

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين.
وبعد فهذا هو
الجزء الرابع من كتابنا ( بحوث في علم الاُصول ) الذي يتضمّن القسم الاوّل من
مباحث الأدلة العقلية ، وهو يشتمل على مبحث القطع والظنّ ( الامارات ) والذي
استفدناه من دروس سيّدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد الصدر (
قدّس سرّة ) التي ألقاها في دورته الاُصولية الثانية ، وقدامتازت على الدورة
الاُولى في المنهجة والتهذيب ، تقدمها بين يدي الباحثين والمحققين من العلماء ،
راجين من المولى القدير اَن يتغمّد سيدنا الشهيد رضوان الله عليه برحمته الواسعة
حيث وفق الى تشييد أركان هذه المدرسة الاُصولية الرائعة في ميانيها ومناهجنا
ومعالمها والتي تمثل بحقّ قمة الفكر الاصولي الثاقب في عصرنا الحاشر ، فللّه دره
وعليه أجره وسلام عليه يوم ولد ويوم اشاد وأسّس ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً ، وما
توفيق إلّا بالله عليه توكّت وإليه اُنيب.
قم المقدسة :
محمود الهاشمي
ربيع الاوّل ١٤٠٦
هـ
مقدمة
في تقسيم
مباحث الحجج والأصول العلمية
ذكر الشيخ ( قده )
في تقسيم مباحث الحجج والأصول العلمية : ان المكلف إذا التفت إلى الحكم الشرعي
فاما أن يحصل له القطع أو الظن أو الشك ... إلخ ، ثم فرع باحكام كل من الأقسام.
وكلامنا حول هذا
التقسيم لمباحث هذا القسم يقع ضمن جهات :
الجهة
الأولى ـ في المقسم. وفيه بحثان.
البحث الأول : ان الشيخ جعل المقسم
المكلف. بينهما عدل عن ذلك صاحب
الكفاية ( قده ) فجعله ( البالغ الّذي وضع عليه القلم ) وكأنه لمناقشة لفظية
حاصلها : ان المكلف ظاهر في فعلية التلبس بالمبدإ وهو التكليف مع ان الواقعة
الملحوظة قد لا يكون فيها تكليف بل ترخيص وإباحة ومن هنا بدله بالبالغ الّذي وضع
عليه القلم وأريد بالقلم قلم التشريع والجعل ولو على غير نحو الإلزام . وكأن هذا
الإشكال ناشئ من حمل
__________________
عنوان المكلف على
المكلف في شخص الواقعة لا المكلف في نفسه أي من كان ملزما من قبل الشريعة بما يلزم
به الناس من دون نظر إلى خصوص الواقعة الملتفت إليها. وأيا ما كان فهذه وأمثالها
مناقشة لفظية لا طائل تحتها. والّذي له مضمون علمي جدير بالبحث هو أن نتكلم في ان
هذه الوظائف المقررة في الأقسام هل تختص بالمكلف البالغ حقيقة ـ سواء عبرنا عنه
بتعبير الشيخ ( قده ) أو بتعبير صاحب الكفاية ـ أو أنها لا تختص بالبالغ المكلف بل
تجري في حق من لم يكن بالغا فحينئذ ينبغي تغيير المقسم على التقدير الثاني وذلك
بجعله الأعم من البالغ وغيره أي المكلف العقلي.
والصحيح هو عدم
الاختصاص وإمكان تصوير جريان هذه الوظائف في حق غير البالغ وذلك في جملة من
الموارد نذكر على سبيل المثال ثلاثة أنحاء منها.
١ ـ ان أصل اختصاص
الأحكام بالبالغ وارتفاعها عن غيره وإن كان من ضروريات الدين بل عند العقلاء أيضا
فيكون خارجا عن المقسم الملحوظ في الأقسام خصوصا مع كون مسألة حجية القطع ليست
أصولية ، إلا ان إطلاق ذلك في بعض الأحكام ربما يقع مورد الشك والشبهة فيشك بنحو
الشبهة الحكمية لا محالة في ثبوت ذلك الحكم على غير البالغ المميز ـ أي القابل
للتكليف عقلا ـ كما لو فرض الشك في ثبوت الأحكام الثابتة بمقتضى الملازمة بين ما
حكم به العقل وحكم به الشرع في حق غير البالغين فيتعين عليه حينئذ أن يسلك طريق
الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط لتحديد وظيفته بالنسبة إلى ذلك الحكم حاله في ذلك
حال غيره ، والوظيفة في هذه الشبهة بالرجوع إلى إطلاق أدلة رفع القلم عن الصبي
الحاكم على إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية لو فرض الإطلاق فيها ما لم يثبت مقيد
لنفس هذا الإطلاق ولو كان نفس حكم العقل وقانون الملازمة لو فرض عدم قابليتها
للتخصيص. نعم لو ثبت بأدلة الرفع رفع فعلية العقاب عن غير البالغ ولو كان مستحقا
له فلا بأس بالتمسك به حينئذ.
٢ ـ أن يشك في
تحقيق البلوغ بنحو الشبهة الحكمية وهل انه بدخول الخامس عشر أو بإكماله مثلا.
ومنهج البحث هنا أن يقال : إن كان في دليل الحكم إطلاق في نفسه فهو حجة لإثبات
فعلية ودليل الرفع لا يصلح للمقيدية بعد فرض إجماله وإلا لحكم بلا إشكال. ولو فرض
عدم الإطلاق في دليل الحكم فالمرجع الأصول العملية من الاستصحاب أو البراءة
النافيين للتكليف.
٣ ـ أن يكون الشك
في البلوغ بنحو الشبهة المفهومية كما لو شك في صدق الشعر الخشن مثلا على مرتبة من
الشعر النابت. وهنا أيضا لا بد من الرجوع إلى الوظائف المقررة وهذه الشبهة ترجع في
أكثر الحالات إلى وجود عام فوقاني ومخصص مجمل مفهوما دائر بين الأقل والأكثر. فالعام
يقول مثلا ( أقيموا الصلاة ) والمخصص دل على أن غير البالغ ـ وهو من لم ينبت عليه
شعر خشن ـ لا تجب عليه الصلاة وهو مجمل مفهوما لا يعلم شموله لهذه المرتبة. وحينئذ
بناء على ما هو الصحيح من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية في نفسه
كاستصحاب عدم نبات الشعر الخشن في المقام يرجع إلى عمومات التكليف.
البحث
الثاني ـ في اختصاص المقسم بالمجتهد أو شموله
لمطلق المكلفين ، ذهب بعض الاعلام
ـ كالمحقق النائيني ـ إلى الأول مستندين في ذلك إلى ان هذا التقسيم انما هو من أجل
تحديد الوظائف المقررة في كل قسم من أقسام الشك والظن واليقين. لاستنباط الحكم
الشرعي وهي وظائف للمجتهد لأنه المخاطب بها فينبغي أن يكون المقسم المجتهد ، وذهب
آخرون إلى التعميم.
وتحقيق الحال في
هذا البحث يقع في مقامين :
المقام
الأول ـ في منهجية هذا التقسيم وإن المقسم هل
ينبغي أن يكون خصوص المجتهد أو الأعم منه ومن المقلد؟ ويكفي في هذا المقام لإثبات عموم المقسم أن نثبت موردية غير
المجتهد للوظائف المقررة ولو في الجملة وهذا ثابت توضيحه : ان غير المجتهد يعلم
بأنه مكلف باحكام الله سبحانه فإذا التفت إلى واقعة فاما أن يحصل له القطع بالحكم
سلبا أو إيجابا ولو لكون المسألة ضرورية كحرمة الخمر أو يقينية بإجماع ونحوه كحرمة
العصير العنبي المغلي قبل ذهاب الثلثين أو لا يحصل له ذلك ، فعلى الأول يكون قطعه
حجة في حقه كقطع المجتهد ، وعلى الثاني فاما يحصل له الظن المناسب في شأنه وهو
فتوى المجتهد ويحصل له القطع بحجيته من ضرورة أو إجماع فائضا يعلم بقطعه ويكون ظنه
حجة ، وإن لم يحصل له لا قطع ولا قطعي اما لأنه لم يتمكن من الوصول إلى فتوى
المجتهد أو لا مجتهد لكي يصل إلى فتواه أو لم يقطع بحجية الفتوى فينتهي لا محالة
إلى الشك فلا بدّ وأن يستقل عقله بوظيفة اما البراءة أو الاشتغال أو التفصيل
حسب الموارد. فنفس
المراحل المتحققة في حق المجتهد تتحقق في غير المجتهد أيضا ولكن مع فرق بينهما في
عدم توفر بعض مصاديق العلم أو العلمي في حق غير المجتهد وهو لا يجعله خارجا عن
المقسم ولا يؤدي إلى تخصيص منهجة التقسيم بخصوص المجتهد.
المقام
الثاني ـ في البحث عن اختصاص خطابات الوظائف
المقررة بألسنتها المختلفة ـ من جعل الحجية والطريقية أو الوظيفة العملية ـ
بالمجتهد وعدمه وما ينشأ من ذلك ويتفرع عليه من النتائج مع قطع النّظر عن التقسيم
وصحته.
ولا إشكال في انه
لم يؤخذ عنوان المجتهد في الخطابات فدعوى الاختصاص لا تنشأ من ذلك بل من جهة ان
تلك الوظائف بحسب موضوعها تكون مقيدة بقيود وشروط لا تتحقق إلا في حق المجتهد عادة
، فحجية الظهور مثلا مقيدة بالفحص عن المخصص والمقيد ، والحاكم ، وحجية الخبر
موقوفة على عدم وجود المعارض ، وحجية الاستصحاب متقومة باليقين السابق وهكذا. ومن
هنا ينشأ الإشكال في عملية الإفتاء وكيفية تحليله بعد الفراغ عن أصل جواز رجوع
المقلد إلى المجتهد. وهذا بحث جليل ينبغي التعرض له. فنقول :
المركوز في
الأذهان ان عملية الإفتاء تكون من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة كالرجوع إلى
الطبيب مثلا وهذا موقوف على وجود واقع محفوظ مشترك بين الخبير وغيره يدركه الخبير
بنظره ولا يدركه غيره فيرجع إليه ، وهذا انما ينطبق في باب الرجوع إلى المجتهد
فيما إذا كان الحكم الواقعي مقطوعا للمجتهد لأنه بذلك قد أدرك ما يكون مشتركا
بينهما ثابتا في الواقع ويكون نظره مجرد خبرة وطريق إليه.
واما لو فرض عدم
القطع الوجداني بالحكم وانما انتهى إليه عن طريق وظيفة ظاهرية مقررة كرواية معتبرة
سندا أو ظهور حجة أو أصل عملي أو نحو ذلك فكيف يفتي غيره الّذي لا يشترك معه في
مقومات تلك الوظيفة ، فانه إن أراد أن يفتي بالحكم الواقعي فهو إفتاء بما لا يعلم
وإن أراد أن يفتي بالحكم الظاهري فهو مخصوص بالمجتهد بحسب الفرض لأن موضوعه متقوم
به لا بغيره. ويتزايد الإشكال فيما لو فرض ان الواقعة كانت خارجة عن ابتلاء
المجتهد كأحكام النساء فانه حينئذ لا يوجد في الواقعة علم بحكم واقعي لكي يفتي به
والحكم الظاهري غير ثابت في حقه أيضا لكونه ليس محل ابتلائه ، ولهذا سمينا هذه
المسألة بتحليل
عملية الإفتاء ،
فانه بعد الفراغ عن ثبوت حجية الفتوى فقهيا نبحث عن كيفية تعقلها وتخريجها صناعيا
بنحو لا نحتاج إلى إثبات عناية زائدة علاوة على كبرى حجية الفتوى الراجعة إلى كبرى
حجية رأي أهل الخبرة في حق غيره.
وتحقيق الحال في
ذلك يكون بالبحث في ثلاث مراحل نتكلم في أولاها عن انه لو فرضنا الاختصاص في
الوظائف الظاهرية فهل يحتاج تصحيح عملية الإفتاء إلى افتراض مئونة زائدة نثبتها
ولو من نفس دليل جواز الإفتاء التزاما أم لا نحتاج إلى ذلك بل يمكن تخريج الحكم
على القواعد؟ ونتحدث ثانيا عن تلك المئونة الزائدة المحتاج إليها وكيفية إمكان
إثباتها. وثالثا عن أصل مسألة اختصاص الوظائف الظاهرية بالمجتهد وعدمه.
اما البحث في
المرحلة الأولى ، فقد يقرب تخريج عملية الإفتاء في موارد الوظائف الظاهرية على
القاعدة حتى على فرض اختصاصها بالمجتهد ، بأن الحكم الظاهري وإن كان مختصا
بالمجتهد لتحقق موضوعه فيه دون المقلد ولكنه بذلك يصبح عالما بالحكم الواقعي
المشترك بين المجتهد والمقلد تعبدا فيكون حاكما على دليل الإفتاء بالعلم والخبرة
بمقتضى دليل التعبدية فيفتي المجتهد مقلديه بالحكم الواقعي المعلوم لديه بهذا
العلم ، وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة بعد فرض دلالة دليل
الحجية على الحجية والعلمية التعبدية. وفيه :
أولا ـ انما يتم
هذا التخريج لو تمت أصوله الموضوعية في خصوص باب الأمارات المجعولة فيها الحجية
والطريقية دون غيرها من موارد الأحكام الظاهرية.
وثانيا ـ انه في الأمارات أيضا لا يتم هذا البيان إلا على بعض
المسالك أي بناء على أن تكون الحجية بمعنى جعل ما ليس بعلم علما.
وثالثا ـ حتى بناء
على مسالك جعل الطريقية والعلمية أيضا لا يتم ذلك ، لأن القطع الموضوع للحكم بجواز
التقليد انما هو القطع الحاصل عن خبرة وبصيرة وكونه من أهل الفن لا مطلق القطع ولو
كان حاصلا من الرؤيا أو الجفر ، ومن الواضح ان دليل الحجية لا يعبد المفتي بكونه
أهل خبرة وأهل الفن وان جعله عالما تعبدا نعم جواز الإفتاء والإسناد موضوعه مطلق
العلم فيكفي قيام الحجة منزلة القطع الموضوعي في ترتيبه هذا لو قيل بأخذ العلم
موضوعا فيه وإلا بان كان الموضوع نفس الواقع فالامر أوضح.
ثم ان هنا
اعتراضات على أصل مبنى جعل الطريقية وقيام الحجج مقام القطع الموضوعي من قبيل ان
هذه الحكومة لا تتم في الأحكام الثابتة بدليل لبي كحجية الخبر أو الفتوى بناء على
ان مدرك الحجية فيها السيرة العقلائية ، ومن قبيل ان بعض الحجج كالاستصحاب لا يكون
حجة وقائما مقام القطع الموضوعي ـ لو قيل بقيامه مقامه ـ إلا في طول قيامه مقام
القطع الطريقي بحيث يكون للمستصحب أثر عملي في حق المجتهد نفسه وهذا لا يكون في
موارد أحكام النساء مثلا أو غيرها مما هو خارج عن محل ابتلاء المجتهد ولا يكون ذا
أثر عملي في حقه ، وسوف يأتي التعرض لها في محلها.
وهناك تقريب ثان
لعلاج مشكلة الإفتاء بناء على اختصاص موضوع الحكم الظاهري بالمجتهد من دون افتراض
عناية زائدة حاصله :
ان المقلد بالرجوع
إلى المجتهد في موضوع الحكم الظاهري والوظيفة العملية يصبح حقيقة موضوعا للرجوع
إليه في نفس الوظيفة فيشترك معه فيها ، فشمول دليل التقليد له بلحاظ المسألة
الأولى ينقح له موضوعا حقيقة ووجدانا لشموله ثانيا بلحاظ الحكم الظاهري والوظيفة
العملية ، وهذا من هذه الناحية نظير شمول دليل حجية الخبر للخبر مع الواسطة حيث
يتنقح موضوع اخبار الواسطة بشمول دليل الحجية للخبر المباشر ، فمثلا في مورد
الاستصحاب يرجع المقلد إلى المجتهد أولا في إثبات الحالة السابقة ـ ولنفرضها
معلوما بالعلم الوجداني للمجتهد ـ فيصبح بذلك عالما تعبدا بنجاسة الماء المتغير
حدوثا مثلا وبما انه شاك في نجاسته بعد زوال التغير فيتنقح بذلك في حقه موضوع
الحكم بالنجاسة الاستصحابي كالمجتهد نفسه ، غاية الأمر أن يقين المجتهد السابق
وجداني ويقينه تعبدي وقد ثبت في محله قيام اليقين التعبدي مقام اليقين الوجداني في
الحكم بجريان الاستصحاب ، وكذلك الحال في موارد احتياط المجتهد لحصول علم إجمالي
له فان حجية علمه هذا للمقلد يجعله عالما إجمالا بالحجة على الحكم وهو كالعلم
بالواقع في المنجزية ، وكذلك في موارد الأمارات والأدلة الاجتهادية والأصول
العملية الأخرى. غاية الأمر تبقى مسألة الاختصاص من ناحية عدم الفحص وفي هذه
النقطة يقال بان دليل الفحص يدل على لزوم فحص كل مكلف بحسبه وفحص المقلد ليس
بالرجوع إلى كتب الفقه بل بالرجوع إلى المجتهد فبرجوعه إليه وعدم وجدان ما يدل منه
على الخلاف يكون قد أكمل الفحص حقيقة فصار صغرى لكبرى الوظيفة الظاهرية المقررة
بسبب قيام الأمارة
أو الأصل الشرعي أو العقلي. والحاصل من غير ناحية الفحص يكون الاشتراك بين المجتهد
والمقلد في الوظيفة الظاهرية المقررة ثابتا لكون المجتهد عالما بموضوعه وجدانا
وبذلك يكون المقلد أيضا بالرجوع إليه في ذلك عالما بالموضوع تعبدا على القاعدة ،
ومن ناحية الفحص يقال بالاشتراك باعتبار ان فحص كل إنسان بحسبه فبالنسبة إلى
المجتهدين يكون فحصهم بالرجوع إلى وسائل الشيعة مثلا واما بالنسبة إلى المقلد
ففحصه بالرجوع إلى المجتهد وملاحظة انه لم يجد معارضا أو حاكما ، فالمقلد لا يجوز
له الرجوع إلى استصحاب بقاء النجاسة في مسألة حكم الماء الّذي زال عنه تغيره بمجرد
مراجعة مسألة نجاسة الماء المتغير ما دام متغيرا بل لا بد له أيضا أن يرجع إلى
المسألة الأولى في رسالة المجتهد ليرى هل هناك ما يكون حاكما على هذا الاستصحاب في
رأي المجتهد أم لا. وهذا الوجه أيضا غير تام فانه :
أولا
ـ ان مجرد مراجعة رسالة المجتهد في المسألة الثانية لا يكون
فحصا عن الحاكم على الحكم الظاهري ليتنقح بذلك موضوعه في حق المقلد.
