : ظهور كلام الإمام 7 في الرخصة الواقعية لا التخيير الظاهري بين الحجيتين ، إما من جهة كونه ظاهر حال الإمام 7 دائماً إذا كان متعرضاً لبيان حكم مسألة معينة ، وإما من جهة ظهور سؤال الراوي في الاستفهام عن الحكم الواقعي للمسألة فيكون مقتضى أصالة التطابق بين السؤال والجواب أن النّظر إلى الترخيص الواقعي أيضا.

الثاني : إن جملة ( وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ) تارة : تفترض جزءاً من الحديث الثاني وأخرى : تفترض كلاما مستقلاً يضيفه الإمام 7 إلى الحديثين.

فإذا كانت جزءاً من الحديث ـ ولو بقرينة أنه مورد لسؤال الراوي الّذي قال عنه الإمام 7 أن فيه حديثين ـ كان الحديثان متعارضين إلاّ أنهما من التعارض غير المستقر الّذي فيه جمع عرفي واضح ، لا باعتبار أخصية الحديث الثاني من الحديث الأول فحسب بل باعتبار كونه ناظراً إلى مدلوله وهو ثبوت التكبير في الانتقال من حال إلى آخر ، فيكون حاكماً عليه وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم أمر واضح عرفاً ومقطوع به فقهياً بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي فيه فيكون هذا بنفسه قرينة على أن المقصود من التخيير الترخيص الواقعي.

وإذا كانت جملة مستقلة ، وأن الحديث الثاني يتكفل حكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية وأنه ليس على المصلي تكبير فيه ، فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهد إلى القيام لأن الحديث الثاني لا ينفي ذلك وإنما ينفي لزوم التكبير في القيام بعد التشهد ، فيكون هذا


بنفسه قرينة على أن المراد هو الترخيص الواقعي.

الثالث : انه بناء على مسلك مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من أن الوجوب ينتزعه العقل من الأمر بشيء وعدم الترخيص في تركه وليس مدلولاً للأمر ، لا يكون تعارض بين الحديثين الذين ينقلهما الإمام 7 أصلاً إذ يكون مفاد أحدهما طلب الفعل ومفاد الآخر الترخيص في الترك وهو لا ينافي طلب الفعل وإنما يكون موجباً لعدم حكم العقل بالوجوب ، فيتعين أن يكون المراد من كلام الإمام 7 على هذا المبنى الترخيص الواقعي.

وهذا الوجه لإبطال الاستدلال غير تام ، لأن الظاهر من الحديث الثاني نفي ما دل عليه الحديث الأول لا مجرد الترخيص في ترك التكبير ، باعتباره ناظراً إلى الحكم الثابت في الحديث الأول فكأنه ينفي الطلب المبرز بذلك الحديث فيكون بينهما تعارض لا محالة.

الرابع : لو تمت دلالتها على التخيير الظاهري في الحجية فموردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الإمام 7 بنفسه كما يناسبه تعبيره 7 عنهما بالحديثين ، المشعر بكونه سنةً ثابتة عن آبائه المعصومين : فلا يمكن التعدي منه إلى التعارض بين خبرين ظنيين من حيث السند لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيين موجباً لجعل الحجية التخييرية في موردهما خاصة ولا إطلاق في الرواية ليتمسك به.

هذا كله مضافاً ، إلى أن الرواية غير نقية السند لأنها مكاتبة بخط أحمد ابن إبراهيم النوبختي وإملاء الحسين بن روح. وأحمد بن إبراهيم النوبختي مجهول لا ذكر له في كتب الرّجال ، فإن كان واسطة في النقل عن الحسين ابن روح فالرواية ساقطة سنداً وإن استظهرنا أنه كان مجرد مستنسخ للمكاتبة وأن الراوي ـ وهو محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ـ يشهد بإملاء الحسين ابن روح كانت معتبرة ، والإجمال والتردد كاف في إسقاط السند أيضا.


ومنها ـ ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله 7 قال « إذَا سَمِعتَ مِن أصحَابِكَ الحَديثَ وَكُلّهُم ثِقَةٌ فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ حَتّى تَرَى القَائِمَ فَتَرُدّ عَلَيهِ » (١).

والاستدلال بها على التخيير باعتبار ما ورد فيها من التوسعة في الأخذ بهذا الحديث أو ذاك. وقد علق السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ على هذه الرواية « بأنها لا دلالة لها على حكم المتعارضين كما ترى ، ومفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة 7 » (٢).

وفيه : أنه لو سلمنا عدم ورودها في فرض التعارض ولم نقبل ما سوف نشير إليه من القرينة علي أن النّظر فيها إلى صورة التعارض فلا بأس بأن يستفاد من إطلاقها التخيير في موارد التعارض ، لأن دليل الحجية إذا كان بلسان جعل المنجزية أو الطريقية أو إيجاب العمل لا يمكن أن يشمل موارد التعارض ، لأن شموله للمتعارضين معاً غير معقول ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وأما إذا كان بلسان التوسعة وأن له أن يعمل به فيعقل إطلاقه للمتعارضين معاً ، لأن جواز العمل بأحد المتعارضين لا ينافي جواز العمل بالآخر أيضا. ومن هنا نقول أن مثل حديث ( فللعوام أن يقلدوه ) في مسألة التقليد لو لا ما فيه من ضعف السند يمكن أن يكون دليلاً على التخيير عند تساوي المجتهدين مع اختلافهما.

وقد يستشكل في الاستدلال بها بإبراز احتمال أن يكون المراد من التوسعة التوسعة في الوظيفة العملية وبملاك الأصول المؤمنة مع افتراض سقوط المتعارضين عن الحجية ، فلا يكون دليلاً على التخيير في الحجية.

وفيه : أن موارد التعارض ليست دائماً مجرى للأصول المؤمنة ، بل قد

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٢٤.


تكون مورداً للتنجيز إما لوجود عموم فوقاني منجز لا بد من الرجوع إليه بعد التعارض أو لوجود أصل عملي منجز ، كما في باب المعاملات مثلاً.

ثم أن قوله 7 ( وكلهم ثقة ) لا إشكال في دلالته على دخالة وثاقة كل الرّواة في الحكم بالتوسعة ، فإن فرض أن وثاقة الكل مأخوذة بنحو الانحلال فتصبح وثاقة كل راوٍ دخيلة في الحكم بالسعة في مقام الأخذ بالرواية ـ كما فهمه السيد الأستاذ ـ مد ظله ـ كان ذلك قرينة على خلاف الإشكال الثاني ، لأن الرجوع إلى التأمين ليس مشروطاً بأن يكون المخبر ثقة. وإن فرضنا أو وثاقة الكل مأخوذة بنحو المجموعية وأن الدخيل في الحكم بالتوسعة وثاقة جميع الرّواة بحيث لو فرض وثاقة البعض دون البعض لم تثبت التوسعة ، كان ذلك قرينة على خلاف الإشكال الأول ، وان مفروض الرواية الأخبار المتعارضة فيكون دالاً على الحجية التخييرية ، ولا يبعد ظهور الرواية في دخالة وثاقة الكل في الحكم بالتوسعة ، فدلالة الرواية على التخيير تامة ولكنهما ساقطة سنداً بالإرسال.

ومنها ـ رواية الطبرسي في الاحتجاج مرسلة عن الحسن بن الجهم عنّ الرضا 7 قال : ( قُلتُ لِلرّضا تَجِيئُنَا الأحَادِيثُ عَنكُم مُختَلِفَةً؟ قَالَ : مَا جَاءَكَ عَنّا فَقِسهُ عَلى كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَل وَأحَادِيثِنَا فَإن كَانَ يَشبَهُهَا فَهُوَ مِنّا وَإن لَم يُشبِهُهَا فَلَيسَ مِنّا. قُلتُ : يَجِيئُنَا الرّجُلانِ وَكِلاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَينِ مُختَلِفَينِ فَلا نَعلَم أيّهمَا الحَقّ؟ فَقَالَ : إذَا لَم تَعلَم فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ بأيّهِمَا أخَذتَ ) (١).

وهي أوضح الروايات في الدلالة على التخيير إلاّ أنها ساقطة سنداً بالإرسال.

ومنها ـ مرفوعة زرارة التي سوف يأتي الحديث عنها في أخبار الترجيح ،

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٤.


حيث ورد في ذيلها ما يستدل به على التخيير عند فقد المرجحات ، وهو قوله 7 : ( إذَن فَتَخَيّرَ أحَدَهُمَا فَتَأخُذُ بِهِ وَتَدَعَ الآخَرَ ) (١).

وقد ناقش فيه السيد الأستاذ ـ مد ظله ـ بأن موردها الروايتان المشهورتان معاً بحسب فرض الراوي ، والمراد من الشهرة ـ على ما سوف يقع الحديث عنه ـ الشهرة الروائيّة لا الفتوائية وهي مساوقة مع قطعية سندهما وهذا خارج عن محل الكلام فإننا نتحدث عن التخيير في المتعارضين غير القطعيين (٢).

وفيه : أن المراد بالشهرة في المرفوعة الشهرة في الفتوى لا الرواية ـ على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ ولو سلم إرادة الشهرة الروائيّة منها فلا بدّ وأن تفترض بدرجة لا تبلغ مرتبة التواتر ، لأن الرواية فرضت بنفسها الترجيح بالأصدقية والأعدلية عند تكافئهما من ناحية الشهرة فيراد مرتبة من الشهرة يبقى معها مجال للترجيح السندي بمثل الأصدقية والأعدلية.

إلاّ أن الرواية ساقطة سنداً لأنها مرفوعة العلامة بزعم صاحب غوالي اللئالي. هذه هي مهم ما يمكن أن يستدل به من الروايات على التخيير مطلقاً أو في الجملة. وقد عرفت عدم تمامية شيء منها.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ ، ص ٦٢.

(٢) مصباح الأصول ، ص ٤٢٣.


أَخبارُ الترجيح

وأما الأخبار الدالة على المرجحات وتقديم أحد الخبرين المتعارضين على أساسها فهي عديدة ومختلفة ، وتنسيقاً للبحث عنها نصفها إلى أربعة أصناف.

١ ـ ما يدل على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

٢ ـ ما يدل على الترجيح بالشهرة.

٣ ـ ما يدل على الترجيح بالأحدثية.

٤ ـ ما يدل على الترجيح بصفات الراوي.

١ ـ الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة

: والأخبار الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة كثيرة ، إلاّ أن أهمها وأصحها ما رواه قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث أصحابنا عن محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : ( قَالَ الصّادِقُ 7 : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفَانِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ


اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَرُدّوهُ فَإن لَم تَجِدُوهُمَا في كِتَابِ اللهِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى أخبَارِ العَامّةِ فَمَا وَافَقَ أخبَارَهُم فَذَرُوهُ وَمَا خَالَفَ أخبَارَهُم فَخُذُوهُ ) (١).

والكلام حول هذه الرواية يقع تارة : في سندها ، وأخرى : في مفادها ، وثالثة : في علاقتها بسائر الروايات.

أما البحث عن سندها ، فربما يناقش فيه من وجوه.

الأول ـ استبعاد وجود كتاب لقطب الدين الراوندي في أحوال الرّجال لأن اثنين من تلامذة الشيخ الراوندي ـ وهما ابن شهرآشوب ومنتجب الدين ـ قد ترجما أستاذهما في كتابي معالم العلماء وفهرست منتجب الدين ولم يذكرا هذه الرسالة في عداد مؤلفاته ، مما ينفي صحة انتسابها إليه.

ومما يعزز هذا النفي ما أبداه جملة من العلماء كالشيخ أسد الله التستري ـ قده ـ من احتمال أن تكون هذه الرسالة للسيد الراوندي الّذي كان معاصراً مع الشيخ الراوندي المعروف ، فنسب إليه اشتباه.

وهذه المناقشة يدفعها أننا لو فرضنا تمامية طريق لصاحب الوسائل إلى أحد تلامذة الراوندي قد نقل هذه الرسالة عن أستاذه فمجرد سكوت ابن شهرآشوب أو منتجب الدين عن ذكرها في ترجمة الراوندي لا يكفي لإسقاط طريق صاحب الوسائل عن الاعتبار ، إذ لعل هذا الكتاب وصل إلى تلميذ ثالث لم يكن زميلاً لهما ولا معاصراً في تلمذته على الشيخ ، خصوصاً وهذه الرسالة ـ وهي رسالة مختصرة ـ لم تكن ذات شأن بالغ ولذلك لم يكن لها اسم خاص وعنوان واضح حتى أن صاحب الوسائل يذكرها بالوصف وأنها في أحوال أحاديث أصحابنا ، وذكر صاحب البحار أن هناك رسالة للراوندي سماها

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٩ من أبواب صفات القاضي.


برسالة الفقهاء وقال أنها وصلت إليه عن طريق الثقات ، والمظنون أنها عين الرسالة ، فأي استبعاد في أن يجهل التلميذان وجود مثل هذه الرسالة أو عن إيرادها ضمن مصنفات الشيخ الراوندي ـ قده ـ.

أضف إلى ذلك : أن ابن شهرآشوب ومنتجب الدين ـ قدهما ـ لم يعلم من حالهما أنهما كانا بصدد حصر كافة مؤلفات الشيخ الراوندي ، ولهذا لم يذكرا جميع كتبه بل كل منهما ذكر كتباً لم يذكرها الآخر ـ رغم أن منتجب الدين أطنب في عرض مصنفات أستاذه ـ فقد ذكر ابن شهرآشوب مثلاً كتاباً للراوندي في أولاد العسكريين ولم يذكره الشيخ منتجب الدين ، وذكر منتجب الدين كتاب شرح النهج ولم يذكره ابن شهرآشوب.

ومما يعزز ذلك أيضا ، وجود كتب أخرى نسبت إلى الراوندي مع عدم ذكر التلميذين لها ، من قبيل كتاب قصص الأنبياء الّذي ينقله صاحب الوسائل مع كتاب الخرائج والجرائح عن الراوندي ـ قده ـ وقد صرح ابن طاوس في مهج الدعوات بأنه لسعيد بن هبة الله الراوندي.

الثاني ـ التشكيك في وجود طريق لصاحب الوسائل إلى هذه الرسالة ، لأنه لم يذكر طريقه إليها في كتاب الوسائل فإن غاية ما نجده فيه ما يذكره في فوائده الخاتمة من الطريق المعتمد لديه إلى كتاب قصص الأنبياء وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي ، ولم يذكر طريقاً يعتمده في نقل هذه الرسالة.

وهذه المناقشة غير تامة أيضا. لأنه يمكن إثبات طريق لصاحب الوسائل إلى هذا الكتاب بضم كلامين له أحدهما إلى الآخر ، فقد ذكر في فوائده الخاتمة « نروي كتاب الخرائج والجرائح وكتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة الله الراوندي بالإسناد السابق عن العلامة عن والده عن الشيخ مهذب الدين الحسين بن ردّه عن القاضي أحمد بن علي بن عبد الجبار الطوسي عن سعيد ابن هبة الله الراوندي » ثم يقول « ونروي باقي الكتب بالطرق السابقة » فإنّا


نستظهر من مجموع هذين الكلامين أنه ينقل سائر الكتب التي ذكرها في متن الوسائل والتي لم يصرح بها في المشيخة عن مؤلفها بالإسناد المذكور أيضا.

ومما يشهد على أن هذا الطريق هو سند صاحب الوسائل إلى الرسالة ، طريق العلامة إلى سعيد بن هبة الله الراوندي في إجازته المعروفة التي أحصت عدداً كبيراً من علماء الطائفة فإنه ذكر في تلك الإجازة المعروفة لآل زهرة طرقه إلى كتب الشيعة وإلى كتب العامة ، وقال بأنه يروي جميع كتب سعيد بن هبة الله الراوندي عن فلان ... إلخ. وذكر عين هذا الطريق الّذي ينقل عنه صاحب الوسائل بواسطة العلامة كتابي قصص الأنبياء والخرائج والجرائح والمفروض أن صاحب الوسائل يخبر بأن هذا هو أحد كتب الراوندي أيضا فهذا يعزز أن صاحب الوسائل قد تلقى الرسالة بنفس هذا الطريق العام.

الثالث ـ أن هذه الرسالة لو كان ينقلها صاحب الوسائل عن العلامة بالطريق المتقدم فكيف لا نجد له عيناً ولا أثر في كلمات العلامة ومشايخه فإن من يراجع كتاب التهذيب الّذي ألّفه العلامة في علم الأصول أو كتاب المعتبر للمحقق أو المراجع الأخرى لمشايخنا المتقدمين لا يرى أنهم استدلوا بهذه الرواية على الترجيح أصلاً ، مما يوجب الوثوق بأن هذه الرسالة لم يكن يطلع عليها العلامة أو المحقق وقتئذٍ.

وفيه : أن عدم استدلال العلامة أو المحقق في كتبهم الأصولية بهذه الرواية لا يدل على عدم وجود الرسالة بأيديهم ، لأنهما لم يذكرا أكثر روايات الباب. وقد اقتصر شيخنا المحقق ـ قده ـ في كتاب المعارج على قوله « إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مخالفاً للكتاب دون الآخر قدم ما كان غير مخالف على ما كان مخالفاً لأن المخالف لو لم يكن له معارض لا يكون حجة فكيف مع وجود المعارض ، وأما إذا كان أحدهما مخالفاً للعامة دون الآخر فقد قال شيخنا أبو جعفر ـ يعني الشيخ الطوسي ـ قده ـ أنه يقدم ما خالف العامة


على ما وافق العامة عملاً منه بأخبار الآحاد في المقام وإثباتاً منه للمسألة العلمية بأخبار الآحاد ».

الرابع ـ إن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد ـ الواقعان في السند ـ قد يقال أنهما ليسا محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد وإنما هما محمد وعلي ابني عبد الصمد لأنهما شخصان معروفان ومن مشايخ ابن شهرآشوب وأساتذته الذين يروي عنهم وقد وقعا في طرق صاحب الوسائل كثيراً ، وأما محمد وعلي ابنا علي بن عبد الصمد فلم يقعا في طرق صاحب الوسائل وإجازته المعروفة ومن البعيد أن يكون الشيخ الراوندي المتقدم طبقة عن ابن شهرآشوب ينقل عن أولاد علي بن عبد الصمد الّذي هو من أساتذة ابن شهرآشوب ومن ينقل عنه ، مما يوجب قوة احتمال وجود خطأ في البين وأن يكون المقصود محمد وعلي ابني عبد الصمد وهما وإن كان لا إشكال في وثاقتهما وجلالة شأنهما إلاّ أن الإشكال في أبيهما الّذي ينقلان الرواية عنه ـ وهو عبد الصمد ـ فإنه ممن لم يثبت توثيقه.

وفيه : أن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد واقعان في أسانيد الراوندي جزماً وقد تكرر ذلك في كتاب قصص الأنبياء على ما شهد به مؤلف كتاب رياض العلماء ، وقد جاء في ترجمة الراوندي من قبل جملة من العلماء ذكر محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد في عداد مشايخه ولم يجئ ذكر محمد وعلي ابن عبد الصمد أصلاً.

وقد وقع الالتباس في تشخيص علي بن عبد الصمد من جراء تشابه الأسماء حتى ترجم الشيخ الحر ـ ره ـ في كتاب أمل الآمل عدة أشخاص بهذا الاسم فقال : « محمد بن علي بن عبد الصمد النيسابوري فاضل جليل من مشايخ ابن شهرآشوب » (١). وقال : « محمد بن عبد الصمد النيسابوري عالم فاضل

__________________

(١) أمل الآمل ج ٢ ، ص ٢٨٧.


جليل القدر من مشايخ ابن شهرآشوب » (١) وقال : « علي بن علي بن عبد الصمد التميمي النيسابوري فقيه ثقة قرأ علي والده وعلى الشيخ أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر (٢) ». وقال : « الشيخ علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري فقيه دين ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر ( يعني الصدوق ) قاله منتجب الدين » (٣) وقال : « الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي فاضل عالم يروى عنه ابن شهرآشوب ولا يبعد اتحاده مع التميمي السبزواري السابق بل الظاهر ذلك » (٤).

والظاهر : أن هناك محمداً وعلياً ابني عبد الصمد ـ وهما المشايخ المعروفين لابن شهرآشوب ـ وهما حفيدين لمحمد أو علي أو حسين أبناء علي بن عبد الصمد الأول ، فهناك علي بن عبد الصمد الأول الجلد الأعلى للأسرة وهو ذلك العالم الجليل الفقيه الّذي كان في طبقة الشيخ الطوسي والمرتضى ـ رهما ـ ويروي عن الصدوق ـ قده ـ بواسطة واحدة غالباً فيما طلعنا عليه ، وإن ادعى أنه قد روى عنه بلا واسطة ، وهذا الشخص لا يمكن أن يكون هو شيخ ابن شهرآشوب بوجه أصلاً. وقد كان له ثلاثة أبناء محمد وعلي وحسين وهم الطبقة الأولى من أولاده ، والأولان منهما هما اللذان يروي عنهما الراوندي هذه الرواية وكانا من مشايخه وهناك حفيد لعلي بن عبد الصمد ـ الجلد الأول ـ اسمه عبد الصمد ولا ندري هل هو ابن علي أو حسين ابني علي بن عبد الصمد ، ولكنه لم يكن ابن محمد بن علي بن عبد الصمد بقرينة تعبير ابنه عنه بأنه عم أبيه. وأيا ما كان فهذا عبد الصمد الثاني له ولدان اسمهما علي ومحمد وهما اللذان من مشايخ ابن شهرآشوب. وهذا التسلسل النسبي يتضح من عدة روايات وكلمات العلماء في ترجمة بعض أفراد هذه الأسرة. نقتصر منها على

__________________

(١) أمل الآمل ج ٢ ، ص ٢٧٨.

