بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبين والمرسلين وقائد الاولياء

والصالحين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ... فهذا هوالجزء الخامس من كتابنا ( بحوث في علم الاصول ) والذي يمثل الجزء الثاني من مباحث الحجج والاصول العلمية ، وهو يشتمل على بحوث البراءة والتخيير والاحتياط من مباحث الاصول العلمية التي تلقيناها خلال الدورة الاولى والثانية من دروس سيدنا واستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السّيد الصدر ( قدره ) ، حيث انه قد انتهى في دورته الثانية التي القاها من بحوث هذا العلم الى مبحث اصالة الاحتياط ، فدا همته الظروف العصيبة التي حاكها المستعمرون للكيد بالاسلام ورموزه وقادته بعد ان انتصرت الثورة الاسلامية المباركة في ايران بقياده الامام القائد اية الله العظمى السّيد الخميني ( دام ظلّه الشريف ) فتصدت الطغمة الكافرة الحاكمة في العراق للوقوف بوجه امتدادات هذا النور الالهي وخنق انفاس الثائرين والسائرين في طريقه فكان ضمن حلقات هذا المسلسل الاجرامي محاصرة سيّدنا الشهيد في بيته في النجف الاشرف ردحاَ من الزمن مما أدى الى تصعيد الثورة في وجدان الامة وتصاعد العمليات الجهادية هنا وهناك فلم يتمالك الجلادون الا أن يقدموا على قتل هذا القائد الرباني والقمة الرسالية الشامخة والقيمة الحضارية الخالدة فافجعوا بذلك العلم والايمان معاً بخسارة عظمى لايسدّها شىء فإنَا لله وانّا اليه راجعون حسينا الله ونعم الوكيل ، انّه نعم المولى ونعم النصير.

قم المقدسة ـ محمود الهاشمي

١٤٠٦ـ هـ


مباحث الحجج

تمهيد

ـ المفهوم الأصولي لفكرة الأصل العملي

ومراحل تطوره.

ـ حقيقة الأصل العملي الشرعي.

ـ تقسيم الأصول العملية الشرعية إلى محرزة وغيرها.

ـ تقسيم الأصول العملية إلى البراءة

والتخيير والاحتياط والاستصحاب.



مباحث الأصول العملية

قبل الشروع في استعراض الأصول والقواعد العملية لا بد من تقديم مقدمات :

المقدمة الأولى في شرح المفهوم الأصولي عن فكرة الأصل العملي وما مر به من مراحل متطورة حتى انتهيا إلى التحديد والتنقيح الّذي نفهمه اليوم فنقول : ان منهج الاستنباط في الفقه الإمامي قد اعتمد على افتراض مرحلتين للاستنباط يطلب في أولاهما الدليل على الحكم الشرعي ويطلب في الثانية تشخيص الوظيفة العملية تجاهه تنجيزا أو تعذيرا. والقواعد التي تقرر في المرحلة الثانية هي التي تسمى بالأصول بالأصول العملية لأنها تشخص الموقف العملي تجاه الترشيح من دون ان تشخص الحكم الواقعي نفسه ، هذه المنهجة يتميز به الفقه الإمامي عن فقه العامة الّذي يتجه إلى إثبات الحكم الشرعي دائما ـ المرحلة الأولى ـ فان لم يمكن أثابته بالأدلة القطعية أو المفروغ عن دليليتها شرعا تحول إلى طرف أضعف في مقام الإثبات من الأمارات والمظنون القائمة على أساس اعتبارات ومناسبات واستحسانات فهو يتوسل بكل وسيلة إلى أبيات الحكم الشرعي مهما إمكان بينما في الفقه الإمامي كلما لم تقم عند الفقيه الأدلة القطعية أو الشرعية المفروغ عنها انتقل إلى المرحلة الثانية وهي تشخص الوظيفة المقررة عند الشك ولو عقلا دون ان يتجه إلى التماس الأدلة والأمارات الناقصة لا ثبات الحكم الشرعي الواقعي ، ومن هنا نجد أن الفقه


الإمامي توسع في بحث الأصول العملية واقسامها وشرائط كل منها بينما فقه العامة لم يتعرض لتلك البحوث بل على العكس من ذلك نجد ان للبحث عن الأمارات والظنون ومحاولات إثبات الحكم الشرعي على أساسها مجالا واسعا في أصول فقه العامة في الوقت الّذي يكون البحث عنها عندنا محصورا في حدود ما هو في معرض قيام دليل ضرعي على حجيته.

الا ان فكرة الأصول العملية لم تكن بهذا الوضوح في كلمات أصحابنا منذ فجر تاريخ الفقه الإمامي وتدوينه ، بل في مبدأ الأمر أدرجت الأصول العملية في دليل العقل وقبل بان مصادر الفقه أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل وأدرجت أصالة البراءة في الأخير وادعى جمع كالسيد المرتضى ابن زهرة ( قدهما ) ان هذه الأدلة كلها قطعية فاعتبرت البراءة قطعية والعمل بها عمل بدليل العقل القطعي وبذلك أجابوا على فقه العامة بأنهم يعملون بالقطع ولا يحتاجون إلى إعمال الظنون والأمارات إلا ناقصة وكذلك أدرج في الدليل العقلي بعد ذلك أصل الاستصحاب بل يلاحظ ان البراءة لاحقة بالاستصحاب واعتبرت منه لأن الحالة الأصلية براءة الذّمّة قبل الشرع وهي تثبت بالاستصحاب حال الأعقل ووسموه بالدليل العقلي القطعي مع انه ليس دليلا على الحكم فضلا من ان يكون قطعيا وانما القطعي تفريغ الذّمّة به. وفي كلمات المحقق ( قده ) وغيره من تلك المرحلة نجد انهم صاغوا الاستدلال بالبراءة على الإباحة وعدم الإلزام صياغة استدلالية عقلية قطعية تطبيعا لمنهجة الأدلة عليها فقالوا بان التكليف بالمجهول غير معقول لأنه تكليف بما لا يطاق أو ان عدم الدليل على الحكم دليل على العدم ، لأن الأحكام قد بلغت جميعا وهكذا حاولوا إلباس البراءة ثوب الدليل القطعي على الحكم الشرعي الواقعي وبعد ان التفت إلى ان الأدلة المعتمدة في الفقه فيما ما هو ظني ولكنه معتبر شرعا كظهورات وخبر الثقة مثلا وشاع تقبل فكرة الأعمل بالظن إذا كان معتبرا شرعا بدليل قطعي اعتبرت الأصول العملية أدلة دليلا ظنيا بل ذلك لبعض المتأخرين كما ذكره الشيخ الأنصاري ( قده ) واستغرب منه.

وبعد ذلك اختمرت تدريجيا الفكرة الصحيحة عن الأصل العملي وانه لا يطلب


منه الكشف عن الحكم الواقعي وجعله دليلا عليه لكي يبحث عن كونه قطعيا أو ظنيا وانما المطلوب منه تحديد الموقف العملي للمكلف تجاه الحكم الواقعي عند عدم إمكان أثابته بدليل ومن هنا يكون قطعيا لأن فراغ الذّمّة به يكون قطعيا ولكنه مع ذلك لا يصح حشره ضمن الأدلة وقد جاءت في كلمات المحقق جمال الدين إشارة إلى مثل هذه التفرقة والتي كانت بحق بداية اختمار هذه الفكرة وعلى يد الأستاذ الوحيد البهبهاني ( قده ) وتلامذته خصوصا صاحب الحاشية على المعالم تحددت الفكرة وتنقحت أكثر حتى انا نجد ان صاحب الحدائق المعاصر للأستاذ الوحيد يستعرض في كتابه الدرة النجفية أدلة القائلين بأصل البراءة ويناقشها وهي كلها بروحية ان البراءة ذليل على الحكم ، ثم يقول في نهاية ذلك ومن هنا ذهب بعض متأخري المتأخرين ان البراءة ليست دليلا على الحكم وانما على نفي تكليفنا بالحكم ولعل نظره إلى المحقق جمال الدين أو إلى الوحيد البهبهاني ( قدهما ) وكان اختمار هذه الفكرة أحد الأمور التي جعلتنا نعتبر عصر الوحيد ومرحلته من تاريخ علم الأصول عصرا ثالثا من عصور هذا العمل وتاريخه وقد كان هذا فتحا كبيرا في منهجة بحوث علم الأصول وان كان ذلك لم ينعكس في التصنيفات المدونة الا على يد الشيخ الأنصاري ( قده ) حيث صنف كتابه « فرائد الأصول » حسب هذه المنهجة. وقد نقل فيه عن الوحيد انه سمى الأمارات بالأدلة الاجتهادية والأصول بالأدلة الفقاهتية وقال انه يرجع نكتة مراجعته إلى تعريف كل من الاجتهاد والفقه حيث يعرف الأول لأنه تحصيل العمل بالتكليف الشرعي وكأن الأستاذ الوحيد حمل لحكم الشرعي في الأول على الواقعي والا فالفقه الإمامي يا يعتمد على الظن بالحكم الواقعي من دون قطع بحجيته ، والثاني على الأعم منه ومن الظاهري بل ينبغي ان يراد به الأعم منهما ومن الوظيفة العقلية العملية وإلا فالفقه لا يكون دائما موجبا للعمل بالحكم الشرعي الواقعي. هذا مجمل تاريخ فكرة الأصل العملي.

المقدمة الثانية ـ في البحث عن حقيقة الأصل العملي الشرعي ثبوتا وفرقه عن الدليل الاجتهادي من زاوية الجاعل المشرع لهما.

وهذا البحث قد شرحناه مفصلا عند البحث عن الحكم الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، وحاصل ما ذكرناه هناك ان حقيقة الحكم


الظاهري أنه الحكم الصادر من قبل المولى في مقام الحفظ على الا هم من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الإلزامية المتزاحمة مع الملاكات المقتضية للإباحة والترخيص في موارد الاشتباه والتردد تزاحما حفظيا. وقلنا هناك ان الأهمية المرجحة تارة تكون على أساس نوعية الملاك الواقعي المحتمل وأخرى تكون على أساس قوة الاحتمال محضا بحيث يكون الحكم الشرعي الظاهري نسبته إلى كل من الإلزام والترخيص على حد واحد ولا توجد نكتة لجعله الا الترجيح على أساس قوة الاحتمال وكاشفيته الغالبية عن الواقع والأول حقيقة الأصل العملي والدليل الفقاهتي والثاني حقيقة الأمارة والدليل الاجتهادي ، واما كيفية صياغة الحكم الظاهري الناشئ على أساس أحد هذين الملاكين من الناحية اللفظية أو الاعتبارية من حيث جعل الطريقية تارة والمنجزية أخرى والجري العملي ثالثا فذلك كله فوارق صورية صياغية لا تمس جوهر الحكم ولا يوجب تنوعها تغييرا في حقيقة ذلك الحكم الظاهري المجعول وروحه ، ومن هنا قلنا انه يمكن اعتبار العملية أو المنجزية في مورد الأصل كما يمكن جعل وجوب الجري العملي في مورد الأمارة من دون ان يلزم من نجرد هذا الاعتبار أي تغير في النتائج والحقائق. نعم الأنسب مع حقيقة الحكم الظاهري القائم على أساس الترجيح بقوة الاحتمال والكاشفة ان تكون الصياغة العقلائية أو الاعتبارية لها في مرحلة الإثبات جعل الاحتمال الأقوى علما وطريقا وكاشفا ، بينما لا نسب مع الحكم لا ظاهري بملاك قوة المحتمل ونويته جعل وجوب أجرى العملي والاحتياط ونحو ذلك فهذه الخصوصيات والحيثيات صياغية ـ وإثباتية بصورة طبيعية وعلى القاعدة بالنسبة إلى كل منهما على ما سوف يظهر لدى البحث عن الأصل المثبت.

وفيما يلي نتعرض إلى ثلاثة اتجاهات مشهورة بين المحققين من علماء الأصول في التفرقة بين الأصل والأمارة :

الاتجاه الأول ـ ما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم ( قده ) ونقحته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان الفرق بين الأمارات والأصول يتمثل في سنخ المجعول في كل منهما ، حيث ان المجعول في الأمارة الطريقية والعملية بينما المجعول في الأصل


إيجاب الجري العملي أو تنزيله منزلة في العمل في الجري العملي.

وقد اتضح ان هذه التفرقة صورية وبحسب الصياغة ليس غير ، والهدف من التفرقة بين الأمارة والأصل ليس مجرد التمييز بين المصطلحين فان هذين المصطلحين لم يردا في لسان دليل شرعي ليتوخى من ورائه أثر فقهي ، وانما القصد تبرير ما هو المركوز والتسالم عليه من ان لوازم الأمارات ومثبتاتها حجة بينما لوازم لأصل ليست كذلك إذا لم تكن آثارا شرعية. ومن هنا حينما فرق المحقق النائيني ( قده ) بين الأمارة والأصل بالفرق المزبور رتب على ذلك هذا الأثر واستدل عليه بان العلم بشيء علم بجميع لوازمه ومستلزماته فيكون جعل العلمية للأمارة مثبتا لجميع ذلك بخلاف الجري العملي فان إيجاب جري عملي على وفق أمر لا يلزم منه إيجاب الجري على لوازم ذلك الشيء ، لأن الجري العملي فعل خارجي فقد يحكم المولى بعمل دون عمل.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ بان مجرد كون المجعول هو العلمية في باب الأمارات لا يقتضي حجية مثبتاتها لأن العلم بالشيء انما يستلزم العلم بلوازمه إذا كان العلم وجدانيا لا تعبديا ، لأنه مجرد تعبد وحكم شرعي يكون حدود جعله بيد الشارع ولا ملازمة بين جعله بلحاظ المؤدى وجعله بلحاظ لوازمه ، ومن هنا أنكر حجية مثبتات الأمارة على القاعدة بل اعتبرها كالأصول من حيث احتياج حجية مثبتاتها إلى عناية زائدة ودليل خاص ، وهكذا التزم السيد الأستاذ بصحة ما ذهب إليه الميرزا في ميزان التفرقة بين الأصل والأمارة وأنكر ترتب تلك الخاصية المرتكزة والأثر المتسالم عليه للأمارة وهي حجية مثبتاتها مع انه كان الأجدر اعتبار عدم صلاحية تلك التفرقة لتبرير الخاصية المذكورة دليلا على قصورها.

واما بناء على تفسيرنا فيبدو تبرى الخاصية واضحا جدا ، فانه إذا كان تمام الموضوع والملاك في جعل الحجية في باب الأمارة انما هو علاج التزاحم الحفظي على أساس المرجح الكيفي وهو الترجيح بقوة الاحتمال والكاشفية فسوف تكون المثبتات حجة على القاعدة لأن نفس الدرجة من الكشف التصديقي وبنفس الملاك الكاشف ثابت بلحاظ المداليل الالتزامية للأمارة أيضا الا من حيث كون المؤدى مدلولا مطابقيا واللازم التزاميا غير مصرح به ومثل هذه الخصوصية لا تكون دخيلة في ملاك الحجية عرفا وعقلائيا على ما سوف يأتي تفصيل الكلام فيه في تنبيهات الاستصحاب.


وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم الظاهري مبتنيا على أساس ملاك ونكتة موضوعية وهي نوع المحتمل وخصوصيته فيختص الحكم الظاهري بالحجية بذلك لا محالة ولا يمكن التعدي منه إلى المداليل الالتزامية على القاعدة.

ثم ان الشيخ الأعظم ( قده ) ذكر في الرسائل ان الاحتمال المتساوي الطرفين لا يعقل جعل الأمارية له لأن نسبته إلى الطرفين على حد واحد والمتأخرون اعترضوا عليه بان جعل الاحتمال أمارة لا يعني جعله كاشفا حقيقيا بل تعبديا وباب التعبد واسع واعتباره سهل.

الا ان هذا الكلام أيضا ناجم من الخلط بين اللسان والروح ، فان التفرقة بين الأمارة والأصل ان كان على أساس نوع المجعول ولسان الإنشاء صح ما ذكر بل صح جعل الوهم علما وأمارة ، واما ان كان على الأساس الّذي ذكرناه فكلام الشيخ ( قده ) متجه إذ علاج التزاحم الحفظي على أساس قوة الاحتمال ودرجة الكاشفية لا بد فيه من فرض قوة للكاشفية في أحد الطرفين وكان الشيخ ارتكازا كان يعيش ما ذكرناه وان لم تكن عبارته وما فيه ببيانه.

وهناك خلط آخر وقعت فيه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من جراء الفرق المذكور وهو تفريع ما هو خاصية وأثر لمقام الإثبات إلى مقام الثبوت ، فانهم حكموا بتقديم الأمارات على الأصول من جهة حكومتها عليها لأن الأصل أخذ في موضوعه الشك وعدم العلم وبما ان الأمارة يكون المجعول فيها العلمية والطريقية فتكون رافعة لموضوع الأصل تعبدا وبحكم الشارع ، فجعلت حكومة الأمارات على الأصول من نتائج مسلك جعل الطريقية والعلمية في تفسير حقيقة الأمارة مع انه من الواضح ان الحكومة نوع من التخصيص والقرينية في مقام الإثبات وليست من خصائص عالم الثبوت فمهما كان المجعول في باب الأمارة أو الأصل ومهما كان روح كل منهما فلا ربط لذلك بباب الحكومة لأنها انما تكون على أساس خصوصية في لسان الدليل الحاكم والمحكوم فلو جعلت الأمارية بلسان وجوب العمل بالخبر أو أخذ في موضوع الأصل عدم العلم الوجداني لم تكن الأمارة مقدمة على الأصل (١).

__________________

(١) هذا في غير الحكومة الادعائية الميرزائية فانها حكومة ثبوتية مرجعها إلى نحو ورود واعتبار ما ليس علما عند الشارع فيرتفع الموضوع الاعتباري حقيقة فيصح التفريع المذكور الا ان المبنى فاسد.


الاتجاه الثاني ـ التفرقة بين الأمارة والأصل على أساس ان موضوع الأصل أخذ فيه قيد الشك بخلاف الأمارة حيث لم يؤخذ فيه الا نفس قيام الأمارة.

وهذا الاتجاه مضافا إلى انه لا يفي بتفسير الفروق والآثار المترتبة على كل من الأصل والأمارة التي أشرنا إليها غير معقول في نفسه ، لأن عدم تقيد موضوع الجعل الظاهري الأماري بالشك يستلزم إطلاقه لحال العلم وهو غير معقول على ما تقدم في بحث القطع. ومن هنا اضطر بعضهم في مقام التخلص عن هذا الاعتراض إلى التعبير بان الشك مورد للأمارة لأنها مجعولة في ظرف الشك وان لم يكن قد أخذ في موضوعه الشك.

الا ان هذا مجرد تغيير في العبارة ، إذ المقصود ان الجعل إذا كان قد فرض فيه وجود الشك وفرغ عنه فهو معنى أخذه قيدا في موضوع الحكم والا كان الحكم مطلقا وشاملا لحالات العلم وهو غير معقول.

الاتجاه الثالث ـ تحويل الفرق بين الأمارة والأصل من مقام الإنشاء والجعل إلى مقام الإثبات والدلالة وانه ان ورد في لسان الدليل في مقام الإثبات الشك فالحكم الظاهري أصل عملي والا فهو أمارة. ومن هنا يسلم هذا الاتجاه عن الاعتراض الثبوتي الموجه إلى الاتجاه السابق ولكنه أيضا غير تام ، إذ مضافا إلى انه لا يفي بتبرير خاصية كل من الأمارة والأصل من حيث آثارهما ، انها أكثر قشرية من الاتجاهين السابقين فعلى هذا الوجه سوف تكون أمارية الحكم الظاهري مرتبطة بنوع اللسان ونحو اللفظ الوارد فيه ، فمثلا إذا استدل بآية النفر أو النبأ على حجية خبر الثقة كان أمارة وان استدل بمثل آية السؤال عن أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون كان أصلا ، وهذا واضح البطلان.

نعم هذه النكتة الإثباتية قد تعالج بها مشكلة تقديم الأمارة على بعض الأصول العلمية كالاستصحاب بناء على مسالك جعل الطريقية فيه أيضا كما هو مختار بعض أصحاب مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، حيث ادعي من قبلهم ان دليل الأمارة انما يتقدم على دليل مثل هذا الأصل العملي رغم ان المجعول فيهما معا الطريقية ، لأن المأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم العلم واليقين بينما لم يؤخذ ذلك في موضوع دليل الأمارة والعقل لا يقتضي تخصيصه الا بصورة عدم العلم الوجداني فيكون إطلاقه رافعا لموضوع دليل الاستصحاب دون العكس. وهذا بحث


سوف يأتي التعرض إليه في محله.

وهكذا يتضح ان الاتجاهات المذكورة جميعا لا ترجع إلى محصل صحيح.

هذا كله في التفرقة بين الأمارة والأصل العملي المجعول شرعا.

واما الأصل العملي العقلي وفرقه عن الشرعي بل عن مطلق الحكم الشرعي الظاهري سواء كان أصلا أو أمارة فيتلخص في ان الحكم الظاهري علاج مولوي لحالات التزاحم الحفظي ومن هنا كان الأصل الشرعي أو الأمارة إعمالا للمولوية وتشريعا من قبل المولى لأن التزاحم الحفظي لا يرجع علاجه إلى العبد وهذا بخلاف الأصول العقلية فانها لا تعد ان تكون مدركات عقلية لحدود حق طاعة المولى على العبد في مقام الامتثال إثباتا أو نفيا ومن هنا كانت مرتبة الأصول العملية العقلية متأخرة عن الشرعية وفي طولها وكانت الأخيرة فضلا عن الأمارات واردة عليها ورافعة لموضوعها لأنها ناظرة إلى متطلبات المولى بينما الأصول العقلية ناظرة إلى حدود حق طاعته في متطلباته فتكون متفرعة عليها نفيا أو إثباتا ومعلقة عليها.

المقدمة الثالثة ـ قسموا الأصول العملية الشرعية إلى أصول محرزة أو تنزيلية وغيرها ، ومثل للأول بالاستصحاب وللثاني بالبراءة أو الاحتياط الشرعيين ، والبحث في هذه المقدمة حول ميزان هذه التفرقة.

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) جريا على مسالكه وتصوراته لحقيقة الحكم الظاهري واقسامه والتفرقة فيما بينها على أساس سنخ المجعول الإنشائي ، بان اليقين فيه حيثيات أربع :

١ ـ الاستقرار والثبات الجزمي في قبال التذبذب.

٢ ـ الكاشفية.

٣ ـ البناء والجري العملي على طبقه.

٤ ـ التنجيز والتعذير.

والحيثية الأولى مخصوصة باليقين والقطع الوجداني ولا يمكن إسراؤها إلى التعبدي لأنها خصوصية تكوينية فلا يمكن ان تأتى بالتعبد والجعل ، واما الثانية فهي المجعولة في الأمارات لأنها نزلت منزلة العلم في الطريقية والكاشفية ، واما الثالثة فهي المجعولة في الأصول التنزيلية ، واما الرابعة فهي التي تثبت في الأصول غير التنزيلية ولو بتوسط جعل شرعي ظاهري فيها يستتبعها إذا قيل بان التنجيز والتعذير العقليين


لا يمكن جعلهما ابتداء على ما تقدم ذلك عن المحقق النائيني ( قده ) في بحث القطع.

والتحقيق ان يقال : ان المنظور إليه في هذا التقسيم تارة يكون عالم الثبوت وأخرى عالم الإثبات بمعنى يشمل الجعل والإنشاء.

فإذا أريد التمييز في مرحلة الثبوت بين الأصلين ، فالتمييز بينهما يمكن ان يكون بما تقدمت الإشارة إليه إجمالا في بحث الحكم الظاهري من ان الحكم الظاهري إذا كان قد جعل على أساس الترجيح بملاك نوعية المحتمل محضا فهو أصل غير تنزيلي واما إذا كان على أساس الترجيح بملاك نوعية المحتمل مع مراعاة كاشفية الاحتمال فهو أصل تنزيلي ، فالأصل التنزيلي أو المحرز انما هو ذلك الحكم الظاهري الّذي قد لوحظ فيه درجة الكاشفية وقوة الاحتمال وان كانت هناك خصوصية ذاتية ملحوظة في جعله أيضا والتي نعبر عنها بنوعية المحتمل ، ومن آثار هذه التفرقة الثبوتية انه لو زالت قوة الاحتمال ودرجته الملحوظة لم يعد الأصل التنزيلي حجة ، ومن هنا لم تكن قاعدة الفراغ حجة فيما إذا لم تكن هناك احتمال الأذكرية بل العمل على تقدير وقوعه صحيحا يكون صادرا غفلة وهذا بخلاف ما إذا كان أصلا غير تنزيلي وان كانت حيثية الفراغ عن العمل الذاتيّة ملحوظة في الحكم المذكور أيضا ولهذا لا نثبت بها امرا لم يفرغ عنه بعد في العمل ، وهذا بخلاف ما إذا كان أمارة.

وإذا أريد التمييز في عالم الإثبات ، فيمكن التفرقة بينهما على أساس ان دليل الاعتبار تارة يتكفل إثبات المنجزية أو المعذرية من دون عناية زائدة فيكون غير تنزيلي كما في قوله احتط لدينك ، وأخرى يفرض وجود عناية تنزيلية في لسانه فيكون أصلا تنزيليا أو محرزا. والعناية المذكورة يمكن ان تكون بأحد نحوين :

١ ـ ان يكون تنزيلا للحكم الظاهري التعبدي منزلة الحكم الواقعي بان يقول مثلا كل شيء طاهر بطهارة هي نفس الطهارة الواقعية تنزيلا وتعبدا ، والأثر العملي لذلك عما إذا لم يكن دليل الاعتبار متكفلا مثل هذا التنزيل ترتيب آثار الحكم الواقعي المنزل فيما إذا كان قد وقع موضوعا لها في مثل هذه الحالة اما واقعا لو كان التنزيل المذكور واقعيا وتوسعة في موضوع ذلك الأثر فتكون الحكومة واقعية. أو ظاهرا ان كان مجرد التعبد بذلك في مورد الشك فتكون الحكومة ظاهرية ، وعلى أساس الفرق بين هذين النحوين من الحكومة فرق صاحب الكفاية ( قده ) في


الاجزاء بين الحكم الظاهري الأمارة والحكم الظاهري الأصل كأصالة الإباحة فحكم في الأخير بالاجزاء لكونه من الحكومة الواقعية بخلاف الأمارات.

ولعل مما يمكن ان نسرده كتطبيق فقهي لذلك مسألة طهارة مدفوع ما يؤكل لحمه ونجاسة مأكول ما يحرم أكل لحمه ، فانه إذا شك في حيوان انه مأكول اللحم أو لا فسوف يظهر الأثر لهذا التمييز. فانه تارة يفترض ان عنوان محلل الأكل ومحرمه مأخوذ كشمير ومعرف إلى. واقع العناوين التفصيلية للحيوانات في الحكم بنجاسة أو طهارة مدفوعة ، وأخرى يفترض انه بعنوانه موضوع في الحكم بذلك ، وعلى الثاني تارة يفترض الموضوع مطلق الحكم بحلية لحمه وأخرى يكون خصوص الحلية الواقعية للحمه وتشخيص ما هو الصحيح من هذه الافتراضات الثلاثة متروك إلى الفقه ، فعلى الأول والثاني من الافتراضين لا يظهر أثر للتمييز السابق في هذه المسألة إذ على الأول منهما سوف لا يثبت طهارة مدفوع الحيوان المشكوك بمجرد الحكم بحليته ظاهرا سواء كان منزلا منزلة الحلية الواقعية أم لا ، وعلى الثاني منهما سوف يترتب ذلك على كل حال بالورود. واما على الفرضية الثالثة فيظهر أثر التمييز عندئذ ، إذ بناء على ان تكون أصالة الحل مجرد حكم بالحلية ظاهرا من دون تنزيلها منزلة الحلية الواقعية فلا يكفي جريانها في الحيوان المشكوك لإثبات موضوع طهارة مدفوعة ، واما لو كان المستفاد من دليلها تنزيلها منزلة الحلية الواقعية في الآثار واقعا أو ظاهرا فلا محالة سوف يتنقح بذلك موضوع الحكم بطهارة المدفوع بالحكومة الظاهرية أو الواقعية.

هذا ولكن من الواضح ان عناية التنزيل المذكور بحاجة إلى مئونة زائدة في دليل الأصل إذ ينزل فيها الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي واقعا فالتنزيل المذكور حكم في طول الحكم الأول الّذي يجعل به أصل الحكم الظاهري فلا يمكن الجمع بينهما في جعل واحد وقد تقدم الكلام في ذلك في بحوث الاجزاء مفصلا.

٢ ـ تنزيل الأصل نفسه منزلة العلم واليقين اما في الكاشفية أو بلحاظ الجري العملي وهذا هو مصطلح النائيني في الأصل التنزيلي وما وقع البحث في وجود مثل هذه العناية في دليله عند الأصحاب انما هو الاستصحاب حيث يدعى ان الاحتمال قد نزل فيه منزلة اليقين ولو في الجري العملي ومن اختار ان التنزيل فيه بلحاظ الكاشفية ادعى انه من الأمارات ونقض به في بحث حجية مثبتاتها.

وقد عرفت ان مسألة حجية مثبتات الأحكام الظاهرية غير مرتبطة بعالم الإثبات.


واما الأثر العملي لهذه العناية التنزيلية فهو ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأصل المذكور بالحكومة الواقعية وهذه كبرى كلية نذكر فيما يلي تطبيقين لها :

١ ـ تقدم هذا الأصل التنزيلي على غيرها من الأصول العملية بالحكومة ، إذ انها سوف تكون علما تعبدا فترفع موضوع ذلك بخلاف العكس إذ ليس المجعول في الأصل غير التنزيلي انه علم ويقين من غير فرق في هذا التقديم بين ان يكون الأصل غير التنزيلي من هذه الناحية تنزيليا من ناحية العناية الأولى أم لا.

٢ ـ انّ هذا يؤدي إلى بطلان ما تقدم من تقدم الأمارات على الأصول التنزيلية أيضا على أساس انّ المجعول في الأمارة الطريقية والعلمية ، لأنّ هذا مجعول فيهما معا.

ولعل هذا هو الّذي دعى المحقق النائيني ( قده ) أن يميز بين الطريقية المجعولة في باب الأمارات والمجعولة في الأصول التنزيلية بالنحو المتقدم شرحه ، إذ يمكن ان يقال حينئذ بأنّ جعل الأمارة يرفع موضوع الأصل التنزيلي دون العكس لأنّ المجعول في الأخير الجري العملي لا الكاشفية وما هو موضوع الأحكام الظاهرية عدم الكاشف لا عدم الجري العملي.

ولكن بناء على هذا سوف يبطل التطبيق الأول أيضا ، إذ المأخوذ في موضوع الأصل غير التنزيلي أيضا هو ذلك فلا يرتفع موضوعه بالأصل التنزيلي.

ومن هنا وجد اتجاه آخر يقول انّ المجعول في الأصول التنزيلية الطريقية والكاشفية كالأمارات ولهذا تتقدم على الأصول غير التنزيلية ولكنها انما يتقدم عليها الأمارة لعدم أخذ الشك في لسان دليل حجيتها وان كان صورة العلم خارجة عنه عقلا بخلاف دليل حجية الأصل التنزيلي وحينئذ لا بدّ في المخصص العقلي من الاقتصار على قدره وهو ما لا يعقل فيه جعل حكم ظاهري وهو صورة العلم الوجداني بالخلاف فقط لا التعبدي ، فدليل الأصل التنزيلي لا يمكن ان يرفع ما هو موضوع دليل الأمارة بخلاف العكس. وان شئتم قلت : انّ الحكومة لا تكون الا بلحاظ ما أخذ موضوعا شرعا لا عقلا ـ كما في المخصص العقلي ـ لأنّ الحكومة من أقسام القرينية ومن شئون اللفظ كما قررناه في محله وقد تقدم إجمالا وسوف يأتي مفصلا في بحث النسبة بين الأمارات والأصول تفصيل الكلام حول هذه النقطة.

المقدمة الرابعة ـ اعتاد علماء الأصول تقسيم الأصول العملية إلى أربعة : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، ووجه تخصيصها بالذكر دون غيرها من القواعد


والأصول العملية كأصالة الصحة أو الطهارة هو جوابه التاريخي الّذي أشرنا إليه في المقدمة الأولى من انّ بحث الأصول نشأ تحت عنوان الدليل العقلي والأصول المذكورة هي المناسبة مع الدليل العقلي لكونها ذات جذور عقلية حتى الاستصحاب الّذي كانوا يستدلون عليه بالعقل ، وأول من استدل عليه بالنقل كان هو والد الشيخ البهائي ( قده ) وجوابه المنهجي انّ الأصول الأخرى امّا ان لا تجري في الشبهات الحكمية فلا تقع في طريق استنباط حكم شرعي أصلا كأصالة الصحة أو انها لا تكون مشتركة في الفقه كما في أصالة الطهارة وكلا الأمرين شرط في اندراج المسألة في بحوث علم الأصول على ما تقدم شرحه مفصلا في تعريف علم الأصول.


مباحث الحجج

أصالة البراءة

ـ البراءة العقلية

ـ تاريخ البراءة العقلية في الفكر

الفقهي

ـ أدلة القائلين بالبراءة العقلية.

ـ البراءة الشرعية

ـ الآيات التي يستدل بها على البراءة

الشرعية.

ـ الاستدلال بالسنة على البراءة

الشرعية.

ـ حديث كل شيء مطلق ـ حديث

الرفع.

ـ حديث الحجب ـ حديث كل شيء

حلال.

ـ الاستدلال بالاستصحاب على

البراءة.

ـ أدلة القول بالاحتياط

ـ أدلة الاحتياط العقلي.

ـ الآيات التي ادعي دلالتها على

الاحتياط الشرعي.

ـ الروايات التي ادعي دلالتها على

الاحتياط الشرعي.

ـ النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط

ـ تنبيهات البراءة.



أصالة البراءة

يقسم البحث عن أصالة البراءة إلى قسمين ، الأول ـ في البراءة العقلية ، والثاني ـ في البراءة الشرعية.

١ ـ البراءة العقلية :

وقد كادت انّ تكون إجماعية في العصر الثالث من عصور العلم أي منذ زمن الوحيد البهبهاني ( قده ) وقد اكتسب هذا الأصل صيغة فنية تحت قاعدة عقلية سميت بقبح العقاب بلا بيان ، وبحسب الحقيقة قد شكلت هذه القاعدة أحد الأسس الرئيسية للتفكير الأصولي المعاصر وطرازه ولهذا استحكمت القاعدة استحكاما شديدا ومنشأ هذا التفكير ما أشرنا إليه في مباحث القطع من انّ المحققين من علماء الأصول قد فصلوا بين امرين أحدهما مولوية المولى وحق طاعته واعتبروا المولوية وحق الطاعة كليا متواطئا لا تقبل الزيادة والنقصان وليست ذات مراتب وهي عبارة عن حق طاعة كل تكليف يصدر عن المولى واقعا إذا تمت عليه الحجة والبيان. والثاني ـ ميزان الحجية والمنجزية ، فقالوا بأنّ البحث في أصل المولوية موضعه علم الكلام وامّا البحث عن ميزان الحجية فهو وظيفة البحث الأصولي. وفي هذا المجال بينوا قاعدتين إحداهما حجية القطع وانّ كل حجة لا بدّ وانّ ترجع إلى القطع والحجية ذاتية للقطع ، والثانية


انتفاء الحجية بانتفاء القطع لأنه من مستلزمات كون الحجية ذاتية للقطع وهذا هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وترتب على ذلك انّ الظن بنفسه لا يمكن انّ يكون حجة فلا بدّ لكي يكون حجة من جعل جاعل وعندئذ نواجه حيرة في انّ جعل الجاعل كيف يجعل الظن حجة ومنجزا وهل ذلك إلاّ تخصيص في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع انّ الأحكام العقل غير قابلة للتخصيص ، ومن هنا برزت اتجاهات جعل الطريقية والعلمية للحكومة على حكم العقل وقال بعضهم بأنّ العقاب على مخالفة الحكم الظاهري المقطوع به لا الواقعي امّا مطلقا أو في خصوص ما لم يجعل له العلمية كقاعدة الاحتياط الشرعية.

وقد أوضحنا مفصلا في بحوث القطع انّ هناك خطأ أساسيا في هذا الطرز من التفكير ، حيث فصل بين الحجية والمولوية مع انه لا فصل بينهما بل البحث عن الحجية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة لأنّ المولوية عبارة عن حق الطاعة وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية ولكن حق الطاعة له مراتب وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع ، فقد يفرض بعض المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حق الطاعة إلاّ في بعض التكاليف المهمة لا في كلها ، وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتب حق الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة ، وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بان كانت منعميته بدرجة يترتب عليه حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف. فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية اذن فالحجية ليست شيئا منفصلا عن المولوية وحق الطاعة ومرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن انّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا. ولا شك انه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف وامّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يرجع فيها إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه ، ومظنوني انه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة. ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية.

وفيما يلي نتكلم في جهتين :


أولاهما ـ استقراء الجانب التاريخي للمسألة.

الثانية ـ في استعراض ما استدل به على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

اما الجهة الأولى ـ فقبل الشيخ الصدوق ( قده ) لم يكن لهذه القاعدة عين ولا أثر وامّا في عصره فيظهر منه انه يقول بالإباحة عند الشك في الإلزام ولكن لم يظهر منه انه يقصد البراءة العقلية فلعل مراده الإباحة الشرعية. واما فيما بعد الصدوق فالشيخ المفيد والطوسي ( قد هما ) لم يظهر منهما تبني هذه القاعدة العقلية بل قد يستشم من كلامهما العكس فانه كانت هناك مسألة أصولية يبحث فيها عن حكم الأصل في الأشياء هل هو الحظر أو الإباحة فيما إذا لم يستقل العقل فيه بالقبح أو الحسن فقيل فيه بالحظر لأنه لا يؤمن من وقوع المفسدة بسبب الإقدام وهذا الطرز من التفكير لا يناسب مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد الشيخ الطوسي ( قده ) بفترة قرن من الزمان تقريبا نجد انّ ابن زهرة ( قده ) يذكر البراءة العقلية ولكن بحسب الظاهر لم يكن يقصد بها قبح العقاب بلا بيان بالمعنى المعروف حاليا وانما كان يقول بقبح التكليف مع عدم العلم لأنه من التكليف بغير المقدور ومن هنا تحير المتأخرون عنه في كيفية تفسير ذلك وانه كيف يكون الجهل موجبا لانتفاء القدرة فحملوا كلامه على انّ المقصود انّ الامتثال التفصيليّ غير مقدور.

وبعد ذلك جاء دور المحقق ( قده ) فاستدل على البراءة بتقريبين :

الأول ـ استصحاب حال العقل ، وفي هذا التقريب ارجع البراءة إلى كبرى الاستصحاب ، ومن الواضح انّ الاستصحاب غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثاني ـ انّ التكليف بشيء مع عدم نصب دليل عليه قبيح وعدم وصول الدليل دليل على عدم وجوده ، وهذا أيضا غير القاعدة.

وبعد المحقق شاع إدراج البراءة في الأدلة العقلية ، لأنّ كلا التقريبين المتقدمين عن المحقق ( قده ) يدرجها في الأدلة العقلية لأنّ الاستصحاب عندهم كان بحكم العقل كما انّ التقريب الثاني عقلي وقد ذهب صاحب المعالم ( قده ) إلى التقريب الثاني ونقل في الرسائل ذلك عن القوانين واستغرب منه.


ثم بعد ذلك في العصر الثالث من علم الأصول تبلورت البراءة العقلية بعنوان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثم شكك جملة منهم في جريانها في الشبهات المفهومية لأنّ البيان العرفي قد يكون تاما فيها على تقدير شمول المفهوم وانّ كان غير تام عند الشاك ، ورد من قبل الآخرين بأنّ المراد من البيان العلم عند المكلف نفسه فلا بدّ من تمامية البيان عند الشاك. كما انه ذهب بعضهم إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية لأنّ المولى ليس من وظيفته بيان الموضوعات وتعيين المصاديق ، وردّ بأنّ المقصود العلم بالمجعول وهو غير حاصل في الموضوعات أيضا وليس المقصود البيان والخطاب الشرعي لكي يقال بأنّ ذلك مختص بالشبهات الحكمية.

وكل هذه التشكيكات توحي بأنّ القاعدة ليست فطرية ومسلمة.

الجهة الثانية ـ استدل على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بوجوه عديدة.

الأول ـ الإحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية ، حيث نرى انهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي ولا الظاهري الإلزامي. فيكون هذا منبها مثلا على ارتكازية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعقليتها.

وهذا الوجه غير تام ، لأنه مبني على انّ يكون حق الطاعة والمولوية أمرا واحدا لا درجات لها ولا مراتب ، وقد عرفت خلافه وانّ المولويات العرفية والعقلائية باعتبارها مجعولة وليست ذاتية أو بملاكات ضعيفة فالمقدار المجعول من المولوية عقلائيا ليس بأكثر من موارد العلم بالتكليف وامّا في المولى الحقيقي والّذي تكون مولويته ذاتية بملاك بالغ كامل مطلق وهو المنعمية التي لا حد لها بل والمالكية والخالقية للإنسان فالعقل لا يرى أي قصور في مولويته وحق طاعته بل يرى عمومهما لتمام موارد التكليف حتى موارد عدم العلم به.

وبذلك يظهر انّ التقريب المذكور قد وقع فيه الخلط بين المولويات الاعتبارية المجعولة والمولوية الحقيقية الذاتيّة وبالالتفات إلى التمييز بينهما لا يبقى في الإحالة إلى السيرة العقلائية أو الوجدان العرفي أيّة دلالة أو منبهية على حقانية قاعدة عقلية باسم قبح العقاب بلا بيان.

الثاني ـ ما تمت صياغته في مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : انّ القاعدة


مرجعها إلى انه يقبح العقاب على ترك التحرك حيث لا موجب للتحرك وقد عده من القضايا التي قياساتها معها ، وتوضيح الفكرة كبرويا بأنه لا معنى لتسجيل العقاب على ترك التحرك في مورد لم يكن فيه موجب للتحرك ، وامّا الصغرى فباعتبار انّ الأمور الواقعية ومنها التكاليف انما تكون محركة بوجوداتها الواصلة لا الواقعية فالعطشان انما يتحرك نحو ماء يعلم به لا مالا يعلم به.

وهذا البيان أيضا غير تام ، لأنّ المحرك على قسمين :

١ ـ المحرك التكويني وهو الّذي ينشأ من وجود غرض تكويني نحو الشيء ملائم مع قوة من قوى الإنسان أو رغبة من رغباته.

٢ ـ المحرك التشريعي وهو عبارة عن حكم العقل بلا بدّيّة التحرك سواء كان لدى الإنسان غرض فيه أم لا.

فان كان النّظر إلى التحرك التكويني فالشيء بوجوده الواقعي وان لم يكن هو المحرك التكويني بل بوجوده الواصل لأنّ وجوده الواقعي لا يكون أحد مبادئ الإرادة والتحرك ولا يتدخل في تكوين غرض نفساني له وعملية التحرك عملية شعورية نفسانية بحاجة إلى الوصول إلاّ انّ الوصول له مراتب من جملتها الوصول الاحتمالي وبحسب تفاوت درجات أهمية الشيء تختلف المحركية فقد يفرض تحقق المحركية من احتمال وجود المطلوب كما هو واضح.

وامّا المحرك التشريعي فمرجعه إلى حق الطاعة ، فانه الّذي يلزم بتطبيق العمل على وفق ما أمر به المولى ويحكم بلا بديته ، والكلام بعد في هذا الحق وحدوده فمن يقول به حتى في حالات الشك وعدم العلم بالتكليف يرى وجود المحرك المولوي وثبوت الموجب له حتى مع الوصول الاحتمالي.

الثالث ـ ما وجد في كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) حيث ذكر في مقام تقريب القاعدة بأنها فرد من افراد حكم العقل في باب الحسن والقبح العقليين اللذان مرجعهما إلى قضيتي حسن العدل وقبح الظلم وفي المقام بعد افتراض المولوية نرى انّ مخالفة تكليف تمت عليه الحجة خروج عن زي العبودية فيكون ظلما قبيحا وامّا مخالفة ما لم تتم عليه الحجة فليس ظلما ولا يستحق فاعله العقاب واللوم. وهذا الكلام من الواضح انه مصادرة إذ ما ذا يراد بالحجية ، إذ لو أريد بها ما يصحح العقاب كانت


القضية بشرط المحمول وانّ أريد بها العلم فهو أول الكلام فيكون الدليل عين المدعى نفسه وبمنهجة غير فنية لأنه التزم فيها بأنّ مرجع قضايا الحسن والقبح إلى قاعدة أولية بديهية هي حسن العدل وقبح الظلم وقد تقدم في بحث الدليل العقلي انّ قضية قبح الظلم وحسن العدل لا يمكن ان تكون أولية ـ لأنّ الظلم عبارة عن سلب ذي حق حقه فلا بدّ من تشخيص الحق الّذي هو من مدركات العقل العملي نفسه في المرتبة السابقة عليه.

الرابع ـ ما ذكره المحقق المذكور أيضا مبنيا على مصطلحه في باب الحكم والتكليف ، حيث انه قسم الحكم إلى إنشائي وحقيقي والأول ما يحصل بالجعل والإنشاء من دون ان يفرض فيه داعي البعث والتحريك الأمر المحفوظ حتى في الأوامر الاستهزائية فضلا عن الاختبارية ، والثاني ما يحصل بالجعل بداعي التحريك والبعث الحقيقي وهو الّذي يكون حكما حقيقيا. ومن الواضح انّ كل خطاب لا يعقل ان يكون باعثا إلاّ ان يصل إلى المكلف إذ لا يمكن ان يكون الحكم مجعولا بداعي البعث والتحريك إلاّ إذا كان وأصلا لعدم الباعثية في غير صورة الوصول اذن لا يكون الحكم حكما حقيقيا إلاّ في حالة وصوله ومن دون ذلك فلا وجود حقيقي للحكم فيقبح العقاب على تركه لأنه لا وجود له.

وفيه : أولا ـ انّ الإنشاء يمكن ان يكون محركا في حالة الوصول الاحتمالي بناء على سعة دائرة حق الطاعة ، فهذا الوجه يتوقف على دعوى ضيق حق الطاعة في المرتبة السابقة فلا يكون إلاّ مصادرة.

وثانيا ـ انّ غاية ما تقتضيه عدم وجود الحكم بالمعنى المذكور واما ملاكات الحكم ومباديه من المصلحة والمفسدة والإرادة أو الكراهة فهي أمور تكوينية محفوظة في حالات العلم والجهل معا وهذه المبادئ هي روح الحكم وحقيقته وهي تكفي للحكم بالمنجزية وحق الطاعة للمولى في موارد احتمالها سواء سمي ذلك حكما اصطلاحا أم لا ، فانّ ذلك بحث لفظي في التسمية بحسب الحقيقة.

وهكذا يتلخص انه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط فيها جميعا لأنّ حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز اذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق


المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الاحتياط ولا نخرج عنه إلاّ بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية.



٢ ـ البراءة الشرعية

وامّا البراءة الشرعية فقد استدل عليها بالكتاب والسنة.

« الاستدلال على البراءة الشرعية بالكتاب »

اما الكتاب فبآيات :

منها ـ قوله تعالى ( لا يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها ) (١) بناء على شمول الموصول فيها للتكليف؟(٢) وعدم الموجب لتقييده بالفعل أو بالمال بالخصوص وانّ فرض موردها المال لأنها مسوقة مساق الكبرى الكلية المعلّل بها وهذا لا يناسب التقييد بالمورد وعليه فيكون المعنى لا يكلف الله نفسا بتكليف إلاّ ما آتاها وإيتاء التكليف إيصاله إذ إيتاء كل شيء بحسبه.

وقد استشكل في هذا الاستدلال بإشكال معروف حاصله : انّ المراد بالموصول إن

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

(٢) الظاهر انّ المفعول الّذي استثني منه اسم الموصول هو المفعول المطلق أي لا يكلف الله نفسا كلفة الا ما آتاها لا المفعول به لأن التكليف لا يتعدى إليه بدون الباء فلا يقال كلّفه بمعنى كلف به وحيث لم يرد حرف الجرّ في الآية فيكون المراد المفعول المطلق ومعنى الإيتاء هنا هو الإقدار على الكلفة والجهد لأن هذا هو المتفاهم من إضافة الإيتاء إلى الكلفة وشمول الآية لمورد المال بهذا الاعتبار وعليه تكون الآية أجنبية عن محل الكلام رأسا.


كان هو الفعل أو المال كان الموصول مفعولا به لفعل ( يكلف الله ) بينها لو أريد به التكليف كان مفعولا مطلقا ، ونسبة المفعول به إلى الفعل مباينة مع نسبة المفعول المطلق إليه فلا يمكن الجمع في كلام واحد بينهما لأنه من استعمال اللفظ في معنيين وهو ان لم يكن غير معقول فلا إشكال انّه مما لا يمكن إثباته بالإطلاق في اسم الموصول وبما انّ إرادة المال متيقن منه على كل حال لكونه موردها فيتعين ان تكون النسبة المذكورة هي نسبة المفعول به إلى فعله.

وقد أجيب عليه بجوابين :

الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من دعوى استعمال الهيئة في نسبة جامعة بين النسبتين.

وهذا إن أريد به وجود نسبة جامعة بين النسبتين حقيقة فهذا خلاف ما برهن عليه في المعاني الحرفية من تباين النسب ذاتا وعدم وجود جامع ذاتي ماهوي فيما بينها ، وان أريد وجود نسبة ثالثة مباينة ذاتا مع كل من النسبتين وتكون ملائمة مع إطلاق الموصول للتكليف فهذا ممكن ثبوتا إلاّ انه لا يمكن إثباته بإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في الموصول بل تكون النتيجة على الأقل الإجمال.

الثاني ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من انّ المصدر قد ينظر إليه بنحو الاسم وهو بهذا النّظر يكون ذاتا فيصح ان يقع مفعولا به لأنه بهذا اللحاظ لا يكون مصدرا وحدثا بل ذاتا كسائر الذوات.

وهذا الجواب أيضا غير تام ، لأن المصدر وان كان يمكن ان يراد به اسم المصدر بعناية إلاّ انّ هذه عناية في كيفية لحاظ المصدر وليس هناك شيئان حقيقيان خارجا أحدهما المصدر الحدث والآخر اسم المصدر الذات والإطلاق ومقدمات الحكمة في اسم الموصول لا تثبت الا عمومه لما هو ثابت حقيقة في الخارج وليس واقع التكليف كحدث في الخارج صالحا لذلك بحسب الفرض.

والصحيح : انّ هذه المشكلة نشأت من وهم لغوي وقع فيه علم الأصول حيث اعتاد على ان يعبر عن الحكم بالتكليف وقد ورد في الآية ( لا يكلف الله ) فتوهم انه لا يمكن ان يشمله إلاّ كمفعول مطلق مع انّ مادة الكلفة في الآية مباينة مع الحكم والجعل مفهوما فيصح وقوعه مفعولا به لفعل لا يكلف على حد المال والفعل.


ثم ان هذا المفاد هل هو سنخ مفاد ينفي وجوب الاحتياط لو ثبت بدليل أو يكون محكوما له؟ تشخيص ذلك مبني على ان نعرف ان المنفي بالآية الكلفة في مورد الشيء أو بسببه فان كان المعنى ان الشيء الشيء الّذي لم أوت به لا أكلف بسببه فلا يكون نافيا للاحتياط الشرعي لأن دليله يثبت الكلفة بسبب إيجاب الاحتياط وان كان المعنى ان الشيء الّذي لم يؤت لا كلفة في مورده كان منافيا لإيجاب الاحتياط الشرعي والأقرب هو ذلك كما هو المناسب مع مورد الآية.

نعم ان هذا اللسان قد يقال انه لا يشمل الشبهات الموضوعية لأن إيتاء الحكم من الشارع خاص بالحكمية. ولكن الصحيح ان المراد بالإيتاء في الآية الإتيان التكويني أو الأعم منه ومن التشريعي لا التشريعي خاصة لأن موردها المال وإيتاؤه يكون تكوينيا فالآية تدل على نفي وجوب الاحتياط في الشبهتين معا. نعم لا يبعد عدم إطلاقها للشبهة قبل الفحص لأن الإيتاء يحتمل تحققه فيه إذا كان المدرك عليه موجودا في أيدينا فان إيتاء كل شيء بحسبه.

ومنها ـ قوله سبحانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (١) تقريب الاستدلال : ان المولى نفى التعذيب الا في حالة إرسال الرسول وهو وان كان بمعنى بعثة النبي 6 الا انه بعد حمله على المثالية يكون المعنى حتى نتم البيان والحجة فيستنتج ان العقاب منوط بالبيان فلا عقاب من دونه.

وقد يستشكل بان الآية تنفي فعلية العقاب لا الاستحقاق وهو أعم من المقصود.

والجواب : ان سياق الجملة وتركيبها يدل على ان المنفي ليس من شأن المتكلم لا ينبغي كما يظهر بمراجعة الأشباه والنّظائر (٢) وان شئتم قلتم : ان هذا اللسان من السنة الترخيص والإباحة ورفع المسئولية عرفا.

وقد يعترض بان المراد بالعذاب فيها العذاب الدنيوي لا الأخروي فيكون أجنبيا عن المطلوب.

والجواب : مضافا إلى عدم وجود ما يدل على تقييد العذاب فيها بالدنيوي عدا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٥.

(٢) قد يقال ان هذه النكتة بنفسها تكون قرينة على ان المراد عدم التعذيب قبل إتمام الحجة ولو عقلا وهذا غير البراءة الشرعية والإباحة الظاهرية ، كيف وعدم البراءة الشرعية ليس فيه ما لا يكون من شأن المولى.


استعمال فعل الماضي والّذي أشرنا إلى ان سياقه سياق نفي الشأنية لا الاخبار عن الأمم الهالكة بل ان سياقها يناسب إرادة العذاب الأخروي لأنها وردت في سياق ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وهي تنظر إلى عالم الإدانة والمسئولية والعقاب الأخروي أي إلى عالم التشريع لا التكوين. ان النكتة واحدة بعد فرض ان المستفاد من الآية نفي الشأنية.

هذا ولكن ينبغي ان يعلم ان المقدار الّذي يثبت بها البراءة ما لم يصدر من الشارع البيان لا ما لم يصل إلى المكلف لأن بعث الرسول غاية ما يمكن ان يحمل عليه هو الكناية عن صدور التشريع لا وصوله إلى المكلف والمطلوب لنا إثبات البراءة فيما لم يصل إلى المكلف فالآية غاية ما تدل عليه إناطة العقاب بالصدور والتشريع لا بالعلم والوصول وهو مطلب آخر لا يمكن إحرازه في الشبهات وإحرازه باستصحاب عدم الصدور رجوع إلى الاستصحاب الّذي يمكن إجراؤه في عدم جعل الحكم ابتداء وان كان الأول موضوعيا وسوف يأتي مزيد بحث في هذه النقطة.

ومن جملة الآيات قوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير. ) (١). وتقريب الاستدلال : ان الله سبحانه قد علم نبيه 6 في هذه الآية كيفية المحاجة مع أهل الكتاب في تحريمهم ما لم ينزل بها من سلطان بأنه لا يجد فيما أوحي إليه محرما غير ما ذكر فكأن عدم الوجدان يكفي في التخلص عن تبعات التكليف.

وفيه : أولا ـ ان عدم الوجدان من مثل النبي 6 فيما يوحى إليه يكون دليلا قاطعا على عدم التحريم واقعا فليس الآية في مقام جعل حكم ظاهري بل هذا لا يناسب مقام التخاصم مع أهل الكتاب.

وثانيا ـ ان عدم وجدان النبي 6 على أقل تقدير يكون دليلا قاطعا على عدم صدور التشريع فلو فرض دلالتها على البراءة فهي منوطة بعدم الصدور لا الوصول وهو مطلب آخر لا يمكن إحرازه في الشبهات كما أشرنا إليه.

وثالثا ـ يحتمل ان يكون قد لوحظ عدم وجدان الحرمة منضما إلى الأدلة الاجتهادية

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.


اللفظية الدالة على الحلية في باب المطعومات مثل قوله تعالى ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) (١) مثلا فلا معين في ان يكون النّظر إلى إناطة الترخيص العملي بعدم الوجدان.

ومن الآيات قوله تعالى ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) (٢) وتقريب الاستدلال بها : ان الإضلال سواء أخذ بمعنى تسجيلهم في الضالين أو خذلانهم والاعراض عنهم المؤدي إلى الضلال قد أنيط بالبيان لهم وظاهره إناطة العقوبة والتبعة بالبيان لهم وهو معنى البراءة ومن ألسنتها بعد ان كان السياق سياق نفي الشأنية ، بل بناء على المعنى الأول تكون مادة الضلال دالة على ذلك ولو لم يكن السياق المذكور. كما ان البيان لهم ظاهر في الوصول والعلم وليس كبعث الرسول كناية عن مجرد الصدور فالاستدلال بها على المطلوب تام. نعم يبقى الكلام في ان مفادها سنخ براءة منافية مع دليل الاحتياط أو محكومة له.

والظاهر انه لو أريد بما يتقون ما يتقونه بالعنوان الأولي فهو مختص ببيان الحكم الواقعي ، ولو أريد به ما يتقونه ولو بعنوان ثانوي استطراقي شمل بيان الحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط فتكون البراءة المستفادة من هذه الآية مرتفعة بدليل الاحتياط ، ولا يبعد ان يكون ظاهر ما يتقون هو الأول لا الثاني بقرينة ان الإضلال والعقاب انما يكون بلحاظ مخالفة الواقع دائما (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٩.

(٢) سورة التوبة : ١١٥.

(٣) الإنصاف ان هذا خلاف الظاهر ، فان ظاهر الآية ان الله لا يضل قوما من دون ان يبين لهم ما ينبغي ان يفعلونه ويتقونه وهذا صادق حتى إذا كان ذلك البيان بيانا لحكم طريقي يحفظ فيه أغراض المولى الواقعية لأن الآية ظاهرها ان المولى لا يؤاخذ أو يخذل من دون بيان واما سنخ البيان فمطلق يشمل كل ما يكون بيانا لما ينبغي الاتقاء منه سواء كان بعنوان أولي أو ثانوي ، نعم ظاهرها عدم الاكتفاء بمجرد حكم العقل بالاحتياط بل لا بد من البيان الشرعي عليه. ثم ان هناك تفسيرا آخر للآية يخرجها عن مجال الاستدلال رأسا وذلك بأن يراد منها ان الله لا يترك أمة بعث فيها نبيا وهداها إلى الإيمان بل سوف يشرع لهم شريعة ورسالة لكي يتقوا ما ينبغي اتقاءه وما يصلح شأنهم فليس النّظر إلى المسئولية والتبعة ليستفاد منه الحكم بالبراءة ومما يشهد على ذلك التعبير بقوله تعالى ( بعد إذ هداهم ) والتعبير ( بأن الله لا يضل قوما ).


« الاستدلال على البراءة بالسنة »

واما السنة ـ فقد استدل بعدة روايات.

« حديث كل شيء مطلق »

منها ـ الحديث المعروف ـ ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) (١) وتقريب الاستدلال به : ان مفاده الإطلاق والتوسعة ما لم يرد نهي وهذا هو التقريب الساذج بالحديث.

والتحقيق : ان الاستدلال بهذا الحديث يتوقف على تتميم مرحلتين :

المرحلة الأولى ـ ان يكون المراد من الورود الوصول لا الصدور ومع الإجمال لا يتم الاستدلال أيضا.

وهناك وجهان يمكن ذكرهما لاستظهار إرادة الوصول.

الأول ـ ما قيل من ان الورود سنخ معنى يستبطن الوفود على الشيء فهو معنى نسبي بحاجة إلى طرف يضاف إليه فلا يطلق على مجرد الصدور.

وفيه : لا معين لأن يكون الملحوظ وفود النهي على المكلف بل لعل الملحوظ وفوده على الشيء نفسه كما يناسبه قوله يرد فيه نهي وارد على المادة والمادة هي المورود عليه. مضافا إلى ان من المحتمل قويا ـ لو فرض لحاظ الورود على المكلف ـ إرادة الوفود على جنس المكلفين أي الأمة لا كل مكلف مكلف فيكون بمعنى الصدور ومعه لا يكون مساوقا مع البراءة المطلوبة.

الثاني ـ ان الإطلاق في قوله كل شيء مطلق اما آن يراد به الإرشاد إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو الترخيص المولوي الواقعي أو الترخيص الظاهري ، والأول خلاف ظاهر مولوية الخطاب الصادر من الشارع والثاني لا يناسب مع كون الغاية ورود النهي سواء أريد به الوصول أو الصدور إذ الأول يستلزم تقييد الحكم الواقعي بالإباحة بعدم العلم بالحرمة وهذا يعني تقيد الحرمة الواقعية بالعلم بها وهو من أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، والثاني ان أريد به تقييد الإباحة الواقعية بعدم

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ١٥.


النهي الواقعي فهو محال لأنه من أخذ عدم الضد قيدا في موضوع الضد الاخر وان أريد مجرد بيان مطلب واقعي وهو انه متى ما لم يكن هذا الضد موجودا وهو الحرمة والنهي فالضد الاخر وهو الإباحة ثابت فهذا لغو من الكلام. وهكذا يتعين ان يراد من الإطلاق الترخيص الظاهري وهو لا يناسب ان تكون الغاية فيه عدم صدور النهي وتشريعه بل عدم وصوله والعلم به لأن الأحكام الظاهرية مغياة بالعلم لا بالواقع.

وفيه : أولا ـ ان إرادة الترخيص الواقعي لا محذور فيه ، لأن المراد بالنهي الخطاب المبرز لا الحرمة لأنه اسم له فغاية ما يلزم تقيد الحرمة الواقعية بالعلم بخطابها وقد تقدم في محله إمكان ذلك.

ثانيا ـ لو فرض استحالة التقييد بذلك أيضا ، قلنا انه مجرد بيان لثبوت الحلية واقعا كلما لم يصدر التحريم ولا يلزم منه اللغوية بل يفيد الكشف عن ثبوت الحلية الواقعية شرعا عندئذ كلما لم يصدر خطاب شرعي بالتحريم. نعم هذا قد يكون منافيا مع ظهور الغاية في المولوية إذ فيه نوح إرشاد إلى ما هو ثابت واقعا فيكون خلاف الظاهر.

ثالثا ـ يمكن إرادة الترخيص الظاهري ومع ذلك لا معين لأن يكون الورود بمعنى الوصول بل الصدور ويكون مفاد الحديث جعل الترخيص الظاهري والإباحة في الأشياء قبل نزول الوحي بالتحريم والنهي.

فكما ان الاحتمال الثالث يناسب الوصول يناسب الصدور أيضا ولا يلزم تقيد الترخيص الظاهري بعدم الحرمة الواقعية بل بعدم صدور ما يدل على الحرمة وتشريعها فيكون مفاد الحديث مفاد القاعدة المشهورة من ان الأصل في الأشياء الإباحة قبل صدور النهي.

المرحلة الثانية ـ لو فرضنا استظهار الوصول من الورود فهل تكون البراءة المستفادة من الحديث محكومة لدليل الاحتياط لو تم أو معارضة معه ، وهذا يتوقف على تشخيص ان المراد بالنهي في الغاية هل هو الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري ، فعلى الأول تكون البراءة معارضة مع دليل الاحتياط لأنه لا يثبت النهي الواقعي وعلى الثاني تكون محكومة ومتأخرة عنها لا محالة. ولا ينبغي الإشكال في ان الظاهر هو الأول ، لأن النهي قد أضيف إلى موضوع القضية في الحديث وهو الشيء فقيل ( حتى يرد فيه نهي ) وهذا ظاهر في ورود النهي فيه بما هو شيء لا بما هو مشكوك النهي والحرمة فان هذا


الجزء من الموضوع وهو الشك في الحرمة انما يستفاد بملاحظة الغاية في الحديث مع ان موضوع النهي في الغاية لا بد وان يكون ملحوظا بقطع النّظر عنها. فالمرحلة الثانية من الاستدلال تامة الا ان المرحلة الأولى قد عرفت عدم تماميتها.

ثم ان صاحب الكفاية ( قده ) بعد ان فرض ان المراد من الورود في الحديث الصدور لا الوصول اقترح تتميم الاستدلال بضم استصحاب عدم الصدور فيتنقح موضوع البراءة قبل الصدور وهو من الاستصحاب الموضوعي الجاري في امر خارجي وهو صدور الخطاب لا الحكمي الجاري عن الحرمة ابتداء ، وهو لا يتم الا إذا ثبتت البراءة الظاهرية قبل الصدور. وبهذا نصل إلى النتيجة المطلوبة وهي البراءة في تمام الشبهات.

ثم علق عليه بان هذا لا يثبت تمام المطلوب ، إذ لا يمكن إثبات البراءة في موارد العلم بصدور النهي والإباحة ولكن يشك في المتقدم منهما والمتأخر.

وهذا التعليق قد يفسر بما لعله ظاهر من عدم جريان استصحاب عدم صدور النهي في هذه الحالة للعلم بصدوره بحسب الفرض. وقد يفسر ـ كما عن المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ بأنه لا يجري استصحاب عدم الصدور لكون المورد من توارد الحالتين فلا يجري فيه الاستصحاب اما للمعارضة أو في نفسه لعدم اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، وحينئذ يعترض عليه : ـ كما عن المحقق المذكور ـ بان التوارد في المقام غير معقول لأن العلم بطرو الحرمة والإباحة معا لا يكون الا بان تكون هناك إباحة بعد الحرمة والا فلو كانت الحالة الثانية هي الحرمة فلا إباحة إذ لا يعقل طرو إباحة قبل الحرمة على الإباحة الثابتة بمقتضى هذا الحديث قبل كل نهي فانه من اجتماع إباحتين وهو محال.

وفيه : أولا ـ انه لا يلزم في فرض توارد الحالتين العلم بطرو إباحة أخرى يعلم بمغايرتها مع الأولى بل يمكن فرض زمانين يعلم بثبوت الإباحة في أحدهما وثبوت الحرمة في الاخر كما لو علم بحرمة الفعل في غزوة خيبر مثلا وبإباحته في السنة الرابعة للهجرة وشك في ان الغزوة المذكورة كانت قبل السنة الرابعة أو بعدها فان كانت قبلها فالإباحة أصلية قبل النهي وهي مرتفعة وان كانت بعدها فالإباحة طارئة على النهي وهي باقية فتصوير توارد الحالتين لا يتوقف على ما ذكره ( قده ) ليكون غير معقول.


وثانيا ـ لو فرض العلم بإباحة أخرى طارئة مع ذلك لا استحالة في تقدمها على النهي ولا يلزم من ذلك اجتماع إباحتين لأن الإباحة المفادة بالحديث والمغياة بصدور النهي إباحة ظاهرية بحسب الفرض وليست واقعية فهي كما تجتمع مع الحرمة الواقعية كذلك تجتمع مع الإباحة كذلك.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان علق على الاستصحاب بما تقدم حاول إثبات البراءة في موارد توارد الحالتين بالإجماع المركب وعدم القول بالفصل في البراءة بين حالات عدم التوارد وحالات التوارد فاستشكل فيه بان هذا التعدي غير ممكن لأن المدرك للبراءة هو الاستصحاب.

وهذا الإشكال أيضا له تفسيران :

أحدهما : ما نفهمه نحن من عدم إمكان التعدي على أساس الإجماع لأن البراءة انما تثبت في موارد عدم التوارد بالاستصحاب المنقح لموضوع البراءة ولم تثبت البراءة في الشبهة بدليل اجتهادي لكي يضم إليه عدم القول بالفصل بين مورد ومورد ، وهذا هو الفرق بين محل الكلام وبين ما نقض به المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام من التعدي في البراءة عن الشبهات التحريمية إلى الوجوبية بعدم القول بالفصل.

ثانيهما ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الإجماع قائم على انه إذا جرت البراءة في شبهة جرت في سائر الشبهات ولم تجر هنا البراءة بل الاستصحاب ، وكأنه يرى ان المراد بالإطلاق في الحديث الإباحة الواقعية المغياة بصدور النهي والاستصحاب حكم ظاهري ببقاء تلك الإباحة فليس في البين براءة تثبت لا بدليل اجتهادي ولا فقاهتي فلا موضوع للإجماع وعدم القول بالفصل ، نعم لو كان هناك إجماع على عدم الفصل بين مطلق التأمين في شبهة حكمية وسائر الشبهات لزم التعدي الا انه من الواضح فساد مثل هذه الدعوى.

هذا تمام الكلام في مفاد الحديث.

واما سنده ، فهو ساقط بالإرسال لأنه قد نقله الصدوق ( ره ) بعنوان قال الصادق ، والمختار عندنا سقوط المراسيل سواء كان بعنوان قال المعصوم 7 الظاهر في تعهد الناقل بصدوره أم بعنوان روي عنه.


« حديث الرفع »

ومنها ـ حديث الرفع المشهور وقد رواه في الخصال بلسان ( رفع عن أمتي تسعة وعد منها ما لا يعلمون وعطف عليه ما اضطروا إليه واستكرهوا عليه ... إلخ ) (١).

والكلام فيه يقع في أربعة مقامات.

الأول ـ في فقرة الاستدلال منه.

الثاني ـ في شمولها للشبهات جميعا.

الثالث ـ في فقه الحديث عموما وما قد يلقيه من ضوء على الاستدلال به على البراءة.

الرابع ـ في سنده.

اما المقام الأول ـ فالفقرة التي يستدل بها من الحديث قوله ( وما لا يعلمون ) المعطوف على ما رفع عن الأمة ، ودلالتها على البراءة الشرعية مبنية على ان يكون الرفع ظاهريا لا واقعيا فانه كما يوجد وضع ورفع واقعيان للتكاليف كذلك يتصور رفع ووضع ظاهريان لها ويعني رفع إيجاب الاحتياط من ناحيتها ووضعه.

ومن هنا يستشكل على الاستدلال بان هذا خلاف الظاهر الأولي للرفع في إرادة الرفع الواقعي ولا أقل من انه ليس ظاهرا في الرفع الظاهري فيكون مجملا.

وهذا الاستشكال ينحل إلى دعويين :

الأولى ـ ان ظاهر الرفع هو الواقعي لا الظاهري ، وذلك لأن إرادة الرفع الظاهري تتوقف على ارتكاب عناية اما في مادة الرفع بان لا يراد منه الرفع الحقيقي للحكم المجهول بل ما يكون كأنه رفع له أو في نسبة إلى ما لا يعلمون فيراد الرفع الحقيقي من المادة ولكن لا للحكم المجهول بل لإيجاب الاحتياط من ناحيته وكلتا العنايتين على خلاف الأصل.

الثانية ـ انه لو أريد الرفع الواقعي فلا يمكن إثبات ما هو المطلوب ، إذ في موارد الشبهات نعلم عادة بأنه لو ثبت الحكم الواقعي في حق العالم فهو ثابت في حق الجاهل

__________________

(١) الخصال : باب التسعة ، ح ٩.


به أيضا قطعا للقطع بعدم إناطته بالعلم به.

ولنا حول هذه الشبهة كلامان :

الأول ـ اننا نستظهر ان الرفع في الحديث ظاهري لا واقعي وذلك على أساس إحدى نكتتين :

الأولي ـ ان العناية التي أبرزت في الشبهة امر لا بد منه على كل حال سواء أريد من الرفع الواقعي أو الظاهري ، لأن الرفع الواقعي يستلزم أيضا تقيد التكليف الواقعي بالعلم به وهو مستحيل الا بان يراد أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ومعه لا يكون المرفوع بالحديث هو المجعول الّذي لا يعلمونه بل المرفوع فعلية الحكم وما لا يعلمون هو الجعل فلم يسند الرفع إلى ما لا يعلمونه فإذا كانت هذه العناية واقعة على كل حال فنعين إرادة الرفع الظاهري على أساس مناسبات الحكم والموضوع والتي منها مناسبة أخذ الشك وعدم العلم في لسان الدليل لكون النّظر إلى الحكم الظاهري لا الواقعي وقد استشهد المحقق العراقي ( قده ) على ذلك بسياق الامتنان الا ان الإنصاف ان أصل الامتنان حاصل حتى بالرفع الواقعي وان كان الامتنان يكفي فيه رفع إيجاب الاحتياط فقط.

الثانية ان ظاهر الحديث ان المرفوع لو لا هذا الحديث كان موضوعا على الأمة وهذا لا يناسب الا الرفع الظاهري فانه لولاه كان إيجاب الاحتياط موضوعا على الأمة ، واما الواقعي فليس كذلك إذ قد لا يكون ما لا يعلمونه من التكاليف ثابتا في الواقع.

وهذا انما يتم لو أريد بما لا يعلمون أي بالموصول عنوان التكليف الّذي لا يعلمونه لا واقع التكليف والا كان مقدر الوجود وكان المعنى أن التكليف الواقعي لو لم يعلم به المكلف رفعناه عنه فلا يلزم الإشكال المذكور ، الا انه لا يبعد ان يكون الظاهر هو الأول فان عنوان مالا يعلمون يصدق على نفس الشك في التكليف سواء كان تكليف في الواقع أم لا.

الثاني ـ انه لو بقي الحديث مجملا مرددا بين الرفع الواقعي والظاهري فالنتيجة بصالح الاستدلال ، وذلك تمسكا بإطلاقه لموارد الشك في التكليف الّذي يعلم بعدم اختصاصه بالعلم لأنه من الشك في التخصيص بالنسبة إليه وبذلك يثبت ان الرفع


ظاهري لا محالة (١).

المقام الثاني ـ في جريان البراءة المستفادة من حديث الرفع في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعا ، والكلام عن ذلك يقع في جهتين :

الأولى ـ في إمكان تصوير جامع بينهما ثبوتا.

الثانية ـ في عموم مفاد الحديث إثباتا.

اما الجهة الأولى ـ فالإشكال في العموم انما ينشأ من ناحية ان المشكوك وما لا يعلمونه في الشبهة الحكمية غير المشكوك في الشبهة الموضوعية فانه في الأول هو الحكم وفي الثاني الموضوع الخارجي فكيف نتصور الجامع بينهما.

وقد أفاد صاحب الكفاية ( قده ) : بان الحديث ورد بعنوان ما لا يعلمون واسم الموصول مدلوله يساوق الشيء وهو جامع بين التكليف والموضوع الخارجي لأن كلا منهما شيء لا يعلمونه فيكون مشمولا للحديث إذا كان قابلا للرفع الشرعي.

ثم اعترض عليه : بان الموصول إذا أخذ بمعنى الشيء الجامع بين التكليف والموضوع الخارجي وأسند الرفع إليه يلزم الجمع في الإسناد بين الإسناد الحقيقي والمجازي لأن اسناد الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم والتكليف حقيقي ولكن اسناده إليه بمعنى الموضوع الخارجي مجازي عنائي إذ لا يرتفع الموضوع الخارجي حقيقة والجمع بين الأمرين غير معقول.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من انه لا بأس بان يكون اسناد واحد من ناحية حقيقيا ومن ناحية أخرى مجازيا لأن التقابل بين الحقيقة والمجاز ليس تقابلا حقيقيا كالأضداد بل بالاعتبار فلا مانع من صدقهما معا في اسناد واحد باعتبارين فإسناد الرفع في الحديث إلى الشيء أي الموصول من حيث انطباقه على التكليف

__________________

(١) لا وجه لهذا الاستظهار بل الظاهر من الموصول ثبوت أمر لا يعلم به المكلف وهو يكفي في الترخيصي له فانه يعلم اما بعدم وجود تكليف واقعا أو انه مرفوع عنه على تقدير وجوده.

كما ان الإطلاق ومقدمات الحكمة كما يكون في طول تحديد مفهوم اللفظ كذلك يكون في طول تحديد متعلق اللفظ وهو الرفع في المقام وانه التكليف الواقعي أو إيجاب الاحتياط بلحاظه فلا يمكن إثبات ذلك بالإطلاق. نعم لو فرض ان الرفع متعلق بالعقوبة والتبعة ولكن احتملنا مع ذلك ان يكون رفعها باعتبار رفع منشئها وهو الحكم الواقعي صح التمسك بالإطلاق المذكور لإثبات ظاهرية الرفع.


يكون حقيقيا ومن حيث انطباقه على الموضوع الخارجي يكون عنائيا.

وهذا الجواب غير تام ، إذ ليس المقصود ـ بحسب الظاهر ـ ان هذا الإسناد في عالم التطبيق والانحلال بلحاظ مصداقه الّذي هو التكليف يكون حقيقيا وبلحاظ الموضوع الخارجي يكون عنائيا ليتجه ما ذكر بل الملحوظ مرحلة الاستعمال والإسناد الكلامي التي هي مرتبة أسبق من مرحلة انحلال المعنى على مصاديقه خارجا حيث يقال في هذه المرتبة بان الهيئة المستعملة في النسبة الإسنادية اما ان تكون مستعملة فيما هو له فيكون حقيقة أو في غير ما هو له فيكون إسنادا عنائيا واستعمالا مجازيا لأن النسبة إلى ما هو له غير النسبة إلى غير ما هو له سنخا فلا يمكن الاستعمال فيهما معا لأنه من الاستعمال في أكثر من معنى والجامع بينها غير موجود لتباين النسبتين سنخا فلا بد من الاستعمال في إحداهما وطرف النسبة إلى ما هو له يستحيل ان يكون له إطلاق لغير التكليف كما هو واضح.

الثاني ـ ما ذكره من ان الشيء إذا شمل الحكم والموضوع الخارجي معا فقد أسند الرفع إلى المركب مما له الرفع وما ليس له الرفع والمركب مما له وما ليس له الرفع ليس له الرفع كما ان المركب من الذاتي والعرضي ليس بذاتي.

وفيه : أولا ـ ما تقدم في مناقشة الكلام السابق من ان النسبتين متغايرتان سنخا فلا يكفي مجرد توسيع نطاق طرف النسبة للتعميم ، فان هذا انما يفيد في سنخ نسبة واحدة لا نسبتين متغايرتين بالهوية كالتغاير بين النسبة الابتدائية والظرفية فانهما لا يمكن جمعهما في واحد مهما وسعنا الطرف.

وثانيا ـ ان الصياغة المذكورة غير سليمة ، لأن المركب مما يقبل الرفع وما لا يقبل لو أريد به العالم المجموعي ـ كما هو ظاهر كلمة المركب ـ قابل للرفع حقيقة برفع الجزء القابل منه فان المركب ينتفي حقيقة بانتفاء جزئه ولهذا لا بد من تعديله والتعبير عنه بالجامع بين ما يقبل وما لا يقبل فانه لا يقبل الرفع حقيقة لأن رفع الجامع لا يكون الا برفع تمام مصاديقه فإذا كان فيها ما لا يقبل الرفع فالجامع أيضا لا يقبله (١)

__________________

(١) الا ان رفع الجامع بمعنى صرف الوجود خلف الانحلالية المطلوبة ولازمه انه لو ثبت التخصيص في مورد فلا يمكن إثبات الرفع في غيره.


الثالث ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من إرادة التكليف الأعم من الحكم الكلي والجزئي ويكون الإسناد إليه حقيقيا لا محالة.

وهذا الجواب وان كان يحل المشكلة بلحاظ فقرة ما لا يعلمون وعمومها للشبهتين الا انه يبقى الإشكال بلحاظ الفقرات الثمان الأخرى ، فان المراد من الموصول فيها لا يكون الا الفعل الخارجي لأن ما يضطر إليه أو ما لا يطيقونه هو الفعل لا الحكم الشرعي فيبقى الإشكال في كيفية الجمع بين اسناد الرفع إليها الّذي لا يكون الا مجازيا واسناده إلى ما لا يعلمون بمعنى الحكم الّذي يكون حقيقيا.

الرابع ـ ان الرفع في الحديث عنائي على كل حال ، إذ ليس المقصود منه الرفع الحقيقي الواقعي بل الظاهري وهو رفع بالعناية والمجاز على كل حال سواء أسند إلى التكليف أو إلى الموضوع الخارجي فالهيئة مستعملة في اسناد مجازي والمعنى ان الكلفة والتبعة المترتبة على ما لا يعلمونه أو لا يطيقونه مرفوع سواء كان حكما أو فعلا وموضوعا خارجيا (١).

الجهة الثانية ـ مقتضى الأصل إطلاق الموصول للشبهتين معا بعد ان تم تصوير الجامع في الجهة السابقة فلا بد لمدعي التقييد من إبراز مقيد وهنا دعويان متقابلان :

الأولى ـ دعوى الاختصاص بالشبهة الموضوعية بقرينة السياق في الفقرات الثمانية الأخرى حيث انها جميعا يراد بالموصول أو غيره فيها الموضوع الخارجي فبظهور السياق في وحده المراد يحمل الموصول في ما لا يعلمون على الفعل.

وفيه : ان الاختلاف في الدالين الواقعين في السياق الواحد تارة يكون بلحاظ مدلوليهما الاستعمالي كما إذا قال زر الإمام وصل خلف الإمام فيراد بالأول المعصوم

__________________

(١) هذا يتم على فرض أخذ التقدير في اسناد الرفع واما إذا فرض اسناده إلى نفس الأمور التسعة ويكون المرفوع الوجود لتشريعي والتحميلي أو الخارجي لها فمن الواضح ان الرفع التشريعي للموضوع المجهول رفع عنائي بخلاف الرفع التشريعي للحكم المجهول وان كان الرفع ظاهريا على كل تقدير فلا يمكن الجمع بينهما في نسبة واحدة ويمكن الجواب : بافتراض ان الرفع مسند في تمام الفقرات إلى ما ارتكبه المكلف خطا أو نسيانا أو اضطرارا أو جهلا سواء كان من جهة الجهل بالموضوع أو بالحكم فشرب التتن الّذي ارتكبه المكلف لعدم علمه بحرمته مرفوع عنه وبهذا النّظر العرفي يكون مالا يعلمون منطبقا على نفس الفعل الصادر خارجا حتى في الشبهات الحكمية فلا يلزم كون المرفوع غير ما لا يعلم به نعم تأتي على هذا التفسير شبهة اختصاص الرفع بموارد صدور الفعل عن المكلف في مورد الجهل غفلة أو لكون الجهل جهلا مركبا وهذا غير البراءة المبحوث عنها فيكون وزان حديث الرفع وزان قوله 7 ( من ركب امرا بجهالة فلا شيء عليه ) فتأمل جيدا.


وبالثاني امام الجماعة ، وأخرى في مدلوليهما الجدي كما في أكرم العلماء وقلد العلماء وأريد الإطلاق في الأول دون الثاني والإطلاق مدلول جدي ، وثالثة يكون الاختلاف في مجرد مصاديق المدلولين كما في لا تغصب ما تأكله ولا ما تلبسه حيث يكون مصداق ما يوكل غير ما يلبس. وما هو خلاف الظاهر انما هو الأول فقط دون الأخيرين خصوصا الثالث وما نحن فيه من قبيل الثالث لأن المراد بالموصول استعمالا مفهوم واحد وهو الشيء أو ما يساوقه وهو المراد جدا أيضا وانما الاختلاف في مصداقه كما لا يخفى.

الثانية ـ ما أبرزه المحقق العراقي ( قده ) من دعوى الاختصاص بالشبهة الحكمية لأن ما لا يعلمون لا ينطبق على الموضوع الخارجي لأن الموضوع الخارجي ذاته معلومة وانما الشك في وصفه وعنوانه وهذا بخلاف الحكم.

وفيه : أولا ـ يكفي الجهل بالعنوان لصحة تطبيق الموصول على العنوان الخارجي كشرب الخمر فيقال انه مما لا يعلمونه وثانيا ـ في جملة من الموارد تكون الذات الخارجية أيضا مشكوكة كما إذ شك في ذات نزول المطر وعدمه كان موضوعا لحكم. فالصحيح هو عموم الحديث للشبهتين.

المقام الثالث ـ في فقه الحديث وذلك ضمن جهات عديدة.

الجهة الأولى ـ انه ورد في الحديث فقرات عديدة لا تقبل الرفع من الشارع بما هو شارع ومولى فنحتاج إلى عناية وإعمال تصرف في الرفع أو المرفوع وتلك الفقرات هي جميع فقرات الحديث عدا ما لا يعلمون. من هنا ينفتح أمامنا احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يلتزم بالتقدير فيقال بان المرفوع هو الآثار المترتبة على الموضوعات الخارجية.

الثاني ـ ان يكون الرفع مسندا حقيقة إلى الفعل بلا تقدير ولكنه بما هو موجود في عالم التشريع موضوعا للأحكام الشرعية فيكون نظير ( لا رهبانية في الإسلام ) الّذي هو نفي لوجودها في عالم التشريع (١)

__________________

(١) بل الظاهر في المقام رفع هذه الأمور بما هي أمور ثقيلة توضع على عاتق المكلف وفي ذمتهم من خلال التكليف فيكون المعنى رفع تسجيل تلك الأمور على المكلف فترتفع العقوبة وما يشابههما من الآثار التحميلة التي تكون بحسب مناسباتها العرفية تبعات تسجيل الفعل على المكلف فليس المرفوع الوجود التشريعي المطلق ولا الوجود الاستساغي التشريعي كما في ( لا رهبانية في.


الثالث ـ ان يكون الرفع مسندا إلى الفعل حقيقة الا ان هناك عناية في الرفع نفسه فانه يراد به الرفع التنزيلي التعبدي نظير لا ربا بين الوالد والولد وعبائر الميرزا ( قده ) مرددة بين الاحتمالين الأخيرين.

وعلى جميع هذه الاحتمالات يكون الحديث حاكما على الدلالة الأحكام المترتبة على الأفعال المضطر إليها أو الواقعية خطا أو نسيانا أو غير ذلك لأنه ناظر إليها وهو ملاك الحكومة وجوهرها الا انه بناء على الأولين تكون حكومته بلحاظ النّظر إلى عقد الحمل من أدلة تلك الأحكام وبناء على الأولين تكون الحكومة بلحاظ عقد الوضع فيها. وبهذا يظهر ان الميزان في تشخيص ان الحكومة بلحاظ عقد الوضع أو الحمل هو انه ان أبقي المرفوع على حقيقته وكان التصرف في الرفع وانه تنزيلي فالحكومة بلحاظ عقد الوضع وان كان المرفوع هو الأثر أو موضوعية المرفوع له الّذي يعني ترتب الأثر عليه فالحكومة بلحاظ عقد الحمل لا محالة. كما ظهر بذلك وجه الضعف فيما أفاده المشهور في المقام من ان العنوان الّذي تعلق به الرفع أي المرفوع ان كان عنوانا أوليا وهو نفس عناوين الأفعال المضطر إليها أو الصادرة نسيانا أو خطأ فالحكومة بلحاظ عقد الوضع كلا ربا وان كان المرفوع عنوانا ثانويا أي عنوان الاضطرار والنسيان والخطأ فالحكومة بلحاظ عقد الحمل بدعوى ان المرفوع على الأول لا محالة هو الموضوع والفعل الخارجي الّذي يكون موضوعا للحكم لا محالة وعلى الثاني فحيث ان العنوان الثانوي المذكور ليس هو موضوع الحكم فلا يكون النفي والرفع بلحاظه بل لا يعقل ذلك لأنه خلف المقصود إذ معناه رفع أثر الاضطرار أو الإكراه فيتعين ان تكون الحكومة بلحاظ الحكم وعقد الحمل ، وحديث الرفع من قبيل الثاني لأن الرفع قد تعلق فيه بالعنوان الثانوي كعنوان ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والخطأ والنسيان فحينئذ ان كان يراد رفع العنوان الأولى وهو ذات الفعل الّذي وقع الاضطرار إليه فهو خلاف ظاهر تقييدية كل عنوان يؤخذ في موضوع حكم وان كان يراد رفعه بعنوانه الثانوي فهو خلف المقصود لأن المراد رفع حكم الفعل في نفسه لا حكم الاضطرار الّذي هو الرفع والعذر.

__________________

الإسلام ) ومما يؤيد هذا المعنى الّذي استظهرناه ورود التعبير بـ ( وضع عن أمتي ) في بعض الأحاديث بدلا عن ( رفع ) وهو أوضح في الدلالة على ما بيناه. ولعل مقصود سيدنا الأستاذ ـ 1 ـ ذلك أيضا.


وفيه : ما عرفت من انه قد يتعلق الرفع بالعنوان الأولى وتكون الحكومة مع ذلك بلحاظ عقد الحمل وذلك فيما لو أريد نفي الوجود التشريعي للموضوع لا الخارجي كما انه إذا تعلق النفي بالعنوان الثانوي لا يتعين ان تكون الحكومة بلحاظ عقد الحمل. وما ذكر في الإشكال جوابه ان حيثية العنوان الثانوي حيثية تقييدية للرفع نفسه لا للمرفوع فالمرفوع هو الفعل الّذي اضطر إليه والاضطرار موضوع للرفع الّذي هو الحكم في الجملة فليس إرادة رفع الفعل بالعنوان الأولي مخالفا لظهور كل عنوان أخذ في موضوع الدليل في التقييدية وهذا هو المفهوم من مثل هذه الجمل ولو على أساس مناسبات الحكم والموضوع العرفية (١) وان شئت قلت : ان رفع العنوان الأولي هو رفع للعنوان الثانوي أيضا ولكنها على نحو السالبة بانتفاء الموضوع لا المحمول ولو لا هذا لم يكن مجرد جعل النفي نفيا للحكم لا للموضوع دافعا للإشكال المذكور إذ يقال بان المنفي هل هو حكم العنوان الأولي أو الثانوي فالأوّل خلاف الظهور المذكور والثاني خلف المقصود. فالصحيح في ميزان كون الحكومة بلحاظ عقد الوضع أو الحمل ما ذكرناه آنفا. بقيت نقطتان :

١ ـ ترجيح بعض الاحتمالات الثلاثة. لا إشكال في سقوط الاحتمال الثالث لأن رفع الوجود الخارجي تنزيلا ان صح في بعض فقرات الحديث فلا يصح في فقرة ( ما لا يطيقون ) لأنه ليس له وجود في الخارج لكي يعقل رفعه تنزيلا وتعبدا والرفع في الجميع واحد كما هو واضح فيدور الأمر بين الاحتمالين الأول والثاني ، وقد يقال حينئذ بوقوع التعارض بين ظهورين في الحديث كل منهما يعين أحد الاحتمالين وينفي الاخر وهما ظهور الكلام في عدم التقدير النافي للاحتمال الأول والمثبت للاحتمال الثاني وظهور أخذ العناوين المذكورة في انها ملحوظة بما هي فانية في وجوداتها الخارجية لا التشريعية أو التحميلية النافي للاحتمال الثاني والمعين للاحتمال الأول.

الا ان الصحيح جريان أصالة عدم التقدير دون الظهور الاخر فانه المتعين عرفا في

__________________

(١) لا بد من التمييز بين نفي عنوان كالربا أو الاضطرار فيقال لا ربا أو لا اضطرار أو رفع الاضطرار بين قولنا رفع ما يضطر إليه فانه في الأول يكون النفي سلبا لوجود ذلك العنوان استطراقا إلى سلب حكمه فلا بد من ان يكون الحكم المسلوب حكم نفس ذلك العنوان ويكون ذلك العنوان حيثية تقييدية فيه واما في الثاني فالرفع أسند إلى الفعل الّذي فرغ عن الاضطرار إليه فلا يمكن أن يكون الرفع متوجها إليه بل إلى الفعل ويكون الاضطرار حيثية دخيلة في الرفع.


دوران من هذا القبيل إذ لا ينبغي الإشكال في ان العرف يرى في التقدير عناية فائقة بخلاف المعنى الثاني فظاهر السياق هو الاحتمال الثاني عرفا.

وإذا أردنا ان نبين ذلك صناعيا أمكن القول بان أصالة الظهور في العناوين التسعة التي يراد بها إثبات ان المقصود منها وجوداتها الخارجية يعلم بعدم مطابقتها للمراد الجدي بمعنى انا نعلم بان المراد الجدي هو نفي الحكم عن هذه العناوين لا نفيها أنفسها وانما الشك في المراد الاستعمالي لألفاظها وقد تقرر في محله ان أصالة الظهور انما تجري لتشخيص المراد ، واما إذا كان المراد معلوما وكان الشك في الاستعمال فلا تجري أصالة الظهور ولهذا لا تجري أصالة العموم لإثبات التخصص.

لا يقال ـ كما لا تجري أصالة الظهور المذكور كذلك لا تجري أصالة عدم التقدير لكون المراد معلوما وانما الشك في كيفية الاستعمال.

فانه يقال : حيث ان أصالة عدم التقدير يثبت بحسب النتيجة ان المنفي تمام الآثار بينما بناء على التقدير لا يمكن إثبات ذلك ـ على ما سوف يقع البحث عنه أيضا ـ أمكن إجراء الأصل المذكور لوقوعه في طريق إثبات إطلاق المراد الجدي لا محالة هذا مضافا إلى ان عناية الاحتمال الثاني يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في ان الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هو إنشاء لا اخبار بخلاف عناية التقدير فانها خلاف الأصل حتى في كلام الشارع بما هو مستعمل.

٢ ـ في ثمرات الاحتمالات المتقدمة. اما الثمرة المترتبة على الأول دون الأخيرين :

انه بناء على الأول يكون الحديث مجملا من حيث ان المنفي تمام الآثار أو خصوص المؤاخذة ولا يمكن رفع الإجمال لا على أساس قرينية مناسبة عرفية كما في بعض المقدرات مثل ( حرمت عليكم الميتة أو حرمت أمهاتكم ) إذ كلا التقديرين يكون مناسبا ، ولا على أساس حذف المتعلق واستفادة الإطلاق منه لما تقدم منا مرارا من ان موضوع الإطلاق انما يتم حيث يكون هناك مفهوم معين يشك في المراد منه لا ما إذا شك في المفهوم المقدر وانه الأعم أو الأخص. فان مقدمات الحكمة لا تعين المفهوم وانما تثبت عدم القيد فيه ، وعليه فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن وهو رفع المؤاخذة بينما على الأخيرين يكون مقتضى إطلاق رفع الوجود التحميلي أو الخارجي لتلك الموضوعات نفي تمام التحميلات التشريعية أو رفع الوجود الخارجي بلحاظ تمام


تلك الآثار. واما الثمرة بين الأخيرين فقد تظهر في موردين :

المورد الأول ـ ويتوقف على ان نبين مقدمة حاصلها : ان هناك بحثا في شمول حديث الرفع لما إذا اضطر إلى الترك بدلا عن الفعل كما إذا اضطر إلى ترك الواجب من أجل نفي أثر تحميلي مترتب على الترك كوجوب صوم اليوم الثاني مثلا لمن ترك صلاة العشاء وعدمه.

وقد ناقش المحقق النائيني ( قده ) في شموله لذلك بدعوى : ان الحديث بلسان النفي والرفع ونفي الترك عبارة عن الوضع عرفا لا الرفع فالتقابل الارتكازي عرفا بين الوضع والرفع يمنع من إطلاقه للاضطرار إلى الترك من أجل نفي آثاره التحميلية. وهذا المطلب ان تم فسوف يبرز فرقا وثمرة بين الاحتمالين الأخيرين إذ هذا البيان انما يتم بناء على الاحتمال الثالث الّذي يكون النّظر فيه إلى العالم الخارجي لا الاحتمال الثاني الّذي يكون النّظر فيه إلى عالم التشريع لأن التقابل بين الرفع والوضع انما يكون لو كان النّظر إلى الخارج إذ لا واسطة بين الوجود خارجا وعدمه كذلك واما بلحاظ عالم التشريع فرفع موضوعية الترك لا يعني وضع موضوعية الفعل لأن الوجود التشريعي أمر ثبوتي ويعني وقوعه موضوعا للحكم والتشريع وتطبيق الحديث على الترك في هذا العالم لا يعني الا نفي وقوعه موضوعا له وهو غير وقوع الفعل موضوعا. وهذا أحد الموارد التي ذكرنا سابقا بأنها تدل على تذبذب كلمات الميرزا ( قده ) بين الاحتمالين الثاني والثالث أضعف إلى ذلك عدم تمامية البيان المتقدم حتى على احتمال الثالث لأنه يكفي في إشباع التقابل الارتكازي المذكور بين الوضع والرفع ان الرفع منصب ولو عنوانا على أمر ثبوتي وهو عنوان ما اضطروا إليه سواء كان فعلا أو تركا.

المورد الثاني ـ انه بناء على الاحتمال الثالث وهو ان يكون الرفع منصبا على الوجود الخارجي تعبدا وتنزيلا فكما يرتفع الأثر التحميلي المترتب على الفعل المضطر إليه لارتفاع موضوعه تنزيلا كذلك تترتب الآثار غير التحميلية المترتبة على ارتفاع المضطر إليه ، لأن التعبد برفع أحد النقيضين تعبد بالنقيضين الاخر لا محالة للتقابل بينهما ، بينهما على الاحتمال الثاني لا تترتب تلك الآثار غير التحميلية لما تقدم من عدم التقابل بين رفع الوجود التشريعي لموضوع ووضع موضوعية نقيضه للتشريع.

ثم لو قلنا في المورد الأول بان الحديث لا يشمل الاضطرار إلى الترك فسوف تختص


الثمرة في هذا المورد بما إذا اضطر إلى الفعل لترتيب آثار الترك غير التحميلية ، وان قلنا بشموله لذلك أيضا عمت الثمرة لما إذا اضطر إلى الترك أيضا في ترتيب آثار الفعل غير التحميلية.

الجهة الثانية ـ في إمكان استفادة انحفاظ الملاك والمقتضي للحكم المرفوع في موارد هذه العناوين التسعة ، وثمرته انه لو أوقع المكلف مثلا ما لا يطيقه أو اضطر إلى تركه عرفا لا عقلا كان صحيحا لكفاية انحفاظ الملاك في الصحة بينما لو لم يمكن استفادة ذلك من الحديث فلا كاشف عن الملاك حينئذ ومعه لا طريق إلى إثبات الصحة.

ويمكن تقريب هذه الاستفادة بأحد تقريبين.

١ ـ ان مساق الحديث هو الامتنان والتلطف على الأمة ، وهذا انما يكون مع فرض وجود الملاك والمقتضي للحكم واما عدم الحكم لعدم ملاكه ومقتضية فلا يكون فيه امتنان أو تفضل ، وهل هذا الا من قبيل ان يقول الأب لابنه إنني امتن عليك بعدم طلبي للماء منك لعدم كوني عطشان مثلا؟.

وفيه : ان هذا انما يتم في حق الموالي العرفية لا المولى الحقيقي الّذي تكون أحكامه لمصالح راجعة إلى العباد أنفسهم فانه في مثله لا معنى لافتراض ان رفع الحكم مع وجود ملاكه ومصلحته امتنان عليهم. فالظاهر ان حيثية الامتنان الملحوظة في الحديث انما هو باعتبار ما يكشف عنه الحديث من ان الشريعة كاملة وافية بتمام شئون الإنسان وتلحظ تمام حالاته من حالات القوة والضعف والشدة والرخاء وتنظر إلى حاجاته التسهيلية كما تنظر إلى حاجاته الإلزامية ومثل هذا المعنى لا يتوقف على فرض وجود المقتضيات للأحكام الإلزامية في موارد رفعها.

٢ ـ ان يستفاد ذلك من كلمة الرفع فانها تستعمل في موارد النفي بعد الوجود فلا بد من افتراض نحو وجود للمرفوع وهو الوجود الشأني والاقتضائي.

وهذا الوجه غير تام أيضا ، اما على الاحتمال الثالث فواضح لأن مناسبة الرفع انما يكون بناء عليه باعتبار وجود المرفوع خارجا وان الرفع تنزيلي. واما على الاحتمالين الأولين فلعدم انحصار مناسبة الرفع بما ذكر بل يمكن ان يكون باعتبار ثبوت تلك الأحكام في موارد العناوين التسعة في أول الشريعة أو في الشرائع السابقة كما يمكن ان تكون مناسبة الرفع إثباتا لا ثبوتا بمعنى ان الأحكام المرفوعة كانت ثابتة


بإطلاق أدلتها لو لا الرفع.

الجهة الثالثة ـ يمكن تصنيف الآثار المترتبة على الشيء إلى ثلاثة :

١ ـ ما هو ثابت أو يترقب ثبوته على العنوان الأولي للفعل بحسب لسان دليله من دون ان تكون العناوين التسعة وجودا أو عدما دخيلة في ترتبها كحرمة شرب المسكر.

٢ ـ الآثار المترتبة على الشيء مقيدا بعدم طرو أحد تلك العناوين كما في ترتب الكفارة مثلا المقيد موضوعها بالإفطار العمدي.

٣ ـ الآثار المترتبة على الشيء مقيدا بأحد تلك العناوين كوجوب سجدتي السهو لمن سها في صلاته.

والأول هو المقدر المتيقن من الآثار المرفوعة بهذا الحديث ، كما ان النوع الثاني لا إشكال في خروجه عن الحديث تخصصا لأنه بطرو أحد العناوين التسعة يرتفع موضوع هذا النوع من الآثار. واما القسم الثالث فمن الواضح انه إذا دل دليل على ثبوته فسوف يكون مقدما على الحديث سواء قيل بشموله لنفي هذا القسم أم لا لأنه شمول إطلاقي فيخصص بذلك الدليل. ولو احتمل ثبوته بلا دليل عليه فبناء على شمول الحديث لنفيه يتمسك به فينفي بالدليل والا فينفي بالأصل النافي ان تم موضوعه.

واما شمول الحديث لمثل ذلك وعدمه فقد ذهب المحققون إلى العدم مستدلين عليه بأنه لو جرى الحديث لنفي هذا القسم من الآثار لزم منه كون العناوين التسعة مقتضية لحكم ومانعة عنه في آن واحد وهو محال.

الا ان هذا المقدار من البيان يمكن ان يجاب عنه : بأنه على تقدير شمول الحديث لهذا القسم لا يبقى دليل على وجود مقتض لثبوته لكي يقال بان هذه العناوين مقتضية ومانعة في نفس الوقت.

ومن هنا قد يطور هذا الكلام بأنا نثبت الاقتضاء بالبيان المتقدم في الجهة السابقة. الا انه مع ذلك لا يتم ، لأنه انما يصح فيما لو فرض ان العناوين المذكورة بذاتها تقتضي وضع ذلك الأثر ورفعه لا ما إذا كان فيها خصوصيتان وحيثيتان تكون بإحداهما مقتضية للوضع وبالأخرى للرفع نظير ما يستفاد من مثل قوله 6 ( لو لا أن


أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ) (١).

والصحيح ان يقال : في توجيه عدم شمول الحديث لهذا الصنف من الآثار ان هذه العناوين تارة تؤخذ كمعرف للعنوان الأولي فيكون المرفوع هو العنوان الأولي والحيثيات التسعة الثانوية حيثيات في الرفع كما هو الصحيح ـ ، وأخرى تؤخذ موضوعا وقيدا في المرفوع ، فعلى الأول لا معنى لأن يطبق الحديث على القسم الثالث إذ ليس الحكم فيه مرتبا على العنوان الأولي ، وعلى الثاني يختص الحديث بالقسم الثالث ولا يشمل الأول ـ فالجمع بين الأمرين غير تام وبما ان الثاني غير محتمل ولا مناسب عرفا مع الظاهر من الحديث يتعين الأول.

الجهة الرابعة ـ ان هناك قرينتين على امتنانية الحديث لفظية وسياقية ، اما القرينة اللفظية فهي كلمة ( عن ) الظاهر في رفع الشيء الثقيل وذي التبعة ، واما السياقية فإضافة الرفع إلى الأمة فان هذا لسان التحبب والتلطف ، والقرينتان وان أفادتا معنى واحدا وهو عدم انطباق الحديث في مورد لا امتنان للرفع فيه الا ان هناك فرقا بينهما من حيث مقدار التقييد والتحديد الّذي يحصل على أساس كل منهما لا طلاق الحديث ، فالقرينة اللفظية لا تقتضي التقييد بأكثر من ان يكون في رفع التكليف امتنانا لمن رفع عنه سواء كان فيه ما يخالف الامتنان للآخرين أم لا ، بينما القرينة السياقية تمنع عن إطلاق الرفع لما إذا كان فيه ما يخالف الامتنان ولو بالنسبة إلى الآخرين وقد فرع الفقهاء على هذا موردين :

١ ـ انهم فرقوا بين معاملة المضطر والمكره ، ففي بيع المضطر مثلا إلى البيع حكموا بصحته وعدم شمول الحديث له بخلاف بيع المكره لأن نفي صحة الأول خلاف الامتنان عليه والحديث مقيد بصورة الامتنان.

٢ ـ لو أكرهه على ان يضرب شخصا آخر والا ضربه ، فانهم قالوا بعدم شمول رفع ما استكرهوا عليه لنفي حرمة الضرب لأنه على خلاف الامتنان للأمة ، وان كان على وفق الامتنان في حق المكره وكلا التفريعين صحيح.

والمحقق العراقي ( قده ) أضاف على التفريعين امرا ثالثا حاصله : انه يترتب على

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ح ١ ، باب السواك ، ح ١٦.


ورود الحديث مساق الامتنان عدم شموله لما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار إذ عدم رفع الحكم في حق من يلقي بنفسه في الاضطرار ليس على خلاف الامتنان.

وهذا الكلام بهذا البيان لا يخلو من غموض ، لوضوح ان رفع الحكم الإلزامي عمن ألقى نفسه في الاضطرار امتنان على كل حال كيف ورفع المؤاخذة حتى من العاصي امتنان عليه.

نعم لا بأس بدعوى ان الحديث ليس له إطلاق لموارد الاضطرار بسوء الاختيار ، لأن مثل هذا الإنسان لا يستحق الامتنان بحسب المرتكزات العرفية التي قد تكون بمثابة القرينة المتصلة بالخطاب.

ويمكن ان يقال : بان حديث الرفع لا إطلاق له في نفسه لموارد الاضطرار بسوء الاختيار ، لأن المراد بالاضطرار فيه الاضطرار إلى ما هو محظور شرعا في تمام عمر وزمان التكليف لا خصوص زمان الأداء والارتكاب وهذا غير صادق في موارد الاضطرار بسوء الاختيار. هذا مضافا إلى انه بحسب الحقيقة في موارد الاضطرار بسوء الاختيار تكون المؤاخذة على الإيقاع في الاضطرار كمن يسقط نفسه من شاهق مثلا إذ يسقط التكليف من حينه ويكون عصيانا للمولى وخروجا عن قانون العبودية (١) والحديث يرفع المؤاخذة على ما ينطبق على عنوان الاضطرار لا ما لا ينطبق عليه وهو الإلقاء في الاضطرار.

وان شئت قلت : ان الحديث انما يجري في مورد يترقب فيه ان تكون المؤاخذة على الفعل المضطر إليه لو لا الرفع وهو انما يكون في الاضطرار لا بسوء الاختيار واما فيه فالعقاب على نفس الإيقاع في الاضطرار إلى المخالفة.

الجهة الخامسة ـ أفاد الميرزا ( قده ) انه شذ عنوانان ـ وهما الخطأ والنسيان ـ عن العناوين الأخرى في السياق فلم يقل ما نسي أو أخطأ فيه مما قد يشعر بان المقصود رفع آثار نفس الخطأ والنسيان. وقد أفاد ( قده ) بان الصحيح ان المراد بهما المنسي وما

__________________

(١) سقوط التكليف من حين الإقدام انما يكون بملاك عدم محركيته لو كان باقيا لا من باب ان نفس الإقدام مبغوض للمولى نفسيا ، فالمؤاخذة على الفعل الصادر منه دائما فلو فرض التسليم بصدق الاضطرار عليه كان مرفوعا لا محالة ، نعم لا بأس بدعوى ان مفهوم الاضطرار مطعم أيضا بعدم اختيارية أصل صدور الفعل من المكلف بحيث يكون ملجأ عليه وهذا لا يصدق مع سوء الاختيار وهذا رجوع إلى المناقشة السابقة.


وقع فيه الخطأ أيضا فالمرفوع هو الفعل بعنوانه الأولي كما هو في العناوين الأخرى ، إذ لو أريد رفع نفس النسيان والخطأ لكان حال المكلف الناسي والمخطئ أسوأ مما إذا لم يرفع عنه الخطأ والنسيان إذ رفع النسيان عنه يعني افتراضه غير ناس فيكون معاقبا عليه ، وكأن هذا الكلام منه ( قده ) يناسب مع تصورات الاحتمال الثالث الّذي كان الرفع فيه رفعا للوجود الخارجي تعبدا وتنزيله منزلة نقيضه ، إذ بناء على الاحتمال الثاني لا يلزم من نفي موضوعية الخطأ أو النسيان في عالم التشريع تنزيله منزلة الموضوع في دليل العمد كما تقدم. الا انه مع ذلك يتم ما قصده الميرزا ( قده ) من ان المراد رفع آثار العنوان الأولي في الخطأ والنسيان أيضا وذلك لأمرين :

١ ـ ان نبني على ان الرفع في الحديث بنكتة مقتضي الوضع الإثباتي لو لا الرفع وهو ثبوت الأحكام بعموم دلالتها الأولية فان هذه المناسبة تقتضي ان يكون النّظر في الرفع إلى الأحكام التابعة للعناوين الأولية لا الثانوية وان هذه العناوين حيثيات في الرفع لا المرفوع كما هو واضح.

٢ ـ وحدة السياق فان العناوين الثانوية الأخرى حيث انها أخذت كلها معرفة ومشيرة إلى العنوان الأولي المرفوع وجعلت هي حيثية للرفع فكذلك يفهم ان عنوان الخطأ والنسيان كذلك ولا ينقض بالحسد والطيرة فانها عناوين أولية وليست كالخطإ والنسيان عناوين ثانوية فسياقها سياق منفصل.

نعم يبقى التساؤل عن وجه تغيير التعبير في الخطأ أو النسيان عن سائر التسعة وقد يكون الوجه ان المرفوع في الخطأ والنسيان بحسب الحقيقة أثر النسيان وما يترتب عليه من الأفعال لا المنسي وما له من حكم فإذا نسي بيع خبزه مثلا للغير فأكله فالمرفوع انما هو الأكل المترتب على النسيان لا البيع المنسي إذ لا يناسب جعل النسيان معرفا ومشيرا إلى البيع المنسي لرفع صحته مثلا بل يجعل معرفا إلى رفع أثر الأفعال المترتبة خارجا نتيجة النسيان أو الخطأ.

الجهة السادسة ـ ان هناك موارد لا إشكال في عدم شمول حديث الرفع لها كنجاسة شيء بالملاقاة مثلا ولا إشكال في عدم ارتفاعها سواء كانت الملاقاة مصداقا لأحد العناوين التسعة أم لا ، وكذلك الجنابة إذا تحقق موجبها. وقد حاول بعض المحققين تصوير خروجها عن الحديث تخصصا. وحاصل ما ذكره في هذا المجال : ان


الحديث ناظر إلى افعال المكلفين فيرفع آثارها وأحكامها إذا انطبق عليها أحد العناوين التسعة واما ما لا يكون بما هو فعل للمكلف وصادر عنه موضوعا لحكم بل هو موضوع له كيف ما اتفق كالملاقاة مع النجس مثلا فلا يرفع اثره بالحديث وان وقع بفعل المكلف لأن الحديث ناظر إلى رفع أثر افعال المكلفين.

وهذا الجواب لا بأس به لو لا انه لا يرفع الإشكال نهائيا ، فانه يفيد في مثال الملاقاة مع ان هناك ما يكون فعلا للمكلف وموضوعا لآثار تحميلية ومع ذلك لا ترتفع تلك الآثار بالحديث كالإتلاف نسيانا لمال الغير في مورد لا يكون تلفه موجبا للضمان فانه فعل للمكلف وبما هو كذلك يقع موضوعا للضمان ، وكمس الميت فانه فعل للمكلف وليس كالملاقاة التي قد تقع بين شيئين بلا نسبة إلى المكلف فهل يقال بشمول الحديث لرفع الضمان في الأول ووجوب الغسل في الثاني إذا وقعا بأحد العناوين التسعة والّذي ينبغي ان يقال : ان المعذرية المستفادة من الحديث للعناوين المذكورة فيها طعم إمضاء المعذرية العرفية العقلائية المركوزة في مثل هذه العناوين فليست تأسيسية محضة بل ملاكها مركوز لدى العرف ، ومن الواضح ان تلك المعذرية انما هو فيما إذا كان الحكم التحميلي المرتب على الموضوع مما يكون للاختيار والعمد دخل في ترتيبه سواء كان فعلا مباشرا للمكلف أو تسبيبيا ـ وكون الاختيار والعمد دخيلا في ترتب الحكم يستفاد اما من كون الفعل متعلقا للحكم الشرعي التكليفي حيث يشترط فيه الاختيار لا محالة ومن هنا متى ما انطبق أحد العناوين المذكورة على متعلق حكم تكليفي تحميلي ارتفع واما من وقوعه موضوعا لا متعلقا الا انه بنفسه يكون متضمنا للقصد والاختيار كما في الأفعال الإنشائية كالمعاملات. واما من وقوعه موضوعا لحكم تكليفي تحميلي يستظهر من دليل ترتيبه انه انما رتب عقوبة ومجازاة مما يكون ظاهرا في دخل الاختيار والعمد في ترتيبه كما في ترتيب الكفارة على الإفطار فيرتفع بالإكراه مثلا وشيء من ذلك غير صادق على مثل النجاسة بالملاقاة أو الجنابة بموجبها أو الضمان بالإتلاف أو الغسل بمس الميت.

الجهة السابعة ـ في نظرة إجمالية لتطبيق حديث الرفع على أقسام الحكم ، ذلك ان الحكم تارة يكون تكليفيا وأخرى وضعيا والأول تارة يكون استقلاليا وأخرى ضمنيا. اما التكليف الاستقلالي فقد اتضح مما سبق بعض الضوابط لتطبيق الحديث


عليه ، ونضيف هنا انه إذا فرض ان الحكم الاستقلالي كان على نحو مطلق الوجود فلا إشكال في شمول الحديث إذا انطبق أحد العناوين التسعة الواردة فيه على ترك فرد من الافراد التي انحل إليها التكليف هذا أذل كان الإكراه أو الاضطرار إلى المخالفة ، واما إذا أكره إلى فعل التكليف بان أكره مثلا على إكرام عالم في مقام امتثال أكرم العلماء فلا يشمله الحديث لنفي وجوب إكرامه حتى على الاحتمال الثالث لعدم الامتنان في رفع وجوبه ، واما إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود فان أكره أو اضطر إلى ترك صرف الوجود الواجب فهذا لا إشكال في شمول الحديث له واما إذا أكره على ترك فرد من أفراد الطبيعة الواجب صرف وجودها فلا يشمله حديث الرفع لأن ما هو متعلق الحكم في عالم التشريع لا إكراه ولا اضطرار إلى تركه. نعم بناء على الاحتمال الثالث من تنزيل الترك أو الفعل الخارجي إذا انطبق عليه أحد العناوين منزلة نقيضه قد يقال بان هذا تنزيل للترك منزلة الفعل فيكون تعبدا بالفعل وهو امتثال تعبدي فلا يجب على المكلف الإتيان بصرف الوجود ضمن فرد آخر (١) الا انك عرفت بطلان هذا الاحتمال.

اما التكليف الضمني فلو اضطر إلى تركه أو أكره عليه في جزء من الوقت فلا إشكال في عدم انطباق الحديث عليه لأن ما صار مصبا للعنوان ليس بنفسه متعلقا للحكم بل مصداق له واما إذا كان مستوعبا في تمام الوقت فيشمله الحديث. ودعوى : ان الواجب هو الفعل والاضطرار وقع على الترك وهو لم يكن متعلقا للحكم لكي يكون له وجود تشريعي فيرفع. جوابها : انه بحسب نظر العرف له وجود تشريعي لأن طلب الفعل نهي عن الترك ولو عرفا.

ثم هل يحكم بصحة العمل بحيث لا يجب عليه القضاء بمقتضى حديث الرفع؟ الصحيح انه لا يمكن استفادة الصحة في المقام لأن مفاد الحديث نفي الوجوب النفسيّ بنفي الوجوب الاستقلالي عن المركب فهو لا يثبت الأمر بالباقي لتثبت صحته. وبهذا يختلف حديث الرفع عن الأدلة المخصصة للجزئية أو الشرطية فانها ناظرة إلى الجزئية

__________________

(١) بل لا يتم حتى على الاحتمال الثالث لأنه تعبد بفعل الفرد لا صرف الوجود الّذي هو موضوع الأثر ، والمستفاد من الحديث التعبد فيما هو موضوع الأثر نفيا وإثباتا.


والشرطية فتقيدها وبذلك يرجع إلى عموم الأمر بأصل المركب.

لا يقال : لنطبق الحديث على الجزئية أو الشرطية فانها شرعية أيضا لأنها بالتبع قد أوجدها الشرع ولو بإيجاد منشأ الانتزاع فتكون قابلة للرفع والوضع.

فانه يقال : ان الثقل ليس في وضع الجزئية أو الشرطية بل في وضع التكليف بالجزء أو الشرط بل ثبوت الجزئية المستلزم لسقوط الأمر هو الموافق مع المنة على العبد لا العكس.

نعم هناك بيانان يمكن على أساسهما تخريج الصحة :

١ ـ ان نجري وفق الاحتمال الثالث في تفسير الرفع أي انه رفع للوجود الخارجي تنزيلا وتنزيله منزلة نقيضه فيكون تعبدا بإتيان الجزء والمركب كاملا ولكنك عرفت بطلان هذا الاحتمال.

٢ ـ ان وجوب القضاء حكم تحميلي مترتب على ترك الواجب في الوقت وقد وقع هذا الترك عن اضطرار أو إكراه فيرتفع اثره التحميلي لا محالة حتى على الاحتمال الثاني أول الأول.

وفيه ـ أولا ـ انه انما يتم لو كان الموضوع لوجوب القضاء هو الترك لا الفوت الّذي هو مسبب عن الترك ونتيجته بناء على استظهار اختصاص الحديث بما يكون فعلا مباشرا للمكلف سلبا أو إيجابا لا مترتبا عليه وكذلك لو كان الموضوع عدم الإتيان المحمولي لو قيل باختصاص الحديث بما يكون موضوعا للحكم بما هو مستند إلى المكلف لا الأعم منه ومن العدم المحمولي الصادق مع السالبة بانتفاء الموضوع ـ وهو المكلف ـ كما في عدم الإتيان.

وثانيا ـ ان ترتب وجوب القضاء لا نكتة في دليله يقتضي الدلالة على ان الاختيار والعمد دخيل فيه إذ ليس هو عقوبة بل استيفاء لما بقي من الملاك كما انه ليس متعلقا للتكليف بل موضوعا وليس مستبطنا بذاته للقصد والاختيار كالمعاملات.

واما الأحكام الوضعيّة كما في الإكراه على البيع أو الاضطرار إليه فلا يوجد فيها مزيد كلام على ما تقدم في مجموع ما سبق. الا انه إذا كان الإكراه إلى ترك معاملة كان يقصدها كمن قصد طلاق زوجته فأكره على تركه فقد يتخيل إجراء الحديث لا ثبات وقوع النتيجة المطلوبة بأحد تقريبين :


١ ـ البناء على الاحتمال الثالث الّذي كان ينتج التعبد بوقوع الفعل وترتب اثره كما تقدم وتقدم ضعفه.

٢ ـ ان بقاء الزوجية أثر شرعي مترتب على ترك الطلاق بقاء وقد أكره على ذلك فيرتفع وجوده التشريعي برفع حكمه وهو الزوجية.

وفيه : ما تقدم من عدم شمول الحديث لما إذا كان الأثر مترتبا على العدم المحمولي فان عدم الطلاق بهذا النحو موضوع لبقاء الزوجية ، وما تقدم أيضا من عدم شموله لما إذا لم يكن للاختيار والمقصد دخل في ترتبه والإنصاف ان جملة من التشويشات في تطبيق الحديث فقهيا يرتفع بالالتفات إلى هذه النقطة.

ويستخلص مما سبق شرائط أربعة لتطبيق حديث الرفع على مورد :

١ ـ ان يكون موضوعا أو متعلقا لحكم شرعي لكي يكون له وجود تشريعي.

٢ ـ ان يكون رفعه موافقا للامتنان على الأمة.

٣ ـ ان يكون فعلا من افعال المكلف أو تروكه لا مجرد وجود شيء أو عدمه المحمولي.

٤ ـ ان يكون الاختيار والقصد والالتفات دخيلا في ترتبه.

المقام الرابع ـ في سند الحديث. ولا إشكال في الجملة في صحة حديث الرفع الا ان الاستشكال في صحة النقل المتضمن لفقرة الاستدلال على البراءة الشرعية ، أعني فقرة ( ما لا يعلمون ) رغم وقوع التعبير عنه بالصحّة.

فقد نقل صاحب الوسائل ( قده ) في كتاب الجهاد (١) الحديث المشتمل على هذه الفقرة عن كتابي الخصال والتوحيد للصدوق ( قده ) عن أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله 7 انه قال : قال رسول الله 6 رفع عن أمتي تسعة ... إلخ ، وأحد التسعة ما لا يعلمون. ونقطة الضعف في هذا السند هو أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، فبالرغم من انه شيخ الصدوق لم يثبت توثيقه. وقد نقل الصدوق في كتاب الوضوء ممن لا يحضره الفقيه نفس المتن بعنوان قال أبو عبد الله الصادق 7 قال رسول الله 6 ( وضع عن أمتي ) (٢).

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الجهاد ، باب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس وما يناسبه ، ح ١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، باب فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه ، ح ٤.


ولعل نظره إلى السند الّذي يذكره في الخصال الا انه مرسل على كل حال ولا يمكن الاعتماد عليه (١).

ونقل صاحب الوسائل في كتاب الإيمان بسنده إلى كتاب أحمد بن محمد بن عيسى عن الحلبي عن أبي عبد الله 7 انه قال : قال رسول الله 6 ( وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (٢). وهذا السند بهذا المقدار صحيح على إشكال تأتي الإشارة إليه ، الا ان هذا النقل غير مشتمل على فقرة الاستدلال ـ ومثله نقل آخر نقله صاحب الوسائل في كتاب الإيمان عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ربعي عن أبي عبد الله 7 قال : قال رسول الله 6 ( وضع عن أمتي ثلاث ، الخطأ والنسيان والاستكراه ، وقال 7 وهنا رابعة وهو ما لا يطيقون ) (٣).

وهناك نقل آخر في الوسائل عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله 7 قال : سمعته يقول ( وضع عن هذه الأمة ستة خصال ، الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ) (٤).

وطريق الوسائل إلى النوادر هو طريقه إلى الشيخ الطوسي ( قده ) إلى نوادر أحمد بن محمد بن عيسى لأنه قد بين طرقه إلى هذه الكتب في آخر الوسائل وكلها تنتهي إلى الشيخ الطوسي ( قده ) وطريقه إليه وطريق الشيخ إلى أحمد صحيح. الا ان الكلام يقع في نقطتين :

الأولى ـ محاولة تصحيح رواية الخصال ، وأهم ما يمكن ان يذكر بهذا الصدد تطبيق

__________________

(١) قد يمكن تصحيح هذا السند عن طريق استظهار ان ذكر الصدوق للحديث في الفقيه مرسلا عن الإمام 7 مع ذكره لنفس الحديث في الخصال والتوحيد بسند تفصيلي ناظر إلى نفس الرواية لا رواية أخرى فإذا ضممنا إلى ذلك ان الشيخ الصدوق يذكر في أول الفقيه ان كل ما ينقله في هذا الكتاب من الروايات يأخذه من الأصول وكتب الأصحاب المشهورة والمعتمد عليها وهذه شهادة مطلقة تشمل ما إذا كانت الرواية مبدوءة بصاحب الكتاب أو مرفوعة إلى الإمام 7 فنستنتج ان شخص هذه الرواية أيضا مما وجده الشيخ الصدوق في أصل من أصول الرّواة لها الواقعين في السند المذكور ومن الواضح ان أحمد بن محمد بن يحيى لم يكن صاحب كتاب وأصل وانما من له أصل وكتاب من الرّواة الواقعين في السند هو سعد بن عبد الله ويعقوب بن يزيد وحماد وللشيخ الصدوق في مشيخته طريق صحيحة إلى كتب وروايات كل واحد من هؤلاء ، فنعوض عن أحمد بن محمد بن يحيى بأحد الطرق الصحيحة إلى كتب هؤلاء.

(٢) الوسائل ، كتاب الإيمان ، باب ١٦ ، حديث ٥.

(٣) نفس المصدر السابق ، ح ٤.

(٤) نفس المصدر ، ح ٣.


نظرية التعويض على سند الخصال ، فان الشيخ قد نقل الحديث عن الخصال بالسند المتقدم ثم انه له طريق صحيح إلى جميع كتب وروايات سعد بن عبد الله ذكره في الفهرست. وسعد واقع في هذا السند بعد أحمد بن محمد بن يحيى فيمكن تعويض هذه القطعة من السند بطريق الشيخ المذكور.

وفيه : ان نظرية التعويض بهذا العرض العريض غير مقبول عندنا ، إذ ليس معنى أخبرنا بكل رواياته وكتبه كل ما ينسب إليه أو يقع الشخص في سنده من الروايات ولا أقل من الإجمال ، والمتيقن انه يقصد كل ما هو يراه رواية له بان يسنده وينسبه في كتبه إليه كما لو بدأ السند به فانه حينئذ يمكن تطبيق نظرية التعويض على كلام متروك إلى محله وهذا الحديث ليس كذلك كما هو واضح.

الثانية ـ المناقشة في سند رواية الجعفي ، والإشكال فيه من ناحية إسماعيل بن جابر الجعفي فانه مردد بين عدة عناوين ، فانه قد ذكر النجاشي في فهرسته عنوان إسماعيل بن جابر الجعفي من دون ان يذكر توثيقا بشأنه غير انه ذكر ان له كتابا وذكر طريقا إليه صحيحا ينقل عنه صفوان بن يحيى. وذكر الشيخ في الفهرست عنوان إسماعيل بن جابر من دون لقب وقال ان له كتابا ، ولم يوثقه وذكر في رجاله عنوان جابر بن إسماعيل الخثعمي الكوفي وشهد بوثاقته. وحينئذ يقال باحتمال التعدد ، والرواية لم يقع في سندها عنوان الخثعمي الموثق في رجال الشيخ ( قده ).

وهناك طريقتان للتخلص عن الإشكال :

إحداهما ـ توثيق الآخرين على إجمالهما لنقل صفوان عنهما كما ذكر النجاشي في عنوان الجعفي وذكر الشيخ أيضا في عنوان إسماعيل بن جابر نقل صفوان عنه والطريق صحيح فيثبت وثاقتها حتى على تقدير تعدد هما بنقل صفوان بناء على المختار في مشايخ الثلاثة.

الثانية ـ محاولة التوحيد بين الثلاثة بمجموع قرائن ، من قبيل انه لو فرض التعدد لزم ما هو بعيد جدا من افتراض وجود ثلاثة اشخاص ومع ذلك يقتصر كل من الشيخ والنجاشي ( قدهما ) على ذكر أحدهم خصوصا وان الفهرست للشيخ مخصص لذكر أصحاب الكتب والأصول وقد ذكر الشيخ في الرّجال ان الخثعمي الثقة له كتب وروايات وله طريق إليه فلو كان هو غير المذكور في الفهرست بعنوان إسماعيل بن جابر


كيف يكون قد أغفله كما ان سكوته عن إسماعيل بن جابر الجعفي مع ان النجاشي يذكره ويذكر انه له كتابا ينقله عنه بطريق صفوان غريب لو لا الاتحاد ، بل الملاحظ وحدة الوصف والطريق إلى كتاب إسماعيل بن جابر الّذي يذكره الشيخ في الفهرست والجعفي الّذي يذكره النجاشي فان تمام حلقات السند في هذا الطريق واحد فكيف يفترض انهما شخصان ومع ذلك سكت كل منهما عما تكلم وأخذ عنه الآخر ، بل الجعفي وقع بعنوان إسماعيل الجعفي في سند رواية الأذان المعروفة التي يعتمد عليها في الفقه وقد اعتمد الشيخ نفسه عليها في كتبه الفقهية وكتب الحديث وقد ذكر النجاشي ان إسماعيل بن جابر الجعفي هو إسماعيل الجعفي الراوي لفقرات الأذان. فهذه كلها قرائن تؤكد وحدة العناوين وان كان هناك ظاهرة حينئذ غريبة يلزم من الوحدة وهي ان هذا العنوان يكون قد روى عنه اشخاص متفاوتون من حيث الطبقة من أصحاب الصادق 7 إلى أصحاب الجواد 7.

هذا ولكن الصحيح ان كلتا الطريقتين غير تام وذلك لمناقشتين :

١ ـ ان الوارد في سند حديث الرفع إسماعيل الجعفي لا إسماعيل بن جابر الجعفي وحينئذ يحتمل ان يكون المراد به إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي الّذي لم يوثق وهو من حيث الطبقة مناسب أيضا وكون إسماعيل الجعفي في رواية الأذان قد شهد النجاشي بأنه إسماعيل بن جابر لا يعني انه دائما عند ما يرد عنوان إسماعيل الجعفي يراد به ابن جابر (١). وإسماعيل بن عبد الرحمن وان نقل عنه الصدوق في مشيخته بواسطة صفوان الا ان الطريق إلى صفوان فيه محمد بن سنان الّذي لم يثبت توثيقه.

٢ ـ لو سلمنا ان المراد هو إسماعيل بن جابر المحسوب من أصحاب الباقر 7 تارة والصادق 7 أخرى فكيف يعقل ان يكون قد نقل عنه أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة فانه لا ينقل ولم ينقل في الفقه عن أحد من أصحاب الصادقين 8 الا مع واسطة أو واسطتين والفاصل الزمني بين أحمد بن محمد والإمام الصادق 7 أكثر من مائة عام. فأما ان يكون هناك واسطة محذوفة أو ان إسماعيل الجعفي ليس هو ابن

__________________

(١) الا ان الإنصاف انصراف عنوان إسماعيل الجعفي إلى ابن جابر لكثرة روايات ابن جابر وندرة روايات ابن عبد الرحمن ولهذا شهد بذلك النجاشي في ترجمته على ان كلام النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي لا يخلو من دلالة على وثاقة الرّجل فانه ذكر انه كان وجها من أصحابنا.


جابر الّذي هو من أصحاب الباقر والصادق 8 ومما يؤيد سقوط الواسطة أن الرواية منقولة عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى مردفة بروايته الأخرى عن الحلبي عن الصادق 7 والحلبي من أصحاب الباقر والصادق 8 الكبار الّذي توفي في أيام الصادق 7 فكيف يعقل ان ينقل عنه أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة ، فالظاهر ان هناك واسطة ساقطة (١) وعلى كل حال فلم يثبت سند صحيح للحديث.

« حديث السعة »

ومن الروايات التي يستدل بها على البراءة الشرعية ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) (٢) ولا إشكال في دلالته على البراءة بهذا المتن. الا ان الكلام يقع حينئذ في ان المستفاد منها براءة محكومة لدليل الاحتياط أم معارضة. وقد بنيت المسألة عند الأصوليين على تحديد ان ( ما ) موصولة أو مصدرية فأن كانت موصولة فغاية ما تدل عليه عندئذ انهم في سعة من ناحية ما لا يعلمونه وهذا لا ينافي ان لا يكونوا في سعة من ناحية حكم آخر وهو إيجاب الاحتياط. وان كانت مصدرية بمعنى ما داموا لا يعلمون بالواقع فهم في سعة فهذا ينافي جعل وجوب الاحتياط لأنه لا يرفع عدم العلم بالواقع.

ثم استظهر ان تكون ما موصولة لا مصدرية لندرة دخول المصدرية على فعل المضارع وان لم يكن غلطا.

ولنا في المقام تعليقان :

أولا ـ لو فرض ان دخول المصدرية على المضارع ليس غلطا فينبغي ان يقال بالإجمال ولا مجال للاستظهار لأن تحديد انها موصولة أو مصدرية يرتبط بكيفية النطق بكلمة ( سعة ) فانها لو نطقت مضافة فيتعين ان تكون ( ما ) موصولة لا غير ولو نطقت

__________________.

(١) جامع أحاديث الشيعة ، باب ٨ من أبواب المقدمات ح ٦.

(٢) وهذا الإشكال قابل للدفع بعد ملاحظة ان روايات أحمد بن محمد بن عيسى عن إسماعيل الجعفي كثيرة في الفقه وان إسماعيل بن جابر الجعفي كان له كتاب معروف ، فأن هذا يعني ان أحمد بن محمد حتى إذا فرض القطع بعدم لقائه للجعفي مباشرة كان قد حصل على كتابه بنحو بحيث كان يقطع بان ما فيه صادر عن الجعفي ولهذا كان يسند عنه وحصول مثل هذا العلم الحسي اعتيادي فيكون اسناده حجة ..


منونة تعينت ان تكون مصدرية لا غير فكيفية قراءة كلمة ( سعة ) قرينة معينة لأحد الاحتمالين وحيث لا طريق إلى إثبات إحدى الكيفيتين فلا محالة يصبح الحديث مجملا من هذه الناحية والنتيجة عدم ثبوت براءة صالحة للمعارضة مع دليل الاحتياط.

وثانيا ـ ان افتراض كون ( ما ) موصولة لا يعني ان تكون البراءة المستفادة من الحديث محكومة لدليل الاحتياط. إذ هذا انما يلزم لو فرض ان إضافة السعة إلى الموصول إضافة نشوئية أي الناس في سعة من ناحية الضيق الّذي ينشأ مما لا يعلمون لو علموا به واما إذا كانت الإضافة موردية أي في سعة في المورد الّذي لا يعلمون فيه بالواقع فلا بأس حينئذ بالتمسك بإطلاق السعة من جميع الجهات.

الا ان الرواية لم يعثر عليها في متون الأحاديث نعم وردت رواية السفرة بمضمون آخر حيث ان الإمام أمير المؤمنين 7 قد مر بسفرة في الطريق مطروحة فيها لحم كثير فرخص في الأكل منها معللا بأنهم ( في سعة حتى يعلموا ).

ولكنها ضعيفة سندا بالنوفلي ، ودلالة أيضا بعدم وضوح دلالتها على البراءة خصوصا وفي المورد لو لا أمارية يد المسلمين أو بلادهم كان الجاري استصحاب عدم التذكية المتقدم على البراءة وعلى كل حال فموردها الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

« حديث الحجب »

ومن الروايات حديث الحجب ـ ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) (١). وهو تام سندا وتقريب دلالته : انها دلت على وضع التكليف عما حجب الله علمه عن عباده فما لم يصل المكلف من التكاليف محجوب عنهم لا محالة.

وهنا شبهة تعترض الطريق هي ان الحجب قد أسند إلى الله تعالى وهذا يوجب اختصاص مفاده بما إذا كان خفاء التكليف بتعيين منه تعالى فيكون بمعنى ان ما لم يبينه الله وأخفاه عن عباده فهو محجوب عنهم وليسوا مسئولين عنه وهذا مفاد آخر أجنبي عن البراءة المبحوث عنها.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٨.


وقد يحاول دفع الشبهة بضم الاستصحاب الموضوعي ، بأن يستصحب تارة عدم البيان. وجوابه : حينئذ انه لا يثبت عنوان الحجب الوجوديّ ، وأخرى يستصحب الحجب الثابت في أول أزمنة تشريع التكليف وقبل بيانه للعباد. وفيه : ان الحجب لا يصدق الا مع تعمد الإخفاء وعدم البيان وهذا لا يصدق على البرهة القصيرة التي تمر على التكليف وهو في طريق الإيصال إلى العباد.

والصحيح : في دفع الشبهة. ان الحجب إذا أضيف إلى الله بما هو خالق لا بما هو مولى ومشرع يكون صادقا حتى على عدم الوصول إلى المكلف لأن الاحتجاب عنه أيضا مضاف إليه تعالى بما هو خالق كل شيء بل يشمل على هذا حتى الشبهات الموضوعية لأن حجب الموضوع أيضا مضاف إليه تعالى بما هو خالق ويمكن تعيين ان المضاف إليه هو ذلك تارة بدعوى ظهور اسم الجلالة فيه ، وأخرى باعتبار ان إرادة حجب الشارع بما هو شارع بعيد في نفسه غير مناسب مع سياق الحديث ، إذ ما يكون المولى بنفسه في مقام إخفائه من تكاليفه لا يكون في معرض توهم مسئولية العباد عنها ويكون عرفا مناقضا مع فرض المسئولية والإدانة فيكون مفاد الحديث على هذا كأنه الاخبار عن ثبوت أحد الضدين بانتفاء الآخر وهو مستهجن عرفا وهذا بنفسه يبعد هذا الاحتمال ويعين ان تكون الإضافة إليه تعالى بما هو خالق (١). وعلى هذا فلا يكون هناك حجب واحد عن مجموع العباد كما هو على الاحتمال الآخر بل ينحل بعدد العباد بمقتضى التقابل بين الحجب عن العباد والوضع عنهم.

وهذا خير دليل من السنة على البراءة في الشبهة الحكمية لتماميته دلالة وسندا.

« حديث الحلية »

ومن الروايات المعروفة ( كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) وقد وردت بصيغ عديدة.

__________________

(١) هذا قابل للمناقشة خصوصا مع ان السؤال عما أخفاه الله من العباد كان امرا واقعا في هذه النبوة كالنبوة كالنبوات السابقة حتى جاء لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. مضافا إلى إمكان دعوى ظهور الحجب في المباشرة بحيث يكون التكتم والإخفاء منسوبا إليه مباشرة وهذا غير انتساب الشبهة وعدم العلم إليه تعالى باعتباره خالقا لكل شيء ولا أقل من الاحتمال والإجمال.


الصيغة الأولى ـ ما في صحيحة عبد الله بن سنان ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ) (١). وهي لا إشكال في دلالتها على أصالة الحل الا ان الكلام في شمولها للشبهة الحكمية ، ولا يبعد القول بعدم عمومها لها وذلك بقرينتين :

أولاهما ـ ظهور صدرها في ان مورد الحلية الشيء الّذي ينقسم إلى صنفين حلال وحرام ، ومنشأ الاشتباه والتردد هو هذا الانقسام كالجبن مثلا فيه المتخذ من الميتة فيكون حراما وفيه المتخذ من المذكى فيكون حلالا وهذا لا يصدق الا في الشبهات الموضوعية إذ الشبهة الحكمية فيها ترديد لا تصنيف ، نعم قد يؤخذ الجنس فيقال جنس المائع فيه حلال وهو الماء مثلا وفيه حرام وهو الخمر ويشك في العصير المغلي انه حرام أو حلال الا ان الشك هنا لم ينشأ عن التصنيف المذكور فسواء كان في الجنس حلال وحرام أو لا كان الشك المذكور حاصلا وقد يقال بوجود ذلك في الشبهة المفهومية فان اللفظ إذا تردد بين الأقل والأكثر مثلا الماء ينقسم إلى مطلق فيحل الوضوء به ومضاف فلا يحل فلو شك في ماء مفهوما انه مطلق أو مضاف كان التصنيف سببا للشك في الحرمة الا انه مع ذلك لا يشمله الحديث لظهور بعينه في ان ارتفاع الشبهة يكون بتميز الخارج لا مدلول اللفظ كما في الشبهة المفهومية (٢).

الثانية ـ ان مقتضى تأسيسه ( بعينه ) ان يكون احترازيا لا تأكيدا لمعرفة الحرام وهذا لا يكون الا في الشبهة الموضوعية حيث انه قد يكون الحرام فيها معلوما ولكن لا بعينه كما في موارد العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة بعد تخصيص الشبهة المحصورة في لعدم إمكان جعل البراءة فيها فيكون قيد ( بعينه ) لا دراج موارد الشبهة غير المحصورة في البراءة وهذا كثير في الشبهة الموضوعية بخلاف الحكمية فان فرض العلم الإجمالي غير المحصور فيها نادر جدا.

وهذه القرينة غير تامة ، لوضوح ان المطلوب ليس هو التخصيص بالشبهة الحكمية وانما تعميم الحديث لها وهو لا يتنافى مع عدم غلبة الشبهة غير المحصورة فيها ، إذ يكفي ان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب التجارة ، الباب الرابع من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٢) ويمكن ان يقال ان نفس التعبير بقوله حتى تعرف الحرام ظاهر في ان المجهول هو الحرام لا الحرمة وهذا انما يكون في الشبهة الموضوعية لا الحكمية والا كان الأنسب ان يقال حتى تعرف انه حرام.


يكون غير نادر بلحاظ جامع الشبهة.

الصيعة الثانية ـ ما ورد عن مسعدة بن صدقة بلسان ( كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه وذلك مثل الثواب يكون عليك ولعله سرقة ومثل العبد يكون تحتك ولعله حر أو قد بيع أو امرأة تحتك ولعله أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به بينة ) (١).

ولا بد من التعرض أولا إلى فقهها حيث قد استشكل في فهم مضمونها لأن ظاهر الصدر تقرير أصالة البراءة والحل الا انه في التطبيقات والأمثلة ذكرت تطبيقات أجنبية عن أصالة الحل والبراءة إذ ليس فيها شيء يمكن ان يكون مستند الحلية فيه أصالة الحل فالثوب المشكوك كونه سرقة أو العبد المشكوك كونه حرا أو الزوجة المشكوك كونها أختا لا تجري البراءة في شيء منها بل تجري قواعد أخرى للتأمين لولاها كان مقتضى الأصل الحرمة.

لا يقال بناء على جريان الأصول الطولية إذا كانت من سنخ واحد تكون البراءة أيضا جارية في هذه الموارد.

فانه يقال : هذا المقدار لا يكفي بعد ظهور الحديث في ان منشأ التأمين والحلية هو القاعدة وحدها لا القاعدة بضم عدم جريان الأصول الحاكمة عليها.

وقد حاول البعض دفع الشبهة بان المذكورات انما ذكرت من باب التمثيل لا التطبيق.

الا ان هذا خلاف الظاهر جدا ، لأن المناسب مع التمثيل ذكر القاعدة المماثلة لقاعدة المذكورة أولا لا ذكر تطبيقات قاعدة أخرى لم تذكر كبراها.

وعالج المحقق العراقي ( قده ) الإشكال بان الرواية في مقام إبراز حلية جامعة بين حليات متعددة تستفاد من قواعد مختلفة جمعت في قضية واحدة فالجملة إخبارية لا إنشائية تخبر عن جعول عديدة.

وهذا أيضا خلاف الظاهر لا فقط باعتبار ظهور الجملة في الإنشاء لا الاخبار بل من أجل قوة ظهورها في انها في مقام إعطاء قاعدة كلية بنكتة واحدة للتطبيق على

__________________

(١) نفس المصدر ، ح ٤.


الموارد المختلفة بحيث يستفيد السامع تطبيقها بالفعل وهذا لا يناسب مع كون القضية إخبارية تجمع حيثيات وقواعد متعددة لا يمكن ان يرجع إليها المكلف في مجال التطبيق.

والّذي يقوى في النّفس إذا صحت الرواية ان المقصود النّظر إلى مرحلة البقاء وان ما أخذه المكلف وكان حلالا له على أساس قاعدة شرعية يبقى حلالا ولا ينبغي ان يوسوس فيه وفي مناشئ حصوله حتى يستبين خلافه أو تقوم به البينة وبهذا تكون أجنبية عن البراءة (١). كما انه على فهم المحقق العراقي ( قده ) أيضا لا يمكن ان يستفاد منها البراءة إذ ليست في مقام جعل البراءة كما ان في الأمثلة المذكورة لا يوجد ما يكون موردا لها.

الصيغة الثالثة ـ ما وجد في الكتب الأصولية من ( ان كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام ) وهي واضحة الدلالة على البراءة الا انها لا وجود لها في كتب الحديث.

هذه أهم ما يمكن ان يستدل به من الأدلة على البراءة الشرعية وقد اتضح ان ما تم منها آيتان ورواية واحدة هي حديث الحجب.

( الاستدلال على البراءة بالاستصحاب )

بقي الاستدلال على البراءة بالاستصحاب وذلك بإحدى صيغ ثلاث :

١ ـ استصحاب عدم التكليف الثابت قبل البلوغ.

٢ ـ استصحاب عدم جعل التكليف الثابت قبل الشرع أو في أول الشريعة وقبل التشريع.

٣ ـ استصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق موضوع التكليف المشكوك أو قيوده.

__________________

(١) هذا أيضا خلاف ظاهر الصدر ( كل شيء هو لك حلال حتى تعرف انه حرام ). خصوصا مع كلمة ( بعينه ) الظاهر في ان الشك في أصل حرمة شيء لا في بقائها.

وهنا احتمال آخر وهو ان يكون نظر الرواية إلى ان العلم الإجمالي بوقوع المحرمات وثبوتها في الجملة لا يكون مانعا عن ثبوت الحلية الثابتة في كل مورد مورد بدليلها فالحديث متجه إلى هذه الناحية الا إلى جعل أصالة الحل. ويشهد له كلمة ( بعينه ) فيكون النّظر إلى عدم مانعية العلم الإجمالي في مجموع الشبهات ـ وهو علم إجمالي غير محصور ـ في رفع القواعد المؤمنة الظاهرية.


والأول والأخير من استصحاب عدم المجعول بينما الأول من استصحاب عدم الجعل.

وقد نوقش في هذه الصيغ الثلاث بمناقشات عديدة بعضها تشترك فيه كل الصيغ وبعضها تختص به الصيغتان الأولى والثانية.

اما المشتركة فمناقشتان :

إحداهما ـ ان المستصحب لا بد وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، إذ لا بد وان يكون مجعولا للمولى أو موضوعا له لكي يكون التعبد به بلحاظ ما هو المجعول فيه وعدم الحكم ليس بمجعول ولا موضوع لمجعول.

وقد نقل الخراسانيّ ( قده ) هذا الاعتراض عن الشيخ واستغرب من هذه النسبة السيد الأستاذ بدعوى : ان الشيخ قائل بجريان الاستصحاب حتى في الاعدام الأزلية فكيف في المقام.

الا ان هذا الاستغراب غريب إذ العدم الأزلي ليس مختصا بالحكم بل يتصور في موضوع الحكم الشرعي كاستصحاب عدم القرشية فالقول بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية لا يعني الالتزام بجريان الاستصحاب في عدم الجعل.

وأيا ما كان فقد يجاب عن الإشكال بان الميزان ان يكون مورد الاستصحاب تحت قدرة المولى رفعا ووضعا وعدم الحكم كالحكم المجعول تحت قدرة المولى بما هو مولى وبيده ولا موجب لاشتراط أكثر من ذلك.

والتحقيق : انه لا موجب لهذا الشرط لا بصيغته الأولى ولا الثانية ، فان الاستصحاب قد يجري فيما ليس تحت قدرة المولى بما هو مولى كما في الموضوعات الخارجية وانما الميزان ان يكون مورد الاستصحاب قابلا للتصرف المولوي الظاهري وذلك بان يكون قابلا للتنجيز والتأمين أي يكون التعبد به منجزا أو معذرا وهذا كما يجري في المجعول الشرعي أو موضوعه كذلك يجري في التعبد بعد مهما.

الثانية ـ ما ذكره الميرزا ( قده ) من ان الأثر المطلوب ترتبه تارة يكون تمام موضوعه مجرد الشك لا الواقع كحرمة اسناد ما لا يعلم انه من الدين إلى الدين ، وأخرى يكون مترتبا على كل منهما كما لو فرضنا ان حرمة التشريع مترتب على كل منهما ، وثالثة يكون مترتبا على الواقع المستصحب كالطهارة المترتبة على عدم الملاقاة ، والاستصحاب انما


يجري في الفرض الثالث لا الأول والثاني ، إذ في الأول لا يكون الواقع موضوعا للأثر المطلوب لكي يجري فيه الاستصحاب ، وفي الثاني يكون الأثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فيكون حكمه محرزا وجدانا أيضا فإحرازه ثانيا بالاستصحاب تعبدا من تحصيل الحاصل بل من أردإ أنحائه لأنه من تحصيل الحاصل وجدانا بالتعبد. ولا يخفى ان هذه النكتة سحبها الميرزا ( قده ) على الأولين معا مع ان مقتضى الصناعة ان يعترض على الأول بما ذكرناه من انه لا موضوع للاستصحاب لا انه تحصيل للحاصل وفي المقام مبنيا على ذلك يقال بان الأثر المطلوب وهو التأمين مترتب على نفس الشك في التكليف لقبح العقاب بلا بيان فيكون من أحد القسمين الأولين فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وفيه : انه خلط بين معنيين من الأثر ، فانه تارة يقصد به الحكم الشرعي الّذي يراد إثباته بالتعبد ، وأخرى يقصد به الأثر العملي بمعنى التنجيز والتأمين. فالأوّل يكون إثباته بالاستصحاب ظاهريا تعبدا لأنه من آثار المستصحب لا الاستصحاب بينما الثاني يكون إثباته به واقعا وجدانيا لأنه من آثار نفس التعبد الثابت وجدانا. وبهذا يعرف ان المنظور إليه من استصحاب عدم التكليف في المقام هو الأثر بالمعنى الثاني بينما المنظور إليه في المقدمة المذكورة الأثر بلا معنى الأول لأن محذور تحصيل الحاصل بل أردأ أنحائه إذا تمت المقدمة انما يرد في ذلك واما في الأثر بالمعنى الثاني فحساب المطلب ان يقال ان التأمين يثبت بأحد ملاكين أحدهما الشك والثاني الاستصحاب فانه أيضا يترتب عليه وجدانا التأمين وترتب كلا التأمينين وجداني واقعي ، واما السؤال عن فائدة التأمين بالاستصحاب فانه قد يقال انه لغو بعد فرض وجود الأملاك الأول وهذا إشكال على أي أصل مؤمن شرعي في مورد عدم البيان حتى البراءة الشرعية فالجواب العام عليه مستنبط من منهجنا العام في حقيقة الحجج والأمارات حيث تبين منه ان التأمين له درجتان وملاكان :

أحدهما ـ التأمين بملاك عدم العلم بالتكليف ـ بناء على التسليم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ وهذه مرتبة ضعيفة من المعذرية ، والأخرى التأمين بملاك تصدي المولى نفسه لإبراز عدم اهتمامه بتكاليفه الإلزامية وانه يرخص في مخالفتها ترجيحا لملاكاته الترخيصية عليها في مقام التزاحم الحفظي وهذه مرتبة أقوى من التأمين إذ


يكون العقاب في موردها أقبح وأشنع وهذه مرتبة لم تكن حاصلة لو لا الاستصحاب.

واما الاعتراضات الخاصة بالصيغتين الأوليتين. فقد اعترض على الأولى باعتراضين خاصين :

الأول ـ ان عدم التكليف المحرز حال الصغر هو العدم بملاك نفي الحرج وقصور المحل بينما العدم المشكوك هو العدم في الموضع المقابل. ويرد عليه :

نقضا ـ ان العدم قبل البلوغ ليس على الإطلاق لا حرجيا بل في كثير من الأحيان يكون الصبي المميز قابلا لتكليف الا ان الشارع امتنانا رفعه عنه.

وحلا ـ ان العدم لا يتعدد بتعدد ملاكاته فأركان الاستصحاب في عدم الحرمة تامة.

الثاني ـ ان الاستصحاب انما يجري مع حفظ الموضوع وفي المقام لم يحفظ ذلك لأن حيثية الصغر والصبا مقومة لموضوع الإباحة والترخيص الثابت حينه وقد ارتفعت جزما فلو كانت هناك إباحة على البالغ فهي إباحة أخرى.

وفيه ـ أولا ـ انه لا شك في صحة إضافة الصبي بعد البلوغ الإباحة إلى نفسه وصدق انه بقاء للإباحة السابقة عرفا وهذا دليل على انحفاظ الموضوع ووحدته وهو يكفي في جريان الاستصحاب.

نعم قد يدعى ان هناك إباحتين إحداهما الإباحة اللااقتضائية كإباحة الماء وهي الباقية حتى بعد البلوغ والأخرى الإباحة الاقتضائية الثابتة للصبي فقط والثانية يقطع بارتفاعها بعد البلوغ والأولى يشك في حدوثها فيكون الاستصحاب فيها من القسم الثالث من الكلي.

الا ان هذا لا موجب له بل المباحات اللا اقتضائية ثابتة في حق الصبي والبالغ معا بملاك واحد وبجعل واحد وانما هناك إباحة أخرى بملاك الصبا تثبت له في المحرمات الواقعية بدليل رفع القلم إذ لا موجب لتقييد أدلة المباحات الواقعية به وعليه فيعلم في المورد بوجود إباحة اما أولية أو اقتضائية وهي على الأول باقية وعلى الثاني مرتفعة جزما ويعلم بوجود إحداهما فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وثانيا ـ انه لو سلم إشكال تغير الموضوع فهذا انما يكون فيما لو أريد استصحاب الإباحة لا استصحاب عدم التكليف والا كان جاريا ولو فرض تعدد الموضوع لأنه


يكفي استصحاب عدم الحكم ولو الأزلي أي قبل تحقق الموضوع بل لا تعدد للموضوع بلحاظ الحكم العدمي كما لا يخفى واما الصيغة الثانية فاعترض عليها باعتراضين خاصين أيضا.

أحدهما ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان استصحاب عدم الجعل أول الجعل لا يجري لأنه مثبت إذ الأثر المطلوب من جريانه وهو التأمين والتنجيز مترتبان على المجعول إثباتا ونفيا لا الجعل وترتب المجعول على الجعل وانتفاؤه بانتفائه عقلي لا شرعي وهذا الاعتراض كبروي ، ومحل التعرض له تفصيلا بحوث الاستصحاب حيث ذكرنا هناك ان المجعول ليس شيئا وراء الجعل منظورا إليه في ظرف تحقق موضوعه والتنجيز لا يحتاج فيه إلى أكثر من إحراز الكبرى الشرعية وإحراز موضوعه فانه كلما أحرز ذلك حكم العقل بالمنجزية وكلما انتفى أحدهما حكم العقل بالتأمين.

ثانيهما ـ ان عدم الجعل المتيقن هو العدم الأزلي للتكليف أي قبل الشريعة وهو عدم غير مربوط ولا منسوب إلى المولى أي العدم المحمولي بينما العدم المشكوك هو العدم المنسوب إلى المولى أي العدم النعتيّ بعد تحقق الشرعية ومولوية المولى وإثبات العدم النعتيّ بالأزلي من الأصل المثبت.

وفيه أولا ـ انه في كثير من الأحيان يحرز عدم جعل الحكم من أوائل الشريعة بنحو العدم النعتيّ.

وثانيا ـ ان كان المقصود وجود عدمين متغايرين ، فجوابه ما تقدم من عدم تكثر الاعدام بتكثر علله وحصصه ، وان أريد ان العدم المحمولي لا يترتب عليه الأثر العملي وهو التأمين بل لا بد من انتسابه إلى الشارع ولا يتوهم ان الاستصحاب بنفسه ينسب هذا العدم إلى المولى فان الاستصحاب لا يضيف إلى المستصحب شيئا وانما هو تعبد ظاهري بنفس المستصحب الثابت في الحالة السابقة ، فالجواب انه لا يحتاج إلى الانتساب في التأمين بل موضوع التأمين مطلق عدم الجعل ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع أي العدم المحمولي فلا حاجة إلى إثبات العدم النعتيّ.


تنبيهات :

التنبيه الأول ـ قد يستشكل بأنه لو جرى الاستصحاب ـ بأي صيغة من الصيغ المتقدمة ـ فسوف يكون رافعا لموضوع دليل البراءة بناء على حكومة الاستصحاب على البراءة وحيث انه يجري في تمام الشبهات الحكمية التي تجري فيها البراءة فيلزم من جريانه إلغاء دليل البراءة.

وقد أجاب عن هذا الإشكال السيد الأستاذ في تقرير الدراسات بوجهين :

١ ـ ان دليل البراءة لم تؤخذ بشرط لا من حيث الاستصحاب بل يدل على التأمين في الشبهات فلعله تأمين بنكتة الاستصحاب ومع عدم إحراز التعدد يكون مفاد الدليل حجة.

وفيه : ان هذا خلاف ظاهر أدلة البراءة فانها قوية الدلالة على ان التأمين المجعول فيها انما هو بملاك الشك وعدم العلم بالتكليف لا بملاك سبق عدم الحكم كما هو واضح ومقتضى التطابق بين مرحلة الإثبات والثبوت ان الحكم المراد بيانه أو جعله بهذه الأدلة هو قاعدة التأمين لمجرد الشك لا لسبق عدم التكليف.

٢ ـ بيان ثمرات وفوائد لجعل البراءة فينزل دليله عليها.

منها ـ مورد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين فانه تجري البراءة فيه دون الاستصحاب لأن أصل التكليف يعلم بجعله واستصحاب عدم تقييده بالجزء أو الشرط الزائد معارض باستصحاب عدم إطلاقه.

وفيه : ان استصحاب عدم الإطلاق لا يجري لأنه لو أريد إثبات التقييد به فهو مثبت ولو أريد إثبات أثر التقييد وهو لزوم الإتيان بالزائد فموضوعه التقييد لا عدم الإطلاق. هذا لو افترض ان الإطلاق أمر وجودي أو مطعم به وان فرض انه مجرد عدم التقييد فلا موضوع لاستصحاب عدم الإطلاق بل المستصحب عدم التقييد ولو بنحو العدم الأزلي على ما يأتي في بحث الدوران بين الأقل والأكثر.

ومنها ـ إذا كان الأثر المطلوب مترتبا على الإباحة بعنوانها فانه سوف يترتب بإجراء أصالة الحل والبراءة دون استصحاب عدم التكليف.

وفيه : ان الاستصحاب يمكن إجراؤه في الإباحة الثابتة قبل الشرع أو قبل البلوغ


أو قبل تحقق قيد التكليف المشكوك مع وجود الموضوع ، بل ان هذا هو الطريق الوحيد لترتيب أثر الإباحة الواقعية لأن أصالة الحل بناء على المشهور أصل غير تنزيلي فلا يثبت به الإباحة الواقعية وآثارها.

ومنها ـ ما إذا تعارض الاستصحابان كما إذا فرض توارد الحالتين ، ويلحق به موارد تغير الموضوع بحيث لم يجر استصحاب الإباحة ولم نلتزم بجريان استصحاب العدم الأزلي.

وفيه : ان هذا وأمثاله لو سلم وجوده صغرويا بحيث لم يجر شيء من الصيغ الثلاث للاستصحاب فيه ، فمن الواضح انه لا يمكن تنزيل أدلة البراءة وحملها عليه.

والتحقيق في دفع الشبهة ـ ان يقال :

أولا ـ ان هذه الشبهة مبنية على دعوى ـ حكومة الاستصحاب على البراءة لا تقدم دليله على دليلها بالأظهرية أو الجمع العرفي ، والحكومة مبنية على كبرى قيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي الموقوف على مسالك جعل الطريقية التي لم نقبلها في الأمارات فضلا عن الاستصحاب كما تقدم في محله. وعليه فإذا كان ملاك تقديم دليل الاستصحاب على البراءة هو الجمع العرفي والأظهرية فمن الواضح ان هذا انما يكون في فرض التنافي بين مفاد الدليلين والتعارض لا ما إذا كان مفاد هما معا التأمين كما هو في المقام.

وثانيا ـ لو سلمنا الحكومة فكبرى الحكومة عندنا تعني التخصيص روحا بلسان الورود ورفع الموضوع لا انه رفع للموضوع حقيقة ، ومن الواضح ان كبرى الحكومة على هذا ترجع إلى التخصيص وهو فرع التعارض والتنافي بين مدلولي الدليلين أيضا وهو لا يكون في المقام.

وثالثا ـ لو سلمنا الحكومة بملاك رفع الموضوع حقيقة مع ذلك نقول : بان هذه الحاكمية لا توجب إلغاء دليل البراءة إذ يبقى مفادها مفيدا لمن لم يصل إليه الاستصحاب فيكون حال هذا الاستصحاب حال الحكم الواقعي الّذي يكون بوصوله رافعا حقيقة لموضوع دليل البراءة من دون ان يلزم منه لغوية دليل البراءة.

التنبيه الثاني

ـ استشكل في الدراسات على استصحاب عدم جعل التكليف بأنه معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة للعلم الإجمالي بجعل أحد الأحكام الخمسة في


كل واقعة ـ وكأن نظره إلى الصيغة الثانية من استصحاب عدم الحكم أي عالم الجعل الّذي لا يجري فيه استصحاب الإباحة مثلا ـ ثم حاول الجواب عليه بأمرين :

الأول ـ ان الإباحة الثابتة في المباحات لا ينحصر في جعل الإباحة لها بعنوانها بل هناك إباحة بعنوان ما لم يرد فيه نهي ولم يجعل فيه حرمة وبالنسبة لهذه الإباحة يكون استصحاب عدم الجعل موضوعيا وحاكما على استصحاب عدم الإباحة. ثم ذكر ان هذه الإباحة هي المستفادة من مثل قوله 6 ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم ).

وهذا الكلام مناقض لما تقدم منه في البحث عن حديث ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) لأن هذا معناه أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الضد الآخر وهذا عين ما أبطله في ذلك البحث حيث أفاد انه لا يعقل ان يكون الورود بمعنى الصدور والإطلاق بمعنى الحلية الواقعية إذ يلزم تقيدها بعدم ضدها وهو غير معقول. هذا مضافا إلى اننا لم نفهم ما هو دخل قوله 6 ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) بالمقام فانه ناظر إلى باب العجز ورفع التكليف في مورده هذا إذا كان التبعيض بلحاظ افراد الواجب وان كان بلحاظ اجزاء المركب فيكون النّظر إلى قاعدة الميسور.

الثاني ـ انه لا بأس بجريان الاستصحابين معا ولا تعارض بينهما لأن الأصول في أطراف العلم الإجمالي انما تتعارض إذا لزم من جريانها الترخيص في المخالفة عملية وهذا غير لازم في المقام.

وهذا الجواب غير صحيح أيضا ، فان استصحاب عدم الإباحة لا يجري في نفسه ولو جرى لما كان ما ذكر جوابا عليه. توضيح ذلك :

ان استصحاب عدم الإباحة إن أريد به نفي التأمين فموضوع التأمين ليس هو الإباحة بل عدم الإلزام وإن أريد به إثبات التنجيز فهذا لا يحصل لأن موضوعه الإلزام وهو لا يثبت بنفي ضده وهذا بخلاف استصحاب عدم التحريم أو الوجوب فانه ينفي موضوع التنجيز وعليه فحتى لو قيل بان الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يلزم مخالفة قطعية لا محذور في المقام في جريان استصحاب عدم الجعل.

نعم لو قيل بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وقلنا بأنه يكفي في ترتب الأثر على جريان الاستصحاب ان يترتب أثر على نفس الاستصحاب ولو لم يكن


للمستصحب أثر جرى استصحاب عدم الإباحة لتجويز اسناد عدمها إلى الشارع الا انه على هذا سوف يلزم مخالفة قطعية عملية من إجراء الاستصحابين إذ سوف يجوز اسناد عدم الإباحة وعدم التكليف معا إلى الشارع وهو مما يعلم بكذب أحدهما وانه اسناد لما ليس من الدين وهو محرم قطعا.

التنبيه الثالث ـ جاء في الدراسات أيضا ان استصحاب عدم التكليف كما يجري في الشبهة الحكمية كذلك يجري في الموضوعية وكان نظره إلى الصيغة الثانية من الصيغ الثلاث المتقدمة وهو استصحاب عدم الجعل ، فانه يقال عادة بان هذه الصيغة مخصوصة بالشبهات الحكمية ولا تتم في الموضوعية ـ لأن الشك فيها ليس في الجعل بل في المجعول وهذا هو الصحيح ، ولكن في الدراسات كأنه يحاول إبطال هذا الزعم بدعوى إمكان إجراء استصحاب عدم الجعل حتى في الشبهة الموضوعية لأن كل فرد من افراد الموضوع الخارجي يكون مشمولا لحصة من الجعل الكلي فيرجع الشك في الموضوع إلى الشك في سعة ذلك الجعل وشموله لذلك الفرد المشكوك.