وثانيا
ـ يلزم منه عدم جواز
الإفتاء من قبل المجتهد الّذي لا يكون رأيه حجة في حق العامي لأن هذه الوظيفة
الظاهرية انما تثبت في حق العامي إذا جاز له الرجوع إلى المجتهد في المسألة الأولى
لكي يتنقح بذلك موضوع الحكم الظاهري فإذا كان المجتهد من لا يكون رأيه حجة في حق
العامي فلا يكون الحكم الظاهري الثابت في حق ذلك المجتهد ثابتا في حق العامي فكيف
يجوز للمجتهد الإفتاء به له مع انه بحسب الارتكاز لا إشكال في عدم حرمة ذلك وإن
كان لا يجوز للعامي تقليده.
المرحلة
الثانية ـ انه لو فرض عدم إمكان تخريج رجوع العامي إلى المجتهد على
أساس قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة بلا ضم مئونة زائدة ، فما هي تلك المئونة التي
بضمها يتم المطلب ثبوتا ويندفع الإشكال وكيف يمكن استفادتها من دليل التقليد
إثباتا؟.
الصحيح : ان تلك
المئونة يمكن أن تكون افتراض التنزيل أي تنزيل حال المجتهد منزلة حال العامي ،
ففحصه منزلة فحص العامي وكذلك يقينه بالحالة السابقة أو بالمعلوم الإجمالي ينزل
منزلة يقين العامي فتشمله حينئذ الوظائف المقررة التي انتهى إليها المجتهد لا
محالة. نعم بالنسبة إلى الوظائف العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو منجزية
العلم الإجمالي لا بد وأن يفترض جعل حكم مماثل لحكم العقل بحيث ينتج البراءة
والاحتياط الشرعيين في حق
العامي لأن
التنزيل بلحاظ الحكم العقلي غير معقول كما هو واضح.
واما كيفية
استفادة ذلك إثباتا فببيان : ان المركوز في أذهان المتشرعة والمتفاهم من أدلة
التقليد رجوع العامي إلى المجتهد ليطبق على نفسه نفس ما يطبقه المجتهد على نفسه
بحيث يثبت في حقه نفس ما يثبت في حق المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجيز
والتعذير عنه لا أكثر ، وهذا لا يكون إلا مع فرض التنزيل المذكور فيستكشف من دليل
التقليد لا محالة ثبوت هذا التنزيل والتوسعة في موضوع تلك الوظائف الظاهرية
بالدلالة الالتزامية.
وهذا التخريج له
لازمان يصعب الالتزام بهما.
أحدهما
ـ ما أشرنا إليه سابقا من ان لازم مثل هذا التخريج عدم جواز
إفتاء المجتهد الّذي لا يجوز تقليده ، لأن جواز إفتائه برأيه فرع انطباق الوظائف
الثابتة في حق العامي وهو فرع تنزيل فحصه أو يقينه السابق أو علمه الإجمالي منزلة
فحص العامي أو يقينه أو علمه الإجمالي وهذا انما نستفيده من دليل جواز التقليد
بحسب الفرض فإذا لم يكن شاملا له لعدم عدالته أو لكون غيره أعلم منه فلا تثبت تلك
الوظيفة في حق العامي لكي يمكن أن يفتي به. نعم لو كان مقتضى الوظيفة الثابتة في
حق المجتهد اعتباره عالما بالواقع جاز له الإفتاء به.
الثاني
ـ انه بناء على هذا نخسر أهم الأدلة على التقليد وهو السير
العقلائية لأنها لا تقتضي أكثر من رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة لتشخيص
الحكم المشترك ولا تدل على التنزيل. اللهم إلا أن يضم إلى ذلك شيء يشبه الإطلاق
المقامي فيقال : بان هذه السيرة بحسب طبعها توجب الرجوع إلى المجتهدين على حد
الرجوع إلى غيرهم من أهل الخبرة ولو من باب الغفلة عن الفرق ، وسكوت الشارع عن ذلك
مع كون الغفلة نوعية بنفسه دليل على الإمضاء والقبول.
واما المرحلة
الثالثة ـ ففي أصل منشأ الشبهة والإشكال وهو دعوى اختصاص الوظائف المقررة بالمجتهد
فنقول : ان هذه الدعوى تكون بلحاظ مواضع عديدة لا بد من علاج كل واحد منها مستقلا.
١ ـ دعوى الاختصاص
من جهة أخذ لزوم الفحص في موضوع دليل الحكم الظاهري سواء كان ذلك الحكم الظاهري
أمارة أو أصلا.
ويمكن دفعها بان
الفحص بعنوانه غير مأخوذ في دليل الحكم الظاهري وانما الثابت عدم
شمول أدلة الأحكام
الظاهرية لموارد يكون فيها حجة على الخلاف في معرض الوصول ، والمقصود من الوصول هو
الوصول إلى أهله أي إلى الخبير البصير لا إلى كل أحد وهذا أمر موضوعي يمكن إحرازه
في حق الجميع فإذا فحص المجتهد ولم يجد حجة على الخلاف فيتحقق شرط الحجية في حق
الجميع بأحد تقريبين :
أ ـ ان الشرط هو
فحص الخبير البصير وعدم وجدانه والمفروض ان المجتهد قد فحص بالفعل ولم يجد حجة على
الخلاف فموضوع الوظيفة الظاهرية محقق بالنسبة إلى الجميع لا محالة.
وهذا التقريب فيه
إشكال فني ، فانه إن أريد بالخبير البصير المجتهد الأعلم الّذي يجوز تقليده خاصة
لزم من ذلك عدم جواز إفتاء المجتهد الّذي لا يجوز تقليده للعامي حتى لو فحص ولم
يجد لأن شرط الحجية فحص الخبير البصير وهو غيره ، بل لا يجوز له أيضا العمل بتلك
الوظيفة لأن الشرط بحسب الفرض فحص المجتهد الأعلم وعدم وجدانه لا فحص من ليس بأعلم
، وإن أريد بالخبير مطلق المجتهد ولو كان ممن لا يجوز تقليده فيلزم انه لو فحص
مجتهد واحد ولم يجد مخصصا ثبتت تلك الوظيفة لظاهرية الثابتة بأصل أو أمارة للجميع
حتى في حق المجتهدين الآخرين الذين لم يفحصوا بعد بلا حاجة إلى فحص فضلا عن العوام
وهذا أيضا واضح البطلان.
ب ـ ان الشرط أمر
واقعي نفس الأمري وهو أن لا يتواجد في معرض الوصول ما يكون حجة على الخلاف ـ سواء
فحص أحد أم لا ـ ويكون فحص كل مجتهد طريقا إلى إحراز هذه المرتبة من عدم الوجدان
لا موضوعا للحجية والوظيفية ، وعلى هذا تكون الوظيفة الظاهرية حكما وموضوعا امرا
واقعيا مشتركا بين المجتهد والعامي ويكون نظر المجتهد مجرد طريق إلى إحرازه موضوعا
وحكما ويكون تقليد العامي له من باب رجوعه إلى أهل الخبرة والعلم بهذا الحكم
المشترك لا الحكم الواقعي بالخصوص.
٢ ـ دعوى الاختصاص
من جهة ان الحجية والحكم الظاهري منوط بالوصول والعلم فيختص بالعالم ولا يعم كل
أحد كما في الأحكام الواقعية ، والوجه في هذا الاختصاص يمكن أن يقرب بتقريبين :
أ ـ استظهار ذلك
من دليل الحجية الدال على انه إذا جاءك خبر من الثقة مثلا فهو حجة وعنوان جاءك انما
يصدق على من وصله الخبر لا الخبر بوجوده الواقعي.
والجواب : ان هذه
العناوين محمولة كلا على الطريقية لا الموضوعية في ألسنة الأدلة بحسب مناسبات
الحكم والموضوع العرفية. على ان هناك في أدلة الأحكام الظاهرية ما لم يؤخذ فيه
عناوين من هذا القبيل.
ب ـ ان إطلاق
الحكم الظاهري لغير العالم به لغو فيكون مستحيلا ، ولا يقاس بالحكم الواقعي فان
إطلاقه له انما هو من أجل الاحتياط بالنسبة إليه واما الحكم الظاهري فطريقي محض.
والجواب : لو سلمت
اللغوية وسلم استلزامها عدم الإطلاق مع كل ذلك قلنا في المقام ان الوصول لا يراد
منه الوصول بالعلم الوجداني بالخصوص بل مطلق الوصول ولو التعبدي وهو حاصل في
المقام بفتوى المجتهد فلا يكون جعله في العامي لغوا.
٣ ـ الاختصاص من
جهة أخذ اليقين بالحالة السابقة موضوعا في بعض الوظائف الظاهرية كالاستصحاب وهو لا
يكون إلا في حق المجتهد فيكون يقينه في ذلك محققا لموضوع الوظيفة لا طريقا إلى
إحرازه.
والجواب ـ ان
الصحيح عندنا كفاية ثبوت نفس الحالة السابقة واقعا لاستصحابها على ما سوف يأتي
تحقيقه في محله. فيكون يقين المجتهد بثبوت الحالة السابقة ـ وهو الحكم المشترك ـ طريقا
إلى إحراز موضوع الوظيفة الظاهرية الاستصحابية في حق المقلدين ، على انه لو فرض
أخذ نفس اليقين موضوعا للاستصحاب فلا إشكال أيضا بناء على قيام الأمارات مقام
القطع الموضوعي واليقين السابق فان يقين المجتهد بثبوت الحكم في الحالة السابقة
بنفسه يكون دليلا وعلما تعبديا للعامي في إثبات الحالة السابقة فيكون الرجوع إليه
في هذه المسألة محققا لموضوع الاستصحاب في المسألة اللاحقة.
والصحيح : انه لا
يمكن الاستغناء عن هذا الجواب أعني التقليدين الطوليين ، إذا أردنا أن لا نخرج على
مقتضى القاعدة في باب التقليد وكونه من باب الرجوع إلى العالم. وذلك في كل مسألة
يكون فتوى المجتهد فيها بوظيفة هي من شئون منجزية علم ثابت في المرتبة السابقة لا
من شئون الواقع المعلوم كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف فنحتاج فيها إلى
افتراض تقليدين طوليين بالنحو الّذي تقدم شرحه .
__________________
ثم انه يمكن أن
يستشكل في حجية رأي المجتهد المفضول في حق نفسه فضلا عن حجيته في حق الآخرين بأنه
كيف يحصل له اليقين بالوظيفة والحكم الأعم من الواقعي والظاهري ـ حيث انه الحجة
دائما ـ مع اعترافه بالمفضولية للأعلم وافترض انه خالف في الرّأي ، فهو بمقتضى ذلك
يحتمل انه لو تباحث مع الأعلم وعالج المسألة على ضوء نظره لتغيرت النتيجة التي
انتهى إليها ، وهذا الاحتمال يعني عدم جزمه بالنتيجة النهائيّة والوظيفة العملية
فلا يمكنه العمل بنظره فضلا عن تقليده.
ودعوى : ان
المفضول إذا تباحث مع الأعلم فسوف ينقلب حكمه الظاهري من باب انقلاب موضوعه لا
التخطئة لأنه سوف يرتفع عدم وجدانه للحجة على الخلاف مثلا بوجدانه لها فمن
__________________
دون ذلك يكون
موضوعا للوظيفة العقلية على كل حال.
مدفوعة : أولا ـ بان
ما ينكشف بالرجوع إلى الأعلم قد لا يكون من باب رفع الموضوع بل رفع المحمول مع
انحفاظ الموضوع ، كما إذا كان هناك خطأ في تشخيص الحكم الواقعي أو الظاهري بان كان
قطعه به خاطئا وهذا له أمثلة ، منها ـ أن تكون المسألة عقلية كما إذا قال باستحالة
الترتب والأعلم يرى إمكانه. ومنها ـ أن يكون جازما بظهور عرفي وهو غير صحيح وهكذا.
وثانيا ـ ان اللازم في الوظائف المقررة الفحص عن وجود الحجة على
الخلاف وما دام احتمال وجودها لدى الأعلم قائما في نفس المفضول فلا تجري تلك
الوظيفة المقررة في حقه.
وبهذا يثبت ان
المجتهد المفضول لا يقين ولا علم له بوظيفته فيجب عليه التقليد والرجوع إلى الأعلم
من باب رجوع الجاهل إلى العالم. وبهذا تبطل أيضا العبارة المشهورة في إجازات
الاجتهاد من انه يحرم عليه التقليد.
هذا كله إذا كان
المجتهد المفضول يعترف بكونه المفضول ، واما إذا كان لا يرى نفسه مفضولا فبالنسبة
إليه لا إشكال ولكن الإشكال حينئذ في تقليد العامي ورجوعه إليه فانه ليس من أهل
الخبرة لكونه جاهلا بالنسبة إلى الأعلم فما يتيقن به من الحكم الأعم من الواقعي
والظاهري قد يكون نتيجة جهله المركب ومثل هذا العلم المستند إلى الجهل المركب لا
يكون مشمولا لدليل رجوع الجاهل إلى العالم.
والواقع ان هذه
الشبهة ليس لها جواب حاسم بل جوابه بنحو الموجبة الجزئية وتوضيحه : ان الشبهة
تفترض ان ما يمتاز به الأعلم من الانتباهات والالتفاتات التي هي معنى أعلميته كلها
واقعة في موارد الاختلاف بين الأعلم وغيره في الفتوى واما موارد الاتفاق فيكون
بنفسه دليلا على التفاتهما معا إلى جميع النكات. مع ان هذا الافتراض بلا موجب فانه
ربما يتفقان في النتيجة مع خطأ غير الأعلم في منهج الاستدلال وطريقته ، وحينئذ من
المعقول أن يحصل للمجتهد غير الأعلم يقين بالحكم الأعم من الواقعي والظاهري في
مسألة بنحو يخالف رأي الأعلم رغم اعترافه بالمفضولية وذلك لعدم احتمال أن يكون شيء
من تلك الالتفاتات والانتباهات في تلك المسألة التي خالف فيها الأعلم بالخصوص وذلك
لعدة جهات :
١ ـ أن يفرض مجموع
المسائل وعمليات الاستدلال المستنبطة في كل منها كثيرة بحيث لا تشكل موارد
الاختلاف بينهما إلا جزء ضئيلا بحيث يكون احتمال وقوع خطئه فيها نتيجة عدم انتباهه
ضعيفا بدرجة يكون الاطمئنان على خلافه فمثلا لو فرضنا مجموع المسائل الشرعية (٩)
وفرضنا ان كل مسألة تحتوي على خمسة أدلة وعمليات استدلال فكان مجموع عمليات
الاستدلال الفقهية (٤٥) عملية وافترضنا اختلافهما في ثلاث مسائل من التسع وكانت
نسبة الأعلمية ١ ـ ٣ أي في كل ثلاث عمليات استدلال يتنبه الأعلم إلى نكتة لا يتنبه
إليها غيره. فسوف يكون نسبة امتيازات الأفضل في مجموع الاستدلالات الفقهية
المفترضة ١٥ ـ ٤٥ أي انه قد فاتته (١٥) انتباهة في مجموع الفقه ، ولكن بما ان كل
مسألة تحتوي على خمس عمليات استدلال فاحتمال وجود غفلة وعدم انتباه من قبل المفضول
في كل واحدة منها ١ ـ ٣ في نفسه ولكن بلحاظ جميع العمليات الخمس في كل مسألة تكون
قيمة احتمال ( ١ ـ ٣ ) ٥ أي ١ ـ ٢٤٣ وهو احتمال ضعيف جدا يقابله الاطمئنان .
٢ ـ ومما يضعف هذا
الاحتمال أكثر ما إذا فرضنا ان المجتهد المفضول في موارد الاختلاف مع الأعلم كان
منتبها إلى نظر الأعلم ومع ذلك خالفه لأنه بذل مزيد جهد كثير حتى استقر رأيه على
الخلاف ، خصوصا إذا كان قد التفت إلى ما هو المبرز والمبين من الدليل الّذي أقامه
الأعلم وهو يراه مدخولا فيه ، أو كان نظره هو الموافق مع المشهور.
٣ ـ ان جملة من
الخلافات ترجع إلى نكات ذاتية غير قابلة للحل بالبحث ، كما إذا كان من باب القطع
الوجداني الحاصل من مزاج في فهم الأدلة والتعدي من مدلولها أو الجمود عليها ، أو
كان من باب الخلاف في استظهارات عرفية قد لا يمكن تخريج نكات موضوعية لها كما نصنع
ذلك في أكثر الاستظهارات ، أو يرجع الخلاف إلى الخلاف في فهم الذوق العقلائي
وارتكازاتهم في باب العقود والمعاملات.
ففي ضمن مجموع هذه
الأمور يمكن أن يفرض حصول الجزم واليقين للمفضول بما هو وظيفته المقررة شرعا أو
عقلا في مسألة معينة رغم اعترافه بأعلمية المجتهد الّذي خالفه في
__________________
الرّأي ، ولكن ذلك
شريطة ان لا تكثر مسائل الخلاف بينه وبين الأعلم وأن لا يكون الفارق بينهما كبيرا
وإلا فكلما كثر هذا أو ذاك كبر احتمال الخطأ في رأيه بنحو لا يمكن أن يحصل له
الجزم وتتمة الكلام في ذلك موكول إلى محله.
الجهة
الثانية ـ في الأقسام :
وقد جعلها الشيخ
ثلاثة كما هو معروف.
وقد يستشكل فيه :
بان المراد من القسم الثاني منها ـ وهو الظن ـ إن كان خصوص المعتبر منه فهو خلاف
إطلاق كلمة الظن وإن أريد الأعم منه ومن غير المعتبر تداخل هذا القسم مع القسم
الثالث ـ وهو الشك ـ فان الظن غير المعتبر كالشك من حيث الحكم.
وقد يجاب باختيار
الشق الثاني ، ويدفع الإشكال بان الحكم الملحوظ للاقسام الثلاثة إمكان الحجية
وامتناعها أو ضرورتها فالقطع يكون حجة بالضرورة والظن يمكن جعله حجة والشك يمتنع
فيه ذلك فلا تداخل في الأحكام.
وفيه : إن أريد من
الشك مجموع الاحتمالين فلا معنى لجعل الحجية فيه إلا انه بلا ملزم ولهذا لم يرد من
الظن أيضا إلا أحد الاحتمالين وهو الراجح منهما ، وإن أريد منه أحدهما فيعقل جعل
الحجية له بنكتة طريقية نوعية أو بنكتة نفسية كما هو واضح.
ولعل الأولى من
ذلك أن يقال : بان الشيخ يقصد من التقسيم المذكور فهرسة مواضيع كتابه وبحوثه فلا
بدّ من جعل موضوع القسم الثاني الظن لكي يبحث فيه عن اعتباره وعدمه لا الظن
المعتبر بالخصوص. وإن كان هذا يخالف ظاهر عبارته في التقسيم في الأصول العلمية ،
وعلى كل حال فالمناقشة لفظية.
وقد يستشكل ثانيا ـ بان تثليث الأقسام مبني على أن يكون المراد بالحكم في
المقسم خصوص الواقعي مع انه لا موجب له لأن المهم جامع الحكم الأعم من الواقعي
والظاهري فيكون التقسيم ثنائيا كما صنع في الكفاية.
وفيه ـ ان المهم
ليس هو تحصيل جامع لتقليل الأقسام وإلا لأمكن الاستغناء عن ذلك إلى عنوان واحد وهو
تشخيص الوظيفة الفعلية سواء كانت حكما شرعيا واقعيا أو ظاهريا أو حكما عقليا.