(٢) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٤.

(٣) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٢.

(٤) أمل الآمل ج ٢ ، ص ١٩٢.


ذكر ما جاء في مهج الدعوات لابن طاوس حيث قال : « قال علي بن عبد الصمد ـ وهو الّذي يروي عنه ابن شهرآشوب ومن مشايخه لأن ابن طاوس شيخ العلامة وابن شهرآشوب في طبقة مشايخ العلامة أو أعلى بقليل ـ أخبرني جدي ـ وهو أحد الأولاد الصلبيين لعلي بن عبد الصمد الأول جد الأسرة ـ قال حدثنا والدي الفقيه أبو الحسن ـ يعني علي بن عبد الصمد جد الأسرة الّذي كان من طبقة السيد المرتضى والشيخ الطوسي فإنه المكنى بأبي الحسن ـ قال حدثنا جماعة من أصحابنا منهم السيد أبو البركات ـ وهو الّذي وقع في طريق رواية الراوندي أيضا ـ عن الصدوق ـ وهذا يدل أيضا على ما ذكرناه من أنه يروي عن الصدوق بواسطة واحدة ـ »

فإن هذا التسلسل الواقع في هذا الطريق يدل على أن علي بن عبد الصمد الّذي هو في طبقة مشايخ ابن شهرآشوب غير علي بن عبد الصمد المكنى بأبي الحسن الّذي يروي عن أبي البركات ، وإنما هو جده الأعلى. فما تقدم من الشيخ الحرفي أمل الآمل من اتحاد الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي الّذي يروي عنه ابن شهرآشوب مع علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري الّذي نقل الشيخ الحرّ عن منتجب الدين أنه فقيه دين ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر الصدوق غير صحيح. وعليه فالرواية صحيحة السند من هذه الناحية ، لأن محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد ينقلان الرواية عن أبيهما وهو ذلك الشيخ الفقيه الجليل الّذي قرأ على أبي جعفر ـ قده ـ.

الخامس ـ أبو البركات علي بن الحسين العلوي الخوزي الّذي يروي عنه الراوندي لا يوجد دليل على توثيقه عدا شهادة صاحب الوسائل ـ قده ـ بوثاقته وهي لا تفيد في التوثيق ، لأنها لا يحتمل فيها أن تكون عن حسٍ مع هذا البعد الزمني الممتد بينهما وهو قرابة سبعمائة عام فلو فرض وجود احتمال الحسيّة لشهادات الشيخ الطوسي ـ قده ـ في حق الرّواة غير المعاصرين له ـ ولذلك يؤخذ بها ـ فذلك من جهة عدم وجود هذا المقدار من البعد الزمني


بينه وبين أبعد راوٍ يفرض من أولئك الرّواة.

وفيه : أن المقياس في نشوء احتمال الاستناد إلى الحس في مقابل الحدس والاجتهاد ليس هو طول الزمان وقصره فحسب ، وإنما تتحكم فيه أيضا ملابسات ذلك الفاصل الزمني وظروفه ، فقد يكون الفاصل قصيراً ولكنه قد مضى بنحو لا يوفر للباحث ما يحتاجه من المدارك الواضحة التي تستوجب حسية شهادته بالتوثيق أو الجرح ، وقد تطول الفاصل الزمني دون أن يضر بما تطلبه حسية الشهادة من مدارك ومستندات ، فمثلاً ترى أن التسلسل النسبي لأسرة علوية قد يكون محفوظاً عبر مئات السنين فيستطيع أي فرد منها أن ينسب نفسه إلى أبيه ثم إلى جده وجد جده وهكذا إلى أزمنة سحيقة من تاريخ آبائه وأجداده نتيجة الاهتمام الموجود تجاه هذا النسب المبارك ، بينما لا يتأتى ذلك في حق الأنساب الأخرى ولو لأزمنة قصيرة من تاريخ الآباء والأجداد.

وعلى هذا الأساس ، لو لاحظنا السنين التي تفصل بين الشيخ الطوسي ـ قده ـ وبين الرّواة الذين شهد بوثاقتهم والتي هي أقصر بكثير من الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل ـ قده ـ والعلماء الذين يشهد بوثاقتهم ـ كأبي البركات مثلاً ـ نرى فارقاً كيفياً كبيراً بين الزمانين يميز الفاصل الزمني بين صاحب الوسائل وأبي البركات من ناحية إمكانية الحصول فيه على مدارك حسية للشهادة بوثاقته. وذلك الفارق الكيفي يتمثل في توفر الضبط في النقل وشدة الاهتمام بمدارك التوثيق والجرح والتعديل وشيوع كتب الرّجال والإجازات والإسناد التي هي منفذ اطلاع الباحث على معرفة أحوال الرّجال عادة وعدم توفر مثل هذه المدارك وإمكانات البحث والاطلاع في الفترة الزمنية بين الشيخ الطوسي وأصحاب الأئمة حتى أنه لم ينقل فهرست لأحد من الأصحاب في هذه الفترة غير البرقي ـ قده ـ.

ومما يعزز وثاقة أبي البركات أيضا ما جاء في كتاب رياض العلماء في


ترجمة شخص من العلماء اسمه علي بن أبي طالب بن محمد بن أبي طالب التميمي وهو على ما يظهر من ترجمته متأخر عن ابن شهرآشوب ويعبر عنه بأنه فاضل عالم محدث فقيه قال ـ أي في كتاب رياض العلماء ـ « أنه في عدد من نسخ عيون أخبار الرضا للصدوق ـ قده ـ يوجد فيه إسناد لهذا الكتاب يرجع إلى علي بن أبي طالب بن محمد بن أبي طالب وهو يرويه عن الإمام الفقيه فلان ... ثم يتسلسل في ذكر علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ واحداً بعد آخر إلى أن يصل إلى الواسطة قبل الصدوق ، فيقول : قال حدثنا الإمام الزاهد أبو البركات الخوزي عن الصدوق ».

فإن هذا الكلام وأمثاله كما يؤيد وثاقة أبو البركات حيث يعبر عنه بالإمام الزاهد وهي رتبة عالية من التوثيق لا يلقب بها إلاّ أجلاء علماء الطائفة كذلك يثبت ما قلناه آنفاً من انتشار الأسناد والمدارك التي يتيح إمكانية التعويل عليها في مجال التعرف على أحوال الرّجال في الفترة الزمنية التي عاش فيها صاحب الوسائل ـ قده ـ فاحتمال حسية شهادته بتوثيق أبو البركات موجود فتكون شهادته معتبرة لا محالة.

وهكذا يتضح أن رواية الراوندي صحيحة سنداً.

وأما الحديث عن مفادها فقد اشتمل مفادها على مرجحين طوليين.

الأول ـ الموافقة والمخالفة مع الكتاب ، فيرجّح ما وافق الكتاب على ما خالفه ومقتضاه الاقتصار في الترجيح على خصوص ما إذا كان أحد الخبرين موافقاً مع الكتاب والآخر مخالفاً له فلا يكفي مجرد مخالفة أحدهما للكتاب في ترجيح الآخر عليه. اللهم إلاّ أن يستظهر كفاية ذلك بالتعدي والفهم العرفي بدعوى : أن مناسبات الحكم والموضوع العرفية في باب جعل الحجية والطريقية تقتضي أن يكون الميزان في الترجيح عدم المخالفة مع الكتاب الكريم لوضوح عدم مجيء جميع التفاصيل وجزئيات الأحكام الشرعية فيه ، فيكون المراد


من الموافقة عدم المخالفة.

الثاني ـ المخالفة والموافقة مع العامة فيرجّح ما خالف أخبارهم على ما وافقها. وقد يقال باختصاص هذا الترجيح بما إذا كانت المخالفة والموافقة مع أخبارهم لأنه الّذي نصّ عليه الحديث ، إلاّ أن الصحيح التعدي إلى الموافقة والمخالفة مع فتاواهم وآرائهم أيضا وإن كانت على أساس غير الأخبار من أدلة الاستنباط عندهم فإنه لا فرق بينه وبين الموافقة مع أخبارهم في الترجيح القائم على أساس نكتة طريقية لا تعبدية.

والمستفاد من الرواية طولية الترجيحين وأن الأول منهما مقدم في مقام علاج التعارض على الثاني كما هو واضح.

وأما الحديث عن نسبتها إلى سائر الأخبار فبلحاظ أخبار التخيير لو تم شيء منها تكون رواية الراوندي أخص مطلقاً باعتبارها تثبت الترجيح في قسم خاص من حالات التعارض وهو ما إذا كان أحد المتعارضين موافقاً مع الكتاب أو مخالفاً مع العامة ، وأما بلحاظ أخبار الترجيح الأخرى أو أخبار التوقف والإرجاء ، فسوف نتعرض إلى نسبتها مع رواية الراوندي لدى التعليق على كل واحد منها.

ومن جملة أخبار الترجيح بمخالفة العامة ، رواية الحسين بن السري قال : « قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ 7 : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفانِ فَخُذُوا بِمَا خَالَفَ القومَ » (١).

وهي ساقطة سنداً ، ولكنها موافقة دلالة مع رواية الراوندي في ترجيح ما خالف العامة على ما وافقهم بعد أن تعدينا في فهم رواية الراوندي إلى مطلق المخالفة مع فتاواهم. نعم هذه الرواية مطلقة تشمل صورة مخالفة الخبر المخالف مع العامة للكتاب الكريم أيضا فلا بدّ من تقييدها برواية الراوندي باعتبارها

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٣٠.


تدل على الترتيب وتخصيص هذا المرجّح بما إذا لم يتم في المرتبة السابقة الترجيح بموافقة الكتاب.

ومنها ـ رواية الحسن بن الجهم قال : « قُلتُ لِلعَبدِ الصّالِحِ 7 هَل يَسَعُنَا فِيمَا وَرَدَ عَلَينَا مِنكُم إلاّ التّسلِيمِ لَكُم؟ فَقَالَ : لا وَاللهِ لا يَسَعكُم إلاّ التّسلِيمُ لَنَا ، فَقُلتُ : فَيُروَى عَن أبي عَبدِ اللهِ 7 شَيءٌ يُروَى عَنهُ خِلافُهُ فَبِأيّهِمَا نَأخُذُ؟ فَقَالَ : خُذ بِمَا خَالَفَ القَومَ ، وَمَا وَافَقَ القَومَ فَاجتَنِبهُ » (١).

وهي كسابقتها في الدلالة.

ومنها ـ رواية محمد بن عبد الله قال : « قُلتُ للرّضا 7 : كَيفَ نَصنَعُ بالخَبَرَينِ المُختَلِفَينِ؟ فَقَالَ : إذَا وَرَدَ عَلَيكُم خَبَرَان مُختَلِفَانِ فَانظُرُوا إلى مَا يُخَالِفُ مِنهُمَا العَامّةَ فَخُذُوهُ وانظُرُوا إلى مَا يُوَافِق أخبَارَهُم فَدَعُوهُ » (٢).

وهي كالسابقتين أيضا.

ومنها ـ مرسلة الطبرسي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله 7 : « قُلتُ : يَرِدُ عَلَينَا حَدِيثَانِ واحِدٌ يَأمُرُنا بالأخذِ بِهِ وَالآخَرُ يَنهَانَا عَنهُ؟ قَالَ لا تَعمل بِوَاحِدٍ منهَا حَتّى تَلقَى صَاحِبَكَ فَتَسألُهُ. قُلتُ : لا بُدّ أن نَعمَلَ بِوَاحِدٍ منهَا؟ قَالَ : خُذ بِمَا فِيهِ خِلافُ العَامّةِ » (٣).

ولو لا إرسالها كنا نقيد بها إطلاق رواية الراوندي في الترجيح بمخالفة العامة بما إذا كان يتحتم العمل بأحد المتعارضين في زمان حضور الإمام 7 ، ولكنها ساقطة سنداً بالإرسال ، كما أنها من ناحية سكوتها عن الترجيح بموافقة

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.


الكتاب تقيّد برواية الراوندي.

ومنها ـ رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله 7 : « قَالَ : مَا سَمِعتهُ مِنّي يَشبَهُ قَولَ النّاسِ فِيهِ التّقِيّةُ ، وَمَا سَمِعت منّي لا يَشبَهُ قَولَ النّاسِ فَلا تَقِيّةَ فِيهِ » (١).

إلاّ أن هذه الرواية واردة في طبيعي الخبر لا خصوص المتعارضين فقد يقال بأنها تدل على سقوط ما يشبه العامة عن الحجية مطلقاً ، غير أن الظاهر كون المراد من مشابهة قول الناس أن يكون الحديث متضمناً لنفس الأساليب والأصول الموضوعية التي يتبناها الناس ويستدلون بها في مقام استنباط الحكم الشرعي ، ومثل ذلك لا يبعد أن يكون قرينة نوعية عقلائية على صدور الحديث تقية ، فتكون ساقطة عن الحجية على القاعدة.

ومن جملة ما قد يستدل به على الترجيح بالكتاب ، رواية الحسن بن الجهم عن الرضا 7 قال : « قُلتُ لَهُ يَجِيئُنَا الأحَادِيثُ عَنكُم مُختَلِفَة فَقَالَ : مَا جَاءَكَ عَنّا فَقِس عَلى كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَلّ وَأحَادِيثِنَا فَإن كَانَ يَشبَهُهُمَا فَهُوَ مِنّا وَإن لَم يَكُن يَشبَهُهُمَا فَلَيس مِنّا. قُلتُ : يَجِيئُنَا الرّجُلانِ وَكِلاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَينِ مُختَلِفَين وَلا نَعلَمُ أيّهُمَا الحَقُ؟ قال : فَإذَا لَم تَعلَم فَمُوَسّعٌ عَلَيكَ بِأيّهِمَا أخَذتَ » (٢).

إلاّ أن هذه الرواية لا تدل على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة وإنما مساقها مساق بعض أخبار الطرح الدالة على إناطة حجية الخبر بوجود شاهد يشبهه من الكتاب الكريم فلا تكون من أخبار الترجيح بل من أخبار الطرح ، نعم ما جاء في ذيلها يدل على التخيير في موارد التعارض فتكون من أخبار

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.


التخيير التي لا بد من تقييدها بأخبار الترجيح ان تمت في نفسها إلاّ أن سندها غير تام للإرسال فيه.

ومن جملة ما يدل على الترجيح بهذا المرجح ، مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة اللتان يقع الحديث عن مفادهما مفصلاً في الترجيح بالصفات.

وهكذا يتضح أن الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة تام على أساس رواية الراوندي المتضمنة للترجيح بهما بنحو الترتب والطولية بينهما.

٢ ـ الترجيح بالشهرة

: وأهم ما يدل على هذا المرجح المقبولة والمرفوعة اللتان سوف يأتي الحديث عنهما مفصلاً في الترجيح بالصفات.

وهناك رواية للطبرسي ورد فيها : « وَرُوِيَ عَنهُم 7 أنّهُم قَالُوا : إذَا اختَلَفَت أحَادِيثُنَا عَلَيكُم فَخُذُوا بِمَا اجتَمَعَت عَلَيهِ شيعَتُنَا فَإنّهُ لا رَيبَ فِيهِ » (١).

والمراد باجتماع الشيعة إن كان الاجتماع في الرواية فهو مساوق مع التواتر ولا إشكال حينئذ في لزوم العمل به وطرح الخبر المخالف له ، وإن كان المراد اجتماع الشيعة عليه في العمل والفتوى كان معناه مرجحية الشهرة الفتوائية ، ولا يبعد ظهورها في الأخير باعتبار إضافة الاجتماع فيها إلى الشيعة لا إلى الرّواة بالخصوص مما يناسب أن يكون المراد منه الاجتماع في الرّأي والعمل.

والرواية وإن كانت ضعيفة سنداً بالإرسال ، إلاّ أن مفادها يثبت في الفقه كثيراً على مقتضى القاعدة ، لأن اجتماع الشيعة إن لم يورث الاطمئنان الشخصي للفقيه بالحكم فكثيراً ما يكشف عن خلل في الخبر المخالف له بنحو

__________________

(١) المصدر السابق.


يسقطه عن الحجية. وهذه الطائفة من أخبار الترجيح لو تمت سنداً ودلالة تقدمت على أخبار التخيير بالتخصيص ، وأما نسبتها إلى خبر الراوندي وغيره مما دل على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فعموم من وجه ، وسوف يأتي مزيد توضيح لهذه النقطة لدى التعليق على الاستدلال بالمقبولة والمرفوعة.

٣ ـ الترجيح بالأحدثية:

والمراد بالأحدثية ، صدور الخبر في زمن متأخر عن زمن صدور الآخر وأهم ما ورد في لسان هذا الترجيح كمرجح لأحد المتعارضين على الآخر روايتان. إحداهما ـ رواية هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : « قال أبُو عَبدِ اللهِ 7 : يا أبَا عُمر أرَأيتَ لَو حَدّثتُكَ بِحَدِيثٍ أو أفتَيتُكَ بِفُتيَا ثُمّ جِئتَني بَعدَ ذَلِكَ فَسَألتَني عَنهُ فَأخبَرْتُكَ بِخِلافِ ذَلِكَ بِأيّهمَا كُنتُ تَأخُذُ؟ قُلتُ : بِأحدَثِهِمَا وَأدَعُ الآخَرَ. فَقَالَ ، قَد أصَبتَ يا أبَا عَمرو ، أبَى اللهُ إلاّ أن يُعبَدَ سِرّاً. أما وَاللهِ لأن فَعَلتُم ذَلِكَ إنّهُ لَخَيرٌ لي وَلَكُم ، وأبَى اللهُ عَزّ وَجَلّ لَنَا وَلَكُم في دِينِهِ إلاّ التّقِيّةُ » (١).

والثانية ـ رواية الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله 7 قال : « أرَأيتُكَ لَو حَدّثتُكَ بِحَدِيثٍ العَامَ ثُمّ جِئتَني مِن قابِل فَحَدّثتُكَ بِخِلافِهِ بِأيّهِمَا كُنتَ تَأخُذُ؟ قَالَ : قُلتُ. كُنتُ آخُذُ بالأخِيرِ. فَقَالَ : رَحِمَكَ اللهُ » (٢).

والبحث عن هذه الطائفة من أخبار الترجيح يقع في نقاط.

النقطة الأولى ـ حول سند الروايتين. أما الرواية الثانية فهي ساقطة سنداً باعتبار الإرسال الواقع فيه. وأما الرواية الأولى فهي ضعيفة بأبي عمرو الكناني

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.


الّذي لم يثبت توثيقه. نعم قد نقل السيد البروجردي ـ قده ـ في جامع أحاديث الشيعة سنداً آخر لها عن صاحب الوسائل عن البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله 7 مثله. وهذا سند صحيح يمكن أن يتم على أساسه الحديث إلاّ أن الظاهر سقوط أبي عمرو في هذا السند سهواً فهشام بن سالم ينقل الرواية عن أبي عمرو الكناني أيضا ، والقرينة على ذلك توجه الخطاب إلى أبي عمرو في كلام الإمام 7 مرتين. ولو تنزلنا عن ذلك وقع التهافت في النقل بين السندين بعد استبعاد كونهما روايتين.

النقطة الثانية ـ في علاقتها بأخبار التخيير وأخبار الترجيح بأحد المرجحات الأخرى ، فهل تكون معارضة لها أو مخصصة؟

والصحيح هو التفصيل بين تقديرين.

التقدير الأول ـ أن نبني في بحث حقيقة الأحكام الظاهرية على ما هو المختار عندنا من أنها كالأحكام الواقعية تتعارض بمجرد ثبوتها واقعاً إذا كانت متنافية في أنفسها ، فلا محالة يقع التعارض بين روايات الأخذ بالأحدث مع أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات ، لأن فرض التقارن بين الخبرين صدوراً وعدم كون أحدهما أحدث من الآخر ، نادر جداً.

التقدير الثاني ـ أن نبني على ما هو المشهور من أن الحكمين الظاهريين المتنافيين يتعارضان في مرحلة الوصول ، وحينئذ لا يظهر التعارض بين روايات الأخذ بالأحدث مع سائر أخبار الباب إلاّ فيما إذا علمنا بما هو الأحدث. فيمكن تخصيص تلك الأخبار بغير موارد العلم بالأحدثية ـ كما هو الغالب في الخبرين الصادرين من إمام واحد ـ والعلم الإجمالي بأحدثية أحدهما لا أثر له لأنه علم إجمالي مردد بين الترخيص والإلزام فلا يكون منجزاً. فإذا فرض أن روايات الأخذ بالأحدث كانت أخص مطلقاً من تلك الأخبار ـ


كما هو كذلك بالنسبة إلى أخبار التخيير ـ خصصت الأخيرة بها وإن كانت النسبة عموماً من وجه ـ كما هو الحال بالنسبة لأدلة الترجيح ـ كان حالها حال التعارض فيما بينهما بلحاظ بعض المرجحات ، على ما سوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة ـ ربما يقال بتقديم أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات على هذه الطائفة ولو فرض استحكام التعارض بينهما وذلك على أساس أحد تخريجين.

التخريج الأول ـ إن في أخبار التخيير أو الترجيح ما هو أحدث من روايات الأخذ بالأحدث لورود بعضها عن الأئمة المتأخرين زماناً عن الإمام الصادق ـ : ـ فيكون أحدث من هذه الطائفة فتتقدم بحكم هذه الأخبار نفسها.

وفيه : أولاً : إن هذا البيان إنما يمكن توجيهه فيما إذا علم بصدور إحدى الطائفتين المتعارضتين حيث يمكن أن يقال حينئذ بلزوم الأخذ بأخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات إما لكونها هي الصادرة واقعاً أو لأن ما هو الصادر ـ وهو أخبار الأخذ بالأحدث ـ تأمرنا بذلك. ولكنا لا نعلم بصدور إحدى الطائفتين فلا بد من الرجوع إلى دليل الحجية العام ونسبته إليهما على حد واحد. والمفروض عدم إمكان شموله لهما معاً وشموله لإحداهما دون الأخرى ترجيح بلا مرجح.