وفيه أولا ـ النقض بان لازمه جريان شبهة المعارضة التي يراها السيد الأستاذ بين استصحاب عدم الجعل الزائد واستصحاب بقاء المجعول في موارد الشبهات الحكمية إلى الشبهات الموضوعية أيضا وبالتالي إلى مورد التطبيق في صحاح الاستصحاب حيث انها طبقت كبرى الاستصحاب على استصحاب بقاء الطهارة التي هي الحكم المجعول شرعا.

وثانيا ـ بان تكثر الموضوع يوجب تكثر الحكم بمعنى المجعول لا الجعل وهذا التكثير تكثر انحلالي تحليلي وليس حقيقيا واما الحقيقي فهو الجعل الّذي هو أمر واقعي والّذي لا يتعدد ولا يزيد أو ينقص بتكثر موضوعه ، وعليه فبلحاظ الجعل لا معنى لإجراء الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لعدم تأثيرها على ما هو الجعل بالزيادة والنقصان وانما الزائد المجعول الّذي هو غير الجعل فلا يجري الا استصحاب عدم المجعول فقط.

« الاستدلال بأخبار أخرى »

ثم اننا في الدورة السابقة قد ذكرنا طوائف من الروايات استفدنا منها البراءة نقتصر في المقام على اثنتين منها اختصارا ، وهما تدلان على براءة يحكم عليها أدلة


الاحتياط كالبراءة العقلية على القول بها وفائدة مثل هذه البراءة تظهر في أمرين.

أحدهما ـ انها تحكم على أصالة الاشتغال العقلية لو لم يتم دليل على الاحتياط الشرعي.

والثاني ـ انها تكون مرجعا لو فرض تمامية أدلة الاحتياط في نفسها وتعارضت مع أدلة البراءة التي في مستواها لكونها محكومة لأدلة الاحتياط فتكون مرجعا فوقانيا بعد التعارض والتساقط.

والروايتان هما :

الأولى ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحجال عن ثعلبة بن ميمون عن عبد الأعلى بن أعين قال سألت أبا عبد الله 7 من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال لا (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على ان تلحظ المعرفة طريقا إلى العمل لا بنحو المعنى الاسمي حيث تدل عندئذ على نفي المؤاخذة ـ على كل حال ـ على ترك العمل نتيجة عدم المعرفة ولا يبعد ظهورها في ذلك نتيجة ارتكازية لحاظ المعرفة على نحو الطريقية إلى العمل غالبا ولكن لا يستفاد منها أكثر من نفي ذلك في موارد ترتب عدم العمل على عدم المعرفة وهذا لا يكون الا مع عدم التعرف على الحكمين الواقعي والظاهري ـ أعني إيجاب الاحتياط ـ معا وإلا لم يترتب عدم العمل كما ان الرواية معتبرة سندا.

الثانية ـ رواية عبد الصمد الواردة في الحج وقد ورد فيها ( أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه ) (٢) وعنوان الجهالة يصدق على عدم العلم التصديقي كما يصدق على الغفلة والجهالة التصورية وإطلاق الشيء المنفي يشمل العقاب والمؤاخذة كما في الرواية السابقة.

نعم يخرج منهما خصوص الجهل عن تقصير في الشبهات الحكمية كما لو ترك الفحص لما دل على ثبوت العقاب فيه وان كانتا من حيث نفي سائر الآثار والتبعات غير العقاب شاملتين له أيضا.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الحجج ، باب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ، ح ٣.


وظاهر هذه الرواية أيضا رفع المؤاخذة فيما لو نشأ ركوب العمل من الجهالة وهذا لا يكون الا مع فرض عدم العلم حتى بالحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط.



« الأدلة التي استدل بها على وجوب الاحتياط »

والبحث عنه يقع في مرحلتين :

١ ـ البحث عن وجوب الاحتياط العقلي.

٢ ـ البحث عن وجوب الاحتياط الشرعي.

« أدلة وجوب الاحتياط عقلا »

اما المرحلة الأولى وهو إثبات الاحتياط العقلي فقد ذكر في تقريبه قديما ان الأصل في الأشياء الحظر إذا لم يسبق الجواز والشيخ الطوسي ( قده ) في العدة قد استشكل في أصالة الحظر وبدله إلى أصالة الوقف وكأن نظره إلى مقام الفتوى وانه لا يمكن اسناد الحظر إلى الشارع وان كان من حيث العمل لا بد من الاحتياط فالتوقف كأنه مزيد احتياط حتى بلحاظ الإفتاء وقد ذكر الشيخ الطوسي ( قده ) انه لا نخرج عن التوقف الا بما يرد من الأئمة : من الترخيص على خلافه ، وظني ان هذه الكلمات ناظرة إلى نفس ما قلناه وعبرنا عنه في مسألة البراءة العقلية من لزوم الاحتياط في الشبهات مراعاة لحق المولى ، وهذا صحيح في جميع الشبهات حتى الموضوعية الا ان هذه القاعدة التي سميناها بمسلك حق الطاعة محكومة لأدلة البراءة الشرعية المتقدمة حتى البراءة المحكومة لأدلة الاحتياط الشرعي لأن العقل انما يحكم بالاحتياط إذا لم يرد ترخيص


منهم : على حد تعبير الشيخ ( قده ) وهذا التقريب صحيح لإثبات الاحتياط العقلي الا انه احتياط محكوم لأدلة البراءة.

وهناك تقريب ذكره الأصوليون المتأخرون القائلون بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، من دعوى وجود علم إجمالي بالتكاليف في مجموع الشبهات فيكون منجزا.

وقد حاولوا إبطال هذا التقريب تارة دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور انحلالا حقيقيا وأخرى حكميا.

اما الانحلال الحقيقي ، فعلى أساس دعوى وجود علم إجمالي صغير في خصوص الأمارات المعتبرة بوجود تكاليف فيها لا تقل عددا عن المعلوم الإجمالي في مجموع الشبهات.

وهذه الدعوى هي المتقدمة مفصلا في مسألة إثبات حجية خبر الثقة بدليل عقلي وهو دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف في دائرة الاخبار الإلزامية. فأشكل عليه الشيخ بأنه يوجب العمل بتمام الأمارات حتى غير خبر الثقة لوجود علم إجمالي في تمام الشبهات ، وأجاب عليه الآخرون بدعوى الانحلال بما يعلم وجوده في دائرة اخبار الثقات وقد أبطلنا هناك دعوى الانحلال هذه بما لا مزيد عليه.

واما الانحلال الحكمي فله بيانان :

الأول ـ ما هو ظاهر كلمات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان دليل حجية الخبر تفيدنا العلم التعبدي في موارد الاخبار فيلغي تعبدا العلم الإجمالي وينفيه لأنه متقوم بالعلم بالجامع والشك في كل طرف فإذا ارتفع الشك في الطرف تعبدا زال العلم الإجمالي كذلك فلا يكون منجزا. وهذا باعتباره تعبدا بالانحلال الحقيقي سمي انحلالا حكميا.

وهذا الكلام لا يرجع إلى محصل ، إذ لو سلم ان دليل حجية الأمارة مفاده إلغاء الشك وسلم ان العلم الإجمالي مكون من علم بالجامع وشك في الطرف وان التعبد بهدم أحد الركنين هدم للمركب منهما مع ذلك لا تنتفي منجزية العلم الإجمالي لأن سببها ليس هو عنوان العمل الإجمالي بل هي مترتبة على العلم بالجامع مع عدم أصل مؤمن في الأطراف ، وفي المقام ان ادعي عدم تعارض الأصول المؤمنة وجريانها في


الأطراف الخالية من أمارة فهذا جواب آخر تام سواء كان هناك هدم لركن العلم الإجمالي تعبدا أم لا والا فالمنجزية باقية ولو هدم عنوان العلم الإجمالي تعبدا لأن المنجزية من آثار هذا السبب الواقعي سواء سمي علما إجماليا أم لا.

الثاني ـ الانحلال الحكمي بمعنى عدم تأثير العلم الإجمالي في التنجيز فينحل حكمه وان كان ذاتا غير منحل ، وهذا يختلف تقريبه باختلاف المسكين في منجزية العلم الإجمالي من حيث كونه مقتضيا للمنجزية أو علة تامة ، فبناء على المسلك المشهور والصحيح من ان العلم الإجمالي مقتض للمنجزية بحيث يتوقف تأثيره على تعارض الأصول في الأطراف يقال بان الأصول المؤمنة تجري في الشبهات الخالية عن الأمارات بلا معارض لأن الأطراف الأخرى قد وجد فيها حاكم على الأصل المؤمن وهو الأمارة المنجزة. وبذلك لا تنجيز للعلم الإجمالي في الأطراف الخالية عن الأمارة.

وهذا البيان لا يتم على مسلك العلية ، لأن العلم علة تامة عندهم للمنجزية فلا يجري الأصل حتى في الطرف الواحد ، ولكن على هذا المسلك يقال بان منجزية العلم الإجمالي فرع ان يكون صالحا لتنجيز المعلوم الإجمالي على كل حال أي سواء كان في هذا الطرف أو ذاك فإذا لم يكن صالحا لتنجيز المعلوم إذا كان في أحد الطرفين سقط عن التنجيز بلحاظ الطرف الآخر أيضا ، وهذا أصل موضوعي عند أصحاب هذا المسلك ، ومن جملة تطبيقات ذلك عندهم ما إذا كان أحد الأطراف فيه منجز آخر بقطع النّظر عن العلم كما في المقام فانه حينئذ لا يكون العلم منجزا لذلك الطرف لأنه متنجز بالحجة التعبدية والمتنجز لا يتنجز ، وعليه فيسقط العلم عن المنجزية في الأطراف الخالية عن الحجة أيضا فتجري فيها الأصول المؤمنة بلا محذور ، وهذا البيان كما عرفت بعكس البيان السابق حيث ان منجزية العلم على ذاك المسلك في طول سقوط الأصل المؤمن عن الحجية بينما على هذا المسلك يكون جريان الأصل المؤمن في طول سقوط العلم الإجمالي عن الحجية.

والصحيح هو المسلك الأول لا الثاني مع ان الأصل الموضوعي المذكور أيضا غير تام حتى على مسلك العلية على تفصيل يأتي في محله.

وهناك إشكال مشترك على كلا البيانين حاصله : ان الطرف الّذي قامت الأمارة فيه على التكليف انما يخرج عن مورد البراءة بناء على المسلك الأول أو عن


قابليته للتنجز بالعلم الإجمالي بناء على المسلك الثاني من حين وصول تلك الأمارة إلى المكلف والعلم بها لا من أول الأمر فيبقى الطرف قبل العلم بالأمارة مجرى للأصل المؤمن صالحا للتنجز بالعلم الإجمالي فيكون العلم الإجمالي بالتكليف فيه في فترة ما قبل قيام الأمارة أو في الطرف الآخر علما إجماليا منجزا على كلا المسلكين والخروج عن الطرفية لأحد الطرفين بعد ذلك لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي.

وهذه الشبهة عليها جوابان :

الأول ـ ما ذكره المحققون من ان الشبهات الحكمية التي قامت الأمارة عليها يكون التكليف فيها منجزا من أول الأمر لأنها شبهات قبل الفحص فلم تكن موردا للأصل المؤمن ولا صالحا للتنجز بالعلم الإجمالي. وهذا جواب صحيح ومفيد في المقام وان كان لا يتم في الشبهات الموضوعية التي لا يجب فيها الفحص.

الثاني ـ مبني على مسلكنا المتقدم في الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي ، من ان الأحكام الظاهرية في رتبة واحدة متنافية ومتعارضة بوجوداتها الواقعية كالاحكام الواقعية لا بوصولها. فانه على هذا بوصول الأمارة الإلزامية يستكشف ثبوت الحكم الظاهري الإلزامي من أول الأمر وبالتالي عدم جريان الأصل المؤمن فيها من أول الأمر فلا يكون الأصل المؤمن في الطرف الآخر معارضا مع أصل مؤمن في هذا الطرف في رتبته أي الأصل المؤمن الجاري عن الواقع ابتداء إذ يستكشف عدم ثبوته واقعا (١) نعم هذا الوجه لا يتم على مسلك العلية لأنه على كل حال لا منجزية للحكم الظاهري الأماري قبل وصوله فالعلم الإجمالي صالح لتنجيز كلا طرفيه.

__________________

(١) الا ان الأصل المؤمن في الطرف الحالي يكون معارضا مع الأصل المؤمن الجاري في الطرف الآخر قبل قيام الأمارة سواء كان هو البراءة عن الواقع في مرحلة الشك في الحجة أم استصحاب عدم الحجة المنقح لموضوع البراءة عن الواقع ، لأن هذا التنقيح ظاهري لا واقعي بحيث يرخص عن الواقع وهو محتمل حتى بعد قيام الأمارة ، فيكون الأصل في الطرف الحالي ساقطا من أول الأمر بالمعارضة مع أصل مؤمن جار في الطرف الّذي قامت فيه الأمارة قبل قيامها حقيقة ، لأنهما يؤديان إلى الترخيص في المخالفة القطعية فعدم كون الترخيص الظاهري الثابت في مورد قيام الأمارة قبل قيامها في رتبة الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لا ينفع في المقام شيئا.


« أدلة وجوب الاحتياط شرعا »

واما البحث عن المرحلة الثانية وهو الاحتياط الشرعي فقد استدل عليه بالكتاب والسنة.

« الاستدلال بالكتاب على الاحتياط »

اما الكتاب فبجملة من الآيات :

منها ـ قوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) وتقريب الاستدلال انها تنهى عن تعريض الإنسان نفسه للهلكة وهذا ينطبق على الاقتحام في الشبهة البدوية لأنه في معرض الوقوع في محذور ارتكاب ما هو محظور شرعا وأي هلكة أشد من ذلك فيشمله إطلاق الآية فتثبت الحرمة ما لم تتم حجة على عدم كونه مخالفة له تعالى.

ويرد عليه : أولا ـ ان قوله تعالى هذا فيه ثلاثة احتمالات :

١ ـ ما بني الاستدلال عليه بان يكون هذا خطابا مستقلا حشر مع ما قبله وبعده.

٢ ـ ان تكون هذه الفقرة نهيا شرطيا بالنسبة إلى الأمر بالإنفاق في سبيل الله الّذي ورد قبلها فيكون تحديدا لمقدار الواجب وهو الإنفاق فلا ينبغي الإنفاق بدرجة يوجب الإفلاس والتعرض إلى الهلاك فيكون نظير قوله تعالى ( ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) (٢) وقوله تعالى ( ويسألونك ما ذا ينفقون قل العفو ) (٣) أي ما زاد على حاجته ، ولا يستغرب من ورود مثل هذا النهي الّذي يكاد ان يكون إرشاديا لأن المسلمين الأوائل الذين خاطبهم القرآن بهذه الخطابات بعد تربيتهم كانوا يتسابقون في مضمار الإنفاق والبذل وقد وقع تاريخيا ان المسلمين تصدقوا بكل ما يملكون ولعل هذا هو الّذي عبر عنه في ذيل الآية ( فأحسنوا ان الله يحب المحسنين ) أي اعدلوا في الإنفاق وهذا احتمال قريب من النّفس في الآية الكريمة.

٣ ـ ان تكون الجملة تكرارا سلبيا للجملة الأولى ، وهذا أيضا سياق عرفي رائج

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٥.

(٢) سورة الإسراء : ٢٩.

(٣) سورة البقرة : ٢١٩.


فالمولى يأمر بفعل ـ وهو الإنفاق في المقام ـ وينهي عما يكون مقابلا لذلك الفعل ومن شئون تركه ـ وهو التهلكة ـ في مقام التأكيد على ذلك الفعل فشيء واحد ليس أولا ثوب الإيجاب فيكون أمرا به ويلبس ثانيا ثوب السلب فيكون نهيا نظير قولك ( صل أرحامك ولا تشغل نفسك بخصومتهم وبغضهم ) فيكون المقصود ان ترك الإنفاق في سبيله إلقاء في الهلكة وهذا مضمون جملة من الروايات التي أكدت ان ترك الإنفاق في سبيله يؤدي إلى الهلاك وقد ورد ذلك بلسان ( حصنوا أموالكم بالزكاة ) وهو صريح في النّظر إلى الهلاك المال لا المالك والنّظر في أماثل هذه الخطابات والتوجيهات مع الطبيعي والنوع لا الافراد فلا ينافي ان لا تهلك أموال بعض الأغنياء الذين لا ينفقونها.

وعليه فلا يمكن الاستدلال بالآية مع وجوده هذه الاحتمالات التي ان لم نستظهر أحد الآخرين منها فلا أقل من التردد بينها والإجمال.

ثانيا ـ لو سلمنا استظهار الاحتمال الأول فمثل هذا النهي لا يمكن ان يكون مولويا لأنه نهي عما فرض انه هلكة في المرتبة السابقة فان فرض ان التكليف كان منجزا في المرتبة السابقة على هذا النهي لم يكن النهي الا إرشادا وتحذيرا عن دخول نار الهلكة وان فرض انه لا احتمال للعقاب لوجود مؤمن مولوي ـ فلا موضوع للنهي عن إلقاء النّفس في الهلكة فيستحيل استفادة التنجيز والعقاب والهلكة من نفس هذا النهي لأنه أخذ في موضوعه ذلك.

ومن جملة الآيات التي يستدل بها على إيجاب الاحتياط قوله تعالى ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على ان المجاهدة تعني المجاهدة في طاعة الله ، والتعبير بالمجاهدة لبيان لزوم غاية الجهد ومن المعلوم ان بذل غاية الجهد يشمل الاحتياط في الشبهات لأن من لم يحتط في الشبهة لم يبذل قصارى جهده في طاعة الله سبحانه.

وفيه أولا : ان الجهاد الّذي أمر به في الآية قد حذف متعلق المباشر ، إذ لا إشكال بان مصب المجاهدة لا يمكن ان يكون الباري تعالى مباشرة بل لا بد وان يكون أمرا وشأنا من شئونه فلا بد من ان يكون النّظر إلى حيثية مقدرة هي في الواقع متعلق

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.


الجهد ، وفي مقام تحديد تلك الحيثية كما يمكن افتراض انها إطاعة الله يمكن إبداء احتمال انه نصرة الله والدفاع عن الإسلام وقتال أعدائه كما يحتمل ان تكون معرفة الله حق معرفته ، فان هذه الاحتمالات الثلاثة لا معين لا حدها في قبال الآخر ان لم يدع ظهور الآية بحسب سياقها في الثالث لأنها واردة في سياق الرد على العقائد الباطلة فتكون على وزان قوله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (١) ، بل هذا المعنى هو الألصق بظاهر الآية لأن الجهاد لمعرفة الله كأنه جهاد في الله لعدم الاثنينية بين الشيء ومعرفته ، ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال فالاحتمال الثاني اقرب من الأول لأنه أنسب مع التعبير بالجهاد.

وثانيا ـ لو سلم ان المجاهدة هنا بمعنى المجاهدة في الطاعة ، فسوف تكون هذه الآية على حد سائر الأوامر بإطاعة الله وعدم معصيته شاملة لموارد الطاعات الثابتة والمتنجزة بالعلم أو بغيره بل تشمل حتى المستحبات ومثل هذه الأوامر كما قلنا لا تكون أوامر تأسيسية مولوية بل إرشادية فلا يمكن ان نثبت بها إيجاب الاحتياط شرعا الّذي هو المطلوب.

ومن جملة الآيات .. ( وان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (٢).

بتقريب ان الرد إليها عبارة أخرى عن التوقف وعدم الاقتحام نظير قوله 7 قف عند الشبهة.

وفيه : ان الآية أجنبية عن وجوب الاحتياط موضوعا ومحمولا. اما موضوعا فلان الوارد فيها عنوان المنازعة المساوق مع المخاصمة لا مجرد الشك وعدم العلم بالحكم الشرعي الكلي سواء أريد مطلق النزاع والمخاصمة أو مخاصمة خاصة فعلى كلام التقديرين الآية موضوعا أجنبية عن موضوع إيجاب الاحتياط بل على تقدير إرادة مخاصمة خاصة كالمخاصمة في الأمور السياسية والاجتماعية فالأجنبية أوضح ، ويحتمل قويا إرادة النزاع بين الأمة وولي الأمر في الأمور العامة لأنها وردت بعد قوله تعالى ( أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة النساء : ٥٩.


فيكون تأكيدا لمزيد الطاعة ولزوم تحكيم الله والرسول في المنازعات ، والوجه في تخصيص الرد حينئذ إلى الله والرسول فقط مع حذف أولي الأمر في التفريع رغم ولايتهم والأمر بإطاعتهم في المفرع عليه يمكن ان يكون أحد افتراضين :

١ ـ ان المنظور إليه النزاع في الكبريات والشبهات الحكمية وفي مثل ذلك يكون المرجع الله والرسول فقط لا أولي الأمر بما هو أولي الأمر.

٢ ـ ان المراد التنازع بين الأمة وأولي الأمر من الأمة ، فان المذكور في المفرع عليه الأمر بإطاعة أولي الأمر منكم أي من الأمة فيراد بذلك التنازع الّذي قد يقع في شروط الولاة واختياراتهم كبرويا أو صغرويا فيكون حل مثل هذا النزاع أيضا منحصرا في مراجعة الله والرسول ويكون أولي الأمر حينئذ جزء من الأمة المتنازعة فتكون الآية من أدلة ان الولاية تحدد من قبل الله والرسول لا من قبل الناس أنفسهم ، وبذلك تكون الآية متعرضة لمسألة هامة من أصول المذهب وأجنبية بالمرة عن مسألة الاحتياط في الشبهات الفرعية.

واما محمولا فلان الرد إلى الله والرسول ليس الا بمعنى الأمر بتحكيم الله والشريعة في شئون الحياة وعدم الاحتكام إلى أهواء الناس وعدم جواز تصدي أمور الناس الا من قبل من يعينه الله أو الرسول أمر مفروغ عنه وأجنبي عن محل الكلام ولا نزاع فيه.

هذا مضافا إلى ان المراد من رد الشبهة بعد التنزل عما ذكرنا في تفسير الآية وحملها على الشبهات الحكمية ان كان بلحاظ الحكم الواقعي المشتبه كان مفاده وجوب رفع الشبهة إليهم لاستعلام الحكم الواقعي فيدل على وجوب الفحص والاستعلام للأحكام الواقعية ، وان كان بلحاظ الحكم الظاهري أي حكم حالة الشك نفسه كان معناه وجوب الرجوع إلى الله والرسول في تعيين حكم الشبهة وانه إيجاب الاحتياط أو البراءة وكلا المطلبين لا ينفع الاخباري شيئا ، لأنهما مسلمان حتى عند الأصولي غاية الأمر يدعي الأصولي اننا فحصنا وبعد الفحص انتهينا إلى ان حكم الشبهة عند الله والرسول هو البراءة فالآية على كل حال أجنبية عن محل الكلام (١) ..

__________________

(١) ولكن بناء على الاحتمال الثاني حيث ان النّظر يكون إلى الحكم الظاهري فيكون ظاهر وجوب الرد إليهم حينئذ وجوب الاحتياط عند عدم معرفة حكم الله لأن هذا هو المناسب مع لسان الأمر بالرد إليهم إذا كان النّظر إلى مرحلة الحكم الظاهري واما الرد إليهم لمعرفة الحكم الظاهري المجعول عند الشك فهذا هو الاحتمال الأول لأن معرفة حكم الشبهة كمعرفة حكم أي.


ومن جملة الآيات قوله تعالى ( واتقوا الله حق تقاته ) (١).

وتقريب الاستدلال بها نظير ما تقدم في آية المجاهدة في الله حق جهاده ، فان غاية التقوي تقتضي الاجتناب في الشبهات وعدم اقتحامها أو عدم المبالاة بها.

وفيه : ان التقوي لا تصدق الا بعد فرض ما يتقى منه ويتحذر في الرتبة السابقة فلا بد من افتراض تنجز التكليف والعقوبة في المرتبة السابقة على الأمر بالتقوى فيكون مثل هذا الأمر إرشاديا لا محالة ولا يمكن ان ينقح بنفسه موضوع التقوي كما لا يخفى.

ومن جملة الآيات قوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (٢) ونحوها من الآيات الناهية عن الإفتاء والإسناد في مورد الشك وعدم العلم.

والواقع ان هذا من أضعف ما يمكن ان يستدل به على الاحتياط ، فانه لا شك لدى الاخباري والأصولي في حرمة اسناد الحكم الواقعي في موارد الشبهة والا فكما يحرم اسناد الإباحة كذلك يحرم اسناد الحرمة الواقعية. واما الإفتاء بالإباحة الظاهرية فهو إفتاء بعلم يستند فيه الأصولي إلى الأدلة الشرعية واما الإفتاء بالبراءة العقلية ـ على القول بها ـ فهو ليس إسنادا إلى الشارع أصلا بل إفتاء بالوظيفة الفعلية والموقف العملي عقلا عند الشك.

الاستدلال بالسنة على الاحتياط

واما السنة الشريفة فهناك طوائف عديدة استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية ، ونحن لم نجد فيها حديثا تام السند يمكن ان يستفاد منه وجوب الاحتياط. وتفصيل الحديث عن ذلك يكون من خلال تصنيفها إلى طوائف عديدة كالتالي :

الطائفة الأولى ـ ما يستفاد منه مجرد الترغيب في الاحتياط وحسنه والّذي لا يناقش فيه اثنان.

من قبيل المرسلة المعروفة المورية عن الإمام الصادق 7 ( من اتقى الشبهات فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٢.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.


استبرأ لدينه ) (١). وهي لم يبين فيها كبرى وجوب الاستبراء ومجرد الدلالة على ان اتقاء الشبهة استبراء للدين لا يقتضي ذلك.

ومنها ـ ما رواه ابن الشيخ الطوسي في أماليه عن الرضا 7 يقول : ( ان أمير المؤمنين قال لكميل بن زياد فيما قال ) أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت ) (٢). والأمر فيها بقرينة التعليق في الذيل على مشيئة المكلف نفسه لا يفهم منه أكثر من الرجحان أو الاستحباب ، إذ لا معنى لتعلق الواجب أو مقداره إلى مشيئة المكلف نفسه ، بل سياق الحديث من تشبيه الدين بالأخ ومعنى الاحتياط الّذي يعني وضع الحائط للحفظ والعناية بنفسه يدل على ان المراد من الأمر الحث والترغيب على مزيد الرعاية وحفظ الدين لكونه عزيزا وجديرا بمزيد الرعاية والحفظ لأحكامه وحدوده وعدم تجاوزها وهذا معنى لطيف دقيق ولكنه أجنبي عن مسألة الاحتياط في الشبهة البدوية وكأن مجرد التشابه اللفظي أوقع الأخباريون في هذا الوهم.

ومنها : ما ورد عن أبي عبد الله 7 ( أورع الناس من وقف عند الشبهة ) (٣). وهو أيضا لا يدل على وجوب التورع والتوقف عند الشبهة كما هو واضح. فهذه الطائفة لا دلالة فيها على الوجوب.

الطائفة الثانية ـ ما يستفاد منها لزوم الرجوع إلى الأئمة وتحكيم أقوالهم وعدم جواز الاستقلال عنهم واعتماد الرّأي والاستحسانات في استنباط الحكم الشرعي كما يفعل المخالفون وهذا أيضا لا خلاف فيه بين الأصولي والاخباري وانما الخلاف فيما حكم به الأئمة في الشبهة البدوية من الاحتياط أو الإباحة.

من هذه الروايات حديث ابن جابر ( والصحيح ان الله لم يكلفهم اجتهادا لأنه نصب لهم أدلة وأقام لهم أعلاما وأثبت عليهم الحجة فمحال ان يضطرهم إلى ما لا يطيقون بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال والحرام ) (٤). ومن قبيل خبر حمزة بن طيار ( انه عرض على أبي عبد الله 7 بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٢٨.

(٢) نفس المصدر ، ح ٣٠.

(٣) المصدر السابق ، ح ٣٣.

(٤) المصدر السابق ، الباب السابع من أبواب المقدمات ، ح ٣٢.


له : كف واسكت ثم قال أبو عبد الله : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال تعالى « فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون » (١).

الطائفة الثالثة ـ ما ورد الأمر فيها بإلا رجاء ومراجعة الإمام 7 مما يدل على انه ناظر إلى حال وجود الإمام 7 فحتى لو دل على شيء فهو مخصوص بحال إمكان مراجعة الإمام كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة ( فأرجئه حتى تلقى إمامك ) (٢) وهذا أيضا أجنبي عن محل النزاع.

الطائفة الرابعة ـ ما يكون سياقه وجوب الفحص والتعلم كأخبار وجوب التعلم وعدم معذرية الجهل الناشئ من ترك التعلم ، وهو أيضا أجنبي عن محل الكلام.

الطائفة الخامسة ـ ما يدل على تحريم القول بلا علم كرواية زرارة عن أبي عبد الله ( لو ان العباد جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ) (٣) وخبر علي بن الحسين 8 قال لأبان بن عياش ( يا أخا عبد قيس إن وضح لك امر فاقبله والا فاسكت نسلم ورد علمه إلى الله فانك أوسع مما بين السماء والأرض ) (٤). وهذه أيضا أجنبية عن محل الكلام لما تقدم في مناقشة الاستدلال بآية ( لا تقف ما ليس لك به علم ) ، على ان فيها قرائن على ان النّظر إلى أصول الدين وإنكار أو جحود الولاية.

الطائفة السادسة ـ ما دل على حرمة الجري والحركة بلا علم من قبيل قوله 7 ( من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه ) (٥) ، وهذا إرشاد إلى مسألة عقلائية وانه لا بد وان يستند الإنسان إلى ركن وعلم وهذا لا نقاش فيه عند الأصولي فانه يستند إلى العلم بالإباحة شرعا أو البراءة عقلا في اقتحامه للشبهة ، على ان النّظر فيها ليس إلى حكم الشك والشبهة بل إلى ان التصدي لأمور ومسائل يحتاج إعطاء الرّأي أو اتخاذ موقف فيها إلى العلم والمعرفة يورط المتصدي إلى مشاكل وعقبات ، وهذا أيضا مطلب صحيح

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ١٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٤٦.

(٤) المصدر السابق ، ح ١٨.

(٥) المصدر السابق ، ح ٢٠.


وأجنبي عن مسألة البراءة أو الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص وعدم الظفر على الدليل.

الطائفة السابعة ـ ما دل على انه كلما دار الأمر بين طريق متيقن وطريق مريب يحتمل فيه خطورة فدع المريب إلى ما لا ريب فيه (١) ، وهذا اللسان أيضا أجنبي عن محل الكلام وناظر إلى أصل عقلائي واضح لا نقاش فيه ، فان الأصولي يرى الإباحة الظاهرية مما لا ريب فيه.

الطائفة الثامنة ـ ما ورد الأمر فيه بالاحتياط في مورد خاص ولافراد مخصوصين من قبيل ما ورد في كتاب أمير المؤمنين 7 إلى عثمان بن حنيف وإليه على البصرة ( وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم ، عائلهم مجفوٌّ ، وغنيهم مدعوٌّ ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) (٢) ومن الواضح ان هذا أمر ولايتي صادر من الإمام 7 إلى أحد ولاته في مقام الحكومة على الناس ولا إشكال في ان هذا المقام يحتاج إلى مزيد احتياط ورعاية والتزامات ربما تكون غير واجبة على الرعية ولكنها تجب على الوالي اما شرعا أو بحكم الإمام 7 باعتباره قد ولاه.

على انه من المحتمل ان يكون المقصود من الطيب والمشتبه طيب وجه نفس الإحسان لا طيب المال في قبال كونه حراما أو مغصوبا ، فان الإمام لا يريد ان يلغي قاعدة اليد بل يريد ان ينبه الوالي إلى ان هذه الأطعمة التي تقدم إليه من قبل هؤلاء الأغنياء ليست من أجل الله بل من أجل التملق إلى الحكام والارتشاء فان هذا هو المناسب مع سياق الخطبة كما لا يخفى.

ومثله ما جاء في عهده الشريف إلى مالك الأشتر ( ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك .... وأوقفهم في الشبهات ) (٣) وهو أيضا ناظر إلى وظيفة الحاكم بين الناس القاضي في أحوالهم وهذا مضافا إلى اختصاصه بالحاكم موضوعا لا ربط له بمسألة الاحتياط في الشبهة الحكمية محمولا بل النّظر إلى أحكام القاضي وانها

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٢٧.

(٢) نهج البلاغة ، ص ٤١٦ ، ضبط الدكتور صبحي الصالح.

(٣) المصدر السابق ، ص ٤٣٤.


لا بد وان تكون مستندة إلى العلم لا الوهم والظن والاستعجال في الحكم. ومن الواضح ان العلم في حكم القاضي بين الناس مأخوذ بنحو الموضوعية كيف وأكثر موارد التحاكم تكون من الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

على ان المراد من الوقوف عند الشبهة على ما سوف يأتي ليس هو الاحتياط بالمعنى المقابل للبراءة بل بمعنى عدم الاستناد إلى مبنى للإقدام.

وهكذا يتضح عدم إمكان الاستدلال بشيء من الطوائف المتقدمة في المقام هذا ولكن هناك ثلاث طوائف أخرى من الروايات أحسن حالا من كل ما تقدم لا بد من ملاحظتها بإمعان :

الطائفة الأولى ـ الاخبار الدلالة على ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.

الطائفة الثانية ـ الاخبار الدالة على التثليث.

الطائفة الثالثة ـ الاخبار الآمرة بالاحتياط في موارد من الشبهات الحكمية.

اما الطائفة الأولى ـ فمن قبيل رواية أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر 7 قال :( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ) (١).

وقد استدل بها جماعة من الأصحاب على وجوب الاحتياط والوقوف عند الشبهة لما فيها من الدلالة على احتمال وجود الهلكة فيه وهذا لا ينسجم مع ثبوت البراءة.

وفيه : أولا ـ ان الوقوف جعل مقابلا للاقتحام وهذا ليس من الواضح انه بمعنى الاجتناب مقابل الارتكاب لأن الاقتحام عبارة عن الإقدام بلا تريث وبلا روية وفجأة فالنهي عن الاقتحام في الشبهة يكون بمعنى النهي عن الدخول بلا تريث ومبالاة فيكون الحديث من قبيل سائر ما دل على انه لا بد من مستند ومدرك للاقتحام ومن الواضح ان الأصولي يستند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي وليس مقتحما للشبهة.

وثانيا ـ كلمة الشبهة لا ينبغي ان تحمل على مصطلحات الأصوليين للشبهة أي

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٤٠.


الشك ، بل معناها اللغوي المثل والمماثلة وباعتبار تماثل الطرفين في مورد الشك سمي بالشبهة ، ومن يتتبع موارد استعمال كلمة الشبهة في الروايات يستنتج انها كانت تستعمل بالمعنى اللغوي أي التشابه والتماثل في مورد يراد فيه بيان ان هذا المطلب بظاهره يشبه الحق ولكنه في باطنه ضلال وانحراف. وقد ورد في خطبة للإمام 7 ( وانما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فاما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ، ودليلهم العمى ) (١).

وفي بعض الروايات ان الشبهة من الشيطان لأن الخديعة والمكر منه ، وفي رواية عن الباقر 7 انه قال قال جدي رسول الله ( أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة الا وقد بينهما الله عز وجل في الكتاب وبينتهما في سنتي وفي سيرتي وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي فمن تركها صلح له امر دينه وصلحت له مروءته وعرضه ) فساق البدع والشبهات مساقا واحدا مما يعني إرادة ذلك المعنى من الشبهة لا مجرد الشك وعدم العلم ، ومما يؤيد هذا المعنى رواية أخرى عنه 7 انه قال رسول الله 6 لأبي ذر ( يا أبا ذر ان المتقين الذين يتقون الله من الشيء الّذي لا يتقى منه خوفا من الدخول في الشبهة ) (٢) أي يكون بابا للدخول في بدعة من الدين ونحو ذلك.

فمجموع هذه القرائن توجب الاطمئنان بان المراد بالشبهة في الطائفة الأولى ، بل في أكثر كلمات الأئمة : معنى آخر غير المعنى الأصولي لكلمة الشبهة أي المراد بها الضلالة والخديعة والبدعة التي تلبس ثوب الحق ومن الواضح ان لزوم التريث والوقوف عند الشبهة بهذا المعنى مما لا إشكال فيه ولكنه أجنبي عن محل الكلام.

وثالثا ـ ان ظاهر هذه الطائفة التحذير من الدخول في الشبهة بلحاظ المحتمل لا الاحتمال فهي لا تدل على منجزية الاحتمال وجعل إيجاب الاحتياط شرعا الّذي هو مدعى الاخباري بل تدل على انه إذا كان في المحتمل خطر وهلكة فقف عندها ولا تلج الباب لكي لا تسقط فيها ، وهذا انما يكون في الموارد التي تكون الشبهة فيها في أمور

__________________

(١) نهج البلاغة ، ص ٨١.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٣٧.


مضرة وخطيرة في نفسها كما في العقائد والدعاوي الباطلة أو ما يكون فيها نتائج عملية صعبة ، ويؤيد ذلك ما ورد في قوله 7 ( لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وذلك مثل ان يبلغك عن امرأة انها رضعت معك أو انها محرمة عليك وقفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة ) فان هذه الرواية من الواضح كون النّظر فيها إلى خطر المحتمل لا الاحتمال ، فان الشبهة موضوعية والاستصحاب أيضا يقتضي حلية النكاح فالمنظور فيها الخطر الّذي ينشأ بعد ذلك من جانب المحتمل إذا ما انكشف ان المرأة كانت محرمة عليه. ولا أقل من احتمال هذا المعنى في هذه الطائفة والّذي يوجب سقوط الاستدلال بها.

ثم ان الأصوليين بعد ان حملوا الشبهة في هذه الطائفة على المعنى الأصولي لها ناقشوا في الاستدلال بها بما يمكن تمحيصه ضمن مناقشتين.

الأولى ـ ان هذه الطائفة فرضت ثبوت الهلكة في الرتبة السابقة على النهي فتكون إرشادا إلى حكم العقل بلزوم تجنب الهلكة والعقوبة المحتملة ولا يمكن ان يكون مولويا لأن النهي المولي لا يعلل بالوقوع في الهلكة المحتملة والثابتة في المرتبة السابقة على النهي ، وعليه فتختص هذه الطائفة بالموارد التي يكون الحكم منجزا فيها كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو قبل الفحص واما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا احتمال للهلكة فيها لقبح العقاب بلا بيان.

وأجيب على هذا الاعتراض بان إطلاق الأمر الإرشادي شامل للشبهة البدوية أيضا فيكشف عن ثبوت الهلكة ووجوب الاحتياط فيها أيضا بحكم الشارع.

وكلا من الجواب وأصل المناقشة غير تام.

اما الجواب ، فلان هذا يخرج القضية عن كونها حقيقية إلى كونها خارجية أي ناظرة إلى حكم شرعي خارجي وهو إيجاب الاحتياط المجعول شرعا في موارد الشبهة البدوية أو مطلقا وهذا خلاف الظاهر الأولي في الخطابات.

واما أصل المناقشة فهي غير تامة أيضا لا مبنى ولا بناء اما مبنى فلإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل العقل يحكم بالهلكة واستحقاق العقوبة في موارد اقتحام الشبهة البدوية من دون مؤمن شرعي أيضا كما تقدم.

واما بناء فلانا لو سلمنا القاعدة فلا ينبغي الإشكال بان من ألسنة بيان الحكم


المولوي الإلزامي ذكر العقاب والهلكة المترتبة على الاقتحام في الشبهة ومثل هذا كثير رائج في أدلة الأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية والتي يكون الحكم الواقعي محفوظا في موردها.

الثانية ـ ان ترتب الهلكة والعقاب فرع وصول التكليف وإيجاب الاحتياط فلا يكفي ثبوته واقعا ، فان فرض إرادة إيصاله بنفس هذا البيان لزم الدور وان فرض وصوله في المرتبة السابقة وكون هذا البيان إرشادا إلى ذلك كفى ذلك الخطاب الواصل في إثبات الاحتياط من دون حاجة أو فائدة في مثل هذه الروايات.

وقد أجيب عليها بأنا نستكشف من هذه الروايات بالمطابقة ثبوت الهلكة بالفعل في اقتحام الشبهة لمن كان يخاطبه الإمام 7 وبالالتزام وصول وجوب الاحتياط إليهم وتنجزه في حقهم إذ من دونه لا يعقل الهلكة بالنسبة إليهم ثم نثبت ذلك في حقنا من باب عدم احتمال الفرق واشتراك المكلفين في الأحكام.

وأجاب عن هذا الجواب المحقق العراقي ( قده ) بان هذا من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لأن إطلاق قف عند الشبهة للشبهة البدوية في حق المخاطبين فرع وصول إيجاب الاحتياط إليهم لأنه مقيد عقلا ولبا بذلك فمع الشك فيه كيف يمكن التمسك به لا ثبات المدلول المطابقي ثم الالتزامي وهل هذا الا من التمسك بالعالم في الشبهة المصداقية.

وهذا الجواب مبنى على عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية إذا كان العالم قضية خارجية تعهد المولى بنفسه إحراز قيدها في الخارج كما هو مبنى صاحب الإشكال على المناقشة. فالأولى دفع الإشكال بان هذا خلاف ظاهر الخطاب في كونه قضية حقيقية لا خارجية.

الا ان أصل المناقشة الثانية أيضا غير تامة وذلك :

أولا ـ للنقض بأدلة بيان الأحكام الواقعية بلسان ترتب العقاب مع ان هذا البيان بعينه جار فيها.

وثانيا ـ عدم تمامية المبنى ، إذ لا يشترط في العقوبة وصول التكليف كما تقدم.

وثالثا ـ انه سواء حملت هذه الروايات على القضية الخارجية أو الحقيقية يمكن ان يكون دليلا على الاحتياط.


اما على الفرض الأول ، فلأنه بناء على فرضها قضية خارجية يكون المنظور فيها أولئك الذين كانوا يعيشون في عصر الإمام وهم كلا أو جلا من يتنجز التكليف في حقهم إذا كان المجعول وجوب الاحتياط واقعا لأنهم بين عالمين بذلك أو جاهلين ولكن جهلا قبل الفحص الّذي يمكنهم الوصول إلى الواقع والإمام 7 يبين لأولئك الذين لا يعلمون وجوب الاحتياط ثبوت هذا الحكم بلسان بيان اللازم الغالبي له وهو ترتب العقاب لأن هذا أبلغ في مقام الزجر والتخويف ومتضمن للوعظ في نفس الوقت.

لا يقال : هذا الجواب انما يجري بلحاظ الأحكام الواقعية التي كانت تبين لهم بلسان ترتب العقاب ولا يتم في دليل الحكم الظاهري لأن هذا العقاب ليس لازما لا يجاب الاحتياط بل لتنجز الواقع عليهم في زمن الأئمة لا مكان الفحص.

فانه يقال : العقاب بلحاظ شدة اهتمام المولى بأغراضه الواقعية الّذي هو روح إيجاب الاحتياط فيصح ان يكون هذا بيانا عرفيا لا يجاب الاحتياط بنحو القضية الخارجية.

واما على الفرض الثاني ، وان الخطاب قضية حقيقية كما هو الصحيح فيفترض قيد مستتر في مثل هذه الألسنة من الخطابات بحسب الارتكاز العرفي وهو ان من وصل إليه حكم الشبهة ـ أو أي موضوع آخر يفترض ـ دخل النار والهلكة إذا أقدم واقتحم فيه وهذه القضية الحقيقية لا تكون صادقة الا بافتراض ان الحكم هو الاجتناب والا كانت الشرطية كاذبة ، ونكتة افتراض هذا القيد هي ان الخطاب بنفسه متكلف لا لإيصال الحكم وتحقيق هذا القيد. وان شئت قلت : ان القضية بلحاظ هذا القيد خارجية لأن المولى بنفس الخطاب يحرزه في حق المخاطبين على الأقل.

وكلا هذين البيانين عرفيان صحيحان ، وعليه فلا إشكال في بيان الحكم بلسان ترتب الهلكة والعقوبة على المخالفة سواء في القضايا الخارجية والحقيقية.

واما الطائفة الثانية : أعني اخبار التثليث فالذي عثرنا عليه ثلاث روايات رغم ما قيل من استفاضتها.

منها ـ رواية جميل بن صالح عن أبي عبد الله 7 عن آبائه قال قال رسول الله 6 بعد حديث طويل ـ ( الأمور ثلاثة ، امر بين لك رشده فاتبعه ، وامر بين لك غيه


فاجتنبه ، وآخر اختلف فيه فرده إلى الله ) (١).

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط غير تام وذلك :

أولا ـ ان الوارد فيه عنوان بين الرشد وبين الغي وهذا العنوان انما يناسب المستقلات العقلية ومدركات العقل العملي أي ما يكون رشدا وحسنا وهداية في قبال ما يكون ظلما وضلالة فتكون دالة على ان ما لم يدرك العقل العملي حسنه بشكل بين فلا تحكم فيه ذوقك واستحساناتك بل رد حكمه إلى الله والرسول فتكون من أدلة النهي عن إعمال الرّأي في الدين ولا أقل من احتمال ذلك.

وثانيا ـ احتمال ان يكون المراد بين الرشد وبين الغي المجمع على صحته والمجمع على بطلانه أو حرمته ، بقرينة جعل القسم الثالث ما اختلف فيه لا ما شك فيه فان المختلف فيه قد يكون بين الرشد أو الغي لدى الإنسان. فالحاصل كما يمكن حمل المختلف فيه على المشكوك كذلك يمكن جعله قرينة على إرادة البين إثباتا أي المجمع عليه من القسمين فيكون النّظر إلى لزوم الأخذ بما هو مجمع عليه وترك المختلف فيه إلى أهله وهذا ان لم يكن هو الظاهر فلا أقل من احتماله وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام وثالثا ـ لو افترضنا إرادة المشكوك من المختلف فيه مع ذلك نقول : بان الشك لا بد وان يضاف إلى ما أضيف إليه التبين وهو الغى والرشد فيكون المعين ان ما يشك في انه رشد أو غي لا بد وان يجتنب لا ما يشك في حرمته وحليته ، ومن الواضح ان أدلة البراءة حتى العقلية لو تمت كبراها سوف تكون واردة على هذا العنوان ، إذ تجعل ارتكاب الشبهة بين الرشد وان بقي الحكم الواقعي مشكوكا فمثل هذا اللسان لا يمكن ان نثبت به إيجاب الاحتياط شرعا في مورد مدعى الأصولي.

ومنها ـ ما رواه نعمان بن بشير ـ وهو أحد الصحابة المطعون فيهم ـ عن النبي 6 بنحوين :

الأول ـ انه قال سمعت رسول الله 6 يقول ( حلال بين وحرام بين وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٤٥.


في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك ان يقع فيه ألا وان لكل ملك حمى وان حمى الله تعالى محارمه ) (١).

الثاني ـ انه سمع رسول الله 6 يقول ( ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو ان راعيا رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات ) (٢).

والرواية من حيث السند عامية وقد نقلها مرسلة عن رسول الله في غوالي اللئالي وفي كتب العامة نقلها البخاري تارة بعنوان ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان اترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك ان يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك ان يواقع ).

وأخرى بعنوان ( الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه ).

وفيهما قد عرف الحلال والحرام البينين باللام. ونقلها أحمد في مسندة بالتنكير ( حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ... إلخ ) ، كما ذكر في كتب الاستدلال لدينا وهو أنسب بالاستدلال من نقل البخاري خصوصا الثاني ، لا مكان دعوى انه إذا كان الحلال بينا والحرام بينا فلا بد وان يراد بالشبهة المعنى المتقدم من الطائفة الأولى أي الالتباس بين الحق والباطل أي موارد الضلالة ولبس الباطل ثوب الحق.

وأيا ما كان فالاستدلال بهذه الرواية غير تام سندا لما عرفت ، ودلالة لأنها لا تدل على ما يريده الاخباري من وجوب الاحتياط في موارد الاشتباه والشك لا من جهة انه لو كان يجب الاحتياط في مورد الشك دخل ذلك في الحرام البين وفي الحمى ولو بعنوان كونه مشتبها الّذي لا بد وان يجتنب عنه على كل حال وان كانت حرمته ظاهرية. فان جواب هذا الكلام ان إيجاب الاحتياط روحه على ما تقدم إبراز الاهتمام

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٤٤.

(٢) المصدر السابق ، ح ٤٣.


بالمحرمات الواقعية في فرض الشك وليس بملاك نفسي ليلزم توسعة دائرة الحمى للمشتبهات بل تبقى الحمى للمحرمات البينة ويكون هذا التحذير من ألسنة إبراز اهتمام المولى بملاكاته الواقعية وإيجاب حفظها ، بل الوجه في عدم تطابق هذا اللسان والتقسيم مع مدعى الاخباري ان الاخباري يفترض ان حمى الله هو المحرمات الواقعية وان المشتبهات حول الحمى وحريمها فمن يرتكبها يوشك ان يقع في الحرام الواقعي وهو معنى وجوب الاحتياط في مورد احتمال الحرمة الواقعية ، بينما الحديث يدل على ان الحمى هي المحرمات البينة ، والمعاصي والمشتبهات حول الحمى إذا ارتكبها الإنسان يوشك ان يقع في الحمى أي في المعاصي والإثم أو فيما استبان على حد تعبير نقل البخاري وهذا مطلب صحيح على كل حال لأن ارتكاب الشبهة لو كان يؤدي إلى جرأة المكلف في اقتحام المعاصي والإثم وجب بحكم العقل اجتنابها مقدمة لترك الإثم والعصيان ، فتكون الرواية إرشادا إلى هذا الحكم العقلي.

ومنها ـ مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مورد تعارض الخبرين ( انما الأمور ثلاثة ، امر بين رشده فمتبع ، وأمر بين غيه فمجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه إلى الله ) ثم استشهد الإمام 7 في ذيلها بالحديث النبوي ( قال رسول الله 6 حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ) (١).

ولا ينبغي الشك في ان التثليث المذكور أولا في كلام الإمام لا يمكن الاستدلال به على الاحتياط في الشبهة البدوية لأنه وارد في الخبرين اللذين أحدهما مجمع عليه أي من حيث الرواية دون الآخر فيفهم انه شاذ نادر ، ويكون المراد من الرد حينئذ عدم الاعتماد عليه في مقام أخذ الحكم الشرعي ، وهذا أمر صحيح متفق عليه بين الطرفين.

ومما يشهد على هذا المعنى في التثليث الأول في المقبولة التعبير بالاتباع فانه يناسب باب الروايات والدلالات ولا يناسب إضافته إلى الحرمة والحلية كحكمين واقعين ، بل لا معنى لإسناده إلى المشكل لأن الوارد فيها ( وأمر مشكل يرد حكمه إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، باب ٩ من أبواب القاضي ، ج ١٨.


الله ) إذ لو كان المقصود به الاحتياط دخل ذلك فيما يجتنب ولم يكن الرد قسما ثالثا ، فلا محالة يراد بالرد عدم الحجية.

واما الذيل الّذي استشهد به الإمام 7 والظاهر انه بلحاظ الأمر المشكل وتطبيق ترك الشبهات في كلام النبي 6 عليه ، فائضا لا يدل على مدعى الاخباري إذ المراد من ترك الشبهات عدم الاعتماد عليها لا الاجتناب لكي يكون مناسبا مع الحكم المعلل في كلام الإمام 7 وهو رد المشكل إلى الله ، ويؤيد ذلك تعبيره بالأخذ بالشبهة الّذي يناسب باب بالاعتماد والاستناد لا مجرد العمل.

هذا مضافا إلى ما قلناه في رد الاستدلال بالطائفة الأولى من ان الشبهة يراد بها ما يلتبس فيه الحق مع الباطل ويتشابه وهذا يناسب مع مثل الحديث والمستند الّذي يعتمد عليه صاحب البدعة في مقام التضليل وليس النّظر إلى مسألة الشك في الحكم الفرعي.

واما الطائفة الثالثة ـ أي الاخبار الآمرة بالاحتياط في وقائع معينة فنقتصر على اثنين منها يعتبران أنقاها سندا وأحسنها للاستدلال على المطلوب.

إحداهما ـ موثقة عبد الله بن وضاح قال ( كتبت إلى العبد الصالح يتوارى عني القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عني الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر ان كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة فوق الجبل؟ فكتب أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحرمة وتأخذ بالحائط لدينك ) (١).

وفي فقه الرواية احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يراد اشتراط ذهاب الحمرة المغربية ، فتكون الرواية من أدلة اشتراط ذهابها في صلاة المغرب كما يقول بذلك الخطابيون وعلى هذا لا بد من رد الرواية إلى أهلها لما ثبت في الفقه من عدم اشتراط ذلك ومن الطعن على الخطابيين الذين أظهروا هذه البدعة.

الثاني ـ ان يراد من الحمرة الحمرة المقارنة مع آخر أزمنة وجود قرص الشمس ، فكأن السائل يفترض ان القرص استتر وراء الجبل ولكن حمرتها باقية فهو يشك في ان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، كتاب الصلاة ، باب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.


القرص قد سقط حقا أم لا يزال خلف الجبل ، ويكون فرض الجبل بنكتة انه يوجب حصول هذا الشك ، فانه لو كان المراد من الحمرة غير ذلك فلا فرق بين فرض وجود جبل أم لا ، والتعبير بأنه يتوارى منا القرص ويستر عنا الشمس أيضا يلائم مع ان يكون نظر السائل إلى فرض الشك في سقوط القرص لوجود حائل هو الجبل. وأما التعبير بإقبال الليل وازدياد ارتفاعه فهذا أيضا منسجم مع هذه الفرضية لو أريد من الليل الكناية عن ظلمة الليل حيث كان يحتمل ان هذه الظلمة هي ظلمة الليل. وعلى هذا التقدير يكون الأمر بالاحتياط على القاعدة لأنه من موارد الشك في المكلف به بعد تنجز أصل التكليف فيحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني ، ولا يمكن استفادة إيجاب الاحتياط في مطلق الشبهات من الأمر به في هذا المورد ، كيف ومورد الرواية شبهة موضوعية ولا يقول فيها بالاحتياط حتى الاخباري في غير موارد الشك في المكلف به ، بل وفي المورد يجري استصحاب موضوعي منجز أيضا وهو استصحاب عدم دخول الوقت وان كان تعبير الإمام يناسب الإشارة إلى نكتة الاحتياط لا عدم نقض اليقين بالشك.

الثالث ـ ان يكون المراد بالحمرة الحمرة المشرقية وان السائل كان يحتمل اشتراط ذهاب الحمرة المشرقية في تحقق المغرب. وبناء على هذا الاحتمال كالاحتمال الأول تكون الشبهة لدى السائل حكمية فكان ينبغي للإمام ان يجيب عليه ببيان الحكم الواقعي من اشتراط ذهاب الحمرة أو عدم اشتراطه لا بالأمر بالاحتياط ، فقد تحمل الرواية على التقية في خصوص هذه المسألة التي كانت موضع الخلاف مع العامة ، ويكون هذا اللسان من البيان من أجل التقية كناية عن اشتراط ذهاب الحمرة المشرقية لا وجوب الاحتياط في الشبهة واقعا ومعه يسقط الاستدلال بها على ذلك.

هذا ولكن الصحيح إمكان حمل الرواية على الجدية حتى من ناحية الاحتياط وذلك بدعوى : ان ذهاب الحمرة المشرقية ليس مأخوذا في الحكم الواقعي بنحو الموضوعية والشرطية بل بنحو المعرفية والطريقية إلى مرتبة من غياب الشمس في الأفق لا يمكن إعطاء ضابطها الموضوعي الدّقيق فجعل ذهاب الحمرة المشرقية قرينة وكاشفا عنها باعتبار انه كلما تحقق ذهاب الحمرة تحققت تلك المرتبة من استتار الشمس وان كان قد تتحقق تلك المرتبة ـ ولو في بعض البلدان ـ قبل ذهاب الحمرة المشرقية كاملة


فالكاشف أخص من المنكشف لا مساو معه ، ومن هنا صح التعبير عنه بالاحتياط لأنه حكم ظاهري طريقي في واقعه ، وهذا الاحتمال عليه بعض الشواهد من سائر روايات الباب نترك بحثها إلى محله في الفقه ، الا انه بناء على هذا أيضا لا تدل الرواية على وجوب الاحتياط بل على احتياط وطريقية لكاشف خاص في مورد مخصوص يكون الشك فيه في الامتثال فلا يمكن التعدي منه واقتناص قاعدة كلية.

الثانية ـ صحيحة عبد الرحمن ( قال : سألت أبا الحسن 7 عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما الصيد ، قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا ) (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على إرجاع قوله 7 ( إذا أصبتم بمثل هذا ) إلى مسألة الصيد وان يراد منه الإصابة بالشبهة الحكمية ، لأن الشك في مسألة الصيد كان في أصل الحكم ، وكونه دائرا بين الأقل والأكثر ليس خصوصية عرفية ليقتصر عليها ، كما ان التعبير بمثل هذا يلغي خصوصية صيد المحرم فتعم الرواية لكل شبهة حكمية.

وفيه ـ أولا ـ قوة احتمال رجوع الإشارة في قوله 7 ( إذا أصبتم بمثل هذا ) إلى السؤال الأخير للسائل أي إذا صادف سؤالا لا يعرف جوابه فعليه الاحتياط وعدم الإفتاء حتى يسأل فيتعلم الحق ويجيب به ، ومعه تكون أجنبية عن محل الكلام ومن أدلة الحث على السؤال وتعلم الأحكام الشرعية عنهم :.

وثانيا ـ لو فرض رجوع الإشارة إلى أصل المسألة والشبهة الحكمية من حيث العمل فغاية ما تدل عليه الرواية وجوب الاحتياط قبل الفحص في مورد إمكان الفحص والوصول إلى الحكم الشرعي ، فان الغاية ( حتى تسألوا وتعلموا ) تدل على أخذ إمكان ذلك في مورد السؤال ، ووجوب الاحتياط في مثله لا خلاف فيه.

وهكذا يتضح عدم تمامية ما يدل على وجوب الاحتياط في الاخبار أيضا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٩ ، كتاب الحج ، باب ٦ من أبواب كفارات الصيد.


النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط

ثم لو فرضنا تمامية شيء من اخبار الاحتياط انفتح الحديث عن النسبة بينها وبين أدلة البراءة الشرعية من جهات أربع :

١ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة ٢ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط والدليل القرآني على البراءة.

٣ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة.

٤ ـ في ما تقتضيه القاعدة على تقدير التعارض والتساقط بين اخبار الاحتياط والبراءة.

الجهة الأولى ـ في النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة الشرعية. وقد تصدى جملة ـ من المحققين لا ثبات أخصية اخبار البراءة الشرعية بالنسبة لاخبار الاحتياط. وبهذا الصدد أفاد السيد الأستاذ وجوها ثلاثة للأخصية كالتالي :

١ ـ ان اخبار البراءة لا تشمل موارد العلم الإجمالي بخلاف اخبار الاحتياط

٢ ـ ان اخبار البراءة لا تشمل الشبهات قبل الفحص بخلاف اخبار الاحتياط.

٣ ـ ان اخبار الاحتياط واردة في مطلق الشبهات واخبار البراءة فيها ما ورد في خصوص الشبهة التحريمية كرواية ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ).

والوجوه الثلاثة كلها قابلة للمناقشة.

اما الأخير فلما تقدم من عدم تمامية هذه الرواية على البراءة الشرعية ، كما انه لو فرض تماميتها ففي اخبار الاحتياط أيضا ما يكون واردا في الشبهة التحريمية كالنبوي ( حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ) فان هذا لا يمكن تخصيصه بالشبهة الوجوبية كما لا يخفى.

واما الوجهان الآخران فكأنهما مبنيان على دعوى عدم شمول اخبار البراءة لموارد العلم الإجمالي والشبهات قبل الفحص بالانصراف أو القرينة لبية عقلية أو عقلائية كالمتصل فتكون في نفسها أخص من اخبار الاحتياط أو القول بكبرى انقلاب النسبة فبعد تخصيص اخبار البراءة بالشبهات البدوية تصبح أخص من اخبار الاحتياط فتخصيص بها.


الا ان هذا الكلام غير تام حتى إذا قبلنا كبرى انقلاب النسبة ـ ولا نقبلها ـ أو قلنا بان المخصص كالمتصل ، لأن اخبار الاحتياط أيضا أخص من اخبار البراءة من ناحية عدم شمولها للشبهة الموضوعية الخارجة عنها قطعا تخصيصا أو تخصصا كما في مثل مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مورد تعارض الخبرين وهو مخصوص بالشبهة الحكمية.

بل يمكن تقريب الجمع بين اخبار البراءة والاحتياط بنحو فني يكون بصالح القول بالاحتياط. وحاصله : ان اخبار الاحتياط على قسمين : قسم عام يدل على الاحتياط في مطلق الشبهة كقوله ( أخوك دينك فاحتط لدينك ). وقسم يختص بخصوص الشبهة الحكمية كالمقبولة.

واما اخبار البراءة فأحسنها في مقام الاستدلال حديث الرفع (١) ، وهو اما ان نفرض اختصاصه بالشبهة البدوية بعد الفحص بمخصص كالمتصل ، أو يفترض عمومه لكل الشبهات غاية الأمر خرج مورد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص بمخصص منفصل. فعلى الأول يكون حديث الرفع معارضا مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط بالعموم من وجه وبعد التساقط يرجع في الشبهة الحكمية بعد الفحص إلى العام الفوقاني وهو القسم الأول من اخبار الاحتياط ، وعلى الثاني يكون حديث الرفع معارضا مع القسم الأول من اخبار الاحتياط وبعد التساقط يرجع إلى القسم الثاني لكونه أخص منه فيكون بمثابة المرجع بعد تساقط المتعارضين هذا على القول بإنكار كبرى انقلاب النسبة ، واما على القول بها فالمسألة أوضح إذ يكون القسم الثاني من اخبار الاحتياط أخص مطلقا من حديث الرفع حينئذ فيخصصه بالشبهة الموضوعية فيكون كسائر أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية مخصصة للقسم الأول من اخبار الاحتياط بعد انقلاب النسبة ، كما ان اخبار الاحتياط بعد تخصيصها بإخراج الشبهة الموضوعية منها تكون أخص من وجه من حديث الرفع الّذي خرج منه الشبهة قبل الفحص أو

__________________

(١) أنقى الروايات سندا ودلالة على البراءة كان هو حديث الحجب ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) وهذا ظاهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية أو على الأقل لا يمكن تخصيصه بالشبهات الموضوعية بالخصوص فيكون بمثابة القسم الثاني من اخبار الاحتياط فيتعارضان ، كما يتعارض القسم الأول مع مثل حديث الرفع فلا يتم الوجه النفي لمدعى الاخباري ، بل بناء على ان خروج الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي بالتخصيص المتصل يكون مثل حديث الحجب بحكم الأخص من كلا قسمي اخبار الاحتياط.


المقرونة بالعلم فيتعارضان بعد الانقلاب أيضا ، ولا يصح ملاحظة حديث الرفع أولا مع المخصص المنفصل الّذي يخرج عنه موارد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص ثم ملاحظته مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط لتكون النسبة عموما من وجه فان كلا من ذلك المخصص واخبار الاحتياط من القسم الثاني في عرض واحد يخصصان حديث الرفع وان كان أحدهما أخص من الآخر كما هو محقق في محله. ونفس النكتة ثابتة أيضا بناء على الأول أي القول باختصاص حديث الرفع في نفسه بالشبهة البدوية بعد الفحص ، فانه بناء على انقلاب النسبة لا يمكن ان يتوهم وقوع التعارض بين حديث الرفع والقسم الأول من اخبار الاحتياط بالعموم من وجه بعد تخصيصه بغير الشبهة الموضوعية فيصير حاله حال القسم الثاني منها ، لأن كلا من أدلة تخصيص الشبهة الموضوعية وحديث الرفع مخصصان في عرض واحد لقسم الأول من اخبار الاحتياط وان كان أحدهما أخص من الآخر فلا يصح إعمال أحدهما قبل الآخر في ملاحظة النسبة وهذا واضح.

هذا كله مع قطع النّظر عن تطبيق قواعد الترجيح عند التعارض والا فلا بد من ترجيح اخبار البراءة لموافقتها مع الكتاب وهو مقدم على الترجيح بمخالفة العامة حتى لو فرض تمامية صغراها في المقام. نعم هذا انما يجدي بناء على القول باختصاص اخبار البراءة بالشبهة البدوية بعد الفحص بمخصص كالمتصل والا فحتى على تقدير ترجيحها على القسم الأول من اخبار الاحتياط تخصص بالقسم الثاني فتختص بالشبهة الموضوعية.

الجهة الثانية ـ في ملاحظة النسبة بين اخبار الاحتياط والآيات القرآنية التي استدل بها على البراءة ، والعمدة منها اثنان على ما تقدم.

إحداهما ـ قوله تعالى ( ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) وقد مضى انها مختصة بالشبهة الحكمية بعد الفحص. كما ان لسانها آب عن إمكان التخصيص فتقدم على اخبار الاحتياط لا محالة.

الثانية ـ قوله تعالى ( لا يكلف نفسا الا ما أتاها ) وقد مضى ان نسبتها مع اخبار الاحتياط العموم من وجه لعدم شمولها الشبهة قبل الفحص ، وسوف يأتي في بحوث التعارض ان خبر الواحد إذا كان معارضا مع القرآن الكريم بنحو العموم من وجه


سقط عن الحجية في مورد التعارض في نفسه. فثبت ان اخبار الاحتياط لو تم شيء منها فاما يخصص بالقرآن أو يسقط عن الحجية.

الجهة الثالثة ـ في النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ان الاستصحاب يكون حاكما على اخبار الاحتياط لأن موضوعها الشك واستصحاب عدم التكليف قد يجعلنا عالمين بالعدم تعبدا.

وفيه : أولا ـ ابتناؤه على مبنى جعل الطريقية والعلمية للاستصحاب وهو مرفوض عندنا في الأمارات فضلا عن الأصول كما تقدم في محله.

وثانيا ـ لو قبلنا كبرى جعل الطريقية فلا بد وان يكون في باب الاستصحاب بغير معنى إلغاء الشك واعتباره علما ولأنه قد أخذ في موضوع الاستصحاب الشك أيضا فلا بد وان يكون تعبدا ببقاء اليقين ونحو ذلك من دون إلغاء الشك الّذي هو موضوع الاحتياط فلا حكومة ، نعم يعقل ذلك في الأمارات حيث لم يؤخذ لفظ الشك في لسان أدلة اعتبارها.

وثالثا ـ ما تقدم مرارا من انه كما يكون دليل الأمر بالعمل بالأمارة والاستصحاب ودليلا على الحجية وجعل الطريقية وإلغاء الشك كذلك يكون الدليل على الاحتياط والوقوف عند الشبهة دليلا على عدم جواز الاعتماد على طرفي الشبهة وعلى عدم إلغاء الشك ولزوم حفظ الواقع والاهتمام به (١).

الجهة الرابعة ـ لو فرض تعارض أدلة البراءة مع أدلة الاحتياط وتساقطهما فلو قلنا بالبراءة العقلية كانت المرجع بعد التساقط ، وعلى القول بإنكارها أيضا نثبت البراءة على مستوى البراءة العقلية بالدليل الشرعي ، فانه قد تقدم عند الحديث عن أدلة البراءة ان فيها ما يدل على البراءة حيث لم يصل دليل لا على الحكم الواقعي ولا على إيجاب الاحتياط فإذا فرض التعارض وعدم وصول حتى إيجاب الاحتياط كانت مثل

__________________

(١) هذا انما يمكن قبوله لو ورد الدليل النافي في نفس مورد الدليل المثبت كما في أدلة النهي عن اتباع الظن ودليل حجية الظن لا في المقام الّذي ورد فيه دليل الاحتياط في عنوان الشبهة من حيث هو شبهة لا من حيث انها مسبوقة باليقين فدليل الحجية يجعل الطريقية لليقين ودليل الاحتياط لا ينظر إليه لينفي طريقيته. بل يمكن في المقام تقريب تقديم دليل الاستصحاب على دليل الاحتياط بنفس البيان الّذي تقدم فيه دليل الاستصحاب على دليل البراءة الشرعية في موارد الاستصحابات الإلزامية.


هذه الأدلة هي المرجع لا ثبات البراءة في هذه المرتبة من الشك.

لا يقال ـ كان ضمن اخبار الاحتياط أيضا ما هو بلسان قف عند الشبهة مما يدل على تأكيد منجزية الاحتمال والشبهة حيث لا يوجد مدرك للإباحة فيكون بمستوى دليل البراءة من النوع المذكور فيتعارضان.

فانه يقال ـ هذه الرواية وكذلك سائر أدلة الاحتياط ان تم شيء منها فهي تدل على إيجاب الاحتياط بلحاظ الواقع والشك فيه وتكون بنفسها بصدد إيصاله إلى المكلفين وليست ناظرة إلى مرحلة الشك في إيجاب الاحتياط لتكون معارضة مع تلك الطائفة من أدلة البراءة.


تنبيهات البراءة

وبعد أن فرغنا عن مقتضى الأصل العملي في الشبهات ، وانه البراءة لا الاحتياط ، يقع البحث في عدة جهات ترجع إلى جريان البراءة ، قد ذكرها الأصحاب ضمن تنبيهات هذه المسألة. فنقول :

١ ـ حكومة أصالة عدم التذكية على البراءة :

ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) ان جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده ينقح موضوع الإلزام والا قدم عليه بالحكومة ، وذلك من قبيل استصحاب عدم التذكية عند الشك في تذكية لحم فانه مقدم على أصالة الحل ، ثم شرع في البحث عن الصغرى أي جريان استصحاب عدم التذكية أو عدم جريانه في نفسه.

ومدرسة المحقق النائيني ( قده ) علقت على هذا الشرط بان الحكومة لا تختص بالاستصحاب الموضوعي بل حتى الحكمي كاستصحاب الحرمة الثابتة حال كون الزبيب عنبا مثلا يحكم على البراءة لأن دليل الاستصحاب يجعله علما وطريقا فيتقدم على البراءة ، ومن هنا جعلوا الشرط عدم جريان استصحاب في مورد البراءة.

وسوف يأتي الحديث في خاتمة الأصول العملية عن النسبة بين الأصول نفسها ،


وبينها وبين الأمارات ، ونبين هناك ملاكات متعددة للتقديم وحكومة دليل على دليل. ولكن نشير هنا إلى ثلاثة أمور :

أولا ـ ان الحكومة بملاك جعل الطريقية والعلمية وبالتالي قيام الأمارة أو الأصل مقام القطع الموضوعي غير تامة لما تقدم في بحث القطع من عدم صحة ذلك كبرى ، وما أشرنا آنفا إلى ان هذا لو تم في الأمارات فلا يتم في مثل الاستصحاب الّذي أخذ في موضوعه الشك.

وثانيا ـ ان الأصل السببي والموضوعي يتقدم على الأصل المسببي بالحكومة لا بنكتة جعل الطريقية بل نكتة أخرى سوف يأتي تحليلها وشرحها. ولهذا تثبت الحكومة والتقدم حتى إذا كان الأصل السببي من الأصول غير المحرزة كأصالة الطهارة في الماء المشكوك المغسول به الثوب النجس فانها تتقدم على استصحاب نجاسة الثوب بعد الغسل رغم انه بحسب تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) لم تجعل لها الطريقية والعلمية وانما جعل ذلك للاستصحاب ولهذا لا تستطيع المدرسة ان تفسر وجه هذا التقدم بالطريقية ، كيف وهي تقتضي العكس كما لا يخفى.

وثالثا ـ كما ان الأصل الموضوعي الإلزامي يتقدم على البراءة بالحكومة كذلك يتقدم الاستصحاب الإلزامي على البراءة لنكات في دليل الاستصحاب تقتضي تقدمه على دليل البراءة. وهذا يعني ان جريان البراءة متوقف على عدم جريان أصل موضوعي محرز للتكليف ولا أصل حكمي كذلك كالاستصحاب الحكمي.

هذا كله في كبرى هذا الشرط.

واما البحث عن أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ، فالشك في حلية لحم حيوان قد زهقت روحه يتصور بأحد أربعة أقسام.

الأول ـ الشك في حلية أكل ذلك الحيوان في نفسه وبقطع النّظر عن التذكية ، إذ ليس كلما يقبل التذكية من الحيوانات يحل أكل لحمه ، فقد يشك في حيوان كذلك بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية (١).

الثاني ـ الشك في حليته من ناحية الشك في قبوله للتذكية ، فانها شرط في حلية

__________________

(١) هذا القسم أيضا يمكن تقسيمه إلى ما يكون الشك في أصل الحلية أو في طرو ما يمنع عنها كالجلل لا من ناحية التذكية.


أكل لحم الحيوان على كل حال فإذا شك في قبوله لها وعدمه بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية شك في الحلية لا محالة.

الثالث ـ الشك في طرو ما يمنع عن قبوله للتذكية ، كما إذا احتمل كون الجلل مانعا عن قبول التذكية بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

الرابع ـ ان يكون الشك في تحقق التذكية للشك في شروطها ، اما بنحو الشبهة الحكمية كما لو شك في شرطية أمر زائد ، أو بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شك في تحققه خارجا بعد الفراغ عن شرطيتها.

اما القسم الأول ـ فان كانت الشبهة حكمية فالمرجع عمومات الحلية من قبيل ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه. ) (١). إن تمت والا فأصالة الحل أو استصحابه الثابت قبل التشريع ، ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية لعدم الشك من ناحيتها ، وان كانت الشبهة موضوعية فلا يمكن التمسك بالعمومات الا إذا أمكن إحراز موضوعها بالاستصحاب ولو بنحو العدم الأزلي والا فيرجع إلى أصالة الحل أو استصحاب عدم الحرمة بنحو العدم الأزلي ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية.

وربما يتصور إمكان الرجوع في الشبهتين إلى استصحاب حرمة أكل الحيوان الثابتة حال حياته بناء على حرمة أكل الحيوان حيا وهو مقدم على أصالة الحل.

وفيه : ان حرمة أكل الحيوان الحي إن كان بملاك حياته وحرمته فمثل هذه الحرمة يقطع بزوالها ولا شك في بقائها. وان كان من جهة دعوى كونه غير مذكى في حال الحياة ولو تمسكا بإطلاق المستثنى منه في آية ( الا ما ذكيتم ) (٢) للحيوان الحي أيضا.

فيرد عليه :

أولا ـ ان التذكية شرط للحلية بالنسبة للحيوان الميت لا مطلق الحيوان فان هذا هو المستفاد من الروايات وهو المستثنى منه في الآية أيضا.

وثانيا ـ هذه الحرمة أيضا يقطع بارتفاعها وانما يشك في حرمة أخرى ثابتة في

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.

(٢) سورة المائدة : ٣.


الحيوان بعنوانه. اللهم الا ان يدعى بان الثابت في حال الحياة حرمة واحدة لا حرمتين لعدم احتمال ذلك فقهيا فاما الحرمة بملاك عدم التذكية أو الحرمة النفسيّة فيكون من استصحاب الكلي القسم الثاني ولكنه لا موجب له.

واما القسم الثاني ـ فجريان أصالة عدم التذكية متوقف على تنقيح بحثين فقهيين :

أحدهما ـ في معنى التذكية وهل انها عبارة عن عنوان بسيط أو عنوان مركب وهو نفس الأعمال والشروط المقررة شرعا لذبح الحيوان ، وهذا نظير البحث في الطهارة من الحدث وانها عبارة عن أمر بسيط أو مركب وهو الغسلات والمسحات مثلا.

كما انه بناء على كونه بسيطا قد يفترض انه عنوان بسيط ينطبق على نفس الأفعال الخارجية أي نسبته إليها نسبة العنوان إلى المعنون كالتعظيم بالنسبة إلى القيام. وأخرى يفرض ان نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب ، وعلى كل من التقديرين قد يكون هذا العنوان البسيط أمرا تكوينيا أو اعتبارا شرعيا.

كما انه لو فرض ان التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط المقررة شرعا ، فتارة يعتبر ذلك تذكية بلا أخذ قابلية وخصوصية في الحيوان المذبوح فتكون التذكية حاصلة بإجراء العملية على أي حيوان ، وأخرى تؤخذ خصوصية الحيوان فيها أيضا أي الأعمال المضافة إلى ذبح حيوان معين (١).

الثاني ـ ان موضوع الحرمة تارة يفترض الحيوان غير المذكى أعني عدم التذكية المضاف إلى الحيوان ، وأخرى يفرض عدم التذكية المضاف إلى الحيوان زاهق الروح بما هو زاهق الروح ، فعلى الأول يكون موضوع الحرمة مركبا من جزءين عرضيين هما زهاق روح الحيوان وكونه غير مذكى بنحو العدم النعتيّ أو المحمولي ، وعلى الثاني يكون موضوع الحرمة مركبا من جزءين طوليين أي الحيوان الزاهق روحه بغير تذكية.

فان اختير في البحث الأول ان التذكية عنوان بسيط فهو مسبوق بالعدم لا محالة وحينئذ لو فرض أخذه بما هو مضاف إلى ذات الحيوان في موضوع الحرمة جرى

__________________

(١) وهذا التشقيق جار أيضا بناء على كون التذكية امرا بسيطا ، الا انه لا أثر له في المقام لأن ذلك العنوان البسيط هو موضوع الحكم على كل حال وهو مسبوق بالعدم ، نعم لو فرض ان التذكية البسيطة مسبب شرعي عن الأفعال والتي أخذ معها خصوصية الحيوان وقابليته كان الأصل في تلك الخصوصية بلحاظ إثبات التذكية كالأصل فيها بلحاظ إثبات الحكم التكليفي إذ تكون التذكية حكما شرعيا مترتبا على الأفعال الخارجية المركبة بحسب الفرض.


استصحاب عدم التذكية سواء كان مأخوذا بنحو العدم النعتيّ أو المحمولي ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، لأن هذا العنوان البسيط مسبوق على كل حال بالعدم في حال حياة الحيوان فيستصحب ، ولو فرض أخذه بما هو مضاف إلى زاهق الروح في موضوع الحرمة فان أضيف عدم التذكية إلى زاهق الروح بنحو التوصيف والنعتية لم يجر استصحاب عدم التذكية إذ لا حالة سابقة لعدم تذكية زاهق الروح بنحو العدم النعتيّ ، فان هذا الحيوان من حين إزهاق روحه لا يدري هل اتصف بعدم التذكية أم لا بل يجري حينئذ استصحاب عدم اتصاف هذا الحيوان الزاهق روحه بعدم التذكية فينفي موضوع الحرمة إذا كان بهذا النحو ، واما إن أضيف عدم التذكية إلى زاهق الروح بنحو العدم المحمولي أي ان لا يكون الحيوان الزاهق روحه مذكى فهذا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية بناء على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية لأن هذا الحيوان قبل زهاق روحه لم يكن مذكى من باب السالبة بانتفاء الموضوع فتستصحب القضية السابقة ـ العدم المحمولي ـ من دون فرق في كل ذلك بين الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

وان اختير في البحث الفقهي الأول ان التذكية مركب من نفس الأفعال الخارجية فان فرض عدم أخذ خصوصية وقابلية معينة للحيوان المذبوح في التذكية كان معناه إحراز التذكية فيه وانما الشك في حليته من ناحية أخرى فيدخل في القسم السابق ، وان فرض أخذ خصوصية مع تلك الأفعال في التذكية بنحو الجزئية أو القيدية فإذا كانت الشبهة حكمية فلا يجري استصحاب عدم التذكية ـ كما لو شك في ان المأخوذ خصوصية الغنيمة مثلا أو الأهلية الصادقة على الخيل مثلا فنشك في تذكية الخيل المذبوح من هذه الناحية ـ لأن واقع تلك الخصوصية المشكوكة بين ما يقطع بعدمه وما يقطع بثبوته فلا معنى لاستصحاب عدمها وعنوان الخصوصية المنتزع من حكم الشارع ليس هو الجزء أو القيد في الحكم لكي نجري استصحاب عدمه ، ولهذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات الحكمية حتى إذا كانت الشبهة الحكمية مفهومية ـ كما لو شك في مفهوم الأهلية في المثال.

وإذا كانت الشبهة موضوعية ـ كما إذا تردد الحيوان المذبوح خارجا بين كونه غنما أو وحشا لظلمة الهواء أو لغير ذلك من موجبات الشبهة الموضوعية ـ فان أخذت تلك


الخصوصية المشكوكة كالأهلية مثلا في التذكية جرى استصحاب عدمها الأزلي إذا لم تكن من الحيثيات الذاتيّة للحيوان فتثبت الحرمة أيضا ، وان أخذت قيدا في التذكية فالذي يجري حينئذ استصحاب عدم المقيد فان ذات المقيد وان كان محرزا ولكن تقيده بتلك الخصوصية غير محرز فيجري استصحاب عدم التذكية بمعنى عدم المقيد بما هو مقيد وهذا الاستصحاب لا يبتني على القول بالاستصحاب في الاعدام الأزلية الا إذا أخذت التذكية التي هي ذلك الأمر المقيد بما هو مضاف إلى زاهق الروح وصفة له لا بما هو مضاف إلى الحيوان في موضوع الحلية.

هذا كله مع قطع النّظر عن دعوى فقهية ذهب إليها بعض الفقهاء من وجود عموم فوقاني يدل على قبول كل حيوان للتذكية الا ما خرج بالدليل والا كان المرجع في الشبهة الحكمية ذلك العام وفي الشبهة الموضوعية استصحاب عدم العنوان الخارج بنحو العدم الأزلي إذا لم يكن من الذاتيات أو قلنا بجريان الأصل فيها أيضا وبذلك ينقح موضوع العام.

وقد ظهر بما ذكرناه وجه النّظر في ما أفاده الأعلام في المقام. فقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) (١) ان التذكية إذا كانت امرا بسيطا جرى استصحاب عدم التذكية وان كانت مركبا من فري الأوداج مع القابلية للتذكية لم يجر الاستصحاب سواء كانت القابلية جزءا أو قيدا إذ ليس لها حالة سابقة لتستصحب سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، ودعوى جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية دفعها بان هذه القابلية ذاتية للحيوان ولا يجري الاستصحاب في الذاتيات.

وفيه : أولا ـ ان جريان الاستصحاب إذا كانت التذكية امرا بسيطا أيضا مبني على القول باستصحاب العدم الأزلي إذا كان مضافا إلى زاهق الروح بما هو زاهق الروح.

وثانيا ـ ما ذكره في الشق الثاني بعد إرجاعه إلى المعنى الصحيح وهو أخذ خصوصية الحيوان في موضوع الحكم الشرعي بالطهارة أو الحل لا أخذ قابلية التذكية في التذكية غير تام فيما إذا كانت الشبهة حكمية حتى إذا قلنا بالاستصحاب في الاعدام الأزلية

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٥٦.


ولم تكن الخصوصية ذاتية لدوران الأمر بين ما هو مقطوع الوجود أو مقطوع العدم كما تقدم شرحه وفيما إذا كانت الشبهة موضوعية انما يتوقف على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية إذا كان الموضوع مركبا كما هو المستظهر إثباتا من الأدلة غالبا واما إذا كان مقيدا ومضافا إلى ذات الحيوان كان عدم المقيد ثابتا في الحيوان حال حياته فيكون استصحاب عدمه له حالة سابقة.

وثالثا ـ لا موجب لافتراض ان الخصوصية القابلة للتذكية ذاتية في الحيوان فقد تكون مثل أهلية الحيوان مثلا أو غير ذلك وذكر المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام (١) ان التقابل بين الموضوع الحلية وموضوع الحرمة ان كان تقابل التضاد بان كان موضوع الحرمة الموت حتف أنفه وموضوع الحلية التذكية فاستصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف ، وان كان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب جرى استصحاب عدم التذكية بلا إشكال ، وان كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة أي عدم التذكية في المحل القابل لها فلا يجري استصحاب عدم التذكية لعدم الحالة السابقة إذ في حال الحياة لا تكون القابلية للتذكية ثابتة وبعد إزهاق الروح يشك في حصول التذكية من أول الأمر.

وفيه : أولا ـ ان فرض التقابل بين موضوع الحرمة والحلية بنحو التضاد أو العدم والملك في نفسه غير معقول ، لأنه يكفي في الحلية عدم تحقق ملاكات الحرمة وانتفاء موضوعها فإذا كان موضوع الحرمة أو الحلية وجوديا كالموت حتف الأنف فلا محالة يكون موضوع الآخر نقيضه فلا يجري استصحاب عدم الموت حتف الأنف أو استصحاب عدم التذكية.

وثانيا ـ لو سلمنا معقولية ذلك ثبوتا بان جعلت الحلية على المذكى والحرمة على الموت حتف الأنف فاستصحاب عدم التذكية لا يجري ليعارض استصحاب عدم الموت حتف الأنف ، إذ لا يثبت الموت حتف الأنف الا على القول بالأصل المثبت ومع عدم إثباته لموضوع الحرمة لا يبقى أثر له إذ التنجيز مرتب على إحراز الحرمة لا رفع

__________________

(١) نهاية الدراية ، المجلد الثاني ، ص ٢٠٦ الطبعة القديمة.


موضوع الحلية ولهذا لو فرض عدم تشريع الحرمة والحلية معا لم يكن تنجيز وتبعة على المكلف أيضا.

وثالثا ـ القابلية التي افترض عدمها في حال الحياة غير قابلية الحيوان للتذكية بناء على ان التذكية بنحو الملكة إذ المراد منها لا بد وان يكون القابلية الإمكانية للتذكية وهي خصوصية ثابتة في الحيوان المذكى حتى في حال حياته سواء فرضت التذكية امرا شرعيا اعتباريا أو تكوينيا.

واما القسم الثالث ـ وهو الشك في الحلية من ناحية طرو ما يحتمل مانعيته عن التذكية كالجلل. ففي الشبهة الحكمية كما إذا شك في مانعية الجلل عن التذكية ، ان فرضت التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط لم يجر استصحاب عدم التذكية لعدم الشك في وجود الموضوع بل في موضوعية الموجود (١) فتصل النوبة إلى أصالة الحل أو البراءة ، بل يجري استصحاب الحلية التعليقي بناء على القول به في أمثال المقام ، لأن هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان حلال اللحم يقينا فيستصحب ، وان فرضت التذكية عنوانا بسيطا جرى استصحاب عدمها بنحو العدم الأزلي أو النعتيّ حسب التفصيل المتقدم في القسم السابق. هذا كله إذا لم يكن عام فوقاني يثبت التذكية بإطلاقه الأحوالي والا كان هو المرجع.

نعم هنا قد يتوهم جريان استصحاب تعليقي حاصله : ان هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان مذكى يقينا فالآن كذلك ، الا ان هذا مبتن على ان تكون التذكية حكما شرعيا لا امرا تكوينيا وان يقال بجريان الاستصحاب التعليقي في أمثال المقام وحكومته على الاستصحاب التنجيزي.

وفي الشبهة الموضوعية كما إذا علم مانعية الجلل عن التذكية وشك في تحققها بنحو الشبهة الموضوعية ، ان فرضت التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط جرى استصحاب عدم الجلل ، وان فرض انها امر بسيط مجعول شرعا على تلك الأفعال مع عدم الجلل جرى استصحاب عدم الجلل فلإحرازه أيضا وان فرض امرا تكوينيا مسببا عن ذلك جرى استصحاب عدم التذكية ولم يجر استصحاب عدم الجلل لأنه لا يثبت

__________________

(١) وبهذا ظهر وجه الضعف فيما جاء في مصباح الأصول ، ص ٣١٣ من التمسك بأصالة عدم المانع.


التذكية الا بالتعويل على الأصل المثبت كما لا يخفى.

واما القسم الرابع ـ وهو الشك في تحقق تمام شروط التذكية خارجا ، فإذا كان ذلك بنحو الشبهة الحكمية بان شك في شرطية شيء أو مانعيته عن التذكية فالكلام فيه نظير الكلام في الشبهة الحكمية من القسم السابق الا من حيث الاستصحاب التعليقي فانه لا يجري الا فيما إذا طرأ ما يحتمل مانعيته (١). وإذا كان بنحو الشبهة الموضوعية جرى استصحاب عدم التذكية بنحو العدم النعتيّ أو الأزلي على التفصيل المتقدم ، أو استصحاب عدم الشرط أو الجزء المشكوك في تحققه إذا كانت التذكية امرا مركبا وكان لذلك الجزء أو الشرط حالة سابقة عدمية.

وهكذا يتضح ابتناء الحكم في الأقسام الثلاثة على البحثين الفقهيين المشار إليهما. ولا بأس بالإشارة إلى ان الصحيح في البحث الفقهي الثاني ان التذكية أخذت في موضوع الحلية وصحة الصلاة بما هي مضافة إلى زاهق الروح لا إلى الحيوان ، لأن ظاهر الآية الشريفة ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم ) (٢) ان المقسم في المستثنى والمستثنى منه هو الحيوان زاهق الروح بقرينة ذكر أنواع منه ولعله المستفاد من اخبار الباب أيضا ، وتفصيل ذلك موكول إلى الفقه.

واما فيما يتعلق بالبحث الفقهي الأول فقد ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى ان التذكية امر مركب أي عبارة عن نفس عملية الذبح الشرعي بشروطها مستدلا على ذلك بتفسير اللغويين للتذكية بالذبح ، وبنسبته إلى الذابح في اللغة وفي ألسنة الروايات. وذهب آخرون إلى انه امر بسيط منكرين في ذلك صحة كلام اللغوي أو حجيته في مقام رد كلام المحقق النائيني ( قده ) وان نسبة التذكية إلى الذابح صحيح

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) والغريب ما جاء في مصباح الأصول ص ٣١٣ من عدم جواز الرجوع إلى الإطلاق الفوقاني لنفي الشرطية أو المانعية المشكوكة بدعوى ان التذكية ليست امرا عرفيا كالبيع ليحمل الدليل الشرعي عليه ، فان التمسك بالإطلاق لنفي القيد ليس متوقفا على عرفية المدلول وتنزيله منزلة ما هو ثابت عندهم بل يتوقف على عرفية الدلالة وهي ثابتة فان السكوت عن ذكر القيد في مقام البيان يدل على انتفاء القيد ثبوتا كما هو منتف إثباتا وهذا واضح كيف والا انسد باب التمسك بالإطلاق في أكثر الفقه حيث ان التشريعات فيها تأسيسية من الشارع ولم تكن ثابتة لدى العرف.


على كل حال فان المسبب التوليدي أيضا ينسب إلى فاعله حقيقة.

والتحقيق : ان عنوان التذكية بحسب تتبع استعمالاتها في ألسنة الروايات يظهر انه عنوان بسيط ترادف الطيب وملائمة الطبع والنقاء ، فقد أطلق في بعض الروايات على الطاهر فقيل كل يابس ذكي وفي باب الجلود قيل الجلد الذكي يجوز الصلاة فيه ، وهذا يناسب مع كونه بسيطا لا مركبا ، وحمله على انه جلد للحيوان الذكي خلاف الظاهر ، وكذلك ورد ان كل ما لا تحل فيه الحياة من الميتة كالصوف والظفر فهو ذكي وان الجنين ذكاته ذكاة أمه (١). نعم الظاهر ان هذا العنوان البسيط قد اعتبره الشارع منطبقا على نفس عملية الذبح الشرعي أيضا كالوضوء المنطبق على نفس الأفعال حيث ورد ان التسمية ذكاة ، وان إخراج السمك من الماء ذكاته ، وحمل ذلك على انه سبب للذكاة خلاف الظاهر ، فظهر ان التذكية عنوان اعتباري بسيط منتزع عن نفس الأعمال ومنطبق عليها نظير الوضوء والطهور لا انها نفسها ولا انها مسبب توليدي عنها.

ثم انه قد يستدل على جريان استصحاب عدم التذكية لا ثبات حرمة الأكل والصلاة ببعض الروايات من قبيل ما ورد من النهي عن أكل الصيد الّذي وجده الصائد مفترسا مع الشك في انه هل افترسه كلب الصيد أو حيوان مفترس آخر وكذلك لو رمى طائرا فقتل وشك انه قتل بالرمية أو بغيرها (٢) وكذلك الروايات الدالة على ان الصلاة في وبر وشعر ما يؤكل لحمه جائز إذا علمت انه ذكي (٣) الدال بمفهومه على انه لا يجوز ذلك إذا لم يعلم تذكيته ، بل نفس أدلة أمارية أرض الإسلام وسوق المسلمين في إثبات الجواز يدل على ان المرجع لو لا الحجة سنخ أصل منجز.

الا ان الصحيح ان هذه الأدلة لا تثبت استصحاب عدم التذكية وانما تثبت أصالة عدم التذكية في مورد الشك من ناحية الأكل والصلاة فلعلها حكم بالاحتياط بمستوى الحكم بالحلية في سائر الموارد.

وقد يستدل بروايات أخرى في إبطال استصحاب عدم التذكية في خصوص

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٦٩.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢٣٠.

(٣) نفس المصدر ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.


الشبهات الموضوعية.

منها ـ الاستدلال بما ورد من تجويز أكل الطائر الّذي شك الصائد في انه هل سمي حين رماه أم لا؟ (١).

وفيه : أولا ـ من المحتمل ان يكون ذلك من جهة قاعدة الفراغ وهي حاكمة على الاستصحاب.

وثانيا ـ قوة احتمال ظهور الرواية في ان التسمية شرط ذكري فتكون التذكية حاصلة واقعا كما ورد ذلك في روايات أخرى (٢).

ومنها ـ ما حاوله صاحب مدارك الأحكام ( قده ) (٣) من الاستناد إلى روايات دلت على ان ما علمت انه ميتة فلا تصل فيه أو لا بأس ما لم تعلم انه ميتة (٤) حيث رتب فيها الجواز على فرض عدم العلم بالميتة الّذي يعني إلغاء استصحاب عدم التذكية في مورد الشك.

وقد أجيب عليه بمحاولات ذكرناها مفصلا في بحوثنا في شرح العروة الوثقى فراجع (٥).

٢ ـ حسن الاحتياط في الشبهة البدوية :

بعد فرض عدم تمامية شيء من أدلة الاخباري على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية ، يقع البحث عن حسنه واستحبابه ، والكلام تارة في حكم الاحتياط في الشبهة البدوية عموما ، وأخرى في العبادات بالخصوص فالحديث في مقامين :

اما المقام الأول ـ فالمشهور حسن الاحتياط عقلا واستحبابه شرعا تمسكا بالأخبار التي استدل بها الاخباري فانها بلا إشكال في دلالتها على أصل الرجحان والاستصحاب في نفسها أو بعد الجمع بينها وبين أدلة البراءة.

وذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى ان الاخبار الآمرة بالاحتياط لا بد وان تحمل على الإرشاد إلى حكم العقل ولا يعقل الأمر المولوي بالاحتياط وقد بين وجه عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٤) ص ١٥٧ الطبعة الحجرية.

(٥) الجزء الثالث ، ص ١٣٣.


معقوليته بأحد بيانين :

الأول ـ ان حسن الاحتياط حكم عقلي في سلسلة معلومات الأحكام الشرعية ومثل هذا يستحيل ان يكون منشأ لحكم شرعي بالملازمة.

وكبرى هذه القاعدة أوضحنا بطلانها في مباحث القطع فلا نعيد ، واما الصغرى أي تطبيق تلك الكبرى على الأوامر الشرعية بالاحتياط فغير تامة أيضا لوجهين :

أولا ـ ان الّذي هو في سلسلة المعلولات حكم العقل بإطاعة المولى وامتثاله المتوقف على قصد الإطاعة والامتثال وما ورد الأمر به في هذه الأوامر مجرد الاحتياط وعدم اقتحام الشبهة ولو لم يكن بقصد الإطاعة والامتثال فليس المأمور به شرعا نفس ما حكم به العقل في مرتبة معلولات الأحكام ليستحيل تعلق حكم شرعي به.

وثانيا ـ ان الأمر بالاحتياط يكشف عن درجة من اهتمام المولى بملاكات أحكامه الواقعية اللزومية في التزاحم الحفظي ـ على ما تقدم في شرح حقيقة الحكم الواقعي ـ وهذا يجعل حكم العقل بحسن الاحتياط أشد وبملاك أقوى إذ يكشف عن رجحان الملاكات اللزومية على الملاكات الترخيصية في مقام التزاحم عند الشارع فليس الحكم الشرعي بالاحتياط بنفس ملاك الحكم العقلي بالحسن ليتوهم استحالته إذا كان في سلسلة معلولات الأحكام.

الثاني ـ ان جعل استحباب الاحتياط لغو إذا يكفي في تحريك العبد نحو الاحتياط احتمال الحكم الواقعي بعد حكم العقل بحسب الاحتياط.

وفيه : ان فرض الأمر بالاحتياط بملاك نفسي فلا لغوية كما هو واضح ، وان فرض بملاك طريقي وهو حفظ الملاكات اللزومية الواقعية المتزاحمة كما هو ظاهر التعبير بالاحتياط أو عدم الاقتحام فائضا لا لغوية لما ذكرناه من ان هذا الأمر يكشف عن درجة رجحان في ملاكات الأحكام اللزومية عند المولى بالنسبة إلى أحكامه الترخيصية ، وفائدة ذلك تأكد حسن الاحتياط عند العقل ومزيد تحريك للمكلف بالمقدار الثابت في الأوامر الاستحبابية الأمر الّذي لم يكن لو وصله العكس وثبت رجحان أغراض المولى الترخيصية أو احتمل ذلك على الأقل.

وهكذا يظهر عدم محذور في استفادة استحباب الاحتياط في الشبهات البدوية كحكم مولوي طريقي من أوامر الاحتياط. نعم لا يبعد ظهور بعضها في ان الاحتياط


لنكتة أخرى غير الواقع المشتبه مثل النبوي الدال على ان من ترك الشبهات كان لما استبان له اترك بناء على ما ذكرناه من ظهوره في إرادة النهي عن ارتكاب المشتبه لكي لا يتجرأ المكلف بالتدريج على مخالفة المولى حتى في المتيقن والبين غيه وإثمه وهذه نكتة أخرى تجعل الأمر بالاحتياط في مورد الشبهة نفسيا لا طريقيا ولا بأس بالالتزام بثبوته أيضا ان صح سنده فيثبت استحبابان للاحتياط أحدهما طريقي والآخر نفسي.

المقام الثاني ـ في الاحتياط في العبادات ، والبحث هنا في كيفية تصويره صغرويا بعد ان فرغنا عن حسنه واستحبابه كبرويا في المقام السابق ، ووجه الإشكال ينشأ من لزوم قصد الأمر في العبادة وهو لا يتأتى مع الشك وعدم العلم بالأمر الا بنحو التشريع المحرم والمبطل للعبادة.

وهذا الإشكال لا مأخذ له بناء على ما هو الصحيح فقهيا من ان اللازم في صحة العبادة مطلق الداعي القربي فان الانبعاث عن احتمال الأمر داع قربي إلهي لأنه مظهر من مظاهر الإخلاص ذاتا للمولى وكل ما هو مظهر للإخلاص للمولى يوجب التقرب ذاتا إليه أيضا بلا حاجة إلى جعل ، ولم يناقش فيه أحد وانما ناقش بعضهم في كفاية مع إمكان العلم بالأمر والتقرب الجزمي به فمع فرض عدم إمكان ذلك لا مجال لتوهم الإشكال أصلا من دون فرق بين ان يكون وجوب القربة عقليا لاستحالة أخذه تحت الأمر أو بحكم الشارع نفسه.

وانما الإشكال ينشأ على فرض اشتراط قصد الأمر الجزمي شرعا في صحة العبادة مع الإمكان. وهنا تارة يفترض فقهيا اشتراط قصد الأمر الجزمي المتعلق بالعبادة ، وأخرى يفترض كفاية قصد الأمر الجزمي ولو كان متعلقا بعنوان ثانوي منطبق على العبادة اما على الأول فلا إشكال في سقوط التكليف حينئذ وارتفاع موضوعه لأن كل تكليف مشروط بالقدرة عل متعلقه ومع عدم وصول الأمر لا يتمكن المكلف من العبادة فيقطع بعدمه لا محالة من دون فرق أيضا بين المسلكين في شرطية قصد القربة.

واما على فرض كفاية قصد مطلق الأمر المنطبق على العبادة فقد يقال بإمكان الاحتياط نظرا إلى وجود الأمر الجزمي الاستحبابي المتعلق بالاحتياط. وقد يقال بعدم إمكانه لأن الأمر الجزمي قد تعلق بعنوان الاحتياط فلا يمكن قصده الا بإتيان متعلقه


وهو الاحتياط في العبادة الواقعية المحتملة ولا يمكن الاحتياط فيها الا بقصد امر جزمي ، فلو أريد تصحيح ذلك بهذا الأمر لزم منه ما يشبه الدور.

والتحقيق ان يقال : تارة يفرض الأمر بالاحتياط نفسيا وأخرى يفرض طريقيا ، فإذا فرض الأمر بالاحتياط نفسيا فان كان المبنى في بحث التعبدي والتوصلي إمكان أخذ قصد الأمر تحت الأمر والخطاب فلا إشكال في المقام لأن هذا الإشكال المثار هنا نفس ما أثير في بحث التعبدي والتوصلي وجوابه نفس الجواب من ان الاحتياط بوجوده الخارجي متأخر عن جعل الأمر الّذي صقع وجوده وعالمه عالم الوجود الذهني والّذي يتوقف عليه الأمر بالاحتياط وجوده في ذهن الآمر في مقام الجعل وهو ليس كالوجود الخارجي للاحتياط متأخرا عن الأمر فلا دور لا في عالم الجعل ولا في عالم الخارج ، واما دعوى تأخر إمكان الاحتياط والقدرة عليه رتبة عن الأمر به مع انه مأخوذ في موضوعه ، وبتعبير آخر لزوم الدور في مرحلة فعلية الأمر من ناحية شرط فعليته وهو القدرة على متعلقه لأنها مشروطة بفعلية الأمر مع توقف فعلية الأمر عليه فجوابه ما ذكر في بحث التعبدي أيضا من انه تكفي في القدرة التي يشترطها العقل القدرة من ساير الوجوه والجهات غير ما ينشأ ويحصل في طول الجعل بنفس الجعل فالأجوبة المذكورة هناك بنفسها تجري في المقام.

وان فرض ان المبنى في بحث التعبدي والتوصلي عدم إمكان أخذ قصد القربة تحت الأمر فقد يقال بعدم معقولية الأمر بالاحتياط في العبادات إذ هذا الأمر اما ان يفرض تعلقه بذات العمل أو يفرض تعلقه بالعمل بقصد الأمر بالاحتياط الجزمي ، والأول خلف إذ ذات العمل ليس عبادة ولا يترتب عليه الغرض ليكون احتياطا ، والثاني يلزم منه أخذ قصد الأمر في متعلقه وهو محال بحسب الفرض.

الا ان الصحيح إمكان اختيار الشق الأول ، والإجابة عن الإشكال بان المفروض على مبنى استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ان ما هو المأمور به الواقعي ذات العمل فكما صورنا لزوم قصد الأمر في الأمر الواقعي بالعبادة بحكم العقل لا الشرع كذلك الحال في الأمر بالاحتياط في ذلك الأمر العبادي (١) ، وبهذا يظهر

__________________

(١) هذا إذا كان الأمر بالاحتياط في العبادات وواردا فيها بالخصوص حيث يستفاد منه حينئذ ولو بدلالة الاقتضاء ذلك. واما.


الجواب على ما ذكر من ان الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فلا يتقوم الاحتياط الا به فان متعلقه على هذا المبنى نفس العمل لا العمل بقصد الأمر.

وإذا فرضنا الأمر بالاحتياط طريقيا فلا بد وان يرى ما ذا يراد من قصد الأمر الجزمي؟ فان أريد الأمر الحقيقي الناشئ عن ملاك ومبادئ جزمية فهذا غير متوفر حتى مع ثبوت الأمر بالاحتياط لعدم نشوئه عن مبادئ واقعية غير الملاكات المشكوكة ، وان أريد مطلق ثبوت امر مولوي وان لم تكن له مبادئ مستقلة عن الواقع المشكوك فهو حاصل في المقام فيصح التقرب به بنفس البيان المتقدم على فرض كونه نفسيا.

٣ ـ قاعدة التسامح في أدلة السنن :

ورد في عدة من الروايات ـ وفيها ما يكون معتبرا من ناحية السند ان من بلغه عن النبي 6 شيء من الثواب على عمل فعمله التماسا للثواب أعطي ذلك وان لم يكن مطابقا مع الواقع وكان رسول الله 6 لم يقله (١).

والبحث عن ذلك يقع في عدة جهات :

الجهة الأولى ـ في فقه هذه الاخبار ومحتملاتها. والاحتمالات في مضمونها بدوا كالتالي :

١ ـ ان يكون المقصود مجرد الوعد من الشارع لمصلحة فيه بإعطاء ذلك الثواب لمن عمله فتكون قضيته خبرية صرفة ولو بملاك تعظيم النبي واحترامه وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء به من دون ان يكون هناك امر وترغيب ومطلوبية.

٢ ـ ان يكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط والانبعاث من المطلوبية الاحتمالية فيكون ترغيبا صادرا عن المولى بما هو عاقل لا بما هو مولى.

٣ ـ ان يكون استحبابا على عنوان ثانوي هو بلوغ الثواب.

٤ ـ ان يكون حكما مولويا طريقيا ـ ظاهريا ـ من أجل التحفظ على الملاكات الواقعية الراجحة المتزاحمة بالتزاحم الحفظي وهذا يتصور بأحد شكلين :

__________________

مطلقات الاحتياط فلا يعقد إطلاق فيها للعبادة لأن عنوان الاحتياط لا يصدق فيها بقطع النّظر عن نفس الأمر بالاحتياط وهذا يمنع عن الإطلاق لا انه ينعقد الإطلاق وتتم دلالة الاقتضاء فيه.

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، باب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات ، ص ٥٩ ـ ٦١.


الأول ـ ان يكون المقصود جعل الحجية للخبر الضعيف وهذا هو المناسب مع التعبير بالتسامح في أدلة السنن.

الثاني ـ ان يكون المقصود جعل إيجاب الاحتياط الاستحبابي في مورد بلوغ الثواب من دون جعل الحجية للخبر الضعيف وترتيب آثار ذلك عليه.

٥ ـ ان يكون المقصود تكميل محركية الأوامر الاستحبابية فيما إذا فرض بلوغ ثواب على مستحب مفروغ عن استحبابه ولكن حيث ان ذلك البلوغ ليس قطعيا فتنقص وتضعف محركية الأمر الاستحبابي الّذي لا ضير في تركه بحسب طبعه فمن أجل حث المكلفين على عدم إهمال المستحبات وطلبها وعد بنفس الثواب وأكمل محركية ذلك الأمر الاستحبابي وهذا الترغيب المولوي وان كان طريقيا أيضا ولكنه لا يستبطن طلبا وأمرا بل مجرد ترغيب بالوعد المولوي على الثواب لجبر ضعف محركية الاستحباب والطلب الندبي وعلى هذا لا يستفاد من هذه الاخبار استحباب عمل لم يثبت خيريته واستحبابه في المرتبة السابقة لأن ذلك قد أخذ في موضوعها فيكون التمسك بها في مورد الشك في أصل الاستحباب من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، بل تكون هذه الروايات من أدلة الترغيب في الطاعة والحث على عدم إهمال المستحبات الشرعية من خلال جعل ثواب ترغيبي تفضيلي في ذلك المورد.

والاحتمالان الأولان من هذه الاحتمالات لا يمكن المصير إليهما ، إذ الأول خلاف ظهورها في انها بصدد الحث والترغيب والطلب لا مجرد الاخبار أو الوعد الصرف.

والثاني خلاف ظاهر حال الخطاب الصادر من المولى في انه صادر عنه بما هو مولى لا بما هو عاقل سواء كان بلسان الأمر والطلب أو بلسان الوعد على الثواب (١).

والاحتمال الأخير وان كان واردا في نفسه وقد يستشهد عليه بما ورد في لسان بعض الروايات ( من بلغه ثواب على شيء من الخير ) الظاهر في المفروغية عن

__________________

(١) وخلاف ظاهر التحديد بان له نفس ذلك الأجر والثواب كما لو كان الثواب البالغ مطابقا للواقع.


خيرية ورجحان العمل الّذي بلغ عليه الثواب في المرتبة السابقة الا ان حمل كل اخبار الباب حتى المطلق منها على ذلك لا موجب له (١).

فيدور الأمر بين الاحتمالين الثالث والرابع أي ان يكون امرا استحبابيا نفسيا بعنوان ثانوي وهو بلوغ الثواب أو يكون حكما ظاهريا طريقيا.

وقد يستدل لا ثبات الاحتمال الثالث ونفي الرابع بأحد وجوه :

الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان احتمال الحكم الظاهري وجعل الحجية بعيد غاية البعد لأن لسان الحجية انما هو إلغاء احتمال الخلاف والبناء على ان المؤدى هو الواقع كما في أدلة سائر الأمارات لا فرض عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما في قوله 7 ( وان كان رسول الله لم يقله ) (٢).

وفيه : ما تقدم في شرح هذا الاحتمال من ان الأمر الطريقي الظاهري لا ينحصر في ان يكون بمعنى جعل الحجية للخبر الضعيف بل يعقل ذلك على مستوى الحكم بالاحتياط وهو لا ينافي مع التعبير المذكور (٣). على ان هذا سير حسب مصطلحات مدرسة الميرزا ( قده ) من ملاحظة ألسنة الجعل في الأحكام الظاهرية الطريقية وانها في الأمارات بلسان جعل الطريقية ، والا فقد عرفت بما لا مزيد عليه ان حقيقة الحكم الظاهري وروحه واحدة سواء كان بهذا اللسان أو بغيره.

الثاني ـ ويتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ انه مهما رتب ثواب على عمل ما فقيل مثلا ( من فطر صائما فله كذا من الثواب ) كان ذلك دليلا على مطلوبيته واستحبابه للملازمة بين الثواب والأمر والا كان جزافا ، فان سبب الثواب ومنشأه هو الإتيان بالمأمور به والمطلوب المولوي فنستكشف من ذكر اللازم الملزوم.

الثانية ـ انه في المقام وان رتب الثواب على من بلغه الثواب على عمل فعمله فيمكن ان يكون الثواب من جهة الانقياد والإتيان بالعمل برجاء مصادفة المأمور به

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٣١٩.

(٢) على ان المراد من الخير ، الخير العنواني لا الواقعي ولو بقرينة ان دليل إبلاغ الثواب عادة هو دليل الخيريّة والاستحباب لدى الشارع لأن ان هناك دليلين أحدهما على الاستحباب والآخر على الثواب.

(٣) الإنصاف ان هذا التعبير لا يناسب عرفا مع نكتة جعل الحكم الظاهري التي هي التحفظ على الملاكات الواقعية.


الواقعي وهو حسن عقلا يستحق فاعله الثواب فلا ينحصر وجه ترتب الثواب على وجود أمر نفسي الا ان إطلاق هذه الاخبار لما إذا جاء به لا برجاء المصادفة والانقياد يقتضي الأمر به لا محالة إذ لا موجب للثواب فيه الا الاستحباب.

فإذا تمت المقدمتان ثبت الاحتمال الثالث في قبال الرابع. وقد اتفق أكثر المحققين على انه لو تم الإطلاق في اخبار من بلغ لصورة الإتيان بالعمل لا بداعي الانقياد ثبت الاستحباب النفسيّ وان اختلفوا في أصل هذا الإطلاق ـ على ما سوف يأتي الحديث عنه.

وفيه : أولا ـ ان استفادة الأمر من أدلة الثواب ليست بنكتة الملازمة العقلية بين الثواب والأمر بالدقة لوضوح عدم الملازمة بين ثبوت الأمر واقعا وبين الثواب وانما الأمر يستفاد على أساس إحدى نكتتين :

أولاهما ـ الكناية بان يكون ذكر الثواب كناية عن الأمر من جهة انه معلوله عادة وعرفا من قبيل زيد كثير الرماد.

ثانيتهما ـ وجود تقدير ارتكازي عرفي هو انه لو علم بحكمه المكلف وأحرزه فعمله كان له ذلك الثواب فتكون الملازمة بين ترتب الثواب على العمل لمن يعلم بحكمه وبين ان يكون حكمه الاستحباب عقلية ونكتة هذا التقدير واضحة عرفا وارتكازا فان هذه خصوصية يتكفل الخطاب نفسه لا لإيجادها وحفظها فكأنها مفروغ عنها.

وكلتا النكتتين انما تجريان في مورد لا يوجد فيه نكتة أخرى عرفية صالحة لأن تكون هي منشأ ترتب الثواب وموجبه كما في المقام ، فانه مع ثبوت بلوغ الثواب ولو بخبر ضعيف وإتيان المكلف به التماسا لذلك الثواب لا موجب لاستكشاف امر نفسي لأن هذه مناسبة في المورد يمكن ان تكون هي المعنية والملحوظة في ترتيب الثواب وهذا وان كان فيه تقييد للخطاب بفرض الانقياد الا ان نكتتها ومناسبتها العرفية ليست بأشد أو أخفى من النكتتين المذكورتين. والحاصل ان نكتة الاستفادة المذكورة انما تتم حيث لا يكون في مورد الخطاب نكتة أخرى للثواب كما في المقام.

لا يقال ـ إطلاق الخطاب لغير صورة الانقياد تعين إحدى النكتتين.

فانه يقال ـ اما النكتة الأولى فهي فرع ان يكون أصل المدلول ملازما عرفا مع الأمر ليكون كناية عنه كما هو واضح ، واما النكتة الثانية فالمفروض ان قيد الانقياد


وقصد الامتثال لا بد من أخذ مقدرا على كل حال لترتيب الثواب علاوة على قيد وصول الأمر وإحرازه وحينئذ كما يمكن أخذ الإطاعة والانقياد لهذا الخطاب قيدا الّذي يستكشف منه ثبوت الاستحباب النفسيّ كذلك يمكن أخذ الإطاعة والانقياد للأمر البالغ قيدا وليس أحدهما بأولى من الآخر عرفا ولو فرض ان أحدهما أكثر تقييدا من الآخر ـ لأن كل من ينقاد من الأمر المحتمل ينقاد من الأمر الجزمي دون العكس ـ لأن التمسك بالإطلاق فرع تحديد ما هو المقدر بحسب المناسبات العرفية في المرتبة السابقة فلا يمكن تحديده به.

وثانيا ـ ان ترتب الثواب ان كان من باب التفضل من الله لأنه جواد كريم فلا محال لاستكشاف الأمر بالملازمة كما لا يخفى وان كان ثوابا استحقاقيا وبملاك الإطاعة فهذا الثواب ترتبه متوقف عقلا على ان يكون الإتيان بالفعل بداع قربي وإطاعة للمولى وحينئذ نقول لو رتب الثواب على فعل كما إذا قال من فطر صائما فله كذا من الثواب ثبت بالملازمة ، الأمر حتى مع وجود القيد العقلي المذكور فان ترتب الثواب على من فطر صائما حتى مع قصد قربي لا وجه له الا مع فرض الأمر به فيستكشف ذلك بالملازمة ، واما في المقام فحيث ان الموضوع الّذي رتب عليه الثواب هو الإتيان بعمل بلغ عليه الثواب بقصد قربي إلهي فصدق هذه القضية لا يتوقف على فرض ثبوت امر استحبابي لعنوان البلوغ ولا يمكن التمسك بإطلاقه لحال الإتيان به لا بداعي الانقياد واحتمال الأمر البالغ لأن إطلاق الحكم فرع إطلاق الموضوع ولا يمكن إثبات الموضوع بالحكم.

وثالثا ـ ان ترتيب الثواب في فرض عدم الانقياد وتحرك المكلف من احتمال الأمر البالغ بل تحركه من نفس هذا الخطاب غاية ما يقتضيه ثبوت الأمر المولوي في هذا الفرض أيضا وهو الجامع بين الاحتمال الثالث والرابع لأن هذا الأمر يمكن ان يكون طريقيا وان يكون ترتيب الثواب عليه بداعي تحريك المكلفين وترغيبهم على الاحتياط والتحفظ على اهتمامات المولى ، واستحقاق الثواب عليه لمن يأتي به بداعي امتثاله ثابت أيضا اذن فهذا الإطلاق لا ينفي الأمر الطريقي المولوي على مستوى الأمر بالاحتياط وانما ينفي احتمال الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد.

الثالث ـ ما ذكره بعض المحققين من ان ظاهر قوله 7 ( فعمله ) انه جملة خبرية


مستعملة في مقام الإنشاء كما في مثل قوله 7 ( يسجد سجدتي السهو ) والجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء يكون ظاهرا في انه بداعي الأمر.

وفيه : أولا ـ ان جملة ( فعمله ) في اخبار من بلغ واردة في موقع الشرط حيث قيل ( من بلغه شيء من الثواب فعمله كان له ذلك الثواب ) وواضح ان استفادة الأمر من الجملة الخبرية انما تصح إذا كانت في موقع الجزاء أو جملة حملية لا ما إذا كانت شرطا وفي موقع الفرض والتقدير نظير قوله ( من أجنب فليغتسل ) فانه لا يفهم منه الأمر بالإجناب ، ولعمري هذا من غرائب كلماتهم في المقام.

وثانيا ـ ان هذه القرينة على تقدير تماميتها تنفي احتمال الإرشادية في هذه الاخبار ـ كما ذكر المحقق النائيني ( قده ) ـ ولا تنفي احتمال الأمر الطريقي الظاهري كما هو واضح.

الرابع ـ لا إشكال في تقييد مفاده هذه الاخبار لفظا أو عقلا بما إذا جيء بالعمل البالغ عليه الثواب بداع قربي إذ من دونه لا استحقاق للثواب بوجه ، وهذا القيد لا يناسب مع كون الأمر طريقيا ومن أجل الاحتياط والتحفظ على الملاكات الواقعية الراجحة ، إذ ثبوت الثواب على العمل على الإطلاق يوجب تحرك العبد ولو لم يوجد في نفسه داع قربي كما في المستحبات التوصلية فان هذا أحفظ للملاكات الراجحة.

وفيه ـ ان الأمر الطريقي بالاحتياط المجعول ليس بأكثر من الأمر الاستحبابي الواقعي المشكوك فكما ان الأمر الواقعي لا يمكن ان يترتب عليه ثواب الا إذا أتى به بداع قربي كذلك الأمر الطريقي فان شأنه التحفظ على الأوامر الواقعية المشكوكة بجعلها كالأوامر المعلومة من حيث التحريك المولوي لا أكثر من ذلك فهذا القيد مناسب مع كلا الاحتمالين.

وهكذا يتضح انه لا معين لخصوص الاحتمال الثالث أي الاستحباب النفسيّ في قبال الاحتمال الرابع أي الأمر الظاهري ـ على مستوى الأمر بالاحتياط ـ (١).

__________________

(١) يمكن ان نستبعد الاحتمال الثالث على أساس إحدى نكتتين :.

الأولى ـ ان ظاهر الروايات ترتيب الثواب على نفس العنوان الّذي بلغ المكلف وعمله ـ مع قصد القربة ـ لا على عنوان البلوغ الّذي ربما لا يكون ملتفتا إليه وهذا أنسب مع الحكم الطريقي من استحباب عنوان البلوغ.

الثانية ـ ان ظاهر هذه الروايات ترتيب نفس المقدار من الثواب البالغ على العمل والّذي يختلف من مورد إلى آخر وليس


الجهة الثانية ـ ذكر السيد الأستاذ في الدراسات انه لا ثمرة فقهية بين القولين القول بالاستحباب النفسيّ لعنوان ما بلغ عليه الثواب والقول بجعل الحجية للخبر الضعيف ، إذ تثبت في النتيجة من الناحية الفقهية استحباب ذلك العمل سواء بعنوانه الثانوي أو الأولي ، وما قيل من انه على التقدير الثاني لو دل خبر صحيح على حرمة عمل وبلغ عليه الثواب بخبر ضعيف تعارض الخبران وتساقطا فلا تثبت الحرمة بخلافه على الأول حيث يدخل في باب تزاحم الملاكين ملاك الاستحباب وملاك الحرمة فقد تثبت الحرمة بمقتضي إطلاق دليله غير تام لأن هذه الاخبار لا إطلاق لها لفرض بلوغ الثواب على مورد بلغ العقاب عليه وتنجزت حرمته.

والصحيح : ان هناك ثمرات عديدة تترتب بين القولين نذكر فيما يلي جملة منها :منها ـ تحقق التعارض فيما إذا دل خبر ضعيف على استحباب أو وجوب فعل وترتب الثواب عليه ودل خبر آخر صحيح على عدم رجحانه ، فبناء على القول الثاني لا يثبت الرجحان بينهما يثبت الاستحباب بالعنوان الثانوي على القول الأول.

ومنها ـ لو فرض ورود خبرين ضعيفين على استحباب عملين وعرف من الخارج عدم استحبابهما معا أي علم إجمالا بكذب أحدهما ، فانه بناء على القول الثاني يقع التعارض بينهما بناء على مثل مبنى المحقق النائيني ( قده ) من عدم إمكان جعل العلمية والطريقية لمجموع شيئين علم بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع واما بناء على ما هو الصحيح من ان التعارض في موارد العلم الإجمالي بالكذب ينشأ من جهة المدلول الالتزامي لكل من الدليلين ونفيه للمدلول المطابقي للآخر فالتعارض في المقام مبني على ان يستفاد من اخبار من بلغ حجية الخبر الضعيف لا في إثبات الاستحباب والثواب فقط بل في كل مداليله حتى الالتزامية النافية لاستحباب شيء آخر.

ومنها ـ لو ورد دليل على عدم استحباب عمل يضر بالنفس ولو بالعنوان الثانوي

__________________

مقدارا واحدا والمرتكز عند العرف إذا كان عنوان البلوغ من العناوين الطارئة الموجبة لاستحباب العمل ان يكون له حكم واحد وثواب واحد لا ان يختلف شدة وضعفا وكثرة وقلة باختلاف المقدار البالغ من الثواب ، فالإنصاف ان استفادة الاستحباب النفسيّ من هذه الروايات مشكل ، وحيث ان الاحتمال الرابع ـ وهو جعل الحجية أو الحكم الظاهري أيضا خلاف الظاهر من هذا الروايات كما تقدم فيتعين احتمال سادس يستحصل بالتلفيق بين احتمالين هما الاحتمال الثاني مع تطعيمه بالاحتمال الأول بان يكون الوعد على الثواب مولويا لتتميم محركية الاستحباب المشكوك لأن الاحتمال الثاني لا يفسر بمفرده إعطاء العامل نفس الثواب الّذي بلغه ولا يناسبه كما لا يناسب ظهور هذه الاخبار في الترغيب المولوي.


وورد خبر ضعيف على الاستحباب وترتب الثواب للطم في عزاء الحسين 7 مثلا وفرض انه مضر بالنفس شيئا ما فانه بناء على جعل الحجية يكون الخبر الضعيف مخصصا للدليل الأول (١) ولا معارضة بينه وبين اخبار من بلغ لأنها تثبت الحجية ولا تنفي مدلول ذلك الدليل ، وبناء على الاستحباب يقع التعارض بين اخبار من بلغ والدليل الأول بنحو العموم من وجه فيتساقطان ولا تثبت الاستحباب.

ومنها ـ لو دل خبر ضعيف على وجوب عمل وترتب الثواب عليه ، فانه بناء على الاستحباب يثبت استحبابه ورجحانه بالعنوان الثانوي ، واما بناء على جعل الحجية فان قيل بان اخبار من بلغ تثبت الحجية حتى للخبر الضعيف الدال على الوجوب ثبت الوجوب والا فلا يمكن إثبات أصل الرجحان أيضا بناء على ان الدلالة على أصل الرجحان دلالة تحليلية وحجية الدليل في إثبات مثل هذا المدلول فرع حجيته في إثبات المدلول المطابقي.

ومنها ـ لو دل دليل على استحباب عمل مطلقا ودل خبر ضعيف على استحباب ذلك العمل مشروطا بقيد فانه بناء على جعل الحجية يثبت مستحب واحد للمقيد (٢) ، واما بناء على الاستحباب النفسيّ لعنوان البلوغ يثبت استحبابان بالعنوان الثانوي للمطلق والمقيد معا.

ومنها ـ لو دل خبر ضعيف على استحباب عمل قبل الزوال مثلا مع الشك في بقاء استحبابه بعد الزوال ، فبناء على جعل الحجية أمكن إثبات ذلك بالاستصحاب بخلافه على الاستحباب النفسيّ لعنوان البلوغ لأن البالغ انما هو الثواب قبل الزوال وهذا منتف بعد الزوال جزما.

__________________

(١) هذا إذا استفيد من اخبار من بلغ حجية الخبر الضعيف بجميع خصوصياته وآثاره ، واما إذا كان قصارى ما يدل عليه إثبات الاستحباب لا أزيد كان معارضا مع حجية إطلاق الدليل العام النافي للاستحباب فيتساقطان لأن اخبار من بلغ لا ترتب حينئذ حكم التخصيص والجمع العرفي على الخبر الضعيف.

(٢) هذا إذا استفيد من اخبار من بلغ حجية الخبر الضعيف بجميع خصوصياته وآثاره ، واما إذا استفيد منها حجيته بمقدار إثبات المستحب وهو المقيد لا نفي المطلق فان كان الدليل على استحباب المطلق خبرا صحيحا في نفسه وقع التعارض بين حجية إطلاقه النافي لمدلول الخبر الضعيف ـ حيث انهما ناظران إلى حكم واقعي واحد ـ وبين حجية دلالة الخبر الضعيف وتساقطا فيثبت مستحب واحد هو المقيد بحسب النتيجة ، وان كان دليل الاستحباب المطلق خبران ضعيفا أيضا وأريد إثبات حجيته باخبار من بلغ ثبت استحبابان ظاهريان للمطلق والمقيد معا وان علم بكذب أحدهما فتأمل جيدا.


ومنها ـ ما سوف يأتي الحديث عنه من انه بناء على جعل الحجية يفتي الفقيه بالاستحباب لمقلديه بينما على القول باستحباب العمل البالغ عليه الثواب فلا بد في ثبوته للمقلدين من بلوغهم ذلك ـ وهذا الفرق ثابت بين القول بالاستحباب والقول بالأمر الطريقي على مستوى الاحتياط في موارد بلوغ الثواب أيضا بخلاف الفروق السابقة ـ.

الجهة الثالثة ـ في تحقيق ما اختلف فيه المحققون من شمول اخبار من بلغ لغير فرض الإتيان بالعمل الّذي بلغ عليه الثواب بداعي الانقياد وبلوغ ذلك الثواب ، وهذا يرتبط بملاحظة ما ذكر من دعوى وجود القرينة على تقيدها بفرض الانقياد.

وتلك القرينة يمكن ان تكون أحد امرين :

الأول ـ استفادة ذلك من فاء التفريع في قوله ( من بلغه شيء من الثواب فعمله ) فانه يدل على كون العمل متفرعا على البلوغ.

الثاني ـ ما ورد في جملة منها من التصريح بالإتيان بالعمل التماسا للثواب أو لقول النبي 6 فيحمل غيره عليه أيضا من باب حمل المطلق على المقيد ، وقد نوقش في الوجه الأول بعدة مناقشات.

منها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من ان البلوغ قد أخذ بنحو الحيثية التعليلية للعمل لا بنحو الحيثية التقييدية.

وهذا الكلام ان أريد به دعوى ان البلوغ بعد ان أخذ بنحو التعليل لا بنحو التقييد فلا يختص العمل بالحصة الانقيادية المتفرعة على البلوغ ففيه : ان مجرد أخذ البلوغ في موضوع العمل يجعله متفرعا عليه ومقيدا به سواء كان حيثية تعليلية أو تقييدية.

وان أريد دعوى ان ظاهر الاخبار ترتب الثواب على نفس العمل لا بما انه قد بلغ عليه الثواب لأن البلوغ أخذ بنحو الحيثية التعليلية لا التقييدية ليكون عنوان بلوغ الثواب والانقياد هو موضوع الثواب فتكون الاخبار إرشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد ومخصوصا به.

ففيه : ان ترتب الثواب لا بد فيه من أخذ قيد قصد القربة على كل حال لأنه غير مترتب على ذات العمل بل على الإطاعة أو الانقياد وانما العمل مورد لترتب الثواب


عند تحقق قصد الإطاعة أو الانقياد (١).

ومنها ـ ان العمل لم يفرع في هذه الاخبار على داعوية احتمال الأمر حتى يختص بالحصة الانقيادية وانما فرع على داعوية الثواب حيث قال ( من بلغه شيء من الثواب فعمله ) وحيث نعلم بان ترتب الثواب لا يكون الا مع قصد القربة فلا بد من قصده اما بنحو الانقياد أو بقصد الأمر الجزمي المتعلق في هذه الاخبار بالعمل البالغ عليه الثواب.

وفيه : إذا فرض ان التفريع المذكور تفريع للعمل على داعيه وهو الثواب البالغ كان معناه ان المستحب انما هو الإتيان بالعمل انقيادا وبداعي ذلك الثواب الواقعي البالغ لأن المراد بذلك الثواب كالاستحباب البالغ هو الحكم الواقعي المشكوك.

والصحيح في دفع هذا الوجه ان يقال : بان تفريع العمل على البلوغ لا يقتضي اختصاصه بالحصة الانقيادية لأن تفريع عمل على شيء كما يمكن ان يكون من باب التفريع على داعيه كقولك ( وجب على كذا ففعلته ) ، كذلك يمكن ان يكون من باب التفريع على موضوع داعيه كقولك ( دخل الوقت فصليت ) وفيما نحن فيه يكون تفريع العمل على بلوغ الثواب من باب انه موضوع لتحقق الداعي الّذي هو اما الانقياد أو الإطاعة وقصد الأمر الجزمي المستفاد من نفس هذه الاخبار وليس تفريعا على داعي الانقياد ورجاء بلوغ الحكم الواقعي أو ثوابه ليكون مخصوصا به.

ثم ان المحقق الأصفهاني (٢) حاول ان يثبت الإطلاق في المقام بتقريب آخر حاصله : ان ظاهر الاخبار ترتيب نفس الثواب الّذي أبلغه الخبر الضعيف وهو ثواب على العمل لا العمل المأتي به بداعي الانقياد ورجاء الواقع فيثبت بذلك استحباب العمل مطلقا لا خصوص الحصة الانقيادية منه.

وفيه : ان أريد ان الثواب الثابت بهذه الاخبار على نفس الموضوع الواقعي فهو

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٢١ الطبعة القديمة.

(٢) بل هذه النكتة تناسب مع نفي الاستحباب النفسيّ للعمل بعنوانه الثانوي أي بعنوان بلوغ الثواب عليه واقرب إلى إرادة الحكم الطريقي أو الإرشاد إلى حكم العقل حيث يكون الثواب فيهما مترتبا على الواقع ، ودعوى ان عنوان البلوغ مجرد مشير إلى استحباب نفس العناوين البالغ عليها الثواب ليس بأولى من حمله على الحكم الطريقي وخلاف ظاهر الخطاب الواحد في انه جعل واحد وبملاك واحد لا تجميع لجعول عديدة.


مقطوع البطلان إذ لا إشكال في ان الثواب أو الاستحباب الثابت بهذه الروايات قد أخذ في موضوعه عنوان البلوغ قيدا اما بنحو الحيثية التعليلية أو التقييدية ، وان أريد ان هذه الاخبار تثبت نفس المقدار من الثواب كما وكيفا في مورد البلوغ فهذا صحيح ولكنه لا ينافي مع كون الثواب على العمل المأتي به بداعي الانقياد والوصول إلى الثواب البالغ (١).

واما القرينة الثانية للاختصاص أعني حمل المطلقات من الاخبار على ما ورد فيه التقييد بالإتيان بالعمل التماسا للثواب ، فحمل المطلق على المقيد في المثبتين كما في المقام انما يتم لو أحرز وحدة الحكم من الخارج أو ثبت استحالة تعدده للزوم اجتماع المثلين أو نحوه ـ على ما هو مشروح في محله وعلى كلام في جريانه في المستحبات فلو فرض القطع في المقام بوحدة الحكم في المطلقات والمقيدات واستبعدنا احتمال ان تكون المقيدات إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط أو الأمر بالاحتياط الشرعي مثلا والمطلقات ناظرة إلى الاستحباب النفسيّ ـ كما لا يبعد ذلك لوحدة لسانها ولأن الإرشاد إلى حسن الاحتياط لم يكن بحاجة إلى فرض بلوغ الثواب بخبر عن النبي 6 ولا إلى تحديد مقدار الثواب ـ حمل المطلق على المقيد والا فلا يمكن حمل المطلق عليه ولا تتم هذه القرينة أيضا.

الا ان أصل استفادة التقييد من الروايات التي توهم فيها القيد محل إشكال ، لأن المقصود من التماس الثواب ـ أو طلب قول النبي الّذي هو الثواب أيضا. وان كان هو الثواب الواقعي البالغ والمترتب على الأمر الواقعي الا ان ذكر ذلك ليس من أجل تقييد المتعلق وجعل المطلوب المولوي خصوص هذه الحصة بل من أجل ان ذلك شرط لترتب الثواب في كل مطلوب مولوي فلا يكون ذكره من باب أخذه قيدا في متعلق المطلوب المولوي بهذه الاخبار كما لم يكن قيدا في متعلق المطلوب المولوي الواقعي البالغ بالخبر الضعيف رغم اشتراطه في ترتب الثواب ، فلا وجه لتوهم الاختصاص والتقييد على تقدير استفادة حكم مولوي من هذه الاخبار.

__________________

(١) الظاهر ان المقصود ظهور الاخبار في الحث والترغيب على نفس ما أبلغه الخبر الضعيف أو تتميم محركيته فتكون ظاهرة في ان المكلف به نفس العمل الّذي يكلف به الخبر الضعيف وان كان في مورد البلوغ وهو ذات العمل لا العمل بقيد الإتيان به بداعي الانقياد.


الجهة الرابعة ـ في شمول اخبار من بلغ للخبر الدال على كراهة فعل ورجحان تركه ، والبحث عن ذلك يقع تارة في أصل اختصاصها بما يدل على الاستحباب أو شمولها لموارد الكراهة ، وأخرى في ان الثابت بها في موارد الكراهة مجرد رجحان الترك أو تثبت بها كراهة الفعل أيضا ، وثالثة في ما إذا دل خبر على الاستحباب وآخر على الكراهة.

فهذه مقامات ثلاثة :

اما المقام الأول ـ فقد يستشكل في شمول هذه الاخبار لموارد الكراهة لا من جهة ان النّظر فيها إلى الطلب لا الزجر والمنع ليقال بان هذا لا يأتي فيما يكون بلسان الحث والترغيب أو يقال بأنه متفرع إلى ان يكون الأمر بعثا والنهي زجرا لا طلب الترك ، بل من جهة انصراف ألسنتها بقرينة قوله ( فعمله ) إلى الفعل ونحوه لا إلى محض الترك والأمر العدمي. وهذا الاستشكال لو تم استوجب عدم شمولها لما إذا ثبت استحباب ترك فعل بخبر ضعيف أيضا فلا يختص الإشكال بالمكروهات.

والصحيح : ان العرف بحسب المناسبات المرتكزة في ذهنه يلغي خصوصية الفعل والترك ويفهم من هذه الاخبار ان تمام النكتة والموضوع لهذا الحكم هو بلوغ الخير والثواب على شيء سواء كان فعلا أو تركا وجوديا أو عدميا.

واما المقام الثاني ـ فالظاهر ان الّذي يثبت بهذه الاخبار مجرد رجحان الترك في مورد المكروهات ومطلوبيته ولا يثبت بالخبر الضعيف الكراهة ، وهذا بناء على استفادة الاستحباب النفسيّ من هذه الاخبار لعنوان البلوغ واضح ، فان استفادة الاستحباب في مورد خبر الاستحباب والكراهة في مورد خبر الكراهة خلاف ظهورها في جعل سنخ واحد من الحكم ، واما بناء على استفادة جعل الحجية منها فائضا كذلك لأنها تثبت الحجية بمقدار بلوغ الثواب لا أكثر أي تثبت رجحان الترك الجامع بين استحبابه ذاتا أو تبعا وباعتباره نقيض المكروه ولا يثبت الكراهة بعنوانها وخصوصيتها (١)

__________________

(١) الظاهر اننا لو حملنا الاخبار على بيان الحكم الطريقي الظاهري فيكون ظاهرها بحسب المناسبات المركوزة انها للتحفظ على نفس الأحكام الواقعية المشتبهة من الاستحباب تارة والكراهة أخرى ، بل ظهورها في إثبات نفس الثواب الّذي أبلغه الخبر الضعيف من حيث نوع الحكم يقتضي ثبوت نفس النوع من الثواب المبلغ بالخبر الضعيف من حيث سببه وملزومه من الاستحباب تارة والكراهة أخرى والحكم الطريقي الظاهري واحد سنخا في تمام الموارد وليس من قبيل الحكم النفسيّ ليستبعد.


واما المقام الثالث ـ فقد ذكر السيد الأستاذ انه إذا دل خبر على استحباب شيء والآخر على كراهته فبناء على اختصاص اخبار من بلغ بالمستحبات وعدم شمولها للمكروهات يثبت الاستحباب ولا مزاحم له ولا معارض لعدم حجية خبر الكراهة بحسب الفرض ، واما إذا قيل بشمول اخبار من بلغ للمكروهات أيضا فقد يقال بعدم المانع من ثبوت استحباب كل من الفعل والترك ، غاية الأمر يقع بينهما التزاحم ولا ضير بذلك في المستحبات فانه كثيرا ما يكون في كل من الفعل والترك مصلحة ورجحان.

الا ان الصحيح التفصيل بين ما إذا كان الاستحباب والكراهة معا توصليين أو كان أحدهما على الأقل تعبديا ، إذ في الحالة الأولى يقع التنافي بين استحباب الفعل والترك معا إذ يلزم منه لغوية الجعلين فان المكلف لا يمكنه الجمع بين الفعل والترك بل أحدهما ضروري في حقه دائما بخلاف الحالة الثانية التي يمكن فيها مخالفتهما معا بالإتيان بالفعل مثلا من غير قصد القربة فيكون من التزاحم (١).

وفي هذا الكلام ومواقع للنظر :

الأول ـ منع إطلاق اخبار من بلغ في نفسها للخبر الدال على الاستحباب في قبال ما يدل على الكراهة حتى بناء على اختصاصها بالمستحبات ، لأن الظاهر عرفا من التفريع فيها ان العمل يصدر من المكلف متفرعا على البلوغ فلا بد وان يكون البلوغ في المرتبة السابقة بنحو بحيث يدعو المكلف إلى العمل وهذا لا يكون الا مع بلوغ الاستحباب فقط لا بلوغ الاستحباب والكراهة معا مع فرض تساويها احتمالا ومحتملا ـ فانه حينئذ لا يكون الأمر البالغ محركا مولويا للمكلف باتجاه الفعل في قبال الترك ولا نريد بهذا الكلام اشتراط محركية الاستحباب الواقعي ليقال بكفاية قصد الأمر الثابت بنفس هذه الاخبار ، بل القصد ان الظاهر من ألسنة هذه الاخبار تتميم المحركية والحث على العمل في مورد البلوغ المشكوك وهذا اللسان لا إطلاق له لمورد

__________________

تعدد السنخ الموارد ، بل على القول بالحكم النفسيّ أيضا ربما يقال فأقوائية الظهور المذكور من الظهور في وحدة سنخ المجعول.

(١) هذا إذا كان لسان هذه الاخبار الأمر ، وليس كذلك فان لسانها ترتيب الثواب وهو لا يقتضي أكثر من المحبوبية والرجحان وهو يمكن ان يكون فيما لا ثالث لهما وفيما لا يمكن فيه الترتب على ما حققناه في بحوث التعارض والتزاحم فراجع.


لا تكون المحركية ثابتة في المرتبة السابقة وبقطع النّظر عن هذه الاخبار كما في أكثر فروض ورود خبر ضعيف يدل على استحباب عمل ورد فيه الكراهة أيضا (١).

الثاني ـ ما ذكره من التفصيل بناء على شمول اخبار من بلغ الخبر الكراهة بين ما إذا كان المستحب والمكروه توصليين أو كان أحدهما على الأقل تعبديا لا بد وان يلحظ بالقياس إلى الاستحباب الثابت باخبار من بلغ نفسها لا بالخبرين الضعيفين ، لأن المفروض عنده ان اخبار من بلغ لا تثبت حجية الخبر الضعيف واخبار من بلغ قد أخذ في موضوعها ولسانها قصد التقرب لأن النّظر فيها إلى الثواب وهو لا يترتب الا في هذا الفرض ولا أقل من انه لا إطلاق لها كي يمكن نفي تعبدية هذا الاستحباب فيثبت التزاحم بين استحباب الفعل واستحباب الترك دائما لا التعارض (٢).

الثالث ـ ما ذكر من التفصيل وافتراض وقوع التزاحم بناء على ان يكون أحد الاستحبابين تعبديا غير صحيح في المقام (٣) سواء قلنا بجريان التزاحم في المستحبات كما هو الصحيح ـ أو لم نقل.

اما على الأول ، فلان فرض جريان التزاحم فيها يعني الالتزام بالترتب بينهما من الجانبين وان كلا منهما مشروط استحبابه بعدم امتثال الآخر وهذا في المقام غير معقول لأن الطرفين هما الفعل والترك وفرض ترك كل منهما مساوق مع تحقق الآخر بالضرورة ـ لاستحالة ارتفاع النقيضين ـ ومعه يستحيل محركية الأمر وداعويته نحوه.

وان شئتم قلتم : ان فرض عدم الترك وان كان يناسب حصتين إحداهما الحصة القربية وهي المحبوبة والأخرى غير القربية وهي غير المحبوبة ولكن يستحيل ان يجعل

__________________

(١) هذا الكلام ينبغي ان يذكر بناء على عموم اخبار من بلغ لدليل الكراهة فيقال بعدم ثبوت الاستحباب بها لا للفعل ولا للترك في نفسه لا من جهة التعارض ، واما إذا فرض ان النّظر إلى خصوص بلوغ الاستحباب فغاية ما يقتضيه لسان هذه الاخبار محركية الاستحباب من ناحية وهي ثابتة حتى في مورد خبر الكراهة ولا وجه لتقييدها بغير ذلك.

(٢) لا يبعد دعوى ظهورها في ثبوت الاستحباب لنفس العمل البالغ عليه الثواب باعتبار البلوغ من دون أخذ قيد قصد القربة في متعلق الاستحباب فلإطلاق النافي للتعبدية ثابت ، وأوضح من ذلك لو استفيد منها الحكم الطريقي الظاهري على مستوى الأمر بالاحتياط.

(٣) الأولى في المنع عن تطبيق التزاحم في المقام بأنه من موارد التعارض لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام فلا يعقل ان يكون كل من. الفعل والترك مستحبا ولو كان أحدهما عباديا لأن محبوبية كل منهما تستلزم مبغوضية الآخر تبعا فيستحيل الأمر به ولو ضمنا ، اللهم الا ان يفترض ان المستحب عنوان وجودي دائما وهو متابعة الخبر البالغ لا نفس الفعل والترك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى.


الأمر مشروطا بان لا يترك بقصد تحقيق الحصة القربية إذ بعد فرض انه لم يترك يكون الفعل ضروريا ومع ضروريته في المرتبة السابقة على الأمر يستحيل ان يؤتى به على وجه قربي بل يكون مأتيا به باعتباره هذه الضرورة. نعم لو كان كل من الفعل والترك قربيين لم يرد هذا الإشكال لأن فرض عدم الترك القربي ليس مساوقا لفرض الفعل.

واما على الثاني ، فمضافا إلى عدم جريان التزاحم في المستحبات يرد عليه في خصوص المقام بان البعث والتحريك المولوي مع فرض استحباب كل من الفعل والترك غير معقول سواء فرض كلاهما توصليين أو تعبديين أو أحدهما توصليا والآخر تعبديا ، لأنه وان كان أخذ قصد القربة قيدا لأحدهما أو كليهما يوجب إمكان مخالفتهما ووجود ضد ثالث لهما الا ان الداعي القربي انما يحرك ويبعث نحو ذات الفعل أو الترك لا نحو الداعوية والمحركية وتحريكه نحو أحدهما بالخصوص فرع ان لا تكون نسبة المولى إليهما على حد سواء ، والمفروض في المقام ان نسبة المولى إلى خصوصية كل منهما على حد واحد ، وتحريكه نحو الجامع بينهما كما في الضدين الذين لهما ثالث غير معقول في المقام لضرورية الجامع بين الفعل والترك بخلاف سائر المستحبات أو الواجبات المتزاحمة ، على ان مقتضي اخبار من بلغ استحباب ما دل عليه الخبر الضعيف وهو خصوص كل منهما لا الجامع بينهما (١).

__________________

(١) هذا الإشكال ان تم فهو يؤدي إلى عدم إمكان الأمر بالضدين اللذين لا ثالث لهما مطلقا أي حتى إذا كان أحدهما أو كلاهما تعبديا ، وهذا يعني انه إذا كان للمولى غرض فيهما مشروط أحدهما أو كلاهما بقصد القربة فلا يمكنه الوصول إلى غرضه حتى بنحو الاخبار عنه لأن الداعوية مستحيلة بحسب الفرض.

والتحقيق ان يقال : ان هذا الإشكال بحسب الحقيقة ينحل إلى اعتراضين :

أحدهما ـ عدم تأتي قصد القربة وداعي الأمر حيث يقال : بان الأمر لا يعقل في المقام ان يكون داعيا لا إلى الجامع بينهما لأنه ضروري ولا إلى خصوص أحدهما لأنهما سيان بالنسبة للمولى.

وهذا الإشكال يمكن ان يجاب عليه : بان المراد بقصد القربة ليس هو الداعوية الفعلية بمعنى صدور الفعل خارجا بنية الأمر بالفعل بل تكفي الداعوية التقديرية أي ان تكون حالة المكلف بحيث لو لم يكن له مقتض وداع آخر للفعل لأقدم عليه أيضا من أجل المولى بدليل صحة العبادة في الموارد التي يكون للمكلف داع شخصي يوجب الإقدام على الفعل على كل حال ، وهذه القضية الشرطية أي الداعوية التقديرية صادقة حتى إذا كان الجامع ضروريا فان المكلف المطيع للمولى يصدق في حقه انه يأتي بالجامع أو الفرد للمولى حتى إذا لم يكن ضروريا ، نعم لو اشترط الداعوية الفعلية بحيث لولاها لما تحقق الفعل فهو غير ممكن في المقام لا بالنسبة إلى الإتيان بالجامع لكونه ضروريا ولا بالنسبة إلى الخصوصتين لأن نسبتها إلى المولى على حد واحد.

الثاني ـ لغوية الأمر حيث يقال : بأنه على تقدير ترك أحدهما يكون الآخر واجبا فلا يعقل الأمر بإيجاده.


الرابع ـ انه بناء على ثبوت الكراهة باخبار من بلغ في مورد الخبر الضعيف الدال على الكراهة سوف يكون المقام من التعارض لا محالة التزاحم لوحدة مركز الإرادة والكراهة حينئذ.

الجهة الخامسة ـ في شمول اخبار من بلغ للخبر الضعيف المعلوم الكذب وجدانا أو تعبدا. وقد ذكر مشهور المحققين انها لا تشمل موارد العلم وجدانا أو تعبدا بكذب الخبر الدال على الاستحباب كما إذا قام خبر صحيح يدل على حرمة ذلك الفعل أو عدم استحبابه ، وقد ذكر في وجه ذلك الانصراف تارة والحكومة أخرى بدعوى ان الدليل المعتبر الدال بالمطابقة أو الالتزام على نفي الاستحباب يجعلناه عالمين تعبدا بعدم الاستحباب وكذب الخبر الضعيف واخبار من بلغ قد أخذ في موضوعها احتمال صحة البلوغ ومطابقته للواقع.

والتحقيق ان يقال ـ ان اخبار من بلغ وان كان يعقل ثبوتا شمولها للخبر الضعيف المقطوع كذبه بناء على ان المجعول فيها الاستحباب النفسيّ لا حجية الخبر ، الا ان هذا خلاف الظاهر فيها إثباتا ، لأن الظاهر منها تفرع العمل على الثواب البالغ وهذا لا يكون مع القطع بالكذب ، كما انه لا يكون مع ثبوت الحرمة بل الكراهة بدليل معتبر ولو كان إطلاق آية أو رواية لأنه مع تنجز ذلك لا يتحقق الانبعاث والتفريع على الثواب في المرتبة السابقة.

واما مورد دلالة خبر صحيح على عدم الاستحباب فلا وجه لدعوى خروجه عن إطلاق اخبار من بلغ ، لأن حجية ذلك الخبر لا تعني الجزم بعدم الاستحباب لكي لا يعقل الانبعاث في المرتبة السابقة فيمكن للمكلف ان يأتي به رجاء مطابقة الخبر الضعيف للواقع رغم حجية الخبر الصحيح.

ودعوى ان الدليل المعتبر الدال على عدم الاستحباب يجعلنا عالمين تعبدا بالكذب وعدم مطابقة الخبر الضعيف للواقع.

مدفوعة : بأنه غير تام حتى بناء على مباني جعل الطريقية وقيام الأمارات مقام

__________________

وهذا الإشكال انما يتجه إذا كانا معا توصليين ، واما إذا كان أحدهما تعبديا فلا لغوية في الأمر بهما بنحو الترتب لأن فائدته صرف المكلف عن الإتيان بالحصة غير القربية.


القطع الموضوعي ، إذ لم يؤخذ في موضوع اخبار من بلغ عدم العلم أو الشك واحتمال المطابقة كما في مثل حديث الرفع ( كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام ) لكي تتم الحكومة ، وانما المأخوذ فيها إمكان العمل على الثواب البالغ والانبعاث منه ، وهذا ثابت مع احتمال مطابقة الخبر الضعيف للواقع ولو قامت حجة على عدم مطابقته للواقع. وان شئت قلت : ان إمكان الانبعاث لازم تكويني للشك والعلم التعبدي لا يرفع اللوازم التكوينية للشك.

الجهة السادسة ـ في جواز إفتاء المجتهد باستحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب للعامي الّذي لم يصل إليه ذلك الخبر. وقد فرع المحقق العراقي ( قده ) جواز ذلك على القول بان مفاد هذه الاخبار جعل الحجية للخبر الضعيف لأن الحجية وان كانت في حق من بلغه الخبر الضعيف وهو المجتهد خاصة الا ان مفاد الخبر البالغ هو استحباب العمل على كل المكلفين فيمكنه الإفتاء به (١).

والتحقيق ـ ان هناك وجوها عديدة لتخريج جواز إفتاء المجتهد بالاستحباب ، بعضها يتم حتى على القول باستفادة الاستحباب النفسيّ من اخبار من بلغ وهي كما يلي :

الأول ـ تخريج الإفتاء على أساس ان المجتهد بعد جعل الحجية للخبر الضعيف في حقه يصبح عالما تعبدا بالاستحباب فترتب على آثار العلم من الإفتاء والحجية للمقلدين.

وفيه ـ إنكار مبنى قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي خصوصا في حجية ثابتة بمثل هذه الاخبار لا بالسيرة وملاكات الكاشفية العقلائية.

الثاني ـ إفتاء المجتهد بالحكم الظاهري بالاستحباب الثابت في حقه جزما ، فان المتفاهم عرفان ان موضوع الحجية المستفادة من اخبار من بلغ واقع الخبر المبلغ للثواب لا البلوغ ، بل البلوغ بلوغ للحجة بحسب الحقيقة.

وفيه ـ ان هذا الحكم الظاهري موضوعه البلوغ وهو غير حاصل في حق غير المجتهد ، إذ ليس هذا الحكم الطريقي الظاهري بملاك الكاشفية الصرفة وقوة الاحتمال بل

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٨٦.


لخصوصية البلوغ ونوع الحكم البالغ دخل في ثبوت هذا الحكم الظاهري بحيث لا يمكن إلغاء هذه الخصوصية والتعدي لمن لم تثبت في حقه هذه الخصوصية.

الثالث ـ ان جواز الإفتاء اما ان يكون موضوعه الواقع فأخبار من بلغ تجعل الخبر الضعيف كالخبر الصحيح في الحجية وإثبات الاستحباب الواقعي فيفتي به المجتهد للمقلدين ، واما ان يكون موضوعه الأعم من العلم بالواقع وقيام الحجة الشرعية فيكون الخبر الضعيف محققا لذلك بناء على استفادة جعل الحجية له من اخبار من بلغ.

وفيه : أولا ـ ان هذا مبتن على ان يستفاد من اخبار من بلغ ترتيب تمام آثار الحجية على الخبر الضعيف لا بمقدار الاستحباب والثواب على العمل به فقط ، وقد تقدم ان سياق الترغيب في هذه الاخبار لا يساعد على استفادة أكثر من ذلك منها.

وثانيا ـ الصحيح ان جواز الإسناد إلى الشارع والإفتاء موضوعه العلم لا الواقع ـ كحرمة الكذب ، غاية الأمر قام الإجماع على قيام الحجج والأمارات مقام العلم بالواقع وهذا الإجماع والتسالم قدره المتيقن الأمارات والحجج المتعارفة لا مثل هذه الحجية بناء على استفادتها من اخبار من بلغ.

الرابع ـ ان المجتهد بحسب الحقيقة يفتي بكبرى استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب عموما ويخبر بتحقق صغرى الخبر المبلغ للثواب في الموارد الخاصة فيتحقق صغرى البلوغ للمقلد أيضا فيثبت الاستحباب في حقه إذ لا يراد بالبلوغ إبلاغ الراوي المباشر بالخصوص.

وبهذا التقرير لا يرد ما قد يقال من استحالة تحقق البلوغ بنفس إفتاء المجتهد بالاستحباب لأن ثبوت الاستحباب بنفس الإفتاء به كثبوت الحكم بالعلم بشخصه محال ، فان المجتهد لا يفتي بالاستحباب الثابت باخبار من بلغ بل يفتي بموضوع هذا الاستحباب وهو الخبر المبلغ للاستحباب الواقعي.

وهذا الوجه يتم على كلا القولين في اخبار من بلغ ، الا انه خلاف ما هو ظاهر عمل الأصحاب من الإفتاء بالاستحباب بناء على قاعدة التسامح كحكم واقعي أولي لا كحكم ثانوي متوقف على إبلاغ المجتهد لمقلديه بالثواب الواصل بالخبر الضعيف.


٤ ـ جريان البراءة في الشبهة الموضوعية :

ولا ينبغي الإشكال في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية حتى عند المنكرين لها في الشبهة الحكمية ، وانما البحث في جهتين :

إحداهما ـ في ان الجاري فيها البراءتان الشرعية والعقلية أو إحداهما فقط.

الثانية ـ في بيان ضابط الشبهات الموضوعية التي تجري فيها البراءة

اما البحث في الجهة الأولى ـ فلا ينبغي الإشكال في جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية لا طلاق بعض أدلتها كحديث الرفع ، وان كان بعضها قد يكون مختصا بالشبهة الحكمية ، بل بعض أدلة البراءة كحديث ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ) قد يدعى اختصاصه بالشبهة الموضوعية.

وقد نوقش في الاستدلال به بورودها في مورد العلم الإجمالي بقرينة قوله ( فيه حلال وحرام ) وقوله ( حتى تعرف الحرام بعينه ) فيدل على البراءة في الشبهة البدوية بالدلالة الالتزامية ، وحيث ان مدلوله المطابقي ساقط جزما لوضوح عدم جريان البراءة في موارد العلم الإجمالي والشك في المكلف به ـ على ما سوف يأتي ـ فلا يمكن التمسك بمدلوله المطابقي أيضا للتبعية بين الدلالتين.

والبحث عن اختصاص مدلوله المطابقي بالشك في المكلف به متروك إلى البحث الإثباتي القادم في مبحث العلم الإجمالي كما ان البحث عن إمكان جريان البراءة الشرعية في أطراف العلم الإجمالي تقدم ويأتي أيضا في المبحث الثبوتي لمنجزية العلم الإجمالي ، وانما نقول في المقام بأننا حتى إذا سلمنا بالقرينة المتقدمة اختصاص مفاد هذا الحديث بموارد العلم الإجمالي فغاية ما يسقط من مدلوله المطابقي صورة الشبهة المحصورة من أطراف العلم الإجمالي لا غير المحصورة ، وثبوت هذا المقدار يكفي لا ثبات البراءة في الشبهات البدوية بالملازمة ، ودعوى احتمال الفرق باعتبار ضعف احتمال التكليف في كل طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة مدفوعة.

أولا ـ بان إطلاق الحديث شامل لما إذا كان احتمال التكليف في بعض أطراف الشبهة غير المحصورة معتدا به أو مظنونا فيكون ثبوت البراءة في الشبهة البدوية أولى.

وثانيا ـ القرينة العقلية المخصصة تخصص فقط موارد الشبهة المحصورة لعلم إجمالي


منجز ، واما إذا لم يكن العلم منجزا ولو كانت الشبهة غير محصورة كما لو كان أحد أطرافها خارجا عن محل الابتلاء أو يجري فيه أصل مؤمن فلا بأس بالتمسك بإطلاق الحديث في سائر أطرافه.

وثالثا ـ ان هذه الدلالة الالتزامية ثابتة لأصل مدلول هذا الحديث وهو ثبوت الترخيص ما لم يعلم الحرام بعينه ، لأن ظاهره ان الملاك في الترخيص عدم معرفة الحرام بعينه لا الاطمئنان بعدمه في هذا الطرف بالخصوص ولهذا يكون ظاهره الترخيص في تمام أطراف الشبهة غير المحصورة واما البراءة العقلية بناء على القول بها كبرويا في حق أحكام الشارع والمولي الحقيقي كما هو المشهور فقد اختلفت كلماتهم حولها في الشبهة الموضوعية ، حيث ادعى بعضهم عدم جريانها هنا لتمامية البيان من قبل المولى كبرويا وانما الشك في صغرى الحكم وليس من وظيفة المولى بيانه.

وقد ذهب الأكثر إلى جريانها أيضا ، وأجابوا على الإشكال المذكور بأحد نحوين :

الأول ـ ان المراد بالبيان الإظهار وهو كما يتوقف على وصول الحكم كبرويا كذلك يتوقف على وصوله صغرويا.

الثاني ـ ان المراد بالبيان في القاعدة العلم لا المعنى اللغوي لكلمة البيان ، لأن ملاك هذه القاعدة ونكتتها ليس هو تقصير المولى حتى يقال بعدم التقصير في الشبهة الموضوعية لأنه ليس من شأنه بيان الموضوعات ، وانما ملاكه عدم المقتضي للتحريك الّذي هو العلم وهذا ثابت في الشبهتين على حد واحد.

ونفس هذا الاختلاف بينهم في أصل الجريان وفي صيغة الإجابة على الإشكال يشهد بعدم بداهة هذه القاعدة التي أرسلها بعضهم إرسال المسلمات.

وأيا ما كان فالوجه الأول من الوجهين جوابه واضح ، فان هذه قاعدة عقلية وليست نصا شرعيا ليبحث في حدود معنى كلمة البيان لغة أو عرفا ، وانها هل تشمل الشبهات الموضوعية أم لا.

واما الوجه الثاني فان أريد من ذلك دعوى قبح العقاب بلا مقتض مولوي للتنجيز فهذا مسلم كبرويا ومعترف ببداهتها ولكنها لا تثبت صغراها في مورد الشك في التكليف بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية بل لا بد من ملاحظة ان العقل يدرك


المولوية وحق الطاعة للمولى الحقيقي في مورد الشك والجهل بحكمه أم لا ، وبمراجعة هذا الحكم العقلي نجد انه يحكم بحق الطاعة وتمامية مقتضي التنجيز لأحكامه في ذلك من دون فرق بين الشبهتين.

واما البحث في الجهة الثانية ـ فقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) في رسالته في اللباس المشكوك كلاما محصله : ان الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعية انه إذا كان الشك فيما يستتبع التكليف كان مجرى للبراءة لأن الشك في المستتبع يوجب الشك في المستتبع فيكون الشك في أصل التكليف وان كان تمام ما يستتبع التكليف معلوما ولكن كان الشك في امر خارجي لا يستتبع التكليف بكل التكليف يستتبعه فهو مجري للاحتياط لأن الشك حينئذ في الامتثال بحسب الحقيقة.

ولتفصيل هذا الضابط في مجال التطبيق يقال : بان التكليف له ثلاثة أطراف ، المتعلق كشرب الخمر والصلاة ، والموضوع أي متعلق المتعلق كالخمر في ( لا تشرب الخمر ) والعالم في ( أكرم العالم ) والقيود المأخوذة في نفس التكليف كالبلوغ والعقل والقدرة ـ وهي شرائط عامة ـ ودخول الوقت والاستطاعة ـ وهي من الشرائط الخاصة ـ.

والشك إذا فرض في أصل التكليف بقطع النّظر عن أطرافه كانت الشبهة حكمية لا محالة وهو خروج عن موضوع البحث ، وإذا فرض الشك في أحد الأطراف المذكورة أمكن ان تكون الشبهة موضوعية حينئذ ، فإذا كان شكا في الطرف الثالث أي في تحقق شرائط التكليف العامة أو الخاصة فلا إشكال في جريان البراءة لأنه شك فيما يستتبع التكليف فيشك في أصله ، وإذا كان شكا في الطرف الثاني أي موضوع التكليف فإذا فرض الموضوع أمرا جزئيا فرغ عن وجوده خارجا وانما الشك في إضافة المتعلق إليه كما في القبلة فالشك بحسب الحقيقة ليس في الموضوع المستتبع للتكليف لأنه مفروض الوجود بحسب الفرض بل في الامتثال وتحقيق الواجب ، وإذا فرض الموضوع امرا كليا لا جزئيا فرغ عن وجوده فتارة يكون مأخوذا بنحو صرف الوجود كما في مثل ( توضأ بالماء ) وأخرى يكون مأخوذا بنحو مطلق الوجود كما في ( إكرام العالم ) ، ففي الأول إذا كان الشك في أصل وجود ذلك الموضوع خارجا ـ وهو الماء في المثال ـ كان من الشك في الموضوع المستتبع للتكليف فتجري البراءة ، وإذا كان أصل وجود الماء معلوما وانما الشك في فرد آخر منه فليس الشك في الموضوع المستتبع للتكليف


بحسب الحقيقة لأن الموضوع صرف الوجود وهو معلوم على كل حال فالشك في سعة دائرة الامتثال وإمكان تطبيق الواجب على الفرد المشكوك فيجب الاحتياط.

وفي الثاني أي الموضوع المأخوذ بنحو مطلق الوجود يكون الشك في كل فرد منه شكا في موضوع مستتبع لتكليف زائد لأن الحكم ينحل حينئذ إلى عدة قضايا شرطية شرطها تحقق فرد من ذلك الموضوع وجزاؤها فعلية الحكم كما هو مقتضي نهج القضية الحقيقية فمع الشك في كل فرد يتحقق شك في تكليف فعلي زائد مرتبط بذلك الفرد فتجري البراءة عنه.

واما إذا وقع الشك في الطرف الأول أي المتعلق ، فتارة يفرض ان المتعلق ليس له طرف ومتعلق كما في مثل حرمة الفناء أو وجوب التكلم من دون ان يتعلق بشيء فالشك فيه يعني الشك في فعل المكلف نفسه وهذا لا يعقل الا إذا كان امرا تسبيبيا لا فعلا مباشريا إذ لا معنى لأن يشك الفاعل في فعله المباشري الا بعد العمل الّذي هو مجرى قاعدة الفراغ وهو خارج عن البحث ، والشك في تحقق الفعل التسبيبي كالقتل مثلا بإطلاق رصاصة أو رصاصتين من الشك في المحصل وهو من أوضح موارد الشك في الامتثال الّذي هو مجرى الاشتغال لا فيما يستتبع التكليف.