وانما المقصود بيان ملاكات ومناطات كل وظيفة بإبراز موضوعاتها وملاكاتها. نعم يبقى
هنا بحث في نفسه عن ان الحكم الّذي أخذ في المقسم بعد الفراغ عن
تثليث الأقسام هل
ينبغي أن يراد به خصوص الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري؟
والكلام في ذلك من
جهتين :
١ ـ في منهجة
التقسيم وما تقتضيه ، والصحيح ان مقتضى منهجة التقسيم أن يراد بالحكم خصوص الواقعي
لا الأعم وإلا لزم تداخل الأقسام ، لأن الظن بالحكم الواقعي المعتبر مثلا يدخل في
القسم الأول من حيث هو قطع بالحكم الظاهري وفي القسم الثاني من حيث هو ظن بالحكم
الواقعي مع ان هذه واقعة واحدة بمعنى ان فيها تنجيز واحد وعصيان وإطاعة واحدة ،
وظاهر التقسيم التقابل بين الأقسام بلحاظ واقعة واحدة فمثل هذا لا يناسب التقسيم.
٢ ـ من ناحية
ثبوتية ، وهنا نبحث عن ان إجراء الوظائف هل يكون بلحاظ الأحكام الواقعية فقط أو
يمكن أن يكون بلحاظ الأحكام الظاهرية أيضا ، والكلام هنا أولا في الأصول غير
التنزيلية ، وثانيا في الأمارات والأصول التنزيلية.
اما الأصول غير
التنزيلية ـ أي البراءة والاشتغال ـ فبالنسبة إلى أصالة البراءة قد يتوهم إمكان
إجراءها عن الحكم الظاهري الإلزامي المحتمل كما تجري عن الإلزام الواقعي ، فإذا شك
في جعل الشارع لوجوب الاحتياط في شبهات معينة كاللحوم مثلا أمكن إجراء البراءة
عنه.
والصحيح التفصيل
بين المسالك المشهورة في حقيقة الحكم الظاهري وبين المسلك المختار ، فانه بناء على
المسلك المشهور القائل بعدم وجود مبادئ للحكم الظاهري وان الملاك في نفس جعله
ليكون منجزا للواقع فقط ـ ولهذا أيضا لا يكون تناف بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها
الواقعية غير الواصلة ـ فالبراءة لا تجري إلا بلحاظ الحكم الواقعي ولا معنى
لإجرائها عن الحكم الظاهري المشكوك إذ لا منجزية له ولا أثر في التنجيز والتعذير
وانما المنجز هو الحكم الواقعي المحتمل فبإجراء البراءة عنه يحصل التأمين عن
الواقع ، واما بناء على مسلكنا القائل بوجود ملاك في الحكم الظاهري محفوظ حتى مع الشك
فيه وعدم وصوله ـ ومن هنا يكون هناك تناف بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية
ـ فالبيان المذكورة غير تام لأن الحكم الواقعي وان حصل التأمين عنه بما انه مشكوك
إلا ان هذا لا يمنع عن عدم المعذرية وثبوت اهتمام المولى به في المرتبة الطولية
التي يحتمل فيها جعل حكم ظاهري منجزا أي بما انه يشك في جعل حكم ظاهري إلزامي
لحفظه ، إذ لا مانع من أن يجعل التأمين عند الشك في
الواقع ويجعل
الاحتياط عند الشك في اهتمام المولى بالواقع ولكن بناء على هذا المسلك لا يحتاج
إلى البراءة عن الحكم الظاهري في أغلب الموارد وإن كان موضوعها تاما بالتمسك بدليل
البراءة في الشك في الحكم الواقعي ننفي احتمال جعل الحكم الظاهري الإلزامي لأن
الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية بحسب الفرض وإطلاق دليل الأصل دليل
اجتهادي لا يحتاج معه إلى الأصل العملي وإن كان موضوعه تاما أيضا. نعم نحتاج إلى ذلك
فيما إذا كانت الشبهة مصداقية لدليل البراءة وذلك فيما إذا احتمل وجود أحد مصاديق
حكم ظاهري إلزاميّ ثابت كبرويا ، كما إذا أخبر من يشك بوثاقته بالحرمة ولم يجر
استصحاب وثاقته أو عدم وثاقته لكونه من توارد الحالتين مثلا فانه بناء على هذا
المسلك لا يمكن التمسك بدليل البراءة ابتداء ، لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة
المصداقية فلا بد من إجراء البراءة الطولية أي البراءة عن الحكم الظاهري الإلزامي
المحتمل فانه بلحاظ هذا الشك لا تكون الشبهة مصداقية كما لا يخفى ، وبذلك نؤمن عن
منجزية الواقع في هذه المرتبة من الشك.
واما أصالة
الاشتغال ، فقد يتوهم انه لا يمكن تطبيقها على الواقع ابتداء بل لا بد من إجرائها
بلحاظ الحكم الظاهري في موارد قيام الحجة على أحد التكليفين بنحو الترديد والإجمال
لأنه بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك الشبهة بدوية فلا تكون مجرى لأصالة الاشتغال.
ولكن الصحيح ثبوت
الاشتغال بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك ابتداء بلا توسيط أصالة الاشتغال بلحاظ
الحكم الظاهري المعلوم إجمالا ، وذلك لأنه بعد فرض ثبوت الحجة الإجمالية على
الإلزام تتساقط الأصول المؤمنة الجارية بلحاظ الواقع في الطرفين معا لاستحالة
اجتماع مؤمنين تعيينين في الطرفين مع الحكم الظاهري التنجيزي المعلوم بالإجمال في
أحد الطرفين ، وبعد التساقط يثبت الاشتغال اما لإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان
رأسا ـ كما هو الصحيح ـ أو لأن العلم الإجمالي بالحجة بنفسه يمنع عن جريانها حتى
لو قيل بجريانها في الشبهة البدوية ، فان البيان المأخوذ في موضوعها أعم من العلم
بالواقع أو العلم بالحجة ، فنفس العلم بالحجة موجب للاشتغال وتنجز الواقع المحتمل
وعدم جريان الأصول المؤمنة بلحاظه.
واما الأصول
التنزيلية والأمارات فلا مانع من إجرائها في الأحكام الظاهرية كما إذا علمنا بحجية
خبر الثقة ثم شك في بقائها اما لاحتمال النسخ أو للشك في سعة المجعول كما لو احتمل
ان الظن بالخلاف مانع عن حجية الظن ، فانه لا بد من استصحاب الحجية الّذي هو حكم
ظاهري واما بلحاظ الحكم الواقعي فلا ثبوت للحالة السابقة كي تستصحب لا وجدانا كما
هو واضح ولا تعبدا بعد فرض الشك في الحجية بقاء فلا بدّ من إثبات حجية ذلك الخبر
بالاستصحاب ، وكذلك يصح العكس حيث نثبت الاستصحاب بخبر الثقة الّذي هو حكم ظاهري
أيضا.
هذا وليعلم بان
الأصول التنزيلية والأمارات وإن كانت تجري بلحاظ الأحكام الظاهرية إلا انها بحسب
الحقيقة تكون منجزة للواقع أو مؤمنة عنه لا لنفس الحكم الظاهري فانه لا تنجيز له
ولا تعذير فإجراء هذه الأصول التنزيلية والأمارات بلحاظ الحكم الظاهري بحسب
الحقيقة تنجيز للواقع أو تأمين عنه في حق من تحقق عنده موضوع جريانها ولو بلحاظ
شكه في الحكم الظاهري ، ولهذا لو فرض ان استصحاب الحجية كان مخالفا للواقع بمعنى
ان الحجية لم تكن موسعة ولكن الحكم الواقعي كان ثابتا في ذلك المورد كان المكلف
إذا خالف الاستصحاب عاصيا لا متجريا فتأمل جيدا.
مباحث الحجج
مبحث القطع
|
حجية
القطع
مبحث
التجري
أقسام
القطع وقيام الأمارة مقامها
أخذ
القطع بالحكم في موضوعه
وجوب
المرافقة الالتزامية
حجية
الدليل العقلي
منجزية
العلم الإجمالي
الامتثال
الإجمالي
|
مبحث القطع
وقد وقع الكلام عن
أصولية هذه المسألة وعدمها ، وهذا بحث شرحناه مفصلا في أول البحوث الأصولية عند
التعرض لضابط المسألة الأصولية فهو موكول إليه وانما المهم البحث عن حجية القطع
وهو يقع في جهات :
« حجية القطع »
الجهة
الأولى ـ في أصل حجية القطع وهي هنا يمكن أن يراد بها معان عديدة :
١
ـ الحجية المنطقية : ومقصودنا منها البحث عن مدى ضمان حقانية القطع وموضوعيته وانه إذا حصل من أي
المناشئ يكون مضمون الحقانية منطقيا ، وهذا بحث منطقي يسمى بنظرية المعرفة وليس
بحثا أصوليا وإن كان قد يقع التعرض إليه في الجملة عند التعرض لكلمات بعض المحدثين
في علم الأصول.
٢
ـ الحجية التكوينية : ونقصد بها دافعية القطع ومحركيته نحو المقطوع على النحو المناسب لغرض القاطع
وهذه محركية طبيعة تكوينية وليست هي مقصود الأصولي في المقام أيضا.
٣
ـ الحجية بمعنى التنجيز والتعذير : ونقصد بها انه في علاقات العبيد بالموالي هل يكون القطع
منجزا ومعذرا في مقام الامتثال أم لا؟ وهذه هي الحجية المبحوث عنها في الأصول.
وقد جاء في
كلماتهم الاستدلال على حجية القطع بهذا المعنى بان العمل بالقطع عدل ومخالفته ظلم
للمولى فتكون حجية القطع من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم واستحقاق فاعل
الأول للمدح والثواب ومرتكب الثاني للذم والعقاب ، ومن هنا اختلفت مبانيهم في حجية
القطع باختلافهم في مباني تلك المسألة ، فمن جعل منهم قبح الظلم وحسن العدل امرا
واقعيا يدركه العقل من قبيل الإمكان والامتناع كانت حجية القطع عنده كذلك أيضا ،
ومن ذهب منهم مذهب الفلاسفة من ان حسن العدل وقبح الظلم حكم عقلائي حكم به العقلاء
حفظا لنظامهم كانت حجية القطع لديه من القضايا المشهورات بحسب مصطلح المناطقة وهي
القضايا المجعولة من قبل العقلاء.
والصحيح : ان هذا
الاستدلال غير منهجي لأنه إن أريد به مجرد تنبيه المرتكزات وإلفات الخصم إلى
استحقاق المثوبة والعقوبة في مخالفة القطع فلا مشاحة في ذلك.
واما إن أريد به
الاستدلال فقاعدة قبح الظلم قد أخذ في موضوعها عنوان الظلم وهو عبارة عن سلب ذي
الحق حقه ، ففي المرتبة السابقة لا بد من افتراض حق الآمر على المأمور لكي تفترض
مخالفته سلبا لحقه وإلا لم يكن ظلما ، فان أريد إثبات ذلك بنفس تطبيق قاعدة قبح
الظلم كان دورا ، وإن أريد بعد الفراغ عن ثبوت حق الطاعة والمولوية على العبد
تطبيق هذه القاعدة فهو مستدرك وحشو من الكلام ، إذ بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى
على العبد وبعد افتراض وجدانية القطع لدى القطع فلا نحتاج إلى شيء آخر ، إذ لا
يراد بالمنجزية إلا حق الطاعة ولزوم الامتثال والمفروض اننا قطعنا بذلك صغرى
وكبرى.
والحاصل : ان حجية
القطع بمعنى التنجيز والتعذير ليس إلا عبارة عما يتحقق كبراه بفرض مولوية المولى
وصغراه بنفس القطع بحكم المولى ، والنتيجة تتم بتمامية الصغرى والكبرى فلا نحتاج
إلى توسيط عنوان قبح الظلم وزجه في الاستدلال والّذي جريانه فرع ثبوت مولوية
المولى وحق الطاعة له. اللهم إلا أن يراد به مجرد تنبيه المرتكزات إلى وجود الحق
المذكور كما أشرنا.
ثم ان المولوية
وحق الطاعة تكون على ثلاثة أقسام :
١ ـ المولوية
الذاتيّة الثابتة بلا جعل واعتبار والّذي هو امر واقعي على حد واقعيات لوح الواقع
، وهذه مخصوصة بالله تعالى بحكم مالكيته لنا الثابتة بملاك خالقيته ، وهذا مطلب
ندركه بقطع النّظر
عن مسألة شكر المنعم الّذي حاول الحكماء أن يخرجوا بها مولوية الله سبحانه ولزوم
طاعته ، فان ثبوت الحق بملاك المالكية والخالقية شيء وثبوته بملاك شكر المنعم شيء
آخر . بل هذا حذوه حذو سيادة الله التكوينية ، فكما ان إرادته التكوينية نافذة في
الكون كذلك إرادته التشريعية نافذة عقلا على المخلوقين. وهذا النحو من المولوية
كما أشرنا لا تكون إلا ذاتية ويستحيل أن تكون جعلية ، لأن نفوذ الجعل فرع ثبوت
المولوية في المرتبة السابقة فلو لم تكن هناك مولوية ذاتية لا تثبت الجعلية أيضا
لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وبناء العقلاء على
هذه المولوية ليس بمعنى جعلهم لها ـ كما توهم ـ بل بمعنى إدراكهم لها على حد
إدراكهم للقضايا الواقعية الأخرى.
٢ ـ المولوية
المجعولة من قبل المولى الحقيقي ، كما في المولوية المجعولة للنبي أو الولي ، وهذه
تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها لا محالة.
٣ ـ المولوية
المجعولة من قبل العقلاء أنفسهم بالتوافق على أنفسهم ، كما في الموالي والسلطات
الاجتماعية وهذه أيضا تتبع مقدار الجعل والاتفاق العقلائي.
ثم ان المولوية
الأولى دائما يحقق القطع صغراها الوجدانية لأن ثبوت القطع لدى القاطع وجداني وثبوت
مولوية المولى الحقيقي في موارد القطع بديهي أيضا لأنه القدر المتيقن من حدود هذه
المولوية ، إذ لا يعقل أن تكون اكتمال درجة الكشف عن حكم المولى موجبا لارتفاع
مولويته وقلتها موجبة لمولويته ولكن نحن ندعي ثبوت هذه المولوية في موارد الظن
والاحتمال بل الوهم أيضا وبهذا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية
خلافا لما ذهب إليه المشهور وهذا الاختلاف سوف يكون أساسا لكثير من الثمرات في
البحوث القادمة.
وتفصيل ذلك : ان
المشهور ميزوا بين امرين مولوية المولى ومنجزية أحكامه فكأنه يوجد عندهم بابان
أحدهما باب مولوية المولى الواقعية وهي عندهم امر واقعي مفروغ عنه لا نزاع فيه ولا
يكون للبحث عن حجية القطع ومنجزيته مساس به ، وباب اخر هو باب منجزية
__________________
القطع وحجيته وانه
متى يكون تكليف المولى منجزا ، وفي هذا الباب ذكروا ان التكليف يتنجز بالوصول
والقطع ولا يتنجز بلا وصول ولهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ويقولون هذا
وكأنهم لا يفترضون ان هذا تفصيل بحسب روحه في الباب الأول وفي حدود مولوية المولى
وحق طاعته ، وقد اتضح مما سبق ان هذا المنهج غير صحيح وان المنجزية التي جعلوها
بابا ثانيا انما هي من لوازم أن يكون للمولى حق الطاعة على العبد في مورد التنجيز
وأي تبعيض عقلي في المنجزية بحسب الحقيقة تبعيض في المولوية ، فلا بدّ من جعل منهج
البحث ابتداء عن دائرة مولوية المولى وانها بأي مقدار ، وهنا فرضيات :
١ ـ أن تكون
مولوية المولى امرا واقعيا موضوعها واقع التكليف بقطع النّظر عن الانكشاف ودرجته ،
وهذا باطل جزما لأنه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزا ومخالفته
عصيانا ، وهو خلف معذرية القطع وواضح البطلان.
٢ ـ أن يكون حق
الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلفين من تكاليف المولى ، وهذا هو روح موقف
المشهور الّذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشك ،
ولكنا نرى بطلان هذه الفرضية أيضا لأنا نرى ان مولوية المولى من أتم مراتب
المولوية على حد سائر صفاته ، وحقه في الطاعة على العباد أكبر حق لأنه ناشئ من
المملوكية والعبودية الحقيقية.
٣ ـ المولوية في
حدود ما لم يقطع بالعدم ، وهذه هي التي ندعيها وعلى أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب
بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية ، وكأنهم قاسوا ذلك
ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف ، نعم لو قيل
بان الشارع أمضى السيرة والطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلاء
وبمقدار ما تستوجبها من الحق فلا بأس به ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة
الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية.
وعلى هذا الأساس
يكون الفرق بين القطع وبين غيره من درجات الاحتمال والرجحان في امرين :
١ ـ ان القطع حجة
في جانبي التنجيز والتعذير معا بخلاف المراتب الأخرى التي لا يكون في مواردها إلا
التنجيز ، والنكتة في ذلك ما أشرنا إليه من ان حق الطاعة لا يشمل موارد القطع
بالترخيص وليس هذا
تبعيضا في مولوية المولى بل تخصصا وذلك باعتبار ما سوف يأتي من استحالة محركية
المولوية في مورد القطع بالترخيص.
٢ ـ ان منجزية غير
القطع من الظن والاحتمال قابلة للردع عنها شرعا بجعل ترخيص ظاهري على الخلاف ـ بعد
الجواب على شبهة ابن قبة في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي
وامتداداتها ـ واما منجزية القطع فغير قابلة لذلك وهذا هو الّذي وقع موردا للخلاف
بين الأصوليين والمحدثين في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة.
وعلى ضوء ما تقدم
يقع البحث عن إمكان جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به في مورد القطع من حجية أو
منجزية أو معذرية كما تجعل الأحكام الظاهرية في موارد الشبهات.
وقد ادعي استحالة
ذلك من قبل الأصوليين واستدلوا عليه ببراهين ثلاثة :
١ ـ ان الردع عن
القطع يستلزم اجتماع الضدين واقعا في فرض الإصابة أو في نظر القاطع في فرض الخطأ
وكلاهما محال لأن القطع بوقوع المحال محال أيضا.
٢ ـ ان الردع
مناقض لحكم العقل بحجية القطع ومنجزيته وهو مستحيل لأنه إن أريد بذلك إزالة الحجية
الذاتيّة فهو تفكيك بين الذات والذاتي ، وإن أريد جعل ما يخالفها رغم ثبوت الحجية
الذاتيّة عقلا فهذا تناقض مع حكم العقل.
٣ ـ ان الردع يلزم
منه نقض الغرض ولو بحسب نظر القاطع.
وفيما يلي التعليق
على هذه البراهين.
اما بالنسبة إلى
البرهان الأول فسنخ هذا البرهان قد أورد كشبهة في موارد جعل الحكم الظاهري من
الأمارات والأصول العملية غاية الأمر ان المحذور هناك كان في احتمال اجتماع الضدين
الّذي هو على حد القطع باجتماعهما محال أيضا.