وثانياً ـ لو فرضنا العلم بصدور إحداهما فأيضاً لا يتم هذا التخريج. إذ يلزم منه أن تسقط أخبار الأخذ بالأحدث عن الحجية في تمام الموارد عدا مورد واحد وهو تقديم معارضها الأحدث المتمثل في أخبار التخيير أو الترجيح بأحد المرجحات الأخرى ، وهذا كتخصيص الأكثر إلغاء للدليل رأساً.

التخريج الثاني ـ إن أخبار الأخذ بالأحدث بشمولها لنفسها بلحاظ معارضتها مع ما هو أحدث منها تسقط عن الحجية ، إذ يلزم من حجيتها عدم حجيتها ،


فنأخذ بأخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات بدون معارض.

وفيه : أن الساقط عن الحجية لاستلزام حجيته عدم حجيته هو إطلاق أخبار الأخذ بالأحدث لنفسها لا أصلها ، واحتمال التفكيك بينهما وبين سائر الموارد موجود فلا موجب لرفع اليد عن حجيتها بلحاظ موارد التعارض الأخرى ، فيكون معارضاً مع أدلة التخيير أو الترجيح بسائر المرجحات.

النقطة الرابعة ـ حول دلالة هذه الطائفة على الترجيح بالأحدثية. والصحيح أنها لو فرض تمامية دلالتها على الترجيح فإنما تدل عليه في غير محل الكلام ، لأن الترجيح بالأحدثية حكم تعبدي بحت لا يطابق القواعد العقلائية المرتكزة في باب الطريقية فلا محالة يقتصر فيه على مورد النص بعد أن لم يكن فيه إطلاق لفظي. فإن كلمات الأئمة : تنظر جميعاً إلى وقت واحد وتكشف عن حكم شرع في صدر الإسلام فلا أثر لمجرد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفية والطريقية التي هي ملاك الحجية والاعتبار. ومورد هذه الطائفة تتضمن خصوصيتين.

أولاهما ـ كون الحديثين قطعيين سنداً ومسموعين من الإمام 7 مباشرة فلا يمكن التعدي منهما إلى الظنيين ، لاحتمال دخل القطع بالصدور في هذا الحكم ، إذ ليس حكماً واقعياً حتى يكون ظاهرا أخذ قيد القطع في لسان دليله كونه طريقاً إلى الواقع المقطوع به ، بل هو حكم ظاهري تعبدي يعقل أن يكون للشك واليقين دخل فيه.

ثانيتهما ـ معاصرة السامع للحديث الأحدث وحضوره في مجلس الصدور ، لأن المفروض فيها ذلك بمقتضى قوله 7 ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه ، فلعل لهذه الخصوصية دخلاً في الحكم المذكور أيضا.

وهذه الخصوصية بنفسها يمكن إبرازها أيضا في رواية أخرى من هذه الطائفة وهي رواية معلى بن خنيس قال : « قُلتُ لأبي عَبدِ اللهِ 7 إذَا


جَاءَ حَدِيثُ عَن أوّلِكُم وَحَدِيثُ عَن آخِرِكُم بِأيّهِمَا نَأخُذُ؟ فقال : خُذُوا بِهِ حَتّى يَبلُغَكُم عَن الحَيّ فَإن بَلَغَكُم عَنِ الحَيّ فَخُذُوا بِقَولِهِ » (١).

فإن هذه الرواية قد لا يتجه في حقها احتمال اختصاصها بمعلومي الصدور ، لأنه قد عبر فيها بمجيء الحديث الّذي قد يدعى إطلاقه للأخبار الآحاد ، إلاّ أن الخصوصية الثانية واضحة في موردها. مضافاً إلى ضعف سندها.

والتحقيق أن هذه الطائفة ليست من أدلة الترجيح أصلاً بل مفادها أمر آخر. وتوضيح ذلك :

أن الحديث الأحدث المسموع من الإمام 7 فيه ظهوران. أحدهما الظهور في كونه بصدد بيان الحكم الواقعي العام. والثاني ظهوره في بيان وظيفة السامع الفعلية التي قد تكون واقعية وقد تكون لظروف التقية ـ كما في قصّة علي بن يقطين مع الإمام موسى بن جعفر 7 ـ والظاهر أن المقصود من الأخذ بالأحدث في هذه الروايات ملاحظة الظهور الثاني في حق السامع والتأكيد على لزوم اتباعه على كل حال ، لا ترجيح الأحدث بلحاظ ظهوره الأول الكاشف عن الحكم الواقعي العام. ومما يشهد لهذا الفهم ، مضافاً إلى كون الأحدثية لا تتضمن أية مناسبة عقلائية للترجيح في باب الحجية فمن المستبعد جداً افتراض دخلها شرعاً في هذا الباب ، التفات السائل لهذا الترجيح بنفسه حيث أجاب على سؤال الإمام بأنه يأخذ بالأحدث ، مما يعني أن هذا المعنى كان واضحاً مركوزاً لدى العرف ، وذلك لا يكون إلاّ بالاعتبار الّذي أوضحناه.

وأيضا مما يعزز هذا الفهم ، ما ورد في ذيل رواية الكناني ، من قوله 7 « أبى الله إلا أن يعبد سراً ، أما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم وأبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلاّ التقية ». وهذا صريح في أن نظر الإمام 7

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.


على تقدير صدور الحديث ـ إلى ما هو وظيفة السامع بالفعل ولو من أجل التقية.

وأخيراً يمكننا أن نستظهر هذا المعنى من هذه الروايات وما افترض فيها من سماع المكلف بنفسه الحديث المخالف لما كان يعرفه من رأي الإمام 7 سابقاً الّذي يعني قطعية الحديثين سنداً ودلالة المستدعي حصول القطع عرفاً بأن ما وافق منهما العامة إنما صدر مراعاة لظروف التقية المعاشة وقتئذٍ ، فيكون مساقها مساق روايات أخرى وردت بهذا الشأن من قبيل رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر 7 قال : « قَالَ لي : يا زِيَادُ مَا تَقُولُ لَو أفتَينَا رَجُلاً مِمّن يَتَوَلاّنَا بِشَيءٍ مِنَ التّقِيّةِ؟ قَالَ : قُلتُ لَهُ : أنتَ أعلَمُ جُعِلتُ فِدَاكَ. قَالَ : إن أخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأعظَمُ أجراً. قَالَ : وفي رواية أخرى : إن أخَذَ بِهِ أجِرَ وَإن تَرَكَهُ وَاللهِ أثِمَ ».

وما عن الخثعمي : قال « سَمِعتُ أبَا عَبدِ اللهِ 7 يَقُولُ : مَن عَرَفَ أنّا لا نَقُولُ إلاّ حَقّاً فَليَكتَفِ بِمَا يَعلَمُ مِنّا سَمع مِنّا خِلافَ مَا يَعلَمُ فَليَعلَم أنّ ذَلِكَ دِفَاعاً مِنّا عَنهُ » (١).

فالصحيح عدم صحة الترجيح بالأحدثية.

٤ ـ الترجيح بالصفات :

ومهم ما يستدل به على الترجيح بصفات الراوي ، مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة.

أما المقبولة فقد جاء فيها : « قَالَ سَألتُ أبَا عَبدِ اللهِ 7 : عَن رَجُلَينِ مِن أصحَابِنا يَكُونُ بَينَهُمَا مُنَازعَةٌ. في دَين أو مِيرَاث فَتَحَاكَمَا إلى السّلطَانِ أو إلى القُضَاةِ أيَحلّ ذَلِكَ؟ قَال 7 :

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.


مَنْ تَحَاكَمَ إلَيْهِمْ في حَقّ أوْ بَاطِلٍ فَإنَّمَا تَحَاكَمَ إلى الطّاغُوتِ وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإنّمَا يَأخُذُهُ سُحْتاً وَإنْ كَانَ حَقّهُ ثابِتاً ، لأنّه أخَذَ بِحُكمِ الطّاغُوتِ وَإنّمَا أمَرَ اللهُ أنْ يَكْفُرَ بِهِ. قَالَ اللهُ تَعَالى : « وَيَتَحَاكَمُونَ إلى الطّاغُوتِ وقَد أمِرُوا أن يَكفُرُوا بِهِ » قُلتُ : فَكَيفَ يَصنَعَانِ؟ قَالَ : يَنظُرانِ مَن كَانَ مِنكُم مِمّن قَد رَوَى حَدِيثَنَا وَنَظَرَ في حَلالِنَا وَحَرَامِنَا وَعَرَفَ أحكَامَنَا فَليَرضُوا بِهِ حَكَماً فَإنّي جَعَلتُهُ عَلَيكُم حَاكِماً فَإذَا حَكَمَ بِحُكمِنَا فَلَم يُقبَل مِنهُ فَإنّمَا بِحُكمِ اللهِ استَخَفّ وَعَلَينَا قَد رَدّ وَالرّادّ عَلَينَا الرّادّ عَلى اللهِ وَهُوَ عَلى حَدّ الشّركِ بِاللهِ. قُلتُ : فَإن كَانَ كُلّ واحِدٍ اختَارَ رَجُلاً مِن أصحَابِنَا فَرَضيَا أن يَكُونَا النّاظِرَينِ في حَقّهِمَا فَاختَلَفَا فِيما حَكَما وَكِلاهُمَا اختَلَفَا في حَدِيثِكُم؟ فَقَالَ ، الحُكمُ مَا حَكَمَ بِهِ أعدَلهُمَا وَأفقَهُهمَا وَأصدَقُهُمَا في الحَدِيثِ وَأورَعُهُمَا ، وَلا يُلتفَت إلَى مَا يَحكُمُ بِهِ الآخَرُ. قَالَ : فَقُلتُ : فَإنّهُمَا عَدلانِ مَرضِيّانِ عِندَ أصحَابنَا لا يَفضُلُ واحدٌ مِنهُمَا عَلى صَاحِبِهِ؟ قَالَ : فَقَالَ : يُنظَر إلى مَا كَانَ من روايَتَيهما عَنّا في ذَلكَ الّذي حَكَما به المُجمَعُ عَلَيهِ عندَ أصحَابكَ فَيُؤخَذُ بِهِ مِن حُكمِنَا ويُترَكُ الشاذُ الّذي لَيسَ بِمَشهُور عِندَ أصحَابِكَ فإن المُجمَعَ عَلَيهِ لا رَيبَ فِيهِ ، وَإنّمَا الأمُورَ ثَلاثَةٌ أمرٌ بَيّنٌ رُشدُهُ فَيُتّبَعُ وَأمرٌ بَيّنٌ غَيّهُ فَيُجتَنَبُ وَأمرٌ مُشكِلٌ يُرَدّ حُكمُهُ إلى اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ 6 : حَلالٌ بَيّنٌ وحَرَامٌ بَيّنٌ وَشُبُهَاتٌ بَينَ ذَلِكَ فَمَن تَرَكَ الشّبُهَاتِ نَجَى مِنَ المُحَرّمَاتِ وَمَن أخَذَ بِالشّبُهَاتِ وَقَعَ في المُحَرّمَاتِ وَهَلَكَ مِن حَيثُ لا يَعلَم. قَالَ :


قُلتُ : فَإن كَانَ الخَبَرَانِ عَنكُم مَشهُورَينِ قَد رَواهُما الثّقَاتُ عَنكُم؟ قَالَ : يُنظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكمُهُ حُكمَ الكِتَابِ وَالسّنّةِ وخَالفَ العَامّةَ فَيُؤخَذُ بِهِ ويُترَكُ مَا خَالَفَ حُكمُه حُكمَ الكِتابِ وَالسنّةِ وَوَافَقَ العَامّةَ. قُلتُ : جُعِلتُ فِدَاكَ إن رَأيتَ أن كَانَ الفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكمَهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسّنّةِ وَوَجَدنَا أحَدَ الخَبَرَينِ مُوَافِقاً للعَامّةِ والآخَر مُخَالِفاً لَهُم بِأيّ الخَبَرَينِ يُؤخَذُ؟ فَقَالَ : مَا خَالَفَ العَامّةُ فَفِيهِ الرّشَادُ. فَقُلتُ : جُعِلتُ فِدَاكَ فَإن وَافَقَهُمَا الخَبَرَانِ جَمِيعاً؟ فَقَالَ : يُنظَرُ إلى مَا هُم إلَيه أميَلُ حُكّامُهُم وَقُضَاتُهُم فَيُترَكُ وَيُؤخَذُ بِالآخَرِ. قُلتُ : فَإن وَافَقَ حُكّامُهُم الخَبَرَينِ جَمِيعاً؟ قَالَ : إذَا كَانَ ذَلِكَ فَأرجِئهُ حَتّى تَلقَى إمَامَكَ ، فَإنّ الوُقُوفَ عِندَ الشّبُهَاتِ خَيرٌ مِنَ الاقتِحَامِ في الهَلَكاتِ » (١).

وأما المرفوعة. فقد رواها ابن أبي الجمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلامة مرفوعاً إلى زرارة قال : « سَألتُ أبَا جَعفَر 7 فَقُلتُ لَهُ : جُعِلتُ فِدَاكَ يَأتي عَنكُم الخَبَرَانِ وَالحَدِيثَانِ المُعَارِضَان فَبِأيّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ : يا زُرَارَةُ خُذ بِمَا اشتَهَرَ بَينَ أصحَابِك وَدَع الشّاذّ النّادِرَ. فَقُلتُ : يا سَيّدِي إنّهُمَا مَعاً مَشهُورَان مَأثُورَانِ عَنكُمْ؟ فَقَالَ : خُذ بِمَا يَقُولُ أعدَلُهُمَا عِندَكَ وَأوثَقُهُمَا في نَفسِكَ. فَقُلتُ : إنّهُمَا مَعاً عَدلان مَرضِيّانِ مُوَثّقَان؟ فَقَالَ : انظُر مَا وَافَقَ مِنهُمَا العَامّةَ فَاترُكهُ وَخُذ بِمَا خَالَفَ فَإنّ الحَقّ فِيمَا خَالَفَهُم. قُلتُ : رُبّما كانا مُوَافِقَينِ لَهُم أو مُخَالِفَينِ فَكَيفَ أصنَعُ؟ قَالَ : إذَن فَخُذ بِمَا فِيه

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.


الحَائطَةُ لِدِينِكَ وَأترُك الآخَرَ. قُلتُ : إنّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ للاحتِيَاطِ أو مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيفَ أصنَعُ؟ فَقَالَ : إذَن فَتَخَيّر أحَدَهُمَا فَتَأخُذُ بِهِ وَدَع الآخَرَ ».

والبحث عن هاتين الروايتين يقع أولا حول سندهما ، وثانياً في تحديد مفادهما ، وثالثاً في العلاقة بينهما ، ورابعاً في علاقتهما برواية الراوندي المتقدمة وغيرها من روايات الترجيح ، فهنا أربع جهات.

أما الجهة الأولى ـ فلا إشكال في سقوط المرفوعة سنداً ، لما فيها من الرفع ، بل قالوا أن هذه الرواية لم توجد في كتب العلامة التي بأيدينا أصلاً. وأما المقبولة ، فقد يقال بسقوط سندها عن الحجية أيضا باعتبار عدم ورود توثيق بشأن عمر بن حنظلة وإن كان الأصحاب قد عملوا بمفادها فسميت بالمقبولة. غير أن الصحيح ـ بناء على القاعدة المختارة لنا في الرّجال من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة ـ صحة سندها ، وذلك باعتبار ما وردَ في رواية ليزيد بن الخليفة أنه قال للإمام 7 ( جاءنا عمر بن حنظلة بوقت عنك ) فأجاب 7 : ( إذَن لا يَكذِبُ عَلَينَا ) (١) وهو ظاهر في أن عمر بن حنظلة كان ثقة بطبعه عند الإمام 7 ، إلاّ أن يزيد ابن الخليفة نفسه ممن لا توجد شهادة بتوثيقه وإنما يمكن توثيقه بالقاعدة المذكورة ، حيث قد روى عنه صفوان بن يحيى ـ وهو أحد الثلاثة ـ بسند معتبر في باب كفارة الصوم من الكافي (٢) فنثبت بذلك وثاقته وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضا ، فالمقبولة صحيحة سنداً.

الجهة الثانية ـ في تحديد مفادهما ، ولا إشكال في أنهما دلتا على مرجحين زائداً على ما دلت عليه رواية الراوندي من المرجحات ، وهما الترجيح

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ـ ١٠ ـ من أبواب مواقيت الصلاة.

(٢) فروع الكافي ج ٤ باب كفارة الصوم ، ص ١٤٤.


بالشهرة والترجيح بالصفات ، مع فرق بينهما في تحديد مرتبة كل من المرجحين وكونه مقدماً على الآخر أو مؤخراً عنه ، فالترجيح بالشهرة مقدم على الترجيح بالصفات في المرفوعة ومؤخر عنه في المقبولة ، ولا بد من البحث عن كيفية استفادة الترجيح بهذين المرجحين ، فنقول :

أما استفادة الترجيح بالشهرة من هاتين الروايتين ، فقد ناقش فيها جملة من المحققين بأن المراد من الشهرة التواتر والاستفاضة في النقل ، وفي مثل هذه الحالة تسقط الرواية الشاذة عن الحجية في نفسها لمعارضتها مع دليل قطعي ، فلا يكون الأخذ بالمشهور من باب الترجيح بل من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

والتحقيق : أن الشهرة إذا لوحظت بالنسبة إلى الرواية بما هي حكاية عن حديث المعصوم ، تكون ظاهرة في الشهرة الروائيّة المساوقة مع الاستفاضة وإذا لو حظت بالإضافة إلى الرواية بما هو رأي نقل عن المعصوم كانت ظاهرة في الشهرة الفتوائية والعملية عند الفقهاء. ولا يبعد أن يكون ظاهر المرفوعة إرادة الاشتهار في الفتوى لا في الرواية بقرينتين.

أولاهما ـ ما جاء في افتراض السائل تعليقاً على الترجيح بالشهرة من إمكان اشتهار الروايتين المتعارضتين معاً ، وهذا لا يناسب الشهرة في الرواية المساوقة مع قطعية الصدور ، إذ لو أريد ذلك لم يبق مجال بعد ذلك للترجيح بالأعدلية والأوثقية عقلائياً. ودعوى : أن الشهرة الروائيّة حينما توجد في المتعارضين معاً لا يحصل القطع بالصدور منها ، مدفوعة : بأن هذا إنما يصح فيما إذا كان يستبعد صدور أحاديث متعارضة من الأئمة : ، ولا استبعاد في صدورها عنهم بعد ما عرف من حالهم الابتلاء بظروف التقية وغيرها من الملابسات التي كانت تضطرهم إلى التحفظ والاحتياط ، كما تشهد بذلك جملة من الأحاديث الواردة عنهم وقد شرحنا جانباً منها في البحث المتقدم عن مناشئ وجود الاختلاف والتعارض فيما بين الروايات.


فلا يؤثر مجرد تعارض الخبرين المشهورين بحسب الظهور في حصول القطع أو الاطمئنان بصدور هما معاً أثراً معتداً به.

ثانيتهما ـ إباء سياق الترجيح بالصفات في المرفوعة عن إرادة الشهرة الروائيّة ، إذ لو كان المراد ذلك لكان المناسب أن يرجح ما كان مجموع رواته أعدل وأصدق ، مع أنه قد جاء في تعبير الإمام 7 « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » وجاء في تعبير السائل « أنهما معاً عدلان مرضيان » وهو ظاهر في ملاحظة الراويين المباشرين. وهكذا يظهر إمكان استفادة الترجيح بالشهرة الفتوائية من المرفوعة.

وأما المقبولة ، فاحتمال إرادة الشهرة في الرواية منها تتجه بل لعلها ظاهر ما جاء فيها من التعبير « فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » وما قد يلاحظ من أن الشهرة بهذا المعنى كان ينبغي تقديمها على الترجيح بالصفات مع أنها ذكرت في المقبولة بعده ، جوابه ما سوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى من أن الترجيح بالصفات في المقبول بلحاظ أحد الحكمين على الآخر لا الروايتين.

وأما استفادة الترجيح بالصفات من هاتين الروايتين. فبالنسبة إلى المقبولة يمكن أن يعترض عليه بوجهين.

الأول ـ اختصاص موردها بعصر الحضور والتمكن من لقاء الإمام 7 بقرينية قوله 7 ، فيها « أرجئه حتى تلقى إمامك » وهذا الاعتراض يتجه على استفادة الترجيح بالشهرة وغير هما مما ذكر في المقبولة أيضا.

وفيه : أولا ـ أن جعل لقاء الإمام 7 غاية في ذيل الحديث وإن كان قرينة على الاختصاص بعصر التمكن من لقائه ، لكن لا يلزم من ورود قيد على الجزء الأخير من الحديث أو جعله بنحو القضية الخارجية تعميم ذلك على


الفقرات السابقة المطلقة في نفسها والظاهرة في جعل الحكم على نهج القضايا الحقيقية لا الخارجية.