وأخرى يفرض ان المتعلق له طرف فيعقل الشك في المتعلق بلحاظ طرفه ، كما إذا شك في ان هذه النقطة من عرفات ليكون الوقوف فيه وقوفا بعرفة أم لا ، وفي هذه الحالة إذا كانت الشبهة موضوعية لا بد من التفصيل بين الشبهة الوجوبية كما في وجوب الموقوف بعرفة والشبهة التحريمية كما في حرمة الإفاضة من عرفات ، ففي الأولى يجري الاشتغال لأن الشك في سعة الامتثال لا فيما يستتبع التكليف لأن التكليف بوجوب الوقوف بعرفات فعلي معلوم على كل حال ، وفي الثانية تجري البراءة لأن الشك في انطباق عنوان الإفاضة من عرفات في ذلك المورد يستتبع الشك في التكليف لأن هذا الانطباق على نحو مفاد كان الناقصة من قيود التكليف بالحرمة وفعليته لأن المولى انما يحرم ما يصدق عليه ان يكون إفاضة من عرفات أو انه شرب الخمر أو انه كذب فصدق هذه الشرطية من قيود التكليف بالحرمة بخلاف التكليف بالوجوب فان مطابقة الفعل الخارجي مع العنوان الّذي تعلق به الأمر يكون في عهدة المكلف لأنه تحت الأمر والطلب الوجوبيّ بحسب الفرض.


وهكذا يكون الميزان والضابط في جميع هذه الصور والتطبيقات ان يكون الشك والشبهة الموضوعية فيما يكون مستتبعا لفعلية التكليف من قيوده أو موضوعه لا في سعة دائرة الامتثال وما يستتبعه التكليف بعد الفراغ عن فعليته. هذا حاصل ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) بتوضيح وتنقيح منا.

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكننا التعليق عليه بأمور ثلاثة :

الأول ـ وهو إشكال في تطبيق ورد في هذا التفصيل ـ ان ما ذكره في متعلق الحكم من انه لا يتصور الشك فيه إذا لم يكن له متعلق غير صحيح ، فانه يعقل شك المكلف في عمله حال الفعل من غير ناحية متعلق عمله كما إذا كلف برسم دائرتين أو كتابة جملتين متساويتين فشك المكلف حين الفعل انهما متساويتان أم لا (١) الثاني ـ ان البراءة لا تختص بما إذا كان موضوع الحكم المشكوك خارجا انحلاليا بل تجري حتى فيما إذا كان التكليف واحدا له موضوع واحد وهو المجموع ولكنه كان بنحو الشمولية كما إذا علم بوجوب إكرام كل العلماء بنحو المجموعية وشك في ان زيدا عالم أم لا ، فانه تجري البراءة فيه لأنه شك في سعة دائرة التحريك المولوي رغم انه لا يستتبع الشك في تكليف استقلالي بل ضمني ، وهذا بحسب الحقيقة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي بنحو الشبهة الموضوعية.

الثالث ـ ان جريان البراءة في الشبهة الموضوعية لا يختص بما إذا كان الشك في قيود الحكم أو في تحقق موضوعه أعني متعلق المتعلق المأخوذ قيدا في التكليف بحسب الحقيقة إذ ليس من الضروري دائما ان يكون متعلق المتعلق قيدا في التكليف سواء كان إيجابا أو تحريما ، وانما قد يفرض ذلك إذا كان امرا غير اختياري كالقبلة فإذا كان تحت اختيار المكلف فلا ضرورة لأخذه قيدا فيه ومع ذلك تجري البراءة عند الشك فيه ، فإذا كان الحكم بحرمة الخمر مثلا فعليا قبل تحقق الخمر خارجا بان كان يحرم إيجاد الخمر وشربه من أول الأمر ـ وثمرته الردع مولويا عن إيجاد الخمر أيضا إذا علم انه إذا أوجده اضطر إلى شربه أو نحو ذلك ـ جرت البراءة عن الحرمة التي تكون ثابتة

__________________

(١) يمكن ان يقال : بان كلا من الفعلين بلحاظ الآخر أصبح متعلق المتعلق ولهذا حصل الشك ، فدائما يكون الشك من ناحية إضافة الفعل وعلاقته بحيثية خارجة عن ذات الفعل الّذي يصدره المكلف وان كان ذلك الأمر فعلا آخر للمكلف.


على تقدير خمرية المائع المشكوك من أول الأمر وقبل وجوده ، فليس الشك في الخمرية مستتبعا للشك في التكليف ومع ذلك تجري البراءة لكون الحكم شموليا لا بدليا أي على تقدير الخمرية تكون هناك محركية مولوية زائدة من أول الأمر وهو مجرى للبراءة.

وعلى أساس هذين الإشكالين ربما يجعل الضابط الفني الجريان البراءة أحد امرين :

الأول ـ ان يشك في قيد من قيود فعلية الحكم ومنها موضوعه بحسب مصطلح الميرزا لكونه مستتبعا للحكم.

الثاني ـ ان يكون الحكم المشكوك شموليا لا بدليا ان كان الشك في المتعلق لا في الموضوع أو سائر قيود الحكم.

ولعل هذا الميزان الثاني هو منظور صاحب الكفاية ( قده ) حينما جعل الضابط في المقام وحدة الحكم المشكوك وتعدده ، فان كان واحدا كان المرجع الاشتغال ، وان كان متعددا جرت البراءة وان كان تعبيره قاصرا ، فان الشمولية لا تستلزم التعدد بل تجتمع مع وحدة الحكم كما أشرنا.

الا ان الصحيح إمكان إرجاع الميزان الثاني إلى الأول ، وذلك بان يراد مما يستتبع الحكم ما يستتبع محركية مولوية زائدة سواء كانت على شكل تكليف استقلالي أو ضمني فيندفع الإشكال الأول وان وجود متعلق المتعلق وهو الخمر في المثال وان لم يفرض قيدا للحكم بالحرمة الا ان اتصاف المائع بكونه خمرا أو اتصاف شربه بكونه شرب الخمر بنحو مفاد كان الناقصة شرط لفعلية تلك الحرمة لأن النهي عن شرب الخمر مرجعه إلى قضية شرطية مفادها كلما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ففعلية حرمته مقيدة بان يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أولا ، وكذلك الحال في سائر موارد الشك في المتعلق فحرمة الكذب مثلا مفادها حرمة كلام يكون كذبا بنحو مفاد كان الناقصة فالشك في كونه كذبا شك في قيد من قيود التكليف الفعلي ، فيتم الميزان الّذي ذكره الميرزا ويندفع الإشكال الثاني.

وقد ظهر بذلك ان هذا لا يختص بباب النواهي والشبهات التحريمية ، بل يجري في الشبهات الوجوبية أيضا إذا كان الشك في سعة الحكم من جهة الشك في سعة متعلقه بنحو الشبهة الموضوعية خلافا لما جاء في الكلام المتقدم عن الميرزا ( قده ). وانما لا تجري


البراءة مع الشك في ان هذا المكان من عرفات بالنسبة لوجوب الوقوف بعرفات لكون التكليف فيه ليس شموليا ، أي كون هذا المكان من عرفات لا يستتبع سعة في الحكم إذا لا يجب الوقوف بكل أماكن عرفات.

وهكذا يتضح ان الميزان والضابط لجريان البراءة في الشبهة الموضوعية ان يكون الشك فيما يستتبع الحكم في مرحلة الفعلية ـ أي ما يستتبع الحكم الفعلي الّذي هو أمر وهمي تصوري لا تصديقي ـ الا ان ما يستتبعه ليس خصوص ما أخذ قيدا أو شرطا في لسان جعل التكليف ولا ما جعل موضوعا له بل ما يتوقف عليه فعلية ذلك التكليف خارجا واتصاف الفعل بكونه مصداقا لمتعلق التكليف بنحو مفاد كان الناقصة أيضا قيد عقلا لفعلية التكليف وتحققه خارجا ، فالميزان هو الشك في قيود الفعلية بهذا المعنى (١)

__________________

(١) والحاصل : ان التكليف كلما كان شموليا انطبق فيه الضابط الّذي ذكره الميرزا ( قده ) لأن فعلية ذلك الحكم في كل مورد منوط عقلا بما إذا انطبق عليه عنوان المتعلق بنحو مفاد كان الناقصة والا لم يكن الحكم شاملا له وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم بدليا فالميزانان متلازمان.

وقد يناقش في هذا البيان بأحد وجهين :

الأول ـ ان اتصاف الفعل بعنوان المتعلق بنحو مفاد كان الناقصة منتزع من تعلق الحكم بذلك المتعلق فيكون في طوله فيستحيل ان يكون شرطا في فعليته وتعلقه لاستلزامه الدور.

والجواب : ان المنوط بالاتصاف المذكور تعلق الحكم في مرحلة الفعلية أي بوجوده الفعلي الوهمي بينما شرطية الاتصاف المذكور في طول تعلق الحكم بمتعلقه في مرحلة الجعل فالموقوف غير الموقوف عليه.

الثاني ـ النقض بصدق الميزان المذكور في موارد البدلية أيضا كما إذا وجب الوضوء بالماء ولم يكن الماء قيدا في التكليف به بل في المكلف به ولم يكن لدى المكلف شيء سوى هذا المائع المشكوك فانه بناء على الميزان المذكور يكون اتصاف وضوئه به بكونه وضوء بالماء بنحو مفاد كان الناقصة شرطا عقلا في تكليفه بالوضوء إذ لو لم يكن ذلك المائع المنحصر ماء سقط عنه التكليف جزما فالاستتباع العقلي حاصل مع انه لا تجري البراءة لكون التكليف بدليا يجب فيه الاحتياط عند الشك في القدرة على امتثاله.

والجواب : ان سقوط التكليف البدني في المقام من جهة عدم القدرة لا من جهة عدم كون المائع ماء والمفروض ان الشك في الحكم من ناحية القدرة لا يكون مجرى للتأمين وقد ينقض بموارد الشبهة التحريمية إذا كانت حرمة واحدة متعلقة بصرف وجود الطبيعة فان الحرمة فعليه خارجا وغير منوطة بمصداقية الفرد المشكوك فيه مع انه تجري فيها البراءة لكون التكليف مشموليا. والجواب : ان الحكم إذا كان شموليا ولو في مرحلة التطبيق كان انبساطه على الفرد المشكوك منوطا باتصافه بالموضوعية فيكون الاتصاف قيدا في التكليف الضمني لا محالة وهكذا يتضح ان الميزانين متلازمان بالدقة.

ثم انه كان من المناسب ان يبحث ضمن هذا التنبيه استثناء موارد الشك في القدرة على الامتثال ـ والتي هي من الشبهة الموضوعية دائما ـ عن قاعدة البراءة خصوصا على المبنى المختار عند سيدنا الأستاذ ( 1 الشريف ) من ان قيد القدرة مأخوذا لبا في الخطابات بحسب مقام الإثبات ، إذ سوف يكون حال هذا القيد حال سائر القيود المأخوذة لفظا في التكاليف فلما ذا لا تجري البراءة عند الشك فيه. وسوف يأتي ضمن تفاصيل جملة من البحوث القادمة اعتراف سيدنا الأستاذ بعدم جريانها في


ثم ان المحقق الأصفهاني ( قده ) قد أورد على كلام المحقق النائيني ( قده ) في المقام بعد ان استفاد من كلامه اشتراط ان يكون الموضوع المشكوك مأخوذا في الحكم على نحو مطلق الوجود بنحو القضية الحقيقية ، بأنه لا يلزم ان تكون القضية حقيقية بل تجري البراءة حتى إذا كانت القضية خارجية كما إذا قال ( أكرم كل العسكر ) وشك في ان زيدا هل كان معهم أم لا.

والصحيح ان عنوان العسكر إذا كان مجرد عنوان مشير إلى واقع الافراد الخارجية فالشك في وجوب إكرام زيد يكون شبهة حكمية بحسب الحقيقة وليست موضوعية ،

__________________

موارد الشك في القدرة على الامتثال ، وقصارى ما يبين هناك ان العقل يحكم بلزوم التصدي للامتثال وعدم صحة الاعتذار لمجرد احتمال عدم القدرة عليه ، وهذا المقدار من البيان الغاية ما يمكن ان يدل عليه المنع عن جريان البراءة العقلية فيها لا إطلاق دليلي البراءة الشرعية. وما يمكن ان يستند إليه في المنع عن هذا الإطلاق أحد وجوه :.

الأول ـ دعوى ان ارتكازية الاشتغال في موارد الشك في القدرة حتى عند الموالي العرفية القائلين بقبح العقاب بلا بيان تمنع ان انعقاد الإطلاق في أدلة الرفع ونحوها من أدلة البراءة لموارد الشك في التكليف من ناحية الشك في القدرة لأنها كالأدلة الإمضائية من هذه الناحية.

الثاني ـ دعوى ان المقيد اللبي الإثباتي للخطابات من أول الأمر مخصوص بمورد العلم بالمعجز عن الامتثال لا أكثر ، إذ لا موجب لأكثر من ذلك بعد فرض ارتكازية لزوم التصدي عقلا وعقلائيا للامتثال في موارد احتمال العجز عن الامتثال.

لا يقال ـ هذا يجعل إطلاق الحكم في مورد الشك في القدرة ظاهريا ، وهو خلاف ظهور الخطابات الأولية في ان مدلولاتها أحكام واقعية لا ظاهرية أخذ في موضوعها الشك وعدم العلم.

فانه يقال : لا يلزم ذلك بل يكون إطلاق الحكم بمعنى الجعل والاعتبار لحالة الشك ف ـ في القدرة مع عدمها واقعا لمزيد التحفظ والاهتمام بمبادئه وروحه المحفوظة حتى في هذا الحال ، نعم هذا يستلزم عرفا ثبوت مبادئ الحكم وروحه في مورد العجز وعدم دخالة القدرة في الملاك ولا بأس بذلك وبعبارة أخرى يكون ثبوت الحكم في حال الشك خطابا وملاكا واقعيا على كل حال غاية الأمر لا تنجز له ولا استحقاق للعقوبة على تقدير انكشاف العجز ولا بأس به لأن الاعتبار يمكن ان يجعل واقعا وداعي التحريك يكفي فيه التحريك الاقتضائي وبلحاظ تحصيل الملاك الثابت على كل حال.

الثالث ـ أن يقال : بأن الخطابات الشرعية وان كانت مقيدة لبا بالقدرة فلا تشمل موارد العجز كما ان سقوط الخطاب في مورد يوجب سقوط الدلالة على الملاك فيه أيضا بحيث لا يمكن إحرازه بلحاظ المدلول الالتزامي للخطاب ولكن باعتبار ان الغالب والمعهود عرفا عدم دخالة القدرة في الملاك في موارد العجز أيضا وأن قيد القدرة مجرد رافع للتكليف خطابا فقط لا ملاكا وروحا. وبناء عليه يكون روح الحكم أعني الملاك العقلي معلوما في موارد الشك في القدرة وانما المجهول القدرة على امتثاله وتحقيقه خارجا وأدلة البراءة موضوعها الشك في الخطاب بروحه لا بصياغته فحسب فلا تشمل المقام.

وان شئت قلت : أن أدلة البراءة تؤمن عن التكليف من ناحية عدم العلم به لا من ناحية الشك في القدرة على تحصيله بعد العلم به. وهذا الوجه يتوقف صغرويا على قبول أصله الموضوعي ، كما ان نتيجته كبرويا اختصاص الاشتغال في موارد الشك في الأقدرة بما إذا لم يحتمل دخلها في الاتصاف ولا يبعد التزامهم. كما ان الوجهين السابقين لا يثبتان قصور إطلاق أدلة البراءة الشرعية أكثر من هذا المقدار فتأمل جيدا.


وان كان عنوان العسكر موضوعا للحكم ولكنه بنحو لا يشمل الافراد المقدرة بل الموجودة بالفعل فقط فهذا يعني بحسب الحقيقة ان هذه الحيثية شرط في الحكم بوجوب الإكرام غاية الأمر لم تصغ الجملة بنحو القضية الشرطية بل الحملية لتحقق الشرط في حق من كان في العسكر ، والشرطية لا تخرج عن كونها شرطية بتحقق شرطها خارجا ومراد المحقق النائيني ( قده ) بل ظاهر كلامه المتقدم ان العبرة في جريان البراءة بكون القضية شرطية فعليتها تتبع فعلية الشرط على نهج القضايا الحقيقية لأن ان شرط جريانها ان تكون القضية المجعولة حقيقية وان كانت الأحكام الشرعية خارجا كلها من القضايا الحقيقية.

ويقع الكلام بعد هذا في تطبيقات هذا الميزان ، فانه ربما يقع فيها الالتباس فنقول باختصار :

ان وقوع الطبيعة متعلقا للتكليف إيجابا أو تحريما يتصور بأحد أنحاء :

النحو الأول ـ ان يجعل ذات الطبيعة بلا أي مئونة متعلقا للحكم وهو الّذي يعبر عنه بالطبيعة الصرفة ، وهنا إذا كان الحكم إيجابا فسوف يكون بدليا لا تجري البراءة عند الشك في انطباقه خارجا وإذا كان نهيا كان شموليا تجري البراءة عنه لدى الشك في انطباقه خارجا. الا ان الشمولية في النهي لها معنيان وقع الخلط بينهما في كلمات بعض المحققين ، وقد شرحنا ذلك مفصلا في مباحث الألفاظ ونشير إليهما هنا فنقول :

المعنى الأول ـ شمولية النهي في عالم الجعل بمعنى انحلاله إلى نواهي وأحكام عديدة بعدد المصاديق لكل منها امتثال وعصيان مستقل بخلاف الأمر فانه لا يدل الا على وجوب واحد متعلق بصرف وجود الطبيعة يسقط بإتيان أول الوجود ، وهذا فرق بينهما بلحاظ عالم الجعل.

المعنى الثاني ـ شمولية النهي في عالم الامتثال بمعنى اننا لو فرضنا دلالة النهي على حرمة واحدة للطبيعة تسقط كالأمر بإتيانها فلا يحرم الفرد الثاني منها بعد ارتكاب الفرد الأول مع ذلك بينهما فرق في كيفية الامتثال فان الأمر الواحد يكفي في امتثاله الإتيان بمصداق منه بينهما النهي الواحد لا يمتثل الا بترك تمام الافراد.

ونكتة الفرق الأول بين الأمر والنهي نكتة إثباتية ناشئة من غلبة نشوء النهي عن المفسدة وكونها انحلالية بعدد الافراد العرضية والطولية والتي على أساسها نخرج عن


ما هو مقتضى القاعدة في متعلقات الأحكام من كونها صرف الطبيعة فلا بد وان يكون الحكم بدليا بلحاظها دائما خلافا للموضوعات.

ونكتة الفرق الثاني بينهما ثبوتية ناشئة من ان الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم الا بانعدام تمام افرادها. وقد شرحنا مفصلا هاتين النكتتين مع دفع الاعتراضات التي أثارها بعض المحققين في قبال كل منهما في بحث المرة والتكرار وبحوث النواهي بما لا مزيد عليه. وانما الّذي نشير إليه هنا هو ان الشك في انطباق متعلق النهي بلحاظ كل من الفرقين مجرى للبراءة فانه بعد أن كان الطبيعة عين الفرد ومنطبقا عليه أصبح الشك في الشبهة التحريمية شكا في سعة دائرة المحركية المولوية باعتبار شمولية النهي من الناحيتين معا وهذا هو سر الفرق بين الشبهتين الوجوبية والتحريمية فتأمل جيدا.

النحو الثاني ـ ان يتعلق الحكم بالطبيعة على نحو مطلق الوجود أي العام الاستغراقي ـ كما هو مقتضي القاعدة بالنسبة إلى متعلق المتعلق على ما حققناه في محله ـ وهذا معناه انحلال الحكم إيجابا أو تحريما بعدد المصاديق فيكون مجرى للبراءة فيهما معا.

النحو الثالث ـ ان يتعلق الحكم بالوجود الأول من الطبيعة ، وهنا يكون الأمر والوجوب بدليا كالقسم الأول ويكون النهي شموليا بلحاظ الافراد العرضية من الوجود الأول لأن إعدام الوجود الأول من الطبيعة لا يتحقق الا بترك جميع الافراد العرضية بخلاف إيجاده ، وعلى هذا فلو شك في المصداق الخارجي كان مجرى للبراءة في الشبهة التحريمية دون الوجوبية لأنه شك في سعة دائرة التكليف والمحركية المولوية.

النحو الرابع ـ ان يكون متعلق الحكم مجموع افراد الطبيعة بنحو العموم المجموعي فيكون هناك حكم واحد إيجابا أو تحريما لا أحكام عديدة. وفي هذا الفرض تجري البراءة في الشبهة الوجوبية ـ كما تقدم ـ بيانه ـ لأنه من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وفي الشبهة التحريمية يكون معنى النهي عن المجموع حرمة المجموع وهو يعني حرمة ارتكاب الأخير منه فلو شك في مصداقيته فهل يجوز فعل ما عداه المتيقن مصداقيته للطبيعة أم لا.

الصحيح هو الجواز لأنه أيضا من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين في المحرمات وهو على عكس الأقل والأكثر في الواجبات ، فان تعلق التكليف بالأقل


متيقن في الواجبات وانما الشك في الأكثر ، واما في المحرمات فحرمة الأكثر متيقنة والشك في حرمة الأقل ، فارتكاب العشرة حرام وتركها داخل في العهدة على كل حال ويشك في لزوم ترك التسعة أيضا فتجري البراءة.

النحو الخامس ـ ان يكون متعلق الحكم امرا مسببا حاصلا من مجموع افراد الطبيعة ـ بنحو مطلق الوجود ـ أو من فرد منها ـ بنحو صرف الوجود ـ وهنا لا تجري البراءة في الشبهة الوجوبية والتحريمية معا ، لأنه شك في المحصل الا إذا فرض ان متعلق التكليف امر اعتباري منطبق على نفس الفعل فانه حينئذ تجري البراءة أيضا فيما إذا لم يكن وجوبا متعلقا بصرف الوجود كما في الأقسام السابقة.

٥ ـ جريان البراءة في التكاليف غير الإلزامية :

وقع البحث عندهم في جريان البراءة في المستحبات. ولا إشكال في عدم جريان البراءة العقلية فيها ، لأنها فرع ثبوت العقاب في مورد الشبهة ولا عقاب في ترك المستحب.

واما البراءة الشرعية فقد ذكر السيد الأستاذ في الدراسات ناظرا في كلامه إلى حديث الرفع ان البراءة لا تجري عند الشك في أصل الاستحباب الاستقلالي ، إذ معنى جريانها فيه نفي الاستحباب ظاهرا الملازم مع نفي استحباب الاحتياط ظاهرا ، كما ان معنى جريانها في الواجبات نفي وجوب الاحتياط بالنسبة إليها ، ومن المعلوم ان استحباب الاحتياط ثابت عند الفريقين بلا كلام. نعم تجري البراءة عند الشك في الاستحباب الضمني أي عند الشك في شرطية أو جزئية امر للمركب المستحب ، فانه تجري البراءة عنه استطراقا إلى جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بالعمل المطلق وعدم لزوم التشريع منه. وان شئت قلت : تجري البراءة عن الوجوب الشرطي لذلك الجزء أو الشرط لا الوجوب التكليفي.

ويرد عليه :

اما بالنسبة إلى الاستحباب الاستقلالي ، بأنا لا نسلم ثبوت استحباب الاحتياط ، فانه لو أريد من ذلك حسن الاحتياط عقلا أو استحبابه الواقعي شرعا الثابت باخبار من بلغ ـ بناء على استفادته منها ـ فهما أجنبيان عن مدلول البراءة الشرعية وحديث


الرفع لأنها تعني نفي الاستحباب الشرعي الظاهري الطريقي بملاك ترجيح غرض الإباحة الواقعية على الاستحباب أو الإلزام الواقعيين في مقام الحفظ وأي ربط لذلك بالحسن العقلي أو الاستحباب النفسيّ.

وان أريد منه استحباب الاحتياط شرعا في الشبهات كحكم ظاهري طريقي فمن الواضح ان مدرك ثبوت مثل هذا الحكم لا بد وان يكون مثل اخبار الأمر بالاحتياط ، وهي لدى الأخباريين تدل على وجوبه وفي خصوص الشبهات الإلزامية ، ولدى الأصوليين محمول على الإرشاد إلى حكم العقل في موارده ، واختصاص المهم منها بالشك في الإلزام واضح.

وهكذا يتضح انه لا مانع من نفي الاستحباب الواقعي المشكوك ظاهرا كحكم طريقي من هذه الناحية. نعم الصحيح عدم إمكان استفادة ذلك من أدلة البراءة الشرعية الناظرة جميعا إلى نفي الكلفة والإلزام والعهدة وبسياق الامتنان فتكون خاصة بالتكاليف الإلزامية المشتبهة.

واما بالنسبة إلى الشق الثاني من كلامه ، فيرد عليه إن أريد إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بواسطة إثبات إطلاقه بالبراءة فهو من الأصل المثبت على ما سوف يأتي في بحث الأقل والأكثر ، وان أريد نفي حرمة التشريع في الإتيان بالباقي بقصد الأمر الجزمي فالحرمة التشريعية يكفي فيها مجرد الشك ولا تنفع البراءة في نفيها. ومنه يعرف الإشكال في التعبير الآخر لجريان البراءة بلحاظ الحكم الوضعي فانه لو أريد بذلك إثبات إطلاق الأمر الاستحبابي فهو من الأصل المثبت ، وان أريد إجراؤها بلحاظ الوجوب الشرطي بنفسه فمن الواضح ان الوجوب الوضعي الشرطي ليس تكليفا وانما هو انتزاع عقلي يعني ان صحة العمل ووقوعه طبقا للأمر الاستحبابي لا بد فيها من الإتيان بذلك الجزء أو الشرط وليس هذا تكليفا ولا مستتبعا من تكليف إلزاميّ بحسب الفرض.


مباحث الحجج

أصالة التخيير

ـ مورد أصالة التخيير.

ـ التخيير في الواقعة غير المتكررة.

١ ـ في التوصليات.

٢ ـ في التعبديات.

ـ التخيير في الواقعة المتكررة.



أصالة التخيير

والمقصود بحثه تحت هذا العنوان حكم موارد الدوران بين المحذورين أي الوجوب والحرمة. وهما قد يفرضان توصليين معا وقد يفرض أحدهما على الأقل تعبديا كما ان الواقعة المشتبهة تارة تكون غير متكررة ، وأخرى تكون متكررة ، فالبحث في مقامات :

المقام الأول : فيما إذا كانت الواقعة غير متكررة مع كون الطرفين توصليين ، كما إذا علم بأنه حلف مثلا على سفر معين أو على تركه.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب في المقام من حيث جريان البراءة العقلية أو الشرعية أو عدم جريانهما وجريان التخيير العقلي أو التفصيل في جريانهما على أقوال مختلفة.

والتحقيق ان يقال : لا ينبغي الإشكال في ان العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي في المقام على حد العلوم الإجمالية في سائر المقامات بيان تام على ثبوت التكليف ، فان بيانية العلم وكاشفيته ذاتية كما هو واضح ، وانما البرهان قائم على استحالة تأثير هذا العلم والبيان في تنجيز الفعل أو الترك في المقام وإدخاله في دائرة حق الطاعة والمولوية لأن هذا العلم لا يمكنه ان يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية ولا وجوب الموافقة الاحتمالية ، إذ الأول والثاني غير ممكنين بحسب الفرض ، والثالث ترجيح بلا مرجح ، فاستحالة التنجيز وثبوت حق الطاعة فيما هو خارج عن القدرة


واستحالة الترجيح بلا مرجح حكمان عقليان يشكلان بمجموعهما البرهان على عدم اقتضاء العلم الإجمالي في موارد الدوران بين المحذورين لتنجيز شيء. هذا حال العلم الإجمالي بالإلزام.

واما احتمال كل من الوجوب والحرمة فتارة يلحظ اقتضاؤه للمنجزية بما هو طرف من علم إجمالي يستمد منجزيته منه ، وأخرى يلحظ اقتضاؤه للمنجزية في نفسه. اما الأول فقد عرفت ان العلم الإجمالي في خصوص المقام لا يعقل ان يكون منجزا عقلا.

واما الثاني فان قيل بمنجزية احتمال التكليف في نفسه وإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ كما هو المختار ـ فكل واحد من الاحتمالين لو خلي ونفسه كان منجزا لمتعلقه من الفعل أو الترك ، فان الاحتمال انما ينجز متعلقه وهو معقول في المقام بالنسبة إلى كل من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسيهما وانما يقع بينهما التزاحم في مقام التأثير والاقتضاء لأن تنجيز هما معا محال وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فلا يتنجز شيء منهما وهو معنى التخيير عقلا.

وبهذا يتضح ان كلا من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة لا يكون منجزا في المقام لا بملاك الطرفية للعلم الإجمالي ولا في نفسيهما ولو لم يكونا طرفا للعلم ـ كما هو كذلك فيما إذا احتمل الإباحة أيضا فلم يعلم بجنس الإلزام ـ لوقوع التزاحم بين المقتضيين ، هذا كله على مسلك حق الطاعة.

واما على القول بالبراءة العقلية فلا إشكال في البراءة والترخيص بملاك التخيير ، وانما المهم ملاحظة جريان البراءة العقلية أي الترخيص بملاك عدم البيان.

وقد أفاد المحقق العراقي ( قده ) عدم جريانها ببيان حاصله بتوضيح منا : ان العلم الإجمالي وان لم يكن منجزا وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك الا انه ترخيص بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز عقلا من تحصيل الموافقة القطعية لا بملاك عدم البيان الّذي هو البراءة العقلية وعليه فان أريد إبطال منجزية العلم الإجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل لأنها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بان هذا بيان أو ليس ببيان لأنها لا تنقح موضوعها بل لا بد من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة عليها أي تجريدها من المنجزية والحجية ، وهذا لا يكون بقاعدة قبح


العقاب بل بقاعدة عقلية أخرى هي عدم إمكان إدانة العاجز المعبر عنها بالتخيير العقلي. وان أريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجزية العلم الإجمالي وبيانيته بالقاعدة العقلية المشار إليها فلا معنى لذلك ، لأن تلك القاعدة بنفسها تتكفل الترخيص العقلي ولا محصل للترخيص في طول الترخيص.

ويلاحظ على هذا الكلام ان المدعى إجراء البراءة ـ بعد الفراغ عن عدم منجزية العلم الإجمالي ـ عن احتمال الوجوب أو الحرمة في نفسه كما لو لم يكن علم إجمالي بالإلزام فنطبق البراءة العقلية لا ثبات التأمين من ناحيته فهذا ملاكه تام في نفسه ولو كان ملاك الاضطرار الّذي يسقط العلم الإجمالي عن البيانية تاما أيضا فما ينفي بالبراءة العقلية غير ما ينفي بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز عن الوظيفة العلمية (١).

هذا كله بالنسبة إلى البراءة العقلية.

واما البراءة الشرعية ، فقد اختلفت كلمات الأصحاب أيضا في جريانها وعدمه ، ويمكن ان تذكر للمنع عن جريانها وجوه عديدة.

الوجه الأول ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) وهو وجه ثبوتي كالذي ذكره في المنع عن البراءة العقلية من ان جريانها فرع عدم منجزية العلم الإجمالي في المرتبة السابقة ، لأن منجزيته تمنع عن البراءة ، وسقوط العلم الإجمالي في المقام عن التنجيز انما يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، وفي طول ذلك لا معنى للبراءة والترخيص.

ويرد عليه : مضافا إلى ما تقدم من ان البراءة الشرعية تجري عن احتمال التكليف في كل من الطرفين في نفسه بعد الفراغ عن سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، ان معنى جريان البراءة الشرعية نفي إيجاب الاحتياط شرعا بلحاظ الوجوب أو الحرمة

__________________

(١) هذا مبنى على المنهج المشهور في فهم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومنجزية العلم أو الاحتمال ، واما على المنهج الصحيح والمختار من ان مرد كل ذلك إلى تحديد دائرة المولوية وحق الطاعة بلحاظ حالات العلم بالتكليف والشك فيه بنحو تكون نفس الحالة العلمية ودرجة الانكشاف والوصول موضوعا لحق الطاعة فينبغي ان يقال : بأنه لا موضوع لحق الطاعة والمولوية في موارد الدوران بين المحذورين ـ سواء علم بأصل الإلزام أم لا لأن هذا الحق كسائر مدركات العقل العملي موضوعه الاختيار وعدم الاضطرار فمع الاضطرار إلى المخالفة الاحتمالية على كل حال لا موضوع للإدانة وحق الطاعة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مقتضي للتنجيز لا ان هناك مقتضيين متزاحمين كما لا موضوع للبراءة العقلية.


وجعل إيجاب الاحتياط الّذي روحه ترجيح أحد الغرضين المحتملين على الآخر في مقام الحفظ معقول في موارد الدوران بين المحذورين ، فليست البراءة الشرعية كالبراءة العقلية من هذه الناحية.

الوجه الثاني ـ ما افادته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : ان أدلة البراءة الشرعية ما كان منها بلسان أصالة الحل لا يشمل المقام ، لأن الحلية غير محتملة للعلم بالإلزام بل الأمر مردد بين الوجوب والحرمة ، وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلم لا يشمل المقام أيضا لأن الرفع هنا ظاهري يقابل الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ومن الواضح ان إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب والحرمة المشكوكين غير معقول فلا معنى للرفع والبراءة الشرعية أيضا.

وفيه :

أولا ـ ان إمكان جعل حكم ظاهري بالحلية لا يتوقف على ان تكون الحلية الواقعية محتملة لأن حقيقته كما عرفت ترجيح أحد نوعي الأغراض الواقعية المتزاحمة ، ودعوى ان الحكم الظاهري متقوم بالشك صحيحة ولكن لا يراد بها تقومه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له بل تقومه بعدم العلم بالحكم الواقعي الّذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمنا عنه أو منجزا له.

وثانيا ـ ان الرفع الظاهري في كل من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وان كان مستحيلا ولكن كلا من الرفعين لا يقابل الا وضعا واحدا وهو ممكن كما هو واضح.

الوجه الثالث ـ المنع عن شمول أدلة البراءة الشرعية للمقام بنكتة إثباتية ، لأن المنساق منها خصوصا مثل أصالة الحل انها علاج مولوي لحالات التزاحم بين الأغراض الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي لا علاج التزاحم بين غرضين إلزامين كما في المقام (١).

__________________

(١) إذا تم هذا في دليل أصالة الحل فتماميته في مثل حديث الحجب مشكل ، لأن المدلول المطابقي لذلك هو رفع كل حكم مشكوك وهو صادق على كل من الوجوب والحرمة ، واما ملاك هذا الرفع الظاهري فهو بمثابة المدلول الالتزامي أو التصديقي للخطاب التابع لمدى إطلاق المدلول المطابقي ومقدار سعته ، وعلى هذا الأساس لا موجب الرفع إليه عن هذا الإطلاق ودعوى الانصراف.


لا يقال ـ إذا كان الوجوب عند مزاحمته مع مجرد الإباحة والترخيص لا يتحفظ المولى عليه ويجعل البراءة عنه فبالأولوية لا يتحفظ عليه عند مزاحمته مع الحرمة ، وكذلك يقال في طرف احتمال الحرمة ، وهذا يعني ان أدلة البراءة بالفحوى والأولوية تدل على البراءة في المقام.

فانه يقال ـ على ضوء فهمنا لحقيقة الحكم الظاهري يكون معنى جعل البراءة ترجيح مصالح الترخيص الواقعي على كل من مصالح الوجوب والحرمة في مقام الحفظ وهذا لا يعني الا أهمية المصالح الترخيصية على الإلزامية الوجوبية والتحريمية وهو لا يستلزم اندكاك المصلحتين الإلزاميتين في مقام الحفظ فقد يرجح المولى جانب الوجوب أو جانب الحرمة في مقام الحفظ فلا أولوية.

الوجه الرابع ـ المنع عن شمول أدلة البراءة للمقام بنكتة إثباتية أيضا ، اما دليل أصالة الحل فللقطع بعدم الحلية ، واما حديث الرفع فلان المراد من الموصول في رفع ما لا يعلمون ان كان عنوان الوجوب أو الحرمة فهو شامل للمقام لأن كلا من الوجوب أو الحرمة مما لا يعلم فيكونان مرفوعين ظاهرا. وان كان المراد بالموصول واقع الحكم المشكوك لا وجوده العنواني فالحكم الثابت في المقام واحد لا متعدد فلا يكون هنا الا رفع واحد لا رفعان ، وحيث ان الرفع الظاهري في قبال الوضع الظاهري فلا يدل الحديث عليه الا في مورد يعقل فيه الوضع الظاهري ، وفي موارد الدوران بين المحذورين لا يعقل الوضع لاستحالة الموافقة والمخالفة الواقعيتين وضرورة الموافقة والمخالفة الاحتماليتين.

وهكذا يتبرهن انه على التفسير الثاني للموصول لا يشمل حديث الرفع للمقام فيدعى ان الظاهر هذا التفسير لا التفسير الأول ، إذ ليس المقصود من العلم فيما لا يعلمون مطلق القطع حتى الجهل المركب بل الظاهر منه لحاظ جهة الانكشاف الصحيح المطابق للواقع ، بل ظاهر الموصول أيضا ان هناك حكما ثابتا في الواقع ولكن لا يعلمه المكلف ، وهذا نحو تصحيح لكلام الميرزا ( قده ) المتقدم في الوجه الثاني.

لا يقال ـ على هذا لا يمكن التمسك بحديث الرفع في موارد الشك في التكليف الا حيث يحرز موضوعه وهو التكليف الثابت في الواقع بحسب الفرض ومع إحرازه يرتفع الشك فأي فائدة لجعل مثل هذا الرفع؟.


فانه يقال ـ يتمسك بحديث الرفع لإثبات الرفع الظاهري في موارد الشك على تقدير ثبوت التكليف المشكوك واقعا ومعه يعلم بجامع الرفع الواقعي ـ إذا لم يكن هناك تكليف واقعا ـ أو الظاهري ـ إذا كان هناك تكليف واقعا ـ وهو كاف للتأمين (١) وهكذا يثبت عدم جريان البراءة في موارد الدوران بين المحذورين بنكتة إثباتية.

وهل يجري استصحاب عدم التكليف المنتج نتيجة البراءة في الطرفين أم لا؟ الصحيح هو جريانه لعدم تأتي المحذور الإثباتي المتقدم فيه إذ لا ظهور لدليل الاستصحاب في انه بملاك التسهيل ، ولكن ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى عدم جريانه لكون الاستصحاب أصلا تنزيليا ولا يجري أصلان تنزيليان مع العلم الإجمالي بالخلاف لأن الأصل التنزيلي قد طعم بشيء من الأمارية.

وهذا إشكال مبنائي وسوف يأتي التعرض إلى تفنيده في البحوث القادمة ، فالصحيح إمكان إثبات نتيجة البراءة في موارد الدوران بين المحذورين بالاستصحاب.

هذا كله فيما إذا لم تفرض مزية في أحد الجانبين بالنسبة إلى الجانب الآخر ، واما إذا فرضنا أقوائية الحرمة أو الوجوب احتمالا أو محتملا. فمن ناحية الأصل الشرعي من البراءة أو الاستصحاب لا كلام زائدا على ما تقدم ، ولكن من ناحية الأصل العقلي والوظيفة العملية سوف يختلف الحال على بعض المباني.

وتوضيح ذلك : انه إذا بنينا على منجزية الاحتمال ـ كما هو المختار ـ فسوف يجب الإتيان بالأهم من الطرفين احتمالا أو محتملا إذ كما يحكم العقل بمنجزية أصل الاحتمال كذلك يحكم بمنجزية درجته الزائدة في أحد الطرفين كما يحكم بتنجز احتمال الملاك الزائد في أحد الطرفين. وان بنينا على البراءة العقلية وعدم منجزية الاحتمال في نفسه وانما المنجز هو العلم والبيان فلا بد وان يفصل بين القول بان العلم الإجمالي لا ينجز الا الجامع وحرمة المخالفة القطعية والقول بأنه ينجز الواقع المعلوم

__________________

(١) يمكن ان يقال : مضافا إلى ما تقدم من الأستاذ من ان كون الرفع ظاهريا لا واقعيا يناسب مع التفسير الأول لا هذا التفسير انه على هذا التفسير أيضا يكون الواقع مرددا بين واقعين وان كان يعلم بتحقق أحدهما فيكون هناك رفعان لا رفع واحد.

ثم ان هذه الوجوه الأربعة الأول والثالث منها يختصان بموارد الدوران بين المحذورين مع العلم بالإلزام ولا يمنعان جريان البراءة فيما إذا كان أصل الإلزام مشكوكا أيضا ، بينما الوجهان الثاني والرابع يمنعان عن جريانها حتى في ذلك فتأمل جيدا.


بالإجمال ويوجب الموافقة القطعية ، فعلى الأول لا يتنجز الا الجامع لا المزية المحتملة ، وعلى الثاني يمكن ان يدعى ان الموافقة القطعية إذا استحالت تصل النوبة إلى الموافقة الظنية أي الاحتمال الأقرب إلى الواقع ، هذا إذا كانت القوة في الاحتمال. واما إذا كانت المزية في المحتمل فيما ان نسبة العلم إلى كل من الطرفين على حد واحد والموافقة احتمالية على كل حال فلا يجب الإتيان بالطرف ذي المزية على كلا القولين في منجزية العلم الإجمالي ، ولا يقاس المقام بموارد الدوران بين التعيين والتخيير على القول بالتعيين ولا بموارد ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر باحتمال الأهمية ، لأنه في الأول يمكن الموافقة القطعية بالاخذ بطرف التعيين فيجب بخلاف المقام الّذي لا يمكن فيه ذلك فلا يبقي الا احتمال مرتبة أهم من التكليف في أحد الجانبين وهو تحت التأمين بحسب الفرض. وفي الثاني يكون التمسك بحسب الحقيقة بإطلاق دليل الأهم أو محتمل الأهمية حتى لحال الاشتغال بالواجب غير الأهم بخلاف العكس لأن وجوبه مقيد بعدم الاشتغال بالأهم أو محتمل الأهمية.

المقام الثاني ـ فيما إذا فرض عدم تكرر الواقعة مع كون أحد الطرفين على الأقل تعبديا ، كما إذا فرضنا الوجوب تعبديا مثل المرأة التي تشك في حيضها فيدور الأمر بالنسبة إلى دخولها في المسجد الحرام في الحج بين الوجوب والحرمة.

وقد أفاد المحقق الخراسانيّ في المقام بان العلم الإجمالي حينئذ يؤثر في اقتضاء حرمة المخالفة القطعية لأنها تصبح ممكنة كما إذا جاء بالفعل لا بقصد القربة وان كانت الموافقة القطعية غير ممكنة فيبقي العلم الإجمالي منجزا بهذا المقدار.

واعترض عليه المحقق العراقي ( قده ) بان هذا مناقض مع مبناه في مسألة الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه القائل بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز رأسا حتى بالنسبة للمخالفة القطعية لمنافاة الترخيص التخييري مع التكليف المعلوم بالإجمال لأن الترخيص في المقام تخييري أيضا ، وانما يتم ذلك على المبنى الآخر المختار القائل ببقاء المنجزية للعلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية حتى مع الاضطرار إلى بعض أطرافه (١)

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٩٧.


ولنا في المقام تعليقان :

الأول ـ ان القائلين بحرمة المخالفة القطعية في موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه منهم من ذهب إلى ذلك من باب التوسط في التنجيز كالمحقق النائيني ( قده ) حيث ذهب إلى ان التكليف الواقعي ثابت على حاله وانما طرأ النقص على تنجيز العلم الإجمالي وهو ليس علة تامة للموافقة القطعية بل لحرمة المخالفة القطعية فحسب ، ومنهم المحقق العراقي الّذي يرى علية العلم الإجمالي للموافقة القطعية وانما ذهب إلى حرمة المخالفة القطعية في ذلك من باب التوسط في التكليف بمعنى تقيد التكليف في كل طرف بفرض مخالفة الطرف الآخر أي تحوله من التعيينية إلى التخييرية.

فإذا سلكنا المسلك الأول صح ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في المقام ـ مع قطع النّظر عن التعليق القادم ـ واما إذا مشينا حسب المسلك الثاني ـ كما هو مختار صاحب الإشكال ـ فهذا المسلك للتنجيز لا يتم في المقام لا التوسط في التكليف بمعنى تخييريته وتقيده في كل طرف بمخالفة الطرف الآخر غير معقول هنا ، إذ لا يعقل ان يكون وجوب الفعل بقصد القربة مشروطا بمخالفة الطرف الآخر أي الحرمة لأنها مساوقة مع الفعل ، وقد تقدم انه مع فرض الفعل في المرتبة السابقة يستحيل محركية داعي القربة وهذا يعني انه لا بد من افتراض سقوط التكليف القربي لأن بقاءه مطلقا ينافي الترخيص التخييري وبقاءه مشروطا غير معقول فيكون على حد الاضطرار إلى أحد الأطراف معينا الموجب لسقوط التكليف على تقدير كونه في ذلك الطرف فتجري البراءة في الطرف الآخر لكونه شكا في أصل التكليف. وهكذا يتضح ان مثل المحقق العراقي ( قده ) القائل لمسلك التوسط في التكليف لا في التنجيز لا ينبغي ان يقول بحرمة المخالفة القطعية في المقام فضلا عن مثل صاحب الكفاية. نعم إذا كان الطرفان تعبديين أمكن ذلك لأن مخالفة الطرف الآخر يمكن ان يكون من دون الإتيان بالطرف الأول بل بصدور الترك غير القربي فيمكن الأمر بالفعل أو بالعكس فيمكن الأمر بالترك.

الثاني ـ ان المقام بحسب الدقة من قبيل الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه الّذي لا يكون العلم الإجمالي فيه منجزا وذلك لأنه في طول الاضطرار إلى المخالفة الاحتمالية بعدم إمكان الموافقة القطعية لا يبقي للمكلف قدرة على الإتيان بالعمل بقصد قربي


لأن داعوية القربة إلى الفعل تتوقف على أرجحيته من الترك بلحاظ عالم حق المولوية أو بلحاظ عالم غرض المولى بالمقدار الواصل منه إلى العبد ومن المعلوم انتفاء كلا الرجحانين إذ كل منهما يوصل إلى غرض احتمالي كما ان حق المولوية والطاعة في المقام يقتضي عدم المخالفة القطعية ونسبته إلى الطرفين على حد سواء ـ مع قطع النّظر عن وجود مزية لأحد الطرفين الّذي سوف يأتي الحديث عنه ـ وعليه فنقطع بسقوط الوجوب العبادي على تقدير ثبوته في نفسه لعدم القدرة على امتثاله فيصبح احتمال الحرمة مشكوكا بالشك البدوي وكذلك الحال لو كان كلاهما تعبديا.

وقد يحاول إثبات منجزية العلم الإجمالي في المقام لحرمة المخالفة بأحد تقريبين يرجعان إلى روح واحدة :

أحدهما ـ ان الإتيان بالفعل بداع غير إلهي مقطوع الحرمة على كل حال اما لكونه محرما بالحرمة النفسيّة إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال هو ذلك أو بالحرمة الغيرية إذا كان التكليف هو الوجوب العبادي بناء على ان الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ لأن الفعل بداع آخر ضد للفعل بداع قربي غاية الأمر تكون هذه الحرمة المعلومة تفصيلا محتملة السقوط بالعجز عن إمكان تحصيل ملاكها فيدخل تحت كبرى العلم بأصل التكليف والشك في السقوط من باب الشك في القدرة وهو مورد الاحتياط.

وفيه : مضافا إلى فساد مبنى اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده ، ان الحرمة الغيرية لا تدخل في العهدة وانما الّذي يدخل فيها الغرض النفي المطلوب مولويا وهو مردد بين غرضين محتملين أحدهما مقطوع السقوط بالعجز والآخر يشك في أصل ثبوته.

الثاني ـ ان تحريك الداعي غير القربي للفعل نقطع بكونه مبعدا للمكلف عن المولى ، لأنه ان كان غرضه في الترك فمن الواضح مبعدية الداعي إلى الفعل وان كان غرضه في الفعل القربي فالداعي غير القربي مبعد عنه ولو لم نقل بتوقف أحد الضدين على عدم ضده ومعه يستقل العقل بقبح هذا التحرك.

وفيه : العقل لا يستقل الا بقبح مخالفة المطلوب النفسيّ للمولى الواصل إلى العبد ، وفي المقام كما ذكرنا يدور الأمر بين مطلوبين نفسيين محتملين أحدهما مقطوع السقوط على تقدير ثبوته بالعجز والآخر مشكوك يجري التأمين بلحاظه.


وهكذا يظهر عدم إمكان التفصي عن هذا الإشكال أصوليا رغم ان النتيجة قد تكون غريبة ، نعم قد يحاول التفصي عن الإشكال فقيها بأنه يوجد في المقام داعيان إلهيان متصوران أحدهما احتمال الوجوب الداعي إلى الفعل والآخر احتمال الحرمة الداعي إلى الترك فإذا فرضنا ان كلا من الداعيين علة تامة في نفسه لتحريك المكلف لكنه مبتلى بالمزاحمة بمثله كان من اللازم على المكلف تحصيل داع نفساني لترجيح الفعل على الترك لكفاية هذا المقدار في قصد القربة المعتبر في العبادات لأن أصل الداعي القربي لما كان حاصلا غاية الأمر تزاحم بداع قربي آخر مثله فلا يضر بالقربية لأن جهة النقص فيها انما نشأت من المزاحمة بداع قربي لا بداع آخر دنيوي. بموارد المزاحمة مع داع آخر دنيوي يحرك نحو ضده وفرض ترجيح فعله بداع آخر دنيوي.

وان شئت قلت : ان صدور كل من الفعل والترك من المكلف بداعي ترك المخالفة القطعية كاف في القربية اللازمة لتحقق الغرض الشرعي من الفعل أو الترك إذا كان الأمر به قربيا لأن الدليل على اشتراط قصد القربة ليس لفظيا بل مثل الإجماع ونحوه وهو لا يقتضي أكثر من هذا المقدار.

هذا كله إذا فرض تساوي الطرفين ، واما مع فرض وجود مزية لأحد الطرفين احتمالا أو محتملا ـ وفرضت المزية في جانب التكليف التعبدي أو فرض إمكان التعبد بالحل الفقهي المتقدم ـ فهنا يمكن إيقاع الفعل على وجه عبادي قطعا فيكون الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه الّذي سوف يأتي انه من التوسط في التنجيز وبقاء تأثير العلم الإجمالي في تحريم المخالفة القطعية وهل يكون الترخيص تخييريا أو يتعين الترخيص باقتحام الطرف غير ذي المزية مع بقاء الطرف ذي المزية تحت منجزية العلم الإجمالي أو منجزية الاحتمال فلا تسوغ مخالفته حتى عنده موافقة الطرف الآخر؟ هذا بحث نقحناه في مباحث دليل الانسداد. وخلاصة الكلام فيه ان الترخيص في طرف غير ذي المزية على تقدير موافقة الطرف ذي المزية متيقن والزائد عليه غير معلوم فيرجع فيه إلى منجزية الاحتمال أو منجزية العلم الإجمالي ، خلافا لما تقدم في المقام السابق الّذي كان كلا الطرفين فيه توصليين حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ أهمية أحد الطرفين من حيث مزية في المحتمل لأن العلم الإجمالي هناك لم يكن منجزا لاستحالة المخالفة القطعية بينما في المقام


المفروض منجزية العلم الإجمالي وسقوط الأصول المرخصة في الأطراف غاية الأمر ثبوت الترخيص بمقدار الاضطرار فصار احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على أي طرف من الطرفين منجزا لذلك الطرف لا يمكن رفع إليه عنه الا بمقدار الاضطرار الّذي قدره المتيقن الترخيص في الطرف غير الأهم.

المقام الثالث ـ فيما إذا كانت الواقعة متكررة ، كما إذا فرضنا العلم إجمالا بوجوب أو حرمة فعل ما يوم الخميس والجمعة معا ، وهنا العلم الإجمالي الدائر بين المحذورين في كل من اليومين وان كان يستحيل مخالفته القطعية ولا يقبل التنجيز الا انه يوجد هنا علمان إجماليان آخران يمكن مخالفتهما القطعية أحدهما العلم إجمالا بوجوب الفعل في يوم الخميس أو حرمته يوم الجمعة ومخالفته القطعية تكون بالترك يوم الخميس والفعل يوم الجمعة كما ان موافقته القطعية بالفعل يوم الخميس والترك يوم الجمعة ، والثاني العلم إجمالا بحرمة الفعل يوم الخميس أو وجوبه يوم الجمعة ومخالفته أو موافقته القطعية عكس الأول. والحاصل يعلم المكلف إجمالا بأنه لو فعل في أحد اليومين وترك في الآخر خالف مخالفة قطعية. والموافقة القطعية وان كانت غير ممكنة لأن موافقة كل من العلمين تزاحم وتعاكس موافقة الآخر الا ان الموافقة الاحتمالية بتركهما في اليومين أو فعلهما كذلك ممكنة. فهل تجب بعد الفراغ عن منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات أم لا؟.

ذهب المحقق الأصفهاني إلى عدم الوجوب ، لأن المعلوم بالإجمال ليس عدا تكليفين أحدهما التكليف في يوم الخميس وقد فرغنا عن عدم منجزيته لاستحالة مخالفته القطعية وموافقته كذلك ، والآخر التكليف في يوم الجمعة وهو أيضا كذلك ، واما العلمان الإجماليان التدريجيان فهما منتزعان من العلمين الإجماليين الدائرين بين المحذورين وليسا علما بتكليف جديد وراء التكليفين اللذين رخص فيهما.

ويرد عليه : أولا ـ يمكن فرض عرضية العلم الإجمالي التدريجي في المقام ، كما إذا علمنا ابتداء بأنه اما تعلق النذر بالفعل في كل من اليومين أو بالترك في كل منهما فالترك في كل واحد من اليومين مع الفعل في اليوم الآخر طرفان للعلم الإجمالي في عرض طرفية الترك والفعل في اليوم الواحد وهذا يعني ان التكليف قد تعلق به في


عرض واحد علمان إجماليان أحدهما لا يمكن ان ينجز والآخر يكون منجز الحرمة مخالفته القطعية.

وثانيا ـ أساسا لا محصل لهذا الكلام حتى على تقدير طولية العلمين الإجماليين ، لأن منجزية العلم الطولي لا تتوقف على تعلقه بتكليف جديد بل يكفي في التنجيز إمكان المخالفة القطعية بلحاظ أحد العلوم الإجمالية وان لم تكن ممكنة بلحاظ سائرها لأن المنجزية من آثار ومقتضيات العلم كما هو واضح. وحينئذ هل يحكم بحرمة المخالفة القطعية بلحاظ أي من العلمين الإجماليين التدريجيين فلا يسوغ له الا تركهما أو فعلهما معا في اليومين أو يقال بإمكان المخالفة لأحدهما لأن فيه الموافقة القطعية للآخر خصوصا إذا كان أحدهما أهم فهل تقدم الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال على المخالفة القطعية للمهم المعلوم بالإجمال ـ حيث ان الموافقة القطعية لأحد العلمين الإجماليين التدريجيين تساوق المخالفة القطعية للعلم التدريجي الآخر ـ أم لا؟ قد يقال بالثاني بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ مبنى على القول بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية فيكون تنجيزيا واقتضائه لوجوب الموافقة فيكون معلقا على عدم المانع فتكون حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالمهم مانعة عن اقتضاء العلم الإجمالي بالأهم لوجوب الموافقة القطعية ، لأنه كلما تزاحم مقتض تنجيزي مع مقتض تعليقي ارتفع التعليقي بالتنجيزي.

وفيه : أولا ـ على تقدير تسليم المبنى فالمعلق عليه اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية انما هو وصول الترخيص الشرعي لا العقلي وعدم وصول الترخيص الشرعي حاصل في كل من الطرفين فيصبح اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة تنجيزيا كاقتضاء الآخر لحرمة المخالفة فيكون من تزاحم مقتضيين تنجيزيين.

وثانيا ـ ان المدعى أهمية أحد المعلومين الإجماليين على الآخر بحيث لا يدخل المهم تحت دائرة حق المولوية في قبال الأهم حتى إذا كان معلوما تفصيلا فضلا إذا كان معلوما إجمالا ، ومنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة لا تعني حتميته وتأثيره حتى لو فرض ان التكليف على تقدير وصوله لا يدخل تحت دائرة حق المولوية.

التقريب الثاني ـ ان الترجيح بالأهمية انما يكون في موارد التزاحم في مقام


الامتثال بين متعلقي التكليف الشرعي ، حيث يقال بتقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بالأهم دون المهم وفي المقام لا تزاحم بين متعلقي التكليفين واقعا فالحكمان باقيان على إطلاقهما وانما التزاحم في حكم العقل بلزوم تحصيل الموافقة وإطاعة التكليف المعلوم بالإجمال وليس ملاك حكم العقل الأهمية في المصالح والمفاسد بل ملاكه حق الطاعة للمولى بلحاظ كل ما يكلف به سواء كان غرضه منه شديدا أم لا فيرجع إلى حكم العقل بالإطاعة في المقام وهو يحكم بتقديم حرمة المخالفة القطعية لكون اقتضاء العلم الإجمالي لها تنجيزيا مثلا.

وفيه ـ منع عدم تأثير أهمية التكليف المعلوم بالإجمال في حكم العقل بالإطاعة ، لأن حكم العقل هذا انما يكون بملاك تحقيق ما يهم المولى من أغراضه ولهذا يعبر عنه بان المكلف لا بد وان يتحرك وكأنه آلة بيد المولى يحركها حيث يريد وعند ما يكون أحد الغرضين أهم فلا محالة يكون التحريك نحو الغرض الأهم إذا كانت أهمية بدرجة كبيرة ولو أدى إلى المخالفة القطعية للغرض الآخر ، واما في فرض عدم الأهمية بهذه الدرجة فلا بد وان يرى ان الّذي يحكم به العقل ما هو؟ تقديم الموافقة القطعية المساوق مع المخالفة القطعية للآخر على الموافقة الاحتمالية لهما أو بالعكس أو يحكم بالتخيير في مقام العمل وهذا ما نؤجل تفصيله إلى بحوث العلم الإجمالي واشتباه الواجب بالحرام.



مباحث الحجج

أصالة الاحتياط

ـ منجزية العلم الجمالي

ـ الترخيص في تمام الأطراف

ـ الترخيص في بعض الأطراف

ـ أركان العلم الإجمالي

ـ تطبيقات وتنبيهات

١ ـ الثمرة العلمية بين العقلية والاقتضاء

٢ ـ الطولية بين طرفي العلم الإجمالي

٣ ـ الشبهة غير المحصورة

٤ ـ انحلال العلم الإجمالي بالعلم الوجداني

٥ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول

٦ ـ اشتراك علمين في طرف

٧ ـ الأثر الزائد في أحد الطرفين

٨ ـ العلم الإجمالي بالحكم الظاهري

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيات

١٠ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف

١١ ـ خروج طرف عن محل الابتلاء

١٢ ـ ملاقي طرف العلم الإجمالي



« أصالة الاحتياط »

ويقصد بها موارد الشك في المكلف به عند العلم الإجمالي بأصل التكليف ، لا موارد الشك في الامتثال الّذي هو من الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

ومنهج البحث على مبنانا في منجزية الاحتمال يختلف عنه على مبنى قبح العقاب بلا بيان ، فعلى الأول لا حاجة إلى البحث عن ان العلم الإجمالي هل يقتضي التنجيز أم لا ، لأن التكليف منجز بالاحتمال على كل حال وانما البحث حينئذ فقط عن جريان الأصول في الأطراف وعدمه ، وعلى الثاني لا بد وان يبحث عن منجزية العلم الإجمالي وانه هل يقتضي تنجيز حرمة المخالفة القطعية بنحو الاقتضاء أو العلية أو لا ، ثم على تقدير اقتضائه لحرمة المخالفة فهل يقتضي أيضا وجوب الموافقة بنحو العلية أو الاقتضاء أم لا ، وعلى هذا الأساس لا بد من عقد البحث في ثلاث مقامات :

الأول ـ في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز ، وهذا انما يحتاج إليه على مبنى القوم فقط.

الثاني ـ في مانعيته ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول الترخيصية الشرعية في تمام الأطراف ، وهو معنى ان اقتضاءه لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية أو الاقتضاء بحيث يرتفع مع الترخيص الشرعي في الأطراف.

الثالث ـ في مانعيته ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول الترخيصية في بعض


الأطراف ، وهو معنى ان اقتضاءه لوجوب الموافقة بنحو العلية أو الاقتضاء.

منجزية العلم الإجمالي :

اما البحث في المقام الأول فهو يناسب مع بحوث حجية القطع وقد تقدم الحديث عنه هناك. ونقول هنا على نحو الإيجاز ان منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة أعني الإلزام بالجامع لا ينبغي الإشكال فيه لأن البيان بمقدار الجامع ثابت على أي حال ولم يستشكل فيه أحد من المحققين المتأخرين وان كان قد نسب القول بعدم اقتضائه لذلك إلى من لا نعرفه من المتقدمين ولعله كان في عصر لم يميز فيه بعد بين البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان والبراءة الشرعية والترخيص فلعل مقصوده دعوى إمكان جريان الترخيص الشرعي في أطرافه.

واما منجزيته بلحاظ وجوب الموافقة القطعية أي عدم جريان التأمين والبراءة العقلية ـ بناء على القول بها ـ بلحاظ ارتكاب بعض الأطراف بعد تحقق امتثال الجامع المعلوم فقد ذهب المشهور إلى اقتضائه لوجوب الموافقة مباشرة ، وظاهر أحد تقريري المحقق النائيني ( قده ) عدم اقتضائه للتنجيز بذاته وانما يثبت التنجيز نتيجة تساقط الأصول العقلية والشرعية في الأطراف ، وقد تربط المسألة بحقيقة العلم الإجمالي وانه هل يتعلق بالجامع أو بالواقع.

اما شرح حقيقة العلم الإجمالي فقد تقدم مفصلا في بحوث القطع وذكرناه هناك مسالك ثلاثة فيه من تعلقه بالجامع أو بالفرد المردد أو بالواقع ثم حاولنا ان نجمع بين المسالك الثلاثة بوجه فني هو تعلقه بعنوان جامع يخترعه الذهن ويرمز به إلى تمام الفرد لا الجامع الحقيقي.

واما منجزيته للموافقة القطعية فمقتضي التدقيق عدم المنجزية بناء على حرفية قاعدة قبح العقاب بلا بيان على جميع المسالك في حقيقة العلم الإجمالي الا في قسم من الشبهات الموضوعية ، فالكلام في امرين :

أحدهما ـ ان العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة كلما تعلق بالحكم ففي الشبهات الحكمية مثلا لا يقتضي ذلك.

والآخر ـ في بيان ضابط التفصيل في منجزيته لوجوب الموافقة بين موارد تعلق


العلم الإجمالي بالتكليف.

اما الأمر الأول ـ فلأن العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا لا يقتضي أكثر من وجوب الإتيان بأحدهما لا كليهما ، وذلك ببرهان ان المقدار الّذي تم عليه البيان انما هو الجامع بينهما واما خصوصية الظهر أو الجمعة فلا بيان عليها ومن الواضح ان امتثال ما تم عليه البيان وتنجز وهو الجامع يتحقق عقلا بإتيان أحدهما.

وهذا البرهان تام على جميع المسالك في شرح حقيقة العلم الإجمالي ، اما على المسلك القائل بتعلقه بالجامع الحقيقي أو الاختراعي فواضح. واما على المسلك القائل بتعلقه بالفرد المردد فلأن هذا الترديد بحسب الحقيقة ترديد في الإشارة الذهنية لا في المشار إليه لاستحالة وجود الفرد المردد ومعه لا تكون خصوصية كل من الجمعة أو الظهر قد تم عليه البيان والإشارة لوجود التردد فيها بحسب الفرض.

واما على المسلك القائل بتعلقه بالواقع ، فلأن صاحب هذا المسلك أيضا لا يريد تعلقه بالواقع الموضوعي المعلوم بالعرض ، لوضوح ان العلم التفصيليّ ليس كذلك فكيف بالإجمالي وانما يريد ان المعلوم بالذات في العلم التفصيليّ صورة صافية غير مشوشة وفي العلم الإجمالي صورة مبهمة يمكن تجزئتها عقلا بالتحليل إلى جزءين أحدهما منكشف ومضيء وهو الجامع والآخر مبهم ومظلم وهو الفرد ومن الواضح انه بناء على حرفية قاعدة قبح البيان لا يكون البيان والانكشاف تاما الا بلحاظ الجزء الأول لا الثاني فكل من الفردين بخصوصيته مما لم يتم عليه البيان.

وهكذا يثبت عدم منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان على جميع المسالك في حقيقة العلم ، وهذا من النتائج الغريبة المترتبة على هذا المبنى المشهور لدى الأصوليين والتي لا يقبلها الوجدان السليم.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح وجوه المناقشة فيما جاء في كلمات الأصحاب من التعبيرات لإثبات منجزية العلم الإجمالي بوجوب الموافقة ، نشير إلى أهمها فيما يلي :

الوجه الأول ـ ما يقتنص من كلمات المحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه من ان العلم الإجمالي وان كان بنفسه لا يقتضي تنجيز الموافقة القطعية لكنه لما كان العلم الإجمالي مقتضيا بنحو العلية لحرمة المخالفة القطعية أوجب ذلك تعارض الأصول المؤمنة الشرعية والعقلية وتساقطها في الأطراف فيبقي الاحتمال في كل من الطرفين


بلا مؤمن شرعي ولا عقلي فيتنجز التكليف المعلوم بالإجمال (١).

وفيه : أولا ـ ما سوف يأتي من اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة في بعض الشبهات.

وثانيا ـ لا معنى لافتراض التعارض والتساقط في البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ لا منافاة أصلا بين تنجز الجامع وعدم تنجز كل من الخصوصيّتين المقتضي لحكم العقل بان حق طاعة المولى في موارد العلم الإجمالي انما هو بمقدار الجامع لا أكثر فمن أول الأمر نجري البراءة فيما زاد على الجامع لا في كل من الطرفين وإيقاع المعارضة بينهما بل يستحيل ذلك إذ لا معنى لوقوع التعارض في حكم العقل فان كان ملاك حكم العقل هو عدم البيان تاما في كل من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين والا لم تجر البراءة لعدم المقتضي لا للتعارض.

وان شئت قلت : انه لا مانع ولا محذور في ان يكون ترك كل طرف من حيث انه ترك لتكليف مشكوك مؤمنا عنه وموردا للبراءة العقلية ولكن إذا جمع بين التركين كان معاقبا بلحاظ تركه للجامع المعلوم فيتنجز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع لأن هذا هو المقدار الّذي تم عليه البيان وهذا التبعيض غير صحيح في البراءة الشرعية لأنها مفاد دليل لفظي تابع لمقدار ظهوره العرفي وهو لا يساعد على ذلك على ما سوف يأتي الحديث عنه مفصلا.

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي من ان العلم الإجمالي فرقه عن العلم التفصيليّ في انه عارض على الصورة الذهنية بحدها الإجمالي المبهم لا التفصيليّ الا ان هذين الحدين الإجمالي والتفصيليّ انما هو بلحاظ ما في الذهن من الصور لا بلحاظ الخارج فانه ليس فيه الا حد واحد هو الحد الشخصي ، وعليه فبلحاظ عالم الذهن لا يمكن ان يسري العلم الإجمالي العارض على الحد الإجمالي إلى الحد التفصيليّ ، لأن الحدين متباينان وكل منهما معروض لأحد العلمين ويستحيل ان يسري أي عارض إلى غير معروضه. الا انه بلحاظ التنجيز فحيث ان التنجيز حكم عارض على الواقع لا على الصورة الذهنية كالعلم فلا يقال فيه انه يستحيل ان يسري من الحد الإجمالي إلى

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ص ٢٤٢.


الحد التفصيليّ لأن الواقع كما قلنا ليس له حدان بل حد واحد شخصي فيتنجز الواقع بهذا العلم بحده الواقعي في كل من الطرفين ، فيما يقال من انه كما لا يسري العلم الإجمالي إلى الواقع وحده التفصيليّ كذلك لا يسري التنجيز إليه خلط بين الحدود الذهنية العارض عليها العلم وبين الحد الخارجي المعروض للحكم بالتنجز (١).

وفيه : أولا ـ ان معروض التنجز أيضا هو الموجود الذهني لا الخارجي بناء على ما هو الصحيح والمختار لديه أيضا من كون المتجري معاقبا بنفس عقاب العاصي. لأن لزوم إطاعة المولى انما يكون بملاك تعظيمه وأداء حقه وهو متقوم بوصول التكليف لا بوجوده الواقعي إيجابا أو سلبا.

وثانيا ـ لو سلمنا ان معروض التنجز هو الواقع مع ذلك لا ينبغي الإشكال في ان الوصول والعلم جزء العلة في تنجزه والا كان داخلا تحت التأمين العقلي بالقاعدة ، والبيان انما تم بمقدار الجامع لا أكثر. ودعوى : ان الواقع ليس له حدان إجمالي وتفصيلي خلط بين الإجمال والتفصيل وبين الجامع والخصوصية فان الواقع وان لم يكن له حدان إجمالي وتفصيلي لأن الجمالية والتفصيلية من خصائص الصور الذهنية الا ان له حدين بمعنى آخر الحد الجامعي والحد الشخصي والّذي تم عليه البيان من حدود الواقع انما هو الحد الأول الّذي يتحقق بالإتيان بأحد الطرفين لا الثاني الّذي لا يتحقق الا بإتيان كلا الطرفين.

الوجه الثالث ـ ان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع لكن الجامع تارة ينظر إليه قبل تحصصه وانطباقه في الواجب التخييري وأخرى ينظر إليه مفروغا عن تحصصه وانطباقه على الخارج كما في المقام حيث يعلم بوجوب إحدى الخصوصيّتين أيضا زائدا على الجامع فتتنجز الخصوصية في الفرض الثاني لا محالة (٢).

وفيه : ان ما هو داخل تحت العلم عنوان الخصوصية الانتزاعي لا واقعه فيبقي العقاب على واقع تلك الخصوصية بلا بيان (٣).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٩.

(٢) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٠.

(٣) تقدم في بحوث حجية القطع ان لازم هذا عدم الفرق في درجة التجري وقبح المخالفة بين موارد الشك البدوي كموارد الدوران بين التخيير والتعيين وموارد العلم الإجمالي من حيث ان كليهما من المخالفة الاحتمالية مع وجدانية الفرق بينهما فلا بد من.


الوجه الرابع ـ ما قد يظهر من بعض كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وهو مركب من مقدمتين :

الأولى ـ ان ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتمالية للجامع لأن الجامع ان كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف والا فلا

الثانية ـ ان المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجز غير جائزة عقلا ، لأنها مساوقة لاحتمال المعصية وحيث ان الجامع منجز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.

وفيه : مانع المقدمة الأولى ، فان الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحده فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتمالية له ، لأن الجامع بحده لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين والمفروض ان العلم واقف على الجامع بحده وان التنجز تابع لمقدار العلم فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجز أصلا.

واما الأمر الثاني ـ فالتحقيق التفصيل بين مثل العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر الّذي هو الشبهة ـ حكمية ومثل العلم الإجمالي بوجوب إكرام زيد أو عمرو بنحو الشبهة الموضوعية للعلم بان أحدهما عالم يجب إكرامه لأنه في الأول لا يعلم الا بوجوب إحدى الصلاتين واما الخصوصية فلم تدخل في العهدة ، واما في الثاني لا بد من إكرام كليهما لأننا علمنا بوجوب إكرام العالم فخصوصية إكرام العالم داخلة في العهدة فيجب تحصيلها وموافقتها القطعية التي لا تكون الا بإكرامهما معا.

وقد يناقش في ذلك بعدم الفرق بين الشبهتين لأن الحكم لا يتنجز الا بوصوله كبرى وصغرى ، فكما انه في الشبهة الحكمية تكون الكبرى مرددة ويكون المقدار المعلوم منها هو الجامع فلا يتنجز الا الجامع كذلك في الشبهة الموضوعية تكون الصغرى مرددة ويكون المقدار المعلوم منها هو الجامع وان كانت الكبرى معلومة تفصيلا لأن وصول الحكم لا يكون الا بوصول كبراه وصغراه والمفروض ان الصغرى لم تصل الا بمقدار الجامع الأكثر إذ لا يعلم الا ثبوت العلم لأحدهما لا هذا بالخصوص أو ذلك

__________________

تفسير لهذا الفرق الوجداني وليس الفرق الا في العلم بعنوان انتزاعي ينطبق على الواقع بحده. وإن شئت قلت : إمكان الإشارة إلى الخارج زائدا على المقدار الجامع وهذا كاف في نظر العقل لتنجزه ولزوم الفراغ عنه يقينا وان كان كل طرف بعنوانه التفصيليّ مشكوكا وهذا بخلاف موارد الشبهات البدوية ولعل هذا هو مقصود المحقق العراقي من تعلق التنجز وترتبه على الواقع وإن كانت عبارة التقرير خلافه.


بالخصوص ، ولعله لهذا لم يفصل بينهما مثل المحقق النائيني ( قده ) القائل بان العلم الإجمالي لا يقتضي الموافقة القطعية.

الا ان هذا الكلام غير تام ، لأن عدم معلومية الصغرى بأزيد من مقدار الجامع لا يقدح بدخول الخصوصية في العهدة لأن المقدار الواصل من التكليف ينحل بحسب التحليل العقلي إلى امرين وجوب إكرام شخص وان يكون المكرم عالما فإذا أكرمنا أحدهما لم يكن ذلك موافقة قطعية للمقدار الواصل لأن الجزء الثاني الواصل أيضا لا يعلم موافقته الا بإكرام كليهما تماما كما في موارد العلم التفصيليّ بوجوب إكرام العالم والشك في الامتثال (١).

والضابط الفني للتفصيل ليس بكون الشبهة حكمية أو موضوعية وانما الضابط كون متعلق الحكم مقيدا بقيد معلوم لا يعلم حصوله في هذا الفرد أو ذاك فنضطر إلى الجمع بينهما تحصيلا للقطع بحصوله فمهما كان التكليف المعلوم بالإجمال كذلك أصبح العلم الإجمالي منجزا وهذا يكون في قسم من الشبهات الموضوعية وهو الشبهة الموضوعية التي ينشأ الشك في الحكم فيما من ناحية تردد قيود المتعلق خارجا كما في المثال واما إذا لم يكن كذلك كما إذا شك في قيود الحكم خارجا مثل الشك بقطع المسافة الشرعية فيعلم إجمالا بوجوب القصر أو التمام عليه فحاله حال الشبهة الحكمية (٢).

جريان الترخيص في تمام الأطراف :

المقام الثاني ـ في مانعية العلم الإجمالي ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف ، والبحث عن ذلك تارة في المانع ثبوتا ، وأخرى في المنافع إثباتا ،

__________________

(١) لا يقال : ليس القيد الثاني للتكليف ان يكون المكرم عالما بل إكرام هذا إذا كان عالما أو ذاك إذا كان عالما ولهذا لو أكرم عالما آخر غيرهما لم يكن امتثالا للتكليف المعلوم بالإجمال وهذا الجزء غير معلوم الا بجامعه حيث يعلم بأن أحدهما متعلق الوجوب وهو يمتثل بإتيان الجامع بحسب الفرض.

فانه يقال ـ حيث يعلم فعلية التكليف بإكرام أحدهما لكونه عالما فيعلم بتعلق التكليف بالخصوصية ولو ضمنا أعني كون المكرم عالما فتدخل في العهدة لا محالة نعم هنا خصوصية الثالثة وهي كون العالم المكرم هذا أو ذاك وهي لا تدخل في العهدة الا بمقدار الجامع الا انه يكفي دخول الخصوصية الثانية في العهدة لوجوب إكرامهما تحصيلا للفراغ اليقيني من ناحيتها وان لم تمكن الخصوصية الثالثة داخلة في العهدة.

(٢) يمكن افتراض الشك في قيد المتعلق في الشبهة الحكمية أيضا إذا كانت القضية المجعولة خارجية لا حقيقية كما إذا امر بإكرام كل من في العسكر وكان عنوان العسكر مجرد مشير إلى من فيه وعلم إجمالا بان زيدا أو عمرا كان في العسكر.


فيقع الكلام في جهتين :

الجهة الأولى ـ في المانع الثبوتي ، والتحقيق : عدم وجود مانع ثبوتا عن جريان الأصل المرخص في تمام أطراف العلم الإجمالي كما شرحنا ذلك مفصلا في بحوث القطع ، ويتبرهن ذلك بالالتفات إلى أمرين :

الأول ـ ان حكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية حكم تعليقي مشروط بعدم الترخيص الشرعي والاذن من قبل المولى في المخالفة ، لأن هذا الحكم من أجل المولى وليس عليه.

الثاني ـ ان مرتبة الحكم الظاهري في تمام أطراف العلم الإجمالي محفوظة بناء على تفسيرنا في حقيقة الحكم الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، حيث تقدم في محله انه عبارة عن إعمال المولى لقوانين التزاحم الحفظي بين أغراضه وتقديمه الأهم منها على غيره في موارد الاشتباه والتردد وهذا في موارد العلم الإجمالي محفوظ لوجود التردد والاشتباه فيه بخلاف العلم التفصيليّ ، وعليه فإذا كان الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال المشتبه بين الطرفين أهم في مقام الحفظ من الغرض الترخيصي المحتمل والمعلوم بالإجمال أيضا في أحد الطرفين جعل إيجاب الاحتياط والا جعل الترخيص والتسهيل الظاهري في تمام الأطراف تماما كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية.

وقد ذكر المحققون كل حسب مسلكه ومشربه بيانا لا ثبات المانع الثبوتي عن جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف وقد عبر عنه في كلماتهم بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وعدم إمكان الترخيص في تمام أطرافه.

وفيما يلي نلخص كلماتهم ضمن وجوه ثلاثة تبنت كل واحد منها إحدى المدارس الثلاث مدرسة المحقق الخراسانيّ ومدرسة المحقق النائيني ومدرسة المحقق العراقي ( قدس الله أسرارهم ).

الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من التضاد والتناقض بين جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف وبين الواقع المعلوم بالإجمال إذا فرض بلوغه مرتبة الحكم الفعلي ولو بنفس تعلق العلم الإجمالي به ، إذ لا يعقل الحكم والإرادة الفعلية المطلقة في أحد الطرفين مع الترخيص الفعلي في كلا الطرفين وانما يعقل ذلك


فيما إذا لم يكن التكليف الواقعي فعليا مطلقا بان تتوقف فعليته على شيء آخر كتعلق العلم التفصيليّ به.

وهذا الوجه للمانعية لا فرق فيه بين العلم الإجمالي والشك البدوي ، إذ كما يستحيل اجتماع الضدين في مورد العلم الإجمالي كذلك يستحيل في مورد الشك البدوي وكما لا يمكن العلم باجتماعهما كذلك لا يحتمل اجتماعهما فلا بد وان يكون التكليف في موارد الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي معا غير بالغ مرتبة الفعلية المطلقة وانما الفرق بينهما انه في الشك البدوي فرض عدم فعلية التكليف ولو بقرينة أدلة الأصول ، واما في موارد العلم الإجمالي حيث فرض تعلقه بالتكليف الفعلي ولو في طول تعلق العلم بمرتبة من التكليف ـ فيستحيل الترخيص في أطرافه. بل يمكن ان يستفاد من كلام هذا المحقق أنه لا فرق بين الشك البدوي والعلم الإجمالي والعلم التفصيليّ من هذه الناحية فانه في جميع ذلك ان فرض التكليف بالغا مرتبة الفعلية المطلقة فلا يمكن الترخيص في خلافه وان كانت فعليته موقوفة على امر غير حاصل ولو كان هو الوصول والعلم ـ أمكن الترخيص فيه. غاية الفرق ان العلم والوصول بنفسه من موجبات بلوغ التكليف مرحلة الفعلية.

وفيه : ان كان المراد من الفعلية المطلقة للتكليف المعلوم بالإجمال فعلية تحفظ المولى عليه بلحاظ حالة التزاحم الحفظي والاشتباه فهذه الفعلية تناقض الترخيص في الخلاف فلا يمكن جريانه في تمام الأطراف الا ان هذا المعنى للفعلية يعني إيجاب الاحتياط والإلزام بحفظ التكليف حتى في مورد الشبهة والشك الّذي هو ضد الترخيص والإباحة الظاهرية وليس الكلام فيه وانما الكلام في إمكان رفع اليد عن التكليف المعلوم واقعا في مرحلة الحفظ والمحركية بجعل الإباحة والترخيص في تمام الأطراف كرفع اليد عن التكليف المشكوك بالشك البدوي كذلك.

وان كان المراد فعلية التكليف ذاتا وبقطع النّظر عن مسألة المزاحمة أي فعليته في نفسه بلحاظ مبادئه أو جعله واعتباره أو موضوعه فالفعلية بهذا المعنى لا تنافي الترخيص الظاهري في تمام الأطراف لما تقدم من ان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ومعقولة حتى في موارد العلم الإجمالي.

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان الترخيص في تمام الأطراف


ترخيص في معصية التكليف الواصل والترخيص في المعصية قبيح لا يصدر من الحكيم ، وان شئت قلت : يقع التضاد بين الترخيص الظاهري في الطرفين وحكم العقل بقبح المعصية لا بينه وبين الحكم الواقعي كما توهمه المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وفيه : ان المعصية وان كانت قبيحة كلما تحققت بحكم العقل ، وحكم العقل لا يقبل التخصيص الا ان الكلام في تحقق موضوعها فان هذا فرع ان تكون منجزية العلم تنجيزية لا معلقة على عدم الترخيص الشرعي ، وقد تقدم في أصل البرهان ان حكمه تعليقي وليس تنجيزيا فيمكن للشارع ان يرفعه بترخيصه لأن هذا الحكم من أجل المولى وليس عليه فكلما أمكن للمولى ان يرخص مولويا ارتفع موضوع المعصية والقبح ، وقد تقدم مفصلا ان مرتبة الترخيص المولوي بملاك التزاحم الحفظي معقول في مورد العلم الإجمالي وان لم يكن معقولا في مورد العلم التفصيليّ.

وهكذا يتضح ان ترخيص المولى في تمام الأطراف لا يعني الترخيص في المعصية ، إذ ليس ذلك بمعنى رفع مولوية المولى أو الترخيص في هتك حرمته ومعصيته ليقال باستحالته لأن مولويته ذاتية وقبح هتكه ومعصيته لا يقبل التخصيص ، بل بمعنى إعمال المولى لولايته وتحركه باتجاه حفظ ما هو المهم من غرضه في مقام التزاحم الحفظي والمحركية تمام كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية ، بل المنع عن ذلك بدعوى انه ليس للمولى تقديم أغراضه الترخيصية على الغرض الإلزامي في موارد التزاحم هو بحسب الحقيقة تحديد لمولوية المولى وتحكم عليه.

فالحاصل : كما لا تضاد بين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال مع الترخيص الظاهري في تمام الأطراف لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورده كذلك لا تضاد بين الترخيص الظاهري وحكم العقل بقبح المعصية.

الوجه الثالث ـ ما جاء في كلمات المحقق العراقي ( قده ) (١) ، وهو يمكن تحليله إلى أحد بيانين :

الأول ـ انا لا نتعقل فرقا بين العلم الإجمالي والتفصيليّ في المنجزية ، لأن الإجمال انما هو في خصوصيات لا دخل لها فيما يدخل في العهدة وتشتغل به الذّمّة بحكم العقل ،

__________________

(١) نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٧.


إذ ما هو موضوع لذلك انما هو العلم بالأمر أو النهي الصادرين عن المولى ، واما خصوصية كونه متعلقا بالجملة أو الظهر لا دخل لها في المنجزية والا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا منجزا على المكلف لكونه وجوبا لصلاة الجمعة بالخصوص وهو واضح البطلان. فالحاصل المنجز هو أصل الإلزام وهو معلوم تفصيلا ولا إجمال فيه فلا قصور في منجزية العلم الإجمالي لما تعلق به من التكليف وانه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلق به كالعلم التفصيليّ.

وفيه : ان عدم الفرق بين العلمين في المنجزية بمقدار أصل الإلزام الّذي تعلق به وكون المنجز انما هو الإلزام المولوي صحيح ، الا ان حكم العقل بالمنجزية هذا معلق في نفسه على عدم ورود ترخيص من الشارع سواء في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي غاية الأمر المعلق عليه وهو عدم الترخيص الشرعي في موارد العلم التفصيليّ ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه إذ لو كان نفسيا لزم التضاد ، وان كان طريقيا وبملاك التزاحم الحفظي فهو غير معقول لعدم التزاحم وعدم الالتباس بحسب نظر العالم تفصيلا ـ وقد تقدم شرحه مفصلا في بحوث القطع ـ وهذا بخلاف العلم الإجمالي الّذي يكون الالتباس والتزاحم الحفظي بين ملاكات الأحكام الواقعية الترخيصية والإلزامية حاصلا فيه.

الثاني ـ ان الترخيص الظاهري وان كان غير مناقض مع فعلية الحكم الواقعي لتعدد رتبتهما ـ بناء على مسلكه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ حتى في موارد العلم ولكنه يناقض حكم العقل بوجوب الامتثال والموافقة إذا فرض تنجيزيا لا تعليقيا ، وكذلك يناقض اقتضاء التكليف الواقعي للتحريك وحفظ غرض المولى مع قيام طريق منجزا إليه عقلا. ونحن نستكشف تنجزية حكم العقل في المقام من ارتكازية التضاد بين الترخيص الشرعي في تمام الأطراف مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عند العقلاء ، إذ لو لا ذلك لما كان هناك تضاد بين الترخيص الظاهري والتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال لا بلحاظ أغراضه ومبادئه ولا بلحاظ الغرض المقدمي وهو التحريك بالخطاب لأنه فرع وجود طريق منجز.

وفيه : أولا ـ لو سلمنا المناقضة بين الترخيص وبين حكم العقل لكونه تنجيزيا فهذا لا يوجب سراية المناقصة إلى التكليف الواقعي لا بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي


الأصلية ولا بلحاظ الغرض المقدمي ـ حسب تصورات هذا المحقق ـ لأن الغرض المقدمي لا بد وان لا يكون أوسع من قابلية المقدمة واستعدادها لا انه يجب ان لا يكون أضيق من قابلية المقدمة ، فلعل غرض التحريك والباعثية وحفظ الأغراض الواقعية بالخطابات مخصوص عند المولى بموارد العلم التفصيليّ وغير ثابت في موارد العلم الإجمالي فلا يكون الترخيص منه في مورد العلم الإجمالي مناقضا مع التكليف الواقعي.

وثانيا ـ إن أريد من ارتكازية التضاد عند العقلاء بين الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي والتكليف الواقعي المعلوم ارتكاز العقلاء بحسب تعايشهم وأوضاعهم وأغراضهم العقلائية فذلك صحيح الا انه ناشئ من غلبة أهمية أغراضهم الإلزامية وأرجحيتها من أغراضهم الترخيصية في التزاحم الحفظي فلا يمكن إسراء ذلك إلى مولى ربما تكون أغراضه الترخيصية أهم أو مساوية مع الإلزامية كما لعله كذلك في حق الشارع الأقدس.

وان أريد ارتكاز العقلاء بلحاظ حكم العقل بالمنجزية محضا وكونه بنحو العلية لا الاقتضاء ـ أي تنجيزيا لا تعليقيا ـ فالمفروض ان هذا التضاد بين الترخيص الظاهري والحكم الواقعي انما نشأ ببركة حكم العقل بالتنجيز فكيف يعقل ان يكون حكم العقل بالتضاد أجلى وأوضح من حكمه بالتنجيز بحيث يستدل به عليه. والظاهر وقوع الخلط بين الارتكاز العقلي والعقلائي.

وثالثا ـ ما تقدم من ان حكم العقل بالتنجيز وحق الطاعة تعليقي دائما.

وهكذا يتضح انه لا مانع ثبوتي عن الترخيص الشرعي في تمام أطراف العلم الإجمالي وانه ليس علة لحرمة المخالفة القطعية بل اقتضاؤه لذلك تعليقي يمكن للشارع رفعه بالترخيص الظاهري في تمام الأطراف ، فلا بد من ملاحظة مقام الإثبات لنرى هل يمكن استفادة ذلك من أدلة الأصول الترخيصية أم لا؟.

الجهة الثانية ـ في المانع الإثباتي عن جريان الأصل في تمام أطراف العلم الإجمالي ، والمستفاد من كلمات المحققين ( قدس الله أسرارهم ) عدم المانع عن ذلك لتصريحهم بان كل طرف من الأطراف مشمول لإطلاق أدلة الأصول في نفسه ، وانما المانع عن التمسك به المحذور الثبوتي المتقدم.

والصحيح ان المانع بحسب الحقيقة إثباتي لا ثبوتي كما يظهر ذلك بمراجعة الفهم


العرفي والارتكاز العقلائي ، فانه لا يساعد على جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف ويرى فيه نحو مناقضة مع التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال رغم كونه ممكنا عقلا ، ويمكن توضيح حقيقة هذا المانع بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ ان الأغراض الإلزامية في التكاليف بحسب النّظر العقلائي لا يرفع اليد عن ما أحرز منها لمجرد غرض ترخيص آخر محتمل أو معلوم مشتبه معه ، إذ الأغراض الترخيصية في ارتكاز العقلاء لا يمكن ان تبلغ درجة تتقدم على غرض إلزاميّ معلوم ، ومن هنا يكون الترخيص في تمام الأطراف بحسب إنظارهم كأنه تفويت لذلك الغرض الإلزامي ومناقض معه ، وهذا هو نفس الارتكاز الّذي كان يشعر به بعض الاعلام بحسب إحساسه العقلائي والوجداني وقد جعله كاشفا عن حكم عقلي بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة ، وقد عرفت عدم صحة ذلك ، وانما الصحيح ان هذا الارتكاز يكون بمثابة قرينة لبية متصلة بالخطاب تمنع عن انعقاد إطلاق في أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي معا فيكون المانع إثباتيا ، نعم يمكن ان تشمل أدلة الأصول بعض الأطراف دون بعض ولكنه ترجيح بلا مرجح على ما سوف يأتي الحديث عنه في البحث القادم.

التقريب الثاني ـ دعوى القصور في شمول أدلة الترخيص لتمام أطراف العلم الإجمالي ، فان عنوان ما لا يعلم أو الشبهة وان كان شاملا لكل طرف من الأطراف في نفسه الا ان المنساق من الحكم المجعول في هذه الأدلة انما هو الترخيص الظاهري لصالح الأغراض الترخيصية في موارد التزاحم بينهما وبين الأغراض الإلزامية المشبهة التي لا يعلم بها لا الأغراض الإلزامية التي يعلم بها ، فكل طرف من حيث هو وان كان مشكوكا لا يعلم بالغرض الإلزامي فيه الا ان مجموع الأطراف يعلم بالغرض الإلزامي فيها ، والترخيص الظاهري فيها ترجيحا للغرض الترخيصي المعلوم إجمالا أو المحتمل في بعض الأطراف وان كان معقولا الا انه مرتبة أخرى من التزاحم اللفظي بين الأغراض الإلزامية المعلومة والأغراض الترخيصية ، والتعبير ( برفع ما لا يعلمون ) أو ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) المنساق منه عرفا انه بصدد الترخيص في قبال الأغراض الإلزامية غير المعلومة لا المتيقنة ، ولا ملازمة بين الترخيص في ذلك والترخيص في موارد الأغراض الإلزامية المعلومة المشتبهة مع الأغراض


الترخيصية لإمكان الاكتفاء بالترخيص الأول فقط لنكات موضوعية أو ذاتية من قبيل مطابقة الارتكازات العقلائية.

وفي مورد العلم الإجمالي لو لاحظنا كل طرف في نفسه فهو مورد للترخيص الأول ولكن لو لاحظنا مجموع الأطراف فالترخيص فيها يكون من النوع الثاني الّذي يقصر عن إثباته الدليل ، ولا يجدي ثبوت الترخيص من الناحية الأولى في إثباته.

وهذا التقريب انما يتم في مثل حديث الرفع والحجب ونحوهما ولا يتم في مثل ( كل شيء حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) الظاهر في العلم بوجود الحرام ـ أي الغرض الإلزامي ـ إجمالا ، نعم يتم فيه التقريب الأول فان ارتكاز المناقضة تمنع عن انعقاد إطلاق له لموارد العلم إجمالا بالحرمة بنحو الشبهة المحصورة فتختص بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي غير المحصورة (١).

وكذلك لا يتم هذا التقريب في الأصول الترخيصية التنزيلية أي التي يكون لقوة الاحتمال دخل في ملاكها كالاستصحابين النافيين للتكليف في مورد العلم الإجمالي به ، إذ لا موجب لدعوى اختصاص دليل الاستصحاب بموارد التزاحم من النوع الأول وقصوره عن النوع الثاني من التزاحم الحفظي لأن النّظر فيه إلى كاشفية الحالة السابقة مع قطع النّظر عن نوع الحكم الثابت به وكونه غرضا إلزاميا أو ترخيصيا وكون أصله معلوما أو لا ، وانما يتم فيه التقريب الأول.

__________________

(١) قد يقال : ان معتبرة ابن سنان هذه تكون واردة في خصوص موارد العلم الإجمالي بقرينة التعبير بقوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) فتصلح ان تكون رادعة عن ارتكاز المناقضة بين الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي بناء على كون المحذور إثباتيا لا ثبوتيا.

وفيه : أولا ـ ان المحذور الارتكازي خاص بالعلم الإجمالي في الشبهات المحصورة لا غير المحصورة ، والرواية ان لم يدع اختصاصها بحسب ظاهرها الأولي بالشبهات غير المحصورة فلا أقل من انها بإطلاقها تشمل المحصورة ، والإطلاق لا يمكن ان يردع عن مثل هذا الارتكاز بل الأمر بالعكس حيث يصبح الارتكاز المذكور مانعا عن انعقاد إطلاق فيها. وثانيا ـ بالإمكان دعوى ان كلمة ( تعرف الحرام بعينه ) لمزيد التأكيد وانه لا بد من تشخيص الحرمة ، وحينئذ غاية ما يظهر من الحديث شمول موارد العلم الإجمالي لا الاختصاص به ، والتعبير في الصدر بان فيه حلال وحرام يمكن ان يراد به الجنس ومعه يكون هذا الحديث من أدلة البراءة العامة مع فارق من حيث انه أوضح في شمول أطراف العلم الإجمالي في نفسها وبقطع النّظر عن لزوم محذور الترخيص في مخالفة الغرض الإلزامي المعلوم.

وثالثا ـ الروايات المتفرقة الواردة في وجوب الاجتناب عن الطرفين في موارد العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة كما في الأمر بإراقة الماءين وعدم جواز شرب شيء منها أو الوضوء به تختص هذا الحديث بموارد الشبهة غير المحصورة فلا يبقي ما يمكن توهم رادعيته عن هذا الارتكاز.


وهكذا يتضح ان الصحيح في المنع عن جريان الأصول في تمام الأطراف وجود محذور إثباتي فيه لا ثبوتي كما تخيله المشهور.

جريان الترخيص في بعض الأطراف :

المقام الثالث ـ في مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصل المؤمن في بعض أطرافه ، والكلام عن ذلك يقع في جهتين ثبوتية وإثباتية أيضا.

اما الجهة الثبوتية فالبحث فيها عن إمكان الترخيص في بعض الأطراف وعدمه ، ومرد البحث فيه عن علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لكون منجزيته للواقع المعلوم بالإجمال على كل حال أو ان اقتضاؤه لذلك معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي. وواضح انه على مسلكنا من إمكان جريان الأصل في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتي في جريانها في بعض الأطراف.

واما على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف فكذلك ينبغي ان نستثني من هذا البحث القائلين بان العلم الإجمالي لا يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعية وانما تجب الموافقة في طول تعارض الأصول المرخصة في الأطراف وتساقطها ، فانه من الواضح على هذا المسلك إمكان جريان الترخيص بل التأمين العقلي في بعض الأطراف لو لا المعارضة وانما يتجه البحث عن ذلك بناء على المسلك القائل بان العلم الإجمالي بذاته يقتضي وجوب الموافقة القطعية وعدم التأمين العقلي في شيء من أطرافه حيث يصح حينئذ ان يبحث عن ان اقتضاءه لذلك هل يكون على نحو العلية بحيث لا يمكن الترخيص الشرعي ولو في بعض الأطراف أو انه بنحو الاقتضاء والتعليق على عدم ورود ترخيص شرعي بالخلاف. ذهب المحقق العراقي ( قده ) إلى الأول ونسب إلى المحقق النائيني في أحد تقريريه الثاني ، فوجد اتجاهان في هذا المقام.

اما اتجاه العلية الّذي ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) فقد حاول الاستدلال عليه :بأنا لا نحتاج إلى مزيد برهان علاوة على ما تقدم في إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لإثبات العلية لأنا متفقون على ان العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به وانما الاختلاف في انه تعلق بالجامع فلا ينجز الا مخالفة الجامع أم بالواقع


فلا يجوز الترخيص في بعض الأطراف أيضا ، ولهذا كان يقبل من يرى تعلق العلم الإجمالي بالجامع عليته لحرمة المخالفة القطعية.

وبكلمة أخرى : ان المعلوم بالعلم الإجمالي ان كان هو الجامع فلا مقتضي لأصل وجوب الموافقة القطعية ، وان كان هو الواقع فلا بد من افتراض تنجزه على نحو العلية لأن هذا شأن كل معلوم مع العلم.

وهذا الاستدلال كما ترى ليس برهانا في واقعه ، إذ للخصم ان يميزبين تنجيز العلم الإجمالي للجامع فيقول بأنه على نحو العلية لأن الجامع معلوم تفصيلا وتنجيزه للواقع في كل من الطرفين فيقول بأنه على نحو الاقتضاء لكونه غير معلوم تفصيلا بل مرددا وإجمالا (١).

والصحيح : ما عرفت في منهج هذا البحث من ان تأثير العلم التفصيليّ فضلا عن الإجمالي في التنجيز ليس بنحو العلية بل معلق على عدم الترخيص الشرعي غاية الأمر لا تكون مرتبة الترخيص الشرعي محفوظة في مورد العلم التفصيليّ بخلاف العلم الإجمالي حتى بلحاظ الجامع والمخالفة القطعية.

واما اتجاه الاقتضاء الّذي نسب إلى المحقق النائيني ( قده ) فلم يذكر في الاستدلال عليه سوى عبائر تدل على تكرار دعوى ان الممتنع انما هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وليس الترخيص في بعض الأطراف ترخيصا في المخالفة القطعية ، وهذا كما ترى لا يشكل برهانا على هذا الاتجاه بل عرفت ان تشخيص ما هو المعصية للمولى فرع تحديد منجزية العلم الإجمالي وانها معلقة على عدم الترخيص أم لا ، فلا بد من تحديد هذه النقطة والتي عرفت ما هو الصحيح فيها.

ثم انه قد نقض المحقق النائيني على الاستدلال المتقدم من المحقق العراقي بان العلم الإجمالي ليس بأشد من العلم التفصيليّ والعلم التفصيليّ يعقل الترخيص في المخالفة

__________________

(١) بالإمكان إرجاع استدلال المحقق العراقي إلى وجه فني صحيح على مبانيه حاصله : ان العلية لها أحد منشأين : أحدهما ـ ان يكون حكم العقل بالتنجيز فعليا لا معلقا على عدم الترخيص الشرعي. الثاني : ان لا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة فلا يعقل الترخيص الشرعي فيه نفسه. والمنشأ الثاني قد أثبت المحقق العراقي انه على حد واحد في طرف واحد أو تمام الأطراف لانحفاظ ملاك جعل الحكم الظاهري فيهما معا ، والمنشأ الأول ملاكه حكم العقل بالمولوية وحق الطاعة وهو إن كان تعليقيا كان كذلك في تمام الموارد وان كان تنجيزيا فكذلك وحيث انه تنجيزي في مورد المخالفة القطعية باعتراف القائلين بالاقتضاء أنفسهم فلا بد وان يكون كذلك بلحاظ الموافقة القطعية أيضا ، وهناك عبائر في تقريرات هذا المحقق تشعر بان هذا هو واقع مرامه.


الاحتمالية لمعلومه كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز وهذا يعني عدم كونه علة لوجوب الموافقة القطعية فكذلك العلم الإجمالي ، نعم لا يجوز الترخيص في مخالفتها القطعية.

وأجاب المحقق العراقي عن النقض بان هذا خلط بين الأصل الجاري في مرحلة الامتثال والجاري في مرحلة التكليف ، فان قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعية لتكون منافية لافتراض علية العلم لوجوبها بل هي إحراز تعبدي للموافقة أي موافقة قطعية تعبدية وافتراض العلية يعني علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجدانا أو تعبدا وأين هذا من جريان الأصل لنفي التكليف في بعض الأطراف نعم لو قامت أمارة نافية على أحد الطرفين فحيث ان لوازمها حجة فهي تثبت ان الموافقة القطعية التعبدية في الطرف الآخر.

وفي فوائد الأصول كأنه تعرض لهذا النقض محاولا الجواب عليه ، الا ان عبائر التقرير متذبذبة مشوشة ، فتارة يذكر ان العلم الإجمالي لا ينجز أكثر من الجامع وانما تجب الموافقة القطعية بعد تعارض الأصول وهذا يطابق المسلك المستفاد من أجود التقريرات من عدم اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أصلا ، وأخرى يذكر وكأنه يقرر للاتجاه الآخر القائل بعلية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة فيقول : وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي باعتباره ينجز التكليف المعلوم فلا بد من موافقته القطعية اما وجدانا أو تعبدا وجريان الأصل النافي في أحد الطرفين يدل بالالتزام على جعل الطرف الآخر بديلا عن الواقع المعلوم بالإجمال ، وهذا الكلام كما ترى انما هو جري على مسلك العلية.

وقد أجاب عليه المحقق العراقي ( قده ) بأنه إن أريد ان الأصل النافي في أحد الطرفين يجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع المعلوم بالإجمال فمن الواضح ان هذا غير صحيح لأنه لا يدل عليه لا بالمطابقة كما هو واضح ولا بالالتزام لأن مثبتات الأصول ليست بحجة ، وان أريد ان دليل حجية الأصل أعني إطلاق حديث الرفع الّذي هو أمارة يدل بالالتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل في بعض الأطراف ولو من باب استحالة جعل الأصل في بعض الأطراف الا بعد الفراغ عن امتثال التكليف المعلوم ولو تعبدا فيستكشف من الإطلاق ذلك تعبدا ، فيه : ان


الموافقة القطعية التعبدية انما تكون بالقطع بجعل البدل ووصوله لا مجرد جعل البدل واقعا ، والقطع بجعل البدل لا يمكن ان يدل عليه إطلاق دليل الأصل بالملازمة كما هو واضح.

ولا يقال ـ ان الوصول يتحقق بنفس دليل الأصل.

فانه يقال ـ المفروض تقوم الدلالة الالتزامية في المرتبة السابقة بالوصول فمع عدم الوصول وجدانا في المرتبة السابقة يقطع بعدم صحة جعل الأصل النافي فلا مدلول التزامي من دون وصول لا ان المدلول ثابت ولا وصول لكي يوصل بدليل الأصل.

والتحقيق : اننا إذا مشينا حسب الإطار الفكري العام المتبنى من قبل العلمين في باب جعل الأحكام الظاهرية وأنواعها ، فالصحيح ما وقفه المحقق العراقي ( قده ) فان ما أجاب به عن النقض يكفي في مقابل مثل الميرزا ( قده ) الّذي كان يميز بين ألسنة جعل الحكم الظاهري ويرى ان جعل الطريقية والعلمية يكفي في رفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

واما إذا مشينا حسب المنهج الصحيح الّذي يرى ان هذه مجرد ألسنة وصياغات للحكم الظاهري واما واقعه وروحه فواحد في جميع الموارد وهو تقديم الأغراض الترخيصية على الإلزامية أو العكس عند الاختلاط والتزاحم في مقام الحفظ غير ان هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها موافقة كاملة فالحق حينئذ مع المحقق النائيني ( قده ) إذ لا معنى للقول بان أحد اللسانين ممتنع دون الآخر ولهذا لا يشك فقيه في انه لو كانت قاعدة الفراغ بلسان آخر كلسان عدم وجوب الاحتياط أو التسهيل في مقام العمل كانت حجة معمولا بها أيضا.

فالصحيح عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لأن حكم العقل بالتنجيز معلق كما قلنا مرارا على عدم ورود ترخيص شرعي مهما كان لسانه والترخيص الشرعي في بعض الأطراف ـ بل وفي كل الأطراف على ما عرفت ـ له نفس الحيثيات المصححة لجعله في سائر الموارد.

هذا كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات ـ فقد يقال بان أدلة الأصول قاصرة عن إثبات جريان


الأصل المؤمن في بعض الأطراف ، لأن جريانه في البعض ضمن جريانه في كل الأطراف باطل لأننا فرغنا عن عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية ، وجريانه في البعض المعين دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجح لأن نسبة دليل الأصل إلى كل من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردد غير معقول إذ لا معنى للمردد.

وان شئت قلت : انه بعدم العلم بعدم جريان الأصل في كل الأطراف في وقت واحد يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكل طرف وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضي التعارض التساقط في جميع الأطراف.

وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) النقض على من يدعي كون المحذور إثباتيا وبملاك التساقط لا ثبوتيا بأحد نقضين :

الأول ـ ما جاء في تقريرات بحثه من النقض بموارد العلم التفصيليّ بالتكليف والشك في الامتثال ، لأن حكم العقل بالمنجزية العلم لو كان معلقا على عدم ترخيص شرعي بحيث أمكن الترخيص في مورد المخالفة الاحتمالية لتكليف معلوم فلما ذا لا يتمسك بإطلاق دليل البراءة في موارد الشك في الامتثال الّذي يكون بحسب الحقيقة من الشك في بقاء التكليف ، وأي فرق في الشك في التكليف بين كونه شكا في حدوثه أو بقائه؟

ولا يكفي في دفع هذا النقض دعوى حكومة استصحاب عدم الإتيان أو استصحاب بقاء الحكم على البراءة في موارد الشك في الامتثال دائما ، لوضوح ان المنع عن البراءة فيها عند المحققين انما هو لعدم المقتضي لا لوجود المانع ، ولهذا لا يقبل جريانها حتى القائل بعدم حجية الاستصحاب.

والصحيح في دفع هذا النقض ان يقال : اما بناء على ما هو المختار من ان التكليف لا تسقط فعليته بالامتثال والعصيان وانما تسقط فاعليته فالامر واضح حيث لا شك في فعلية تكليف وثبوته بقاء بل يقطع بها وانما الشك في بقاء فاعليته ، واما بناء على المشهور من سقوط فعلية التكليف بالامتثال أو العصيان فلانصراف أدلة الترخيص عن موارد الشك في الامتثال واختصاصها بموارد الشك في أصل الحكم. ولعل النكتة فيه ان ثبوت الحكم في الآن الأول معلوم وهو يستدعي الفراغ اليقيني عنه ولو فرض الشك في الحكم بلحاظ الآن الثاني فتطبيق البراءة الشرعية على الحصة البقائية


للحكم لا يكون مؤمنا من ناحية اشتغال الذّمّة بلحاظ الحصة الحدوثية المعلومة ، نعم لو فرض ورود دليل خاص على البراءة والترخيص في مورد الشك في الامتثال أخذ به كما ثبت ذلك في بعض الموارد في الفقه من قبيل الشك في جهة القبلة على قول من يجوز الصلاة إلى جهة واحدة بدارا حتى مع العلم أو احتمال تعينها فيما بعد فانه بذلك يكون من الشك في الامتثال مع تنجز التكليف بالعلم التفصيليّ.

الثاني ـ ما ذكره بنفسه في مقالاته الأصولية من ان العلم بالتكليف لو لم يكن علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بل كان اقتضاؤه لذلك معلقا على عدم الترخيص من الشارع كان إطلاق دليل الترخيص وافيا بإثباته في بعض الأطراف تخييرا وجزئيا لأن المحذور انما ينشأ من إجراء الأصول في كل من الطرفين مطلقا أي سواء ارتكب المكلف الطرف الآخر أو اجتنبه فإذا ألغينا إطلاق الأصل في كل منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات ترخيصين مشروطين كل منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ، ويعني ذلك ان المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كل طرف ولا يتوقف دفعه على إلغاء الأصل رأسا وحيث ان رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز الا لضرورة والضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز الا رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل في كل طرف ، لما إذا ارتكب الطرف الآخر لأن هذا هو القدر المتيقن سقوطه على كل حال ، واما الإطلاق الأفرادي في كل طرف فلا موجب لرفع اليد عنه وهو يثبت التخيير وجواز ارتكاب أحد الطرفين بدلا.

والحاصل ـ يجري في كل طرف ترخيص ظاهري مشروط بترك الآخر وهذا من الجمع بين الترخيصين لا الترخيص في الجمع بين الطرفين بل يستحيل ان يؤدي إلى الترخيص في الجمع كما في باب الترتب ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين.

وقد شارع هذا النقض واستفحل في مقابل الاتجاه القائل بعدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة ، حتى ان صاحب تقريرات فوائد الأصول أورد في مقام التخلص عنه كلاما طويلا لا يرجع إلى محصل. وأيا ما كان يمكن ان يجاب على هذا الاعتراض بوجوه عديدة :


الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان لدليل الأصل في كل طرف إطلاقا افراديا وإطلاقا أحواليا لحالة ترك الفرد الآخر أو فعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصة ، فأي مرجح لا حدهما على الآخر؟

وفيه : ان دفع المحذور لا بد وان يكون بحدود الضرورة وبملاك التعارض لا جزافا والمعارضة بحسب الحقيقة ليست بين الإطلاقين الأفراديين في الطرفين بل بين الإطلاقيين الأحواليين بعد فرض الإطلاق الأفرادي ، ولهذا يمكن الحفاظ على الإطلاق الأفرادي في كل من الطرفين. فالمتعين للسقوط بالمعارضة انما هو الإطلاق الا حوالي لدليل الأصل في كل من الطرفين. وان شئت قلت : ان الإطلاق الأحوالي في كل من الطرفين معلوم السقوط على كل حال اما تخصيصا أو تخصصا بخلاف الإطلاق الأفرادي فلا موجب لرفع اليد عنه.

الثاني ـ ما ذكره أيضا من انه إذا أريد إجراء الأصل مقيدا في كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر ، أو بان يكون قبل الآخر ، أو بان يكون بعد الآخر ، فأي مرجح لتقييد على تقييد؟

وفيه : ان التقييد انما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر واما حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه ـ الوجود الثاني ـ.

لا يقال ـ ان إطلاق دليل الأصل للوجود الثاني ترخيص في المخالفة القطعية.

فانه يقال ـ المخالفة القطعية تنشأ من الجمع بين الترخيصين لا من الترخيص في الوجود الثاني وحده فانه مخالفة احتمالية وليس معنى الترخيص فيه الترخيص في ان يأتي بالوجود الأول. فالحاصل : ليس الحرام الّذي لا يمكن الترخيص فيه حصول عنوان المخالفة القطعية حتى لا يمكن الترخيص في الجزء الأخير من علته وهو الوجود الثاني من كل طرف وانما الّذي لا يمكن الترخيص فيه واقع المخالفة القطعية وهو غير صادق على الوجود الثاني.

الثالث ـ ما أفاده أيضا نقلا عن شيخه النائيني ( قده ) من ان التقابل بين الإطلاق


والتقييد تقابل العدم والملكة فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر ، وما نحن فيه يمتنع فيه إطلاق الترخيص في كل طرف فيمتنع التقييد أيضا.

وفيه : مضافا إلى بطلان المبنى :

أولا ـ ان الممتنع في المقام اجتماع الإطلاقين لا ذاتهما كي يلزم بناء على كون التقابل بنحو العدم والملكة امتناع التقييد.

وثانيا ـ ان القابلية والإمكان التي لا بد وان تؤخذ في موارد هذا اللون من التقابل انما قابلية المورد للملكة لا لعدمها فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ـ كما ذكر المحقق النائيني ( قده ) ذلك في بحث التعبدي والتوصلي ـ لا العكس كما في المقام.

الرابع ـ ما ذكره السيد الأستاذ أيضا من ان الجمع بين الترخيصين المشروطين وان كان لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ولكنه يؤدي إلى الترخيص القطعي في المخالفة ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا وهو محال أو قبيح فان القبيح ليس خصوص الترخيص في المخالفة القطعية بل الترخيص القطعي في المخالفة قبيح أيضا ، ولهذا لا يجري الأصول المؤمن في طرفي العلم الإجمالي وان كان المكلف عاجزا عن الجمع بينهما كما إذا علم بحرمة المكث في زمن واحد في أحد مكانين ولا يمكن للإنسان ان يكون في آن واحد في مكانين فانه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في ذلك ووجوب الموافقة القطعية مع انه لا يلزم من جريان الأصل فيهما معا ترخيص في المخالفة القطعية ، فالمحذور انما هو الترخيص القطعي في المخالفة وهو حاصل في المقام.

وفيه : أولا ـ ان الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا ولا قبيحا ذاتا وانما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ومصادما مع مقتض من مقتضياته في مرتبة الجعل أو مبدئه أو اثره ، ونحن لا نجد مصادمة بين الحكم الظاهري في المقام مع شيء من مقتضيات الحكم الواقعي.

اما مصادمته مع الجعل ، فقد ذكر السيد الأستاذ نفسه في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ان الجعلين سهل المؤمنة لا تضاد بينهما.

واما مصادمته معه في المبادي ، فقد ذكر أيضا ان مبدأ الحكم الواقعي في متعلقه ومبدأ الظاهري في نفسه لا في متعلقه فلا تضاد.

واما مصادمته معه في أثر الجعل العقلي ، فان أريد منه حرمة المخالفة القطعية


فالمفروض عدم استلزام الترخيص القطعي في الطرفين للترخيص في المخالفة القطعية ، وان أريد وجوب الموافقة القطعية فالمفروض انه معلق على عدم الترخيص الشرعي.

فلا يبقى الا دعوى ان الترخيص القطعي في المخالفة قبيح في نفسه وان لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية فكان علم المكلف بوقوع هذا الترخيص من الشارع يجعله قبيحا بخلاف ما إذا لم يعلم به كما في موارد الشبهات البدوية وهذه دعوى عهدتها على مدعيها.

وثانيا ـ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا تصبح كلها فعلية في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك بان نفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثة ويفترض ان الترخيص في كل طرف مقيد بترك أحد بديليه وفعل الآخر ـ ولو في عمود الزمان ومتأخرا ـ فإذا علم بأنه سوف يترك الثاني ويفعل الثالث يجوز له ارتكاب الأول فلا يلزم الترخيص الفعلي القطعي في المخالفة الواقعية (١) ، نعم يلزم الترخيص القطعي في المخالفة مشروطا بشرط غير معلوم الحصول لدي المكلف الا ان هذا لا ضير فيه والا لزم عدم جريان الترخيص في الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه فان الترخيص في الوجود الأول من كل طرف الّذي يقبل السيد الأستاذ جريانه يعني الترخيص في كل منهما مشروطا بكونه الوجود الأول فيكون من الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية مشروطا بشرط غير محرز تحققه.

الخامس ـ ان الحكم الظاهري يحب ان يكون محتمل المطابقة مع الواقع ، والترخيص المشروط ليس كذلك إذ لا يحتمل الإباحة المشروطة واقعا في شيء من الطرفين بل ما هو ثابت في الواقع اما الحرمة المطلقة أو الترخيص المطلق.

وفيه : انه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري وانما يشترط فيه امران أحدهما ان يكون الحكم الواقعي مشكوكا والآخر ان يكون الحكم الظاهري صالحا

__________________

(١) بل يمكن مثل هذا التقييد فيما إذا كان للعلم الإجمالي طرفان أيضا بان يكون الترخيص المشروط في كل طرف مشروطا أيضا بإرادة ارتكاب أحد الطرفين ـ أي الجامع على الأقل ـ ولعل الأولى ان يقال : بان الترخيصين المشروطين حيث يستحيل ذاتا اقتضاؤهما للمخالفة القطعية لأنه بمجرد ارتكاب أحدهما يرتفع شرط الآخر فلا يكون روحا ولبا الا بمعنى الترخيص في ارتكاب أحدهما لا كليهما ومثل هذا ليس الا ترخيصا في المخالفة الاحتمالية فلا يقاس بمورد عدم إمكان ارتكاب الطرفين الّذي يلزم من الترخيص الفعلي فيهما الترخيص في مخالفة الواقع المعلوم بالإجمال في نفسه ولو فرض صدفة عجز المكلف عن ارتكاب الحرام الواقعي للاشتباه والتردد.


لتنجيزه أو التعذير عنه ولو بمرتبة من المراتب (١)

السادس ـ ان الترخيص في كل طرف يتصور على أحد وجوه ثلاثة كلها غير معقولة :

١ ـ الترخيص المطلق.

٢ ـ الترخيص مع تقييد الموضوع المرخص فيه بترك الآخر أي الترخيص في الحصة المقترنة مع ترك الآخر.

٣ ـ الترخيص مع تقييد الحكم بحالة ترك الآخر.

والأول يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية ، والثاني معناه ان محتمل الحرمة هو الشرب المقيد بترك الآخر مثلا مع ان هذا المقيد بما هو مقيد لا يحتمل حرمته وانما المحتمل حرمة شرب هذا المائع أو ذلك المائع ، والثالث يرجع إلى الثاني في النتيجة لما تقدم في بحث الواجب المشروط من رجوع قيود الحكم إلى المتعلق فيعود الإشكال.

وفيه : ان سريان قيود الحكم إلى المتعلق لا يعني لحاظ المتعلق مقيدا بها بل المتعلق ذات الطبيعة ، فان الإطلاق ليس امرا لحاظيا بل ذاتي كما تقدم في بحوث المطلق والمقيد وعليه يمكن الحكم على طبيعي الشرب بترخيص مقيد بترك الآخر.

السابع ـ ما نوضحه ضمن نكتتين :

الأولى ـ ان الحكم التخييري سواء كان إلزاما أو ترخيصا إذا كان واقعيا يمكن ان يكون مفاده ومدلوله التصديقي الحكائي أي ملاكه ومبدأه في الجامع ويمكن ان يكون في كل طرف مشروطا بترك الآخر ، واما الحكم الظاهري فبلحاظ المدلول التصديقي الإنشائي أي الحكم وان كان يعقل تارة جعله على الجامع وأخرى جعله على كل واحد من الطرفين مشروطا لكن بحسب مفاده الحكائي لا يعقل سوى التخيير بمعنى إرادة الجامع ، وذلك لما عرفت من ان ملاك الحكم الظاهري ليس في نفس جعله حتى يقال قد تكون المصلحة في جعل الحكم الظاهري المشروط بل ملاكه ترجيح الأهم

__________________

(١) بل بحسب الحقيقة الحكم الظاهري هنا محتمل المطابقة مع الواقع غاية الأمر انه حكم ظاهري في حالة خاصة وليس في تمام الحالات فلا يقاس بمثل جعل الإباحة في موارد الدوران بين المحذورين الّذي قيل فيه بهذه الشرطية.


من الملاكات الواقعية المختلطة في مقام الحفظ على البعض الآخر ، فان قدم الملاك الإلزامي على الترخيصي حتى في مرتبة الموافقة القطعية حكم بالاحتياط التام ، وان قدم الملاك الترخيصي على الإلزامي حتى في مرتبة المخالفة القطعية رخص حتى في المخالفة القطعية ، وان قدم الإلزامي على الترخيصي في مرتبة المخالفة القطعية والترخيصي على الإلزامي في مرتبة الموافقة القطعية رخص في أحدهما المخير ان لم يكن في البين مزية لا حد الطرفين والا فالمعين ، وعلى كل حال بحسب المدلول التصديقي الحكائي أي ما هو المنساق من دليل هذا الجعل تكون إرادة الإلزام أو الترخيص متعلقا بالجامع لا بكل طرف مشروطا لأن إتيان المكلف بالطرف الآخر وعدمه ليس له دخل في ملاك هذا اللون من الحكم الّذي هو درجة الاهتمام بالغرض الواقعي في مجال التزاحم الحفظي وهذا فرق أساسي يختلف فيه الحكم الظاهري عن الواقعي.

الثانية ـ لو ورد دليل الترخيص التخييري في مورد العلم الإجمالي كما إذا قال رخصتك في أحدهما أو في كل منهما مشروطا بترك الآخر استفيد منه لا محالة الترخيص التخييري ، واما إذا لم يكن في البين الا مطلقات الترخيص الظاهرة في جعله على كل طرف تعيينا فتقييد كل من الترخيصيين بترك الآخر وان كان لا بأس به على مستوى المدلول الإنشائي للخطاب إذ ليس فيه سوى مئونة التقييد اللازم على كل حال ولكنه بلحاظ المدلول التصديقي الحكائي أي الملاك والمبادي يستلزم تحويل الترخيص في كل طرف بعينه إلى ترخيص للجامع وهذه مئونة زائدة لا يمكن استفادتها من مجرد إطلاق أدلة الترخيص العامة (١).

الثامن ـ ان أدلة الأصول الترخيصية قاصرة عن شمول كل طرف مشروطا بترك الآخر وذلك لأن أدلة الترخيص على أقسام ثلاثة.

__________________

(١) هذه النكتة ان تمت في دليل أصل ترخيصي واحد في الطرفين كالبراءة فلا يتم قطعا فيما إذا كان في كل من الطرفين أصل ترخيصي من غير سنخ الآخر كما إذا كان في أحد الطرفين استصحاب الطهارة وفي الآخر أصالة الطهارة لأن التعارض عندئذ يكون بين دليلين منفصلين قد انعقد ظهورهما في الإطلاق وتم وانما المقدار الحجة من كل منهما يقتضي الترخيصي المشروط في كل طرف المستلزم للترخيص التخييري من دون لزوم تحميل عناية زائدة على مفاد دليل الأصل المطابقي.

هذا مضافا إلى عدم تمامية أصل النكتة لأن الترخيص في الجامع انما تكون فيه مئونة زائدة لو أريد استفادتها من أدلة الترخيص بالمطابقة وبلحاظ المدلول الإنشائي للخطاب لا ما إذا كان ذلك مدلولا التزاميا تصديقيا للترخيص المشروط في كل طرف بعينه.


١ ـ ما يكون من قبيل حديث الرفع الّذي ظاهره علاج التزاحم بين غرضين ترخيصي وإلزاميّ محتمل.

٢ ـ دليل أصالة الحل.

٣ ـ دليل الاستصحاب.

اما القسم الأول فقد تقدم انها لا تشمل في نفسها فرض العلم الإجمالي بالإلزام مع قطع النّظر عن مسألة الابتلاء بالمعارض (١).

واما القسم الثاني فالصحيح منه سندا ودلالة خبر ابن سنان وهو وان كان ناظرا إلى فرض العلم الإجمالي بالإلزام بقرينة قوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) الا انه من المحتمل قويا ان يكون المنظور إليه بقرينة الصدر ـ ( كل شيء فيه حلال وحرام ) وجود الحرام ضمن المجموع من شيء يعتبر بمثابة الكل الّذي قد اختلط الحرام والحلال في إجزاءه لا الكلي الّذي في مصاديقه حرام وحلال وبناء على هذا الاحتمال يكون تقيد الترخيص في كل جزء من ذلك الكل الّذي يعلم بوجود الحرام فيه بما إذا اجتنب الاجزاء الأخرى خلاف الظاهر فلا يمكن استفادته من مجرد الإطلاق إذ لازم ذلك نظر الدليل إلى كل جزء جزء وهذه مئونة زائدة خلاف ظاهر هذا الدليل الّذي لوحظ فيه الكل الّذي يشتمل على الحلال والحرام لا كل جزء جزء (٢).

واما القسم الثالث : وهو دليل الاستصحاب فحيث ان المنساق منه ملاحظة كاشفية اليقين السابق فاستفادة حجية اليقين السابق في كل طرف مشروطا بترك الطرف الآخر غير مناسب مع نكتة الكاشفية لأن هذا الشرط غير دخيل في ذلك

__________________

(١) لم يتقدم ذلك وانما الّذي تقدم ان شموله لكل طرف لا يؤمن الا عن الإلزام المحتمل لا الإلزام المقطوع به في مجموع الطرفين فهو لا يرخص في المخالفة القطعية واما الإطلاق المشروط الّذي يؤمن عن احتمال الإلزام في كل طرف ـ ولو كان هو الإلزام المعلوم بالإجمال ـ فلا محذور فيه لأن ملاك الترخيص فيه نفس ملاك الترخيص في الشبهات البدوية بخلاف الترخيص في تمام الأطراف.

(٢) لعل ظاهر الحديث النّظر إلى الجزاء ذلك الكل وأبعاضه بقرينة قوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) فان ظاهر هذا الذيل ان النّظر إلى أبعاض ذلك الشيء الكل أو الكلي الّذي فيه حلال وحرام وان ما عدا ما يعلم حرمته تفصيلا من اجزاء ذلك الكلي يبقى حلالا لا ان النّظر إلى الكل المشتمل على الحرام وانه بما هو كل يكون حلالا.

وإن شئت قلت : ان التعبير بقوله ( فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) مشعر بالتعليل وانه كلما لم يعرف الحرام تفصيلا في مورد فهو حلال فيكون شاملا لأطراف العلم الإجمالي ما لم يلزم منه محذور عقلي أو عقلائي نعم قد يدعى ان ظاهره إثبات الحلية التعيينية لكل جزء لا التخييرية المشروطة ولعل هذا هو مقصود الأستاذ ( 1 الشريف ).


بحسب المتفاهم العرفي وليس من قبيل تقييد دليل الاستصحاب بعدم أمارة أو كاشف أقوى على خلافه. نعم لو دل دليل بالخصوص على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي أخذ به الا ان استفادة ذلك من مجرد إطلاق دليل الاستصحاب على خلاف الذوق والفهم العرفي المنساق من دليل الاستصحاب.

والحاصل عدم تعقل العرف للتبعيض في الكاشفية يستوجب عدم انعقاد إطلاق في دليل الاستصحاب لكل من الطرفين مشروطا بترك الآخر (١).

التاسع ـ التمسك ببعض الاخبار المتفرقة الواردة في موارد مختلفة من العلم الإجمالي بالتكليف وتأمر بالاجتناب والموافقة القطعية من قبيل ما ورد من لزوم الاجتناب عن الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءة ، وما ورد من الأمر بإراقة الماءين اللذين يعلم بنجاسة أحدهما (٢). فان هذه الروايات بعد ظهور انها ليست في مقام تخصيص في الحكم الواقعي تدل على عدم جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين ولو مشروطا بترك الآخر والا لم يجز إراقتهما والتيمم وجاز شرب أحدهما أو أكل أحد الأغنام وبعد إلغاء خصوصية مورد التكليف المعلوم بالإجمال يستفاد منها كبرى كلية هي عدم جريان الأصول المرخصة في شيء من أطراف العلم الإجمالي عند تساويها بالنسبة إلى أدلة الترخيص فتكون مخصصة لا طلاق أدلة الأصول العامة لإثبات الترخيص المشروط في أطراف العلم الإجمالي لو تم مثل هذا الإطلاق ، نعم لو فرض عدم جريان الأصل المرخص في نفسه في أحد الطرفين أو قيام أصل إلزاميّ حاكم عليه أمكن إجراء الأصل الترخيصي في الطرف الآخر وكان ذلك خارجا عن منصرف تلك الروايات كما ان فرض قيام الأمارة على طهارة أحدهما بالخصوص أيضا خارج عن منصرفها.

وهكذا يتضح عدم تمامية شبهة التخيير في جريان الأصل الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي (٣) ، وان المحذور الإثباتي عن جريان الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٣٥٨.

(٢) هذه النكتة أيضا تختص بما إذا كان الأصل المرخص في الطرفين معا الاستصحاب ليكون التعارض داخليا لا ما إذا كان في أحد الطرفين أصل مرخص آخر كما لا يخفى. مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل هذه النكتة فانه لا مانع من ان يكون الحكم الظاهري مشروطا بحسب المدلول الإنشائي لكونه مقتضي صناعة مرحلة الإثبات مع كونه بحسب المدلول الثبوتي الحكائي من أجل الترخيص في أحد الطرفين.

(٣) يمكن ان يذكر وجه آخر لإبطال شبهة التخيير وهو مبتن على قبول عدم عرفية الترخيص التخييري المشروط في الطرفين لدى.


تخييرا بحيث لا تجب موافقته القطعية تام أيضا.

ثم ان هنا تقريبات أخرى يمكن ان تذكر لشبهة التخيير وجريان الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي نشير إلى بعضها.

منها ـ دعوى إجراء الأصل في كل طرف للتأمين عن ارتكابه بالخصوص من دون ان يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية ولا التقييد في الإطلاق دليل الأصل لأن الترخيص في كل طرف بالخصوص باعتباره مشكوكا لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع لكونه معلوما وهذا نظير التخيير الشرعي بين الخصال الثلاث حيث ان الجامع واجب بالرغم من الترخيص في ترك كل منها بخصوصه وعدم الإلزام به.

وفيه : ان تنجز الجامع ووجوب الإتيان به من باب حكم العقل لا ان التكليف المعلوم بالإجمال متعلق به وحينئذ بناء على المنافاة عقلا أو ارتكازا وعقلائيا بين التكليف الواقعي الإجمالي المحفوظ في المقام مع الترخيصين التفصيلين في الطرفين تقع بينهما المنافاة لا محالة فلا يقاس بباب الواجب التخييري الّذي يكون التكليف فيه متعلقا بالجامع.

ومنها ـ تطبيق مبنى نقحناه في بحوث العام والخاصّ من صحة التمسك بعموم العام أو إطلاق المطلق في موارد العلم بخروج أحد الفردين منه إجمالا لا ثبات الحكم في الفرد الآخر إجماله ولو فرض عدم تعيين الفرد الآخر واقعا والّذي أرجعناه بحسب الحقيقة إلى حجية في كل طرف مشروطة بعدم خروج الآخر وحيث يعلم بخروج أحدهما إجمالا فيعلم بفعلية إحدى الحجتين. ففي المقام يقال بشمول دليل الأصل الترخيصي لكل طرف تعيينا مشروطا بعدم الترخيص في الطرف الآخر وحيث يعلم بعدم الترخيص في أحدهما ـ لعدم إمكان الترخيص فيهما معا ـ فيعلم بفعلية الترخيص في أحد الطرفين لا محالة.

وفيه : أولا ـ لا فائدة في مثل هذا الترخيص الظاهري الإجمالي وليس هذا من قبيل حكم العام بوجوب إكرام أحدهما مثلا كيف وقد يعلم بالترخيص الواقعي في أحد

__________________

الارتكاز العقلائي بحيث لو لا عناية خاصة وتنصيص عليه يأباه الطبع العقلائي في باب الحجية وجعل الحكم الظاهري فانه حينئذ يقال : بان هذا الأمر بنفسه يمنع عن انعقاد أصل الإطلاق في دليل الترخيص بنحو مشروط في الطرفين إذا كان دليلا واحدا ويمنع عن حجيته إذا كانا من سنخين لأن حجية الإطلاق بنفسه حكم الظاهري في الطرفين فيحكم فيه الارتكاز المذكور.


الطرفين ولكن لا فائدة فيه مع العلم الإجمالي بالإلزام وعدم تعيين الترخيص في أحد الطرفين بخصوصه.

وثانيا ـ نسبة العلم الإجمالي وحرمة المخالفة القطعية إلى إطلاق الترخيص في كل من الطرفين على حد واحد فلا يكون مخصصا لا حدهما تعيينا مع الإجمال والتردد فيه وانما المحذور في ثبوتهما معا ، ومثل هذا لو فرض عدم مانعيته عن الإطلاقين في باب الأحكام الواقعية فلا إشكال في انه يوجب الإجمال وسقوطهما في أدلة الترخيص والحكم الظاهري لأنه في قوة الترخيص في أحد الطرفين تعيينا دون الطرف الآخر وهو ترجيح بلا مرجح ، نعم لو فرض ان أحد الطرفين لم يكن موردا للأصل الترخيصي أو كان فيه أصل إلزاميّ حاكم عليه جرى الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لعدم وجود نكتة الترجيح بلا مرجح حينئذ.

وان شئت قلت : ان الأصل له إطلاق لكل ما لم يعلم تفصيلا حرمته ولم يكن طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ ولو من الخارج لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر.

ومنها ـ ما إذا فرض العلم إجمالا بأحد تكليفين أحدهما أهم من الآخر ، حيث يقال ان مقتضى القاعدة جريان الأصل الترخيصي في الطرف غير الأهم إذ لا يحتمل جريانه في الطرف الآخر دونه فالترخيص في الطرف الأهم يعلم بسقوطه على كل حال فلا يبقي محذور للتمسك بإطلاق الترخيص في الطرف غير الأهم طبقا للنكتة التي أشرنا إليها الآن.

وفيه : أولا ـ أهمية أحد التكليفين الواقعين لا تعني الأهمية في مقام الحفظ الظاهري بحيث يقطع بعدم جريان الترخيص الظاهري عن احتماله في قبال جريانه عن احتمال التكليف غير الأهم فان ملاكات جعل الحكم الظاهري تختلف عن الحكم الواقعي كما لا يخفى.

وثانيا ـ يرد على هذا الوجه والوجهين السابقين بعض الوجوه المتقدمة في الإجابة على شبهة التخيير ولا أقل من الوجه الأخير منها.

وقد اتضح من مجموع ما تقدم في المقامات الثلاثة ان العلم الإجمالي بالتكليف ـ أي موارد الشك في المكلف به ـ يجري فيها الاحتياط فتجب الموافقة القطعية فضلا عن حرمة المخالفة القطعية الا ان ذلك ليس لمحذور ثبوتي عن جريان الترخيص في تمام أو


بعض أطراف العلم الإجمالي بل لمحذور إثباتي خلافا لمبنى المشهور بالنسبة إلى حرمة المخالفة ولمبنى المحقق العراقي ( قده ) حتى بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

وقد يترتب على هذا الفرق بين المسلكين آثار وثمرات نورد فيما يلي جملة منها :

منها ـ ما إذا دل دليل تام السند والدلالة على الترخيص في المخالفة القطعية في مورد كما ادعي ذلك في جوائز السلطان أو آكل الرّبا إذا تاب ، فانه بناء على كون المحذور ثبوتيا لا بد من طرح الدليل الخاصّ أو تأويله بينما يؤخذ به ويلتزم بالترخيص في المخالفة بناء على كون المحذور إثباتيا ارتكازيا فان الارتكاز ليس حجة بنفسه بل ينفع في إبطال إطلاقات الأدلة فمع ورود نصّ خاص على خلافه يعمل بذلك النص لا محالة ، وهذه الثمرة صحيحة.

ومنها ـ ان محذور الترخيص في المخالفة القطعية إذا كان ثبوتيا فهو يمنع عن إطلاق أدلة الأصول الترخيصية لتمام أطراف العلم الإجمالي سواء كانت من سنخ واحد أو من سنخين كما إذا كان أحدهما البراءة والآخر استصحاب عدم التكليف. واما إذا كان المحذور إثباتيا وعلى أساس الارتكاز العقلائي فهذا الارتكاز غايته المنع عن انعقاد إطلاق دليل الأصل الترخيصي الواحد لتمام الأطراف لكونه على خلاف الارتكاز ، واما إذا كان في كل طرف أصل ترخيصي غير الآخر فإطلاق دليل كل منهما منعقد في نفسه وفي طول انعقاده يكون حجة لا محالة ولا يكون للارتكاز المذكور أثر عليه فان أثر هذا الارتكاز انما هو المنع عن انعقاد الإطلاق والمفروض انعقاده في الدليلين المنفصلين.

وهذه الثمرة غير تامة إذ يمكن ان يقال : ان هذا الارتكاز بدرجة من الرسوخ بحيث يتولد منه ارتكاز آخر هو استلزم الترخيص في أحد الطرفين للإلزام في الطرف الآخر عرفا فيقع التعارض بين إطلاق دليل الترخيص لأحدهما مع إطلاق الدليل الآخر للآخر بالالتزام (١).

__________________

(١) يمكن ان يناقش في هذا الجواب من وجهين :.

الأول ـ ان الارتكاز المذكور انما كان بملاك التناقض بين الترخيص في الطرفين مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال لا الحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط في أحد الطرفين فلا وجه لهذه الملازمة ، ولهذا لا يكون التعارض بين الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي من باب التكاذب بين إطلاقي دليل الترخيص في الطرفين بالملازمة بل من باب عدم شمول أدلة الترخيص


ومنها ـ ما سوف يأتي في بعض البحوث المقبلة من انه بناء على كون المحذور ثبوتيا وعقليا فلو فرض ان هذا الحكم العقلي لم يكن بديهيا وبمثابة القرائن المتصلة المحفوفة بالخطابات يقع التعارض بين الأصول المرخصة في أطراف العلم الإجمالي مطلقا واما بناء على كون المحذور إثباتيا فلو فرض جريان أصل ترخيصي من سنخ واحد في الطرفين وكان في أحد الطرفين أصل ترخيصي من سنخ آخر أيضا كما إذا فرضنا جريان البراءة في الطرفين مع اختصاص أحد الطرفين باستصحاب عدم التكليف فإنه يجري حينئذ الأصل الترخيصي المنفرد ـ وهو الاستصحاب في المثال ـ بلا معارض لسقوط معارضة وهو البراءة في الطرف الآخر بالتعارض الداخليّ بين إطلاقي دليله في الطرفين وهو يوجب الإجمال وعدم انعقاد أصل الظهور فيبقى إطلاق دليل الاستصحاب حجة بلا معارض.

وهذه الثمرة تامة.

ومنها ـ ما قد يتوهم من انه بناء على كون المحذور إثباتيا لا يجري الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان في الطرف الآخر أصل إلزاميّ حاكم كما إذا فرض جريان استصحاب التكليف في أحد الطرفين الحاكم على البراءة فانه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر أيضا لأن إطلاق دليل البراءة في كل منهما قد ابتلي بالإجمال والتعارض الداخليّ ولا يجدي قيام أصل إلزاميّ في أحد الطرفين لإرجاع الأصل الترخيصي في الطرف الأول لأنه ساقط ذاتا لا حجية.

وفيه : أولا ـ هذا لا يختص بكون المحذور إثباتيا بل يجري أيضا لو تم على المسلك

__________________

للطرفين معا وشمولها لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فيتساقطان ، والملاك المذكور يجعل التعارض بملاك التكاذب بينهما دائما.

الثاني ـ ان لهذه الدعوى لوازم لا يمكن الالتزام بها من قبيل لزوم تطبيق قواعد الترجيح والجمع العرفي بين دليلي الترخيصين في الطرفين فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر قدم عليه ولا يجوز أن يحكم بتساقطهما. ومن قبيل ثبوت الإلزام الظاهري الشرعي فيما إذا كان في أحد الطرفين أصل ترخيصي ولم يكن في الطرف الآخر أصل شرعي منجز ولا مؤمن فان دليل الأصل الترخيصي في الطرف الأول بنفسه يدل على الإلزام الشرعي في الطرف الآخر حينئذ وهذا ما لا يقول به أحد وعلى القول به تنتفي أيضا الثمرة المبنية في البحوث المتقدمة بين مسلكي اقتضاء العلم الإجمالي وعليته لوجوب الموافقة القطعية كما لا يخفى.

والتحقيق في إبطال الثمرة المذكورة ان يقال : بأن إطلاق الخطاب الترخيصي وان كان منعقدا وتاما في موارد عدم التسانخ بين الترخيصين الا أن حجية هذا الإطلاق بنفسه حكم الظاهري ترخيصي مفاد بدليل واحد ـ سواء افترض لفظيا أو لبيا ـ فيحكم عليه الارتكاز المذكور المانع عن شمول كلا طرفي العلم الإجمالي.


الآخر الثبوتي إذا قيل بان محذور قبح الترخيص في المخالفة القطعية حكم عقلي بديهي بمثابة القرينة اللبية المتصلة بالخطاب.

وثانيا ـ ما تقدم من ان دليل الأصل الترخيصي مقيد بما لم يعلم تفصيلا حرمته ولا طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر والأصل الإلزامي الحاكم ينقح صغرى هذا الإطلاق كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المنهج الصحيح لبحث موارد الشك في المكلف به والعلم الإجمالي.

الا ان السيد الأستاذ قد سلك منهجا آخر في المقام حاصله : ان احتمال التكليف في نفسه يقتضي التنجيز لأنه يقتضي احتمال العقاب في المخالفة واحتمال العقاب منجز بحكم العقل ويجب دفعه ما لم يوجد مؤمن ـ كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بل حتى في موارد القطع بالتكليف يكون المنجز احتمال العقاب لا القطع به إذ لا قطع به لاحتمال العفو ، نعم في موارد الشك يحتمل عدم العقاب أيضا من باب عدم التكليف أي السالبة بانتفاء الموضوع. وعليه فلا حاجة إلى البحث في ان العلم الإجمالي أي أثر له في مقام التنجيز فان المقتضي للتنجيز وهو احتمال العقوبة موجود قطعا وانما يجب البحث عن المانع عنه وهو القواعد المؤمنة.

وهذا المنهج غير فني إذ يرد عليه :

أولا ـ ان هذا خلط بين التنجيز العقلي العملي والتنجز الجبلي الطبعي ، فان احتمال العقاب ليس هو المنشأ للتنجز العقلي بل متأخر عنه ومترتب عليه إذ لو لا حكم العقل بحق الطاعة والتنجز لما احتمل العقاب ، نعم التنجز الطبعي ليس ضرورة عقلية بل جبلية ناشئة من احتمال العقاب ولو من قبل الجائر كما إذا أو عدنا ظالم بالعقاب على مخالفته فيتجنب الإنسان بطبعه مخالفته فرارا عن العقاب وليس الكلام في هذا التنجز بل في التنجز العقلي والنسبة بينه وبين التنجز العقلي العموم من وجه بمعنى انه يمكن افتراض التنجز العقلي من دون احتمال العقوبة كما إذا قطع العبد بأنه لو عصى وتعقبت معصيته التوبة أو الشفاعة لعفي عنه المولى فانه مع ذلك لا تجوز المعصية عقلا ، كما يمكن افتراض العقاب بدون تنجز كما في وعيد الظالم بل وفي المولى العادل الحكيم وذلك فيما إذا فرض الشك في صحة قاعدة قبح العقاب بلا بيان وفرض


انها في الواقع صحيحة وثابتة عقلا فخالف المكلف تكليفا مشكوكا لم يتم عليه بيان فهو يحتمل العقاب ولكن لا تنجز عليه في الواقع بحسب الفرض (١).

وثانيا ـ ان ما ذكره من ان احتمال عدم العقاب عند الشك يمكن ان يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع وذلك فيما إذا لم يكن تكليف واقعا غير صحيح بناء على ما هو الصحيح والمسلم بيننا وبينه من ان التكليف بوجوده الواقعي ليس موضوعا للعقاب ولذا لم يكن فرق بين العاصي والمتجري في العقاب.

وثالثا ـ لو سلمنا ان احتمال العقاب هو منشأ التنجز فان فرض ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان حاكمة على احتمال العقاب ـ كما هو مسلكه ومسلك المشهور ـ فلا بد من البحث في مورد العلم الإجمالي عن مقدار بيانية هذا العلم ومنجزيته للتكليف بحيث نخرج به عن البيان إلى البيان وحدوده هذه المنجزية والبيانية فلا معنى لجعل ذلك مفروغا عنه ، وان فرض مسلك حق الطاعة ومنجزية الاحتمال فعدم الحاجة حينئذ إلى البحث عن منجزية العلم الإجمالي بعد ان كان احتمال التكليف منجزا فضلا عن العلم وان كان صحيحا الا انه لا حاجة على هذا المسلك إلى إقحام مسألة احتمال العقاب في منهج البحث.

وقد تلخص من كل ما تقدم ان العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية وانه كلما تعارضت الأصول الشرعية المؤمنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لتنجز الاحتمال في كل شبهة بعد بقائها بلا مؤمن شرعي وفقا لمسلك حق الطاعة وحيث ان تعارض الأصول يستند إلى العلم الإجمالي فيعتبر تنجزك جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

ولا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين ان يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد أو نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة آخر لأن كلا من الوجوب والحرمة تدخل في عهدة المكلف وتجب طاعة المولى فيه باعتباره تكليفا مولويا ولا دخل لخصوصية متعلقه وانه الفعل أو الترك في ذلك.

__________________

(١) هذا مبني على ان لا يكون العلم بكبرى التأمين مأخوذا في موضوع التأمين ، وقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في بحوث القطع فراجع.


أركان منجزية العلم الإجمالي :

ونستخلص مما تقدم ان قاعدة منجزية العلم الإجمالي لها عدة أركان لا بد من توفرها جميعا لكي تجب موافقته القطعية وهي على ما يلي :

الركن الأول : العلم بجامع التكليف ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كل طرف بدوية وتجري فيها البراءة.

ولا شك في وفاء العلم الإجمالي بالجامع بالتنجيز إذا كان علما وجدانيا واما إذا كان ما يعبر عنه بالعلم التعبدي أو العلم الإجمالي بالحكم الظاهري كما إذا قامت البينة مثلا على نجاسة أحد الإناءين فهل يطبق عليه قاعدة منجزية العلم الإجمالي أيضا؟ الصحيح ذلك على تفصيل وتوضيح سيأتي.

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع بحده وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما في ضمن فرد معين لكان علما تفصيليا لا إجماليا ولما كان منجزا الا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وسريان العلم بالجامع إلى الفرد يسمى بانحلال العلم الإجمالي ، وسيأتي الحديث عن ضابط الانحلال واقسامه.

الركن الثالث : ان يكون كل طرف من أطراف العلم مشمولا في نفسه وبقطع النّظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي لدليل الأصل الترخيصي لأن منجزية العلم الإجمالي على ما تقدم انما تكون في طول تساقط الأصول في أطرافه فلو كان أحد الأطراف غير مشمول لدليل الأصل المؤمن لسبب أو آخر جرى الأصل في الطرف الآخر بدون محذور.

نعم هذه الصياغة لا تلائم مسلك العلية إذ بناء عليه يكون العلم الإجمالي بذاته منجزا لوجوب الموافقة فمجرد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه بل لا بد من افتراض نكتة في المرتبة السابقة تعطل العلم الإجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمن ان يجري.

ومن هنا صاغ صاحب هذا المسلك وهو المحقق العراقي ( قده ) الركن الثالث صياغة أخرى حاصلها : ان تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على صلاحيته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره فإذا لم يكن صالحا لذلك في أحد الطرفين فلا يكون منجزا لأنه


لا يصلح للتنجيز حينئذ الا على بعض تقادير معلومه وهذا التقدير غير معلوم فيكون كالشبهة البدوية وفيما إذا كان في أحد الأطراف أمارة أو أصل إلزاميّ يكون التكليف منجزا في ذلك الطرف بالأصل ومعه لا يمكن ان ينجز بالعلم الإجمالي أيضا لأن المنجز لا يتنجز لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على أثر واحد وهذا يعني ان العلم الإجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كل حال فلا يكون منجزا للطرف الآخر أيضا ، وهكذا حاول المحقق العراقي ( قده ) ان يصل إلى نفس النتيجة في موارد جريان الأمارة أو الأصل المنجز في أحد الطرفين وسوف تأتي المناقشة في ذلك.

الركن الرابع : ان يكون جريان البراءة في أطراف العلم مؤديا إلى الترخيص في المخالفة القطعية وإمكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الاذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة. وهذا الركن انما نحتاجه بناء على مسلك الاقتضاء لا العلية كما هو واضح. كما ان هناك صياغة أخرى لهذا الركن وهي ان لا يلزم من جريان البراءة في كل الأطراف الترخيص القطعي في المخالفة وان كانت المخالفة القطعية ممتنعة ، وسوف يأتي تحقيق الحال في الصحيح من الصياغتين في بحث الشبهة غير المحصورة.



تطبيقات وتنبيهات

١ ـ الثمرة العملية بين مسلك العلية والاقتضاء :

ذكر المحققون ان الفرق بين مسلك علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ومسلك الاقتضاء يظهر فيما إذا لم يكن في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي ولا إلزاميّ وكان في الطرف الآخر أصل ترخيصي فانه بناء على الاقتضاء يجري الأصل الترخيصي في ذلك الطرف بلا معارض فلا تجب الموافقة القطعية من ناحيته ، واما بناء على علية العلم الإجمالي ومنعه عن جريان الترخيص في أطرافه لا يجري الترخيص بل تجب الموافقة القطعية بالاجتناب عن الطرفين معا.

وقد اعترض عليه المحقق النائيني ( قده ) بان هذا مجرد فرض وفرق نظري لا يتفق وقوعه خارجا ، إذ لا ينفرد أحد الطرفين بالأصل الترخيصي الا وكان في الطرف الآخر أصل إلزاميّ شرعي أو عقلي وهو يوجب انحلال العلم الإجمالي وبطلانه عن التنجيز بناء على مبنى العلية.

وان شئت قلت :

ان الطرف الآخر اما ان يكون الشك فيه في أصل التكليف أو في الامتثال ، فان كان شكا في التكليف فهو مجرى للبراءة فلا يجري الترخيص في الطرف الآخر حتى


على الاقتضاء وان كان شكا في الامتثال فهو مجرى لأصالة الاشتغال العقلية أو استصحابه وهو يبطل تنجيز العلم الإجمالي حتى على مسلك العلية.

وناقش في ذلك المحقق العراقي ( قده ) بافتراض مصداقية هذا الفرق فيما إذا كان في كل من الطرفين أصل ترخيصي في عرض واحد وامتاز أحد الطرفين على الآخر بوجود أصل ترخيصي طولي فيه فانه يتعارض الأصلان الترخيصيان العرضيان وبعد التساقط تنتهي النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي في ذلك الطرف بلا معارض فيجري بناء على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلية ، وقد حاول ان يجعل ذلك نقضا على مسلك الاقتضاء (١).

ولتحقيق حال موارد الفرق بين المسلكين لا بد من الحديث في الفروض المتصورة لاختصاص الأصل الترخيصي ببعض أطراف العلم الإجمالي فنقول :

هناك صور ثلاث رئيسية لذلك :

الصورة الأولى ـ ان يكون أحد طرفي العلم الإجمالي في نفسه وبقطع النّظر عن مسألة الترجيح بلا مرجح مما لا يجري فيه الترخيص كما إذا علم إجمالا بوجوب الصلاة عند رؤية الهلال أو وجوب صلاة الفريضة التي دخل وقتها والّذي هو مجرى قاعدة الاشتغال.

وفي هذه الصورة ذكرت مدرسة المحقق النائيني بأنه لا تظهر الثمرة المفترضة لمسلك العلية لأن قاعدة الاشتغال أو استصحابه تلغي منجزية العلم الإجمالي وتوجب انحلاله فيجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر على كلا المسلكين.

وهذا الاعتراض متجه على ضوء مباني القوم في الانحلال الحكمي من ان الموجب للانحلال هو الأصل الإلزامي الجاري في بعض الأطراف واما بناء على ما هو الصحيح والّذي سوف يأتي الحديث عنه من ان الموجب للانحلال الحكمي ومنع العلم الإجمالي عن التنجيز انما هو الأصل النافي في أحد الطرفين فلا يتم الا ان القائلين بمسلك العلية على كل حال يقبلون ذلك على أساس ان المتنجز لا يتنجز بالعلم الإجمالي فهذا الاعتراض مبنائي (٢).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٢٠.

(٢) ثم انه قد يتصور في المقام ان بعض الأصول الترخيصية كالبراءة والحل لا تجريان في المقام رغم عدم المعارض لأن دليل.


الصورة الثانية ـ ان يكون الأصل الترخيصي في أحد الطرفين محكوما لأصل إلزاميّ كما إذا كانت أصالة الحل في أحد الطرفين محكومة لاستصحاب مثبت للحرمة.

وفي هذه الصورة أيضا يبني أصحاب المسلكين معا على جريان الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بلا محذور. الا ان هنا شبهة لا بد من حلها وحاصلها : ان دليل الأصل الترخيصي ـ كأصالة الحل ـ بناء على كون المحذور في شموله لتمام أطراف العلم الإجمالي إثباتيا ارتكازيا أو ثبوتيا ولكنه بمثابة القرينة اللبية المتصلة سوف يبتلي بالإجمال الداخليّ الهادم لأصل الإطلاق والظهور ، وبعد جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين لا يمكن ان يرفع الإجمال عن دليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لانهدام مقتضية وهو الظهور.

وهذه الشبهة لا تجري في أربعة فروض :

الأول ـ بناء على ان يكون محذور الترخيص في المخالفة القطعية ثبوتيا عقليا ولكنه ليس بديهيا بحيث يشكل قرينة متصلة بالخطاب كما هو واضح.

الثاني ـ ان يكون الأصل الحاكم مدلولا لنفس دليل الأصل الترخيصي ، كما إذا كان الجاري في الطرف الآخر استصحاب الحل مثلا لأن جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في الطرف الأول يمنع ابتداء وذاتا عن جريان الاستصحاب النافي في ذاك الطرف فلا يكون لدليل الأصل الترخيصي هذا مانع من شمول الطرف الآخر لا ثبوتا ولا إثباتا بحسب الفرض.

__________________

البراءة من حديث الرفع والحجب تقدم انه مخصوص بموارد احتمال وجود غرض إلزاميّ لا القطع به كما في موارد العلم الإجمالي ، ودليل أصالة الحل وان كان بقرينة الذيل شاملا لموارد العلم الإجمالي ولكنه ناظر بقرينة الصدر بما إذا كان الشك في جزء مركب يشتمل على الحرام والحلال فبعد تخصيصها بالشبهات غير المحصورة لا يمكن التعدي منها الا إلى الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم الإجمالي ولو كان طرفا واحدا ، على ان هذا الدليل لا يفيد في الشبهات الوجوبية.

وفيه : أولا ـ عمومية أدلة البراءة لموارد العلم الإجمالي إذا لم يلزم منه المخالفة القطعية لأن المنساق منها وان كان هو تقديم الغرض الإلزامي المحتمل لا المعلوم على الترخيصي الا ان جريانه في بعض أطراف العلم الإجمالي تعيينا لا يلزم منه ذلك لأن انطباق الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال فيه محتمل لا معلوم فيكون ملاكه نفس ملاك التقديم في الشبهات البدوية.

وثانيا ـ عموم دليل أصالة الحل لمنع ما مضى من دعوى الإجمال فان الظاهر منه الظاهر منه النّظر إلى الشيء المشكوك بما هو مشكوك لا بما هو جزء من كل فان هذه عناية زائدة والتعبير بان فيه حلال وحرام أيضا يناسب مع إرادة الجنس أو الكلي والافراد فالإشكال في عمومه في غير محله.


الثالث ـ ان يكون الأصل الترخيصي في الطرف الآخر من غير سنخ الأصل الترخيصي المحكوم أي ثابتا بدليل غير دليله ، كما إذا كان الأصل الترخيصي المحكوم أصالة الحل والأصل الترخيصي في الطرف الآخر استصحابه ، فانه في هذه الفرضية يكون التعارض بين دليلي الترخيصين خارجيا لا داخليا أي لا يلزم إجمالها ذاتا بل حجية فحسب ، والمفروض عدم حجية إطلاق دليل الأصل الترخيصي المحكوم.

الرابع ـ ان يكون الأصل الحاكم رافعا لموضوع الأصل الترخيصي المحكوم حقيقة أي واردا عليه حقيقة أو بالحكومة الميرزائية ـ بناء على تعقلها ـ التي لا ترجع بحسب الروح إلى التخصيص والقرينية بل إلى رفع الموضوع ، فانه حينئذ أيضا لا يكون هناك محذور في الأخذ بدليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بعد سقوط الأصل الترخيصي في الطرف الأول ذاتا وحقيقة.

والجواب الفني على الشبهة في غير هذه الفروض الأربعة ما تقدمت الإشارة إليه من ان إطلاق دليل الترخيص شامل لكل طرف من أطراف العلم الإجمالي إذا لم يكن فيه محذور الترخيص في المخالفة القطعية لأن المقيد له انما يثبت التقييد بمقدار ما لم يعلم تفصيلا حرمته ولا طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر ، وبالأصل الإلزامي الحاكم تتحقق صغرى هذا القيد.

الصورة الثالثة ـ ان يكون في أحد الطرفين أصلان ترخيصيان طوليان لا أصل واحد وفي الطرف الآخر أصل ترخيصي واحد. كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد إناءين لأحدهما حالة سابقة من الطهارة فيكون استصحاب الطهارة في ذلك الطرف معارضا مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر وبعد التعارض والتساقط يقال بالرجوع إلى أصالة الطهارة في مورد الاستصحاب لكونها أصلا طوليا لم يدخل المعارضة مع الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ، لأن فرض جريانه هو فرض سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه بالمعارضة وفرض سقوط الأصل الحاكم عليه هو فرض سقوط معارضه في الطرف الآخر فيستحيل ان يكون الأصل الترخيصي في الطرف الآخر معارضا معه ، وهذه هي الصورة التي جعلها المحقق العراقي فارقا عمليا بين المسلكين واعتبره نقضا على مسلك الاقتضاء ، حيث استبعد القول بعدم وجوب الموافقة القطعية في ذلك مع ان مقتضى صناعة مسلك الاقتضاء وان منجزية العلم الإجمالي في طول


تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف عدم المنجزية في المقام بخلافه على مسلك العلية.

وقد اختلفت كلمات المحققين في مقام الجواب على هذا النقض بين من خالف مطلقا ومنع عن جريان الأصل الطولي وسلامته عن المعارضة وبين من فصل بين بعض الموارد دون بعض ، وفيما يلي نورد أهم وجوه المخالفة :

الوجه الأول ـ ما عن المحقق النائيني ( قده ) من ان التعارض انما يكون بين المجعولين والمؤديين ، والمجعول في كل من الطرفين شيء واحد وان اختلفت الطرق والأدلة عليه فلا يبقى ترخيص في أي واحد من الطرفين.

واعترض على هذا الكلام المحقق العراقي ( قده ) باعتراضين :

الأول ـ ان المجعول في استصحاب الطهارة وقاعدتها ليس واحدا بل متعدد واحدهما في طول الآخر ولا محذور فيه.

وفيه : ان أريد بالمجعول المنشأ فالصحيح تعدده بتعدد الجعل ، واما إذا أراد المحقق النائيني ( قده ) من وحدة المجعول روح الحكم ومبادئه فهذا الإشكال غير وارد عليه لأن الحكم الظاهري روحا ولبا واحد في المقام وان تعددت مناشئه وملاكاته.

الثاني ـ ان التنافي وان كان بين المجعولين المدلولين للدليلين الا ان ذلك بلحاظ كونهما مدلولين وبما هما مدلولان وهذه حيثية تقييدية فإذا كان في أحد الطرفين حيثيتان للدلالة وسقطت إحداهما في الرتبة السابقة قبل تحقق موضوع الدلالة الثانية وصلت النوبة إلى الدلالة الثانية بلا محذور. وهذا الجواب صحيح لا غبار عليه.

الوجه الثاني ـ ما عن المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انه يلزم من جريان الأصل الترخيصي الطولي المحال لأنه يلزم من وجوده عدمه وكلما يلزم من وجوده عدمه محال.

والوجه في ذلك ان جريان هذا الأصل الطولي يكون في طول سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه ، وسقوط ذلك الأصل في طول منجزية العلم الإجمالي واقتضاؤه لتساقط الأصول في أطرافه فإذا جرى هذا الأصل الطولي أوجب انحلال العلم الإجمالي وارتفاع منجزيته التي كانت هي السبب في سقوط ذلك الأصل الحاكم ، وهذا يعني انه يلزم من جريان الأصل الطولي عدم جريانه وارتفاع موضوعه وهو محال.


وفيه : ان الأصل الطولي انما يرفع منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وما كان موجبا لسقوط الأصل الحاكم عليه هو منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية واحدهما غير الآخر ، وبعبارة أخرى سقوط الأصل الحاكم لم يكن وليدا لوجوب الموافقة القطعية الّذي يرفعه الأصل الطولي المحكوم بل كان وليد حرمة المخالفة القطعية مع استحالة الترجيح بلا مرجح ، وجريان الأصل الطولي لا يرفع شيئا منهما إذ لا يلزم منه لا الترخيص في المخالفة القطعية ولا الترجيح بلا مرجح كما هو واضح.

الوجه الثالث ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان المعارضة تكون بين الأصلين الطوليين في طرف مع الأصل الواحد في الطرف الآخر فالتعارض يقع ابتداء بين الأصول الثلاثة لا بين الأصلين العرضيين أولا لكي تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي بلا معارض لأن الحجية ليست من أحكام الرتب لكي يشترط وحدة الرتبة بل من أحكام الزمان فيسقط الجميع معا. وبعبارة أخرى كما يلزم من الجمع بين الأصلين الترخيصيين العرضيين ـ كاستصحاب الطهارة في محتمل النجاسة العرضية وأصالة الطهارة في محتمل النجاسة العينية مع العلم الإجمالي بأحدهما الترخيص في المخالفة القطعية ولا مرجح لا حدهما على الآخر كذلك يلزم ذلك من ملاحظة الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين ـ وهو أصالة الطهارة في محتمل النجاسة العرضية ـ مع الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ـ وهو أصالة الطهارة في محتمل النجاسة العينية ـ ولا مرجح لأحدهما سواء كان الترخيص بلسان الحكم بالطهارة أو استصحابها لأن محذور الترخيص في المخالفة القطعية نسبته إلى الأصل الطولي والعرضي على حد واحد مهما كان لسان الترخيص فيسقط الجميع في عرض واحد. نعم يستثنى من ذلك صورتان :

الأولى ـ ما إذا كان الأصلان العرضيان من سنخ واحد ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة الثوب أو الماء فان قاعدة الطهارة في كل منهما تسقط بالمعارضة وتصل النوبة بعد ذلك إلى أصالة الحل في الماء لتجويز شربه ، لأن دليل الأصل الترخيصي من سنخ واحد في الطرفين لا يشمل كلا الطرفين لكونه ترخيصا في المخالفة القطعية ، ولأحدهما بالخصوص لكونه ترجيحا بلا مرجح ، فلا يشمل شيئا منهما فلا مانع من شمول دليل الأصل الطولي للطرف المختص.


الثانية ـ إذا كان الأصل الطولي مخالفا في مؤداه للأصل العرضي أي كان إلزاميا فانه حينئذ حتى إذا كان الأصلان العرضيان غير متسانخين فانهما يتعارضان ويتساقطان وتصل النوبة إلى الأصلين الطوليين في الطرفين سواء كانا إلزاميين أو أحدهما إلزاميا والآخر ترخيصيا كما إذا علم إجمالا بزيادة ركوع في الصلاة السابقة أو نقيصة في ركوع الصلاة التي بيده بعد تجاوز المحل فان قاعدة الفراغ في الأولى مع قاعدة التجاوز في الثانية تتساقطان وتصل النوبة إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة المثبت لصحتها واستصحاب عدم الإتيان بركوع الصلاة التي بيده المثبت للبطلان.

وهكذا فصل السيد الأستاذ بين الصور الثلاث فحكم بجريان الأصل الطولي الترخيصي في صورتين ومنع عنه فيما عدا ذلك.

ولنا حول هذا التفصيل كلمات ثلاث :

الكلمة الأولى ـ حول الاستثناء الأخير ، فان ما ذكر فيه من تساقط الأصلين العرضيين الأوليين كقاعدتي الفراغ والتجاوز في المثال ثم الرجوع إلى الأصلين الطوليين غير صحيح لا على مسلك العلية ولا الاقتضاء.