والجواب ـ ان
التضاد بين الحرمة المقطوعة مثلا والترخيص تارة يدعى بلحاظ المبادئ وعالم الملاكات
وأخرى بلحاظ عالم التنجيز والمحركية في مقام الامتثال ، فان ادعي الأول فلا بدّ من
ملاحظة الأجوبة التي بها عولجت شبهة التضاد في الجمع بين الأحكام الظاهرية
والواقعية ، فان بعض المسالك في ذاك العلاج جار هنا ، وإن كان المسلك الصحيح
والمختار لا يمكن تتميمه هنا على ما سوف يتضح من خلال هذا البحث ، فيكون هذا
البرهان غير قابل للتكميل على جملة من المسالك ، فمثلا المسلك القائل باختلاف
مرتبة الحكم الظاهري عن
الواقعي وكفاية
ذلك في رفع التضاد لاشتراط وحدة الضدين في المترتبة من الواضح جريانه هنا أيضا ،
فانه كما يكون الشك في الحكم الواقعي متأخرا عنه وفي طوله كذلك القطع به متأخر
رتبة. وكذلك المسلك القائل بان الحكم الظاهري لا مبادئ فيه وانما المصلحة في نفس
جعله ، فان هذا المسلك أيضا جار هنا ـ بل وجدانية عدم إمكان جعل حكم ظاهري على
المقطوع به على خلاف الحكم الواقعي المقطوع به بنفسه من دلائل قصور تلك المسائل في
التوصل إلى حقيقة الحل والعلاج بين الأحكام الظاهرية والواقعية ـ
وإن ادعي الثاني
أي التضاد بلحاظ عالم التنجيز والمحركية فالموقف هنا أشد غموضا منه في موارد
الأحكام الظاهرية المجعولة في موارد الأمارات والأصول ، لأنه هناك كان يمكن رفع
التضاد في هذه المرتبة بدعوى ان الحكم الواقعي باعتباره غير واصل لا يكون منجزا
ولا يكون محركا ، واما في المقام فالمفروض وصول الحكم الواقعي بالقطع وتنجزه.
إلا انه مع ذلك
التضاد في هذه المرتبة فرع حساب مقدار محركية التكليف الواقعي المقطوع به الّذي هو
فرع محركية القطع وهي فرع منجزيته ، فإذا كان الترخيص الشرعي بالخلاف صالحا لرفع
منجزية القطع فلا يكون له مقام عمل ومحركية ليلزم التضاد في هذا العالم ، نعم لو
لم يكن الترخيص الشرعي صالحا لإزالة حجية القطع ومنجزيته وقع التضاد لا محالة ،
وهذا معناه الرجوع إلى البرهان الثاني وان منجزية القطع هل تكون تنجيزية أو
تعليقية.
وبهذا يتضح ان
البرهان الثاني بالمقدار المذكور غير تام أيضا ، لأن ما ذكر فيه ان إزالة الحجية
عن القطع تفكيك بين الذات والذاتي والعلة والمعلول فرع أن تكون علية القطع للتنجيز
علية تامة لا علية اقتضائية معلقة على عدم الترخيص الشرعي بالخلاف ، أي أن يكون
حكم العقل بالحجية والتنجيز تنجيزيا لا تعليقيا كما هو الحال في موارد الاحتمال
المنجز في موارد الشك في الامتثال أو الشك قبل الفحص بل مطلق الشك والشبهة بناء
على إنكار البراءة العقلية.
واما البرهان
الثالث وهو برهان نقض الغرض فالجواب عليه : انه إن أريد بالغرض الملاك الواقعي
والمفسدة الموجودة في الحرام الواقعي فهذا يرجع إلى برهان
التضاد المتقدم.
وإن أريد به
الداعي إلى الجعل وهو التحريك فان الداعي من الجعل التحريك وجعل الداعي في نفس
المكلفين فإذا جعل بعد ذلك ترخيصا كان نقضا لذلك ، فالجواب ان الغرض من الخطاب
انما هو التحريك بحسب ما يستقل به العقل من التحريك ويراه قابلا للتنجيز والتحريك
فإذا فرض ان العقل يستقل بحجية القطع بنحو تنجيزي فسوف تكون محركية الخطاب تنجيزية
فلا يمكن جعل ترخيص على الخلاف لأنه نقض للغرض ، واما إذا كانت منجزية القطع
تعليقية ومشروطة بعدم ترخيص من قبل المولى نفسه فلا نقض للغرض ، كما هو في موارد
الشك والاحتمال المنجز كالاحتمال قبل الفحص مثلا ، فلا بدّ من تنقيح هذه النقطة.
والتحقيق : انه لا
يمكن جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به على حد ما يجعل في موارد الشك والظن من
الأحكام الظاهرية.
اما إذا كان القطع
بحكم ترخيصي وأريد جعل حكم ظاهري إلزاميّ نظير إيجاب الاحتياط في الشبهات ، فهذا
الحكم إذا فرض نفسيا لزم التضاد على ما تقدم توضيحه في البرهان ، الأول ، وإن فرض
طريقيا ، والحكم الطريقي عندنا الحكم الناشئ بملاك التزاحم بين الأحكام الترخيصية
والإلزامية في مرحلة الحفظ لا في نفسها مما يدعو المولى إلى أن يجعل حكما طريقيا
يبرز به اهتمامه بما هو المهم من تلك الملاكات المتزاحمة ـ فهي أحكام ناشئة عن
مبادئ ولكن لا في متعلقات نفسها بل في متعلقات الأحكام النفسيّة ولهذا لا تضاد
بينهما بلحاظ المبادئ ـ فهذا أيضا لا يعقل جعله في المقام لأن الحكم الطريقي لا
يتنجز بنفسه وانما ينجز غيره أي ينجز الحكم الواقعي وملاكه النفسيّ والمفروض ان
المكلف يقطع بعدم الملاك الإلزامي الواقعي فكيف يتنجز الإلزام الواقعي بهذا الحكم
الطريقي؟.
واما إذا كان
القطع بحكم إلزاميّ وأريد جعل حكم ظاهري ترخيصي فائضا غير معقول ، لأنه إن كان
نفسيا ففيه مشكلة التضاد في المبادي ، وإن كان طريقيا ناشئا عن التزاحم بين
الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية وتقديم مصلحة الترخيص على الإلزام فمثل
هذا الحكم الطريقي لا يمكن أن يكون مؤمنا ومعذرا للمكلف ، لأن
القاطع يرى ان
قطعه يصيب الواقع دائما فهو بهذا يرى انه يستطيع أن يحفظ الملاك الإلزامي للمولى
من دون تزاحم ، أي انه يرى عدم شمول الخطاب له روحا وملاكا وإن كان شاملا خطابا
ومن باب ضيق الخناق على المولى بحيث لو كان يمكنه أن يستثنيه لاستثناه ـ بحسب نظره
ـ ومثل هذا الخطاب لا يكون معذرا عقلا .
والحاصل : جعل
الخطاب الظاهري في مورد القطع لا يعقل لا نفسيا لاستلزامه التضاد ، ولا طريقيا لأن
القاطع يرى نفسه مستثنى عن الخطاب روحا وملاكا وإن كان مشمولا له صورة ، وكل خطاب
يكون شموله للمكلف من باب ضيق الخناق وبحسب الصورة فقط لا يكون منجزا أو معذرا.
__________________
مبحث التجري
الجهة الثانية ـ في
التجري : ـ
وموضوع هذا البحث
: ان أي تكليف يتنجز على المكلف سواء كان بمنجز عقلي كما في موارد القطع والاحتمال
المنجز ، أو شرعي كما في الأمارات والأصول المنجزة ، فان صادف الواقع بأن كان
التكليف الواقعي الإلزامي موجودا في البين وخالفه المكلف فهذا عصيان قبيح يستحق
فاعله العقاب بلا كلام ، وإن لم يصادف وخالفه المكلف فهو التجري الّذي يبحث في هذه
الجهة عن قبحه واستحقاق فاعله للعقاب أو حرمته.
ومنه يظهر ان
البحث لا يختص بموارد القطع وإن كان هو أظهر افراده ومصاديقه.
وقد يتوهم : عدم
شمول هذا البحث موارد الحكم الظاهري الشرعي بدعوى تحقق العصيان فيها على كل حال
بلحاظ مخالفة نفس الحكم الظاهري الإلزامي.
ولكن هذا التوهم
باطل على جميع المباني في تفسير حقيقة الحكم الظاهري ، لأن الحكم الظاهري لا إشكال
عند أحد في انه حكم طريقي غير ناشئ عن مصلحة في متعلقه وانما يحفظ به الملاك
النفسيّ في الحكم الواقعي ، فهو يحافظ على ملاكات الأحكام الواقعية سواء كان لسان
جعله جعل الطريقية والكاشفية أو جعل الحكم المماثل أو جعل المنجزية والحجية أو أي
شيء اخر ، فان هذه مجرد صياغات في مقام
الجعل لا تغير من حقيقة
الحكم الظاهري وروحه.
ومنه اتضح ان ما
هو ظاهر كلام الميرزا ( قده ) من ان الأحكام الظاهرية ليست تكليفية بل تتميم للكشف
والطريقية فليس فيها عصيان مستقل عن الواقع ، غير صحيح فان الحكم حتى لو كان بلسان
التكليف والحكم المماثل لا يكون له عصيان مستقل عن الحكم الواقعي لأنه خال عن
المبادئ غير مبادئ الحكم الواقعي.
واما البحث عن
التجري وحكمه فيقع في عدة مقامات :
« قبح التجري »
المقام
الأول ـ في قبح الفعل المتجري به وعدم قبحه عقلا ، وإن شئت قلت : ان
حكم العقل بالقبح هل يختص بالمعصية أو يشمل التجري أيضا؟.
والّذي ينبغي أن
يقال : انه بعد أن عرفنا ان حكم العقل يرجع بحسب تحليلنا إلى حق المولى على العبد
فلا بد من الفحص عن دائرة هذه المولوية وحق الطاعة وهل يشمل ذلك موارد التجري أم
لا ومن هنا نطرح ثلاثة تصورات.
١ ـ أن يكون موضوع
هذا الحق تكاليف المولى الواقعية. وبناء على هذا الاحتمال يلزم أن يكون حق الطاعة
للمولى غير ثابت في موارد التجري لأن تمام موضوع هذا الحق هو التكليف بوجوده
الواقعي والمفروض عدم وجوده في موارد التجري إلا ان هذا الاحتمال ساقط في نفسه ،
باعتبار ما تقدم من ان لازمه تحقق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي ولو لم
يكن منجزا بل حتى إذا كان قاطعا بالعدم وهو واضح البطلان.
٢ ـ أن يكون
موضوعه إحراز التكليف بمنجز شرعي أو عقلي سواء كان هناك تكليف في الواقع أم لا ،
فالإحراز المذكور هو تمام الموضوع. وبناء عليه تكون موارد التجري أيضا مما فيه
للمولى حق الطاعة لأن المفروض إحراز التكليف فيها بالقطع المنجز عقلا.
٣ ـ أن يكون
موضوعه مركبا من التكليف بوجوده الواقعي ومن إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي وهذا وسط
بين السابقين ، وبناء عليه يثبت عدم الحق في موارد
التجري لعدم
تمامية موضوعه.
ولنا في المقام
كلامان. أولا ـ ان الصحيح هو التصور الثاني لا الأول ولا الثالث.
وثانيا ـ انه بناء على التصورين الآخرين أيضا نقول بقبح التجري.
اما الكلام الأول
فحاصله : ان حق الطاعة تارة يكون حقا مجعولا وأخرى يكون حقا ذاتيا ، ومحل كلامنا
هو الثاني لا الأول. وهذا الحق الذاتي ليس شأنه شأن الحقوق الأخرى التي لها واقع
محفوظ بقطع النّظر عن القطع والشك نظير الحقوق الأخرى والتكاليف الشرعية ، بل يكون
للانكشاف والقطع دخل فيه ، لأن هذا الحق بحسب الحقيقة حق للمولى على العبد ان يطيع
مولاه ويقوم بأدب العبودية والاستعداد لأداء الوظيفة التي يأمره بها وليس بملاك تحصيل
مصلحة له أو عدم إضرار به كما في حقوق الناس وأموالهم ، ففي حق المالك في ملكه قد
يقال بان من أتلف مالا يتخيل انه لزيد ثم تبين انه مال نفسه لم يكن ظالما لزيد
لأنه لم يخسره شيئا ولم يتعد على ماله ، واما هنا فالاعتداء بلحاظ نفس حق الطاعة
وأدب العبودية ، ومن الواضح ان مثل هذا الحق الاحترامي يكون تمام موضوعه نفس القطع
بتكليف المولى أو مطلق تنجزه لا واقع التكليف ، فلو تنجز التكليف على العبد ومع
ذلك خالف مولاه كان بذلك قد خرج عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن تكليف
واقعا.
وهذا هو معنى صحة
التصور الثاني من التصورات المتقدمة.
واما كلامنا
الثاني فهو انه لو فرض صحة أحد الاحتمالين الأول أو الثالث مع ذلك نقول بقبح الفعل
المتجري به ، وذلك لبديهية أخرى ندعيها وهي ان الإقدام على الظلم وسلب الحق قبيح
عقلا وإن لم يكن ظلما واقعا لعدم ثبوت حق كذلك ، وذلك ببرهان حكم العقل بالقبح في
ارتكاب الخلاف في موارد تخيل أصل المولوية كما إذا تصور زيد ان عمرا مولاه ومع ذلك
أهانه ولم يحترمه بما يناسب مقام مولاه من أدب الشكر والتقدير ، فانه لا إشكال ان
صدور مثل هذا الفعل يعتبر في نظر العقل قبيحا وفاعله يعد مذموما ولو انكشف بعد ذلك
ان عمراً لم يكن مولى له بل انكشف انه لا مولى له أصلا ، وموارد التجري من هذا
القبيل ، فانه وإن لم يكن قد سلب حق المولى ـ بعد التنزل عن الكلام الأول ـ إلا
انه كان قد أقدم عليه فيكون فعله بهذا
الاعتبار قبيحا ،
وانما يستحق من المولى الحقيقي العقاب ـ مع انه لم يظلمه ـ بملاك ان مقتضى مولوية
المولى الحقيقي أن يكون ذمه وتأنيبه لعبده الفاعل للقبيح بذلك وان لم يكن فعله
القبيح ظلما في حق مولاه.
وقد يتساءل : انه
إذا كان الظلم قبيحا والإقدام على الظلم قبيح أيضا لزم في موارد المعصية وإصابة
القطع للواقع تعدد القبيح وهو خلاف الوجدان.
والجواب ـ على ضوء
مصطلحات القوم في المقام ، ان موضوع القبح عقلا بحسب الحقيقة دائما هو الإقدام على
الظلم لا نفس الظلم ، غاية الأمر الظلم يستبطن الإقدام عليه لكونه متقوما بالقصد
والاختيار ، فالإقدام على الظلم مع الظلم بينهما العموم المطلق فلا يوجد تعدد في
مركز القبح. نعم هناك فرق بين مورد الإقدام ومورد تحقق الظلم خارجا انه في مورد
تحقق الظلم يستحق فاعله العقاب التأديبي من كل عاقل وإضافة إلى ذلك يوجد له مظلوم
وهو له حق التعويض والقصاص عليه بحكم العقل ، وهذا بخلاف موارد تحقق الإقدام على
الظلم بلا ظلم واقعا. هذا وسوف يأتي مزيد تحقيق وتعديل لهذه النقطة.
وفي مقابل هذا
المسلك الّذي سرنا عليه. يوجد مسلكان آخران :
أحدهما
ـ مسلك الشيخ ( قده ) في الرسائل حيث أنكر القبح رأسا في
موارد التجري وانما الموجود فيها مجرد سوء السريرة المنكشفة بالفعل نظير الكلمات
القبيحة الكاشفة عن معانيها القبيحة.
وقد عرفت ان هذا
الكلام غير تام على ضوء ما تقدم ، واما القياس على الألفاظ القبيحة فمع الفارق لأن
الفعل في المقام يكشف كشفا تصديقا عن عدم احترام العبد لمولاه وهذا بنفسه ظلم لأنه
كشف عن احتقار المولى فيكون بنفسه مصداقا للتحقير والإهانة الّذي هو تمام موضوع
القبح في هذا الباب.
ثانيهما
ـ مسلك المحقق النائيني ( قده ) فانه بعد تسليمه بأصل القبح
حاول التمييز بين قبحين ، القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وادعى ان التجري من
الثاني والمعصية من الأول ، ورتب على ذلك نفس ما انتهى إليه الشيخ من عدم استحقاق
العقاب لأنه من شئون القبح الفعلي لا الفاعلي.
وهذا الكلام لا
يخلو من تشويش بل من اختلاف في النقل بين تقريري بحثه ، ونحن نطرح فيما يلي
محتملاته مع المناقشة فيها.
١ ـ أن يقصد إنكار
قبح التجري رأسا وان قبحه بالعرض والمجاز وهذا رجوع إلى كلام الشيخ.
٢ ـ أن يقصد تصور
نحوين من القبح ثبوتا ، أحدهما مركزه ذات الفعل ، في نفسه بقطع النّظر عن إضافته
إلى فاعله ويقابله الحسن كذلك وهذا هو القبح والحسن الفعليان ، والآخر مركزه الفعل
بما هو مضاف إلى فاعله وصادر منه ويقابله الحسن كذلك وهما القبح والحسن الفاعليان
، فكنس الشارع مثلا حسن في نفسه ولكن صدوره من العالم قبيح بخلاف ضرب اليتيم ، وفي
باب المعصية الفعل في نفسه قبيح واما في التجري فصدوره من القاطع قبيح لا في نفسه.
ويرد عليه :
أولا
ـ انه لا معنى لهذا التقسيم منهجيا ، لأن القبيح والحسن لا
يضافان إلى الأفعال في أنفسهما بل بلحاظ صدورها من الفاعل ، وكأن هذا التفصيل خلط
بين باب المصلحة والمفسدة وباب الحسن والقبح فان المصلحة والمفسدة موضوعهما الفعل
في نفسه واما الحسن والقبح فليس موضوعه إلا الفعل بما هو مضاف إلى فاعله ، لأن
القبح والحسن عبارة عما يذم عليه الفاعل ويمدح وهذا لا يكون إلا بعد إضافة الفعل
إلى الفاعل لا الفعل في نفسه كما هو واضح.
وثانيا
ـ لو سلمنا التفصيل
فلما ذا لا يستحق الفاعل العقاب على التجري ما دام الفعل بما هو مضاف إليه قبيح
فان العقاب والتبعة يكفي فيه هذا المقدار من القبح بلا إشكال ، ولهذا لو كنس
العالم الشارع وكان فعله قبيحا كان مذموما لا محالة. والحاصل : لم يعرف وجه حينئذ
لتخصيص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه وبقطع النّظر عن الفاعل.
٣ ـ أن يقصد ان
القبح الفاعلي مركزه نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل لا الفعل ذاتا ولا
الفعل بما هو مضاف.