وثانياً ـ لو فرض عدم انعقاد إطلاق لفظي لفقرات الترجيح بالصفات من المقبولة. مع ذلك أمكننا إثبات تعميم مفادها بالفهم العرفي واستظهار عدم الفرق وإن كانت فقرة الذيل منها مخصوصة بزمان الحضور ، لأن هناك فرقاً عرفياً واضحاً بين ما جاء في الذيل من الاحتياط والإرجاء إلى حين لقاء الإمام 7 الّذي لا يناسب أن يكون حكماً عاماً لزمان الحضور والغيبة فيمكن أن يكون التمكن من لقاء الإمام 7 الّذي كان ميسوراً للسائل دخيلاً فيه ، وبين الترجيح بالشهرة أو بالصفات التي هي مميزات موضوعية في أحد المتعارضين لا دخل لخصوصية التمكن من رؤية الإمام 7 وعدم التمكن منها في مرجحيّتها ، فبمناسبات الحكم الموضوع العرفية والعقلائية يفهم عدم دخل هذه الخصوصية في الترجيح بالمرجحات الواردة في المقبولة.

الثاني ـ أن الترجيح بالصفات في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر وليس ترجيحاً لإحدى الروايتين على الأخرى في مقام التعارض.

وهذا الاعتراض وجيه فيما يتعلق بالصفات دون المرجحات الأخرى الواردة في المقبولة. فلنا في المقام دعويان.

ومبرر الدعوى الأولى : إضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمين حيث قال 7 « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما ».

هذا مضافاً : إلى أن الإمام 7 قد طبق الترجيح بالصفات على أول سلسلة السندين المتعارضين وهما الحاكمان من دون أن يفرض أنهما راويان مباشريان للحديث بينما لو كان الترجيح بها ترجيحاً لإحدى الروايتين على الأخرى كان ينبغي تطبيقه على الراوي المباشر كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضا لأن التعارض ليس بين الراويين غير المباشرين ، إذ كل منهما يروي


موضوعاً غير ما يرويه الآخر ويكون من ينقل منهما عن الأعدل مثلاً حاكماً في نقله على نقل الآخر ـ بعد فرض ثبوت الترجيح بالصفات ـ فلا يستحكم التعارض بين نقليهما بوجه أصلاً. وإنما التعارض مستحكم بين نقل الرّاويين المباشرين فإما أن يطبق الترجيح بالصفات عليهما أو على مجموع السلسلة على أقل تقدير. مع أن الإمام 7 قد طبقه على الحاكمين الذين يمثلان أول سلسلة السند لو كان مع الواسطة ـ كما هو الغالب ـ وهذا لا ينسجم إلاّ مع افتراض كون الترجيح لأحد الحكمين بلحاظ صفات الحاكم به لا الروايتين.

ومبرر الدعوى الثانية : هو انتقال سياق الحديث من ملاحظة الحاكمين إلى ملاحظة الرواية التي يستند إليها كل منهما ، حيث جاء فيه « ينظر ما كان من روايتهما عنا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ... إلخ » فأضيفت المميزات إلى الرواية لا الحكم. إلاّ أنه مع ذلك يوجد أمامنا ثلاثة احتمالات في تفسير الترجيح بهذه المرجحات.

الأول ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية بالعرض والمجاز ، بأن يكون القصد ترجيح الحكم الّذي يكون مدركه واجداً للمزية الترجيحية.

الثاني ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية حقيقية ولكن لا باعتبار كاشفية الرواية ذات المزية الترجيحية عن الحكم الشرعي الواقعي ، بل في مقام فصل الخصومة بالخصوص ، فكأنما أراد الإمام 7 أنه بعد تعارض الحاكمين تجعل الرواية ذات المزية الترجيحية هي الحكم الفصل للمنازعة وان كان لا رجحان لها في مقام الإفتاء واستنباط الحكم الشرعي الواقعي.

الثالث ـ أن تكون إضافتها إلى الرواية حقيقية وبما هي كاشفة عن الحكم الشرعي وحجة عليه.

والظاهر تعين الاحتمال الأخير لأن الأول خلاف حقيقية الإضافة ، والثاني خلاف قوله 7 ( فيؤخذ به ويترك الشاذ ) الظاهر عرفاً في حجية المشهور في مقام الأخذ والعمل مطلقاً لا في مقام فصل الخصومة خاصة.


وأما المرفوعة ، واستفادة الترجيح بالصفات منها فلا كلام في ذلك غير أنها ساقطة سنداً.

ويتلخص من مجموع ما تقدم : أنه لا يتحصل من هاتين الروايتين شيء زائد على ما في رواية الراوندي من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لأن المرفوعة ساقطة سنداً والمقبولة وإن ورد فيها الترجيح بالصفات والشهرة مضافاً إلى موافقة الكتاب ومخالفة العامة إلاّ أنه قد عرفت رجوع الأول إلى الحكمين لا الروايتين ، وكون الثاني من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

الجهة الثالثة ـ في علاقة المقبولة بالمرفوعة على تقدير تماميتها سنداً ودلالة في إثبات جميع تلك المرجحات ، فانهما مختلفتان في عدة مواد.

المادة الأولى ـ إن المقبولة بدأت الترجيح بالصفات وثنت بالشهرة بينما الأمر في المرفوعة على العكس تماماً. فيقع بين إطلاقيهما تعارض من هذه الناحية.

وقد ذكر الشيخ الأعظم ـ قده ـ انه يمكن العمل بالمقبولة بحكم المرفوعة نفسها التي تقضي بتقديم المشهور على الشاذ ، والمقبولة مشهورة بخلاف المرفوعة التي لم تنقل إلاّ عن غوالي اللئالي مرفوعة إلى زرارة (١).

واعترض عليه المحقق الأصفهاني ـ قده ـ بأن هذا مستحيل ، إذ يلزم منه سقوط المرفوعة عن الحجية وكل ما يلزم من وجوده عدمه يكون محالاً (٢).

والتحقيق. أن التعارض بين المقبولة والمرفوعة في هذه المادة ليس بنحو التباين بل بنحو العموم من وجه أي التعارض بين إطلاق الترجيح بكل من المرجحين المتعاكسين فيهما مع إطلاق الآخر ، فالمقبولة ، تثبت الترجيح بالصفات سواء كان الآخر مشهوراً أم لا ، والمرفوعة تثبت الترجيح

__________________

(١) فرائد الأصول ، ص ٤٤٨ طبعة رحمة الله.

(٢) نهاية الدراية المجلد الثالث ، ص ١٦٥.


بالشهرة سواء كان الآخر واجداً للصفات أم لا. فيتعارضان في خصوص ما إذا كان أحدهما واجداً للصفات والآخر مشهوراً ، والتعارض الدلالي قد عرفت في الأبحاث السابقة عدم سريانه إلى السند. فإن بنينا على أن المرجحات الواردة في هذه الأخبار مخصوصة بالتعارض السندي فلا معنى لترجيح المقبولة على المرفوعة بكونها مشهورة ، وإن بنينا على شمول الترجيح بالمرجحات المنصوصة للعامين من وجه فينفتح مجال لدعوى الشيخ ـ قده ـ.

والصحيح هو التفصيل بين صورتين حينئذ.

الأولى ـ أن نفترض المقبولة مشهورة من دون أن يكون الراوي في المرفوعة واجداً لمزية صفتية. وفي هذه الصورة لا بد من الحكم بتقديم المقبولة في مادة التعارض ، لأن هذه الحالة داخلة في مادة الافتراق للمرفوعة فلا موجب لرفع اليد عنها. وهذا معناه أن المرفوعة تدل بمادة افتراقها على العمل بالمقبولة في مادة التعارض بينهما ، وبالتالي تكون المرفوعة بإطلاقها في مادة الافتراق لهذا المورد من موارد التعارض قد خصصت مادة اجتماعها مع المقبولة ، فلم يلزم من وجود شيء واحد عدمه ، كما لا يلزم من إسقاط مادة اجتماعها تخصيصها بالفرد النادر لبقاء موارد الافتراق التي لا مبرر لفرض ندرتها.

الثانية ـ أن نفترض المرفوعة أرجح من حيث صفات الراوي من المقبولة وإن كانت المقبولة أشهر. وفي هذه الحالة لا يتم ما أفاده الشيخ ـ قده ـ لأن ترجيح المقبولة على المرفوعة بالشهرة عملاً بالمرفوعة ليس بأولى من ترجيح المرفوعة على المقبولة بالصفات عملاً بالمقبولة. وبعبارة أخرى ، أن المرفوعة في أي مرتبة يتمسك بها تكون مبتلاة في هذه الصورة بالمعارضة مع المقبولة في تلك المرتبة.

وأما ما ذكره المحقق الأصفهاني ـ قده ـ من محذور الاستحالة فغير


وارد ، لأن المقبولة والمرفوعة تتضمنان إطلاقات طولية متعارضة. فأولاً يتعارض إطلاقهما للخبرين المتعارضين الدال أحدهما مثلاً على وجوب السورة والآخر على عدم وجوبها ، حيث أن المقبولة ترجح الأصدق منهما والمرفوعة ترجح المشهور ، وثانياً يتولد من تلك المعارضة تعارض بين نفس إطلاقي المقبولة والمرفوعة لهذا المورد فإنه أيضا مصداق للتعارض بين حديثين تعالجه المقبولة والمرفوعة لهذا المورد فإنه أيضا مصداق للتعارض بين حديثين تعالجه المقبولة والمرفوعة فيقدم الأصدق بحكم المقبولة والأشهر بحكم المرفوعة. وفي هذه المرتبة أيضا تتشكل معارضة جديدة هي فرد ثالث لحكم المقبولة والمرفوعة وهكذا. وهذا يعني أن المحذور في تقديم المقبولة على المرفوعة أنه في أي مرتبة من هذه المراتب الطولية للتعارض لو أعملنا المرفوعة في مقام الترجيح كان جزافاً لا أنه يلزم من وجوده عدمه فإن التقديم في أي مرتبة انما يسقط ما في المرتبة السابقة عليها لا ما في نفس تلك المرتبة.

هذا كله إذا افترضنا استحكام التعارض بين الروايتين ، مع أنه يمكن أن يدعى وجود جمع عرفي بينهما. وتوضيح ذلك. أن هناك حالات عديدة يمكن افتراضها في دليلي الترجيح المختلفين.

الحالة الأولى ـ أن يقتصر كل منهما على مرجح غير ما تكفله الآخر ، كما إذا جاء في أحدهما ، ( خذ بالمشهور ) وورد في الآخر ( خذ بما يرويه أعدلهما ).

الحالة الثانية ـ أن يقتصر أحدهما على مرجح ويذكر الآخر مرجحين أولهما غير ما ذكر في الأول. كما إذا جاء في أحدهما ( خذ بالمشهور ) وورد في الآخر ( خذ بما يرويه الأعدل ، وإن لم يكن فبالمشهور ).

الحالة الثالثة ـ نفس الحالة مع افتراض أن دليل الترجيح الثاني قد ذكر فيه المرجح المذكور في الأول أولا أيضا.

الحالة الرابعة ـ أن يذكر كل من الدليلين كلا المرجحين مع التعاكس في الترتيب كما هو الحال في المرفوعة والمقبولة. والتعارض في هذه الحالات


إن قيل باستحكامه فإنما يقال به في الحالة الأولى بالخصوص التي تكون المعارضة بنحو العموم من وجه لا الحالات الثلاث الأخرى. إذ في الحالة الثانية يكون دليل الترجيح المشتمل على مرجحين أخص مطلقاً من دليل الترجيح الآخر فيتقيد به ، وفي الحالة الثالثة لا تعارض بينها أصلاً لأن الدليل المشتمل على المرجح الأول فقط ساكت عن وجود ترجيح آخر طولي ولا ينفيه ، وفي الحالة الرابعة يكون لكل من دليلي المرجحين المتعاكسين ظهوران ، ظهور إطلاقي يقتضي تقدم المرجح المذكور فيه أولا على المذكور فيه ثانياً لأنه مقتضى إطلاق الترجيح به حتى إذا كان المرجح الثاني ثابتاً في المعارض الآخر. وظهور عرفي صريح في أن المرجح المذكور فيه أولا ليس متأخراً رتبة عن المذكور فيه ثانياً ، بل اما مقدم عليه أو في عرضه على الأقل وإلاّ لما قدّم عليه في التسلسل الترجيحي ، وهذا الظهور أقوى من الإطلاق وأظهر والتعارض بين دليل الترجيح بحسب الحقيقة واقع بين الظهور الإطلاقي لأحدهما مع هذا الظهور العرفي الصريح من الآخر فيرفع اليد عن الإطلاق بالظهور الصريح بقانون حمل الظاهر على الأظهر المتقدم في أقسام الجمع العرفي فينتج عرضية المرجحين معاً. وإعمال هذا الجمع واضح جدّاً إذا فرضنا مجيء الترتيب بين المرجحين في كلام الإمام 7 ابتداء ، وأما إذا افترضنا انتزاع الترتيب من كلام الإمام 7 عن طريق الترتيب الوارد في سؤال الراوي بعد فرضه تساويهما في المرجح الأول ، كما هو الحال في المقبولة والمرفوعة ، فقد لا يكون الجمع المذكور واضحاً ، إذ لعل الإمام 7 في جوابه على السؤال الأول أجاب بالمرجح الثاني إذ لا بأس بذلك ، ولذا لا نضايق من أن يقتصر الإمام على ذكر المرجح الثاني فقط ـ كما في الحالة الثانية من الحالات الأربع ـ إلاّ أنه مع ذلك يقال أن ظاهر كلام الإمام 7 ان المرجح الثاني على الأقل ليس مقدماً على الأول إذ لو كان مقدماً عليه كان ما ذكره أولا مقيداً لباً بعدم المرجح الثاني وهذا القيد غير مأخوذ في الكلام الثاني ، فلا يكون الجوابان


منصبين على موضوع واحد مع أن ظاهر هما ذلك ، فهذا من قبيل أن يقول الإمام في الجواب عن المتعارضين ( خذ بأشهر الحديثين المتساويين في صفات الراويين لهما ، قال : فإن كانا متساويين في الشهرة قال : خذ بقول أصدقهما ) فالترتيب العكسي ليس محذوره مجرد تقييد الإطلاق بل إضافة إلى ذلك يلزم ورود الكلامين على موضوعين وهذه مخالفة لظهور أقوى من الإطلاق. وإن شئت قلت : إن الكلام الثاني قرينة على أن موضوع كلامه الأول قابل لأن يفرض فيه أحدهما أصدق والآخر غير أصدق وهذا لا يلائم مع الترتيب العكسي ، فيقيد إطلاق كل من المرجحين المتعاكسين بهذا الظهور في دليل الترجيح الآخر وتثبت عرضيتهما في النتيجة.

لا يقال : بناء على العرضية أيضا يكون موضوع الحكم بالترجيح بالمزيّة الأولى مقيداً بعدم اتصاف معارضه بالمزية الثانية.

فإنه يقال : عند عرضية المرجحين يكون الموضوع ذات الخبرين فيكون الجوابان واردين على موضوع واحد ، والفرق هو أن المرجح الثاني بناء على الترتيب العكسي يرفع شأنية الترجيح بالمرجح الأول وأما بناء على العرضية فإنما لا يمكن فعلية الترجيح للتعارض وإلاّ فمقتضي الترجيح فيهما معاً تام.

المادة الثانية ـ الاختلاف بين المرفوعة والمقبولة في الصفات التي جعلت وجوهاً للترجيح في كل منهما. فالمقبولة تضمنت الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية ، وإذا أرجعنا الأورعية إلى الأعدلية ـ لأن المراد من الأعدلية مزيد استقامة على جادة الشرع والالتزام بها ولا يراد من الأورعية غير ذلك ـ رجعت الصفات الترجيحية إلى ثلاث. وأما المرفوعة فقد اقتصر فيها على الترجيح بصفتي الأعدلية والأوثقية. فإذا كانت الصفات في المقبولة ترجيحاً لأحد الحكمين على الآخر لم يكن تعارض بينهما ، وإن كانت ترجيحاً لأحد الخبرين. فإذا استظهرنا من تعداد الصفات المذكورة المثالية فألغينا خصوصية ما ذكر منها وقلنا أن المقصود الترجيح بكل مزية


توجب قرب أحد الخبرين إلى الواقع لم يكن تعارض بينهما أيضا وأما إذا جمدنا على الصفات المذكورة فيهما ، أو حملنا ما جاء في المقبولة بالخصوص على المثالية ولو بقرينة قوله « قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر » دون المرفوعة فهنالك يقع التعارض بينهما حيث أن أحدهما يقتصر على اثنين منها ويحكم بالرجوع إلى المرجحات الأخرى عند فقدهما بخلاف الآخر ، وعلاج هذا التعارض يكون بالتقييد فإن الظاهر من هذه المرجحات أنها مرجحات عديدة في عرض واحد فلا تصل النوبة إلى المرجحات الطولية الأخرى إلاّ بعد اجتيازها.

المادة الثالثة ـ ما إذا فرضنا عدم رجوع الترجيح بالصفات في المقبولة إلى الروايتين فيكون أول المرجحات في المقبولة والمرفوعة معاً الشهرة وآخرها مخالفة العامة ، فإنه حينئذ يقع التعارض بينهما من ناحيتين.

الأولى ـ المعارضة بالعموم من وجه بين نفس المرجحين المتوسطين وهما مخالفة العامة والشهرة ، حيث يكون مقتضى إطلاق كل منهما تقدمه على الآخر وتكون هذه المعارضة من الحالة الأولى من حالات الاختلاف بين دليلي الترجيح الأربع.

الثانية ـ المعارضة بلحاظ مورد افتراق كل من المرجحين ، فلو كان أحدهما موافقاً للكتاب مثلاً وليس راوي الآخر أصدق دلت المقبولة حينئذ على ترجيح الموافق للكتاب بينما تحكم المرفوعة بلزوم الانتقال إلى المرجح الثالث لأنهما متساويان في الصفات ، وتكون هذه المعارضة من الحالة الثانية من حالات الاختلاف بين دليلي الترجيح الأربع.

وحكم المعارضة الثانية هو التخصيص وتقييد إطلاق المرجح الثالث بما إذا لم يكن يوجد المرجح الثاني ، أي أن كلاً من المقبولة والمرفوعة كالصريح في الدلالة على أن المرجح الثالث في طول ما اختصت به من المرجح الثاني ، ومقتضى الجمع بين هاتين الصراحتين تعذر تقديم المرجح الثالث على أي واحد


من المرجحين المتعارضين بالعموم من وجه ، وأما إعمال المرجح الثالث عند تكافؤ المتعارضين في المرجحين المتقدمين عليه بأن كان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر واجداً لصفات الراوي فسوف يأتي الحديث عنه في الجهة القادمة عند ملاحظة النسبة بين رواية الراوندي والمرفوعة.

وحكم المعارضة الأولى التساقط في مورد اجتماع المرجحين المتعارضين بالعموم من وجه وبالتالي عدم تقدم شيء منهما على الآخر.

لا يقال ـ إن المقبولة لا تدل على عدم مرجحية الصفات كي تعارض بالعموم من وجه مع المرفوعة ، لأنّها بينت الترجيح بموافقة الكتاب في مورد فرغ فيه عن تساوي الراويين ـ وهما الحاكمان ـ في الصفات فلا ينعقد فيها إطلاق لحال فقدان أحدهما للصفة الترجيحية حتى يدل على عدم مرجحية الصفات.

فإنه يقال ـ قد تقدم أن مرجحية الصفات لا بد من لحاظها في الراويين المباشرين لسماع الحديث من المعصوم أو في كل طبقات السند على تقدير التنزل وهذا لم يفرض في المقبولة.

المادة الرابعة ـ الاختلاف بين المقبولة والمرفوعة في الترجيح بمخالفة العامة وموافقة الكتاب. والكلام حول هذا الاختلاف يقع في نقاط ثلاث.

الأولى ـ دلالة المقبولة في نفسها على مرجحية موافقة الكتاب كمرجح مستقل ، إذ ربما يعترض على ذلك بأن الوارد فيها الترجيح بمجموع موافقة الكتاب ومخالفة العامة حيث جمع بينهما بواو العطف. إلاّ أن الصحيح مع ذلك إمكان استفادة مرجحية موافقة الكتاب منها على نحو الاستقلال لما جاء فيه من الحكم بعد ذلك بالترجيح بمخالفة العامة في خبرين نسبتهما إلى الكتاب واحدة. فإن هذا دليل على أن موافقة الكتاب مرجح مستقل وإلاّ لكان ضم الكتاب إلى ما هو في نفسه مرجح مستقل لغواً.


الثانية ـ أن المقبولة هل يستفاد منها تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة أم لا ، وتظهر ثمرته فيما إذا كان أحدهما مخالفاً للعامة والآخر موافقاً للكتاب ، فإنه بناء على الطولية يؤخذ بما وافق الكتاب وبناء على العرضية يتكافئان.

وتحقيق الحال في هذه النقطة : أن عطف مخالفة العامة على موافقة الكتاب فيه ثلاثة احتمالات.

١ ـ أن يكون مجموع الأمرين هو المرجح. وقد اتضح مما بيناه في النقطة السابقة سقوط هذا الاحتمال.

٢ ـ أن يكون كل منهما مرجحاً مستقلاً في عرض واحد.

٣ ـ أن يكون العطف حشواً في الكلام جيء به توطئة لبيان الترجيح بمخالفة العامة بعد ذلك ، وإشعاراً بأن آراء العامة كثيراً ما تكون مخالفة مع الكتاب. وهذا الاحتمال لو تم استظهاره تمت الدلالة على الطولية بين الترجيحين. ومما يؤيد أن يكون السائل قد فهم الطولية من كلام الإمام 7 سكوته عن السؤال عن حكم ما إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب غير مخالف للعامة والآخر بالعكس رغم أنه كان بصدد استيعاب كل الشقوق المتصورة للتفاضل والتكافؤ ـ على ما هو واضح من خلال أسئلته ـ فإن الصور المعقولة بلحاظ هذين المرجحين عشرة ، فإن كلاً من الخبرين المتعارضين يتصور في حقه أربع صور. لأنه اما أن يكون واجداً لكلتا المزيتين أو يكون فاقداً لهما معاً أو يكون واجداً لأحدهما فقط ، فهذه صور أربع في كل من الطرفين وينتج من ملاحظتها في الطرفين معاً بضرب الصور الأربع لكل طرف في الأربع من الطرف الآخر ست عشرة صورة يستثنى منها ست مكررة ـ لعدم خصوصية في أحد الخبرين ـ فتبقى عشر صور فهم السائل حكم تسع منها خلال أسئلته المتكررة عن الإمام 7 ، وتبقى صورة واحدة هي التي ذكرناها لا يفهم حكمها إلاّ بناء على استفادة الطولية في الترجيح بالمزيتين.