اما على مسلك الاقتضاء ، فلان ما ذكره من وقوع التعارض بين الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين مع الأصل الترخيصي الطولي العرضي الأولي في الطرف الآخر بنفسه جار هنا أيضا ، ومجرد جريان الأصل الطولي الإلزامي في أحد الطرفين لا يشفع لتخليص الأصل الترخيصي الطولي عن المعارضة ، فكما ان محذور الترخيص في المخالفة واستحالة الترجيح بلا مرجح يسقط الأصلين الترخيصيين العرضيين ـ وهما قاعدتي الفراغ والتجاوز في الطرفين ـ كذلك يسقط استصحاب عدم الزيادة في الصلاة التي فرغ عنها.

واما على مسلك العلية ، فلا بد من القول بجريان قاعدة الفراغ ـ الأصل الترخيصي العرضي ـ في الطرف الأول فضلا عن الأصل الطولي لعدم منجزية العلم الإجمالي بعد فرض جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين وان كان طوليا ، لأن المحذور عن جريان الأصل في أحد الطرفين بناء على هذا المسلك يكون أحد أمرين اما العلية والمفروض انتفائها بمجرد جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين ، واما المعارضة


والترجيح بلا مرجح وهو أيضا غير تام بناء على مسلك العلية لأن الأصل المتوهم معارضته في الطرف الآخر وهو قاعدة التجاوز في المثال لا يجري في نفسه لا قبل انحلال العلم الإجمالي ، للعلية واستحالة الترخيص ، ولا بعده لأن فرض الانحلال هو فرض تنجز ذلك الطرف بالأصل الإلزامي فيقطع بعدم جريان ذلك الأصل على كل تقدير ومعه تكون قاعدة الفراغ في الصلاة التي فرغ عنها فضلا عن استصحاب عدم الزيادة فيها بلا معارض.

لا يقال ـ نحن نعكس الأمر فنقول بان جريان الأصل الإلزامي في طول منجزية العلم الإجمالي المانعة عن جريان الأصل الترخيصي الحاكم عليه فيستحيل ان يكون علة لانحلال العلم وعدم منجزيته.

فانه يقال ـ حل هذا التوقف من الجانبين انما يكون بما ذكرناه مرارا في أمثال المقام من ان جريان الأصل الإلزامي متوقف على منجزية العلم الإجمالي لولاه أي بنحو القضية الشرطية إذ لا موجب لتقييد دليله بأكثر من ذلك والوجود اللولائي لمنجزية العلم الإجمالي حاصل حتى بعد جريان الأصل إلزاميّ وانحلال العلم لأن الشرطية صادقة ولو لم تصدق أطرافها ، ومع صدقها يجري الأصل الإلزامي الموجب لفعلية الانحلال ـ بناء على مبنى القوم من ان الانحلال بالأصل الإلزامي لا الترخيصي ـ ومعه يجري الأصل الترخيصي العرضي في الطرف الآخر بلا محذور.

وهذه النتيجة الغريبة عكس ما ذكر في الفرق بين المسلكين تنتج الانحلال وعدم وجوب الموافقة القطعية وجريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين في صورة وجود أصل إلزاميّ في الطرف الآخر ولو طوليا بناء على مسلك العلية بخلافه على الاقتضاء فانه يوجب سقوط الأصول الترخيصية الطولية أو العرضية في الطرفين لمحذور الترخيص في المخالفة القطعية واستحالة الترجيح بلا مرجح ، ولا يأتي هنا ما ذكرناه بناء على العلية من ان قاعدة التجاوز لا تجري في نفسها لا قبل الانحلال ولا بعده لأن قاعدة التجاوز بناء على مسلك الاقتضاء تجري في نفسها وانما المحذور في استحالة الترجيح بلا مرجح التي نسبتها إلى الأصول الترخيصية والعرضية على حد واحد. والواقع ان هذه النتيجة الغريبة بحيث صار القول بالاقتضاء أشد من القول بالعلية نجمت من المبنى الّذي تصوره القوم من ان انحلال العلم الإجمالي انما يكون بالأصل الإلزامي لا الترخيصي.


الكلمة الثانية ـ حول الاستثناء الأول وان الأصلين الترخيصيين في الطرفين إذا كانا من سنخ واحد جرى الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين بلا معارض ، فان هذا الاستثناء لم يبين بدقة فذلكته الفنية وهي ما أشرنا إليه في بعض ما تقدم من ان الأصلين الترخيصيين إذا كانا من سنخ واحد حصل الإجمال الداخليّ في دليله بخلاف دليل الأصل الترخيصي غير المسانخ في أحد الطرفين فيكون حجة بلا معارض. وهذه النكتة الفنية لا يفرق فيها بين طولية الأصلين الترخيصيين في الطرف الواحد أو عرضيتهما وانما ترتبط فقط بالسنخية وكون الترخيص في الطرفين بدليل واحد غير دليل الأصل الترخيصي الثالث سواء كان في طولهما أم لا.

وعلى هذا الأساس نحكم بجريان استصحاب الطهارة مثلا فيما إذا وقع أحد طرفي العلم الإجمالي طرفا لعلم إجمالي آخر كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين لا يعلم حالتهما السابقة وعلم أيضا بنجاسة أحدهما المعين أو الثوب المستصحب طهارته فانه يجري فيه استصحاب الطهارة بلا محذور بعد إجمال دليل الطهارة في الطرف المشترك رغم ان الأصول الترخيصية الثلاثة كلها في عرض واحد.

بل وكذلك يجري استصحاب الطهارة في أمثال الّذي ذكره لتساقط الأصول الترخيصية معا فيما إذا علم بنجاسة شيء عرضا أو الآخر عينا لأن قاعدة الطهارة في محتمل النجاسة عينا له مسانخ في محتمل النجاسة عرضا فيكون دليلها مبتلى بالإجمال فيجري استصحاب طهارة محتمل النجاسة عرضا بلا معارض رغم انه حاكم عند المشهور على الأصل الترخيصي الطولي الساقط بالإجمال.

وهذا واضح بناء على عدم الطولية بين استصحاب الطهارة وقاعدتها وجريانهما معا لكون تقدم الأصول بعضها على بعض انما يكون على أساس القرينة وهي مخصوصة بالأصول المتخالفة في المؤدى لا المتوافقة. واما بناء على الطولية ـ أي ورود الاستصحاب على قاعدة الطهارة ـ فقد يعترض عليه : بان القاعدة لا تجري في محتمل النجاسة العرضية مع جريان استصحاب الطهارة فيه فلا يكون لقاعدة الطهارة في الطرف الآخر معارض من سنخها في هذا الطرف ليبتلى دليلها بالإجمال بل تتعارض قاعدة الطهارة في أحد الطرفين مع استصحاب الطهارة في الطرف الآخر ويسقط الجميع.


الا ان الصحيح ان قاعدة الطهارة في أحد الطرفين لا تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الآخر لأن جريانها في طول جريانه إذ حجية القاعدة لذلك الطرف فرع عدم شمول القاعدة لهذا الطرف وهو فرع عدم جريان الاستصحاب فلا يمكن ان يكون معارضا معه.

وبعبارة أخرى ـ التعارض فرع تمامية مقتضى الحجية وهو الظهور لكل منهما بقطع النّظر عن الآخر ليكون جريان كل منهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجح فيتعارضان في الحجية ، وفي المقام يكون مقتضي الاستصحاب تاما بقطع النّظر عن القاعدة في الطرف الآخر بينما مقتضي القاعدة في ذلك الطرف غير تام مع قطع النّظر عن الاستصحاب لعدم الظهور بقطع النّظر عنه من جهة الابتلاء بالإجمال الداخليّ حينئذ (١).

__________________

(١) يمكن ان يقال : ان دليل الأصل ـ كدليل القاعدة ـ مقيد بحسب الفرض بقيدين أحدهما ان لا يكون في مورده الاستصحاب والآخر ان لا يلزم منه الترخيص في المخالفة أو بتعبير آخر ان لا يكون طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر واحد القيدين يعلم بانثلامه في الطرف الّذي فيه الاستصحاب فلا موضوع لدليل القاعدة فيه جزما ، واما الطرف الآخر فموضوع القاعدة ومقتضيها يتم فيه حينئذ إذ لا استصحاب فيه بحسب الفرض وليس طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر لأن نفس اليقين المتقدم منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر فيكون القيد محرزا تماما كما كنا نقول فيما إذا كان في أحد الطرفين أصل إلزاميّ حاكم على القاعدة.

فان كان الإشكال من ناحية انه لا مقتضي لدليل القاعدة في الطرف الآخر فقد عرفت ان مقتضية تام وان كان من ناحية ان القاعدة في الطرف الآخر معارض بمثلها في هذا الطرف لو لا الاستصحاب فهي لا تجري حتى بقطع النّظر عن الاستصحاب.

فالجواب : ان هذا غايته دخول القاعدة في الطرف الآخر في معارضتين إحداهما مع القاعدة في هذا الطرف والأخرى مع الاستصحاب ، وهذا نظير تعارض أصل مع أصلين في طرف واحد أو في طرفين بعلمين إجماليين عرضيين فيسقط الجميع ، بل الأمر هنا أوضح لأن المعارضة مع الأصل الآخر تقديرية لا فعلية لأن جريان القاعدة في هذا الطرف فرع عدم جريان الاستصحاب فيه ففي ظرف فعلية الاستصحاب ليس في البين الا معارضة واحدة.

وان كان الإشكال من ناحية ان جريان القاعدة في الطرف الآخر فرع جريان الاستصحاب فتكون حجيتها في طول حجيته ومعه لا يعقل المعارضة بينهما لأن ملاك التعارض والتساقط استحالة الترجيح بلا مرجح وهو لا يتم إذا كان أحدهما مشروطا بالآخر إذ تتعين القاعدة للسقوط على كل حال لاستحالة جعلها لا مع الاستصحاب لمحذور الترخيص في المخالفة ولا بدونه لعدم الموضوع لها حينئذ ، وهذا هو الفرق بين المقام وبين ما إذا كان في أحد الطرفين أصل إلزاميّ حاكم إذ يمكن جعل القاعدة في الطرف الآخر مع الأصل الإلزامي في هذا الطرف.

فالجواب : ان هذا انما يتم إذا كانت حجية القاعدة مشروطة بحجية الاستصحاب وليس كذلك في المقام ، لأن حجية ظهور دليل القاعدة في الطرف الآخر ليست مشروطة بحجية الاستصحاب وجريانه في هذا الطرف ليستحيل جعلها على كل تقدير ، واما وجود مقتضيها وهو الظهور فهو حاصل وجدانا بحصول قيده وجدانا على أساس العلم التفصيليّ بانثلام أحد قيدي دليل القاعدة في الطرف الآخر والعلم التفصيليّ ليس متوقفا على حجية الاستصحاب واقعا ولا موجب للتقييد بأكثر من هذا


الكلمة الثالثة ـ حول أصل المطلب وانه إذا افترضنا طولية أحد الأصلين الترخيصيين في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ وان كنا لا نقبل ذلك صغرويا كما أشرنا ـ فهل تسري المعارضة إلى الأصل الترخيصي الطولي أيضا فيسقط الجميع أو تختص المعارضة بالأصلين العرضيين في الطرفين فيجري الأصل الترخيصي الطولي في ذلك الطرف بلا معارض كما حاول صاحب مسلك العلية النقض به على مسلك الاقتضاء؟.

وما يمكن أن تذكر من الوجوه لتخرج هذه المحاولة أحد أمور :

الوجه الأول ـ ان الأصل الطولي في طول تساقط الأصلين العرضيين إذ لو لا تساقطهما لما وصلت النوبة إلى هذا الأصل المحكوم وإذا كان الأصل الطولي في مرتبة متأخرة عن تساقط العرضيين فلا يقبل ان يكون معارضا بأحدهما لأن الساقط يستحيل ان يمانع بعد فرض سقوطه عما لا يتم مقتضية الا بعد فرض ذلك السقوط.

ويرد عليه : ان الأصل الطولي في طول سقوط الأصل الحاكم الموافق له وسقوط الأصل الحاكم ليس في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر بل كلا السقوطين في عرض واحد وينشأ سقوط الأصل الحاكم من مانعية مقتضي جريان الأصل العرضي في الطرف الآخر فلا طولية اذن بين الأصل الطولي وسقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ليستحيل التمانع بينهما بل الطولية المباشرة بين الأصل الطولي وسقوط الأصل الحاكم الموافق وحيث ان هذا السقوط في طول مانعية مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر كان الأصل الطولي أيضا في طول مانعية

__________________

المقدار. والحاصل يوجد في المقام ظهوران فعليان أحدهما إطلاق دليل الاستصحاب في هذا الطرف والآخر إطلاق دليل القاعدة في الطرف الآخر فانه لا موجب لرفع اليد عنه في نفسه بعد تحقق صغراه فيقع التعارض بينهما في الحجية ويتساقطان.

ثم انه يظهر فارق عملي بين القول بالطولية بين الأصول المتوافقة والقول بعدمها فيما إذا افترضا سنخية الأصول الثلاثة معا أي الأصلين العرضيين مع الأصل الطولي كما إذا علمنا بنجاسة الماء أو الثوب المغسول بماء آخر سابقا محتمل النجاسة من جهة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين فان أصالة الطهارة في الماء يقابلها أصالة الطهارة في ذلك الماء المغسول به الثوب الحاكم على أصالة الطهارة في الثوب ـ فيما إذا كانت حالته السابقة مشكوكة أو من موارد توارد الحالتين التي لا يجري فيها الاستصحاب ـ فانه بناء على إنكار الطولية بين أصالة الطهارة في الماء وأصالة الطهارة في الثوب المغسول به تسقط الأصول الترخيصية معا للإجمال ، واما بناء على الطولية فالإجمال يختص بالأصلين العرضيين ويبقى الأصل الطولي في الثوب سليما عن المعارض لأن إطلاق دليل ذلك الأصل لا مانع من شموله له بعد عدم شموله للطرف الآخر في نفسه.


مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر فلا يلزم من مانعية الأصل العرضي في الطرف الاخر للأصل الطولي كون الساقط المفروض السقوط في مرتبة متقدمة ممانعا عن شيء لا يتم مقتضية الا بعد فرض السقوط.

الوجه الثاني ـ انا سلمنا عدم كون الأصل الطولي في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ولكنه في طول سقوط الأصل الحاكم وسقوط الأصل الحاكم مع سقوط الأصل العرضي الآخر مستندان إلى علة واحدة وهي المعارضة بين الأصلين أي المزاحمة بين مقتضي الإثبات لهذا الأصل ومقتضي الإثبات لذلك الأصل في لسان الدليل ، وهذا يعني ان الأصل الطولي في طول المعارضة بين الأصلين العرضيين والأصل المعارض ـ بالفتح ـ بما هو معارض لا يعقل جريانه ليقع طرفا للمعارضة مع الأصل الطولي.

ويرد عليه : ان المعارضة تنحل في الحقيقة إلى مانعيتين.

إحداهما : مانعية مقتضي الجريان للأصل الحاكم في لسان الدليل عن تأثير مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر وفي مقابلها ممنوعية الأصل العرضي في الطرف الآخر.

والأخرى ـ مانعية مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر عن تأثير مقتضي الجريان للأصل الحاكم في لسان الدليل وفي مقابلها ممنوعية الأصل الحاكم.

وعلى هذا الأساس لو أريد ان الأصل الطولي في طول المانعية الثانية وهي مانعية مقتضي الجريان للأصل العرض في الطرف الآخر عن تأثير مقتضي الجريان للأصل الحاكم فهذا صحيح ، إذ ببركة هذه المانعية يسقط الأصل الحاكم ويتم موضوع الأصل الطولي ، ولكن لا محذور في ان يكون الأصل العرضي في الطرف الآخر بما هو مانع عن الأصل الحاكم معارضا للأصل الطولي بحيث يزاحم أولا مقتضي الجريان في الأصل الحاكم ويزاحم في رتبة متأخرة مقتضي الجريان في الأصل الطولي لأن ، ما هو مفروغ عن مانعيته يعقل ان يكون مانعا.

وان أريد : ان الأصل الطولي في طول ممنوعية الأصل العرضي في الطرف الآخر ومانعية الأصل الحاكم له ـ وهي المانعية ـ الأولى ـ فهذه الطولية غير صحيحة لأن تمامية موضوع الأصل الطولي وفعلية اقتضائه للجريان انما تتوقف على مانعية الأصل


العرضي في الطرف الآخر للأصل الحاكم لا ممنوعيته من قبله فلا يلزم من معارضة الأصل العرضي في الطرف الآخر للأصل الطولي كون الأصل الممنوع بما هو ممنوع معارضا.

الوجه الثالث ـ انا سلمنا عدم كون الأصل الطولي في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ابتداء ولا في طول ممنوعية مقتضية عن التأثير من قبل الأصل الحاكم ولكن المطلوب مع هذا يتم بلحاظ مجموع أمرين :

أحدهما ـ ان الأصل الطولي في طول سقوط الأصل الحاكم.

والآخر ـ ان سقوط الأصل الحاكم في مرتبة سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ، فإذا تم هذان الأمران ثبت تأخر الأصل الطولي مرتبة عن سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر من أجل تأخره عما هو في رتبته ومع كونه في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر يستحيل معارضته له.

والجواب : ان هذا مبني على ان ما مع المتقدم رتبة متقدم بالرتبة أيضا وهذه الكبرى غير صحيحة ، فان مجرد كون شيء غير متقدم ولا متأخر رتبة عن شيء آخر لا يستدعي تقدمه بالرتبة على كل ما يكون ذاك مقدما عليه بالرتبة ما لم يتحقق فيه ملاك التقدم الرتبي بالخصوص.

الوجه الرابع ـ اننا سلمنا ان المتأخر عن أحد العرضيين لا يوجب التأخر عن العرضي الآخر لكنا نثبت بالبرهان عدم صلاحية الأصل الطولي للمصادمة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر وان كان هذا الأصل العرضي صالحا للمصادمة مع الأصل الطولي ، والبرهان هو : انه يلزم من منع الأصل الطولي عن الأصل العرضي في الطرف الآخر رجوع الأصل الحاكم بارتفاع معارضه ورجوعه يعني انعدام الأصل الطولي وبالتالي انعدام مانعيته فيلزم اذن من مانعيته عدم مانعيته فتكون مانعيته مستحيلة ، وهذا يبرهن على عدم إمكان وقوعه طرفا للمعارضة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن المعارضة معناها صلاحيته في نفسه للمنع عن جريان الأصل العرضي في الطرف الآخر مع انه غير صالح لذلك في نفسه لأن المنع المذكور مستحيل لاستلزام عدمه من وجوده.

ويرد عليه : ان سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر الناشئ من تمامية


مقتضي الأصل الطولي يستحيل ان يكون منشأ لرجوع الأصل الحاكم ، لأن هذا السقوط متفرع على سقوط الأصل الحاكم فلا يعقل ان يكون سببا في نفي السقوط عن الأصل الحاكم وإجرائه وانما يعقل جريان الأصل الحاكم عند سقوط الأصل العرضي المعارض له إذا لم يستند سقوط هذا الأصل إلى سقوط الأصل الحاكم نفسه.

الوجه الخامس ـ ان سقوط الأصل انما هو للمعارضة أي للعلم الإجمالي بان أحد الأصلين ساقط على كل حال فرارا عن محذور المخالفة القطعية ولما لم يكن هناك مرجح لتطبيق السقوط على أحدهما دون الآخر تعذر إجراء كل من الأصلين فالأساس لعدم جريان الأصلين في الطرفين هو العلم الإجمالي بعدم جريان أحدهما بسبب عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعية. وعلى ضوء هذا يقال : لدينا علمان إجماليان أحدهما العلم الإجمالي بسقوط الأصل الحاكم أو الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن جريانهما معا مساوق مع الترخيص في المخالفة القطعية وهذا العلم الإجمالي ينجز طرفيه بمعنى انه يمنع عن التمسك بإطلاق دليل الأصل الحاكم ويمنع عن التمسك به لإجراء الأصل العرضي في الطرف الآخر. والآخر العلم الإجمالي بسقوط الأصل العرضي الطولي أو الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن جريانهما معا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية أيضا ، غير ان هذا العلم في طول العلم الإجمالي الأول لأنه فرع تمامية المقتضي للأصل الطولي المتوقف على سقوط الأصل الحاكم بسبب تنجيز العلم الإجمالي الأول فهما علمان طوليان وبينهما طرف مشترك وهو سقوط مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر. وحينئذ يقال : ان العلم الإجمالي الثاني لا ينجز طرفيه أي السقوطين لأن أحد هذين السقوطين منجز في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي الأول فيكون منحلا.

ويرد عليه : أولا ـ ان العلم الإجمالي الثاني ليس في طول تنجيز العلم الإجمالي الأول للطرف المشترك وانما هو في طول تنجيزه للطرف المختص بالعلم الأول ـ أي سقوط الأصل الحاكم ـ فلا موجب لفرض كون التنجز الّذي يكسبه الطرف المشترك من العلم الإجمالي الأول أسبق مرتبة من التنجز الّذي يكسبه من العلم الإجمالي الثاني ليكون موجبا للانحلال.

ثانيا ـ عدم صحة مبنى الانحلال في أمثال المقام على ما سوف يتضح في بحث


انحلال العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر.

الوجه السادس : ان تعارض الأصلين انما يكون إذا كانا متساويين اقتضاء ومحذورا اما اقتضاء فبان يكون انطباق موضوع دليل الأصل وهو عدم العلم ثابتا بالنسبة إلى كل واحد منهما واما محذورا فبان يلزم من مجموعهما الترخيص في المخالفة القطعية ومن إجراء أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح واما إذا وجد في أحدهما محذور مستقل يمنع عن جريانه وراء محذور الترجيح بلا مرجح فليس الأصلان متساويين محذورا لأن مورد المحذور المستقل لا يمكن الأخذ به بحسب الفرض ولو أريد الترجيح بلا مرجح فلا معنى للمعارضة بينهما بل يتعين مورد المحذور المستقل للسقوط.

وعلى ضوء هذا يقال : ان الالتزام بجريان الأصل العرضي في الطرف الآخر تقديما له على الأصل الطولي ينحصر محذوره بالترجيح بلا مرجح ، واما الأصل الطولي فبقطع النّظر عن محذور الترجيح بلا مرجح يستحيل جريانه وذلك لأنه إذا بني على إسقاط الأصل العرضي في الطرف الآخر في مقابل معارضة لفرض عدم المحذور في الترجيح بلا مرجح يدور الأمر حينئذ بين تقديم الأصل الطولي عليه أو تقديم الأصل الحاكم العرضي عليه ، وفي هذه الحالة يكون إيثار الأصل الطولي بالتقديم بدلا عن الأصل الحاكم عليه واجدا لمحذور آخر غير محذور الترجيح بلا مرجح وهو محذور تقديم المحكوم على حاكمه في مقام الأجراء.

وان شئت قلت : ان فرض معارضة الأصل الطولي للأصل العرضي في الطرف الآخر مرجعه إلى فرض معارضة واحدة طرفها من جانب الأصل العرضي الواحد ومن جانب آخر الجامع بين الأصل الحاكم والأصل الطولي المحكوم ومن الواضح ان افتراض جريان الأصل الطولي يستبطن افتراضين ، أحدهما تقديم الجامع على الأصل العرضي في الطرف الآخر وهذا هو الترجيح بلا مرجح ، والآخر تقديم تطبيق هذا الجامع على الأصل الطولي بدلا عن تطبيقه على الأصل الحاكم العرضي وهذا هو محذور تقديم المحكوم على حاكمه ، وهذا يعني ان إجراء الأصل الطولي واجد المحذور مستقل زائد على محذور الترجيح بلا مرجح وبذلك يكون الأصل العرضي في الطرف الآخر مقدما عليه ، ونتيجة ذلك عدم إمكان إيقاع المعارضة بين الأصل الطولي


والأصل العرضي في الطرف الآخر بل تنتهي النوبة إلى الأصل الطولي بعد تساقط العرضيين (١)

__________________

(١) مجرد وجود محذور زائد مستقل في أحد الطرفين المتعارضين لا يكفي لإنجاء الأصل الطولي عن المعارضة إذا لم تفرض الطولية بين المحذورين ، ولهذا نجد وقوع المعارضة بين الأصل الجاري في طرف مشترك مع طرفين آخرين بعلمين إجماليين عرضيين وبين الأصلين الجاريين في كل من الطرفين في عرض واحد.

وان شئت قلت : ان غاية ما يلزم من هذا البيان ان يكون للأصل الطولي في المقام مانعان أحدهما الأصل الحاكم عليه بملاك الحكومة والآخر الأصل العرضي في الطرف الآخر بملاك الترخيص في المخالفة القطعية وحيث لا طولية بين المانعيتين فلا وجه لملاحظة إحداهما قبل الأخرى بالنسبة إلى دليل الأصل ونفي التعارض بينهما ، والا لانتقض بموارد عرضية الأصلين المتعارضين في طرف مع أصل معارض لأحدهما في طرف آخر كما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة معا لتوارد الحالتين فيه سابقا ـ وقلنا بتعارض الاستصحابين في موارد التوارد ـ فانه لا إشكال في وقوع التعارض بين استصحاب الطهارة في ذلك مع كل من استصحاب النجاسة في مورده والأصل المؤمن في الطرف الآخر وتساقطها جميعا مع ان البيان المذكور لو تم لاقتضى إنجاء الأصل المؤمن في الطرف الآخر عن المعارضة لأن استصحاب الطهارة في الطرف الآخر مبتلى بمحذور زائد مستقل به فلا يمكن ان يكون معارضا معه وكون المحذور الآخر المستقل من سنخ محذور الترجيح بلا مرجح أو غيره لا أثر له في إنجاء أحد الأصلين عن المعارضة إذا لم تكن طولية بين المحذورين. ويمكن ان نذكر هنا وجوها أخرى لسلامة الأصل الطولي عن المعارضة :

١ ـ ويتوقف على قبول مقدمتين :

الأولى ـ ان التعارض معناه انتفاء فعلية الحجية في الدليلين مع تمامية مقتضيها لكل منهما أي ان مقتضي الحجية في كل منهما يمنع عن فعليتها في الآخر.

الثانية ـ ان مقتضي الحجية لأحد الدليلين إذا كان متوقفا على تمامية مقتضي الآخر استحال ان يكون ذلك الدليل معارضا معه ، لأن المعارضة بحكم المقدمة الأولى تعني مانعية مقتضي كل من المتعارضين عن فعلية مقتضى الآخر ـ بالفتح ـ فإذا كان أحد المقتضيين في طول الآخر استحال ان يكون مانعا عن تأثيره لأن المانع في عرض المقتضي ويستحيل ان يكون معلولا له والا كان كل من المانع والممنوع معلولا لشيء واحد وهو محال.

ويترتب على المقدمتين في المقام استحالة معارضة الأصل الطولي مع الأصل العرضي في الطرف الآخر ، لأن جريانه في طول عدم فعلية الحجية للأصل الحاكم عليه وعدم فعلية الحجية للأصل الحاكم متوقف على تمامية المقتضي للأصل العرضي في الطرف الاخر فيكون تمامية مقتضي الأصل الطولي متوقفا على تمامية مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر فيستحيل ان يكون مانعا عن تأثيره بحكم المقدمة الثانية ومع عدم التمانع بين المقتضيين يستحيل التعارض بين الأصلين بحكم المقدمة الأولى.

ويمكن تقرير هذا الوجه ببيان آخر ، وهو ان الأصل العرضي في الطرف الآخر يستحيل ان يعارض الأصل الطولي لأن معنى معارضته له مانعية مقتضية عن مقتضي الأصل الطولي مع ان المفروض ان مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر علة وجود المقتضي للأصل الطولي فيكون مقتضيا لمقتضاه أيضا لأن علة في النهاية والعلة يستحيل ان تكون مانعة عن اقتضاء معلولها.

والجواب : منع المقدمة الثانية لأن توقف مقتضي الأصل الطولي على تمامية مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر ليس من باب التوقف على المقتضي بل من باب التوقف على عدم المانع ، لأن مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر يرفع المانع عن الأصل الطولي فلا يلزم من التمانع بين مقتضي الأصل الطولي ومقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر ان يكون شيء واحد علة للمانع والممنوع معا.

٢ ـ وهو مبنى على افتراض مقدمتين أيضا ، الأولى ـ وجود أدلة لفظية على حجية الظهور زائدا على الارتكاز والسيرة ـ ولا يضر


وهذا البيان تام فنيا لتحقيق سلامة الأصل الطولي عن المعارضة ومنه يتضح انه لا موقع للاعتراض في المقام بما عن السيد الأستاذ من ان أدلة اعتبار الأصول انما هي ناظرة إلى الأعمال الخارجية ومتكلفة لبيان أحكامها ومن هنا سميت بالأصول العملية فهي غير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه ففي الظرف الّذي يجري الأصل الطولي يجري الأصل العرضي في الطرف الآخر ويلزم منهما الترخيص في المخالفة القطعية في عرض لزومه من جريان الأصلين العرضيين في الطرفين ، ولا تقاس الأحكام الشرعية على الأحكام العقلية المترتبة على الرتب.

وجه الاندفاع ـ ان المدعى ليس كون الطولية سببا في نجاة الأصل الطولي من المعارضة بملاك افتراض انه انما يجري في مرتبة عقلية متأخرة عن المرتبة العقلية المعدة

__________________

بذلك كون حجية ظهور هذه الأدلة اللفظية من باب حجية الظهور أيضا اما للقطع بعدم الفرق وبينه وبين حجية أصل الظهور المستفاد من تلك الأدلة بالصراحة لا بالظهور أو لعدم المحذور في التمسك بالسيرة لإثبات حجية هذا الظهور.

الثانية ـ ان محذور الترخيص في المخالفة القطعية يكون بمثابة المقيدات المتصلة المانعة عن انعقاد أصل الظهور في أدلة الحجية.

وفي ضوء تمامية هاتين المقدمتين يقال : ان دليل حجية الظهورات اللفظي لا يشمل إطلاق دليل الأصل العرضي في الطرف الآخر ولا إطلاق دليل الأصل الحاكم ـ ولنفرضهما من سنخين ـ لأن حجيتهما معا ترخيص في المخالفة القطعية فلا يشمل شيء منهما وفي طول ذلك لا يبقى مانع من شموله لإطلاق دليل الأصل الطولي لأن انعقاد هذا الإطلاق يكون في طول سقوط حجية إطلاق دليل الأصل الحاكم وحيث ان سقوطه يكون من باب الإجمال الداخليّ فيكون الدليل اللفظي على حجية الظهور شاملا لدليل الأصل الطولي بلامحذور ، لأن شموله له يكون في طول عدم شموله للأصل العرضي في الطرف الآخر ذاتا لا حجية فحسب ليقال ان نسبة العلم الإجمالي إلى الأصول الثلاثة على حد واحد ولو عرفا ومسامحة.

والجواب : اننا إذا قبلنا عدم مساعدة الارتكازات العرفية على سلامة الأصل الطولي كانت الأدلة اللفظية على حجية الظهور محمولة عليها أيضا لأنها إرشادية وليست تأسيسية فلا ينعقد فيها إطلاق لشمول الأصل الطولي.

٣ ـ ان حجية الأصل الطولي لا يمكن ان تكون مصادمة مع حجية الأصل العرضي في الطرف الآخر بحيث يكون رفع اليد عن حجية الأخير باعتبار حجية الأول ، لأنا إذا لاحظنا شمول دليل الحجية لكل من هذين الأصلين وجدنا ان شموله للأصل الطولي في قبال شموله للأصل العرضي في الطرف الآخر معلوم السقوط على كل حال اما لعدم مقتضية ـ فيما إذا لم يكن الأصل العرضي تاما في نفسه ـ أو لوجود المانع ـ لو كان مقتضي الأصل العرضي تاما في نفسه ـ وهناك كبرى عقلية وعقلائية حاصلها : انه كلما دار الأمر في دليل الحجية بين شمولين وإطلاقين له أحدهما ساقط على كل حال بخلاف الآخر لم يكن بينهما تصادم وتمانع بل كان غير معلوم السقوط حجة دون الآخر وبهذا يثبت عدم إمكان المعارضة بين الأصل الطولي والأصل العرضي في الطرف الآخر بمعنى ان رفع اليد عن حجية الأصل العرضي لا يمكن ان يكون من جهة حجية الأصل الطولي فيمكن ان يرجع إليه بعد سقوط الأصل العرضي.

والجواب : ان هذه الكبرى انما تتم فيما إذا كان أحد الإطلاقين والشمولين للدليل معلوم السقوط عن الحجية لا دائرا بين عدم الموضوع ـ أي انتفاؤه ذاتا أو عدم الحجية للمعارضة مع شمول الدليل للآخر كما في المقام بل في مثل ذلك يكون شمول الدليل للأصل العرضي بنفسه محققا لموضوع الأصل الطولي ومعارضا معه في نفس الوقت.


لجريان الأصلين العرضيين ففي تلك المرتبة لا يوجد أصل سواه وفي المرتبة التي تحتوي على الأصلين العرضيين لا ثبوت للأصل الطولي فان سلامة الأصل الطولي لو كانت بهذا البيان لاتجه الجواب بان الأصل حكم الواقع لا حكم الرتبة ، ولكن الأمر ليس كذلك بل المدعى سلامة الأصل الطولي بملاك انه مترتب وجودا على تساقط الأصلين وما هو مترتب على عدم شيء يستحيل ان يعارضه بدون فرق بين الأحكام الشرعية أو العقلية أو الأمور التكوينية الخارجية فان الأمر الخارجي أيضا إذا كان مترتبا اقتضاء على عدم شيء فلا يمكن ان يقع التزاحم بين مقتضية ومقتضي ذلك الشيء ولا يعني ذلك كون الرتبة وعاء للأمر الخارجي فلا بد اذن في مقام الجواب من توضيح ان الأصل الطولي ليس مترتبا على تساقط الأصلين العرضيين ليمتنع تعارضه مع أحدهما كما شرحناه.

نعم يمكن رد هذا البيان الفني وغيره من الوجوه المتقدمة بدعوى ان الارتكازات العرفية التي هي المقياس في تشخيص المعارضة بين إطلاقات دليل الأصل لا تساعد على مثل هذه المداقة ، بل النّظر العرفي الّذي هو المحكم في حجية الظهور وفي تمييزه يرى المعارضة بين إطلاق دليل الأصل في شمول الأصل الطولي وبين إطلاقه في شمول الأصل العرضي في الطرف الآخر ولا يتعامل معهما كما في مجال التزاحم التكويني بين مقتضيين تكوينيين.

لا يقال : إذا لم يكن ذلك عرفيا أو شكك في عرفيته فكيف يمكن إعماله في الأصول اللفظية فانه لا شك في مرجعية العام الفوقاني بعد تعارض الخاصّين وليس ذلك الا ببرهان ان أصالة العموم في العام يستحيل ان تقع طرفا للمعارضة مع المخصص للعام فلا تصل النوبة إليها الا بعد تساقط الخاصّين فحال أصالة العموم حال الأصل الطولي في المقام.

فانه يقال : أصالة العموم في طول سقوط الخاصّ المخالف للعام وهذه الطولية مفهومة عرفا وموجبة لعدم إيقاع المعارضة بينهما ، فنسبة أصالة العموم إلى الخاصّ المخالف نسبة الأصل الطولي إلى الأصل الحاكم عليه ، فلا يقاس ذلك بالطولية المراد تصويرها بين الأصل الطولي والأصل العرضي في الطرف الآخر.

وهكذا يتضح ان الأصل الترخيصي الطولي حتى لو سلم وجوده صغرويا يسقط


أيضا بالمعارضة مع الأصلين العرضيين المتعارضين إذا لم يكونا متسانخين.

وتلخص من مجموع ما تقدم في الصور الثلاث انه في الصورة الأولى يجري الأصل النافي لعدم جريان الأصل النافي في الطرف الآخر في نفسه ، وفي الصورة الثانية يجري الأصل النافي لجريان الأصل الإلزامي الحاكم على الأصل النافي في الطرف الآخر ، وفي الصورة الثالثة الصحيح هو التفصيل بين ما إذا كان في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد فيجري الأصل الترخيصي غير المسانخ بلا معارض وما إذا لم يكن في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد فتتساقط الأصول الترخيصية معا.

وهذه النتائج تامة بناء على مسلك الاقتضاء. واما بناء على مسلك العلية فان بنينا على ما هو الصحيح من ان انحلال العلم الإجمالي انما يكون بجريان الأصل النافي في بعض أطراف العلم خلافا لمبنى أصحاب هذا المسلك أنفسهم فلا يجري الأصل النافي في شيء من الصور الثلاث ، واما إذا بني على ان الانحلال انما يكون بجريان الأصل الإلزامي في بعض الأطراف فقد عرفت بان مدرسة المحقق النائيني ( قده ) أفادت في المقام عدم الفرق وجريان الأصل النافي على هذا المسلك أيضا فلا تبقى ثمرة بين المسلكين.

وقد اتضح بان هذا الكلام غير تام حتى لو سلم مبناه وذلك لظهور الثمرة والفرق في موردين :

المورد الأول ـ في الصورة الثالثة فيما إذا كان في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد ، فانه بناء على مسلك الاقتضاء يجري الأصل الترخيصي بلا معارض بينما لا يجري بناء على العلية لمانعية العلم الإجمالي عن جريانه منفردا أيضا والمفروض عدم وجود أصل إلزاميّ شرعي أو عقلي في الطرف الآخر غير منجزية العلم الإجمالي نفسه.

لا يقال ـ بناء على الاقتضاء أيضا يقع التعارض بين الأصل الترخيصي مع البراءة العقلية في الطرف الآخر بناء على تمامية مقتضيها في أطراف العلم الإجمالي وسقوطها بالمعارضة.

فانه يقال ـ أولا ـ لو سلمنا جريان القاعدة في نفسها في أطراف العلم الإجمالي فمقتضي حرفيتها على ما تقدم إثبات جواز المخالفة الاحتمالية والاكتفاء بالجامع لا جريانها في كل طرف وسقوطها بالمعارضة.


وثانيا ـ لا يعقل فرض التعارض بين الأصل الشرعي مع الأصل العقلي لكونه تعليقيا ، فلو فرض ترخيص الشارع في أحد الطرفين حكم العقل لا محالة بلزوم الاجتناب عن الآخر تجنبا عن المخالفة القطعية لا إيقاع المعارضة والمصادمة مع الأصل الشرعي.

المورد الثاني ـ إذا فرض ان أحد طرفي العلم الإجمالي ليس فيه أصل إلزاميّ ولا ترخيصي ، وذلك فيما إذا فرض ان الشك كان في أصل التكليف وكانت الشبهة وجوبية لا تجري فيها أصالة الحل ولا يجري فيه الاستصحاب النافي أيضا اما للقول بعدم جريانه في الشبهات الحكمية أو لتوارد الحالتين وقيل بان مثل حديث الرفع والحجب لا يشمل في نفسه أطراف العلم الإجمالي فانه حينئذ يجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بناء على مسلك الاقتضاء دون العلية.

وهكذا يتضح ترتب الثمرة العملية بين المسلكين.

٢ ـ الطولية بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يتفق طولية أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة للطرف الثاني ، كما إذا افترض ان وجوب الحج على المستطيع متوقف على عدم وجوب وفاء الدين فعلم إجمالا بوجوب الحج أو الوفاء بالدين ، وكما إذا نذر الحج مثلا فيما إذا لم يجب عليه الوفاء بالدين فيعلم إجمالا بوجوب أحدهما.

وقد وقع البحث في منجزية مثل هذا العلم الإجمالي ، والمعروف عندهم جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين المنقح لموضوع وجوب الحج ، وقد أورد المحقق العراقي ( قده ) هذه المسألة نقضا على مسلك العلية وحاول التخلص منه (١).

تقريب النقض : انه بناء على العلية لا يمكن إجراء الأصل حتى في طرف واحد من أطراف العلم الا بعد انحلال العلم بأصل إلزاميّ في طرف آخر أو جعله بدلا عن الواقع وكلا الأمرين غير حاصل في المقام الا في رتبة متأخرة عن جريان الأصل الترخيصي وهو لا يصح على مسلك العلية.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، الجزء الثالث ، ص ٣١٥.


ثم أجاب عليه بما حاصله : ان وجوب الحج ـ الطرف الطولي ـ إذا كان مترتبا على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعا أو على عدمه ولو ظاهرا فالأصل الترخيصي النافي كما ينفي وجوب الوفاء بالدين وبهذا اللحاظ يكون ترخيصيا كذلك يثبت وجوب الحج وبهذا اللحاظ يكون إلزاميا موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي ينحل بلحاظ المدلول الوجوديّ الإلزامي للأصل فيكون الأخذ بمدلوله الترخيصي ممكنا أيضا. نعم تمتاز الفرضية الثانية في وفاء الأصول غير التنزيلية كأصالة البراءة عن وجوب الوفاء بالدين بذلك أيضا بخلاف الفرضية الأولى حيث يتوقف إحراز موضوع وجوب الحج فيها على جريان أصل تنزيلي كاستصحاب عدم الوجوب.

واما إذا كان وجوب الحج مترتبا على مطلق التأمين والمعذورية عن وجوب الوفاء بالدين فهذا يوجب عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجيز ، لأن العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه في عرض واحد ، وفي المقام يستحيل ذلك لأنه لو تنجز وجوب الوفاء بالدين ارتفع وجوب الحج يقينا فتكون منجزيته مستحيلة.

ولنا في المقام عدة تعليقات :

الأولى ـ ان التمسك أولا بدلالة دليل الأصل على الأثر الوجوديّ الإلزامي وهو وجوب الحج ثم الأخذ بدلالته على الأثر الترخيصي وهو عدم وجوب الوفاء بالدين انما يتم لو سلمنا ان دليل الأصل يتكفل بيان الأمرين بنفسه وهذا في مثل أصالة البراءة ممنوع بالاتفاق وفي الاستصحاب على قول ، فان دليل البراءة لا يتكلف الا نفي الحكم المشكوك ظاهرا واما الأثر الإلزامي المترتب على انتفاء الحكم المشكوك ولو ظاهرا فيترتب بدليله من باب تحقق موضوعه بجريان الأصل وهذا يعني ان الأثر الإلزامي انما يكون في طول ثبوت الأثر الترخيصي في أحد طرفي العلم الإجمالي أولا ، وهو غير ممكن بناء على مسلك العلية فيرد النقض (١).

__________________

(١) يمكن الإجابة عليه حتى لو سلم هذا المبنى بأحد وجهين :.

الأول ـ ما تقدم من ان التنجيز من أحكام عالم الزمان لا الرتب فحتى إذا فرض ان جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين متقدم رتبة على جريان الإلزام في الطرف الآخر الا انه حيث انهما في زمان واحد فلا يكون الأصل الترخيصي مؤمنا عن احتمال تكليف منجز بالعلم الإجمالي إذ في زمان جريانه لا يكون العلم الإجمالي منجزا.

لا يقال ـ يستحيل جعل الترخيص في المقام لأنه متوقف على عدم منجزية العلم الإجمالي بناء على العلية فلو كان سببا وموضوعا لعدم منجزية العلم الإجمالي لزم الدور.


الثانية ـ إذا كان وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب الوفاء بالدين ولو ظاهرا الفرضية الثانية ـ فحينئذ لا تعقل مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بلا حاجة إلى مسألة الانحلال الحكمي بالأثر الإلزامي المترتب على الأصل ، وذلك لأن العلم الإجمالي سوف ينحل انحلالا حقيقيا بمعنى ان ثبوت الترخيص الظاهري عن وجوب الوفاء يقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الحج لتحقق موضوعه وجدانا وحقيقة ومانعية العلم الإجمالي متوقفة على وجوده فإذا كان الترخيص في بعض أطرافه رافعا لوجوده استحال ان يكون مانعا عن جريانه لان ما يتوقف على عدم شيء يستحيل ان يكون مانعا عنه.

وان شئت قلت : ان مانعية العلم الإجمالي عن الترخيص انما كانت لاستلزام الأصل لمحذور عقلي تنجيزي وهو الترخيص في المخالفة وهذا المحذور فرع الحفاظ على العلم الإجمالي فإذا كان الأصل رافعا له فليس هنا لك مخالفة لحكم العقل التنجزي فلا وجه لعدم جريانه.

الثالثة ـ فيما إذا كان وجوب الحج مترتبا على عدم تنجز الدين لا يعقل تحقق العلم الإجمالي بالتكليف لا انه يتحقق ولكنه لا يكون منجزا ، لأنه لو أريد العلم إجمالا بوجوب الوفاء بالدين عليه واقعا أو وجوب الحج فمن الواضح انه يمكن ان لا يكون الوجوبان معا وذلك بان يكون الدين منجزا عليه من دون وجوب واقعي فان التنجيز أعم من الحكم الواقعي كما لا يخفى فلا وجوب وفاء ولا وجوب حج. ولو أريد العلم إجمالا بتنجز أداء الدين عليه أو وجوب الحج ، كان الجواب انه لا معنى للشك في التنجز الا بدوا فبعد التأمل يستقر عنده التنجيز أو التأمين لا محالة كل حسب

__________________

فانه يقال ـ ليس جعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي متوقفا على عدم منجزية العلم الإجمالي في الرتبة السابقة على جريانه ، بل متوقف على عدم منجزيته ولو في طول جريانه بنحو القضية الشرطية الصادقة من أول الأمر ، فالموقوف عليه الترخيص القضية الشرطية اللولائية والموقوف على الترخيص القضية الفعلية فلا دور كيف وجريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف في موارد انحلال العلم الإجمالي بالأصل الإلزامي في الطرف الآخر المسلم عندهم أيضا ليس في طول جريان الأصل الإلزامي بل في عرضه.

الثاني ـ اننا نستكشف من إطلاق دليل الأصل الترخيصي في المقام بضمه إلى دليل الأثر الشرعي في الطرف الآخر جعل الشارع الطرف الآخر بدلا عن الواقع المعلوم بالإجمال تعبدا ، لأن هذا مدلول التزامي لدليل ترتيب ذلك الأثر الشرعي بعد تحقق موضوعه بالأصل فلا يكون من الأصل المثبت.


مبانيه في منجزية العلم أو الاحتمال وعلى كل حال فلا يحصل علم إجمالي بالتكليف بل إذا استقر عنده تنجز وجوب الوفاء بالدين علم تفصيلا بعدم وجوب الحج وإذا استقر عنده عدم تنجز وجوب الوفاء علم تفصيلا بوجوب الحج وفي كلا التقديرين يكون وجوب الوفاء بالدين محتملا (١).

الرابعة ـ لو افترضنا إمكان حصول العلم الإجمالي ، فما ذكره من انه لا يكون منجزا لأنه لا بد وان يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز كل من الطرفين في عرض واحد لا يناسب مسلك العلية وتعلق العلم بالواقع لا الجامع وان تنجيزه لكل من الطرفين انما هو من باب احتمال انطباق الواقع المنجز عليه فانه على هذا المسلك يكون المنجز ابتداء هو الواقع لا الموافقة القطعية ليقال ان نسبتها إلى كل من الطرفين على حد سواء فلو كان الواقع هو وجوب الحج لتنجز بالعلم الإجمالي ومعه يستحيل ان يكون تنجز أحد الطرفين لاحتمال انطباق الواقع عليه رافعا لهذا الحكم المنجز ، لأن هذا بمثابة أخذ عدم منجزية الحكم في موضوعه وهو محال في نفسه فلا بد وان يكون عدم منجزية وجوب الوفاء بالدين المأخوذ في وجوب الحج من سائر النواحي لا من هذه الناحية.

وقد اتضح من مجموع ما تقدم حكم الطولية بين طرفي العلم الإجمالي من جريان الأصل الترخيصي عن الطرف الّذي أخذ عدمه في موضوع الآخر ويثبت بذلك وجوب الآخر واقعا ان كان مترتبا على عدم وجوب الأول ولو ظاهرا أو على عدم تنجزه ، وان كان مترتبا على عدم وجوب الآخر واقعا فإذا كان الأصل الترخيصي تنزيليا كالاستصحاب جرى أيضا وكان حاكما على الأصل الترخيصي في الطرف

__________________

(١) يمكن تصوير العلم الإجمالي إذا توفر امران :.

الأول ـ ان يعلم بأنه على تقدير ثبوت التنجيز يكون الحكم الواقعي ثابتا أيضا أي ان المنجز مصيب للواقع ولو باخبار معصوم بهذه القضية الشرطية.

الثاني ـ ان تكون كبرى المنجزية وحق الطاعة واقعية على حد الأحكام الواقعية الأخرى بحيث تكون ثابتة حتى في حق من لا علم له بها كمن يرى قبح العقاب بلا بيان والا لزم أخذ العلم في موضوع المعلوم وهو محال ـ وهذا هو مختار سيدنا الشهيد ( قده ) على ما تقدم في بحث قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ فانه حينئذ يعقل حصول العلم الإجمالي بوجوب الوفاء بالدين أو وجوب الحج لمن يشك في حق الطاعة أو قبح العقاب بلا بيان ـ كبرويا إذ سوف يعلم بوجوب الوفاء عليه أو وجوب الحج ، إذ لو كانت كبرى حق الطاعة للمولى في موارد الجهل بالوجوب ثابتة في نفس الأمر والواقع فوجوب الوفاء ثابت ـ بحكم الأمر الأول ـ وإن لم يكن حق الطاعة ثابتا كبرويا ولم يكن منجز آخر كان وجوب الحج ثابتا عليه وحيث ان حق الطاعة امر يعقل ثبوته واقعا حتى عند القطع بعدمه فيعقل لا محالة تشكل مثل هذا العلم الإجمالي لمن يشك في كبرى حق الطاعة في الشبهات البدوية.


الآخر لكونه سببيا وذاك مسببي فيثبت وجوب الآخر ظاهرا ، وان لم يكن الأصل تنزيليا كالبراءة عن وجوب الوفاء بالدين وقع التعارض بينه وبين الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لا محالة وكان العلم الإجمالي منجزا.

٣ ـ الشبهة غير المحصورة :

المشهور بين الأصوليين سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز الموافقة القطعية إذا كثرت أطرافه بدرجة كبيرة وسميت بالشبهة غير المحصورة ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية فيها أيضا.

ويجب ان يعلم بان المنظور في المقام عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنها من تأثير في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجزية دون ان نضيف في الحساب نكتة أخرى قد تقارن افتراض كثرة الأطراف كخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو الاضطرار إلى بعض الأطراف أو العسر والحرج أو غير ذلك.

كما انه لا بد من ملاحظة ملاك السقوط عن المنجزية ليحدد على ضوئه المقدار اللازم من كثرة الأطراف لتكون الشبهة غير محصورة والا فليس هذا العنوان موردا لحكم شرعي ليبحث عن تحديد معناه.

وهناك منهجان لتقريب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الشبهة غير المحصورة ، أحدهما دعوى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية والثاني دعوى سقوطه في نفسه وبقطع النّظر عن أدلة الأصول ، فهنا تقريبان :

التقريب الأول ـ دعوى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية ، وذلك باعتبار انه لا محذور في جريانها في الشبهة غير المحصورة لأن الركن الرابع من أركان تنجيز العلم الإجمالي المتقدمة مختل إذ لا يؤدي جريانها إلى الترخيص في المخالفة القطعية عمليا لأننا نفترض كثرة الأطراف بدرجة لا تتيح للمكلف اقتحامها جميعا فتجري الأصول المرخصة بدون محذور.

وقد ناقش في ذلك السيد الأستاذ حلا ونقضا ، اما الحل فلان المحذور عنده انما هو في الترخيص القطعي في المخالفة وهو حاصل في المقام ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة


القطعية لعدم القدرة عليها.

واما النقض ، فبما إذا تعذرت المخالفة القطعية في شبهة محصورة كما إذا لم يكن يمكن للمكلف ان يقتحم الطرفين معا كما إذا علم بحرمة المكث في أحد مكانين فانه لا يلزم من جريان الأصل فيهما الترخيص في المخالفة القطعية مع انه لا يقال بجواز الاقتحام في شيء منها.

والصحيح : ان عدم تيسر المخالفة القطعية إذا أريد جعله بنفسه ملاكا لجريان الأصول الترخيصية اتجه النقض المذكور لأن هذا الملاك موجود في مورد النقض ، ولكن التحقيق ان عدم تيسر المخالفة الناشئ من كثرة الأطراف بالخصوص هو ملاك جريان الأصول لأن محذور الترخيص في المخالفة كان محذورا عقلائيا عندنا كنا نقيد على أساسه إطلاق أدلة الأصول وهو محذور المناقضة مع الغرض اللزومي المعلم والمهتم به عقلائيا في موارد التردد الجزئي ومن الواضح ان هذا الغرض اللزومي إذا كان مرددا بين أطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصية عليه لأن التحفظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصية كثيرة ومعه لا يبقي مانع عن شمول دليل الأصول للأطراف ، وهذا هو البيان النفي للركن الرابع (١).

ومما يؤيد عدم وجود ارتكاز المناقضة إذا كانت الأطراف كثيرة ما عن أبي الجارود ( قال سألت أبا جعفر 7 عن الجبن فقلت أخبرني من رأي انه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ (٢). وليس المراد ما ذكره الشيخ الأعظم ( قده ) من الاستنكار عن تحريم سائر الأشياء لمجرد العلم بحرمة مورد واحد فان هذا مضافا إلى كونه خلاف ظاهر صدر الحديث في ان السائل

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ص ٩١.

(٢) الا أن عدم ارتكاز التناقض الظاهر أنه ليس لمجرد كثرة الأطراف فقط بل مع درجة من تعسر الاقتحام لكل الأطراف بحيث لا يرى ان الترخيص يؤدي إلى تفويت فعلي متوقع فلو فرض مثلا العلم إجمالا للمجتهد بأن أحد فتاواه غير مطابق للواقع لم يجز له الإفتاء بشيء من المسائل الواقعة طرفا لهذه الشبهة رغم كثرتها لأن الإفتاء بها جميعا أمر ميسور وقد يكون دفعيا في بعض الأحيان فمثل هذا العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة الإفتاء شبهة محصورة وان كان بالنسبة إلى العمل في المسائل شبهة غير محصورة فالحاصل : لا بد من تشخيص ملاك عدم ارتكاز المناقضة وهل انه في مجرد كثرة الأطراف أو لا بد ان تكون الكثرة بنحو تستبعد المخالفة القطعية والمسألة بحاجة إلى مزيد تأمل والله العالم.


يرى محذور الميتة في الجبن المشبه خلاف ظاهر ذيله الّذي ورد بقوله : « والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان ».

واما الإشكال الحلي فسوف يأتي البحث عنه في بحوث قادمة بناء على القول بقبح الترخيص في المخالفة القطعية.

التقريب الثاني ـ دعوى سقوط العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة عن المنجزية على أساس ان كل طرف يراد اقتحامه يوجد اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال فيه إذ كلما ازدادت أطراف العلم تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كل طرف حتى تصل إلى درجة يطمئن بخلافها لأن رقم اليقين ينقسم لا محالة على عدد الأطراف ، والاطمئنان حجة ومؤمن عقلائي لم يردع عنه الشارع وبهذا يندفع ما ذكر في المقام من ان العقلاء انما يعملون بهذه الظنون في أغراضهم الدنيوية لا ما إذا كان المحتمل بدرجة كبيرة من الأهمية كالعقاب الأخروي إذ ليس المقصود ان القيمة الاحتمالية للعقاب في اقتحام كل طرف ضئيلة بل المقصود ان احتمال التكليف في كل طرف قيمته الاحتمالية ضعيفة بدرجة يكون على خلافها الاطمئنان وهذا الاطمئنان حجة فيقطع بعدم العقاب.

وقد نوقش في هذا التقريب تارة صغرويا بالمنع عن حصول الاطمئنان ، وأخرى كبرويا بالمنع عن حجيته.

واما من حيث ، الصغرى ، فقد حاول المحقق العراقي ( قده ) ان يبرهن على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو بان الأطراف كلها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق فلو وجدت اطمئنانات فعلية في كل الأطراف كان ذلك مناقضا مع العلم الإجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها لأن السالبة الكلية مناقضة للموجبة الجزئية ، ولو وجد الاطمئنان في بعض الأطراف دون بعض كان ترجيحا بلا مرجح.

والجواب : ان الاطمئنانات المذكورة تتشكل بنحو لا تؤدي إلى الاطمئنان بالسالبة الكلية لتكون مناقضة مع الموجبة الجزئية المعلومة بالإجمال.

وقد تقول : كيف لا تؤدي إلى ذلك مع ان الاطمئنان بوجود ( الف ) والاطمئنان


بوجود ( باء ) يؤديان إلى الاطمئنان بمجموع ( الألف والباء ) ، لأن كل مجموعة من الإحرازات تؤدي لا محالة إلى إحراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

والجواب : أولا ـ بالنقض بالشك في الأطراف أيضا ، إذ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم بالإجمال بعدد أطراف العلم الإجمالي وهذه الاحتمالات والشكوك فعلية بالوجدان ولكنها مع هذا لا تؤدي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة فإذا صح ان يكون كل من ( الف ) و ( باء ) محتملا بالفعل ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( الألف والباء ) فيصح ان يكون كل منهما مطمئنا به ولا يكون المجموع مطمئنا به.

وثانيا ـ بالحل وهو ان القاعدة المذكورة انما تصدق فيما إذا كان كل من الإحرازات يستبطن إضافة إلى إحراز متعلقه فعلا إحراز وجوده على تقدير وجود متعلق الإحراز الآخر على نهج القضية الشرطية أي إحرازا لمطلق وجوده فمن يطمئن بان ( الف ) موجود حتى على تقدير وجود ( باء ) أيضا وان ( باء ) موجود حتى على تقدير وجود ( الف ) فهو يطمئن بوجود المجموع ، وفي المقام الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أي طرف وان كان موجودا فعلا ولكنه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر ، والسبب في ذلك ان هذا الاطمئنان انما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف فتلك الاحتمالات هي الأساس في تكون الاطمئنان ومعه لا مبرر للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ، لأن هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكون الاطمئنان بعدم الانطباق فلا يكون مجموع الإحرازات الاطمئنانية مساوقا مع إحراز مجموع متعلقاتها حتى تتشكل السابقة الكلية.

واما المناقشة من حيث الكبرى فتتجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى ان هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لما كان موجودا في كل طرف فالاطمئنانات تكون متعارضة في الحجية والمعذرية للعلم بان بعضها كاذب ، والتعارض يؤدي إلى


سقوطها عن الحجية لأن حجيتها جميعا غير معقول ، وحجية بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح.

والجواب : حجية بعضها بدلا فان مقتضي البناء العقلائي في المقام ذلك هذا بنحو الإجمال (١) وتفصيل ذلك :

ان العلم الإجمالي بكذب بعض الأدلة انما يؤدي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجية لأحد سببين :

الأول ـ ان يحصل بسبب ذلك التكاذب بين الأدلة فتدل كل واحدة منها بالالتزام على كذب الباقي ولا يمكن التعبد بحجية المتكاذبين.

الثاني ـ ان تؤدي حجيتها ـ ولو لم تكن متكاذبة ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

وكلا الأمرين غير متوفر في المقام.

اما الأول فلان كل اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزامية ، لأننا إذا أخذنا أي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل صدقهما معا فلما ذا يتكاذبان وإذا أخذنا مجموع الاطمئنانات الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا لأن هذه المجموعة لا تؤدي إلى الاطمئنان بمجموع متعلقاتها أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها لما برهنا عليه من ان كل اطمئنانين لا يتضمنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل كما عرفت فلا يثبت بمجموعها طهارة مجموع الباقي المستلزمة لنجاسة هذا الفرد.

واما الثاني ـ فلأنه : أولا : قد عرفت عدم ارتكاز المناقضة عقلائيا بين الترخيص في المخالفة القطعية والتكليف المعلوم بالإجمال إذا كانت الأطراف كثيرة فحال كل واحد من هذه الاطمئنانات حال الأصل الترخيصي.

وثانيا ـ لا يلزم محذور الترخيص في المخالفة القطعية لا بناء العقلاء على حجية

__________________

(١) قد تقدم في بحث حجية الخبر المتواتر من الجزء السابق الإشكال في حجية الاطمئنان الحاصل من مجرد المضعف الكمي فراجع.


الاطمئنان ليس معناه الا ان ما يقابله من الكسر الضئيل ليس منجزا ففيما نحن فيه يكون احتمال النجاسة مثلا الّذي يقابله الاطمئنان ليس بمنجز فالمكلف يجوز اقتحام المخالفة بهذا المقدار وهذا انما يكون فيما إذا أراد اقتحام طرف واحد لا ما إذا أراد اقتحام أطراف عديدة فانه بذلك يواجه احتمالا للنجاسة أكبر قيمة أي لا يقابله اطمئنان بحكم حساب الاحتمالات وكيفية نشوء هذا الاطمئنان كما عرفت.

وهكذا يتضح ان دليل حجية هذه الاطمئنانات لا يقتضي في نفسه أكثر من الحجية البدلية لها لا الحجية التعيينية الشمولية ليلزم الترخيص في المخالفة القطعية.

لا يقال ـ لو فرض ان علمنا الإجمالي كان مقرونا بالشك البدوي بنحو لم يحصل الاطمئنان بالطهارة في كل فرد كما لو كنا نحتمل نجاسة الجميع أيضا احتمالا منافيا للاطمئنان وفرض عدم تعين واقعي للمعلوم بالإجمال كما إذا كان العلم الإجمالي وليد الاحتمالات الثابتة في الأطراف فلا يجدي هذا التقريب لإثبات جواز الاقتحام إذ لا اطمئنان في كل طرف بالطهارة ليتخذ منه مؤمنا عن المعلوم الإجمالي.

فانه يقال ـ العلم الإجمالي انما ينجز التكليف المعلوم بالإجمال فقط لا أكثر فالنجاسات الأخرى المحتملة في كل طرف في نفسها مؤمن عنها من أول الأمر والنجاسة أو الحرمة الواحدة المعلومة بالإجمال بهذا العنوان الإجمالي انطباقه في كل طرف على خلافها اطمئنان مؤمن.

وهكذا يتضح ان هناك منهجين لإثبات سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية إذا كانت أطرافه غير محصورة أحدهما سقوطه بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية والآخر سقوطه بلحاظ حصول الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال في كل طرف ويمتاز المنهج الثاني على الأول بأنه يتم حتى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل ترخيصي كما إذا كان من الشك في المكلف به أو كان دليل الأصل قاصرا عنه لأن التأمين مستند فيه إلى الاطمئنان لا الأصل (١).

ثم انه قد استدل في كلمات المحققين على عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير

__________________

(١) كما يمتاز المنهج الأول بأنه يتم في أكثر من طرف واحد من أطراف الشبهة غير المحصورة بينما لا يتم فيه المنهج الثاني إذ لا اطمئنان على خلاف احتمال انطباق المعلوم الإجمالي فيه ، وكذلك فيما إذا كان احتمال انطباق المعلوم الإجمالي في بعض الأطراف في نفسه كبيرا.


المحصورة بوجوه أخرى لا مأخذ لها.

منها ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية في موارد الشبهة غير المحصورة لعدم إمكان اقتحام تمام الأطراف.

وفيه ـ ما تقدم من ان مجرد عدم القدرة على المخالفة القطعية اتفاقا لا يكفي لجريان الأصل بنحو ينتج الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بحسب مبنى المحقق النائيني ( قده ) فان الفعل القبيح لا يخرج عن كونه قبيحا لمجرد عدم القدرة على تحقيقه.

ومنها ـ الإجماع والتسالم على عدم وجوب الاجتناب عن تمام أطراف الشبهة غير المحصورة.

وفيه ـ ان أصل هذا التسالم وان كان مما يطمئن به الا أنه من المحتمل قويا ان يكون المستند في ذلك أحد الوجهين المذكورين خصوصا وان بعضهم كالشيخ الأنصاري وصاحب الحدائق تعرضوا للشبهة غير المحصورة واستندوا فيها إلى أدلة الأصول الترخيصية. نعم هذا التسالم يكون نعم الدليل على نفي محذور التناقض الارتكازي العقلائي في موارد الشبهة غير المحصورة والّذي كان هو المانع عندنا عن التمسك بإطلاق أدلة الأصول الترخيصية لأن هؤلاء المجمعين هم من أهل العرف والعقلاء.

ومنها ـ التمسك بقاعدة نفي العسر أو الحرج بناء على ما هو الصحيح من إمكان نفي الحكم الّذي ينشأ منه الحرج أو العسر لا مباشرة بل من جهة الاشتباه والاحتياط بها أيضا.

وفيه ـ ان هذا المحذور ليس ملازما مع كثرة الأطراف فقد لا يلزم من الاحتياط عن جميع أطراف علم إجمالي في شبهة غير محصورة أي حرج كما لو علم بنجاسة أحد أواني بلدة لا حرج عليه في عدم السفر إليها وعدم مساورة شيء من أوانيها.

وهذا الجواب يأتي على استدلال الميرزا ( قده ) أيضا فانه ربما لا تكون كثرة الأطراف بدرجة بحيث لا يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ـ وان كان الأمر كذلك غالبا ـ كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد أوان يمكنه ان يساورها جميعا ولو بالتدريج وخلال مدة زمنية وهذا بخلاف الوجهين اللذين استندنا إليهما في إثبات عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

وفي ختام البحث عن الشبهة غير المحصورة تجدر الإشارة إلى عدة أمور :


الأول ـ في جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة وعدمه.

والصحيح : ان هذا يختلف باختلاف مبنى عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة فان كان المبنى مثل الإجماع فهو دليل لبي لا بد من الاقتصار فيه على المتيقن وهو المخالفة الاحتمالية لا القطعية ، وان كان المدرك قاعدة نفي الحرج فالحرج ينتفي بما دون المخالفة القطعية وعلى كلا هذين الفرضين يكون المقام من الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه فيبنى جواز المخالفة القطعية فيه على جوازها في موارد الترخيص شرعا في اقتحام بعض الأطراف لا بعينه. وان كان المأخذ ما ذهب إليه الميرزا ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية فلا موضوع لهذا الفرع ، وان كان المأخذ المنهج الأول الّذي ذهبنا إليه من عدم ارتكاز المناقضة بين المعلوم الإجمالي والترخيص في الأطراف جازت المخالفة القطعية لعدم المحذور في ذلك ، وان كان المدرك المنهج الثاني وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي في كل طرف لو لوحظ وحده فهذا انما يجوز الارتكاب بمقدار يطمئن معه بعدم المخالفة لا أكثر (١).

الثاني ـ في العلم الإجمالي بالوجوب بنحو الشبهة غير المحصورة ، وانه هل يكون كالشبهة التحريمية أم لا؟

ولا ينبغي الإشكال في انه بناء على المدرك الّذي استند إليه الميرزا ( قده ) في عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من عدم القدرة على المخالفة القطعية من الواضح ان هذا المأخذ لا يرد في الشبهة الوجوبية غير المحصورة لأنه يمكن فيها عادة المخالفة القطعية بترك كل الأطراف الميسور للمكلف ، نعم كثرة الأطراف هنا قد تستلزم عدم القدرة على الموافقة القطعية فيكون من موارد الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف لا بعينه كما انه إذا كان المدرك الإجماع أو أدلة نفي الحرج صادر من موارد الترخيص في ترك بعض الأطراف لا بعينه.

__________________

(١) ولكن بعد ارتكاب بعض الأطراف استنادا إلى حجية الاطمئنان قد يزول العلم الإجمالي في باقي الأطراف فيجوز ارتكابها لكونها شبهة بدوية ولا يقال بموارد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو تلفه التي يبقي فيها العلم الإجمالي منجزا بلحاظ الباقي لأن العلم الإجمالي في المقيس عليه باق على حاله ولو بلحاظ الفرد الطويل في الطرف الباقي والفرد القصير في الطرف الخارج عن محل الابتلاء قبل خروجه وهذا علم إجمالي منجز وموجود من أول الأمر بخلاف المقام فان هذا العلم الإجمالي أحد طرفيه وهو ما ارتكبه لم يكن منجزا عليه من أول الأمر لوجود الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على الفرد التقصير بحسب الفرض.


واما على المدرك الّذي استندنا نحن إليه من عدم ارتكاز المناقضة أو الاطمئنان بعدم الانطباق فيجوز ترك كل الأطراف إذ لا فرق في ذلك بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية (١).

الثالث ـ ان المعلوم بالإجمال إذا كان كثيرا في كثير أي علم بتكاليف كثيرة ضمن شبهات وأطراف غير محصورة بنحو كانت نسبة المعلوم بالإجمال إلى الأطراف نسبة التكليف الواحد المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة ، كما إذا علم بنجاسة خمسين إناء من مائة إناء ، فهل يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز في ذلك أيضا أم لا؟

الصحيح ان يقال : بان المنهجين اللذين أثبتنا بهما عدم المنجزية لا يجريان هنا إذ ارتكاز المناقضة مربوط بنسبة الأغراض الإلزامية المعلومة إلى الشبهات فمع تكثرها يرى العرف والعقلاء المناقضة لا محالة ، كما انه لا اطمئنان بعدم التكليف في كل طرف بل قيمة احتمال التكليف في كل طرف هو النصف في المثال المذكور كما هو واضح.

واما بناء على ان المدرك عدم القدرة على المخالفة فإذا فرض في المثال القدرة على المخالفة القطعية ولو بلحاظ بعض تلك التكاليف الكثيرة المعلومة بالإجمال ـ كما إذا أمكنه ارتكاب واحد وخمسين في المثال ـ وجب الاحتياط والا فلا ، كما ان الإجماع لا يعلم ثبوته في المقام إن لم يعلم العدم ، ومسألة العسر والحرج في الاحتياط التام لو فرض وجوده فهو لا يجوز أكثر من الاقتحام بمقدار ينتفي به الحرج لا أكثر.

الرابع ـ إذا شك في ان كثرة الأطراف هل بلغت حدا تجعل الشبهة غير محصورة أم لا ، فبناء على ان المدرك لجواز الاقتحام حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف لا يجوز الاقتحام ، لأنه لا اطمئنان مع هذا الشك بحسب الفرض ، وان كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة فان كان الشك في ان العرف هل يرى المناقضة بهذا المقدار من الكثرة أم لا كان من إجمال المقيد المتصل لدليل الأصل المؤمن وتردده بين

__________________

(١) ولكن يبقى فرق بين المنهجين ، فانه بناء على منهج عدم المناقضة وجريان أدلة الأصول الترخيصية يجوز ترك الأطراف جميعا أي المخالفة القطعية ، بينما على منهج الاطمئنان لا يجوز ذلك لأن حجية الاطمئنانات في كل طرف بدلية لا شمولية ، فكل طرف بعينه وان كان يطمئن بعدم وجوبه بالخصوص فيجوز تركه من هذه الناحية ولكن ترك الجميع فيه قطع بترك الواجب فيكون معاقبا عليه بهذا الاعتبار فيجب الاحتياط إلى حد يطمئن معه بان الباقي ليس بواجب وبهذا تختلف عن الشبهة التحريمية غير المحصورة فتأمل.


الأقل والأكثر فلا يجوز التمسك به فيجب الاحتياط ، وان كان العرف شاكا في ذلك كان معناه عدم ارتكاز المناقضة عندهم في هذه المرتبة من الكثرة فالإطلاق منعقد لأن المانع عنه ارتكاز المناقضة والقطع بها عند العرف فمع افتراض شكهم لا ارتكاز جزما (١).

وان كان المدرك ما إفادة الميرزا ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية فقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) انه على هذا المبنى يدخل المقام في موارد الشك في القدرة ويجب فيه الاحتياط.

وفيه : انه خلط بين الشك في القدرة على امتثال التكليف واقعا والشك في القدرة على المخالفة والعصيان القطعي المانع عن جريان الأصول الترخيصية ، وما هو موضوع لحكم العقل بالاحتياط انما هو الأول وهو غير موجود في المقام وانما المشكوك القدرة على المخالفة القطعية (٢).

والتحقيق ان يقال : بان الشك في ذلك يستلزم الشك في المعارضة بين الأصول الترخيصية في الأطراف من جهة أدائها إلى الترخيص في المخالفة القطعية وعدمه ، ومع الشك في المعارضة قد يقال بان إطلاق دليل الأصل الترخيصي في كل طرف حجة ما لم يقطع بالمعارضة سواء افترضنا محذور قبح الترخيص في المخالفة بمثابة المقيد المتصل بالخطاب الموجب للإجمال أم المنفصل لأن احتمال المعارض ليس كاحتمال المقيد مانعا عن انعقاد الإطلاق إذ الإطلاق يتوقف على عدم وجود ما يصلح للقرينية والبيانية لا الأعم منه ومن المعارض.

ولكن الصحيح : ان المقام من موارد الشبهة المصداقية للمقيد لأن دليل الأصل الترخيصي مقيد لبا ـ بالمتصل أو المنفصل ـ بعدم استلزم المخالفة القطعية لقبحها عقلا أو عقلائيا وهذا هو المراد بالمعارضة بين الأصول في الأطراف لا التكاذب والتعارض ليقال بان الدليل حجة حتى يعلم بمعارضة والشك في المقام في تحقق مصداق المقيد

__________________

(١) يمكن افتراض شك العرف في الارتكاز إذا كان من الأمور التشكيكية على ما سوف يأتي في بحث الشك في الخروج عن محل الابتلاء فيكون احتماله موجبا للإجمال لا محالة لأنه مقيد متصل كما أنه لا بد من فرض إمكان الشبهة الموضوعية لهذا المقيد الارتكازي المتصل ، نعم لو فرض أخذ القطع بالمناقضة في موضوع الارتكاز صغرى وكبرى تم ما ذكر ولا يبعد ذلك على ما سوف يأتي في بحث الخروج عن محل الابتلاء.

(٢) مضافا إلى أن جريان البراءة في كل طرف ليس من أجل التأمين عن التكليف فيه من ناحية احتمال عدم القدرة ليقال بعدم جريان الأصل فيه بل من ناحية الشك في أصل التكليف فيه.


بحسب الحقيقة فلا يجوز التمسك بعموم الدليل فيه الا بناء على جوازه في المخصص اللبي مطلقا أو إذا كان منفصلا.

نعم يمكن للمحقق النائيني ( قده ) ان يقول بان المقيد اللبي لا يخرج من دليل الأصل الا فرض القطع بلزوم المخالفة القطعية ، وذلك بأحد تقريبين :

الأول ـ ما قد يستفاد من ظاهر قوله بان المخالفة القطعية غير مقدورة فهي غير قبيحة انه مع الشك في القدرة ليست المخالفة القطعية حتى إذا صدرت واقعا قبيحة لأن الحسن والقبح العقليين مختصان بفرض الوصول والعلم فمع الشك لا قبح جزما.

الثاني ـ ان المحذور انما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا المحذور لا يتحقق مع الشك في القدرة على المخالفة لأن المكلف لا يرتكبها دفعة بل بارتكاب الأطراف تدريجا وهو بذلك سوف يقطع اما بعدم قدرته على المخالفة فلا محذور أو بقدرته عليها فتسقط الأصول حينذاك في تمام الأطراف ، والحاصل لا يلزم من جريان الأصول الترخيصية في الأطراف مقيدا بفرض الشك وعدم العلم بإمكان المخالفة القطعية الترخيص في المخالفة القطعية إذ لا تتحقق المخالفة القطعية الا بعد زوال الشك في إمكانها ولا يعارض إجراء الأصل في كل طرف بقيد الشك في المخالفة مع الأصل في الطرف الآخر عند عدم الشك والقطع بإمكانها لأن الأصول في فرض القطع بإمكان المخالفة في نفسها متعارضة وساقطة (١).

__________________

(١) لا يقال ـ ان الأصل في كل طرف في فرض القطع بإمكان المخالفة معارض مع الأصل في الطرف الآخر في فرض القطع والشك معا فحال هذا حال دليل يعارض دليلين فيسقط الجميع.

فانه يقال : ان في كل طرف يوجد أصلان أي إطلاقان لدليل الأصل بحسب الحقيقة إطلاقه له بلحاظ حال القطع بإمكان المخالفة وإطلاقه له بلحاظ حال الشك ، والأصول في الأطراف بقيد الشك يمكن اجتماعها معا من دون محذور بخلاف الأصول فيها بقيد القطع بإمكان المخالفة وهذا يعني ان الأصل في كل طرف في فرض القطع وإن كان يعارض أصلين في الطرف الآخر أحدهما الأصل في فرض القطع والآخر الأصل في فرض الشك الا انه لا يمكن ترجيحه عليهما لمحذور يخص مجموعة الأصول في الأطراف في فرض القطع بإمكان المخالفة إذ ترجيح أي منها على معارضيه في الطرف الآخر ليس بأولى من ترجيحه في الطرف الآخر على معارضيه في هذا الطرف حيث لا يمكن الحفاظ عليهما في الطرفين بخلاف الأصل في فرض الشك فانه يمكن الحفاظ عليه في الطرفين ، وهذا يعني وجود محذور يخص الأصول في فرض القطع فلا يمكن ان تعارض مع الأصل في فرض الشك ثم انه يمكن المناقشة في هذا الوجه بأن حصول العلم بإمكان المخالفة القطعية انما يكون بعد ارتكاب بعض أطراف الشبهة وارتفاع موضوع التكليف المعلوم بالإجماع على تقدير ثبوتها ، فيها ، فأن أريد بسقوط الأصول المؤمنة في الباقي على تقدير حصول العلم بإمكان المخالفة القطعية سقوطها بالعلم الإجمالي بثبوت التكليف في الباقي فلا علم كذلك وان أريد سقوطها بالعلم الإجمالي الأول. فالمفروض خروج بعض أطرافه ولا يقاس المقام بموارد خروج بعض الأطراف بعد حصول العلم والتي يبقى فيها تنجيز


٤ ـ انحلال العلم الإجمالي بالعلم الوجداني :

إذا فرض العلم التفصيليّ بالتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي ، أو فرض حصول علم إجمالي بمقدار المعلوم بالإجمال في دائرة أصغر من الأطراف فهل ينحل العلم الإجمالي حقيقة أو حكما على الأقل أو لا؟

والبحث أولا ـ في انحلاله الحقيقي بمعنى زواله وجدانا ، وثانيا في انحلاله الحكمي بمعنى جريان الأصل المؤمن في أطرافه الأخرى ، فالبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في كبرى الانحلال الحقيقي ، ولا إشكال في ان العلم إجمالي متقوم بركنين أساسيين ـ على ما تقدم شرحهما ـ وهما العلم بوجود الجامع وعدم سرايته إلى الفرد أي بقائه عي الجامع بحده الجامعي ، وعلى هذا الأساس لا بد وان يقال بان هناك صورتين خارجتين عن هذا البحث بلا كلام :

إحداهما ـ ما إذا كان العلم بالفرد معينا لنفس المعلوم الإجمالي أي علم بانطباق المعلوم بالإجمال على بعض الأطراف ، كما إذا علم بوجود قطرة دم في أحد الإناءين ثم علمنا بها في أحدهما المعين حينئذ لا إشكال عند أحد في الانحلال وزوال العلم الإجمالي لتشخص متعلقه.

الثانية ـ ان لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ويكون للمعلوم الإجمالي علامة وخصوصية مأخوذة فيه غير محرزة التواجد في الفرد ، كما إذا علم بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين ثم علم بسقوط قطرة من الدم في أحدهما المعين على كل حال ـ سواء علم بأنها قطرة أخرى أو احتمل ذلك ـ فانه في هذه الصورة لا إشكال في عدم انحلال العلم الإجمالي لأن معلومه المتميز لا يزال غير معلوم الانطباق على أحد الطرفين بخصوصه بل نسبته إليهما على حد واحد فيستحيل ان يكون منحلا.

لا يقال ـ ان العلم الإجمالي بسبب التكليف ـ النجاسة ـ وان لم يكن منحلا لا خذ خصوصية فيه لا يحرز انطباقها على الفرد ، الا انه بلحاظ ما هو التكليف وموضوع

__________________

العلم الإجمالي للفرد الباقي في تمام عمود الزمام ، لأن العلم الإجمالي في المقام لم يكن منجزا من أول الأمر لعدم بإمكان المخالفة القطعية من أول الأمر بحسب الفرض.


التنجيز وهو العلم بالنجاسة يكون العلم الإجمالي منحلا ، إذ لا يعلم بوجود تكليفين بل تكليف واحد وهو منطبق في الفرد جزما فالتردد والإجمال في خصوصية لا دخل لها في التنجيز.

فانه يقال ـ ان عدم الانحلال بلحاظ السبب يستوجب عدم الانحلال بلحاظ التكليف أيضا ، لأنه يحصل في التكليف المعلوم بالإجمال خصوصية وعلامة ولو عنوان نشوئها عن ذلك السبب الخاصّ وهذا حد وخصوصية في المعلوم الإجمالي ، وتكون نسبتها إلى الطرفين على حد واحد فيستحيل الانحلال بلحاظ ما هو موضوع الأثر والتنجيز أيضا.

وان شئت قلت : ان تلك الحصة المتولدة من ذلك السبب ـ بنحو الحصة التوأم المعقولة في باب الوجودات التصديقية وان لم تكن معقولة في باب المفاهيم ـ معلومة إجمالا ونسبتها إلى الطرفين على حد واحد وهي موضوع للأثر والتنجيز.

فالبحث والكلام في صورة ثالثة وهي ما إذا لم يكن العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ولم يكن للمعلوم الإجمالي علامة فارقة وخصوصية مأخوذة فيه غير محرزة الانطباق على الفرد ، كما إذا علم بموت زيد أو عمرو بلا خصوصية ثم علم بموت زيد بالخصوص ، أو علم بنجاسة أحد الإناءين ثم علم بنجاسة الإناء الأحمر تفصيلا ، وهذا انما يعقل عادة فيما إذا كان سبب العلم الإجمالي ـ سواء كان برهانا عقليا أو دليلا استقرائيا ـ نسبته إلى الطرفين على حد واحد ، ومثاله ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين اللذين يملكهما الكافر لاستبعاد انه لا يساور شيئا منهما زمنا طويلا ثم علم بمساورته لأحدهما بالخصوص ونجاسته فهل ينحل هذا العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ حقيقة أم لا؟ ذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى الانحلال ، وأنكر ذلك المحقق العراقي ( قده ).

وحاصل ما يقال في تقريب الانحلال أحد وجوه :

الوجه الأول ـ قياس المقام بباب الأقل والأكثر الاستقلاليين وجعله من موارده كما إذا علم بوجوب قضاء صوم يوم واحد من رمضان وشك في وجوب قضاء يوم آخر منه ، ولا ريب في انحلال العلم وزواله فيه إذ يدور الأمر بين نجاسة إناء واحد ـ وهو المعلوم تفصيلا ـ أو نجاسة إناءين ولا إشكال في ان الإناء الواحد المعين معلوم النجاسة


تفصيلا ويشك في نجاسة الثاني زائدا عليه.

وفيه : ان موارد الأقل والأكثر لا يوجد فيها من أول الأمر الا علم واحد لا علمان بخلاف المقام الّذي كان يوجد فيه علم إجمالي تام الأركان من أول الأمر ، ولهذا نجد انه في باب الأقل والأكثر لو شك في وجوب صوم يوم واحد زال العلم أيضا بينما في المقام لا يزول العلم ولو شك في نجاسة الإناء الأحمر ، فلانحلال في باب الأقل والأكثر سالبة بانتفاء الموضوع.

الوجه الثاني ـ ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان العلم الإجمالي له ركنان علم بالجامع واحتمالات الانطباق بعدد الأطراف ، ومع العلم التفصيليّ ينهدم الركن الثاني إذ يتبدل احتمال الانطباق فيه بالعلم بالانطباق.

وهذا الوجه لا بد من تمحيصه وتعميقه وحاصله : ان الركنين المذكورين يرجعان بحسب الحقيقة إلى نكتة واحدة هي ان العلم الإجمالي علم بالجامع بحده الجامعي أي بشرط لا عن السريان إلى الحد الشخصي وبهذا يفترق عن العلم بالجامع ضمن الفرد المحفوظ في العلم التفصيليّ أيضا ولكن لا بحده ، وكون العلم واقفا على الجامع بحده الجامعي هو الّذي يستلزم ما ذكر من احتمالات الانطباق وإذا تعلق العلم تفصيلا بأحد الأطراف فقد زاد المنكشف فلا محالة يزيد الانكشاف ويسري إلى الفرد ، لأنه انما توقف الانكشاف على الجامع لنقض في المنكشف فباكتمال هذا النقض يكتمل العلم لا محالة فلا يبقي الانكشاف على الجامع بحده الجامعي وهو معنى الانحلال.

ولكن هذا البرهان على الانحلال يتوقف على ان نثبت ان متعلق العلم الإجمالي أي الجامع بحده بما هو معلوم متحد مع الفرد أي يكون عاريا عن أخذ خصوصية فيه محتملة الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا والا لم ينحل العلم الإجمالي بل بقي على معروضه وهو ذلك الجامع المأخوذ فيه خصوصية محتملة الانطباق على كل من الطرفين ، فلا بد من استئناف برهان على نفي أخذ خصوصية كذلك في متعلق العلم الإجمالي ، وهذا ما لم يتكفله هذا الوجه وسوف يأتي الحديث عنه مفصلا.

الوجه الثالث ـ ان العلم الإجمالي بعد ان تعلق بالجامع وعلم انطباق الجامع على الطرف المعلوم تفصيلا فلا محالة يستحيل بقاء العلم الإجمالي مع العلم التفصيليّ إذ يلزم منهما اجتماع المثلين على موضوع واحد ، لأن العلم التفصيليّ متعلق بالجامع ضمن


الفرد المعين ـ الجامع بشرط شيء ـ فلو بقي العلم الإجمالي المتعلق بالجامع المنطبق على هذا الفرد أيضا لزم ان يكون الجامع في هذا الفرد مطبقا لعلمين ومعرضا لعرضين متماثلين وهو مستحيل.

وفيه : أولا ـ اننا إذا أثبتنا وحدة متعلق العلم الإجمالي بحده بما هو معلوم مع الفرد انحل العلم الإجمالي وسرى إلى الفرد بالبرهان المتقدم حتى إذا قلنا بإمكان اجتماع المثلين على معروض واحد ، وان فرض ان الجامع المعلوم كان متخصصا بخصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا فلا إشكال حينئذ في وجود العلمين معا لأن كان الطرفين يسلم عدم الانحلال إذا كان متعلق العلم الإجمالي قد أخذ فيه خصوصية زائدة لا يعلم بها في الفرد ، فما يجاب به عن شبهة اجتماع المثلين هناك يجاب به هنا أيضا.

وثانيا ـ ان العلم الإجمالي لو قطعنا النّظر عن البرهان الّذي تقدم منا لانحلاله وافترضنا عدم موجب لسريانه إلى الفرد متعلقه الجامع بحده الجامعي وهو غير الفرد الّذي هو متعلق العلم التفصيليّ ، وبعبارة أخرى : معروض العلم الإجمالي هو الجامع بشرط لا عن الخصوصية بينما معروض العلم التفصيليّ هو الجامع بشرط الخصوصية واحدهما غير الآخر بحسب عالم الذهن والمعروض بالذات الّذي هو عالم عروض العلم فحال هذا حال الكلية التي تعرض على الجامع بحده الجامعي رغم ان الجامع موجود ضمن الفرد ولكن لا بحده الجامعي ولهذا لا توصف الافراد بالكلية ، اذن فالمعروض بالذات الّذي هو المعروض الحقيقي للعلم متعدد وان كان المعروض بالعرض في الخارج واحدا.

الوجه الرابع ـ ان العلم الإجمالي له لازم وهذا اللازم غير موجود في المقام فنستكشف من عدم وجوده عدم وجود الملزوم ، واللازم هو صدق قضية منفصلة هي ان المعلوم الإجمالي إن كان في هذا الطرف فليس موجودا في الطرف الآخر وان كان في ذاك الطرف فليس في هذا الطرف ، فالإناء الأحمر إن كان هو النجس المعلوم بالإجمال مثلا لم يكن الإناء الأسود نجسا وان كان الإناء الأسود هو النجس المعلوم لم يكن الإناء الأحمر نجسا ، وهذه القضية المنفصلة التي هي من لوازم العلم الإجمالي كما صرح بذلك المحقق العراقي ( قده ) نفسه ـ لا تصدق بعد العلم التفصيليّ بنجاسة


الإناء الأحمر تفصيلا إذ سوف يكون نجسا سواء كان الإناء الآخر نجسا أم لا.

وفيه : ليس مقصود المحقق العراقي ان الجامع لو وجد في هذا الطرف فهو معدوم في الطرف الآخر ، كيف وقد يكون كلا الطرفين نجسا واقعا ، وانما المقصود ان المعلوم بالعلم الإجمالي والمنكشف به يستحيل ان يكون أكثر من واحد بنحو مفاد النكرة لا اسم الجنس فنشير إلى ذلك الواحد المعلوم بما هو معلوم ونقول انه إذا كان في هذا الطرف فليس في الطرف الآخر وبالعكس وهذا صحيح في المقام الا ان انطباقه موقوف على تحقيق تلك النكتة التي أشرنا إليها من ان المعلوم الإجمالي إذا كان فيه خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا أمكن إيجاد القضية المنفصلة هذه والا لم يمكن ذلك وكان ذلك الجامع المعلوم إجمالا معلوم الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا فينحل العلم الإجمالي بالبرهان المتقدم ، فملاك الانحلال ونكتته يتخلص في تحقيق هذه النقطة الجوهرية وهي انه هل توجد للمعلوم الإجمالي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق في الفرد أم لا فيكون المعلوم الإجمالي بحده المعلوم به مقطوع الانطباق على الفرد.

والوجوه المتقدمة لم تتصد للبرهنة على هذه النقطة الجوهرية ، وفي قبال تلك الوجوه وجوه وتقريبات لعدم الانحلال يمكن اقتناصها من كلمات مدرسة المحقق العراقي ( قده ) لا بأس بالتعرض إليها قبل تحقيق الفذلكة الحقيقة للانحلال.

الوجه الأول ـ دعوى الوجدان وانه شاهد بوجود علمين ، والغريب ان كلا الطرفين استند في إثبات مدعاه إلى دعوى الوجدان.

والصحيح على ما يأتي هو التفصيل ، فالوجدان في مورد يقتضي البرهان الانحلال شاهد على الانحلال ، والوجدان في مورد يقتضي البرهان عدم الانحلال شاهد على عدم الانحلال على ما سوف يظهر.

الوجه الثاني ـ اننا نثبت بقاء العلم الإجمالي بإثبات لازمه وهو احتمال انطباق الجامع المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلا ، فان هذا الاحتمال موجود وجدانا وهو دليل عدم الانحلال إذ مع الانحلال يستحيل هذا الاحتمال فالركن الثاني للعلم الإجمالي موجود.

وفيه ـ ان مجرد احتمال انطباق الجامع لا يكفي بل لا بد من إثبات اتحاد حده بما هو


معلوم وحده بما هو محتمل الانطباق ، وهذا انما يكون إذا لم يكن المعلوم بالإجمال عاريا عن خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل والا لانتقض بالعلم التفصيليّ فانه أيضا علم بالجامع ضمنا فلو علم بوجود زيد في المسجد واحتمل وجود جامع الإنسان ضمن عمرو أيضا كان الجامع محتمل الانطباق على عمرو والجامع معلوم الوجود في المسجد مع وضوح انه لا يتشكل علم إجمالي ، والنكتة في ذلك اختلاف الحدود فان ما يحتمل الانطباق على عمرو الجامع بحده الجامعي وبهذا الحد الجامعي ليس معروضا للعلم وما هو معروض للعلم الجامع ضمن الخصوصية وبهذا الحد ليس محتمل الانطباق على عمرو.

وهكذا يتضح ان مجرد احتمال انطباق الجامع لا يكفي لإثبات عدم الانحلال بل لا بد من البرهنة على احتمال انطباق حد الجامع بما هو معلوم ، وهذا يتوقف على إثبات ان للمعلوم الإجمالي حدا وخصوصية محتملة الانطباق على الطرف الآخر أي محتملة الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا ، فهذه النقطة هي فذلكة الموقف كما أشرنا.

الوجه الثالث ـ لا إشكال في الانحلال في مورد يكون العلم فيه بالفرد معينا للمعلوم بالإجمال ، كما لو علمنا إجمالا بموت ابن زيد المردد بين خالد وبكر ثم علم تفصيلا بان ابن زيد هو بكر فهنا ينحل العلم الإجمالي بلا إشكال كما ذكرنا في مستهل البحث ، فلو قلنا بالانحلال في المقام الّذي ليس العلم التفصيليّ فيه ناظرا إلى تعيين المعلوم بالإجمال كما إذا علمنا بموت زيد أو بكر ثم علمنا بموت بكر لزم عدم الفرق بينهما مع ان الأثر الوجداني مختلف والحالة النفسيّة متفاوتة كما يشهد به الوجدان السليم فنستكشف من ذلك عدم الانحلال.

وجوابه : ان هذا الفرق الوجداني بين الحالتين صحيح الا ان ذلك ليس على أساس الانحلال في الأول وعدم الانحلال في الثاني بل تفسير هذا الفرق انه في الأول يكون المعلوم بالإجمال له تعين واقعي والعلم التفصيليّ باعتباره يعين ذلك المعلوم بالإجمال يكون له منطوق ومفهوم إثباتا ونفيا أي يدل على ان ابن زيد هو بكر وعلى ان خالد ليس هو ابن زيد فهو علم بالانطباق في هذا الطرف وعدم الانطباق في الطرف الآخر ، واما في المقام فحيث ان العلم التفصيليّ لم يكن في مقام تعيين المعلوم الإجمالي


لعدم تعين واقعي وعلامة مخصصة له فليس له مفهوم بلحاظ المعلوم بالإجمال بل مجرد منطوق أي يزول احتمال الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا بتبدله بالعلم بالانطباق والسريان إلى الفرد بالبرهان المتقدم مع بقاء احتمال الجامع في الطرف الآخر ولكنه بحده الجامعي الّذي خرج عن كونه معروضا للعلم الإجمالي بعد الانحلال لازدياد الانكشاف والعلم بالجامع المحدود بحد الفرد ، وهذا من قبيل ان يخبرك المعصوم بوجود الجامع بين الإنسان الطويل والقصير في المسجد ثم يخبرك إضافة إلى وجود جامع الإنسان بوجود الإنسان الطويل فيه فيزداد علمك من مجرد العلم بالجامع إلى العلم بوجود الإنسان الطويل وان كان وجود الفرد القصير محتملا أيضا.

وهكذا ننتهي إلى النقطة المركزية من هذا البحث والتي يرتبط انحلال العلم الإجمالي وعدمه بتحقيقها ، وهي ان المعلوم بالإجمال هل يكون له حد وخصوصية محتمل الآباء عن الانطباق في الطرف المعلوم تفصيلا أم لا ، فان ثبت بالبرهان وجود حد كذلك لم يجد البرهان المتقدم ، في الوجه الثاني لإثبات الانحلال ، وان ثبت عدم وجوده حصل الانحلال بالبرهان المتقدم ، فلا بد من تحقيق حال ذلك فنقول :

قد يقال ـ بإمكان أخذ خصوصية في متعلق العلم الإجمالي محتمل الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم من ناحية نفس العلم الإجمالي فيقال بان المعلوم هو الجامع المقيد بوصف العلم الإجمالي أي بما هو معلوم الإجمالي ، وهو بما هو معلوم إجمالي محتمل الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا.

ولكن هذا البيان غير صحيح لأن الكلام في متعلق العلم الإجمالي ووجود خصوصية مأخوذة فيه في المرتبة السابقة على تعلق العلم وعروضه بحيث ان العلم يتعلق بجامع متخصص بتلك الخصوصية لئلا يسري. فلو أريد إثباتها بنفس العلم وفي طوله لزم الدور ، لأن ثبوت العلم الإجمالي متوقف على ثبوت الخصوصية في معروضه فانتزاعها بلحاظ نفس العلم وتعلقه يعني توقفه على نفسه أو تعلقه بنفسه وهو محال.

وقد يقال : بان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع بلا خصوصية وتعين الا انه متعلق بالجامع بما هو مفروغ عن وجوده لا بما هو جامع تصوري كما هو الحال في الجامع الّذي يتعلق به الأمر والنهي ، فلو علمنا بنجاسة أحد الإناءين كان معناه العلم بجامع للنجاسة مفروغ عن تحققه ووجوده في الخارج بحيث نستطيع ان نشير إليه إجمالا ،


وعليه فلو لاحظنا نفس الجامع بقطع النّظر عن المفروغية عن وجوده فهذا الجامع غير آب عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ على حد انطباق كل جامع على مصداقه ، واما إذا لاحظنا هذا الجامع بما هو مفروغ عن وجود فذلك الوجود المفروغ عنه والمشار إليه بتوسط هذا الجامع خصوصية وحد لا يجزم بانطباقه على المعلوم التفصيليّ إذ لا يعلم انه هو المعلوم التفصيليّ أو غيره فهي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ.

والجواب ـ ان خصوصية الوجود المفروغ عنه لا يكون داخلا تحت العلم الا بمقدار معرفية الجامع لا أكثر فإذا كان الجامع منطبقا على الفرد المعلوم تفصيلا تماما انحل العلم الإجمالي بالبرهان المتقدم لعدم وجود خصوصية في معلومه محتملة الآباء عن الانطباق عليه (١).

__________________

(١) الظاهر ابتناء المسألة على تحقيق ان الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ هل يكون بالإجمال والتفصيل في الصورة العلمية كما تقوله مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، أو بالإجمال والتفصيل في الإشارة التي بها قوام العلم التصديقي كما يقوله المحقق العراقي ( قده ) ، وقد تقدم شرح كل من المسكين مفصلا في بحوث القطع.

فعلى الأول صح ان يقال بان العلم بالجامع إذا لم تكن له خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق بعد ان ينضم إليه العلم بالخصوصية يصبح المعلوم والمنكشف تفصيليا فينحل العلم الإجمالي لتبدل الإجمال في الصورة الذهنية إلى التفصيل لا محالة ، وهذا هو البرهان المتقدم في الوجه الثاني من تقريبات الانحلال.

واما بناء على التفسير الثاني العلم الّذي نبه عليه المحقق العراقي وقد أوضحنا المعنى الصحيح له فيما سبق فانحلال العلم الإجمالي لا يكون الا بزوال الإشارة الذهنية المرددة التي هي حقيقة العلم الإجمالي بحسب الفرض ، وزوال الإشارة لا يكون بمجرد حصول العلم التفصيليّ الّذي يعني إمكان الإشارة بالمفهوم التفصيليّ إلى الفرد الخارجي طالما يحتمل ان يكون المشار إليه متعددا إذ لا يكون العلم التفصيليّ ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي.

لا يقال ـ مع حصول الإشارة التفصيلية المعينة يزول التردد في الإشارة الذهنية أيضا الا إذا كان المشار إليه قد أخذت فيه خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق ، واما إذا كان المعلوم الإجمالي منطبقا تماما على المعلوم التفصيليّ فمع الإشارة به إلى الخارج تستوعب الإشارة الإجمالية بحيث لا تبقى إشارة أخرى الا الإشارة الضمنية بالجامع المتوفرة في سائر موارد العلم التفصيليّ أيضا.

فانه يقال ـ أولا ـ يشهد الوجدان بالفرق بين العلم التفصيليّ بالفرد من أول الأمر مع الشك البدوي في وجود فرد آخر للجامع وبين العلم إجمالا بأحدهما والعلم تفصيلا بالفرد بلا تعيين المعلوم الإجمالي من حيث ان من له العلم الإجمالي يحتمل ان يكون معلومه الإجمالي ضمن الفرد الآخر وهذا يلازم بقاء العلم وعدم انحلاله وليس هذا من باب احتمال ان يكون معلومه السابق ـ الّذي قد انحل بالفعل ـ في ذاك الطرف لوجدانية ان ذلك المعلوم لم يظهر خطأه والمفروض انه لم يتعين في هذا الطرف فمجموع هذين الأمرين خير منبه وجداني إلى ان العلم الإجمالي والإشارة الإجمالية لا يزال موجودا في عالم النّفس.

وثانيا ـ لا ينبغي الإشكال في عدم الانحلال فيما إذا كان للمعلوم الإجمالي خصوصية ولو من ناحية سبب حصول العلم كما إذا أخبرك المعصوم بموت أحدهما ( زيد أو عمرو ) وعلمت خارجا بموت زيد فان العلم الإجمالي بموت من أخبرك المعصوم باق على حاله مع انه لا يمكن ان تكون هذه الخصوصية المنتزعة من سبب حصول العلم مأخوذة في المعلوم الإجمالي ـ كما تقدم ذلك في أخذ


والتحقيق ان يقال بالتفصيل بين ما إذا كان سبب حصول العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حد سواء فيتم الانحلال ، وما إذا لم يكن كذلك فلا يتم الانحلال.

وتوضيح ذلك ـ انه تارة يكون سبب حصول العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف ليس على حد واحد أي له نسبة مع طرف واقعي بالخصوص ولكنه مجمل لدى الإنسان وغير معلوم كما إذا علم بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين فهو يعلم بنجاسة أحدهما بتلك القطرة من الدم ثم علم تفصيلا بقطرة في أحدهما بالخصوص ولكنه يحتمل انها قطرة أخرى غير تلك القطرة. وهنا لا ينبغي الإشكال في عدم الانحلال لأن المعلوم الإجمالي يكون مقيدا بحد وخصوصية محتمل الآباء عن الانطباق وتلك الخصوصية هي السبب الخاصّ للمعلوم الإجمالي.

وأخرى يفرض ان سبب العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حد واحد سواء كان برهانيا أو استقرائيا ، مثال الأول ما إذا افترضنا دعوى شخصين في زمن واحد للنبوة وقام البرهان في علم الكلام مثلا على استحالة اجتماع نبيين في زمن واحد ولأمة واحدة فانه سوف يعلم إجمالا بكذب أحدهما ، لأن المحتملات عقلا أربعة صدقهما معا وكذبهما معا وصدق هذا وكذب ذاك وبالعكس ، وبقيام البرهان على عدم اجتماع نبوتين تبطل الصورة الأولى ويتردد الأمر بين الصور الثلاث التي بينها جامع مشترك وهو كذب أحدهما فلو علم بعد ذلك بان أحدهما يشرب الخمر مثلا فلا يمكن ان يكون نبيا فهو كاذب على كل حال انحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بكذبه وشك بدوي في كذب الآخر.

ومثال الثاني ما تقدم ذكره من مساورة الكافر لأحد إنائيه على الأقل بحساب

__________________

نفس العلم الإجمالي قيدا في معلومه ـ كما لا يمكن أخذ واقع من أخبر به المعصوم بنحو الحصة التوأم قيدا في المعلوم لأنا نفترض ان المعصوم لم يخبر الا بالجامع لا انه أخبر بأحدهما بالخصوص بل هذه خصوصية لنفس الإشارة الذهنية بالعلم الإجمالي وباعتبارها واضحة التغاير مع الإشارة المستبطنة في العلم التفصيليّ أصبح عدم الانحلال واضحا فيه ، وهذا بنفسه موجود في المقام. فان المعلوم الإجمالي لا يزال مشارا إليه إجمالا حتى بعد حصول العلم التفصيليّ غاية الأمر لعدم وجود ميز للإشارة ولو من ناحية سبب حصولها كأنه يرى ان العلم الإجمالي قد زال وانحل بحصول ما هو أعلى منه انكشافا وهو العلم التفصيليّ والإشارة التعيينية إلى الخارج مع انه لا يمكن ان يزول العلم الإجمالي حقيقة بعد حصوله الا بأن يزول سببه أو يتعين معلومه الإجمالي ، فالصحيح ما عليه المحقق العراقي ( قده ) من عدم الانحلال الحقيقي في أمثال المقام.


الاحتمالات طيلة فترة طويلة مثلا ثم العلم تفصيلا بمساورته لأحدهما بالخصوص. وفي هذا الفرض يمكن إثبات الانحلال بأحد تقريبين :

الأول ـ ان نسبة سبب العلم الإجمالي إلى أطرافه حيث تكون واحدة اذن فلا خصوصية في المعلوم بالإجمال عدا الجامع بين الأطراف وهو معلوم الانطباق جزما على الطرف التفصيليّ فيتحقق الانحلال على الأساس المتقدم من انه كلما لم يكن في المعلوم الإجمالي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق انحل العلم الإجمالي لا محالة.

وهذا البيان يمكن المناقشة فيه بان المعلوم الإجمالي هنا وان لم يكن له قيد وحد خارجي يجعله محتمل الآباء عن الانطباق ولكن يكون له قيد وحد ذهني وهو ان معلومنا الإجمالي هنا مطلق من ناحية صدق المعلوم التفصيليّ أو كذبه بخلاف المعلوم التفصيليّ فانه مشروط بتقدير صدق سببه فالعلم بمساورة الكافر للإناء نتيجة رؤيته مشروط بصحة إحساسي ورؤيتي لذلك رغم فعليته ، فان فعلية الجزاء بتحقق شرطه لا تنافي التعليق والشرطية ، فعلمي بأنه قد ساور الإناء الأحمر بالخصوص ليس علما بالنجاسة على كل تقدير بل على تقدير صحة إحساسي بمساورته (١) ، وهذا بخلاف معلومي الإجمالي فانه مطلق ثابت حتى على تقدير كذب الإحساس بالمساورة لأنني أستطيع ان أشكل قضية شرطية وأقول بان أحد الإناءين نجس حتى إذا كان علمي بمساورته للإناء الأحمر خطأ ، اذن فهناك حد إطلاقي للمعلوم الإجمالي وهذا الحد وان كان ذهنيا وبلحاظ المعلوم بالذات لا خارجيا وبلحاظ المعلوم بالعرض ولكنه يجعل للمعلوم بالإجمال خصوصية بها يكون محتمل الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا.

الثاني ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي في هذه الموارد انما يكون باعتبار زوال سبب العلم الإجمالي ، لأنه كان عبارة عن استواء نسبة الأطراف إليه فتعيينه في أحدها دون الباقي كان ترجيحا بلا مرجح فكان العلم إجماليا وهذا ينتفي لا محالة إذ

__________________

(١) الا أن هذا التقدير والشرطية ليس مأخوذا في متعلق العلم بل تقدير لحصول نفس العلم فبعد حصوله يكون متعلقه مطلقا كالعلم الإجمالي والمفروض ان خصوصية سبب العلم لا تؤخذ في متعلقه نعم لو أريد من الحد الذهني خصوصية الإشارية المقدمة للعلم حسب التفسير المتقدم كان هذا خير منبه على عدم انحلال العلم الإجمالي.


يكون الطرف المعلوم تفصيلا فيه مرجح بالخصوص ، فقد اختل برهان الترجيح بلا مرجح مع وجود العلم التفصيليّ في بعض الأطراف وأصبح المعلوم الإجمالي تفصيليا ومتعينا فيه (١).

المقام الثاني ـ في انحلاله الحكمي فيما لو فرض عدم تحقق الانحلال الحقيقي ، وهو يعني جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف بلا محذور.

وتقريبه : ان الأصل الترخيصي في الطرف الّذي لا علم به تفصيلا أو خارج عن دائرة العلم الإجمالي الصغير يجري بلا معارض ، لأن الطرف الآخر لا موضوع للأصل فيه ، وهذا يعني انهدام الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي المتقدم شرحها.

الا ان هذا الانحلال الحكمي بناء على مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي واضح ، واما بناء على مسلك العلية فحيث يقال بان العلم الإجمالي ينجز الواقع ابتداء لا من باب تعارض الأصول الشرعية أو العقلية في الأطراف فلا يجري الأصل حتى في الطرف الواحد لاحتمال الانطباق المعلوم بالإجمال المنجز عليه.

ومن هنا حاول أصحاب مسلك العلية إثبات الانحلال الحكمي في المقام بإبراز قصور في العلم الإجمالي عن التنجيز بعد ان تنجيز أحد طرفية بمنجز تفصيلي بدعوى ان العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير أي سواء كان في هذا الطرف أو ذاك فإذا كان أحد طرفيه منجزا بمنجز آخر كالعلم التفصيليّ لم يتمكن العلم الإجمالي ان ينجز معلومه في ذلك الطرف لأن المتنجز لا يتنجز مرة أخرى وعليه فلا يكون العلم الإجمالي منجزا في المقام فيجري الأصل الترخيصي العقلي أو الشرعي عن الطرف الآخر بلا محذور.

وهذا الاستدلال يشتمل على مقدمتين كلتاهما مما لا يمكن المساعدة عليه :

الأولى ـ ان العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير أي

__________________

(١) إذا أريد ان استحالة الترجيح بلا مرجح سبب للإجمال فمع العلم التفصيليّ لا منشأ لبقاء الإجمال فهذا رجوع إلى التقريب السابق بحسب الحقيقة ، إذ معناه ان المعلوم بالإجمال هو الجامع وهو منطبق على الفرد المعلوم تفصيلا ، وإن أريد ان استحالة الترجيح بلا مرجح سبب لنفس العلم الإجمالي ، فمن الواضح ان سبب حصول العلم ليس ذلك بل برهان استحالة اجتماع النبوتين أو حساب الاحتمالات التي تنفي احتمال طهارة الإناءين معا ، وكلا الأمرين باقيان حتى بعد حصول سبب العلم التفصيليّ بل ما تقدم في جواب التقريب السابق من ثبوت حد الإطلاق الذهني للعلم الإجمالي بنفسه برهان على عدم زوال سبب العلم الإجمالي حتى بعد حصول العلم التفصيليّ.


سواء كان في هذا الطرف أو ذاك.

الثانية ـ ان المتنجز بمنجز آخر لا يمكن ان يتنجز بالعلم الإجمالي.

والمقدمة الأولى قد تقدم في بحث سابق انه لا يناسب مسلك العلية القائل بتنجز الواقع بالعلم الإجمالي وان كل طرف من أطراف العلم انما يتنجز ولا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان لكونه من موارد احتمال التكليف المنجز وانما يناسب مع مسلك اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية التي نسبتها إلى الطرفين على حد واحد فيقال بأنه إذا لم يجب الموافقة القطعية بالعلم الإجمالي فهو لا يوجب الموافقة في أحد الطرفين بخصوصه.

والمقدمة الثانية يرد عليها :

أولا ـ ان هذا النهج من الاستدلالات في المسائل الأصولية والفقهية التي هي أمور ترتبط بالاعتبارات الشرعية أو بمدركات العقل العملي في نفسه غير سديد ، إذ ليس باب التنجيز باب الآثار والظواهر الطبيعية ليقاس بها فيقال مثلا بان المتنجز لا يتنجز كما ان الموجود لا يوجد أو العرض لا يتعدد على محل واحد بل بابه باب إدراك العقل لحق الطاعة وقبح المخالفة وعدمه فلا بد وان يرجع إليه ليرى هل يخصص حكمه بعدم التنجيز وقبح العقاب بخصوص ما إذا كان التكليف محتملا أو يعم ما إذا كان معلوما بعلم إجمالي محتمل الانطباق ولكن كان أحد طرفيه معلوما بعلم تفصيلي. ومن الواضح انه على تقدير القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان والقول بعدم جريانها في موارد العلم الإجمالي لأن التكليف المعلوم بالإجمال قد تنجز بالعلم فمجرد حصول علم أو منجز تفصيلي في أحد طرفيه لا يوجب تخفيف حق طاعة المولى وازدياد التأمين والعذر للمكلف بل على العكس يستوجب مزيد التنجيز في أحد الطرفين.

وثانيا ـ لو تنزلنا عن الملاحظة المنهجية أيضا نقول بأنه أي مانع من ان يكون حال العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ حال اجتماع سببين كل منهما تام في نفسه على مسبب واحد هو التنجيز في ذلك الطرف مع استقلال العلم الإجمالي أي احتمال الواقع المنجز بالعلم لتنجيز الطرف الآخر ، فهذه الكلمات أساسا لا مأخذ لها.

ثم انه في كل حالة يثبت فيها الانحلال الحقيقي يجب ان يكون المعلوم التفصيليّ والمعلوم الإجمالي متحدين زمانا ولا يشترط التعاصر بين نفس العلمين لأن العلم


التفصيليّ المتأخر زمانا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم الإجمالي من أول الأمر أيضا يوجب انحلال العلم الإجمالي وانهدام ركنه الثاني فيسري العلم من الجامع إلى الفرد فلا يبقى علم إجمالي له طرفان ـ حتى الطرف القصير زمانا في طرف والطويل في الطرف الآخر ـ ليقال بتنجيزه وهذا بخلاف الانحلال الحكمي بالعلم التفصيليّ فانه يشترط فيه تعاصر العلمين زمانا فلو تأخر العلم التفصيليّ عن الإجمالي لم يجز ارتكاب الطرف الآخر وان فرض ان المعلوم التفصيليّ كان ثابتا من أول الأمر لأن هذا المعلوم التفصيليّ بالنسبة إلى تلك الفترة الزمنية السابقة لم يكن منجزا بشيء فالأصل في الطرف الآخر يعارض الأصل في هذا الطرف بلحاظ تلك الفترة الزمنية من أول الأمر ، وهذه من الثمرات المترتبة بين الانحلالين.

٥ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول :

إذا فرض قيام أمارة أو أصل منجز في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا إشكال في عدم الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بذلك لانحفاظ كلا ركنيه وجدانا ، ولكن تبقى دعوى حصول الانحلال بأحد نحوين آخرين :

النحو الأول ـ الانحلال الحقيقي تعبدا إذا كان المنجز أمارة لأن المجعول فيها العلمية والطريقية فيترتب عليها كل آثار العلم تعبدا ومن جملتها الانحلال وجريان الأصل في الطرف الآخر.

وهذا الكلام غير سديد ولو سلمنا أصوله الموضوعية من جعل الطريقية والعلمية وقد أوضحنا ذلك مفصلا عند البحث عن الدليل العقلي على الاحتياط في الشبهات البدوية وحاصله : ان الانحلال أثر تكويني للعلم وليس أثرا شرعيا فان كان مفاد دليل حجية الأمارة تنزيلها منزلة العلم في الآثار والأحكام فمن الواضح ان هذا ليس منها ، وان كان مفاده جعل ما ليس بعلم علما على طريقة المجاز العقلي فمن المعلوم ان هذا الاعتبار والجعل لا يترتب عليه الآثار واللوازم الحقيقة للعلم والتي منها الانحلال وانما يترتب عليه الآثار الاعتبارية فحسب.

ان قيل ـ نحن لا نريد ان نثبت الانحلال الحقيقي بالتعبد لكي يقال بأنه أثر تكويني تابع لعلته ولا يحصل بالتعبد تنزيلا أو اعتبارا بل نريد استفادة التعبد


بالانحلال من دليل حجية الأمارة بالملازمة لأن مفاده التعبد بإلغاء الشك والعلم بمؤدى الأمارة وهذا بنفسه تعبد بزوال أحد ركني العلم الإجمالي فيكون تعبدا بزوال العلم الإجمالي.

قلنا ـ ان التعبد المذكور ليس تعبدا بالانحلال بل بما هو علة للانحلال والتعبد بالعلة لا يساوق التعبد بمعلولها. وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي حقيقته العلم بالجامع بحده الجامعي ـ كما تقدم ـ وهو يلازم عدم العلم بالخصوصية فالتعبد بالعلم بالخصوصية تعبد بزوال لازم العلم الإجمالي وحصول سبب الانحلال تكوينا وهو لا يساوق التعبد بزوال نفس العلم الإجمالي.

أضف إلى ذلك ان التعبد بالانحلال لا معنى له ولا أثر في المقام فيكون لغوا لأنه لو أريد التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى إجراء الأصل المؤمن فيه فهذا غير صحيح لأن التأمين عن كل شبهة بحاجة إلى التأمين عنه بالخصوص ، وان أريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبد بالانحلال لأن ملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن موضوع دليل الأصل المؤمن سواء كان التعبد بعنوان الانحلال أم لا.

النحو الثاني ـ الانحلال الحكمي أي نتيجة الانحلال وهي جريان الأصل الترخيصي في الطرف الّذي لا توجد فيه أمارة أو أصل منجز بلا معارض والكلام هنا فيما إذا كان المنجز أمارة أو أصلا لا علما إجماليا آخر يشترك فيه بعض أطراف هذا العلم الإجمالي المقتضي للاشتغال فان هذا امر آخر سوف نتحدث عنه في بحث مقبل تحت عنوان العلاقة بين العلوم الإجمالية.

والمنجز إن كان أمارة شرعية فمن الواضح انه يوجب الانحلال الحكمي على كل المسالك إذا كانت معينة للمعلوم بالإجمال حيث تدل بالملازمة على انتفائها في الطرف الآخر واحتمال وجود التكليف آخر فيه كان تحت التأمين من أول الأمر. واما إذا لم يكن المنجز كذلك بان كان أمارة ولكنها غير معينة للمعلوم الإجمالي أو كان أصلا شرعيا أو عقليا منجزا ـ كموارد الشك في الفراغ ـ فالانحلال الحكمي يتوقف على توفر شروط ثلاثة :

أحدها ـ ان لا يقل البعض المنجز بالأمارة أو الأصل عن عدد المعلوم بالإجمال من التكليف.


الثاني ـ ان لا يكون المنجز مثبتا لتكليف مغاير مع ما هو المعلوم إجمالا كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت بينة على حرمة أحدهما المعين بسبب الغصب.

الثالث ـ ان لا يكون وجود المنجز متأخرا عن حدوث العلم الإجمالي فكلما اجتمعت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمن في غير مورد المنجز بلا معارض وفقا لمسلك الاقتضاء ولعدم صلاحية العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كل تقدير وفقا لمسلك العلية.

اما إذا اختل الشرط الأول فالعلم الإجمالي منجز للعدد الزائد والأصول بلحاظه متعارضة ، وإذا اختل الشرط الثاني فالامر كذلك أيضا لأن ما ينجزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجزه الأمارة فتتعارض الأصول بلحاظه ولا يقال بان ما قامت الأمارة على حرمته محرم على كل حال فلا يجري فيه التأمين ليعارض بالأصل المؤمن في الطرف الآخر. لأن الأصل المؤمن يجري في الطرف المعلوم في نفسه للتأمين عن الحرمة الأخرى ونفي العقاب الزائد عليها فيعارض الأصل في الطرف الآخر وهذا واضح.

وإذا اختل الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجزا والأصول المؤمنة في غير مورد الأمارة أو الأصل معارضة بالأصول المؤمنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما. وبتعبير آخر : إذا أخذنا من مورد المنجز فترة ما قبل ثبوت المنجز ومن غير الفترة الزمنية على امتدادها حصلنا على علم إجمالي تام الأركان فينجز ولهذا قلنا في موارد الانحلال الحكمي بالعلم التفصيليّ اشتراط تعاصر العلمين ولا يكتفي بالتعاصر بين المعلومين والمؤديين فكذلك في المقام لأن سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز في بعض أطرافه انما هو بسبب المنجزية في طرف معين والمنجزية لا تبدأ الا من حين قيام الأمارة أو جريان الأصل سواء كان المؤدى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

ثم ان هذا الانحلال الحكمي بالأمارة أو الأصل المنجز انما هو بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ولكن يبقى العلم الإجمالي على منجزيته من حيث حرمة المخالفة القطعية بمعنى انه إذا اقتحم المكلف كلا الطرفين يكون عصيانه ومخالفته أشد مما إذا اقتحم الطرف المنجز بالخصوص لأن منجزية العلم أشد من منجزية الحجة غير العلم


ومخالفة أقبح وأكثر جرأة على المولى من مخالفة الحجة التي يحتمل عدم اصابتها للواقع.

٦ ـ اشتراك علمين إجماليين في طرف :

إذا افترض ان أحد طرفي العلم الإجمالي أصبح طرفا لعلم إجمالي آخر كما إذا علمنا بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض وعلمنا بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر فأصبح الإناء الأسود طرفا مشتركا لعلمين إجماليين. فان كان العلمان متعاصرين حدوثا فلا شك في عدم انحلال أحدهما بالآخر وتنجيزهما معا وتلقي الطرف المشترك التنجيز منهما معا لأن مرجح العلمين حينئذ إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

واما إذا كان أحدهما سابقا على الآخر معلوما أو علما فهنا ثلاث نظريات :

الأولى ـ انحلال العلم المتأخر من حيث المعلوم بالعلم الإجمالي الّذي يكون زمان معلومه متقدما وهذا ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ).

الثانية ـ انحلال العلم الإجمالي المتأخر زمان حصوله بالعلم الإجمالي المتقدم وان لم يكن معلومه متقدما ، وهذا هو ما ذهب إليه السيد الأستاذ ـ وان كان الموجود في تقرير الدراسات النظرية الأولى ـ.

الثالثة ـ عدم الانحلال في جميع الفروض وهو المختار.

اما النظرية الأولى فقد أفاد في تخريجها المحقق النائيني ( قده ) بأنا إذا علمنا إجمالا بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض ثم علمنا بوقوع نجاسة أخرى اما في الإناء الأسود أو الأحمر فمثل هذا ليس علما بتكليف وان كان علمنا بوقوع قطرة الدم مثلا لأن هذه القطرة إذا كانت واقعة في الطرف الأسود وكان هو النجس المعلوم بالعلم الإجمالي الأول فلا تستوجب تكليفا ، لأن هذا الإناء كان يجب الاجتناب عنه قبل سقوط القطرة الثانية وانما يستوجب ذلك تكليفا إذا كان قد سقط في الإناء الأحمر أو كانت النجاسة الأولى في الإناء الأبيض الا ان شيئا من هذين التقديرين ليس معلوما ليكون من العلم بتكليف زائد.

وهذا إذا كان العلم والمعلوم معا متأخرا واضح ، واما إذا كان المعلوم بالعلم المتأخر متقدما كما إذا علم بوقوع قطرة دم الآن اما في الإناء الأحمر أو الأسود


وعلم بعد ذلك بان الإناء الأسود أو الأبيض كان نجسا منذ الصباح فان العلم الإجمالي الأول لا يكون منجزا لأنه بعد حصول العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض منذ الصباح ينكشف ان قطرة الدم التي علم إجمالا بإصابتها لأحد الإناءين لم تستوجب تكليفا على كل تقدير إذ لو كانت قد أصابت الإناء الأسود وكان هو النجس منذ الصباح لم يكن مستوجبا لتكليف وهكذا يكون الميزان بالعلم المتقدم من حيث المعلوم فانه يوجب انحلال العلم الإجمالي الآخر انحلالا حقيقيا بمعنى انه لا يكون علما بتكليف على كل تقدير ، وواضح من هذا البيان ان نظر الشيخ النائيني ( قده ) إلى مورد مسانخة التكليفين لا ما إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني تكليفا من سنخ آخر كما إذا علم بنجاسة أحدهما ثم علم بغصبية الإناء الأسود أو الأحمر.

وهذا التقريب غير تام. لأنه لو كان المقصود ان العلم الإجمالي المتأخر لا يكون علما إجماليا بان القطرة الثانية مثلا سبب التكليف فهذا صحيح الا انه لا يشترط ذلك وانما اللازم ان يكون علما بما يلازم التكليف ويساوقه سواء كان سببا له أم لا وفي المقام يعلم بان تلك القطرة مساوقة وملازمة مع التكليف في أحد طرفي الإصابة والا لانتقض بما إذا كان أحد الطرفين من الأول مشكوك النجاسة ثم علم بوقوع قطرة دم فيه أو في إناء آخر فانه من العلم الإجمالي بالتكليف رغم انه لا يعلم بسبيتها لتكليف إذ لعلها أصابت الإناء المشكوك نجاسته وكان نجسا واقعا.

وان أريد أنه ليس علما بتكليف آخر أو ليس علما بحدوث تكليف وان كان علما بما يلازمه فمن الواضح انه لا يشترط ذلك في منجزية العلم فان المنجز هو العلم بأصل التكليف سواء كان بقائيا أو حدوثيا وسواء كان آخر أم لا والا لاتجه النقض المتقدم كما هو واضح.

أما النظرية الثانية فهي دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخر انحلالا حكيما بالعلم الإجمالي المتقدم وان كان معلومه معاصرا أو متقدما وذلك باعتبار ان العلم الإجمالي الأسبق زمانا قد نجز الطرف المشترك اما ابتداء ـ بناء على مسلك العلية ـ أو في طول تساقط الأصول ـ بناء على مسلك الاقتضاء ـ ومعه لا يكون العلم الإجمالي الثاني صالحا للتنجيز اما بالبيان المتقدم على مسلك العلية من ان المتنجز لا يتنجز فلا يمكن لهذا العلم ان ينجز كلا طرفيه أو بالبيان المبني على مسلك الاقتضاء


من عدم تعارض الأصول في الأطراف لأن الطرف المشترك قد سقط الأصل فيه بالعلم الإجمالي الأول من أول الأمر فيجري الأصل في الطرف المختص من أطراف العلم الإجمالي الثاني بلا معارض.

وفيه : ان العلم الإجمالي لا يوجب التنجيز أو تعارض الأصول في الأطراف في أي زمان الا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرد حدوثه في زمان سابق ولهذا لو زال العلم في أي زمان واحتمل ان ما تخيل نجاسته لم يكن نجسا ارتفع التنجز وجرى الأصل بلا محذور وعليه فتنجز الطرف المشترك بالعلم الإجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين لا بمجرد حدوثه وهذا يعني ان تنجز الطرف المشترك فعلا له سببان : أحدهما ـ بقاء العلم السابق. والآخر ـ حدوث العلم المتأخر واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجح فينجزان معا.

كما ان الأصل المؤمن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كل آن وهذا الاقتضاء يؤثر مع عدم المعارض ومن الواضح ان جريان الأصل المؤمن في الطرف المشترك في الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخر كان معارضا بأصل واحد ـ وهو الأصل في الطرف المختص بالعلم السابق ـ غير ان جريانه في الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصين معا ، فالعلمان الإجماليان منجزان معا.

٧ ـ إذا كان في أحد الطرفين أثر زائد :

ذكر المحقق النائيني ( قده ) انه إذا كان هناك أثر مشترك في الطرفين وأثر زائد في أحدهما المعين كما إذا علم بنجاسة هذا الماء المطلق أو ذاك الماء المضاف فانه يترتب العلم بحرمة الشرب وهو أثر مشترك في الطرفين ويوجد في الماء المطلق أثر زائد على تقدير نجاسته وهو عدم جواز التوضي به ، فالعلم الإجمالي ينجز الأثر المشترك في الطرفين واما الأثر المختص فهو شبهة بدوية لا علم به فيجري الأصل الترخيصي عنه بلا محذور.

واعترض عليه السيد الأستاذ بان الأثر الزائد ينفيه نفس الأصل الترخيصي


الّذي ينفي الأثر المشترك في الماء المطلق وهو أصالة الطهارة أو استصحابها والمفروض سقوطه بالمعارضة فلا يبقى ما يثبت جواز الوضوء به وهذا البيان يظهر منه الاعتراف بان الأثر الزائد خارج عن دائرة العلم الإجمالي وانما لا ينفي باعتبار عدم وجود أصل ترخيصي مخصوص به ونتيجة ذلك انه إذا كان له أصل مخصوص به جرى في نفيه بلا محذور.

وفيه : ان الأثر المختص إذا كان منجزا بالعلم الإجمالي وطرفا من أطرافه تنجز بالعلم ولم يجد في نفيه حتى الأصل المختص ، وإذا لم يكن منجزا بالعلم وطرفا من أطرافه أمكن نفيه بالأصل الترخيصي ولو كان واحدا وذلك بالتمسك بإطلاق دليله بلحاظ هذا الأثر بالخصوص إذا لا مانع منه.

والصحيح ان الأثر المختص أيضا طرف للعلم الإجمالي وتفصيل ذلك : ان الأثر الزائد والأثر المشترك تارة يكونان في موضوع واحد كما إذا علم إجمالا بأنه اما مدين لزيد خمسة دنانير أو قد نذر ان يعطيه عشرة دنانير وفي مثل هذا وان كان بلحاظ السبب يوجد علم إجمالي الا انه بلحاظ المسبب الّذي هو التكليف الداخل في العهدة لا علم إجمالي لأنه من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الانحلاليين أو الارتباطيين فيجري فيه الأصل عن الأثر الزائد وهذا خارج عن محل الكلام.

وقد استثنى من ذلك السيد الأستاذ ما إذا كان هناك أصل حاكم على الأصل الترخيصي النافي للأثر الزائد وهذا كبرويا واضح ومن القضايا التي قياساتها معها الا انه مثل له بما إذا علم بنجاسة الثوب اما بقطرة دم فيجب غسله مرة واحدة أو بول فيجب غسله مرتين فانه لا يمكن إجراء الأصل عن وجوب الغسل مرة ثانية لأنه محكوم باستصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرة واحدة.

وهذا التمثيل غير فني حيث يرد عليه :

أولا ـ ان الأصل المحكوم سواء أريد به البراءة عن وجوب الغسل مرة ثانية أو استصحاب عدم وجوبه لا موضوع له في نفسه لأن الغسل ليس واجبا تكليفا وانما هو حكم وضعي بحصول الطهارة بعد الغسل مرة أو مرتين فلا معنى لإجراء البراءة أو استصحاب عدم وجوبه.

وثانيا ـ الأصل الّذي ادعي حاكميته وهو استصحاب بقاء النجاسة محكوم بحسب


الحقيقة لاستصحاب موضوعي هو عدم ملاقاته مع البول المنقح لموضوع عموم مطهرية مطلق الغسل الّذي خرج منه خصوص الثوب الملاقي مع البول فمع الشك فيه يجري استصحاب عدمه الموضوعي ولا يعارض باستصحاب عدم ملاقاته بالدم لأنه لا يجري في نفسه إذ لو أريد به إثبات ملاقاته بالبول فهو من الأصل المثبت وان أريد نفي أثر الملاقاة مع الدم وهو وجوب الغسل مرة واحدة فهو معلوم تفصيلا على كل حال وليس مشكوكا ليجري بلحاظه الأصل وهذا واضح.

وأخرى يكون الأثر الزائد والأثر المشترك في موضوعين ـ كما في مثال الماء المطلق والماء المضاف إذا علم بنجاسة أحدهما أو الاستقراض من زيد خمسة دنانير أو من عمرو عشرة ـ وهنا قد يتخيل إمكان جريان الأصل المؤمن عن الأثر الزائد المشكوك بدعوى انا نعلم بخطاب لا يكون الأثر الزائد دخيلا في امتثاله وهو خطاب الاجتناب عن النجس مثلا ولا يعلم بالخطاب الآخر وهو خطاب الوضوء بالماء الطاهر.

وفيه : انه كما يمكن ان يلحظ ذلك يمكن ان يلحظ العلم الإجمالي بحرمة شرب المضاف أو حرمة الوضوء بالماء المطلق وهو خطاب لا يكون لحرمة شرب الماء المطلق دخل فيه ولا نعلم بحرمة شرب الماء وهذا يعني ان لدينا علمين إجماليين عرضين وأوضح من ذلك ما إذا كان الأثر الزائد ارتباطيا كما إذا علم إجمالا بأنه نذر ان يدفع خمسة دنانير لزيد أو عشرة لعمرو بنحو الارتباط.

نعم لو فرض انه بلحاظ الأثر الزائد يجري أصل ترخيصي غير مسانخ مع الأصل النافي للأثر المشترك في الطرفين جرى بلا معارض بعد سقوط الأصل المسانخ في الطرفين باعتبار إجمال دليله ، وهذه نكتة مستقلة لا تختص بكون الأثر الشرعي المختص بأحد الطرفين زائدا بل يتم في الأثر المشترك أيضا إذا كان يوجد لنفيه أصل غير مسانخ في أحد الطرفين بالخصوص كما إذا علم بنجاسة أحد الماءين مع اختصاص أحدهما باستصحاب الطهارة دون الآخر كما تقدم توضيحه فيما سبق مفصلا.

٨ ـ العلم الإجمالي بالحكم الإلزامي الظاهري :

إذا تعلق العلم الإجمالي بتكليف ظاهري كما إذا قامت بينة على نجاسة أحد الإناءين ـ وقد يسمى بالعلم التعبدي بالحكم الواقعي ـ فتارة يكون الإجمال في العلم


كما إذا كان الإجمال في طول قيام الحجة على فرد معين بان تشهد البينة بنجاسة فرد معين تردد عندنا. وأخرى يكون الإجمال في الحجة بمعنى ان البينة لم تشهد الا بالجامع أو على الأقل لا يعلم شهادتها بأكثر من ذلك.

اما القسم الأول ـ فلا ينبغي الإشكال في انه على حد العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة ـ وان اختلف عنه في درجة التجري والعصيان عند المخالفة على ما تقدمت الإشارة إليه ـ.

وقد يقال بفوارق بينه وبين العلم الإجمالي بالحكم الواقعي بحسب الدقة وان كان لا يترتب عليها جميعا ثمرة عملية ، وبهذا الصدد يمكن ان نذكر ثلاثة فروق :

الفرق الأول ـ ان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الواقعي تكون متعارضة بعد تمامية موضوعها في نفسها بخلاف الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الظاهري لأنها بحسب الفرض مقيدة ـ بحكم تقدم دليل الأمارة والحكم الظاهري الإلزامي عليها ـ بغير مورد قيام الأمارة الإلزامية وحيث يعلم قيامها إجمالا فيكون الشك في تحقق موضوع أصالة الطهارة مثلا في كل طرف ويكون بابه باب اشتباه الحجة باللاحجة وهذا الفرق بحسب الحقيقة فرق نظري لا عملي لأنه يجري استصحاب عدم قيام الأمارة في هذا الطرف وعدم قيامها في ذاك الطرف المنقح لموضوع أصالة الطهارة أو البراءة عن الواقع المشكوك في كل طرف وحيث ان هذا التنقيح ظاهري بمعنى ان أثر الطهارة أو البراءة يترتب على نفس هذا الأصل الموضوعي يقع التعارض فيه لأن نسبته إلى الحكم الظاهري المعلوم بالإجمال نفس نسبة الأصول في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من ارتكازية التناقض أو محذور قبح الترخيص في العصيان (١).

__________________

(١) قد يتوهم انه يترتب على ذلك انه إذا لم يجر استصحاب عدم قيام الأمارة في أحد الطرفين ولو من جهة ان ذلك الطرف منذ وجوده يحتمل قيام الأمارة على نجاسته وقلنا بعدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية يمكنه التمسك بالاستصحاب الموضوعي في الطرف الآخر بلا معارض في هذا الطرف لعدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيه وعدم إمكان التمسك بدليل أصالة الطهارة لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهذا فرق عملي يختلف فيه العلم الإجمالي بالحكم الظاهري عن العلم الإجمالي بالحكم الواقعي.

الا ان التحقيق : ان هذا التوهم غير صحيح لأن دليل الأصل الترخيصي الأول أعني أصالة الطهارة أو البراءة كما يجري عن الحكم الواقعي المشكوك يجري أيضا عن الحكم الظاهري المشكوك نفسه وإن شئت عبرت بأنه يجري عن الواقع الّذي يشك في


وهذا لا يختلف فيه القول بالتنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية كالاحكام الواقعية ـ كما هو الصحيح ـ أو القول المشهور بان التنافي بينهما انما هو في مرحلة الوصول فقط لا واقعا ، فانه بناء على الأخير وان كان يمكن في مورد الشك في قيام الأمارة إجراء الأصل الترخيصي حقيقة بلا حاجة إلى الاستعانة بأصالة عدم قيامها الا انه في خصوص المقام حيث ان قيام الأمارة وأصل ومنجز بالعلم الإجمالي فيقع التنافي لا محالة فلا بد وان يكون دليل الأصل المحكوم للأمارة مقيدا بعدمها في المقام.

الفرق الثاني ـ فيما إذا كان أحد الإناءين مجرى لاستصحاب النجاسة في نفسه ، فانه إذا كان علمنا الإجمالي بالنجاسة الواقعية جرى استصحاب الطهارة أو قاعدتها في الطرف الآخر لعدم المعارض ، واما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما فنحتاج إلى استصحاب عدم قيام البينة في ذلك الطرف لإجراء القاعدة أو استصحاب الطهارة وحينئذ إذا قلنا بان الأمارة لا تحكم على الأصل المسانخ لها في المؤدى جرى الاستصحاب المذكور من دون معارض لأن الطرف الآخر يجري فيه استصحاب النجاسة المنجز فلا يظهر فرق عملي واما إن قلنا بان الأمارة مقدمة على الأصل المسانخ لها في المؤدى أيضا ـ كما هو المشهور ـ فقد يتوهم وقوع التعارض بين استصحاب عدم قيام البينة في هذا الطرف مع استصحاب عدم قيامها في الطرف الآخر ولو على بعض المسالك في الاستصحاب.

الا ان الصحيح : ان استصحاب عدم قيام البينة في الطرف الّذي هو مورد لاستصحاب النجاسة لا يجري في نفسه حتى لو وافقنا الأصول الموضوعية لهذا الكلام ، إذ يعلم على كل حال بنجاسته ظاهرا اما لقيام البينة أو الاستصحاب على نجاسته فيجري استصحاب عدم البينة في الطرف الآخر لإثبات طهارته. نعم هذا أيضا فارق

اهتمام المولى به وعدمه وإطلاقه له في هذه المرتبة يكون فعليا ولا يكون مقيدا بعدم قيام الأمارة على الواقع بل بعدم قيام الأمارة على الحكم

__________________

الظاهري واهتمام المولى بالواقع وهو محرز وجدانا وهذا في دليل البراءة والاستصحاب واضح ، وفي مثل دليل القاعدة أيضا يمكن دعوى إطلاقه اما بلحاظ النجاسة الواقعية في مرتبة الشك في وجود حكم ظاهري منجز لها فان مناسبات الحكم والموضوع تحكم بان التعبد بالطهارة ونفي النجاسة انما هو بلحاظ أثرها التكليفي الّذي له مرتبتان فيكون له إطلاقان أو بلحاظ النجاسة الظاهرية لو استظهر اعتبارها من دليل حجية الأمارة الدالة على النجاسة. وبهذا يظهر عدم صحة هذا الفرق فنيا أيضا.


فني في كيفية تخريج عدم المعارضة بين الأصول وعدم منجزية العلم الإجمالي بين العلم الإجمالي بالنجاسة الواقعية أو العلم الإجمالي بالنجاسة الظاهرية (١).

الفرق الثالث ـ وهو فارق عملي مترتب على الفرق الأول الّذي تقدم يظهر في الفرضية التي يقال فيها بجريان الأصل النافي الطولي في أحد الطرفين بلا معارضة مع الأصل النافي في الطرف الآخر ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة الماء أو التراب فانه بعد تساقط قاعدة الطهارة أو استصحابها فيهما معا تجري أصالة الحل في الماء بالخصوص لتجويز شربه بلا معارض اما للطولية كما يقول به المحقق العراقي ( قده ) ، أو لإجمال دليل الأصلين العرضيين كما يقول به السيد الأستاذ ، أو لمسانخة الأصلين المشتركين في الطرفين بخلاف الأصل المختص كما هو الصحيح. فانه على أحد هذه المباني يقال بالفرق بين العلم الإجمالي بالحكم الواقعي والعلم الإجمالي بالحكم الظاهري بالنجاسة وان هذه البيانات انما تتم في الأول دون الأخير لأنه بناء على الأخير لا يتعارض الأصلان العرضيان ليقال بجريان الأصل الطولي وعدم دخوله في المعارضة في رتبة واحدة أو يقال بإجمال دليلهما والانتهاء إلى دليل الأصل الطولي بلا معارض بل يكون حال الأصل الطولي وهو أصالة الحل في الماء حال استصحاب الطهارة أو قاعدتها من حيث الشك في تحقق موضوعها وكونه من باب اشتباه الحجة باللاحجة فلا يمكن الرجوع إليه لا ابتداء كما هو واضح ولا في طول إجراء استصحاب عدم قيام البينة في هذا الطرف لأنه معارض باستصحاب عدم قيامها في الطرف الآخر وهما عرضيان ومن سنخ واحد. بل بناء على القول بتقدم استصحاب الطهارة أو قاعدتها على أصالة الحل رغم موافقتهما في المؤدى يعلم بعدم جريان أصالة الحل لقيام الحاكم في موردها من البينة أو استصحاب الطهارة (٢).

واما القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان الإجمال في نفس البينة والحكم الظاهري بان

__________________

(١) وقد عرفت ان هذا الفارق الفني أيضا غير موجود لجريان الأصل الترخيصي عن الواقع المشكوك في مرتبة الشك في وجود حكم الظاهري إلزاميّ حقيقة.

(٢) قد اتضح عدم تمامية هذه الثمرة لعدم تمامية الفرق الأول بل تجري أصالة الحل عن شرب الماء في هذه المرتبة أي مرتبة الشك في قيام البينة على الحرمة أو عن اهتمام الشارع بإيجاب الاحتياط والتحفظ على الملاك الإلزامي المفاد بالبينة في هذا الطرف بلا معارض لكونه طوليا أو غير مسانخ.


قامت الحجة على الجامع لا أكثر فيقع البحث عنه في جهتين :

الجهة الأولى ـ في وجوب الموافقة القطعية لها. ولا إشكال فيه بناء على مبنانا في تفسير حقيقة الحكم الظاهري وفهمه من انه عبارة عن إبراز اهتمام الشارع بالواقع على تقدير ثبوته في حال الشك كاهتمامه به في حال العلم بأي لسان كان بحسب الصياغة ومقام الإثبات فانه بناء على ذلك يكون معنى هذا الحكم الظاهري الإلزامي اهتمام المولى بالواقع على تقدير وجوده في هذا الطرف أو ذاك الطرف وهو يقتضي الاحتياط والخروج عن عهدة التكليف الواقعي على كل تقدير فتجب موافقته القطعية كما لو كان يعلم بالنجاسة الواقعية في أحد الطرفين.

واما بناء على مباني القوم فقد يشكل تخريج وجوب الموافقة القطعية على بعضها.

منها ـ مبنى المحقق الخراسانيّ ( قده ) القائل بجعل المنجزية والمعذرية في مورد الأمارات ، فانه على هذا إن كان دليل حجية البينة منجزا لهذا الطرف بالخصوص أو ذاك كان ترجيحا بلا مرجح لأن نسبة البينة إلى كل منهما على حد واحد ، وان كان منجزا لأحدهما المردد فالفرد المردد لا وجود له ، وان كان منجزا لأحدهما الواقعي فالمفروض ان البينة لا تشهد الا بالجامع وان التردد في نفسها بحث قد لا تعلم هي أيضا بنجاسة أحدهما بالخصوص ، وان كان منجزا للجامع بينهما أي أحدهما فهذا يوجب التخيير وجريان البراءة عن حرمة كل منهما بخصوصه. ولا يقاس بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لأن العلم الإجمالي وان كان متعلقا بالجامع الا انه ينجز الواقع ، وفي المقام لا يمكن ادعاء ذلك إذ لو أريد ان البينة على الجامع تنجز الواقع عقلا فهو خلف كون المنجزية شرعية لا عقلية ، وان أريد انها تنجزه شرعا فهذا خلف ان البينة تشهد بالجامع لا بالواقع (١) فلا وجه لوجوب الموافقة القطعية على هذا المبنى.

__________________

(١) لا وجه لذلك فان دليل حجية البينة بناء على هذا المسلك تجعل لها نفس المنجزية الثابتة في مورد العلم بمؤداها والمفروض ان مؤداها الجامع الّذي يعلم فيه بالخصوصية المرددة لا جامع أحد الإناءين كما في التخيير الشرعي فيكون حالها حال العلم الإجمالي بمثل هذا الجامع من حيث المنجزية بدليل التنزيل.

نعم هنا إشكال ثبوتي يرد على كل المباني حتى المبنى المختار لا بد من حله وحاصله : ان دليل الحجية لو كان يجعل هذا القسم من البينة كالعلم الإجمالي بالواقع من حيث المنجزية ووجوب الموافقة القطعية كان معناه تكفله بنفسه لإلغاء جريان الأصول المرخصة في الطرفين ووجوب الاحتياط ولازمه عدم جريان الأصل الترخيصي حتى في الطرف الواحد وهذا أكثر من مفاد البينة الإجمالية لأنها لا تدل على نجاستهما معا ، والتحفظ على الأغراض الإلزامية الواقعية في موارد الأمارات انما يجب بأدلة حجيتها بمقدار


ومنها ـ مبنى المحقق العراقي ( قده ) من ان الحكم الظاهري جعل للطريقية والعلمية التي هي في موارد العلم الإجمالي متعلقة بالواقع لا بالجامع فانه على هذا المبنى إذا احتمل كذب البينة لا مجرد خطئها فلا علم إجمالي للبينة متعلق بالواقع ليكون جعل الحجية لها بمعنى جعل العلم بما تعلق به البينة والّذي هو الواقع بحسب الفرض ، واما مفادها فهو الجامع الّذي يمتثل بأحدهما لا محالة فجعل الطريقية بمقدار مفادها لا يقتضي أكثر من التخيير ، نعم لو علم بعدم كذب البينة وانما احتملنا خطأ البينة فقط لم يرد محذور حيث يجعل علم البينة المتعلق بالواقع بحسب الفرض علما تعبديا لنا بالواقع (١) وكذلك بناء على الطريقية على مبنى الميرزا من كفاية العلم بالجامع في تنجيز

__________________

مفادها لا أكثر فلو أريد استفادة إيجاب الاحتياط في الطرفين من دليل حجية ابتداء كان هذا فوق طاقة دليل الحجية وإن أريد استفادة إيجاب الاحتياط بمقدار أحد الطرفين بالخصوص فالمفروض ان نسبة مفاد البينة إليها على حد واحد ، وان أريد استفادة إيجاب الاحتياط والتحفظ على الغرض الإلزامي بمقدار أحدهما فقط فهذا لا يثبت أكثر من حرمة المخالفة القطعية ولزوم الإتيان بالجامع ، وان أريد انه بمعنى إبراز اهتمام المولى بتكليف إلزاميّ واحد على تقدير وجوده في هذا الطرف أو ذاك كان معناه جعل إيجاب الاحتياط في كل طرف لاحتمال مصادفة ذاك التكليف فيه فيكون نافيا بنفسه للأصل الترخيصي حتى في طرف واحد ، ولا يقاس بموارد العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي أو الظاهري المعين فانه هناك الاحتياط في كل طرف ليس بحكم الشارع بل بحكم العقل بعد عدم ثبوت الترخيص الشرعي فيه بأحد المسلكين في منجزية العلم الإجمالي.

وينحصر الجواب على هذه الشبهة بأحد بيانين :

الأول ـ ملاحظة المدلول الالتزامي للبينة في كل طرف على تقدير طهارة الطرف الآخر فيتشكل على إجمالي بوجود نجس في البين اما واقعي أو ظاهري فيجب الاحتياط بعد تعارض الأصول كما سوف يأتي في المتن.

الثاني ـ ان يقال : بأن المستفاد من دليل الحجية بعد ان كانت البينة حجة إثبات التكليف التعييني الإجمالي ظاهرا لأنه مفاد البينة لا التكليف التخييري وحينئذ مهما تكون صياغة الحكم الظاهري فسوف يكون هناك تناقض عقلي أو عقلائي بين هذا الحكم الإلزامي المعلوم أو المجعول تخييريا متعلقا بالجامع.

ودعوى : ان الاهتمام بمقدار الجامع لا ينافي مع جريان الترخيص في كل من الطرفين بخصوصه. يدفعها ، إن الاهتمام بمقدار الجامع غير التكليف التخييري بالجامع فان الّذي لا يكون منافيا مع الترخيصيين انما هو الثاني لا الأول إذا كان اهتماما بلحاظ التكليف واقعي تعييني فتأمل جيدا.

(١) قد عرفت ان الجامع المعلوم في موارد العلم الإجمالي غير الجامع التخييري ـ مهما فسرنا حقيقة هذا الجامع على ما تقدم في بحوث القطع ـ ومفاد البينة انما هو هذا الجامع سواء كان صادقا ومطابقا للواقع أم لا ، وليس المقصود من تعلق العلم بالواقع الواقع بالعرض ليقال بأنه غير موجود في موارد كذب البينة وانما الواقع المعلوم بالذات المحفوظ حتى في موارد العلم الإجمالي غير مطابق للواقع. وعليه فكما يمكن جعل علم البينة علما تعبديا بالواقع كذلك يمكن جعل مفاد البينة الكاشف عن مثل هذا العلم علما تعبديا بالواقع ، نعم لا بد من حل الإشكال المتقدم من ان مثل هذا الحكم الظاهري كيف يتناقض مع جريان الأصل الترخيصي في الطرفين. بخصوصيتهما اما إذا حل هذا الإشكال بأحد الوجهين المتقدمين لم يكن محذور في تسمية ذلك علما تعبديا بالواقع أو حكما مماثلا.


كلا الطرفين.

ومنها ـ مبنى جعل الحكم المماثل للمؤدى عند احتمال مطابقته للواقع ، فانه على هذا ان فرض جعل حكم على طبق هذا الطرف أو ذاك بخصوصيته لم يكن مماثلا مع المؤدى ، وان فرض جعل الحكم على الجامع لم تجب الموافقة القطعية مضافا إلى ان هذا لا يحتمل مطابقته للواقع لأنا نعلم بان الواقع ليس هو الجامع بنحو التخيير بل هذا بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

وكل هذه الإشكالات انما تنشأ باعتبار تقيد هذا المباني واشتغالها بالصياغات اللفظية في تفسير حقيقة الحكم الظاهري.

وقد يجاب بناء على هذه المباني بان البينة لها دلالات التزامية على انه إذا لم يكن هذا الطرف نجسا فالطرف الآخر نجس وهكذا بالعكس فيمكن جعل الحكم المماثل أو المنجزية أو غير ذلك من الألسنة طبقا لهذه القضايا الشرطية الالتزامية لأن الأمارة لوازمها حجة أيضا وحينئذ يتشكل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين على الأقل اما واقعا أو ظاهرا لأنه لو لم يكن شيء منهما طاهرا فهناك نجس واقعي وان كان أحدهما طاهرا على الأقل فالآخر نجس ظاهرا فيعلم بوجود نجس في البين اما واقعي أو ظاهري وهذا علم إجمالي بالتكليف فيكون منجزا لا محالة.

وهذا الجواب صحيح فيما إذا كان علم البينة ناشئا من برهان أو ما بحكمه لا ما إذا كان حاصلا من تجميع حسابات الاحتمال في عدد الأطراف كما إذا شهدت بنجاسة آنية الكافر نتيجة تراكم الاحتمالات والظنون بمساورته لأحدها على الأقل فانه في مثل ذلك لا يستلزم العلم الإجمالي تلك العلوم والقضايا الشرطية لأنه على تقدير فرض انتفاء باقي الأطراف لا يوجد لنا احتمالات نضم بعضها إلى بعض حتى يتولد علم بقضية شرطية (١) ، فهذا الجواب لا يتم في تمام الفروض.

__________________

(١) هذا المطلب رجع عنه السيد الأستاذ 1 في الدورة الثانية في بحث الإجماع المنقول حيث تقدم هناك في مسألة نقل السبب ان الصحيح تشكل قضية شرطية في المعلوم الناشئة من حساب الاحتمالات أيضا لجريانه في قضية كلية أسبق من ذلك المورد يكون له مدلول التزامي فراجع.

ولكن يرد على أصل هذا الجواب بأنه يربط منجزية الأمارة الإجمالية بحجية لوازم الأمارة بحيث لو ثبت عدم حجية لوازمها لم تكن الأمارة الإجمالية منجزة مع أنه لا إشكال في منجزيته كالعلم الإجمالي مع قطع النّظر عن مسألة حجية اللوازم مما يكشف عن ضرورة وجود جواب آخر كما أشرنا.


الجهة الثانية ـ بعد الفراغ عن منجزية البينة من هذا القسم في نفسه قد يقال بإيقاع التعارض بين دليل الحجية ودليل الأصل الترخيصي في كل من الطرفين لأن البينة لم تقم على نجاسة أحدهما بالخصوص ـ كما في القسم الأول ـ ليقال بان الأصل الترخيصي مقيد بعدمها بعد ورود أو حكومة دليل حجيتها على دليل حجيته فدليل الأصل تام الاقتضاء في نفسه في الطرفين فيقع التعارض بين إطلاق وإطلاق دليل حجيتها ولا يقاس بموارد العلم الوجداني بالحكم الواقعي فان دليل الأصل هناك مناقض عقلا أو عقلائيا مع الحكم الواقعي المعلوم وحيث لا يمكن رفع اليد عنه للزوم التصويب فيقع التعارض بين الأصول في الأطراف بخلاف المقام فإن الحجية للبينة كالأصل مجعول ظاهري شرعي فإذا لم يكن دليل البينة رافعا لموضوع الأصل حكومة أو ورودا لكونهما في موضوعين وعنوانين ـ كما ذكرناه ـ فلا محالة يقع التعارض بين إطلاق دليلهما.

وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) الجواب على هذا الإشكال بأنه لو أريد إجراء الأصل في كل من الطرفين مطلقا أي حتى على تقدير طهارة الآخر فهذا محكوم أو مورود للمدلول الالتزامي للبينة فانها كما عرفت تدل على نجاسة كل واحد منهما بخصوصه على تقدير طهارة الآخر ، وان أريد إجراؤه في كل طرف بدلا عن الآخر فهذا الاحتمال انما نشأ في طول حجية البينة فلا يمكن ان يكون إطلاق دليل الأصل له معارضا مع دليل حجية البينة.

وفيه : ان احتمال طهارة كل من الطرفين في نفسه بالفعل ليس في طول حجية البينة بل احتمال ثابت من أول الأمر وإطلاق دليل الأصل شامل له فيكون معارضا مع إطلاق دليل البينة في عرض واحد.

وهذا الإشكال يمكن الجواب عليه بوجوه :

الأول ـ ان هذا التعارض لو سلم قدم إطلاق دليل البينة على إطلاق دليل الأصل لكونه ، مقدما عليه بالأخصية والأظهرية أو بالحكومة فان إطلاق الدليل الحاكم أو الأخص والأظهر مقدم على إطلاق الدليل المحكوم أو غير الأخص. وهذا انما يتم على غير مباني القوم من ان التقديم بملاك جعل العلمية والطريقية ورودا أو حكومة من باب نفي الموضوع.


الثاني ـ ان مجموع الأصلين مقيد عقلا أو عقلائيا بعدم العلم بالحكم وقد علمنا بالحكم ببركة البينة فيقع التعارض بين الأصلين والتساقط حتى على مسالك المشهور.

وفيه : ان كان المراد من العلم بالحكم العلم الوجداني بالحكم الظاهري فالأصلان لا ينفيان هذا الحكم الظاهري لكي تكون نسبتهما إليه نسبة الأصول النافية للحكم الواقعي المعلوم بالإجمال بل هما في عرض هذا الحكم الظاهري ويقع التعارض بين الجميع. وان كان المراد من العلم بالحكم العلم التعبدي بالحكم الواقعي فيدعى ان المجعول في دليل حجية البينة هو العلم فيكون حاكما على مجموع الأصلين على حد حكومة البينة الإلزامية في مورد خاص على الأصل الترخيص فيه ، فيرد عليه : ان الأصل في مورد البينة القائمة في مورد خاص مقيد بحسب لسان دليله بعدم العلم فيقال بحكومة دليل البينة عليه ، واما في ما نحن فيه فليس مجموع الأصلين بحسب لسان الدليل مقيدا بعدم العلم بالخلاف وانما يكون مقيدا بذلك بالارتكاز العقلي أو العقلائي ، والمشهور يفصلون في الحكومة بين كون قيد عدم العلم لفظيا في لسان الدليل أو لبيا فيثبتونها في الأول دون الأخير. وبهذا دفعوا شبهة انه لما ذا تحكم الأمارة على الاستصحاب دون العكس مع ان المجعول فيهما معا الطريقية وكون حجية الأمارة أيضا مقيدة بعدم العلم لبا حيث قالوا بان دليل الاستصحاب لما كان مقيدا لفظا بالشك وعدم اليقين بخلاف دليل حجية الأمارة وان كان مقيدا به لبا أيضا كان الأخير حاكما على الأول.

الثالث ـ اننا نعلم إجمالا بوجود حكم إلزاميّ اما واقعي أو ظاهري في أحد الطرفين وحينئذ تكون نسبة الأصل الترخيصي في الطرفين إلى هذا المعلوم الإجمالي نسبة الأصول الترخيصية إلى المعلوم بالإجمالي الواقعي فتتعارض وتتساقط (١).

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيات :

إذا علم إجمالا بتكليف الآن أو في الزمان المستقبل سمي بالعلم الإجمالي بالتدريجات ، كما إذا علمت المرأة المستحاضة التي ضاعت عليها أيام عادتها بان بعض

__________________

(١) قد عرفت أن هذا الجواب ليس كافيا بل لا بد من جواب آخر على ما تقدم.


الأيام من الشهر تكون أيام حيضها فيحرم مكثها في المسجد خلال تلك الأيام إجمالا. وقد وقع البحث في منجزية مثل هذا العلم الإجمالي وعدم منجزيته.

وليعلم ان التكليف في الطرف المنوط بزمان متأخر تارة يكون استقباليا خطابا وملاكا ، وأخرى يكون استقباليا خطابا فقط لا ملاكا ـ ولو من جهة القول باستحالة الواجب المعلق ـ ، وثالثة يكون استقباليا أداء فقط أي ان زمان الواجب متأخر مع فعلية التكليف خطابا وملاكا من أول الأمر. لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في الصورة الثالثة لكونه علما بتكليف فعلي على كل تقدير بل والصورة الثانية أيضا بناء على ان الّذي يدخل في العهدة ليس هو الجعل والخطاب من حيث هو اعتبار بل من حيث هو كاشف عن الملاك والإرادة والمفروض العلم بفعليتهما على كل تقدير.

وانما البحث في الصورة الأولى ، وما يمكن ان يذكر في مقام المنع عن منجزيته أحد تقريبين :

التقريب الأول ـ دعوى اختلال الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي لأن المكلف لا يعلم بتكليف فعلي في حقه على كل تقدير وانما يحتمل ذلك والمنجز الّذي تشتغل به الذّمّة هو العلم بالتكليف الفعلي.

وفيه : ان المقصود بالتكليف الفعلي ليس وجود التكليف في هذا الآن بل وجوده فعلا في عمود الزمان احترازا عما إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر فانه في مثل ذلك لا علم بتكليف فعلي ولو في عمود الزمان فالجامع بين التكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليا في آن متأخر لا يقصر عقلا وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن لأن مولوية المولى لا تختص بهذا الآن.

وان شئت قلت : ان المنجزية ليس كوجوب المقدمة حكما شرعيا تابعا للتكليف النفسيّ ليقال بعدم ثبوته قبل فعلية التكليف النفسيّ ، وانما هو حكم العقل بحق الطاعة والمولوية بهذا المقدار من الانكشاف ، ولا إشكال في ان الانكشاف بالعلم الإجمالي لا فرق فيه بين كونه دائرا بين تكليفين كلاهما في هذا الآن أو أحدهما في هذا الآن والآخر في الآن القادم ، فمن ناحية الركن الأول لا قصور في العلم الإجمالي بالتدريجات.

التقريب الثاني ـ دعوى اختلال الركن الثالث أي جريان الأصل في الطرف


الحالي دون محذور. اما بناء على مسلك الاقتضاء وتوقف منجزية العلم الإجمالي على تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف فباعتبار ان الأصول لا يجري فعلا الا عن الطرف الحالي واما الطرف الاستقبالي فهو وان كان مشكوكا الا انه ليس مجرى للأصل الا في زمانه فلا معارض بالفعل للطرف الحالي ليمنع عن جريانه. واما على مسلك العلية فلأن التكليف المتأخر لا يصلح ان يكون منجزا الآن لأن تنجز كل تكليف فرع ثبوته وفعليته فلا يصلح العلم الإجمالي بالتدريجيات لتنجيز معلومه بالفعل على كل تقدير.

وفيه : عدم تمامية هذا التقريب أيضا لا على مسلك الاقتضاء ولا على مسلك العلية.

اما على مسلك الاقتضاء ـ فلأن الأصل المؤمن الّذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخر في ظرفه ، وليس التعارض بين الأصلين من قبيل التضاد بين شيئين حتى يشترط في حصوله وحدة الزمان بل مرده إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكل من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا.

وان شئت قلت : ان قبح الترخيص في المخالفة القطعية الّذي هو القيد العقلي لأدلة الأصول المرخصة لا يختلف فيه بين ان يكون المخالفة المعلومة دفعية التحقق أو تدريجية فمن ناحية الانكشاف والوصول تكون هذه المخالفة قبيحة وان تأخر فعله وتحققه فان تأخر القبيح لا ينافي القبح ، هذا على مسالك القوم وكذلك على مسلكنا فان ارتكاز المناقضة عقلائيا وأهمية الإلزام الواقعي المعلوم بحيث لا يتصور عقلائيا ترجيح الملاكات الترخيصية عليه لا يختلف حاله بين كون ذلك الملاك الإلزامي الآن على كل تقدير أو الآن على تقدير وفي الغد على تقدير آخر فان ملاك الارتكاز ونكتته على حد سواء في الموردين.

لا يقال ـ محذور قبح الترخيص في المعصية أو ارتكاز التناقض انما يمنعان عن إطلاق دليل الأصل الترخيصي لمجموع الأطراف لا لطرف واحد والمفروض ان دليل الأصل لا يشمل بالفعل الا الطرف الحالي واما الطرف الاستقبالي فلا يشمله الآن لعدم ترتب أثر عليه بالفعل وانما يشمله في الزمان الاستقبالي وحينذاك يكون الطرف


الأول خارجا عن محل ابتلاء المكلف ومنقضيا.

والحاصل لا يلزم من إجراء الأصل اجتماع الترخيصين المؤديين إلى المخالفة القطعية في زمان واحد بل في كل زمان يجري الترخيص في أحد الطرفين وليس ذلك ترخيصا في المخالفة القطعية.

فانه يقال ـ بل يشمل إطلاق دليل الأصل للطرف الاستقبالي أيضا ولكنه لا يثبت فيه ترخيصا حاليا بل استقباليا أيضا بالنحو المناسب معه ، والمحذور كما قلنا لم يكن مخصوصا بالترخيصين الدفعيين بل يعم الترخيص الفعلي والترخيص الاستقبالي بلحاظ عمود الزمان المؤديين إلى المخالفة القطعية.

واما على مسلك العلية ، فلأن المقصود من كون العلم الإجمالي صالحا لمنجزية معلومه على كل تقدير كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن. وان شئت قلت : انه من ناحية الوصول يكون صالحا للتنجيز وتسجيله في العهدة على كل تقدير سواء كانت فعليته الآن أو في المستقبل وهذا متوفر في المقام.

وهكذا يتضح ان الصحيح منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات ، وان الشبهات التي حامت حول تنجيزه موهونة جميعا.

الا ان المحقق العراقي ( قده ) حاول الإجابة عليها بتصوير علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف وتوضيحه : ان التكليف إذا كان في القطعة الزمنية المتأخرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلى لما يعرف من مسألة وجوب حفظ المقدمات المفوتة وعدم جواز تضييع الإنسان لقدرته على الواجب قبل مجيء ظرفه ، فيعلم إجمالا بالجامع بين تكليف نفسي الآن ، أو وجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي وهو علم إجمالي بما يكون كلا تقديريه فعليا.

وهذا الجواب غير تام إذ يرد عليه :

أولا ـ ان وجوب حفظ القدرة انما هو حكم عقلي كما تقدم في محله ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجز ذلك التكليف فلا بد في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجز للتكليف الآخر ولا منجز له كذلك الا العلم الإجمالي في التدريجيات فان كان ذلك منجزا له كفانا في تنجيز الطرف الحالي والا لم يكن حفظ القدرة واجبا.