ويرد
عليه : أولا ـ ان التفكيك بين الإضافة
والفعل المضاف أمر تحليلي لا واقعي ومثل هذه الأمور التحليلية سواء قلنا بأنها
اعتبارية كما هو المشهور أو واقعية كما هو
الصحيح لا تكون هي
مصب ومركز المسئولية والتبعة ، وإلا لزم إمكان ثبوت تبعات إلى ما لا نهاية لأن كل
واحدة منها أيضا باعتبار ثان طولي لها نسبة وإضافة إلى الفاعل متسلسلا بناء على
معقولية التسلسل في الأمور الاعتبارية حتى لو كانت واقعية ، مع ان الوجدان قاض
بعدم وجود أكثر من مسئولية واحدة تجاه الفعل.
وثانيا
ـ لو فرض ثبوت
التعدد بين الإضافة والفعل المضاف فلما ذا لا يكون المتجري مستحقا للعقاب باعتبار
انه قد صدر منه قبيح لأن هذه النسبة والإضافة أمر اختياري للفاعل أيضا.
٤ ـ ان القبح
الفعلي يتعلق بالفعل بعنوان الأولي والقبح الفاعلي يتعلق به بالعنوان الثانوي
ككونه إقداما على المعصية أو الظلم مثلا.
وفيه
: أولا ـ انا لا نسلم تعلق القبح حتى في المعصية بالعنوان الأولي بل
الثانوي بالنحو المقدم شرحه.
وثانيا
ـ لو سلم تعلق القبح
بالعنوان الثانوي في موارد التجري والأولي في موارد العصيان ، فلما ذا يستوجب ذلك
عدم استحقاق العقاب على التجري طالما هو فعل صادر من المكلف خارجا بعنوان قبيح
اختيارا.
فهذا المسلك على
جميع محتملاته لا يمكن المساعدة عليه.
ثم انه بهذه
المناسبة لا بأس بالتعرض لمسألة الحسن والقبح العقليين ومسالك القوم وأثر تلك
المسالك في محل الكلام فنقول : هناك نزاعان في باب الحسن والقبح.
أحدهما
ـ النزاع الأشعري المعروف وهو نزاع في كون الحكم بالحسن أو
القبح عقليا أو شرعيا. وهذا خارج عن محل الكلام.
الثاني
ـ النزاع بين عموم الفلاسفة والمحققين بعد الفراغ عن ان مسألة
التحسين والتقبيح عقلية لا شرعية في تشخيص هوية هذه القضايا ونوعها في قائمة
الصناعات الخمس من المنطق. وهذا النزاع هو المقصود بالبحث في المقام. فنقول هناك
مسلكان واتجاهان في تشخيص هوية قضايا الحسن والقبح العقليين.
المسلك
الأول ـ انها قضايا واقعية دور العقل فيها دور المدرك الكاشف على حد
القضايا النظرية
الأخرى ، غاية الأمر : ان هذه القضايا قضايا واقعية تحققها بنفسها لا بوجودها
الخارجي نظير مقولات الإمكان والاستحالة والامتناع من مدركات العقل النظريّ هذا هو
المجمل ، وتفصيل الحال في المقام ان هنا مطلبين :
أحدهما
ـ حسن الفعل وقبحه. والآخر : استحقاق العقاب. وقد يختلط
أحدهما بالاخر فيتصور ان أحدهما عين الآخر فالقبح ما يستحق فاعله الذم والعقاب
والحسن ما يستحق عليه المدح والثواب إلا ان هذا خطأ ، فان الحسن والقبيح معناها ما
ينبغي أن يقع وما لا ينبغي كأمرين واقعيين تكوينيين من دون جاعل ، وحينئذ تارة
يطبق ذلك على فعل الإنسان نفسه فيقال انه ينبغي في نفسه أولا ينبغي ، وأخرى يطبق
على فعل الآخرين ومواقفهم تجاه فاعل القبيح فيقال ان عقابه أو ذمه مما ينبغي أو لا
ينبغي ، فاستحقاق العقاب والثواب تطبيق اخر لنفس الأمر الواقعي المدرك على مواقف
الآخرين تجاه فاعل الفعل الحسن أو القبيح فهناك قضيتان لا قضية واحدة.
اما
القضية الأولى ـ فانهم أرجعوها إلى قضية
قبح الظلم وحسن العدل ، ولكن هذه القضية رغم صحة مضمونها فيها خطأ منطقي فان قضية
الظلم قبيح يعني انه لا ينبغي والظلم عبارة عن سلب ذي الحق حقه ، وهذا يعني افتراض
ثبوت الحق في موضوع القضية وهذا الحق ليس جعليا إذ الكلام في مدركات العقل العملي
التي هي أمور واقعية بحسب هذا المسلك ، وهذا الحق الواقعي لا معنى له إلا أن يرجع
إلى ما ينبغي فعله وما لا ينبغي ، وهذا يعني ان الحكم بعدم الانبغاء مأخوذ في
الظلم الواقع موضوعا لقضية الظلم قبيح أي لعدم الانبغاء فتكون القضية بشرط المحمول
، فلا يمكن أن تكون هذه القضية إلا تجميعا للقضايا الأولية وإشارة إليها ، وإلا
فالصحيح أن يقال مثلا الخيانة قبيحة والكذب قبيح وهتك المولى قبيح وهكذا.
واما
القضية الثانية ـ فقد جعلوها عين القضية
الأولى ، وقد عرفت انها قضية أخرى موضوعها فعل العقلاء ومواقفهم تجاه من صدر منه
القبيح.
ثم ان القضية الأولى
ـ الفعل القبيح ـ قد يقع الخطأ في تشخيصه ، وهذا الخطأ قد يكون بنحو التضييق وقد
يكون بنحو التوسعة ، ونقصد بالخطإ بنحو التضييق أن يتصور عدم ثبوت القبح مع ثبوته
، والخطأ بنحو التوسعة بالعكس. وعلى كلا
التقديرين قد يكون
الخطأ في الكبرى بمعنى انه لا يرى حسنا وقبحا في مخالفة شخص أصلا أو في حالة معينة
كحالة عدم البيان مثلا ، وقد يكون في الصغرى بأن يشتبه فيتصور ان فلانا هو المنعم
عليه وليس كذلك أو بالعكس. والسؤال هنا ـ هل هذا الخطأ بأحد هذه الأقسام الأربعة
يوجب ارتفاع القبح عن الفعل وكون المكلف معذورا عقلائيا أم لا؟.
والجواب ـ هو
التفصيل بين الخطأ في الكبرى والخطأ في الصغرى ، فانه في الأول لا يمكن افتراض أخذ
العلم بالقبح كبرويا في موضوع القبح لاستلزامه أخذ العلم بشيء في موضوعه وهو
مستحيل لأنه دور أو خلف ولا يقاس ذلك بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول الّذي
اخترنا إمكانه ، لأن هذا انما يعقل فيما إذا كان هناك امران جعل ومجعول كما في
الإنشائيات فيمكن أخذ العلم بالإنشاء في موضوع المنشأ واما الأمور الواقعية نفس
الأمرية فليست الا مطلبا واحدا ولا يعقل أخذ العلم بها في ثبوتها بل لا بد من
افتراض واقعيتها وثبوتها مع قطع النّظر عن العلم بها ، فمن تصور عدم ثبوت كبرى
المولوية وقبح المخالفة لشخص إطلاقا أو في مورد ـ كمن يقول بقاعدة قبح العقاب بلا
بيان ـ كانت المخالفة الصادرة منه قبيحة واقعا وإن كان مخطئا ـ بنحو التضييق ـ وغير
عالم به ، لعدم إمكان أخذ العلم بذلك في موضوع القبيح ، وكذلك من يخطئ بنحو
التوسعة فيعتقد مولوية الجار مثلا وثبوت حق الجوار وهو مخطئ.
نعم في الخطأ بنحو
التضييق الكبروي نلتزم بعدم ثبوت القضية الثانية وهي استحقاق العقوبة بشهادة
الوجدان العقلي والعقلائي بمعذورية المخطئ المذكور فيستكشف أخذ العلم بقبح الفعل
في موضوع هذه القضية ، ولا إشكال فيه بعد أن عرفت انها قضية أخرى وفي موضوع آخر هو
فعل العقلاء فلا مانع من أن يؤخذ فيه علم الفاعل بقبح فعله وإلا لما استحق العقاب
والذم منهم.
كما انه في الخطأ
بنحو التوسعة كبرويا نلتزم بثبوت قبح اخر طولي لا بعنوان انه خالف مولاه واقعا
ليقال بأنه مخالفة من تخيل انه مولاه بل بعنوان الإقدام على مخالفة مولاه ، وذلك
بشهادة حكم الوجدان الّذي تقدمت الإشارة إليه من اعتبار مثل هذا الفاعل مرتكبا
لعمل قبيح ومذموم عند العقلاء ، وبما ان هذا القبح لا يمكن أن يكون
هو نفس القبح
الأولي المحفوظ في موارد عدم الخطأ فلا محالة يستكشف كونه قبحا ثانويا طوليا .
واما الخطأ في
الصغرى ، فالصحيح أخذ العلم وعدم الخطأ فيها في موضوع القبح ، فمن تخيل ان زيدا
ليس هو الّذي أنعم عليه ، أو تخيل ان هذا ليس بحرام عند الله تعالى ـ وهذا من
الخطأ بنحو التضييق ـ أو تخيل ان زيدا قد أنعم عليه أو ان هذا حرام عند الله تعالى
ـ وهو التجري والخطأ بنحو التوسعة ـ لا يكون ارتكابه في الأول قبيحا ولا مستحقا
للعقاب وفي الثاني قبيح يستحق عليه العقاب ، لأن العلم بالصغرى مأخوذ في موضوع
الحكم بالقبح بمخالفة المولى ، بل هو تمام الموضوع فيه ـ كما تقدم في التصور
__________________
الثاني ـ فإذا
تخيل العدم ارتفع وإذا تخيل الثبوت ثبت القبح ولو لم تكن الصغرى في الواقع ثابتة.
ودليلنا على الأول
حكم الوجدان بان أكبر الناس وأكثرهم أخلاقية أيضا قد يفرض له الخطأ في الصغرى بنحو
التضييق فيخالف مولاه خطا ولا قبح في ذلك.
وعلى الثاني ما
تقدم من ان حق المولى انما هو من أول الأمر حق أن لا يهتك وذلك بارتكاب ما يقطع
بأنه مخالفة لا خصوص المخالفة الواقعية.
وهكذا نستنتج :
انه قد يثبت في مورد القبح بالعنوان الأولي الواقعي فقط كما في المخطئ في الكبرى
بنحو التضييق وهذا لا عقاب عليه ، وقد يثبت القبح بالعنوان الثانوي فقط وهو المخطئ
في الكبرى بنحو التوسعة إذا خالفها ، وقد يثبت كلا القبحين وذلك فيمن لم يخطئ في
الكبرى وقد خالف قطعه بالحكم ـ سواء كان قطعه بالحكم معيبا وهو المعصية أو مخطئا
وهو التجري لأن القطع بالصغرى مأخوذ في الكبرى بحسب الفرض ـ لأن لازم ما ذكرناه من
وجود قبح ثانوي طولي بعنوان مخالفة المولوية المقطوع بها غير القبح الأولي الواقعي
ان يكون في حالة الإصابة بلحاظ الكبرى قبحان قبح أولي ثابت ثبوتا واقعيا لا يمكن
أن يكون العلم به مأخوذا فيه ، وقبح ثانوي بعنوان الإقدام على مخالفة المولى.
ومن هنا يظهر ان
صاحب التصور الثالث أي من يقول بان مخالفة التكليف واقعا من حيث الصغرى دخيلة كجزء
الموضوع في القبح زائدا على القطع بها لا بد وان أن يلتزم بالفرق بين المتجري والعاصي
في درجة القبح ، وإلا فلو سلم وجدانا عدم الفرق بينهما في درجة القبح كان لا بد له
التنازل عن الوجه الثالث واختيار الثاني الّذي هو الصحيح والمختار. وما ذكرناه
هناك من إلزامه بالقبح حتى على التصورين الأول والثاني كان جدليا مبنيا على
المصطلحات المشهورة في قبح الظلم وحسن العدل ، واما حيث حللناها بالنحو المذكور
فلا بدّ من الرجوع إلى التصور الثاني لأن قبح الإقدام على المعصية إن كان غير
القبح الأولي لزم صدور قبحين من العاصي وإن كان نفس قبح الظلم فلا بدّ من افتراض
ان موضوعه يشمل القاطع أي ان تمام موضوعه القطع وهو التصور الثاني.
المسلك
الثاني ـ هو المسلك الّذي يدعي أصحابه بان الحسن والقبح من القضايا
المشهورة الداخلة في صناعة الجدل لا القضايا البرهانية. وهناك فرضيتان لتفسير هذا
المسلك.
الفرضية
الأولى ـ ما يتراءى من كلمات السيد الأستاذ في شرح هذا المسلك ، وهو
يرجع إلى دعوى ان الحسن والقبح قضية إنشائية من قبل العقلاء لا خبرية ، فهي على حد
ساير المجعولات العقلائية غاية الأمر قد تطابق العقلاء عليها باعتبار إدراكهم
للمصالح والمفاسد من ورائها. ومثل هذه الفرضية أيضا مدعى من فسر الحسن والقبح
بأنهما موقفان عقلائيان عمليان مدحا أو قدحا.
إلا ان هذه
الفرضية لا تنطبق على كلمات أصحاب هذا المسلك من الحكماء ، فانهم يصرحون بان
المشهورات قضايا مقرونة بالتصديق الجازم كالقضايا الضرورية غاية الأمر ان التصديق
الجازم في الضروريات مضمون الحقانية بخلافه هنا ، ومن الواضح ان فرض التصديق الجازم
يستلزم افتراض القضية خبرية تصديقية لا إنشائية جعلية.
ثم ان هذه الفرضية
أعني دعوى ان قضايا الحسن والقبح مجعولات عقلائية قد يكون مبررها دعوى ثبوتية هي
إقامة البرهان على استحالة كونها قضايا خارجية ، لأنها لو كانت كذلك لاحتاجت إلى
محل تعرض عليه كما في البياض مثلا مع وضوح ان الفعل الحسن أو القبيح قبل وجودهما
متصفان بذلك.
والجواب حينئذ ما
تقدم مرارا من ان لوح الواقح أوسع من لوح الوجود.
وقد يكون مبررها
دعوى إثباتية حاصلها : انا لا ندرك شيئا آخر في الخارج وراء المصلحة والمفسدة في
الأفعال ، نعم نجد ذم العقلاء ومدحهم تبعا للمفسدة والمصلحة.
وقد حاول السيد
الأستاذ النقض على هذه الدعوى بأنها لو كانت قضايا مجعولة من قبل العقلاء فما شأن
العاقل الأول قبل وجود العقلاء وتشريعاتهم فانه ينبغي أن يقال بعدم قبح الظلم وحسن
العدل في حقه مع انه خلاف الوجدان ، فلا بدّ وأن تكون هذه القضايا واقعية.
ولكن هذا الكلام
لا بد من إرجاعه إلى تكذيب وجداني للشبهة من ان هناك من
وراء مواقف
العقلاء قضايا واقعية يدركها العقل العملي هي قضايا الحسن والقبح وإلا فان أريد
إقامة البرهان على الخلاف فمن أين يعرف حال العاقل الأول وانه كان يدرك الحسن والقبح
أولا؟ فلعل إحساسنا بهذا الوجدان من تأثير بناء العقلاء.
والصحيح : بعد
وجدانية ان قضايا الحسن والقبح ليست مدركة على أساس انها تشريعات لمواقف اعتبارية
عقلائية ، ان هذه الفرضية تربط بين القبح والحسن والمفسدة والمصلحة وتجعل إدراك
الأخيرين سببا لجعل الأولين وهذا لا ينسجم مع الوجدانات الأخلاقية في باب الحسن
والقبح لأنها تبرهن على انهما باب مستقل ومفصول عن باب المصلحة والمفسدة ، ولهذا
كان التجري قبيحا رغم عدم المفسدة في نفس الفعل وهناك كثير من موارد الحسن والقبح
قد لا يكون في الفعل مفسدة أو مصلحة ، ومما ينبه إلى هذا عدم إجراء باب التزاحم
بين القبيح والمصلحة أو الحسن والمفسدة ، فالظلم لا يكون حسنا مهما ترتب عليه
مصلحة والعدل لا يكون قبيحا مهما نتج منه ضرر وخسارة خارجا طالما هو عدل.
الفرضية
الثانية ـ ان الحسن والقبح قضايا مشهورة بمعنى انها تصديقات جازمة
ولكن غير مضمونة الحقانية ، أي ليس التصديق الجازم فيها ناشئا من أحد المناشئ في
القضايا المضمونة التي حصروها في القضايا الست الأولية المعروفة في المنطق ، فان
إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ليس من المدركات الأولية لا للعقل ولا للحس ولا
للوهم ، وانما يحصل التصديق الجازم بها نتيجة التأديب والتربية الاجتماعية
العقلائية. وقد صرح ابن سينا بان الإنسان لو خلق فريدا وحيدا لما أدرك بعقله حسن
العدل أو قبح الظلم.
وتقريب عدم كونها
من القضايا الأولية المضمونة مبني على تشخيص الميزان في كون قضية أولية أم لا ،
وهذا الميزان يمكن أن يجعل أحد امرين.
١ ـ ان القضية
الأولية هي التي تكون جهة القضية ضرورية أي ضرورية المدرك لا الإدراك نفسه ، فان
القضية إذا كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة كما في الأربعة زوج قضية أولية
مضمونة الحقانية.
وهذا الميزان
منطبق في قضايا العقل العملي فان العدل حسن بالضرورة والظلم
قبيح كذلك ، على
ان الميزان ليس بصحيح لأنه لا ينطبق على أكثر ما اعتبروه من القضايا الأولية الست.
٢ ـ ان الضرورة
تلحظ بالنسبة إلى الإدراك نفسه لا المدرك ، فمتى ما كان إدراك قضية ناشئا من حاق
القوة العاقلة لا بأسباب غير عقلائية كالفرح والغضب والعاطفة والتلقين كانت القضية
ضرورية.
وهذا الميزان يدعى
عدم انطباقه على قضايا الحسن والقبح اما للقطع أو احتمال أن تكون هذه القضايا
نتيجة تلقين العقلاء وتأديبهم لنا ـ كما يشعر بذلك كلام ابن سينا المتقدم ـ واما
لأنا بسير القضايا الست وملاحظتها لا نجد ان شيئا منها يمكن أن ينطبق على المقام ،
لأن ما يحتمل أن تندرج فيه هذه القضايا العملية من تلك القضايا الست انما هو
الأوليات والفطريات لا التجربيات والمتواترات والحسيات والمشاهدات ، والفطريات هي
ما يكون قياسها مستبطنا في القضية كما في قولك الأربعة زوج باعتبارها تنقسم إلى
متساويين ، وهذا من الواضح عدم انطباقه على العدل حسن والظلم قبيح لعدم استبطان
برهان فيهما والأوليات ما يكون مجرد إدراك الطرفين والنسبة فيها كافيا للتصديق
الجازم بها ، وهذا أيضا غير منطبق عليهما بدليل وقوع الاختلاف فيهما من قبل الناس
مع ان الأوليات لا يقع فيها اختلاف لكون تصور أطرافها كافيا للتصديق بها.