وتفصيل الصور العشر وكيفية استفادة حكمها من المقبولة على ما يلي :

١ ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيتين معاً والآخر فاقداً لهما معاً ، ويستفاد حكمه صريحاً من قوله 7 « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامة ».

٢ ـ أن يكون أحد الخبرين واجداً للمزيتين معاً والآخر موافقاً للكتاب والعامة معاً ، وحكمه يستفاد من قوله 7 « أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد ».

٣ ـ أن يكون كلاهما موافقاً للكتاب وغير مخالف للعامة ، وحكمه يتبين من قوله 7 ، « قلت : جعلت فداك فإن وافقها ـ يعني العامة ـ الخبران جميعاً ... إلخ » وقد فرض مسبقاً موافقتهما للكتاب فحكم الإمام 7 بالأخذ بما هو أبعد من ميل قضاتهم وحكامهم. إلاّ أن هذه الصورة إنما يستفاد حكمها بالتصريح لو فرض الخبران موافقين للعامة ، وأما لو فرض غير موافقين ولا مخالفين فيستفاد حكمها أيضا بعد أن يضم إلى ذلك استظهار المثالية من فرض موافقة الخبرين للكتاب أو مخالفتهما للعامة ، وكأن المقصود تساويهما من حيث الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

٤ ـ أن يكون أحدهما واجداً للمزيتين معاً والآخر مخالفاً للعامة فقط.

٥ ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب فقط والآخر فاقداً للمزيتين معاً.

ويفهم حكم هاتين الصورتين مما تقدم من استظهار مرجحية موافقة الكتاب مستقلاً.

٦ ـ أن يفقد كلاهما كلتا المزيتين.

٧ ـ أن يكون كلاهما مخالفاً للعامة وليس شيء منهما موافقاً للكتاب.


٨ ـ أن يكون كلاهما واجدين للمزيتين معاً.

وحكم هذه الصور الثلاث يفهم من ذيل المقبولة بعد افتراض السائل تكافؤ الخبرين من ناحية المزيتين ، فإنه وإن فرض في نصّ العبارة موافقتهما للعامة لكن المتفاهم من ذلك عرفاً ـ على ما أشرنا إليه ـ افتراض تساويهما من ناحية هذا الترجيح اما لفقدانهما له معاً أو لوجوده فيهما معاً.

٩ ـ أن يكون أحدهما فاقداً للمزيتين معاً والآخر مخالفاً للعامة غير موافق للكتاب ، وحكم هذه الصورة يفهم أيضا من قوله 7 « ما خالف العامة ففيه الرشاد » بعد فرض السائل موافقتهما للكتاب معاً بمعنى تساويهما من ناحية ذلك الترجيح.

١٠ ـ أن يكون أحدهما موافقاً للكتاب غير مخالف للعامة والآخر على العكس ، وهذه هي الصورة التي لا يستفاد حكمها من مجموع الشقوق إلاّ إذا استفيدت الطولية بين المرجحين.

الثالثة ـ أن المقبولة إن فرضنا دلالتها على الترجيح بالصفات أولا ثم بالشهرة فموافقة الكتاب تكون المرجح الثالث فيها ومخالفة العامة هي المرجح الرابع فيها ـ بناء على الطولية بينهما ـ بينما هي المرجح الثالث في المرفوعة ، فالرجوع إلى مخالفة العامة يكون في المرفوعة مقيداً بقيدين ولكنه في المقبولة مقيد إضافة إلى ذلك بقيد ثالث هو عدم الترجيح بموافقة الكتاب ، فلا بدّ من تقييد المرفوعة بالمقبولة.

وإن فرضنا عدم دلالة المقبولة على مرجحية الصفات فتتفق المقبولة مع المرفوعة في المرجحين الأول والثالث ويختلفان في المذكور ثانياً في كل منهما ، وقد عرفت التعارض بين إطلاقهما بنحو العموم من وجه المقتضي بعد التساقط عرضيتهما وتأخر المرجح الثالث ـ وهو مخالفة العامة ـ عنهما معاً.

المادة الخامسة ـ إن المقبولة قد ورد فيها بعد الترجيح بمخالفة العامة ، ترجيح


ما يكون قضاتهم وحكامهم أبعد عنه ، مع أنه لم يرد ذلك في المرفوعة وإنما ورد الأمر بأخذ ما فيه الحائط للدين.

إلاّ أن المتفاهم عرفاً من مثل هذا البيان أنه مرتبة أدنى في الترجيح بمخالفة العامة وبيان أن هذه المرتبة من البعد عن آرائهم وفتاواهم أيضا كاف في الترجيح.

المادة السادسة ـ أن المقبولة أمرت عند فقدان جميع المرجحات بالاحتياط والوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى أن يلقى الإمام 7 بينما المرفوعة أمرت بالأخذ بما فيه الحائط للدين ، ومع تساويهما من هذه الجهة حكم بالتخيير بينهما.

والبحث عن هذه النقطة يقع من جهتين.

الجهة الأولى ـ في تشخيص أن المستفاد من المرفوعة هل هو الترجيح بموافقة الاحتياط ، أو التساقط والرجوع إلى أصالة الاحتياط في المسألة الفرعية؟

الجهة الثانية ـ في أنه هل يوجد تعارض بينهما في هذه النقطة أم لا؟

أما البحث من الجهة الأولى ، فالظاهر من المرفوعة الترجيح بموافقة الاحتياط ، لا التساقط والرجوع إلى أصالة الاحتياط في المسألة الفرعية. وذلك لأن هذا هو ظاهر قوله فخذ بما فيه الحائطة لدينك. حيث أن المراد باسم الموصول هنا الحديث الموافق للاحتياط والأمر بالأخذ بحديث ظاهر في الإرشاد إلى حجيته في مقابل الآخر ، وهو معنى الترجيح.

هذا ، مضافاً إلى أن الراوي فرض بعد ذلك أن الحديثين معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان ، ويتعين أن يكون نظر الراوي في ذلك إلى الحديث بلحاظ مفاده المطابقي لا بلحاظ مجموع ما يستفاد منه ولو التزاماً بنحو يشمل نفي الآخر ، إذ لو كان نظر الراوي إلى المجموع لما تعقلنا فرض كون الحديثين معاً موافقين للاحتياط في مقابل كونهما معاً مخالفين له ، لأنه إن أراد الموافقة المطلقة فهي مستحيلة مع فرض التعارض كاستحالة المخالفة


المطلقة أيضا ، وإن أراد الموافقة من وجه المساوقة للمخالفة من وجه أيضا فلا يتصور في قباله شق آخر حينئذٍ. وهذا بخلاف ما إذا كان نظر الراوي إلى المفاد المطابقي خاصة ، فإنه يحمل فرض موافقة الحديثين للاحتياط على الموافقة ولو من ناحية ، كما إذا دلت رواية على وجوب التمام ورواية على وجوب التقصير. ويحمل فرض مخالفة الحديثين للاحتياط على المخالفة المطلقة ، كما إذا دلت رواية على أن مواطن التخيير بين القصر والتمام ثلاثة ، هي مكة والمدينة المكرمة ومسجد الكوفة ، ودلت رواية أخرى على أنها ثلاثة ، هي مكة والمدينة والحائر الحسيني. وعلى هذا يتبين أن فرض كون الحديثين معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين لا يساوق عدم إمكان الاحتياط ليقال بأن الحجية التخييرية ضرورة يلتجئ إليها المولى في فرض عدم إمكان إجراء الأصل ـ أي الاحتياط ـ بل يلائم مع إمكان الاحتياط ، وحينئذٍ يكون التفكيك بين صورة كون أحد الحديثين موافقاً للاحتياط دون الآخر وصورة كون كلا الحديثين على نحو واحد من جهة الاحتياط موافقة أو مخالفة والالتزام بالتساقط في الأول دون الثاني ، على خلاف الارتكاز العرفي لمناسبات الحجية ، فإن مجرد كون أحد الخبرين موافقاً للاحتياط دون الآخر كيف يكون سبباً لأسوئية حال الخبرين وسقوطهما عن الحجية معاً.

وأما البحث من الجهة الثانية. فبلحاظ الترجيح بموافقة الاحتياط لا تعارض بين المرفوعة والمقبولة ، شأن كل ترجيح يرد في أحد الدليلين ويسكت عنه الدليل الآخر مع اتفاقهما على الترجيحات الأخرى.

وأما بلحاظ الحكم بالتخيير في ذيل المرفوعة ، وبالتوقف في ذيل المقبولة ، فسوف يأتي البحث عنه في أخبار التوقف والإرجاء.

الجهة الرابعة ـ في نسبة المقبولة والمرفوعة إلى رواية الراوندي. والكلام في ذلك تارة : يقع في نسبة المقبولة معها وأخرى : في نسبة المرفوعة إليها.

أما المقبولة. فإن قلنا : ان الترجيح بالصفات فيها يرجع إلى الحاكمين لا


الراويين وأن الشهرة الواردة فيها ليست من أجل الترجيح وإنما لتمييز الحجة عن اللاحجة ، كانت المقبولة كرواية الراوندي من حيث اشتمالها على ترجيحين ، الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامة ، فإن استفدنا الطولية بين الترجيحين من المقبولة أيضا كانت كرواية الراوندي تماماً وإلاّ اعتمدنا في ذلك على رواية الراوندي بعد عدم دلالة المقبولة على العرضية. كما ونعتمد في الاكتفاء بمطلق المخالفة للعامة ولو بمرتبة عدم ميل قضاتهم وحكامهم إليه في مقام الترجيح على المقبولة بعد سكوت خبر الراوندي عنه.

وإن قلنا : أن المقبولة تدل على الترجيح بالشهرة والصفات ـ ولا نقول به ـ كان مقتضى القاعدة تقييد إطلاق رواية الراوندي بهما. فلا يصل الدور إلى الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة إلاّ بعد تكافؤ الخبرين المتعارضين من ناحية صفات الراوي والشهرة.

وربما يقال : بعدم إمكان تقييد رواية الراوندي بالصفات الترجيحية الواردة في المقبولة. إذ قل ما يتساوى فيها الراويان للحديثين المتعارضين ، فيلزم تقييد رواية الراوندي بفرد نادر.

وقد يفصل في صحة ذلك على حسب التفصيل المتقدم في النسبة بين أخبار التخيير وأخبار الترجيح بالأحدث. من عدم المحذور بناء على مسلك المشهور في باب الأحكام الظاهرية القائل بعدم التنافي فيما بينها إلاّ في فرض الوصول ، فإن الموارد التي لا يعرف فيها امتياز أحد الراويين في الصفات ليست بنادرة نعم لا بد وأن لا يتشكل علم إجمالي في دائرة الأخبار المبتلاة بالمعارض المخالفة مع الكتاب بأن الراوي في بعضها أرجح من حيث الصفات وإلاّ فقد حصل الوصول الإجمالي فيرجع الإشكال.

وأما المرفوعة ، فقد ذكر فيها الشهرة أولا ثم الصفات ثم مخالفة العامة ، فإذا جعلنا الشهرة تمييزاً للحجة عن غيرها فسوف يكون عدد المرجحات


المستفادة منها اثنين كعدد المرجحات في رواية الراوندي مع اختلافهما في الأول منهما فإنه عبارة عن الصفات الترجيحية في المرفوعة وموافقة الكتاب في رواية الراوندي ، فيقع بينهما التعارض بنحو العموم من وجه. فإن لم يدع الجمع العرفي بينهما بالحمل على عرضية المرجحين بتقريب : أنهما لو جمعا في كلام واحد لفهم العرف عرضيتهما والمنفصلات كالمتصلات في مقام العمل ، فلا أقل من التعارض والتساقط في مادة الاجتماع وثبوت العرضية بينهما بحسب النتيجة أيضا. هذا بلحاظ المرجح الأول في كل منهما وأما بلحاظ المرجح الثاني المتفق عليه بينهما ـ وهو الترجيح بمخالفة العامة ـ فإن فقد المرجحان الأولان معاً وصل الدور إليه بلا إشكال ، وإن وجد أحد المرجحين الأولين فلا إشكال أيضا في عدم وصول النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامة ، وإنما الإشكال فيما إذا وجد كل من المرجحين في أحد الطرفين. إذ قد يقال حينئذ : بأن مقتضى الجمود على حاق اللفظ في المرفوعة ورواية الراوندي عدم الترجيح بمخالفة العامة إذ الترجيح بها في الأولى مقيدة بعدم كون أحد المتعارضين واجداً للصفات ، وفي الثانية مقيدة بعدم كون أحدهما موافقاً للكتاب. وهذا الإشكال يرد في كل مرجحين اختلف فيهما أخبار العلاج في مقام تقييد مرجح ثالث متفق عليه بينهما ، كما هو الحال في ملاحظة المقبولة والمرفوعة في الجهة السابقة أيضا.

إلاّ أن الصحيح ، هو التفصيل بين استفادة العرضية للمرجحين المختلفين على أساس الجمع العرفي واستفادتها على أساس التعارض بالعموم من وجه والتساقط في مورد الاجتماع ، فإنه على الأول لا يبعد أن يكون مقتضى الجمع بينهما عرفاً عرضية المرجحين المختلف فيهما وتأخر مرتبة المرجح الثالث عنهما معاً. بنحو تصل النوبة إليه عند تساوي المتعارضين بلحاظهما. وأما بناء على الثاني فلا يمكن استفادة ذلك لاحتمال أن يكون أحد المرجحين المتزاحمين في طول الآخر ثبوتاً وإن سقط إطلاق دليل الترجيح به إثباتاً.


وأما إذا جعلنا الشهرة في المرفوعة أحد المرجحات أيضا فسوف تكون المرجحات المستفادة منها أربعة تتفق معها رواية الراوندي في الأخير فقط ـ وهو مخالفة العامة ـ فلا محالة يتقيد الترجيح بها بفقدان كل تلك المرجحات المتقدمة حملاً للمطلق على المقيد. ويقع التعارض بين تلك المرجحات المتقدمة مع المرجح الأول في رواية الراوندي ـ وهو الترجيح بموافقة الكتاب ـ ويعالج بالنحو المتقدم ، فإن قبلنا الجمع العرفي المشار إليه ـ كما هو الصحيح ـ كانت النتيجة أن الشهرة وموافقة الكتاب في عرض واحد وبعدهما تصل النوبة إلى الصفات ثم إلى مخالفة العامة ، وإن لم نقبل ذلك أصبح إطلاق الترجيح بموافقة الكتاب طرفاً للمعارضة بالعموم من وجه مع إطلاق الترجيح بالشهرة والصفات في المرفوعة ، والنتيجة هي التساقط والعرضية عملياً.

إلاّ أن هذا كله مبنى على تمامية المرفوعة سنداً وقد عرفت عدمها ، وبذلك ينتهي الحديث عن أخبار الترجيح وقد تلخص أن المقدار الثابت بها هو الترجيح بموافقة الكتاب ثم بمخالفة العامة بمراتبها.


أَخبار التوقّفِ والإرجاء

وهناك طائفة من الروايات قد يستدل بها على لزوم التوقف في موارد تعارض الخبرين وعدم الأخذ بشيء منهما. ويمكن تصنيفها بحسب ما جاء في ألسنتها إلى صنفين :

الأول ـ ما ورد بلسان الأمر بالرد إلى الأئمة : من قبيل ما نقله في السرائر نقلاً من كتاب مسائل الرّجال لمحمد بن علي بن عيسى قال : حدثنا محمد ابن أحمد بن محمد بن زياد وموسى بن محمد بن علي بن عيسى قال : « كَتَبتُ إلى الشّيخِ مُوسَى الكَاظمِ أعَزّهُ اللهُ وَأيّدَهُ : أسألُهُ : عَنِ الصّلاةِ ... إلى أن قال : وَسَألتُهُ عَنِ العلمِ المَنقُولِ إلَينَا عَن آبائكِ وَأجدَادِك قَد اختُلِفَ عَلَينَا فيهِ كيفَ نَعمَلُ بهِ عَلى اختلافهِ أو الرّدّ إلَيكَ فِيمَا اختُلِفَ فِيهِ؟ فَكَتَبَ 7 مَا عَلِمتُم أنّهُ قَولُنَا فَالزِمُوهُ وَمَا لَم تَعلَمُوهُ فَرُدّوهُ إلَينَا » (١).

وقد ورد هذا اللسان في روايات عديدة اخترنا هذه الرواية منها بالخصوص لورودها في مورد اختلاف الأحاديث وتعارضها وليست واردة في طبيعي الخبر كي يكون مفادها ـ على تقدير تماميتها ـ نفي حجية خبر الواحد

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ـ ٦ ـ من أبواب المقدمات ، ص ٦٦.


فتعارض بأدلة حجيته خبر الثقة أو تخصص بها.

وهذه الرواية وإن لم تقيد بحسب لسانها بما إذا كان الخبران المتعارضان كلاهما من ثقة ، إلاّ أنه لا يبعد أن يستظهر كون السؤال فيها عن تحديد الموقف بسبب الاختلاف في مورد يفرغ فيه عن لزوم الأخذ بالخبر لو لا الاختلاف ، فتكون واردة في خصوص مورد التعارض بين دليلين معتبرين في أنفسهما.

إلاّ أن الاستدلال بهذه الرواية غير تام أيضا. وذلك

أولا ـ لسقوطها سنداً ، باعتبار الجهل بحال صاحب كتاب مسائل الرّجال الّذي ينقل عنه المحقق ابن إدريس هذه الرواية.

وثانياً ـ على تقدير تماميتها تكون مخصصة بما تم من أدلة الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة. كما أنها معارضة مع أخبار التخيير لو تم شيء منها.

الثاني ـ ما ورد بلسان الأمر بالوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى حين لقاء الإمام 7. وهو ما جاء في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في أخبار الترجيح. حيث ورد فيه بعد افتراض السائل تساوي الخبرين المتعارضين في جميع المرجحات « إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

والاستدلال بهذه الرواية لا ينافي أخبار الترجيح لأنها دلت على التوقف في طول فقدان الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، بل الشهرة والصفات أيضا بناء على استفادة الترجيح بهما من المقبولة. إلاّ أنه قد يتوهم معارضتها مع ما دل على التخيير مطلقاً أو عند فقد الترجيح بأحد المرجحات المنصوصة ، كما في المرفوعة.

والظاهر أنه لا تعارض بين ذيل المقبولة الآمرة بالإرجاء بعد فرض تكافؤ


الخبرين المتعارضين مع أدلة التخيير ، وذلك لما تقدمت الإشارة إليه من أن المقبولة بصدد علاج التعارض بلحاظ موردها ، وهو مورد الخصومة واختلاف الحاكمين ، ومن الواضح أنه في هذا المورد لا معنى للحكم بالترجيح بموافقة الاحتياط ـ كما جاء في ذيل المرفوعة ـ مع تشبث كل من الخصمين بحقه ولا للحكم بالتخيير ـ كما في أخبار التخيير ـ.

نعم ، قد يقال : أن ذيل المرفوعة التي هي بنفسها من أخبار التخيير حيث أنه يدل على أن التخيير في طول استواء نسبة الحديثين إلى الاحتياط إثباتاً ونفياً ، يكون معارضاً لما دل على التخيير بين المتعارضين اللذين يكون أحدهما موافقاً للاحتياط دون الآخر. ولا يبعد الجمع العرفي عندئذٍ بحمل الأمر بالأخذ بالأحوط على الاستحباب ، فإن الأمر الطريقي يتصور فيه الوجوب والاستحباب أيضا تبعاً لمرتبة شدة الاهتمام وضعفه ، فكأن اللازم طريقيا اختيار أحدهما والمستحب طريقياً اختيار ما كان موافقاً للاحتياط.


تنبيهاتُ المسألة الثانية

التنبيه الأول ـ لو افترض تمامية الاستدلال بأخبار التخيير في حالات التعارض مطلقاً ، أو في فرض عدم وجدان أحد المرجحات السابقة ، فهل يثبت بها التخيير في المسألة الأصولية أو التخيير في المسألة الفقهية؟

والبحث عن ذلك يقع في عدة جهات.

الجهة الأولى ـ في الفرق بين التخييرين. لا إشكال في أن الحكم بالتخيير في حالات التعارض حكم شرعي ظاهري وليس واقعياً. وإنما البحث حول تشخيص كونه حكماً تكليفياً فرعياً فيكون التخيير في المسألة الفقهية ، أو حكماً وضعياً أصولياً فيكون التخيير في المسألة الأصولية.

والمراد بالحكم التكليفي الفرعي ـ التخيير الفقهي ـ الترخيص العملي للمكلفين في تطبيق سلوكهم وفق أحد الدليلين المتعارضين.