وثانيا ـ ان هذا العلم الإجمالي الّذي أبرزه لا يقتضي أكثر من تنجيز التكليف الحالي وعدم تفويت القدرة واما تفويت ما يكلف به في ظرفه المتأخر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي وانما يتعين تنجز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيات وهو إن كان منجزا لذلك نثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

وثالثا ـ ان حفظ القدرة لا يجب الا فيما إذا كانت القدرة على الواجب في زمانه غير دخيلة في الملاك أي من شرائط الوجود لا الاتصاف والا لا يجب حفظها كما حققنا ذلك في بحث الواجب المشروط.

وهكذا يتضح ان الصحيح منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات بلا حاجة إلى إبراز مسألة حفظ القدرة (١).

١٠ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف :

إذا وقع الاضطرار إلى اقتحام بعض أطراف العلم الإجمالي فهنا حالتان :

الحالة الأولى ـ الاضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم.

الحالة الثانية ـ الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف لا بعينه.

اما الحالة الأولى ـ فتارة يكون الاضطرار مقارنا أو قبل حصول سبب التكليف كما إذا اضطر إلى شرب الماء ثم علم بوقوع قطرة نجس اما فيه أو في الثوب ، وهنا لا يتشكل

__________________

(١) أفاد سيدنا الأستاذ ( 1 الشريف ) على هامش البحث ان هذا المطلب واضح جدا فيما إذا فرض عدم احتمال العالم بالإجمال تبدل علمه وعدم بقائه إلى حين مجيء زمان التكليف الاستقبالي ، واما إذا علم أو احتمل ذلك ـ كما إذا علم أو احتمل انه إلى ذلك الحين سوف يقابل المعصوم مثلا فيسأله عن الواقع ـ فهل يشفع ذلك لجريان الأصل الترخيصي في الطرف الحالي رغم علمه الإجمالي بالفعل أم لا؟.

قد يقال : بجريانه في صورة العلم بالتبدل بناء على ان المحذور هو قبح الترخيص في المعصية لأنه لا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لا بلحاظ الحال لأن الترخيص فيه مخالفة احتمالية ولا بلحاظ المستقبل لأنه سوف يتبدل علمه إلى الشك الساري فلا موضوع للأصل فيه ، نعم لو لم يعلم بتبدل العلم الإجمالي وانما احتمل ذلك فيكون من موارد الشبهة المصداقية للمخصص فلا يمكن التمسك بالأصل.

واما بناء على ان المحذور هو ارتكاز المناقضة فيحتمل بقاء محذور التناقض في الصورتين.

أقول : الظاهر ان الميزان ملاحظة زمان العلم فانه في هذا الزمان يكون الترخيص في الطرف الحالي مع كون الطرف الآخر موردا للترخيص أيضا في نفسه بلحاظ هذا الزمان وإن كان وقته متأخرا فيه محذور القبح العقلي أو التناقض العقلائي وليس المحذور في ترتب أثر الترخيص خارجا بالفعل ولا في العلم بفعلية الأصلين الترخيصيين في عمود الزمان.


علم إجمالي بالتكليف أصلا لزوال الركن الأول من أركانه لأن عدم الاضطرار جزء الموضوع للتكليف وحيث ان المكلف يحتمل ان النجس المعلوم هو المضطر إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي فتجري الأصول المؤمنة بدون معارض. وأخرى يكون الاضطرار بعد حصول سبب التكليف وهنا يتشكل العلم الإجمالي بالتكليف لا محالة فالركن الأول محفوظ.

ولكن هنا تارة يفترض حصول الاضطرار بعد حصول العلم الإجمالي كما إذا علم بوقوع قطرة دم في الثوب أو الماء ثم اضطر إلى شرب الماء ، وأخرى يفرض حصول الاضطرار مقارنا مع العلم الإجمالي أو قبله سواء كان المعلوم بالإجمال ـ وهو التكليف الفعلي بفعلية سببه ـ متقدما عليهما أم مقارنا.

ففي الصورة الأولى قد يتوهم الانحلال بدعوى ان العلم الإجمالي بعد حصول الاضطرار إلى أحد طرفيه معينا لا يبقي علما إجماليا بتكليف فعلي بقاء لأن الطرف المضطر إليه لو كان هو مورد التكليف لارتفع بالاضطرار لا محالة فلا يبقى علم بتكليف فعلي بل يشك فيه والميزان في التنجيز في كل آن بقاء العلم فيه.

والجواب : ما ذكره المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الكفاية وأوضحه المحقق العراقي ( قده ) من كفاية العلم الإجمالي المردد بين الطويل والقصير حيث يعلم المكلف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار أو في الطرف الآخر حتى الآن وهو علم حاصل من زمان التكليف القصير وإلى الآن.

نعم هذا العلم الإجمالي في بعض صوره يكون من العلم الإجمالي بالتدريجيات كما إذا كان التكليف في الطرف غير المضطر إليه أعني الطويل انحلاليا في كل آن وغير فعلي من أول الأمر.

واما في الصورة الثانية ، فالصحيح عدم منجزية العلم الإجمالي لانثلام الركن الثالث لأن التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا فلم يحصل علم إجمالي بالتكليف من أول الأمر فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

وقد نقل مقرر بحث المحقق النائيني ( قده ) انه كان يبني في الدورة السابقة على المنجزية ثم عدل إلى عدم التنجيز.


وتوهم المنجزية يمكن ان يقرب بأحد بيانين كلاهما غير تام :

البيان الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان أصل فعلية التكليف من أول الأمر معلوم بحسب الفرض وانما الشك في سقوطه بطرو الاضطرار إليه والشك في السقوط مورد لأصالة الاشتغال لا البراءة.

وفيه : انه خلط بين الشك في سقوط تكليف منجز بالعجز أو بالامتثال وبين الشك في ان التكليف قد تعلق بالطرف المضطر إليه أو بالطرف الّذي ليس فيه اضطرار فانه هنا يكون الشك في موضوع التكليف وفعليته بقاء وهو مجرى الأصل المؤمن كالشك في فعليته حدوثا كما هو واضح.

البيان الثاني ـ ما ذكره السيد الأستاذ في الدراسات من اننا نعلم إجمالا بثبوت تكليف مردد بين الفرد القصير في الطرف المضطر إليه بلحاظ قبل الاضطرار وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر فنستصحب ذلك ويكون من استصحاب جامع التكليف وهو من الكلي القسم الثاني نظير استصحاب الحدث بعد الوضوء عند التردد بين الحدث الأكبر والأصغر ، وبهذا وان كنا لا نحرز الفرد الطويل لأنه أصل مثبت الا ان ثبوت جامع التكليف أيضا منجز بحكم العقل فلا بد من الفراغ اليقيني عنه بامتثال الفرد الطويل.

ثم أجاب عنه بان استصحاب الجامع انما يتم فيما إذا لم يمكن نفي الفرد الطويل بالأصل المؤمن كما في مثال الحدث فان استصحاب عدم الحدث الأكبر معارض فيه بعدم الحدث الأصغر ، واما فيما نحن فيه فأصالة البراءة الجارية عن التكليف الطويل لا معارض لها إذ التكليف في الطرف الآخر ساقط جزما بعد الاضطرار وقبله كانت الشبهة بدوية غير مقرونة بالعلم الإجمالي لكي يوجب المعارضة فيجري الأصل في الطرف الطويل ويحكم على استصحاب الكلي من القسم الثاني لأن الشك فيه ناشئ من الشك في الفرد الطويل ، وبهذا ندفع أيضا شبهة استصحاب الكلي في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين بعد الإتيان بالأقل.

وأصل هذا البيان مع الجواب الّذي أفيد كلاهما غير فني.

اما أصل التقريب ، فباعتبار ان استصحاب جامع التكليف في المقام لا أثر له في نفسه لأنه استصحاب لجامع تكليف طويل أو قصير خارج عن القدرة بالاضطرار


فلا يكون صالحا للتنجيز والدخول في العهدة ، والجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يدخل في دائرة المولوية وحق الطاعة حتى إذا صرح به فضلا عما إذا أريد إثباته بالأصل ، وبهذه النكتة نمنع عن جريان استصحاب بقاء جامع التكليف في موارد الأقل والأكثر أو الدوران بين المتباينين بعد الإتيان بأحدهما ، وهذا بخلاف مثال الحدث المردد فانه يجري فيه استصحاب جامع الحدث لتنقيح موضوع التكليف الشرعي المشترك والمترتب على جامع الحدث كحرمة مس المصحف مثلا ـ هذا بقطع النّظر عن وجود أصل موضوعي حاكم في هذا المثال شرحناه في بحوث شرح العروة الوثقى ـ ومن هنا نفصل في جريان استصحاب الكلي من القسم الثاني بين ما إذا أريد به إثبات أثر شرعي مترتب على الجامع فيجري وما إذا لم يكن أثر كذلك وانما المقصود تنجيز الطرف الآخر أعني التكليف الطويل بإثبات جامعه فلا يجري ، هذا لو أريد استصحاب الكلي وجامع التكليف ، واما إذا أريد استصحاب واقع التكليف المعلوم على إجماله فهو من استصحاب الفرد المردد على ما هو موضح في محله.

وهناك محاولة للمحقق العراقي ( قده ) لتصحيح استصحاب جامع الوجوب بتقريب : ان استصحاب الجامع يثبت التكليف في الطرف الباقي لكونه لازما لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ليكون من الأصل المثبت ، ولازم الاستصحاب لازم للدليل الاجتهادي الدال على كبرى الاستصحاب بحسب الحقيقة ، توضيح ذلك : ان الحكم الظاهري ببقاء الجامع لا يمكن ان يوجد الا ضمن ثبوت أحد الفردين ظاهرا فإذا علم بارتفاع أحدهما تقع الملازمة بين ثبوت الجامع وثبوت الفرد الآخر فيثبت باستصحاب الجامع الفرد الطويل ، وهذا نظير ما نقوله في بحث الماء النجس المتمم كرا بظاهر من ان استصحاب حال كل منهما يعارض مع استصحاب الآخر لعدم تعقل العرف لتحمل ماء واحد حكمين مختلفين سواء كانا واقعيين أو ظاهريين فيثبت باستصحاب طهارة كل من الجزءين طهارة الآخر وباستصحاب نجاسة كل منهما نجاسة الآخر بالملازمة لدليل الاستصحاب.

وفيه : أولا ـ ان هذا الكلام لا يتم في المقام الا بناء على القول بجعل الحكم المماثل ليقال بان جعل وجوب الجامع لا يكون مماثلا مع الوجوب الواقعي المعلوم ، فمثلا لو علم وجوب الجمعة أو الظهر فإذا جعل وجوب الجامع بينهما فهو ليس مماثلا فلا بد من جعل


ظاهري متعلق بالظهر أو الجمعة ليكون مماثلا وحيث يستحيل ثبوت جامع الحكم ولو الظاهري الا ضمن أحد الفردين والمفروض القطع بعدم وجوب الجمعة للإتيان به مثلا فيتعين وجوب الظهر. واما بناء على ان الحكم الظاهري ليس جعلا كالجعل الواقعي بل روحه إبراز الاهتمام بالواقع على تقدير وجوده فيعقل ان يكون الاهتمام بمقدار الجامع لا أكثر.

وثانيا ـ حتى بناء على مبنى جعل الحكم المماثل لا يتم هذا البيان لأن إثبات شيء زائد على المستصحب لملازمته مع الحكم الاستصحابي نفسه انما يمكن إذا لم يلزم من ذلك خروج المستصحب عن المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب والا لم يجز التمسك بإطلاقه ، وفي المقام الأمر كذلك لأن وجوب صلاة الظهر في المقام يحتمل كونه مباينا مع الوجوب الثابت بالعلم الإجمالي أولا كما إذا كان الواجب هو الجمعة فلا يكون الجامع الموجود ضمنهما الا مباينا عرفا مع ما كان واجبا سابقا لا انه نفس الجامع وزيادة كما في الماء النجس المتمم كرا ، والمفروض ان دليل الاستصحاب مدلوله المطابقي إبقاء ما كان بحيث يكون فرقه عن البقاء الحقيقي في تعبدية هذا ووجدانية ذاك مع كونه نفس المعلوم والمتيقن سابقا فإذا لم يحرز ان المشكوك على تقدير ثبوته نفس المتيقن لم يجز التمسك بدليل الاستصحاب للتعبد بثبوته.

واما عدم تمامية الإجابة فلوضوح ان الأصل النافي للفرد الطويل لا يكون نافيا لجامع التكليف الا بنحو الأصل المثبت فضلا من ان يكون حاكما عليه من باب السببية والمسببية ، فان الجامع لو فرض انه عين الفرد فلا تعدد ليكون أحدهما مسببا عن الآخر ، ولو فرض انه غيره ومسبب عنه فهو مسبب عقلي تكويني فليس انتفاؤه أثرا شرعيا ليثبت بجريان الأصل المؤمن عن الفرد الطويل. على انه لو كان أثرا شرعيا له فلا بد وان ينفي بمثل استصحاب عدم الفرد الطويل من الأصول التنزيلية لا بمثل البراءة عن التكليف في الطرف الطويل التي شأنها التأمين لا التعبد بانتفاء التكليف المحتمل ، وكأنه وقع خلط في مقام التقرير.

وهكذا يتضح انه في مورد الاضطرار إلى طرف بعينه لا بد من التفصيل بين ما إذا كان حصول الاضطرار بعد حصول العلم بالتكليف فيبقى العلم الإجمالي منجزا وما إذا كان طروه مقارنا مع العلم أو قبله فيسقط عن المنجزية.


واما الحالة الثانية ـ وهي الاضطرار إلى طرف لا بعينه ، فلا إشكال في سقوط وجوب الموافقة القطعية فيها لأن الاضطرار إلى أحدهما يوجب الترخيص التخييري بلا إشكال ، وانما الكلام في حرمة المخالفة القطعية بعد ذلك بارتكاب الطرف الآخر وعدمها. وقد ذهب المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلى العدم بدعوى ان الترخيص التخييري ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال فيرتفع العلم ويكون احتمال التكليف في الطرف الآخر شبهة بدوية.

والمحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه منع عن هذه المنافاة بأنه إن كان المدعى المنافاة مع الحكم الواقعي فهو غير صحيح ، لأن هذا الترخيص ليس ترخيصا واقعيا في الحرام الواقعي إذ لا اضطرار إلى الحرام الواقعي وانما نشأ في طول الجهل بالحرام الواقعي وتردده بين الطرفين فالترخيص التخييري في المقام لا يتنافى مع الحرام الواقعي ولا يقتضي رفع اليد عنه ، وان كان المدعى المنافاة مع الحرام المعلوم بما هو معلوم أي مع حكم العقل بقبح المخالفة فالمفروض ان الترخيص في المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الإجمالي لا بأس به سواء كان تخييرا أو تعيينا. وعليه فلا منافاة بين التكليف الواقعي والترخيص التخييري فالعلم الإجمالي بالتكليف ثابت على حاله غاية الأمر انه هنا لا يمكنه ان ينجز بدرجة وجوب الموافقة القطعية لفرض الترخيص في ارتكاب أحدهما لكن يبقى على تنجيزه بدرجة حرمة المخالفة القطعية وهذا ما يسمى بالتوسط في التنجيز.

وذكر المحقق العراقي ( قده ) ان هذا انما يتم على الاقتضاء لا العلية ، لأنه بناء على مسلك العلية لا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم أيضا فإذا ثبت ذلك كان منافيا لا محالة مع التكليف الواقعي وبارتفاعه لا وجه لحرمة المخالفة القطعية أيضا.

ولكنه مع ذلك حكم بوجوب الاجتناب عن الفرد الآخر باعتبار ان هذه المنافاة ليست لأصل التكليف رأسا بل لإطلاقه لما إذا صادف اختياره للحرام الواقعي لا أكثر فيكون العلم الإجمالي علما بالتكليف المقيد بذلك القيد وهذا ما يسمى بمسلك التوسط في التكليف

والتحقيق : انه لا منافاة بين التكليف الواقعي مع الاضطرار التخييري حتى على


مسلك العلية ، لأن المقصود بالعلية عدم إمكان جعل الشك مؤمنا لأن الوصول بالعلم تام الا ان هذا لا ينافي وجود مؤمن آخر وهو العجز والاضطرار ، فلو كلف المولى عبده بما لا يقدر على بعض مراتب امتثاله أو تمامها عقلا أو شرعا وعلم بذلك لم يتنجز عليه تلك المرتبة من الامتثال أو تمامها إذ لا حق للمولى خارج نطاق قدرته من دون ان يتنافى ذلك مع منجزية العلم والوصول ، وفيما نحن فيه المكلف يضطر إلى عدم الموافقة القطعية عقلا أو شرعا ـ كما إذا كانت تؤدي إلى هلاك نفس ملاك حفظها أهم أو غير ذلك ـ مع بقاء التكليف الواقعي المعلوم على حاله لعدم الاضطرار إليه فترتفع مرتبة الامتثال القطعي وتبقى حرمة المخالفة القطعية على حالها ، وهو من التوسط في التنجيز لا التكليف.

نعم جاء في التقرير الآخر لأبحاث المحقق النائيني ( قده ) تقريب آخر للتوسط في التكليف في المقام حاصله : ان الاضطرار وان كان إلى الجامع واحد الطرفين تخييرا لا تعيينا الا ان أي فرد يختاره المكلف يكون بحسب نظر العرف هو المضطر إليه فيكون الترخيص في اقتحامه واقعيا رافعا للإلزام الواقعي على تقدير وجوده فيه بمقتضي أدلة رفع الاضطرار فتقع المنافاة بين الترخيص بملاك الاضطرار وبين إطلاق التكليف الواقعي فيقيد بصورة ما إذا لم يختر ذلك الفرد فيحصل التوسط في التكليف.

وفيه : انه لا وجه لما ذكر من سريان الاضطرار من الجامع إلى الفرد عرفا بل الاضطرار عقلا وعرفا ليس إلى الحرام الواقعي فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله أصلا.

ثم انه بناء على التوسط في التكليف اختلفت كلمات العلمين في كيفية تصوير هذا التكليف المتوسط وتنجيزه للطرف الآخر الباقي بعد رفع الاضطرار.

فالمحقق النائيني ( قده ) ذهب إلى ان التكليف يصبح مشروطا بعدم اختيار الحرام الواقعي لدفع الاضطرار ، وفصل في استلزام ذلك لتنجيز الفرد الآخر بين ما لو فرض ذلك شرطا متأخرا بحيث مهما اختار الفرد الحرام لدفع الضرورة كشف ذلك عن عدم حرمة ذلك الفرد من أول الأمر أو فرض شرطا مقارنا بحيث ترتفع حرمته من حين الاختيار ، فعلى الأول لا تنجيز في البين للشك في التكليف من جهة الشك في شرط


فعليته من أول الأمر ، وعلى الثاني يكون أصل التكليف معلوما بلحاظ قبل الاختيار غاية الأمر يرتفع بقاء فيكون من حالات العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الفرد القصير في الطرف الّذي اختاره بلحاظ قبل الاختيار وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر ، واختار هو ( قده ) الفرض الثاني لأن المتيقن سقوطه من التكليف بالضرورة انما هو ذلك لا أكثر.

واعترض عليه السيد الأستاذ بأنه لا يعقل التكليف المشروط بعدم اختيار مخالفته فان التكليف انما يكون لتوجيه اختيار المكلف أو عدم اختياره فلو جعل مغيا بالمخالفة أصبح لغوا.

والصحيح ان كلا الفرضين يقيدان التنجيز كما لا يرد على الفرض الثاني ما ذكره السيد الأستاذ بعد تعديل القيد الّذي جاء في كلام المحقق النائيني للتكليف المتوسط بان يكون المقصود من عدم اختيار الفرد الحرام واقعا عدم اختياره وحده فالحرمة تثبت في فرضين فرض اختيار الآخر وفرض اختيارهما معا ، وهذا مساوق لكون الشرط في الحرمة بعدم اختيار الفرد الآخر في مقام دفع الاضطرار فانه حينئذ لو اقتحم كلا الطرفين كان شرط فعلية الحرمة ثابتا حتى على الفرض الأول كما انه لا يلزم منه تقييد الحرمة بعدم اختيار مخالفته الّذي يكون لغوا لأن الغاية حصة خاصة من المخالفة وهي مخالفته مع عدم ارتكاب الفرد الآخر ، وان شئت قلت : انه مغيا بعدم ارتكاب الفرد الآخر وهذا لا يوجب سقوط التكليف عن كونه توجيها لاختيار المكلف وعدم اختياره كما لا يخفى.

واما المحقق العراقي ( قده ) فلم يرجع القيد للتكليف بل لمتعلقه فكأن وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ليس بمعنى سد جميع أبواب عدمه بل سد بعض أبواب عدمه وهو عدمه بارتكاب كل الأطراف فيكون الحال كما لو انقلب وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي من التعينية إلى التخييرية ، ولعله انما لم يرجع القيد إلى الحرمة لأحد المحذورين المتقدمين في كلام المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ وقد عرفت عدم تمامية شيء منهما.

ولكن يرد على هذا التصوير حينئذ انه لا دليل إثباتا على أخذ قيد من هذا القبيل في الخطاب الواقعي لأن ظاهره التعيينية ولزوم سد جميع أبواب العدم فإرجاعه إلى


التخييرية يحتاج إلى دليل خاص ولا يكفي فيه الإطلاقات الأولية (١) نعم تقييد الخطاب الواقعي بالنحو الّذي أفاده المحقق النائيني لا يحتاج إلى دليل خاص بل يكفي فيه إطلاق دليل التكليف بعد ضمه إلى دليل رافعية الاضطرار بناء على منافاته مع الحرام الواقعي بأحد البيانين المتقدمين في إثبات التوسط في التكليف ، ولكنك عرفت عدم تمامية شيء منهما فالتكليف المعلوم بالإجمال باق على إطلاقه وانما التوسط في التنجيز فقط.

__________________

(١) أفاد السيد الأستاذ ( 1 الشريف ) ان هذا الاعتراض لو كان يورد على المحقق العراقي ( قده ) فأكبر الظن انه كان يعالجه على مبانيه بدعوى ان الدليل عليه نفس دليل التكليف التعييني لأنه بالمطابقة يدل على الحكم التعييني وبالالتزام يدل على الملاك وقد سقطت دلالته المطابقية بالاضطرار وتبقى الدلالة الالتزامية على الحجية بناء على مسلكه من عدم التبعية بينها وبين الدلالة المطابقية في الحجية وحينئذ نستكشف من بقاء الملاك الإلزامي خطابا بسد بعض أبواب العدم بعد ان وجد مانع عن الخطاب الّذي يسد جميع أبواب العدم ، وهذا نظير ما يقال في جملة من الموارد التي لا يكفي المدلول المطابقي للدليل فيها لتحصيل الملاك من استكشاف الخطاب من ناحية فعلية الملاك كما في خطاب وجوب حفظ القدرة.

أقول : لا وجه لاستكشاف الخطاب التخييري لأن الملاك المستكشف بالملازمة تعييني أيضا وهو يقتضي الخطاب التعييني والتنجيز التعييني أعني تنجيز الموافقة القطعية فإذا ما سقط الخطاب التعييني والتنجيز فلا وجه لاستفادة خطاب آخر كما لا وجه لبقاء التنجيز فان العلم الإجمالي بعد ان كان علة تامة للموافقة القطعية وعدم جواز المخالفة الاحتمالية وهو مناف مع الترخيص التخييري الثابت بالاضطرار فهذا لا يختلف حاله بين كون المعلوم خطابا شرعيا أو ملاكه ، نعم يبقى دعوى الشك في القدرة على تحقيق الملاك المعلوم من خلال الاجتناب عن الطرف الباقي وقد عرفت انه ليس من الشك في القدرة على الامتثال لكي يجب الاحتياط فيه عقلا. أو دعوى منجزية الملاك المعلوم بمرتبة حرمة المخالفة القطعية وان لم يكن منجزا بمرتبة وجوب الموافقة القطعية وهذا بحسب الحقيقة رجوع إلى الاعتراض الموجه ضد أصل دعوى التوسط في التكليف بناء على مسلك العلية وانه حتى على هذا المسلك يكون من التوسط في التنجيز مع فعلية الخطاب الواقعي فضلا عن الملاك.

وإن شئت قلت : بان امتثال الملاك الواقعي لا يتوقف على ترك الفرد الآخر كما في موارد حفظ القدرة ليستكشف خطاب آخر بوجوبه ـ لو سلمت كبرى هذا الاستكشاف ـ فان أريد من الخطاب التخييري المستكشف بالملاك خطاب واقعي فهو خلف عدم التوقف واقعا ، وان أريد به خطاب ظاهري فهذا يرد عليه.

أولا ـ لا تقتضيه تلك الكبرى المزعومة في استكشاف الخطاب من الملاك لأن المدعى فيها استكشاف خطاب من سنخ الملاك وعلى أساس التوقف وثانيا ـ هذا مخالف مع مفاد أدلة الأصول الترخيصية لأنها تنفي بحسب الفرض هذه المرتبة من الحفظ لأغراض المولى أعني الحفظ في طول حصول الجهل والتردد ولا تكون نسبة أدلة الأصول إليه حينئذ كنسبتها إلى الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال كما هو واضح.

ثم انه يمكن تصوير التوسط في التكليف بإرجاع القيد إلى المتعلق ـ كما يريد المحقق العراقي ( قده ) ـ في خصوص باب الخطاب التحريمي بإرجاع ارتكاب الطرف الآخر ـ وهو شرب الطاهر في المثال ـ قيدا في الحرام لا في الحرمة فالمحرم من أول الأمر خصوص شرب النجس مع شرب الطاهر بنحو التقييد مع بقاء الحرمة على إطلاقها إذ لا وجه في خطاب الحرمة لرفع اليد عن إطلاق الحرمة والحرام معا وانما ترجع القيود إلى الحرام دائما مع بقاء الحرمة على إطلاقها بل هذا هو المتعين فيثبت من أول الأمر حرمة تلك الحصة من شرب النجس المقيدة بشرب الطاهر وهو معنى لزوم ترك أحدهما تخييرا ، نعم لا يتم ذلك في باب الخطاب الوجوبيّ كما لا يخفى وجهه.


ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأول ـ ان الاضطرار يمكن ان يراد به أحد معان :

١ ـ العجز التكويني عن الامتثال.

٢ ـ العجز الشرعي ، أعني الاشتغال بالأهم أو المساوي كما لو اضطر إلى شرب النجس لأجل حفظ نفس محترمة يجب حفظها.

٣ ـ الحرج أو الضرر إذا اقتضيا الترخيص الشرعي وان لم يكن عجز في البين والاشتغال بواجب أهم.

والقسم الأول غير قابل للترخيص الشرعي أصلا وانما الترخيص فيه عقلي ، نعم يمكن للشارع التصرف في الترخيص بصرفه إلى طرف معين.

والقسم الثاني يكفي فيه علم المكلف بالمزاحمة بالأهم ولا حاجة إلى الترخيص الشرعي لكنه قابل له ولو من باب إيصال الأهمية.

واما القسم الثالث فلا يكون الترخيص فيه الا شرعيا.

وما تقدم من النكات في حكم الاضطرار كان المنظور فيها القسمان الأولان ، واما القسم الثالث فلو كان الضرر والحرج في طرف معين جرى فيه كل ما تقدم في حالة الاضطرار إلى طرف بعينه.

واما إذا كان الضرر أو الحرج يرتفع باقتحام طرف لا بعينه فقد يناقش حينئذ في أصل شمول أدلة نفي الحرج والضرر للمقام تارة بدعوى ان هذه الأدلة تنفي الحكم بلسان نفي موضوعه فلا بد من موضوع له حكم شرعي يستلزم منه الحرج وفي المقام الحكم الشرعي المعلوم بالإجمال ليس موضوعه حرجيا ولا ضرريا وانما الضرر في الاحتياط والموافقة القطعية باجتناب تمام الأطراف وهذا ليس موضوعا لحكم شرعي بل عقلي فلا تحكم عليه أدلة نفي الحرج أو الضرر ، وأخرى : بدعوى ان هذه الأدلة وان كانت تنفي منشأ كل حرج أو ضرر وهو هنا الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال ولو في طول حصول الإجمال الا انه يشترط فيه ان يكون حكما شرعيا لا عدم حكم أو ترخيص ، والضرر في المقام ينشأ من عدم الترخيص الشرعي في الأطراف لا من مجرد الحكم الواقعي الإلزامي ، وهذا الاعتراض بصيغتيه قد تقدم تفنيده وإبطاله في بحث دليل الانسداد وأوضحنا هناك شمول أدلة نفي الحرج والضرر لأطراف العلم الإجمالي


الّذي تكون موافقته القطعية حرجية أو ضررية وهي بذلك تنفي اهتمام المولى بأغراضه الواقعية بمرتبة إيجاب الاحتياط التام.

وقد يناقش بعد الفراغ عن شمول أدلة نفي الحرج والضرر لموارد العلم الإجمالي الّذي يكون الاحتياط فيه حرجيا أو ضرريا بان لازم ذلك ارتفاع الحكم الواقعي الناشئ منه الضرر أو الحرج لأن المرفوع بهذه الأدلة لا بد وان يكون حكما شرعيا وليس الحرج أو الضرر كالعجز التكويني أو الاشتغال بالأهم الّذي يكون رافعا لمنجزية التكليف وعذرا عقليا فتكون النتيجة من التوسط في التكليف لا محالة لا في التنجيز.

الا ان الصحيح انه على هذا التقدير أيضا تكون النتيجة التوسط في التنجيز مع بقاء الحكم الواقعي على حاله لأن الحرج أو الضرر انما نشأ بحسب الحقيقة عن إيجاب الاحتياط التام واهتمام المولى بأغراضه المشتبهة بالعلم الإجمالي الّذي هو حقيقة الحكم الظاهري عندنا وليس الحرج أو الضرر من نفس الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فالذي يرتفع بأدلة النفي هذه المرتبة من الاهتمام الشرعي والّذي هو حكم شرعي بحسب الحقيقة على حد الأحكام الواقعية وان كانت ملاكاتها طريقية فالنتيجة في هذا النحو من الاضطرار هي التوسط في التنجيز أيضا.

الثاني : ان ما ذكرناه في الاضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم الإجمالي من التفصيل بين تأخر الاضطرار عن العلم فيبقى العلم الإجمالي منجزا وبين تقارنه أو تقدمه على العلم فلا منجزية للعلم لا يختص بفرض الاضطرار بل يطرد في تمام موارد سقوط التكليف في أحد الطرفين بالتلف أو الامتثال أو العصيان لأنه في الفرض الأول وان كان بلحاظ مرحلة البقاء لا علم إجمالي بالتكليف فعلا لاحتمال كونه في الطرف الساقط ولكن لنا علم إجمالي بالتكليف المردد بين القصير بلحاظ قبل زمن الاضطرار أو التلف والطويل في الطرف الآخر.

الا ان المحقق الخراسانيّ ( قده ) في الكفاية حكم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطرو الاضطرار إلى طرف معين من أطرافه مطلقا بخلاف فرض التلف فحكم فيه بالتنجيز ولكن في حاشيته على الكفاية استدرك وجعل الاضطرار الحاصل بعد العلم الإجمالي غير مؤثر في إسقاط منجزية العلم باعتبار العلم المردد بين القصير


والطويل ، وبذلك يستنتج من مجموع كلامه في الكفاية والحاشية انه بملاحظة العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل لا فرق بين الاضطرار والتلف ولكن مع قطع النّظر عنه يكون الاضطرار مسقطا لمنجزية العلم مطلقا بخلاف التلف فانه انما يسقطها إذا كان مقارنا أو قبل العلم.

وقد عرفت ان التفصيل المذكور مطرد في تمام موارد سقوط التكليف على تقدير كونه في أحد الطرفين بعينه سواء كان بالاضطرار أو التلف أو الامتثال أو العصيان بنكتة واحدة وهو العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل ومع الغض عنه لا منجزية في تمام موارد السقوط.

الا انه ربما يمكن ذكر وجه لعدم سقوط المنجزية في فرض تلف أحد الأطراف والإتيان به بخلاف الاضطرار والعسر والحرج مما يكون فيه دليل شرعي على تخصيص الخطابات ورفعها بإبراز فرق بينهما من حيث ان المخصص في الأول عقلي وفي الثاني شرعي فيدعى ان المخصص إذا كان عقليا فهو يرفع الخطاب فقط بدون الملاك بخلاف المخصص الشرعي فانه كما يكشف عن عدم الخطاب يكشف عن عدم الملاك أيضا وعليه يكون الملاك محرزا في الأول والشك في القدرة على حفظه لأن عروض التلف على أحد الطرفين يرفع القدرة عقلا على تحقيق الملاك لو كان فيه فيدخل في باب الشك في القدرة الّذي يجب فيه الاحتياط عقلا.

الا انه يرد على هذا الوجه حتى لو سلمت أصوله الموضوعية.

أولا ـ انه لو تم لجرى في موارد تقارن التلف مع العلم الإجمالي أو تقدمه عليه أيضا.

وثانيا ـ انه لا يتم الا في باب الواجبات لا المحرمات التي يطلب فيها الترك فان القدرة على الامتثال موجودة فيها وانما الشك في القدرة على العصيان كما إذا كان الحرام في الطرف التالف وليس الشك فيه موجبا للاحتياط عقلا.

وثالثا ـ ان الّذي يحكم به العقل عدم مؤمنية احتمال العجز وعدم القدرة على الامتثال في مورد يقطع بوجود الملاك فيه واما مع احتمال عدم الملاك في الموارد المقدور فلا بأس بالرجوع فيه إلى الأصل المؤمن عقلا أو شرعا لأنه من الشك في أصل التكليف بحسب الحقيقة والعلم الإجمالي بوجود الملاك في الجامع بين ما يكون غير


مقدور أو مقدور تقدم انه لا يكون منجزا.

الثالث ـ إذا طرأ الاضطرار بعد العلم بالتكليف فإذا كان إلى طرف معين قلنا انه لا يوجب سقوط منجزية العلم الإجمالي لوجود العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل من أول الأمر ، واما إذا كان الاضطرار إلى طرف لا بعينه وقلنا بمقالة المحقق الخراسانيّ من ان الاضطرار إلى طرف لا بعينه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية فهل يحكم بالمنجزية أيضا كما كنا نقول به ويقول به المحقق الخراسانيّ ( قده ) أيضا في حاشيته على الكفاية باعتبار العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل أم لا؟ الصحيح التفصيل بين حالتين :

الحالة الأولى ـ ما إذا كان الطرف الّذي يختاره لدفع اضطراره متعينا معلوما عنده من أول الأمر كما إذا فرض ان أحد الإناءين أنظف من الآخر فانه سوف يتشكل لديه نفس العلم الإجمالي المردد بين القصير في الطرف الّذي سوف يختاره بعد الاضطرار أو الطويل في الطرف الآخر.

الحالة الثانية ـ ما إذا لم يكن الطرف الّذي سوف يختاره لدفع الضرورة بعد الاضطرار متعينا لديه من أول الأمر فانه حينئذ لا يمكنه ان يشكل علما إجماليا كذلك لأن الفرد الّذي سوف يختاره لدفع الاضطرار غير متعين عنده وانما يعلم إجمالا بحرمة أحد الفردين عليه قبل الاضطرار ويشك في ان هذه الحرمة هل تكون مختصة بما قبل الاضطرار أي قصيرة أو تبقى بعد الاضطرار أيضا أي طويلة وهذا من الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر الّذي تجري فيه البراءة عن الأكثر. نعم بعد ان رفع الاضطرار بأحدهما يعلم إجمالا بحرمة الفرد الآخر الآن أو حرمة الفرد الّذي رفع به اضطراره قبل الاضطرار الا ان هذا علم إجمالي حاصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء فلا يكون منجزا (١).

__________________

(١) لا يقال : ولكنه يعلم إجمالا من أول الأمر بحرمة أحد الفردين بالعنوان الإجمالي اما ما يرفع به اضطراره فيما بعد ـ المعين في الواقع ـ قبل الاضطرار أو حرمة ما يبقى من الفردين بعد رفع الاضطرار في تمام عمود الزمان وهو من العلم الإجمالي بين فردين قصير وطويل وهو منجز.

فانه يقال : يمكن ان يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين :

الأول ـ ان غاية ما يلزم من ذلك سقوط الأصلين الترخيصين في العنوانين الإجماليين واما جريان الأصل الترخيصي في الطرف الباقي بعنوانه التفصيليّ والّذي هو إطلاق آخر لدليل الأصل ـ لأن الشك في العنوان التفصيليّ فرد آخر لدليل الأصل غير


١١ ـ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء :

المراد بالخروج عن محل الابتلاء حالات عدم صدور الفعل بحسب طبعه عن المكلف لتوقفه على مقدمات وعنايات فائقة أو طويلة بحيث يرى كأنه غير مقدور عرفا وان كان مقدورا عقلا كما في استعمال كأس في بلد لا يصل إليه عادة أو تتنفر الطباع عن الإقدام عليه كما في أكل الخبائث مثلا ، والجامع ان يضمن انصراف المكلف عن

__________________

الشك الإجمالي ـ فلا وجه لسقوطه فيشمله دليل الأصل المؤمن ويكفي ان يجري التأمين في مورد بأحد العنوانين المنطبقين عليه ولا يشترط جريانه عن جميع العناوين ، نعم بناء على مسلك علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية تكون الحرمة المعلومة في أحد الطرفين بهذا العنوان الإجمالي مما يجب الفراغ اليقيني عنه ولا يمكن جريان التأمين عنه حتى بعنوان آخر تفصيلي غير متعارض فيجب الاجتناب عن الطرف الباقي.

الثاني ـ ان الفرد القصير أعني ما سوف يرفع اضطراره به عنوان إجمالي لا يمكن اقتحامه ومخالفته الا بارتكاب الطرفين لأنه صالح للانطباق على كل منهما وهذا يعني ان مخالفة أحد طرفي العلم الإجمالي بنفسها مخالفة قطعية لا يجري الترخيص الشرعي فيه في نفسه فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض اما على مسلك الاقتضاء فواضح واما على مسلك العلية فلتنجز أحد طرفيه بمنجز آخر والمتنجز لا يتنجز والعلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه في عرض واحد.

وكلا الوجهين قابل للمناقشة : اما الثاني فلان العنوان الإجمالي القصير المفروض تعينه واقعا والشك في حرمته فيصح التأمين عنه وكون إحراز ارتكابه لا يكون الا بارتكاب الطرفين الّذي يكون مخالفة قطعية لا يمنع عن صحة التأمين عنه بعنوانه الإجمالي كما لا يعني تنجز حرمة الواقعية المحتملة فان هذه المخالفة القطعية نشأت بلحاظ ضمن الفرد الآخر إليه لا بلحاظ القطع بحرمة نفس ذلك الفرد الّذي هو مصب التأمين ، وان شئت قلت : يكفي جريان الأصل بالعنوان الإجمالي لنفي التبعة الزائدة بلحاظه لو اقتحم الطرفين ولو فرض ان إحراز اقتحامه ملازم مع اقتحام شيء آخر يقطع بالمخالفة في أحدهما فان إمكان إحراز الاقتحام بلا وقوع مخالفة قطعية ليس شرطا في جريان الأصل المؤمن وانما الشرط إمكان الاقتحام بدونه واقعا وهذا حاصل في المقام.

واما الأول ـ فلان الأصل في كل من الطرفين بالعنوان التفصيليّ بلحاظ ما بعد رفع الاضطرار أيضا طرف للمعارضة في هذا العلم الإجمالي غاية الأمر لا تشخيص للمتعارضين لا للمعارضة. توضيح ذلك : ان الأصل في كل من الإناء الأسود والأحمر بحسب الحقيقة له معارضان من أول الأمر ، أحدهما الأصل الجاري في الآخر بلحاظ الآن ، والآخر الأصل الجاري فيه بلحاظ ما بعد رفع الاضطرار إذا كان باقيا وهذا الأخير وان كان تقديريا مشروطا الا ان تحقق الشرط في أحدهما محرز بحسب الفرض فيعلم ان أحد الأصلين المشروطين الجاريين في الطرفين بالعنوان التفصيليّ معارض بالأصل في الطرف الآخر وهذا المقدار كاف في تحقق الإجمالي والتعارض في إطلاق دليل الأصل الترخيصي سواء كان ذلك بملاك عقلي هو قبح الترخيص في المخالفة القطعية أو بملاك عقلائي هو ارتكاز المناقضة مع الحرمة المعلومة ، لأنه لا يشترط في التعارض تشخيص طرفي المعارضة بعد إحراز أصل التعارض وانما الّذي ينفع عدم إحراز أصل التعارض.

هذا مضافا : إلى ورود النقض بما إذا بنى المكلف على إتلاف أحد الطرفين لا بعينه بعد حصول العلم الإجمالي له بحرمة أحدهما أو احتمل ان أحد الطرفين لا على التعيين لديه سوف يتلف من نفسه أو يضطر إلى ارتكابه فانه في كل ذلك ينبغي ان يقال بعدم منجزية العلم الإجمالي بعد التلف لا بلحاظ مرحلة البقاء لأنه لا يعلم بالتكليف الفعلي بقاء ولا بلحاظ الفرد القصير والطويل لأن الأصل في الطرف الباقي بعنوانه التفصيليّ لا يعارض بالأصل في الطرف التالف بلحاظ ما قبل تلفه لكونه عنوانا إجماليا مرددا بين الطرفين صالحا للانطباق على كل منهما.


الفعل بحسب الطبع الأولي والنوعيّ للناس بقطع النّظر عن عناية أو خصوصية زائدة فيكون بحكم العاجز عنه عرفا وان لم يكن عاجزا حقيقة.

وقد وقع البحث عند المحققين عن منجزية العلم الإجمالي بحرمة واقعة خارجة عن محل الابتلاء أو حرمة واقعة أخرى داخلة في محل الابتلاء ، ولتفصيل البحث حول هذا الأمر ينبغي الحديث في مقامين :

المقام الأول ـ فيما إذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي بالحرمة غير مقدور حقيقة.

المقام الثاني ـ فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء.

ومفروض البحث في المقامين مقارنة العجز الحقيقي أو العرفي مع العلم أو تقدمه عليه واما إذا حصل العجز بعد العلم الإجمالي فقد عرف حكمه مما سبق في بحث الاضطرار.

اما البحث المقام الأول ـ كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد مائعين مثلا وكان أحدهما مما لا يقدر المكلف عقلا على الوصول إليه ـ فلا إشكال في عدم منجزية هذا العلم الإجمالي.

ويستند المحققون في وجه ذلك عادة إلى ان مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون علما بتكليف فعلي فالركن الأول منتف لأن النجس إذا كان هو المائع الّذي لا يقدر عليه المكلف فليس موضوعا للتكليف إذا التكليف مشروط بالقدرة لا محالة فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير وانما يشك في وجوده لاحتمال كون النجس في الطرف المقدور.

وكأن هذا التقريب حصل انسياقا مع ما يذكر في بحث الاضطرار فجعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك الحرام كالاضطرار العقلي إلى فعله فكما لا ينجز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين منه كذلك لا ينجز مع الاضطرار إلى تركه لأن التكليف مشروط بالقدرة وكل من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة فلا يكون التكليف ثابتا على كل تقدير.

والتحقيق : ان الاضطرارين يتفقان في نقطة ويختلفان في أخرى ، فهما يتفقان في عدم صحة توجه النهي والزجر معهما فكما لا يصح ان يزجر المضطر إلى شرب المائع عن شربه كذلك لا يصح زجر من لا يتمكن من شربه وهذا يعني انه لا علم إجمالي بالنهي


في كلتا الحالتين ، ولكنهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضية فان الاضطرار إلى الفعل يشكل حصة من وجود الفعل مغايرة للحصة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره فيمكن ان يفترض ان الحصة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها وانما المفسدة والمبغوضية في الحصة الأخرى.

واما الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكل حصة خاصة من وجود الفعل على النحو المذكور فلا معنى لافتراض ان الفعل غير المقدور للمكلف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وانه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح ان فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقق المبغوض فكم فرق بين من هو مضطر إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكان بعيد عنه فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطر بدون مفسدة ولا مبغوضية واما أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلف فهو واجد للمفسدة والمبغوضية لا محالة وعدم النهي عنه لا لأن وقوعه لا يساوق الفساد بل لأنه لا يمكن ان يقع ، ونستخلص من ذلك ان مبادئ النهي يمكن ان تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل ولكن لا يمكن ان تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل ، وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي يمكن القول بأنه لا علم إجمالي بالتكليف لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه ، واما في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي فالنهي وان لم يكن ثابتا على كل تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كل حال وهو كاف في التنجيز لأن ما يدخل في العهدة انما هو روح الحكم وان لم يجعل المولى خطابا على طبقه لعدم الحاجة إليه أو لاستهجانه فالركن الأول ثابت لأن العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه ويجب ان يفسر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث أي ان الأصل المؤمن يجري في الطرف المقدور بلا معارض إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور لأن إطلاق العنان تشريعا في مورد تقيد العنان تكوينا لا محصل له فينحل العلم الإجمالي حكما هذا على مسلك الاقتضاء واما على مسلك العلية فائضا لا يكون العلم الإجمالي منجزا لأنه ليس صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير لأن التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا والطرف غير المقدور كما لا يعقل تعلق الخطاب به لا يعقل تنجزه ودخوله في العهدة عقلا


ويشترط عند أصحاب هذا المسلك ان يكون العلم الإجمالي منجزا لكلا الطرفين (١).

واما البحث في المقام الثاني ـ وهو ما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء. فقد ذهب المشهور إلى عدم منجزية العلم الإجمالي فيه وخالف في ذلك الأستاذ ، وقد ربطوا ذلك إثباتا ونفيا باشتراط الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف ، فالذين أنكروا منجزية هذا العلم استندوا في ذلك إلى ان الدخول في محل الابتلاء شرط في التكليف فلا علم إجمالي بالتكليف مع خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء ، والسيد الأستاذ حيث أنكر اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء أقر منجزية العلم الإجمالي. وسوف يتضح ان عدم منجزية هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بهذه المسألة أصلا بل حتى على القول بفعلية التكليف في موارد الخروج عن محل الابتلاء كما هو الصحيح على ما سوف يظهر لا يكون هذا العلم الإجمالي منجزا.

وتفصيل الكلام في ذلك.

__________________

(١) قد يقال : إذا لم يتحصص الفعل إلى حصتين مقدور وغير مقدور جرى ذلك في طرف الواجب المردد بين طرفين أحدهما غير مقدور للمكلف مع انه لا إشكال في عدم تمامية الركن الأول من أركان العلم الإجمالي فيه.

فانه يقال : في طرف الوجوب يمكن ان تكون القدرة شرطا في الاتصاف بحيث من دونها لا حاجة للمولى إلى الفعل فلا محبوبية لا ان المحبوب لا يتحقق وهذا بخلاف الحرام أو المبغوض فان القدرة عليه التي تعني القدرة على العصيان لا يمكن ان تكون دخيلة لا في المبغوض ولا في البغض ، نعم يمكن ان تكون الحصة الاختيارية لا الاضطرارية هي المبغوضية الا ان هذا معناه بحسب الحقيقة ان القدرة على امتثال الحرمة وترك الحرام دخيلة في الاتصاف كما لا يخفى.

نعم يمكن ان يناقش في تمامية الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي في المقام بأحد امرين :

الأول ـ ربما يكون الملاك في النهي من جهة المصلحة في الترك الا المفسدة في الفعل فإذا احتمل ذلك كان الشك في الاتصاف واردا بان يكون الترك غير الاضطراري القهري هو الواجد للملاك كاحتمال اختصاص الملاك بالفعل الاختياري في الواجب فلا يكون العلم بروح التكليف فعليا على كل تقدير.

الثاني ـ ان الركن الأول انما هو تعلق العلم الإجمالي بما يدخل في العهدة ويتنجز على المكلف ـ سواء كان خطابا أو ملاكا ـ فإذا كان العجز مانعا عن الخطاب الشرعي كان مانعا لا محالة عن حكم العقل بالتنجيز وحق الطاعة ـ كما اعترف به سيدنا الأستاذ 1 في تخريج عدم المنجزية في المقام على مسلك العلية ـ ومعه لا يكون العلم الإجمالي في المقام علما إجماليا بما يدخل في العهدة ويقبل التنجيز على كل تقدير بل بلحاظ ما يصلح للدخول في العهدة تكون الشبهة بدوية فلا يتوقف التأمين في المقام على اختلال الركن الثالث بل تجري حتى البراءة العقلية على القول بها.

ودعوى : انه بعد العلم بفعلية الملاك في أحد الطرفين يكون الشك في تحققه لو اقتحم الطرف المقدور فيحكم العقل بالاشتغال فيه لو لا الترخيص الشرعي.

مدفوعة : بأن المنجز عقلا ما إذا شك في تحصيل امتثال التكليف المعلوم تعلقه بفعل كما في موارد الشك في المحصل لا ما إذا كان الشك في تعلقه بالطرف المقدور أو غير المقدور كما في المقام فان هذا من الشك في التكليف وانه فيما يكون مقدورا ليكون منجزا أو فيما لا يكون مقدورا فلا يكون منجزا.


ان وصف الدخول في محل الابتلاء كالعجز الحقيقي لا يمكن ان يكون دخيلا في الملاك لأن هذا الوصف لا يمكن ان يكون محصصا للفعل إلى حصة داخلة في محل الابتلاء وحصة غير داخلة فيه إذ فرض وقوعه هو فرض دخوله في محل الابتلاء لا محالة (١) ، وعليه فالملاك محرز على كل حال وهذا وحده كاف في التنجيز ولو فرض اشتراط التكليف والخطاب بوصف الدخول في محل الابتلاء لما عرفت من ان إحراز روح التكليف ومباديه يكفي في التنجيز ولو فرض عدم النهي لاستهجانه أو لغويته على ان الصحيح عدم اشتراط التكليف بمعنى الخطاب بالدخول في محل الابتلاء إذ لا وجه لذلك فانه إن ادعي استهجان إطلاق الخطاب للفقير المستضعف بالنهي عن جباية الضرائب مثلا التي هي خارجة عن محل ابتلائه ومن شئون السلاطين فمن الواضح ان هذا الاستهجان مربوط بجهات عرفية في باب المحاورة ولهذا يثبت هذا الاستهجان حتى مع تقييد النهي بالدخول في محل ابتلائه ويرتفع بافتراض الخطاب عاما وبنحو القضية الحقيقية للناس جميعا كما إذا قال لا يجوز لأحد ان يظلم.

وان ادعي لغوية الخطاب بمعنى الجعل والاعتبار أو بمعنى التحريك المولوي باعتبار ضمان عدم صدور الفعل الخارج عن محل الابتلاء فيكون صدوره من المولى عبثا ولغوا.

__________________

(١) قد تقدم المناقشة في ذلك في العجز الحقيقي. ونضيف هنا بأنا إذا سلمنا عدم التحصيص في مورد العجز العقلي فلا نسلمه في المقام لأن تحصيص الفعل بالدخول في محل الابتلاء وعدمه بنحو بحيث يكون الملاك مخصوصا بالحصة الداخلة في محل الابتلاء يتصور بأحد أنحاء.

الأول ـ ان يراد بعدم الدخول في محل الابتلاء المنافرة مع الطبع كما في أكل الخبائث فان هذه الحيثية لا إشكال في انها تصلح لتحصيص الفعل إلى حصة تصدر من المكلف على خلاف طبعه وحصة تصدر منه بمطاوعة طبعه ورغبته فيمكن ان تكون هذه الحيثية دخيلة في ملاك النهي بحيث تكون المفسدة في الفعل المطاوعي.

الثاني ـ ان تكون المفسدة والملاك في الحصة الخارجة عن محل الابتلاء والتي يكون تحقيقها بحاجة إلى مقدمات بعيدة شاقة مزاحمة مع مصلحة الترخيص لمن تحمل المشقة وفعل تلك المقدمات بحيث بعد الكسر والانكسار لا تكون المفسدة غالبة فلا ملاك في تحريمه.

الثالث ـ ان يكون الملاك والمفسدة في صدور الفعل من المكلف متكررا لا صدوره منه نادرا كما في الفعل الخارجي عن محل الابتلاء بطبعه أو بالنسبة إلى بعض المكلفين فلو فرض مثلا ان شرب التتن للغني متوفر بخلاف الفقير فانه لا يتمكن عادة من شرائه فيحرم شرب التتن على الغني دون الفقير لأن افتراض اقدامه عليه نادر لخروجه عن محل ابتلائه ولا مفسدة ملزمة في وقوع الفرد النادر.

وهكذا يظهر ان احتمال دخالة الخروج عن محل الابتلاء في الملاك والمفسدة بعنوانه أو بعنوان ملازم معه معقول في نفسه وعليه فلو فرض اشتراط التكليف به لم يكن وجه لإحراز فعلية الملاك.


فالجواب : أولا ـ ان هذا لو تم فقد يتم في الخطابات الجزئية والتي فيها مئونة زائدة ولا يتم فيما إذا كان استفادة التحريم بالطلاق خطابه لحالة الخروج عن محل الابتلاء إذ ليس فيه مئونة زائدة.

وثانيا ـ يكفي فائدة للنهي والزجر تمكين المكلف من التعبد بتركه والإتيان به على وجه قربي حسن ، وقد نثبت في الفقه انه يكفي في العبادية وجود داع النهي وان انضم إليه داع آخر غير محرم.

وان ادعي استحالة الخطاب والتحريك المولوي لأنه تحصيل للحاصل فالجواب ـ مضافا إلى ما تقدم من فائدة تمكين المكلف من التعبد بتركه ان تحصيل الحاصل عبارة عن تحصيل امر في طول حصوله وهو المحال ، وما نحن فيه ليس كذلك وانما هو تحصيل في عرض تحصيل آخر فيصبح كل منهما بالفعل جزء للعلة فالمكلف يوجد له زاجران عن الفعل أحدهما الطبع والخروج عن محل الابتلاء والآخر النهي المولوي.

على ان إشكال تحصيل الحاصل في خطاب المولى لو أريد به اللغوية وعدم الفائدة في الزجر التشريعي رجع إلى الدعوى السابقة ، وان أريد به تحصيل الحاصل بمعناه الفلسفي المحال فمن الواضح ان التحصيل التشريعي هو المجعول بالخطاب والحاصل انما هو الحصول التكويني وأحدهما غير الآخر.

وهكذا يتضح : ان الخروج عن محل الابتلاء لا يكون شرطا في الخطاب والتكليف فضلا عن الملاك ومبادئ التكليف فالركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي متوفر فيه الا ان الركن الثالث غير متوفر لأن وصف الدخول في محل الابتلاء شرط في جريان الترخيص الظاهري ، وبذلك يفسر عدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء لأن الأصل الترخيصي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزومية والترخيصية والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محل الابتلاء بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن محل الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي وهذا يعني ان الأصل الترخيصي في الطرف الداخل في محل الابتلاء يجري بلا معارض فأدلة الأصول العملية لا تجري عن التكليف المحتمل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء.


نعم لو اخترنا مسلك العلية في منجزية العلم الإجمالي لم يفد ما ذكرناه في المنع عن المنجزية لما عرفت من ان قيد الدخول في محل الابتلاء ليس شرطا في التكليف فضلا عن مباديه فكيف يعقل ان يكون شرطا في التنجيز.

وهكذا يتضح : اننا نوافق المشهور في المقام حيث ذهبوا إلى عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ولكن لا على أساس ما استندوا إليه من انثلام الركن الأول واشتراط فعلية التكليف بذلك بل على أساس عدم المعارضة بين الأصول الترخيصية في الأطراف.

وينبغي الإشارة إلى أمور :

منها ـ ان المحقق العراقي ( قده ) بعد ان استند في عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام إلى شرطية الدخول في محل الابتلاء وعدم كونه أجنبيا عن المكلف بحيث يعد عرفا عاجزا عنه في صحة التكليف ذكر ان ذلك شرط في الوجوب أيضا فكما لا يصح نهي المحكوم عن ارتكاب مظالم الحاكم كذلك لا يمكن امره بما هو من شئونه فلو علم إجمالا بوجوب ذلك أو وجوب فعل آخر داخل في محل ابتلائه لم يكن منجزا عليه.

وفيه : مضافا إلى ما عرفت من ان الدخول في محل الابتلاء ليس شرطا في التحريم والنهي ، ان أمر المولى الحقيقي غير مقيد عقلا وعرفا الا بالقدرة على امتثاله تكوينا اما مجرد صعوبة المقدمات أو كثرتها فلا تمنع من صحته فضلا عن تنجيزه لأن مولوية مولانا ذاتية ومطلقة وليست كالمولويات العرفية التي ربما يدعي ضعفها وعدم ثبوتها في موارد الأفعال الشاقة.

فلو أريد دعوى عدم الأمر من قبل الشارع بالفعل الشاق الخارج عن محل الابتلاء لعدم تعلق غرض له بذلك فهو بلا موجب لوضوح ان الشارع قد يتعلق غرضه بذلك كما امر نبينا 6 بنشر الدين وفتح العالم ومقارعة المستكبرين وإذلال القياصرة والأكاسرة مع ان مثل هذا العمل كان بحسب النّظر البدائي غير مقدور له وان التكليف به لغو.

ولو أريد دعوى انه لا يتنجز على المكلف فقد عرفت ان التنجيز مرتبط بدائرة المولوية وحق الطاعة وهي مطلقة في حق مولانا سبحانه فقياس الوجوب في المقام بالتحريم في غير محله.


ومنها ـ إذا شك في خروج أحد طرفي العلم الإجمالي عن محل الابتلاء وعدمه فبناء على التفسير الّذي اخترناه لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء من عدم جريان الأصل المؤمن في الطرف الخارج بالارتكاز العقلائي فمع الشك في خروجه يكون من موارد الشك في الارتكاز وبالتالي الشك في وجود المعارض للأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء.

وحينئذ تارة يكون الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية كما إذا شك في ان هذا المقدار من البعد بين المكلف وبين مورد التكليف كاف في صيرورته عرفا بحكم العاجز أو الأجنبي عن الفعل حسب تعبير المحقق العراقي ( قده ) أم لا ، وأخرى يكون الشك بنحو الشبهة المصداقية كما إذا شك في ان الإناء الآخر في بلد بعيد خارج عن ابتلاء المكلف أو في بلد قريب.

والشبهة المفهومية على أقسام ، لأنه تارة يكون بمعنى شك العرف نفسه بما هو عرف في الارتكاز أعني ارتكاز عدم جريان الأصل لهذه المرتبة من الخروج عن محل الابتلاء فانه يعقل ذلك بالنسبة للعرف أيضا لكون هذه الأمور تشكيكية ، وأخرى يكون بمعنى شك العرف في نكتة الارتكاز ونقصد به ان العرف بما هو عرف لا يشك في وقوع التزاحم الحفظي بين الغرض اللزومي حتى إذا كان في الطرف المشكوك وبين الغرض الترخيصي ولكن يحتمل ان المولى لا يهتم بهذا المقدار من التزاحم لضآلته فيحتمل ان نكتة الارتكاز عند المولى تختلف عن العرف ، وثالثة يكون بمعنى ان شخصا يحتمل ثبوت الارتكاز وعدمه لدى العرف وانما لا يكون ذلك واضحا لديه لاحتمال انه شذ عنهم لجهة من الجهات.

ففي القسم الأول لا يجري الأصل في الطرف المشكوك لأن احتمال الارتكاز لدى العرف كاف في الإجمال وعدم إمكان التمسك بالدليل في الطرف المشكوك فيجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض (١)

__________________

(١) الظاهر ان إجمال الارتكاز لدى العرف وعدم وضوح التزاحم بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي في الطرف المشكوك يستوجب الإجمال في ارتكاز المناقضة المانع عن انعقاد إطلاق دليل الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء أيضا لأن الارتكازين متصلين بدليل الحجية فمع إجمال أحدهما يسري الإجمال إلى الآخر لا محالة ولا وجه للطولية بينهما نعم يتم هذا الكلام فيما إذا كان الأصل في الطرف الداخل من غير سنخ الأصل في الطرف المشكوك خروجه لأن إطلاق دليل الأصل في الأول.


وفي القسم الثاني يكون أصل الارتكاز الموجب لانصراف الدليل عن الطرف المشكوك مقطوع العدم بحسب الفرض لوقوع التزاحم بحسب نظر العرف وانما الشك والاحتمال في عدمه بنظر الشارع وهو لا يقدح بجريانه في كلا الطرفين فيتعارضان ويتساقطان فلا يثبت الترخيص حتى في الطرف الداخل في محل الابتلاء.

وفي القسم الثالث يكون من موارد احتمال المعارض للأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء لأن الميزان نظر العرف فلو كان الطرف المشكوك عند العرف مجرى للأصل في نفسه لوضوح عدم الارتكاز عندهم بهذا المقدار من البعد عن الابتلاء لم يكن الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض فيكون من موارد احتمال المعارض المتصل وهو يوجب الإجمال (١).

__________________

منعقد في نفسه بخلاف الثاني فتشمله الحجية بلا مزاحم.

نعم هنا نكتة أخرى سوف يشار إلى روحها في كلام سيدنا الأستاذ ( قده ) في الشبهة المصداقية يمكن جعلها جوابا مستقلا وهي ان ارتكاز المناقضة مع الحكم الواقعي لدى العرف مقيد بوصول الترخيصين إلى المكلف في نفسه وبقطع النّظر عن هذا التعارض فإذا لم يكن الأصل الترخيصي في أحد الطرفين محرز الجريان في نفسه لا وجه لإسقاط إطلاق دليل الأصل في الطرف الآخر لأن ارتكاز التناقض ليس بلحاظ جريانهما الواقعي بل الواصل لا من جهة ان الحكم الظاهري لا قوام له الا بالوصول كما ذهب إليه المشهور لما عرفت مرارا ان الحكم الظاهري عبارة عن درجة الاهتمام بالأغراض الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ وهذا له حقيقة ثبوتية بقطع النّظر عن الوصول ، وعلى هذا سوف يجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء كلما لم يمكن التمسك بدليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر في نفسه سواء كانت الشبهة مفهومية أو مصداقية وسواء كان الترخيصان من سنخ واحد أو سنخين.

(١) يبقى هنا كلامان :.

الأول : ان هذا يتم حتى إذا كان الأصل في الطرفين من سنخين بحيث كان من موارد احتمال المعارض المنفصل لا المتصل لأن الحجة على كل حال ما هو الظهور عند العرف لا عند الشخص فلا بد عليه من إحرازه وإحراز عدم القرينة والمعارض المتصل والمنفصل عليه.

الثاني : ليس المقام من مصاديق احتمال المعارض حقيقة ، لأن التعارض بين الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي ليس بملاك التكاذب كما أشرنا في بحث سابق وانما هو من باب ان الدليل الحجية والحكم الظاهري لا يشمل الترخيص في الطرفين لأنه مقيد لبا اما بقبح الترخيص في المخالفة أو بارتكاز المناقضة وهما بمثابة القيد اللبي المتصل بدليل الحجية والأحكام الظاهرية وحينئذ في المقام يوجد ارتكازان ارتكاز عدم شمول الترخيص لموارد الخروج عن محل الابتلاء وارتكاز عدم شموله لكلا طرفي العلم الإجمالي الداخل في محل الابتلاء. وهذان الارتكازان إذا لوحظا بالنسبة إلى دليل أصل ترخيصي من سنخ واحد في الطرفين كان المقيد اللبي المتصل به مجموعهما لا محالة أي ان لا يكون التكليف المشكوك طرفا لعلم إجمالي طرفه الآخر داخل في محل الابتلاء أيضا فإذا شك في خروج الطرف الآخر أو دخوله في محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية سرى الإجمال المفهومي أو المصداقي إلى الدليل بلحاظ الطرف الداخل في محل الابتلاء أيضا فيصبح مشكوكا أيضا بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية الا ان نبرز ما تقدم من ان القيد عدم وصول الأصل المؤمن في الطرف الآخر بالفعل.


واما الشبهة المصداقية فهي ملحقة بالقسم الأول من الشبهة المفهومية دائما أي يجري الأصل المؤمن في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض لأن الطرف المشكوك لا يمكن التمسك فيه بدليل الأصل لأنه تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

إن قلت : ما الفرق بينه وبين القسم الثالث من الشبهة المفهومية ، فان احتمال المعارض المتصل محتمل هنا أيضا وهو يوجب الإجمال ، والحاصل ان احتمال المعارض المتصل إن كان كاحتمال القرينة المتصلة يستوجب الإجمال فهو في القسمين يوجب الإجمال ، وان لم يكن كاحتمال القرينة المتصلة يوجب الإجمال ففي القسمين كذلك فلما ذا التفصيل.

قلنا ـ ان ارتكاز المناقضة بين الترخيصين في طرفي العلم الإجمالي وبين الإلزام الواقعي المعلوم مقيد بفرض وصول الترخيصين الظاهرين إلى العرف ، وبتعبير آخر بين الترخيصين المطلق كل منهما من حيث تمامية البيان من قبل المولى على الترخيص الآخر لا المقيد بفرض عدم وصول الآخر إلى العرف بما هو عرف وعدم تمامية البيان من قبل المولى عليه. وحينئذ إذا كانت الشبهة مفهومية بالنحو الثالث فيحتمل تمامية البيان على الترخيص الآخر عند العرف بخلاف ما إذا كانت الشبهة مصداقية فانه لا يتم بيان الترخيص في الطرف المشكوك فيه للعرف بما هو عرف لأن نسبة الشبهة المصداقية إلى المولى والمكلف على حد واحد وليس البيان متكفلا لتحديدها.

اما تحقيق ان احتمال المعارض المتصل هل يكون كاحتمال القرينة بلحاظ الشبهة المصداقية أو المفهومية فيوكل بحثه إلى مجال آخر (١).

__________________

وإذا لوحظ هذا الارتكاز بالنسبة إلى دليلي أصلين غير مسانخين في الطرفين كان إجمال ارتكاز الدخول في محل الابتلاء موجبا لإجمال دليل الأصل في الطرف المشكوك دخوله في محل الابتلاء فقط وهو منفصل عن دليل الأصل في الطرف الآخر فيجري بلا معارض على كل تقدير ، وعلى كل حال لا ينبغي ربط المقام بما إذا شك في موضوع المعارض المتصل بالخطاب بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية كما إذا قال ( أكرم كل عالم ولا تكرم الفساق ) وشك في ان زيدا العالم فاسق أو لا بنحو الشبهة المصداقية أو المفهومية والّذي قد يفصل فيه بالعكس وان الشبهة إذا كانت مصداقية فلا يجوز التمسك بعموم ( أكرم كل عالم ) لأن إطلاقه للفاسق قد سقط بالمعارضة على كل حال فهو تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، واما إذا كانت مفهومية فقد يقال بصحة التمسك بعموم ( أكرم كل عالم ) لفاعل الصغيرة باعتبار ان المانع عن انعقاد العموم فعلية دلالة المعارض المتصل والمفروض عدمها.

(١) وقد أفاد ( ١ الشريف ) خارج البحث : ان مقتضي الطبع والظهور الحالي العقلائي في مقام المحاورة انه إذا لم يرد معنى من معاني اللفظ فهو يختار أحد أمور ثلاثة ، السكوت عن ذكره رأسا أو التكلم به مع نصب القرينة على الخلاف أو الإتيان على الأقل بما يعارض ذلك فإذا تكلم المتكلم بكلام وهو لا يريد ظاهره ومعناه ولم يتخذ أحد المواقف الثلاثة كان خارجا عن


هذا كله بناء على مبنانا في تفسير عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه خارجا عن محل الابتلاء.

واما إذا بنينا على التفسير المشهور لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء من عدم فعلية التكليف على كل تقدير لاشتراط الدخول في محل الابتلاء في التكليف فقد يقال بان النتيجة في موارد الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء عدم التنجيز أيضا لأنه سوف يشك على كل حال في

__________________

الطبع العقلائي ومخالفا لمشيهم على ان الأمر الثالث ليس في عرض الأمرين الأولين بمعنى ان مقتضي الطبع العقلائي اختيار أحد الموقفين الأولين واما الاكتفاء بالمعارض فهو انحراف عن الطبع الأولي وإن كان أحسن من تركه أيضا لما فيه من نحو إبهام وإيهام وهو أفضل من الإغراء بخلاف الواقع.

إذا اتضحت هذه المقدمة قلنا بان الشك في المعارض المتصل يكون على أقسام :

الأول ـ ان يشك في أصل وجوده مع الكلام ، كما إذا احتمل صدور معارض من المتكلم ولم نسمعه وهنا لا شك في التمسك بالظهور الأولي للكلام وليس حاله حال احتمال القرينة المتصلة لما عرفت من ان مقتضي الطبع العقلائي عدم اعتماد أسلوب الإجمال وبيان المعارض وانما ظاهر الحال اعتماد أحد الطريقين الأول أو الثاني وهما منتفيان في المقام فإذا احتملنا عدم سماع ما كان قرينة فلا يمكن نفيه بالأصل لأنه ليس انحرافا عن الطبع العقلائي بخلاف ما إذا احتملنا ان ما لم نسمعه معارض مع ما سمعناه.

الثاني ـ ان تكون الشبهة مصداقية كما في المقام إذا شك في دخول أحد الطرفين في محل الابتلاء وفرض ان الارتكاز قائم على المناقضة بين الحكم الواقعي والترخيصي ولو فرض تقييد كل منهما بعدم وصول الآخر.

وهنا أيضا يصح التمسك بالعامّ والأخذ بظهوره الأولي للكلام في الطرف الداخل في محل الابتلاء لانتفاء الأمور الثلاثة اما الأولان فواضح واما الثالث فلان العام ليس له ظهور في رفع الشبهة المصداقية فالمولى بما هو مولى نعلم انه لم ينصب بيانا على خلاف العام ولا معارضا يعلم هو به فيؤخذ بالعموم في الطرف المعلوم دخوله وليس ارتكاز المناقضة قرينة على خروج هذا عن الأصل حتى يدخل في باب احتمال القرينة المتصلة وانما هو قرينة على عدم إرادة الأصلين معا فيقع التعارض بين الأصلين فهو داخل في احتمال المعارض وحيث انه لا يحتمل معارض قد نصبه المولى وهو عالم به بما هو مولى فيؤخذ بظاهر كلامه في الطرف الداخل في الابتلاء ويثبت بذلك ان الأصل في الطرف الآخر مقيد بفرض العلم بالدخول في محل الابتلاء في الشبهة المصداقية لأن هذا هو لازم الظهور المذكور.

الثالث ـ ان تكون الشبهة مفهومية كما إذا شك في دخوله في محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية من القسم الثالث لا الأول الّذي يقطع فيه بعدم المعارض ولا الثاني الّذي يقطع فيه بالمعارض ، وهنا احتمال الإتيان بالمعارض لا يمكن نفيه إذ من المحتمل ان المولى يكون عموم كلامه في الترخيص شاملا لكلا الإناءين ولا يمكن إجراء أصالة عدم الإتيان بالمعارض وإرادة العموم في الإناء الداخل في محل الابتلاء لأن جهة الشك مربوطة باللغة وتحديد المفهوم وهو خارج عن باب المراد المولوي ليتمسك في نفيه بعموم كلامه بل هو نظير موارد الشك في الاستثناء الّذي لا يمكن التمسك فيها بأصالة الحقيقة لإثبات المدلول الحقيقي للفظ.

أقول : قد عرفت ان الشك في القسم الثاني والثالث ليس بحسب الدقة من الشك في المعارض المتصل بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية بل من الشك في حدود المقيد المتصل بالخطاب المجمل من حيث إخراجه لفردين أو فرد واحد وليس بابه باب نصب مفهوم معارض مع الخطاب بل التعارض بين الأصلين الترخيصين ليس من باب التكاذب بينهما ولا بين دليلهما كما عرفت بل من باب عدم جعل حكمين ظاهرين للقبح أو للارتكاز فلا بد من ملاحظة حدود المقيد والباقي بعد التقييد بلحاظ دليل أصل من سنخ واحد في الطرفين تارة ومن سنخين تارة أخرى بالنحو الّذي تقدم في التعليق السابق.


فعلية التكليف على أحد التقديرين فلا علم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وفي قبال هذا البيان يذكر تقريبان لإثبات المنجزية.

التقريب الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) بناء على تفسيره للخروج عن محل الابتلاء بعدم القدرة العرفية على الارتكاب ، فانه أفاد بأنه سوف تكون موارد الشك في خروج طرف عن محل الابتلاء من موارد الشك في القدرة المنجز عقلا فيكون علمنا الإجمالي علما بتكليف فعلي على أحد التقديرين ويكون منجزا عقلا على تقدير آخر فيكون منجزا لا محالة.

وقد أورد عليه المحقق الكاظمي في حاشيته على تقريره لدروس الميرزا بان الأستاذ كان يذهب في الدورة السابقة إلى منجزية هذا العلم الإجمالي لكون الشك فيه في القدرة لكننا أوردنا عليه بأنه لو تم لزم التنجيز حتى في فرض القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء لأن الملاك معلوم إجمالا والشك في القدرة عليه حيث لا يدرى هل هو في الطرف الداخل في محل الابتلاء فيكون مقدورا أو الخارج فلا يكون مقدورا.

وهذا الاعتراض غير متجه على المحقق العراقي ( قده ) لأنه كما أفاده خلط بين فرض الشك في القدرة على شيء فيه الملاك وبين الشك في كون الملاك فيما يكون مقدورا أو ما لا يكون مقدورا والمنجز هو احتمال القدرة على فعل فيه الملاك يقينا لأن احتمال العجز عن تحصيل فعل معلوم المطلوبية لا يكون عذرا عقلا ولا يقاس به الشك في كون الملاك في طرف خارج عن العهدة يقينا أو طرف يمكن ان يدخل في العهدة يقينا وهذا واضح.

ولكن مع ذلك لا يتم هذا التقريب من جهة انه خلط بين الشك في القدرة على الامتثال والشك في القدرة على العصيان فان الّذي لا يكون عذرا في ترك الامتثال احتمال العجز وعدم القدرة عليه بل لا بد له من التصدي للامتثال على كل حال لينكشف له اما القدرة عليه أو العجز عنه حقيقة ، وهذا لا ربط له بالمقام فان المطلوب فيه وهو ترك الحرام يتحقق على كل تقدير وانما يشك في القدرة على اقتحام الحرام وعصيانه ولا معنى لا يقال بأنه يجب عقلا التصدي للاقتحام كما هو واضح. فمورد وهذه القاعدة دائما هو ما إذا شك في القدرة على امتثال تكليف المولى كما إذا كان


إلزاما بالفعل وشك في القدرة عليه أو إلزاما بالترك وشك بان عملا ما هل يحصل ذلك الفعل الحرام أم لا كما إذا شك في ان إطلاق رصاصة بهذا الاتجاه سوف يقتل مؤمنا أم لا؟

التقريب الثاني ـ التمسك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته حتى إذا كان في الطرف المشكوك خروجه عن محل الابتلاء فيتشكل لنا علم إجمالي بتكليف يكون فعليا وجدانا على أحد التقديرين وتعبدا على التقدير الآخر فيكون منجزا.

وقد وقع البحث عندهم في صحة التمسك بهذا الإطلاق وعدم صحته ، فبرزت اتجاهات ثلاثة.

١ ـ ما اختاره المحقق النائيني ( قده ) من صحة التمسك به مطلقا أي سواء كان الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية أو المصداقية.

٢ ـ ما اختاره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عدم صحة التمسك به مطلقا.

٣ ـ ما اختاره المحقق العراقي ( قده ) من التفصيل بين الشبهتين فيجوز التمسك به في الشبهة المفهومية دون المصداقية.

والاختلاف بين القولين الأول والثالث ينجم عن الاختلاف بين العلمين في مبنى صحة الرجوع إلى العام في موارد الشك في المخصص اللبي حيث ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى جوازه في الشبهتين بينما اختار المحقق العراقي ( قده ) التفصيل فيه على ما تقدم في محله.

وانما الكلام في مأخذ الاتجاه الوسط الّذي شذ عنهما فيه المحقق الخراسانيّ ( قده ) فمنع عن الإطلاق مطلقا. ويمكن ان يذكر في وجه ذلك تقريبان :

التقريب الأول ـ ما أفاده في ظاهر عبارة الكفاية من ان التمسك بالإطلاق إثباتا فرع إمكانه ثبوتا ، والشك في المقام في إمكانه ثبوتا فلا معنى للتمسك به إثباتا.

وهذا التقريب بهذا المقدار نوقش فيه من قبل المحقق النائيني حلا ونقضا.

اما الحل ، فبان التمسك بالإطلاق ليس مشروطا بإحراز إمكانه ثبوتا في المرتبة السابقة بل الأمر بالعكس فانه بمجرد احتمال الإمكان يأتي احتمال صدق الإطلاق الإثباتي ومع احتمال صدق يكون حجة بدليل حجية الظهور ويثبت في طول ذلك بالمدلول الالتزامي إمكان مفاده ثبوتا.


واما النقض ، فبسائر موارد التمسك بالإطلاق ، فانه كلما شك في صحة إطلاق لاحتمال عدم المصلحة أو المفسدة في ذلك المورد فهو مستلزم لاحتمال قبح التكليف أو استحالته وعدم إمكانه مع انه لا إشكال في صحة التمسك بالإطلاق فيها وعدم اشتراط إحراز إمكانه في التمسك به.

ولكن المحقق العراقي ( قده ) حاول تفسير عبارة الكفاية بما يسلم عن كلا هذين الإيرادين وحاصله : ان التمسك بالإطلاق يعني حجية الإطلاق وجعل الحجية يعني جعل الحكم الظاهري التعبدي بوجوب الاجتناب مثلا عن النجس المشكوك خروجه عن محل الابتلاء وحينئذ إذا كان ملاك الشك في الإمكان والاستحالة مشتركا بين الحكم الواقعي بوجوب الاجتناب أو الحكم الظاهري به لكون شرطية الدخول في محل الابتلاء بالنسبة إليهما على حد سواء فمع الشك فيه يشك في معقولية الحكم الظاهري والحجية أيضا فلا معنى للتمسك بالإطلاق في المقام بل لا بد من القطع بإمكانه كما إذا ورد نصّ من المعصوم عليه ولا يمكن إثبات ذلك بالملازمة كما أفاده الميرزا ( قده ) لأن مدرك حجية الظهور انما هو سيرة العقلاء وبنائهم والمفروض انهم يشكون في صحة جعل مثل هذا الحكم سواء كان واقعيا أو ظاهريا.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) أورد إشكالا على هذا التقريب الا ان عبارة المقرر غير واضحة. ولعل جوهر مقصوده : ان الحكم الظاهري ليس كالحكم الواقعي بحيث يكون احتمال الخروج عن محل الابتلاء مساوقا لاحتمال عدم إمكانه لأن الحكم الظاهري ـ أيا كان تفسيره أو صياغته ـ مبرر جعله هو الحفاظ على الواقع المحتمل على تقدير المصادفة وليس مبرر جعله فعلية حصول الغرض لتأتي شبهة تحصيل الحاصل أو نحو ذلك ، وعليه يكون جعل الحكم الظاهري في مورد احتمال عدم الحكم الواقعي ولو من ناحية احتمال عدم إمكانه معقولا وموجبا لتنجيز هذا الاحتمال وارتفاع حكم العقل بالتأمين ولزوم الاحتياط كما هو واضح.

التقريب الثاني ـ ما جاء في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) من ان المخصص اللبي في المقام متصل بالعامّ وعند إجمال المخصص المتصل لا يجوز التمسك بالعامّ لسريان إجماله إليه.

وأجاب عنه بأنا لو سلمنا كون المخصص كالمتصل مع انه ليس كذلك فحيث ان


المخصص ليس مفهوما خارجا عن العام لفظا جاز التمسك به لأنه شك في مقدار الخارج من افراد العام فيتمسك فيما لا يجزم بخروجه بعموم العام.

وكأنه ضاع مراد المحقق النائيني ( قده ) على مقرر بحث المحقق العراقي ( قده ) فتخيل ان المقصود هو ان المفهوم الخارج عن محل الابتلاء ذو مراتب وقد خرج عن العام بجميع مراتبه وشك في ان مرتبته الضعيفة داخلة في محل الابتلاء أم لا ، فأورد عليه:بان هذا خلف فرض سريان إجمال المخصص المتصل إلى العام في تمام الموارد.

الا ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) لم يكن ذلك ، بل المقصود ان بعض مراتب الخروج عن محل الابتلاء يفرض خروجه عن العام بالمخصص لوضوحه عند العقل وتضعف درجة الوضوح هذا إلى ان تنعدم في بعض مراتب الخروج عن محل الابتلاء فلا يحكم العقل بعدم صحة جعل الحكم فيه فلا يكون خارجا بالمخصص اللبي المتصل فيتمسك فيه بالعامّ مطلقا أو في خصوص الشبهة المفهومية حسب اختلاف المباني.

هذا الا ان الصحيح ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عدم جواز التمسك بإطلاق دليل التكليف في المقام مطلقا ، وذلك ما يمكن بيانه بعدة وجوه ترجع جميعا إلى روح واحدة :

الوجه الأول ـ ان الخارج عن العام ليس هو مفهوم الخروج عن محل الابتلاء بهذا العنوان إذ لم يرد ذلك في مخصص لفظي ، وانما المخصص المفترض هو حكم العقل بقبح التكليف في موارد الخروج عن محل الابتلاء وهذا يعني ان الخارج بالتخصيص عنوان ما يقبح التكليف به ومن المعلوم ان الشبهة المفهومية للخروج عن محل الابتلاء سوف تكون شبهة مصداقية لعنوان القبيح فيكون التمسك فيه تمسكا بالعامّ في الشبهة المصداقية فلا يجوز.

الوجه الثاني ـ لو فرضنا الشبهة مفهومية مع ذلك قلنا بعدم جواز التمسك فيه بالعامّ لما مضى في بحث العام والخاصّ من ان نكتة التفصيل بين الشبهة المفهومية والمصداقية هي ان نسبة المولى بما هو مولى ونسبة العبد إلى الجهة الدخيلة في الحكم المشكوك على حد سواء في الشبهة المصداقية فلا يجوز التمسك فيها بالعامّ بخلاف الشبهة المفهومية فان المولى أعرف بواقع موضوع حكمه فإذا كان للكلام عموم أو إطلاق فلعله اعتمد عليه لرفع احتمال دخل المرتبة المشكوكة في حكمه.


وهذه النكتة لا تتم في المقام لأن المولى هنا بما هو مولى حاله حال العبد من جهة الشك في الحكم عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء بنحو الشبهة المفهومية لأن ملاك هذا الشك هو حكم العقل بالقبح الّذي نسبته إليهما على حد واحد فيكون حال هذه الشبهة المفهومية حال الشبهة المصداقية من حيث عدم جواز التمسك فيه بالعامّ.

الوجه الثالث ـ ان غاية ما يمكن تحصيله بالإطلاق هو اعتقاد المولى ومرامه واعتقاد المولى بما هو مولى ليس هنا مساوقا مع إمكان جعل الحكم واقعا فلا يجدي التمسك بالإطلاق لإثبات الحكم. وهذا مبني على فرض كون المحذور في التكليف بالخارج عن محل الابتلاء استحالة تحصيل الحاصل مع فرض ان الحكم عبارة عن التحريك الحقيقي وبالحمل الشائع كما يقوله المحقق الأصفهاني فانه حينئذ يصح ان يقال بان اعتقاد المولى بإمكان التحريك والتكليف لا يجعله ممكنا حقيقة.

وكل هذه الوجوه ترجع إلى نكتة واحدة هي انه مهما كان القيد بوجوده الاعتقادي لدى المولى دخيلا في الحكم أمكن التمسك بالعامّ وكانت نسبة المولى إليه بما هو جاعل تختلف عن نسبة المكلف إليه وهما كان القيد بوجوده الواقعي دخيلا في الحكم لم يصح التمسك بالعامّ وكانت نسبة المولى بما هو جاعل إلى حيثية الشك تختلف عن نسبة المكلف إليها وفيما نحن فيه تكون الحيثية المشكوكة نسبتها إلى المولى والمكلف على حد واحد لأن قيد الدخول في محل الابتلاء كقيد القدرة بوجوده الواقعي يكون دخيلا في صحة الحكم.

ومنها ـ ان المحقق النائيني ( قده ) الحق بفرض خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء تكوينا خروجه عن محل ابتلاء شرعا ، ومثل لذلك بما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين مع العلم تفصيلا بغصبية أحدهما فالمغصوب خارج عن محل الابتلاء شرعا فيبقى الطرف الآخر مؤمنا عنه بقاعدة الطهارة أو غيرها.

وهذا الإلحاق غير صحيح كما نبه عليه المحقق العراقي ( قده ) اما على تفسير المشهور لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج طرفه عن محل الابتلاء فواضح إذ لو أريد من العلم التفصيليّ بحرمة شرب أحد الطرفين العلم بحرمته من سنخ الحرمة المعلومة بالإجمال كما إذا علم تفصيلا بنجاسة أحد الطرفين بالخصوص فهذا ملحق بمسألة انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ في أحد أطرافه انحلالا حقيقيا أو حكميا وقد


تقدم ، وان أريد العلم بتكليف من سنخ آخر كما في المثال فحرمة شرب النجس المعلومة بالإجمال تكليف آخر وضيق جديد على عهدة المكلف يجري بلحاظه الأصل المؤمن حتى في الطرف المعلوم غصبيته لأنه بذلك يؤمن عن الضيق والعقاب الزائد فيكون معارضا مع الأصل المؤمن عن هذا التكليف في الطرف الآخر.

واما على تفسيرنا لعدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء بالارتكاز العرفي فقد يقال : ان دليل الأصل منصرف عن الإناء المغصوب كما كان منصرفا عن الإناء الخارج عن محل الابتلاء تكوينا لكونه بحسب الدقة وان كان يوجب هنا أيضا تزاحم بين ملاك ترخيص في شرب الطاهر وملاك إلزاميّ في حرمة شرب النجس الا انه حيث لا يجوز شربه على كل حال لكونه مغصوبا فكأن العرف لا يتعقل مثل هذا التزاحم الحيثي فلا يرى شمول دليل الأصل الترخيصي له بلحاظ حرمة شرب النجس.

الا ان هذا الكلام لا وجه له ، فان مركوزية ان الأحكام الظاهرية انما جعلت لرفع الضيق والتوسعة وبالتالي رفع التنجز من ناحية التكاليف المشتبهة ومركوزية قاعدة قبح العقاب بلا بيان بين الموالي العرفية يوجب شمول هذه الأدلة المرخصة التي هي أدلة التوسعة والرفع لكل ضيق محتمل ولو كان في مورد ضيق آخر معلوم تفصيلا للتأمين عن عقوبة زائدة في اقتحامها فلا وجه لدعوى الانصراف خصوصا في مثل لسان قاعدة الطهارة التي تثبت الترخيص بعنوان الطهارة التي هي غير مطلق الحرمة والضيق.

هذا كله إذا لم يكن يوجد للأصل الترخيصي في الطرف معلوم الحرمة أثر آخر ، والا كما في أمثال الّذي تقدم حيث يترتب على جريان القاعدة في معلوم الغصبية جواز الوضوء أو طهارة ملاقية فتعارض الأصول وتساقطها في الطرفين واضح.

١٢ ـ ملاقي أحد طرفي العلم الإجمالي :

إذا لاقى شيء مع أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة فتارة يفترض وجود ملاق آخر مع الطرف الثاني ولا إشكال حينئذ في وجوب الاجتناب عنهما معا للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما كالعلم بنجاسة أحد الطرفين. وأخرى يفرض عدم وجود ملاق


للطرف الآخر وهنا يوجد علمان إجماليان علم إجمالي بنجاسة أحد الطرفين وعلم إجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقي ـ بالفتح ـ والكلام يقع في تنجز حرمة الملاقى بكل واحد من هذين العلمين الإجماليين فالبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في تنجز حرمة الملاقى بالعلم الإجمالي الأول. وقد ذهب الأصحاب إلى عدم تنجزها به فلو بقينا وهذا العلم الإجمالي لجاز شرب الملاقى أو التوضي به مثلا إذا كان ماء. واستندوا في ذلك إلى كبرى كلية لبيان ما يتنجز بالعلم الإجمالي وحاصلها : ان العلم الإجمالي انما ينجز حكما ما إذا كان الشيء المعلوم تمام الموضوع لذلك الحكم لا جزء كما في حرمة شرب أحد المائعين اللذين يعلم خمرية أحدهما فان حرمة شرب الخمر تمام موضوعه الخمر وهو معلوم في البين بخلاف حكم الحد ثمانين جلدة مثلا فان من يشرب أحدهما لا يحكم بذلك في حقه لأن موضوعه مركب من جزءين خمرية شيء وشرب المكلف له والجزء الثاني غير معلوم وانما المعلوم بالعلم الإجمالي الأول فقط وهو لا يكفي لتنجيز هذا الحكم ، وفي المقام يقال أيضا بان حرمة شرب نفس النجس المعلوم ضمن أحد الطرفين أو التوضي به تتنجز بالعلم الإجمالي لكونه علما بتمام الموضوع لها واما حرمة الملاقي لأحدهما فلا يتنجز به لأنه موقوف على العلم بملاقاته مع النجس وهو غير معلوم.

ومنه يعرف انه إذا لم يكن شيء من الطرفين موضوعا لحرمة تكليفية أو وضعية فلا يكون العلم الأول منجزا أيضا كما إذا علم نجاسة أحد الدرهمين فان هذا لا ينجز شيئا إذ ليس الدرهم مأكولا أو ملبوسا في الصلاة ليتنجز ذلك به واما حرمة الشرب أو التوضي بملاقيه فلا علم بتمام موضوعه ، ونحوه ما إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين تمام الموضوع لحكم دون الطرف الآخر كما إذا علم بنجاسة الدرهم أو الماء فانه تجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض لعدم ترتب أثر على نجاسة الدرهم فليس مثل هذا علما إجماليا بموضوع تكليف فعلي على كل تقدير.

ومن هنا حكموا في الماءين المسبوقين بالكرية إذا نقص أحدهما غير المعين عن الكرية وعلم بملاقاة النجاسة لأحدهما المعين بجريان استصحاب الكرية فيه من دون ان يعارض ذلك باستصحاب كرية الآخر إذ ليس هناك أثر فعلي يترتب على كرية الآخر وعدمهما وليس العلم بعدم كرية أحدهما علما بتمام الموضوع للانفعال بل لا بد


من العلم بملاقاة غير الكر مع النجاسة وهي غير معلومة.

والتحقيق ان الضابط الّذي ذكروه من ان تنجيز العلم الإجمالي لحكم فرع تعلقه بتمام موضوع ذلك الحكم وان كان متينا الا ان هناك خطا في تطبيق هذه الضابطة في جملة من الموارد ومنشأ ذلك وقوع الخلط بين الأحكام التكليفية كحرمة شرب النجس والأحكام الوضعيّة كحرمة التوضي به.

توضيح ذلك : ان الحكم التكليفي بحرمة شرب النجس لا تكون فعلية الا في طول تحققه خارجا واما قبل وجود النجس فلا حرمة لشربه ، اما لعدم القدرة عليه إذا فرض عدم القدرة على إيجاده وهو مانع ثبوتا أو لاستظهار ذلك من دليلها وهو ملاك إثباتي واما الحكم الوضعي بحرمة التوضي به فهو منتزع من ضيق دائرة الواجب وتقيده بان يكون بالطاهر وفعلية هذه الحرمة الوضعيّة ثابتة من أول الأمر منذ فعلية الواجب وقبل تحقق النجاسة في الماء أو اللباس فليس وجودهما بنحو مفاد كان التامة شرطا في ذلك وانما هو شرط للحرام ، نعم اتصافه على تقدير وجوده بكونه نجسا بنحو مفاد كان الناقصة شرط في الحرمة. وبعبارة أخرى : اتصاف الصلاة فيه بكونها صلاة في النجاسة بنحو مفاد كان الناقصة شرط في انحلال الحرمة سواء وجدت النجاسة بالفعل في الخارج أم لا ، وصدق هذه الشرطية غير متوقف على وجود النجس بالفعل في الخارج ، وعليه فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين علم بموضوع حرمة الصلاة أو الوضوء بملاقيه الفعلية قبل تحقق الملاقي في الخارج وهذا يعني ان العلم الإجمالي الأول كما ينجز الحكم التكليفي للطرفين ينجز الحكم الوضعي لملاقي الطرفين من أول الأمر أي ينجز الحرمة التوضي بأو لبسه في الصلاة. وكذلك العلم الإجمالي بنجاسة أحد الدرهمين ينجز حرمة الوضوء بملاقي النجس منهما أو لبسه في الصلاة قبل الملاقاة ، وكذلك العلم الإجمالي بنقصان أحد الماءين عن الكرية علم بحرمة الوضوء بالفعل بما نقص عن الكر إذا لاقى مع النجاسة فيتنجز بذلك حرمة الوضوء بأحدهما إذا لاقى النجاسة قبل حصول الملاقاة.

وان شئت فقل : اننا نعلم إجمالا بحرمة وضعية للتوضي بملاقي هذا الطرف أو بملاقي ذاك الطرف وهي فعلية من الآن وقبل تحقق الملاقاة فبعد تحققها في أحد الطرفين يكون احتمال الحرمة فيها تكليفا منجزا من أول الأمر لا تكليفا جديدا فلا مجال لقاعدة


البراءة العقلية ولا الأصول المرخصة الشرعية ، اما الأول فواضح واما الثاني فللمعارضة ، وتوضيح ذلك : ان الأصول المرخصة في المقام على قسمين : قسم منها يؤمن عن جميع الأحكام الثلاثة أعني حرمة شرب الملاقي والملاقى وحرمة التوضي بالملاقي أو الصلاة فيه كأصالة الطهارة الجارية في الملاقى ـ بالفتح ـ وقسم يؤمن عن الحرمة الوضعيّة للملاقي كأصالة الطهارة في الملاقي ، اما القسم الأول فهو ساقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر العلم الإجمالي ولو فرض الطرف الآخر من قبيل الدرهم لأنه قد عرفت بأنه يوجد أثر بالفعل لنجاسة ذلك الدرهم وهو حرمة التوضي بملاقيه أو لبسه في الصلاة ومنه يعرف وجه التعارض بين استصحابي الكرية في المثال المتقدم.

والقسم الثاني أيضا يسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر للعلم إجمالا من أول الأمر بالحرمة الوضعيّة في الملاقى قبل تحقق الملاقاة أو حرمة شرب الآخر أو لبسه في الصلاة بل حتى إذا كان مثل الدرهم لفعلية حرمة ملاقيه الوضعيّة.

ومن هنا ظهر انه يحرم الوضوء بالملاقي والصلاة فيه حتى إذا كانت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء فلم يتشكل العلم الإجمالي الثاني الّذي سوف يأتي انه منجز وذلك لأن هذا الحكم تنجز بمجرد حصول العلم الإجمالي الأول.

نعم إذا لم يكن للملاقي حرمة وضعية كما إذا كان مضافا أو لاحظنا حرمة شربه بالخصوص فلا تتنجز بمجرد العلم الإجمالي الأول. فلو لاقى أحد الإناءين بعد خروج الآخر عن محل الابتلاء جاز شربه ولم يجز الوضوء به لعدم تنجز حرمة شربه ، لا بالعلم الأول لأن معلومه ليس تمام الموضوع لهذه الحرمة ، ولا الثاني لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء قبل حصوله. الا ان هذا مشروط بكون الملاقاة قبل خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء والا كانت حرمته أو حرمة ملاقيه الوضعيّة الفعلية من أول الأمر طرفا للعلم الإجمالي مع حرمة شرب الملاقي.

لا يقال : المعارضة فرع فعلية جريان الأصل المؤمن في نفسه ، وأصالة الطهارة في الملاقي انما تجري بعد تحققه لا قبله ففي الموارد التي يقال فيها بالمعارضة بين أصالة الطهارة في الملاقي مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر أو في ملاقيه لا بد من وجود الملاقاة خارجا لاشتراط فعلية جريان الأصل المرخص بذلك ولا يكفي الوجود التقديري للملاقى إذ لا يحرز تحقق الملاقاة من أول الأمر ليكون من العلم الإجمالي


التدريجي. وعليه فلو حصلت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء جاز التوضي بالملاقي أيضا بمقتضي أصالة الطهارة فيه فلا فرق بين الحكمين التكليفي والوضعي.

فانه يقال : جريان الأصل الترخيصي وان كان مشروطا الا ان الحرمة التي تنفي بجريانه في ظرف تحققه على تقدير ثبوته فعلي من الأول ومعلوم إجمالا وانما الحرام يكون استقباليا فعند تحقق الملاقاة لا يراد نفي حرمة أخرى بأصالة الطهارة فيه ليقال بأنه لا علم إجمالي فعلي بها على كل تقدير بل يراد نفي حرمة فعلية من أول الأمر لأن حرمة التوضي بهذا الماء ليس موضوعه نجاسته الآن ولو طهر حين الوضوء به بل نجاسته حين الوضوء موضوع لحرمته من أول الأمر فلو جرت أصالة الطهارة فيه في ظرف الوضوء به لنفت الحرمة الوضعيّة من الآن فأصالة الطهارة في الملاقى بالرغم من كونها مشروطة وغير جارية قبل حصول الملاقاة يوجب جريانها لو حصلت الملاقاة نفي الحرمة الوضعيّة المعلومة بالفعل فيتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر قبل الخروج عن محل الابتلاء ويتساقطان.

لا يقال : إذا لم يكن الطرف الآخر بنفسه موضوعا للأثر الشرعي كما إذا كان درهما فلا يجري فيه أصل مؤمن قبل خروجه عن محل الابتلاء لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ ملاقيه لأنه بحسب الفرض لم يكن له ملاق ليجري الأصل بلحاظه ويتعارض مع أصالة الطهارة في ملاقي الطرف الآخر فلا بد من القول بعدم المنجزية في مثل ذلك لأنها فرع التعارض وهو فرع جريان الأصل في الطرف الآخر بلحاظ نفسه أو ملاقيه وكلاهما مفقود هنا.

فانه يقال : قبل خروج الدرهم عن محل الابتلاء أيضا تجري أصالة الطهارة فيه بلحاظ حكم ملاقيه وأثره التأمين عن مانعية ملاقيه في الصلاة ، أي الترخيص في إيجاد ملاق له والصلاة فيه ، لأن المفروض ان حرمته الوضعيّة فعلية فأصالة الطهارة فيه ترفع هذا الضيق فيكون طرفا للمعارضة مع الأصل في ملاقي الطرف الآخر بعد حصول الملاقاة من أول الأمر.

ثم انه قد يفرض ان أحد الطرفين المعلوم نجاسة أحدهما لا ينجس ملاقيه كما إذا كان جامدا لا مائعا وكان متنجسا ثانيا ـ بناء على المختار في الفقه من عدم منجسية


المتنجس الثاني الجامد ـ فان فرض ان هذا المتنجس الثاني ليس مأكولا ولا ملبوسا كالدرهم أمكن إجراء أصالة الطهارة في الطرف الآخر لتجويز شربه والصلاة فيه لعدم وجود معارض له في الطرف الآخر ، إذ لا يترتب على نجاسته تكليف لا بلحاظ نفسه بحسب الفرض ولا بلحاظ ملاقيه لعدم منجسيته فليس مثل هذا علما إجماليا بموضوع تكليف فعلي.

وان فرض انه كان مأكولا أو ملبوسا في الصلاة فأصالة الطهارة في ملاقي الطرف الآخر تتعارض مع أصالة الطهارة في هذا الطرف بلحاظ حكم نفسه أي أكله أو لبسه في الصلاة لا بلحاظ حكم ملاقيه لعدم نجاسته بحسب الفرض ، وهذا مبني على القول بتعارض الأصل الطولي مع الأصل الغرضي في الطرف الآخر كما هو الصحيح على ما تقدم وسوف يأتي أيضا في المقام الثاني.

وهكذا يتضح من مجموع ما تقدم ان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين ـ العلم الإجمالي الأول ـ لا ينجز الحرمة التكليفية لملاقي أحدهما ولكن ينجز الحرمة الوضعيّة في الطرفين ، أعني المانعية للملاقي من أول الأمر ، وأثر هذا المبنى العملي ـ مع انا سوف نقول بمنجزية العلم الإجمالي الثاني حتى لحرمة الشرب ـ يظهر فيما إذا لاقى الثوب أو الماء مع أحد الطرفين بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء بانعدامه أو تطهيره ولم يكن الطرف الخارج متنجسا ثانيا جامدا.

والأصحاب لم يفرقوا بين الحكمين وانما فرعوا منجزية العلم الإجمالي الأول على بحث فقهي يرتبط بتكييف حقيقة السراية وان نجاسة الملاقي هل تكون من باب السببية أو الانبساط ، فذهب المحقق النائيني إلى انه إذا قلنا بان السراية بابها باب السببية فهناك نجاسة أخرى مستقلة لا علم بها ولا تتنجز بالعلم الإجمالي الأول وان قلنا بأنها من باب الانبساط فنجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقي ـ بالفتح ـ انتقلت إليه فهي نفس ما كان طرفا للعلم الإجمالي الأول فيتنجز به وقد اختار فقهيا السببية لا الانبساط.

وهذا الكلام غير صحيح حتى إذا غفلنا عما بيناه من التفصيل بين الحكمين التكليفي والوضعي وفرضنا معقولية انبساط النجاسة بالمعنى المذكور وذلك لأنه يرد عليه :


أولا ـ ان المعلوم بالعلم الإجمالي الأول أصل النجاسة لأحدها وسعتها على الملاقي فسعتها على الملاقي حكم زائد لا معنى لفرض تنجزه بالعلم الإجمالي الأول بأصل النجاسة.

وثانيا ـ ان مصب التنجيز بالعلم الإجمالي الحكم التكليفي بحرمة الشرب أو التوضي أو اللبس في الصلاة وموضوعها المتنجس لا النجاسة فحتى إذا فرضنا معقولية الانبساط في الحكم الوضعي بالنجاسة فلا معنى لفرض الانبساط في الحكم التكليفي الّذي موضوعه الماء أو الثوب الملاقي كما هو واضح.

نعم لو فرض فقهيا ان الواجب هو الاجتناب عن النجس وأريد بالاجتناب عن النجس معنى بسيطا لا يحصل الا بترك النجس وترك ملاقيه معا بحيث يكون عنوان اجتناب النجس متوقفا على تركهما وان من ارتكب الملاقي لم يجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال وان لم يكن قد استعمله فلا بد حينئذ من ترك الملاقي أيضا حتى يحصل القطع بالاجتناب عن النجس المتنجز عليه بالعلم الإجمالي ، الا ان مثل هذا المعنى غير ثابت فقهيا بل ثابت العدم.

المقام الثاني ـ في تنجيز الملاقي بالعلم الإجمالي الثاني أي العلم بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى. ولا إشكال في عدم تنجيزه إذا كان الملاقاة بعد خروج طرف الملاقى عن محل الابتلاء بانعدامه أو تطهيره ، وانما الكلام فيما إذا حصلت الملاقاة قبل خروج الطرف عن محل الابتلاء والمحققون بين قائل بعدم المنجزية وقائل بالتفصيل ، والصحيح هو التنجيز مطلقا لأن هذا العلم الإجمالي أركان منجزيته تامة فلا بد لمن يدعي عدم تنجيزه من إبراز مانع عنه.

وفيما يلي نستعرض ما ذكره الأصحاب لإثبات عدم المنجزية مطلقا أو في بعض الصور مع إبطالها جميعا.

الوجه الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ من التفصيل بين تأخر العلم بالملاقاة عن العلم الإجمالي الأول وعدمه ، فلا منجزية في الأول دون الثاني. والوجه في ذلك ان العلم الإجمالي الثاني في الشق الأول يكون متأخرا زمانا عن العلم الإجمالي الأول مما يؤدي إلى عدم معارضة أصالة الطهارة في الملاقي مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر لأن الأصل المؤمن فيه قد سقط في زمن سابق بسبب العلم الإجمالي الأول والأصل


المؤمن بعد سقوطه لا يحيى من جديد ليعارض مع أصالة الطهارة في الملاقي فلا يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا لعدم المعارضة بين الأصول الترخيصية في أطرافه بناء على مسلك الاقتضاء ولكون أحد طرفيه منجزا بعلم إجمالي أسبق فلا يمكن للعلم الإجمالي الثاني ان ينجز على كل تقدير بناء على مسلك العلية. وهذا بخلاف ما إذا كان العلم الإجمالي الثاني حصل مقارنا مع العلم الإجمالي الأول حيث يكون الأصل في الطرف المشترك ساقطا بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر وملاقيه في عرض واحد (١).

ولا يخفى ان هذا التفصيل قد يقتضي تنجز الملاقي دون الملاقى كما إذا علم إجمالا أولا بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ثم علم بان ذلك على أساس الملاقاة مع ذلك الطرف فتشكل العلم الإجمالي بين الأصلين ـ وهو العلم الإجمالي الأول ـ قبل العلم الإجمالي الثاني بين الملاقي والطرف.

وأيا ما كان فهذا التفصيل غير صحيح لأنه يرد عليه :

أولا ـ ما مضى في بعض الأبحاث السابقة من ان المنجز في كل آن هو العلم الإجمالي في ذلك الآن فالمانع عن جريان الأصلين السابقين بقاء انما هو العلم الإجمالي بوجوده البقائي لا الحدوثي والا لما أمكن انحلال العلم الإجمالي بعد حدوثه أصلا وعليه فيكون حدوث العلم الإجمالي الثاني مع بقاء العلم الإجمالي الأول كل منهما جزء العلة لا محالة في إسقاط الأصل المؤمن في طرف الملاقى ولا وجه لافتراض تأثير أحدهما دون الآخر.

وثانيا ـ النقض بموارد الأمارات فلو صدر خبران متعارضان في زمان الإمام الصادق 7 مثلا وورد خبر آخر عن الإمام العسكري 7 يوافق أحدهما ويخالف الآخر كان اللازم الأخذ به من دون معارض لأن معارضه سقط في زمن سابق بالتعارض فحالهما حال الأصلين الأولين فيما نحن فيه والخبر المتأخر حاله حال الأصل المتأخر في المقام وهكذا لو علم الفقيه بخبرين متعارضين فسقطا عن الحجية ثم علم بخبر ثالث يوافق أحدهما ويخالف الآخر ، ومثل هذا مما لا يلتزم به أحد.

وثالثا ـ الحل وحاصله : ان توهم عدم دخول الأصل المتأخر زمانا في المعارضة مع

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٤١٥.


معارضه الساقط في زمن متقدم يمكن ان يكون مبنيا على أحد تصورين :

الأول ـ قياس ذلك بما إذا صدر من المولى في زمن واحد كلامان متعارضان ثم بعد مدة صدر منه كلام آخر يطابق أحدهما ويخالف الآخر فانه يؤخذ به ولا يجعل طرفا للمعارضة مع ما يخالفه من الكلام الأول لأنه معارض بما أوجب إجماله فيقال في المقام ان حال الأصل الثالث حال الكلام الثالث.

ومن الواضح ان هذا القياس في غير محله ، فان الأصول الثلاثة نسبتها إلى كلام المولى من حيث الصدور على حد سواء وليست كلمات ثلاثة صادرة منه كما لا وجه لافتراض ان الأصلين الأوليين معارضان متصلان في كلام واحد دون الثالث.

الثاني ـ ان يتصور بان المعارضة بين الأصول تكون بلحاظ مرحلة الفعلية وحيث ان مرحلة فعلية الأصلين الأوليين قبل فعلية الأصل الثالث فيتساقطان أولا وينجو الأصل الثالث عند فعليته من السقوط لعدم وجود ما يعارضه في مرحلة الفعلية.

وهذا التصور أيضا خاطئ ، وتوضيح ذلك يكون بذكر مقدمتين :

الأولى ـ ان الخطابات الشرعية المجعولة على نهج القضايا الحقيقة انما تتكفل الجعل على الموضوعات المقدرة الوجود واما مرحلة الفعلية ـ رغم الخلاف بيننا وبين المشهور في تفسير معنى الفعلية ـ فهي ليست مدلولا للخطاب بل تتبع فعلية الموضوع خارجا وحيث ان الخطابات انما تتكفل مرحلة الجعل أي تتكفل أحكاما على موضوعات مقدرة بقطع النّظر عن وجودها في الخارج بالفعل فهي تنظر إلى تلك الموضوعات وتفترضها في عرض واحد وان فرض تدرجها زمانا في الوجود ، ( فأكرم كل عالم ) ينظر في عقد موضوعه إلى افراد العلماء في عرض واحد وان وجد خارجا عالم قبل عالم آخر وهذا واضح.

الثانية ـ ان التعارض يعني التنافي بين الدلالتين والمدلولين وبما ان الخطابات تتكفل مرحلة الجعل لا فعلية المجعول فلا محالة يكون التعارض الواقع في دليل بلحاظ فردين منه تعارضا في نفس عالم الجعل من أول الأمر حيث يكون معنى عدم اجتماع فردين منه تخصيص الجعل بقيد مردد بين إخراج أحد فرديه على الأقل فيقع التنافي في مرحلة الجعل بين إطلاقي الخطاب لا محالة واما التنافي في الفعلية فليس بنفسه تعارضا أصلا.


إذا اتضحت المقدمتان قلنا : ان فكرة تعارض الأصلين السابقين وتساقطهما وبقاء الأصل المتأخر بلا معارض مبنية على تخيل المعارضة في مرحلة الفعلية ومن حينها مع ان الأمر ليس كذلك بل المعارضة تكون دائما بلحاظ الجعل ـ بحكم المقدمة الثانية ـ والجعل ينظر إلى افراد موضوعه في عرض واحد كما ان قيود الجعل تخرج منه ما تخرج في عرض واحد ـ بحكم المقدمة الأولى ـ فلا أثر لتقدم بعض افراد الموضوع على بعض زمانا أصلا فالوجود البقائي للأصل في طرف الملاقى يوجد له معارضان في عرض واحد بلحاظ مرحلة الجعل الّذي هو مدلول الخطاب ، الأصل في الطرف الآخر ، والأصل في ملاقيه فتسقط الجميع بالمعارضة.

ثم ان السيد الأستاذ قد استثنى من هذا الوجه ما إذا كان في الطرف المشترك أصل مؤمن غير ساقط بالعلم الإجمالي الأول فانه يقع طرفا للمعارضة مع الأصل المؤمن في الملاقي فيجب الاجتناب عنهما لا محالة. وكبرى هذا الاستثناء صحيحة وان كان المثال الّذي ذكره لا يخلو من المناقشة ذكرناها في بحوثنا الفقهية ، كما أن ملاك سلامة الأصل المؤمن في الملاقي في هذا الوجه بسبق العلم الإجمالي الأول زمانا بلحاظ نفسه لا بلحاظ معلومه كما كان يبني عليه الأستاذ في بحوثه الأصولية في دوراته السابقة لأن المنجزية وسقوط الأصل في الطرف المشترك من آثار نفس العلم الإجمالي لا المعلوم وقد أوضحه بنفسه فيما بعد فراجع.

الوجه الثاني ـ ان أصالة الطهارة في الملاقي تكون في طول أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ فأصالة الطهارة في الملاقى تتعارض في المرتبة السابقة مع أصالة الطهارة في طرفه ويسقط الأصلان وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة في الملاقي وهو أصل طولي لا معارض له.

وهذا الوجه يتوقف على تمامية أمور أربعة كما يلي :

١ ـ القول بالاقتضاء لا العلية.

٢ ـ كبرى ان الأصل الطولي لا يسقط بالمعارضة مع الأصلين العرضيين.

٣ ـ ان أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالفتح ـ.

٤ ـ عدم وجود أصل طولي في طرف الملاقى ـ بالفتح ـ اما الأمر الأول فقد تقدم انه تام.


واما الأمر الثاني فقد أورد عليه السيد الأستاذ بإيرادين :

أحدهما ـ عدم الطولية بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الطهارة في الطرف الآخر وانما الطولية بينها وبين أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالفتح ـ وليس هو المعارض معها.

وقد تقدم في بحث سابق تنقيح وجه فني لإبطال هذه المعارضة مع الإشكال فيه عرفا فالإيراد مع الأصل كلاهما غير تامين.

الثاني ـ ان تعدد الرتب لا أثر له في المقام لأن الأحكام الشرعية ظرفها الزمان لا الرتب فان اجتمع أصلان في طرفي العلم الإجمالي في زمان واحد فلا محالة يتعارضان ويتساقطان وان كان أحدهما متأخرا عن الآخر رتبة.

وهذا الجواب إن تمت كبراه في مثل مسألة تملك العمودين حيث يقال فيه بالانعتاق بعد الملكية في رتبة سابقة لا في زمان لكي لا يلزم ملك العمودين فيجاب بان الأحكام الشرعية أمور زمانية فلا بد من فعليتها في عالم الزمان لا عالم الرتب فهي غير تامة في المقام لأن المدعى ان الأصل المتأخر في فعليته عن أصل آخر يستحيل ان يكون مزاحما معه ومعارضا له وهذا لا ربط له بمسألة زمانية الأحكام الشرعية كما شرحناه في تنبيه سابق.

واما الأمر الثالث فهو غير تام أيضا وذلك :

أولا ـ لما سوف يأتي من عدم الطولية بين الأصول المتوافقة.

وثانيا ـ لو سلم ذلك في مثل الاستصحاب السببي والمسببي فلا يسلم في مثل أصالة الطهارة في الملاقي والملاقى لأن الحكومة اما ان تكون بملاك رفع الموضوع ولو تعبدا أو بملاك النّظر ودليل القاعدة لا يعبدنا بالعلمية لكي يتوهم فيه رفع موضوع الشك في طهارة الملاقي كما ان ملاك النّظر انما يتم في دليلين لا إطلاقي دليل واحد.

واما الأمر الرابع فغير تام أيضا وذلك :

أولا ـ لجريان أصالة الطهارة في الملاقي التقديري الطرف الآخر بناء على ما عرفت من جريانها عن الحرمة ـ الوضعيّة قبل وجود الملاقي.

وثانيا ـ ما سماه المحقق العراقي بالشبهة الحيدرية نسبة لها إلى سيدي الوالد ( قده ) وهو انه توجد في طول أصالة الطهارة في الطرف الآخر أصالة إباحته ـ إذا كان مما


يؤكل أو يشرب أو يلبس في الصلاة ـ فتعارض أصالة الطهارة في الملاقي (١).

وهذه الشبهة واردة بناء على مبانيهم في الطولية بين الأصول المتوافقة.

نعم مثل المحقق النائيني ( قده ) الّذي يرى سقوط أصالة الإباحة في الطرف مع أصالة الطهارة فيه بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الطرف الأول الملاقى ـ بالفتح ـ لكون المجعول فيهما واحدا وان تعدد الجعل لسانا لا يرد عليه هذا الإشكال لأن أصالة الطهارة في الملاقي موضوع آخر فهو مجعول آخر غير طهارة الملاقي ـ بالفتح ـ فلا تسقط بسقوطها كما لا يخفى.

الوجه الثالث ـ ما ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) من التفصيل بين ما إذا حصل العلم الإجمالي الثاني في طول العلم الإجمالي الأول بان تولد منه وبين ما إذا علم إجمالا بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ـ بالفتح ـ ثم علم انه لا منشأ لنجاسة الملاقي الا نجاسة ذلك الملاقى ـ بالفتح ـ أو علم بهما معا كما لو أخبر بذلك المعصوم دفعة. فانه في فرض الطولية بين العلمين أفاد المحقق العراقي عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني بناء على مسلك العلية المختار عنده لأن منجزية العلم الإجمالي فرع صلاحيته لتنجيز طرفيه معا وهو فرع عدم منجزية أحد طرفيه بمنجزية آخر ، فان المنجز لا يتنجز ثانية وفي المقام يكون طرف الملاقي ـ بالفتح ـ متنجزا بعلم الجمالي أسبق منه مرتبة فلا يمكن ان ينجزه العلم الإجمالي الثاني ومعه يسقط عن تنجيز الملاقي أيضا.

وقد يتساءل عن وجه الفرق بين المقام وبين موارد العلم الإجمالي الأسبق زمانا من علم إجمالي آخر يشترك معه في طرف واحد ـ أي بينهما عموم من وجه ـ حيث لا يقول المحقق العراقي بانحلال أحدهما بالآخر وهل يكون التقدم الرتبي في المقام لأحد العلمين على الآخر بأولى من التقدم الزماني؟

ويمكن ان نجيب على هذا السؤال بان وجه الفرق ان المنجز في التقدم الزماني انما هو الوجود البقائي للعلم الأول لا الحدوثي لما تقدم من ان المنجز في كل زمان العلم في ذلك الزمان وهو في عرض العلم الإجمالي الآخر ، وهذا بخلاف التقدم الرتبي فان

__________________

(١) الا ان هذا الأصل وكذلك أصالة الطهارة في الملاقي التقديري لا يوجب سقوط آثار الطهارة في الملاقي وان أوجب سقوط أصالة الطهارة فيه لأن تلك الآثار تثبت بأصول مرخصة طولية ولا يوجد في عرضها في هذه المرتبة أصل طولي في الطرف الآخر.


العلم المتأخر إن أريد تنجيزه في الرتبة المتقدمة فهو محال لاستحالة تقدم الأثر على المؤثر ، وان أريد تنجيزه في رتبته فالمفروض تنجز أحد طرفيه في هذه الرتبة فلا يصلح للتنجز مرة أخرى.

الا ان هذا الوجه أيضا غير تام ، وذلك لأنه يرد عليه :

أولا ـ ان العلم الإجمالي الثاني وان كان في طول العلم الأول ولكنه في عرض أثره ، فان العلم الأول له أثران ومعلولان أحدهما العلم الثاني والآخر تنجيز العلم الأول وتنجيز العلم الثاني ليس في طول تنجيز العلم الأول بل في طول نفس العلمين الا بقانون ان ما مع المتقدم متقدم الّذي تقدم مرارا بطلانه ، وعليه فالتنجيزان في رتبة واحدة لا في مرتبتين.

وثانيا ـ عدم الطولية بين العلمين المنجزين حقيقة فان العلم الإجمالي المنجز في المقام ليس هو العلم بالنجاسة بل العلم بالتكليف أي الحرمة التكليفية أو الوضعيّة ومن الواضح انه لا طولية بين العلم بحرمة استعمال أحد الإناءين والعلم بحرمة استعمال الملاقي لأحدهما أو الآخر.

وثالثا ـ ما تقدم في بحث سابق من ان هذا انما يتم إذا كانت نسبة التنجز إلى العلم نسبة المعلول التكويني إلى علته التكوينية أي امرا رتبيا وليس الأمر كذلك بل هو حكم وأمر زماني على ما مضى توضيحه وتفصيله في بحث سابق ، فما ذكره الأستاذ من الاعتراض على الوجه السابق يرد هنا (١).

ثم ان هذا الوجه يمتاز على الوجهين السابقين في استلزامه سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بنحو بحيث يجري في الملاقي الأصل المؤمن العقلي أيضا أعني البراءة العقلية على القول بها بخلاف الوجهين السابقين كما لا يخفى وجه.

الوجه الرابع ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) واصطلح عليه بالانحلال الحقيقي وهو

__________________

(١) لا يقال ـ انما يتم هذا لو كانت منجزية العلم حكما شرعيا وليس كذلك لأنها حكم عقلي عملي يدركه العقل على حد إدراك الواقعيات الأخرى ـ بناء على الصحيح والمختار في مدركات العقل العملي ـ فيكون أمرا رتبيا فانه يقال ـ ان حكم العقلي بالمنجزية وإن كان امرا واقعيا الا انه ليس من لوح الوجود ليقال بان الموجود في رتبة سابقة لا يعقل ان يوجد من جديد ، بل روحه عبارة عن إدراك العقل لقبح المخالفة واستحقاق العقوبة ولا محذور في ان يكون فعل قبيحا في المرتبة السابقة بعنوان وقبيحا في مرتبة لا حقة بعنوان آخر أيضا فتجتمع حيثيتان طوليتان للقبح فيه.


غير مصطلحنا في الانحلال الحقيقي على ما سوف يظهر وحاصله : ان الميزان في انحلال أحد العلمين وخروجه عن الصلاحية للتنجيز بسبب الآخر سبق معلوم الآخر لا سبق نفس العلم وهذا الميزان منطبق في المقام على العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف لأن معلومه متأخر عن المعلوم بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف فينحل به سواء كان متأخرا عنه علما أيضا أم لا.

وتوضيح ذلك على ما يستفاد من تقريرات المحقق النائيني ( قده ) ببيان أمور :

الأول ـ ان العلم الإجمالي انما يكون منجزا إذا كان علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير ويترتب على ذلك ان بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان منجزا بمنجز سابق شرعي أو منجز سابق عقلي كالطرفية لعلم إجمالي آخر فلا يكون العلم الإجمالي أثر إذ لا يكون علما بالتكليف على كل تقدير.

الثاني ـ ان تنجيز العلم انما هو باعتبار صفة كاشفيته وطريقيته لا بوجود نفسه بما هو صفة خاصة ، ولهذا لو تعلق العلم بمعلوم سابق فلا بد من ترتيب الأثر من ذلك الزمان دون زمان حدوثه ، ويترتب على ذلك انه إذا فرضنا العلم بنجاسة أحد الإناءين يوم السبت ثم علم يوم الأحد بوقوع نجاسة يوم الجمعة مرددة بين إناء ثالث وواحد معين من الإناءين الأولين سقط العلم الحاصل يوم السبت عن المنجزية بسبب العلم الحاصل يوم الأحد لأن علم يوم الأحد أسبق معلوما وتنجيز العلم تابع للمعلوم وبذلك يخرج على يوم السبت عن كونه علما بالتكليف على كل تقدير لأن أحد طرفيه ـ وهو الطرف المشترك بين العلمين ـ يكون منجزا بتنجيز عقلي سابق وهو التنجيز الحاصل بلحاظ علم يوم الأحد.

الثالث ـ ان إبطال العلم الأسبق معلوما بمنجزية العلم المتأخر معلوما لا فرق فيه بين أن يكون السبق فيه زمانيا ، كما هو الحال في المثال السابق ، أو رتبيا ولو فرض الاقتران بين المعلومين في الزمان ومن هذا القبيل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين والعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي لأحدهما أو الإناء الآخر فان المعلوم بالعلم الأول أسبق رتبة عن المعلوم بالعلم الثاني إذ في مرتبة سابقة على الملاقاة يعلم بنجاسة أحد الإناءين وهذا يعني ان التكليف في الإناء الآخر منجز في مرتبة سابقة على العلم الإجمالي الثاني بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الإناء الآخر ومعه لا يصلح العلم الإجمالي الثاني للتنجيز بل


يخرج عن كونه علما إجماليا بالتكليف الفعلي على كل تقدير (١).

والتحقيق : ان هذه الأمور الثلاثة كلها محل إشكال ومنع.

اما الأمر الأول : فلأنه لا شك في إناطة تنجيز العلم الإجمالي بان يكون علما بالتكليف المولوي على كل تقدير غير ان هذا المعنى لا ينبغي عن العلم الإجمالي لمجرد وجود منجز عقلي في واحد معين من أطرافه لأن المقصود بالتكليف الّذي يشترط كون العلم الإجمالي علما به هو الإلزام المولوي والعلم الإجمالي بالإلزام المولوي ثابت فعلا ولا ينافيه فرض وجود منجز عقلي في أحد أطرافه بل ولا وجود منجز شرعي كذلك ، نعم لو كان المقصود بالتكليف الّذي يشترط كون العلم الإجمالي علما به الكلفة المساوقة للتنجز لصح القول بعدم وجود علم إجمالي بالتكليف مع وجود منجز تعييني في أحد الطرفين لأن الكلفة فيه محرزة وجدانا ولكن الكلفة بهذا المعنى مرجعها إلى التنجيز ونحن نتكلم عن العلم الإجمالي الّذي يقع موضوعا للمنجزية وما هو موضوع للمنجزية انما هو العلم الإجمالي بالإلزام المولوي لا العلم الإجمالي بالكلفة المساوقة للمنجزية فتفسير خروج العلم الإجمالي عن المنجزية لوجود منجز تعييني سابق لأحد طرفيه بعدم كونه علما إجماليا بالتكليف على كل تقدير غير صحيح. ولهذا ذهب المحقق العراقي ( قده ) في تفسير ذلك إلى إبراز نكتة أخرى هي ان المتنجز لا يتنجز مع دقة في تطبيقها حيث طبقها في المقام بلحاظ تقدم رتبة أحد العلمين على الآخر لا المعلومين لأن المنجز هو العلم لا المعلوم ـ على ما سوف يظهر ـ ولكنك عرفت عدم صحة هذه النكتة أيضا لا كبرى ولا صغرى.

واما الأمر الثاني : فلو سلم الأمر الأول فلا مجال لقبول الثاني لأن العلم بمعلوم سابق يستحيل ان يكون منجزا له الا من حينه لأن العلم بالنسبة إلى حكم العقل بالمنجزية ليس طريقا بل هو موضوع غاية الأمر انه موضوع بما هو كاشف فلا منجزية قبل العلم وكون العلم بمعلوم سابق مقتضيا لترتيب الأثر من ذلك الزمان ليس معناه سبق التنجيز بل تعلق التنجيز الحادث عند حدوث العلم بتمام قطعات المعلوم فالمعلوم على امتداده يتنجز من الآن أي من حين حدوث العلم وفرق بين تنجز التكليف السابق

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ص ٢٦٢ ٢٦٣.


فعلا وبين التنجيز السابق كما هو واضح ، ومعه لا يكون مجرد سبق أحد المعلومين منشأ لانحلال العلم الإجمالي بالمعلوم المتأخر.

هذا مضافا : إلى انا لو سلمنا ان العلم المتأخر ذا المعلوم المتقدم ينجز معلومه من حينه بحيث يكون التنجز سابقا على العلم ولكن هذا انما يوجب انحلال العلم المتقدم ذي المعلوم المتأخر وخروجه عن كونه علما بالتكليف ـ حسب تعبيرات هذه المدرسة ـ إذا تعين هو المنجزية الطرف المشترك دون العلم المتقدم وهذا بنفسه يحتاج إلى نكتة إضافية لتساوي نسبة العلمين إليه ، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين يوم السبت ثم علم يوم الأحد بنجاسة في يوم الجمعة اما للإناء الأحمر من ذينك الإناءين واما لإناء ثالث يتوقف انحلال العلم الحاصل يوم السبت على ان تكون نجاسة الإناء الأحمر في يوم السبت منجزة من قبل العلم الإجمالي المتأخر الحاصل يوم الأحد لكي يخرج بذلك علم يوم السبت عن كونه علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير مع ان هذا بلا معين لأن كلا من العلمين صالح في نفسه لتنجيز تلك القطعة من نجاسة الإناء الأحمر الواقعة في يوم السبت.

واما الأمر الثالث ـ فيرده : ان نجاسة الإناء الآخر الواقعة طرفا للعلم الإجمالي الأول بنجاسة أحد الإناءين هي نفس نجاسته الواقعة طرفا للعلم الإجمالي الثاني بنجاسة الملاقي أو الطرف ولا معنى لفرض السبق والتأخر الترتبي بينهما ، فالطرف المشترك بين العلمين واحد ونسبته إلى العلمين على نحو واحد ، نعم الطرفان المختصان وهما نجاسة الإناء الملاقى ـ بالفتح ـ ونجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ بينهما طولية وترتب ولكنهما حكمان في موضوعين وثبوت أحدهما بمنجز سابق لا يمنع عن كون الآخر تكليفا جديدا زائدا بنحو يكون العلم الإجمالي به منجزا. نعم يتم هذا الكلام إذا سلمت أصوله الموضوعية فيما إذا كان التقدم بلحاظ الطرف المشترك بين العلمين كمثال الإناء الأحمر المتقدم.

هذا مضافا : إلى ان منجزية العلم حكم في عمود الزمان بلحاظ كل علم فلو سلمنا الانحلال وعدم صدق العلم بالتكليف الزائد فيما إذا كان هناك طرف مشترك متنجز بعلم سابق فلا ينبغي توهم الانحلال لمجرد التقدم الرتبي لمعلوم أحد العلمين لو فرض في مورد فانه يكفي لكون العلم الإجمالي الثاني علما بحدوث التكليف عدم تقدم التكليف المعلوم بالعلم الأول زمانا عليه فيكون في عرض العلم الأول منجزا لمعلومه.


ومن الطريف ما جاء في أحد تقريري بحوث المحقق النائيني ( قده ) في إثبات الانحلال بان نجاسة الملاقي معلول لنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ومتأخرة عنها فلا يعلم في الرتبة المتأخرة بحدوث تكليف جديد لاحتمال كون النجس هو الطرف الآخر من أول الأمر. فتراه يذكر في المقدمة التقدم والتأخر بلحاظ موردي الافتراق بين العلمين الإجماليين وفي مقام الاستنتاج يصور كون التكليف بقائيا لا حدوثيا بلحاظ الطرف المشترك مع وضوح انه لو لاحظنا الطرف المشترك فكما يكون العلم الإجمالي بنجاسة الطرف المشترك أو الملاقي ـ بالفتح ـ علما بحدوث التكليف كذلك العلم بنجاسة الطرف المشترك أو الملاقي علم بحدوث التكليف فلا وجه لأن يلحظ أحدهما أولا ويقال بان الثاني ليس علما بحدوث التكليف.

وهكذا يتضح ان شيئا من الوجوه التي ذكروها لإبطال منجزية العلم الإجمالي الثاني مطلقا أو في بعض الصور غير تام ، فالصحيح منجزية العلم الإجمالي الثاني لحكم الملاقي تكليفا ووضعا وان كان العلم الإجمالي الأول كافيا أيضا في تنجيز حرمته الوضعيّة على ما تقدم.

بقي التنبيه على أمور :

الأول ـ حاول بعضهم تصوير وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ـ بالفتح ـ في بعض الصور وهو ما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم بالنجاسة ثم خرج الملاقى ـ بالفتح ـ عن محل الابتلاء فعلم إجمالا بالنجاسة وبعد ذلك دخل الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فيقال حينئذ بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ.

وهذا الفرع لا موضوع له بناء على مختارنا في المسألة من عدم الفرق بين الملاقي والملاقى في وجوب الاجتناب ، وانما يتجه ـ بناء على التفصيل بينهما في الحكم بأحد الوجوه المتقدمة فلا بد من ملاحظتها تارة بالنسبة إلى الملاقي قبل دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء ، وأخرى بالنسبة إلى الملاقى ـ بالفتح ـ بعد دخوله في محل الابتلاء ، وثالثة بالنسبة إلى الملاقي بعد دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء.

اما وجوب الاجتناب عن الملاقي قبل دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فهو


يتم على كل الوجوه السابقة عدا الوجه الثاني الّذي كان يرى سلامة الأصل الطولي عن المعارضة فانه بناء على هذا المبنى يجري الأصل المؤمن في الملاقي لسقوط الأصل المؤمن في طرفه بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي الخارج فعلا عن محل الابتلاء بلحاظ إثبات طهارة ملاقيه فانه لا مانع من إجرائه فيه لإثبات هذا الأثر وهو أصل سببي حاكم على الأصل الطولي في الملاقي. واما الانحلال بإلا سبقية الزمانية أو التقدم الرتبي للعلم أو المعلوم بالعلم الإجمالي الأول فهي لا تجري في المقام لعدم منجزية العلم الإجمالي الأول مع خروج طرفه عن محل الابتلاء.

واما حكم الملاقى ـ بالفتح ـ بعد دخوله في محل الابتلاء فبناء على القول بالانحلال إذا كان الأصل في أحد طرفي العلم ساقطا في زمن سابق ـ الوجه الأول ـ لا يجب الاجتناب عنه لسقوط أصالة الطهارة في طرفه الآخر قبل دخوله في محل الابتلاء بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي.

واما بناء على سلامة الأصل الطولي عن المعارضة فقد يقال بان أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ انما سقطت بلحاظ الأثر المترتب على ملاقيه لا نفسه فلا بأس بإجرائها فيه بلحاظ نفسه الآخر بعد أن كان معارضه وهو الأصل في الطرف المشترك ساقطا في زمن سابق الا ان هذا مبني على الجمع بين المبنيين سلامة الأصل الطولي وسلامة الأصل المتأخر في الفعلية.

وأما بناء على الوجهين الثالث والرابع فقد عرفت انه لا تقدم رتبي للعلم أو المعلوم الآخر عليه. واما التقدم الزماني للعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف فلا يفيد على ما تقدم لأنه ليس التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الطرف المشترك ليتوهم الانحلال به.

واما حكم الملاقي بعد دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فقد عرفت انه بناء على الوجه الثاني لا يجب الاجتناب عنه حتى قبل دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فضلا عما إذا دخل الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء فالبحث عن تبدل حكمه الآن لا بد وان يفرض على المباني الأخرى التي كانت تنتج وجوب الاجتناب عنه قبل ذلك وحينئذ قد يقال بخروجه عن التنجز بناء على الوجه الثالث والرابع ، لأنه بعد دخول الملاقى في محل الابتلاء يصبح العلم الإجمالي بنجاسة أو نجاسة الطرف علما إجماليا منجزا ومتقدما رتبة من حيث العلم والمعلوم على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي


أو الطرف فيكون الطرف المشترك متنجزا في الرتبة السابقة بالعلم الإجمالي الأول ومعه لا يمكن ان يتنجز بالوجود البقائي للعلم الإجمالي الثاني.

ويمكن إثبات التنجيز ووجوب الاجتناب عن الملاقي حتى على هذين المبنيين بأحد تقريبين :

١ ـ ان ما يكون متقدما رتبة على العلم الإجمالي الثاني هو العلم بحدوث النجاسة في الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف لا العلم ببقائها إلى حين دخوله في محل الابتلاء وهذا العلم الإجمالي لم يكن منجزا لمعلومه لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء وانما المنجز الآن هو العلم ببقاء تلك النجاسة بعد دخول الملاقى في محل الابتلاء وهذا ليس متقدما على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف.

وفيه : لو قطعنا النّظر عما تقدم من الإشكال على أصل هذا الوجه من ان المنجز هو العلم بأثر النجاسة تكليفا وهو الحرمة ـ كما هو المفروض. فهذا التقريب غير تام لأن المنجز انما هو العلم بنجاسة أحد الطرفين حين الملاقاة اما بقائها بعد ذلك أو ارتفاعها بأحد الروافع فهو من آثار النجاسة بحسب الحقيقة فتأمل جيدا.

٢ ـ تنجيز الملاقي بإبراز علم إجمالي تدريجي مردد بين الطويل والقصير فاننا نعلم بنجاسة الطرف المشترك قبل دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء أو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ بعد دخول الملاقى في محل الابتلاء وهذا العلم الإجمالي لا يوجد بالنسبة إلى أحد طرفيه منجز لأن الطرف المشترك قبل دخول الملاقى ـ بالفتح ـ في محل الابتلاء لم يكن منجزا بالعلم الإجمالي الأول المتقدم رتبة بل بالعلم الإجمالي الثاني الّذي هو في عرض هذا العلم الإجمالي التدريجي.

وهذا التقريب لا يتم على المبنى الرابع ـ الصياغة الميرزائية ـ لأن معلوم هذا العلم الإجمالي التدريجي أيضا متأخر رتبة عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ وانما يتجه بناء على صياغة المحقق العراقي ( قده ) للانحلال بنكتة ان المنجز لا يتنجز.

الثاني ـ قد عرفت فيما سبق ان المحقق النائيني ( قده ) ربط وجوب الاجتناب عن الملاقي بمسألة السراية أو السببية في نجاسة الملاقي حيث أثبت بذلك التفصيل بين القول بالسببية والقول بالسراية فعلى الأول لا يجب الاجتناب عن الملاقي لعدم تنجزه لا بالعلم الإجمالي الأول لعدم كونه علما بتمام الموضوع لحكم الملاقي ولا الثاني ، لما


تقدم في الوجه الثاني مثلا من سلامة الأصل الطولي عن المعارضة ـ وعلى الثاني يجب الاجتناب عنه لتنجزه بالعلم الأول والثاني ، اما الأول فواضح واما الثاني فلأنه على القول بالسراية وعدم السببية لا تكون هناك طولية بين الأصلين في الملاقي والملاقى.

وفي المقام نريد التكلم عن حكم الشك في كون نجاسة الملاقي من باب السراية أو السببية بعد تسليم أصل هذا التفصيل الّذي بنى عليه المحقق النائيني ( قده ) رغم عدم صحته فنقول : إذا شك في السراية والسببية بناء على التفصيل المذكور فالعلم الإجمالي سوف لا يكون منجزا لأنه لا يحرز السراية التي تستبطن المئونة الزائدة ووجوب الاجتناب عن الملاقي فتكون هذه المئونة مجرى للأصول المؤمنة العقلية والنقليّة ، كما ان العلم الإجمالي الثاني أيضا لا يكون منجزا لأنه يشك في وجود معارض للأصل المؤمن في الملاقي لاحتمال السببية الموجب للطولية وعدم إمكان معارضة الأصل المرخص في الطرف الآخر للأصل المرخص في الملاقي فلا يمكن التمسك بالأصل في الملاقى في عرض الأصل في الطرف الآخر للشك في وجود الحاكم عليه الرافع لموضوعه وانما يمكن ذلك في طول سقوطه وهو معنى الطولية.

نعم إذا قلنا بان حكومة الأصل السببي على المسببي انما تكون في فرض وصول الحاكم فمع عدم العلم بالحكومة لا حكومة واقعا كان الأصل في الملاقى معارضا مع الأصل في الطرف الآخر في عرض واحد.

الثالث ـ تعرض المحققون في المقام لفرع جعلوه مشابها لملاقي أطراف الشبهة المحصورة وهو فرع الثمرة وذي الثمرة في باب الغصب ، فلو علم المكلف ان إحدى الشجرتين مملوكة للغير إجمالا فأثمرت إحداهما فالعلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين انما تنجز حرمة التصرف فيهما واما بالنسبة إلى الثمرة فلا علم بتمام الموضوع لحرمتها ووجوب ردها إلى الغير فلا يحرم التصرف فيها لا بالعلم الأول لما ذكر ولا بالعلم الإجمالي بغصبيتها أو غصبية الشجرة الأخرى لانحلاله بأحد الوجوه المتقدمة فحال هذا الفرع حال ملاقاة شيء مع أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة.


والتحقيق يقتضي البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في أثر العلم الإجمالي بالغصبية بلحاظ الشجرتين ، ولا إشكال في تنجيزه للأحكام التكليفية المتعلقة بنفس الشجرة المغصوبة كحرمة التصرف فيها للعلم بتمام موضوعها ، وانما الكلام في ضمانها إذا تلفت إحداهما بيده وكأنهم بنوا على الضمان لأن تمام الموضوع فيه ان يكون المال للغير وان يكون تحت يد الإنسان بلا اذن مالكه وكلا الجزءين محرز في المقام.

الا ان هنا خطا شايعا نشأ من الخلط وعدم التمييز بين الضمان بمعنى العهدة والضمان بمعنى اشتغال الذّمّة بالقيمة أو المثل. فان المحقق النائيني ( قده ) وان جاء في كلماته ان العهدة وعاء الأعيان والذّمّة وعاء الأمور الكلية الا ان جوهر الفرق بين العهدة والذّمّة لم يوضح في كلماتهم ، وتفصيل ذلك موكول إلى محله من الفقه ، الا اننا نقول هنا على سبيل الإيجاز بان العهدة والذّمّة أو الضمان وشغل الذّمّة مفهومان متباينان بحسب المفهوم وبينهما عموم من وجه بحسب المورد والمصداق لأن الضمان مرجعه إلى المسئولية والتعهد والتكليف من دون استلزام حق الملكية بينما اشتغال الذّمّة مرجعه إلى تملك شيء على الآخر وحيث ان الملكية بحاجة إلى مملوك ففرضت الذّمّة وعاء له.

ويجتمع المعنيان في مثل ما إذا أتلف شخص مال الغير فانه تشتغل ذمته بمثله أو قيمته كما انه مسئول عن أدائه إليه.

واما مورد تحقق الضمان دون شغل الذّمّة فمصاديقه غير متوفرة كثيرا في فقهنا الا انه يمكن ان يذكر منهما باب الكفالة فان مرجعها إلى التعهد بإحضار المدين امام غريمه بحيث يجب على ذلك ويحبس إذا أخل به ولكن لا تشتغل ذمته بالدين ، وهناك لدى فقهاء العامة تصوير للضمان على الأموال في عقد الضمان بمحض العهدة لا اشتغال الذّمّة. ومن مصاديقه عندنا ما إذا استدان العبد فان المشهور ان المولى يضمن أداء دين عبده وان كانت ذمته غير مشغولة به فلا يخرج من تركته إذا مات.

ومورد تحقق شغل الذّمّة دون العهدة واضح في الفقه أيضا كموارد الثمن قبل قبض المبيع فان ذمة المشتري مشغولة به ولكن لا يجب دفعه قبل قبض المبيع.


وإذا اتضحت هذه الفكرة في الفقه قلنا في المقام : ان الّذي تكون يد الغير تمام الموضوع له هو الضمان لا اشتغال الذّمّة ، فالغاصب بمجرد وضع يده على الغير يصبح مسئولا عن أدائه إليه ويحرم عليه التصرف فيه واما اشتغال ذمته به فليس وضع اليد عليه تمام الموضوع له بل جزؤه ، وجزؤه الآخر تلف المال فالعلم الإجمالي ليس علما بتمام الموضوع لشغل الذّمّة ولكن المشهور لم يميزوا بين الأمرين بل عبروا بالضمان عن شغل الذّمّة وبالعكس ، فقال بعضهم ان الضمان معناه شغل الذّمّة بالبدل من القيمة أو المثل ، وبعضهم قال بان الضمان يعنى كون المال في عهدته بكامل خصوصياته الشخصية والمثلية والقيمية وكلما تعذر إرجاع شيء منها بقي الباقي منها في العهدة فيجب رده ، ومنهم من قال بان العين تبقى في العهدة بتمام خصوصياتها غاية الأمر ان عهدة العين تقتضي ردها عند وجودها ورد بدلها حين فقدها.

وعلى أساس هذه التفاسير أيضا لا يكون العلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين علما بتمام الموضوع لاشتغال الذّمّة لأن العهدة بما هي حكم وضعي لا يتنجز وانما المنجز الحكم التكليفي برد المثل أو القيمة وهو على كل حال مشروط بتلف مال الغير وهو غير محرز فلا بد من التفصيل حينئذ بين ما إذا كانت الحالة السابقة للشجرة التالفة انها ملك للغير فيستصحب وينقح به موضوع شغل الذّمّة وبين ما إذا لم يكن أصل موضوعي كذلك.

الا ان الإنصاف منجزية العلم الإجمالي الأول للضمان بمعنى اشتغال الذّمّة أيضا الآن العرف بحسب المناسبات المركوزة لديه يفهم من خطاب شغل الذّمّة عند التلف والعهدة انهما بملاك واحد لا بملاكين ، فشغل الذّمّة كحكم وضعي وان كان منوطا بالتلف بحسب صناعته القانونية الاعتبارية الا ان الحكم بوجوب رد المثل أو القيمة ثابت من أول الأمر ملاكا على الأقل فيكون منجزا بالعلم الإجمالي الأول لا محالة فما أدركه هؤلاء المحققون من ان العلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين منجز للحكم بالضمان واشتغال الذّمّة صحيح.

على اننا في غنى عن إثبات تنجيز الضمان بهذا العلم لأنه يكفينا العلم الإجمالي الثاني باشتغال الذّمّة بالبدل أو اشتغال العهدة بتسليم الشجرة غير التالفة وحرمة التصرف فيها وهو علم إجمالي منجز عندنا كمنجزية العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف.


المقام الثاني ـ في أثر العلم الإجمالي بلحاظ حكم الثمرة وضمانها.

ولا إشكال على مبانينا في ضمانها لأنها تقع طرفا لعلم إجمالي ثان بغصبيتها أو غصبية الشجرة الأخرى ، وقد برهنا فيما سبق على عدم انحلاله بالعلم الإجمالي الأول الا ان المشهور حيث ذهبوا إلى عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني احتيج إلى الحديث عن منجزيته بالعلم الإجمالي الأول وفرعوا ذلك ـ كما فرعوا بحث الملاقي ـ على المسألة الفقهية من ان ملكية الثمرة هل هي ملكية أخرى مسببة عن ملكية الشجرة ومتولدة عنها أو انها انبساط لها ، فعلى الأول لا تنجيز لعدم العلم بتمام موضوعها بخلاف الثاني.

وقد عرفت بما لا مزيد عليه بطلان هذا التفصيل وعدم ثبوت التنجيز حتى على الانبساط الا بمعنى غير محتمل فقهيا وعلى كل حال فقد ذكروا في تقريب عدم المنجزية بناء على السببية في المقام بيانا ابتدائيا حاصله : ان المعلوم بالإجمال وضع اليد على أحد الأصلين الّذي هو ملك الغير وهو لا يكفي في ضمان الثمرة بل لا بد من العلم بوقوع اليد على ثمرة الأصل المغصوب.

وأورد عليه المحقق النائيني ( قده ) بكفاية وضع اليد على الأصل في ضمان الثمرة أيضا ولهذا يضمن الغاصب الأول في مسألة تعاقب الأيادي حتى للثمرة الحاصلة عند اليد الثانية ومن هنا عدل السيد الأستاذ هذا البيان بتعبير أعمق حاصله : ان وضع اليد على الثمرة زائدا على الأصول وان كان غير لازم في باب الضمان الا ان كون الثمرة من الأصل المغصوب لا بد من إحرازه لتحقق موضوع الضمان وهو غير محرز في المقام ، نعم لو أثمرت كلتا الشجرتين أحرز ذلك بالنسبة إلى أحدهما لا محالة.

وهذا البيان تام إذا لم يدع مطلب ارتكازي في المقام وهو دعوى ان الثمرة لها وجود عنائي تقديري لدى العقلاء تقع بلحاظه موردا للأثر من جواز بيعه قبل وجوده في السلف ونحوه فيدعى ان الغاصب كما يضمن أصل الشجرة يضمن ثمرتها التقديرية إذا كانت صالحة لذلك من أول الأمر ومثل هذا الارتكاز العقلائي يمكن القول به في موارد عديدة من فقه المعاملات في طرف المملوك أو المالك أو الملكية نفسها فيعتبر العقلاء طرفا تقديريا أو سلطنة تقديرية كذلك ، كما قد يدعى ذلك بالنسبة إلى الوقف على البطون قبل وجودها ، وعليه فلو بني على ذلك فقهيا فسوف تدخل الثمرة تحت


الضمان من أول الأمر قبل وجودها فيتنجز ضمانها بالعلم الإجمالي الأول ، وعلى كل حال فالعلم الإجمالي الثاني كاف في التنجيز على مبانينا.


مباحث الحجج

الأقل والأكثر

ـ الأقل والأكثر في الاجزاء

ـ الأقل والأكثر في الشرائط

ـ التعيين والتخيير

ـ ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

١ ـ التمسك بالاستصحاب في الأقل والأكثر

٢ ـ الأقل والأكثر في المحرمات

٣ ـ الدوران بن الجزئية والمانعية

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر

٥ ـ الأقل والأكثر في المحصل الشرعي

٦ ـ الشك في الطلاق القيد لحال التعذر ـ قاعدة الميسور

٧ ـ الشك في مبطلية الزيادة ـ خاتمة

١ ـ وجوب الفحص قبل جريان المؤمن

٢ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار



الوظيفة عند الشك في الأقل والأكثر

تمهيد :

إذا كان الوجوب معلوما ولكن تردد الواجب بين الأقل والأكثر ، فهناك حالتان :

الحالة الأولى ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، والّذي يعني ان ما يتميز به الأكثر على الأقل من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا مستقلا عن وجوب الأقل كما إذا علم المكلف بأنه مدين لغيره بدرهم أو درهمين.

ولا إشكال في تنجز وجوب الأقل فيه العلم التفصيليّ به ، وان وجوب الزائد مشكوك بشك بدوي فتجري عنه البراءة عقلا وشرعا أو شرعا فقط على الخلاف بيننا وبين المشهور.

الحالة الثانية ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، والّذي يعني ان هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهو متعلق اما بالأقل أو الأكثر كما إذا علم المكلف بوجوب الصلاة عليه وترددت الصلاة عنده بين عشرة أمور ـ إجراء وشرائط ـ أو تسعة.

وقد وقع البحث والكلام بين المحققين في منجزية الأكثر وعدمه ، ومنشأ البحث في ان الدوران في الحالة الثانية هل يرجع بحسب الحقيقة والجوهر إلى الأقل والأكثر فينحل لا محالة ويكون الزائد مشكوكا بدوا كما ذكرنا في الحالة الأولى ، أو يرجع إلى الدوران بين المتباينين وان كان بحسب الظاهر دورانا بين الأقل والأكثر فلا يكون منحلا.


ولكي تتضح النكات الأساسية في هذا البحث ينبغي الإشارة إلى ان هناك عوالم متعددة يمكن ملاحظة هذا الدوران والتردد في الواجب بلحاظها ، فقد يكون الحال بلحاظ بعضها من الدوران بين الأقل والأكثر وبلحاظ عالم آخر من الدوران بين المتباينين ، ولا بد من تشخيص ان الميزان أي منها. وهذه العوالم التي يلحظ فيها الوجوب كما يلي :

١ ـ عالم الجعل ولحاظ المولى ، فيبحث في ان الواجب الارتباطي المردد بين الأقل والأكثر بحسب عالم الجعل ولحاظ المولى هل يكون مرددا بين لحاظين متباينين أو لحاظين ولحاظ فيكون من الأقل والأكثر.

٢ ـ عالم الوجوب والإلزام ـ أي عالم الملحوظ لا اللحاظ ـ فقد يكون الأمر في عالم اللحاظ دائرا بين متباينين ولكن بلحاظ الإلزام والوجوب يكون اللحاظ الزائد في الأكثر مزيدا من الوجوب والضيق بينما اللحاظ الزائد في الأقل يستلزم التوسعة وإطلاق العنان.

٣ ـ عالم التحميل العقلي ، أي ما يرى العقل اشتغال ذمة المكلف به وتسجيله في عهدته ، فانه قد يفرض ان الأمر بلحاظ عالمي الجعل والوجوب دائر بين المتباينين ولكن بلحاظ ما يتسجل في عهدة المكلف وتشتغل به ذمته يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر كما سوف يأتي في الدوران بين التعيين والتخيير.

٤ ـ عالم التطبيق الخارجي والامتثال ، فقد يكون الأمر فيه دائرا بين الأقل والأكثر أي ان مقدارا مما يقع في الخارج يصلح امتثالا للأمر بالأقل فإذا ضم إليه الزائد صار امتثالا للأمر على كل تقدير كما في موارد الشك في جزئية السورة في الصلاة وأخرى لا يكون الأمر كذلك بل الفعل الّذي يقع به امتثال الأكثر غير الّذي قد يقع به امتثال الأقل كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الخصال أو خصوص العتق فان عتق الرقبة مباين مع الإطعام أو الصوم.

وبالتأمل في هذه المراحل الأربع لكيفية لحاظ الحكم يظهر ان أوسع العوالم في قابليته لأن يكون الدوران فيه بين الأقل والأكثر هو عالم التحميل العقلي وشغل والذّمّة.

ونحن نجعل الضابط لموضوع البحث والّذي يكون جامعا لكل الأقسام ان يدور


الأمر بين حكمين يكون امتثال أحدهما مساوقا لامتثال الآخر عقلا دون العكس ، وهذا يشمل فرض الدوران بين الأقل والأكثر بحسب الاجزاء والشرائط كما يشمل فرض الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي والتعيين والتخيير العقلي أي الجامع والحصة. وفيما يلي نستعرض البحث في كل واحد من هذه الأقسام.

١ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء :

كما إذا تردد امر الصلاة بين تسعة اجزاء أو عشرة ، وقد اختلفت كلمات المحققين فيه إلى ثلاثة أقول :

١ ـ القول بجريان البراءة عن الزائد مطلقا ، وهو مختار الشيخ في الرسائل.

٢ ـ القول بعدم جريانها مطلقا ، وهو مختار المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الكفاية.

٣ ـ القول بجريان البراءة الشرعية دون العقلية ، وهو مختار صاحب الكفاية في الكفاية.

وحيث ان وجوب الأكثر مشكوك ومشمول لأدلة البراءة عند الشك في التكليف في نفسه فيكون منهج البحث هو التفتيش عما يكون مانعا عنها وبرهانا على عدم جريان التأمين عن هذا الوجوب المشكوك.

وفيما يلي نستعرض الموانع التي ذكرت أو يمكن ان تذكر في هذا الصدد مع التعليق عليها.

والمانع الأول ـ وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة وليس هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الزائد لينفي ذلك بان وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الأقل فكيف يجعل طرفا مقابلا له في العلم الإجمالي بل هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد الّذي هو أمر مباين مع الأقل لأن الوجوب ارتباطي والارتباطية تساوق الوحدة والوحدة تساوق التباين إذ لا يتعقل أقل وأكثر حقيقة الا مع فرض الكثرة فيكون العلم الإجمالي في المقام بحسب الحقيقة علما إجماليا بين متباينين ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد لكونه جزء من أحد طرفي العلم الإجمالي.


وقد أجيب على هذا المانع بدعوى انحلال هذا العلم الإجمالي بأحد وجوه :

الوجه الأول ـ ان هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل على كل تقدير اما وجوبا نفسيا أو وجوبا غيريا لكونه جزء الواجب ومقدمة داخلية له ، وهذا هو ظاهر عبارة الشيخ في الرسائل.

ويرد عليه بعد تسليم ما افترض فيه من اعتبار الاجزاء مقدمات داخلية والقول بوجوب المقدمة حتى الداخلية ان المقصود إن كان دعوى الانحلال الحقيقي وانثلام الركن الثاني من أركان منجزية العلم الإجمالي ، فالجواب عليه ان الانحلال انما يحصل إذا كان المعلوم التفصيليّ مصداقا للجامع المعلوم بالإجمال كما تقدم وليس الأمر كذلك في المقام لأن الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسيّ والمعلوم التفصيليّ وجوب الأقل ولو غيريا أي ان المعلوم هو الجامع بين أحد طرفي العلم الإجمالي ـ وهو الوجوب النفسيّ للأقل ـ ووجوب آخر هو الوجوب الغيري وهذا لا يوجب الانحلال.

وان أريد الانحلال الحكمي وانهدام الركن الثالث بدعوى ان وجوب الأقل منجز على أي حال ولا تجري البراءة عنه فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض ، فالجواب عليه : ان الوجوب الغيري ليس منجزا وانما المنجز هو الوجوب النفسيّ فقط على ما تقدم في بحوث الواجب الغيري والنفسيّ ، وعليه فلا يكون العلم بالجامع بين الوجوب النفسيّ أو الغيري للأقل علما بوجوب منجز على كل تقدير بل علم بالجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز وهو لا يكون منجزا.

وهذا هو الصحيح في مناقشة هذا الوجه ، لا ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان هذا العلم التفصيليّ معلول للعلم الإجمالي وفي طوله فلا ينحل به.

فانه إن كان المراد إبطال الانحلال الحقيقي فقد عرفت انه لا علم تفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي ولو فرض وجوده أوجب انحلاله ولو كان متولدا منه وفي طوله لاستحالة بقاء العلم الإجمالي مع العلم التفصيليّ بأحد طرفيه.

وان كان المراد إبطال الانحلال الحكمي فكون العلم التفصيليّ معلولا للعلم الإجمالي ومتولدا منه وفي طوله لا ينافي إلغائه لأثره ومنجزيته فان العلم التفصيليّ متأخر عن ذات العلم الإجمالي لا اثره وتنجيزه ، فان كان الإشكال من ناحية ان المعلول لا يمكن ان يحل علته فالمفروض ان الانحلال حكمي لا حقيقي وان كان الإشكال ان


العلم الإجمالي في الرتبة السابقة نجز الطرفين فلا يمكن للعلم التفصيليّ المتأخر عنه رتبة ان يمنع عن تأثيره فالمفروض ان العلم التفصيليّ متأخر عن ذات العلم الإجمالي وفي طوله لا عن اثره وتنجيزه ، فالتنجيزان عرضيان الا بناء على مبنى ان ما مع المتقدم متقدم وقد عرفت انه لا أساس له.

الوجه الثاني ـ ان العلم الإجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيليّ بالوجوب النفسيّ للأقل على كل حال سواء كان هو الواجب مستقلا أو كان الوجوب عارضا عليه مع زيادة ، وهذا المعلوم التفصيليّ مصداق للجامع المعلوم بالإجمال فينحل به العلم الإجمالي لا محالة.

وقد حاول المحققون الإجابة على هذا الوجه بإبراز عنصر التباين بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر فلا يكون العلم بوجوب الأقل على كل حال علما بأحد طرفي العلم الإجمالي لكلي ينحل به. ومهم ما ذكر في المقام محاولتان :

الأولى ـ ان المعلوم بالإجمال وجوب الأقل استقلالا أو الأكثر استقلالا أي وجوب الأقل بحده والأكثر بحده وبملاحظة حد الوجوب الاستقلالي للأقل والوجوب الاستقلالي للأكثر يتضح ان العلم التفصيليّ بوجوب الأقل لا يمكن ان يوجب الانحلال لأنه ليس علما بالوجوب الاستقلالي للأقل.

ويرد عليه : أن أريد حد الفعل المتعلق به الوجوب بقطع النّظر عن عروض الوجوب وان الواجب على تقدير كونه الأقل محدود بحد التسعة وعلى تقدير كونه الأكثر محدود بحد العشرة فهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى أخذ التسعة بشرط لا عن الجزء العاشر تحت الوجوب وهو خروج عن الفرض لأنه من الدوران بين الجزئية والمانعية وهما متباينان يقينا ، وان أريد حد الوجوب أي ان الواجب بما هو واجب لا بقطع النّظر عن تعلق الوجوب له حد تنتزع منه الاستقلالية فانها تنتزع من حد الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلق به وهو هنا مردد بين التسعة والعشرة ، فهذا صحيح الا ان حد الاستقلالية بهذا المعنى لا يقبل التنجز ولا يدخل في العهدة فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ الاستقلالي وان لم يكن منحلا ولكن معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة لعدم قابلية حد الوجوب والاستقلالية للتنجيز والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود بقطع النّظر عن حده هو الّذي ينجز معلومه ويدخله في العهدة وهذا العلم منحل بالعلم


التفصيليّ المشار إليه.

الثانية ـ ان وجوب الأقل إذا كان استقلاليا فمتعلقه مباين مع الأقل إذا كان واجبا ضمنيا ، لأنه على التقدير الأول تكون التسعة المطلقة متعلق الوجوب ، وعلى التقدير الثاني تكون التسعة المقيدة بالجزء العاشر متعلق الوجوب ، والمطلق يباين المقيد.

وهذه المحاولة أيضا غير تامة ، وقبل توضيح ذلك لا بد من الإشارة إلى مقدمة ترتبط بشرح حقيقة التقييد لاجزاء الواجب الارتباطي بعضها بالبعض ، فانه توجد في تفسيره نظريات ثلاث :

النظرية الأولى ـ ان حقيقة التقييد والتحصيص بمعنى ان الوجوب الارتباطي يتعلق بالاجزاء مع فرض ان كل جزء مشروط بسائر الاجزاء ومقيد بها ، ولا يتوهم ان هذا مستلزم للدور للزوم ان يكون كل جزء شرطا للجزء الآخر ومقدما عليه رتبة ومشروطا به ومتأخرا عنه في نفس الوقت ، فان المراد بالشرطية هنا مجرد التحصيص لا الشرطية في الوجود فليس الركوع متوقفا على السجود أو العكس بل نسبة كل منهما إلى الآخر ومقارنته معه متوقفة عليهما معا فلا دور.

وهذا النحو من التقييد والتحصيص بين اجزاء الواجب الارتباطي وان كان معقولا في نفسه الا انه لا مبرر له. فانه إن كان مبرره إيجاد الوحدة في متعلق الوجوب حيث ان الوجوب الارتباطي وجوب واحد على كل حال فيستحيل تعلقه بالمتكثر بما هو متكثر ، فلا بد من فرض وحدة في الرتبة السابقة على عروض الوجوب وهذا يكون بتقييد كل منهما بالباقي.

فالجواب : ان استحالة تعلق الوجوب الواحد بالكثير بما هو كثير وان كان صحيحا وبديهيا عندنا الا ان هذا لا يحصل بمجرد تقييد كل جزء بالباقي ، فان تقييد الاجزاء لا يوحدها بل غايته تبدل الاجزاء المتكثرة بما هي ذوات إلى متكثرة بما هي متقيدات ، وهذا غير توحيد المتكثر ، ويشهد على ذلك انه يمكن افتراض هذا التحصيص بين واجبات استقلالية متعددة بان يشترط في صحة صلاة الظهر مثلا تعقبها بالعصر وبالعكس دون ان يلزم من ذلك وحدتها.

وان كان مبرره ان الجزء للواجب الارتباطي لو بقي غير مقيد بالاجزاء الأخرى


فاما يفترض إطلاقه أو إهماله من ناحيتها ، والأول يلزم منه تحقق الامتثال حتى لو جيء به وحده وهو خلف الارتباطية ، والثاني مستحيل ثبوتا ، فلا بد من افتراض التقييد.

فالجواب : ان الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ عدم القيد والسريان إلى كل الحصص ، وانما يعني عدم لحاظ القيد مع الطبيعة وحينئذ يمكن ان يقال بان عدم اتصاف الجزء المنفرد في الوجود بالمطلوبية والوجوب ليس لعدم الإطلاق في الموضوع بل لعدم قابلية المحمول وهو الوجوب الضمني للانبساط عليه لكونه جزء مشدودا إلى سائر الاجزاء الضمنية للوجوب (١).

وهكذا يتضح انه لا مبرر لافتراض تقيد اجزاء الواجب الارتباطي بعضها بالبعض.

النظرية الثانية ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من ان وحدة الوجوب وتعدده تتبع وحدة الملاك وتعدده لا وحدة معروضة وتكثره ، نعم لا إشكال في ان وحدة الوجوب تستلزم وحدة الواجب الا ان هذه الوحدة ليست مأخوذة في معروض الوجوب ومتقدمة عليه بل متأخرة عنه.

توضيح ذلك : ان الشيء المتكثر بذاته قد يصبح واحدا بوحدة عرضية ناشئة من وحدة ما عرض عليه ، فمثلا اللحاظ الواحد إذا طرأ على أمور متكثرة حصل لها وحدة عرضية لحاظية ، وكذلك الشوق الواحد والملاك الواحد ونحو ذلك. والواجب الارتباطي بذاته وان كان عبارة عن أمور متكثرة لكن تعرض عليها الوحدة من ناحية وحدة جملة من عوارضها كاللحاظ والوجوب والملاك الا ان هذه الوحدة العارضة

__________________

(١) لا معنى لهذا الانشداد بين أبعاض الوجوب ، فانه لو كان مبرره وحدة الجعل فمن الواضح ان وحدة الجعل لا تستلزم ذلك فان الجعل في الأحكام الانحلالية الاستقلالية أيضا واحد مع عدم استلزامه للارتباطية فيما بينهما ، وان كان مبرره وحدة المجعول فالمجعول تابع لمرحلة الفعلية التابعة لكيفية ملاحظة الموضوع والمتعلق من حيث الانحلال وعدمه فلا بد من افتراض الارتباطية في رتبة سابقة على الوجوب العارض ليكون الوجوب ارتباطيا أيضا ، اما تصور الارتباطية في الوجوبات بقطع النّظر عن وحدة متعلقة فهو غير معقول.

ولعل الأولى الإجابة على هذا الشق بان عدم إطلاق الواجب الضمني للجزء المنفرد في الوجود لا يتعين وجهه بتقييد كل جزء بالاجزاء الأخرى ، بل يمكن بنحو آخر يأتي في النظريتين القادمتين ، ولعل هذا هو المقصود من انشداد اجزاء الوجوب بعضها بالبعض.