وكلا الدعويين
والتطبيقين مما لا يمكن المساعدة عليهما :
اما
الأول ـ فبأنه لو فرض القطع أو احتمال كون منشأ قضايا الحسن والقبح
التلقين لزم من ذلك زوال التصديق عندنا بمجرد الالتفات إلى ذلك مع انه خلاف الوجدان
وخلاف تصريحهم واعترافهم بكونها قضايا فيها تصديق جازم ، إلا أن يقصدوا انها جازمة
عند غيرهم.
واما
الثاني فممنوع كبرى
وصغرى.
اما الكبرى ، فلان
القضية الأولية النابع إدراكها من حاق القوة العاقلة لا يلزم فيها تطابق الناس على
إدراكها لأن القوة العاقلة لا تكون بدرجة واحدة عند الجميع بل تكون ذات مراتب
مشككة كما هو الحال في القوة الحسية ، فكما لا يشترط في حسية
القضية إحساس الكل
بها حتى من يكون بصره مثلا ضعيفا كذلك الحال في القوة العاقلة. أضف إلى ان ارتباط
قضايا الحسن والقبح كثيرا بمواقف الناس ومساسها بمصالحهم وعواطفهم يجعلها في معرض
التشكيك فيها والتكذيب لها خلافا للقضايا النظرية البحتة ، فلا يكون الاختلاف
فيهما اختلافا موضوعيا حقا.
واما منع الصغرى ،
فنحن ندعي انه لا خلاف بين العقلاء في كبريات ومقتضيات الحسن والقبح وانما الخلاف
والنقاش في صغرياتها أو في موارد التزاحم بين مقتضياتها ، على ما سوف نعود إلى
الحديث عن ذلك في بعض البحوث القادمة.
ثم انه على ضوء ما
تقدم في مسلكنا لإثبات قبح التجري لا يختلف الحال بين المسلكين ، أي بين أن تكون
قضايا العقل العملي مضمونة الحقانية أم لا طالما هي قضايا مصدقة. نعم لو قيل بالفرضية
الأولى في تفسير المسلك الثاني من انها قضايا مجعولة فالامر يتبع حينئذ مقدار ما
هو المجعول فقد تجعل القضية بنحو تكون مخصوصة بموارد المعصية ولا تعم التجري.
هذا كله فيما هو
التحقيق في مسألة قبح التجري عقلا.
واما البراهين
والكلمات التي ذكرها الأصحاب لإثبات عدم قبح الفعل المتجري به ففيما يلي نتعرض
لأهمها مع مناقشتها.
البرهان
الأول ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) في حاشيته على الرسائل من
انه يستحيل اتصاف التجري بالقبح لأن القبح والحسن لا يتصف بهما الفعل إلا إذا كان
اختياريا ، واختيارية أي عنوان فرع أن يكون ذلك العنوان مصبا لإرادة الإنسان وشوقه
المؤكد المستتبع لتحريك العضلات وفي موارد التجري كمن شرب ماء بتخيل انه خمر توجد
ثلاثة عناوين ، شرب الخمر ، وشرب الماء ، وشرب مقطوع الخمرية ، والأول منها غير
متحقق بحسب الفرض والثاني ليس بقبيح في نفسه ولو صدر عن إرادة والثالث ليس
باختياري ، لأن المتجري كان قد تعلقت إرادته بشرب الخمر لا بشرب مقطوع الخمرية.
والمحقق الأصفهاني
( قده ) أورد عليه بنقضين وأجاب عن كل منهما :
النقض
الأول ـ ان لازمه لو شرب الخمر لا لشوق وإرادة له بما هو خمر بل بما
هو بارد
مثلا فلا يكون
شربه للخمر اختياريا لأنه لم يكن يقصده وانما قصد التبريد.
وأجاب : بأنه
باعتبار توقف التبريد على شرب الخمر فسوف تترشح إرادة غيرية نحوه أيضا فيكون
اختياريا.
ولكن هذا الجواب
واضح القصور ، إذ يمكن للناقض تبديل نقضه بما إذا كان فعل الحرام معلولا أو ملازما
للمراد لا علة له ليقال بترشح إرادة غيرية عليه كما إذا كان غرضه إيصال الكهرباء
للتجربة وهو يعلم انه يؤدي بالنتيجة إلى هلاك مؤمن.
النقض
الثاني ـ لو تعلقت إرادته بالجامع بين الحرام وغيره كما لو توقف علاج
مرضه على شرب المائع فطبقه على الخمر لا يكون صدور الحرام منه اختياريا.
وأجاب عنه على ضوء
مسالكه الفلسفية من انه إذا تعلقت الإرادة بالجامع فتطبيقه على فرد لا يكون إلا
لمرجح فيه وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فتكون الخصوصية المرجحة مرادة لا محالة.
وفيه ـ انه قد
يفرض اختيار الخمر لأن المائع منحصر فيه لا ان فيه مرجح ، وقد يفرض ان المرجح موجود
ولكنه ليس هو خصوصية الخمرية بل خصوصية أخرى ملازمة.
والتحقيق : ان
المحقق الخراسانيّ تارة يدعي ان إرادة أحد المتلازمين لا تسري إلى ملازماته ،
وأخرى يفترض انه من القائلين بالسراية قياسا للإرادة التكوينية على التشريعية التي
ادعى فيها ذلك.
فعلى الأول ترد النقوض
المذكورة ولا مخلص عنها إلا برفع اليد عن مبانيه الفلسفية في باب الاختيار فان
الاختيار ليس بمعنى تعلق الإرادة والشوق بل بمعنى كون الفعل صادرا عن سلطنة الفاعل
بحيث كان له أن يتركه وهذا يكفي فيه مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة
كان له أن يمتنع عنه على ما تقدم شرحه مفصلا في موضعه من بحوث الطلب والإرادة.
وعلى الثاني ،
فالنقوض كلها مدفوعة لأنه في تمام تلك الموارد يكون الحرام متعلقا للإرادة
بالاستلزام ولو لأجل انحصار المراد به ، وهذا غير جار في المقام أعني التجري لأن
شرب مقطوع الخمرية لا يلازم شرب الخمر بل مباين معه بدليل انه شرب مقطوع
الخمرية ولم يشرب
الخمر. وإن شئت قلت : ان متعلق الإرادة هو شرب الخمر وشرب الخمر واقعا أعم من شرب
مقطوع الخمرية إذ قد يتحقق ذلك بلا قطع بخمريته وقصد الأعم لا يستلزم قصد الأخص .
ولكن يرد أيضا على
هذا الاحتمال.
أولا
ـ عدم تمامية المبنى في معنى اختيارية الفعل كما تقدم على
الشق الأول.
وثانيا
ـ عدم تمامية مبنى
استلزام إرادة شيء لإرادة لوازمه وملازماته كما لم يعترف بذلك صاحب الكفاية نفسه
في الإرادة التشريعية.
وثالثا
ـ لو سلم المبنيان اتجه النقض بالتجري في الشبهة الحكمية كما
لو اعتقد حرمة شرب التتن فشربه ، فان عنوان شرب معلوم الحرمة يكون أعم حينئذ من
شرب التتن عند العالم بحرمته فيكون إرادة الأخص إرادة له بالاستلزام.
ورابعا
ـ حتى التجري بنحو الشبهة الموضوعية قد يتعلق فيه غرض شخصي
بشرب معلوم الخمرية فيكون اختياريا لا محالة.
وخامسا
ـ ان التجري في شرب معلوم الخمرية اما أن يفترض فيه صدور
حيثية من الفعل الخارجي عن الفاعل بالاختيار أو يدعى عدم صدور فعل اختياري منه
أصلا ، اما الثاني فهو رجوع إلى البرهان الثالث المتقدم ، واما على الأول فتلك
الحيثية الصادرة منه بالاختيار لا محالة ملازمة لعنوان شرب معلوم الخمرية قطعا
فبناء على الاستلزام تسري الإرادة إليه أيضا.
البرهان
الثاني ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أيضا وهو برهان غالبي لا
دائمي
__________________
ويتألف من مقدمتين
:
الأولى
ـ ان الالتفات إلى العنوان شرط في اختياريته وهذا مطلب صحيح
حتى على مبنانا في الاختيارية.
الثانية
ـ ان عنوان مقطوع الخمرية لا يلتفت إليه غالبا في مقام العمل
لأن القطع ينظر إليه بنظر آلي لا استقلالي اذن فلم يصدر منه شرب مقطوع الخمرية
بالاختيار والإرادة لكي يكون قبيحا.
وأورد عليه المحقق
النائيني ( قده ) : بان لازمه أن لا يعقل أخذ القطع موضوعا لحكم شرعي لاستحالة
وصول ذلك الحكم وتنجزه حينئذ لأن تنجز الحكم فرع الالتفات إلى موضوعه والمفروض أخذ
القطع فيه وهو لا يلتفت إليه.
ولكن هذا الإيراد
غير متجه ، لأن صاحب الكفاية ( قده ) لم يدع انه يستحيل الالتفات إلى القطع نفسه وانما
ادعى انه في موارد القطع الطريقي الّذي يكون غرض القاطع في المقطوع به فتمام نظره
والتفاته إلى المقطوع به لا إلى القطع نفسه ، واما لو تعلق الغرض بنفس القطع فلا
محذور في الالتفات إليه كما في موارد القطع الموضوعي الّذي يكون غرض المكلف إحراز
نفس القطع الموضوع للحكم.
والصحيح في
الإجابة على هذا البرهان أن يقال :
أولا
ـ الالتفات المرآتي الآلي إلى القطع كاف في الاختيار ، لأن
المقصود من الالتفات ما يقابل الغفلة المطلقة التي تنافي السلطنة والاختيار لا
خصوص الالتفات التفصيليّ.
وثانيا
ـ ان الفاعل كما
يحسب حساب العناوين الأولية التي يتعلق بها غرضه كذلك يلتفت إلى العناوين التي سوف
تنطبق على فعله وتكون مانعة عن أغراضه وفي المقام المكلف المتدين لا محالة يلتفت
إلى كون الفعل مقطوع الحرمة وتكون حرمته منجزة عليه أم لا لأن غرضه متعلق بعدم
عصيان المولى.
البرهان
الثالث ـ أن في موارد التجري في الشبهة الموضوعية لا يوجد فعل صادر
من المكلف اختيارا أصلا فيكون حال من شرب الماء بتخيل انه خمر حال النائم الّذي
يشرب الخمر ، وذلك لأن ما قصده وهو شرب الخمر لم يقع منه خارجا وما وقع وهو
شرب الماء لم
يقصده ولم يرده لكي يكون فعلا اختياريا له.
ثم أشكل على نفسه
بأنه لو ادعي : ان الجامع بين ما وقع وما قصد وهو شرب مقطوع الخمرية كان مقصودا له
فيكون قد صدر منه بالاختيار.
أجبنا عليه : بأن
الجامع له حصتان حصة في ضمن الخمر الواقعي وحصة في ضمن الماء المتخيل كونه خمرا ،
وإرادة القاصد للجامع انما تكون إرادة ضمنية أي إرادة للحصة المتضمنة في الفرد
المراد وهي الحصة الأولى وهي لم تقع وانما الّذي وقع الحصة الثانية وهي لم تكن
مقصودة لا استقلال لا ضمنا.
ولنا هنا كلامان :
الأول
ـ نقض طريف ، حيث ان لازم هذا التحليل جواز ارتكاب المعصية في
موارد يتعلق قصد العامي ببعض افراد الحرام ويكون الواقع فردا اخر منه ، كما إذا
كان يريد شرب الخمر العنبي فجيء له بخمر تمري فانه لم يصدر منه فعل اختياري أصلا
ليكون محرما أو قبيحا ومثل هذا واضح الفساد.
الثاني
ـ ان بداهة الوجدان تحكم بالفرق بين فعل المتجري وفعل النائم
، وهذا بنفسه ينبغي أن ينبهنا إلى أحد امرين طوليين.
أحدهما
ـ أن نرفع اليد عن المبنى الفلسفي في الاختيارية ونختار ما هو
الصحيح من كفاية الالتفات والتوجه إلى العنوان المتحقق في الخارج بفعل الإنسان في
صيروريته اختياريا يتحمل الفاعل مسئوليته وتبعات إيجاده عقلا وشرعا.
ثانيهما
ـ أن يلتزم بأن الفرد الخارجي صادر منه اختيارا بعد أن طبق
مراده عليه وشخصه فيه ، فتحركه نحو إيجاد ذلك الفرد المشخص بإرادته واختياره سواء
كان تشخيصه مطابقا للواقع أم لا.
البرهان
الرابع ـ انه لو فرض قبح التجري لزم قبح الفعل ولو صادف مصلحة مهمة
لازمة للمولى ، كما إذا أنقذ ابن المولى بتصور انه عدوه مع ان كونه محبوبا للمولى
من الواضحات ، فحينئذ أن التزم بقبح الفعل المتجري به مع كونه محبوبا للمولى
ومطلوبا لزم اجتماع الضدين.
وفيه
: انه خلط بين باب
الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة والحب
والبغض ، فان
الفعل هنا وإن كان فيه مصلحة أو حب ولكنه ليس بحسن بل قبيح.
العقوبة على التجري
المقام
الثاني ـ في استحقاق العقاب على التجري وقد اتضح مما تقدم ان قضية
استحقاق العقاب غير قضية قبح الفعل بل قضية ثانية مترتبة على الأولى والصحيح ان
المتجري يستحق العقاب على الفعل المتجري به عقابا تأديبيا من العقلاء وعقابا
قصاصيا من قبل المولى لأنه قد سلب حقه الّذي تقدم ان موضوعه الجامع بين العصيان
والتجري وهذا مطلب مستنبط مما تقدم في المقام الأول.
وانما عقدنا له
مقاما مستقلا باعتبار انهم تعرضوا إلى وجوه مستقلة لإثبات استحقاق المتجري للعقاب.
وقد ذكر المحقق
النائيني ( قده ) أن السيد الشيرازي الكبير ( قده ) قد ذكر برهانا على استحقاق
المتجري للعقاب مركبا من أربع مقدمات ، ولكن الأولى والثانية منهما لا ربط لهما
بالمقام على ما يظهر لمن يراجعهما والثالثة والرابعة كل منهما يصلح أن يكون برهانا
مستقلا نذكرهما فيما يلي مع إضافة الوجه المذكور في الرسائل فتكون البراهين على
استحقاق المتجري للعقاب ثلاثة :
البرهان
الأول ـ وهو المقدمة الثالثة من برهان الشيرازي ( قده ) وحاصله : ان
المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو ارتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما
يكون مخالفا واقعا ، فالمهم اذن هو العلم بالتكليف لا إصابة ذلك العلم للواقع وإلا
لتعطلت الأحكام حيث لا يمكن إحراز الإصابة في مورد ، وعليه فالمتجري والعاصي على
حد واحد من حيث توفر مناط استحقاق العقوبة فيهما.
وأورد عليه المحقق
النائيني ( قده ) : بالفرق من ناحية ان المتجري ليس بعالم حقيقة لأن علمه جهل مركب
في الواقع. وهذا الإيراد مع أصل البرهان كلاهما غير تام.
اما أصل البرهان ،
فلأننا ننكر أن يكون العلم بالتكليف هو المناط بل نختار ان الإصابة للواقع هي
المناط وهي محرزة لدى القاطع والمتجري معا ، لأن القاطع يرى
قطعه مطابقا
للواقع فهو دائما يحرز التكليف ويرى نفسه مستحقا للعقاب على تقدير المخالفة فلا
يلزم تعطيل الأحكام.
واما الإيراد ،
فلان الميرزا الشيرازي ( قده ) يريد دعوى ان المصادقة غير دخيلة بل تمام المناط
بحكم العقل القطع بالواقع وعبر عنه بالعلم وليس النّظر إلى المصطلحات المنطقية لكي
يقال ان هذا جهل مركب وليس بعلم.
والبرهان
الثاني ـ وهو المقدمة الرابعة في كلام الميرزا الشيرازي ( قده ) ان
الميزان في استحقاق العقوبة اما القبح الفعلي أو الفاعلي ، والأول واضح البطلان إذ
يلزم استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعا باعتقاد انه خل ، فيتعين الثاني وهو في
التجري والعاصي على حد سواء.
وأورد عليه
الميرزا ( قده ) بان هناك احتمال ثالث وهو أن يكون الميزان في استحقاق العقوبة هو
القبح الفاعلي الناشئ من قبل القبح الفعلي ، أو بعبارة أخرى : مجموع القبحين فتكون
التفرقة بين العاصي والمتجري صحيحة بلا لزوم النقض.
والتحقيق : ان أصل
البرهان مع رده مبنيان على انقسام القبح إلى فعلي وفاعلي وقد عرفت ما فيه مفصلا
فلا نعيد.
البرهان
الثالث ـ ما ذكره الشيخ ( قده ) في الرسائل ، من ان عدم استحقاق
المتجري للعقوبة معناه ان سبب العقاب في العاصي إصابة قطعه للواقع وإلا فلا فرق
بينه وبين المتجري من سائر الجهات ، والإصابة وعدمها امر غير اختياري فكيف يمكن أن
تناط به العقوبة؟.
وأجاب عنه بما
يرجع إلى التفكيك بين المقتضي للاستحقاق والمانع عنه ، فالمقتضي يجب أن يكون امرا
اختياريا واما المانع فلا يلزم فيه ذلك لوجود أمور مانعة غير اختيارية كالعجز مثلا
، وعليه فالمقتضي في المقام للاستحقاق هو التصدي للمعصية وهذا اختياري للمتجري
والعاصي معا واما عدم المصادقة فهو مانع عن استحقاق العقوبة ولا ضير في كونه غير
اختياري.
وإن شئت تقريب هذا
البيان بوجه فني قلت : ان استحقاق عقاب من صادف قطعه الواقع ليس مستندا إلى ما هو
خارج عن اختياره ولو فرض اختصاص العقاب به
كما إذا قيل
باختصاص حق الطاعة للمولى بموارد أحكامه وتكاليفه الواقعية فقط.
وتوضيح ذلك : ان
الفعل لعدمه أبواب متعددة لا بد وأن تنسد كلها حتى يتحقق الفعل خارجا ، ولا يلزم
ان يكون سد كل تلك الأبواب للعدم والتي منها إصابة القطع للواقع اختياريا للفاعل
بل جملة منها قد تنسد بأسباب خارجة عن اختياره وانما يكلف إذا كان واحدا منها سده
باختياره وإلا فليس في العالم معصية لم ينسد على المكلف أي باب من أبواب عدمها لا
أقل من انسداد باب عدمها بعدم وجود الفاعل نفسه فانه بوجوده الّذي هو خارج عن
اختياره قد انسد هذا الباب.