والمراد بالحكم الوضعي الأصولي ـ التخيير الأصولي ـ حجية أحد المتعارضين ، وهو الّذي يختاره المكلف ـ بإحدى الصياغات المعقولة التي سوف يأتي الحديث عنها ـ فالفرق الثبوتي بين التخييرين يتمثل في أن الحكم التكليفي العملي للمكلفين لا يتحدد في التخيير الأصولي بنفس ما هو المجعول


التشريعي فيه ـ كما هو الحال في التخيير الفقهي ـ ، وإنما يحدده ما سوف يختاره المكلف فيكون مفاده حجة عليه تعييناً. فإذا كان أحد المتعارضين يدل على وجوب القصر في المواطن الأربعة مثلاً واختاره المكلف صار حجة عليه ، وأصبح تكليفه العملي وجوب القصر فيها شأنه في ذلك شأن ما إذا لم يكن لدليل وجوب القصر معارض أصلاً. وهذه هي النتيجة المتوخاة من التخيير في الحجية ـ التخيير الأصولي ـ

الجهة الثانية ـ في معقولية هذين النحوين للتخيير ثبوتاً. لا إشكال في معقولية التخيير الفقهي وذلك بأن يرخص المولى أن يُطبق العبد عمله على طبق أحد الخبرين بنحو لا يخالفهما معاً. وإنما يقع البحث في كيفية صياغة التخيير في المسألة الأصولية فهل يراد به سنخ ما يقال في الوجوب التخييري أولا؟ والصياغة المعروفة في باب جعل الوجوب التخييري تكون بأحد شكلين إما إيجاب الجامع بين الفعلين أو إيجاب كل منهما مشروطاً بترك الآخر. والأول منهما يستبطن جعلاً واحداً بينما الثاني يتضمن جعلين مستقلين ، والمعقول من هذين الشكلين لكيفية جعل الحكم التخييري في المقام هو الثاني لا الأول فهنا دعويان لا بد من تمحيصهما.

الدعوى الأولى ـ عدم معقولية جعل الحجية التخييرية كجعل واحد على حد جعل وجوب تخييري للجامع.

الدعوى الثانية ـ معقولية جعل الحجية التخييرية كجعلين مشروطين.

أما برهان الدعوى الأولى : فهو أن الغرض المرغوب فيه في باب الوجوب التخييري حمل المكلف على إيجاد أحد الفردين من الجامع لا كليهما ، وهذا الغرض يحصل بتعلق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود ، فإن إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود وإن كان لا يسري إلى الأفراد ـ لأن سريانه إلى بعض دون بعض ترجيح بلا مرجح وسريانه إلى الجميع خلف كونه بنحو


صرف الوجود ـ لكنه مع ذلك يبعث المكلف نحو الإتيان بفرد من الأفراد لأن الجامع لا يتحقق إلاّ بذلك. وأما الغرض المطلوب من الحجية التخييرية فهو تنجيز مفاد أحد الدليلين المتعارضين تعييناً كما إذا لم يكن له معارض وهذا لا يتحقق عن طريق جعل الحجية للجامع بين الخبرين. وتوضيحه : أن الخبرين تارة : يفترض أنهما يدوران بين النفي والإثبات ـ أي الإلزام والترخيص ـ وأخرى : يفترض أنهما معاً إلزاميان ـ كما لو دل أحدهما على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة ـ وفي كلا التقديرين لا نتوصل إلى غرض الحجية التخييرية من جعلها للجامع بين الدليلين ، إذ غاية ما يلزم من ذلك قيام الحجة على الجامع بين الإلزام والترخيص في الأول والإلزامين في الثاني ، والأول لا أثر له لأنه ليس بأحسن حالاً من العلم الوجداني بالجامع بين الترخيص والإلزام ، والثاني يوجب الاحتياط والإتيان بالطرفين وكلاهما خلاف الغرض المطلوب من وراء جعل الحجية التخييرية وهو تعيّن أحد الطرفين حين الالتزام به. بل لا بد في تحقق هذا الغرض من أن ينصب الجعل على شخص أحد الدليلين المتعارضين ، وقد عرفت أن الجعل المتعلق بالجامع بنحو صرف الوجود يستحيل سريانه إلى أفراد ذلك الجامع.

وأما الدعوى الثانية ـ فجعل الحجية المشروطة في الطرفين أمر معقول ومنسجم مع الغرض المطلوب من الحجية التخييرية ، إلاّ أن الكلام في كيفية تحديد الشرط لهذه الحجية بنحو لا يستوجب الجمع بين الحجيتين في بعض الأحيان. وقد ذكر المشهور أن الشرط عبارة عن التزام المكلف بأحد الخبرين فكل ما التزم به من المتعارضين يكون هو الحجة فعلاً عليه ، وبما أن العاقل لا يتأتى منه التزامان متهافتان فلا يتفق أن تجتمع في حقه حجيتان وإن كان يجب عليه أحد الالتزامين وجوباً طريقياً.

وهذا المعنى أمر معقول وإن كان لا يخلو عن غرابة تشريعية باعتبار أن الالتزام لم يكن شرطاً في حجية دليل في غير موارد التعارض فكيف يكون


شرطاً لها في موارد التعارض. على أن الموافقة الالتزامية بأحد الدليلين التي تكون نوعاً من التشريع قبل حجية ذلك الدليل إنما يسمح بها في طول الحجية فكيف صارت الحجية في طولها. ويمكن تفادي هذه الاستغرابات بتبديل الشرط وجعله عبارة عن ما يختاره المكلف مع لزوم أحد الاختيارين عليه. كما يمكن فرض إعطاء أمر تشريع إحدى الحجيتين إلى المكلف نفسه ، فهو الّذي يجعل أحد الخبرين حجة لنفسه ، إلاّ أن هذا يستبطن أيضا غرابة تجويز التشريع وإعطائه بيد المكلف.

الجهة الثالثة ـ فيما يفتي به الفقيه في موارد التعارض. أما على القول بالتخيير في المسألة الفقهية فيتعين على الفقيه أن يفتي بنفس هذا التخيير كحكم تكليفي ظاهري.

وأما إذا قيل بالتخيير في المسألة الأصولية ، وفرض اختيار الفقيه لأحد الخبرين المتعارضين ، فهل يفتي المقلدين بالتخيير الأصولي أو يفتيهم بمفاد الخبر الّذي تعين عليه.

أما إفتاؤه بالتخيير الأصولي فلا محذور فيه عدا ما قد يتوهم من أن الأحكام الأصولية مختصة بالمجتهد ولا تثبت في حق المقلدين ، وقد أبطلنا هذا التوهم مفصلاً في مبحث حجية القطع من هذه البحوث.

وأما إفتاؤه بمفاد الخبر الّذي صار حجة في حقه ففيه جنبتان لا بد من ملاحظتهما.

الجنبة الأولى ـ كونه إخباراً منه بما أنزله الله وفرضه على عباده.

الجنبة الثانية ـ كونه حجة على المقلدين بحيث يتعين عليهم الالتزام به والسير على طبقه.

والجنبة الأولى من هاتين لا إشكال فيها بعد فرض حجية الخبر الّذي اختاره ، فيمكنه أن يخبر بمدلوله كحكم شرعي ، كما هو الحال في غير موارد


التعارض. وأما الجنبة الثانية ، فيشكل إثباتها في المقام ، والوجه في ذلك : أن التقليد ليس أمراً تعبدياً صرفاً ، وإنما هو بملاك رجوع الجاهل إلى العالم والخبير ، وإفتاء الفقيه بمفاد الخبر الّذي أصبح حجة عليه في قبال الخبر الآخر لم يكن على أساس علم وخبرة مفقودة للمقلد وإنما لمحض الرغبة والاختيار الشخصي فالمقلد شأنه شأن المجتهد في أنه يختار أي الخبرين شاء ويكون هو الحجة عليه.

الجهة الرابعة ـ في أن أي التخييرين يستفاد من أخبار التخيير على تقدير تماميتها؟ وبما أن التخيير الأصولي هو المشتمل على مئونة زائدة فبالإمكان تقريب استفادته من أخبار التخيير بأحد الوجوه التالية.

الأول ـ قد ورد في ألسنة بعض تلك الأخبار التعبير بالأخذ ، من قبيل قوله 7 « فموسع عليك بأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » ومقتضى إطلاقه شموله للأخذ العملي والأخذ المفادي معاً ، أي الأخذ بمفاد الخبر والالتزام به ، والتوسعة في الأخذ المفادي مساوق مع الحجية الأصولية. وهذا التقريب لا يرد في لسان آخر من قبيل قوله 7 « موسع عليك حتى ترى القائم » ولا يقال : أن السعة بإطلاقها تشمل السعة في العمل والسعة في الأخذ ، فإن السعة عرفاً تكون في مقابل الضيق ولا ضيق عرفاً من عدم التخيير الأصولي المساوق لعدم صحة الالتزام بمفاد معين وإنما الضيق في الاحتياط العملي فيكون السعة عبارة عن التخيير العملي الفقهي أيضا.

الثاني ـ استظهار ناظرية أخبار التخيير إلى دليل الحجية العام لتدارك قصوره عن شمول موارد التعارض ، فيكون مفادها جعل الحجية أيضا لا مجرد التخيير العملي.

الثالث ـ أن غاية ما يمكن أن يقال في أخبار التخيير عدم دلالتها على التخيير الأصولي ، فيكون التخيير العملي هو القدر المتيقن من مفادها لا دلالتها على عدم التخيير الأصولي. وحينئذ بالإمكان إثبات الحجية التخييرية بالتلفيق


بين المتيقن من مفاد أخبار التخيير وبين دليل الحجية العام ، فإن إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما في حال الالتزام به إنما سقط بالمعارضة مع إطلاقه لحجية الآخر في نفس هذه الحال ولكن أخبار التخيير تسقط هذا الإطلاق على كل تقدير ، لأن التخيير سواء كان أصولياً أو فقهياً لا يجتمع مع الحجية المطلقة لأحد الطرفين ، فلا يبقى مانع من التمسك بإطلاق دليل الحجية العام لإثبات الحجية المشروطة في الطرفين وهو معنى الحجية التخييرية.

لا يقال ـ دليل الحجية العام بعد أن ابتلي بالإجمال والتعارض الداخليّ لا يمكن التمسك به ولو وجد قرينة منفصلة ترفع أحد إطلاقاته المتعارضة.

فإنه يقال ـ ظاهر دليل الحجية شمول كل من الطرفين مشروطاً بعدم الحجية المطلقة في الطرف الآخر ، وقد ثبت هذا الشرط بأخبار التخيير.

التنبيه الثاني ـ هل التخيير على تقدير ثبوته ابتدائي أم استمراري؟ والبحث عن ذلك على مستوى ما يستفاد من أخبار التخيير أولا ، وما تقتضيه الأصول العملية ثانياً.

أما البحث الأول ، فضابطه ، أنه تارة : نستفيد من أخبار التخيير قضية حملية مطلقة شمولية فكأنه قال : المأخوذ من الخبرين المتعارضين حجة ، فيكون التخيير استمرارياً ، وأخرى : نستفيد منها الأمر بأخذ أحد الخبرين ـ بنحو الإطلاق البدلي لأن متعلق الأمر ملحوظ بنحو صرف الوجود دائماً ـ فإن كان يستفاد منها الانحلالية بلحاظ الوقائع الطولية في عمود الزمان فأيضاً يستفاد استمرارية التخيير ، وإن كان بنحو يلحظ فيه مجموع الوقائع كواقعة واحدة قد أمرنا بأخذ أحد الدليلين المتعارضين فيها فهذا مطلق بدلي قد امتثل باختيار أحد الخبرين في أول الأمر فلا تبقى فيه دلالة على استمرارية التخيير بعد ذلك.

وأما البحث الثاني ـ فالأصل العملي الّذي يمكن أن يتمسك به لإثبات


استمرارية التخيير إنما هو الاستصحاب. وقد أورد عليه : بأن موضوع الحكم المستصحب غير محفوظ فيه ، لأنه عبارة عن المتحير الّذي لا حجة تعيينية له والمكلف بعد أن اختار أحد المتعارضين صار حجة عليه وخرج عن التخيير. وأجيب عن هذا الاعتراض : بأن الموضوع ليس هو المتحيّر إذ لم يؤخذ ذلك في أدلة التخيير وإنما المأخوذ فيها الخبران المتعارضان وهو بقاء محفوظ كما هو حدوثاً.

وتحقيق الكلام في هذا الاستصحاب ، أنه تارة : نبي على التخيير الأصولي ونحاول إثبات استمراره بالاستصحاب ، وأخرى : نبني على التخيير الفقهي ونريد إثبات بقائه بالاستصحاب.

أما التخيير الأصولي ، فهو منحل إلى حكمين ـ على ما تقدمت الإشارة إليه ـ حجية ما اختاره المكلف ، والأمر بأخذ أحدهما كوجوب طريقي. فإن أريد إجراء الاستصحاب في الحكم الثاني ، فاستصحابه لا يثبت حجية ما أخذ به في الزمان الثاني إذ ليس ترتبها عليه من باب ترتب الحكم على موضوعه كما هو واضح. وإن أريد إجراء الاستصحاب في الحكم الأول فمرجعه إلى استصحاب تعليقي ، بأن يقال : إن ما اختاره في المرة الثانية لو كان يختاره سابقاً كان حجة عليه فهو كذلك بقاء ، بل هذا الاستصحاب أشد إشكالاً من استصحاب الحرمة التعليقية للعصير العنبي الّذي بنى المحقق الخراسانيّ ـ قده ـ على جريانه ، لأن إشكال التعارض بينه وبين استصحاب الحلية التنجيزية كان يمكن التغلب عليه هناك بدعوى : أن الحلية مغياة بعدم الغليان والحلية المغياة مع الحرمة التعليقية متوالمتان بوجودهما الوجداني الواقعي فكيف يتعارضان بوجودهما الاستصحابي الظاهري ، واستصحاب الحلية المغياة ينفي الحلية الفعلية بعد حصول الغاية لا قبلها. وأما في المقام فدعوى التعارض المذكور بين هذا الاستصحاب واستصحاب الحجية الفعلية لما أخذ به ابتداء لا جواب عليها ، لأن الحجية بقاء لا يعلم كونها مغياة بعدم الأخذ


بالآخر كما كانت الحلية مغياة هنالك ليكون عدم الأخذ بالآخر شرطاً في حدوث الحجية فقط.

وأما التخيير الفقهي الّذي هو حكم تكليفي ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه.

التنبيه الثالث ـ في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي. قد يقال بإطلاق لسان الروايات المتضمنة لعلاج حالات التعارض بين الحديثين لموارد التعارض غير المستقر أيضا فيما إذا كان بين مدلول الدليلين تعارضاً حقيقياً ـ كما في غير الورود من أقسام التعارض غير المستقر ـ ، فإن هذا القسم من التعارض وإن لم يكن سارياً إلى دليل الحجية ، إلاّ أن الميزان في الرجوع إلى أخبار العلاج ليس هو التنافي في الحجية ، بل الوارد في مفادها مطلق التعارض والاختلاف في الحديث وهو ثابت حتى مع عدم سريان التنافي إلى دليل الحجية.

إلاّ أن الصحيح عدم تمامية هذا البيان. وما يمكن أن يذكر في الجواب عليه أحد وجوه نقتصر منها على ما يلي :

الوجه الأول ـ أن الظاهر من أسئلة الرّواة لأخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة من جراء التنافي الّذي يجدونه بين الحديثين ، ومن البعيد عادة أن يقع الراوي بما هو إنسان عرفي في التحير مع وجود جمع عرفي بين ، المتعارضين فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الأخبار إلى موارد التعارض المستحكم خاصة.

وهذا الوجه غير تام. لأن التحيّر في الحجة وإن لم يكن موجوداً لدى الإنسان العرفي في موارد الجمع العرفي ، إلاّ أن هذا لا ينافي أن يكون سؤاله عن مطلق موارد الاختلاف والتعارض ـ كما هو مقتضى الإطلاق ـ لإمكان أن يكون مستفهماً عن احتمال وجود طريقة خاصة متبعة لدى الشارع في موارد التنافي بين أحاديثه.


هذا ، مضافاً : إلى أن في أخبار العلاج ما ورد الحكم فيه من الإمام 7 ابتداء من دون سؤال وتحير يفترض من قبل الراوي ، بل عمدة روايات العلاج ـ وهي صحيحة الراوندي ـ قد ورد العلاج فيها من قبل الإمام 7 فلئن فرض عدم الإطلاق في غيرها كفى ما فيها من الإطلاق.

الوجه الثاني ـ أن غاية ما يثبت بهذا البيان دلالة أخبار العلاج بالإطلاق على ما يخالف مقتضى السيرة والبناء العقلائي في حالات التعارض غير المستقر فيدور الأمر بين تخصيص إطلاقها بالسيرة أو ردع السيرة بإطلاقهما ، سنخ ما يقال في الآيات الناهية عن العمل بالظن مع انعقاد السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة ، وبعد عدم تعين أحدهما يتساقطان ويرجع إلى استصحاب مقتضى السيرة الثابت في أول الشريعة ولو بالإمضاء.

وهذا الجواب أيضا غير تام ، لنكات وخصوصيات متقدمة في أبحاث حجية خبر الواحد نقتصر في المقام على ذكر نكتة منها هي : أن السيرة إذا ما تعارضت مع دليل لفظي يكون مقتضي الحجية تاماً فيه واحتمل في حقه أن يكون رادعاً عن السيرة المعارضة ، كان مقتضى القاعدة هو التمسك بالدليل اللفظي ، لتمامية مقتضي الحجية فيه والشك في المانع وهو لا يعتنى به في باب الأدلة اللفظية. وهذا بخلاف السيرة فإن الشك في إمضائها يساوق الشك في ثبوت مقتضي الحجية فيها.

الوجه الثالث ـ أن السيرة العقلائية القائمة على كبرى الجمع العرفي ـ خصوصاً في حق من كان ديدنه تفريق القرائن وذكرها منفصلة كالشارع الأقدس ـ مستحكمة في أذهان العرف بدرجة لا يصلح مجرد إطلاق في بعض أخبار العلاج للردع عنها بل الأمر على العكس تماماً إذ يكون وضوح هذه الكبرى ورسوخها في أذهانهم بنفسه قرينة مانعة عن انعقاد الإطلاق في تلك الأخبار.

الوجه الرابع ـ ان أخبار العلاج يمكن أن يستفاد من بعضها ما يدل على


عدم شمول أحكام العلاج الوارد فيها لموارد الجمع العرفي ، فإن صحيحة الراوندي التي أهم هذه الأخبار قد افترض فيها حجية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه وبقطع النّظر عن معارضته بحديث آخر ، ولذلك صار في مقام علاج التعارض بين خبرين متعارضين أحدهما مخالف مع الكتاب والآخر موافق معه ، فتدل على أن الخبر المعارض مع الكتاب حجة في نفسه على الأقل في موارد المخالفة بنحو التخصيص والتقييد ، فإذا صح أن يكون حجة في مقابل الكتاب كان حجة في قبال خبر الثقة أيضا.

وهذا الوجه صحيح لو لا أنه لا يثبت تمام المدعى ، لما تقدمت الإشارة إليه من أن هذه الرواية ليست في مقام البيان من هذه الناحية ليمكن التمسك بإطلاقها وإخراج موارد التعارض المستقر عنها ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن منها وهو أوضح موارد الجمع العرفي وأخفّها عناية.

الوجه الخامس ـ التمسك بالسيرة المتشرعية المستقرة في زمن الأئمة : فيخصص بها إطلاق أخبار العلاج. وهذا الوجه تام لو لا دعوى اختصاصه بموارد الجمع العرفي الواضحة ، لأن ثبوت سيرة متشرعية لأصحاب الأئمة : في تمام موارد التعارض غير المستقر غير واضح ، إذ لم نظفر بشواهد تاريخية تدل على أنهم كانوا يقدمون كل ما هو أظهر على الظاهر مثلاً ، وإن كان يوجد بعض الشواهد على تقديمهم مثل الخاصّ والمقيد على العام والمطلق ، وكذلك الجمع العرفي بحمل دليل الأمر على الاستصحاب عند ورود الترخيص ، حيث ورد هذا اللون من الجمع في أقدم الآثار الأصولية عند العامة والخاصة ، بل قد ورد التأكيد على الجمع بنحو التخصيص والتقييد في الروايات التي شبهت أحاديثهم بالقرآن الكريم من حيث أن فيه العام والخاصّ والناسخ والمنسوخ.

التنبيه الرابع ـ في شمول أخبار العلاج لموارد التعارض المستقر غير المستوعب لتمام مدلول الدليل أي التعارض بالعموم من وجه. وقد نقل السيد


الأستاذ ـ دام ظله ـ عن أستاذه المحقق النائيني ـ قده ـ التفصيل في ذلك بين المرجحات السندية والمرجحات الدلالية ، فالمرجح السندي لا يأتي في العامين من وجه لأن تطبيقه إما يستلزم إسقاط الخبرين في مادة الافتراق لكل منهما وهو بلا موجب ، وإما يستلزم التبعيض في السند الواحد وهو غير معقول. وهذا بخلاف المرجح الدلالي إذ بالإمكان أعماله في مادة الاجتماع فقط لتعدد الدلالات.

وأورد عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بأن الدال وإن كان واحداً والدلالة متعددة ، إلاّ أن الأحكام المترتبة في باب النقل والاخبار بعضها يترتب على الدال وبعضها يترتب على الدلالة ، فحرمة الكذب مثلاً موضوعها الدال فإذا قال ( كل من في البلد قد خرج ) كان كذباً واحداً وبالتالي حراماً واحداً رغم تعدد الدلالات بعدد أفراد من في البلد ، بينما حرمة الغيبة موضوعها الدلالة فتعدد بتعددها ، فإذا قال ( كل هؤلاء فساق ) ارتكب مخالفة تحريم الغيبة بعدد أفرادهم. والحجية حكم مترتب على الدلالة لا على الدال ، فالعام من وجه وإن كان دالاً واحداً لكن دلالته في مادة الاجتماع غير دلالته في مادة الافتراق وكل منهما موضوع لحجية مستقلة ـ بناء على عدم التبعية بين الدلالات التضمنية في الحجية ـ فلا محذور في سقوطه عن الحجية في خصوص مادة الاجتماع لوجود ترجيح في معارضه (١).