يستحيل أخذها في معروض الوجوب ، اما الوحدة الناشئة من وحدة الوجوب فهي في طول الوجوب فلا يعقل أخذها في متعلقه ، واما الوحدة الناشئة من وحدة الملاك فهي وان لم تكن في طول الوجوب لكن الوجوب تابع للملاك فلا بد وان يتعلق بما فيه الملاك ، ومن المعلوم ان تلك الوحدة العارضة على متعلق الملاك في طول الملاك غير دخيلة في الملاك لكونها في طوله ، وكذلك اية وحدة أخرى تفرض كوحدة اللحاظ فانها أيضا غير مربوطة بمعروض الملاك فلا يمكن ان تؤخذ في معروض الوجوب.

وهكذا يثبت عدم وجود وحدة سابقة على الوجوب مأخوذة في متعلقه ، نعم هناك وحدة للوجوب العارض نفسه من باب وحدة الملاك فانه إذا كان واحدا كان الوجوب واحدا أيضا ، وهذه وحدة طولية وليست في متعلق الوجوب الارتباطي فالجواب الارتباطي متكثر وانما الوحدة بوحدة الوجوب العارض عليه الناشئة من وحدة الملاك وعدم تكثره وهي وحدة طولية ثابتة حتى في الجعل الواحد للواجبات الاستقلالية الانحلالية.

ويرد على هذه النظرية : انه إن أراد بان متعلق الوجوب الارتباطي متكثر بحسب الخارج فلا إشكال في ذلك ولكنه خارج عن البحث ، إذ لم يتوهم أحد ان اجزاء الصلاة مثلا في الخارج امر واحد لوضوح انها ماهيات ومقولات مختلفة ، وان أراد بان متعلق الوجوب الارتباطي في عالم النّفس وبما هو ملحوظ للمولى متكثر مع وحدة الوجوب التعارض عليها فهذا مستحيل لأن الوجوب والحب والإرادة كالعلم من الأوصاف الحقيقة ذات الإضافة إلى متعلقاتها ، وهذه الإضافة داخلة في قوامها بحسب الحقيقة بحيث لا اثنينية بينهما الا بالتحليل العقلي ، وحينئذ يستحيل ان تكون معروضاتها الحقيقة أي المعلوم بالذات والمحبوب بالذات والواجب بالذات متكثرة مع وحدة العلم والحب والوجوب فانه في صقع العروض لا بد من وحدة العارض والمعروض ، خصوصا إذا كان العروض مجازيا وكان العارض عين المعروض كما في هذه الصفات على ما عرفت ، اذن فوحدة الوجوب والإرادة والحب تابعة لا محالة لوحدة متعلقاتها بالذات في عالم النّفس أي وحدة الملحوظ من خلالها وهي وحدة متقدمة رتبة على الوجوب.

النظرية الثالثة ـ ان متعلق الوجوب الارتباطي عنوان وحداني ذهنا ولو بالوحدة


الاعتبارية وان كان متكثرا خارجا. وتوضيح ذلك : ان العناوين على قسمين قسم منها يستورده الذهن من الخارج كعنوان الإنسان والبياض ، وقسم منها يصطنعه بنفسه كعنوان أحدهما المتعلق به العلم الإجمالي وكعنوان المجموع والكل (١) وحينئذ إذا فرض في مورد ان الملاك كان في مجموع أمور بحيث لو ترك أي جزء منها لم ينفع الباقي أصلا فلا محالة ينقدح في النّفس حب وإرادة واحدة نحو المجموع ، ولكن حيث ان الحب والإرادة والوجوب من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة فلا بد وان تكون متعلقاتها بالذات في ظرف العروض واحدة أيضا ـ كما عرفت ـ فتضطر النّفس إلى اصطناع عنوان المجموع وإلباسه لما في الخارج من الأمور المتكثرة ليمكن ان تعرض عليه الإرادة الواحدة والوجوب الواحد فيكون التكثر بلحاظ الخارج الّذي هو المعروض بالعرض لا بالذات.

وفي ضوء هذه النظريات في كيفية تفسير الواجب الارتباطي نقول في مقام الجواب على هذه المحاولة اما بناء على النظرية الثانية المتبناة من قبل المحقق العراقي ( قده ) فالمفروض تكثر المتعلق في الواجب الارتباطي وعدم أخذ وحدة سابقة فيه فبالنسبة إلى المتعلق يوجد هناك انحلال حقيقي إذ يعلم بان التسعة بما هي متكثرة واجبة ويشك في أخذ العاشر أيضا.

واما بناء على النظرية الأولى القائلة بأخذ كل جزء قيدا في الجزء الآخر ، فإذا بنينا على ان الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد مع الطبيعة لا لحاظ عدم القيد فائضا لا تباين بلحاظ متعلق الوجوب الارتباطي المعلوم في المقام لأن الملحوظ مردد بين ان يكون التسعة أو هي بقيد العاشر فالتسعة ملحوظة على كل حال ولا يعني وجوب الأقل ـ وهو التسعة ـ الا كونها ملحوظة وهو معلوم على كل حال ، نعم حد اللحاظ للمتعلق كحد الوجوب في المحاولة الأولى غير معلوم الا ان ذلك خارج عن الإطلاق ومعروض الوجوب.

__________________

(١) بالإمكان دعوى ان هذه المفاهيم الاصطناعية انتزاعية بحسب الدقة أيضا غاية الأمر ليست منتزعة بلحاظ الخارج بل بلحاظ كيفية تعامل الذهن مع الخارج فمنشأ انتزاعها ليس خارجيا ثابتا بقطع النّظر عن الذهن بل عنوان أحدهما منتزع من التردد في الإشارة الذهنية التصديقية إلى الخارج ، وعنوان المجموع والجميع منتزعان من كيفية لحاظ الذهن وإشارته إلى الافراد فإذا أشار إليهما بإشارة واحدة فهذا هو المجموع وإذا أشار بإشارات متعددة فالجميع ، ولعل فيما تقدم في تصوير حقيقة العلم الإجمالي وفرقه عن التفصيليّ ما ينفع في إثبات هذه الدعوى.


واما إذا بنينا على ان الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد فالمتعلق بناء على وجوب الأقل غيره بناء على وجوب الأكثر ومباين معه ، الا انه لا ينبغي الإشكال في ان الإطلاق لا يدخل في العهدة لأنه يقوم الصورة الذهنية وليس له محكي ومرئي ليراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة ولو قلنا ان الإطلاق لحاظ عدم القيد بخلاف التقييد لأن المولى لا يريد من المكلف إيجاد الصورة الذهنية بل يريد إيجاد محكيها الخارجي ، وعليه فبلحاظ عالم المفروض الذهني للوجوب وان كان الواجب دائرا بين متباينين الا انه بلحاظ ما يتسجل في العهدة عقلا وهو المحكي الخارجي دائر بين الأقل والأكثر ، وبعبارة أخرى ان أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن لأن الإطلاق لا يقبل التنجز ، وان أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الّذي يقبل التنجيز ويدخل في العهدة فهو دائر بين الأقل والأكثر.

ومثله يقال بناء على النظرية الثالثة في حقيقة الارتباطية ، فان الوحدة الذهنية الاصطناعية للصورة الذهنية ، لا تدخل في العهدة بل محكيها ومعنونها وما تقتضيه من الضيق يدخل فيها وفي هذه المرحلة الأمر دائر بين الأقل والأكثر.

وهكذا يتضح : ان إرجاع العلم الإجمالي في هاتين المحاولتين إلى العلم الإجمالي الدائر بين طرفين متباينين لو كان النّظر فيه إلى مرحلة ما يدخل في العهدة من التكليف فليس بصحيح ولا يمكن ان يكون دليلا على وجوب الاحتياط وعدم الاكتفاء بالأقل ، وان كان بلحاظ عالم عروض الوجوب فهو صحيح الا أن متعلق العلم بهذا المعنى ليس هو الّذي يتنجز على المكلف ويدخل في عهدته.

وبهذا ظهر ان الوجه الثاني للانحلال بالعلم التفصيليّ بالأقل إن أريد به دعوى الانحلال الحقيقي بلحاظ ما يدخل في العهدة فهو صحيح ، وان أريد به دعوى انحلال بلحاظ تمام العوالم أي بلحاظ عالم تكوين الوجوب فهو غير صحيح إذ لا يوجد علم تفصيلي بأحد طرفيه بلحاظ هذا العالم.

كما ظهر ان الجواب الحقيقي على المانع الأول الّذي أبرز للمنع عن جريان البراءة عن الأكثر ان البراءة انما تجري عما يدخل في العهدة ويتنجز بالعلم والخصوصيات الحدية للوجوب كالاستقلالية والإطلاق لا تدخل فيها وانما المحدود وما يستتبعه من الثقل خارجا على المكلف يدخل في عهدة المكلف فالوجوب الداخل في العهدة امره


دائر بين الأقل والأكثر حقيقة وهذا يعنى انه بلحاظ مركز جريان البراءة هناك شك بدوي في وجوب الزائد ولا علم إجمالي أصلا وان كان بلحاظ عالم حقيقة الوجوب وتكوينه يوجد علم إجمالي لا انحلال فيه ، وهذا هو الوجه الثالث للجواب على المانع الأول.

الوجه الرابع ـ ما ذكره السيد الأستاذ من دعوى الانحلال الحكمي أي انهدام الركن الثالث بحسب اصطلاحنا لأن الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقل ، لأنه إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقل مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول إذ لا يعقل ترك الأقل مع الإتيان بالأكثر ، وان أريد به التأمين في حالة ترك الأقل وترك الأكثر بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا لأن هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها ، وهكذا تعرف ان الأصل عن وجوب الأقل ليس له دور معقول فلا يعارض الأصل الآخر وهذا الوجه مبتن على مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي وهو صحيح في نفسه ولكنه يستبطن الاعتراف بعدم انحلال العلم الإجمالي بلحاظ ما يتنجز من الوجوب ويدخل في العهدة مع انك عرفت انه لا علم إجمالي بلحاظ هذا العالم بل شك بدوي في وجوب الزائد ، فبلحاظ ما هو مركز جريان الأصل العملي هناك انحلال حقيقي لا حكمي.

المانع الثاني ـ ان وجوب الأقل منجز على كل حال وهو مردد بين كونه استقلاليا أو ضمنيا وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقل لا يحرز سقوطه لأنه على تقدير كونه ضمنيا لا يسقط الا ضمن الإتيان بالكل لأن الوجوبات الضمنية امتثالها أيضا ضمني فيكون من الشك في المحصل والخروج عن عهدة تكليف معلوم على كل حال فيجب الاحتياط ، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد حتى يقال انه شك في التكليف بل انما هو رعاية للتكليف بالأقل المنجز بالعلم واليقين نظرا إلى ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ويرد عليه :

أولا ـ ان سقوط الفعلية بالامتثال أساسا غير معقول ، إذ لو أريد به سقوط الجعل فهو


لا يكون الا بالنسخ ، وان أريد سقوط فعلية المجعول بارتفاع موضوعه فهو فرع ان يكون عدم الامتثال قيدا فيه ومن الواضح ان أخذ قيد في الموضوع ليس جزافا بل باعتبار دخله في الملاك والمحبوبية ومن المعلوم ان عدم الامتثال ليس دخيلا فيه لأن صدور المحبوب وما فيه الملاك لا يخرجه عن كونه محبوبا كما يظهر بمراجعة الوجدان ومراجعة المطلوب التكويني ، نعم قد لا يكون الفرد الثاني بعد الفرد الأول محبوبا وذلك أمر آخر كما لا يخفى.

وعليه فكبرى سقوط الفعلية بالامتثال غير صحيحة وانما الساقط بحسب الحقيقة فاعلية التكليف ومحركيته ، وفي المقام لو ادعي الشك في سقوط الفعلية فقد عرفت انه لا شك فيها ، وان ادعي الشك في سقوط الفاعلية تجاه الأقل فمن الواضح ان فاعلية الأقل المعلوم ومحركيته لا تكون بأكثر من الإتيان بالأقل فان فاعلية أي تكليف تعني لزوم الإتيان بمتعلقه وسد باب عدمه والمفروض تحقق ذلك خارجا وانما الشك في سقوط فاعلية التكليف بالزائد لكن المفروض ان التكليف به مشكوك ومجرى للبراءة.

وثانيا ـ لو سلمنا سقوط التكليف بالامتثال مع ذلك نقول : ان الشك في سقوط تكليف معلوم انما يكون مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشك في الإتيان بمتعلقه وهذا غير حاصل في المقام ، لأن التكليف بالأقل سواء كان استقلاليا أو ضمنيا قد أتى بمتعلقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلقه الا الأقل ، وانما ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيته المانعة عن سقوطه مستقلا عن وجوب الزائد ، وهكذا يرجع الشك في السقوط هنا إلى الشك في ارتباط وجوب الأقل بوجوب زائد ومثل هذا الشك ليس مجرى لأصالة الاشتغال بل يكون مؤمنا عنه بالأصل المؤمن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى ان ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقل بل بمعنى انه يجعل المكلف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

وبتعبير آخر ان المكلف إذا ترك الزائد فهو وان كان يحتمل حصول مخالفة للوجوب الضمني لكن احتمال المخالفة هنا ليس من باب انه يعلم بان العمل الفلاني مخالفة ويشك في حصوله وعدم حصوله كما لو علم بان عدم قتل الكافر مخالفة وشك في


ان ترك إطلاق الرصاصة الثانية هل يوجب عدم قتله أم لا ، أو علم بان ترك الصلاة مخالفة وشك في انه هل ترك الصلاة أم لا يكون مجرى لأصالة الاشتغال ، بل الشك في المخالفة في المقام من باب انه لا يدري ان وجوب الأقل هل هو بنحو يكون له مخالفة واحدة وهي ترك الأقل أو بنحو يكون له مخالفتان إحداهما ترك الأقل والأخرى ترك الزائد فيجري البراءة عن أصل ثبوت المخالفة الثانية لأنه ضيق وتكليف زائد غير معلوم سواء بصيغة البراءة عن الوجوب الزائد المشكوك أو وجوب الأكثر أو المخالفة والضيق الزائد.

المانع الثالث ـ وهو يتركب من ثلاث خطوات :

الأولى ـ ان الشك في المحصل للواجب مجرى للاشتغال.

الثانية ـ ان الغرض والمحبوب حاله حال متعلق الوجوب في حكم العقل بلزوم تحصيله لأنه روح الحكم وحقيقته.

الثالثة ـ ان الأمر بلحاظ متعلق الوجوب وان كان دائرا بين الأقل والأكثر ولكنه بلحاظ الغرض المعلوم يكون من الشك في المحصل ، لأن الغرض امر وحداني لا يدري هل يتحقق بالأقل أم لا فيجب الاحتياط من هذه الناحية.

ويرد عليه :

أولا ـ ان الغرض أيضا يمكن ان يكون مرددا بين الأقل والأكثر كنفس الواجب ، اما بفرض ان الغرض عبارة عن نفس الأفعال اما بذاتها لكونها حسنة ذاتا أو بعنوان منطبق عليها في طول الأمر كعنوان الطاعة فيكون الأمر بلحاظ الغرض دائر بين الأقل والأكثر ، أو بفرض ان الغرض يتولد من الفعل ولكن يكون له مراتب عديدة وبعض مراتبه تحصل بالأقل ولا تستوفي كلها الا بالأكثر ويشك في ان الغرض الفعلي قائم ببعض تلك المراتب أو كلها. أو بفرض ان الغرض المترتب على الفعل متعدد بعدد الأفعال فكل جزء يحقق غرضا ـ إعداديا أو نهائيا ـ ولكن الكمال المطلوب في حصول مجموعها فيشك في ان الكمال في مجموع تسعة من تلك الأغراض أو عشرة ، فهذه كلها فرضيات معقولة لكون الغرض أيضا دائرا بين الأقل والأكثر فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.


لا يقال ـ الغرض امر تكويني لا معنى لجريان مثل حديث الرفع عنه.

فانه يقال ـ مضافا إلى كفاية البراءة العقلية على القول بها والبراءة الشرعية بسائر أدلتها التي تكون بلسان نفي العقاب ، ان الرفع هنا لا يراد به الا رفع الثقل والعهدة والتسجيل أي رفع الوظيفة ، والغرض كالتكليف مستدع لذلك فيمكن رفعه بالترخيص الشرعي على حد رفع منجزية التكليف به.

لا يقال ـ لا يعلم في المقام بكون الغرض مركبا فلعله غرض واحد بسيط.

فانه يقال ـ حيث لا يحرز وحدة الغرض وبساطته ، فلا يتم البرهان المذكور لإثبات الاحتياط بل تجري البراءة عن احتمال وجود غرض وحداني لا يسقط الا بالأكثر كما هو واضح.

وثانيا ـ ان الغرض انما يتنجز عقلا كالتكليف بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدي المولى لتحصيله تشريعا ، وذلك بجعل الحكم والاعتبار على وفقه أو إبراز مطلوبيته ، فما لم يثبت مثل هذا التصدي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجز وما دام مؤمنا عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر ، وقد تقدم توضيح هذا المطلب أيضا في بحث التعبدي والتوصلي عند البحث عن مقتضى الأصل العملي في حالة الشك ، حيث كان يبرز نفس هذا المانع لإثبات وجوب الاحتياط. كما تقدم هناك محاولة أخرى للجواب على هذا المانع من قبل المحقق النائيني ( قده ) مع مناقشتها فراجع.

المانع الرابع ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من تشكيل علم إجمالي منجز (١) ، وهو مخصوص بالواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها كالصلاة ، إذ يقال بان المكلف إذا شك في وجوب السورة فهو وان كان أول الأمر يجري البراءة عن وجوبها لكنه إذا ترك السورة إلى ان دخل في الركن فلم يمكن تداركها ، وبنينا على ما هو المشهور من عدم جريان لا تعاد في صورة الجهل ولو مع فرض معذرية الجهل ، أو فرض ان الشك في جزء لا تشمله لا تعاد كالطهارة ، أو شك في الاكتفاء بالتكبيرة الملحوظة مثلا ، فحينئذ يحصل له علم إجمالي اما بوجوب إتمام هذه الصلاة عليه وحرمة قطعها إذا كان الواجب هو الأقل أو تجب عليه الإعادة فلا بد له من الاحتياط لمنجزية هذا العلم

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ص ٤١٨.


الإجمالي ومعارضة أصالة البراءة عن وجوب الزائد بالبراءة عن حرمة القطع.

وهذا التقرير أوجه مما جاء في تقريراته من انه يحصل للمكلف بعد الركوع العلم الإجمالي بأنه اما انقلب وجوب طبيعي الصلاة عليه إلى وجوب هذا الفرد بالخصوص أو يجب عليه طبيعي الصلاة مع السورة ، فكأنه يفترض ان وجوب الإتمام وحرمة الابطال مرجعه إلى انقلاب وجوب الطبيعي إلى وجوب هذا الفرد.

فان هذا الانقلاب وان كان معقولا ثبوتا بان يفترض ان الواجب من أول الأمر هو الصلاة التي لم يشرع قبلها في صلاة ، وهذا العنوان بعد الشروع يصبح منحصرا بما في يده ، الا ان المستفاد فقهيا ان وجوب الإتمام وحرمة القطع حكم آخر مستقل يتوجه إلى المكلف بمجرد شروعه في الصلاة غير مربوط بوجوب الصلاة.

ثم ان المحقق العراقي بعد ان ذكر هذا المانع حاول الإجابة عليه بأحد نحوين :

الأول ـ ان هذا العلم الإجمالي حصل في طول عمله بما كان معذورا فيه من ترك السورة شرعا وعقلا ، وما وقع من المكلف معذورا فيه وغير قبيح يستحيل ان ينقلب في المرتبة المتأخرة عن وقوعه ويصبح قبيحا وغير معذور فيه.

ويرد عليه : ان هذا العلم الإجمالي انما هو في طول تركه للسورة في هذه الصلاة وليس الجزء الزائد المشكوك في وجوبه شخص هذه السورة بل طبيعي السورة ، كيف وتركه للسورة في هذه بالصلاة مع الإتيان بها في صلاة أخرى جائز بقطع النّظر عن البراءة ، فان الأمر بالصلاة مع السورة انما يوجب طبيعي الصلاة مع السورة في تمام الوقت لا خصوص هذه الصلاة ، فلو كان العلم الإجمالي في طول ترك السورة في تمام الوقت وهو الّذي تؤمننا عنه البراءة عن وجوب السورة لاتجه ما ذكر من ان العلم الإجمالي الحاصل في طول ذلك لا يوجب قبح ما تحقق في السابق بشكل غير قبيح الا مع فرض عامل جديد هو الأمر بالقضاء حيث يعلم إجمالا بوجوب إتمام هذه الصلاة أو القضاء وهو علم إجمالي منجز.

وان شئت قلت : ان البراءة عن وجوب السورة لا يؤمن عن تكليف آخر يصبح منجزا بالعلم الإجمالي بعد الشروع في العمل ، لأن التأمين عنه ليس تأمينا مطلقا عن ذلك التكليف حتى إذا صار طرفا لعلم إجمالي منجز بل تأمين عنه ما دام مشكوكا ومن ناحية العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر لا كل علم إجمالي آخر كالعلم الإجمالي


الدائر بين المتباينين الّذي يحصل بعد الشروع في العبادة باعتبار حرمة القطع ووجوب الإتمام.

نعم هنا كلام آخر وجيه مبتن على دعوى فقهية ، هي ان حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار عليها في مقام الامتثال ، إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع مع ذلك ، ومن الواضح ان انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد والا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعني ان حرمة القطع مترتبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل ان تكون أصالة البراءة عنها معارضة مع أصالة البراءة عن وجوب الزائد.

الثاني ـ ان هذا العلم الإجمالي الحاصل بعد شروعه في الصلاة بوجوب إتمام ما بيده أو وجوب الإتيان بصلاة أخرى مع الزائد أحد طرفيه منجز في نفسه وهو وجوب إتمام ما بيده أي الإتيان بسائر الاجزاء من أول الأمر لأنه قبل إخلاله بالجزء المشكوك كان يعلم بوجوب إتمام هذه الصلاة اما بالإتيان بالجزء الزائد مع سائر الاجزاء ـ إذا كان الواجب هو الأثر ـ أو بالإتيان بسائر الاجزاء ـ إذا كان الواجب هو الأقل ـ وهذا علم إجمالي بوجوب الإتمام مردد بين الأقل والأكثر وينحل إلى العلم بوجوب الإتيان بسائر الاجزاء على كل حال لأن في تركها إبطالا للصلاة وهذا يعني ان الإتيان بسائر الاجزاء في هذه الصلاة بعد الركوع منجز عليه كل حال فلا أثر للعلم الإجمالي بوجوبه أو وجوب الإتيان بصلاة أخرى مع السورة لأن أحد طرفيه متنجز في نفسه في المرتبة السابقة والمتنجز لا يتنجز فيجري الأصل عن الطرف الآخر بلا محذور.

وهذا الوجه لا يتم على مسالك المحقق العراقي ( قده ) في منجزية العلم الإجمالي (١)

__________________

(١) بل لا يتم حتى على مسلك الاقتضاء لأن حرمة قطع الصلاة أو وجوب إتمامها حكم انحلالي موضوعه كل صلاة صحيحة بيد المكلف خارجا إذ لا إشكال في عدم وجوب إتمام الفرد الباطل من الصلاة خارجا بل لا يعقل إتمامه فينحل هذا الحكم بعدد الصلوات الخارجية وحالات المكلف فيها ، وحينئذ إن قيل بان الموضوع الصلاة الصحيحة بحسب الظاهر والوظيفة كان هذا الحكم في طول تحديد الوظيفة في المقام بالأصل العملي الجاري عن الأكثر فلا يعقل أن يكون الأصل فيه معارضا مع البراءة عن الأكثر كما تقدم. وإن كان الموضوع الصلاة الصحيحة واقعا فالمكلف قبل إتيانه بالركوع وإن كان يتشكل له علم إجمالي دائر بين الأقل والأكثر ، إذ يعلم بأنه اما يجب عليه الإتيان بالسورة فما بعدها أو بالركوع فما بعده وهو ينحل إلى العلم بإتيان الركوع وما بعده على كل حال ، الا ان هذا الوجوب موضوعه ما بيده من الصلاة المعلوم صحتها قبل الركوع فهو يعلم بوجوب إتمام الصلاة التي لم يركع فيها اما بإتيان السورة وما بعدها أو الركوع وما بعده وهو في هذا الحال يعلم بوجوب الإتيان بالركوع فما بعده عليه اما مع السورة أو بدونها فلا يمكنه إجراء البراءة عنه ، الا ان هذا الوجوب ليس هو الطرف للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين وانما طرفه.


لأنه لا يقول بالانحلال الحكمي بتنجز أحد طرفي العلم الإجمالي بعلم إجمالي سابق زمانا ، بل العلم السابق بوجوده البقائي مع العلم الإجمالي الحادث بوجوده الحدوثي يؤثران في عرض واحد ، وانما يقول بالانحلال إذا وجد منجز تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فلو كان ما نحن فيه من هذا القبيل لتم ما ذكر من الانحلال على مسلك العلية أيضا لكنه ليس كذلك لأنه وان علم قبل الركوع بأنه يجب عليه إتمام الركوع وما بعده اما فقط أو مع السورة أي استقلالا أو ضمنا لكنه بعد ان ركع سقط عنه الوجوب الضمني بالمخالفة بترك السورة ـ ولو بمعنى سقوط الفاعلية ـ فلم يبق منجز لذلك الا طرفيته للعلم الإجمالي بالوجوب الضمني أو الاستقلالي واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه ، واحتمال ذلك كاحتمال انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الآخر الحاصل بعد الركوع عليه فهما يؤثران في عرض واحد ، نعم بناء على ما هو الصحيح من الانحلال الحكمي وجريان الأصل عن أحد طرفي العلم الإجمالي إذا كان طرفه الآخر لا يجري فيه الأصل لتنجزه في نفسه يكون هذا الجواب فنيا.

المانع الخامس ـ وهو يبتني أيضا على مبنى فقهي مشهور في العبادات من انه لا بد من قصد الأمر المتعلق بالعبادة فلو قصد امرا آخرا وهميا على وجه التقييد لا الاشتباه في التطبيق بطل العمل ، فانه يقال في المقام بان العلم الإجمالي في المقام سوف يكون دائرا بين عامين من وجه لا أقل وأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن متقدمتين :

الأولى ـ ان الواجب تارة يدور امره بين المتباينين كالظهر والجمعة ، وأخرى بين عامين من وجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي ، وثالثة بين الأقل والأكثر ،

__________________

وجوب إتمام الصلاة التي ركع فيها بلا سورة وهو وجوب آخر للإتمام لكونه فردا آخر للإتمام أو قل حرمة أخرى للقطع لكونه فردا آخر من القطع فموضوع هذا الحكم هو الصلاة التي ركع فيها من دون سورة وهي باعتبار الشك في صحتها واقعا يشك من أول الأمر في وجوب إتمامها ، فهذا الجواب نشأ من افتراض حرمة القطع حرمة واحدة لها موضوع واحد هو الصلاة التي شرع فيها.

على ان هذا الجواب لا ينفع إذا كان الجزء المشكوك في أول الصلاة أو شك في شرط من شروط الصلاة من أولها ، لأنه سوف يتشكل من أول الأمر علم إجمالي دائر بين متباينين.

ثم انه ربما يحاول إبطال هذا العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين باستصحاب وجوب الإتمام الّذي ينجز أحد طرفي العلم الإجمالي فيوجب انحلاله حكما. ولكن يرد على هذا الوجه :

أولا ـ عدم تماميته فيما إذا كان الجزء المشكوك في أول الصلاة للشك في وجوب الإتمام حينئذ من أول الأمر.

وثانيا ـ ما تقدم من ان الواجب ليس هو عنوان الإتمام بل واقعه والّذي عرفت انه متعدد بحسب تعدد الاجزاء وقيود الواجب ، وما يشك في وجوب إتمامه منها يكون مشكوكا من أول الأمر وما يكون متيقنا لا شك فيه بقاء أيضا.


ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الأولى الموجب للجمع بين الفعلين ، وفي الحالة الثانية الموجب لعدم جواز الاقتصار على مادة الافتراق ، واما الحالة الثالثة فهي محل الكلام.

الثانية ـ ان الواجب المردد في المقام بين العشرة والتسعة إذا كان عباديا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلقه بالأقل وامتثاله على تقدير تعلقه بالأكثر العموم من وجه بناء على المبنى الفقهي المشار إليه لا أقل وأكثر ، ومادة الافتراق من ناحية الأمر بالأقل واضحة وهي الإتيان بالتسعة فقط ، واما مادة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر الإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلق به على وجه التقييد بحيث لو كان الأمر متعلقا بالأقل فقط لما انبعث عنه ففي مثل ذلك يتحقق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ولا يكون امتثالا للأمر بالأقل على تقدير ثبوته. واما مادة الاجتماع فواضحة وهي الإتيان بالأكثر بداعي مطلق الأمر.

وهكذا يتضح على ضوء هاتين المقدمتين ان العلم الإجمالي في المقام يمكن تحويله إلى علم إجمالي بواجب مردد بين عامين من وجه فيجب الاحتياط فيه بإتيان مادة الاجتماع والاجتناب عن مادتي الافتراق.

ويرد عليه : بطلان المبنى الفقهي ، فان التقييد المفروض في النية لا يضر بصدق الامتثال على كل حال حتى للأمر بالأقل ما دام الانبعاث عن الأمر فعليا ، فانه لا يشترط في العبادة أكثر من ذلك على توضيح وتفصيل يترك إلى موضعه من الفقه. المانع السادس ـ وهو يختص بالواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة ، والزيادة هي الإتيان بفعل بقصد الجزئية للمركب مع عدم وقوعه جزء له شرعا. وحاصل هذا المانع : ان من يشك في جزئية السورة يعلم إجمالا اما بوجوب الإتيان بها والا كان الإتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة ، وهذا العلم الإجمالي منجز وتحصل موافقته القطعية بالإتيان بها بدون قصد الجزئية بل لرجاء المطلوبية أو للمطلوبية في الجملة.

ويرد عليه : ان هذا العلم الإجمالي منحل ، لأن الشاك في الجزئية يعلم تفصيلا بمبطلية الإتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت جزء في الواقع لأن ذلك منه


تشريع ما دام شاكا في الجزئية فيكون محرما ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة وهذا يعني كونه زيادة مع قصد الجزئية على كل حال.

وهكذا يتضح من مجموع ما تقدم ان شيئا من الموانع المتصورة غير تام ، وان العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر في الاجزاء ليس منجزا لوجوب الأكثر.

ثم ان هنا أمورا تجدر الإشارة إليها :

الأمر الأول ـ ان صاحب الكفاية ( قده ) حاول البرهنة على عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل والأكثر بلزوم الخلف والتهافت. وتوضيح مرامه ببيان مقدمتين :

الأولى ـ ان الواجب الارتباطي كما لا يتبعض في الامتثال والفعلية كذلك يستحيل ان يتبعض في التنجيز بان يتنجز بعض اجزائه دون بعض ، لأن هناك وجوبا واحدا جعلا وفعلية وتنجزا وامتثالا فاما ان يتنجز هذا الوجوب الواحد فيتنجز الكل أو لا يتنجز شيء منه.

الثانية ـ ان دعوى الانحلال إن أريد به الانحلال الحقيقي وبلحاظ عالم الوجوب كما في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فهو واضح البطلان ، وان أريد به دعوى الانحلال الحكمي وبلحاظ عالم التنجز فمثل هذا الانحلال متوقف على تنجز الأقل على كل تقدير مع ان أحد تقديريه هو احتمال تعلق الأمر بالأكثر فلا بد من الفراغ عن تنجز الأمر بلحاظ الأقل ولو كان متعلقا بالأكثر وهذا يساوق تنجز الأمر بالأكثر بلحاظ الزائد لما عرفت في المتقدمة الأولى من عدم تبعض الواجب الارتباطي في التنجيز.

والنتيجة من هاتين المقدمتين ان فرض تنجز الأقل متوقف على تنجز الأكثر فانحلاله به خلف وتهافت.

وهذا البرهان غير تام ، وذلك :

أولا ـ لما تقدم من وجه ثالث للانحلال وهو الانحلال الحقيقي بلحاظ ذات الوجوب الّذي هو موضوع حكم العقل بالتنجز حيث كان الانحلال بلحاظ هذا الأمر في موارد الشك في الجزئية حقيقيا لا حكميا ليتوهم ما ذكر في هذا البرهان.

وثانيا ـ بطلان الأصل الموضوعي المذكور في المقدمة الأولى من عدم تبعيض الواجب الارتباطي في التنجيز وعدمه ، فانه إن أريد من ذلك عدم تعدد العقاب بتعدد


الاجزاء المتروكة فهذا صحيح الا ان التبعيض في التنجيز لا يعني ذلك بل يعني تنجز ذلك العقاب الواحد من ناحية بعض الاجزاء دون بعض فتكون مخالفة الواجب من ناحية ترك الأقل موجبة لاستحقاق العقاب ومخالفته من ناحية ترك الزائد غير موجبة لذلك ، وان أريد عدم التبعيض في التنجيز بهذا المعنى قياسا لباب التنجيز بباب الفعلية والجعل والارتباط بين اجزاء الوجوب الواحد فيهما فهو غير سديد ، لأنه قياس مع الفارق ، فان الارتباط بين الوجوبات ينشأ من وحدة الوجوب ومتعلقه ولو اعتبارا ، واما التنجيز فملاكه وصول الجعل لا واقعه ، والوصول قابل للتبعيض بان يصل تعلق الوجوب ببعض الاجزاء دون بعض فيتنجز من ناحية ما وصل دون ما لم يصل ، وهو معنى الانحلال في المقام.

الأمر الثاني ـ ان صاحب الكفاية ( قده ) فصل بين البراءة العقلية فمنع عن جريانها بلحاظ وجوب الأكثر وبين البراءة الشرعية فاعترف بجريانها عنه. واعترض عليه المحققون بان وجه المنع عن البراءة العقلية لو تم لمنع عن جريان البراءة الشرعية أيضا ، والمحقق الخراسانيّ ( قده ) بنفسه أيضا عدل عن هذا التفصيل في حاشيته على الكفاية فمنع عنهما معا.

وفيما يلي نستعرض ما ذكره في الكفاية لمنع البراءة العقلية لنرى هل يمنع عن البراءة الشرعية أيضا أم لا ، وهو أحد وجهين :

الوجه الأول ـ إبراز عنصر الغرض من وراء الواجب الارتباطي وانه غرض واحد معلوم يشك في تحصيله بالأقل فيجب الاحتياط وان فرض ان العلم الإجمالي بلحاظ الوجوب كان منحلا.

وأفاد السيد الأستاذ ان هذا الوجه لا يقتضي التفصيل بين البراءتين ، لأن الغرض الواصل بالعلم الإجمالي لو لزم تحصيله على كل تقدير فلا ينفع الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا مع الشك في حصول الغرض بإتيان الأقل ، لأن البراءة الشرعية ناظرة إلى الحكم كوجوب الأكثر أو الجزئية ورافعة له ظاهرا بمعنى عدم العقاب على تركه ، ومن المعلوم ان رفع الجزئية أو وجوب الأكثر ظاهرا لا يترتب عليه كون الغرض مترتبا على الأقل الا على القول بالأصل المثبت أو ورود أدلة البراءة في خصوص موارد الشك في الجزئية مثلا لتتشكل دلالة اقتضاء لها مثلا ،


وكلاهما غير تام كما هو واضح (١).

وهذا الإشكال غير تام وذلك :

أولا : للنقض بموارد الشبهات البدوية ، فان أدلة البراءة لو كانت تؤمن من ناحية التكليف فقط دون الغرض فاحتمال الغرض في موارد الشبهة البدوية لا مؤمن عنه سوى البراءة العقلية على القول بها ، وهذا معناه ان البراءة الشرعية في الشبهات البدوية بحاجة إلى ضم البراءة العقلية دائما فيلزم لغويتها.

ودعوى : ان الشبهات البدوية باعتبارها القدر المتيقن من مفاد أدلة البراءة فيستفاد بدلالة الاقتضاء التأمين عن الغرض فيها.

مدفوعة : بموارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي غير المنجز الّذي ليس قدرا متيقنا أو بأصالة الطهارة الجارية في موارد الشك في طهارة الماء للوضوء فان المتيقن التأمين عن حرمة شربه مثلا لا حصول الغرض بالوضوء بماء مشكوك في طهارته.

وثانيا : ان التكاليف تنجيزا أو تعذيرا انما تلحظ بمعناها الحرفي وبما هي حافظة لما وراءها من المبادئ والأغراض ، إذ بقطع النّظر عن ذلك لا تكون الا اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز أو التعذير عنها ، فالبراءة الشرعية الجارية عن التكليف المشكوك تؤمن بالدلالة العرفية المطابقية عن روح التكليف وجوهره وهو الغرض من ورائه. وعليه يمكن دعوى التفصيل بين البراءتين بان الغرض حيث انه وحداني ومعلوم فلا انحلال فيه كما ان البيان تام بالنسبة إليه ـ مع قطع النّظر عما تقدم فيه محله ـ فلا تجري بلحاظه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، واما البراءة الشرعية فهي تجري عن الزائد والّذي ليس وجوبه معلوما وبجريانها عنه تؤمن عن روح التكليف وجوهره (٢).

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٤٤٠.

(٢) لا يقال : تارة يفترض ان الغرض لا يدخل في العهدة الا بالمقدار الّذي يتصدى المولى لبيانه ـ كما هو الصحيح ـ وأخرى يفترض دخوله في العهدة بمجرد العلم به ولو لم يكن امر وتصد تشريعي لحفظه مباشرة ، فعلى الأول كما تجري البراءة الشرعية تجري العقلية أيضا على القول بها ، وعلى الثاني يكون وصول الغرض للأقل منجزا لتحصيله على كل حال ولو فرض الانحلال بلحاظ عالم التكليف فلا وجه للتفكيك.

فانه يقال ـ ان من يقول بمنجزية الغرض ولو لم يتصد المولى للأمر به يقبل أيضا بان المولى له ان يرخص في مخالفته لأن حكم العقل بالتنجيز تعليقي لا محالة فتكون البراءة الشرعية الجارية عن وجوب الأكثر بحسب الحقيقة ترخيصا شرعيا في مخالفة تحصيل الغرض من ناحية الزائد.


الوجه الثاني ـ العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر والّذي لم ينحل بلحاظ عالم الوجوب والجعل ، فلا تجري البراءة العقلية ، واما البراءة الشرعية فقد أجراها المحقق الخراسانيّ عن الجزئية المشكوكة وبلحاظها يكون الانحلال حقيقيا ، وهذا ما سوف نتحدث عنه في الأمر القادم.

واما المحقق النائيني ( قده ) فقد أجراها عن التقييد في مرحلة الظاهر وأثبت به الإطلاق ظاهرا فبضم أدلة البراءة إلى أدلة الاجزاء والشرائط يثبت الإطلاق في مرحلة الظاهر ، فيكون هذا وجها للتفصيل بين البراءتين.

والسيد الأستاذ وافق أصل الاستدلال ولكن خالفت فيه مخالفة مبنائية بدعوى : ان جريان البراءة عن تقييد الأقل بانضمام الاجزاء المشكوك فيها لا يثبت تعلق التكليف بالأقل على نحو الإطلاق الا على القول بالأصل المثبت ، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت تقابل التضاد لأن الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد والسريان ومعه لا يمكن إثبات الإطلاق بنفي التقييد الا بناء على الأصل المثبت وإمكان إثبات أحد الضدين ينفي الآخر (١).

والصحيح : ان أصل هذا المنهج للاستدلال غير تام ، وتفصيل ذلك : ان النافي للقيد تارة يكون أمارة فيثبت بها لا محالة الإطلاق وان الواجب الواقعي هو الأقل وهذا خارج عن محل الكلام ، وأخرى يفرض انه أصل عملي يثبت الواقع وينقحه كما في مثل استصحاب عدم وجود القيد في عالم الجعل وحينئذ يتجه التفصيل بين ما إذا كان الإطلاق عبارة عن عدم القيد أو لحاظ عدمه ، فعلى الأول يثبت ظاهرا بالاستصحاب (٢) ، وعلى الثاني لا يثبت لكونه ملازمة عقلية. وثالثة يكون النافي للقيد أصل عملي ناظر إلى مرحلة إيجاب الاحتياط والجري العملي لا مرحلة الواقع كما في أصالة البراءة المبحوث عنها في المقام فان مدلولها نفي إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح ان هذا المدلول لا يمكن ان يثبت الإطلاق سواء كان عبارة عن عدم التقييد أو لحاظ عدم التقييد والسريان لأنه غير ناظر إلى الواقع أصلا ، فان الموصول في قوله ( رفع ما

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٤٠.

(٢) هذا انما ينسجم إذا لاحظنا الوجوب بمعنى ما يدخل في العهدة والّذي يكون الانحلال فيه حقيقيا عندئذ فتجري البراءة العقلية أيضا ولا ينسجم مع مبنى عدم الانحلال الحقيقي الّذي يلاحظ الوجوب بحسب عالم التكوين.


لا يعلمون ) وان أريد به الواقع المشكوك الا ان المفروض انه ضمن معنى الرفع الظاهري ونفي إيجاب الاحتياط في طرف المحمول أعني الرفع وهذا لا ربط له بمسألة الإطلاق الّذي هو في مقابل التقييد في عالم الجعل والواقع.

وهكذا يتضح ان هذا العلم الإجمالي إذا فرض انه غير منحل فلا يمكن إثبات المطلق الأمر بالأقل بإجراء البراءة عن التقييد ـ صياغة المحقق النائيني ـ ولا بإجرائها عن الجزئية ـ صياغة المحقق الخراسانيّ ـ لكون دليل البراءة ناظرا إلى مرحلة غير مرحلة الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال. نعم هناك توجيه آخر للتفصيل بين البراءتين العقلية والشرعية يأتي لدى التعرض إلى تفصيل كلام الخراسانيّ ( قده ).

الأمر الثالث ـ في وجه عدول صاحب الكفاية عن إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر إلى إجرائها عن جزئية الجزء المشكوك أو شرطيته. وقد يظهر بذلك وجه آخر للتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية الّذي عقدنا الأمر السابق لبحثه فنقول :

يمكن ان يوجه العدول عن إجراء البراءة عن وجوب الأكثر إلى البراءة عن الجزئية أو الشرطية بنحو يكون وجها آخر للتفصيل بين البراءتين أيضا ، بان البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر تعارض البراءة الشرعية عن وجوب الأقل وبعد التساقط تصل النوبة إلى البراءة عن جزئية القيد الزائد بلا معارض لكونها أصلا طوليا حيث ان الشك في الجزئية مسبب عن الشك في الأمر بالأكثر.

ويرد عليه :

أولا ـ ان هذا مبني على مسلك الاقتضاء لا العلية التي يتبناها المحقق الخراسانيّ ( قده )

وثانيا ـ ان ترتب الجزئية على وجوب الأكثر انتزاع عقلي لا ترتب شرعي ، فنفي وجوب الأكثر لا يترتب عليه نفي الجزئية الا بالملازمة.

وثالثا ـ ان البراءة عن الجزئية غير معقولة في نفسها لأنها لا تقبل التنجيز والتعذير وانما الّذي يقبل ذلك منشأ انتزاعها أي الأمر بالأكثر فلو فرض محالا عدم وجوب الأكثر مع تحقق الجزئية لم يكن المكلف ملزما عقلا بإتيانه ، وهذا يعني ان الجزئية أو الشرطية لا تقبل الوضع الظاهري بمعنى إيجاب الاحتياط تجاه احتمالها حتى يرفع


ظاهريا بنفي إيجاب الاحتياط تجاها وانما الّذي يقبل الوضع والرفع الظاهريين منشأ انتزاعها وهو الوجوب ، وأما الجزئية كحكم وضعي فهي تنتزع عقلا كأمر واقعي نفس الأمري تارة من الواجب الواقعي فتكون جزئية واقعية للواجب الواقعي ، وأخرى تنتزع من الواجب الظاهري فتكون جزئية واقعية للواجب الظاهري.

والحاصل : الرفع الظاهري يستحيل ان يتعلق بنفس الجزئية حقيقة ، نعم للشارع بحسب مقام الإثبات واللسان ان يقول رفعت عنك الجزئية عند الشك ، الا ان هذا الكلام يعد كناية عن رفع منشأ الانتزاع ورفع إيجاب الاحتياط تجاه وجوب ذلك الجزء ، الا ان هذا انما يفيد لو فرض ورود دليل خاص بعنوان رفع الجزئية ، ولا يمكن استفادته من إطلاق أدلة البراءة التي أخذ في موضوعها ان يكون المرفوع امرا يدخل في العهدة وينجز على المكلف.

ورابعا ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام من ان البراءة عن الجزئية على تقدير جريانها تعارض بالبراءة عن كلية الأقل المنتزعة عن وجوب الأقل بحده.

وهكذا يتضح ان هذا الوجه للعدول عن إجراء البراءة بلحاظ وجوب الأكثر أو وجوب الزائد ـ الحكم التكليفي ـ إلى إجرائها بلحاظ الجزئية ـ الحكم الوضعي الانتزاعي ـ غير تام أيضا.

نعم للمحقق النائيني ( قده ) حسب تصوراته في المقام ان لا يجري البراءة عن الحكم التكليفي بالأكثر أو الزائد لإثبات وجوب الأقل لا نفي أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت طرفه الآخر الا بالأصل المثبت ، وهذا بخلاف البراءة عن الجزئية بمعنى تقييد الواجب به في مقام الجعل ، فان المطلق عبارة عن وجوب الأقل من دون تقييد ، ووجوب الأقل ثابت بالوجدان ، وعدم التقييد نثبته بالبراءة عن التقييد.

الا انه يرد عليه حينئذ مضافا إلى ما تقدم في الأمر الثاني من خطأ هذا المنهج في الرفع الظاهري الناظر إلى نفي إيجاب الاحتياط لا الواقع : ان البراءة عن التقييد والجزئية لا معنى لها في نفسها لأنها انما تجري عما يدخل في العهدة ويتنجز وهو الأمر بالأكثر أو الزائد لا الجزئية والتقييد كما أشرنا إليه الآن.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر في الكفاية في وجه إجراء البراءة الشرعية عن الجزئية ان نسبة حديث الرفع بعد تطبيقه على الجزئية إلى أدلة الاجزاء والشرائط تكون نسبة


الاستثناء إلى المستثنى منه ، وكأنه يحاول بذلك إثبات تنجز الأقل ليمكن إجراء البراءة عن الزائد وذلك عن طريق ضم دليل البراءة عن الجزئية إلى أدلة الاجزاء والشرائط فيثبت وجوب الأقل بضم أحدهما إلى الآخر. وهذا الكلام فيه محتملات ثلاثة.

الأول ـ ما لعله ظاهر عباراته من ان دليل الجزئية أو الشرطية وان كان ظاهره جعلها مطلقا سواء في حالات العلم أو الشك الا انه بمقتضى أدلة الرفع في حالة الشك يتقيد الإطلاق المذكور ، كما لو ورد دليل خاص على عدم الجزئية أو الشرطية أو المانعية لشيء في حالة الجهل بها فان هذا نسبته نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه فيجمع بينهما بالتقييد.

وهذا الاحتمال واضح الفساد ، لأن أدلة الرفع والبراءة مدلولها الرفع الظاهري لا الواقعي بينما أدلة الجزئية والشرطية والمانعية مدلولها أحكام واقعية لا تنافي بينهما بوجه حتى يجمع بينهما بالتخصيص الّذي هو فرع التنافي والتعارض كما هو واضح. كما ان هذا الوجه لو تم لتم حتى لو طبق حديث الرفع على وجوب الزائد أو الأمر بالأكثر بلا حاجة إلى الانتقال إلى الجزئية وتطبيق الحديث بلحاظها.

الثاني ـ ان حديث الرفع والبراءة وان كان مدلوله الرفع الظاهري الا انه باعتبار منافاة الرفع الظاهري مع الحكم الواقعي بمرتبة فعليته من جميع الجهات بناء على تصورات المحقق الخراسانيّ ( قده ) في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فتتشكل دلالة التزامية في أدلة البراءة على عدم فعلية الجزئية وتكون نسبتها إلى أدلة الجزئية نسبة الخاصّ إلى العام واقعا فتخصص أدلة الجزئية الظاهرة في الفعلية بغير حالة الجهل.

وفيه : أولا ـ بطلان المبنى على ما تقدم في محله من عدم المنافاة والمناقضة بين الحكم الواقعي والظاهري.

وثانيا ـ هذه المناقضة على تقدير القول بها في بعض المراتب انما تكون بلحاظ الحكم التكليفي والبعث والزجر لا الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية فيكون المدلول الالتزامي حينئذ رفع فعلية الحكم التكليفي بالأكثر وليست نسبته إلى دليل الواجب نسبة الاستثناء والا لتم ذلك ابتداء في البراءة عن الأكثر.

الثالث ـ دعوى الدلالة الالتزامية العرفية بان يقال : ان ما يدل على نفي جزئية


السورة في حالة الجهل ظاهرا وان كان بحسب الدقة يجامع مع فرض رفع وجوب الأكثر رأسا دون إيجاب الأقل ظاهرا لكن المستفاد عرفا من نفي جزئية شيء أو شرطيته في عبادة في حال الجهل وجوب الباقي عليه ظاهرا في تلك الحال.

وهذا الوجه انما يتم لو كان دليل نفي الجزئية دليلا خاصا في هذا المورد ، ولا يتم في مثل إطلاقات أدلة البراءة ، لأن ملاك هذه الدلالة مرتبط بورود النفي بعنوان نفي الجزئية في الواجبات الارتباطية كما لا يخفى.

كما ان هذا الوجه لو تم لكان جوابا على السؤالين أعني وجه التفكيك بين البراءتين ووجه العدول إلى إجراء البراءة عن الجزئية ، لأن ما يمكن ان يستفاد منه ذلك هو عنوان نفي الجزئية كما أشرنا لا نفي وجوب الأكثر.

الأمر الرابع ـ ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) بعد جريان البراءة عن الجزئية.

« لا يقال : انما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه وهو الأمر ولا دليل آخر على امر آخر بالخالي عنه ». ثم أجاب عنه بجعل نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه.

وهذا هو الّذي ذكرنا ان مبرره لدى صاحب الكفاية تنجيز وجوب الأقل ليمكن إجراء البراءة عن الأكثر ولو بلسان نفي الجزئية ، لأن صاحب الكفاية لا يرى انحلال العلم الإجمالي ، كما انه يبني على العلية التي تمنع عن جريان البراءة الا إذا تنجز أحد طرفي العلم الإجمالي في المرتبة السابقة.

الا ان السيد الأستاذ استغرب من ذلك وأفاد بان الأقل متنجز بنفسه على كل حال ولا يحتاج إلى التفتيش عن منجز له بعد التأمين عن وجوب الأكثر ، إذا سواء تنجز الأكثر أو جرت البراءة عن وجوب الباقي كان الأقل منجزا على المكلف ولم يجز له تركه. وذكر ان هذا الأمر يناسب مسألة أخرى هي ما إذا شك في اختصاص جزئية جزء أو شرطيته بحال الذّكر وعدمه فانه على تقدير ثبوت الجزئية حتى لحال النسيان يسقط التكليف بالمركب لا محالة بخلاف ما إذا كان مختصا بحال الذّكر فيشك لا محالة في وجوب الباقي في حال النسيان إذ ليس الأقل واجبا فيه على كل تقدير ، فلعل هذا الكلام صدر من صاحب الكفاية في تلك المسألة وثبت هنا اشتباها.

أقول : قد عرفت ان وجه لزوم التفتيش عن منجز للأقل انما هو لإمكان الرجوع


إلى البراءة عن الزائد بناء على مسلك العلية الّذي هو مختار صاحب الكفاية ( قده ) فليس التفتيش عن منجز للأقل بعد فرض جريان البراءة عن الزائد بل بلحاظ ومن أجل تصحيحه.

هذا مضافا إلى انه لو فرض حمل كلام صاحب الكفاية على التفتيش عن منجز للأقل بعد فرض جريان البراءة عن الزائد مع ذلك لم يرد عليه ما أفاده الأستاذ على ضوء مباني صاحب الكفاية في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، لأنه يرى التنافي بين الترخيص الظاهري وفعلية الإلزام الواقعي فمع جريان البراءة عن الزائد لا يكون الأمر بالأكثر فعليا ومعه لا يعلم بفعلية الأمر بالأقل أيضا لأن الأوامر الضمنية ارتباطية في مرحلة الفعلية فينتفي العلم بفعلية وجوب الأقل في طول إجراء البراءة عن الأكثر فلا بد من التفتيش عن مثبت له تماما كما هو الحال في مسألة الشك في اختصاص الجزئية بحالة الذّكر فتدبر.

الأمر الخامس ـ أفاد المحقق الخراسانيّ ( قده ) في حاشيته على الكفاية ان الصحيح عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية ، لأن العلم الإجمالي غير المنحل بوجوب الأقل أو الأكثر إن فرض انه علم بالتكليف الإنشائي فلا تنجيز له أصلا ، وان فرض انه علم بالتكليف الفعلي ـ كما هو المفروض ـ فكما لا تجري البراءة عن احتمال وجوب الأكثر عقلا كذلك لا تجري البراءة الشرعية لأن المفروض احتمال وجود امر فعلي بالأكثر وعلى تقدير وجوده تكون البراءة الشرعية مناقضة مع الواقع ، واحتمال المناقضة كالقطع بها محال.

وهذا الكلام أكثر انسجاما مع مبانيه في الكفاية من ان التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي يصبح فعليا من جميع الجهات ولهذا يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية وعدم إمكان الترخيص ولو في بعض أطرافه لاستحالة احتمال المناقضة كالقطع بها ، فان هذا المبنى للعلية يقتضي عدم جريان البراءة عن وجوب الزائد حتى إذا فرض تنجز أحد طرفي العلم الإجمالي وهو الأقل بأي منجز. نعم لو كان المبنى في العلة وعدم إمكان الترخيص في المخالفة الاحتمالية للمعلوم الإجمالي ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من المضادة مع حكم العقل بالتنجيز لا مع الحكم الواقعي الفعلي أمكن دعوى الانحلال في المقام بمجرد قيام منجز في أحد الطرفين ولو من باب ان المنجز لا يتنجز.


اللهم الا إذا قلنا بتمامية الاحتمال الثاني من المحتملات الثلاثة المتقدمة في تفسير كلام الكفاية ، والّذي بناء عليه يكون الاستثناء من أدلة الجزئية والشرطية تخصيصا واقعيا فانه لا يرد عليه حينئذ ما في الحاشية إذ يثبت بأدلة البراءة عندئذ ان الحكم الواقعي الفعلي هو الأقل.

٢ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط :

والتحقيق فيها على ضوء ما تقدم في الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ الاجزاء هو جريان البراءة عن وجوب الشرط سواء كان شرطا لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة أو شرطا لمتعلق المتعلق كاشتراط الإيمان في عتق الرقبة ، لأن مرجع الشرطية إلى تقيد الواجب بقيد زائد وانبساط الأمر على التقيد كما تقدم في محله ، فالشك فيها شك في الأمر بالتقيد المذكور زائدا على الأمر بذات المقيد وهو من الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ ما يدخل في العهدة وان لم يكن كذلك بلحاظ حد الواجب أو الوجوب ، وهذا يعني انحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي بالزائد بلحاظ ما يدخل في العهدة فتجري البراءة عنه.

ثم ان للمحقق العراقي ( قده ) تفصيلا في جريان البراءة بين ما إذا كان الشرط للمتعلق أو لمتعلق المتعلق ، ولكن بعد التأمل في بيانه يظهر ان مرد كلامه إلى ان الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها تارة تتطلب من المكلف عند الإتيان بالأقل ان يكمله ويضم إليه شيئا ، وأخرى تتطلب منه ان ينصرف عما فعله رأسا ويلغيه ويأتي بفرد آخر واجد للشرط. مثال الأول ان يعتق رقبة كافرة فان شرطية الإيمان في عتق الرقبة تتطلب منه ان يجعلها مؤمنة ، وحيث ان جعل الكافر مؤمنا ممكن فالشرطية لا تقتضي إلغاء الأقل رأسا بل تكميله وذلك بان يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن ـ وكل شروط المتعلق من هذا القبيل بحسب الحقيقة ـ ومثال الثاني ان يطعم فقيرا غير هاشمي ، فان شرطية الهاشمية تتطلب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الإتيان بفرد جديد من الإطعام ، لأن غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميا ، ففي الحالة الأولى تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة ، لأن مرجع الشك فيها إلى الشك في إيجاب ضم أمر زائد على ما أتى أو يريد ان يأتي به في الخارج ، وهو معنى العلم


بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد فالأقل محفوظ على كل حال والشك في الزائد.

وفي الحالة الثانية لا تجري البراءة عن الشرطية ، لأن الشك بحسب الحقيقة في وجوب هذا الفعل أو الفعل الآخر الّذي ليس الأقل محفوظا فيه على كل حال فليس الشك في وجوب ضم امر زائد إلى ما أتى أو يريد ان يأتي به في الخارج ليكون من الدوران بين الأقل والأكثر.

ويرد عليه : ان الميزان في ملاحظة الدوران كما وضحناه فيما سبق انما هو عالم الجعل وتعلق الوجوب لا عالم التطبيق والامتثال في الخارج ، وفي عالم الوجوب يكون الدوران بين الأقل والأكثر في كلتا الحالتين لأن ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ويشك في عروضه على التقيد فتجري البراءة عنه.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشك في الشرطية ووجوب التقيد بين ان يكون القيد المشكوك أمرا وجوديا وهو ما يعبر عنه بالشرط عادة أو عدم أمر وجودي وهو ما يعبر عنه بالمانع ، فكما لا يجب على المكلف إيجاد ما يحتمل شرطيته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عما يحتمل مانعيته وذلك لما تقدم من الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم الوجوب بالمقدار الداخل في عهدة المكلف.

٣ ـ الدوران بين التعيين والتخيير :

إذا دار امر الواجب بين التعيين والتخيير ، فتارة يكون التخيير عقليا ، وأخرى شرعيا ، فالبحث في مقامين :

المقام الأول : في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، بان يعلم بوجوب متعلق بعنوان خاص أو بعنوان آخر أعم منه صدقا ، كما إذا علم بوجوب الإطعام اما لطبيعي الحيوان أو لنوع خاص منه كالإنسان فان الحيوان مباين مع الإنسان مفهوما ولكنه أعم منه صدقا.

والتحقيق هنا التفصيل بين الحالتين في ملاك الانحلال وان كانت النتيجة الأصولية واحدة فيهما. وتوضيح ذلك : ان التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع فان الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللف والإجمال. وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في


مجرد إجمالية اللحاظ وتفصيليته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيف ما اتفق أو بوجوب إطعامه بالخصوص فان مفهوم الإكرام ليس محفوظا في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع.

فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقل والأكثر حقيقة بلحاظ الوجوب بالمقدار الداخل في العهدة وليست من الدوران بين المتباينين ، لأن تباين المفهومين انما هو بالإجمال والتفصيل وهما من خصوصيات اللحاظ وحدوده التي لا تدخل في العهدة وانما يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردد بين الأقل ـ وهو الجنس ـ أو الأكثر ـ وهو النوع.

واما الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في مرحلة ذات الملحوظ لا في كيفية لحاظهما ، ومن هنا يكون الدوران فيها بين متباينين وان كان الإتيان بأحدهما يساوق الإتيان بالآخر لكونه أخص منه ، وهذا يعني ان العلم الإجمالي ثابت غير منحل حتى بلحاظ ما يدخل في العهدة ، ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخص العنوانين صدقا للانحلال الحكمي بالتقريب المتقدم في الجواب الأخير على المانع الأول أي ان البراءة عن وجوب الأخص لا يعارض بالبراءة عن وجوب الأعم إذ ليس للبراءة عن الأعم دور معقول لكي تصلح للمعارضة ، إذ لو أريد بها التأمين في حالة ترك الأعم مع الإتيان بالأخص فهو غير معقول ، لأن نفي الأعم يتضمن نفي الأخص لا محالة ، وان أريد بها التأمين في حالة ترك الأعم بما يتضمنه من ترك الأخص فهذا مستحيل ، لأن المخالفة القطعية ثابتة في هذه الحالة والأصل العملي انما يؤمن عن المخالفة الاحتمالية لا القطعية.

وهذا البيان ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ يختص بمسلك الاقتضاء ولا يتم بناء على علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة لعدم انحلاله حقيقة ، ولا يجدي فيه الانحلال بلحاظ عالم التطبيق والامتثال وان أحدهما امتثاله لا ينفك عن الآخر فيكون الدوران بلحاظ ما لا بد من الإتيان به خارجا بين الأقل والأكثر لما عرفت من ان الميزان ملاحظة عالم الوجوب الشرعي وما تعلق به لأنه الّذي يدخل في العهدة وبلحاظه يكون الأمر دائرا بين مفهومين متغايرين فيكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الأخص منجزا عقلا لا محالة ، وهذه من الفروق المهمة بين المسلكين.


كما ان من يرى ارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بنفس العلم الإجمالي أيضا لا بد له ان يفصل في المقام فيقول بالبراءة الشرعية دون العقلية لأن العلم الإجمالي ثابت وغير منحل.

المقام الثاني ـ في الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي. ونتكلم في حكم هذا الدوران على كل واحد من المباني المعروفة في تصوير حقيقة التخيير الشرعي فنقول : المبنى الأول ـ ما هو المعروف من ان مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الآخر ، فالعتق واجب مشروط بترك الإطعام وكذلك الإطعام مشروط بترك العتق وبناء على هذا يكون مرجع الدوران إلى العلم بوجوب العتق في حال ترك الإطعام والشك في وجوبه حال فعل الإطعام ، أي الشك في ان وجوب العتق وجوب مطلق أو مشروط فينحل إلى العلم بوجوب العتق في حال تحقق الشرط والشك فيه في حال عدم تحققه ، فتجري البراءة عنه وينتج عن ذلك التخيير.

وفي قبال هذا البيان الساذج للانحلال توجد محاولتان لإثبات التعيين :

إحداهما ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب التخييري وان كان مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الآخر الا انه مشروط به بقاء لا حدوثا ، فوجوب العتق مثلا ثابت من أول الأمر غاية الأمر يشك في سقوطه بالإطعام وعدمه والشك في السقوط مجرى أصالة الاحتياط.

ويرد عليه : أولا ـ لا وجه لافتراض الشرطية بقاء فقط بل الغاية من الواجب التخييري تحصل بجعل الوجوب مشروطا من أول الأمر بحيث يستكشف عدم ثبوت وجوب العتق لمن أطعم ستين مسكينا ويكفينا في المقام احتمال ذلك.

وثانيا ـ لو سلمنا الجزم بان الشرطية في مرحلة البقاء فقط مع ذلك نقول ان البراءة لا تختص بموارد الشك في حدوث التكليف بل تجري في موارد الشك في التكليف بقاء أيضا ، لأنه مهما كان الشك في سعة التكليف سواء كان في مرحلة الحدوث أو البقاء جرت البراءة عنه ـ بقطع النّظر عن مسألة الاستصحاب ـ لإطلاق دليلها ولا مبرر لتخصيصها بموارد الشك في حدوث تكليف ، نعم في موارد الشك في الامتثال لا تجري البراءة لعدم الشك بحسب الحقيقة في الفعلية بل في الفاعلية ، ولو فرض سقوط الفعلية بالامتثال فانما يقال بعدم شمول دليل البراءة لموارد الشك في السقوط إذا كان من


ناحية الامتثال لا من ناحية احتمال ضيق أصل الجعل كما في المقام.

الثانية ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من إبراز علم إجمالي غير منحل وهو العلم بوجوب العتق تعيينا أي عدم جواز تركه أو عدم جواز ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق ، فان الواجب إذا كان تخييرا فالمخالفة انما تكون بضم ترك أحدهما إلى ترك الآخر وهذا يعني ان كلا من الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثية إلزامية يفقدها الآخر ، اما الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني للعتق فهي الإلزام بالعتق حتى ممن أطعم وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييري ، واما الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري للعتق والإطعام فهي تحريم ضم ترك الإطعام إلى ترك العتق إذ بهذا الضم تتحقق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني لأحدهما ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحققة بنفس ترك ذاك الواجب ولا ضير في ضم ترك الآخر إليه لأنه من ضم ترك المباح إلى ترك الواجب فيتشكل علم إجمالي بأحد الإلزامين وتكون البراءة عن وجوب العتق ممن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممن ترك العتق.

وهذا الوجه وان كان متينا في المنع عن الانحلال الحقيقي ولكنه يبقى هذا العلم الإجمالي غير منجز بملاك الانحلال الحكمي المتقدم ، لأن البراءة عن وجوب العتق لمن أطعم لا تعارض بالبراءة الثانية لأن فرض جريان البراءة الثانية هو فرض وقوع المخالفة القطعية ولا يعقل التأمين مع فرض المخالفة القطعية ، بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فانه فرض المخالفة الاحتمالية.

المبنى الثاني ـ ما اختاره صاحب الكفاية في بعض موارد الواجب التخييري من ان مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضيين لزوميين فعليين للمولى غير انهما متزاحمان في مقام التحصيل بمعنى ان استيفاء أحدهما يعجز المكلف من استيفاء الآخر ومن هنا يحكم المولى بوجوب كل من الفعلين مشروطا بترك الآخر ، والصحيح بناء على هذا المبنى وجوب الاحتياط ، لأن مرجع الشك في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا إلى الشك في ان الإطعام هل يعجز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق أم لا ، فيكون من الشك في القدرة الّذي تجري فيه أصالة الاشتغال.

المبنى الثالث ـ ما اختاره جملة من المحققين من رجوع التخيير الشرعي إلى التخيير


العقلي بمعنى ان الواجب عنوان أحدهما ، وهنا قد يقال بان الصحيح انحلال الوجوب بلحاظ ما يدخل في العهدة ، حيث يعلم بوجوب أحدهما ويشك في وجوب الخصوصية التعيينية فتجري عنه البراءة.

الا ان هذا بحسب الحقيقة خلط بين عنوان أحدهما وواقع أحدهما ، فان الواجب على تقدير التعيينية واقع أحدهما وعلى تقدير التخييرية عنوان أحدهما الانتزاعي وهما متغايران في المفهوم وليس حالهما حال الجنس والنوع من الجوامع الحقيقية الذاتيّة حيث يعبران عن مفهوم واحد غاية الأمر يختلفان في كيفية اللحاظ ، فالانحلال الحقيقي في المقام غير تام ، وانما الصحيح هو الانحلال الحكمي بالتقريب المتقدم (١).

المبنى الرابع ـ ما اختاره المحقق العراقي ( قده ) من إرجاع الوجوب التخييري إلى عدة وجوبات بعدد البدائل مع فرض ضيق في جانب الوجوب كما هو على المبنى الأول ولكن لا بنحو التعليق والاشتراط في نفس الوجوب بل في المتعلق بان يكون الواجب بعض مراتب وجود المتعلق أي سد بعض أبواب عدمه وهي أبواب عدمه المقارنة مع عدم العدل الآخر.

وحكم المسألة بناء على هذا المبنى ما تقدم على المبنى الأول من رجوعه إلى الشك في وجوب سد باب عدم العتق مطلقا أو في خصوص حال عدم الإطعام فتجري البراءة عن وجوبه في غير هذا الحال ولا يعارض بالبراءة عن حرمة ضم ترك الإطعام إلى تركه كما تقدم توضيحه ، فحال هذا المبنى حال المبنى الأول.

__________________

(١) قد يقال : ان الّذي يدخل في العهدة ليس هو المفهوم بما هو مفهوم بل بما هو حال عن الخارج ، فمحكي العنوان المتعلق به الوجوب هو الّذي تشتغل به العهدة والا كان عنوان مجموع العشرة غير عنوان مجموع التسعة في باب الاجزاء والشرائط أيضا ، فإذا ضممنا إلى ذلك ان عنوان أحدهما من العناوين الرمزية المحضة أي التي لا تتحمل مفهوما ماهويا خاصا ـ على ما تقدم في مواضع عديدة ـ كانت النسبة بين محكيه ومحكي واقع أحدهما المعين الأقل والأكثر لا محالة فيكون الانحلال بلحاظ ما يدخل في العهدة حقيقيا هنا أيضا. ولا نقصد بذلك ان هذا الجامع الرمزي لا يحمل أي معنى ولا يكشف عن أي تغير واقعي كي يقال بكاشفيته عن واقعية ثابتة في حالة الصدق ومنتفية في حالة الكذب ، بل المقصود ان محكي هذا الجامع الرمزي جامع وجودي أو إشاري ورمزي مشترك مع المفهوم الخاصّ التعييني في الواقعية وإن لم يكن جزء من ماهياته التحليلية ، فان الّذي تشتغل به العهدة انما هو المحكي بهذا المعنى لا بمعنى المفاهيم الماهوية التحليلية.



ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

بعد الفراغ عن أصل جريان البراءة في موارد الدوران بين الأقل والأكثر بأقسامه الثلاثة ينبغي تسجيل ملاحظات عامة في ختام هذا البحث ، وذلك ضمن نقاط عديدة :

١ ـ التمسك بالاستصحاب في الدوران بين الأقل والأكثر :

قد يتمسك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لإثبات وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر ، وأخرى لإثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل.

اما تقريب الاستصحاب لإثبات الاحتياط فبان المكلف بعد الإتيان بالأقل يشك في ان الوجوب المعلوم هل سقط أم لا يزال باقيا ، فانه إذا كان متعلقا بالأقل فهو قد زال جزما وإذا كان متعلقا بالأكثر فهو باق يقينا فنجري استصحاب الوجوب الجامع بين الفرد القصير والطويل وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وقد نوقش فيه بوجهين :

أحدهما ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في الاشتغال ، لأنه إن أريد به إثبات الفرد الطويل فهو من الأصل المثبت ، وان أريد به إثبات الاشتغال ووجوب الاحتياط فهو ثابت وجدانا في موارد الشك في


الاشتغال فلا معنى للتعبد به.

وهذا الوجه لو تم في موارد الدوران بين المتباينين فلا يتم في المقام ، لأن الاشتغال غير ثابت فيه بالوجدان لو لا هذا الاستصحاب.

الثاني ـ ما ذكره في الدراسات من ان أصالة عدم الفرد الطويل ـ أي وجوب الأكثر ـ حاكم على هذا الاستصحاب ومؤمن من ناحية الوجوب المعلوم على تقدير كونه الأكثر ، ونظر ما نحن فيه بما إذا كان شخص محدثا بالأصغر وخرج منه بلل مشتبه فانه لا إشكال فقهيا في عدم وجوب الغسل عليه بعد إتيانه بالوضوء لمجرد احتمال بقاء الحدث المعلوم بالإجمال وذلك لجريان استصحاب عدم كونه محدثا بالأكبر المنقح لوجوب الوضوء عليه.

وهذا الإشكال يحتمل فيه أحد تعبيرين :

التعبير الأول ـ حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الجامع في المقام لعدم معارضته باستصحاب عدم الفرد القصير كما في موارد التردد بين الحدث الأصغر والأكبر لمن كان متطهرا قبل ذلك.

وهذا التعبير واضح الضعف ، لأن ترتب الجامع على الفرد إثباتا ونفيا ليس ترتبا شرعيا بل عقلي فلا معنى لافتراض حكومة الأصل النافي للفرد الطويل على استصحاب الجامع.

التعبير الثاني ـ اننا باستصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر نثبت الأقل من باب ثبوت أصل جعل الوجوب على الفعل وانما الشك في تقييده بالزائد فيكون من موارد إحراز جزء الموضوع بالوجدان وجزئه الآخر بالتعبد.

وهذا التعبير أولا : لا ينسجم مع مباني السيد الأستاذ التي تقدمت الإشارة إليها في مناقشته مع المحقق النائيني حينما ادعى التفصيل بين البراءتين العقلية والشرعية حيث أفاد هناك بان الإطلاق امر وجودي لا يثبت بالأصل.

وثانيا ـ لو سلمنا بان الإطلاق امر عدمي فغاية ما يثبت بهذا الأصل وجود الفرد القصير لا ان الجامع الموجود يكون في ضمن الفرد القصير ، فان هذا لازم عقلي.

واما تنظيره للمقام بموارد البلل المشتبه الخارج من المحدث بالأصغر فغير فني أيضا ، لأنه في هذا المثال توجد نكتة فقهية خاصة توجب جريان استصحاب عدم الحدث


الأكبر ، وهي ان المستفاد من أدلة الوضوء كقوله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... ) (١). المفسر بالقيام من النوم ان المحدث بالأصغر إذا لم يكن جنبا ـ بمقتضى التخصيص في الآية الأخرى ـ كان طهوره الوضوء ، وهذا الموضوع المركب جزئه يحرز بالوجدان وهو كونه محدثا بالأصغر ويحرز جزئه الآخر وهو عدم كونه جنبا بالاستصحاب فيتنقح موضوع مطهرية الوضوء بالنسبة إليه ، وأين هذا من محل كلامنا؟

والتحقيق في المنع عن جريان استصحاب جامع الوجوب المردد بين الأقل والأكثر ان يقال : لو أريد باستصحاب جامع الوجوب إثبات وجوب العشرة لأن ذلك هو لازم بقائه فهذا من الأصل المثبت لكون الملازمة عقلية ، وان أريد به الاقتصار على إثبات جامع الوجوب فهذا لا أثر له ، لأنه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع وقد فرغنا عن ان العلم به لا ينجز سوى الأقل ، والأقل حاصل بحسب الفرض.

هذا مضافا إلى عدم صحة الأصل الموضوعي المبني عليه هذا الاستصحاب ، حيث انه مبتن على تصور سقوط الوجوب بالامتثال مع انك عرفت غير مرة ان الّذي يسقط فاعلية الوجوب لا فعلية (٢) ، هذا كله في الاستصحاب المثبت للاحتياط.

واما تقريب الاستصحاب المثبت للبراءة فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو عدم جعل وجوبه الثابت في صدر التشريع.

وأورد عليه في الدراسات بأنه معارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقل بحده ، وانما لم نقل بالمعارضة فيما سبق بين البراءة عن وجوب الأكثر مع البراءة عن وجوب الأقل بحده باعتبار ان البراءة انما تجري عن الإلزام بخلاف الاستصحاب فانه كما يجري عن الإلزام يجري عن الترخيص ، ووجوب الأقل بحده أعني الإطلاق أمر ترخيصي لا إلزاميّ.

ويرد عليه : ان استصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقل لا يجري لأنه لا أثر له ،

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) هذا الإيراد غير متجه باعتبار انه لا إشكال في صحة جريان استصحاب بقاء التكليف عند الشك في سقوطه بالامتثال أو غيره سواء صغناه بعنوان استصحاب بقاء فعلية الوجوب أو فاعليته ، بل سوف يأتي في بحث الاستصحاب عدم اشتراط إجراء الاستصحاب في الحكم أو موضوعه بل يجري في كل ما يقبل التنجيز والتعذير.


إذ لو أريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو من الأصل المثبت ، وان أريد به التأمين في حالة ترك الأقل فهو غير صحيح لأن فرض ترك الأقل هو فرض المخالفة القطعية ، ولا يصح التأمين بالأصل العملي الا عن المخالفة الاحتمالية لا القطعية كما أشرنا مرارا (١).

وهكذا يتضح ان الاستصحاب المثبت للبراءة تام الأركان ، والاستصحاب المثبت للاحتياط غير جار في نفسه.

٢ ـ الأقل والأكثر في المحرمات :

قد يعلم بحرمة شيء مردد بين الأقل والأكثر كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه. وقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) ان دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين في المحرمات حاله حال الدوران بينهما في الواجبات.

ولكن الصحيح ان حال هذا الدوران في باب الحرام يختلف عنه في باب الواجب من بعض الجهات ، نشير إلى جملة منها :

الأولى : ان وجوب الأكثر كان هو الأشد مئونة هناك واما هنا فحرمة الأكثر هي الأخف مئونة ، إذ يكفي في امتثالها ترك أي جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر وجوب الأقل في باب الواجب من حيث كونه متيقنا على كل حال.

الثانية : ذكر المحقق العراقي ( قده ) ان جريان البراءة هنا أولى من جريانها في الشبهة الوجوبية لأن بعض وجوه المنع عن جريانها في جانب الوجوب لو تم هناك لا يجري هنا ، وذلك الوجه ما ذكره صاحب الفصول ( قده ) من ان وجوب الأقل متيقن على كل حال اما ضمنا أو استقلالا والشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وذلك لا يكون الا بالأكثر إذ بالأقل لا يقطع بالفراغ وسقوط التكليف. وهذا الوجه لا يتم هنا لأن المتيقن حرمته هو الأكثر ويقطع بتحقق تركه بترك جزء منه فما هو متيقن الحرمة

__________________

(١) هذا لو أريد استصحاب عدم جعل الوجوب الاستقلالي للأكثر ، واما إذا أريد إجراء الاستصحاب العدمي في وجوب الزائد لا بمعنى إجرائه في اللحاظ ليقال بأنه بما هو لحاظ لا أثر له وليس موضوعا لحكم العقل بل في الوجوب بما هو موضوع للدخول في العهدة فانه بهذا النّظر يرى هناك وجوبات متيقنة للأقل ويشك في تقييدها بوجوب جزء زائد فينفي بالاستصحاب ، ولا يعارض باستصحاب عدم وجوب الأقل بحده لأن وجوب الأقل في هذا العالم معلوم لا شك فيه.


وهو تصوير كامل حجم الحيوان متروك حتما وما لم يترك وهو تصوير بعض منه مشكوك الحرمة من أول الأمر.

وقد يناقش في ذلك بان الأقل في المقام أيضا معلوم الحرمة اما استقلالا أو ضمنا ولا يعلم بامتثاله وعدم عصيانه الا بتركه رأسا ، نعم الأشد مئونة والأكثر زحمة في جانب الوجوب كان هو الوجوب الضمني للأقل دون الاستقلالي بينما هنا الأمر بالعكس فالأشد مئونة الحرمة الاستقلالية للأقل لا الضمنية كما أشرنا ، وعليه فبرهان صاحب الفصول يمكن إجرائه هنا أيضا بان الأقل معلوم الحرمة اما ضمنا أو استقلالا فالشغل به يقيني ولا بد من الفراغ عنه ولا يكون الا بترك الأقل.

الا ان التحقيق عدم صحة هذه المناقشة ، وتمامية ما يقوله المحقق العراقي ( قده ) وذلك :

أولا ـ لما تقدم في بحوث اجتماع الأمر والنهي انه لا معنى للحرمة الضمنية وان قياس الحرام بالواجب في ذلك مغالطة.

وثانيا ـ لو تصورنا معنى معقولا للحرمة الضمنية فلا إشكال في ان الّذي تشتغل به الذّمّة ويتنجز بحكم العقل انما هو الحرمة الاستقلالية لا الضمنية بخلاف باب الوجوب ، وعليه فقانون ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لا يمكن تطبيقه في المقام على الحرمة الضمنية كما كان يمكن تطبيقه على الوجوب الضمني.

الثالثة ـ ان جريان البراءة بين الأقل والأكثر في الحرام يكون من الانحلال الحكمي كجريانها في الدوران بين التعيين والتخيير لا الانحلال الحقيقي ، لأن حرمة الأكثر تعني ان متعلق الحرمة مجموع الاجزاء الّذي يكون في قوة وجوب ترك أحد الاجزاء تخييرا وحرمة الأقل تعني ان متعلق الحرمة هو الجامع بين الاجزاء الّذي يكون في قوة وجوب ترك هذا الجزء بالذات وذاك الجزء بالذات ، وهذا دوران لمتعلق التكليف بين عنوانين أحدهما جامع والآخر حصة وفرد ، وهذا من الدوران بين التعيين والتخيير والّذي لا انحلال حقيقي فيه وانما الانحلال حكمي وعلى أساس ان البراءة عن حرمة الأقل لا تعارض بالبراءة عن الأكثر لأن فعل المجموع يعلم بحرمته على كل حال فيكون مخالفة قطعية لا يمكن الترخيص فيها.


٣ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية :

إذا تردد الا بشيء بين كونه جزء من الواجب أو مانعا عنه فمرجع ذلك إلى العلم الإجمالي بوجوب زائد متعلق اما بالتقيد بوجود ذلك الشيء أو بالتقيد بعدمه ، وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الإجمالي منجزا وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعية فيجب على المكلف الاحتياط بتكرار العمل مرة مع الإتيان بذلك الشيء ومرة بدونه.

وقد يقال : ان العلم الإجمالي المذكور غير منجز ولا يمنع عن جريان البراءتين معا بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي الصيغة القائلة بان تعارض الأصول مرهون بأداء جريانها إلى الترخيص عمليا في المخالفة القطعية ، فان جريان الأصول في المقام لا يمكن ان يؤدي إلى المخالفة القطعية العملية لأن المكلف اما ان يأتي بذلك المشكوك أو يتركه وعلى كل من التقديرين تكون المخالفة احتمالية. نعم قد تحصل المخالفة القطعية بترك الصلاة رأسا الا ان هذا مما لا اذن فيه من قبل الأصلين لأنها مخالفة قطعية على كل حال من ناحية سائر الاجزاء المعلومة الوجوب ، فما يثبت بالأصلين من الترخيصين لا يمكن ان يؤدي إلى المخالفة القطعية العملية.

ولكن قد عرفت عدم صحة تلك الصياغة ، مضافا إلى ان المخالفة العملية تصبح ممكنة إذا فرض ان الجزئية أو المانعية كانت قربية فانه يمكن للمكلف ان يأتي بالفعل أو الترك على وجه غير قربي فيكون مخالفا للمعلوم بالإجمال على كل تقدير ويكون جريان الأصلين معا مؤديا إلى الاذن في ذلك فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

وبهذا يعرف بطلان ما يظهر من عبائر الشيخ الأعظم ( قده ) من جريان الأصل عن المانعية والشرطية معا لكون الدوران بين المحذورين ولا يمكن مخالفتهما القطعية.

ثم ان السيد الأستاذ قد نقض عليه بموارد الدوران بين القصر والتمام الّذي أفتى فيه بالاحتياط مع انها بالدقة داخلة في مسألتنا فان المكلف بعد التشهد يدور امره بين ان يجب 7 أو لا فتكون زيادة مانعة.

أقول : هذا النقض يوجد فرق ظاهري بينه وبين المقام ، ذلك لأن المكلف هنا يعلم إجمالا اما بوجوب السلام عليه أو وجوب تركه الا ان الواجب ليس مطلق تركه


بل الترك الخاصّ وهو تركه مع تعقب ذلك بالركعتين الأخيرتين فيمكنه ان يتركه من دون الإتيان بركعتين فيكون قد خالف علمه الإجمالي لا التفصيليّ ، وهذا بخلاف المقام إذا ترك الصلاة رأسا فانه مخالفة لعلم تفصيلي. نعم هذا الفرق صوري لأنه يقطع بان ما جاء به من الواجبات الضمنية المعلومة ليس محققا لغرض المولى لأنه يعلم بأنها اما لا بد وان يكون بعدها السلام أو الركعتان وقد تركهما معا سواء كان الواجب تعبديا أو توصليا فهو يعتبر عاصيا تفصيلا لما اشتغلت الذّمّة به لأن مجرد الإتيان بعمل مع القطع بأنه لا يسقط التكليف المعلوم تفصيلا لا يكون امتثالا ولا مخرجا عن عهدة التكليف المعلوم.

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر :

كما يمكن افتراض الشبهة الحكمية للدوران بين الأقل والأكثر كذلك يمكن افتراض الشبهة موضوعية بان يكون مرد الشك إلى الجهل بالحالات الخارجية لا الجعل ، كما إذا علم المكلف بان ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة وشك في ان هذا اللباس هل هو مما يؤكل لحمه أو لا فتجري البراءة عن مانعيته أو عن تقيد الصلاة بعدمه.

وأفاد المحقق النائيني ( قده ) ان الشبهة الموضوعية للواجب الضمني انما يمكن تصويرها إذا كان لهذا الواجب تعلق بموضوع خارجي أي له متعلق المتعلق ويشك فيه خارجا ، واما إذا لم يكن له موضوع خارجي كما في القراءة الواجبة مثلا فلا يعقل تصوير الشبهة الموضوعية فيه.

والتحقيق : إمكان تصويرها في غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلف نفسه كما إذا فرضنا ان السورة كانت واجبة على غير المريض في الصلاة وشك المكلف في مرضه ، فان هذا يعني الشك في جزئية السورة مع انها واجب ضمني لا تعلق له بموضوع خارجي ، والحكم هو البراءة (١).

__________________

(١) لعل مقصود الميرزا ( قده ) تطبيق ما تقدم منه في بحث جريان البراءة في الشبهة الموضوعية من عدم تعقل الشك بنحو الشبهة الموضوعية من ناحية متعلق الحكم بل لا بد وان يكون منشأ الشك اشتباه متعلق المتعلق أو قيود الحكم فلا يرد عليه الاعتراض المذكور كما لا يخفى.


٥ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في المحصل الشرعي :

بعد الفراغ عن ان الأصل في مورد الشك في التكليف غير المعلوم بعلم جامع لشرائط التنجيز يكون مجرى للبراءة ، وان الأصل عند الشك في الفراغ اليقيني ـ أو فاعلية التكليف ـ بعد الفراغ عن فعليته واشتغال الذّمّة به مجرى للاحتياط. وقع البحث في جريان البراءة أو الاحتياط في دوران المحصل الشرعي بين الأقل والأكثر ، والمراد بالمحصل الشرعي ما إذا كان المسبب امرا مجعولا شرعا ومترتبا على السبب الخارجي فشك في ذلك السبب كما إذا شك في ان الطهارة بناء على كونها حكما شرعيا لا امرا تكوينيا هل تترتب على الغسل مرة أو مرتين. والحق بذلك ما إذا كان المسبب تكوينيا الا ان سببه مما لا يتعين بفهم العرف بل يكشف عنه الشارع كما إذا افترضنا الطهارة حالة نورانية تكوينية كشف عنها الشارع.

وقد نسب إلى السيد الشيرازي الكبير ( قده ) القول بجريان البراءة ، وذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى انه لا فرق في لزوم الاحتياط بين الشك في المحصل الشرعي وغيره وأثبت ذلك بوجوه ثلاثة تتضح بعد تقديم مقدمة حاصلها : ان جريان البراءة تتوقف على تمامية أركان ثلاثة :

الأول ـ الشك.

الثاني ـ كون المشكوك من المجعولات الشرعية بحيث يكون امر وضعه أو رفعه بيد الشارع.

الثالث ـ ان يكون في الرفع توسعة ومنة على المكلف.

وعلى ضوء ذلك يقال : بأنه لا معنى لجريان البراءة عند الشك في حصول الطهارة الواجبة في الصلاة مثلا بغسلة واحدة أو غسلتين ، وذلك لوجوه ثلاثة :

الوجه الأول ـ ان البراءة إذا أريد إجرائها عن أصل وجوب الطهارة في الصلاة فهو غير مشكوك فيه بل معلوم ، وإذا أريد إجرائها عن سببية الأكثر أي الغسلتين لها فهي أيضا معلومة إذ يعلم بحصولها بذلك. وإذا أريد إجرائها عن سببية الأقل أي الغسلة الواحدة لها فرفع ذلك بالبراءة يعني التضييق على المكلف ولزوم إتيانه بالأكثر وعدم الاقتصار على غسلة واحدة.


وفيه : انا إذا قطعنا النّظر عما سوف يأتي أمكن ان يقال في المقام بجريان البراءة عن سببية الأكثر فانها غير معلومة وانما المعلوم حصول الطهارة عند حصول الأكثر الا ان ذلك غير سببية الأكثر بما هو أكثر كما هو واضح.

والوجه الثاني ـ ان السببية أو جزئية الزائد للسبب وغير ذلك من الأمور كلها أمور وضعية انتزاعية وليست مجعولة للشارع ، فالركن الثاني لجريان البراءة منتف.

وفيه : أولا ـ هذا خلاف مسلكه المتقدم في أصل هذا البحث ، حيث أجرى البراءة عن الجزئية والمانعية بدعوى انها وان لم تكن مجعولة بالأصالة الا انها مجعولة بتبع جعل منشئها فيكون امر رفعها ووضعها بيد الشارع أيضا.

وثانيا ـ ان أصل شرطية هذا الركن في جريان البراءة غير صحيح ، لأن البراءة ليس رفعا واقعيا بل ظاهريا بمعنى رفع إيجاب الاحتياط فلا بد وان يكون ما يجري عنه البراءة قابلا لا يجاب الشارع للاحتياط تجاهه عند الشك فيه أي يكون قابلا للتنجيز ، ولهذا قلنا في البراءة عن الجزئية بأنها وان كانت قابلة للرفع والوضع من قبل الشارع ولكنها لا تجري البراءة عنها لأن الجزئية ليست منشأ للتنجز وإيجاب الاحتياط ، فالميزان ملاحظة ذلك سواء كان الموجود الواقعي للمشكوك قابلا للرفع الشرعي واقعا أم لا فسببية الأكثر في المقام ولو فرضت امرا غير قابل للرفع الشرعي إذا كان يعقل إيجاب الشارع للاحتياط تجاهها أي مما تدخل في العهدة وتتنجز جرت البراءة عنها.

والتحقيق ان يقال : ان المحصل إذا كان عرفيا فنفس عرفيته قرينة على ان المولى لم يتكفل بإيجاب السبب وإدخاله في العهدة بل أوكل ذلك إلى المكلف وادخل المسبب في عهدته كما إذا قال ( اقتل المشرك ) فيجب الاحتياط عند الشك في محصله ، واما إذا لم يكن عرفيا اما لكون المسبب شرعيا أو لإبهامه وغموضه فنفس عدم عرفيته قرينة عامة على ان المولى هو الّذي تكفل بيان السبب وتحديده فيكون مقدار اهتمام المولى بغرضه بمقدار بيانه للسبب ، وفي مثل ذلك الّذي يجب بحسب الحقيقة ويدخل في عهدة المكلف ليس هو ذلك الغرض والمسبب المجهول بل المقدار المبين من السبب فإذا شك في بيان المولى لدخالة الزائد في السبب كان مجرى للبراءة لا عن السببية بل عن مقدار ما يهتم به المولى ويدخله في عهدة المكلف وهو السبب.


وبالجملة المجعول الإنشائي للمولى وان فرض هو إيجاب الغرض كما لو قال طهر ثوبك للصلاة مثلا وبيان سببية الغسلة الثانية للطهارة ليس امرا مجعولا وموضوعا بالوضع الشرعي ولكن حيث ان القرينة العامة في باب المحصلات الشرعية تصرف ظهور اللفظ عن لزوم تحصيل الغرض كائنا ما كان إلى ما ذكرناه يصبح السبب هو الّذي يتنجز بمقدار تبيانه شرعا فهو الواجب بحسب الدقة والداخل في عهدة المكلف ويكون قابلا لإيجاب الاحتياط تجاهه فتجري البراءة عنه عند الشك في دخالة الزائد فيه كما تجري البراءة عن وجوب الجزء الزائد المحتمل دخله في الغرض الأقصى.

وعلى هذا الأساس تجري البراءة عن شرطية شيء أو مانعيته في الوضوء السبب للطهور. هذا إذا لم نقل بان الطهور بنفسه اعتبار شرعي منطبق على نفس الأفعال الخارجية والا فجريان الأصل فيه واضح على ما حققناه مفصلا في علم الفقه.

الوجه الثالث ـ ان البراءة لو جرت عن سببية الأكثر فهي لا تثبت سببية الأقل للطهارة والمفروض تقيد الواجب واشتغال الذّمّة بها للزوم تحصيلها في الصلاة فيجب الاحتياط.

وفيه ـ ما اتضح من الجواب على الوجه السابق من ان الّذي يتنجز ويدخل في العهدة ليس هو المسبب مطلقا بما هو بل بالمقدار المبين من سببه من قبل الشارع.

٦ ـ الشك في إطلاق دخالة القيد :

إذا شك في إطلاق دخالة جزء أو شرط في الواجب الارتباطي بان علم دخالته في حال الصحة وشك في دخالته في حال المرض مثلا ، فهذا مرجعه بحسب الحقيقة إلى دوران الواجب بين الأقل والأكثر بلحاظ حالة الشك ، فإذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة. وهذا على العموم واضح لا غبار عليه. ولكن قد وقع الإشكال في حالتين من هذه الحالات ، إحداهما حالة الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية لصورة نسيان الجزء أو الشرط ، والأخرى حالة الشك في إطلاقهما لحالة تعذره. فالبحث في مقامين :


١ ـ الشك في إطلاق القيد لحالة النسيان :

المقام الأول ـ إذا نسي المكلف جزء من الواجب الارتباطي ثم التفت إلى نقصان ما أتى به فتارة يبحث عن مقتضى الأصل العملي ، وأخرى عن مقتضى الأصل اللفظي.

اما البحث عن مقتضى الأصل العملي فقد يتصور ان المقام من موارد الدوران بين الأقل والأكثر حيث لا يعلم بان الناسي مكلف بالجامع بين التمام والناقص عند النسيان أو انه مكلف بالتمام بالخصوص وهو من الدوران بين الأقل والأكثر ـ التعيين والتخيير ـ.

ولكن الشيخ الأعظم أثار في المقام إشكالا استعصى حله على المحققين وحاصله : ان الناسي لا يمكن تكليفه لا بالأكثر لكونه ناسيا ولا بالأقل لأن الناسي لا يرى نفسه ناسيا فلو جعل خطاب مخصوص بالناسي فلا يمكن ان يصل إليه الا إذا التفت إلى كونه ناسيا فيخرج عن كونه ناسيا. وعليه يكون الشك بحسب الحقيقة في سقوط الواجب بالأقل وهو مجرى الاحتياط لا البراءة.

ولتحقيق حال هذه الشبهة وكلمات الأصحاب حولها لا بد من تفصيل الحديث في جهتين :

الجهة الأولى ـ في إمكان تكليف الناسي بالأقل ، والصحيح إمكانه بأحد نحوين :

الأول : ان يكون التكليف بالجامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامة وهو التكليف موجه إلى طبيعي المكلف فلا يلزم منه عدم إمكان وصوله إلى الناسي لأن موضوعه كل مكلف غاية الأمر ان الناسي يرى نفسه متذكرا دائما وآتيا بأفضل الحصتين من هذا الجامع مع انه انما تقع منه أقلهما قيمة ولا محذور في ذلك بل هذا من قبيل ان يأمر المولى بالجامع بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت ويصلى المكلف في البيت بتصور انه مسجد فانه على كل حال منبعث عن شخص ذلك الأمر بالجامع.

الثاني ـ ان يجعل على كل مكلف الإتيان بما يتذكر من الاجزاء فيتحرك كل مكلف نحو المقدار الملتفت إليه والّذي يختلف من شخص إلى آخر بمقدار تذكره وكل


مكلف يتخيل انه تام التذكر والالتفات ، وعلى كل حال يكون الانبعاث أيضا من الأمر الواحد المتعلق بالجامع ، والوجهان يرجعان روحا إلى امر واحد وهو الخطاب بالجامع وانما يختلفان في كيفية صياغة الجامع المتعلق به الأمر.

وهذا هو الجواب الفني على الشبهة لا ما سلكه صاحب الكفاية ( قده ) وتبعه المحقق النائيني ( قده ) سائرين على نفس عقلية صاحب الشبهة ومنهجته من تصور لزوم تعدد التكليف بين الناسي والمتذكر ، حيث أفاد بأنه إذا استحال تكليف الناسي فيمكن افتراض ان هناك تكليفين أحدهما متكفل إيجاب الأقل على طبيعي المكلف والآخر متكفل بإيجاب الزائد على المتذكر فلا يلزم منه محذور.

وعبارة صاحب الكفاية ( قده ) ظاهرة في النّظر إلى مرحلة الثبوت الا ان تقريرات المحقق النائيني ( قده ) مرددة بين النّظر إلى عالم الثبوت والجعل تارة وإلى الإثبات وكيفية إيصال الخطاب وتوجيهه إلى الناسي تارة أخرى.

وأيا ما كان فإذا كان النّظر إلى عالم الإثبات مع فرض ان عالم الثبوت يوجد فيه تكليف بالأكثر للمتذكر وبالأقل للناسي وان الصياغة المذكورة فقط في مرحلة الدلالة والألفاظ.

ورد عليه : ان هذا لا يحل الإشكال الثبوتي الّذي أثاره الشيخ ( قده ) من ان جعل الخطاب المخصوص بالناسي غير معقول جدا لعدم إمكان وصوله إليه وتحركه منه.

وإن كان النّظر إلى عالم الثبوت فالجواب : ان الأقل في الخطاب الأول هل هو مقيد بالزائد أو مطلق من ناحيته أو مقيد بلحاظ المتذكر ومطلق بلحاظ الناسي أو مهمل ، والأول خلف إذ معناه عدم كون الناسي مكلفا بالأقل ، والثاني كذلك لأن معناه كون المتذكر مكلفا بالأقل بحيث يسقط عنه التكليف بصدور الأقل منه ولو لم يأت بالأكثر ، والثالث معناه وجود خطاب بالأقل مطلقا مخصوص بالناسي وخطاب بالأكثر مخصوص بالذاكر وهذا رجوع إلى مشكلة جعل خطاب للناسي لا يمكن ان يصل إليه سواء كان هذا الإطلاق والتقييد بجعل واحد أو جعلين بنحو متمم الجعل كما لعله الأنسب مع مسلك المحقق النائيني ( قده ) ، والرابع غير معقول لأن الإهمال في عالم الثبوت غير معقول حتى عنده بل قد عرفت مرارا ان التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب فلا يمكن انتفاؤهما معا.


وهكذا يظهر ان دفع الشبهة بفرض تعدد الخطاب غير ممكن وانما الصحيح في حلها ما ذكرناه.

الجهة الثانية ـ في تحقيق ما يجري في المقام من ان الأصل العملي البراءة أو الاحتياط. وقد ربط السيد الأستاذ بين الأصل العملي في المقام وبين ما يختار في مسألة تكليف الناسي بالأقل فأفاد انه بناء على عدم إمكان خطاب الناسي وكون التكليف للجميع بالأكثر يكون الشك في المسقط فتجري أصالة الاشتغال ، وبناء على إمكان تكليف الناسي بالأقل يكون من الدوران بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عنه.

وهذا الربط في غير محله ، وتوضيح الحال في ذلك ان يقال :

ان النسيان تارة يستوعب الوقت كله ، وأخرى لا يستوعبه بل يرتفع في أثنائه. ففي الحالة الأولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مرددا بين الأقل والأكثر بل من الشك في تكليف جديد سواء قيل بإمكان تكليف الناسي بالأقل أم استحالته ، وذلك لأن الناسي في تمام الوقت لا إشكال في عدم تكليفه بالأكثر لأنه لا يكلف بما نسيه على أي حال اما لعدم معقولية تكليفه به كالعاجز أو لأدلة رفع التكليف بالنسيان وانما يعلم بأنه اما ان يكون ما أتى به صحيحا مجزيا أو يجب عليه القضاء الآن وهذا مرجعه إلى الشك في وجوب جديد في حقه لأنه وإن فرض احتماله للتكليف في الوقت بالأقل ـ بناء على إمكان تكليفه به ـ الا انه تكليف خارج عن محل الابتلاء وساقط بخروج الوقت فليس هنالك الا شك في التكليف وهو مجرى البراءة حتى إذا منعناها في موارد الدوران بين الأقل والأكثر.

واما الحالة الثانية فالتكليف فعلي في الوقت غير انه متعلق اما بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان أو بالصلاة التامة فقط ، والأول معناه اختصاص جزئية المنسي بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئية لحال النسيان وهو من الدوران بين التعيين والتخيير الا ان جريان البراءة هنا أولى منه في موارد الدوران بين الأقل والأكثر كما انه لا يرتبط بإمكان تكليف الناسي بالأقل بل يتم حتى على القول باستحالة تكليفه فلنا دعويان :

اما الدعوى الأولى ـ فمبررها ان العلم الإجمالي الدائر بين التعيين والتخيير حتى إذا


قيل بعدم انحلاله لا حقيقة ولا حكما مع ذلك لا تنجيز له في المقام للأكثر لعدم تشكل علم إجمالي منجز هنا لأن التردد بين الأقل والأكثر والعلم الإجمالي انما يحصل هنا للناسي بعد ارتفاع النسيان والمفروض انه قد أتى بالأقل في حالة النسيان وهذا يعني انه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه وخروجه عن محل الابتلاء وحصول مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا حتى إذا كان التردد فيه بين المتباينين فضلا عن الأقل والأكثر (١) نعم لو تذكر في الأثناء فقد يتشكل علم إجمالي منجز سوف نتحدث عنه.

واما الدعوى الثانية ـ فلان ما توهم من انه بناء على استحالة تكليف الناسي يكون الشك في المسقط وهو مجرى للاشتغال يرد عليه :

أولا ـ انه من الشك في التكليف أيضا لأن الأقل الصادر من الناسي إذا كان وافيا بملاك الواجب تقيد وجوب الأكثر لا محالة بما إذا لم يأت المكلف بالأقل نسيانا بنحو شرط الوجوب من أول الأمر فيكون من الشك في أصل حدوث التكليف وهو مجرى البراءة.

وثانيا ـ لو افترضنا ان شرطية عدم الإتيان بالأقل نسيانا ليست بنحو الشرط المتأخر بحيث يرفع إتيان الأقل موضوع وجوب الأكثر حدوثا بل يسقط التكليف بقاء فقط لاستيفاء ملاكه فالشك وإن كان في المسقط الا ان جريان الاشتغال ليس منوطا بصدق عنوان الشك في المسقط بل منوط بأن يكون الشك من ناحية الامتثال واستيفاء فاعلية التكليف مع الجزم بحدود ما يهتم به المولى ويريده ، وفي المقام يكون الشك في حدود اهتمام المولى وغرضه وهو من الشك في أصل التكليف بقاء فتجري عنه البراءة الشرعية والعقلية على القول بها. نعم قد يقال بجريان استصحاب بقاء التكليف في المقام وذاك امر آخر.

__________________

(١) المكلف في الشبهة الحكمية يعلم من أول الأمر انه يجب عليه في الوقت اما الصلاة التامة بالخصوص أو الجامع بين الصلاة تامة أو ناقصة صادرة في حالة النسيان غاية الأمر دائما يتصور انه يأتي بالصلاة التامة فإذا قيل بمنجزية هذا العلم الإجمالي وعدم جريان البراءة عن التعيين فيه فبعد ارتفاع النسيان يجب عليه الاحتياط لأنه ينكشف لديه انه لم يفرغ ذمته عن التكليف المنجز عليه بالعلم الإجمالي من أول الأمر نعم لو نسي الجزئية لا الجزء فقد يصح هذا الأمر حينئذ لزوال علمه الإجمالي بالنسيان ، وهذا نظير ما إذا علم بوجوب عتق الرقبة المؤمنة عليه أو عتق مطلق الرقبة وقلنا بالاحتياط في الدوران بين التعيين والتخيير فأعتق رقبة تصور انها مؤمنة ثم انكشف انها كافرة فانه يجب عليه عتق رقبة أخرى مؤمنة ولا يجوز له إجراء البراءة بدعوى انه من الشك في التكليف الآن حيث يحتمل ان الواجب عليه عتق مطلق الرقبة.


وثالثا ـ لو سلمنا ان البراءة لا تشمل موارد الشك في المسقط للتكليف بهذا العنوان مع ذلك قلنا بان البراءة حينئذ وإن لم تكن تجري عن التكليف بمعنى الوجوب لأن الشك في سقوط بقاء الا اننا يمكننا إجراء البراءة العقلية ـ على القول بها ـ أو الشرعية عن هذا التكليف بلحاظ ملاكه وروحه حيث كان يمكن للمولى الاخبار عن تحقق ملاكه بالأقل الصادر نسيانا فان مجرى البراءة كل ما يكون تحميلا شرعا سواء كان بلسان الإنشاء أو الاخبار وما هو موضوع التحميل المولوي عقلا اهتمامات المولى المبرزة بأغراضه فإذا شك فيها جرت البراءة عنها لا محالة.

وهكذا يتضح ان الصحيح جريان البراءة في موارد الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية لحالة النسيان لكونه من الدوران بين الأقل والأكثر أو من الشك في أصل التكليف من دون ارتباط ذلك بشبهة عدم إمكان تكليف الناسي بالأقل التي أثارها الشيخ الأعظم ( قده ) في المقام رغم عدم تماميتها في نفسه كما عرفت.

ثم ان هنا فروضا أخرى تجدر الإشارة إلى حكمها.

منها ـ ان يفرض تذكر الناسي للجزء المنسي في أثناء الصلاة بعد الدخول في الركن ، وهنا لا يرد ما ذكرناه في الدعوى الأولى من خروج أحد طرفي العلم الإجمالي الدائر بين التعيين والتخيير عن محل الابتلاء لامتثاله إذ لا امتثال للواجب الاستقلالي بعد. الا ان هنا علما إجماليا آخر يكون دائرا بين متباينين وهو العلم الإجمالي بوجوب إتمام هذه الصلاة وحرمة قطعها أو الإتيان بالأكثر ضمن فرد آخر وهذا العلم الإجمالي قد تقدم تصويره في أصل مسألة الدوران من قبل المحقق العراقي ( قده ) وأجاب عليه بجوابين أحدهما لم يكن تاما في نفسه والآخر هو الانحلال الحكمي لأن أحد طرفيه وهو وجوب الإتمام كان منجزا عليه بالعلم التفصيليّ من أول الأمر وهذا الجواب ان تم هناك فلا يتم هنا لأن هذا العلم التفصيليّ زائل بعد التذكر وحصول العلم الإجمالي كما هو واضح.

الا انه يرد هنا ما ذكرناه من الجواب المختار هناك على منجزية هذا العلم الإجمالي من ان حرمة القطع ليس موضوعها الصلاة الواقعية بل الصلاة التي يجوز للمكلف بحكم وظيفته العلمية الاجتزاء بها فتكون حرمة القطع في طول جريان الأصل عن الزائد فلا يمكن ان يعارضه.


ومنها ـ ان يفرض تذكره بعد التجاوز عن المنسي وقبل الدخول في الركن لو احتمل عدم لزوم التدارك وكفاية الأقل الصادر نسيانا ، وهنا تارة يفترض ان التدارك على تقدير عدم وجوبه ليس مستلزما لوقوع الزيادة المبطلة فعندئذ يكون العلم الإجمالي بوجوب الإتمام أو التدارك والإتمام علما إجماليا دائرا بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن التدارك ، وأخرى يفرض ان التدارك على تقدير عدم وجوبه يكون زيادة مبطلة فسوف يدور امر التدارك بين الجزئية والمانعية وهو من العلم الإجمالي بين المحذورين الّذي لا يمكن فيه الاحتياط فيثبت التخيير وأيهما اختار يجب عليه الإعادة لأن ما هو عدم لإعادة الصلاة كان مرددا بين متباينين ولم يأت الا بأحدهما هذا إذا لم نقل في مثل هذا الفرض الّذي تجب فيه الإعادة على كل حال بعدم حرمة القطع والإعادة من أول الأمر (١).

__________________

(١) هنا عدة كلمات يمكن ان تثار :.

الأولى ـ إذا فرض التدارك زيادة مبطلة على تقدير عدم الوجوب تعين على المكلف عدم الإتيان بها لأن نفس التدارك سوف يكون على هذا التقدير إبطالا للصلاة ومحرما ومع احتماله لا يمكن إتيانه بقصد القربة فلو جاء به علم ببطلان صلاته تفصيلا اما للزيادة أو للنقيصة من جهة عدم الإتيان بذلك الجزء الواجب تداركه بقصد القربة فيتعين عليه الإتمام بلا تدارك برجاء كونه مجزيا ثم الإعادة للعلم إجمالا بوجوب أحدهما وهو من العلم الإجمالي بالمتبائنين ـ مع قطع النّظر عما سوف يأتي ـ ولا يتصور ان الإتمام من دون تدارك أيضا يحتمل كونه إبطالا ومحرما لأن الابطال على تقدير لزوم التدارك يكون بترك التدارك لا بفعل سائر الاجزاء كما لا يخفى.

الثانية ـ ان الجواب المذكور فيما سبق جار هنا من ان ما يحرم قطعه انما هو الصلاة التي يثبت كونها وظيفة المكلف ويمكنه الاقتصار عليها في مقام الامتثال فتكون حرمة القطع ووجوب الإتمام في طول جريان البراءة عن وجوب الزائد فلا يمكن ان يقع الأصل الجاري بلحاظه طرفا للمعارضة مع البراءة كما لا يخفى.

الثالثة ـ قد يقال إذا فرضنا ان حرمة القطع موضوعها الصلاة الواقعية كان وجوب الإتمام وحرمة قطع الصلاة التي بيده ثابتا في حقه على كل حال أي سواء كان الواجب على الناسي الأقل أو الأكثر لصحة صلاته هذه ما لم يدخل في الركن وهو لا يدري ان القطع يتحقق بدخوله في الركن أو إتيانه بالجزء فهذا حكم آخر معلوم له تفصيلا وليس طرفا لعلم إجمالي بينه وبين وجوب الأكثر نعم لا يمكنه موافقته القطعية وانما يتيسر له الموافقة الاحتمالية فقط مع إمكان المخالفة القطعية فتجب الموافقة من دون ان يضر ذلك بالبراءة عن وجوب الأكثر بلحاظ الحكم الآخر وهو وجوب الصلاة. ودعوى : العلم إجمالا اما بوجوب إتمام هذه الصلاة من دون تدارك لكونه مبطلا أو وجوب التدارك بقصد القربة والّذي لا يتمكن منه الا بالإعادة وهذا علم إجمالي منجز.

يدفعها : ان الطرف الأول لهذا العلم الإجمالي متنجز في نفسه لما تقدم من انه لا يمكنه ترك إتمام هذه الصلاة أو إتمامها مع التدارك لكون ذلك إبطالا لهذه الصلاة على كل حال فيكون محرما فلا تجري البراءة عن وجوب إتمامها بلا تدارك لكي تعارض البراءة عن وجوب الزائد فلا يكون العلم الإجمالي المذكور منجزا.

هذا ولكن الصحيح منجزية هذا العلم الإجمالي لأن إتمام الصلاة من دون تدارك أيضا لا يعلم وجوبه بحيث يحتمل جواز


ومنها ـ ان يفرض انه كان متذكرا للسورة في أول الوقت ولم يصل ثم نسي وصلى واستمر نسيانه إلى آخر الوقت. وهنا يتشكل له علم إجمالي بلحاظين لحاظ داخل الوقت ولحاظ ما بعد النسيان وخروج الوقت. فباللحاظ الأول يعلم إجمالا بان الواجب عليه داخل الوقت اما الأكثر تعيينا أو الجامع بينه وبين الأقل الصادر نسيانا وهذا العلم الإجمالي كلا طرفيه خارج عن محل ابتلائه ولا يقتضي تنجيزا عليه. وباللحاظ الثاني يعلم اما بوجوب الناقص عليه في حال النسيان ـ ولو ملاكا لو قيل باستحالة تكليفه ـ أو وجوب الكامل عليه الآن قضاء وهذا العلم الإجمالي أحد طرفيه خارج عن محل ابتلائه كما تقدم.

هذا كله في ما تقتضيه الأصول العملية.

واما البحث عن مقتضى الأصل اللفظي بقطع النّظر عن الأدلة الخاصة المتكفلة لحكم النسيان ، فتارة يفترض الإطلاق في دليل اعتبار ذلك القيد لحال النسيان أيضا فتثبت بذلك جزئيته أو شرطيته وهذا هو معنى ان مقتضى الأصل اللفظي لدليل اعتبار قيد ركنيته ، وأخرى يفرض عدم الإطلاق في دليل اعتبار ذلك القيد وعندئذ تارة يفرض وجود الإطلاق في دليل أصل الواجب وأخرى يفرض عدم وجود أيضا فعلى الأول يثبت وجوب الأقل على الناسي وعدم اعتبار ذلك الجزء أو القيد في حقه ، وعلى الثاني يرجع إلى الأصل العملي.

وقد أثير قبال التمسك بكل من الإطلاقين بعض الشبهات ، اما إطلاق دليل الواجب فيما تقدم من استحالة تكليف الناسي بالأقل ، وقد عرفت الجواب عليه وانه لا محذور في التكليف بجامع ينطبق على الناسي أيضا.

واما الإطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية فتارة يناقش فيه بإبراز مانع داخلي عن التمسك به ، وأخرى يناقش بإبراز مانع خارجي عنه فهنا تقريبان للمنع.

التقريب الأول ـ وهو مختص بما إذا كان دليل الجزئية بلسان الأمر والإنشاء لا الإخبار عن الجزئية أو الشرطية : ان الأمر لا يشمل في نفسه حالات التعذر بالنسيان

__________________

ترك إتمام رأسا لاحتمال جزئية الجزء المنسي والمفروض عدم قدرته على الإتيان به بقصد القربة فيكون التكليف بإتمام هذه الصلاة ساقطا عنه رأسا ، فالعلم الإجمالي المذكور منجز في حق المكلف فتأمل جيدا.


أو العجز لاشتراطه بالقدرة فلا معنى للتمسك بإطلاق دليل الأمر بالقيد للناسي بل يتعين دائما التمسك بإطلاق دليل الواجب أو الرجوع إلى الأصل العملي (١). وهذا الوجه لا يجري فيما إذا لم يكن النسيان أو العذر مستوعبا لتمام الوقت لوضوح إمكان إيجاب الأكثر عليه حينئذ لزوال العجز بعد ارتفاع النسيان.

وقد أجيب عن هذه الشبهة بان الأمر بالجزء أو الشرط لو كان امرا مولويا لاختص بالقادر ولكنه ليس كذلك بل يفهم منه الإرشاد إلى الجزئية والشرطية فيكون مفاده ممكنا في حق العاجز أيضا فيتمسك بإطلاقه.

والتحقيق : ان فرضية انسلاخ الأمر بالقيد عن المولوية بذلك ممنوعة ، ولذا ترى الاستهجان عرفا إذا صرح بالإطلاق بان قال اقرأ السورة في الصلاة ولو كنت عاجزا فهذا الأمر لا يزال مولويا غاية الأمر انه ليس بداعي ملاك نفسي ضمني أو استقلالي بل بداعي الجزئية أو الشرطية ولهذا يكون مشروطا دائما بفرض الإتيان بالصلاة اما صريحا كقوله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) أو بحسب المتفاهم العرفي من منصرف الكلام كما إذا قال اقرأ السورة في الصلاة فان العرف يفهم من ذلك إذا صليت فاقرأ السورة. ولكون الداعي من ورائه الجزئية صح هذا الأمور المولوي بلحاظ الصلاة الاستحبابية أيضا مع ان الأمر الضمني المتعلق بها في الصلاة الاستحبابية ليس إلزاميا.

فالحاصل ما أفيد من ان هذا الأمر للإرشاد إلى الجزئية وليس مولويا لا يجدي في المقام لدفع الإشكال لأن الجزئية هو الداعي من وراء الأمر من دون انسلاخ الأمر عن المولوية ولهذا يكون الاستهجان محفوظا لو صرح بالإطلاق (٢) فلا بد من استئناف

__________________

(١) هذا مبني على عدم إمكان تكليف الناسي واقعا اما لكونه عاجزا تكوينيا في طول النسيان أو لاستظهار الرفع الواقعي من حديث الرفع وكلا الأمرين قابل للإشكال والمنع.

(٢) الاستهجان لو صرح بالإطلاق انما هو من جهة ما يحصل على مستوى المدلول التصوري للكلام من الظهور في ان الأمر بالسورة ثابت على العاجز وهذا عنصر آخر يوجب الاستهجان يحصل من نفس التصريح بحال العجز وهو مفقود في حالة عدم التصريح.

فالحاصل : بعد ان كان ورود الأمر بالجزء في سياق تحديد المركب الواجب ظاهرا في كونه بداعي بيان جزئيته للمركب لا بداعي البعث والزجر ينعقد الإطلاق في ان هذا الداعي غير مقيد بحال التمكن والا كان عليه بيان التقييد وهذا هو معنى الإرشادية.


جواب آخر وحاصله :

انه قد يفرض ان المولى بصدد بيان ان وجوب السورة ملازم مع وجوب الصلاة بحيث كلما وجبت الصلاة السورة ولازمه سقوط وجوب الصلاة عند سقوط وجوب السورة بالعجز ونحوه ، وهذا المطلب كما يمكن للمولى بيانه بأدوات العموم فيقول كلما وجبت الصلاة وجبت السورة كذلك يمكن ان يعوض عنه بالإطلاق ومقدمات الحكمة بان يقول إذا قمت للصلاة فاقرأ السورة فيها وحينئذ يقال بان الأمر بالجزء المشروط صريحا أو ضمنا بفرض الإتيان بالكل ظاهر بحسب المتفاهم العرفي في بيان الملازمة المطلقة بين وجوب الكل ووجوب ذلك الجزء ولهذا كان الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) لا يزالون يستفيدون من الأمر بالجزء أو الشرط الجزئية والشرطية حتى لحال العجز إلى ان أورد عليهم المتأخرون بإشكال اختصاص الطلب والأمر بالقادر فاضطروا في مقام التوفيق بين الصناعة والفن وبين الفهم العرفي الواضح إلى تجشم الجواب بان هذه الأوامر ليست مولوية بل إرشاد إلى الجزئية والشرطية وبذلك حاولوا سلخها عن المولوية رأسا ليمكن إطلاقهما للعاجز مع ان الصحيح بقائها على المولوية والطلب ولكن إطلاقها لبيان الملازمة بين وجوب الكل ووجوب الجزء بحيث كلما سقط وجوب الجزء بالعذر سقط وجوب الكل أيضا.

ولا يقال : ان إطلاق الأمر بالجزء أي ثبوت وجوبه في فرض العذر يقطع بخلافه اما تخصيصا أو تخصصا فلا يصح التمسك به.

فانه يقال ـ الّذي يقطع بسقوطه ثبوت اللازم وهو وجوب الجزء لا الملازمة والمفروض ان الإطلاق لبيان الملازمة وهي يمكن ثبوتها في فرض العذر كما هو واضح.

التقريب الثاني ـ التمسك بحديث الرفع بدعوى ان المستفاد منه رفع المنسي في عالم التشريع الّذي يعني رفع حكمه وهو الجزئية أو الشرطية ، أو بدعوى ان الرفع تنزيلي لما يقع خارجا نسيانا وهو ترك السورة مثلا فكأنه لا ترك للسورة خارجا تنزيلا وتعبدا

__________________

واما ما أفيد من دلالة الإطلاق على الملازمة بين مطلوبية الجزء كما كان الكل مطلوبا وواجبا بحيث يكون مدلول الكلام نفس الملازمة فهو بعيد جدا لوضوح ان المدلول التصديقي في مثل إذا قمتم إلى الصلاة فاقرءوا السورة فضلا عن مثل اقرأ السورة في الصلاة يكون بإزاء الأمر بالسورة فهو بصدد بيان وجوبها لا بيان الملازمة بينه وبين وجوب الكل بعد الفراغ عن وجوبها والّذي هو مدلول إخباري.


فيثبت صحة العمل.

ويرد عليه : إن أريد تطبيق ذلك على مورد النسيان في جزء الوقت من دون استمراره إلى آخره فمن الواضح ان المنسي في خصوص ذلك الوقت ليس موضوعا لحكم شرعي حتى يرفع وانما الموجود في لوح التشريع السورة في تمام الوقت ، وان أريد تطبيقه على مورد النسيان المستمر إلى آخر الوقت فحديث الرفع وإن كان يرفع حكمه ولزومه الا انه من الواضح ان رفع حكم السورة لا يعني إيجاب الصلاة عليه بلا سورة بل لعل هذا الرفع يكون برفع أصل وجوب الصلاة.

وبتعبير آخر : حديث الرفع غايته رفع الأمر بالجزء المنسي لا رفع الجزئية التي هي حكم وضعي منتزع من الأمر بالجزء فالملازمة بين إيجاب الكل وإيجاب الجزء التي تقدمت الإشارة إليها لا يمكن نفيها بحديث الرفع ليثبت وجوب الأقل على الناسي.

٢ ـ الشك في إطلاق القيد لحال العجز :

والبحث هنا كالبحث عن إطلاق الجزئية أو الشرطية في التعذر النسياني ولكن يختلف عنه في جملة من النكات والخصوصيات نشير إليها ضمن الجهات التالية :

الجهة الأولى ـ انه لا موضوع هنا لشبهة استحالة الأمر بالأقل التي تقدمت في الناسي إذ العاجز متوجه إلى عجزه ولا مانع من تكليفه بالأقل حال عجزه وهذا الفرق وإن كان لا يثمر بناء على ما تقدم منا من عدم صحة الشبهة في نفسها ومن عدم ارتباط جريان البراءة عن الزائد إثباتا ونفيا بها الا انه يثمر على مبنى السيد الأستاذ وغيره ممن ربطوا بين المسألتين.

الجهة الثانية ـ انه تقدم في بحث النسيان ان النسيان لو كان في جزء الوقت دون استيعاب لتمامه كان من التكليف المردد بين الأقل والأكثر ـ التعيين والتخيير ـ ولكنه حكما كان أوضح حالا منه لأن هذا العلم الإجمالي يحصل بعد خروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء وهو الأقل بالامتثال وإن كان النسيان مستمرا إلى آخر الوقت كان خارجا عن الأقل والأكثر موضوعا أيضا لأنه إذا لم يكن للواجب قضاء خارج الوقت فلا تكليف على الناسي والا كان من العلم الدائر بين المتباينين بعد خروج أحد طرفيه بالامتثال.


ولكن في المقام حيث ان العاجز ملتفت من أول الأمر إلى تكليفه فيتشكل له علم إجمالي في الحالة الأولى بوجوب الأكثر أو الجامع بينه وبين الأقل حال العجز وهو من العلم الإجمالي الدائر بين التعيين والتخيير فتجري البراءة في حقه عن التعيين ، وفي الحالة الثانية إذا كان للواجب قضاء يعلم إجمالا بوجوب الأقل عليه في داخل الوقت أو الأكثر قضاء في خارجه وهو من العلم الإجمالي بين المتباينين مع عدم خروج شيء من طرفيه عن محل الابتلاء فيكون منجزا لا محالة.

نعم بناء على مبنى الميرزا ( قده ) من إناطة منجزية العلم الإجمالي بإمكان وقوع المخالفة القطعية بالفعل خارجا يمكن ان يقال بعدم منجزيته لأن مخالفته القطعية لا يمكن ان تقع خارجا إذ لو جاء المكلف بالأقل في حال العجز كانت المخالفة احتمالية ولو ترك الأقل في الوقت كان القضاء معلوما تفصيلا (١).

الجهة الثالثة ـ فيما إذا فرض طرو العجز في أثناء الوقت ، وقع البحث عندهم في جريان استصحاب بقاء وجوب الأقل وعدمه ، وقد خص البحث عن جريان هذا الاستصحاب بفرض طرو العجز دون النسيان ، وهذا هو الصحيح ، إذ في حال النسيان ليس هناك شك لا حق ويقين سابق وبعد إتيان العمل وزوال النسيان لا مجال لجريان الاستصحاب لأنه حكم ظاهري بملاك حافظية التكليف الواقعي المشكوك ، ووجوب الناقص بعد الإتيان به لا معنى لحفظه بالاستصحاب بل على تقدير ثبوته قد انحفظ بنفسه في المرتبة السابقة فلا مجال للحكم الظاهري في فرض النسيان ، وليس الإشكال من ناحية اللغوية لكي يقال بترتب الأثر عليه بلحاظ الاجزاء وعدم وجوب القضاء ، بل الإشكال في عدم معقولية الحكم الظاهري الاستصحابي في نفسه.

واما البحث عن جريان هذا الاستصحاب في موارد طرو العجز في الأثناء فقد أثير بوجهه الإشكال بان الوجوب المعلوم للأقل هو الوجوب الضمني وهو مقطوع الارتفاع مع ان المراد إثباته بالاستصحاب هو الوجوب الاستقلالي للأقل وهو مشكوك الحدوث

__________________

(١) الا ان هذا يعني عدم إمكان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بما هو علم إجمالي لا عدم إمكان المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال والملاك في المعارضة هو الثاني لا الأول كما لا يخفى.


وفي مقام دفع هذا الإشكال توجد عدة تقريبات.

التقريب الأول ـ ان نجري استصحاب جامع الوجوب المردد بين الاستقلالي والضمني.

ويرد عليه : أولا ـ انه من استصحاب القسم الثالث من الكلي ، لأن الوجوب الضمني المتيقن سابقا معلوم الارتفاع وانما يحتمل بقاء الجامع ضمن فرد آخر منه هو الوجوب الاستقلالي وهو مشكوك الحدوث

وثانيا ـ ان الجامع بين الوجوب الضمني للأقل الّذي لا يقبل التنجيز الآن للعجز عنه والوجوب الاستقلالي له لا يقبل التنجز لو علم به وجدانا وفكيف بالاستصحاب ، هذا إذا أريد إثبات جامع الوجوب وتنجيزه ، وإن أريد إثبات فرده وهو الوجوب الاستقلالي للأقل كان من الأصل المثبت.

وقد أورد المحقق العراقي ( قده ) على هذا الاستصحاب بأنه محكوم لاستصحاب بقاء جزئية الجزء المتعذر لأن الشك في وجوب الأقل مسبب عن الشك في جزئية المتعذر في هذا الحال.

ويرد عليه : إن أريد من الجزئية دخالته في تحصيل الغرض والملاك فهذا سبب عقلي لسقوط الوجوب لا شرعي ، وإن أريد من الجزئية كونه واجبا بالوجوب الضمني فهذا مقطوع العدم حال التعذر ، وإن أريد الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب هذا الجزء فهي مشكوكة من أول الأمر وانما المتيقن الملازمة بينهما في حال القدرة وعدم التعذر وهو مقطوع البقاء على ان هذه الملازمة في عرض عدم وجوب الأقل معلولان لشيء ثالث هو كون الملاك قائما بالأكثر ولا سببية ولا مسببية بينهما حتى تكوينا. وإن أريد من الجزئية دخالته في مسمى الصلاة كما لعله يظهر من عبائر تقرير بحثه فمن الواضح ان هذا ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، لأن الواجب هو واقع المأمور به لا مسمى الصلاة.

التقريب الثاني ـ ان الجزء المتعذر إذا لم يكن ركنيا بحيث يتبدل بانتفائه الموضوع جرى استصحاب الوجوب ، لأن هذه الحيثية حينئذ تكون تعليلية لا تقييدية ، وقد تنقح في محله انه مع انتفاء الحيثية التعليلية يجري الاستصحاب في الموضوع الّذي كان واجبا سابقا وإن تغيرت حيثيته التعليلية.


وفيه : ان كون الحيثية تعليلية لا تقييدية انما يفيد في جريان الاستصحاب عند الشك في كونها دخيلة حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء كما لو شك في ان زوال تغير الكر بالنجاسة هل يوجب زوال نجاسته أم لا؟ فيقال بان التغير مثلا حيثية تعليلية لمعروض النجاسة وهو الماء لا تقييدية فيجري استصحاب نجاسته ، واما إذا كانت الحيثية مما يعلم بدخالتها في الحكم حدوثا وبقاء بحيث يعلم انتفاء شخص ذلك الحكم ولو لانتفاء علته فلا مجال للاستصحاب حينئذ للقطع بزوال الحكم المتيقن ، وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المفروض دخالة الجزء المتعذر في الواجب بحيث يسقط بتعذره شخص ذلك الوجوب يقينا وانما يشك في حدوث وجوب آخر ، فدعوى اندراج المقام تحت ضابطة كون الحيثية المتعذرة تعليلية أو تقييدية خلط بين مبحث التفصيل في جريان الاستصحاب بين موارد الحيثية التقييدية والتعليلية في موارد الشك في دخالة قيد في موضوع الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط وبين المقام الّذي لا شك في سقوط الحكم بانتفاء قيده على كل حال وانما يحتمل حدوث حكم آخر. وكأنهم تخيلوا بان كون الحيثية تعليلية يكفي وحده لتحقق الشك في البقاء وعدم الجزم بزوال الحكم السابق مع انه ليس الأمر كذلك ، فقد تكون الحيثية تعليلية ومع ذلك لا شك في البقاء بل يقطع بالزوال ، وقد تكون الحيثية تقييدية ومع ذلك يشك في البقاء لاحتمال دخالتها حدوثا فقط في الحكم.

التقريب الثالث ـ ان وجوب الباقي بعد تعذر أحد الاجزاء هو عين وجوبه قبله ، وانما يختلف عنه في حد الوجوب ، حيث انه كان منبسطا على الجزء الزائد والآن يقف عليه ، فنستصحب ذات المحدود بقطع النّظر عن المحدود نظير استصحاب ذات الحمرة بقطع النّظر عن حدها بعد زوال شدتها.

وفيه : ان الوجوب لا يعقل فيه الانبساط والاشتداد لكي نستصحب مرتبة منه ، وانما هو اعتبار وتكليف متعلق بالكل أو الباقي ، واحدهما غير الآخر ومباين معه في الوجود ، فما كان يعلم من وجوب الباقي يقطع بزواله وسقوطه وانما يشك في ثبوت شخص وجوب آخر عليه.

نعم لو لاحظنا عالم الإرادة والحب فقد يقال ان نفس الحب والإرادة يمكن ان يبقى مع تعذر الجزء لاحتمال كونه دخيلا في شدته لا في أصله ، الا انه بحسب هذا


العالم من الممكن بقاء الإرادة والحب بشدته وبحده ، لأن التعذر لا يزيل الحب وانما يسقط الطلب ، فالشك ليس من ناحية بقاء الحب والإرادة وانما الشك من ناحية ان متعلق تلك الإرادة لا يعلم انها الأقل أو الأكثر ، واستصحاب بقاء شخص ذلك الحب والإرادة لا يثبت تعلقها بالأقل الا بناء على الأصل المثبت ، واستصحاب أصل الإرادة وجامعها المعلوم تعلقه بالأقل ولو ضمنا سابقا يرجع إلى استصحاب الجامع بين الوجوبين بلحاظ عالم الإرادة والمبادئ وأقل ما فيه انه جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل.

وهكذا يتضح عدم تمامية شيء من التقريبات لدفع شبهة ان الوجوب المشكوك غير المتيقن حيث ان المتيقن الوجوب الضمني للأقل والمشكوك الوجوب الاستقلالي.

الا ان أصل هذه الشبهة مبني على افتراض ان إيجاب الأقل بحاجة إلى إيجاب جديد مع انه لا وجه له لإمكان جعل الوجوب من أول الأمر على الجامع بين الأكثر والأقل في حال التعذر وعليه فيكون الشك في بقاء نفس التكليف الثابت من أول الأمر على أحد التقديرين. أي يكون المقام من موارد استصحاب الكلي من القسم الثاني حيث يعلم بجعل وجوب مردد بين الطويل والقصير ، فانه لو كان متعلقا بالأكثر تعيينا فهو منتف جزما ، ولو كان متعلقا بالجامع بالنحو المذكور فهو باق.

الا ان هذا الاستصحاب يرد عليه ما ذكرناه مرارا من عدم جريان استصحاب الجامع بين وجوب لا يقبل التنجيز لانقضائه وبين وجوب يقبل التنجيز ، لأن مثل هذا الجامع لو علم به وجدانا لا يكفي في المنجزية فما ظنك بالتعبد به؟

قاعدة الميسور

الجهة الرابعة ـ ان الأصحاب حاولوا إثبات وجوب الباقي بعد العجز عن بعض الاجزاء على أساس قاعدة سميت بقاعدة الميسور ، يدعى استفادتها من بعض الروايات الخاصة ، وهي تتلخص في ثلاث روايات :

إحداها ـ الحديث النبوي المنقول عن أبي هريرة انه قال : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا


منه ما استطعتم ) (١).

ثانيتها ـ الرواية المنقولة في غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين 7 ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) (٢).

ثالثتها ـ الرواية الأخرى المنقولة في الغوالي عن أمير المؤمنين 7 ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) (٣).

والبحث عنها سندا واضح ، فان الأولى لا أثر لها في رواياتنا وكتبنا ولا عين وهي في كتب العامة لا سند نقي لها أيضا والأخيرتان مرسلتان مذكورتان في غوالي اللئالي لا في كتبنا المعتبرة. ومن هنا لا يحتمل ان يكون عمل السابقين لو فرض على أساس الاستناد إليهما فلا يمكن تصحيح سندهما بقاعدة الجبر أيضا لو سلمت كبرويا. واما الدلالة ، فنتكلم في حديث ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) وحديث ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ).

اما الحديث الأول ـ فهناك تفسيرات ثلاثة لفقه هذا الحديث.

الأول ـ ان يكون نهيا بلسان النفي نظير ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (٤) بناء على بعض التفاسير ، وكالجمل الخبرية في مقام الإنشاء.

الثاني ـ ان يكون نفيا تشريعيا بان يقصد به جعل الحكم إثباتا أو نفيا بلحاظ لوح التشريع لا الإخبار عن الخارج كقوله ( لا ربا بين الوالد والولد ) المقصود منه تشريع جواز الرّبا بينهما لا نفي وقوعه خارجا.

الثالث ـ ان يكون نفيا إخباريا كقوله ( وما جعل الحكم عليكم في الدين من حرج ) (٥) وعلى ضوء هذه التفاسير نأتي إلى كلمات القوم في التعليق على الاستدلال بالحديث في المقام فنقول : ذكر بهذا الصدد اعتراضات عديدة :

منها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من إيقاع التعارض بين ظهور هيئة

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٤ ، ص ٣٢٦.

(٢) الجزء الرابع ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٥ والموجود في النسخ التي بأيدينا قال النبي 6 ( لا يترك الميسور بالمعسور ).

(٣) نفس المصدر ، ح ٢٠٧.

(٤) البقرة : ١٩٧.

(٥) الحج : ٧٨.


( لا يسقط ) في اللزوم مع إطلاق الميسور للمستحبات عند تعذر بعض اجزائها ، وبعد التعارض لا يبقى ما يدل على لزوم الباقي حتى في الواجبات.

وهذا الاعتراض مبتن على التفسير الأول من التفسيرات المتقدمة ولا يتم على الأخيرين كما لا يخفى. والتفسير الأول خلاف الظاهر في نفسه وذلك :

أولاً ـ لظهور حرف السلب الداخل على الفعل المضارع في النفي بحسب ظهوره الأولي لا النهي ، فما دام يصح الكلام نفياً فلا وجه لحمله على النهي.

وثانياً ـ خصوص مادة يسقط التي وقعت مدخولاً لحرف النفي لا تناسب النهي ، لأن سقوط الميسور عن ذمة المكلف ليس فعلا للمكلف مباشرة لكي يناسب النهي عنه.

لا يقال ـ يمكن ان يراد النهي عن ترتيب آثار السقوط من قبل المكلف خارجا نظير لا تنقض اليقين بالشك.

فانه يقال ـ النقض فعل للمكلف فيمكن النهي عنه بخلاف سقوط الميسور فانه فعل الشارع ، نعم الإسقاط قد يكون فعلا للمكلف الا ان المادة هو السقوط لا الإسقاط اللهم الا ان يقرأ ( لا يسقط ) بصيغة المجهول. نعم هذا الإشكال مبني على الصيغة المشهورة على ألسنة الأصوليين وفي كتبهم الا أن الموجود في النسخ الموجودة بأيدينا من غوالي اللئالي ( لا يترك الميسور بالمعسور ) وهو سليم عن هذا الاعتراض.

وثالثا : لو سلمنا حمل الحديث على النهي مع ذلك لا تعارض بين النهي وإطلاق الميسور للمستحبات لأن مفادها النهي عن السقوط من ناحية تعذر بعض الاجزاء وهو لا ينافي جواز ترك أصل المستحب من ناحية أخرى.

كما انه قد يقال بناء على تسليم المعارضة بتقديم ظهور المحمول في الحرمة على إطلاق الموضوع للمستحبات كما في سائر موارد تخصيص الخطاب موضوعا فانه لا يجعل قرينة على عدم إرادة اللزوم من المحمول حفاظا على إطلاق الموضوع اللهم الا إذا فرض استهجان إخراج المستحبات من الميسور وهو بلا وجه.

ومنها ـ ما ذكره السيد الأستاذ على ما في الدراسات من ان مفاد الحديث هو النفي التشريعي ـ التفسير الثاني ـ وحينئذ لو كان ناظرا إلى باب الكلي والفرد كما إذا وجب إكرام كل عالم وتعذر إكرام بعضهم كان إرشادا إلى عدم سقوط وجوب سائر الافراد


الأمر الثابت في نفسه لو لا الحديث أيضا ، ولو كان ناظرا إلى باب الكل والجزء في المركبات الارتباطية كان مولويا دالا على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء وحيث لا معين لأحدهما في قبال الآخر كما لا يمكن الجمع بينهما في خطاب واحد فيجمل الحديث ، ولا يمكن تعيين المولوية قبال الإرشادية بأصالة المولوية ، لأن موردها ما إذا كان الموضوع المنظور إليه مشخصا ويشك في المولوية والإرشادية لا ما إذا كان الشك في الموضوع وانه الأمر المناسب مع المولوية أو المناسب مع الإرشادية.

أقول ـ ما ذكره غير مبتن على التفسير الثاني بل يتم على الأول أيضا ، فان النهي عن إسقاط سائر الواجبات الاستقلالية أيضا يكون إرشاديا إذا كان الموضوع الكلي والفرد. نعم على الاحتمال الثالث أي الاخبار الصرف لا يجري هذا الإشكال إذ يكون إرشاديا على كل تقدير بقطع النّظر عما سوف نذكره. وأيا ما كان فيرد على هذا الاعتراض :

أولا ـ ان هذا الخطاب مولوي على كل حال سواء أريد به الكلي والفرد أو الكل والجزء ، غاية الأمر على الأول يكون الحكم المولوي نفس الجعل الأول بخلافه على الثاني ، نعم يلزم على الأول التأكيد لا تأسيس حكم جديد الا ان التأسيسية والتأكيدية هنا تنتزعان بلحاظ أمر خارج عن مدلول اللفظ وهو سبق خطاب الأمر بالكلي أو المركب ، وعليه فلا مانع من إطلاق الميسور لكلا البابين وإن انتزعت التأسيسية بلحاظ أحدهما والتأكيدية بلحاظ الآخر.

وثانيا ـ ان الإرشادية والمولوية ليستا مدلولين لفظين تصوريين للخطاب وانما هما خصوصيتان مرتبطتان بمرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدي ، واما اللفظ من أمر أو نهي أو إخبار فمستعمل في معناه الموضوع له من النسبة الإنشائية أو الاخبارية ، وعليه فلو كان المدلول التصديقي مما يناسب ان يجمع المولوية والإرشادية في مورد فلا محذور ولا موجب لتخصيص الخطاب موضوعا إذ لا يلزم من ذلك استعماله في معنيين لما ذكرناه من ان هذه الخصوصية ليست مدلولا للفظ بنحو الاستعمال.

ومنها ـ انه بناء على النّظر إلى باب الكلي والفرد يكون النفي حقيقيا ، واما بناء على النّظر إلى باب المركبات يكون نفيا عنائيا مسامحيا لأن وجوب الباقي وجوب جديد غير الوجوب الساقط بالتعذر بحسب الدقة.


وفيه : أولا ـ انه مبني على تصور المشهور من لزوم إيجاب الباقي إلى امر جديد ، مع انك عرفت إمكان جعل الأمر من الأول على الجامع المقيد أحد فرديه بفرض العجز والتعذر.

وثانيا ـ لو سلمنا الوجوب الجديد فحمل النفي على العنائي انما يلزم إذا كان هناك تقدير أي أسند السقوط إلى حكم الميسور وهو خلاف الأصل بل السقوط أسند إلى نفس الميسور باعتبار ما له من نوع ثبوت في عهدة المكلف وعلى ذمته ، واختلاف منشأ الثبوت في العهدة من الوجوب الضمني إلى الاستقلالي لا يجعل الساقط متعددا بحسب النّظر العرفي لأن المنشأ حيثية تعليلية.

والمحقق الأصفهاني بعد ان وافق على اسناد السقوط إلى نفس الميسور جعله باعتبار موضوعيته للحكم ، ففسر الحديث بعدم سقوط الميسور عن كونه موضوعا للحكم بسقوط المعسور.

وفيه : ان مجرد الموضوعية للحكم لا يناسب التعبير بالسقوط ، ولهذا لا يصح اسناد السقوط إلى الماء إذا ارتفع الحكم بإباحة شربه مثلا ، بل لا بد من افتراض نوع علو وأهمية للشيء الساقط بحيث يهوي ويسقط وهذا لا يكفي فيه مجرد الموضوعية ما لم يكن ذلك مساوقا لوجوده في عهدة المكلف وعلى عاتقه.

هذا كله في الحديث الأول.

واما الحديث الثاني : أعني قوله ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) فقد استشكل في دلالته بأنه طبق على مورد الكلي والفرد حيث ورد في جواب سؤال صحابي عن لزوم الحج كل عام فأجاب النبي 6 بأنه لو قلت نعم لوجب كل عام ، ولو وجب لما استطعتم وكفرتم ، ثم قال إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. فحتى لو فرض ظهور الحديث في النّظر إلى المركبات بقرينة ( منه ) الظاهر في التبعيض لا بد وان يرفع اليد عن هذا الظهور بقرينة المورد ويحمل على الكلي والفرد بحملها على البيانية أو زائدة أي فأتوه ما استطعتم ، ومعه لا يمكن الجمع بين المعنيين والبابين.

وأجاب المحقق الأصفهاني ( قده ) عن هذا الإشكال بأنا لا نسلم وضع من للتبعيض المخصوص بباب الكل والجزء ، بل هي موضوعة للتبعيض بمعنى الاقتطاع وإخراج البعض سواء كانت نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب أو نسبة الفرد إلى


الكلي ، حيث ان للكلي نحو إحاطة وشمول على افراده ، فلا منافاة بين المعنيين.

وهذا الّذي أفاده في غاية المتانة.

الا ان هناك مناقشات أخرى حول هذه الرواية ربما تستوجب إجمال مدلولها ، نوردها فيما يلي :

١ ـ ان ظاهر الحديث ان السؤال بنفسه يمكن ان يكون محركا للتشريع ومنبها إليه بحيث لو سئل لوجب ، وهذا غريب في بابه ، فان التشريع يتبع المصالح والمفاسد الواقعية لا سؤال السائلين وفحصهم.

٢ ـ ان ظاهره ان النبي 6 لو قال نعم لوجب ولو وجب لما استطاعوا فيتركوا فيكفروا مع انه مع عدم الاستطاعة يرتفع الوجوب فكيف يعقل ان يكونوا بذلك كفارا.

٣ ـ ان القاعدة لو أريد تخصيصها بباب الكل والجزء لم يناسب مع مورد الحديث ، ولو أريد جعلها تشمل باب الكلي والفرد فتصوير ذلك يكون بأحد أنحاء ثلاثة كلها غريبة في المقام.

الأول ـ ان يراد كلما أمرتكم بشيء بنحو صرف الوجود فأتوا بأفراده ما استطعتم.

وهذا كما ترى تناقض واضح فان الأمر بصرف الوجود لا يقتضي أكثر من الإتيان بصرف الوجود.

الثاني ـ ان يراد كلما أمرتكم بشيء بنحو مطلق الوجود كما في مثل أكرم العلماء فأتوا من افراده ما استطعتم. وهذا لا يناسب مورد الرواية ، فان الأمر بالحج ليس بنحو مطلق الوجود ، وهو خلاف مقصود النبي 6 على تقدير صدور الحديث حيث كان يريد نفي لزوم ذلك على المسلمين كلما أمرهم بشيء والا لما استطاعوا ولكفروا.

الثالث ـ ان يكون المقصود جعل قاعدة في مقام الاستفادة من الأدلة وهي انه متى أمرهم بشيء فيحمل على مطلق الوجود لا صرف الوجود. وهذا أيضا لا ينطبق على المورد ، كما أنه أمر غريب في بابه وما أكثر أوامر الشارع التي هي بنحو صرف الوجود.

والصحيح في الإجابة على كل هذه التساؤلات في فقه هذا الحديث ان يقال : ان الحديث يبين قاعدة مضروبة للحد الأقصى للتكاليف الشرعية لا الحد الأدنى ، أي ان كل امر يصدر لا يلزم امتثاله بأكثر من المقدار المستطاع ، واما ما هو حده الأدنى فهذا


يتبع دليله الّذي يأمر به بنحو صرف الوجود أو مطلق الوجود. والمراد بالمقدار المستطاع الّذي جعل حدا أقصى للتكليف المستطاع عرفا لا عقلا أي ما يقابل الحرج والمشقة التي تعتبر عرفا عدم الاستطاعة ، والقرينة على هذا الفهم للاستطاعة نفس التعبير في مورد الحديث ( لو وجب لما استطعتم ولو تركتم لكفرتم ) بعد وضوح استحالة التكليف بغير المقدور عقلا. وبهذا التفسير للاستطاعة الوارد في الحديث يظهر الجواب على الإشكال الثاني أيضا.

واما الإشكال الأول ، فجوابه : انه من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي واقعا الا انه لوجود محذور في إبدائها ابتداء أو للحاجة إلى حصول نوع تنبه وتوجه إليها من قبل المكلفين لا تشرع الا بعد السؤال أو الإلحاح من قبل المسلمين نظير ما في الآية الكريمة ( يا أيها الّذي آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنا والله غفور حليم ) (١).

بناء على إرادة الأحكام منها لا المعاجز ، فانه لا يناسب مع كون الخطاب للمؤمنين ولا الاخبار عن القضايا الخارجية فانها لا يناسب نزول القرآن الّذي هو كتاب تشريع وآيات.

وهكذا يظهر وجود معنى معقول لهذا الحديث الا انه بناء على هذا المعنى يكون الحديث أجنبيا عن محل الكلام لأنه يدل على ان الحد الأقصى للامتثال ان لا يلزم منه حرج ومشقة ، وأين هذا من مسألة لزوم الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط؟

٧ ـ الشك في مبطلية الزيادة :

وهنا أبحاث فقهية لا ينبغي التعرض لها لعدم ارتباطها ببحث الأقل والأكثر وانما تطلب من مواضعها في الفقه فنقتصر في الكلام على ثلاث جهات :

الجهة الأولى ـ في تصوير أقسام الجعل الضمني الّذي ينتج مبطلية الزيادة ثبوتا ، وهي كما يلي :

الأول ـ ان يؤخذ عدم الزيادة شرطا في الواجب ، ولا إشكال في معقوليته إذ يمكن

__________________

(١) سورة المائدة : آية ١٠١.


ان يكون ذلك الأمر مانعا عن تحقق ملاك الواجب فيؤخذ عدمه شرطا فيه.

الثاني ـ ان يؤخذ عدم الزيادة جزء للواجب كما ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) ، واستشكل فيه المحقق الأصفهاني بان كل نحو من أنحاء الجعل لا بد وان يكشف عن ملاك مناسب له وفي المقام لا يعقل ان يكون عدم الزيادة جزء من اجزاء العلة لحصول الملاك لاستحالة تأثير الأمر العدمي في الأمر الوجوديّ.

وفيه : أولا ـ بالإمكان افتراض ان الملاك لم يكن امرا وجوديا خارجيا بل كان عبارة عن حصول استعداد للعبد لإفاضة الكمال عليه فيعقل ان يتدخل فيه امر عدمي كما تصورنا ذلك في بحث الشرط المتأخر.

وثانيا ـ يمكن افتراض ان في ملاك الواجب جهة عدمية فيكون عدم الزيادة دخيلا في ذلك الأمر العدمي (١).

وبالجملة هذا القسم ممكن ثبوتا نعم المأنوس عرفا النحو الأول من الجعل لا الثاني بحيث ينصرف قول الشارع الزيادة مبطلة إليه إثباتا فإذا كانت تترتب ثمرة على القسم الأول ترتبت في المقام.

الثالث ـ ان يكون عدم الزيادة مأخوذا في الجزء كما إذا كان الركوع مثلا مشروطا بعدم التكرار.

وذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) ان هذا يرجع إلى النقيصة بحسب الحقيقة إذ لم يأت بالركوع الجزء.

وهذا الكلام إن أراد به مجرد تحقق النقيصة بلحاظ الجزء فهو صحيح ، وإن أراد به إنكار الزيادة موضوعا فغير صحيح إذ لا تقابل بين حصول الزيادة وحصول النقيصة في المقام فهنا قد حصلت النقيصة إذ لم يأت بالجزء الواجب وحصلت الزيادة أيضا إذ الركوع الثاني بل والركوع الأول وبعد سقوط الجزئية زيادة على كافة الأقوال الفقهية في

__________________

(١) هذا بالدقة يرجع إلى مانعية الزيادة لكونها علة للمانع فان العدم لا يكون دخيلا الا من باب عدم المانع وانتفاء علة الوجود.

ويمكن ان يجاب على إشكال المحقق الأصفهاني بجوابين آخرين كما يلي :

١ ـ اختصاص هذا الإشكال بما إذا كان ملاك الواجب المصلحة لا الحسن العقلي فانه يمكن ان ينتزع عن مجموع امرين أحدهما وجودي والآخر عدمي وليس بابه باب الوجود ليقال بان العدم يستحيل ان يؤثر في الوجود.

٢ ـ ان أصل لزوم كشف كل نحو من أنحاء الجعل عن ملاك مناسب له امر استظهاري وليس عقليا فلا محذور عقلي في ان يجعل المولى خطابه بعدم الزيادة بنحو الجزئية في مرحلة الاعتبار وإن كانت الزيادة مانعة في مرحلة الملاك.


تفسير الزيادة أي حتى على اشتراط المسانخة في تحقق الزيادة لثبوت المسانخة مع أحد اجزاء الصلاة وهو الركوع في المقام إذ ليس المراد بالمسانخة في الحد أيضا بل في أصل الجزء.

والمحقق الأصفهاني ( قده ) قد فسر مقصود أستاذه بتفسير آخر حاصله : إنكار الزيادة حكما لا موضوعا بمعنى ان الركوع الثاني حينئذ وإن سمي زيادة ولكنه لا يمكن ان يكون مانعا بحيث يؤخذ عدمه في الصلاة أيضا لأن المانعية فرع تمامية المقتضي والمفروض عدمه بنقصان الجزء.

وهذا الكلام لا يناسب مع مبناه من استحالة أخذ عدم الزيادة بنحو الجزئية في الواجب. إذ على هذا المبنى لا يعقل أخذ عدم الزيادة في الجزء الا بمعنى مانعية الزيادة عن تأثير الجزء ولا منافاة بين ان تكون للزيادة مانعيتان إحداهما عن تأثير الجزء والأخرى عن تأثير سائر الاجزاء في عرض واحد. نعم لو فرضنا ان المأخوذ في الجزء عنوان وجودي ملازم مع عدم الزيادة كعنوان الوحدة مثلا اتجه حينئذ فرض قصور المقتضي بانتفاء ذلك العنوان الوجوديّ الا ان هذا لا يمنع مع ذلك ان تكون الزيادة مانعة عن اقتضاء سائر الاجزاء وإن كان هناك قصور في المقتضي الاستقلالي من ناحية هذا الجزء.

ثم ان هناك تعميقا للإشكال في معقولية الزيادة على كل تقدير بان يقال سواء كان الجزء مشروطا بعدم الزيادة أو فرض لا بشرط منها لم تعقل الزيادة ، اما على الأول فلما تقدم من رجوعه إلى النقيصة ، واما على الثاني فلأن الجزء حينئذ هو الأعم من ركوع واحد أو ركوعين فيكون المجموع جزء فلا تكون زيادة.

وأجاب عن ذلك السيد الأستاذ بان الجزء قد يفرض بشرط لا عن الزيادة ، وأخرى يفرض لا بشرط بمعنى كون الجزء هو الجامع بينه وبين الزيادة بنحو التخيير بين الأقل والأكثر وفي هذين الفرضين لا تعقل الزيادة كما ذكر في الإشكال. وثالثة يفرض الجزء لا بشرط بمعنى ان ضم الزيادة إليه كضم الحجر إلى جنب الإنسان لا يضر ولا ينفع فحينئذ لا يكون المجموع جزء بل تكون هناك زيادة.

والتحقيق : ان الزيادة قد يراد بها الزيادة الحقيقية وقد يراد بها الزيادة التشريعية.

اما الزيادة الحقيقية في شيء فتتوقف على توفر شرطين :


أحدهما ـ ان يكون المزيد فيه مطاطا ومرنا يمكن ان يشتمل على تلك الزيادة كما يمكن ان لا يشتمل عليها بان يكون من سنخه نوعا أو جنسا وذلك كما في البيت الّذي يصدق على البناء المخصوص بما فيه من غرف سواء فرضت ثلاثا أو أربعا ولو لم يكن كذلك لم يصدق الزيادة ولهذا من بنى خلف داره حانوتا لا يصدق انه زاد في بيته لأن مفهوم البيت لا يشتمل على الحانوت.

الثاني ـ ان يكون هناك حد خارج حقيقة المزيد فيه ينافي تلك الزيادة حتى يتحدد المزيد فيه بذلك الحد ويجعل في قبال الزيادة كما لو أمر البناء ببناء بيت وأعطى بيده خريطة للبناء لا توجد فيها الا ثلاث غرف فبنى البناء أربع غرف فانه يصدق هنا انه زاد في البيت غرفة ، واما لو لم يحدد من أول الأمر ذلك فبنى أربع غرف لا يصدق انه زاد في البيت غرفة ولو قيل انه زاد في البيت غرفة واما لو قيل انه زاد في البيت غرفة لسئل انه هل كان المفروض ان يكون البيت بثلاث غرف؟ نعم إذا كان هناك بيت فيه بوصفه الخارجي ثلاث غرف ثم بنى فيه غرفة أخرى صدق أيضا انه زاد فيه غرفة بلحاظ الحد الخارجي السابق.

وعلى أساس هذين الشرطين ينبغي ان نلاحظ الفرضيات الثلاث التي ذكرها من ان الركوع الثاني قد يؤخذ الجزء بشرط لا من ناحية ، وقد يؤخذ لا بشرط بمعنى الجامع ، وقد يؤخذ لا بشرط بنحو يكون أجنبيا عنه لنرى متى تصدق الزيادة فنقول تارة نتكلم في الزيادة في مسمى الصلاة ، وأخرى نتكلم في الزيادة في الواجب.

اما الزيادة في مسمى الصلاة نفي الفرضية الثالثة لا تصدق الزيادة على عكس ما أفاده السيد الأستاذ لانتفاء الشرط الأول إذ مسمى الصلاة ليس بحسب الفرض من سنخ يمكن ان يشمل الركوع الثاني كما ان الإنسان لا يمكن ان يشتمل على الحجر المنضم إليه فلو ان شخصا أخذ بيده حجرا لا يصدق انه زيد في الإنسان شيء بخلاف ما إذا كان له رأسان ، وكذلك الحال في الفرضية الأولى لأن مسمى الصلاة لا يمكن ان يشتمل الركوع الثاني لفقدان الشرط الأول بحسب الفرض فلا زيادة كما لا مسمى أيضا للنقيصة ، واما في الفرضية الثانية وهو فرض كون مسمى الصلاة الجامع بين الركوع الواحد والركوعين فالشرط الأول متوفر لا محالة واما الشرط الثاني وهو وجود محدد بلحاظه تصدق الزيادة في مسمى


الصلاة فيمكن ان يكون هو الوجوب فحينئذ إن كان الواجب هو الجامع أيضا فلا يصدق زيادة لعدم الحد ، وإن كان الواجب بشرط لا عن الزيادة فتصدق الزيادة في المسمى بلحاظ هذا الحد رغم انه نقيصة بلحاظ الواجب ـ ومنع يعلم ان ما ذكر من انه يرجع إلى النقيصة لو أخذ الجزء بشرط لا لو أريد به بلحاظ الواجب فلا تقابل بين الزيادة والنقيصة وكذلك لو كان الواجب لا بشرط عن الزيادة بالمعنى الثالث فانه تصدق الزيادة في مسمى الصلاة لتوفر الشرطين ، هذا كله إذا كان المنظور صدق الزيادة في مسمى الصلاة.

واما إذا كان المنظور صدق الزيادة في الواجب بما هو واجب فهذا امر غير معقول أصلا فانه إذا أخذ الركوع الثاني بشرط لا فالشرط الأول منتف لعدم قابلية شمول الواجب بما هو واجب للركوع الثاني ، وكذا إذا فرض أخذه لا بشرط بالمعنى الثالث ، واما إذا فرض أخذه بنحو التخيير بين الأقل والأكثر فالشرط الأول متوفر الا ان الشرط الثاني لصدق الزيادة غير متوفر الا ان يفرض امرا استحبابيا بالاقتصار على الركوع الأول أو نهيا كراهتيا عن الثاني فتصدق الزيادة بلحاظ هذا الحد الا ان هذه الزيادة غير مبطلة وخارجة عن محل البحث لأنها لا تقدح بامتثال الواجب بل تضر بالاستحباب.

واما الزيادة التشريعية فهي الإتيان بشيء لا يكون جزء بقصد الجزئية تشريعا وهو يتصور في القسم الأول والثالث معا وانما لا تتصور في القسم الثاني الّذي يكون الواجب هو الجامع لأنه إذا أتى به كان جزء بحسب الفرض فلا تشريع. واما تحقيق ان المبطل في الصلاة هل هو الزيادة التشريعية أو الحقيقية أو كل منهما فهذا بحث فقهي موكول إلى محله والصحيح فيه مبطلية كل منهما كلما صدقت.

ومن مجموع ما ذكرناه اتضح أيضا الجواب على إشكال عدم معقولية الزيادة حيث ظهر إمكان صدق الزيادة الحقيقية فضلا عن التشريعية سواء أخذ الجزء بشرط لا عن الزائد أم لا بشرط.

الجهة الثانية ـ إذا شك في مبطلية الزيادة ، فالصحيح جريان البراءة عنها سواء كان المحتمل مبطليته للواجب ابتداء أو للجزء ومن باب النقيصة في الواجب لأن كل ذلك مرجعه إلى الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعم من الجزئية أو الشرطية وقد تقدم جريان البراءة فيه على كل حال ، كما انه إذا علم بمبطلية


الزيادة عمدا وشك في مبطليته سهوا أو نسيانا فالحال فيه حال الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية لحال النسيان.

نعم لا بد هنا من الإشارة إلى نكتة هي انه في الواجبات الارتباطية التي يشترط فيها الترتيب يكون الشك في الجزئية مساوقا مع الشك في الزيادة ، فمثلا إذا شك في جزئية الشهادة الثانية فأجري عنها البراءة وتركت فيشك في ان الإتيان بالجزء الآخر وهو الصلاة على النبي 6 زيادة أم لا إذ على تقدير اعتبار الشهادة الثانية تكون زيادة ـ ولو فرض كونها غير مبطلة ـ فلا يمكن الإتيان بها بقصد الجزئية في هذا الموضع لأنه تشريع والبراءة لا تثبت إطلاق الواجب الا ان هذا امر لا محيص عنه في أصل الدوران بين الأقل والأكثر فانه بعد البراءة عن الزائد لا يمكن الإتيان بالأقل بقصد كونه هو الواجب بحده والا لزم التشريع فلا بد وان يؤتى به رجاء.

الجهة الثالثة ـ انه ربما تكون الزيادة في الصلاة مبطلة لا من ناحية نفسها بل من ناحية إخلالها بقصد القربة ولزوم التشريع المحرم وهذا ـ أعني الإتيان بشيء بقصد الجزئية مع عدم كونه جزء في الواقع ـ يتصور بأحد نحوين أساسيين ، فانه تارة يفرض ان قصد الجزئية يرجع إلى تصرف في عالم أمر المولى ، وأخرى يفرض انه يرجع إلى التصرف في عالم قصده ونيته.

اما تصرفه في عالم امر المولى فيتصور على أنحاء.

الأول ـ ان يشرع امرا شرعيا يفترضه متعلقا بالأكثر ويغض النّظر عن الأمر الشرعي الّذي يعلم تعلقه بالأقل فينبعث من ذلك الأمر.

وهذا الإشكال في بطلانه لأنه تشريع وفاعله لم يعبد ربه ولم يمتثل امره بل تحرك عن تشريعه ورأيه.

الثاني ـ ان لا يغض النّظر عن الأمر الشرعي المتعلق بالعمل بدون الزيادة ولكنه يفترض ان هناك امرا أيضا بالعمل مع الزيادة إلى جانب ذلك الأمر ، وهنا إذا فرض ان الأمر الشرعي كان كافيا وحده في دعوته فالعمل صحيح من ناحية قصد القربة وإن اشتمل على التشريع المحرم وإن لم يكن تحركه الا من ناحية الأمر الّذي شرعه ولم يكن الأمر الشرعي بالعمل دون زيادة كافيا وحده لتحريكه فالعمل باطل.

الثالث ـ ان لا يفترض امرا آخر بل يشرع في تحديد نفس الأمر الشرعي على


الزيادة امّا بان يفرض مثلاً انَّ الركوع الأول مثلاً مقيد بشرط الركوع الثاني أو انَّ الجزء هو الجامع بين ركوع واحد وركوعين وهنا يكون قد تحرك واقعا من الأمر الموجود وإن كان قد شرع في افتراضه موسعا شاملا للزيادة.

هذه في الشقوق الأساسية لتصرفه في عالم أمر المولى.

واما تصرفه في عالم قصده فقد ذكروا له قسمين :

الأول ـ ما سموه بالخطإ والاشتباه في التطبيق بان يقصد امتثال نفس الأمر الواقعي الموجود خارجا لكنه يعتقد اشتباها وخطأ انه متعلق بالمجموع من الزائد والمزيد عليه. وهنا يحكم بصحة العمل لأن تصرفه لم يكن الا عبارة عن اعتقاد خاطئ مع تحركه عن الأمر الواقعي.

الثاني ـ ما سموه بالخطإ بنحو التقييد وذلك بان يتحرك عن الأمر الواقعي على تقدير كونه متعلقا بالزائد لا على كل تقدير ، وقد حكموا فيه بالبطلان لأنه لم يتحرك عن الأمر الواقعي على كل حال.

والصحيح : ان التحرك لا يكون دائما الا عن الأمر الواصل وصولا علميا أو احتماليا ولا يعقل التحرك عن الأمر الواقعي بوجوده الواقعي ، وعليه فلا يبقى معنى محصل لهذا التشقيق الا انه تارة يتحرك المكلف عن الجامع بين الأمرين ويتخيل ان الواقع هو الأمر بالزائد وهذا يسمى بالخطإ في التطبيق ، وأخرى يتحرك عن خصوص الوجود العلمي أو الاحتمالي للأمر بالزائد وهذا ما يسمى بالخطإ في التقييد وهذا التحرك أيضا قربي إذ لا يقصد بالقربة إلا ان يكون تحركه من أجل امر المولى ولو فرض انه لم يكن يتحرك لو كان يتصور امر المولى بشكل آخر ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله من الفقه.


« خاتمة »

في شرائط جريان الأصول المؤمنة

وقد تعرضوا تحت هذا العنوان إلى شرطين أساسيين :

أحدهما ـ لزوم الفحص عن الحجة على الإلزام.

الثاني ـ ما ذكره الفاضل التوني ( قده ) من اشتراط عدم استلزامها للضرر ، فالبحث في مقامين :

« وجوب الفحص »

المقام الأول ـ في وجوب الفحص عن الحجة على الإلزام قبل إجراء الأصول المؤمنة ، والبحث عن ذلك تارة بلحاظ الشبهات الحكمية ، وأخرى بلحاظ الشبهات الموضوعية بعد الفراغ عن لزومه في الشبهات الحكمية.