حرمة التجري
المقام
الثالث ـ في حرمة التجري شرعا ، حيث قد يستدل عليها بإطلاقات الأدلة
الأولية تارة ، وقاعدة الملازمة أخرى ، والإجماع ثالثة ، والاخبار رابعة فنقول :
١ ـ التمسك
بالإطلاقات الأولية لحرمة التجري :
اما إطلاقات
الأدلة الأولية فقد يتوهم إمكان التمسك بها لإثبات حرمة التجري في الشبهة
الموضوعية أي الخطأ في التطبيق بتقريب مؤلف من ثلاث فقرات :
١ ـ ان الإرادة
والاختيار لا يتعلقان بالواقع بل بما يراه الفاعل واقعا ، فشارب الخمر دائما يريد شرب
مقطوع الخمرية لا الخمر الواقعي لأن المحرك نحو الفعل نفس القطع والإحراز لا
الواقع ولا إصابة القطع له ، ولهذا نجد الإرادة والتحرك في موارد التجري والجهل
المركب مع عدم وجود الخمر الواقعي ، بل تعلق الإرادة بالواقع غير معقول كما هو
مقرر في محله.
٢ ـ التكاليف انما
تكون من أجل المحركية والباعثية فمتعلقها بحسب الحقيقة إرادة الفعل واختياره.
٣ ـ لو كان متعلق
التكليف الإرادة والاختيار المتعلقين بالفعل بوجوده الواقعي أي الإرادة المصادفة
للواقع بما هي مصادفة للواقع كان تكليفا بالمحال فلا بدّ وأن يكون متعلق التكليف الإرادة
واختيار ما يراه الفاعل واقعا وهذا صادق في موارد التجري
على الفعل المتجري
به أيضا فيكون حراما.
والجواب :
أولا ـ هذا خلط
بين المراد التشريعي والمراد التكويني من التكاليف فان ما يقال من ان التكليف يجعل
بداعي المحركية والباعثية يعني ان المراد التكويني ومقصود الآمر من تكليفه أن
تنقدح الإرادة والشوق في نفس المكلف نحو ما كلف به لا ان التكليف والإرادة
التشريعية متعلق بالإرادة والاختيار.
وثانيا ـ لو فرض ان التكليف متعلق بالإرادة والاختيار فان كان قيد
إصابة الإرادة للواقع مأخوذا في متعلق التكليف بنحو قيد الواجب لزم محذور التكليف
بغير المقدور ، واما إذا أخذ فيه بنحو قيد الوجوب بان جعل إصابة قطعه للواقع شرطا
في التكليف فلا محذور في البين ولازم اختصاص التكاليف بموضوعاتها الواقعية انما هو
ذلك كما هو واضح.
ثم ان السيد
الأستاذ حاول الجواب على هذا الاستدلال بأمرين كلاهما لا يرجع إلى محصل .
اما الأول ـ فبالنقض
بالواجبات بدعوى : ان لازم ذلك من صلى مع القطع بدخول الوقت ثم بان خلافه لا بد
وأن تكون صلاته مجزية لتحقق المأمور به بالأمر الواقعي الأولي وهو اختيار ما قطع
بكونه صلاة في الوقت.
وفيه : إذا فرض
الواجب مضيقا كما إذا وجبت الصلاة في كل الوقت أو وجب إكرام كل عالم فتخيل ان زيدا
عالم فأكرمه ثم بان عدم كونه عالما فيلتزم فيه القائل بحرمة التجري بثبوت الوجوب
فيه وحرمة الترك ، وان فرض الواجب موسعا فتعلق التكليف بالإرادة المتعلقة بالفرد
الواقعي من الصلاة في الوقت مقدور في حقه لا محالة فلا يسقط التكليف عنه.
واما الثاني فالحل
بدعوى : ان الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها عند العدلية وهي
في الأفعال بوجوداتها الواقعية كما هو مقتضى ظواهر أدلتها أيضا.
__________________
وهذا الجواب من
الواضح انه لا يحل الإشكال شيئا فان المستدل يعترف بان ظاهر الخمر هو الخمر
الواقعي وانما كان يستفيد شمول الخطاب للتجري من باب ظهور كل تكليف في انه بداعي
التحريك والباعثية وان التكليف بإصابة القطع للواقع تكليف بغير مقدور لا يمكن أن
يتقيد التكليف بها وهذا نظير الاعتراف باشتراط القدرة وعدم التكليف في موارد العجز
رغم صدق عنوان الفعل فيها أيضا وتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في مذهب العدلية ،
فان كل ذلك لا ينافي مع اشتراط تعلق التكليف بالمقدور والفعل الصادر عن الاختيار.
٢ ـ التمسك بقاعدة الاستلزام
العقلي لحرمة التجري :
واما الاستدلال
على حرمة التجري بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فحاصله : انه قد ثبت في
مقام سابق قبح الفعل المتجري به عقلا فبناء على ان كل ما حكم العقل بقبحه ولزوم
تركه حكم به الشرع أيضا يثبت في المقام حرمة التجري شرعا.
والبحث عن صحة
صغرى هذا الاستدلال قد فرغنا عنه في المقام الأول المتقدم ويبقى الكلام عن صحة
الكبرى وصحة تطبيقها في المقام.
اما البحث عن
الكبرى وبشكل موجز يناسب المقام فقد ذكر المحقق الأصفهاني ( قده ) بان الملازمة
بين ما حكم به العقل حكم به الشرع بديهية واضحة باعتبار ان الشارع هو سيد العقلاء
ورئيسهم فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلا كان هو في طليعتهم وعلى رأسهم ، ومن
هنا ذكر ان التعبير بالتلازم مسامحة والأصح هو التعبير بالتضمن لاندراج الشارع في
العقلاء وضمن بناءهم الّذي هو مدرك هذه القضايا العملية.
وهذا الاستدلال
مما لا يمكن المساعدة عليه لما تقدم من ان الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في
لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود وليسا امرين تشريعيين وحكم العقلاء لا
يراد به سوى إدراكهم لهذه القضايا نفس الأمرية لا تشريعهم لها.
ثم لو فرض ذلك
جريا مع مشرب هؤلاء الحكماء فلا موجب لدعوى الملازمة بين حكمهم وحكم الشارع فضلا
عن التضمن لأن حكمهم انما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق المصالح التي يشخصونها
لحفظ نظامهم والشارع سبحانه خارج عن دائرة تلك المصالح فأي ملزم بأن يكون تابعا
لأحكامهم وللنظام الّذي يشخصونه لأنفسهم.
وقد يدعى في قبال
ذلك استحالة جعل حكم شرعي واستكشافه في مورد حكم العقل لأن حكم الشرع انما يكون
بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية بلزوم الإطاعة وقبح المعصية ، والمفروض
في المقام ان الحكم العقلي بالقبح ثابت منذ البداية فإذا كان محركا للعبد كفى وحصل
المقصود بلا حاجة إلى توسيط جعل شرعي وإلا فلا فائدة في جعله وتوسيطه في البين
لأنه وحده لا يكون محركا من دون حكم العقل بقبح المعصية.
وهذه الدعوى مع
أصل دعوى الملازمة كلتاهما باطلة.
أما الأولى فلان
إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن والقبح يوجب تحقق ملاك ثان للحسن والقبح
زائدا على الحسن والقبح الثابتين بالعنوان الأولي لذلك الفعل إذ يتحقق بذلك عنوان
وملاك جديد هو إطاعة المولى ومعصيته بحيث تكون مخالفته حينئذ ظلما له فيتأكد
الملاك العقلي ويتعدد فقد يكون محركا حينئذ للمكلف.
واما دعوى
الملازمة فبطلانها من جهة ان الشارع تارة يكون غرضه في مقام حفظ الفعل الحسن وترك
الفعل القبيح بنفس درجة الحافظية والمحركية الذاتيّة الثابتة في الفعل من ناحية
حسنة أو قبحه واستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب عليه ، وأخرى يكون غرضه في
حصول مرتبة أشد وأرفع من ذلك بحيث يكون له اهتمام أكبر ، فعلى الأول لا موجب لافتراض
إعمال المولى لمولويته وجعل حكم شرعي على وزان ذلك الحكم العقلي وانما يرشد إلى
حكم العقل ويؤكده. وعلى الثاني فلا محالة يتصدى من أجل مزيد الحافظية والاهتمام
إلى إعمال مولويته والأمر بذلك الفعل الحسن أو النهي عن الفعل القبيح شرعا. وتشخيص
هذه المرتبة من الاهتمام قد يكون على أساس استظهار من دليل شرعي أو على أساس
مناسبات ذوقية وعقلائية لا يمكن
التعويل عليها ما
لم تبلغ مرتبة الجزم واليقين. وهكذا يظهر انه لا برهان على أصل الملازمة.
واما البحث عن
إمكان تطبيق هذه القاعدة بعد الفراغ عن كبراها في المقام أو وجود مانع عن تطبيقها
فقد أفيد عدة محاولات للمنع عن ذلك.
المحاولة
الأولى ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من ان استكشاف خطاب شرعي
لحرمة التجري اما أن يفرض فيه انه نفس الخطاب الأولي بحيث يكون ذلك الخطاب من أول
الأمر يثبت الحرمة لشرب الخمر الواقعي والتجري في شرب الخمر مثلا ، أو يفرض انه
خطاب اخر ، وعلى الثاني فتارة يفترض ان الخطاب الثاني مخصوص بموارد التجري ، وأخرى
يفرض شموله لموارد التجري والعصيان معا فالفروض ثلاثة وكلها باطلة.
اما الأول فلان
حرمة الفعل المتجري به ناشئة بحسب الفرض من قبح التجري الناشئ من وصول حرمة شرب
الخمر الواقعي فيكون متأخرا عنها ولا يعقل أن يؤخذ المتأخر مع المتقدم في خطاب
واحد.
واما الثاني فلان
حرمة خصوص الفعل المتجري به يستحيل وصولها إلى المكلف لأن المتجري لا يرى نفسه
متجريا بل عاصيا فيكون جعله لغوا.
واما الثالث فلان
تحريم الجامع بين التجري والمعصية وإن كان قابلا للتنجز على المكلف إلا انه يكون
في نظر القاطع أخص مطلقا من حرمة الخمر الواقعي ، فان النسبة بين حرمة الخمر
الواقعي وحرمة مقطوع الخمرية واقعا وإن كانت العموم من وجه إلا انه بحسب نظر
القاطع الّذي يرى قطعه مصيبا للواقع دائما النسبة عموم مطلق فيلزم اجتماع المثلين
بحسب نظره وهو محال ، وانما يعقل تعدد الحكم لو كان بينهما تباين أو على الأقل
العموم من وجه حتى يصح تعددهما بلحاظ موردي الافتراق.
وهذه المحاولة غير
تامة لأن ما ذكر فيها في الفروض الثلاثة مما لا يمكن المساعدة عليه.
اما ما أفيد في
الفرض الأول من لزوم أخذ التحريم المتأخر مع المتقدم فيرده ما هو مقرر في محله
بمناسبة البحث عن حجية الخبر مع الواسطة من انه بلحاظ عالم المجعولات
والأحكام الفعلية
لا مانع من تأخر بعضها عن بعض وأخذ بعضها في موضوع البعض الاخر مع كونها جميعا
مجعولة بخطاب واحد وجعل واحد ، وفي المقام يكون وصول الحرمة الفعلية للخمر الواقعي
الّذي يريد شربه مأخوذا من موضوع الحرمة الفعلية للتجري ولا محذور وإن كانا
مجعولين بخطاب واحد.
واما ما ذكر في
الفرض الثاني من عدم إمكان وصول حرمة التجري بعنوانه إلى المتجري. فجوابه : انه لا
يشترط في وصول التكليف الوصول التفصيليّ بل لو كان يمكن للتكليف أن يصل إلى المكلف
ولو بالوصول الإجمالي أو بالحجة كفى ذلك في معقوليته ، وفي المقام التجري كما عرفت
غير مختص بموارد العلم بالواقع بل يثبت في مطلق موارد تنجز الواقع ولو بغير العلم
ـ كما اعترف بذلك المحقق النائيني نفسه ـ فإذا تنجز التحريم الواقعي بغير العلم
وفرضنا حرمة الفعل المتجري به فالمكلف يحصل له العلم الإجمالي بحرمة هذا الفعل على
كل حال اما بعنوانه الأولي أو بعنوان التجري فيكون مقطوع الحرمة.
واما ما ذكر في
الفرض الثالث من لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع فقد حاول السيد الأستاذ الجواب
عليه تارة بأنه يمكن أن يفرض في مورد عدم وصول حرمة الخمر الواقعي للمكلف ووصول
حرمة معلوم الخمرية إليه ويكفي ذلك لتعدد الحكم ، وأخرى بأنه لا مانع من تعدد
الحكم على نحو العموم المطلق كما في مثل تعلق النذر بالصلاة الواجبة.
وكلا هذين
الجوابين غريب في بابهما.
اما
الأول ـ فلأنه لا يرفع مشكلة لزوم اجتماع المثلين بحسب نظر القاطع
المحال إلا أن يدعى اختصاص حرمة شرب مقطوع الخمرية بمن لا يعلم بحرمة شرب الخمر
وهذا غير محتمل وخروج عن محل الكلام. هذا مضافا : إلى ان هذا الجواب خلاف مبنى الإشكال
إذ المفروض ان حرمة معلوم الخمرية ناشئة من القبح الناشئ من التجري الّذي لا يكون
إلا بفرض وصول الحرمة الواقعية فمع عدم وصولها لا قبح ولا تجري فلا
__________________
موضوع للحرمة
بالعنوان الثانوي.
واما
الثاني ـ فلان مورد النقض تكون النسبة فيه بين الحكمين العموم من وجه
لا المطلق فان وجوب الصلاة مع وجوب الوفاء بالنذر من الواضح ان النسبة بينهما عموم
من وجه. اللهم إلا أن يكون المقصود إنكار أصل استحالة اجتماع حكمين مثلين في مورد
واحد بعنوانين إذا كان أحدهما أعم من الاخر إلا ان ما ذكر ليس مصداقا له وانما
الصحيح التمثيل بموارد الأمر بالجامع والأمر بالفرد والحصة فانه لا محذور فيه.
هذا مضافا : إلى
ان النسبة بين الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية في المقام أيضا العموم من وجه بحسب
نظر القاطع لأنه يعلم انه ربما يكون شيء معلوم الخمرية ولو عند غيره أو في مرة
أخرى مع عدم كونه في الواقع خمرا فيكون جعل حكمين معقولا من زاوية نظره أيضا.
المحاولة
الثانية ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان حرمة التجري المستكشفة بالقبح
لو فرض اختصاصها بفرض التجري فقط كان بلا موجب إذ ليس المتجري بأسوإ حالا من
العاصي ، بل مثل هذا الحكم غير قابل للتنجز والوصول إلى المكلف لأن المتجري يجد
نفسه عاصيا دائما ، وان فرض شموله للعاصي أيضا لزم التسلسل إذ لكل خطاب عصيان
وباعتبار ذلك العصيان يتحقق خطاب اخر له عصيان اخر وهكذا .
ويرد عليه : اما
بالنسبة إلى الفرض الأول فلما تقدم من إمكان وصول الحرمة إلى المكلف ولو في موارد
التنجز بغير العلم واختصاص التحريم بالمتجري ليس بملاك أسوئيته ليقال انه بلا موجب
بل بملاك مزيد الاهتمام والحفظ المولوي لملاك القبح بجعل خطاب شرعي في مورده واما
موارد العصيان فالخطاب الشرعي موجود فيها فلا موجب لجعل خطاب اخر فيه.
واما بالنسبة إلى
الفرض الثاني فاستحالة التسلسل انما هو في الوجودات الخارجية لا الاعتبارية فلتكن
هناك مجعولات عديدة متسلسلة بعدد الالتفات إلى العناوين الثانوية المترتبة والتي
يعتبرها العقل قبيحة كلما توجه والتفت إليها.
__________________
المحاولة
الثالثة ـ ما أفاده السيد الأستاذ أيضا من ان كبرى الملازمة بين ما
حكم به العقل حكم به الشرع مخصوصة بما يدركه العقل في سلسلة علل الأحكام الشرعية
كقبح الكذب وغصب مال الغير مثلا لا في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية كحسن الإطاعة
وقبح المعصية ، فانه في هذا القسم لا يعقل جعل حكم شرعي إذ لو كان حكم العقل بحسن
الإطاعة وقبح معصية الحكم الواقعي كافيا في المحركية وإتمام الحجة على العبد وزجره
عن المعصية ودفعه إلى الطاعة فلا حاجة إلى جعل الحكم الشرعي الثاني وإن لم يكن
كافيا فلا فائدة في جعل حكم اخر إذ هو مثل الحكم الأول ولا يزيد عليه شيئا فيكون
لغوا على كل تقدير ، ومحل كلامنا وهو حرمة التجري من هذا القبيل .
وفيه ـ ما تقدم
لدى البحث عن كبرى الملازمة من انه كلما كان الشارع يهتم بحفظ الملاك بأكثر مما
يقتضيه الحسن والقبح العقليين من الحفظ الذاتي وكان ذلك يحصل بجعل الشارع أمكن
استكشاف جعل شرعي في مورد الحكم العقلي من غير فرق بين أن يكون حكم العقل في مرتبة
علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، وفي مسألة التجري يمكن للشارع جعل خطاب
تحريمي له لكي يحفظ ملاكات أحكامه الواقعية بمرتبة جديدة وزائدة من الحفظ ولو في
حق من تنجز عليه التكليف الواقعي بغير العلم ، فانه إذا علم بحرمة التجري عليه على
كل حال فقد يتحرك ولا يقدم على ارتكاب المخالفة لأن للانقياد والتحرك عن خطابات
المولى درجات فقد ينقاد المكلف في موارد العلم بالتكليف ولكنه لا ينقاد في موارد
الاحتمال أو الظن وان كان منجزا عليه فيكون جعل حرمة التجري لمزيد الحافظية وسد
أبواب العدم بهذا الخطاب وفي هذه المرتبة فلا لغوية أصلا.
٣ ـ التمسك بالإجماع على حرمة
التجري :
وقد يتمسك لإثبات
حرمة التجري بالإجماع القائم في مسألة الظن بضيق وقت الواجب على حرمة تأخير الواجب
ولو انكشف بعد ذلك بقاء الوقت ، وكذلك حكمهم
__________________
بوجوب التمام على
من سافر سفرا يظن فيه بالخطر لكونه سفر معصية ولو تبين بعد ذلك عدم الخطر من
السفر.
وفيه ـ لو أريد
الإجماع المنقول فليس بحجة ، وإن أريد المحصل فقد نقل الخلاف أولا. ولا حجة له بعد
أن كانت للمسألة مدارك أخرى عقلية ونقلية ثانيا. على ان الثابت في المسألة الأولى
في كلمات الأصحاب استحقاق العقاب وهو أعم من الحرمة. وفي المسألة الثانية يوجد
كلام في حرمة الإقدام على الخطر والضرر المظنون بعنوانه لأنه من الإلقاء في
التهلكة فيكون الظن أو القطع بالضرر مأخوذا بنحو الموضوعية في التحريم وهو خارج عن
بحث التجري المرتبط بالقطع الطريقي ، واما البحث عن مدارك كل من المسألتين
الفقهيتين فهو موكول إلى محله من الفقه.
٤ ـ التمسك بالأخبار لحرمة
التجري :
وقد يستدل على
حرمة التجري بالروايات الدالة على العقاب بقصد المعصية ولا يبعد أن يكون ظاهر ذلك
التجري في الشبهة الموضوعية بأن يكون أصل حرمة فعل ثابتا كبرويا ولكن يقصده المكلف
خارجا ، كالنبوي الدال على انه ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول
كلاهما في النار قيل هذا القاتل فما بال المقتول قال 6 لأنه أراد قتل صاحبه ) .