أقول : في كلا الكلامين نظر.

أما ما أفاده السيد الأستاذ ، فلأن في المقام دالين ودلالتين ، فنقل الراوي دال أول وله مدلول واحد وهو صدور الحديث عن الإمام 7 ، وحديث الإمام 7 دال ثان وله دلالات عديدة بعدد ما يتضمنه من أحكام ، وليس المقصود في المرجح السندي ترجيح أحد كلامي المعصوم 7 على كلامه

__________________

(١) نقل باختصار من مباني الاستنباط الجزء الأول ، ص ٤٩٨ ـ ٥٠١.


الآخر بمرجح ليقال أن الحجية تكون بلحاظ الدلالة وهي متعددة ، وإنما المقصود ترجيح أحد الدالين الأولين على الآخر ، أي ترجيح نقل أحد الراويين على نقل الآخر. وكل من النقلين له دلالة واحدة ومدلول واحد.

وأما ما أفاده المحقق النائيني ـ قده ـ فالإشكال عليه من حيث نهج البحث ، إذ ليس من الصحيح أن يقال : بأن إسقاط العام في مادة الافتراق بلا موجب فلا يمكن تطبيق المرجحات السندية عليه ، بل لا بد من النّظر إلى الأخبار العلاجية ليرى هل تشمل بحسب مدلولها العامين من وجه أم لا ، فلو فرض شمولها لهما وفرض عدم إمكان التفكيك بين مادة الاجتماع ومادة الافتراق سقط العام حتى في مورد افترقه ولم يكن بلا موجب بل موجب أخبار العلاج.

وتحقيق الكلام يستدعي ذكر أمور.

الأول ـ إن التفكيك سنداً بين مادة الاجتماع ومادة الافتراق في موارد التعارض بالعموم من وجه ممكن ثبوتاً ، لأن لكل من الراويين شهادتين بحسب الحقيقة شهادة إيجابية بأن الإمام 7 قال العام ، وشهادة سلبية سكوتية بعدم استثنائه مورد الاجتماع عن حكمه. والتعارض إنما يكون بلحاظ الشهادتين الأخيرتين ، لأن عدم تعقب الاستثناء هو الّذي حقق الظهور في مادة الاجتماع فتعارض الحديثان ، فإذا أسقط الشارع الشهادة السلبيّة لإحدى الروايتين أمكن بقاء الشهادة الإيجابية فيها على الحجية وبها نثبت حكم العام في مادة الافتراق.

الثاني ـ لا شك في أنه إذا انصب الترجيح بحسب ظاهر دليله على النقل والرواية كان ظاهراً في أنه ترجيح لأحد السندين على الآخر ، وأما إذا انصب الترجيح على المضمون المنقول فهو يناسب مع أن يكون ترجيحاً لأحد السندين فيكون تخصيصاً في دليل حجيته ، أو ترجيحاً لإحدى الدلالتين وتخصيصاً في دليل حجيتها ، إلاّ أنه لا يستفاد منه أكثر من الترجيح الفعلي الملائم مع كونه


لقوة أحد المضمونين في مقابل الآخر ولو من غير جهة الصدق والكذب ، ولهذا يمكن أن يكون له إطلاق للخبرين القطعيين أيضا.

وعلى هذا الأساس نقول : إن ظاهر الترجيح بالصفات في أخبار العلاج ـ بناء على استفادته منها ـ كونه بلحاظ السندين ، بقرينة قوله 7 « خذ بما يقول أعدلهما ، أو الحكم ما حكم به أعدلهما » حيث أضاف فيه الأخذ إلى قول الراوي. على أن مناسبات الحكم والموضوع أيضا تقتضي أن يكون الترجيح بالصفات ترجيحاً سندياً. وأما الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فالظاهر من مثل رواية الراوندي « فما وافق كتاب الله فخذوه ... إلخ » أنه ترجيح فعلي لأحد المضمونين على الآخر فيشمل بإطلاقه الحديثين القطعيين أيضا.

الثالث ـ إنا وإن تعقّلنا في الأمر الأول إمكان التفكيك السندي في موارد العامين من وجه ، إلاّ أن هذا وحده لا يكفي للحكم به إثباتاً ، بل لا بد من ملاحظة لسان أخبار الترجيح. وحينئذ نقول : إن مهم دليل الترجيح ـ وهو رواية الراوندي ـ قد أضيف فيها الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة إلى الحديثين حيث قال 7 « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ». وهذا لا يشمل موارد العامين من وجه ، سواء استفدنا منه الترجيح السندي أو المضموني. لأن الحديث لا يصدق على الشهادة السكوتية السلبية مستقلاً ، كما لا يصدق على جزء مدلول الحديث وهو خصوص دلالته في مادة الاجتماع ـ فإن أريد تطبيقه على الشهادة السلبية بالخصوص ـ بناء كونه على مرجحاً سندياً ـ أو على جزء المدلول ـ بناء على كونه مرجحاً مضمونياً ـ فهو غير صحيح لعدم انطباق العنوان المأخوذ في دليل الترجيح عليهما. وإن أريد تطبيقه على الشهادة الإيجابية أو تمام الحديث فهذا مناف مع ظهور سياقي نفهمه لأخبار العلاج يقضي بأنها بصدد العلاج والإسقاط بمقدار التعارض لا أكثر من ذلك ـ ولعل هذا هو مقصود المحقق


النائيني ـ قده ـ من قوله أن سقوط أحد العامين من وجه في مادة افتراقه بلا موجب.

لا يقال : لا وجه للجمود على التعبير بالحديث الوارد في لسان الدليل ، ولهذا يتعدى إلى موارد التعارض بين خبرين ينقلان تقريرين أو فعلين من المعصوم 7 متنافيين في الكشف عن الحكم الشرعي.

فإنه يقال : إن مثل هذا التعدي يصح في النقل المستقل لا النقل الضمني التحليلي ، كما هو الحال في المقام.

نعم ، يمكن أن يدعى ، بناء على كون الترجيح بموافقة الكتاب الكريم أو بمخالفة العامة ترجيحاً فعلياً لمطلق المضمون الموافق للكتاب أو المخالف للعامة لإحدى الشهادتين على الأخرى ، أن العرف يتعدى من حالات التعارض بنحو التباين إلى حالات التعارض بنحو العموم من وجه ، فإن موافقة الكتاب أو مخالفة العامة كما تستوجب قوة مضمون تمام المدلول المعارض كذلك تستوجب قوة جزء المدلول المعارض ، إلاّ أن تحصيل الجزم بصحة هذا التعدي لا يخلو من إشكال.

الرابع ـ أن موارد التعارض بنحو العموم من وجه قد قسمه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ إلى ثلاثة أقسام ، إذ قد يكون كلاهما بالوضع وقد يكون كلاهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة وقد يكون أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة ، فالأوّل هو القدر المتيقن لتطبيق المرجحات عليه ، بناء على استظهار جريانه في التعارض غير المستوعب ، والثاني يقدم فيه العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي ، وقد تقدم البحث عنه مفصلاً ، وأما الثالث فقد استشكل ـ دام ظله ـ في تطبيق المرجحات عليه ، بدعوى : أن المرجحات إنما ثبتت في الحديثين المتعارضين والإطلاق ليس حديثاً وإنما هو بحكم العقل ومقدمات


الحكمة (١). وهذا الكلام قد ذكره السيد الأستاذ في عدة مواضع.

ونحن نحتمل في تفسيره أحد وجوه تقدمت الإشارة إليها وكلها مما لا يمكن المساعدة عليه في المقام.

الأول ـ أن يكون المقصود أن الإطلاق إنما يستفاد من السكوت وعدم ذكر القيد ، والحديث عبارة عن الكلام فلا يصدق على السكوت.

وفيه : أولا : أن مقتضى الجمود على كلمة الحديث وإن كان هو الاقتصار على الكلام اللفظي ، إلاّ أن المتفاهم عرفاً وبحسب مناسبات الحكم والموضوع أن موضوع أحكام العلاج كل سنّتين متعارضتين ، سواء كانا كلامين أو فعلين أو تقريرين ، ولذلك لا نستشكل في تطبيق المرجحات على خبرين متعارضين نقلا عن المعصوم فعلين متنافيين في الكشف عن الحكم الشرعي ، فإذا فرض شمول أخبار العلاج للتعارض بنحو العموم من وجه الّذي يكون فيه التعارض بين جزء مدلولي الحديثين ، فلا فرق بين أن تكون الدلالة سكوتية أو لفظية أو مختلفة.

وثانياً ـ أن مقدمات الحكمة والتي من جملتها السكوت عن القيد حيثية تعليلية عرفاً لإيجاد الدلالة والظهور في الكلام ، فيكون الإطلاق مدلولاً للفظ عرفاً وليس أمراً سكوتياً بحتاً.

وثالثاً ـ لو أريد إعمال هذا النحو من التدقيق لأمكن إسراء الإشكال إلى العموم الوضعي أيضا ، باعتبار أن المدلول التصوري فيه وإن كان لفظاً ، إلاّ أن المدلول التصديقي الّذي بلحاظه يكون التعارض بين الدليلين ليس لفظاً وإنما يقتنص من سكوته عن التخصيص المتصل.

الثاني ـ أن يكون المقصود أن الإطلاق ليس ظهوراً مستفاداً من كلام المعصوم 7 أو سكوته بل بحكم العقل ، والترجيح إنما يكون لأحد الحديثين

__________________

(١) مباني الاستنباط الجزء الرابع ، ص ٥٠٣.


الصادرين عن المعصوم 7 على الآخر لا لأحد الحكمين العقليين على الآخر.

وفيه : أن الإطلاق ومقدمات الحكمة عبارة عن تحليل حال المتكلم في مقام الكشف عن تمام مرامه من خطابه باعتباره إنساناً عاقلاً ملتفتاً ، ولا يقصد من مقدمات الحكمة البراهين العقلية كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

الثالث ـ أن يكون المقصود أن الإطلاق موقوف على تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان ، وهو أعم من البيان المتصل والمنفصل ومع مجيء المطلقين المتعارضين لا ينعقد موضوع الإطلاق في شيء منهما ليكون من التعارض بين حديثين.

وفيه : أولا ـ عدم تمامية المبنى ، على ما تقدم توضيحه عند التعرض لنظرية التقييد.

وثانياً ـ لو سلّمت تماميته ، فلا يتم في المطلقين ، إلاّ على معنى غير تام للبيان المأخوذ عدمه في مقدمات الحكمة ، على ما تقدم شرحه في أبحاث التعارض المستقر أيضا.

ثم إن هذا الاستشكال وإن ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في المطلقين المتعارضين بنحو العموم من وجه ولكنه جار حرفياً في المتباينين إذا كانت دلالتهما بالإطلاق وقد عرفت عدم تماميته. وان الصحيح على القول بشمول أخبار الترجيح للتعارض المستقر غير المستوعب لتمام المدلول عدم الفرق بين المطلق الحكمي والعام الوضعي.

التنبيه الخامس ـ قد ورد في كلمات جملة من المحققين أن الترجيح بالمرجحات السندية مقدم على الترجيح بما سموه بالمرجح الجهتي ـ كالترجيح


بمخالفة العامة ـ ولعل نظرهم يعم مطلق الترجيح غير السندي ـ وقد ذكروا في وجهه : أن الترجيح الجهتي إنما تصل النوبة إليه بعد الفراغ عن صدور الحديث فيكون إعمال المرجح السندي في مرتبة متقدمة فلا يبقى موضوع للترجيح الجهتي.

والتحقيق : أننا تارة : نفترض ظهور دليل الترجيح في الترتيب بين بعض المرجحات وبعض ، وأخرى : نفترض أن كلا من المرجح السندي وغير السندي قد ورد في دليل خاص ، فلم يعرف وجود ترتيب بينهما ، وثالثة : نفرض أن دليل الترجيح يستفاد منه الترجيح بالمرجحات المنصوصة لا باعتبار خصوصية فيها بل لما تستلزمها من قوة لأحد الدليلين في مقام الكشف. فهذه فرضيات ثلاث يختلف الموقف من مسألة تقديم المرجح السندي على غيره باختلافها.

فبناء على الفرضية الأولى ، لا مجال إلاّ للالتزام بالترتيب الوارد في أدلّة الترجيح ، وهذا واضح.

وأما بناء على الفرضية الثانية ، فتارة : نفرض أن مصب الترجيح بحسب ظاهر دليل الترجيح السندي هو السند وبحسب ظاهر دليل الترجيح الجهتي هو الجهة بعد الفراغ عن الصدور ، وأخرى : نفرض أن مصب الترجيح فيهما معاً هو الصدور وإنما الفرق بينهما في نكتة الترجيح ، فقد تكون حيثية في السند نفسه وقد تكون حيثية في الجهة.

وهناك تقريبان يفهمان من كلماتهم لتخريج الترتيب بين المرجحين يختص أحدهما بالافتراض الأول بينما يجري ثانيهما على كلا التقديرين.

أما التقريب الأول ـ فهو أن المرجح الجهتي قد أخذ في موضوعه الفراغ عن الصدور ، إذ لو لم يكن صادراً من المعصوم 7 فلا معنى لكونه بداعي الجد أو التقية ، فيكون المرجح الصدوري الجاري في مرحلة الصدور حاكماً


على المرجح الجهتي الجاري في مرحلة الدلالة أو رافعاً لموضوعه.

وهذا البيان بحاجة إلى تمحيص وتوضيح ، وبهذا الصدد لا بد وأن نعرف مسبقاً : أن الترجيح بالجهة لا يتفرع على الفراغ عن صدور الخبرين التعارضين معاً ، لأن دليل الترجيح بمخالفة العامة لا يعبدنا بصدور الخبر الموافق تقية ، بل غايته نفي الصدور الجدي عنه ، فهو ينفي الخاصّ بما هو خاص الّذي يناسب أن يكون صادراً على وجه التقية أو غير صادر أصلاً ، فلا نحتاج إلى المفروغية عن الصدور في الخبر الموافق للعامة وإنما نحتاج إلى ذلك في الخبر المخالف. وحينئذ نقول :

إن الترجيح الجهتي الّذي يفترض توقّفه على الفراغ عن مرحلة الصدور نتصوره بأحد أنحاء ثلاثة.

الأول ـ أن يكون قد أخذ في موضوع الترجيح الجهتي إحراز صدور الخبر المخالف.

وعلى هذا التقدير ، ان فرض تساوي الخبرين من حيث المرجحات السندية فالخبر المخالف للعامة نحرز صدوره لا بدليل الترجيح الجهتي ـ فإن دليل أي حكم لا يمكن أن يحرز موضوع نفسه ـ بل بدليل الحجية العام ، فإنه بضمه إلى دليل الترجيح يثبت صدور الخبر المخالف جداً وعدم صدور الخبر الموافق جداً.

وإن فرض أن الخبر الموافق للعامة أرجح صدوراً ، فدليل الترجيح الصدوري يلغي التعبد بصدور الخبر المخالف فلا يمكن إحراز صدوره لا بدليل الترجيح الجهتي لأنه لا يثبت موضوعه ولا بدليل الحجية العام لأنه مخصص بدليل الترجيح الصدوري فينتفي موضوع الترجيح الجهتي. وهكذا يثبت في هذا التقدير حكومة الترجيح السندي على الجهتي.

الثاني ـ أن يكون موضوع الترجيح الجهتي الصدور الواقعي للحديث. وعلى هذا التقدير ان فرض تساوي الخبرين من حيث المرجحات أثبتنا صدور


الخبر المخالف بدليل الحجية ورجحناه على معارضه بنفس البيان المتقدم على التقدير السابق.

وأما على فرض رجحان الخبر الموافق للعامة سنداً ، فإن فرض أن دليل الترجيح السندي كان ينفي صدور الخبر المرجوح فبذلك يحكم على الترجيح السندي ظاهراً ، حيث يتعبدنا بعدم صدور الخبر المخالف للعامة. وإن فرض ان غايته عدم التعبد بصدور الخبر المرجوح ، أمكننا أن نضم استصحاب عدم الصدور لنفي موضوع الترجيح الجهتي أيضا. وعلى كل حال فالنتيجة على هذا التقدير تقديم المرجح السندي على الجهتي أيضا.

الثالث ـ أن يكون موضوع الترجيح الجهتي تمامية مقتضي الحجية في سند الخبر المخالف. فدليل المرجح الجهتي يرجع إلى قضية شرطية ، شرطها كون الخبر المخالف خبر ثقة ، وجزائها إسقاط أصالة الجد في الخبر الموافق فلا يمكن نفي موضوع الترجيح الجهتي بدليل الترجيح السندي ، لأن موضوعه ـ وهو كون الخبر من ثقة وواجداً لشرائط الحجية ـ ثابت وجداناً ولا يوجد ما ينفيه ولو تعبداً ، فيكون المرجحان السندي وغير السندي في عرض واحد.

والمتعين من هذه الأنحاء هو الأخير لو لا وجود قرينة خاصة في دليل الترجيح الجهتي تقتضي أحد النحوين الأولين. لأن مجرد كون الترجيح جهتياً لا يقتضي تقييداً زائداً على كون الخبر في نفسه تام الملاك ، فيكون مقتضى إطلاق دليل الترجيح الجهتي لفرض وجود الترجيح السندي وعدمه تعين النحو الأخير.

وأما التقريب الثاني ـ فحاصله : أن هناك فرقاً بين المرجح الجهتي والمرجح السندي في نكتة الترجيح ، فالمرجح السندي يكون بملاك استحكام الخبر الأرجح وقوة مفاده في الكشف عن الحكم الشرعي ، بينما المرجح الجهتي يكون بملاك وهن في كاشفية الخبر المرجوح ينشأ عن موافقته للعامة المستوجب لاحتمال صدوره تقية ولكنه وهن يختص بموارد التعارض فقط ولذلك لا


يستوجب حمل الخبر على التقية في غير موارد التعارض. فيتحصل من هذا التقريب أمران.

١ ـ ان مرجح الترجيح بمخالفة العامة إلى أمارية موافقة العامة على التقية.

٢ ـ ان هذه الأمارية تختص بصورة التعارض وعدم إمكان الأخذ بالخبرين معاً.

ويستنتج من مجموع هذين الأمرين : أنه كلما أمكن حمل التعارض في رتبة سابقة على الترجيح الجهتي والعمل بالخبر الموافق للعامة لم يصح حمله على التقية. ودليل المرجح السندي يحقق هذا الشرط فيرتفع موضوع الترجيح الجهتي.

وكلا هذين الأمرين مما لا يمكن المساعدة عليه.

إذ يرد على الأول : احتمال كون الترجيح بمخالفة العامة أيضا بملاك استحكام الخبر المخالف في الكشف عن الحكم الشرعي لعدم تطرق احتمال التقية فيه فيكون درجة كشفه أقوى من درجة الكشف في الآخر على حد الأقوائية في الكشف الثابتة في خبر الأعدل.

ويرد على الثاني : إن هذه الأمارية وإن لم تكن مطلقة ولكنها مقيدة بحصول التعارض بلحاظ دليل الحجية العام فلا يجدي رفع التعارض بلحاظ دليل ثانوي متمثل في أخبار العلاج في انتفاء موضوع الترجيح الجهتي. وإن شئت قلت : أن القدر المتيقن من تقييد هذه الأمارية ما إذا كان التعارض بين خبرين واجدين لمقتضي الحجية في أنفسهما ولا قرينة على تقييد دليل الترجيح الجهتي بافتراض انحفاظ المعارضة بلحاظ كل دليل.

وأما بناء على الفرضية الثالثة ـ وهي ما إذا استفيد من دليل العلاج ترجيح أقوى الخبرين على الآخر ـ فلا بد حينئذ من ملاحظة درجة القوة في الكشف التي تحصل على أساس كل من المرجحين ، فيجري حينئذ حساب الاحتمالات


ثم يؤخذ بأقواهما كشفاً بحسب النتيجة. وهذا مطلب لا يوجد ضابط نوعي له بل يختلف باختلاف الحالات والملابسات.

التنبيه السادس ـ في علاقة أخبار العلاج بأخبار الطرح. ربما يتصور التعارض بين الروايات الآمرة بطرح ما خالف الكتاب الكريم وأخبار العلاج الدالة على التخيير أو الدالة على الترجيح التي لم يرد فيها الترجيح بموافقة الكتاب أو ورد متأخراً عن الترجيح بسائر المرجحات ، بدعوى : أن كلاً من الطائفتين تورد تخصيصاً على دليل الحجية العام والنسبة بينهما العموم من وجه. إلاّ أن الصحيح ، عدم التعارض بينهما. لما أشرنا إليه خلال كلماتنا السابقة من أن المستظهر والمتفاهم عرفاً من سياق أخبار العلاج ورودها سؤالاً وجواباً في مورد يفرغ فيه عن اشتمال الخبرين المتعارضين على شرائط الحجية العامة بحيث كان منشأ التوقف والحيرة منحصراً في التعارض والاختلاف ، فهي تعالج مشكلة التنافي في اقتضاءات دليل الحجية العام لشمول المتعارضين فحسب ، بينما أخبار الطرح تدل على عدم مقتضي الحجية فيما يخالف الكتاب الكريم في نفسه ، وهذا معناه ورود أخبار الطرح على أخبار العلاج.

هذا ، مضافاً : إلى أن المتعين على تقدير وقوع التعارض بين الطائفتين تقديم أخبار الطرح على أخبار العلاج ، لإباء مساق جملة منها عن التخصيص أولا ، وكونها بحكم الأخص ثانياً ، إذ لا يحتمل الفرق في سقوط ما يخالف الكتاب عن الحجية بين ما لا يكون له معارض فيسقط وما يكون له معارض فيبقى على الحجية تخييراً أو تعييناً ، فإن معارضته مع حديث آخر يوجب مزيد وهن ملاك في حجيته لا تأكده ورجحانه.