اما الشبهة الحكمية فالأصل المؤمن فيها تارة يكون عقليا كما إذا قلنا بالبراءة العقلية ، وأخرى يكون شرعيا.

اما البراءة العقلية فقد بنوا على اختصاصها بما بعد الفحص وعدم وجدان دليل على الإلزام ، وذهب المحقق الأصفهاني ( قده ) إلى عدم الاختصاص.

وقد عرفت فيما سبق عدم وجود حكم عقلي بالبراءة في حق المولى الحقيقي ومما يؤيد تاريخيا إنكارنا لهذه القاعدة انا نجدها في كلمات الشيخ الطوسي ( قده ) والمحقق


والعلامة تفسر باستصحاب حال العقل الحاكم بعدم التكليف قبل الشرع وبعد هذا جعلت البراءة أمارة على عدم الحكم من باب ان عدم الوجدان دليل على عدم الوجود ثم أرجعت إلى قانون استحالة التكليف بغير المقدور خلطا بين الجهل بالحكم بمعنى الإبهام المطلق وبين الشك وانما طرحت البراءة كأصل عقلي مؤمن من خلال تحقيقات مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني ( قده ) وقد تقدم شرح ذلك مفصلا في أول الكتاب. وواقع المطلب ان هذه القاعدة عقلائية لا عقلية فتختص بالمولويات العرفية العقلائية ولا تتم في حق الشارع الأقدس التي تكون مولويته ذاتية ومطلقة شاملة للأحكام المعلومة والمشكوكة معا. وفي المولويات العقلائية لا يبعد الاختصاص بما بعد الفحص أي ان حكمهم بعدم حق الطاعة في موارد الجهل مختص بما إذا فحص المكلف عن الحكم الإلزامي ولم يجده لا ما إذا ترك الفحص عنه رأسا.

واما البراءة الشرعية فالمشهور بينهم ان أدلة البراءة الشرعية بنفسها وإن كانت مطلقة ولكن هناك مانع عقلي أو شرعي عن التمسك بهذا الإطلاق.

وفيما يلي نستعرض مهم الوجوه التي ذكرت أو يمكن ان تذكر لإثبات اختصاصها بما بعد الفحص :

الوجه الأول ـ ما هو المختار من قصور أصل مقتضي البراءة الشرعية فيما قبل الفحص وعدم الإطلاق في أدلتها ، وذلك يظهر بمقدمتين :

الأولى ـ ما تقدم الآن من إنكار البراءة العقلية وانها عقلائية بالمعنى المتقدم شرحه.

الثانية ـ انه مهما وجد ارتكاز عقلائي بنكتة عامة في مورد وورد من الشارع نصّ يطابقه كان ظاهر ذلك الخطاب إمضاء القانون العقلائي بما له من نكتة مركوزة فلا ينعقد فيه إطلاق أوسع من دائرة ذلك الارتكاز العرفي والعقلائي وإن فرض عدم قيد فيه بحسب المداليل اللغوية وهذه كبرى كلية طبقناها على دليل حجية خبر الثقة أيضا.

وبناء على هاتين المقدمتين يقال في المقام بان أدلة البراءة الشرعية تنصرف إلى إمضاء القانون العقلائي بمعذرية الجهل وبما ان هذا القانون مختص عندهم بما بعد الفحص فلا ينعقد في أدلة البراءة إطلاق لأكثر من ذلك.

لا يقال : غاية ما يثبت بهذا الوجه عدم الدليل على البراءة في الشبهة الحكمية قبل


الفحص ولكن حيث ان هذه المسألة الأصولية بنفسها شبهة حكمية فلو فحص فيها المجتهد ولم يجد دليلا على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص ـ والا كان ذلك الدليل هو المدارك على الاحتياط ـ أمكنه إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الاحتياط وهذا حكم الظاهري طولي في شبهة بعد الفحص ولا مانع من إجراء الأحكام الظاهرية الطولية وهي تؤمن عن الواقع إذا كان الشك في الحكم الظاهري الأولي بإيجاب الاحتياط واهتمام المولى بنحو الشبهة الموضوعية ـ كما إذا شك في تحقق موضوعية ـ أو الحكمية إذا ما شك في جعل حكم ظاهري إلزاميّ بالخصوص كجعل إيجاب الاحتياط في المقام.

فانه يقال : أولا ـ ان دائرة الارتكاز العقلائي المذكور تشمل البراءة الطولية أيضا وإن كانت بعد الفحص عن جعل إيجاب الاحتياط لأنها تريد التأمين عن الواقع في هذه المرتبة.

وإن شئت قلت : ان الفحص اللازم في التأمين عن كل حكم إلزاميّ هو الفحص عما يثبته وينجزه سواء كان حكما ظاهريا كإيجاب الاحتياط أو واقعيا كما إذا فحص ووصل إلى الواقع فما دام لم يفحص المكلف عن الواقع لا يمكنه إجراء البراءة الطولية أيضا.

وثانيا ـ يمكن دعوى إمضاء الشارع للمرتكز العقلائي بحديث الإيجابي والسلبي معا بحيث يستفاد من ذلك إمضاء طريقتهم في منجزية الاحتمال قبل الفحص في الشبهة الحكمية.

الوجه الثاني ـ دعوى قصور المقتضي بعد ملاحظة مجموع أدلة البراءة بعضها مع بعض فان ما تم لدينا من أدلة البراءة من الكتاب الكريم آيتان إحداهما : قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا الا ما أتاها ) (١) والثانية قوله تعالى ( ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) (٢) وهما تدلان بلحاظ عقد المستثنى على عدم البراءة عند ثبوت الإيتاء والتبيين للناس وليس المتفاهم عرفا من ذلك انه لا بد وان يطرق المولى

__________________

(١) الطلاق.

(٢) التوبة : ١١٥.


باب كل مكلف ويؤتيه الحكم بل اللازم جعله في معرض الوصول إلى المكلفين وهو أعم من فرض الوصول إليه فعلا فتعارض الآيتان ما قد يفترض الإطلاق فيه من الروايات الدالة على البراءة كحديث الرفع مثلا ويقدم إطلاق الكتاب على إطلاق الرواية لكونه قطعي السند (١) ولو فرض التكافؤ فيتعارضان ويتساقطان ويرجع عندئذ إلى الاحتياط أيضا والبراءة الطولية قد عرفت انها داخلة في البراءة قبل الفحص أيضا ما لم يفحص عن الحكم الواقعي.

لا يقال : غاية ما يثبت من تقديم إطلاق الكتاب على إطلاق الحديث اشتراط عدم وجود بيان في معرض الوصول لجريان البراءة وهذا يمكن تنقيحه باستصحاب موضوعي وهو استصحاب عدم صدور بيان في معرض الوصول وينقح بذلك موضوع المستثنى منه في الآية.

فانه يقال ـ الخطاب الدال على الاحتياط في موارد وجود حكم إلزاميّ في معرض الوصول لا يجعل الاحتياط مشروطا بوجود الحكم في معرض الوصول بحيث يكون ذلك مأخوذا في موضوع إيجاب الاحتياط بل يجعل احتماله منجزا في مورد الشك فيكون بنفسه إلغاء لكل أصل مؤمن في مورده سواء كان براءة أو استصحابا موضوعيا.

الوجه الثالث ـ دعوى قصور المقتضي أيضا بملاحظة مبنانا في إجمال الخطاب كلما احتمل وجود قرينة متصلة معه فانه في المقام من المحتمل وجود قرينة ـ ولو ارتكازية ولبية ـ صارفة لإطلاق الخطاب عن موارد ما قبل الفحص حيث كان يعرف من حال النبي 6 والأئمة : شدة اهتمامهم بنشر الأحكام وتبليغها وترويجها وتعليمها للناس وحثهم على ذلك فان هذا المطلب المعلوم من حال الشارع إن لم يوجب القطع بكونه قرينة لبية صارفة فلا أقل من احتمال قرينيته الموجب للإجمال ، ولا يكفي سكوت الراوي لنفيه لكونه امرا ارتكازيا وقد ذكرنا في محله ان سكوت الراوي عن ذكر القرائن اللبية الارتكازية لا تشكل شهادة على نفيها.

الوجه الرابع ـ ما جاء في كلمات السيد الأستاذ من ان حكم العقل البديهي

__________________

(١) ليست الآيتان بصدد تشريع إيجاب الاحتياط في موارد إيتاء الحكم وبيانه للناس وانما عقد المستثنى فيهما لبيان مورد البراءة المشرعة في عقد المستثنى منه وحدها لا أكثر فلا يمكن ان يستفاد من عقد المستثنى جعل إيجاب الاحتياط فضلا من ان يستفاد منها إطلاق وان يكون في مقام البيان من ناحيته ليوقع المعارضة بينه وبين إطلاق حديث الرفع.


بوجوب الفحص عن الأحكام وعدم العذر في غمض العين وإجراء البراءة من دون التحري عن الحكم أصلا بنفسه قرينة على عدم إرادة الإطلاق من أدلة البراءة لما قبل الفحص بل هو كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد أصل الإطلاق (١).

وفيه : ان حكم العقل هذا وإن كان مسلما الا انه على ما تقدم حكم تعليقي يكون ورود الترخيص والاذن الشرعي رافعا لموضوعه فكيف يعقل جعل مثل هذا الحكم التعليقي العقل مانعا عن الإطلاق ، نعم يمكن ان يكون المقيد هو الارتكاز العقلائي الّذي أشرنا إليه.

الوجه الخامس ـ ان يقال بان دليل البراءة مقيد بعدم قيام أمارة معتبرة على خلافها وقبل الفحص يكون التمسك بالطلاق دليل البراءة تمسكا بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه بناء على ان الحجة مانع عن البراءة بوجودها الواقعي وان الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية كما هو الصحيح والمختار.

ولا يقال ـ ان مقتضى ذلك عدم إمكان التمسك بالبراءة حتى بعد الفحص لاحتمال وجود حجة إلزامية واقعا ولم تصل إلينا.

لأنه يقال ـ لا يستفاد من الأدلة على حجية خبر الثقة أو الظهور حجية خبر أو ظهور ليس في معرض الوصول لأن مهم الدليل عليها السيرة وهي قاصرة عن إثبات ذلك.

الا ان هذا الوجه غير تام ، فانه يمكن إجراء البراءة الطولية بلحاظ الشبهة الموضوعية للأمارة أو إجراء استصحاب عدمها ولا منافاة بين مفاد هذا الأصل الموضوعي والحجية الظاهرية للأمارة المشكوكة على تقدير ثبوتها لأن نسبته إليها كنسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي وهو يؤمن عن الواقع في هذه المرتبة. نعم لو أبرز العلم الإجمالي بوجود اخبار معتبرة على الإلزام في مجموع الشبهات قبل الفحص لم يجر الأصل الموضوعي الا ان هذا رجوع إلى وجه آخر وهو إبراز المانع عن التمسك بإطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص ، وسوف يأتي بعض الفروق بين هذه الصياغة للعلم الإجمالي وما أبرزوه من العلم الإجمالي بالإلزام.

الوجه السادس ـ دعوى وجود المانع عن التمسك بإطلاق أدلة البراءة للشبهة قبل

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩٣.


الفحص لو تم إطلاق فيها ، والمانع هو العلم الإجمالي بالإلزام ضمن دائرة الشبهات قبل الفحص أو العلم الإجمالي بوجود أمارات معتبرة إلزامية.

وقد اعترض على هذا الوجه باعتراضات عديدة.

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المشهور من ان إبراز العلم الإجمالي بالتكاليف كما يوجب سقوط البراءة في الشبهة قبل الفحص يوجب سقوطها بعده أيضا لأن العلم الإجمالي لا ينحصر بموارد الأمارات الإلزامية بل هو علم إجمالي في مجموع الشبهات وهذا هو العلم الإجمالي الّذي استند إليه الاخباري لإثبات الاحتياط ـ فإذا تنجزت أطرافه لم يجز الرجوع إلى الأصل بعد الفحص أيضا لأن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر بعد حصول العلم لا يوجب حياة الأصول المتعارضة في سائر الأطراف ففرض التمسك بالأصل بعد الفحص هو فرض دفع إشكال تنجيز العلوم الإجمالية في المقام بوجه من الوجوه.

وللأصوليين في التوفيق بين موقفهم في إبطال تمسك الاخباري بالعلم الإجمالي في مجموع الشبهات لإثبات الاحتياط وموقفهم في المقام حيث تمسكوا بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الاخبار أو بالعلم الإجمالي بالأخبار الإلزامية لإثبات عدم جريان البراءة في الشبهات قبل الفحص أجوبة عديدة :

الجواب الأول ـ اننا لا ندعي انحلال العلم الإجمالي الكبير بما نظفر به من الاخبار والأمارات المعتبرة بل ندعي انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعية ضمن اخبار لثقات أو بالعلم الإجمالي بوجود اخبار معتبرة وهي اخبار الثقات وهذا علم إجمالي مقارن زمانا مع العلم الإجمالي الكبير بالتكاليف يوجب انحلاله من أول الأمر واختصاص منجزيته بدائرة العلم الإجمالي الصغير غاية الأمر قبل الفحص يكون كل شبهة طرفا من أطراف العلم الإجمالي الكبير والصغير معا بخلافها بعد الفحص وعدم وجدان أمارة معتبرة فيها حيث يحرز خروجها عن دائرة العلم الإجمالي الصغير فتجري البراءة فيها بلا محذور.

وهذا الجواب يبتني على صحة دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ضمن ما بأيدينا من الاخبار ، وقد تقدم في بحث حجية خبر الواحد المناقشة في ذلك مفصلا فلو تمت دعوى الانحلال كان هذا الموقف في المقام منسجما كمال


الانسجام مع موقف الأصولي في رد منجزية العلم الإجمالي الكبير الّذي تمسك به الاخباري في بحث البراءة والاحتياط.

الجواب الثاني ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) والسيد الأستاذ من ان الأصول قبل الفحص في الشبهات ليست متعارضة ومتساقطة بل غير جارية لكون الشبهة قبل الفحص أو لاحتمال وجود المنجز وهو خبر الثقة قبل الفحص على حد تعبير المحقق العراقي ( قده ) وعليه ففي كل مورد نفحص ولا نجد حجة على الإلزام تجري البراءة ولا تعارض بالبراءة في سائر الشبهات لأنها في نفسها ليست مجرى للبراءة قبل الفحص.

وهذا الموقف منسجم أيضا مع الموقف السابق للأصولي الا انه رجوع إلى وجه آخر وهو قصور مقتضي البراءة في الشبهة قبل الفحص فلو فرض تمامية المقتضي وأريد الاعتماد على مانعية العلم الإجمالي رجع إشكال الاخباري لا محالة.

الجواب الثالث ـ انه بناء على ما هو المختار والصحيح من ان التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية كالاحكام الواقعية تكون البراءة الشرعية مقيدة موضوعا بغير موارد الأمارة المعتبرة ومعه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الشبهة قبل الفحص لا ابتداء لأنه يشك في موضوعها أي يكون من اشتباه الحجة باللاحجة ولا بتوسط إجراء أصل طولي موضوعي كاستصحاب عدم الحجة في مورده لعلم الإجمالي بوجود حجج وأمارات معتبرة ضمن الشبهات نحصل عليها بعد الفحص فهذا العلم الإجمالي الصغير بوجود الحجج والأمارات المعتبرة فيما بأيدينا يوجب سقوط الأصول المؤمنة الموضوعية ، بعد الفحص وعدم الظفر بالأمارة في مورد يتمسك فيه بالبراءة عن الواقع ولم يكن هذا الأصل ساقطا من أول الأمر بل نكن نعرف مورده ثم عرفناه ، وهذا من نتائج مبنانا من ثبوت المنافاة بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره في الكفاية من ان الاستدلال بالعلم الإجمالي لا يفي بإثبات تمام المدعى لأنه ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف بعد الفحص في جملة من الشبهات فيلزم عدم وجوب الفحص في باقي الشبهات.

وحاول المحقق النائيني ( قده ) دفع هذا الاعتراض بان المعلوم بالإجمال ذو علامة متميزة فكيف يعقل انحلاله قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم بما له من العلامة


والتميز نظير ان يعلم إجمالا بدين مردد بين الأقل والأكثر مع العلم بكونه مضبوطا في الدفتر فهل يتوهم أحد جواز الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد على المتيقن قبل الفحص عما في الدفتر.

وهذا الجواب غير تام صغرى وكبرى ، إذ مضافا إلى إمكان منع وجود ميز كذلك بل المعلوم بالإجمال مع المعلوم بالتفصيل بعد الفحص في جملة من الشبهات متطابق يرد عليه كفاية ذلك في الانحلال الحكمي.

فالصحيح : ان أصل هذا الاعتراض متين في الجملة إذا بنينا على انحلال العلم الإجمالي المتقدم بالمنجز المتأخر فليس هذا الدليل وافيا بتمام المدعى ، نعم قد نحدد عمر هذا العلم الإجمالي حتى بعد حصول نفس المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف الإلزامية تفصيلا في موارد الشبهات التي فحصنا عنها لأننا لا نحتمل خلو كل الشبهات الباقية خصوصا إذا كانت أبوابا فقهية بكاملها عن حكم إلزاميّ أو رواية معتبرة.

الاعتراض الثالث ـ إذا وجد في بعض الأطراف أصل غير مسانخ فهذا العلم الإجمالي لا يؤثر في إسقاطه عن الحجية بناء على ما مضى في بحوث ملاقي طرف العلم الإجمالي من ان الأصل غير المسانخ يبقى سليما عن المعارضة بعد تعارض الأصول المؤمنة المسانخة وتساقطها فمثلا إذا شك في طهارة شيء بنحو الشبهة الحكمية كانت أصالة البراءة أو الإباحة في الشبهات أصلا ترخيصيا مسانخا فتتساقط وتجري أصالة الطهارة في هذه الشبهة بلا معارض.

وهذا الاعتراض يمكن ان يجاب عليه على مبانينا من التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ، فانه على هذا التقديرين يكون الأصل في كل شبهة من اشتباه الحجة باللاحجة بالبيان المتقدم شرحه سواء كان الأصل مسانخا أو غير مسانخ نعم تجري الأصول الطولية بلحاظ الشبهة الموضوعية للحجة من البراءة الطولية أو استصحاب عدم الحجة وهي متسانخة في جميع الأطراف فتسقط جميعا وهذه أيضا من نتائج المبنى المختار.

الاعتراض الرابع ـ ما يرد بناء على مبنى جريان الأصل الطولي في أطراف العلم الإجمالي بعد سقوط الأصول العرضية فان هذا قد يتفق في المقام كما في أصالة البراءة في مورد أصالة الطهارة من الشبهات الحكمية.


وهذا الاعتراض أيضا يجاب عليه على ضوء مبنانا بما تقدم من ان المقام من اشتباه الحجة باللاحجة لتقدم الأمارات التي في معرض الوصول على الأصول المؤمنة فتتقيد بعدمها لا محالة فمع الشك فيها لا يجوز الرجوع إليها الا بالرجوع إلى الأصل الموضوعي أو البراءة الطولية وهي في جميع الشبهات في عرض واحد.

الوجه السابع ـ اننا نستظهر عرفا من نفس دليل الحكم الواقعي ان الشارع يهتم به في مرحلة الظاهر أيضا بمقدار موارد العلم به ولو علما إجماليا بنحو الشبهة المحصورة وكذلك موارد ما قبل الفحص فانه بمر العقل وإن كان يمكن ان لا يهتم المولى بأغراضه الإلزامية بمجرد الشك والتردد الا ان هذا خلاف المرتكز عرفا ، وعليه فينعقد للخطاب الدال على الحكم الواقعي دلالة التزامية عرفية على إبراز الاهتمام وإيجاب الاحتياط تجاه الواقع بهذا المقدار وعليه إذا كانت الشبهة قبل الفحص واحتملنا وجود خطاب كذلك لم يجز الرجوع إلى البراءة لأن دليلها ليس بصدد نفي الإلزام الواقعي فيكون دليله المحتمل دالا على نفي البراءة لا محالة ولا يمكن إجراء البراءة الطولية أي البراءة عن إيجاب الاحتياط قبل الفحص لأن هذه أيضا منافية عرفا مع الحكم الواقعي على تقدير وجوده فلا تفهم من دليل البراءة الّذي ليس بصدد نفي الحكم الواقعي. نعم قد يتمسك بالبراءة العقلية إذا قلنا بها قبل الفحص لأن المفروض ان الخطاب الواقعي لم يصل إلينا ولكن قد عرفت عدم تماميتها في نفسها وعدم جريانها قبل الفحص لو قيل بها.

فالحاصل ـ بناء على هذا الاستظهار العرفي لو ثبت دليل على حكم إلزاميّ كان بحسب الحقيقة مقيدا لإطلاق دليل البراءة قبل الفحص عند الشك في ذلك الحكم ـ والّذي يكون بنحو الشبهة الموضوعية لا محالة بعد فرض ثبوت أصل ذلك الحكم ـ ونافيا للبراءة الشرعية والعقلية في مورد الشك فيه فإذا ضممنا إلى هذه المقدمة ثبوت الدليل على حجية خبر الثقة الّذي قد يكون إلزاميا وافترضنا وصول ذلك للمكلف لم يجز له الرجوع إلى البراءة قبل الفحص عن خبر الثقة إلى قد يكون إلزاميا في أية شبهة حكمية فان دليل الحكم الواقعي وإن لم يكن وأصلا الا ان دليل حجية الخبر وأصل وهو يدل بحسب الفرض على لزوم الاحتياط وعدم غمض العين حتى في الشبهة الموضوعية في المقام لأنها شبهة حكمية في روحها ـ.


الوجه الثامن ـ ان نستفيد من نفس المقدمة الموضحة في الوجه السابق بعد ضمه إلى العلم إجمالاً بوجود بعض الخطابات الشرعية ضمن الشبهات ، وهذا العلم الإجمالي فيما سبق كنا نستفيد منه في إيقاع التعارض والتساقط بين الأصول المؤمنة في الأطراف امّا هنا فنستفيد منه في المقام لإثبات التقييد في أدلة الأصول المؤمنة بلحاظ ما قبل الفحص فيكون من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

الوجه التاسع ـ التمسك باخبار وجوب التعلم ، وهذا الوجه انما ينفع لمن عرف صدفة اخبار وجوب التعلم وتماميتها سندا ودلالة ، واما من لم يعرف ذلك فلو لم يتم في حقه في المرتبة السابقة منجز لوجوب الفحص فلا تجدي له هذه الاخبار.

وقد اعترض في تقريرات المحقق العراقي على الاستدلال بهذه الاخبار بوجوه عديدة :

الأول ـ ان بالإمكان حملها على موارد العلم الإجمالي بالتكليف الّذي هو الغالب في موارد الشك قبل الفحص.

وفيه : انه خلاف إطلاقها بل خلاف ظهورها في ان منشأ التنجز كونه لا يعلم لا كونه يعلم بالتكليف إجمالا.

ثم لو غض النّظر عن هذا الاستظهار فالنسبة بين إطلاقها وإطلاق أدلة البراءة الشرعية العموم والخصوص المطلق إذا فرض خروج الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي عن أدلة البراءة بالمخصص العقلي المنفصل ، فيكون قد ورد عليه تخصيصان أحدهما حكم العقل بقبح المعصية والآخر هذه الاخبار فتتقيد بغيرهما. واما إذا قلنا بان خروج أطراف العلم الإجمالي يكون على أساس قرينة متصلة ارتكازية ـ كما هو الصحيح ـ فالنسبة بينهما عموم من وجه لشمول هذه الاخبار دون أدلة البراءة لأطراف العلم الإجمالي وشمول أدلة البراءة دون هذه الاخبار للشبهات بعد الفحص ، فإذا لم يكن وجه لتقديم أدلة البراءة من جهة قطعية سندها ولو لوجود الكتاب ضمنها تعارض الإطلاقان وتساقطا في الشبهة غير المقرونة بالعلم الإجمالي قبل الفحص ، فلا تثبت البراءة حتى الطولية لما تقدم في بعض الوجوه السابقة.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى حكومة هذه الاخبار على أدلة البراءة بملاك النّظر ، لأنها تفترض الجهل واستناد المكلف إلى عدم العلم الّذي قد يقتضي الترخيص.


الثاني ـ ان هذه الاخبار مسوقة للإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الفحص ولزوم الاستناد إلى حجة ، فيكون حالها حال حكم العقل في الشبهة قبل الفحص من حيث كونه تعليقيا ومرفوعا بأدلة البراءة الشرعية لو تم إطلاقها.

وفيه : أولا ـ ان ظاهر هذه الاخبار عدم جواز إهمال الواقع ولزوم التصدي لمعرفته وتحصيل العلم به وانه منجز على المكلف لو لم يفحص عنه فاقتحمه ، وليس مفادها مجرد عدم جواز إهمال الوظيفة العملية ، وبناء عليه فلا وجه لحملها على الإرشاد إلى حكم العقل التعليقي.

وثانيا ـ لو سلمنا ان مفادها عدم جواز إهمال الوظيفة العملية عند الشك مع ذلك كان هذا الإرشاد من قبل المولى إلى حكم العقل كاشفا عن عدم جعله للبراءة فيكون بلحاظ هذا المدلول معارضا مع إطلاق أدلة البراءة لا محالة.

الثالث ـ ان هذا الاخبار أخص من المدعى لاختصاصها بما إذا كان التكليف الإلزامي بنحو بحيث لو سئل عنه لوصل إلى المكلف كما في حق المعاصرين للمعصوم 7 فلا تتم لمثل زماننا وأحوالنا.

وهذا الاعتراض يمكن تقريره بأحد نحوين :

١ ـ ان يكون المأخوذ في موضوع روايات الفحص العلم بأنه لو فحص لانكشف له الحال وحيث ان هذا العلم في أزمنتنا غير ممكن فالشبهات قبل الفحص خارجة عن مفاد هذه الروايات.

٢ ـ ان يكون المأخوذ واقع انكشاف الحال على تقدير الفحص وحيث ان هذا غير معلوم قبل الفحص فالتمسك بها لإثبات وجوب الفحص أشبه بالتمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وهذا الاعتراض بكلا تقريبيه لا يتم ، فان في مجموع روايات التعلم ما يمكن ان يكون دليلا على تنجز الواقع قبل الفحص بنفس احتمال التكليف ولو احتمل عدم انكشاف الحال حتى بعد الفحص.

وتفصيل الكلام في هذه الاخبار ان يقال بأنها تنقسم إلى طوائف :

الطائفة الأولى ـ ما دل على ان طلب العلم فريضة وهو منقول عن النبي 6 في روايات عديدة وفي طرق الخاصة والعامة مما يوجب الاطمئنان بصدور أصل هذا


الحديث عن النبي 6 وإن كانت خصوصية على كل مسلم ومسلمة ربما لم ترد في جميع هذه الطرق وأيا ما كان.

فمنها ـ ما في الكافي عن أبي عبد الله 7 قال ( طلب العلم فريضة ) (١). وعنه عن رسول الله 6 أنه قال : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا ان الله يحب بغاة العلم ) (٢).

ومنها ـ ما عن الإمام الرضا 7 عن آبائه 7 عن رسول الله 6 يقول : ( العالم بين الجهال كالحي بين الأموات وان طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه فاطلبوا العلم فانه السبب بينكم وبين الله وان طلب العلم فريضة على كل مسلم.

ومنها ـ ما عن الإمام الرضا 7 عن أمير المؤمنين 7 قال سمعت رسول الله 6 يقول ( طلب العلم فريضة على كل مسلم فاطلب العلم في مظانه واقتبسوه من أهله فان تعلمه لله حسنة وطلبه عبادة والمذاكرة فيه تسبيح والعمل به جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل الجنة والمؤمن من الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل في السراء والضراء والسلاح على أعداء الدين ، والزين على الأخلاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم في صلواتها تبارك عليهم ، يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه ... إلخ ).

وهذه الطائفة لا إشكال في دلالتها على لزوم طلب العلم الا ان حملها على مجرد الاطلاع على الأحكام اللزومية الواقعية الداخلة في محل الابتلاء والّذي هو معنى وجوب الفحص خلاف الظاهر وانما الظاهر منها الحث على لزوم تحصيل الثقافة الإسلامية التي كان يعبر عنها وقتئذ بالعلم بقول مطلق ، وهذا المعنى من العلم لا يفرق فيه بين الأحكام الداخلة في محل ابتلاء الشخص وغيرها ولا يشمل هذا العلم مجرد التقليد

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب فضل العلم ، باب فرض العلم ووجوب طلبه ، ح ٢.

(٢) نفس المصدر ، ح ١.


والسؤال عن الفتوى ولا المعرفة البسيطة فان العلم لغة وإن كان بمعنى الانكشاف ولكن بحسب المصطلح العرفي السائد اجتماعيا منذ عصر الأئمة وإلى يومنا هذا يطلق على مرتبة مخصوصة ومعمقة من المعرفة وليس كل انكشاف علما فتكون هذه الروايات ظاهرة في إرادة هذا المعنى من طلب العلم ، ويؤيد ذلك القرائن المنتشرة في متونها حيث ورد في بعضها المقارنة بين حال العالم والجاهل ، وذكر في بعضها فوائد العلم وشأن العالم وجلالته وان العلم يؤنس الإنسان في وحشته وغربته وهو السلاح على الأعداء والزين على الأخلاء إلى غير ذلك وهذا كله انما يناسب المعنى الّذي ذكرناه وهي وإن كانت ظاهرة في لزوم ذلك على كل مسلم الا انه بقرينة ما دل على سقوطه بقيام من به الكفاية به في كل زمان وبمثل آية النفر من الأدلة الدالة على عدم وجوب ذلك على كل الناس عينا بل كفاية تحمل هذه الطائفة على الوجوب الكفائي.

الطائفة الثانية ـ ما تأمر بالتفقه في الدين من قبيل رواية علي بن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله 7 يقول ( تفقهوا في الدين فان من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي ان الله تعالى يقول في كتابه « ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ... إلخ » ) (١) وأيضا عن مفضل بن عمر قال سمعت أبا عبد الله 7 يقول : ( عليكم بالتفقه في دين الله فلا تكونوا أعرابا فان من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عمل ) (٢).

وهذا الطائفة أيضا تنظر إلى ما ذكرناه في معنى الطائفة السابقة لأن هذا هو المراد من التفقه في الدين ويشهد عليه استشهاد الإمام 7 بآية النفر والتعبير بان من لم يتفقه في الدين يكون أعرابيا أي متخلفا عن الهجرة إلى الإسلام وإلى العلم ، وعلى كل حال فهي أجنبية عن مسألة منجزية الاحتمال قبل الفحص.

الطائفة الثالثة ـ ما تأمر بالسؤال عن الأئمة : والرجوع إليهم لأنهم هم أهل الذّكر كما ورد في تفسير هذه الآية ( نحن أهل الذّكر ) فتجب عليكم المسألة وهذه الطائفة لا بأس بالاستدلال بها في المقام لأنها متعرضة لذلك ، ولكن يأتي فيها الاعتراض

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب فضل العلم ، باب فضل العلم ووجوب طلبه ، ح ٦.

(٢) نفس المصدر ، ح ٧.


المتقدم من اختصاصها بخصوص السؤال عن الإمام الّذي يعلم معه بحصول العلم بالحكم (١).

الطائفة الرابعة ـ ما تدل على استحقاق المتورط في المخالفة للواقع من جهة عدم السؤال والفحص للعقاب. وأحسن ما جاء في هذه الطائفة معتبرة مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد 7 وقد سئل عن قول الله تعالى ( فلله الحجة البالغة ) فقال 7 : ( ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالما؟ فان قال : نعم ، قال : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال كنت جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه وذلك الحجة البالغة لله عز وجل في خلقه ) (٢).

وهي لا بأس بدلالتها على المطلوب ، لأنها ناظرة إلى مسألة المنجزية وحجية الاحتمال قبل الفحص والسؤال ، وهي مطلقة من حيث العلم بانكشاف الواقع على تقدير السؤال وعدمه ، وقريب منها روايات أخرى واردة بنفس المضمون.

وهكذا يتضح صحة الاستدلال بهذه الروايات على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية.

ويمكن ان يستدل على وجوب الفحص والسؤال أيضا بفحوى مثل آية النفر الدالة على إيجاب النفر والتفقه في الدين على طائفة من المؤمنين دائما من أجل إنذار أقوامهم ، فان هذا يدل بالالتزام عرفا على إيجاب الفحص على الباقين وعدم جوازهما لهم لذلك.

الوجه العاشر ـ ما ذكره السيد الأستاذ من الاستدلال على وجوب الفحص باخبار الاحتياط والتوقف بعد الجمع بينهما وبين اخبار البراءة حيث تحمل على الشبهة قبل الفحص لكونها المتيقن منها ، وجملة منها واردة في ذلك فتكون كالنص بالنسبة إلى اخبار البراءة فيقيد إطلاقها ، وتخرج منها حالات الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فتنقلب النسبة بينها وبين سائر اخبار الاحتياط إلى العموم والخصوص المطلق (٣).

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الأول من أبواب المقدمات ، ح ٢٥.

(٢) الإنصاف ان هذه الطائفة أيضا أجنبية عن محل الكلام لأنها ناظرة إلى نفي مرجعية المصادر الأخرى للعلم غير أهل البيت : ولو أغمض عن هذا فلا بأس بإطلاقها للسؤال عن آرائهم وأحكامهم الواصلة من خلال الأحاديث المنقولة عنهم والسؤال عن الفقهاء وأصحابهم الذين يفصحون عن رأيهم فتعم غير زمانهم أيضا.

(٣) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩٤.


وهذا الوجه غير تام لا مبنى ولا بناء.

اما مبنى ، فلما يأتي في بحوث التعارض من بطلان نظرية انقلاب النسبة وانه إذا كانت إحدى الطائفتين المتعارضتين بنحو التباين نصا في بعض الحصص دون بعض ولو باعتبار كونه المورد لها فمثل هذه النصوصية الناشئة لا تكون منشأ للقرينية والتخصيص والجمع العرفي بين الطائفتين المتعارضتين.

واما بناء ، فلأنه لو سلم المبنى واعترف أيضا باخبار التوقف وتماميتها سندا ودلالة فهي تقدم على مثل حديث الرفع ونحوه لأنها أخص منها ، فان حديث الرفع يشمل حتى الشبهات الموضوعية بخلاف اخبار الاحتياط فتتقدم عليه بالأخصية حتى في الشبهات بعد الفحص.

الا ان الصحيح على ما تقدم عدم تمامية اخبار الاحتياط من حيث الدلالة على إيجاب الاحتياط الا بمعنى يكون محكوما لاخبار البراءة على وزان البراءة العقلية كما تقدم تفصيله.

هذا كله في الشبهة الحكمية.

واما الشبهة الموضوعية ، فالكلام عنها أيضا تارة في البراءة العقلية ، وأخرى في البراءة الشرعية.

اما البراءة العقلية ، فقد عرفت انها ليست ثابتة الا كقاعدة عقلائية مرتكزة بالنسبة إلى الموالي العقلائية ، وظروف هذا الارتكاز ومناشئه وترسخه في أذهان العقلاء تختص بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبل الفحص حتى بلحاظ الشبهة الموضوعية في الجملة ، فان مرتبة من الفحص بحيث لا يصدق عليه انه تهرب عن الحكم وإغماض العين عنه لازم في الركون إلى هذا التأمين العقلائي حتى في الشبهة الموضوعية.

واما البراءة الشرعية ، فلا يوجد قبال إطلاق أدلة البراءة للشبهات الموضوعية قبل الفحص من الوجوه المتقدمة في الشبهة الحكمية الا الوجه الأول والوجه السابع أي دعوى إمضائية أدلة البراءة العقلائية.

فلا يكون فيها إطلاق لأكثر منها ، وقد عرفت عدم شمولها لموارد الفحص بمقدار غمض العين والتهرب عن الواقع. ودعوى ان المدلول الالتزامي العرفي لدليل التكليف


بشيء هو الاهتمام به في مرحلة الظاهر أيضا بهذا المقدار. واما سائر الوجوه فهي مخصوصة بالشبهات الحكمية جميعا كما يظهر وجهه بالتأمل فيها.

الا ان هذين الوجهين غاية ما يثبتان لزوم الفحص في الشبهة الموضوعية بمقدار لا يصدق غمض العين عن الحكم والتهرب منه ، هذا كله على مقتضى الأدلة العامة على البراءة في الشبهة الموضوعية.

ولكن وردت روايات خاصة في بعض الأبواب الفقهية تصرح بعدم وجوب الفحص في شبهات موضوعية حتى بهذا المقدار بحيث لو لم يقتنص منها قاعدة عامة في عدم لزوم الفحص في الشبهة الموضوعية فلا أقل من العمل بها في أبوابها.

منها ـ صحيحة زرارة الثانية في الاستصحاب التي ورد فيها ( فهل علي إن شككت في انه اصابه شيء ان انظر فيه؟ قال : لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الّذي وقع في نفسك ) (١). فانها تدل على جواز غمض العين وعدم لزوم الفحص حتى بهذا المقدار.

ومنها ـ ما ورد أيضا في باب الطهارة والنجاسة عن أمير المؤمنين 7 يقول ( ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لا أعلم ) (٢). وهو واضح أيضا في عدم لزوم التصدي والفحص عن النجاسة المحتملة حتى بهذا المقدار.

ومنها ـ روايات عديدة واردة في موارد الشك في تذكية ما يؤخذ من سوق المسلمين أو كونها ميتة أو فيه الميتة ، وهي تصرح بعدم لزوم الفحص والسؤال وانه ليس عليكم المسألة ، وفي بعضها ( ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالته ان الدين أوسع من ذلك ) (٣) فما لم يعلم بأنه ميتة حلال طاهر ، وهي أيضا واضحة في الدلالة على نفي لزوم أصل التصدي والفحص. هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

ويجدر في خاتمة هذا البحث الإشارة إلى أمور :

الأول ـ حول مقدار الفحص اللازم من ناحية السند والنقل ، فهل يجب التصدي لكل احتمال حتى إذا احتمل مثلا وجود رواية في كتاب أدبي أو لغوي أو يكتفى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ١٠٥٤ ، أبواب النجاسات.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ١٠٧٢.


بالفحص عن الروايات والأدلة في مظان وجودها. ومن حيث الدلالة والظهور ، فهل يجب الفحص الكامل حتى بالرجوع إلى الأعلم مثلا إن احتمل التفاته إلى خصوصية تثبت الدلالة والظهور أم لا؟

الصحيح ان تحديد ذلك يكون بالرجوع إلى الوجوه المتقدمة في إثبات وجوب الفحص ليرى ما ذا يستفاد منها.

اما الوجه الأول ، فقد يقال : ان غاية ما يقتضيه عدم لزوم غمض العين وعدم الفحص عن الرواية في مظان وجودها : نظير ان الحكومات تنشر قوانينها في مجلات أو جرائد رسمية معينة فيجب الفحص فيها دون غيرها من المصادر فإذا فحص عن ذلك فلم يجد لا يصدق في حقه غمض العين والتهرب عن الحكم ولو فرض وجود نقل في كتاب خارج عن مصادر الحديث الموضوعية لذلك.

الا ان الإنصاف ان هناك فرقا بين البابين ، فان المصادر الرسمية للعقلاء موضوعة من قبلهم لذلك بخلاف مصادر الحديث والرواية عندنا فانها لم تكن موضوعة من قبل الشارع الأقدس وانما بين الشارع في توضيح كيفية تبليغ الأحكام ان خبر الثقة حجة عليكم ، واما هذه الكتب فمربوطة بالمؤلفين والمصنفين الذين جاءوا بعد ذلك وحاولوا تجميع الروايات وتدوينها في مجاميعهم ، ولم يرد تصريح من المعصوم 7 بأنه متى ما أردتم الاطلاع على أحكامي وتشريعاتي فراجعوا الكتب الأربعة مثلا ، اذن فلا بد من الفحص عن كل احتمال لوجود خبر ثقة على الحكم ولو فرض في غير هذه الكتب إلى ان يطمئن بعدم وجوده لأن ما يكون في معرض ان يصل إليه خطاب المولى لا يكون محدودا بخصوص هذه الكتب بل يكون منتشرا في تمام ما يصل إلينا مما يمكن ان يكتب فيه حديث النبي 6 أو الإمام 7 فمن ناحية السند لا بد من الفحص حتى يحصل الاطمئنان بعدم وجود رواية معتبرة ولا يبعد حصول ذلك عادة بمجرد عدم وجدانها في الكتب المعدة من قبل علمائنا لذلك لأن احتمال غفلتهم عن نقلها وضبطها بعيد جدا ، نعم لو فرض ان فقيها أفتى بحكم استنادا إلى رواية ، ادعى ووجودها في كتاب لغة مثلا أو عقائد وجب الفحص والرجوع إليه لزوال الاطمئنان بالعدم بذلك كما هو واضح.

واما من ناحية الدلالة ، فالفحص اللازم انما هو بمقدار الخبرة الذاتيّة للمجتهد


الخبير فلا بد له ان يعمل قدرته في فهم المعنى من اللفظ بالنحو المتعارف بين الخبراء بالنسبة إلى تلك المادة العلمية وقد يدخل في المتعارف الاستفادة من خبرات الآخرين خصوصا السابقين عليه واما أكثر من ذلك بحيث كلما احتمل ان خبيرا آخر تنبه لنكتة لم يلتفت هو إليها أو احتمال ان أشخاصا آخرون استفادوا من الأصول الموضوعية المشتركة بينه وبينهم ما لم يستفده هو منها فالفحص عنه غير لازم لأن مثل هذا الارتكاز غير موجود عند العقلاء ولا معمول به فيرجع إلى أدلة الأصول العملية لإطلاقها وعدم وجود مقيد لها.

واما الوجه الثاني ، وهو إيقاع المعارضة بين إطلاق البراءة وإطلاق عقد المستثنى في قوله تعالى ( حتى يبين لهم ) فمن حيث السند يصدق البيان لو فرض وجود رواية معتبرة واصلة في الكتب ولو غيره المتعارفة فيجب الفحص عند احتماله ، ومن حيث الدلالة لا يصدق البيان لمجرد احتمال نكتة فنية قد يلتفت إليها خبير آخر مثله لأنه قد فحص بالمقدار الّذي يكلفه الارتكاز العقلائي في باب تحصيل الخبرة ولم يصل إلى الحكم فلا يصدق انه قد بين له المولى ولم يفحص عنه فالنتيجة نفس ما تقدم.

واما الوجه الثالث فائضا كذلك لأن مدرك القرينية العرفية المحتملة ما ذكرناه في الارتكاز العقلائي ، وقد عرفت التفصيل فيه بين الناحيتين.

وأوضح منه الوجه الرابع الّذي كان يرجع إلى حكم العقل والعقلاء.

واما الوجه الخامس وهو دعوى ان الشبهة مصداقية لدليل البراءة مع احتمال وجود أمارة معتبرة في معرض الوصول فهي تجري بلحاظ احتمال وجود رواية في أي كتاب ولا تجري بلحاظ احتمال نكتة لدى خبير آخر تغير الدلالة لأن الظهور حجة ما لم يثبت خلافه سواء في ذلك الظهور النوعيّ أو الشخصي الكاشف عنه طالما يكون قد أعمل خبرته بالنحو المتعارف اللازم عقلائيا.

واما الوجه السادس هو العلم الإجمالي بالتكاليف أو الحجج الظاهرية في الشبهات فهذا لا يجري لا من حيث السند ولا الدلالة لانحلال العلم الإجمالي بالرجوع إلى الكتب المعدة لتجميع الروايات والأحاديث فلا يجب الفحص بلحاظ هذا الوجه من ناحية السند فضلا عن الدلالة.

واما الوجه السابع وهو الدلالة الالتزامية لدليل حجية خبر الثقة فقد عرفت انها


مبنية على حكم الارتكاز العقلائي المتقدم شرحه فلا يقتضي لزوم الفحص عن كل احتمال الا من ناحية السند ، ومثله الوجه الثامن.

واما الوجه التاسع وهو اخبار وجوب التعلم فمن حيث السند لا بأس بدلالتها على لزوم الفحص عن كل احتمال ، واما من ناحية الدلالة فتنصرف إلى الطريقة المتعارفة في الفحص والسؤال عند أهل الخبرة وقد عرفت ما هو اللازم فيها ، ومثلها الوجه العاشر أعني اخبار التوقف والإرجاء حتى يرى الإمام فيسأل عنه إن تم الاستدلال بها في نفسها.

وهكذا تحصل من مجموع تلك الوجوه ان المقدار اللازم هو البحث والاستقصاء إلى درجة حصول الاطمئنان بالعدم من ناحية احتمال وجود رواية أو مدرك للحكم ، واما من حيث الدلالة والظهور فلا بد من صرف وسعه الذاتي بلا حاجة إلى الرجوع إلى الأعلم لمجرد احتمال ان لديه نكتة ، إلا ان هذا انما يتم إذا لم يتولد لدى المجتهد المفضول علم إجمالي بأنه إذا راجع الأعلم في كافة الأبواب الفقهية حصل تغير في فتواه عادة فانه مع حصول مثل هذا العلم خصوصا إذا كان جامعا لشرائط التنجيز لا تجري البراءة فيجب الفحص عليه بالرجوع إلى ذلك الأعلم.

الثاني ـ كما لا تجري البراءة في الشبهات الحكمية قبل الفحص كذلك لا تجري سائر الأصول العملية كأصالة التخيير والطهارة والاستصحاب الترخيصي.

اما أصالة التخيير في موارد الدوران فلأنه حكم عقلي ولا يحكم به العقل الا بعد الفحص لأنه انما يحكم به بملاك العجز وعدم القدرة على الامتثال القطعي وقبل الفحص يحتمل القدرة على الامتثال الواقعي وهو منجز. وهذا البيان لا يختص بالدوران بين المحذورين في الشبهة الحكمية بل يتم في الشبهة الموضوعية أيضا فلا يقاس أصالة التخيير في الشبهة الموضوعية بالبراءة فيها.

واما أصالة الطهارة والاستصحاب الترخيصي فلا بد فيهما من الرجوع إلى الوجوه العشرة المانعة عن إطلاق أدلة الأصول فنقول.

اما الوجه الأول فهو مخصوص بالبراءة ولا يجري في الأصول الترخيصية الأخرى التي ليست بملاك البراءة العقلائية بل بملاكات أخرى قد تتطابق مع البراءة وقد تخالفها كما هو واضح.


واما الوجه الثاني ، فهو جار هنا أيضا فانَّ إطلاق البيان يشمل موارد وجوده قبل الفحص فتقع المعارضة بين إطلاق عقد المستثنى في الآية وإطلاق أدلة هذه الأصول.

وامّا الوجه الثالث ، وهو احتمال القرينة المتصلة البينة بلحاظ ظهور حال المعصومين في شدة اهتمامهم بإيصال الأحكام إلى المكلفين فهو أيضا يجري هنا ولا يفرق فيه بين البراءة وسائر الأصول الترخيصية.

والوجه الرابع كان راجعا إلى الوجه الأول ، وقد عرفت عدم جريانه هنا.

والوجه الخامس والسادس والسابع والثامن تجري هنا كما كانت تجري في حق أصالة البراءة لعدم الفرق من ناحيتها بين أصل ترخيصي وآخر.

واما الوجه التاسع والعاشر أعني اخبار التعلم والاحتياط فبالنسبة إلى أصالة الطهارة قد يقال بان هذه الاخبار لم ترد في خصوص مورد الطهارة الظاهرية كما هي واردة في مورد البراءة فشمولها لموارد الشك في الطهارة قبل الفحص يكون بالإطلاق فتكون النسبة بينها وبين دليل الطهارة في الشبهة قبل الفحص أو بعدها العموم من وجه.

إلاّ ان الصحيح تقدم هذه الاخبار امّا لحكومتها بالنظر إلى حكم الشبهة والشك على ما تقدم أو لإبائها عن التخصيص وقوة ظهورها في العموم.

وإن شئت قلت : انها تدل على عدم معذرية الجهل الناشئ عن عدم السؤال وهذا لا يفرق فيه بين مورد قاعدة الطهارة قبل الفحص أو البراءة على انه لو سلم التعارض والتساقط لا تثبت الطهارة الظاهرية أيضا بل يجب الاحتياط.

وامّا بالنسبة إلى الاستصحاب الترخيصي فقد يتوهم ان دليله رافع لموضوع هذه الاخبار بناء على مسالك جعل الطريقية والعلمية.

وفيه ـ بعد تسليم المبنى ـ وقد تقدم إبطاله في محله ـ ان اخبار التوقف كما تقدم تنفي العلمية والطريقية فتكون معارضة واخبار التعلم الغاية فيها التعلم والسؤال والفحص عن الحكم الواقعي للوصول إليه والاستصحاب ولو كان بلسان جعل الطريقية لا يكون إلاّ أصلا عمليا ولا يحقق صغرى العنوان الوارد في هذه الاخبار.

ولو أريد من رفع الموضوع الحكومة لا الورود ليكون المبنى أقل فسادا ورد عليه ما تقدم من نظر هذه الاخبار إلى حكم الشبهة قبل الفحص وإباء ألسنتها عن التخصيص


بل لزوم إلغاء مفادها تقريبا لو أريد إجراء الاستصحاب في الشبهات قبل الفحص.

الثالث ـ لا إشكال في استحقاق العقوبة إذا ترك الفحص واقتحم الشبهة وتورط في مخالفة الواقع ، إلاّ انه وقع البحث في ان العقاب هل يترتب على مخالفة الواقع أو على ترك الفحص الواجب أو على المجموع المركب منهما؟

ذكر المحقق النائيني ( قده ) ان العقاب لا يمكن ان يكون على الواقع لكونه غير مبين فيقبح العقاب عليه ومجرد الأمر بالفحص والسؤال لا يجعل غير المبين مبينا كما لا يمكن العقاب على مخالفة الأمر بالفحص والتعلق بما هي لأنه امر طريقي كما هو ظاهر جميع الأوامر المتعلقة بعناوين تكون دخيلة في التوصل إلى امتثال التكليف فانها تكون طريقية ومن أجل التوصل إلى حفظ الملاكات الواقعية وليست بملاكات نفسية مستقلة عن الواقع فلا يمكن أن يعاقب على تركها بما هي هي وانما العقاب على المجموع المركب من مخالفته ومخالفة الواقع أي على ترك التعلم والاحتياط بقيد ان يكون مؤديا إلى تفويت الواقع وهذا الترك الخاصّ بما هو منظور إليه بعين الخطاب الطريقي ترك للحكم الواصل فلا يكون العقاب عليه بلا بيان وبما هو منظور إليه بعين الخطاب النفسيّ يكون نفسيا فلا يرد الإشكال بعدم العقاب على مخالفة الخطابات الطريقية.

ويرد على هذا البيان :

أولا ـ انه ينسجم مع مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) القائل بجريان البراءة وقاعدة قبح العقاب قبل الفحص ، ولا ينسجم مع مبنى الميرزا ( قده ) والمشهور من عدم جريانها إلاّ بعد الفحص ، وكأنّه وقع خلط من هذه الناحية ، فان أدلة العقاب على ترك التعلم تنظر إلى الشبهة قبل الفحص لا بعده ولا تجري فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان عندهم امّا لمنجزية نفس الاحتمال وبيانيته قبل الفحص أو لبيانية الواقع المحتمل على تقدير وجوده في معرض الوصول.

وثانيا ـ انه مناف مع مبناه في إيجاب الفحص وهو الاستناد إلى العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الجملة فيما بأيدينا من الكتب ، وقد ادعى عدم انحلال هذا العلم الإجمالي إلاّ بالفحص عنها جميعا ، فلو فرض جريان البراءة العقلية في الشبهة البدوية قبل الفحص فكيف يقال بها في موارد العلم الإجمالي.

وهذا هو الصحيح في المناقشة فيما إفادة ، لا ما قد يتراءى ويخطر في الذهن من ان ضم


ما يعاقب عليه إلى ما لا يعاقب عليه لا ينتج ما يعاقب عليه فان هذه ليس برهانا وقانونا ، بل لو سلمنا جريان البراءة في شبهة ـ كما في الشبهة البدوية بعد الفحص ـ فلا محالة على مثل مبنى الميرزا ( قده ) المنكر للعقاب على التجري يكون العقاب على المجموع المركب منهما أي مخالفة الواقع الواصل بالخطاب الطريقي لأن موضوع قبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان على الواقع ابتداء أو بتوسط ما يحفظه ويبرز اهتمام المولى به وهو الخطاب الطريقي.

إلاّ ان كل هذا لا موجب له على مبنانا من إنكار القاعدة رأسا فيكون المكلف عاصيا لمخالفته تكليفا نفسيا للمولى إذا صادف مخالفة الواقع فيعاقب على معصيته كما يعاقب على تجريه إذا لم يصادفها.

الرابع ـ بعد البناء على ان العقاب على المخالفة قبل الفحص يكون بلحاظ الواقع يقع البحث في انه هل يثبت العقوبة ثابتة على الواقع في خصوص فرض وجود أمارة على طبقه لو فحص لظفر بها أو تثبت العقوبة عليه مطلقا؟.

ذكر الميرزا ( قده ) انه إذا كان الوجه في تنجيز الواقع ووجوب الفحص العلم الإجمالي بالتكاليف فالعقوبة ثابتة على الواقع مطلقا ، وإن كان الوجه في التنجيز أدلة وجوب التعلم والفحص شرعا كحكم طريقي فهذا ينجز الواقع بتوسط الأمارة لأنه يدل على لزوم الفحص عن الأمارة والاحتياط بلحاظها فلو لم تكن أمارة في البين فالحكم الطريقي بالفحص لم يصادف واقعه ومحتواه.

والتحقيق ان يقال : ان تنجيز الواقع تارة يكون بملاك العلم الإجمالي ، وأخرى بملاك حكم العقل بمنجزية الاحتمال قبل الفحص ، وثالثة بملاك الحكم الشرعي الطريقي بوجوب الاحتياط والفحص.

فعلى الفرض الأول يتعين بناء على مبنى المحقق النائيني ( قده ) إنكار العقاب على الواقع لو لم يكن في البين أمارة ، لأن المفروض عنده انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم ضمن ما بأيدينا من الأمارات ، فاحتمال ثبوت الواقع في نفسه ليس بمنجز بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير ، واحتمال ثبوت الواقع الّذي دلت عليه الأمارة غير مطابق للواقع بحسب الفرض فعلى ما ذا يكون العقاب؟ نعم يمكن معاقبته بملاك التجري عند من يقول به لا عند الميرزا المنكر له.


وامّا على الفرض الثاني فان أنكرنا القاعدة كبرويا ـ كما هو الصحيح ـ كان معناه ثبوت حق الطاعة في موارد احتمال التكليف فيكون العقاب مطلقا لا محالة ، وإن قبلناها كبرويا وقلنا بعدم جريانها قبل الفحص بالخصوص لتمامية البيان ، فان أريد بالبيان منجزية نفس الاحتمال وثبوت حق الطاعة للمولى قبل الفحص فالعقاب مطلق أيضا ، وإن أريد بالبيان الأمارة التي تكون في معرض الوصول بحيث يكون عدم جريان القاعدة من باب الشبهة المصداقية له كان العقاب منوطا بوجود الأمارة في معرض الوصول فلا يعاقب عقاب معصية على تقدير عدم وجودها ، وامّا عقاب التجري فلو قيل به هنا فليس بالملاك المتقدم في بحث التجري والّذي هو ملاك مشترك بين العصيان والتجري لأن المفروض عند هذا القائل انه يريد بالبيان واقع البيان لا الوصول ولهذا كانت شبهة مصداقية للقاعدة فلا بد إذا أريد القول بالعقاب على مثل هذا التجري ان يدعى كون عمله ظلما أيضا ولو بدرجة أخف أي ان للمولى عليه حق ان لا يرتكب ما يحتمل كونه ظلما له ، أو ان يقال بان العقل يحكم بان للمولى على عبده حقا آخر غير حق الطاعة وهو حق الجامع بين الاحتياط والفحص فعند ترك المكلف لهذا الحق يستحق العقاب أيضا.

وعلى الفرض الثالث إن قلنا بان إيجاب الاحتياط والفحص تنجيز للواقع ابتداء فالعقاب ثابت على مخالفته مطلقا ، وإن قلنا انه تنجيز للأمارات الموجودة في معرض الوصول فالعقاب يثبت في خصوص فرض وجود الأمارة في معرض الوصول إلاّ انه لا وجه لذلك فان هذا الحكم وإن كان في طول حجية الأمارات بمعنى انه على تقدير عدم حجيتها لا يجب الفحص عنها ، إلاّ ان الأحكام الظاهرية كلها تنجز الواقع وتكون بملاكه سواء كانت عرضية من حيث موضوعها أم طولية لأنها جميعا تجعل من أجل التحفظ على الملاكات الواقعية النفسيّة كما تقدم في توضيح وشرح حقيقة الحكم الظاهري ونسبته إلى الحكم الواقعي فلا طولية بين ملاكاتها إذ لا ملاكات مستقلة لها وانما الطولية فقط بلحاظ ظروف ومراتب التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعية الإلزامية والترخيصية فانه تارة يكون الشك في الحكم الإلزامي الواقعي في نفسه وأخرى يكون من ناحية الشك في حجية الخبر الدال على الإلزام في ذلك المورد وهكذا. وقد يجعل في المرتبة الأولى من التزاحم حكما ظاهريا مغايرا مع المجعول في


المرتبة الثانية مع ان الأحكام الظاهرية جميعا بملاك واحد وهو حفظ الأهم من الملاكين المتزاحمين في مقام الحفظ. وعليه فالأحكام الظاهرية كلها تنجز الواقع ابتداء في مرتبتها لكونها من أجل حفظ الواقع ، فوجوب الاحتياط والفحص في المقام ينجز ابتداء الواقع قبل الفحص بدون توسيط الأمارة فتكون العقوبة ثابتة مطلقا.

الخامس ـ هناك بعض الموارد التي قد يخفى فيها تنجز الواقع قبل الفحص :

منها ـ ما إذا كان المكلف غافلا رأسا عن احتمال وجود تكليف في المورد مع كونه ملتفتا إجمالا إلى وجود تكاليف في الشريعة فيترك الفحص ، فانه قد يتصور عدم التنجيز للتكليف الّذي هو غافل عنه فعلا لاشتراط الوصول ولو الاحتمالي في تنجز التكليف.

الا ان الصحيح كفاية الالتفات الإجمالي لتنجز التكاليف من ناحية الفحص والتعلم ثبوتا كما ان كافة الوجوه المتقدمة للتنجيز إثباتا جارية في المقام مع الالتفات الإجمالي.

ومنها ـ ما إذا كان في الوقت متسع فترك الفحص في أول الوقت وحصلت له الغفلة في آخره ، فقد يتصور انه لا عقاب لجواز التأخير له في أول الوقت وارتفاع شرط التكليف في آخره.

ولكن الصحيح ثبوته أيضا إذا لم يكن جازما في أول الوقت بأنه سوف لن يغفل في آخره أو غافلا عنه ، إذ يكفي احتمال التفويت بالتأخير وترك التعلم في التنجز ثبوتا وإثباتا.

ومنها ـ ما إذا كان الواجب مضيقا ولم يكن يمكن التعلم في الوقت ، فيقال بعدم التنجز لا قبل الوقت لعدم الوجوب ولا داخل الوقت لعدم التمكن من التعلم مع فرض توقف القدرة على الامتثال على التعلم لا توقف الموافقة القطعية عليه ، إذ على الثاني يثبت فعلية التكليف في الوقت واقعا وهو يوجب الاحتياط عقلا ولو بتعلمه قبل الوقت لتحصيل الفراغ اليقيني ، فالإشكال له صورة فنية في مورد توقف الامتثال عقلا على التعلم كما في مثل العبادات. وهذا البحث بحسب الحقيقة داخل ضمن بحوث المقدمات المفوتة وكيفية وجوبها عقلا قبل وقت الواجب.

وحلّ الإشكال قد يكون بإنكار الصغرى وإرجاع الواجبات المشروطة جميعا إلى


واجبات معلقة تجب من أول زمان البلوغ مع التعليق في الفعل المتعلق به وهذا ما احتمله صاحب الكفاية ( قده ) تبريرا لا يجاب تعلم أحكامها من أول البلوغ وأشكل عليه المحقق العراقي ( قده ) بان لازم القول بوجوب الواجبات من أول البلوغ هو الالتزام بالترتب لأن صوم شهر رمضان مثلا واجب من أول البلوغ وقضاؤه على تقدير تركه واجب كذلك مع ان قضاؤه والتكفير عن تركه يستحيل ان يجتمع مع صوم رمضان فان الأمر بهما من الأمر بالضدين.

والواقع ان البحث عن إمكان الواجب المعلق ثبوتا تقدم مفصلا في بحوث الواجب المطلق والواجب المشروط ، والاعتراض المذكور أيضا غير وارد على صاحب الكفاية ، لأن الواجب إن كان ذات الصوم بعد شهر رمضان أو الإطعام ستين مسكينا على من أفطر في شهر رمضان فهذا ليس مضادا مع صوم شهر رمضان ، نعم لا يقعان معا على صفة الوجوب وليس هذا من التزاحم ، وإن استظهر ان الواجب عنوان التدارك الّذي لا يجتمع مع وقوع صوم شهر رمضان فالتضاد بين متعلقي الوجوبين وإن كان تاما الا ان الأمر بالتدارك مشروط بترك الصوم في الزمان الأول والأمر بشيء لا يقتضي ترشح الوجوب الغيري نحو مقدمات وجوبه ، وهذا الوجوب وإن كان فعليا من أول البلوغ بنحو الواجب المعلق أيضا إلاّ انه لا بد وان يفرض أنه من ناحية هذا الشرط لا اقتضاء له ولا فاعلية فلا يقع تطارد بين فاعلية الأمرين في زمان واحد الّذي هو المحذور في الترتب عند صاحب الكفاية وهذا واضح.

وامّا كيفية إثبات ان الواجبات كلها من الواجب المعلق تبريرا لوجوب تعلمها من أول الأمر مع ان ظاهر أدلتها ان القيود ترجع إلى مدلول الهيئة والوجوب لا المادة بنحو الواجب المعلق فهذا يتوقف على ان ينحصر وجه إيجاب الواجبات التي لا يمكن إتيانها حين إيجابها الا بالتعلم قبل وقتها في كونها بنحو الواجب المعلق بعد ضم دلالة اخبار التعلم على تنجزها والمعاقبة على تركها الناشئ من ترك التعلم ولو قبل الوقت الموجب للعجز عنه وافتراض ان هذا الإطلاق في اخبار التعلم آب عن التخصيص ـ كما لا يبعد ذلك على ما تقدم ـ وإلاّ كان معارضا مع ظاهر أدلة الاشتراط الدال على رجوع القيد إلى الوجوب لا الواجب.

وأخرى يحل الإشكال بمنع الكبرى وان المقدمات المفوتة يمكن ان تكون واجبة


قبل وقت إيجاب الفعل ، وامّا باعتبار فعلية ملاك الواجب وكون القدرة غير دخيلة فيه فيحكم العقل بقبح تفويته ولو من جهة ترك مقدماته المفوتة قبل الوقت طالما كان يمكن تحصيله للمولى ، أو بدعوى ان وجوب التعلم وجوب نفسي للتهيؤ والاستعداد وهذا أيضا لبّا من نتائج فعلية ملاك الواجب وعدم دخل القدرة فيه ، وتفصيله ثبوتا قد مر في بحوث المقدمات المفوتة ، وامّا استفادته إثباتا ففعلية الملاك وإن لم يكن يمكن استكشافها عادة من الخطابات الأولية لسقوط دلالتها الالتزامية على الملاك في موارد العجز بعد سقوط دلالتها المطابقية خلافا لما ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) وعدم تمامية مبنى إطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني خلافا لما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) ، إلاّ انه يمكن إثبات ذلك بإطلاق اخبار التعلم بعد ان كانت مطلقة شاملة لكل واجب حتى إذا كان امتثاله متوقفا على التعلم ولا يكون هذا الإطلاق مخالفا مع ظهور أدلة الواجبات المشروطة في رجوع القيد فيها إلى مدلول الهيئة لا المادة على هذا المبنى في حل الإشكال كما لا يخفى.

ومنها ـ موارد الحكم بصحة الصلاة تماما أو إخفاتا في مورد القصر والجهر مما يكون عمل الجاهل فيه صحيحا رغم كونه عاصيا في ارتكاب المخالفة إذا كان مقصرا في ترك التعلم على ما هو المشهور ، فانه قد يقع فيه الإشكال من ناحية كيفية الجمع بين صحة ما أتى به وبين ترتب العقوبة على ترك الصلاة الأخرى. وقد حاول المحققون تصوير ذلك بأحد أنحاء.

النحو الأول ـ ما في الكفاية من فرض مصلحة إلزامية في الجامع ومصلحة أخرى إلزامية زائدة في الصلاة الأخرى تفوت بالصلاة التي جاء بها المكلف بحيث لا يمكن استيفاؤها بعد ذلك نظير سقي الأرض بماء مالح لا يمكن بعده استيفاء السقي ولو بماء حلو ، فيقع التمام صحيحا من ناحية كونه محققا للجامع المأمور به وما فيه من المصلحة اللزومية وفي نفس الوقت يكون المكلف عاصيا لتفويته المصلحة الملزمة الأخرى. ثم أشكل على نفسه بلزوم صحة الإتيان بالتمام في حال العلم أيضا لتحقق الجامع به مع ان الفتوى ببطلانه ، فأجاب بان الجامع الواجد للمصلحة هو الجامع بين القصر والتمام المقيد بحال الجهل لا مطلقا.

واعترض على هذا التصوير من قبل المعلقين على الكفاية بما يلي :


الاعتراض الأول ـ ما جاء في الدراسات من مجرد استبعاد ذلك وان التضاد انما يكون بين الأفعال الواجبة المصلحة للملاكات لا بين نفس الملاكات.

وهذا الاعتراض كما ترى ، فانه مضافا إلى كونه مجرد استبعاد يرد عليه :

أولا ـ شيوع وقوع التضاد بين الملاكات في حياتنا والأوضاع العرفية كالمثال الّذي فرضناه في تقريب كلام صاحب الكفاية وكمصلحة الشبع أو الارتواء الّذي إذا حصل بالطعام والشراب غير اللذيذ فات إمكان حصوله ثانية بالطعام اللذيذ.

وثانيا ـ بالإمكان افتراض ان التضاد في المقام بين المحصلين لكونه القصر الواجب هو غير المسبوق بالتمام جهلا فبهذا القيد يكون التضاد بين المحصلين بالعرض ، واستبعاد مثل هذا التقييد كاستبعاد تقييد صلاة العصر بان تكون عقيب صلاة الظهر لا مأخذ له.

الاعتراض الثاني ـ ما في تقريرات المحقق الكاظمي لبحث المحقق النائيني ( قده ) من ان مصلحة القصر إن لم تكن مقيدة بعدم سبق التمام فلما ذا لا يعيدها قصرا ، وإن كانت مقيدة بذلك فلا مصلحة فيه عند الإتيان بالتمام.

وفيه ـ انه خلط بين أخذ سبق التمام بنحو قيد الواجب في القصر أو بنحو قيد الوجوب ، فان المدعى هو الأول وان عدم سبق التمام من شرائط ترتب المصلحة لا الاتصاف بها ، وانقسام الشرائط إلى شرط الاتصاف وشرط الترتب من تنقيحات نفس المحقق النائيني ( قده ) فلعل قصور هذا الاعتراض ناشئ عن المقرر.

الاعتراض الثالث ـ ما جاء في أجود التقريرات من ان مصلحة الجامع ومصلحة الخصوصية إن فرضتا مترابطتين لا يمكن التفكيك بينهما لزم عدم صحة التمام لعدم واجديته لمصلحة الخصوصية ، وان فرض استقلالهما لزم تعدد العقاب مع ان تعدد العقاب في المقام واضح البطلان.

وفيه ـ ان تعدد العقاب ـ سواء كان بمعنى كثرة العقاب أو تعدد الاستحقاق ـ انما يكون بتعدد ملاك استحقاق العقوبة وموجبه وهو التعدي على حق الطاعة المولى ، ولا إشكال ان هذا الحق كما يتأثر بالعامل الكمي وهو مقدار الملاكات والواجبات المفوتة على المولى كذلك يتأثر بالعامل الكيفي وهو نوعية الملاك فقتل ابن بنت رسول الله 6 مفسدته وعقابه أكبر وأعظم من قتل أي مؤمن آخر ، وعلى هذا الأساس يقال بان فرضية صاحب الكفاية لم تدخل ملاكا وغرضا مولويا جديدا في


المقام وانما حلل الغرض الواحد إلى غرضين لزومين ، فتعدد العقاب في المقام يكون بمقدار العقاب الواحد في العالم بالقصر التارك له. ولو فرض ان الميزان بالجانب الكمي فقط مع ذلك لم يكن هذا إشكالا على صاحب الكفاية لأنه يدعي تعدد التكليف في حق العالم أيضا أحدهما بالجامع المذكور والآخر بالحصة وحينئذ إن ادعي استبعاد تعدد العقاب في نفسه فهذا لا موجب له ، وإن أريد استبعاد كون عقاب الجاهل للقصر التارك للصلاة أكثر من عقاب الجاهل المقصر الّذي صلى التمام فهذا أيضا غير تام لوضوح ان هذا أفضل حالا من الجاهل التارك لأصل الصلاة ، وإن أريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك أكثر من عقاب العالم بوجوب القصر التارك لله فلم يلزم هنا كون عقابه أكثر منه لأن الملاك الكمي موجود في حق العالم بوجوب القصر التارك له أيضا إذ هو أيضا مكلف بتكليف بالجامع بين التمام المقيد بفرض الجهل وبين القصر وبالقصر بالخصوص ، غاية الأمر هذا الجامع لا يتمكن من أحد فرديه لكونه عالما بوجوب القصر فلو ترك الصلاة يكون تاركا للجامع وللفرد معا فيعاقب بعقابين ، نعم قد يستشكل بلغوية تعدد الجعل في حق العالم بوجوب القصر لأن امره بالجامع لا يمكن ان يكون محركا إلاّ إلى الفرد وهو القصر لكونه عالما بوجوبه فلا يمكنه الإتيان بالفرد الآخر من الجامع ، إلاّ ان هذا غاية ما يلزم منه تأكد وجوب القصر على العالم في مقام الجعل للغوية لا وحدة العقاب على انه قد يكفي في دفع اللغوية ثبوت جعل عام يمكن ان يشمل العالم والجاهل لكون ملاكه كذلك.

الاعتراض الرابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من منافاة هذه الفرضية مع ما تقدم من صاحب الكفاية في بحث تبديل الامتثال بالامتثال من ان فعل المكلف ليس إلاّ مقدمة إعدادية لترتب الملاك وليس علّة تامة له ولهذا أمكن تبديله بفرد أفضل ليختار الله أحبهما إليه. فانه إذا كان الأمر كذلك في باب الصلاة فلما ذا لا يمكن إعادتها قصرا بعد التمام.

وفيه ـ إمكان افتراض ان تأثير فعل المكلف في تحقيق المصلحة يكون بنحو الاعداد ولكن تأثيره في إبطال دور القصر وعدم جدواه يكون بنحو العلية التامة ، وكأن هذا الإشكال نشأ من الأخذ بحرفية كلام المحقق الخراسانيّ في المقام من تحقق المصلحة في الجامع بالتمام.


الاعتراض الخامس ـ ما ذكره صاحب الكفاية نفسه وأجاب عنه من ان هذه الفرضية تؤدي إلى مانعية التمام عن القصر فيحرم الإتيان به ومعه لا يمكن ان يقع مأمورا به وقربيا. وأجاب عنه ان الأمر بين الملاكين انما هو بنحو التمانع والتضاد وعدم أحد الضدين لا يمكن ان يكون علّة للضد الآخر على ما تقدم في بحوث الضد.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) بان التضاد انما هو بين معلولي التمام والقصر ، ومن المعلوم ان عدم علّة أحد الضدين ممّا يتوقف عليه وجود الضد الآخر لكونه مانعا عن اقتضاء مقتضي الضد الآخر وتأثيره على ما تقدم في بحوث الضد.

ويمكن الإجابة عن هذا الإيراد بافتراض ان المانع عن تحقق ملاك القصر المضاد مع التمام انما هو خصوصية التمام لا الجامع أي ان خصوصية التمام فيها ما يمنع عن تحقق ملاك القصر ولكن الجامع بينه وبين القصر يكون محققا للملاك المشترك ، وهذا من موارد إمكان اجتماع الأمر والنهي لإمكان الأمر بالجامع والنهي عن الخصوصية لا الخاصّ.

وهكذا يتضح ان فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) صحيحة ثبوتا في نفسها (١).

النحو الثاني ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنه يوجد عندنا واجبان مستقلان أحدهما أصل الصلاة والآخر القصر أو الجهر فيها بنحو واجب في واجب فإذا صلى تماما أو إخفاتا جهلا عن تقصير صحت صلاته بلحاظ الإيجاب الأول وعوقب على تركه للواجب الثاني ، وامّا عدم صحة التمام أو الإخفات مع العلم فقد فرض في تفسيره ان العلم بوجوب القصر أو الجهر استقلالا يوجب انقلابه إلى الوجوب الضمني ، ولا محذور فيه لإمكان أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر.

ونوقش فيه بعده اعتراضات :

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان هذا يلزم منه أخذ عدم العلم بشيء وهو وجوب القصر أو الجهر الاستقلالي في موضوع المعلوم وكون العلم بشيء رافعا للمعلوم وهذا محال.

__________________

(١) الا أن هذا تصحيح على مستوى الملاك واما بلحاظ الخطاب فلا بد له من فرض تعدد الخطاب في حق الجاهل فيرجع إلى أحد النحوين القادمين.


ويرده ما تقدم مراراً من إمكان أخذ العلم بالجعل أو عدم العلم به في موضوع فعلية المجعول (١).

الاعتراض الثاني ـ انه يلزم عدم قابلية الخطاب النفي الاستقلالي للتنجز لأنه ما لم يعلم به تجري البراءة عنه ، وإذا علم به ارتفع التكليف بارتفاع موضوعه ، وجعل خطاب لا يقبل الوصول والتنجز لغو محض.

وفيه : انَّ عدم الوصول وعدم العلم ليس مساوقاً مع البراءة والتأمين ، لأنه من تبعات ترك الفحص فلا تجري الأصول المؤمنة العقلية أو الشرعية ، فهذا التكليف قابل للتنجيز.

الاعتراض الثالث ـ انَّ التكليف وإِن كان قابلاً للمنجزية ولكنه لا يقبل المحركية ، لأنَّ المراد بالجهل على ما هو ظاهر الفتاوى الجهل المركب أي اعتقاد وجوب التمام أو الإخفات أو ما بحكمه كالغفلة فلا يشمل موارد التردد والشك مع الالتفات الّذي يمكن فيه الاحتياط والتحرك ، وعليه فلا يعقل محركية وجوب الجهر أو القصر الاستقلالي لا حال الجهل لما عرفت ولا حال العلم لارتفاع موضوعه فيكون جعله لغواً.

وهذا الاعتراض تام إذا فرض تمامية أصله الموضوعي الفقهي (٢).

الاعتراض الرابع ـ لزوم تعدد العقاب الّذي أورده المحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه على فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهذا الاعتراض وان لم يكن متجهاً هناك فانه متجه هنا ، لأنَّ صاحب الكفاية لم يفرض غرضاً مستقلا في الخصوصية المجهولة بخلاف هذه الفرضية التي تفترض في الخصوصية غرضاً مستقلاً نفسيا زائداً على الغرض الموجود في الجامع (٣).

__________________

(١) تقدم في محله انَّ العلم بالجعل في موضوع عدم المجعول ، أو العلم بالعدم في موضوع فعليته محال من جهة عدم معقولية محركية مثل هذا الجعل ، إلاّ انَّ هذا يرجع إلى الاعتراض الثالث القادم.

ثم انَّ هنا جواباً آخر حاصله : انَّ العلم بالحكم لا يوجب ارتفاع أصله بل ارتفاع حده الاستقلالي ، فكأنّ المأخوذ العلم بأصل الوجوب في موضوع الوجوب الضمني وأصل الوجوب ثابت ومتأكد حتى بعد طرو الوجوب الضمني.

(٢) بل لا يتم على هذا التقرير أيضاً ، لأنَّ العلم بوجوب القصر أو الجهر لا يرفع أصل إيجابه وانما يرفع حد الوجوب الاستقلالي مع ثبوت أصله وتأكده وهذا لا ينافي المحركية ، فجعل وجوب لو وصل لتأكد مع وجوب آخر ليس لغواً لأنَّ ذات الوجوب وأصله قابل للمحركية لتعدد المحرّك عندئذ وقد لا يتحرك شخص عن مجرد الوجوب الضمني أي الوجوب الواحد وانما يحركه وجوبان نحو الخصوصية وهذا كاف في إمكان الجعل ، وبهذا أيضا يمكن ان يجاب على الاعتراض السابق.

(٣) لا يتم هذا الاعتراض أيضاً ، لأنَّ الخصوصية الواجبة بملاك نفسي ثابتة على كل حال في حق العالم والجاهل وانما الفرق من


ثم انَّ هنا إشكالاً يعود إلى ما فرض في هذه الفرضية من انقلاب الوجوب الاستقلالي للخصوصية إلى الوجوب الضمني في حق العالم لا من جهة انقلاب الملاك الاستقلالي إلى الضمني بل لاستحالة اجتماع الوجوبين ولزوم اندكا اندكاكهما ، فيندك الأمر غير ذي المزية في الأمر ذي المزية ، فالامر الاستحبابي يندك في الأمر الوجوبيّ لكونه ذي المزية والأمر الاستقلالي يندك في الأمر الضمني لكونه ذي المزية ، وهذه قاعدة عامة أسسها المحقق النائيني وطبقها في المقام ، ومحل تنقيحها بحث الواجب المطلق والمشروط ، والصحيح عدم تماميتها.

النحو الثالث ـ الالتزام بالترتب في المقام كما ذكره الشيخ الكبير كاشف الغطاء ( قده ) امّا حقيقة بان يكون الأمر بالتمام في حق الجاهل مشروطاً بتركه للقصر مثلاً لكونه أقل ملاكاً منه ، أو مسامحة بان يلتزم بثبوت امرين أحدهما تعلق بالجامع الّذي أحد فرديه مقيد بحال الجهل كما تقدم والثاني بأحد الفردين بالخصوص ، وهذا ينسجم روحه مع فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلاّ انه كان يفرض التعدد بهذا النحو في عالم الملاك وهنا نفترضه بلحاظ الملاك والخطاب.

وقد أثير حول هذه الفرضية بكلتا صيغتيها اعتراضات أيضاً لا بأس بالإشارة إلى جملة منها.

امّا بالنسبة إلى صياغة الترتب المسامحي أعني الأمر بالجامع والأمر بالحصة الخاصة منه فقد اعترض عليه باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ما قد يقتنص من مباني المحقق النائيني ( قده ) في بحث المطلق

__________________

ناحية انَّ ملاك الجامع في حال الجهل لا تكون الخصوصية دخيلة في إيجاده وفي حال العلم تكون دخيلة فيه ، فهذه الفرضية من هذه الناحية كفرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) تحليل للملاك الثابت في الواجب على كل تقدير إلى جزءين غاية الأمر انَّ المحقق الخراسانيّ ( قده ) جزأه إلى مرتبتين والمحقق النائيني ( قده ) جزأه إلى ملاكين أحدهما يتحقق ضمن الآخر دائماً. هذا لو كان النظر إلى تعدد العقاب.

وامّا إذا كان النّظر إلى تعدد التكليف وانَّ المستظهر من أدلة أعداد الفرائض انَّ الواجب على كل مكلف حاضراً كان أو مسافراً في كل وقت فرض واحد لا فرضان وواجبان مستقلان ، وهذا ينسجم مع هذه الفرضية ولا الفرضيات القادمة ، فهذا مربوط بان يستفاد من تلك الروايات النّظر إلى الواجبات التحليلية ضمن كل فض لا إلى مجرد النتيجة العملية المفروضة على المكلف خارجاً ، ولا ينبغي ، الإشكال في انَّ المستفاد منها ليس أكثر من ذلك ، وعلى كل حال ففرضية المحقق النائيني ( قده ) لا تختلف روحاً عن فرضية المحقق الخراسانيّ إلاّ من ناحية تبديله لملاك الخصوصية من الضمنية إلى الاستقلالية لكي لا يبتلي بالمحذور الّذي تخيل وروده على المحقق الخراسانيّ نتيجة الخلط بين قيد الوجوب وقيد الواجب على ما تقدم.


والمقيد واجتماع الأمر والنهي من استحالة الأمر بالجامع مع تعلق امر آخر بأحد فرديه ، لأنَّ الأمر بالجامع يدل بالالتزام على جواز تطبيقه على كل من افراده وهذا الجواز والإباحة كما ينافي الحكم بالحرمة على الفرد ـ وبهذا أثبت امتناع الاجتماع ـ كذلك ينافي الإلزام بهذا الفرد ، وبهذا برهن على وحدة الحكم في مثل أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، وبه أثبت لزوم حمل المطلق على المقيد دائماً ، وهذه النكتة تقتضي في المقام وعدم إمكان تعلق امر بالجامع وامر بفرد منه.

وفيه : وما تقدم في محله من بطلان هذه النكتة ، فانَّ جواز تطبيق الجامع على فرده ليس حكماً تكليفياً بل هو ترخيص وضعي عقلي بمعنى تحقق الامتثال للجامع وعدم المانع من ناحيته بتطبيقه على هذا الفرد أو ذاك على ما تقدم مفصلاً في بحث اجتماع الأمر والنهي.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من انَّ الجامع في المقام يكون في طول الأمر لأنه جامع بين القصر والتمام الصادر من الجاهل بوجوب القصر فهذه الحصة الخاصة من الجامع تكون في طول الجهل بهذا الأمر فكيف يتعلق به؟.

وفيه : أولا ـ إمكان جعل الحصة عبارة عن التمام المقيد بفرض اعتقاد وجوب التمام بالخصوص الّذي هو امر خيالي لا واقعي.

وثانياً ـ ما ذكره المحقق العراقي نفسه من إمكان جعل التمام مقيداً بالجهل بالأمر الثاني أي بالفرد ـ وهو القصر ـ لا بالجهل بالأمر بالجامع المتعلق به.

وثالثاً ـ لو سلمنا أخذ الجهل بالأمر بالجامع مع ذلك قلنا انَّ المتأخر عن الأمر انما هو العلم به لا الجهل وعدم العلم إلاّ بناء على مبنى انَّ مانع المتأخر متأخر ، وقد عرفت مراراً بطلانه.

ورابعاً ـ ما تقدم من بحث التعبدي والتوصلي من انَّ المستحيل انما هو أخذ ما هو متأخر عن الأمر ومتوقف عليه في موضوع شخص ذلك الأمر لا أخذه في متعلقه كما هو المفروض في المقام (١).

وامّا بالنسبة إلى الترتب الحقيقي ، فقد اعترض عليه باعتراضات عديدة تقدم

__________________

(١) ويمكن ان يعترض على فرضية الترتب المسامحي باعتراض آخر أوجه من الاعتراضين المذكورين وحاصله : انَّ الأمر بالجامع.


استعراضها في بحث الترتب ونشير فيما يلي إلى أهمها مع التعليق عليها :

الاعتراض الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من اشتراط إمكان الترتب بان يكون التضاد بين الواجبين اتفاقياً لا دائمياً كالحركة والسكون والجهر والإخفات والقصر والتمام في الصلاة.

والسيد الأستاذ وافق على الصغرى ولكن ناقش في كبرى اشتراط ان لا يكون التضاد دائمياً في إمكان الترتب.

والصحيح المناقشة في الصغرى وتسليم الكبرى ، اما صحة الكبرى فقد شرحناها مفصلاً في بحوث التزاحم والتعارض فراجع ، وامّا بطلان الصغرى فلأنَّ الترتب في المقام ليس بين الأمرين الضمنيين بالجهر والإخفات أو التمامية والقصرية لاستحالة الترتب بين الا وامر الضمنية وانما الترتب بين الأمر بالصلاة الإخفاتية والصلاة الجهرية أو التمام والقصر ولا تضاد بينهما فضلاً من ان يكون دائمياً.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ الترتب انما يفعل بين الضدين اللذين لهما ثالث ليعقل عصيان الأمرين معاً لا الضدين اللذين ليس لهما ثالث إذ لا يعقل تركهما معاً ، والمقام من هذا القبيل لأنَّ الصلاة امّا ان تكون إخفاتية أو جهرية ، وامّا ان تكون مقصورة أو تامة.

وأجاب عنه السيد الأستاذ بأنَّ الواجب هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية ويمكن تركهما معا. وقد عرفت انَّ الترتب ليس بين الأوامر الضمنية بل الاستقلالية بأصل الصلاة جهراً أو إخفاتاً ، تماماً أو قصراً ولا تضاد بينهما فضلاً من ان لا يكون لهما

__________________

مع الأمر بحصة منه انما يعقل إذا كان لكل منهما محركية معقولة ، وفي المقام لا محركية معقولة للأمر بالجامع ، لأنَّ من لا يعلم بالأمر بالجامع لا يمكن ان يتحرك منه ، ومن يعلم به لا يمكنه ان يمتثله إلاّ من خلال الحصة ، لأنَّ الفرد الآخر منه مقيد بفرض الجهل به ، فمن لا يريد الإتيان بالحصة لا يمكنه ان يتحرك من الأمر بالجامع ، فمحركية هذا الأمر نفس محركية الأمر بالحصة فلا يكون هناك إلاّ امر واحد بالحصة. وهذا هو روح الاعتراض المتقدم على فرضية المحقق النائيني والّذي سوف يأتي أيضاً على فرضية الترتب الحقيقي.

والجواب : أولا ـ انَّ هذا لا يمنع عن صحة التمام لثبوت الملاك وروح الحكم في الجامع وإن كان الخطاب والجعل والتحريك على الحصة إلاّ انَّ هذا بحسب الحقيقة رجوع إلى فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وثانياً ـ يكفي في المحركية اللازمة في معقولية الجعل على الجامع بعد ان كان فيه الملاك إمكان وصوله ومحركيته لمن لم يتنجز عليه الأمر بالحصة.


ثالث كما هو واضح.

الاعتراض الثالث ـ ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وحاصله بتوضيح منا : انَّ الأمر بالتمام امّا ان يكون مترتباً على ترك القصر في تمام الوقت ، أو في الآن الأول ، أو على إتيان التمام الّذي يفوت إمكان تدارك ملاك القصر وكلّها غير صحيحة في المقام. امّا الأول فلأنّه يلزم منه صحة الإتيان بالقصر بعد التمام إذا ما التفت إلى وجوبه وهذا خلاف الفتوى الفقهية ، والثاني يلزم منه إيجابهما معاً عليه بعد مضي جزء من الوقت وهو واضح البطلان ، والثالث محال لأنَّ الأمر بشيء مشروطاً بتحققه تحصيل للحاصل.

وهذا الاعتراض إشكال في الصياغة لا أكثر ، ويكون الجواب عليه بافتراض انَّ الشرط هو جامع تفويت ملاك القصر بنحو الشرط المتأخر سواءً كان من جهة ترك القصر في تمام الوقت أو الإتيان بالتمام المستلزم لتفويته.

وإن شئت قلت نقيد خطاب التمام بعدم الإتيان بالقصر إلى حين إتيانه بالتمام وعدم خروج الوقت ـ اقرب الأجلين ـ ويتقيد القصر المأمور به بنحو قيد الواجب لا الوجوب بعدم الإتيان بالتمام قبله جهلاً ، وبذلك يرتفع المحذور ويكون سقوط وجوب القصر بالإتيان بالتمام من باب التفويت والعصيان لا ارتفاع شرط الوجوب.

الاعتراض الرابع ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ الأمر الترتبي موضوعه عصيان الأمر بالأهم المترتب عليه ، وفي المقام لا يعقل جعل الأمر بالتمام مشروطاً بعصيان الأمر بالقصر لأنَّ موضوعه وهو عصيان الأمر بالقصر لا يمكن ان يصل إلى المكلف إذ لو علم به لخرج عن موضوع وجوب التمام والأمر الّذي لا يمكن وصوله لا يعقل جعله.

وأجاب عنه السيد الأستاذ بأنَّ الشرط ترك الأهم وهو القصر في المقام لا العصيان بعنوانه ، وترك القصر يمكن ان يصل إلى المكلف.

وفيه : انَّ هذا لا يدفع روح الإشكال ، لأنَّ المفروض انَّ الأمر بالتمام المشروط بترك القصر مجعول في حق الجاهل بوجوب القصر بمعنى المعتقد وجوب التمام عليه ، ومن المعلوم انَّ جعل وجوب التمام على موضوع هو المعتقد بوجوب التمام لغو محض ، لأنَّ من اعتقد بذلك لا حاجة إلى إعمال المولوية عليه في مقام تحريكه بإيجاب التمام عليه ،


بل لا يعقل ذلك في حقه لأنه لو كان يتحرك من الأمر بالتمام لتحرك من اعتقاده بذلك وإلاّ فلا يتحرك من الأمر الترتبي ، بل لا يعقل تحركه منه لأنه لا يعقل إحرازه له إذ لو أحرز انه نفس الأمر بالتمام الّذي اعتقده كان من تأخر الشيء عن نفسه بحسب عالم اللحاظ وهو محال ، وإن أحرز انه امر آخر بالتمام لزم اجتماع المثلين في نظره فهذا الاعتراض متجه في المقام على كل حال.

هذا كله في كيفية تصوير صحة المأتي به جهلاً ثبوتاً مع كون المكلف معاقباً على جهله بالقصر أو الجهر والإخفات ، وامّا البحث عن مقام الإثبات فهو في ذمة علم الفقه.

السادس ـ إذا شك المكلف في دخول مسألة لم يتعلم حكمها في محل ابتلائه في المستقبل أم لا ، فالظاهر وجوب التعلم بمعنى منجزية احتمال التفويت الناجم عن ترك التعلم عقلا وشرعا تمسكا بإطلاق اخبار التعلم.

وقد يقال في قبال ذلك بجريان استصحاب عدم الابتلاء مستقبلاً بذلك نظراً إلى انَّ الاستصحاب كما يجري بلحاظ ما سبق يجري بلحاظ المستقبل أيضا إذا تمت أركانه على ما يأتي في بحث الاستصحاب وعدمه وبذلك ينفي موضوع وجوب التعلم.

وأشكل عليه السيد الأستاذ بأنَّ عدم الابتلاء ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي لأنَّ وجوب الفحص وعدمه ليس دائراً مدار الابتلاء الواقعي وعدمه وانما يدور مدار العلم بعدم الابتلاء وعدمه حيث انه يخرج من إطلاق اخبار التعلم ما يعلم بعدم الابتلاء به لظهورها في انَّ إيجاب التعلم حكم طريقي لا نفسي ، فان قلنا بأنه يشترط في المستصحب ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي لم يجر هذا الاستصحاب ، وإن أنكرنا ذلك واكتفينا بان يترتب على الاستصحاب أثر عملي وقلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي جرى الاستصحاب لأنه يحقق علماً تعبدياً بعدم الابتلاء فيكون حاكما على دليل وجوب الفحص المقيد بعدم العلم بعدم الابتلاء. نعم قد يلزم من ذلك محذور إلغاء اخبار التعلم إذ أكثر الشبهات والمسائل يحتمل فيها المكلف عدم ابتلائه به في أول بلوغه ، فلو أريد الاعتماد على ذلك ادى إلى شبه إلغاء اخبار التعلم فلا بدَّ من تقديمها على دليل الاستصحاب.

والتحقيق ان يقال : تارة يفرض فعلية التكليف وانما الشك في الابتلاء به من


ناحية المتعلق كما إذا دخل الوقت فوجبت عليه الصلاة الجامع بين التمام في الحضر والقصر في السفر وشك المكلف في ابتلائه بالسفر ، وفي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تعلم الأحكام القصر لأنَّ الاشتغال بالتكليف يقيني فلا بد من الخروج اليقيني عنه واستصحاب عدم السفر لا يثبت انه قادر على الامتثال اليقيني عن التكليف المعلوم إلاّ بنحو الأصل المثبت.

وأخرى يفرض انَّ التكليف مشروط بشرط يشك في الابتلاء به كصلاة الزلزلة مثلاً مع الشك في ابتلائه بها ، فان قلنا انَّ موضوع وجوب التعلم الابتلاء الواقعي بالتكليف جرى استصحاب عدم الابتلاء بالزلزلة حتى على القول باشتراط كون المستصحب حكماً شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي إذ سوف يكون استصحاب عدم الزلزلة استصحاباً في موضوع الحكم الشرعي ، وإن قلنا بأنَّ موضوع وجوب التعلم عدم العلم بعدم الابتلاء أي احتمال الابتلاء ـ كما هو الصحيح ـ فالصحيح عدم جريان الاستصحاب حتى على مباني قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وعدم اشتراط كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، فانه مضافا إلى انَّ قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي فرع جريانه في نفسه بلحاظ المستصحب لترتب أثر علمي عليه ليقوم مقام القطع الموضوعي في أثره وفي المقام لا أثر عملي للمستصحب ، يرد عليه : انَّ قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وحكومته عليه انما يقولون به بالنسبة لدليل أخذ فيه عدم العلم لفظاً كما في مثل ( كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر ) وامّا إذا استفيدت غائية العلم لحكم بالدليل العقلي ومن باب استحالة جعل الحكم فيه كما في حجية الأمارات وكما في وجوب التعلم الطريقي فلا معنى لافتراض حكومة الاستصحاب عيلة ، ولهذا لم يقل أحد من القائلين بهذا المبنى بحكومة الاستصحاب على أدلة الأمارات مع انها أيضاً مغياة بعدم العلم بالخلاف.

فلا ينبغي الإشكال في وجوب التعلم كلما احتمل الابتلاء بتكليف لو لم يتعلم تفاصيله احتمل فواته عليه.

وبهذا ينتهي البحث عن المقام الأول الّذي عقدناه في هذه الخاتمة لبحث الشرط الأول من شرطي جريان البراءة وهو وجوب الفحص.


مباحث الحجج

قاعدة

لا ضرر ولا ضرار



( قاعدة لا ضرر )

المقام الثاني ـ في الشرط الآخر لجريان البراءة الّذي نقله الشيخ الأعظم ( قده ) عن الفاضل التوني (١) من لزوم عدم ترتب الضرر من جريان البراءة على مسلم كما إذا لزم من شرب التتن الضرر عليه أو على غيره.

وناقش في ذلك المحققون بأنَّ الشبهة إذا كانت مورداً لقاعدة لا ضرر فهي حاكمة على الأمارات فضلاً عن البراءة باعتبارها قاعدة ثابتة بالأمارة وحاكمة على كل الإطلاقات الأولية ، وان لم تكن تلك الشبهة مورداً للقاعدة جرت البراءة لا محالة فليس هذا شرطاً مرتبطاً بالبراءة.

وأجاب عن ذلك السيد الأستاذ بأنَّ البراءة لا تجري في مورد الضرر ولو فرض عدم

__________________

(١) هناك شرط آخر نقله الشيخ الأعظم ( قده ) عن الفاضل التوني أيضاً وهو ان لا تكون البراءة مستلزمة لثبوت حكم إلزاميّ من جهة أخرى ، ومثل له بما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين فانَّ جريان البراءة عن وجوب أحدهما يوجب وجوب الاجتناب عن الآخر. وهذا الشرط واضح الفساد ، لأن ذلك الحكم الإلزامي إن كان مترتبا أو ملازماً مع ثبوت الإباحة الواقعية فأصالة البراءة لا تثبته لأنها لا تثبت الإباحة الواقعية وانما تنفي إيجاب الاحتياط ولهذا لم تكن من الأصول التنزيلية ، وإن كان مترتباً على الأعم من الإباحة الواقعية والترخيص الظاهري ترتب بجريان البراءة واقعاً لأنه يكون عندئذ مدلولا التزاميا لدليل أصالة البراءة الّذي هو دليل اجتهادي بحسب الحقيقة. واما مثال العلم الإجمالي فعدم جريان البراءة فيه انما هو من جهة الترخيص في المخالفة القطعية والتعارض على ما تقدم مفصلاً ، ولعله لهذا لم ير سيدنا الأستاذ ( 1 الشريف ) أهمية للتعرض إلى هذه الشرطية.


تمامية قاعدة لا ضرر ، لأنَّ مثل حديث الرفع الدال على البراءة مسوق مساق الامتنان على الأمة فلا يشمل موارد الإضرار بالغير لكونه خلاف الامتنان.

وهذا الجواب غير سديد ، فانه لو فرض تمامية في حديث الرفع فيكفي القائلين بالبراءة التمسك بالبراءة العقلية على القول بها وبسائر أدلة البراءة من قبيل ( كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ) ، ومثل حديث الرفع ليس له مفهوم يمكن ان يعارض به هذا الإطلاق على ان الميزان في الامتنانية ـ في غير حديث الرفع ـ ان يكون الرفع امتنانا بالنسبة إلى المرفوع عنه التكليف لا كلّ الناس.

وعليه فالإشكال المنهجي متجه على هذه الشرطية ، إلاّ اننا تبعاً للشيخ الأعظم ( قده ) نتحدث حول هذه القاعدة ضمن جهات عديدة.

سند الحديث

الجهة الأولى ـ في سند القاعدة فانها وردت ضمن روايات كثيرة ربما ادعي استفاضتها إلاّ انَّ أهمها ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى ـ ما ورد في قصة سمرة بن جندب وهي ثلاث روايات :

١ ـ ما ينقله الصدوق عن أبيه عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن الحسين أسعدآبادي عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن الحسن بن زياد الصيقل عن أبي عبيدة الحذاء وليس فيه ذكر لكبرى ( لا ضرر ولا ضرار ) وانما ورد فيه قول رسول الله 6 لسمرة : ( ما أراك يا سمرة إلاّ مضاراً اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه ) (١).

٢ ـ ما في الكافي والفقيه عن ابن بكير عن زرارة وقد ورد فيه ( اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ) (٢).

٣ ـ ما في الكافي عن ابن مسكان عن زرارة ، وفيه انَّ رسول الله 6 قال لسمرة ( انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) (٣).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥٩ ، ح ٩.

(٢) فروع الكافي ، ج ٥ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، ح ٢. الفقيه ، ج ٣ ، ص ١٤٧ ، ح ١٨.

(٣) فروع الكافي ، ج ٥ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، ح ٨.


الطائفة الثانية ـ الروايات المتعرضة لجملة من أقضية رسول الله 6 في فضل الماء والأرض ، فمن طريقنا ورد ذلك في خبرين بسند واحد وكلاهما ينتهيان إلى عقبة بن خالد عن الصادق 7 في أحدهما قال : ( وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ وقال : لا ضرر ولا ضرار ) (١) وفي الآخر : ( قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار ) (٢).

ومن طريق العامة روى أحمد بن حنبل عن عبادة بن صامت حديثاً اشتمل على أقضية عديدة لرسول الله 6 وفيها قضاؤه بحق الشفعة وقضاؤه بعدم منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ وانه لا ضرر ولا ضرار (٣).

الطائفة الثالثة ـ المراسيل كمرسلة الصدوق ( قده ) ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) (٤) ، ومرسلة الشيخ في كتاب الشفعة ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ومرسلته في كتاب البيع ( لا ضرر ولا ضرار ).

وإثبات سند القاعدة بهذه الطوائف من الروايات يمكن ان يكون بطرق عديدة تتفاوت من حيث النتائج المترتبة على كل واحد منها :

الطريق الأول ـ تطبيق قواعد التصحيح السندي عليها ، وعلى أساسها لا يسلم شيء من هذه الروايات من حيث السند إلاّ الرواية الثانية من الطائفة الأولى ، لسقوط الطائفة الثالثة بالإرسال ، وسقوط الطائفة الثانية من حيث السند لأنَّ ما نقل في مصادرنا قد وقع في سنده من لم يثبت توثيقه كعقبة بن خالد.

وأمّا الطائفة الأولى ، فالرواية الثالثة منها فيها إرسال لأنه ينقلها علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن ابن مسكان ، والرواية الأولى منها في سندها محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي والحسن بن زياد الصيقل وهم لم يوثقوا في كتب الرّجال ، نعم خصوص السعدآبادي باعتباره من مشايخ ابن قولويه المباشرين والذين قد شهد بوثاقتهم في أول الكتاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، باب ٧ من أبواب إحياء الموات ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق ، باب ٥ من أبواب الشفعة ، ح ١.

(٣) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣١٣. ج ٥ ، ص ٣٢٧.

(٤) الفقيه ، ج ٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٢.


والقدر المتيقن من ذلك مشايخه المباشرين أمكن إثبات وثاقته بذلك.

وقد يحاول تصحيح السند من ناحية محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي بتطبيق نظريتنا في تعويض الأسانيد التي سميناها بنظرية التعويض ، بدعوى انَّ الصدوق في مشيخته يذكر طريقاً صحيحاً إلى كل كتب وروايات أحمد بن محمد بن خالد البرقي الّذي وقع في هذا السند بعد هذين الرجلين فتكون هذه الرواية أيضاً ممّا ينقلها الصدوق عن البرقي بذلك الطريق وهو صحيح بحسب الفرض.

إلاّ انَّ هذا التطبيق لنظرية التعويض غير صحيح ، لأنَّ من المحتمل أو المطمئن به انَّ مقصوده من أسانيد المشيخة انَّ كل ما ينقله عن أحد الرّواة المذكورين في الكتاب بحيث يبتدأ السند بهم يكون طريقه إليه ما يذكره في المشيخة اختصاراً فلا يشمل كل رواية يقع ذلك الشخص في سنده (١).

وكيف ما كان فيكفي في سقوط السند عدم طريق إلى توثيق حسن بن زياد الصيقل.

وهكذا يتضح انَّ المعتبر سنداً من الروايات رواية زرارة والتي لم يرد في متنها إلاّ التعبير بأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) بلا أيّة إضافة ، فما ذكره الشيخ الأنصاري ( قده ) من انَّ أصح الروايات سنداً ما ورد فيه ( لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) غير تام.

ويترتب على هذا الطريق انه لا بدَّ من تحديد مفاد هذه الصيغة ولا ضير في الاختلاف أو التهافت الواقع في الروايات الأخرى لكونها غير معتبرة سنداً ، ويكون مدرك القاعدة على هذا الأساس رواية معتبرة لا بدَّ وان يتعامل معها معاملة الدليل الظني السند المعتبر.

الطريق الثاني ـ دعوى التواتر الإجمالي ، فانَّ روايات الباب وإن لم تكن تحكي جميعا قصة واحدة وبلفظ واحد الا انَّ فيما بينها وحدة موضوع تتفق عليها جميعا مما يوجب القطع ولو إجمالا بصحة ذلك الموضوع رغم عدم تكثر الروايات بدرجة بحيث

__________________

(١) الإنصاف إمكان تصحيح السند من ناحية محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي ، اما الثاني فلما ذكر مضافا إلى ما جاء في كتاب الفهرست للشيخ وفي رجال النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن خالد البرقي بسندهما المعتبر عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري ; انه عبر عن شيخه السعدآبادي ( حدثنا مؤدبي علي بن الحسين السعدآبادي ) ممّا يدلّ على أكثر من الوثاقة. واما محمد بن موسى فهو مضافا إلى كونه شيخ الصدوق قد وثقه العلامة وابن داود وداعي ابن طاوس في فلاح السائل عند التعرض لرواية في فضل صلاة الظهر وصفتها في سندها محمد بن موسى الاتفاق على وثاقته وكل هذا ممّا يكفي للاطمئنان بوثاقته.


يكفي الكم وحده للعلم بصدق بعضها.

هذا إلاّ انَّ الإنصاف قلة روايات الباب بدرجة لا تكفي حتى مع وحدة الموضوع المطروق فيها جميعا لحصول التواتر ، لأنَّ الطائفة الأولى الثنتان منها يرويها راو واحد وهو زرارة ، والطائفة الثانية اثنتان منها تكونان في طرقنا بسند واحد وراو واحد وهو عقبة بن خالد ورويت من طرق العامة عن عبد الله بن عباس وعبادة بن صامت ، والطائفة الثالثة كلها مراسيل. نعم قد يضم إلى ذلك شهرة هذه الرواية شهرة عظيمة جدا عند العامة والخاصة منذ قرون طويلة فيدعى حصول الاطمئنان بصدور مثل هذا المضمون عن النبي 6.

ويترتب على هذا الطريق عدم وقوع التهافت في المتن ، فانه إذا دار الأمر بين المطلق والمقيد ثبت ذات المطلق مهملا من حيث الإطلاق والتقييد ، وإذا دار بين مقيدين مختلفين ثبت ذات المطلق دون شيء من القيدين إلاّ إذا كان التواتر على أساس عامل الكم فقط فعلم بصدور أحدهما أو قيل بانجبار السند الضعيف بالشهرة مثلا.

ومن حيث المقدار الثابت بهذا الطريق يثبت المتيقن به لا محالة ، فإذا شك في شمول القاعدة لمورد لم يمكن الأخذ بمفادها ، وإذا فرض دوران مدلولها بين ان يكون حكما تكليفيا بحرمة الإضرار أو قاعدة تشريعية تنفي الأحكام الضررية ثبت أحدهما إجمالا لا أكثر فإذا كان هناك ما ينفي أحد المعنيين كإطلاقات أدلة التشريعات الأولية كانت حجة لا محالة إن لم يكن هناك ما ينفي المعنى الآخر أيضا وإلاّ حصل التعارض.

كما انه يترتب على هذا الطريق ان يكون سند القاعدة خبرا قطعي الصدور.

الطريق الثالث ـ ان يصحح مرسلة الصدوق حيث نقل عن رسول الله 6 بلسان انه قال ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) بدعوى انَّ الخبر المرسل إذا كان بلسان ( قال رسول الله 6 لا بلسان ( روي عن رسول الله 6 واحتملنا عقلائيا كون هذا النقل مستندا إلى ما يكون كالاخبار الحسي وذلك لتواتر أجرينا أصالة الحس في اخباره ونثبت انه كان في زمن الصدوق هذا النص عن النبي واضحا متواترا وانما لم ينقل لنا بالطرق المتعددة لأنَّ ديدن الأصحاب لم يكن على ضبط الاخبار النبوية المروية عن غير طريق الأئمة وانما كانوا يهتمون بما ينقل عنهم ، وهذا الحديث عند ما


يرسله الصدوق عن النبي 6 كان متواترا واضح الصدور ، ولعل هناك غيره من الأحاديث النبوية كانت أيضا بهذه المثابة ولكنها لم تنقل إلينا ، وأيّا ما كان فلا استبعاد في كون هذا الخبر في زمان الصدوق ( قده ) متواترا.

ويترتب على هذا الطريق ثبوت هذا النص بالتواتر فيدور الأمر مداره ويتعامل معه كخبر قطعي السند لأننا نقطع بصدق الصدوق.

والتحقيق عدم صحة هذه الطريق لعدة جهات :

منها ـ انَّ هذه الصيغة التي أرسلها الصدوق فيها قيد ( في الإسلام ) وهذا لا عين ولا أثر له في أخبارنا بل ولا اخبار العامة ، والصدوق كان ينظر إلى إثبات هذا القيد حيث أرسل الحديث بصدد إثبات انَّ المسلم يرث الكافر لأنَّ الإسلام لا يوجب إضرارا.

ومنها ـ انَّ الصدوق يرسل أمورا أخرى أيضا يقطع بعدم تواترها بلسان قال الصادق 7 أو قال رسول الله 6.

ومنها ـ انه في المقام عطف على ذلك حديثين آخرين عن النبي 6 يقطع بعدم تواترهما وهما قوله 6 ( انَّ الإسلام يزيد ولا ينقص ) و ( انه يعلو ولا يعلى عليه ).

ومنها ـ انَّ الصدوق أرسلها بصدد الاستدلال الفقهي ، وهذا يضعف احتمال التواتر ويوجب قوة احتمال انَّ ذكره للنبوي كان لمجرد الاحتجاج فلا ظهور في كلامه للنقل عن الحس.

الطريق الرابع ـ إثبات التواتر بنقل فخر المحققين ( قده ) في الإيضاح ، وهو لم ينقل صيغة معينة بل أشار إلى القاعدة وادعى تواتر نقلها ، وحيث اننا نحتمل تواترها وقتئذ فنثبت ذلك اعتمادا على اخباره إذ من المحتمل انَّ هذا الخبر كان منقولا في الأصول والكتب الأصلية واندرست ضمن ما يحتمل اندراسه من الكتب والروايات.

وفيه : انَّ تصريح فخر المحققين لا يثبت شيئا أكثر من الشهرة الروائيّة إلى درجة قد تعد تواترا عند بعض الأنظار كفخر المحققين ، وهذا امر لا إشكال فيه كما قلنا خصوصا وانَّ فخر المحققين ذكر ذلك في مقام الاستدلال والبحث الفقهي لا في مقام النقل والرواية.

الطريق الخامس ـ التمسك ببعض المسالك المبنية على المواسعة في حجية الاخبار


المروية في الكتب الأربعة ، وقد تقدم عدم كفاية مجرد ذلك في الحجية ، وبناء على هذا الطريق سوف يقع التهافت في الصيغ المختلفة المنقول بها هذه القاعدة فتصل النوبة إلى البحث عن متنها.

تحديد متن الحديث :

الجهة الثانية ـ في البحث عن التهافت الواقع في كيفية المتن المنقول لهذه القاعدة وقد عرفت انَّ هذه القاعدة وردت في ثلاث طوائف من الروايات طائفة تنقل قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وطائفة تذكر أقضية رسول الله 6 ، وطائفة مراسيل تنقل أصل القاعدة فلا بد من ملاحظة كل ذلك.

فنقول : امّا قصة سمرة فقد وردت بثلاثة طرق :

الأول ـ ما اختص بنقله ثقة الإسلام الكليني عن ابن مسكان عن زرارة انَّ رسول الله 6 قال لسمرة ( انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) ..

الثاني ـ ما اختص بنقله الصدوق ( قده ) في الفقيه عن أبي عبيدة الحذاء. وفيه :

( انَّ رسول الله قال لسمرة ، ما أراك يا سمرة إلاّ مضارّا اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه ).

الثالث ـ ما عن ابن بكير عن زرارة وقد ذكره المشايخ الثلاث كلهم وقد ذكره الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بلسان ( اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ) ، وامّا الصدوق فقد ذكره في كتاب المضاربة من دون ذكر فاء التفريع بل قال : انَّ الرسول 6 امر الأنصاري ان يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال لا ضرر ولا ضرار.

وهذه الوجوه من النقل رغم انها تنقل قصة واحدة يوجد فيما بينها اختلاف بالزيادة والنقصان ، وفي موارد الدوران بين الزيادة والنقيصة انما يقع التهافت والتعارض بين أصالة عدم الزيادة وعدم النقيصة فيما إذا كانت الزيادة أو النقيصة مؤثرة في المعنى ومغيرة له ، وامّا إذا لم يكن المعنى الا واحدا على كل تقدير أو شك في ذلك بحيث لم يفهم من أحدهما ما يخالف الآخر بالفعل فلا موضوع للتهافت والتعارض لأنَّ الّذي يتعهد به الراوي هو ان لا ينقل ما بغير المعنى ويزيد عليه أو ينقص ولا يتعهد


بنقل أكثر من ذلك بحسب ظاهر حاله.

وعلى هذا الأساس قد يقال في المقام بوقوع التهافت في نقل قصة سمرة بن جندب من عدة وجوه :

الأول ـ عدم وجود جملة لا ضرر رأسا في رواية الحذاء بخلاف رواية زرارة فيقع التهافت من هذه الناحية بينهما.

والجواب ـ انَّ هذه الزيادة في رواية زرارة لا توجب تغييرا في المقدار الّذي نقله الحذاء فلعل الحذاء لم يكن يقصد نقل أريد مما نقله ، وليس في كلامه شهادة بعدم هذه الزيادة التي هي مطلب آخر مستقل.

الثاني ـ ورود فاء التفريع في رواية ابن بكير عن زرارة بحسب نقل الكليني والشيخ بخلاف نقل الصدوق ممّا يدلّ على انَّ القاعدة تفريع على الأمر بقلع الشجرة ، وامّا نقل الصدوق فيحتمل ان تكون القاعدة فيه خطابا مستقلا أو تفريعا على الحكم التكليفي الّذي وجهه إلى سمرة.

والجواب : انَّ هذا أيضا ليس تهافتا فانَّ نقل الصدوق أيضا ظاهر في التفريع على القلع وإن كان نقل الكليني أظهر في التفريع ، بل لو فرض عدم الظهور في ذلك أيضا لم يكن هناك تهافت لأنَّ نقل الصدوق لا ينفي التفريع ، والمظنون انَّ الصحيح ما نقله الشيخ ، والصدوق انما لم يذكر الفاء لأنه لم يكن بصدد نقل لفظ الرواية بل نقل فعل النبي 6 بالمعنى من انه امر الأنصاري بقلع النخلة فلم يمكن يناسب ان يأتي بالفاء.

الثالث ـ انَّ جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) في رواية ابن مسكان عن زرارة انما خوطب بها سمرة بعد قوله 6 انك رجل مضار ، وعليه فلا يكون مربوطا بقلع الشجرة ولا تفريعا عليه.

والجواب ـ انه يحتمل صدور هذه الجملة من النبي 6 مرتين ، مرة لسمرة ومرة أخرى للرجل الأنصاري ، كما في رواية ابن بكير لأنها تناسب التكرار في المقامين فلا تهافت أيضا.

الرابع ـ زيادة كلمة ( على مؤمن ) في رواية ابن مسكان عن زرارة بخلاف الروايتين الأخريين ، وثبوت كلمة ( على مؤمن ) يجعل الحديث ظاهرا في الحرمة التكليفية.


والجواب : ما تقدم من انه يحتمل انَّ هذه الجملة جاءت مرتين ، مرة مخاطبا بها سمرة باعتباره مضارا لمؤمن ، وأخرى بعد امر الأنصاري بقلع الشجرة بدون الزيادة المذكورة لأنها تناسب مخاطبة سمرة في المقام الأول وثبوتها وإن كان يناسب الحرمة التكليفية ولكنه لا يضر باستفادة نفي الحكم الضرري ، فانَّ القاعدة فيها مقطعان أحدهما لا ضرر والآخر لا ضرار ، والثاني منهما يناسب الحرمة التكليفية ، والأول نفي للأحكام الضررية ، والمناسب في مخاطبة سمرة المقطع الثاني للقاعدة بينما المناسب مع التفريع على قلع الشجرة المقطع الأول ، ولهذا يكون تكرار الجملة بهذا النحو مناسبا ومعقولا من دون لزوم تهافت.

ثم انه لو فرض وقوع التهافت بين نقل الزيادة والنقيصة وصلت النوبة إلى ملاحظة أصالة عدم الزيادة وعدم النقيصة في المقام ، والبحث عن ذلك تارة يكون كبرويا وأخرى يكون صغرويا.

امّا البحث الكبروي فقد يذكر لتقدم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة عدة وجوه :

الأول ـ انَّ ناقل الزيادة يصرح بوجودها فيكون ظهور نقله في ثبوتها أقوى من سكوت ناقل النقيصة عنها لأنه لا ينقل عدمها وانما سكت عنها فيحمل الظاهر على الصريح.

وفيه : انَّ الجمع العرفي بحمل الظاهر على الصريح انما يكون في كلامين لشخص واحد يراد كشف مرامه منه لا في شهادتين لشخصين كما في المقام ، ولهذا لا يجمع بين بينتين متعارضتين بحمل الظاهر منهما على الأظهر ، وما نحن فيه من هذه القبيل لأنَّ نقل الراوي للنقيصة والزيادة انما هو شهادة من الراوي وهي غير شهادة الراوي الآخر.

الثاني ـ انَّ الزيادة لا تنشأ إلاّ من ناحية الكذب أو الغفلة المنفيين بحجية خبر الثقة وأصالة عدم الغفلة ، واما النقص فقد ينشأ من جهات أخرى كعدم كون الراوي في مقام بيان الزيادة أو كون طبيعته في النقل على الاختصار.

وفيه : انَّ ترك نقل الزيادة المؤثرة في المعنى أيضا لا يكون إلاّ نحو كذب وخيانة بالنقل أو غفلة فيكون منفيا بحجية خبر الثقة وأصالة عدم الغفلة ، ولو لا ذلك لسقطت


كل الاخبار عن الحجية لاحتمال وجود ما يغير معناها الظاهر وقد أسقطه الراوي لسبب من الأسباب.

الثالث ـ انَّ غفلة الإنسان عن الشيء الزائد في مقام السماع أو النقل وحذفه أكثر من غفلته في زيادة شيء كما هو واضح فتكون أصالة عدم الزيادة أقوى من أصالة عدم النقيصة.

والجواب ـ انَّ هذه الأقوائية وإن كانت مقبولة في نفسها إلاّ انَّ الكلام في مرجحيتها في مقام حجية الرواية والاخبار ، وعند ما نراجع مأخذ الحجية وهو السيرة لا نجزم بتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لمجرد مثل هذه الأقوائية.

واما البحث الصغروي ، فقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) في المقام بأنا وإن قبلنا تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة كبرويا إلاّ انه في خصوص المقام يكون نقل النقيصة أرجح بإحدى نكتتين :

إحداهما ـ انَّ الزيادة وردت في رواية واحدة بينما النقيصة وردت في روايات عديدة كثيرة فيكون احتمال عدم النقيصة أقوى.

وهذه النكتة غير تامة ، لأنه إذا كان النّظر إلى غير الطائفة الأولى من الاخبار فلا وجه لإدخالها في الحساب إذ لا مانع من ان يكون حديث لا ضرر في قصة سمرة مذيلا بهذا الذيل وفي حديث الشفعة مثلا غير مذيل به ، وإن كان النّظر إلى نفس اخبار قصة سمرة بن جندب فواحد منها غير مشتمل على جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) رأسا فعدم اشتماله على الذيل يكون من السالبة بانتفاء الموضوع وليس شاهدا على عدم هذه الكلمة ، وواحد منها مشتمل على الذيل ، وواحد منها وهو نقل ابن بكير عن زرارة غير مشتمل على الذيل ، فليس النقل الخالي عن الزيادة متعددا.

نعم هناك مقويات أخرى لخبر النقيصة من قبيل انَّ وسائطه ـ بحسب نقل الكافي ـ إلى الإمام خمسة بينما خبر الزيادة الوسائط فيه ستة ، على انَّ الكليني ينقل خبر النقيصة عن عدة من أصحابنا وهم أربعة وفيهم الأجلاء مما يكون بحكم عدم الواسطة للقطع بصدقهم ، وانَّ خبر النقيصة قد نقله الصدوق أيضا بسند آخر عن ابن بكير عن زرارة فيضعف احتمال الغفلة فيمن وقع بعد ابن بكير إلى الكليني ، وانَّ خبر الزيادة فيه إرسال عن شخص مجهول مما يضعف قيمة احتمال الصدور أو عدم الغفلة ،


فبمجموع هذه القرائن يمكن تقوية احتمال النقيصة في قبال الزيادة ، ولعل نظر المحقق النائيني ( قده ) كان إلى ذلك.

الثانية ـ انَّ إضافة كلمة ( على مؤمن ) باعتباره ملائما مع الذوق ومناسبات الحكم والموضوع لمثل هذه القاعدة الامتنانية والتي هي إحسان على العباد فلا يكون احتمال وقوع الاشتباه فيه بإضافة كلمة ( على مؤمن ) بعيدا كما في سائر الزيادات التي لا تكون من هذا القبيل.

وهذه النكتة إن أريد بها انَّ مناسبة الزيادة مع أصل الكلام قد توجب سبق لسان الراوي إليها دون تعمد ، ففيه : انَّ الّذي يوجب سبق اللسان ليس المناسبة المعنوية بل تعود اللسان على الجمع بين كلمتين ولفظين بحيث تنسبق إحداهما إلى اللسان بمجرد التلفظ بالأخرى وليس المقام منه.

وإن أريد بها انَّ شدة المناسبة جعل المطلق ينصرف إلى المقيد فذكر قيد ( على المؤمن ) : ففيه : انَّ هذا الاحتمال بنفسه يأتي في طرف النقيصة بان يكون شدة المناسبة جعل الراوي ينصرف ذهنه فيتصور انَّ المطلق في قوة المقيد.

نعم لا يبعد ان يقال بأنَّ مناسبة الحكم والموضوع تكون بدرجة بحيث لو كان الراوي هو المشرع لشرع القاعدة مع الزيادة ، ولأنس ذهنه بذلك إلى هذه الدرجة وقع في الاشتباه فتخيل انَّ النبي 6 شرعها مع الزيادة ، فهذا مع المقربات السابقة ربما يوجب ان تكون قيمة احتمال النقيصة في المقام ليست بأقل من قيمة احتمال الزيادة إلا انَّ هذا كله انما ينفع في عدم تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة على القول به كبرويا فيما إذا كان الملاك فيه بالظن الشخصي وملاحظة مجموع القرائن لا النوعيّ الّذي هو ملاك الحجية والاعتبار عادة.

هذا كله في اخبار الطائفة الأولى التي تحكي قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري.

واما الطائفة الثانية التي تنقل قضاء رسول الله 6 فقد ورد فيها ( لا ضرر ولا ضرار ) بطرقنا عن عقبة بن خالد كتذييل لحديث الشفعة والنهي عن منع فضل الماء ولم يرد كقاعدة مستقلة ، نعم بطرق العامة ورد كذلك.

وقد حاول شيخ الشريعة الأصفهاني ( قده ) تقريب انَّ هذا قاعدة مستقلة لا ربط


له بالموردين وانَّ الجمع بينها وبين الشفعة من الجمع في الرواية من أحل تعزيز فهمه للقاعدة وانها حكم تكليفي بحرمة الإضرار بالآخرين وليست قاعدة مشرعة لنفي الأحكام الأولية إذا استلزمت الضرر بالآخرين. وسوف يتضح انَّ استفادة القاعدة المشرعة من هذه الحديث لا تتوقف على كونه تذييلا للشفعة أو منع فضل الماء ، بل يستفاد منه ذلك ولو كان مستقلا وإن كان ظهوره فيه أقوى وأكبر إذا فرض ورودها كتطبيق للقاعدة على الموردين.

وقبل التعرض لكلام شيخ الشريعة لا بد من الإشارة إلى انَّ كلمة ( قال ) التي صدر بها الحديث في رواية عقبة بن خالد عن الصادق 7 حيث قال قضى رسول الله 6 بين أهل البادية انه يا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وكذا في رواية الشفعة يرد فيها بدوا احتمالان :

الأول ـ ان يكون من كلام الراوي الّذي ينقل الحديث عن الإمام الصادق 7 فيكون المعنى انَّ الإمام الصادق قال ( لا ضرر ولا ضرار ) عطفا على قوله قال قضى رسول الله 6.

الثاني ـ ان يكون للإمام الصادق 7 فيكون المعنى انَّ النبي 6 قال ( لا ضرر ولا ضرار ).

والاحتمال الأول هو الّذي يناسب الجمع في الرواية الّذي يعنيه شيخ الشريعة ، ولكن ظاهر النقل عن الإمام الصادق انَّ قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) كان عقيب نقله لقضاء الرسول فيكون ظاهرا في انه قاعدة مرتبطة بقضائه 6 فيكون كما إذا كان ذيلا في كلام الرسول 6 من حيث الدلالة على كونها قاعدة مشروعة وإلاّ لم يصح تعليل القضاء بها ولم تكن مناسبة لذكرها بعد نقل قضاء النبي 6.

إلاّ انَّ هذا الاحتمال في نفسه خلاف الظاهر ، لأنَّ مقتضى السياق انَّ الناقل حينما شرع في نقل كلام شخص فما دام لم ينصب قرينة على انتهاء كلامه ومقول قوله كان باقي الكلام جزء من المنقول عن ذلك الشخص ، وفي المقام لم ينصب قرينة على انتهاء كلام الإمام 7 فتكون كلمة ( وقال ) جزء من كلام الإمام الصادق 7 والّذي يعني انَّ القاعدة كلام لرسول الله 6 فيتعين الاحتمال الثاني.

ثم انه بناء على هذا الاحتمال قد يحتمل ان يكون هذا من الجمع في الرواية من


قبل الإمام الصادق 7 إلاّ انَّ هذا الاحتمالي أيضا في صالح كون القاعدة قاعدة مشرعة لأن جمع الإمام للحديثين عن النبي 6 بنفسه دليل على كون الحديث تعليلا لقضائه وإن لم يكن قد ذكره النبي 6 كتعليل ، وفهم الإمام الصادق لذلك حجة لنا لا محالة ، وان كان الظاهر هو انَّ الحديث ليس من الجمع في الرواية حتى على مستوى الإمام الصادق 7 بل من الجمع في المروي لأنَّ مقتضى التطابق بين عالم الثبوت والإثبات كاشفية جمع الإمام 7 عند النقل عن النبي 7 على الجمع من قبل النبي نفسه.

وهكذا يتحصل انَّ الاحتمالات كلها بصالح ما استفاده المشهور من هذه الحديث كقاعدة نافية للأحكام الضررية ، وعلى شيخ الشريعة ان يثبت خلاف ذلك وانَّ الجمع بين قضاء النبي 6 وهذه الحديث من قبيل الجمع بين المتشتتات ، وقد بذل عناية فائقة في مقام إثبات ذلك ، وادعى وقوع المعارضة بين رواية عبادة بن صامت ورواية عقبة بن خالد في كون الحديث ذيلا لقضاء أو كونه قضاء مستقلا ، وقدم ظهور رواية عبادة على رواية عقبة ، وكلامه ( قده ) لا يخلو من تشويش وقد نقله المحقق النائيني ( قده ) بتشويش مضيفا إليه بعض النكات. وفيما يلي نستعرض كلامه أولا مع التعليق عليه ، ثم نذكر النكات الواردة في كلمات المحقق النائيني ( قده ) فنقول :

يمكن ان يستفاد من كلام شيخ الشريعة ( قده ) في مقام إثبات مرامه مقدمات ثلاث :

الأولى ـ انَّ عبادة بن صامت رجل ثقة في نقله.

الثانية ـ انَّ عقبة بن خالد روى عنه أقضية النبي 6 موزعة على الأبواب في كتب الحديث ولكن هذه التفرقة والتوزيع ليس من ناحية كون الروايات متعددة بل انَّ عقبة سمع كل الأقضية عن الإمام الصادق 7 في وقت واحد ونقلها في رواية واحدة ثم قطعها الأصحاب حيث انَّ مبناهم على ذكر كل خبر في المورد المناسب له.

الثالثة ـ انَّ الاختلاف بين الأقضية التي ينقلها عبادة بن صامت والأقضية التي ينقلها عقبة بن خالد يسير جدا فلا اختلاف بينهما عدا هذا الاختلاف في كون نفي الضرر ذيلا لقضاء آخر أو قضاء مستقلا ولئن كان لحديث عقبة ظهور في الذيلية والتعليل فيرفع اليد عنه بواسطة معارضته مع رواية عبادة بن صامت.


وبهذه المقدمات يريد شيخ الشريعة ان يثبت وثاقة نقل عبادة أولا ، وان هذه القضايا هي من الجمع بين متفرقات حتى في رواية عقبة بن خالد لأنه جمع بين قضايا متعددة وإن وزعها الأصحاب في الأبواب ، وهذه يضعف ظهور نقل عقبة بن خالد لفقرة نفي الضرر في الذيلية والتعليل وحيث ان الاختلاف بين نقل عبادة وعقبة يسير فيسهل الجمع بينهما بذلك لأن نقل عبادة للأقضية متقن.

وقد استدل على المقدمة الأولى من هذه المقدمات بوجهين :

الأول ـ ما ذكر في حاله من المدح والتوثيق.

وفيه : لو سلمنا ثبوت وثاقته فلا فائدة في ذلك بالنسبة إلينا بعد ان كان الطريق إليه عاميا وبوسائط متعددة مجهولة وقد تفرد بنقله صحيح أحمد بن حنبل فقط من كتبهم.

الثاني ـ التطابق بين رواية عبادة بطولها ورواية عقبة بن خالد في طرقنا الموزعة على الأبواب الفقهية المتنوعة بحيث لم يوجد بينهما اختلاف إلاّ اليسير.

وفيه : أولا ـ ان المطابقة في حديث واحد مشتمل على أقضية عديدة لا تكفي لحصول الجزم بالوثاقة ، نعم إذا كانت هناك روايات كثيرة متطابقة أمكن حصوله.

وثانيا ـ المطابقة بالدرجة المورثة للوثوق ممنوعة ، كيف وفي حديث عقبة قد ذكر للشفعة ذيلا غير مذكور في نقل عبادة وهو قوله : إذا أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة.

كما ان الأقضية التي جمعها شيخ الشريعة عن عقبة لا تزيد على ثلث أقضية عبادة وما جمعها من مجموع الأقضية الواردة في طرقنا أعم من ان تكون لعقبة أو غيره قد تبلغ النصف ممّا ينقله عبادة في طرق العامة وتوجد أقضية أخرى لعقبة لم ينقلها شيخ الشريعة ، ولكن يوجد مع ذلك في أقضية عبادة ما لم ينقل في طرقنا أصلا كقضائه 6 بان الزوجة لا يجوز لها ان تتصرف في مالها بدون اذن زوجها.

وثالثا ـ لو سلمت المطابقة الكاملة فمن المحتمل ان ذلك ليس من جهة إتقان عبادة ووثاقته بل لعلّه من موضوعات بعض الوسائط بيننا وبين عبادة الذين لم تثبت وثاقتهم بأن عرف هذه الأقضية لشهرتها ولو عن طريق الإمام الصادق 7 فجمعها ونسبها إلى عبادة مثلا.


وامّا المقدمة الثانية فقد استدل عليها أيضا بوجهين :

الأول ـ وحدة الراوي عن عقبة بن خالد والراوي عن الراوي في كل الأقضية المنقولة في فقهنا فيستبعد كونها روايات متعددة اتّحد رواتها صدفة.

وفيه ـ ان النجاشي نقل وجود كتاب لعقبة ورواه عنه بسند ينتهي إلى نفس هذين الراويين الموجودين في تمام روايات عقبة فلعل صاحب الكافي مثلا أيضا وصل إليه هذا الكتاب بسند منته إليهما وكانت روايات الأقضية موجودة في ذلك الكتاب ، فوحدة الرّواة نشأت من وحدة الكتاب الّذي رواه بمجموعه أولئك الرّواة لا وحدة الرواية كما يشهد لذلك ان سائر روايات عقبة غير الأقضية أيضا تنقل عنه بواسطة هذين الراويين.

الثاني ـ ان الأقضية المجتمعة في رواية واحدة لعبادة كيف توزعت في أخبارنا وتفرقت فهذا اما ان يكون لأجل انها صدرت من النبي 6 مرتين نقل عبادة إحداهما ونقل الإمام الصادق الأخرى ، وامّا ان يكون من ناحية تقطيع نفس الإمام الصادق أو الرّواة ، واما ان يكون من ناحية تقطيع أصحاب الجوامع وضعا لكل حديث في موضعه المناسب له ، والأولان مستبعدان فيتعين الثالث.

وفيه : ان هذه الأقضية لم تكن رواية واحدة صادرة عن النبي 6 في مجلس واحد نقلها عبادة وانما هي روايات عديدة جمعها عبادة في سياق واحد في كتابه من باب الجمع بين متفرقات بجامع كونها أقضية النبي 6 وليس الإمام الصادق مسئولا عن سلوك نفس الطريقة التي اتخذها عبادة.

واما المقدمة الثالثة وهي دعوى شدة المطابقة فقد ظهر بطلانها ممّا تقدم.

ثم انه لو سلمنا كل المقدمات فان أريد من كل ذلك دعوى فقدان الظهور في رواية عقبة في التعليل وذيلية حديث نفي الضرر لقضاء النبي في الشفعة ومنع فضل الماء فهو خلاف أمانة التوزيع الصحيح للروايات إذ لا بد وان يحمل توزيع أصحاب المجاميع للروايات على انها قبل التوزيع كانت محفوفة بقرائن تدل على نفس ما تدلّ عليه بعد التوزيع من الذيلية إن احتملنا ذلك احتمالا عقلائيا ، وفيما نحن فيه لا ندعي احتمال ذلك بل ندعي القطع بذلك ونقول انه حتى مع فرض الجمع بين هذه الأقضية يكون الظهور الرواية في الذيلية محفوظا قويا فانه لو لم يكن ذيلا مرتبطا بحكم


الشفعة التي قضى لها الرسول 6 فلما ذا توسط حديث نفي الضرر بين الشفعة وبين قيده في قوله قضى رسول الله بالشفعة وقال لا ضرر ولا ضرار وقال إذا أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة. ولما ذا افتتح بكلمة قال لا ضرر مع ان كل الأقضية افتتحت بقضى رسول الله أو من قضاء رسول الله ، ومن الغرائب ان يجعل الافتتاح بقال دليلا على كونه حديثا مستقلا وإلاّ لما كان يحتاج إلى قال بل كان يعطف على ما قبله فانه من الواضح انه لم يكن يمكن عطفه على ما قبله من دون كلمة قال فان ما قبله حكاية لفعل رسول الله وقضائه وليس حكاية لقوله لكي يمكن العطف عليه بلا كلمة قال.

على انه لو كان هذا المقطع قضاء مستقلا للنبي 6 فلما ذا كرر هؤلاء الموزعون للحديث ذكر نفي الضرر ، فذكروه مرة ضمن القضاء بالشفعة وأخرى في ذيل حديث منع فضل الماء ، بل مثل صاحب الكافي الّذي أفرد في كتابه بابا باسم باب الضرار لما ذا لم يذكر هذه الفقرة فيه وانما جعلها في ذيل باب الشفعة وحرمة منع فضل الماء كل هذه قرائن توجب القطع بان هذه الفقرة جاءت كتعليل لتلك الأقضية وليست قضاء مستقلا.

وإن ادعي ان الحديث وإن كان ظاهرا في التعليل والذيلية إلاّ انه يرفع اليد عنه بظهور رواية عبادة ، فالجواب : ان نقل عبادة ليس ظاهرا في خلاف ذلك ليقدم عليه فانه يحتمل ان يكون الحكم بالشفعة قد صدر عن النبي 6 مرتين مرة بلا هذا الذيل ونقلها عبادة ومرة أخرى مع الذيل والتعليل ونقلها الإمام الصادق 7. على انه لو فرض وحدة صدور الحكم بالشفعة فيمكن ان يكون مع الذيل وقد أسقط عبادة الذيل ، ولا ضير في ذلك بعد ان لم يكن إسقاطه مغيّرا للحكم وانما هو مجرد تعليل بقاعدة عامة للحكم ، ولعله شجعه على هذا الإسقاط ذكره لنفي الضرر كقضاء مستقل.

واما النكات التي ذكرها المحقق النائيني ( قده ) لتعزيز ما ذهب إليه شيخ الشريعة من إنكار كون القاعدة ذيلا لقضاء النبي 6 بالشفعة فهي عديدة :

منها ـ ان نفي الضرر لو كان ذيلا للزم عدم نقل عقبة لقضاء النبي بلا ضرر ولا ضرار وخلو روايته عنه مع انه من المشتهر والمعروف صدوره عنه 6.

وفيه : أولا ـ ان المشهور صدور أصل الحكم بلا ضرر ولا ضرار منه لا كونه قضاء


مستقلا وأصله مذكور في حديث عقبة ، بل المناسب عدم جعله قضاء مستقلا لأنه كبرى كلية تنشأ منها الأقضية المتنوعة في كل باب كما لا يخفى.

وثانيا ـ لو فرض كونه صدر كقضاء مستقل عن النبي 6 أيضا فهذه لا ينافي مع عدم صدوره كذيل للشفعة ، وانما لم ينقل عقبة القضاء المستقل لأنه لم يكن بصدد نقل كل أقضية النبي 6 وقد ترك كثيرا ممّا ورد في حديث عبادة بن صامت فليكن هذا منها ، وقد شجعه على الترك وروده في ذيل قضاء الشفعة والنهي عن منع فضل الماء.

ومنها ـ ان جملة لا ضرار غير مرتبطة بالشفعة ، لأن الضرار بمعنى الإصرار على الضرر وبيع الشريك إن كان فيه ضرر فليس فيه الضرار.

وفيه : أولا ـ يكفي في التذييل والتعليل صدق لا ضرر على الشفعة.

وثانيا ـ لعل هذه القاعدة كانت مشهورة ومركوزة بعنوان لا ضرر ولا ضرار فكان في مقام تطبيق أحد شطريها على مورد تذكر القاعدة بكلتا شطريها وأمثال ذلك كثير في المحاورة.

ومنها ـ ان حكم الشفعة غير مربوط بقاعدة لا ضرر ، فانه لو لا وجود النص الخاصّ على الشفعة لما كان يحكم في الفقه بالشفعة على أساس قاعدة لا ضرر فكيف يحتمل ان النبي 6 قد طبق القاعدة على مورد لا تنطبق عليه؟ وكذلك في النهي عن فضل الماء.

وفيه : أولا ـ ما سنوضحه من صحة تطبيق القاعدة على الشفعة وإمكان استخراج حكم الشفعة منها وكذلك تطبيقها على منع فضل الماء.

وثانيا ـ لو فرض عدم إمكان تطبيق القاعدة بمعناها المعروف على ذلك فلا بد من تفسيرها وتغيير معناها بنحو تقبل الانطباق على المورد لا حمل كلام الراوي على الاشتباه وتخطئة كونه ذيلا لأن الظهور انما يقتنص بعد ملاحظة كل ما ينقله الراوي ويشهد بصدوره عن المعصوم.

وهكذا يتحصل ان رواية عقبة بن خالد لو تمت سندا فهي تدلّ على نفي الضرر كقاعدة مشرعة وقعت ذيلا للحكم بالشفعة والنهي عن منع فضل الماء.

واما الطائفة الثالثة وهي المراسيل التي نقلت نفي الضرر والضرار فقد يتوهم


التهافت فيما بينها حيث ان في بعضها ورد قيد في الإسلام بخلاف بعضها الآخر ، أو التهافت بينها وبين الطائفتين السابقتين ، إلاّ ان كل ذلك بلا موجب ، لأن التهافت انما يكون مع افتراض وحدة الرواية ولا دليل على وحدة القضية المنقولة بمجموع هذه الروايات المتنوعة.

مفاد كلمة ( الضرر ) و ( الضرار ) :

الجهة الثالثة ـ في البحث عن مفردات الحديث ، وقد ورد فيه فقرتا نفي الضرر ونفي الضرار ، فلا بد من تحديد معنى كل من الضرر والضرار.

امّا الضرر فقد اختلف في معناه ، فذكر بعضهم انه النقص في المال أو النّفس أو العرض ، وذكر آخرون انه الشدة والحرج والضيق. والظاهر ان الضرر عنوان ينتزع من النقص في أحد الأمور التي ذكرت إذا كان بدرجة معتد بها بحيث توجب بحسب طبعه ضيقا وشدة ، فالتاجر الّذي يضيع منه دينار مثلا لا يصدق عليه انه تضرر كما ان مجرد الشدة والتضايق النفسيّ من دون نقص ليس ضررا ولا يشترط حصول الضيق النفسيّ بالفعل بل يكفي كونه بحسب طبعه مقتضيا لذلك ولو لم يحصل الضيق لعدم علم صاحبه به بعد ، ويقابل الضرر النّفع الّذي هو أيضا ليس مجرد الزيادة بل الزيادة الموجبة بحسب طبعه لارتياح النّفس وانبساطها (١).

ثم ان الضرر ينقسم إلى مطلق ومقيد من ناحيتين :

الأولى ـ من حيث الموضوع فقد يكون النقص ضررا مطلقا كمن يحترق داره فيتضرر ، وقد يكون النقص ضررا بالنسبة إلى الغرض الّذي كان منظورا للإنسان كالتاجر عند ما لا يربح في تجارته فانه يتضرر بالنسبة إلى غرضه من التجارة فهذا ضرر مقيد وبالإضافة إلى التاجر بما هو تاجر يستهدف الربح كالماء المطلق والماء المضاف وحديث لا ضرر لا يشمل الضرر المقيد إلاّ إذا كانت تلك الحيثية عامة عرفا بحيث تعتبر ذلك النقص ضررا مطلقا بحسب الأنظار العرفية والعقلائية.

__________________

(١) وقد يقال ان الضرر يقابل المنفعة لا النّفع لأنه اسم لا مصدر والنّفع مصدر.

والصحيح : ان المنفعة تقابلها المضرة لا الضرر فانه مصدر كالنفع ، والمصدر قد يستعمل في اسم المصدر أيضا.


الثانية ـ من حيث الناظر والحاكم بصدق الضرر ، فقد يكون النقص حقيقيا كمن تقطع يده وقد يكون اعتباريا مقيدا ببعض الأنظار والقوانين كمن يتلف الخمر الراجع إلى الغير مثلا فانه ليس ضررا عليه في القوانين الإسلامية لعدم اعتبارها مالا ولكنه ضرر في القوانين غير الإسلامية ، ومن قبيل الحكم بعدم ملكية محيي الأرض فانه ضرر في النظام الإسلامي أو الرأسمالي دون الاشتراكي. وحديث لا ضرر يشمل الضرر المطلق الحقيقي بلا إشكال وامّا شموله لضرر المقيد ببعض الأنظار فمبنيٌّ على كون ذلك النّظر مقبولا عند الشارع الأقدس.

ثم انه قد يناقش في صدق الضرر على النقص في الكرامة والعرض بعدم صدقه على مجرد النّظر إلى عرض الغير فيقال بعدم صدق الضرر إلاّ مع النقص في المال أو النّفس والطرف.

والتحقيق : ان صدق الضرر بلحاظ العرض والكرامة انما يصدق لو كان مستلزما لسلب حق من حقوق الإنسان تجاه عرضه وكرامته كما في سلب حق الأنصاري في ناموسه وعرضه وامّا مجرد النّظر إلى الأجنبية فليس مستلزما للنقص وان كان محرما شرعا.

وقد يستبدل كلمة النقص بفعل ما يكره الشخص كمن يمنع الناس من الخروج من البلد أو من يمنع اشتراك زيد في أيّة شركة تجارية ـ كما في الاحتكارات والامتيازات للشركات التجارية ـ فانه لم يوجب نقصا عليه ولكنه فعل ما يكره ويتضايق منه.

إلاّ انه بالإمكان إدراج هذه الموارد في النقص لأنه نقص لحق العمل أو حرية الإنسان فهو نحو سلب للحق فيكون ضررا فيدخل تحت إطلاق القاعدة لأنه مضافا إلى شمول عنوان الضرر لمثل هذه الإضرار عرفا يكون مورد الرواية النقص في حق من هذا القبيل (١).

__________________

(١) هذه في مثل منع الغير من الخروج عن البلد أو من الإقدام على عمل أو تجارة صحيح ، واما ما يحصل من الامتناع القهري نتيجة احتكار امتياز العمل التجاري ونحوه فصدق الضرر عليه محل تأمل وإشكال إذ لم يسلبه حقا وانما رفع موضوع قدرته على إعمال حقه وحريته نعم لو فرض ثبوت حق مشترك في المرتبة السابقة للجميع في الاستفادة من ثروة طبيعية فاستطاع شخص ان يحتكر كلها لنفسه لم يبعد صدق الضرر عندئذ وقد يكون تطبيق النبي 6 للقاعدة في مسألة منع فضل الماء منها.


ثم ان المحقق الخراسانيّ ذكر ان الضرر والنّفع متقابلان تقابل العدم والملكة ، واعترض عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) بان الضرر هو النقص عن حد الاكتمال ، والنّفع الزيادة عليه فليس النقص عدم تلك الزيادة ليكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، كما انهما ليسا متضادين لأن الضرر امر عدمي والضدان لا بد وان يكونا وجوديين.

وفيه : ان الضرر ليس امرا عدميا بل وجودي منتزع عن خلو الشيء عن حد كماله في مورد من شأنه الاكتمال ، ولعل هذه الحيثية هي المقصودة للمحقق الخراسانيّ عند ما قال بان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة أي فيما نكتة العدم والملكة وإن لم يكن الضرر عبارة عن عدم النّفع ، نعم لا يشترط قابلية المورد للنفع بل قابليته للكمال فانها شرط لصدق كل من النّفع في الزيادة على ذلك الحد والضرر في النقيصة عنه.

وامّا الضرار فهو من مادة الضرر ومن حيث الصيغة يحتمل فيه ثلاثة احتمالات ان يكون مصدر باب المفاعلة المأخوذ من الثلاثي المجرد ، وان يكون مصدرا للثلاثي المجرد أعني ضر من قبيل كتب كتابا وحسب حسابا ، وان يكون مصدرا من باب المفاعلة غير المزيد فيه أي غير المأخوذ من الثلاثي المجرد من قبيل سافر فانه غير مأخوذ عن سفر فانه بمعنى الكشف لا السفر.

وبناء على الاحتمال الأول ذكر المشهور ان الأصل في باب المفاعلة ان يكون بين اثنين ، واعترض عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) مدعيا ان باب المفاعلة لا يشترط ان يكون بين اثنين ، وكلامه في المقام ينقسم إلى ثلاثة مقاطع.

المقطع الأول ـ استعراض أمثلة عديدة ـ يقرب من أربعة عشر مثالا ـ من باب المفاعلة بعضها من القرآن الكريم وبعضها من الأحاديث وشيء منها ليس من فعل الاثنين من قبيل خادع ونافق وغيرهما وهذا يدل على ان باب المفاعلة لا يشترط فيه ان يكون فعل الاثنين.

المقطع الثاني ـ إقامة برهان على عدم كون باب المفاعلة بين الاثنين بعد ان افترض ان المشهور يدعون بان باب المفاعلة كضارب مثلا يدل على نسبتين إحداهما نسبة ضرب زيد إلى عمرو مثلا والأخرى نسبة ضرب عمرو إلى زيد وكذلك باب


التفاعل إلاّ ان الفرق بينهما ان النسبتين في باب التفاعل في عرض واحد ولذا يرفع فيه كلا المعمولين وفي باب المفاعلة طوليان وتكون إحداهما في الهامش ولهذا يرفع أحد المعمولين وينصب الآخر ، فاعترض عليهم بأنه اما ان يقال بان باب المفاعلة يدل على إحدى النسبتين فقط أي ان ضارب يفيد معنى ضرب من هذه الناحية ، أو يقال بأنه يدل على النسبتين وكذلك باب التفاعل إلاّ ان الدلالة على النسبتين تكون بمعنى الدلالة على ما ينتزع من النسبتين وهي نسبة ثالثة ، أو يقال بأنه يدل على نفس النسبتين مع طولية بينهما في باب المفاعلة ولا طولية بينهما في باب التفاعل.

امّا الأول وهو دلالة المفاعلة على إحدى النسبتين فقط فهو المختار له في قبال المشهور.

وامّا الثاني ، فيرد عليه انه لا يبقى فرق بناء عليه بين باب المفاعلة وباب التفاعل مع انه لا إشكال في وجود الفرق بينهما.

وامّا الثالث فيرد عليه أولا ان دلالة الهيئة على نسبتين غير صحيحة على حد عدم صحة دلالة اللفظ على معنيين.

وثانيا ـ انه لا يتعقل الطولية بين النسبتين فان اللفظ يدل على مجرد الضربين ونسبتهما إلى فاعلهما ومن الواضح انهما نسبتان في عرض واحد ، هذا إذا أريد دلالة الهيئة على النسبتين بالمطابقة مع فرض طولية بينهما ثبوتا.

واما إذا أريد الطولية بين النسبتين إثباتا بان تدلّ الهيئة على إحدى النسبتين بالمطابقة وعلى الأخرى بالالتزام من دون لزوم استعمال الهيئة في معنيين لأنه لم تستعمل الهيئة إلاّ في إحدى النسبتين التي دلت الهيئة عليها مطابقة ، فيرد عليه : ان هذا فرع وجود ملازمة بين النسبتين مع انه ليس هناك أي ملازمة بينهما.

المقطع الثالث ـ بيان المختار له وان باب المفاعلة يدل على إحدى النسبتين كالثلاثي إلاّ انه يدل على التعدية فان كان الفعل لازما يصبح متعديا في هذا الباب ويكون معنى إدخال هيئة فاعل عليه عين معناه حين إلحاق حرف التعدية عليه ، فمعنى جالست زيدا جلست إلى زيد ، وإن كان الفعل متعديا قبل هيئة فاعل فبدخولها عليه تصبح التعدية ملحوظة بالاستقلال وهو نوع توكيد وتثبيت للتعدية.

هذا محصل كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام.


وتعليقنا على هذا الكلام ، امّا فيما يتعلق بالمقطع الثالث فما ذكره من عدم تغير معنى الفعل المتعدي عند دخوله في باب المفاعلة غير صحيح ، بل التحقيق تغير المعنى كما يتضح ذلك بملاحظة الأفعال التي يتغير مفعولها بعد تغير معناها بدخولها في باب المفاعلة كقولك طرحت الثوب وطارحت زيدا الثوب فالمفعول أصبح زيدا بعد ان كان هو الثوب ، وكأن الخلط نشأ من ملاحظة الأفعال التي لا يتغير مفعولها بعد دخولها في باب المفاعلة كضربت زيدا وضاربته فتخيل ان المعنى لا يتغير.

وامّا ما ذكره من ان الفرق بين صيغة المفاعلة وبين الثلاثي المجرد المتعدي بنفسه من ان المفاعلة موضوعة للتعدي الملحوظ مستقلا ، فان أريد به وضع المفاعلة لمفهوم التعدية فهو واضح الفساد لأنه مفهوم اسمي ولا يحتمل إرادته ذلك ، وإن أريد انها تدل على منشأ انتزاع التعدية فمنشؤه نفس معنى الفعل الّذي يدل عليه الثلاثي أيضا ، وإن أريد ـ كما يظهر من ذيل عبارته ـ ان المفاعلة تدل على نقصد الفاعل حين إصدار الفعل بلوغ الفعل إلى المفعول وتعديته إليه فقولك خدعه يدل على انه ألبس عليه الأمر ولا يستفاد منه كونه تلبيسا متقصدا بخلاف خادعه ، ففيه منع مساعدة العرف على ذلك خصوصا في بعض الموارد كقابلته فانه يصح ان يقال قابلته اتفاقا أو صادفته حيث ان المادة لا تنسجم مع التقصد والعمد.

وامّا ما أفاده من ان باب المفاعلة يفيد في حق الثلاثي اللازم ما يفيده حرف الجر والتعدية فهو بحسب الدقة خلط بين معنيين للتعدية :

الأول ـ التعدية الحقيقة التي تعني كون الفعل صدوريا ينتهي من فاعل إلى مفعول لا حلوليا ، أي يتقوم بنسبة ذات طرفين طرف فاعل وطرف آخر مفعول به لا ذات طرف واحد كما في الأفعال الحلولية.

الثاني ـ التعدية بالحرف والّذي لا يعني تغير معنى الفعل الحلولي إلى الصدوري فان هذا امر غير معقول في نفسه بل بمعنى تحصيص النسبة الحلولية أو المادة المنتسبة وتقييدها بالمجرور ، والتعدية الحاصلة في باب المفاعلة من النوع الأول لا الثاني ففرق كبير بين قولك جالست زيدا وقولك جلست إلى زيد من حيث ان جالست يعطي معنى متقوما بطرفين فاعل ومفعول ويكون صدوريا بخلاف جلست إلى زيد الّذي لا يعدو ان يكون تقييدا للجلوس بكونه إلى جنب زيد لا عمرو.


وفي ضوء ما تقدم تتضح عدة نتائج في المقام :

منها ـ عدم تمامية ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من أن باب المفاعلة لتعدية الأفعال اللازمة فهي بحكم حرف التعدية.

ومنها ـ ان ما يذكره النحاة من ان الفعل اللازم يتعدى بحرف الجر غير دقيق ، فان حرف الجر لا يعطي التعدية بل يعطي التحصيص الّذي قد تكون نتيجته نفس نتيجة التعدية خارجا وصدقا.

ومنها ـ ان ما يقال من ان معنى ذهب به هو معنى أذهبه غير سديد فان تقييد الذهاب بقيد ( به ) لا يغير معناه الأصلي وانما يعني انه ذهب ذهابا أصحب معه الآخر فيه بحيث كأنه كان تحت سلطانه وتبعيته ، وهذا هو المعنى البليغ الّذي قصد بنحو المجاز والكناية في قوله تعالى ( ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) (١).

ومنها ـ ان ما أفاده السيد الأستاذ من ان التعدي واللزوم امران تعبديان في اللغة وليسا داخلين في صميم معنى اللفظ ولهذا نجد أنهم قد يستعملون مادة واحدة تارة متعديا بنفسه وأخرى بالحرف كقولك أضره وأضر به. غير سديد ، فان معنى أضره غير معنى أضر به فان الضمير في الأول هو المفعول وطرف النسبة المتعدى إليه حقيقة بينما الضمير في أضر به قيد للمادة الصادرة من الفاعل وهذه صورة ذهنية أخرى وان كانت من حيث النتيجة مغنية عن ذكر المفعول به مرة أخرى.

ثم انه يرد على المحقق الأصفهاني ( قده ) القائل بان المفاعلة تفيد نفس معنى حرف الجر ، اننا نشاهد ان المفاعلة يختلف معنى الحرف الّذي يضاهيها من مادة إلى أخرى فكاشفته معناه كشف له وجالسته معناه جلست إليه وساير معناه سرت معه فبناء على ان الأوضاع للأوزان والهيئات نوعية لا شخصية يلزم تعدد الوضع للمفاعلة تارة بإزاء معنى اللام ، وأخرى بإزاء معنى إلى ، وثالثة بإزاء معنى مع وهكذا لأنها معان مختلفة متباينة اللهم إلاّ ان يدعى وضعها لمفهوم التعدية الاسمي وهو واضح البطلان.

واما المقطع الثاني من كلامه فما ذكره في تفسير كلام المشهور من دلالة المفاعلة على نسبتين طوليتين غير صحيح ، بل الّذي يستفاد من كلامهم ان المفاعلة وضعت

__________________

(١) البقرة : آية ١٧.


لنسبة المادة إلى الفاعل مضمناً معنى الشركة فقولك ضارب زيد عمرا معناه صدور الضرب المقيد بكونه مشاركا فيه مع عمرو من زيد فكأنما قال شارك زيد عمرا في الضرب فباب المفاعلة يكون بين الاثنين ولكن بنحو يكون أحدهما فاعلا والآخر مفعولا لما عرفت من انه يدل على نسبة الفعل إلى الفاعل مع تطعيمه معنى المشاركة ، وبهذا يختلف عن باب التفاعل فلا يلزم دلالة الهيئة على معنيين ، ولا عدم الفرق مع باب التفاعل ، ولا سلخه عن فعل الاثنين.

وامّا المقطع الأول من كلامه فيرد عليه :

أولا ـ ان ما استعرضه من الأمثلة لا يكون بمقدار ينافي مع ما يدعى وجدانا من ان باب المفاعلة يكون بين الاثنين.

وثانيا ـ ان جملة ممّا استعرضه من الأمثلة كبارز ونافق وساعد ونادى وأرى وباشر ليس لها ثلاثي بمعناه امّا لعدم استعمال ثلاثية في معنى ، أو لاستعماله في معنى آخر لا يناسب مع معناه في باب المفاعلة من قبيل خالع ومثل آخذ بمعنى عاقب فانه باعتباره من العالي إلى الداني فوقوعه بين الاثنين بعيد عن الاعتبار (١) ، ومراد المشهور من وضع المفاعلة لفعل الاثنين ان المفاعلة المأخوذة من المجرد الّذي يلائم مع فرض وقوعه بين الاثنين.

على انه يمكن ان يراد بقول المشهور من ان الأصل في باب المفاعلة فعل الاثنين ان هذا هو المعنى الأولي لباب المفاعلة وان سائر المعاني في هذا الباب انما هو من جهة التشبه بهذا المعنى ولو من حيث ان ما يقع بين الاثنين كان له نحو امتداد وطول ، فسافر بمعنى السفر الطويل الممتد كالفعل الّذي يتجاذبه الاثنان.

ثم انه يمكن تصوير معنى باب المفاعلة بنحو أكثر فيه ممّا سبق بان يقال : ان صيغة المفاعلة كضارب تدل على ثلاثة أمور :

١ ـ مادة الفعل كالضرب الدالة على معناها الأصلي وهو طبيعة الضرب.

٢ ـ صيغة فاعل ـ أو الألف الزائدة ـ الدالة على تحصيص المعنى المستفاد من تلك

__________________

(١) اللهم الا بلحاظ المعنى المطابقي للمؤاخذة الّذي يعني إيقافه للحساب فكأن الوقوف لذلك من الجانبين ، بل وبالتدقيق في الأمثلة المذكورة أيضا يوجد فعل الاثنين بمعنى من المعاني المفقودة في غير هذا الباب وهو المشاركية ـ بالفتح ـ مع الطرف المفعول في تحقق الفعل في كل مورد بالنحو المناسب له فتأمل جيدا.


المادة وفرض الضربين عملية واحدة تبدأ بحسب عالم التصور الذهني من زيد وتنتهي إلى عمرو.

٣ ـ هيئة الثلاثي المجرد المحفوظة لا بحدها ضمن صيغة فاعل ، أو قل هيئة الفعل الدالة على نسبة مجموع المعنى المستفاد من المادة الأصلية والتحصيص الزائد المستفاد في هذا الباب إلى الفاعل ، وبهذا نستطيع ان تفسير كل الوجدانات اللغوية لنا من استفادة معنى التعدي إلى المفعول به رغم استفادة المشاركية لا كما هو في باب التفاعل ، ومن استفادة هذا التحصيص حتى في الموارد التي عند ما تدخل في هذا الباب يتغير مفعولها كطرحت الثوب وطارحته.

هذا كله في معنى باب المفاعلة.

واما الضرار فإذا افترضنا انه مصدر لباب المفاعلة المزيد فيه ففيه احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يكون بمعنى الضرر الواقع بين الاثنين حقيقة.

الثاني ـ ان يكون بمعنى الضرر الممتد والأكيد العميق المشابه للفعل الواقع بين الاثنين.

الثالث ـ بمعنى يشبه الفعل بين الاثنين من ناحية الإصرار على الضرر والتعمد فيه واتخاذ ذريعة إليه.

وإذا فرض ان الضرار مصدر للثلاثي المجرد ففيه احتمالات ثلاثة أيضا :

الأول ـ ان يكون بمعنى الضرر.

الثاني ـ ان يكون بمعنى الضرر الممتد الشديد.

الثالث ـ ان يكون بمعنى الضرر المتعمد فيه مع الإصرار واتخاذ ذريعة إليه.

وهذان هما الاحتمالان المشتركان مع المعنى الأول ، فتكون المعاني أربعة كما يلي :

١ ـ ان يكون بمعنى الضرر ، وهذا بعيد في نفسه حتى إذا فرض انه مصدر للثلاثي المجرد لأن تكرار صيغة المصدر من ضرر إلى ضرار مرة ثانية لا بد وان يكون من أجل تغيير في المعنى تصورا وأخذ عناية زائدة فيه كالإصرار والتعمد والا كان تكرارا صرفا ولغوا.

٢ ـ ان يكون بمعنى فعل الاثنين حقيقة وهذا المعنى مضافا إلى كونه غير محتمل في


الروايات المتقدمة لأن الضرر فيه كان من طرف واحد وهو سمرة بن جندب على الأنصاري لا من الطرفين خصوصا في نظر النبي 6 الّذي لا بد وان يستعمل اللفظ بحسب نظره لا دعوى سمرة ولو فرض انه مدع للضرر من جانب الأنصاري عليه أيضا يستلزم التكرار لأن لا ضرر ينفي الضرر من الطرفين فيكون تكراره من جديد بصيغة لا ضرار مستهجنا وركيكا.

٣ ـ ان يكون بمعنى الضرر الشديد المؤكد ، وهذا أيضا يلزم منه التكرار لأن الضرر الشديد أيضا منفي بلا ضرر.

٤ ـ ان يكون بمعنى الضرر المتعمد الّذي يصر عليه ويتخذ ذريعة إليه ، وهذا هو المتعين في المقام فان سمرة بن جندب كان يتذرع ويصر على الإضرار بالأنصاري باتخاذ حقه في العذق ذريعة إلى الدخول عليه بلا استئذان ، فالحكم بان الناس مسلطون على أموالهم وإن كان غير ضرري في نفسه ولكن قد يتخذ ذريعة للإضرار بالآخرين ويتقصد به ذلك كما فعل سمرة بن جندب ، أو يتخذ أحد الشريكين حقه في العين لمنع انتفاع الغير بها بوجه من الوجوه ، وهذا المعنى مضافا إلى استفادتنا له وجدانا من كلمة الضرار هو المناسب من استعمال هذه الكلمة في هذه الروايات بلحاظ ما أشرنا إليه من لزوم التكرار المستهجن.

وقد يقال : بان الضرر معناه مباين مع الضرر ، لأن الضرر هو النقص في المال والكرامة بينما الضرار الشدة والضيق من دون نقص ، ويستشهد على ذلك باستعمالات هذه الكلمة في القرآن الكريم كقوله تعالى ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) (١) وقوله تعالى ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) (٢).

وفيه : أولا ـ ما تقدم من وجود النقص في هذه الموارد أيضا من ناحية حقه وكرامته فان نقص حق الاستقرار أو إراحة أو تحديد حريته وسكون باله ضرر أيضا عقلائيا لأنه نقص لحيثية مهمة ولا يشترط كون النقص في امر مادي ، ولهذا قد يستعمل في ذلك الضرر أيضا كقوله تعالى ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر انهم لن يضروا الله

__________________

(١) التوبة : ١٠٧.

(٢) البقرة : ٢٣١.


شيئا ) (١) أو قوله تعالى ( ان الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا ) (٢) وقوله تعالى ( لن يضروكم إلاّ أذى ) (٣) فان الأخير فسر بالمشاغبة ، والأوليان المناسب فيهما الأذى والتأثر لا نقص شيء منه ، هذا إذا افترض ان الضر في هذه الآيات من الضرر لا الضرار لأن الأخير مصدر باب المفاعلة.

وثانيا ـ ان الضرار أيضا تستعمل في بعض الآيات في النقص كما في قوله تعالى ( من بعد وصية أو دين غير مضار ) (٤) بناء على ان الضرار مصدر لفاعل دون الضرر ـ فانه قد فسرت الآية بدعوى الدين على نفسه لشخص كذبا ليضر بذلك على الورثة وينقص في مالهم.

فالصحيح ان الضرر والضرار من هذه الناحية بمعنى واحد وانما الفرق بينهما من ناحية أخذ عناية التعمد والإصرار واتخاذ الذريعة إلى الضرر في الضرار سواء كان النقص ماديا أو في حق من الحقوق.

مفاد الهيئة التركيبية لجملة لا ضرر :

الجهة الرابعة ـ في مفاد الهيئة التركيبية لجملة لا ضرر. وبهذا الصدد نستعرض أولا الاتجاهات الفقهية الرئيسية في قاعدة لا ضرر ، ثم نستعرض المحتملات اللغوية لجملة لا ضرر لنرى ما هو الظاهر منها وما يستدعيه من تلك الاتجاهات الفقهية فنقول :

امّا الاتجاهات الفقهية الرئيسية فثلاثة :

الأول ـ ان مفاد هذه القاعدة نفي الحكم الضرري امّا بصيغة انه ينفي الحكم الّذي ينشأ منه الضرر سواء كان من نفس الحكم أو من الجري على طبقه أي من متعلقه أو من مقدماته وهذا هو الّذي اختاره الشيخ وتابعته عليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، أو بصيغة انه رفع للحكم الضرري برفع موضوعه فلا يشمل ما إذا لم يكن الموضوع الّذي تعلق به الحكم ضرريا بل كانت مقدماته ضررية وهذا ما اختاره صاحب

__________________

(١) آل عمران : ١٧٦.

(٢) آل عمران : ١٧٧.

(٣) آل عمران : ١١١.