مُلتَقَى المَسألتَين

بعد أن استعرضنا أخبار العلاج لا بأس بملاحظة ما ورد فيها من الترجيحات لنرى هل بالإمكان تخريج شيء منها على مقتضى القاعدة فتلتقي المسألة الأولى مع المسألة الثانية في النتائج أم لا يمكن ذلك.

وتفصيل الكلام في ذلك. أن المرجحات المذكورة في أخبار الترجيح كما يلي :

١ ـ الترجيح بموافقة الكتاب الكريم.

٢ ـ الترجيح بمخالفة العامة.

وهذان هما المرجحان اللذان تم ثبوتهما بأخبار العلاج.

٣ ـ الترجيح بالشهرة.

٤ ـ الترجيح بالصفات.

٥ ـ الترجيح بالأحدثية.

وفيما يلي نتحدث عن كل واحد من هذه المرجحات ، ومدى إمكان تخريجه على مقتضى القاعدة الأولية. فنقول :

أما الترجيح بموافقة الكتاب ، فيمكن تخريجه على مقتضى القاعدة فيما إذا


تم تخصيص دليل الحجية العام بأخبار الطرح ـ وقد تقدم شرحه مفصلاً فيما سبق ـ إذ أنها كانت تشمل جميع أنحاء المخالفة مع الكتاب الكريم وإنما خرجنا عن إطلاقها في القدر المتيقن الثابت حجيته بسيرة الأصحاب أو بما يستفاد من بعض أخبار العلاج ، إلاّ أن هذا القدر المتيقن إنما يكون في غير موارد التعارض جزماً لقوة احتمال عدم حجيته في مثل هذه الحالة فيكون مشمولاً لإطلاق أخبار الطرح التي تنفي مقتضي الحجية فيه ، فيسلم معارضه ويكون حجة على القاعدة. من غير فرق في ذلك بين حالة التعارض المستوعب لتمام مدلول الخبرين أو حالة التعارض غير المستوعب ـ التعارض بنحو العموم من وجه ـ غاية الأمر ، أن الساقط عن الحجية في الحالة الأولى أصل الخبر المخالف للكتاب وفي الحالة الثانية الإطلاق المعارض لأنه المشمول لعموم الموصول في أخبار طرح ما خالف الكتاب.

وأما الترجيح بمخالفة العامة ، فتخريجه على مقتضى القاعدة الأولية يبتني على تطبيق قاعدة حمل الظاهر على النص بلحاظ مرحلة الدلالة التصديقية الجدية بعد عدم إمكان الجمع العرفي بلحاظ مرحلة الدلالة الاستعمالية. حيث أن الحديث المخالف للعامة يكون نصاً في الجدية لو قيس إلى الخبر الموافق معهم ، وقد تقدم في بحث التعارض المستقر صحة هذا النحو من الجمع بين الدليلين المتعارضين إذا أوجبت الموافقة والمخالفة مع مجموع الملابسات اختلافاً في درجة الظهور في الجدية (١) وهذا أيضا لا يفرق فيه بين المعارضة المستوعبة لتمام المدلول أو غير المستوعبة بعد أن كان احتمال التقية في إطلاق الحديث دون أصله معقولاً أيضا.

إلاّ أن هناك اعتراضاً وجهه صاحب الكفاية ـ قده ـ على حمل الخبر الموافق للعامة على التقية كجمع عرفي بأنه يستلزم سقوط الخبر الموافق عن

__________________

(١) ص ٢٠٠.


الحجية رأساً إذا كان التعارض بنحو التباين ، إذ لا معنى للتعبد بسند ثم حمله على التقية وهو معنى سريان التعارض إلى دليل الحجية العام (١).

وهذا الاعتراض ، قد أجبنا عنه في بحث التعارض غير المستقر لدى التعرض لشرائط التعارض غير المستقر العامة (٢).

وأما الطولية بين هذين الترجيحين المستفاد من صحيحة الراوندي فبالإمكان تخريجها على أساس مقتضى القاعدة أيضا ، باعتبار أن ترجيح المخالف للعامة إنما كان على أساس الجمع العرفي وأما ترجيح الموافق للكتاب فلعدم مقتضي الحجية في الخبر المخالف له ، ومن الواضح أن إعمال قواعد الجمع العرفي فرع حجية الخبرين في نفسيهما والمفروض عدم شمول دليل الحجية للخبر المخالف للكتاب وإن كان مخالفاً للعامة.

وأما الترجيح بالشهرة ، فلو أريد بها الشهرة الروائيّة المساوقة مع التواتر والاستفاضة ـ كما استفادة السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فتخريج الترجيح بها يكون بنفس البيان المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب بعد افتراض استفادة التعميم من أخبار الطرح لكل ما خالف دليلاً قطعياً كتاباً كان أم سنّة. وإن أريد بها الشهرة في الفتوى والعمل ، فإذا كشفت هذه الشهرة في مورد عن وجود خلل في الخبر المخالف للمشهور ولعمل الأصحاب أوجبت سقوطه عن الحجية أيضا ، بناء على ما تقدم في أبحاث حجية خبر الثقة من إناطة حجيته بعدم حصول وثوق بخلل فيه.

وأما الترجيح بصفات الراوي ـ كالأعدلية والأوثقية ـ فإن فرض أنها كانت توجب احتمال التعيين في حجية خبر الأعدل أمكننا لإثبات الترجيح

__________________

(١) كفاية الأصول الجزء الثاني ، ص ٤١٤ ( طبعة المشكيني ).

(٢) راجع ص ٢٠٠.


بها أن نطبق ما تقدم في المسألة الأولى من قاعدة التعيين عند الدوران بينه وبين التخير في الحجية ضمن التحفظات التي ذكرناها هناك. ودعوى : وجود احتمال تعين خبر غير الأعدل أيضا لكونه هاشمياً أو كريماً أو غيرهما من الصفات مثلاً. مدفوعة : بأن احتمال دخل مثل هذه الصفات غير المرتبطة بمرحلة الكشف والصدق منفي بإطلاق دليل الحجية العام الظاهر في أن ملاكات الحجية قائمة على أساس الكاشفية والطريقية.

وأما الترجيح بالأحدثية. فقد يخرّج على مقتضى القاعدة الأولية أيضا ، بدعوى : أن الأمر يدور بين رفع اليد عن إطلاق دليل الحجية الأزماني للخبر غير الأحدث أو رفع اليد عن أصل إطلاقه للخبر الأحدث ، والتخصيص الأزماني أهون من التخصيص الأفرادي.

لا يقال ـ أن الأحكام المدلول عليها في الأخبار وأحاديث الأئمة ثابتة منذ صدر الإسلام وليست مشرعة من قبلهم ، فتكون الأحاديث كلها ناظرة إلى فترة زمنية واحدة للتشريعات.

فإنه يقال ـ قد تقدم مثل هذه الشبهة في أبحاث نظرية انقلاب النسبة ، وأجبنا عنها هناك بأن تقدم الحكم الشرعي الواقعي المفاد بالحديث المتأخر صدوراً لا يعني تقدم الحكم الظاهري بحجيته ، كما هو واضح.

إلاّ أن هذا التخريج غير تام ، لعدم صحة أصله الموضوعي ، إذ لا فرق في تخصيص الدليل أو تقييده بين عمومه الأزماني أو الأفرادي. على أنه لو سلمنا ذلك فهو إنما يجدي فيما إذا كان لدينا دليل لفظي بحت يدلنا على حجية خبر الواحد وأما إذا كان الدليل لبياً عقلائياً أو محمولاً عليه فلا إطلاق


له لموارد التعارض بعد وضوح عدم كون الأحدثية نكتة تقتضي الترجيح في الطرق والأمارات العقلائية.

والحمد لله أولا وآخراً

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


فهرس

التفريض..................................................................... ٥

القدمة.................................................................. ٧_١٠

تمهيد ١١_٤٢

تعريف التعارض....................................................... ١٣_٢٥

التعارض لغة................................................................ ١٣

التعارض اصطلاحاً........................................................... ١٣

تعريف التعارض عند المشهور................................................. ١٣

تعريف التعارض عند المحقق الخراساني ـ قده ـ................................ ١٣

التعارض في كلمات مدرسة المحقق النائيني ـ قده ـ............................. ١٤

هل تكون مواد الجمع العرفي من التنافي بين الدلالتين؟........................... ١٧

هل تكون مواد الجمع العرفي من التنافي بين المدلولين؟............................ ١٨

اختلاف صيغة التعريف باختلاف القصد من التعارض........................... ٢٠

التعارض بين الأصلين وبين الأصل والأمارة :................................... ٢٣

التعارض بين الدليل اللفظي والدليل العقلي :................................... ٢٥

التَعارُض والتَزاحُم...................................................... ٢٦_٢٧

كيف يمكن إخراج باب التزاحم عن التعارض.................................. ٢٦


نسبة البحث الأصولي في التزاحم إلى البحث الأصولي في التعارض................. ٢٧

كيفَ نشَأ التعَارضُ في الأدلةِ الشرعيَّة.................................... ٢٨_٤١

أهم العوامل التي يمكن أن تذكر لتفسير ظاهرة التعارض في الروايات.............. ٢٨

١ ـ الجانب الذاتي للتعارض :............................................... ٢٩

٢ ـ تغير أحكام الشريعة عن طريق النسخ :................................... ٢٩

٣ ـ ضياع القرائن :........................................................ ٣٠

٤ ـ تصرف الرّواة والنقل بالمعنى :........................................... ٣٢

٥ ـ التدرج في البيان :..................................................... ٣٣

٦ ـ التقية :............................................................... ٣٤

٧ ـ ملاحظة ظروف الراوي :............................................... ٣٨

٨ ـ الدس والتزوير :....................................................... ٣٩

تقسيم التعارض إلى التعارض المستقر وغير المستقر............................... ٤٢

القِسمُ الأوّل التَعارُض غير المُستَقِرّ٤٣_٢١٦

دَرس التَعارُض غير المُستَقِرّ مِن زاوية دَليل الحجيَّة تمهيد.......................... ٤٥

الوُرود بالمَعنى الأعَمّ٤٧_١٦١

نظريّة الوُرُود العَامّة(التخصيص _ الورود)................................ ٤٨_٤٩

الوُرُودُ مِن أَحَدِ الجانِبَين واقسامها........................................ ٥٠_٥٣

الوُرُود مِن كِلا الجانبَين واقسامها........................................ ٥٤_٥٦


أَحكامُ الوُرُود.......................................................... ٥٧_٥٨

الورود بالمعني الاعم

٥ ـ التزاحمُ ونظريّة الوُرود٥٩_١٦١

تفسِير التزاحُم على أَساسِ نظريّة الوُرُود.................................. ٦١_٦٧

الوجوه التي يمكن أن نذكر لتفسير التزاحم على أساس الورود.................... ٦٢

التخريج الفني لتفسير التزاحم على أساس الورود................................ ٦٤

المناقشة في التخريج المذكور ودفعها............................................ ٦٥

مُرجّحاتُ بابِ التزاحُم................................................ ٦٨_١٠٣

الأول ـ ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية .......... ٦٨

المعاني المختلفة للقدرة الشرعية وملاحظة الترجيح على أساس كل منها............. ٦٨

مقتضى القاعدة إذا شك في كون القدرة شرعية ................................ ٧١

صور الشك ومقتضى الأصل العملي في كل منها................................ ٧١

مقتضى إطلاق الدليل الاجتهادي في صور الشك............................... ٧٣

ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل ......................................... ٨١

الترجيح بالأهمية ............................................................ ٨٧

١ ـ ترجيح معلوم الأهمية ................................................... ٨٧

٢ ـ ترجيح محتمل الأهمية................................................... ٩٠

٣ ـ الترجيح بقوة احتمال الأهمية ............................................ ٩٣

سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية ......................... ٩٤

طرق إثبات الأهمية ......................................................... ٩٧


ترجيح الأسبق زماناً........................................................ ١٠١

حُكم التَزاحُم في حَالةِ عَدَم الترجيح................................... ١٠٤_١٠٨

تنبيهاتُ بابِ التزاحُم................................................ ١٠٩_١٦١

التنبيه الأول : جريان التزاحم في المتضادين دائماً.............................. ١٠٩

التنبيه الثاني :موارد أدعى خروجها عن التزاهم................................ ١١٠

الموارد الاول _ إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة الشرعية............... ١١١

تطبيقات للمورد الاول..................................................... ١١٢

المورد الثاني _المتزاحمان الطوليان زماناً........................................ ١١٨

المورد الثالث _اذا توقف الواجب على فعل الحرام............................. ١٢١

المورد الرابع _موارد اجتماع الامر والنهي.................................... ١٢٣

التنبيه الثالث_التزاحم بين الواجبات الضمنية................................. ١٢٥

الصيغ المتعددة في البرهنة على عدم جريان التزاحم في الواجبات الضمنية......... ١٢٦

التنبيه الرابع : التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق............................ ١٣٠

التنبيه الخامس _عدم جريان التزاحم في موارد الجهل بأحد التكليفين المتضادين.... ١٣٤

التنبيه السادس _ تطبيق فكرة التزاحم على مسألة فقهية معروفة................ ١٣٧

التنبيه السابع :التزاحم بين مقتضيات الاحكام................................. ١٤٢

التزاحم الملاكي............................................................ ١٤٢

١ ـ طرق إثبات الملاكين في باب التزاحم .................................. ١٤٤

٢ ـ أحكام التزاحم الملاكي................................................ ١٥١


أ _ تطبيق مرجحات باب التزاحم على التزاحم............................... ١٥١

ب_ تطبيق قواعد باب التعارض :........................................... ١٥٥

١ ـ المرجحات الدلالية :.................................................. ١٥٥

٢ ـ المرجحات السندية :.................................................. ١٥٧

٣ ـ التساقط :........................................................... ١٥٨

التنبيه الثامن ـ في التزاحم بين المستحبات.................................... ١٥٩

القرينية بأنواعِهَا١٦٣_٢٠٤

القَرينيّة الشخصِيَّة................................................... ١٦٥_١٧٣

نظرية الحكومة :........................................................... ١٦٥

أقسام الحكومة :........................................................... ١٦٨

أحكام الحكومة :.......................................................... ١٧١

القَرينيّة النوعِيَّة..................................................... ١٧٣_١٨٩

معني القرينية.............................................................. ١٧٣

مراحل الظهور والدلالة..................................................... ١٧٣

مناشىءتكون الظهور السياقي............................................... ١٧٥

التقييد............................................................. ١٨٠_١٨٤

هل تتوقف على عدم الدال على التقييد ولو منفصلً؟.......................... ١٨١

ما يمكن أن يكون أساساً لتقديم المقيدات المنفصلة.............................. ١٨٤

التخصيص......................................................... ١٨٥_١٩٦

التخصيص بالمتصل......................................................... ١٨٥

اقسام التخصيص المتصل.................................................... ١٨٥


التخصيص بالمنفصل........................................................ ١٩٣

الأظهَرُ والظاهِر..................................................... ١٩٧_٢٠١

الاظهر المتصل بالظاهر..................................................... ١٩٧

الاظهر والظاهر المنفصلان.................................................. ١٩٩

النسبة بين الدليل القرنية ودليل حجية ذي القرنية............................. ٢٠١

وجه تقديم سند القرنية الظني على دلالة ذي القرينة............................ ٢٠٢

احكام عامة للثعارض المستقر ٢٠٥_٢١٦

الشروط العامة للتعارض غير المستقر.................................. ٢٠٧_٢١٣

نتائج الجمع العرفي.................................................. ٢١٤_٢١٦

القسم الثاني التعارض المستقر٢١٧_٤٣٤

تقسيم البحث في التعارض المستقر........................................... ٢١٩

المسالة الاولى

حكم التعارض المستقر من زاوية دليل الحجية........................... ٢٢١_٣٠١

١ ـ حُكم التَعارُضِ المُستَقِرّ غير المستوعِبِ ........................... ٢٢٣_٢٢٤

٢ ـ حُكمُ التَعارُضِ المُستَقِرّ المُستَوعِبِ ............................... ٢٢٥_٢٣١

فرضيّات التَعارُضِ المُستقِرّ وأَحكامُها.................................. ٢٣٢_٢٧٦

أ ـ تحديد مركز التعارض بين الدليلين :..................................... ٢٣٢

ب ـ تأسيس الأصل في فرضيات التعارض .................................. ٢٣٦


١ ـ حكم التعارض بلحاظ دليل الحجية الواحد ............................. ٢٣٦

أ ـ مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين دليلين ............................ ٢٣٦

المحاولات التي يمكن أن تذكر لعدم التساقط................................... ٢٣٧

تلخيص واستنتاج ......................................................... ٢٥٥

تفصيل المحقق العراقي_ قده_في تحديد مقتضي الاصل الاولي.................... ٢٥٦

ب ـ نظرية نفي الثالث.................................................... ٢٥٨

عدم تبعية الدلالة الالتزامية _ للمطابقة في الحجية............................. ٢٥٩

ج ـ التعارض بين الأدلة المتعددة ........................................... ٢٦٥

د ـ مقتضى الأصل الثانوي ............................................... ٢٦٧

٢ ـ حكم التعارض بلحاظ دليلين للحجية :................................. ٢٧٤

تطبيقاتٌ مشكوكٌ فيها لِلتَعارُض المُستَقِرّ وبَيَانُ أحكَامِهَا.................. ٢٧٧_٣١٢

أ ـ تعارض الدلالة الوضعيّة مع الدلالة الحكمية .............................. ٢٧٧

ب ـ تعارض الإطلاق البدلي والشمولي...................................... ٢٨٣

ج ـ نظرية انقلاب النسبة ................................................. ٢٨٨

الجهة الأولى _ في تحقيق أصل النظرية انقلاب النسبة........................... ٢٨٨

الجهة الثانية ـ في استعراض صور التعارض بين ادلة متعدد..................... ٢٩٤

الجهة الثالثة_في النتائج المشتركة على كلا القولين............................. ٣٠٩

المَسألة الثَانية

حكم التعارض المستقر من زاوِيَة الأخبار الخاصّة........................ ٣١٣_٤١٨

أَخبارُ الطَّرح....................................................... ٣١٥_٣٣٥


ما دل على الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين .... ٣١٥

ما دل على الغاء ما ليس عليه شاهد من الكتاب............................... ٣١٨

مادل على طرح ما يخالف والاخذ بما يوافق................................... ٣٢٤

نقاط حول مفاد أخبار الطرح............................................... ٣٢٥

أَخبارُ العِلاج....................................................... ٣٣٧_٤١٤

اخبار التخيير....................................................... ٣٣٨_٣٤٩

رواية سماعة............................................................... ٣٣٨

رواية علي بن مهزيار....................................................... ٣٤١

مكاتبة الحميري............................................................ ٣٤٣

مرسلة الحارث بن المغيره.................................................... ٣٤٦

مرسلة الحسن بن الجهم..................................................... ٣٤٧

مرفوعة زرارة............................................................. ٣٤٧

أَخبارُ الترجيح...................................................... ٣٤٩_٣٨٩

١ ـ الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.................................. ٣٤٩

رواية قطب الدين سعيد بن هبة الله الرواندي................................. ٣٤٩

مناقشات عديدة في سند الرواية............................................. ٣٥٠

مفادرواية الرواندي........................................................ ٣٥٧

رواية الحسين بن السري.................................................... ٣٥٨

رواية الحسن بن الجهم...................................................... ٣٥٩

رواية سماعة بن مهران ..................................................... ٣٥٩

رواية عبيد بن زرارة....................................................... ٣٦٠

رواية الحسن بن الجهم...................................................... ٣٦٠

٢ ـ الترجيح بالشهرة..................................................... ٣٦١

رواية الطبرسي............................................................ ٣٦١

٣ ـ الترجيح بالأحدثية.................................................... ٣٦٢


رواية أبي عمروالكناني...................................................... ٣٦٢

رواية الحسين بن المختار.................................................... ٣٦٢

٤_الترجيح بالصفات...................................................... ٣٦٧

مقبولة عمربن حنظلة....................................................... ٣٦٧

مرفوعة زرارة............................................................. ٣٦٩

حول سند الروايتين........................................................ ٣٧٠

حول مفادهما.............................................................. ٣٧٠

هل يستفادالترجيح بالشهرة منهما........................................... ٣٧١

هل يستفاد الترجيح بالصفات منهما......................................... ٣٧٢

في النسبة بين المرفوعة والمقبولة ونقاط الاختلاف بينهما........................ ٣٧٥

نسبتهما مع رواية الرواندي................................................. ٣٨٦

أخبار التوقف والارجاء ............................................. ٣٩٠_٣٩٣

ماورد بلسان الرد الي المعصوم............................................... ٣٩٠

ما ورد فيه الامر بالتوقف................................................... ٣٩١

تنبيهات المسالة الثانية................................................ ٣٩٣_٤١٤

التخيير الفقهي والتخيير الاصولي............................................. ٣٩٣

هل التخيير المستفاد من الاخبار استمراري او ابتداعي؟......................... ٣٩٨

هل تشمل اخبار العلاج موارد التعارض غير المستقر؟.......................... ٤٠٠

هل تشمل اخبار العلاج موارد التعارض المستقر غير المستوعب؟................. ٤٠٢

هل هناك ترتيب بين المرححات؟............................................ ٤٠٨

النسبة بين اخبار العلاج واخبار الطرح....................................... ٤١٣

ملتقي المسالتين..................................................... ٤١٤_٤١٨

تخريج الترجيحات الواردة في اخبار العلاج على مقتضي القاعدة................. ٤١٤

فهرس الموضوعات......................................................... ٤١٩

بحوث في علم الأصول - ٧

المؤلف:
الصفحات: 427