(٤) النساء : ١٢.


الكفاية ( قده ).

الثاني ـ ان مفاد القاعدة تحريم الضرر ، وهذا ما ذهب إليه شيخ الشريعة ، وتحت هذا الاتجاه مسلكان :

١ ـ استفادة تحريم الضرر تكليفا فقط.

٢ ـ استفادة تحريمة تكليفا ووضعا أي البطلان.

الثالث ـ ان مفاد القاعدة نفي الضرر غير المتدارك ، وهو ما ذهب إليه الفاضل التوني ( قده ) ، وتحت هذا الاتجاه مسلكان أيضا.

١ ـ استفادة نفي الضرر غير المتدارك بمعنى جعل وجوب التدارك على من أضر بالغير.

٢ ـ استفادة الأعم من ذلك ومن نفي الحكم الضرري إذا كان الضرر مربوطا بالحكم لا بفعل المكلف.

وامّا المحتملات في جملة ( لا ضرر ) فلا إشكال في ان هذا النفي لا يراد به النفي الحقيقي للضرر بوجوده الخارجي مطلقا بداهة وجوده في الخارج ، ولعل هذا هو مقصود الشيخ الأعظم ( قده ) عند ما عبر « بعد فرض وضوح تعذر إرادة الحقيقة من هذا الكلام » فلا بد من تأويل أو تقدير في هذه جملة وعلى هذا الأساس ينبغي ملاحظة كل واحد من الاتجاهات الفقهية الثلاثة المتقدمة وما يمكن أن يكون تخريجا له كما يلي :

تخريج اتجاه حرمة الضرر :

ان المحتملات التي تنتج الاتجاه الفقهي الثاني ـ وهو حرمة الضرر ـ أربعة :

الأول ـ ان يكون حرف النفي في المقام مستعملا في النهي والإنشاء مجازا.

الثاني ـ ان يكون مستعملا في الاخبار عن النفي إلاّ ان الخبر المحذوف للضرر ليس هو الوجود بل ( مستساغ ) ، فيكون المعنى لا ضرر مستساغ في الإسلام ، أو يكون الخبر ( موجود ) لكن المقصود منه الوجود في الإسلام لا الوجود في الخارج بناء على ما سوف يأتي من ان ما يكون مستساغا في شريعة يقال عنه انه موجود وما يكون ممنوعا يقال عنه غير موجود في تلك الشريعة ومنها ( لا رهبانية في الإسلام ).


الثالث ـ ان تكون الجملة مستعملة في الاخبار والنفي لكن المراد الجدي منه الإنشاء والنهي كما في مثل يصلي ويسجد.

الرابع ـ ان تكون الجملة مستعملة في إنشاء النفي كما تستعمل بعت في إنشاء البيع لأن الحكم إثباتا ونفيا عند ما كان تحت سلطان الشارع فكأنه يفرض ان المسبب وهو وجود الضرر إثباتا ونفيا تحت سلطانه التشريعي فينفيه تشريعا.

تخريج الاتجاه نفي الحكم الضرري :

واما المحتملات التي تنتج الاتجاه الفقهي الأول أي نفي الحكم الضرري فثلاثة :

الأول ـ ان يراد بالمنفي ـ وهو الضرر ـ الحكم الضرري.

الثاني ـ ان يراد من الضرر المنفي الحالة الضررية التي تطرأ على المكلف من ناحية الحكم الشرعي فينفي لا محالة ذلك الحكم الضرري بالملازمة.

الثالث ـ ان يراد بالضرر الموضوع الضرري الّذي له حكم فيكون من نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

والاحتمال الأول يمكن تصويره بأحد وجوه :

١ ـ ان يكون على أساس المجاز في الحذف بان يكون لا ضرر بمعنى لا حكم ينشأ منه الضرر نظير واسأل القرية أي أهلها.

٢ ـ ان يكون على أساس المجاز في الكلمة بان تكون كلمة الضرر مستعملة في سببه ومنشأه وهو الحكم الضرري.

٣ ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من صحة إطلاق الضرر على منشئه وسببه حقيقة لا مجازا لكون اسم المسبب يطلق على السبب التوليدي حقيقة من قبيل أحرقه أو قتله مع انه بالدقة الفلسفية ليس الإلقاء في النار أو إطلاق الرصاص هو الإحراق أو القتل لأن الميزان بالمفهوم العرفي لا الدقي.

واعترض عليه : بان الضرر الناشئ من الوضوء منشئه فعل المكلف ، وليس الحكم الشرعي بوجوب الوضوء إلاّ مقدمة من المقدمات الإعدادية له لا مسببا توليديا.

إلاّ ان الظاهر ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) إلحاق الحكم الناشئ منه الضرر بالمسببات التوليدية عرفا لا دقة ، لأن العرف يرى ان الحكم والقانون هو المنشأ الحقيقي


لهذا الضرر وإن كان يتخلل بينه وبين الضرر الخارجي إرادة الفاعل إلاّ انها لكونها إرادة مقهورة للقانون فكأنّها لا إرادة ، ولهذا يقال ان هذا القانون الّذي وضعته الدولة أضر بالرعية دون عناية أو مجاز.

واما الاحتمال الثاني ، فليس فيه مجازية ولكنه يشتمل عليه التقييد بالضرر الحاصل من الشرع وذلك بأحد نحوين :

١ ـ التقييد من ناحية الأسباب أي لا ضرر مسبب عن الحكم ٢ ـ التقييد من ناحية الظروف والحالات أي لا ضرر في فرض تطبيق السلطة التشريعية للمولى خارجا وبالمقدار الّذي يرتبط من المجتمع بالشارع فالإضرار التكوينية وإن كانت موجودة إلاّ انها ليست داخلة في الدائرة المربوطة بالسلطة التشريعية للمولى وانما ترتبط بعالم التكوين ، وكلا النحوين من التقييد يستلزمان نفي الحكم الضرري لا محالة.

واما الاحتمال الثالث ، والّذي اختاره المحقق الخراسانيّ ( قده ) ، فلتوضيحه ينبغي ان نشير إلى ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون بأحد نحوين :

١ ـ ما يصطلح عليه بالحكومة وهو ما لا تسمح نكتته بنفي أصل الحكم بل لا بد من ان يكون المنفي إطلاق الحكم ، لأن تلك النكتة هي افتراض ان الحكم لازم ذاتي للموضوع ولا ينفك عنه كلما تحقق فإذا أريد نفيه يمكن بيان ذلك بنفي الموضوع الملزوم له لزوما لا ينفك عنه فيعبر بنفي الملزوم لإفهام نفي اللازم كقوله 7 ( يا أشباه الرّجال ولا رجال ) حيث يفرض ان الوفاء والبطولة والثبات من لوازم الرجولة التي لا تنفك عنها.

وهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما يمكن ان يكون بنحو النفي التركيبي كقولك هذا ليس بربا أو شكك ليس بشك ، كذلك يمكن أن يكون على نحو النفي البسيط كقوله 7 التائب من الذنب لا ذنب له ) الّذي بنفي وجود الذنب بداعي نفي اثره عن الذنب الّذي صدر منه قبل التوبة ، وكما لعله ظاهر ( لا ربا بين الوالد والولد ) الّذي ينفي وجود الرّبا وتحققه بينهما (١). فما عن المحقق النائيني ( قده ) من ان هذا النحو

__________________

(١) قد يستظهر ان جملة ( لا ربا بين الوالد والولد ) ظاهرة في النفي التركيبي لا النفي البسيط أي نفي الربوية عن المعاملة الربوية.


من الحكومة لا يكون إلاّ على نحو النفي التركيبي ليس صحيحا.

وأيّا ما كان فهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يختص بنفي إطلاق الحكم لا أصله لأن نكتته فرض كون الحكم أثرا لا ينفك عن الموضوع المنفي ، وهذا لا ينسجم مع نفي أصل ثبوت الحكم إذ بذلك يخرج عن كونه أثرا ولازما له.

٢ ـ ما يمكن نفي أصل الحكم به كما في مثل ( لا رهبانية في الإسلام ) وهذا يمكن ان يكون على أحد وجوه :

الأول ـ ان يكون النّظر إلى لوح التشريع وعالم الجعل والتقنين ، فان الحكم له نحو ثبوت موضوعا ومحمولا في هذا العالم فإذا كان وعاء النّظر هذا العالم أمكن نفي الحكم بلسان نفي موضوعه في هذا العالم شريطة ان يكون ثبوت الحكم لذلك الموضوع تشريعا مترقبا ومتوقعا في ذهن العرف ومأنوسا لديهم لثبوته في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ومرتكزاتهم كما في الرهبانيّة التي كانت في المسيحية ونفيت في الإسلام.

وهذا الوجه هو ظاهر كلام المحقق الاصفهاني ( قده) في المقام.

ويرد عليه : ان مجرد عناية ثبوت الحكم في لوح التشريع لا تكفي لتصحيح نفي الحكم بلسان نفي موضوعه في هذا العالم إلاّ بعنايات فائقة ، ولهذا لا يصح ان يقال لإطلاق في الإسلام بمعنى نفي حرمة الطلاق مثلا ، إذ كما يكون جواز الرهبانيّة حكما للرهبانية ثابتا في المسيحية كذلك كانت حرمة الطلاق مثلا ثابتة فيها فلما ذا لا يصح

__________________

الواقعة بين الوالد والولد ، ويستدل على ذلك بأحد وجهين لا يتم شيء منهما.

الأول ـ ان المقصود نفيه في المقام أثر لصفة المعاملة الربوية لا نفسها ، وتلك الصفة زائدة على نفس المعاملة حتى في نظر العرف فالأنسب نفي كون المعاملة الربوية ربوية لا نفي أصل تحقق المعاملة الربوية.

وفيه : ان ( لا ربا ) ليس نفيا للمعاملة الربوية وانما هو نفي لتحقق الرّبا الّذي هو الزيادة في المعاملة لا نفسها.

الثاني ـ ان العرف يفهم من هذه الجملة ان كيس الوالد والولد واحد وان الزيادة الواقعة بين الوالد والولد زيادة صورية لا حقيقية ، وإفادة هذا المطلب بالجملة النافية لا تكون إلاّ إذا كان النفي تركيبيا لا بسيطا أي تكون في قوة ( ليست الزيادة بين الوالد والولد زيادة ) بان تثبت الزيادة في طرف الموضوع أولا كزيادة صورية لتنفي عنها الزيادة الحقيقية ، وهذا بخلاف ما ذا حمل الكلام على النفي البسيط للزيادة بين الوالد والولد فانه بمجرده لا يفيد المعنى المذكور إذ لعله ينفي ذات الزيادة ادعاء لا حقيقة.

وفيه : ان النفي الادعائي للربا أيضا بحاجة إلى مصحح ، ومصححه في المقام ولو ارتكازا وعرفا هو وحدة الكيس وهذا أبلغ من إثبات الموضوع صورة ثم نفيه عنه حقيقة بل حمل الجملة على النفي التركيبي خلاف الظاهر بعد ان كان مدلوله الوضعي النفي البسيط ، ولعله غلط في الاستعمال فان ( لا ) النافية لا تستعمل في النفي التركيبي وجعله كناية عن إخطار المعنى التركيبي ممّا لا يساعد عليه العرف ولا الذوق.


عرفا التعبير عن نفي حرمته بنفي موضوعها؟

الثاني ـ ان يكون النّظر إلى الوجود الاستساغي للمنفي ، فان الأمر المستساغ في شريعة كأنّه نحو وجود في تلك الشريعة لا لكونه موضوعا لحكم وإلاّ كان العنوان المحرم أيضا كذلك بل لكونه مباحا أو مستحبا أو واجبا بحيث له تحقق من جهة أحد هذه الأحكام في تلك الشريعة فينفي الجواز أو الاستحباب أو الوجوب بنفي وجود الموضوع ، ولهذا صح ان يقال لا رهبانية في الإسلام ولم يصح ان يقال لا طلاق في الإسلام. ومقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي بهذا المعنى نفي تمام مراتب الاستساغة حتى الإباحة ، ولكن يمكن ان يراد نفي بعض مراتبه كما إذا قيل لا تحمل للضرر عن الغير في الإسلام بمعنى لا يجب تحمله عن الغير.

الثالث ـ ان ينفي الحكم الاستساغي بنفي وجود الموضوع خارجا ، باعتبار ان حكمه الاستساغي هو مصدر وجوده في الخارج فينفي السبب بنفي مسببه ومعلوله ، وفرقه عن السابق ان المنفي هنا الوجود الخارجي وفي الوجه الثاني الوجود التشريعي الاستساغي ، واثره انه في هذا الوجه يكون نفي الوجود الخارجي مساوقا مع انتفاء تمام مراتب الاستساغة من الإباحة والاستحباب والوجوب بلا حاجة إلى إطلاق النفي كما كان في الوجه السابق لأن انتفاء المسبب لا يكون إلاّ بسد تمام منافذ وجوده كما هو واضح.

ثم ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ـ ولو بجعل الضرر عنوانا منطبقا على الموضوع الناشئ منه الضرر باعتباره مسببا توليديا عرفا كما يقول المحقق النائيني ـ بنحو الحكومة أي بالنكتة التي تختص بنفي إطلاق الحكم غير ممكن في المقام لا على نحو النفي البسيط ولا النفي التركيبي.

اما النفي البسيط ، فلأنّه يناسب مع خصوص موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني ولا يناسب مع متعلق الحكم الضرري كالوضوء الضرري ، إذ لا ينتفي الحكم بانتفاء متعلقه وانما ينتفي بانتفاء موضوعه الملزوم له ، واما المتعلق فهو الّذي يستدعيه الحكم ولا ينتفي الحكم بانتفائه.

واما النفي التركيبي ، بان يقصد من نفي الضرر نفي كون الوضوء الّذي انطبق عليه عنوان الضرر وضوء فلا يرد عليه ما تقدم ، لأن انتفاء كونه وضوء يستلزم عدم وجوبه


إلاّ ان هذا لا يمكن استفادته من لا ضرر باعتبار ان المنفي به عنوان الضرر لا عنوان الوضوء عن الوضوء الضرري فهذا معناه عدم اسناد النفي إلى الضرر بل إلى الوضوء كما هو واضح وهذا بخلاف مثل لا ربا بين الوالد والولد لو حمل على النفي التركيبي فان النفي منصب فيه على الرّبا وان الزيادة الواقعة بين الوالد وولده ليست ربا فتفسير لا ربا بالنفي التركيبي لا يرد عليه مثل هذا الإيراد (١).

نعم مقتضى الأصل الأولي لنفي عنوان إرادة النفي البسيط منه لا التركيبي إلاّ ان تقوم قرينة على تعيين ذلك ، لأن أداة النفي داخلة على الرّبا ابتداء ولم يذكر شيء آخر لينفي عنه الرّبا فحمله على النفي التركيبي بحاجة إلى قرينة تدل على تقدير موضوع ينفى عنه ذلك العنوان ، وهذا قد يقال بوجوده في هذا المثال فان المناسبة لنفي الرّبا بين الوالد والولد ان يكون كيس الوالد كأنّه كيس الولد وأموال الولد كأنّها للوالد وهذه المناسبة تجعل النفي تركيبيا وبمعنى ان الزيادة الواقعة بين الوالد والولد ليس بزيادة بحسب الحقيقة ، وهذا بخلاف مثال ( التائب من الذنب لا ذنب له ) فان المناسب له نفي أصل الذنب عن التائب لا الاستهانة بالكذب الصادر منه مثلا قبل التوبة وانه ليس بذنب فيكون النفي بسيطا لا محالة لا تركيبيا.

واما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بالنحو الثاني الّذي يمكن نفي أصل الحكم به فقد عرفت ان له أقساما ثلاثة لا بد من ملاحظة كل واحد منها :

الأول ـ نفي الوجود الاعتباري للضرر بلحاظ لوح التشريع ، وهذا الاحتمال مضافا إلى عدم صحته في نفسه إلاّ بعنايات فائقة ـ كما تقدم ـ لا يتم في المقام إلاّ بافتراض

__________________

(١) لعل الأولى ان يقال : بان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة ورفع إطلاق الحكم لا أصله انما يكون فيما إذا كان الحكم المراد نفيه مرتبا على نفس العنوان المنفي مثل ( لا ربا بين الوالد والولد ) و ( لا شك لكثير الشك ) ونحو ذلك لا ما إذا كان الحكم مرتبا على عنوان آخر كوجوب الوضوء أو لزوم البيع ولكن قد يقع مصداقا للعنوان المنفي من قبيل الضرر والحرج ونحو ذلك ، فان هذا النحو من نفي الحكم والّذي يكون بملاك الملازمة وعدم الانفكاك بين ذلك الموضوع المراد نفي حكمه وبين حكمه لا يعقل في مثل هذه العناوين التي ليس لها الحكام لازمة يراد نفيها عنها حتى إذا افترضنا انطباق عنوان الضرر عليها للتسبيب لأن ذلك الحكم لا يصبح لازما لعنوان الضرر المنفي فيتعين ان يكون النفي لمثل هذه العناوين بالنحو الثاني.

واما ما ذكر من ان النفي البسيط لا يناسب إلاّ مع موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني ولا يناسب مع متعلق الحكم الضرري كالوضوء فهذا لا يوجب إبطالا لهذا الاحتمال بل غايته اختصاص النفي فيها بالموضوع الضرري كالعقد الغبني لا أكثر.

والصحيح ان يقال في إبطال هذا الاحتمال ان الموضوع الضرري كالعقد الغبني أيضا لا يمكن نفيه بلا ضرر لأن لزوم العقد الغبني ليس حكما للضرر لينفى بنفي الضرر ولو فرض انطباق عنوان الضرر على العقد الغبني


عناية انَّ عنوان الضرر منطبق عرفاً على العقد الغبني ـ الموضوع الضرري ـ أو الوضوء الضرري ـ المتعلق الضرري ـ حقيقة باعتباره مسببا توليديا عنهما ، وان انطباق ذلك عليهما كأنّه نحو وجود للضرر في لوح التشريع وإن لم يكن التشريع حكما لعنوان الضرر بل لمعنونه ، وامّا إذا أريد نفي حكم الضرر الحقيقي أي نفس الحالة الضررية والنقص فلا يصح نفي وجوده الاعتباري في لوح التشريع لما مضى من كونه مشروطا بكون الحكم المقصود نفيه ممّا يترقب ثبوته له ولو لثبوته في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ، وليس للضرر حكم يترقب ثبوته له عدا الحرمة ونفيها خلاف المقصود.

الثاني ـ نفي الوجود الاستساغي للضرر من قبيل ( لا رهبانية في الإسلام ) وهذا ينتج تحريم الضرر والإضرار وعدم جواز إيقاعه خارجا ـ وهو أحد التخريجاب المتقدمة للاتجاه الفقهي الثاني ـ وهل يمكن ان نستنتج بناء على هذا التخريج نفي الأحكام الضررية أيضا ـ أي الاتجاه الفقهي الأول ـ؟

الصحيح : إمكان ذلك لأن وجود أحكام تستوجب الضرر خارجا كالوضوء الضرري أيضا نحو استساغة من قبل الشريعة للضرر كما لو كانت للشريعة أحكام تستوجب الرهبنة بحسب النتيجة فيكون نفي الوجود الاستساغي للضرر رفعا لها بلسان نفي موضوعها ولو باعتبار ان عنوان الضرر ينطبق على موضوعاتها بالعناية المتقدمة عن الميرزا فيكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع (١).

الثالث ـ نفي الوجود الخارجي للضرر لنفي حكمه الاستساغي ، فهذا ينتج كالاحتمال السابق حرمة الإضرار ، واما نفي الأحكام الضررية ـ الاتجاه الفقهي الأول ـ فاستفادته من هذا التخريج مبني على إعمال العناية المتقدمة عن الميرزا وان

__________________

(١) الإنصاف ان عناية نفي الوجود الاستساغي للضرر والّذي يكون على وزان ( لا جدال ولا فسوق في الحج ) غير عناية نفي استناد الضرر إلى الشارع ونشوئه من حكمه ولا يمكن الجمع بينهما معا لأن ملاك العناية الأولى ملاحظة المكلف الملتزم بحدود الشريعة وأفعاله الممسوح بها ولهذا تختص هذه العناية بخصوص العناوين التي تكون أفعالا للمكلفين كعنوان الجدال والفسوق والرهبنة بينما ملاك العناية الثانية ملاحظة نتائج نفس الأحكام مع قطع النّظر عن افعال المكلفين بل ما يتولد من التشريع قد لا يكون فعلا للمكلف أصلا ولهذا تستخدم هذه العناية عادة في عناوين لا تكون فعلا من افعال المكلفين كعنوان الحرج والعسر والضرر ونحو ذلك وبهذا يظهر ان فقرة ( لا ضرر ) لا يستفاد منها أكثر من نفي الحكم الضرري نعم فقرة ( لا ضرار ) تناسب أن يكون النفي فيها بلحاظ الوجود الاستساغي للضرار لكونه فعلا للمكلف فيستفاد منها حرمة الإضرار وبهذا يندفع إشكال لزوم التكرار الّذي أشير إليه في تفسير مادة الضرار لو أريد به الضرر المتعمد فتأمل جيدا.


الضرر ينطبق على الموضوعات الضررية فينفي وجوب الوضوء الضرري ولو لم تنتف تمام مراتب الاستساغة باعتبار ان الوضوء الضرري مثلا حيث انه لا داعي لأحد في تكلف الإتيان به لو لا الأمر الشرعي فكأن زوال امره كاف لتحتم انتفائه خارجا.

ثم انه ربما يدعى التلفيق بين بعض الأقسام وبعضها الآخر وذلك بأحد نحوين :

الأول ـ ان يفرض ان النفي للضرر بلحاظ جميع أنحاء وجوده ، أي وجوده الاعتباري والاستساغي والخارجي معا تمسكا بإطلاق النفي.

وفيه : ان هذه الأنحاء من الوجود للضرر ليست كلها حقيقية ليجري الإطلاق في نفيها ، بل الأول والثاني منهما عنائيان لا يمكن افتراض شيء منهما إلاّ في طول إعمال تلك العناية المصححة لكل منهما والصارفة لظاهر اللفظ عن إرادة وجوده الحقيقي إلى ذلك الوجود ، وتلك العناية إن لم يثبت ما يدل عليها فلا بد من حمل اللفظ على وجوده الحقيقي ، وإن ثبت ما يدلّ عليها انصرف الكلام إلى ملاحظة ذلك النحو من الوجود بالخصوص لا محالة لا إرادة جامع الوجودات.

الثاني ـ ان نجمع بين نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على نحو الحكومة ونفي الحكم بلسان نفي وجود متعلقه خارجا ـ القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المتقدمة ـ باعتبار ان المنظور إليه في كليهما هو نفي الوجود الخارجي لا الاعتباري أو الاستساغي للضرر ، ولكنه تارة لنفي حكمه وهو لزوم العقد الضرري مثلا باعتباره ملزوما له ، وأخرى لنفي الحكم بنفي متعلقه خارجا باعتبار انعدام المتعلق في الخارج بانتفاء الحكم الاستساغي المتعلق به.

وهذا أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه إثباتا ، لما فيه من الجمع بين عنايتين وتنزيلين ، والإطلاق لا يقتضي الجمع بين العنايات فهذا يشبه استعمال اللفظ في معنيين ولكن بلحاظ مرحلة المدلول الجدي واقتناص المرام.

هذه هي الأنحاء المتصورة لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع في المقام. والمحقق الخراسانيّ ( قده ) وإن ذكر ان لا ضرر من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الا ان ظاهر عبارته في الكفاية تطبيق ملاك الحكومة أي نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع بنكتة التلازم بين الحكم وموضوعه بقرينة تشبيهه ذلك بأمثال ( يا أشباه


الرّجال ولا رجال ) و ( لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ) الّذي هو نفي للأثر بلسان نفي ذي الأثر.

وظاهر عبارته في حاشيته على الرسائل ان المقام من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الّذي يمكن فيه نفي أصل الحكم لأنه شبّهه بمثل ( لا رهبانية في الإسلام ) و ( لا سرقة في الإسلام ) والّذي يكون من نفي الموضوع بوجوده الاستساغي ، وإن كانت عبارته لا تصرح بذلك فلعلّه يريد نفي الوجود الاعتباري أو الحقيقي ، وقد جعل ذلك منشأ لعدم إمكان استفادة نفي الأحكام الضررية من الحديث بل مجرد تحريم الضرر ، بينما في الكفاية جعل الضرر عنوانا للموضوع الضرري فرفع بذلك الأحكام الضررية.

تخريج الاتجاه الفقهي الثالث :

واما كيفية تخريج الاتجاه الفقهي الثالث وهو نفي الضرر غير المتدارك فهذا يكون باعمال عناية ان المراد بالضرر هو الضرر المستقر الثابت ، واما الضرر المتدارك والمضمون فليس بضرر عرفا ، وحينئذ تارة تجعل ( لا ) ناهية فيكون المتحصل تحريم الضرر غير المتدارك على المكلفين فقط ، وهذا هو القول الأول تحت هذا الاتجاه وأخرى تجعل ( لا ) نافية للضرر غير المتدارك فيثبت وجوب التدارك إذا كان الضرر من فعل الإنسان ونفي الحكم الضرري إذا كان مسببا من حكم الشارع ، وهذا هو القول الثاني تحت هذا الاتجاه.

وقد اتضح ممّا سبق ان الوجوه التي تثبت نفي الحكم الضرري تستبطن أيضا نفي جواز الإضرار لكونه أيضا حكما وجوديا ينشأ منه الضرر أو يفرض عموم القاعدة لعدم الحكم أيضا إذا كان ينشأ منه الضرر. نعم لو فرض ان نفي الحكم بلسان الضرر كان بملاك ان الشارع هو مسبب الضرر ومقتضية فلا يشمل جواز الإضرار فانه وإن كان يصدق في مورده انه لو لا تجويز الشارع لما كان يتحقق الضرر إلاّ ان هذا بحسب الحقيقة من باب عدم المنع عن إضرار الناس بعضهم بعضا لا ان الشارع هو مسبب الضرر.


المختار في لا ضرر :

والتحقيق : ان جملة ( لا ضرر ) لو خليت ونفسها تكون متضمنة لظهورات عديدة كما يلي :

١ ـ ظهورها في النفي دون النهي ، بل لعل استعمال ( لا ) الداخلة على الاسم في النهي لا يصح حتى مجازا.

٢ ـ ظهور الكلام في عدم التقدير وان المنفي هو المذكور صريحا وهو الضرر لا الحكم الناشئ منه الضرر.

٣ ـ عدم المجازية في كلمة الضرر بإرادة الحكم الضرري منه.

٤ ـ عدم العنائية بان يراد من نفي الموضوع نفي حكمه لكونه لازما له ، أو غير ذلك من العنايات المتقدمة لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع ٥ ـ ظهور الكلام في ان المنفي هو الوجود الحقيقي للضرر لا التشريعي أو الاستساغي.

٦ ـ ظهوره في أخذ الضرر بنحو الموضوعية لا الطريقية ، وهذا ينفي احتمال المحقق النائيني ( قده ) في المقام حيث جعل الضرر عنوانا للحكم باعتباره مسببا توليديا عنه.

توضيح ذلك : ان جعل الضرر عنوانا للحكم وإن كان صحيحا عرفا ـ كما ذكرنا ـ باعتباره طريقا إلى الضرر الحقيقي وسببا له إلاّ ان هذا لا يعني ان مفهوم الضرر يصبح له مصداقان عرفا أحدهما الضرر الخارجي والآخر مسببه في عرض واحد ، وانما يعني صحة إطلاقه على الفرد الطريقي عرفا إلاّ انه عند ما يستعمل العنوان دون قرينة ينصرف لا محالة إلى إرادة الفرد الحقيقي منه كما هو في المقام. على ان كلمة لا ضرار على ما اختاره واخترناه يراد منه الضرر المتعمد والمتفنن فيه وهو ليس عنوانا للحكم الشرعي قطعا ولا مسببا عنه بل عن فعل المكلف واستغلاله الخبيث للحكم الشرعي فيكون المراد منه فرده الحقيقي وهو قرينة على إرادة الوجود الحقيقي من الضرر المنفي أيضا.

٧ ـ الظهور الإطلاقي في ان المنفي مطلق الضرر.

وهذه الظهورات السبعة لو أريد التحفظ عليها جميعا لزم نفي كل ضرر خارجي في


العالم وهو بديهي البطلان كما ذكرنا سابقا فلا بد من رفع اليد عن بعض هذه الظهورات.

والظهورات الثلاثة الأخيرة وإن كانت أضعفها فتتعين هي في مقام السقوط ولكن هذا المقدار لا يكفي في تعيين المقصود ، إذ تتردد الأمر بين هذه الظهورات الثلاثة ولا معين لأحدهما قبال الآخرين ، نعم لو كانت كلمة ( في الإسلام ) ثابتة أمكن رفع اليد عن الظهور الخامس وإرادة نفي الوجود الاستساغي في الشريعة كما في ( لا رهبانية في الإسلام ) إلاّ ان هذا لم يثبت في سند صحيح.

هذا ولكن الصحيح تعين الظهور الأخير للسقوط في قبال الظهورات السابقة لا لمجرد كونه ظهورا إطلاقيا وهو أضعف عادة من الظهورات الوضعيّة ، أو كونه إطلاقا في طرف الموضوع فيرفع اليد عنه في أمثال المقام لا عن الظهورات الوضعيّة في طرف المحمول والحكم كما هو منقح في بحوث التعارض ، بل لقيام القرينة المتصلة على ذلك أيضا لبداهة وجود الإضرار التكوينية في الخارج كثيرا وظهور كلام النبي 6 بأنه صادر عنه بما هو مشرع ومقنّن فلا يكون نظره إلى الإضرار التكوينية التي لا ربط لها بالشريعة أصلا ، وهذا يشكل قرينة لبّية متصلة بالخطاب مانعة عن انعقاد أصل الظهور الأخير الإطلاقي دون الظهورات الوضعيّة الأخرى لكونها اقتضائية لا سكوتية كما هو منقح في بحث التعارض (١).

__________________

(١) الإنصاف ان هذا القرينة المقامية نسبتها إلى الظهورات المذكورة على حد واحد لا انها تعين ان يكون المراد من الضرر المنفي هو الوجود الحقيقي منه مع تقييده بالناشئ من الحكم الشرعي ، لأن هذه القرينة لا تقتضي أكثر من ان المتكلم وهو النبي 6 ليس ناظرا إلى نفي الإضرار التكوينية ولا يناسبه ذلك بل لا محالة ناظر إلى عالم تشريعاته ، وحينئذ إن لم يدع بان هذا يجعل كلامه ناظرا إلى عالم التشريع ووعائه أو عالم الاستساغة التشريعية أو ان المراد من الضرر منشأه الشرعي ـ المعنى الطريقي للضرر ـ فلا إشكال في ان إرادة ذلك ليس بأخفى من إرادة الوجود الخارجي للضرر المقيد بل لعل هذا المعنى لا يخلو من ركاكة تنشأ من إطلاق الضرر الخارجي وإرادة قسم معين منه.

وان شئت قلت : ان تعيين وعاء النّظر وانه عالم التشريع أو الاستساغة ونحو ذلك من العنايات هي أيضا كالدلالة الإطلاقية ليست دلالة لفظية فالتصرف فيها بإرادة الاخبار عن عالم التشريع أو إرادة موضوع تشريعي ليس بأكثر مخالفة من تقييد الضرر الخارجي بالناشئ من حكم الشارع إن لم يكن أخف مئونة بحسب نظر العرف وأبلغ فيتعين ان يكون المنفي هو الوجود الاستساغي والتشريعي للضرر أو إرادة المعنى الطريقي منه كما ذكره الميرزا ( قده ).


المشاكل المثارة في فقه لا ضرر :

الجهة الخامسة ـ في استعراض المشكلات التي أثيرت في مقام اقتناص المدلول النهائيّ من الحديث بعد فرض إمكان نفي الحكم الضرري به ، وهي كما يلي :

الأول ـ ان الحديث على هذا يبتلي بتخصيص الأكثر ، لأن كثيرا من الأحكام الفقهية تستبطن الضرر كالحدود والدّيات والقصاص والضمان والخمس والزكاة والجهاد والحج وغير ذلك فلا بد من ان يراد منه معنى آخر غير نفي الحكم الضرري ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى إجمال الحديث وعدم إمكان العمل به ، وبعضهم إلى انه يعمل به في حدود ما عمل به المشهور. وأجاب عن الإشكال آخرون بان الحديث باعتباره حاكما على أدلة الأحكام الأولية ينظر إلى تحديد إطلاقاتها لا أصلها فلا يشمل الأحكام المذكورة التي تكون ضررية بحسب طبعها.

الثاني ـ ان الحديث طبق في مسألة الشفعة في بعض رواياته مع ان بيع الشريك لحصته لا يكون ضررا على شريكه إلاّ نادرا وبنحو قد يكون مقدمة إعدادية للضرر كما إذا كان المشتري رجلا خبيثا قد يضر بالشريك الأول ، ومثل هذه المقدمات الإعدادية للضرر لا تمنع عن ترتب الحكم الشرعي جزما.

وقد أجيب عن ذلك تارة بان ذلك من الجمع في الرواية المروي فلا يرتبط حديث لا ضرر بحكم الشفعة ، وأخرى بان الضرر في باب الشفعة من باب الحكمة لا العلّة ، وثالثة بان لا ضرر تفريع على حكم الشفعة لا علّة له أي باعتبار ان حق الشفعة مجعول للشريك فلا يترتب ضرر على بيع الشريك خارجا لإمكان فسخه من قبل الشريك الأول ، وعلى هذا فيسقط الاستدلال بهذا الطريق للحديث على القاعدة.

الثالث ـ ان الحديث طبق في بعض طرقه على مسألة منع فضل الماء مع انه ليس بضرر على الثاني وانما هو من باب عدم النّفع ، فهل يراد بالضرر مجرد عدم النّفع وكيف يمكن ان يلتزم بذلك؟ بل هنا لا يمكن ان يكون الضرر حتى حكمة للحكم بحرمة منع فضل الماء ، ومن هنا جعل بعضهم ذلك أيضا من باب الجمع في الرواية لا المروي.

الرابع ـ ان تطبيق الحديث على قضية سمرة بن جندب أيضا لا يخلو من إشكال لأن


النبي 6 قد طبق ذلك لإثبات جواز قلع النخلة الراجعة لسمرة مع ان الأمر الضرري انما هو جواز الدخول بلا استئذان فلا بد من ارتفاع هذا الحكم لا حرمة قلع النخل ، ومن هنا جعل بعضهم ذلك تعليلا لعدم جواز الدخول بلا استئذان لا لجواز قلع النخلة ، بل كان حكم النبي 6 بالقلع من باب كونه ولي الأمر.

والتحقيق : في دفع كل ما أثير من المشكلات ان نلتفت إلى أمور ثلاثة :

الأمر الأول ـ ان وجود الشيء قد يكون حقيقيا ثابتا في نفسه ، وقد يكون حقيقيا ثابتا في طول عناية عرفية ، وثالثة يكون عنائيا اعتباريا. فالأوّل من قبيل التعظيم بالسجود أو الثناء لشخص ، والثاني من قبيل التعظيم بالقيام له في مجتمع جعل القيام فيه أسلوبا من أساليب التعظيم ، ومن هنا يكون تحقق التعظيم في طول ذلك الجعل ، والثالث من قبيل العناوين العنائية والمجازية أو الاعتبارية. وإذا ورد لفظ مطلق في لسان دليل فكما يشمل الفرد الحقيقي الأول يشمل أيضا الفرد الحقيقي الثاني الّذي يكون في طول عناية العرف إذا كانت تلك العناية ثابتة في المجتمع أو العرف الّذي يتكلم فيه الشارع.

وعلى هذا الأساس نقول : ان عنوان الضرر كما يشمل المصداق الحقيقي للضرر كقطع اليد مثلا كذلك يشمل منع الشريك عن حق الشفعة فانه ضرر في طول افتراض ان العرف يرى بحسب ارتكازه حقا للشريك في الشفعة فإذا لم يكن له مثل هذا الحق كان نحو إضرار به وهو ضرر حقيقي لأنه نقص لحق مركوز عقلائيا ـ كما تشهد بذلك الشواهد التاريخية القانونية ـ وكذلك حق الانتفاع من فضل الماء وما أشبه ذلك في الثروات العامة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى للناس عموما لإشباع حاجاتهم بها فيكون منع الزائد على الحاجة منه نحو إضرار بالآخرين في طول هذه العناية حقيقة.

وبهذا يعرف الوجه أيضا في تطبيق القاعدة على مثل خيار الغبن أو تبعض الصفقة مع انه لا ضرر في تبعض الصفقة وتبعض الثمن بتبعه ، فان هذه الخيارات حقوق عقلائية. وإن شئت قلت : ان إلزام المشتري بذلك وتحميله عليه نحو إضرار به عقلائيا فيكون مشمولا للقاعدة وتكون القاعدة إمضاء لمثل هذه الحقوق أيضا كما تفيد التأسيس في موارد أخرى.


وكأن خفاء هذا مطلب هو الّذي دعى مثل المحقق العراقي ( قده ) ان يفترض متمما لهذه القاعدة في المرتبة السابقة فسلخها عن التأسيسية وحملها على انها إشارة إلى قواعد مجعولة في موردها من قبل نظير ما ذكره في حديث مسعدة بن صدقة ( كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ) الوارد في مورد السوق واليد ونحو ذلك ، وقد عرفت ان الصحيح ما ذكرناه.

الأمر الثاني ـ ان حديث كثرة التخصيصات على قاعدة لا ضرر انما ينجم من الجمود على الظهور الأولي للكلام بقطع النّظر عن تحكيم مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية عليه ، ذلك ان الشريعة من مقوماتها بحسب المرتكز العقلائي اشتمالها على قواعد وأنظمة تحقق العدالة الاجتماعية وتنظم الحياة العامة للناس وهي تستتبع لا محالة تحميلا على الناس أو تحديدا لهم إلاّ ان هذا ليس بضرر اجتماعيا بلحاظ المشرع ـ وإن فرض بالقياس إلى الفرد لو أراد ان يحمل شيئا على آخر كان ضررا ـ بل الضرر ان تخلو الشريعة عن تلك الأنظمة فان الشريعة التي لا تضمن من أتلف ما الغير ولا تقتص من جان ولا تعاقب سارقا ولا تأخذ زكاة للفقراء هي التي تكون ضررية وهكذا يتضح انه بالنسبة إلى المشرع الصادر منه هذه القاعدة لا تكون الأحكام المذكورة بحسب مناسبات الحكم والموضوع الاجتماعية أحكاما ضررية لكي يقال بأنها تخصيص الأكثر.

واما الأحكام العبادية الأخرى فلو فرض فيها ما يستلزم نقص مال أو تحديد حرية ولم تكن مشمولة للارتكاز والمناسبة المشار إليها فلا إشكال في ان هناك ارتكازا آخر محكما على هذا الدليل الصادر من شارعنا الأقدس وهو انه ليس للعبد تجاه مولاه الحقيقي حق الحرية والملك ليكون تكليفية بذلك من أجل المولى ضررا عليه نعم تحمله لذلك تجاه الآخرين يكون ضررا وهو المنفي بهذه القاعدة.

وهكذا يتضح في ضوء هذا الأمر الجواب على إشكال كثرة التخصيص الّذي تجشم الشيخ في مقام دفعه بان التخصيص الوارد قد تعلق بعنوان واحد لا بعناوين متعددة فانه ليس هناك تخصيص بل تخصص.

واما الأجوبة المتقدمة فجواب الشيخ قابل للمناقشة من ناحية عدم ورود التخصيصات بعنوان واحد بل عناوين عديدة حسب الأبواب الفقهية المختلفة ،


ولو فرض ذلك فلا فرق في استهجان تخصيص الأكثر بين كونه بعنوان واحد أو عناوين عديدة خصوصا في مثل هذا اللسان الآبي عن التخصيص والناظر إلى الشريعة وأحكامها بما هي قضايا خارجية متعينة لا قضية حقيقية.

واما جواب المحقق الخراسانيّ من ظهور القاعدة في مانعية الضرر فلا يشمل فرض كون الضرر بنفسه مقتضيا لحكم فيرد عليه :

ان المقتضي للأحكام التي تكون من أصلها ضررية ـ بقطع النّظر عما ذكرناه ـ ليس هو الضرر بل المصالح المترتبة في تلك الأحكام وإن كانت ملازمة مع تضرر المكلفين فلما ذا لم يجعل الضرر مانعا عن تأثير تلك المصالح كما منعت عن تأثير مصلحة الوضوء الضرري.

واما جواب المحقق النائيني ( قده ) من ان حديث لا ضرر حاكم على أدلة الأحكام الأولية بملاك النّظر إليها فلا بد من ان يفترض ثبوت ذلك الحكم في المرتبة السابقة فلا يمكن للحديث ان يرفع أصل الحكم الضرري وانما ينحصر مفاده في نفي إطلاق الحكم الضرري.

فالجواب : ان الحديث ناظر إلى الشريعة ككل لا إلى كل حكم حكم وهو ينفي ثبوت الحكم الضرري فيها سواء كان أصله ضرريا أو إطلاقه ، واما الشريعة فهي مفترضة وثابتة في المرتبة السابقة.

واما ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من المناقشة في ضررية هذه الأحكام فذكر في الخمس والزكاة مثلا بأنه ليس ضررا بل عدم النّفع فانه ليس إلاّ عبارة عن جعل الفقير شريكا مع الغني من أول الأمر نظير جعل غير الولد شريكا معه في الإرث.

فيرد عليه : انه لو قطعنا النّظر عن المناسبات التي أشرنا إليها كان عنوان الضرر صادقا هنا لأن الخمس والزكاة انما يكون في طول تحقق ملكية الغني أولا فما يخرجان عن ملكه إلى ملك الفقير أو الإمام 7.

وذكر في ضمان اليد بأنه ليس ضررا لأنه هو الّذي أقدم عليه فكأنّه لا ضرر عرفا

وفيه : ان الضمان كثيرا ما يكون من دون اقدام من الضامن على الإتلاف كما في الإتلاف غير العمدي وكما في موارد الجهل واعتقاد ان هذا المال له فأخذه فتبين بعد التلف انه لغيره.


والمحقق العراقي ( قده ) أشكل على هذا الكلام من المحقق النائيني ( قده ) بإشكال الدور ، فان الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان الّذي هو فرع عدم جريان قاعدة لا ضرر الّذي هو فرع الإقدام على الضرر وهذا دور ، وسوف يأتي التعليق على هذا الإشكال.

وذكر في مطلق الضمان والقصاص بأنه من موارد تعارض الضررين ، فان عدم الضمان ضرر على المضمون له وعدم القصاص ضرر على ولي الدم ، والحديث لا يشمل موارد تعارض الضررين.

وفيه : ان هذا في القصاص معقول باعتبار ان الاقتصاص ضرر حقيقي على المقتص منه من دون ان يكون في طول جعل حق عقلائي في المرتبة السابقة وعدم القصاص أيضا ضرر على ولي الدم في طول جعل حق الاقتصاص له ارتكازا وعقلائيا ، واما في الضمان فحيث ان الضمان ليس نقصا حقيقيا على الضامن بل هو نقص في طول فرض حق عقلائي وهو تسلط الإنسان على ذمته حتى في قبال من أتلف ماله فكونه من تعارض الضررين فرع افتراض حق للمضمون له على ذمة الضامن في المرتبة السابقة ليكون عدمه ضررا عليه ، ومثل هذين الفرضين لا يمكن تحققهما معا لأن العقلاء اما ان يفترضوا التحقق والسلطنة للضامن على ذمته أو للمضمون له ولا يمكن افتراض جعلهما معا فانهما متضادان ومعه لا يعقل ان يكون باب الضمان من تعارض الضررين (١).

وفي الدراسات عبارة يحتمل ان يراد منها ان التخصيصات المذكورة كانت معلومة لدى المخاطبين لوضوحها في الشريعة ، فان الرواية لم ترد في أوائل التشريع فلا قبح ولا استهجان في كثرتها لكونها كالمتصل ، ويحتمل ان يراد منها ما تقدم عن الشيخ من كون التخصيصات بعنوان واحد هو الأحكام الضررية من أصلها فلا يكون مستهجنا.

وكلا المطلبين غير تام ، فان مجرد معلومية الأحكام الضررية لدى المخاطب لا يرفع استهجان المخاطبة بعموم من قبيل لا ضرر ولا ضرار ما لم يكن قرينة متصلة صارفة لأصل الظهور في الخطاب إلى معنى آخر لا يشمل تلك الموارد والثابت فيها الحكام ضررية في

__________________

(١) الظاهر ان صدق الضرر على المضمون له في فرض عدم الضمان انما هو بلحاظ خسارته للمال التالف لأنه كان مملوكا له من الأول الأمر لا بلحاظ حق له على ذمة الضامن.


الشريعة ، كما انَّ تلك الأحكام على القول بضرريتها لا تكون مخصصة بعنوان الحكم الضرري من أصله بل بعناوينها التفصيلية حسب تلك الأبواب الفقهية المتنوعة.

الأمر الثالث ـ واما كيفية انطباق القاعدة على قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري وتجويز قطع عذقه من قبل الأنصاري فقد يذكر بصدد ذلك ما عن الشيخ الأعظم ( قده ) من انَّ صعوبة فهم هذا التطبيق لا يمنع من التمسك بأصل القاعدة في نفسها ، إلاّ انَّ هذا المطلب غير تام إذا كان الاعتماد في سند هذه القاعدة على الحديث الناقل لقصة سمرة لكونه الصحيح فقط ، لأنَّ إجمال المورد المطبق فيه القاعدة في هذا الحديث يسري لا محالة إلى أصل القاعدة إذ لعل فهم المورد ونكتة التطبيق فيه يغير من ظهور القاعدة نفسها.

والمحقق النائيني ( قده ) جعل تطبيق القاعدة في الحديث بلحاظ الحكم الأول وهو المنع عن الدخول بلا استئذان لا بلحاظ قلع العذق فانه حكم آخر صدر من النبي 6 بوصفه ولي الأمر تأديباً لسمرة بن جندب.

وهذا الفهم للحديث أيضاً غير تام ، لأنه خلاف ظاهر الحديث لأنَّ النبي 6 أولا امر سمرة بالاستئذان من الأنصاري فلم يقبل ثم أراد ان يشتري منه العذق فلم يقبل أيضاً فقال حينذاك للأنصاري اقلعه وارم بها وجه صاحبه فانه لا ضرر ولا ضرار ، وهذا واضح الظهور في انه تعليل للحكم بالقطع.

والتحقيق ان يقال : انَّ كل هذا البحث انما يتجه بناءً على توهم انَّ تطبيق القاعدة في هذا الحديث على قصة سمرة بن جندب انما هو بلحاظ فقرة ( لا ضرر ) مع ان الصحيح ان التطبيق بلحاظ فقرة ( لا ضرار ) كما يؤيده ما ورد في بعض أسانيد القاعدة من النبي 6 قال لسمرة انك رجل مضار ، أو ما أراك يا سمرة إلاّ مضارا بناء على ان الضرار مصدر لضار ، والضرر مصدر لضر. واما كيفية تطبيق لا ضرار على الحكم بقلع العذق فسوف يأتي بيانه مفصلا في الجهة القادمة.

ثم ان الحكم الأول في الحديث وهو لزوم الاستئذان من قبل سمرة في الدخول على عذقه هل يمكن تخريجه على أساس قاعدة لا ضرر أم لا؟.

ذكر المشهور في تخريج ذلك بان حق سمرة في الدخول في صورة عدم الاستئذان ضرري فينفي بالقاعدة.


وعلّق المحقق العراقي ( قده ) على ذلك ان نفي القاعدة لهذا الحق يكون خلاف الامتنان على سمرة والحديث ظاهره الامتنان فلا يمكن ان يكون التطبيق بهذا الاعتبار وانما الحديث أثبت حقا للأنصاري في حفظ عياله لأن عدمه ضرر عليه فيقع تزاحم بين هذا الحق وحق سمرة في الدخول على عذقه فيقدم عليه لأهميته لا بقاعدة لا ضرر لكي يلزم كونها خلاف الامتنان.

أقول : سيأتي ان امتنانية القاعدة ليست بهذا المعنى بل بمعنى لا يتنافى مع تضرر من منه الضرر.

واما مسألة التزاحم بين ضررين وحقين فهذا فرع ان يكون حق الدخول لسمرة بن جندب مجعولا بشكل مستقل كما إذا كان ذلك شرطا ضمن عقد مثلا لا ما إذا كان من جهة توقف حقه في عذقه على الدخول مقدمة ، فانه في مثل ذلك لا يقع أي تزاحم بين حقه في عذقه وبين حق الأنصاري في حفظ عياله وسترهم وعدم الدخول عليهم بلا استئذان ، فان المقصود منه في المقام مجرد اخبارهم من أجل التستر لا توقف دخوله على اذنه بحيث له ان لا يأذن له بالدخول ، ومن الواضح انه مع كون المقدمة ممكنة ومقدورة لصاحب العذق لا يقع تزاحم بين حقه في العذق وحق الأنصاري فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق حقه في عذقه للضرر أو للتزاحم وعليه فيكون تطبيق لا ضرر على المورد بلحاظ إثبات أصل حق الأنصاري وحرمة الدخول على بيته بلا استئذان بالمعنى المتقدم.

نعم لو جعل لسمرة حق في الدخول مستقلا ـ وهذا ما لا يمكن استفادته من الحديث ـ لوقع التزاحم بين حقه هذا في الدخول وحق الأنصاري في الستر على عياله فيكون تطبيق القاعدة عندئذ بلحاظ التزاحم وتقديم حق الأنصاري على حق سمرة ، وليس فيه مخالفة للامتنان على ما سوف يظهر وجهه.

لا يقال ـ أي فرق بين الفرضيتين ، فانه كما ان الحق في العذق يتوقف على جامع الدخول الأعم من الدخول الاستئذاني وغير الاستئذاني كذلك لو تعلق حق بالدخول ابتداء فانه متعلق بجامع الدخول فلا يتزاحم مع حق الأنصاري في المنع عن أحد فرديه وهو الدخول غير الاستئذاني.

لأنه يقال ـ الدخول له فرد واحد والاستئذان وعدمه من المقارنات وحينئذ إذا


كان حق سمرة متعلقا بالدخول ابتداء فيكون منعه أو تحديده منعا له عن متعلق حقه لا محالة بخلاف ما إذا كان حقه في العذق المتوقف على الدخول فان المنع عن المقدمة في حال يمكن للشخص تغييرها إلى حال أخرى ليس منعا عن ذي المقدمة الّذي هو متعلق حقه فلا تزاحم بين المتعلقين في هذه الصورة.

وهكذا يتضح عدم تمامية شيء من الاعتراضات المثارة بشأن كلية هذه القاعدة وعمومها.

مشكلات مثارة على تطبيقات فقهية للقاعدة :

الجهة السادسة ـ ثم ان هناك اعتراضا عاما أثاره المحقق العراقي ( قده ) بشأن تطبيقات هذه القاعدة من قبل الفقهاء في الأبواب المختلفة من الفقه بدعوى ان هذه القاعدة لا تنطبق بالدقة على تلك الموارد اذن فليست هي قاعدة في نفسها يصح استنباط الحكم منها وانما هي إشارة إلى قواعد أخرى ثابتة في المرتبة السابقة في تلك الموارد أدركها الفقهاء بارتكازاتهم العقلائية أو المتشرعية ، واستنادهم إلى القاعدة لمجرد الاستئناس والتبرك. والدليل على ذلك ما نراه من ان موارد التطبيق المتنوعة تكون النتيجة الفقهية المستنبطة فيها اما أوسع من مفاد القاعدة أو أضيق منه فلا يمكن ان تكون هي مستندهم في كل ذلك ، وقد تصدى لذكر جملة من تلك التطبيقات :

منها ـ ما ذكروه من سقوط الوضوء الضرري مستشهدين عليه بقاعدة لا ضرر مع ان مستندهم الواقعي فيه قاعدة أخرى هي امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي على الأمر ، وذلك يتضح ضمن توضيحات ثلاثة آثارها في المقام.

التوضيح الأول ـ انهم قالوا ببطلان الوضوء الضرري ولم يقتصروا على القول بنفي وجوبه مع ان القاعدة لا تنفي أكثر من الوجوب فيبقي ملاكه المقتضي للصحة لو لا النهي والحرمة.

وفيه : أولا ـ مجرد حكمهم بالبطلان لا يعنى عدم استنادهم إلى القاعدة في نفي الوجوب حقيقة ، إذ لعلهم نفوا الوجوب بلا ضرر بحرمة الإضرار بالنفس فيكون مدركهم على نفي الوجوب كلا الأمرين.

وثانيا ـ إثبات الصحة بعد نفي الوجوب بلا ضرر مبني على القول بإمكان إحراز


الملاك بعد سقوط الخطاب ، اما على أساس عدم التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية ، أو على أساس إطلاق المادة. وكلا المبنيين غير صحيح في نفسه ولم يعلم موافقة الأصحاب عليه.

ثم ان الصحيح فقهيا في هذا الفرع على ما تقدم في أبحاث سابقة صحة الوضوء الضرري إذا لم يبلغ حد الحرمة بالأمر الاستحبابي المتعلق به والّذي لا يكون منفيا بمثل دليل لا ضرر.

التوضيح الثاني ـ انهم اعترفوا بصحة الوضوء الضرري في صورة جهل المكلف بالضرر ، وهذا ينسجم مع كون مدرك البطلان في صورة العلم مسألة اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي ، والّذي ذكر الأصحاب ان العبادة صحيحة فيها مع الجهل بالحرمة لا قاعدة لا ضرر التي تنفي الوجوب الواقعي على كل حال.

وفيه : ان الصحيح هو الصحة في صورة الجهل بالضرر حتى إذا كان المستند قاعدة لا ضرر ، لأنه لا موجب لرفع وجوب الوضوء الضرري على الجاهل بالضرر الّذي سوف يقدم على الوضوء على كل حال لكونه جاهلا بضرريته إذ لا فائدة في رفعه إلاّ إبطال عمله ولزوم إتيانه بالتيمم بعد ان يتوضأ لا ان ينتفي بذلك الضرر عليه خارجا ، وظاهر الحديث نفي الحكم الّذي يساوق بحسب النتيجة ارتفاع الضرر عن المكلف خارجا فيكون تسهيلا عليه ومنة ولا يمكن في المقام إلفات الجاهل بالضرر بعدم وجوب الوضوء عليه إلاّ بنسخ وجوب الوضوء عليه رأسا في الشريعة وهو ما لا يمكن استفادته من القاعدة كما هو واضح.

وعليه فلعل الأصحاب بارتكازهم العرفي فهموا هذه النكتة فلم يستفيدوا إطلاق النفي لحال الجهل بالضرر.

التوضيح الثالث ـ ان المكلف إذا علم بالضرر وجهل بوجوب الوضوء عليه يلزم القول بصحة وضوئه إذا توضأ رجاء بناء على ان مدرك نفي الوجوب هو القاعدة ، إذ نفي وجوب غير منجز لا امتنان فيه ولا تشمله القاعدة لعدم نشوء الضرر من حكم غير متنجز على المكلف مع ان الأصحاب حكموا بالبطلان في ذلك ممّا يدلّ على ان مدركهم فيه حرمة الضرر وتغليبها على الأمر الّذي لا يفترق فيه حال العلم بالوجوب أو الجهل به.

وفيه : أولا ـ ما ذكرناه من إمكان استنادهم إلى القاعدة وحرمة الضرر معا ،


فما ذكر من التوضيح لا ينفي صحة استنادهم إلى القاعدة في نفي وجوب الوضوء الضرري في حال العلم بأصل الوجوب.

وثانيا ـ ان ثبوت وجوب الوضوء الضرري للجاهل بوجوب الوضوء بالخصوص اما غير معقول ـ كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ أو غير عرفي على الأقل فيكون دليل نفي وجوبه للعالم به دالا على نفيه مطلقا حتى عن الجاهل بوجوبه كما هو واضح.

ومنها ـ الخيارات التي استند في إثباتها الأصحاب إلى قاعدة لا ضرر كخيار الغبن والعيب وتبعيض الصفقة ، مع ان هذا الاستناد منهم لا يعدو ان يكون من قبيل التعليل بعد الوقوع لأن تبعيض الصفقة ليس فيه ضرر مالي على المشتري لكي يوجب الخيار عليه غايته انتفاء الغرض والداعي إذا كان متعلقا بمجموع الصفقة وتخلفه شايع من غير ان يوجب الخيار للمشتري. على ان غاية ما يقتضيه لا ضرر في هذه الموارد نفي اللزوم المستوجب للضرر مع ان الثابت عندهم حق الخيار للمشتري القابل للإسقاط والإرث وغير ذلك ، وهذه الحيثيات أيضا لا يمكن استفادتها من القاعدة لو كانت هي المدرك عند الأصحاب.

ويرد عليه : أولا ـ ان ما ذكر من عدم وجود ضرر مالي في مثل تبعيض الصفقة انما يمنع عن التمسك بلا ضرر فيما إذا ادعى إرادة خصوص الضرر المالي منه ، واما إذا أُريد الأعم من ذلك بنحو يشمل الإضرار العقلائية فلا إشكال في ان إلزام المشتري ببعض الصفقة إضرار عليه عرفا فيكون مشمولا للقاعدة لا محالة.

وثانيا ـ ما ذكره من عدم إمكان إثبات الجواز الحقي بلا ضرر غير تام ، اما بدعوى ان المجعول عقلائيا في أمثال المقام هو الحق فيعتبر سلبه عنه ضرريا ، أو دعوى ترتيب آثار الحقية من السقوط بالإسقاط والإرث ، اما السقوط فبدعوى ان رضى المشتري بلزوم المعاملة والتزامه به كرضاه بالبيع من أول الأمر إذا كان عالما بالغبن أو العيب فيكون من قبيل الضرر المقدم عليه غير مشمول للقاعدة ، واما الإرث فبدعوى ان دليل الإرث يشمل كل ما يبذل بإزائه مال عرفا لأنه يكون مما تركه الميت ومع قابلية الجواز المذكور للإسقاط يصح بذل المال بإزائه فيكون مشمولا لإطلاق أدلة الإرث (١).

__________________

(١) ويمكن ان يكون مدرك الأصحاب في إثبات الخيار الحقي الارتكاز العقلائي الممضى شرعا أو الشرط الضمني غير المصرح به.


ولا بأس بالتعرض لكيفية تطبيق القاعدة على الخيارات بالقدر المناسب مع المقام فنقول :

يمكن ان تطبق قاعدة لا ضرر على مثل خيار الغبن بأحد وجوه :

الوجه الأول ـ باعتبار الغبن ضررا ماليا على المشتري.

وقد نوقش فيه من قبل المحققين بمناقشات عديدة نذكر أهمها :

المناقشة الأولى ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الضرر المالي ناشئ من صحة المعاملة أيضا لا لزومها فحسب فتنفي القاعدة صحتها وبذلك يرتفع موضوع الخيار هذا إذا جعلنا الخيار حكما آخر غير الصحة بقاء وإلاّ كان التعبير الأصح ان لا ضرر ينفي حدوث الصحة لأن منها الضرر المالي.

وقد حاول الإجابة على هذه المناقشة تارة بان الضرر بوجوده الحدوثي ثبت بالإجماع وخصصت القاعدة بإخراجه عنها بالإجماع فنتمسك بالقاعدة لنفي الضرر بوجوده البقائي الّذي يعني نفي اللزوم ، وأخرى بان نفي الصحة خلاف الامتنان بخلاف نفي اللزوم المستوجب غالبا ونوعا لإعطاء فرصة للمكلف للتفكير واختيار ما هو الأفضل بحاله من الفسخ والإمضاء.

ويرد على كلا الجوابين بأنهما مبتنيان على الصيغة الأولى للمناقشة أي افتراض تعدد الحكم بالصحّة واللزوم ، واما إذا قيل بان هناك حكما واحدا هو الصحة وترتب الأثر على المعاملة حدوثا وبقاء حتى بعد الفسخ ففرض إخراج الحصة الحدوثية للضرر بالقاعدة تخصيصا أو لكونه خلاف الامتنان يوجب عدم إمكان نفي الصحة بقاء بها ، اما على الأول فلأن القاعدة ليس لها إطلاق أحوالي يرجع إليه بعد تخصيص إطلاقه الأفرادي ، واما على الثاني فلأنّه إذا فرض ان الضرر المالي حصل بنفس صحة المعاملة فالامتنانية وعدمها لا بد وان تلحظ بلحاظها ومن الواضح ان انتفاء الصحة المحققة للضرر على المشتري أوفق بحاله نوعا من ثبوتها ، نعم ثبوتها حدوثا وانتفائها بقاء بعد الفسخ أكثر امتنانا عليه الا ان الامتنانية في الحديث ليس بمعنى اختيار أفضل الأحكام وأوفقها بحاله واستفادته من لا ضرر بل تكون بمعنى انه يجب ان يكون

__________________

في الوقت الّذي يصح استناد في نفي أصل اللزوم إلى لا ضرر أيضا.


المكلف أحسن حالا بعد جريان القاعدة في حقه منه قبل جريانه وهذا متحقق بنفي أصل الصحة.

وسوف يتضح الجواب الصحيح عن هذه المناقشة.

المناقشة الثانية ـ ان ظاهر حديث لا ضرر نفي أصل الضرر وحدوثه ، وفي المقام أصل الضرر حادث بصحة البيع يقينا وانما يراد نفيه بقاء ، وهذا ما لا يمكن استفادته من القاعدة.

وهذا الإيراد انما يتجه بناء على استظهار كون المنفي حدوث الضرر وأصله واستظهار ان مصبّ النفي الضرر الخارجي أو الحكم الضرري بعد فرض ان الصحة واللزوم حكم واحد.

والجواب على هذه المناقشة بحيث يتضح به الجواب على المناقشة السابقة أيضا ان الضرر ليس عبارة عن مجرد النقص ، بل النقص الّذي لا يمكن رفعه ولا يكون تحت اختيار المكلف وممّا يوجب تضايقه ، ومن الواضح ان صحة البيع حدوثا لا ينشأ منه ضرر بهذا المعنى وانما ينشأ الضرر من اللزوم أو الصحة بقاء ، فالضرر انما ينشأ في الأحكام المترتبة الطولية من الحكم الأخير دائما وينسب إليه فيكون هو المرفوع بلا ضرر دون الأحكام الأخرى.

المناقشة الثالثة ـ ان فرض الخيار ليس نفيا للضرر بل تدارك له بعد وقوعه ، وظاهر القاعدة نفي الضرر لا تداركه.

والجواب ـ ما عرفت من ان الضرر لا يصدق لمجرد صحة البيع حدوثا ، فهذا الإيراد لا يتم على مبنانا ولا على مبنى المحقق الأصفهاني الّذي يفترض ان لا ضرر ينفي صحة البيع بقاء أو اللزوم ، فان نفي ذلك نفي للضرر أيضا لا تدارك له وانما يكون التدارك بمثل الأرش ونحوه.

المناقشة الرابعة ـ ما تقدم من المحقق العراقي ( قده ) من ان لا ضرر لا يمكن ان يثبت ما يريده الفقهاء من الجواز الحقي والخيار وانما يثبت جامع الجواز المناسب مع الجواز الحكمي مع انهم حكموا بالجواز الحقي ورتبوا على ذلك آثاره من قابلية الإسقاط والإرث وغير ذلك.

والجواب : أولا ـ ما عرفت من إمكان إثبات نتيجة الجواز الحقي بلا ضرر بعد


ملاحظة انه لا ينفي الضرر المقدم عليه من قبل المكلف نفسه ، والمشتري بعد قبوله بالضرر يكون مقدما عليه كما إذا كان عالما به حين البيع.

وثانيا ـ بالإمكان إثبات الجواز الحقي بلا ضرر ابتداء ، وذلك باعتبار انه في قبال اللزوم الحقي الّذي هو عبارة عن تمليك الالتزام.

توضيح ذلك : ان البيع بالمطابقة تمليك للمال وبالالتزام يستبطن تمليك هذا الالتزام للطرف الآخر أيضا كما ملكه المال وهذا هو اللزوم الحقي في قبال ما إذا لم يملكه التزامه بالملك كما في موارد شرط الخيار فيبقي الجواز الحقي ثابتا ، وقد يفرض ان الشارع لا يمضي تمليكه للالتزام هذا ولو في الجملة كما في خيار المجلس والحيوان ، وفي قبال ذلك الجواز الحكمي واللزوم الحكمي وهما حكمان شرعيان من دون نظر إلى التزام المتعاملين ، فالأوّل من قبيل جواز الهبة ، والثاني من قبيل لزوم النكاح ولذا لا تصح الإقالة فيه لكون لزومه حكما شرعيا لا حقا وضعه المتعاقدان.

فإذا اتضح ذلك قلنا : بان الضرر ينشأ من إمضاء الشارع لتمليك الالتزام الّذي هو اللزوم الحقي فنفيه يكون بنفي إمضائه الّذي يساوق الجواز الحقي لا محالة.

وبهذا عرف أيضا تخريج إرث الخيار الثابت بلا ضرر فانه :

أولا ـ يكفي فيه مالية الجواز الناشئة من إمكان إسقاطه وبذل المال بإزائه.

وثانيا ـ انه لو كان يشترط في موضوع الإرث ان يكون مالا أو حقا فقد عرفت إمكان استفادة الجواز الحقي من لا ضرر ابتداء فيورث.

المناقشة الخامسة ـ انه لما ذا لا يثبت لا ضرر الأرش بدل الخيار فانه يرتفع به الضرر أيضا؟.

وفيه : ما تقدم من ان الأرش تدارك للضرر لا نفي له ، والقاعدة مفادها نفي الضرر حدوثا أو بقاء كما عرفت.

المناقشة السادسة ـ ان جعل الخيار على خلاف الامتنان بالنسبة لمن عليه الخيار ، ولا ضرر قاعدة امتنانية.

وفيه : إنكار الكبرى ، فان لا ضرر لا يشترط فيه ان لا يكون على خلاف الامتنان بالنسبة لغير من يجري في حقه ما لم يبلغ مرتبة الضرر به.

المناقشة السابعة ـ ان الخيار ضرر على من عليه الخيار لأنه قد ملك الثمن بالبيع


فإرجاعه في قبال ما هو أقل قيمة منه ضرر عليه فيكون من تعارض الضررين بالدقة.

وفيه : إنكار الصغرى ، فان المال الناقص كان لمن عليه الخيار من أول الأمر فاسترداد ثمنه الّذي ملكه بهذه المعاملة الضررية ليس ضررا عليه.

المناقشة الثامنة ـ ان ثبوت الخيار للمغبون دون الغابن ضرري من ناحية انه يستلزم تمليك الغابن التزامه بتمليك العين إلى المغبون دون العكس وهذا بنفسه ضرر لأن تمليك الالتزام من المتعاقدين لا بد وان يكون بنحو التقابل لا من طرف واحد.

وفيه : ان هذا الضرر في طول فرض ارتكاز عقلائي يقضي بثبوت حق للغابن وهو حق ان لا يخرج التزامه من ملكه إلاّ ويعطي له في مقابله التزام الآخر ولا يتملك عليه التزامه مجانا ومثل هذا الارتكاز غير موجود للغابن لكونه غابنا فلا يثبت له مثل هذا الحق ليكون سلبه عنه ضررا عليه. نعم لو أسقط المغبون حقه والتزم بالبيع بعد علمه بالغبن ثبت مثل هذا الارتكاز ولهذا يحكم بسقوط خيار الغابن بذلك ، وهذا وجه آخر لسقوط الخيار بالإسقاط.

وهكذا يتضح صحة تطبيق لا ضرر على خيار الغبن ونحوه باعتبار الضرر المالي.

الوجه الثاني ـ تطبيقه عليه بلحاظ الضرر الحقي لأن العقلاء يرون للمغبون حقا على فسخ العقد فسلبه عنه ضرر عليه فنطبق القاعدة بهذا الاعتبار فتكون إمضاء لحق الخيار المجعول عقلائيا.

وهذا التخريج يسلم عن أهم المناقشات المتقدمة على الوجه الأول وملاك جعل العقلاء لحق الخيار يمكن ان يكون بإحدى صياغات :

الصياغة الأولى ـ ان يجعلوا الغبن منشأ لحق الخيار للمغبون ابتداء.

الصياغة الثانية ـ ان يكون هذا الخيار بملاك تخلف الشرط الضمني ، لأن المتعاقدين يشترط كل منهما على الآخر ضمنا انحفاظ مالية ماله في العوضين وعدم غبنه فيه ، والعرف يرى ان فوات هذا الشرط يكون موجبا لضمانه ، وضمانه يكون بالخيار وحق الفسخ ، وقد أشار إلى هذه الصياغة المحقق العراقي ( قده ).

الصياغة الثالثة ـ نفس الفرضية السابقة مع افتراض ان تخلف الشرط يوجب عند العقلاء حق الخيار ابتداء لا بتوسط الضمان كما في تلك الصياغة ، فلا يقال لما ذا يكون الضمان بالخيار بالخصوص دون الأرش.


الصياغة الرابعة ـ إرجاع خيار الغبن إلى خيار تخلف الشرط كما في الصياغة السابقة وإرجاع خيار تخلف الشرط إلى شرط الخيار ضمنا عند تخلف الشروط ، وهذا هو مبنى مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في أمثال هذه الخيارات وتفصيل الكلام حول هذه الصياغات واختيار ما هو الأرجح منها متروك إلى محله من علم الفقه.

الوجه الثالث ـ تطبيق لا ضرر على خيار الغبن بلحاظ الغرض المعاملي للمتعاقدين والّذي لا شك في تعلقه بالعوضين مع التحفظ على نفس المقدار من المالية فيهما معا.

وهذا الوجه هو الّذي أورد عليه المحقق العراقي فيما سبق بأنه لا عبرة في باب لا ضرر بتخلف الأغراض وإلاّ لزم ثبوت الخيار في كثير من الموارد ، ولا يلتزم بذلك فقيه.

والتحقيق : انه يمكن التفكيك بين هذا الغرض وسائر الأغراض الشخصية في المعاملات ، فان الغرض إذا كان نوعيا عاما لا يلحظ فيه شخص معين بل هو ثابت بالنسبة إلى كل إنسان ولو باعتبار ارتكازية شدة اتصال هذا الغرض بكل إنسان فسوف يصدق على تخلفه الضرر بقول مطلق وبلا مئونة وهذا بخلاف الأغراض الخاصة الشخصية. فإذا جزمنا بثبوت مثل هذا الارتكاز كان هذا الوجه في تطبيق لا ضرر على خيار الغبن تاما أيضا.

ثم ان هناك موردين آخرين ذكرهما المحقق العراقي ( قده ) من تطبيقات القاعدة في الفقه ، وذكر عدم انطباق القاعدة عليهما بالدقة :

أحدهما ـ مسألة تعارض الضررين ، وهذا ما سوف نتعرض له في تنبيهات قاعدة لا ضرر مفصلا.

والآخر ـ ما إذا غاب الزوج ولم ينفق على زوجته ، فان الفقهاء حكموا بان للحاكم ان يطلقها دفعا للضرر ، وهذا ما سوف نتكلم عنه لدى البحث عن فقه الحديث بلحاظ جملة لا ضرار.

تطبيق القاعدة بلحاظ الإضرار الاعتبارية :

الجهة السابعة ـ قد عرفت ممّا سبق ان الضرر في الحديث يشمل الضرر الحقيقي كقطع اليد ، والضرر الاعتباري الّذي يكون في طول ارتكاز حق عقلائي كما في حرمان الشخص من حقوقه العرفية ، ونريد هنا البحث عن تطبيق القاعدة بلحاظ هذا


النوع من الإضرار من ناحيتين :

الناحية الأولى ـ مدرك هذا التطبيق وشمول الحديث لهذا النوع من الإضرار رغم انها ليست إضراراً حقيقية.

الناحية الثانية ـ ضابط هذا النوع من الإضرار الاعتبارية ، وانَّ الدليل هل يشمل الافراد الاعتبارية المتجددة بعد زمن المعصوم 7 أم لا.

اما الناحية الأولى ـ فيمكن إثبات شمول الحديث لهذا النوع من الإضرار بأحد تقريبين :

الأول ـ دعوى الإطلاق اللفظي في الحديث ، لأن الشارع عند ما يخاطب العرف يقصد بألفاظه ما هو معناها عرفا وخارجا ، ومفهوم الضرر عرفا يشمل الضرر الحقيقي والارتكازي فانه في طول ترسخ ذلك الحق ارتكازا يرى ذلك النقص ضررا لا محالة.

الثاني ـ دعوى الإطلاق المقامي ، فانه لو فرض ان الضرر لا يشمل إلاّ الضرر الحقيقي أو الضرر الاعتباري الّذي يقبله المتكلم نفسه مع ذلك قلنا بان المتكلم إذا كان في مقام البيان لا الإجمال فسوف ينعقد لخطابه إطلاق مقامي يدل على إمضائه لنفس الاعتبارات العقلائية والعرفية واعتماده عليها في تعيين ما هو الضرر ، فكأنّه اعتمد على الارتكاز العرفي في تحديد مراده.

واما الناحية الثانية من البحث فتحقيق الكلام فيها ان العناوين التي لها افراد ومصاديق غير حقيقية ـ اعتبارية وعنائية ـ تكون بأنحاء عديدة :

الأول ـ ان تكون العناية في الفرد غير الحقيقي من جهة الخطأ في التطبيق ، كما إذا تصور العرف نتيجة نظرته المسامحية ان زيدا مصداق للعالم بالله لمجرد كونه معتقدا بوجوده تعالى.

ولا إشكال انه لا عبرة بمثل هذه العناية العرفية بعد فرض انه من باب الخطأ في التطبيق والاخبار بحيث لو التفت إليه العرف لتنبه إلى خطأه.

الثاني ـ ان تكون العناية في الفرد إنشائية لا إخبارية أي ان العرف يوجد فردا حقيقيا من ذلك العنوان بإيجاد منشئه.

وهذا يكون في عناوين يمكن إيجادها بعمل إنشائي كعنوان التعظيم والدلالة ، فانه


في طول وضع عرف القيام مثلا من أجل تعظيم القادم ، أو وضع لفظ للدلالة على معنى معين يتحقق التعظيم بالقيام والدلالة باستعمال ذلك الوضع حقيقة ، لأن التعظيم لا يراد به إلاّ إظهار الاحترام بمبرز ما ، والدلالة لا يراد بها إلاّ الاقتران بين اللفظ والمعنى تصورا ، وكلاهما يمكن ان يحصل بالتواضع والإنشاء حقيقة. وفي مثل هذا النوع من الافراد العنائية لا إشكال في شمول إطلاق الدليل لافراده المتجددة بعد زمن المعصوم أيضا لكونها افرادا حقيقية للمعنى نظير إيجاد مصداق للماء بعلاج لم يكن متيسرا في زمن المعصوم فإنه مشمول أيضا لإطلاق دليل المطهرية.

الثالث ـ ان تكون فردية الفرد إنشائية ولكنها مختصة بعرف خاص لكونها في طول إمضاء العرف وقبوله لذلك الأمر الإنشائي أو الاعتباري وليس كما في القسم السابق ، وهذا نظير عنوان الضرر فانه عبارة عن النقص الحقيقي أو الاعتباري لملك أو حق عند عرف يعتبر الملكية أو الحقية في ذلك المورد ، فانه بمنظار ذلك العرف يكون نقصه ضررا بخلاف منظار عرف لا يعتبر ذلك الحق.

وفي هذا القسم من الافراد الاعتبارية لا يشمل إطلاق الدليل إلاّ ما يكون مصداقا للعنوان عند الشارع أي في الموارد التي تكون تلك الاعتبارات المحققة للعنوان ممضاة من قبل الشارع نفسه ، وهذا يختص لا محالة بالافراد العنائية للعنوان المتواجدة في عصر الشارع حيث يكون نفس إطلاق الدليل أو سكوت الشارع إمضاء لها ، واما الإضرار العنائية المستجدة بعد عصر التشريع فلا يشمله إطلاق الدليل إذ لا ينعقد إطلاق لشمولها لا لفظا ولا مقاما كما لا يخفى.

ومنه يعرف حال قاعدة لا ضرر ، فانها لا يمكن ان تشمل كافة مصاديق الضرر العنائية المستجدة في العصور المتأخرة إلاّ في حدود ما يحرز قبول الشارع لثبوت الحق فيها ، بل حتى إذا افترضنا الإطلاق اللفظي في لا ضرر لمثل هذه الإضرار كان لا بد من تقييد مفادها بما كان في عصر الشارع ضررا لا أكثر ، إذ من الواضح ان حكم الشارع ليس تابعا لأحكام العقلاء دائما وأبدا فان هذا لا بد وان يكون على أساس أحد امرين كلاهما يقطع بخلافه وخلاف ظاهر الخطابات.

أحدهما ـ ان يكون مجرد حكم العقلاء كافيا لحكم الشارع لأن مطابقة حكم العقلاء بما هو تمام الموضوع لحكم الشارع ، وهذا يقطع بعدمه.


الثاني ـ ان يكون المولى قد علم بمقتضى علمه بالغيب ان كل ما سيجعله العقلاء خارجا سوف يكون على طبق ما يريده هو أيضا ، وهذا أيضا خلاف ظاهر الخطابات ومقطوع البطلان.

ثم انه لا ينبغي ان يعتبر هذا الكلام تحديدا مطلقا لمفاد القاعدة وأمثالها من الخطابات الشرعية وإلغاء لها أو تخصيصها بالافراد الارتكازية التي يحرز وجودها في عصر الشارع فقط فلا يمكن تعميمها للمصاديق العرفية في أزمنتنا للضرر ، فان هناك نكتتين أخريين توجبان التوسعة بمقدار ما :

إحداهما ـ إذا فرض ان فردا من افراد الضرر في عرفنا المعاصر لم يكن موجودا في عصر الشارع بشخصه ولكنه كان ثابتا بنكتته ، أي ان ذلك الحق المشروع في عرفنا المعاصر كان نظيره أو كبراه مركوزا في عصر التشريع أيضا ولم يردع عنه الشارع بل أمضاه كفى ذلك في شمول القاعدة له ، فالعبرة بسعة النكتة العقلائية الممضاة في عصر التشريع لا بالحدود الواقعة خارجا من مصاديق تلك النكتة كما أشرنا إلى ذلك في بعض البحوث السابقة.

الثانية ـ انه عند الشك في ثبوت هذا الحق في زمن التشريع ، أو دخوله تحت نكتة ممضاة من قبله لا نحتاج إلى إثبات ذلك بالشواهد التاريخية القطعية الأمر الّذي يتعسر غالبا أو يتعذر ، بل يمكن إثبات ذلك بطريق آخر تعبدي وهو إجراء أصالة الثبات في الظهور لما ذكرنا من ان هذه الافراد العنائية توجب ظهورا وتوسعة في مدلول الخطاب لفظا أو مقاما بحيث يشمل الخطاب هذه الافراد فإذا شك في إمضاء الشارع لها رجع إلى الشك في تحديد ظهور الخطاب وان ما نفهمه اليوم من إطلاقه هل كان ثابتا له في عصر التشريع أيضا أم لا فيكون من موارد التمسك بأصالة الثبات وعدم النقل في الظهور (١).

__________________

(١) تارة يشك في ان معنى اللفظ هل هو الجامع الأعم أو الحصة الخاصة منه ، وأخرى يحرز المعنى وانه عبارة عن النقص مثلا على كل حال وانما يشك في شموله للنقص في حق من جهة الشك في إمضاء الشارع لذلك الحق ، ففي الحالة الأولى تجري أصالة الثبات إذا أحرز ان معنى اللفظ اليوم هو الجامع لا الحصة فيثبت الإطلاق في طول ذلك ، واما في الحالة الثانية فلا تجري أصالة الثبات إذ لا شك في ما هو المدلول اللغوي للفظ وانما الشك في امر محقق لمصداق من مصاديق اللفظ وهذا ليس تغييرا في ما هو مدلول اللفظ بحسب الحقيقة لكي تجري أصالة الثبات فيه.


وبإحدى هاتين الطريقتين نستطيع تخريج الكثير من الحقوق والمرتكزات العقلائية المستجدة بعد عصر المعصومين :.

فقه الحديث بلحاظ لا ضرار :

الجهة الثامنة ـ في المراد من فقرة ( لا ضرار ) في الحديث ، وقد ذكرنا فيما سبق ان الضرار هو تعمد الضرر وتقصيده باستخدام حق من الحقوق بنحو يوقع الضرر بالغير ، ومن هنا يكون ذلك الحق كأنه سبب وذريعة للإضرار بالآخرين ، ومن هنا يكون المنفي بلا ضرار امرا زائدا على أصل حرمة الضرر أو عدم الحكم الضرري وهو نفي أصل الحق الّذي قد يستوجب تمسك المكلف به لإيقاع الضرر المحرم بالآخر وهو في مورد الرواية حق إبقاء الشجرة وتملكها من قبل سمرة بن جندب.

وتوضيح ذلك : ان الحكم قد يكون بذاته ضرريا كما في لزوم البيع الغبني وقد يكون ضرريا بتوسط إرادة مقهورة للحكم كما في ضررية وجوب الوضوء فان الضرر وإن كان في طول إرادة الوضوء إلاّ انها إرادة مقهورة ومن هنا يكون الحكم بالوجوب ضرريا ، وثالثة يكون ضرريا بتوسط إرادة غير مقهورة كما في جواز الدخول إلى حائط الأنصاري بلا استئذان. ولا ضرر ينفي الأقسام الثلاثة للضرر معا أي حتى الحكم الضرري في المورد الثالث باعتبار ما تقدم من ان لا ضرر ينفي الوجود الاستساغي للضرر أو ينطبق على الجواز المذكور باعتباره سببا له ولو عرفا ، إلاّ ان هذا المقدار من نفي الحكم لا يكفي لمنع سمرة بن جندب عن عدم الإضرار بالأنصاري في دخوله إذا كان عاصيا لهذا الحكم وأراد الدخول بلا استئذان ، وهنا يصل دور لا ضرار لنفي موجب إمكانية الإضرار المحرم على سمرة بن جندب بالتمسك بحق من حقوقه بنحو يضر بالآخرين ولو كان محرما عليه ، فلا ضرار نفي للضرر الحرام بلحاظ ما في الشريعة لا نفي للضرر بلحاظ ما في الشريعة ، ومعنى ذلك انه ينفي سبب وقوع الضرر الحرام وهو في المقام حق إبقاء الشجرة في حائط الأنصاري فيرتفع هذا السبب ويجوز للأنصاري ان يقلع شجرته ويرم بها وجهه.

وبهذا يظهر الجواب عمّا مضى من الاعتراض في كيفية تطبيق القاعدة في الحديث على قصة سمرة بن جندب ، حيث أشرنا فيما سبق بان هذا التطبيق ليس


باعتبار لا ضرر بل لا ضرار بالتقريب المتقدم ، وهذه قاعدة عامة يمكن الاستفادة منها في موارد كثيرة من الفقه من قبيل ما إذا استغل الزوج مثلا حقه في الطلاق للإمساك على الزوجة والإضرار بها وتحريمها عن حقها.


تنبيهات

وبعد ان اتضح فقه القاعدة بلحاظ كل من لا ضرر ولا ضرار ، يقع البحث عن أمور متعلقة بهذه القاعدة نوردها ضمن تنبيهات أربعة :

١ ـ شمول القاعدة للأحكام العدمية :

في انه هل يمكن ان يستفاد من القاعدة وضع حكم يكون عدمه ضررا كما يستفاد رفع حكم ضرري أم لا؟

ذهبت مدرسة المحقق النائيني إلى الثاني وإن كان في الدراسات استدل على استفادة حرمة الإضرار بالغير من القاعدة بتقريب : ان الترخيص فيه ضرري وهذا يعني الالتزام بإمكان استفادة تشريع حكم يكون عدمه ضرريا من القاعدة.

وأيّا ما كان فقد استندت هذه المدرسة في منعها عن استفادة تشريع حكم عدمه ضرري من القاعدة إلى أحد مأخذين :

الأول ـ دعوى قصور المقتضي وعدم الإطلاق فيها.

الثاني ـ دعوى وجود المانع ، وهو لزوم فقه جديد.

امّا المأخذ الأول فيمكن ان يقرب بأحد وجوه :

الأول ـ ان حديث لا ضرر ناظر إلى ما جعله الشارع من الأحكام ، وعدم الحكم


ليس مجعولا لكي يشمله إطلاق الحديث.

ويرد عليه : ان هذا غير تام لا على تفسيرنا للنفي في لا ضرر ولا على تفسير المحقق النائيني ( قده ) ، اما الأول فلأنّا جعلنا النفي منصبا على الإضرار الخارجية وقد خرج من إطلاقها بمقيد كالمتصل الضرر غير المرتبط بالشارع والّذي لا يستطيع الشارع بما هو مشرع رفعه أو وضعه فيبقي ما عداه تحت الإطلاق سواء كان من جهة حكم من الشارع أم عدم حكم كالترخيص من قبله ، واما الثاني فلأن المحقق النائيني جعل مفاد الحديث نفي الحكم الضرري أي نفي تشريعي للضرر ، ولكن من الواضح ان لفظ الحكم غير وارد في لسان الحديث ليستظهر اختصاصه بالضرر الناشئ من جعل الحكم ، والنفي التشريعي للضرر كما يناسب نفي الحكم الناشئ منه الضرر كذلك يناسب نفي الترخيص الناشئ منه الضرر.

والحاصل : لا موجب لافتراض ان الحديث ناظر إلى خصوص الجعل والحكم الشرعي المجعول ـ بالمعنى الأصولي ـ بل هو ناظر إلى مطلق الموقف الشرعي المسبب للضر فينفيه بلسان نفي الضرر.

الثاني ـ ان نفي الترخيص يعني نفي نفي الحكم وهو إن كان معقولا فلسفيا أو منطقيا ويعطي معنى الإثبات ولكنه خلاف الطبع الأولي للعرف بحيث لا يستساغ استفادة الإثبات من لسان النفي.

وفيه : ان المفروض انصباب النفي على عنوان الضرر ، اما بوجوده الخارجي التكويني أو التشريعي بعد تطبيقه على سببه وهو الموقف الشرعي فلا يلزم من شمول إطلاق الحديث للموقف الشرعي الناشئ من عدم الحكم توجه النفي على النفي بحسب المدلول الاستعمالي للكلام.

الثالث ـ ان كلمة ( في الإسلام ) الواردة في بعض طرق الحديث قرينة على إرادة الأحكام المجعولة لأن عدم الحكم ليس من الإسلام.

وفيه : مضافا إلى عدم ورود هذا الذيل في النص المعتبر ، ان الإسلام عبارة عن مجموعة حدود ومواقف تشريعية معينة سواء كانت وجودية أم عدمية إلزامية أو ترخيصية.

وهكذا يتضح تمامية الإطلاق للحديث بالنسبة إلى الأحكام العدمية أيضا.


وهذا هو الصحيح في إبطال هذا المأخذ لا ما قد يقال من ان الترخيص عرفا وبالمسامحة حكم وجودي أيضا وإن كان بالدقة عدميا ، أو القول بان الإباحة الشرعية حكم وجودي كباقي الأحكام الخمسة فترفع بالقاعدة (١).

فانه مضافا إلى ان الترخيص ليس حكما وجوديا بل مجرد عدم الإلزام ، ان نفي الإباحة بالمعنى الوجوديّ لا يثبت الحرمة التي هي المطلوب لنفي الضرر.

ودعوى : ان نفي الإباحة كحكم وجودي يستلزم الحرمة بعد ضم كبرى عدم خلو أية واقعة عن حكم من الأحكام الخمسة ، أو بدعوى الملازمة العرفية من باب دفع اللغوية.

مدفوعة فان ما يدلّ على عدم خلو كل واقعة عن حكم من الأحكام لا يراد منها إلاّ ان الشريعة ليست ناقصة ومهملة لبعض الوقائع وهذا أعم من الإلزام والترخيص بمعنى عدم الحكم كما هو واضح ، وقرينة اللغوية انما تتم فيما إذا نفيت الإباحة بالخصوص لا بالإطلاق ونحوه فان اللغوية تمنع حينئذ عن انعقاد الإطلاق ولا تعيّن اللازم.

وامّا المأخذ الثاني للمنع وهو لزوم تأسيس فقه جديد من شمول القاعدة للحكم العدمي فقد استعرض المحقق النائيني ( قده ) لتوضيح ذلك عدة تطبيقات نقتصر فيما يلي على أهمها وهو فرعان :

الأول ـ لزوم إمكان رفع عدم ولاية الزوجة مثلا على الطلاق عند ضررية ذلك كما إذا لم ينفق الزوج عليها عصيانا أو كان معسرا.

وأفاد السيد الأستاذ بان قاعدة لا ضرر لا تثبت ولاية الطلاق للزوجة أو لوليها وهو الحاكم الشرعي حتى إذا قلنا بعموم القاعدة للأحكام العدمية ، وذلك لأن الضررية تنشأ من عدم الإنفاق لا من الزوجية أو عدم الطلاق ، فالقاعدة تدل على وجوب الإنفاق لدفع الضرر وهذا لا ربط له بالولاية على الطلاق.

وهذا الاعتراض مبنيٌّ على اختصاص تطبيق القاعدة على الضرر المالي أي النقص في المال ، واما بناء على ما تقدم من ان للضرر مصاديق أخرى اعتبارية فمن

__________________

(١) ويرد على مثل هذا الكلام أيضا ان عدم الحكم ليس دائما مساوقا مع الإباحة أو الترخيص فقد يكون عدم الضمان مثلا على المتلف للمتلف منه ضرريا فيراد إثبات الضمان بالقاعدة مع ان عدمه ليس أحد الأحكام التكليفية الخمسة.


الواضح ان سوء الحالة التي تنشأ من عدم ولاية الزوجة على طلاق نفسها من زوجها الّذي لا ينفق عليها من أوضح مصاديق الضرر والّذي يكون رفع الضرر عنها بولايتها على طلاق نفسها والانفكاك عن مثل هذه الزوجية.

والصحيح في الجواب على هذا التطبيق ان يقال :

أولا ـ انه لا يرتبط بعموم القاعدة للأحكام العدمية بل يتجه على كل تقدير ، إذ لو كان عدم الطلاق ضرريا كما هو المفروض كان معناه ضررية بقاء الزوجية وهي حكم وجودي وحيث ان الإجماع والضرورة الفقهية قد دلاّ على ان الزوجية لا تنقطع إلاّ بالطلاق فيدل لا ضرر بالملازمة على ثبوت الطلاق بيد طرف الزوجة اما نفسها أو وليها وهو الحاكم الشرعي الّذي هو القدر المتيقن ، هذا إذا كان الزوج غير قادر على الإنفاق للإعسار واما إذا كان قادرا عليه ولكنه لا ينفق عصيانا وتمردا فهنا يمكن التمسك بفقرة لا ضرار بالتقريب المتقدم شرحه إذا لم يمكن إجباره على الإنفاق فأيضا يثبت الحكم بالطلاق للحاكم الشرعي على الأقل.

وثانيا ـ ان هذا ليس فقها جديدا بل امر قد أفتى به جملة من الفقهاء ، ووردت به بعض الروايات المعتبرة وانما ادعي وجود بعض الحدود والمقيدات له من قبيل فرض غيبة الزوج أو إعساره ممّا هو موكول إلى الفقه فإذا ثبت شيء من تلك القيود والتحفظات في الفقه أخذ بها كتقييد لإطلاق القاعدة وإلاّ التزم بإطلاقها وليس في ذلك تأسيس فقه جديد.

الثاني ـ تطبيق القاعدة بلحاظ عدم الضمان على المتلف للمتلف له ، فقد أورد عليه في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) بما لا يخلو من تشويش واضطراب وخلط بين أصل التعميم للأحكام العدمية ، وما فرع عليه من مسألة الضمان على المتلف ، وبالإمكان استخلاص أحد إشكالين من عبائر التقريرات.

أحدهما ـ ان لا ضرر ينفي الضرر لا انه يثبت التدارك ، والضمان تدارك للضرر.

الثاني ـ النقض بموارد التلف ، فان من تلف ماله أيضا يكون عدم الضمان في حقه ضرريا فليقل بضمان بيت المال لماله وهذا ما لا يلتزم به فقهيا.

ويرد على الإشكال الأول ، بان الضمان ليس تداركا للضرر اما باعتبار ارتكازية حق الضمان على المتلف عقلائيا وقد ذكرنا فيما سبق عموم القاعدة للإضرار العقلائية


الاعتبارية ، أو باعتبار ان الضمان وإن كان بالتدقيق العقلي تداركا للضرر إلاّ انه بالنظر العرفي المسامحي نفي له ولو بمرتبة من مراتبه.

ويرد على الثاني ان التلف السماوي لا يتم فيه شيء من التقريبين السابقين إذ ليس التلف له انتساب إلى الحكم الشرعي في المقام أصلا ، وليس تداركه من بيت المال إرجاعا له ونفيا للضرر بل مجرد فضل على من تلف منه المال وإحسان عليه.

ويرد على الإشكالين معا ما أشرنا إليه من انا لو سلمنا عدم انطباق القاعدة على باب الضمان لكونه تداركا للضرر لا نفيا له فهذا لا يستدعي عدم عموم القاعدة وشمولها للأحكام الترخيصية العدمية كعدم حرمة الإضرار مثلا.

بل ظاهر القاعدة في حديث الشفعة ومنع فضل الماء ان التطبيق كان بلحاظ الحكم العدمي الترخيصي حيث استخرج منها حرمة منع الماء وثبوت حق الشفعة للشريك ، بل الأمر في قصة سمرة بن جندب أيضا كذلك إذا كان التطبيق بلحاظ ( لا ضرر ) لا ( لا ضرار ) فان الضرري ليس هو أصل الحق في الدخول بل جواز عدم الاستئذان والترخيص فيه فيرتفع ويثبت حرمة الدخول بلا استئذان.

ثم ان للمحقق الأصفهاني ( قده ) كلاما في تطبيق القاعدة في باب الضمان لإثبات الضمان فيمن أتلف مال الغير سهوا مثلا حاصله : ان القاعدة انما تنفي إطلاق الحكم الضرري كوجوب الوضوء إذا استلزم ضررا لا الحكم الّذي يكون من أصله ضرريا ، وعدم الضمان في مورد التلف أصله ضرري لا ان إطلاقه وقسما منه ضرري لكي يرفع بلا ضرر.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم من ان القاعدة ناظرة إلى الشريعة ككل ويحكم عليها لا إلى كل فرد فرد من الأحكام مستقلا ، ان دائرة عدم الضمان تتحدد بتحديد دائرة الضمان فإذا كان الشارع قد حكم بالضمان في مورد الإتلاف العمدي فيكون موضوع عدم الضمان ما لم يكن كذلك بان تلف بلا عمد أو بتلف سماوي أو لم يتلف أصلا ، وهذا الحكم العدمي أصله ليس ضرريا بل إطلاقه لصورة الإتلاف غير العمدي هو الضرري فيرفع بالقاعدة.


٢ ـ تطبيق القاعدة فيمن أقدم على الضرر :

هناك في بادئ الأمر نحو تهافت بين موقفين للأصحاب في تطبيق القاعدة ، فانهم في باب خيار الغبن ونحوه قالوا بعدم الخيار فيما إذا كان المغبون عالما بالغبن من أول الأمر لأنه أقدم بنفسه على الضرر ، بينما ذهبوا في مسألة من أقدم على الجناية متعمدا وهو مريض لا يتمكن من الغسل بسقوط وجوب الغسل عليه لكونه ضرريا والانتقال إلى التيمم مع انه أيضا قد أقدم على الضرر.

وقد تصدى المحقق النائيني ( قده ) على ما في تقريرات بحثه لحل هذا الإشكال ، وعبائر التقرير لا تخلو من تشويش وفيها محتملات عديدة ، وفيما يلي نصوغ مطلب هذا المحقق بتقريبات ثلاثة :

الأول ـ ان لا ضرر انما ينفي الحكم المتولد منه الضرر باعتبار مسببا توليديا له على ما تقدم في شرح الحديث ، وهذا انما يكون فيما إذا كانت إرادة المكلف مقهورة للحكم الشرعي كما في الأمر بالغسل فانه بعد فعلية الجنابة تكون إرادة المكلف مقهورة للوجوب ، وأمّا من يقدم على الغبن فالحكم بصحة المعاملة لا يقهر إرادة المكلف على الإقدام على الغبن كي يكون الضرر منتسبا إليه لا إلى إرادة المكلف.

وفيه : انه خلط بين الجعل والمجعول ، فانه إذا لوحظ جعل الحكم بوجوب الطهور وصحة المعاملة الثابتان قبل تحقيق موضوعهما خارجا فلا إرادة مقهورة لهذا الحكم في الموردين ، وإن لو حظ فعلية الحكم بها بعد تحقق الموضوع فكما ان إرادة المكلف مقهورة لإيجاب الطهور على المجنب كذلك هي مقهورة لصحة المعاملة ولزوم الوفاء بها على المتعاقد.

الثاني ـ ان الضرر في باب الجنابة ضرر تكويني ثابت حتى إذا كانت جنابته عمدية ، فان ذلك لا يرفع ضرر الماء عنه وهذا بخلاف باب الغبن فان اقدامه من أول الأمر على المعاملة مع العلم بالغبن فيها معناه عدم اشتراط التساوي في القيمة فلا موضوع للحق ليكون انتفاؤه ضرريا.

وفيه : ما تقدم من إمكان تطبيق لا ضرر في الغبن بلحاظ الضرر المالي ، وهو ثابت تكوينا كالضرر في باب الجنابة.


الثالث ـ ان المعاملة الغبنية بنفسها الضرر وقد أقدم عليه المشتري مثلا فلا تشمله القاعدة لأنها مشروطة بعدم الإقدام ، واما الجنابة التي أقدم عليها فليست هي الضرر وانما الضرر في إيجاب الغسل عليه وهو لم يقدم عليه وانما أقدم على موضوعه ، نعم لو كان حكم هذا الموضوع بالخصوص الغسل فقد أقدم على الضرر لأن المقدم على موضوع حكم ضرري مقدم عليه فصدق الإقدام موقوف على كون حكم هذه الجنابة وجوب الغسل وعدم جريان لا ضرر الموقوف على الإقدام فأصبح صدق الإقدام دوريا فلا اقدام ، وهذا التقريب نقله المحقق العراقي ( قده ) عن أستاذه صاحب الكفاية فلعله مقصود المحقق النائيني ( قده ) أيضا.

ولتحقيق البحث يقع الكلام في مقامين :

المقام الأول ـ في صدق الإقدام في مسألة الغبن فنقول : قد يتوهم عدم صدقه من باب ان المكلف أقدم على الإنشاء وهو ليس بضرري ، وانما الضرر يترتب على ما أقدم عليه وهو الصحة والنفوذ كما في باب الغسل.

وفيه : ان المدلول الجدي الّذي يقدم عليه المتعاملان هو إيجاد النتيجة القانونية وحصول المبادلة خارجا وليس الإنشاء إلاّ استطراقا إلى تحصيل ذلك في الخارج ، فإذا كانت المبادلة ضررية صدق الإقدام على الضرر بذلك.

وقد يمنع عن ذلك بان الإقدام يكون على حدوث المعاملة وصحتها وهو ليس ضرريا وانما الضرر في بقاء الصحة بعد الفسخ أي لزومها الّذي هو حكم شرعي مترتب على المعاملة فيكون حاله حال وجوب الغسل.

وهذا البيان أيضا غير تام بناء على مسلك المحقق النائيني ( قده ) والمختار من ان اللزوم منشأ في المعاملة بالالتزام فيكون هو مقصود المتعاملين الّذي أقدما عليه ، وعليه فلا ينبغي الشك في صدق الإقدام على الضرر في مسألة الغبن بنفس اقدامه على المعاملة عالما بالغبن.

المقام الثاني ـ في صدق الإقدام على الضرر في مسألة الجنابة العمدية. والبحث عن ذلك يقع في جهات :

الجهة الأولية ـ في علاج شبهة الدور التي آثارها المحقق الخراسانيّ ( قده ) في صدق الإقدام على الضرر ، ولتوضيح ذلك نتكلم ضمن نقاط :


النقطة الأولى ـ انه لو صحّ ما أفاده من ان الإقدام على الضرر دوري لتوقفه على عدم جريان لا ضرر المانع عن وجوب الغسل وعدم جريانه متوقف على الإقدام لصح انا ان نقول ذلك في طرف عدم الإقدام أيضا لتوقفه على جريان لا ضرر حتى ينفي وجوب الغسل فلا يكون اقدام عليه وجريانه متوقف على صدق عدم الإقدام وهذا دور.

النقطة الثانية ـ ما ذكرناه مرارا من خطأ أصل هذه المنهجة في علاج الدور ودفع محذوره ، فان المحال ليس هو تحقق الدائرين في الخارج بل الاستحالة في نفس التوقفين سواء وجد الموقوف والموقوف عليه خارجا أم لا فلا بد مع إبطال أحد التوقفين دائما في مقابل شبهة الدور لا التسليم بذلك والمنع عن تحققهما خارجا.

النقطة الثالثة ـ ان العام دائما يتعنون بنقيض العنوان الوارد في المخصص أو الحاكم ، فإذا ورد أكرم العالم دائما وورد لا تكرم فساق العلماء كان موضوع العالم الواجب إكرامه هو العالم الّذي لا يكون فاسقا ، وفي المقام دليل وجوب الغسل على المجنب بعد تحكيم دليل لا ضرر عليه يكون موضوعه نقيض العنوان المأخوذ في لا ضرر الّذي هو عنوان عدم الإقدام ـ بحسب الفرض ـ أي الإقدام على الضرر فلا بد من ملاحظة ان عدم الإقدام على الضرر المأخوذ في موضوع لا ضرر بأي معنى من المعاني لكي يتحدد عنوان الإقدام المأخوذ في موضوع وجوب الغسل.

النقطة الرابعة ـ ان عدم الإقدام في موضوع لا ضرر فيه بدوا احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يراد به عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر لا مطلق عدم الإقدام ولو من ناحية جريان لا ضرر فيكون موضوع وجوب الغسل على هذا الاحتمال الإقدام الثابت بقطع النّظر عن لا ضرر ، وبناء عليه يجب الغسل على المجنب متعمدا لأنه مع قطع النّظر عن لا ضرر يصدق الإقدام على الضرر ـ بقطع النّظر عمّا سوف نذكره ـ.

الثاني ـ ان يراد عدم الإقدام بالفعل أي ولو كان من ناحية لا ضرر ، وهذا هو المحال لاستلزامه الدور فان عدم الإقدام المتفرع على لا ضرر لا يمكن ان يكون موضوعا له.

الثالث ـ ان يراد عدم الإقدام ولو الناشئ من لا ضرر ولكن لا بنحو الفعلية بل بنحو القضية التعليقية الشرطية فكلما صدقت قضية شرطية مقدّمها ثبوت لا ضرر وتاليها عدم الإقدام تحقق موضوع لا ضرر وهذا لا يلزم منه الدور لأن صدق القضية


الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها فلو فرض ان الله سبحانه وتعالى علّق خلق الشيخ المفيد على نصرة الشيخ المفيد للإسلام بنحو القضية الفعلية كان دورا ومحالا ولكن إذا كان خلقه متوقفا على نصرته للإسلام بنحو القضية الشرطية أي صدق قولنا لو خلق لنصر الإسلام فهذا ليس دورا.

وهذا الاحتمال كالاحتمال الثاني في النتيجة إلاّ انه من دون محذور الدور ، وعدم الإقدام بناء على هذا يكون أعم وأوسع من العدم المأخوذ بناء على الاحتمال الأول فيكون الإقدام المأخوذ في موضوع وجوب الغسل بناء على هذا الاحتمال أخص منه على الاحتمال الأول لأن نقيض الأعم أخص ونقيض الأخص أعم ، وقد عرفت انه عل الاحتمال الأول يجب الغسل لصدق الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر بينما على هذا الاحتمال تجري القاعدة لأنه يصدق عدم الإقدام في طول جريانها بنحو القضية الشرطية فلا يجب الغسل.

لا يقال ـ هذا معناه ان وجوب الغسل موضوعه صدق الإقدام على الضرر ولو في طول وجوب الغسل وهذا دور.

فانه يقال ـ اما على الاحتمال الثالث فالمفروض ان كل ضرر ينشأ من ثبوت الحكم الإلزامي ولو أقدم عليه المكلف يرفعه لا ضرر لأن المفروض ان موضوع القاعدة عدم الإقدام ولو الناشئ من جريانها فلا محالة تكون القاعدة مفنية لإقدام ينشأ من الحكم الّذي ينفيه فيكون موضوع الأحكام الإلزامية الإقدام على الضرر الناشئ من غير نفس تلك الأحكام فلا دور.

واما على الاحتمال الأول أي ان يكون موضوع لا ضرر صدق عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ، فقد يقال انه سوف يكون موضوع وجوب الغسل الإقدام على الضرر الناشئ ولو من وجوب الغسل ـ أي بقطع النّظر عن لا ضرر ـ وهذا دور.

الا ان الصحيح عندئذ ان يقال بما ذكرناه في الاحتمال الثالث بلحاظ الإقدام ، فالموضوع صدق الإقدام على الضرر بنحو القضية الشرطية الصادقة حتى مع عدم صدق طرفيها فلا دور ولا محذور في ان يكون موضوع لا ضرر عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ولكن موضوع وجوب الغسل الإقدام لو وجب الغسل بنحو القضية الشرطية أي يكون الموضوع في دليل لا ضرر الاحتمال الأول وفي دليل وجوب الغسل الاحتمال الثالث ،


فان مدرك أخذ هذا الاحتمال في دليل لا ضرر الاستظهار العرفي بحسب قرينة الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع على ما سوف يظهر ، بينما مدرك أخذ الاحتمال الثالث في دليل وجوب الغسل حكم العقل بتقيد العام بنقيض موضوع الخاصّ لا غير وهو يقتضي سعته وشموله حتى لما إذا صدقت القضية الشرطية المذكورة فتأمل جيدا.

النقطة الخامسة ـ ان المستظهر من حديث لا ضرر أخذ عدم الإقدام على الضرر في موضوعه بنحو الاحتمال الأول لا الثالث ، لأن هذا القيد لم يؤخذ لفظا في حديث لا ضرر وانما مدركه ظهور سياق الحديث في الامتنان على الأمة وهذا لا يقتضي إطلاقها لأكثر من الاحتمال الأول أي عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ولا تنفي الضرر في مورد يصدق عدم الإقدام في طول جريان لا ضرر ، لأن هذا معناه ان القاعدة تكون مورد الامتنان لنفسها مع انها ناظرة إلى مورد يكون الامتنان فيه ثابتا بقطع النّظر عنها.

وهكذا يثبت إلى هنا ان الإقدام على الضرر ثابت في باب الإجناب العمدي من دون لزوم الدور ، فلا بد من القول بعدم جريان القاعدة لنفي وجوب الغسل الضرري كما في مسألة الغبن.

الجهة الثانية ـ ان لا ضرر هل يكون مقيدا بعدم أي اقدام على الضرر أو يختص بعدم اقدام خاص؟ لا إشكال ان عنوان عدم الإقدام لم يرد في لسان القاعدة ليستظهر الإطلاق ، وانما مأخذ ذلك كما أشرنا سياق الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع الّذي يقتضي في مورد وجود غرض عقلائي للمكلف في الإقدام على الضرر عدم انتفاء الحكم لأنه خلاف غرض المكلف فلا يكون نفيه منّة عليه ولو بحسب النّظر العرفي ـ ولو فرض ان مصلحته الواقعية على خلاف غرضه ـ نعم لو كان ذلك الغرض سفهيا فلا بأس بإطلاق القاعدة لثبوت الامتنان في رفع الحكم عندئذ وهذا واضح ، انما الحديث في انه إذا تعلق غرض عقلائي بحكم ضرري فأقدم عليه المكلف فهل يكون نفيه على خلاف الامتنان مطلقا أم هناك تفصيل؟.

الصحيح : هو التفصيل بين ما إذا كان ذلك الغرض هو نفس الأمر الضرري أو معلولا له بحيث ينتفي بنفي الحكم الضرري ، وما إذا كان الغرض في امر يكون مستلزما للضرر أو علّة له ، فالأوّل هو الحاصل في الإقدام على المعاملة الغبنية فان غرض


المشتري المغبون في نفس المعاملة وتملك المبيع تملكا مطلقا لازما رغم الغبن فيه فهو يقدم على الحكم الضرري ابتداء لأن غرض في ذلك وهنا لا إشكال في عدم المنّة في رفع الحكم بصحة المعاملة ولزومها إذا كان جريان القاعدة مانعا تكوينا عن الإقدام كما في المعاملة أو مانعا عن ذلك تشريعا فيكون جريانها على خلاف الامتنان ، نعم إذا كان نفي الحكم يشكل مانعا عن غرضه لا تكوينا ولا تشريعا فلا مانع من إطلاق الحديث لنفي الحكم لكونه على وفق الامتنان على كل حال كمن تعلق غرضه باستعمال الماء في مواضع الوضوء رغم ضرره عليه فانه يمكنه ذلك حتى إذا لم يكن الوضوء واجبا بل هنا يرتفع وجوب الوضوء الضرري ولو توقف غرضه على استعمال الماء في مواضع الوضوء بما هو امتثال للمولى فانه وإن كان بنفي وجوبه ينتفي هذا الغرض إلاّ ان هذا كأنّه نحو تحكم على المولى فلا يعتنى بمثله ولهذا تكون القاعدة جارية في ذلك أيضا.

امّا الثاني فهو المحقق في باب الإجناب عمدا ، فان غرض المكلف ليس في الإقدام على الغسل ولا فيما يتوقف على الغسل بل الأمر بالعكس فانه يريد الإجناب الّذي هو علّة قهرية لوجوب الغسل ومن أمنياته ان لا يكون هذا الإجناب علّة لوجوب الغسل فيتوصل إلى مقصوده من دون التبعة المتفرعة عليه ، وفي هذا النوع من الإقدام على الضرر لا يكون نفي الحكم الضرري على خلاف الامتنان بل على طبق الامتنان ، فلا مانع من إطلاق الحديث لنفي مثل هذا الحكم الضرري.

وبهذا يندفع التهافت بين موقف الفقهاء في مسألة الإقدام على المعاملة الغبنية والإقدام على الجنابة مع ضررية الغسل ، كما ظهر اندفاع تهافت آخر بين مسألة الإقدام على الغبن والإقدام على الوضوء الضرري ولو كان الغرض في امتثال الأمر المولوي.

وقد حاول المحقق النائيني ( قده ) الإجابة على هذا التهافت بان إرادة المكلف في مسألة الإقدام على الغبن ليست مقهورة للحكم بل فوقه بينما في الوضوء تكون مقهورة لوجوب الوضوء لو كان.

وهذا الجواب غير تام إذ لا معنى لافتراض ان الإرادة مقهورة مع افتراض ان المكلف بنفسه راغب لذلك.

الجهة الثالثة ـ انه ظهر ممّا تقدم في وجه التفرقة في تطبيق القاعدة على مسألة


الجنابة عمدا دون مسألة الإقدام على الغبن الضابط العام في تطبيق القاعدة في موارد الإقدام على الضرر فيستفاد منه وجه عدم التطبيق في سائر الفروع المشابهة كالفرع المعروف الّذي وقع فيه البحث بينهم وهو ما إذا استعار أو استأجر شخص أداة من واحد وجعلها في بنائه أو استأجر أرضه فزرعها ثم طالب صاحبها ردها المستلزم لخراب بنائه أو زرعه فانهم لم يحكموا بجريان القاعدة لمنع استردادها.

ولتوضيح حال هذا الفرع وتحقيق الحال فيه نقول : ان محل البحث ما إذا لم يكن هناك حق للمستأجر أو المستعير بإبقائها لاشتراط ذلك مثلا صريحا أو ضمنا ضمن العقد كما انه يشترط ان لا يكون غصبا أو ما بحكمه كما إذا كان قد اشترط الرد بعد مدة معينة صريحا أو ضمنا فانه لا إشكال في وجوب الرد عندئذ إجماعا ، وانما البحث فيما إذا استأجر الأرض للزرع مثلا مدة معينة تكفي عادة لزرعها وحصاده ولكن صدفة ولعارض تأخر ذلك فانقضت المدة دون بلوغ الزرع فدار الأمر بين إبقاء الأرض تحت يد المستأجر ـ ولو بالأجر ـ أو قطع الزرع ، وقد ذكروا لعدم جريان القاعدة بصالح المستأجر وجوها ثلاثة :

الأول ـ ان المستأجر قد أقدم بنفسه على هذا الضرر ، والمحقق النائيني ( قده ) الّذي لم يقبل الإقدام على الضرر في مسألة الإجناب متعمدا ولكنه قبله هنا ، وقد ذكر في وجه التفرقة ما لا يرجع إلى محصل.

والصحيح : ان الإقدام لا يمنع في المقام عن جريان القاعدة وذلك :

أولا ـ لعدم تحقق الإقدام إذا كان المكلف معتقدا كفاية المدة المستأجرة لزرعه كما هو واضح.

وثانيا ـ ان هذا من الإقدام على علّة الضرر لا معلوله أو نفسه فهو كالإقدام على الجنابة غير ضائر بجريان القاعدة. نعم لو غصب الأرض لم تجر القاعدة رغم ان اقدامه على العلة لا المعلول لكونه إقداما محرما تنصرف عنه القاعدة المشرعة من قبل الشارع.

الثاني ـ دعوى تعارض الضررين فانه لورد العين المستأجرة تضرر المستأجر ولو لم يرد تضرر المالك فلا تجري القاعدة.

والتحقيق : انه تارة يلاحظ الضرر العيني ، وأخرى الضرر المالي ـ أي القيمة ـ.

اما بلحاظ الضرر العيني فالنقص الوارد على عين المملوك إن كان مع حفظ


مقتضى سلطنة المالك عد هذا نقصا وضررا كما في الكافر الحربي الّذي لا قصور في سلطنته على أمواله وانما يجوز أخذها منه تحقيرا له وهدرا لحرمة ماله فيكون إضرارا جائزا لكونه كافرا.

واما إذا كان النقص الوارد على العين من باب القصور في أصل مقتضي السلطنة كما في شراء العبد المشغول ذمته بحق للمجني عليه مثلا فأخذه لحقه ليس ضررا على المالك إذا لم تكن سلطنته أكثر من هذا المقدار من أول الأمر ، وفي ما نحن فيه الأمر كذلك فان السلطنتين المتضادتين على عين واحدة لا يمكن جعلهما معا والجمع بينهما فلا بد من انتفاء إحداهما فلا معنى لتعارض الضررين بعد ان كان كلا النقصين هنا اعتباريا لا ان أحدهما حقيقي والآخر اعتباري.

والظاهر ان الأصل الأولي عند العقلاء جعل السلطنة لمالك الأرض إلاّ إذا فرض ضآلة ملكه في قبال خطورة ملك المستأجر كما في خشبة ضئيلة في بناء ضخم.

واما الضرر في المالية في المقام فانه في المورد الّذي يجعل العقلاء السلطنة للمالك يقال بأنه مخير بين إبقاء العين تحت يد المستأجر وأخذ أجرة مثله وبين استرداده مع غرامة قيمة الزرع التالف ، وفي المورد الّذي يعطى حق ذلك للمستأجر يقال بالتخيير بين الرد والإبقاء مع إعطاء الأجرة فلا تعارض بين ضررين في المالية ، وهذا هو الفتوى المعروفة عند الأصحاب.

لا يقال ـ الغرامة تدارك للضرر فلا ينافي صدق الضررين ولا يمكن استفادته من لا ضرر.

فانه يقال ـ الغرامة بلحاظ الضرر العيني يكون تداركا ، وامّا بلحاظ الضرر في المالية فهو رفع للضرر لا تدارك له.

الثالث ـ ما ذكره المحقق العراقي من ان لا ضرر باعتباره للإرفاق والامتنان فجريانه لمنع رد العين إلى مالكه خلاف الامتنان وفيه : ان الشرط امتنانية القاعدة في حق من يجري في حقه لا في حق جميع المكلفين فانه لا موجب لذلك ، نعم لا بد ان لا يجري في حق الآخر أيضا وإلاّ لزم تعارض الضررين.

ثم ان المحقق العراقي ( قده ) بعد ان منع عن جريان القاعدة هنا من باب كونها


قاعدة امتنانية قال بأنه لا بد من الرجوع إلى القواعد الأولية ، وهي هنا سلطنة المالك على ماله ، وحيث ان هذه القاعدة تجري بلحاظ كل من المالك والمستأجر بالنسبة لما يمتلكه فيقع التعارض بين السلطنتين ولكن يقدم حق المالك في أرضه على حق الزارع في زرعه باعتبار ان هذا القاعدة أيضا امتنانية مشروطة بعدم استلزامه للتصرف في مال الغير وسلطنة الزارع تستلزم التصرف في أرض الغير بخلاف سلطنة المالك في أرضه بإخراج الزرع منه فانه مسبب عن إخراج الزرع لا سبب له.

وكأنه التفت بعد ذلك إلى ان هذا المقدار لا يكفي للتفرقة ، إذ لم يرد في لسان دليل اشتراط ان لا يكون التسلط على المال سببا للإضرار بالغير لا مسببا فحاول إثبات مدعاه في المقام بأمور ثلاثة تستفاد من مجموع كلامه.

الأمر الأول ـ ان تخليص المالك لأرضه يكون في طول إشغال الزارع ومتأخرا عنه رتبة تأخر الدفاع عن الهجوم.

الأمر الثاني ـ إذا كان التخليص في طول الاشغال فتسلط المالك على التخليص يكون في طول تسلط الزارع على الاشغال ، فيكون عدم تسلط المالك على التخليص متأخرا عن تسلط الزارع على الاشغال لاتحاد النقيضين في الرتبة.

الأمر الثالث ـ ان قاعدة السلطنة باعتبارها إرفاقية فلا بد من ان تتقيد بعدم لزوم التصرف في مال الغير اما مطلقا أو في خصوص مال الغير الّذي له سلطنة على ماله وعندئذ يقال : ان السلطنة المالك على أرضه مقيدة بالقيد الثاني أي بعدم سلطنة للزارع مزاحمة مع سلطنة المالك ـ لأن هذا القيد أضيق من الأول فيتعين كلما أمكن إطلاق السلطنة ـ إذ لا مانع منه في المقام ، واما سلطنة الزارع على زرعه فليست مقيدة بعدم سلطنة لصاحب الأرض مزاحمة مع تلك السلطنة لما عرفت من ان سلطنة صاحب الأرض وعدمها متأخر رتبة عن سلطنة الزارع وتقيد الشيء بالمتأخر عنه محال فلا يمكن التقييد الثاني بل يتعين الأول فتقيد سلطنته بعدم لزوم التصرف في مال الغير أعني صاحب الأرض وهذا ثابت تكوينيا للزوم مثل هذا التصرف على كل حال فتكون سلطنة صاحب الزرع على زرعه منتفية وبانتفائها تكون سلطنة المالك للأرض على أرضه فعلية.

ويرد على هذا الكلام أمور :


الأول ـ منع الأمر الأول ، فان تصرف المالك في أرضه يكون في عرض إشغال الزارع لها فانهما عملان يتواردان على الأرض لا تجتمعان معا ، فالأرض اما تكون تحت يد مالكه أو تحت يد المستأجر ، وعنوان التخليص ونحوه ليس هو متعلق الحق.

الثاني ـ منع الأمر الثاني من الطولية بين السلطنتين ، فانه لو سلمنا الطولية بين التصرفين فلا يثبت بذلك الطولية بين السلطنتين لمنع كون الطولية بين المعروضين مستلزمة للطولية بين العارضين أولا ، ولمنع كون السلطنة على التصرف عارضا أصلا على التصرف الخارجي بل على التصرف العنواني الذهني ثانيا.

الثالث ـ لو سلمت الطولية بين السلطنتين فلا نسلم طولية السلطنة المتأخرة لعدم السلطنة المتقدمة إلاّ بناء على كبرى وحدة النقيضين في الرتبة وان ما مع المتقدم متقدم ، وهو مرفوض عندنا كما ذكرناه ذلك مرارا.

الرابع ـ منع الأمر الثالث من ان السلطنة يمكن تقييدها بوجهين فنقيدها بالقيد الثاني لأنه أخص وإلاّ فبالأول ، فان الصحيح ان يرى ملاك التقييد وهو في المقام الإرفاق والامتنان على الآخرين أيضا وهو يوجب التقييد بعدم لزوم التصرف في مال الغير وهو القيد الأول ، وامّا القيد الثاني وهو عدم المزاحمة مع السلطنة الغير فليس هذا إرفاقا وانما هو تقييد عقلي بملاك استحالة وجود سلطنتين متضادتين.

الخامس ـ ان قاعدة السلطنة ليست ثابتة بدليل لفظي (١) ليتمسك بإطلاقه ويبحث مثل هذا البحث ، وانما تثبت بدليل لبّي من إجماع أو سيرة ومن المعلوم ان قدرة المتيقن لا يشمل المقام كي يترتب عليه مثل هذا البحث.

__________________

(١) وامّا ما ورد في باب التصرفات المنجزة في مرض الموت من الروايات الدالة على ان الإنسان أحق بماله ما دامت فيه الروح أو ان لصاحب المال ان يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا ونحو ذلك من الألسنة المستفيض نقلها وبأسانيد عديدة فيها الصحيح فلا يمكن الاستناد إليها لإثبات كبرى السلطنة لأنها ليست في مقام بيانها وتشريعها بل في مقام بيان ان السلطنة الثابتة للإنسان انما تبقى له ما دام فيه الروح أما حدود تلك السلطنة الثابتة للإنسان فليست هذه الروايات بصدد بيان أصلها وان شئت قلت : انها بصدد نفي الحجر قبل الموت لا أكثر كما لا يخفى على من لاحظها.


٣ ـ نسبة القاعدة إلى أدلة الأحكام الأولية :

ذكروا لتقديم القاعدة على أدلة الأحكام الأولية عدة تقريبات ، نتعرض لها فيما يلي :

التقريب الأول ـ تقديم إطلاق القاعدة على إطلاق أدلة تلك الأحكام وإِن كانت النسبة عموماً من وجه ، باعتبار قطعية سند القاعدة ، وكلما تعارض دليل ظني مع دليل قطعي السند سقط عن الحجية في مقدار التعارض.

وهذا التقريب انما يتم إذا ما تمت أمور ثلاثة :

١ ـ ان يكون سند ذلك الحكم الأولي ظنياً لا قطعياً أيضاً.

٢ ـ ان يثبت تواتر دليل القاعدة ولو إجمالاً ، وقد مضى منع ذلك.

٣ ـ ان لا يتم جمع دلالي بين إطلاقها وإطلاق أدلة الأحكام الأولية على ما سوف يظهر.

التقريب الثاني ـ انَّ دليل القاعدة إذا قيس إلى مجموع أدلة الأحكام الأولية وإطلاقاتها كانت أخص منهما فيتقدم عليها وإن كانت النسبة بينه وبين كل واحد منها العموم من وجه.

واعترض عليه السيد الأستاذ بان المعارضة انما تكون بين القاعدة وبين كل واحد من تلك الأدلة ولا يوجد عندنا دليل يسمى بمجموع الأدلة حتى تلحظ النسبة بينه وبينها.

وهذا الاعتراض انما يتم لو كان ملاك التخصيص الأظهرية ونحوها ، واما إذا افترضنا ان الملاك لزوم المعاملة مع الأدلة المنفصلة كأدلة متصلة أي ان الشارع بنفسه نصب قرينة عامة على انه يتدرج في بيان أحكامه ، وانه في مقام اقتناص المفاد النهائيّ من كلامه لا بد من التجميع فيما بينهما معا أمكن ان يكون هذا الوجه للتقديم تاما حينئذ.

التقريب الثالث ـ ان تقديم كل إطلاقات الأدلة الأولية على القاعدة يوجب سقوطها رأسا بخلاف العكس ، وتقديم بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فيقع التعارض فيما بينهما وتتساقط لا محالة.


وأورد عليه السيد الأستاذ بان الأدلة الأولية بعضها بالإطلاق وبعضها بالعموم ، والعام مقدم على الإطلاق فينحصر التعارض بين الإطلاقات الأولية وإطلاق القاعدة فتتساقط.

وهذا الاعتراض يبطل الشق الثالث ولكنه لا يبطل أصل التقريب من ان هذا إسقاط لأصل الدليل بالإطلاق والعموم وهو لا يمكن وإن شئت قلت : ان لا ضرر بنصوصيته على نفي الضرر في الجملة يقدم على كل تلك الإطلاقات والعمومات الأولية فيقدم على المجموع ويقع التعارض فيما بينها أنفسها ، وحينئذ امّا ان يقدم العام على المطلق أو يحكم بالتساقط لأن تقديم العام على المطلق انما يكون فيما إذا وقع بينهما التكاذب ابتداء لا بملاك العلم الإجمالي.

ولا يقال : بان الإطلاقات الأولية تتعارض مع العمومات من ناحية ومع إطلاق دليل القاعدة من ناحية أخرى فتسقط الجميع في عرض واحد ولا وجه لملاحظة المعارضة الأولى والحكم بسقوط طرفيها والرجوع إلى إطلاق القاعدة بلا معارض.

فانه يقال : قد مضى في بعض البحوث السابقة إذا كان هناك معارضتان ولم يمكن تقديم أحد المتعارضين بعينه في إحدى المعارضتين للزوم محذور الترجيح بلا مرجح بخلاف المعارضة الأخرى فانه لا يلزم من تقديم طرفها محذور آخر قدم ذلك الطرف ، وفي المقام تقديم الإطلاقات على إطلاق القاعدة مبتلى بمحذور آخر وهو محذور ترجيحها على العمومات المتعارضة معها بالعرض.

التقريب الرابع ـ إيقاع التعارض بين إطلاق القاعدة وإطلاقات الأدلة الأولية الإلزامية والرجوع بعد ذلك إلى البراءة المطابقة لمفاد القاعدة بحسب النتيجة.

وأورد عليه السيد الأستاذ بان هذا المقدار لا يكفي لترتيب سائر الآثار المترتبة على جريان القاعدة في موارد الأحكام الإلزامية ، فمثلا حينما ننفي وجوب الوضوء الضرري بالقاعدة يثبت وجوب التيمم بينما لا يمكن إثبات ذلك بالرجوع إلى البراءة فانها لا تنفي وجوب الوضوء واقعا ليثبت التيمم بل يتشكل علم إجمالي فيجب الاحتياط بالوضوء الضرري.

وهذا الاعتراض قابل للجواب ، فان إطلاق القاعدة لإيجاب الوضوء الضرري وإن سقط بالمعارضة إلاّ ان إطلاقها لإيجاب الاحتياط في وجوب الوضوء الضرري


المحتمل لا يسقط بالمعارضة إذ لا دليل على إيجاب الاحتياط في مورد العلم الإجمالي شرعا وانما هو بحكم العقل فيمكن رفعه بالقاعدة في طرف الوضوء الضرري مع بقاء وجوب الاحتياط بلحاظ الطرف الآخر وهو التيمم على حاله ـ لحرمة المخالفة القطعية من دون لزوم ضرر منه ـ فنصل إلى نفس النتيجة المطلوبة (١).

التقريب الخامس ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان القاعدة باعتبارها وردت مورد الامتنان والإرفاق على الأمة فتتقدم على إطلاقات سائر الأدلة.

وهذا المقدار في هذا التقريب لا يحقق وجها فنيا للتقديم الا ان يضاف إليه أحد امرين على سبيل منع الخلو.

١ ـ ان سياق الامتنان والإرفاق يأبى عن التخصيص أو يكون ظهوره أقوى من إطلاقات الأدلة الأولية فتقدم عليها بالأظهرية.

٢ ـ ان سياق الامتنان يستبطن الفراغ عن ثبوت مقتضي الأحكام الأولية الإلزامية وهذا يعني نظر دليل القاعدة إليها فتتقدم على إطلاق أدلتها بالنظر والحكومة ، وسيأتي الحديث عن ذلك.

التقريب السادس ـ تقديم القاعدة على الإطلاقات الأولية بالحكومة وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني في المقام أولا ضابط الفرق بين الحكومة والتخصيص ، ثم حاولت تطبيقه على دليل القاعدة بالنسبة إلى أدلة الأحكام الأولية.

امّا الضابط الّذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) فحاصله : ان التخصيص يكون ملاكه التنافي بين الخاصّ والعام عقلا للتضاد بينهما والحكم بتقديم الخاصّ

__________________

(١) ولكن يرد على هذا التقريب أولا ـ عدم التطابق في النتيجة دائما مع ما يترتب على فرض جريان القاعدة نورد منها ما يلي :

١ ـ ان يكون الحكم الأولي الضرري ترخيصا يراد رفعه بالقاعدة فيكون مفاد القاعدة الإلزام لا البراءة والترخيص.

٢ ـ ان يكون في مورد الحكم الأولي الضرري عام فوقاني على خلاف قاعدة لا ضرر ولكنه محكوم لدليل القاعدة فيكون مرجعا فوقانيا.

٣ ـ ان يكون في مورد الحكم الضرري أصل عملي حاكم على البراءة كما في استصحاب العقد بعد الفسخ.

وثانيا ـ ان أريد رفع وجوب الاحتياط العقلي بالقاعدة فهو غير معقول لأن القاعدة ترفع الحكم الشرعي لا العقلي وان أريد نفي وجوب الاحتياط الشرعي فهو لا يكفي في المنع عن منجزية العلم الإجمالي عقلا وان شئتم قلتم : ان وجوب الاحتياط في المقام انما كان بملاك التكليف المعلوم بالإجمال وجدانا والّذي لم يمكن للقاعدة نفيه فلا يمكن نفي مقتضاه العقلي وهو المنجزية بالقاعدة لأن نفيه نفي المقتضي وهو وجوب الوضوء المحتمل مبتلى بالمعارض بحسب الفرض ونفيه بنفي المقتضى دون المقتضي خلف منجزية العلم الإجمالي فان القاعدة لا تريد نفي منجزية العلم الإجمالي على تقدير ثبوت المعلوم وليس هذا محتملا في نفسه.


لكونه أظهر وأقوى دلالة من العام واما الحكومة فالقرينية تكون بدلالة عرفية لأن الحاكم بلسانه اللفظي ينظر إلى الدليل المحكوم ويفسره اما من خلال النّظر إلى موضوعه والتصرف فيه توسعة أو تضييقا كما في دليل لا ربا ، أو من خلال النّظر إلى عقد المحمول في المحكوم كما في أدلة نفي العسر والحرج ، وفي كلا القسمين لا تلحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم اما في الأول فلأن الدليل المحكوم يدل على قضية شرطية ولا يتكفل إثبات الشرط ـ عقد الموضوع ـ أو نفيه بخلاف الدليل الحاكم الّذي ينفي الموضوع والشرط بين الوالد والولد ـ وقد قاس المحقق النائيني ( قده ) ذلك بتقديم الأهم على المهم ورفعه لموضوعه وهو القدرة بالامتثال ـ واما في القسم الثاني : فلأن الدليل الحاكم يرفع موضوع حجية الإطلاق وهو الشك ويبدله إلى العلم تعبدا بعدمه فيرتفع موضوعها.

أقول : يرد على ما أفاده من أن القرينية في التخصيص عقلية وفي الحكومة عرفية ان القرينية في كليهما عقلية بمعنى ان التنافي بينهما بملاك التضاد وعدم إمكان الاجتماع مع فعلية موضوعهما معا ، وانما الفرق بينهما ان قرينية الحاكم شخصية وقرينية المخصص نوعية على توضيح وشرح موكول إلى محله من بحوث التعارض غير المستقر.

ومنه ظهر بطلان ما ذكر من ان الدليل الحاكم الناظر إلى عقد الموضوع ليس معارضا مع الدليل المحكوم لأنه يدل على قضية شرطية والدليل الحاكم ينظر إلى ثبوت الشرط وعدمه والشرطية لا تتكفل بيان شرطها أم لا ، فان ما هو الموضوع في الدليل المحكوم الرّبا الواقعي وهو متحقق حتى بعد ورود الحاكم لأن نفي الحاكم للربا بين الوالد والولد ليس نفيا حقيقيا ، نعم يتم ذلك في الورود وارتفاع الموضوع حقيقة ووجدانا.

واما ما ذكر أخيرا في القسم الثاني من الحكومة فيرد عليه :

أولا ـ ان ارتفاع موضوع حجية الإطلاق وهو الشك بالدليل الحاكم تعبدا لا يختص بالحاكم بل يجري في التخصيص وسائر وجوه الجمع العرفي.

وثانيا ـ كما يرتفع موضوع حجية إطلاق المحكوم وهو الشك في طول حجية إطلاق الحاكم تعبدا ، كذلك يرتفع موضوع حجية إطلاق الحاكم تعبدا إذا فرغ عن حجية إطلاق المحكوم لأن موضوع حجيته أيضا الشك.


والصحيح : في ضابط الفرق بين الحكومة والتخصيص ـ على ما سنشرحه مفصلا في بحوث التعارض ـ ان التخصيص يكون بملاك القرينية النوعية العامة والحكومة تكون بملاك القرينية الشخصية من قبل المتكلم نفسه وتفسيره لمرامه من المحكوم ، وهذا هو الّذي يجعل الحكومة بين دليلين متوقفة على نظر أحدهما إلى الآخر.

وهذه النكتة محفوظة بين دليل نفي العسر والحرج وأدلة الأحكام الأولية لأنها ظاهرة في النفي التركيبي أي فرغ فيها عن وجود أحكام في الشريعة والدين في المرتبة السابقة للدلالة على نفي ما ينشأ من إطلاقها حرج أو عسر.

واما في لا ضرر فقد يقال بان قيد في الإسلام لم يثبت في سنده ومجرد نفي الضرر لا يستلزم النّظر إلى الأحكام الأولية ، كما إذا قال المولى لا يصدر مني حكم ضرري فان هذا لا يتوقف على الفراغ عن ثبوت أحكام أولية لأنه نفي بسيط لا تركيبي ، فلا بد من بذل عناية لإثبات نظر القاعدة إلى تلك الأحكام وهذا ما يمكن بيانه بأحد تقريبات :

الأول ـ ان يقال بان ارتكاز المتشرعة بان له شريعة وأحكام يجعل القاعدة ناظرة إلى الأحكام الأولية فكأنّه قال لا ضرر من ناحية الشريعة والإسلام.

الثاني ـ ان يقال ان سياق الامتنان فيها يجعلها ناظرة إلى الأحكام الأولية وان النفي فيها تركيبي ، وبعبارة أخرى سياق الامتنان يقتضي ان هناك مقتضيا للأحكام الضررية وإلاّ لم يكن هناك امتنان وهذا بنفسه ملاك للنظر والفراغ عن ثبوت الاقتضاء لتلك الأحكام الضررية كما هو الحال في أدلة المانعية التي يكون لها نظر إلى دليل الحكم الممنوع.

الثالث ـ انه لو كان يحتمل جعل المولى لأحكام أصلها ضررية فقط احتمل ان تكون القاعدة بصدد نفي ذلك نفيا بسيطا إلاّ ان هذا في نفسه غير محتمل بل الأكثر احتمالا جعل المولى لأحكام إطلاقها ضرري وان القاعدة تريد نفي ذلك فلو لم تكن ناظرة إلى ذلك كان مفادها لغوا زائدا.

وفيه : إن أريد عدم احتمال ضررية تمام الأحكام فهو صحيح ، إلاّ انه لا ينحصر الأمر في ذلك فانه يحتمل ضررية بعضها ، وإن أريد عدم كفاية نفي هذا الاحتمال في دفع اللغوية ، فهو ممنوع مع قطع النّظر عن الارتكاز المتقدم.


٤ ـ تعارض القاعدة مع قاعدة السلطنة :

إذا استلزم تصرف المالك في ماله الضر كما إذا أراد ان يحفر بالوعة في داره وكان مضرا بالجار فهل تقدم سلطنة المالك أو تقدم القاعدة؟ والكلام في هذا التطبيق من تطبيقات القاعدة يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في ما تقتضيه القواعد الأولية بقطع النّظر عن القاعدة.

المقام الثاني ـ في ملاحظة القاعدة ونسبتها إلى القواعد الأولية.

اما المقام الأول ـ فقد يتوهم اننا لو قطعنا النّظر عن قاعدة لا ضرر كان مقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرفات الضارة بالآخرين إذا كان تصرفا في ملكه ، إلاّ ان هذا الكلام غير تام من وجوه :

الأول ـ ان هذه القاعدة لم ترد في رواية معتبرة ، وانما مدركها الإجماع والسيرة وهما دليلان لبيان يقتصر فيهما على القدر المتيقن وهو غير موارد الإضرار بالآخرين.

الثاني ـ لو فرض دليل لفظي معتبر مع ذلك لم يكن فيها إطلاق ، وذلك اما باعتبار احتمال ان يراد بهذه القاعدة نفي الحجر على المالك وان الأصل الأولي في الإنسان المالك لشيء عدم الحجر عليه إلاّ ما يثبت بدليل خاص فلا تدل القاعدة على جواز كل تصرف وانما تنفي الحجر فنحتاج في إثبات جواز كل تصرف في نفسه إلى دليل آخر ، أو باعتبار انها وإن كانت تدل على جواز التصرف إلاّ انها تدل على جوازه من حيث هو تصرف أو إتلاف للمال وامّا المنع من ناحية أخرى تكليفا أو وضعا فلا يمكن ان ينفي بهذه القاعدة ومنها حرمته من ناحية كونه إضرارا بالآخرين.

ثم ان للمحقق العراقي ( قده ) كلاما آخر في مقام المنع عن قاعدة السلطنة هنا ، وهو إيقاع المعارضة بين إطلاق سلطنة المالك على التصرف في داره مثلا وإطلاق سلطنة الجار وحقه في جداره.

وفيه : اننا لو سلمنا إطلاق القاعدة لكل أنحاء التصرف فلا تعارض في المقام إذ المستفاد منها بقرينة كلمة ( على أموالهم ) تجويز التصرفات التكوينية أو الإنشائية الاعتبارية كالبيع والإجارة في المال وليس المستفاد منها ثبوت حق المحافظة ونحو ذلك فانه ليس مصداقا للتصرف في المال ليكون مشمولا لإطلاقها.


وأيّا ما كان فالقاعدة لا إطلاق لها في نفسها في المقام ، إلاّ ان هذا يعني الرجوع بعد عدم شمول القاعدة إلى الأصول العملية المرخصة فيجوز للمالك حفر البالوعة في بيته ولو أدى إلى إضرار جدار جاره (١).

إلاّ ان الصحيح هو الرجوع إلى مدرك قاعدة السلطنة وهو السيرة العقلائية الممضاة شرعا ، ولا يبعد التفصيل عند العقلاء بين ما إذا كان المالك يتضرر بعدم حفر البالوعة في داره تضررا معتدا به وما إذا لم يتضرر فيجوز التصرف في الأول ولا يجوز في الثاني ، ولعل هذا هو المطابق مع فتوى المشهور أيضا.

واما المقام الثاني ـ فقد اعترض على التمسك بقاعدة لا ضرر لنفي سلطنة المالك في المقام بوجوه عديدة ، أهمها وجهان :

الأول ـ ان جريانها خلاف الامتنان والإرفاق على المالك.

وفيه : ما تقدم من ان المراد من امتنانية القاعدة انها إرفاق في حق من تجري بحقه وهو الجار في المقام ، وليس اللازم كونها إرفاقا بحق الآخرين ، نعم لا بد ان لا يكون في جريانها ضرر بحق الآخرين لدخوله في باب تعارض الضررين عندئذ.

الثاني ـ دعوى المعارضة بين جريانها بحق الجار لكونه متضررا وجريانها بحق المالك لأن منعه عن التصرف في داره ضرر عليه أيضا وهذا الوجه بحاجة إلى تمحيص.

والبحث عنه تارة في صغرى تعارض ضررين في المقام ، وأخرى في كبرى حكم هذا التعارض. اما البحث الصغروي فقد نوقش في ضررية مجرد منع المالك عن حفر بالوعة في داره ، نعم لو أدى ذلك إلى تضرر داره وخراب شيء منه كان المقام من تعارض الضررين.

وتحقيق هذه النقطة يرتبط بملاحظة دائرة الارتكاز العقلائي في باب سلطنة المالك وحقه في التصرف في أمواله فان كانت دائرة ذلك تعمّ ما إذا كان في تصرفه إضرارا بالآخرين كان منعه عن نفس هذا الحق ضررا عقلائيا عليه وإن منعنا عن سعة

__________________

(١) هذا إذا لم يكن هذا التصرف مصداقا لعنوان التصرف في مال الغير أو إتلاف مال الغير المحرم شرعا تكليفا ووضعها بأدلة لفظية مطلقة.


السلطنة حتى عند العقلاء لم يكن مجرد المنع ضررا ما لم تنضم تلك المئونة الزائدة المشار إليها ، وقد عرفت في المقام السابق عدم مساعدة الارتكاز العقلائي على التوسعة في السلطنة من دون افتراض تضرر المالك ضررا غير مندك في جانب ضرر الجار.

وامّا البحث الكبروي ، فقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) ان القاعدة انما تجري بالنسبة إلى تصرف على المالك الضرري فتحرم عليه ذلك ولا تجري لنفي الضرر عليه ، لأن حرمة التصرف على المالك انما استفدناها واستخرجناها من نفس القاعدة فكيف يمكن نفيها بها من جديد ، فان القاعدة انما تكون حاكمة ورافعة للأحكام الأولية الثابتة بالأدلة الأخرى ولا تكون حاكمة على نفسها.

ثم نقض على ذلك بما يقال في باب حجية الخبر الواحد من أن القضية الحقيقية يمكن ان تشمل نفسها بعد ان كانت انحلالية.

فأجاب عن النقض ، بان هذا انما يصح فيما إذا لم تكن القضية المجعولة مسوقة مساق النّظر إلى الأحكام الأولية ، وامّا إذا كانت كذلك كما هو المفروض في دليل لا ضرر فهي تتقيد لا محالة بمقدار ما تنظر إليه ولا يمكن ان تكون ناظرة إلى نفسها فانه تهافت.

وفيه : ان هذا الكلام انما يكون له وجه إذا فرض ان ملاك الحكومة هو النّظر بنحو التخصيص لكل حكم من الأحكام الأولية ـ ومن هنا قيل بعدم جواز رفع أصل حكم ضرري بها ـ وامّا إذا كان يكفي في الحكومة النّظر إلى لوح التشريع والشريعة ككل ويكون نظرها توضيحيا وتفسيريا بأنها ليس فيها حكم ضرري لا تقييديا فلا محذور في شمول القاعدة للحكم الثابت بنفسها.

وإن شئت قلت : ان كلا من جواز التصرف وعدم جوازه حكم ضرري يكون مشمولا لإطلاق القاعدة فيقع التعارض بين إطلاقيها ، ولا يشترط في شمول القاعدة ان يكون الحكم المراد نفيه بها مفادا لإطلاق دليل في المرتبة السابقة ليقال بان ما هو مفاد لإطلاق دليل في المرتبة السابقة أحد الحكمين من الجواز والمنع لا كليهما (١).

__________________

(١) بل ولو فرض لزوم ذلك ، قلنا أيضا بأنه يكفي ان يكون مفادا لإطلاق دليل بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، وهذا يصدق على ما يكون مفادا لإطلاق دليل القاعدة نفسها ، ولا يلزم منه تهافت في اللحاظ لأن القضية انحلالية.


هذا كله في ما يتعلق بالحكم التكليفي لحفر بالوعة تضر ببئر الجار مثلا ، واما حكمه الوضعي أي ضمان خسارة البئر فهو ثابت كلما صدق عنوان الإتلاف حتى إذا جاز الحفر تكليفا لأن الجواز التكليفي لا يخرج الإتلاف عن موضوع الحكم بالضمان.

وذكر المحقق العراقي ( قده ) في المقام تفصيلا بين ما إذا كان الحفر يتلف عين مال الغير أو وصفا حقيقيا من أوصافه كما إذا أوجب قلة ماء البئر أو اختلاط مائه بالأوساخ فيضمن ، وما إذا لم يوجب شيئا من ذلك وانما أوجب التنفر الطبيعي النوعيّ الموجب لقلة مالية ماء البئر في السوق وهنا لا ضمان ، لأن مجرد فعل يوجب قلة مالية مال الغير في السوق لا يستوجب الضمان ولا الحرمة تكليفا كما إذا نافس تاجر تاجرا آخر في السوق بإصدار نفس البضاعة وبقيمة أقل فأوجب قلة مالية بضاعة التاجر الأول فانه لا يكون ضامنا ولا مرتكبا للحرام.

أقول : ان هذه المسألة لها عرض عريض في الفقه ، وهذا النقض يتمسك به عادة لنفي ضمان المالية في موارد عديدة منها المقام ، ومنها ما إذا غصب شخص مال الغير في وقت يرغب إليه في السوق وتكون قيمته عالية ثم أرجعه إليه في وقت لا يرغب إليه في السوق ـ كالعباءة الصيفية في الشتاء مثلا ـ فانهم قالوا لا يضمن ماليته لأن المالية لا تضمن ، ونقضوا بنفس النقض المتقدم من المحقق العراقي ( قده ).

وتفصيل البحث في ضمان المالية ليس هنا مجال طرحه ، وانما نشير هنا باختصار إلى نكتة واحدة وهي انه لا بد من التمييز بين نقصان المالية من جهة نقصان المنفعة الذاتيّة لشيء ـ وهي ما تسمى بالقيمة الاستعمالية ـ ونقصانها من جهة نقصان القيمة التبادلية ـ القيمة السوقية ـ والّذي يتأثر بقوانين العرض والطلب وليس منشأه دائما المنافرة الذاتيّة للشيء وإن كان أصل المنفعة الذاتيّة لا بد منها في ثبوت القيمة التبادلية.

فإذا كان النقصان في القيمة الاستعمالية والمنفعة الذاتيّة للشيء فهنا لا بد من القول بالضمان لأن هذه المنفعة صفة واقعية قائمة بالشيء كسائر الحيثيات والأوصاف القائمة به كسواده ونعومته وبهائه ونظافته ومنها كون الجو حارا يحتاج فيه


إلى العباءة الصيفية (١) وكون ماء البئر بعيدا عن مجال الأوساخ بحيث ينشرح الطبع إليه ولا يمجه ، وهذا نظير ما إذا أحدث إنسان حركات غريبة في بيت شخص بحيث أوهم انه مسكون فنزلت قيمته فانه ضامن لذلك على حد ضمانه لسائر الأوصاف الحقيقية في الشيء. واما إذا كان النقصان في القيمة السوقية التبادلية محضا لا من جهة الاختلاف في القيمة الاستعمالية بل من جهة تكثير العرض للسلعة في السوق فليس ذلك ضررا ولا نقصا ولا تصرفا في مال الغير ليكون مشمولا لدليل الضمان ، وبهذا يثبت الضمان في المقام مطلقا.

هذا آخر ما أردنا إيراده في تنبيهات قاعدة لا ضرر ، وبه ينتهي البحث عن هذه القاعدة وعن مباحث البراءة والتخيير والاشتغال من الأصول العملية ...

والحمد لله أولا وآخرا ...

__________________

(١) يوجد فرق بين هذا المثال وسائر الأمثلة فان نقصان الرغبة النوعية في العباءة لم ينشأ من خصوصية في العباءة أوجدها المكلف فيها ليضمن وانما نشأ من تقليل الرغبة النوعية لدى السوق وهذه صبغة في السوق تحصل حتى بتكثير العرض ، فانه انما يؤثر في تقليل القيمة التبادلية من جهة ما تستلزمه من نقصان المنفعة الحدية وإمكان إشباع الحاجات والطلبات السوقية بشكل أكبر وهو ليس تصرفا في المال بل في حيثية أخرى أجنبية عن المال فلا ضمان فيه.

نعم هذه النكتة نستطيع ان نستفيد منها في مسألة أخرى مهمة وخطيرة في عالمنا المعاصر وهي مسألة الأوراق النقدية التي يتعامل معها الفقهاء معاملة المثليات ، فمن كان قد غصب من شخص دينارا ورقيا قبل خمسين عاما يقال في حقه انه يضمن له اليوم دينارا مثله والّذي قد لا يساوي عشر قيمته ، فانه هنا بناء على هذه النكتة الدقيقة يمكن ان يقال بان هذه الأوراق النقدية من جملة خصائصها وأوصافها المعتبرة فيها عقلائيا ماليتها وقيمتها لأنها أعدت لتكون أوراقا مالية لا عينية ، فإذا لزم من تأجيل دفعها سقوط جزء من ماليتها كان ضامنا له لأن هذه القيمة التبادلية استعمالية بحسب الحقيقة في هذه الأوراق فتكون مضمونة بضمانها على تفصيل لا يسعه المقام.



فهرست الموضوعات



الفهرست

مباحث الحجج والاصول العلمية ( ج٢)

المقدمة ........................................................................................ ٥

تمهيد :.................................................................................. ٦ـ٢٠

ـ المفهوم الأصولي لفكرة الأصل العملي ومراحل تطوره......................................... ٩

ـ حقيقة الأصل العملي الشرعي........................................................ ١١_١٦

تقسيم الأصول العملية الشرعية إلى محرزة وغيرها.......................................... ١٦_١٩

تقسيم الأصول العملية إلى البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب........................ ١٩_٢٠

أصالة البراءة.......................................................................... ٢١_١٥٠

١ ـ البراءة العقلية :................................................................... ٢٣_٢٩

تاريخ البراءة العقلية في الفكر الفقهي..................................................... ٢٥_٢٦

أدلة القائلين بالبراءة العقلية.............................................................. ٢٦_٢٩

٢ ـ البراءة الشرعية :.................................................................. ٣١_٧٧

ـ الاستدلال على البراءة الشرعية بالكتاب............................................. ٣١_٣٥

الاستدلال بقوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها )................................... ٣١_٣٣

الاستدلال بقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )............................... ٣٣_٣٤

الاستدلال بقوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه. )............... ٣٤_٣٥

الاستدلال بقوله تعالى ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم. )............................... ٣٥

ـ الاستدلال على البراءة بالسنة :...................................................... ٣٦_٧٧

الاستدلال على البراءة بحديث ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي )........................ ٣٦_٣٩


الاستدلال بحديث الرفع................................................................ ٤٠_٦٢

المقام الأول : فقرة الاستدلال منه........................................................ ٤٠_٤٢

المقام الثاني : في شمولها للشبهات جميعا................................................... ٤٢_٤٥

المقام الثالث : فقه الحديث.............................................................. ٤٥_٥٨

المقام الرابع : سند الحديث.............................................................. ٥٨_٦٢

الاستدلال بحديث السعة................................................................ ٦٢_٦٣

الاستدلال بحديث الحجب.............................................................. ٦٣_٦٤

الاستدلال بحديث الحلية................................................................ ٦٤_٦٧

ـ الاستدلال على البراءة بالاستصحاب................................................. ٦٧_٧١

تنبيهات الاستدلال بالاستصحاب على البراءة........................................... ٧٢_٧٥

ـ الاستدلال على البراءة باخبار أخرى................................................. ٧٥_٧٧

ـ الأدلة التي استدل بها على وجوب الاحتياط........................................ ٧٩_١٠٦

أدلة وجوب الاحتياط عقلا............................................................. ٧٩_٨٢

أدلة وجوب الاحتياط شرعا........................................................... ٨٣_١٠١

الاستدلال بالكتاب على الاحتياط...................................................... ٨٣_٨٧

الاستدلال بقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )........................................ ٨٣

الاستدلال بقوله تعالى ( وجاهدوا في الله حق جهاده )......................................... ٨٤

الاستدلال بقوله تعالى ( وان تنازعتم في شيء ................................................. ٨٥

الاستدلال بقوله تعالى ( واتقوا الله حق تقاته )................................................. ٨٧

الاستدلال بقوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم )......................................... ٨٧

الاستدلال بالسنة على الاحتياط...................................................... ٨٧_١٠١

النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط.................................................... ١٠٢_١٠٦

الجهة الأولي : النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة................................. ١٠٢_١٠٤

الجهة الثانية : النسبة بين اخبار الاحتياط والدليل القرآني على البراءة..................... ١٠٤_١٠٥

الجهة الثالثة : النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة...................... ١٠٥

الجهة الرابعة : في ما تقتضيه القاعدة على تقدير التعارض والتساقط بين اخبار الاحتياط والبراءة. ١٠٥_١٠٦

تنبيهات البراءة...................................................................... ١٠٧_١٥٠


١ ـ حكومة أصالة عدم التذكية على البراءة :..................................... ١٠٧_١١٧

البحث عن أصالة عدم التذكية عند الشك فيها........................................ ١٠٧_١١٧

القسم الأول : الشك في حلية أكل الحيوان في نفسه وبقطع النّظر عن التذكية............. ١٠٩_١١٠

القسم الثاني : الشك في حليته من ناحية الشك في قبوله للتذكية......................... ١١٠_١١٤

القسم الثالث : الشك في طرو ما يمنع عن قبوله للتذكية................................ ١١٤_١١٥

القسم الرابع : الشك في تحقق التذكية للشك في شروطها............................... ١١٥_١١٧

٢ ـ حسن الاحتياط في الشبهة البدوية :........................................... ١١٧_١٢١

المقام الأول : الاحتياط في الشبهة البدوية عموما....................................... ١١٧_١١٩

المقام الثاني : الاحتياط في العبادات................................................... ١١٩_١٢١

٣ ـ قاعدة التسامح في أدلة السنن :................................................ ١٢١_١٣٨

الجهة الأولى : في فقه الاخبار ومحتملاتها............................................... ١٢١_١٢٦

الجهة الثانية : في الثمرة الفقهية بين القول بالاستحباب النفسيّ لعنوان ما بلغ عليه الثواب والقول بجعل الحجية للخبر الضعيف. ١٢٧_١٢٩

الجهة الثالثة : في تحقيق ما اختلف فيه المحققون من شمول الاخبار لغير فرض الإتيان بالعمل الَّذي بلغ عليه الثواب بداعي الانقياد وبلوغ الثواب. ١٢٩_١٣١

الجهة الرابعة : في شمول اخبار من بلغ للخبر الدال على كراهة فعل ورجحان تركه....... ١٣٢_١٣٦

الجهة الخامسة : في شمول اخبار من بلغ للخبر الضعيف المعلوم الكذب وجدانا أو تعبدا.... ١٣٦_١٣٧

الجهة السادسة : في جواز إفتاء المجتهد باستحباب العمل الَّذي بلغ عليه الثواب للعامي الَّذي لم يصل إليه ذلك الخبر. ١٣٧_١٣٨

٤ ـ جريان البراءة في الشبهة الموضوعية :.......................................... ١٣٩_١٤٩

الجهة الأولى : في أن الجاري فيها البراءتان الشرعية والعقلية أو إحداهما فقط.............. ١٣٩_١٤١

الجهة الثانية : في بيان ضابط الشبهات الموضوعية التي تجري فيها البراءة................... ١٤١_١٤٩

٥ ـ جريان البراءة في التكاليف غير الإلزامية :..................................... ١٤٩_١٥٠

أصالة التخيير........................................................................ ١٥١_١٦٥

مورد أصالة التخيير........................................................................ ١٥٣

التخيير في الواقعة غير المتكررة....................................................... ١٥٣_١٦٣

١ ـ في التوصليات................................................................. ١٥٣_١٥٩

٢ ـ في التعبديات.................................................................. ١٥٩_١٦٣

التخيير في الواقعة المتكررة........................................................... ١٦٣_١٦٥


أصالة الاحتياط..................................................................... ١٦٧_٣٢٢

منجزية العلم الإجمالي :............................................................. ١٧٠_٢٠١

جريان الترخيص في تمام الأطراف.................................................... ١٧٥_١٨٣

جريان الترخيص في بعض الأطراف.................................................. ١٨٣_٢٠١

أركان منجزية العلم الإجمالي........................................................ ٢٠٢_٢٠٣

تطبيقات وتنبيهات :....................................................................... ٢٠٥

١ ـ الثمرة العملية بين مسلك العلية والاقتضاء........................................ ٢٠٥_٢٢٤

٢ ـ الطولية بين طرفي العلم الإجمالي................................................. ٢٢٤_٢٢٨

٣ ـ الشبهة غير المحصورة........................................................... ٢٢٨_٢٣٨

٤ ـ انحلال العلم الإجمالي بالعلم الوجداني............................................ ٢٣٩_٢٥١

المقام الأول : في كبرى الانحلال الحقيقي.............................................. ٢٣٩_٢٤٩

المقام الثاني : في الانحلال الحكمي.................................................... ٢٤٩_٢٥١

٥ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول........................................... ٢٥١_٢٥٤

٦ ـ اشتراك علمين الجماليين في طرف.............................................. ٢٥٤_٢٥٦

٧ ـ الأثر الزائد في أحد الطرفين.................................................... ٢٥٦_٢٥٨

٨ ـ العلم الإجمالي بالحكم الإلزامي الظاهري......................................... ٢٥٨_٢٦٦

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيات...................................................... ٢٦٦_٢٧٠

١٠ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف................................................. ٢٧٠_٢٨٢

الحالة الأولى : الاضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم.............................. ٢٧٠_٢٧٤

الحالة الثانية : الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف لا بعينه............................. ٢٧٥_٢٨٢

١١ ـ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء........................................ ٢٨٣_٢٩٩

١٢ ـ ملاقى أحد طرفي العلم الإجمالي............................................... ٢٩٩_٣٢٢

الأقل والأكثر....................................................................... ٣٢٣_٣٩٤

الوظيفة عند الشك في الأقل والأكثر................................................ ٣٢٥_٣٥٧

تمهيد :.............................................................................. ٣٢٥_٣٢٧

الحالة الأولى : دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين..................................... ٣٢٥

الحالة الثانية : دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين................................ ٣٢٥_٣٢٧

١ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الأجزاء........................................... ٣٢٧_٣٥٢


٢ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط........................................... ٣٥٢_٣٥٣

٣ ـ الدوران بين التعيين والتخيير.................................................... ٣٥٣_٣٥٧

المقام الأول : الدوران بين التعيين والتخيير العقلي...................................... ٣٥٣_٣٥٥

المقام الثاني : الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي..................................... ٣٥٥_٣٥٧

ـ ملاحظات عامة حول الأول وأكثر :............................................ ٣٥٩_٣٩٤

١ ـ التمسك بالاستصحاب في الدوران بين الأقل والأكثر............................. ٣٥٩_٣٦٢

التمسك بالاستصحاب لا ثبات وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر....................... ٣٥٩_٣٦١

التمسك بالاستصحاب لا ثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل........................... ٣٦١_٣٦٢

٢ ـ الأقل والأكثر في المحرمات...................................................... ٣٦٢_٣٦٣

٣ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية.................................................... ٣٦٤_٣٦٥

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر....................................................... ٣٦٥

٥ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في المحصل الشرعي.................................... ٣٦٦_٣٦٨

٦ ـ الشك في إطلاق دخالة القيد................................................... ٣٦٨_٣٨٨

الشك في إطلاق القيد الحالة النسيان.................................................. ٣٦٩_٣٧١

الجهة الأولى : في إمكان تكليف الناسي بالأقل........................................ ٣٦٩_٣٧١

الجهة الثانية : في تحقيق ما يجري في المقام من أن الأصل العملي البراءة والاحتياط.......... ٣٧١_٣٧٨

مقتضى الأصل اللفظي بقطع النّظر عن الأدلة الخاصة المتكفلة لحالة النسيان.

٢ ـ الشك في إطلاق القيد لحالة العجز.............................................. ٣٧٨_٣٨٢

قاعدة الميسور :..................................................................... ٣٨٢_٣٨٨

الكلام في حديث ( الميسور لا يسقط بالمعسور )....................................... ٣٨٣_٣٨٦

الكلام في حديث ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )............................ ٣٨٦_٣٨٨

٧ ـ الشك في مبطلية الزيادة........................................................ ٣٨٨_٣٩٤

الجهة الأولى : في تصوير أقسام الجعل الضمني الَّذي ينتج مبطلية الزيادة ثبوتا.............. ٣٨٨_٣٩٢

الجهة الثانية : في الشك في مبطلية الزيادة.............................................. ٣٩٢_٣٩٣

الجهة الثالثة : في مبطلية الزيادة للصلاة لا من ناحية نفسها بل من ناحية إخلالها بقصد القربة ولزوم التشريع المحرم. ٣٩٣_٣٩٤

خاتمة في شرائط الأصول المؤمنة..................................................... ٣٩٥_٥١٥

المقام الأول : وجوب الفحص عن الحجة على الإلزام قبل إجراء الأصول المؤمنة.......... ٣٩٥_٤٣٠

١ ـ بلحاظ الشبهات الحكمية...................................................... ٣٩٥_٤٠٩


٢ ـ بلحاظ الشبهات الموضوعية..................................................... ٤٠٩_٤١٠

ـ الإشارة إلى أمور تتعلق بوجوب الفحص........................................... ٤١٠_٤٣٠

قاعدة لا ضرر ولا ضرار............................................................ ٤٣٣_٥١٥

المقام الثاني : قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار )............................................ ٤٣٣_٤٩٠

الجهة الأولى : سند القاعدة.......................................................... ٤٣٣_٤٣٩

الجهة الثانية : البحث عن التهافت الواقع في كيفية المتن المنقول لهذه القاعدة.............. ٤٣٩_٤٥٠

الجهة الثالثة : في البحث عن مفردات الحديث......................................... ٤٥٠_٤٥٩

تحديد معنى الضرر.................................................................. ٤٥٠_٤٥٢

تحديد معنى الضرار........................................................................ ٤٥٢

الجهة الرابعة : في مفاد الهيئة التركيبية لجملة لا ضرر.................................... ٤٥٩_٤٧٠

الاتجاهات الفقهية الرئيسية في قاعدة لا ضرر.......................................... ٤٥٩_٤٦٠

تخريج الاتجاه الفقهي الثاني ( حرمة الضرر )........................................... ٤٦٠_٤٦١

تخريج الاتجاه الفقهي الأولى ( نفي الحكم الضرري..................................... ٤٦١_٤٦٨

تخريج الاتجاه الفقهي الثالث ( نفي الضرر غير المتدارك )...................................... ٤٦٨

المختار في ( لا ضرر )............................................................... ٤٦٩_٤٧٠

الجهة الخامسة : المشاكل المثارة في فقه ( لا ضرر )..................................... ٤٧١_٤٧٨

الجهة السادسة : في المشكلات المثارة على تطبيقات فقهية للقاعدة...................... ٤٧٨_٤٨٥

الجهة السابعة : في تطبيق القاعدة بلحاظ الإضرار الاعتبارية............................. ٤٨٥_٤٨٩

الناحية الأولى : مدرك هذا التطبيق وشمول الحديث لهذا النوع من الإضرار...................... ٤٨٦

الناحية الثانية : ضابط هذا النوع من الإضرار الاعتبارية ، وان الدليل هل يشمل الافراد

الاعتبارية المتجددة بعد زمن المعصوم عليه السلام أم لا؟....................................... ٤٨٦

الجهة الثامنة : في فقه الحديث بلحاظ ( لا ضرار )..................................... ٤٨٩_٤٩٠

تنبيهات قاعدة ( لا ضرر ).......................................................... ٤٩١_٥١٥

١ ـ شمول القاعدة للأحكام العدمية................................................. ٤٩١_٤٩٥

٢ ـ تطبيق القاعدة فيمن أقدم على الضرر............................................ ٤٩٦_٥٠٥

٣ ـ نسبة القاعدة إلى أدلة الأحكام الأولية........................................... ٥٠٦_٥١٠

٤ ـ تعارض القاعدة مع قاعدة السلطنة.............................................. ٥١١_٥١٥

المقام الأول : في ما تقتضيه القواعد الأولية بقطع النّظر عن القاعدة...................... ٥١١_٥١٢

المقام الثاني : في ملاحظة القاعدة ونسبتها إلى القواعد الأولية............................ ٥١٢_٥١٥

بحوث في علم الأصول - ٥

المؤلف:
الصفحات: 524