وقد ناقش في
الاستدلال بها السيد الأستاذ بأنها على تقدير تماميتها سندا ودلالة لا تدل على
أكثر من حرمة قصد المعصية الواقعية فلا ربط لها بالحرام الخيالي وما يعتقده المكلف
حراما مع عدم كونه حراما في الواقع .
وهذا الاعتراض غير
سديد ، فانه إذا سلم دلالتها على حرمة قصد المعصية فلا فرق حينئذ بين قصد المعصية
في مورد لو صدر الفعل منه كان مصادفا للواقع أو لا فانه من حيث قصد المعصية لا فرق
بينهما أصلا كما لا يخفى ، كما انه إذا ثبتت حرمة التجري على
__________________
مستوى القصد فتثبت
في التجري على مستوى أشد وهو الإقدام على الفعل أيضا.
والصحيح في منع
هذا الاستدلال ان هذه الروايات إن تم شيء منها سندا فبين ما لا يدل على أكثر من
استحقاق العقوبة على القصد وهو أعم من الحرمة ، وبين ما يدل على حرمة نفس الرضا
والنية السيئة أو نفس الالتقاء بالسيف بملاك قائم فيها مع قطع النّظر عن الفعل
الخارجي الاخر.
ثم ان هناك طائفة
أخرى من الروايات تدل بظاهرها على نفي العقاب على مجرد نية الحرام من دون التلبس
به.
وقد جمع بينهما
السيد الأستاذ بحمل الطائفة الأولى على ما إذا قصد المعصية ولم يرتدع من قصده حتى
حيل بينه وبين العمل والطائفة الثانية على ما ذا ارتدع عن قصده بنفسه ، وذلك
بتطبيق قاعدة انقلاب النسبة لأن النبوي المتقدم بمقتضى ذيلها يدل على العقاب فتخصص
الطائفة الأولى بفرض عدم الارتداع لا محالة .
وهذا الجمع مضافا
إلى عدم قبول مبناه ـ وهو كبرى انقلاب النسبة ـ غير صحيح لأن النبوي اما أن يستظهر
منها حرمة نفس الالتقاء بالسيف كحرام مستقل ويفهم من إرادة القتل في ذيلها ذلك
فيكون أجنبيا عن محل الكلام ، واما أن يحمل إرادة القتل فيها على مجرد قصد القتل
فحينئذ لا وجه لدعوى اختصاصها بما إذا لم يكن يرتدع فان قصد القتل وإرادته أعم من
ذلك اللهم إلا أن يقال ان القدر المتيقن من هذه الطائفة وموردها ذلك ، ولكنه قد
حقق في محله ان مجرد وجود قدر متيقن بين الطائفتين المتعارضتين لا يكون وجها للجمع
العرفي بينهما بتخصيص كل منهما بالمتيقن من مضمونه.
فالصحيح حمل
الطائفة الثانية على نفي فعلية العقوبة تفضلا ومنة من الله سبحانه على عباده لأنها
ليست ظاهرة في أكثر من نفي فعلية العقاب ، بل وفي ألسنة بعضها القرينة على ذلك من
قبيل ما دل على ( ان الله تفضل على آدم على أن لا يكتب على ولده وذريته ما نووا ما
لم يفعلوا ) وما دل على ان الملائكة الموكلين بتسجيل الذنوب
__________________
يمهلون العباد ولا
يكتبون بمجرد النية وقصد المعصية ، فان هذه الألسنة بنفسها تدل على ثبوت الاستحقاق
الّذي تدل عليه الطائفة الأولى وانما لا فعلية ولا تسجيل منة وفضلا من الله سبحانه
لعباده فلا تنافي بين الطائفتين أصلا. وهكذا يثبت عدم الدليل على حرمة التجري
شرعا.
تنبيهات :
الأول
ـ قد عرفت عدم اختصاص التجري بفرض القطع بالحرمة بل يجري في
كل مورد يتنجز التكليف لعدم وجود مؤمن عن التكليف الواقعي المحتمل ولو جاء به
برجاء عدم مصادفة الحرام الواقعي عليه بجميع حصصه وصوره حتى صورة رجائه لعدم
المصادفة مع الحرام الواقعي لكون اقدامه تجريا وخروجا عن مراسم العبودية والطاعة
لمولاه ومجرد رغبته ورجائه أن لا يصادف الحرام الواقعي لا يرفع موضوع حق المولى.
نعم وقع الكلام
فيمن حصل على مؤمن على الارتكاب ولكنه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام كمن
شرب مستصحب الحلية برجاء أن يكون هو الحرام الواقعي فذكر المحقق النائيني ( قده )
ان هذا تجر أيضا ويترتب عليه أحكامه.
والتحقيق ـ انه لو
أريد اعتبار نفس الفعل الّذي أقدم عليه تجريا وقبيحا فهو غير تام ، لأنه بحسب
الفرض له مؤمن شرعي يستند إليه ، وإن أريد اعتبار حالته النفسانيّة وهو شوقه نحو
الحرام الواقعي أو عدم مبالاته بحفظ أحكام الشارع وملاكاته تجريا فهذا صحيح فان حق
الطاعة التي ندركها لمولانا وخالقنا يشمل مثل ذلك أيضا ، لأنه حق مطلق يستحق صاحبه
الانقياد والطاعة المطلقة حتى على هذا المستوى ، إلا ان هذا لا ربط له بشرب المائع
برجاء مصادفته للخمر الواقعي بل يرتبط بالفعل النفسانيّ والاستعداد والاهتمام.
الثاني
ـ ذهب صاحب الفصول ( قده ) بناء على ان الحسن والقبح يختلفان
بالوجوه والاعتبارات إلى القول بوقوع الكسر والانكسار بين قبح التجري وبين المصالح
الواقعية للمولى فيقدم الأقوى والغالب منهما ، فربما يرتفع قبح التجري إذا صادف
واجبا واقعيا فيه مصلحة كبيرة وربما يشتد قبحه فيما إذا صادف مكروها واقعيا وربما
يتعدد
القبح إذا صادف
الحرام الواقعي.
وأجاب المحقق
العراقي ( قده ) عليه بان قبح التجري مرتبته متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي لأن
مرتبته مرتبة العصيان المتأخر عن الحكم فلا يقع بينهما المنافاة ، وكأنه طبق في
المقام الجواب المذكور في مبحث كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري.
ويرد عليه : مضافا
إلى بطلان هذا الوجه للجمع ودفع المنافاة هناك على ما سوف يأتي في محله ، ان صغرى
التأخر في الرتبة انما هو بلحاظ تعلق القطع بالحكم الواقعي وتأخره عنه وهذا انما
يكون بلحاظ الحكم المقطوع به لا الحكم الواقعي الاخر كالوجوب ومصلحته التي أوقع
صاحب الفصول بينه وبين قبح التجري الكسر والانكسار.
والصحيح في الجواب
ما تقدم من ان الحسن والقبح ليسا مجعولين من قبل العقلاء وبملاك حفظ المصلحة ودفع
المفسدة بل هما بابان عقليان مستقلان عن المصلحة والمفسدة ، فرب ما فيه مصلحة يكون
اقدام المكلف عليه قبيحا ورب ما فيه المفسدة يكون الإقدام عليه حسنا ، والبابان
يختلفان موضوعا ومحمولا ، فان المصلحة والمفسدة امران واقعيان وجوديان بخلاف الحسن
والقبح فانهما امران ذاتيان حقيقيان في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ،
كما ان المصلحة والمفسدة لا يشترط في تحققهما وموضوعهما العلم أو الالتفات بخلاف
الحسن والقبح فانهما متقومان بذلك على ما تقدم مفصلا فلا ينبغي الخلط بينهما.
نعم ربما يكون
إحراز المصلحة في مورد رافعا لموضوع القبح كما في ضرب اليتيم لمصلحة تأديبه ومنه
يعرف ان ما صنعه صاحب الفصول من التعامل مع المصلحة والقبح كأمرين واقعيين يقع
بينهما الكسر والانكسار مع قطع النّظر عن إحراز المكلف للمصلحة غير سديد.
الثالث
ـ ذكر المحقق العراقي ان ثمرة القول بقبح التجري تظهر في
العبادات فيما إذا تنجز على المكلف حرمة عبادة ما ـ كصلاة الجمعة ـ بالحرمة
الذاتيّة مثلا ومع ذلك جاء بها المكلف برجاء صحتها وعدم حرمتها ثم انكشف عدم
حرمتها ، فبناء على قبح
التجري لا يقع
الفعل صحيحا بل باطلا لعدم إمكان التقريب بالقبيح وان لم يكن محرما شرعا واما بناء
على عدم القبح فتقع صلاته صحيحة ومجزية.
وفيه ـ ان الفعل
العبادي يقع باطلا على كل تقدير لأن المقصود من التقرب والإتيان بالفعل من أجل
المولى أن يفعله بداعي المولى ، أي أن يكون حال المولى بحسب نظره على تقدير الفعل
أحسن منه على تقدير الترك ومع فرض تنجز الحرمة عليه كيف يتأتى للمكلف أن يأتي
بالفعل بداعي المولى فهذه الثمرة غير تامة.
أقسام القطع
ومدى قيام الأمارة مقامه
الجهة
الثالثة ـ في تقسيمات القطع وقيام الأمارات والحجج مقامها فقد قسم إلى
الطريقي والموضوعي ، والأول ما كان الحكم ثابتا في مورده مع قطع النّظر عنه سواء
كان قطعا بصغرى الحكم كالخمرة أو بكبراه كتحريم كل خمر ، والثاني ما كان للقطع
نفسه دخل في ترتب الحكم ومنه يظهر انه يمكن أن يكون قطع بحكم طريقا إلى ذلك الحكم
وموضوعا لحكم آخر وهذا واضح وانما البحث في عدة مقامات.
١ ـ تقسيمات القطع الموضوعي :
المقام
الأول ـ في أقسام القطع الموضوعي ، وقد قسم القطع الموضوعي إلى
أقسام أربعة فقد قسم الشيخ الأعظم القطع الموضوعي إلى قسمين ما أخذ موضوعا بما هو
طريق إلى الواقع وما أخذ موضوعا بما هو صفة في النّفس. وأضاف صاحب الكفاية ( قده )
انقساما آخر حيث قسم كل من القسمين إلى ما يكون القطع تمام الموضوع لذلك الحكم وما
يكون جزء الموضوع والواقع المقطوع به جزءه الآخر.
وقد أثير الإشكال
على كل من التقسيمين.
اما بالنسبة إلى
تقسيم الشيخ ( قده ) فقيل بان القطع الموضوعي دائما يكون مأخوذا
بما هو كاشف ولا
يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النّظر عن حيثية الكشف لأن الكاشفية ذاتية للقطع بل
ليس القطع شيئا زائدا على الكشف ليعقل أخذه بما هو صفة وبقطع النّظر عن كاشفيته ،
اذن فليس القطع الموضوعي مأخوذا إلا بنحو الكاشفية غاية الأمر تارة يكون بنحو تمام
الموضوع وأخرى بنحو جزء الموضوع والواقع جزؤه الاخر.
وكأن المحقق
الخراسانيّ ( قده ) أراد الإجابة على هذا الإشكال بعبارة في الكفاية يحتمل فيها
أحد وجهين كلاهما غير تام :
الأول
ـ ان العلم كما اشتهر بين الحكماء نور في نفسه ونور لغيره فله
جنبتان نورية ، فقد تلحظ نوريته لنفسه فيكون صفتيا ، وقد يلحظ نوريته لغيره فيكون
بنحو الكاشفية.
وفيه ـ ان المقصود
ان العلم نفسه النور والظهور فكل شيء يوجد ويظهر في النّفس بالعلم واما العلم فظهوره
بنفسه ، وحينئذ إن أريد من أخذ العلم بنحو الصفتية أخذه بما هو حالة حاضرة في
النّفس ومع قطع النّظر عن نوريته فما أكثر الأمور غيره من حالات النّفس أيضا كالحب
والبغض فيكون الموضوع مطلق ما يحضر في النّفس من المجردات وهو خلاف المفروض ، وإن
أريد خصوصية النورية فهي عين الكاشفية.
الثاني
ـ ان العلم من الصفات الحقيقية ـ أي المتأصلة لا الاعتبارية ـ
ذات الإضافة ـ أي ليست كالإعراض تحتاج إلى موضوع فقط بل تحتاج إلى ما تضاف إليه
وتتعلق به أيضا ـ فان أخذ العلم موضوعا للحكم بقطع النّظر عن إضافته إلى متعلقه
كان صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه كان على نحو الكاشفية.
وفيه ـ ان أريد
إضافة العلم إلى المعلوم بالذات فإضافته إليه إضافة إشراقية ـ بحسب مصطلح الحكماء
لا مقولية أي لا تعدد بينهما ولا تغاير إلا بالاعتبار والتحليل ـ فهي عين العلم
وليس شيئا اخر زائدا عليه ، وإن أريد إضافته إلى المعلوم بالعرض خارجا فهما وإن
كانا شيئين ووجودين ولكنه ليست هذه الإضافة من مقومات العلم ولا لازما فيه بدليل
انه قد لا يكون مصادفا للواقع أصلا ، بل في فرض المصادفة أيضا ليست الإضافة حقيقية
بل مجازية ، وبالعرض. وسوف يأتي مزيد تعليق على إرادة هذه الإضافة.
والصحيح في تصوير
هذا التقسيم أن يقال : ان العلم وإن كان بنفسه انكشافا لكن له ملازمات في الخارج
وجودية أو عدمية كراحة النّفس واطمئنانها واستقرارها وسكونها وغير ذلك ، وحينئذ
تارة يؤخذ العلم بما لها هذه الخصوصيات الصفتية الموضوعية ، وأخرى يؤخذ بما هو
انكشاف وظهور بالذات للمعلوم ، والأول هو الموضوع على نحو الصفتية والثاني هو
الموضوع على نحو الكاشفية.
وإن شئت قلت : ان
العلم فيه جنبتان جنبة انه انكشاف للعالم وجنبة انه انكشاف فيه أي انكشاف لغيره ،
والخصيصة الثانية ليست مقومة للعلم بدليل ثبوت العلم للباري مع انه نفس المنكشف له
لا غيره ، وعليه فإذا لوحظ العلم بما هو انكشاف في النّفس كان صفتيا ، وإذا لوحظ
بما هو انكشاف للعالم كان على نحو الكاشفية. وظاهر دليل أخذ العلم موضوعا أخذه بما
هو انكشاف له لا بما هو انكشاف فيه. فهذا التقسيم لا غبار عليه.
واما بالنسبة إلى
تقسيم الكفاية لكل من القسمين إلى ما أخذ تمام الموضوع وما أخذ جزء الموضوع والجزء
الاخر هو الواقع المنكشف به. فقد اعترضت عليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان
العلم المأخوذ بنحو الكاشفية لا يكون إلا جزء الموضوع ولا يعقل أخذه بنحو تمام
الموضوع لأن معنى كونه تمام الموضوع انه لا دخل للواقع في الحكم ، ومعنى كونه
مأخوذا بنحو الطريقية ان للواقع دخلا في الحكم فالجمع بين الأمرين تناقض .
والواقع ان صاحب
هذا الإشكال يفهم من الكاشفية غير ما يريده صاحب التقسيم الرباعي وغير ما افترضه
صاحب الإشكال المتقدم ، فالكاشفية التي يريدها صاحب التقسيم للعلم الانكشاف الذاتي
الحاصل للعلم سواء كان مصادقا للواقع أم لا ، والكاشفية التي تفترضها مدرسة
الميرزا الانكشاف بالعرض والمجاز أي الإصابة للواقع ، فلو أريد أخذ هذه الحيثية
العرضية في العلم موضوعا فهذا كما أفيد لا يمكن أن يكون إلا بنحو جزء الموضوع بحسب
النتيجة لا تمام الموضوع لأن فرض الإصابة
__________________
لا يمكن إلا مع
فرض وجود الواقع. إلا ان هذه الحيثية ليست من مقومات العلم ولا يكون أخذ مفهوم
العلم واليقين في موضوع حكم مساوقا مع أخذ اصابته للواقع وكاشفيته بهذا المعنى
المجازي. بل على العكس يكون مقتضى إطلاق دليل أخذ العلم موضوعا نفي الكاشفية بهذا
المعنى لأنه يقتضي أخذ مطلق العلم سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له ، فكما
يتمسك بإطلاق العلم بلحاظ مناشئه وأسبابه كذلك يتمسك بإطلاقه من حيث الإصابة وعدم
الإصابة.
وهكذا يتضح انه
يصح تقسيم القطع الموضوعي إلى الأقسام الأربعة كما أفاد صاحب الكفاية.
نعم أضاف في
الكفاية قسما جديدا للقطع المأخوذ على نحو الصفتية وهو القطع المأخوذ بما هو صفة
للمقطوع به حيث قسمه إلى ما يكون على نحو جزء الموضوع أو تمامه.
وفيه ـ إن أراد من
المقطوع به المعلوم بالذات فليس هذا قسما اخر للقطع الصفتي في قبال ما مضى ، فان
القطع المأخوذ بنحو الصفتية للقاطع تكون خصوصية المعلوم أيضا مأخوذة فيه وإلا لزم
ثبوت الحكم عند القطع بأي شيء من الأشياء ، فإضافة العلم إلى معلوم معين كإضافته
إلى العالم مأخوذ في موضوع الحكم عليه وإلا كان كل قطع ومن كل قاطع محققا لموضوع
الحكم في حق غير القاطع أيضا. وان أريد من المقطوع به المعلوم بالعرض فقد عرفت ان
هذا هو الكاشفية بالمعنى المجازي والّذي ذكرنا ان مفهوم القطع ليس مساوقا معه. على
انه حينئذ لا يصح تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع وما يكون جزء الموضوع لأن هذه
الإضافة المجازية مساوقة مع الإصابة ولزوم وجود الواقع فلا يكون الحكم ثابتا من
دونه.
ومن مجموع ما تقدم
يتضح ان كيفية أخذ القطع في موضوع حكم شرعي يعقل بأحد أنحاء خمسة :
١ ـ أخذه بما هو
تمام الموضوع.
٢ ـ أخذه بما هو
صفة جزء الموضوع.
٣ ـ أخذه بما هو
انكشاف بالذات تمام الموضوع.
٤ ـ أخذه بما هو
انكشاف بالذات جزء الموضوع.
٥ ـ أخذه بما هو
انكشاف للواقع بالعرض والمجاز وهو يساوق كونه جزء الموضوع.
كما اتضح ان ظاهر
أخذه بنحو الكاشفية أخذه بما هو انكشاف بالذات لا بالعرض والمجاز.
٢ ـ قيام الأمارة مقام القطع
الطريقي :
المقام
الثاني ـ في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، وبالرغم من عدم
الإشكال في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي إثباتا لكونه هو المتيقن من دليل
الحجية بل هو الغاية من جعلها ، إلا انه قد وقع الإشكال في ذلك ثبوتا حيث قد يتوهم
استحالة ذلك من باب أن الأمارة إذا قامت مقام القطع الطريقي فان نجزت الواقع
المشكوك مع كونه مشكوكا فهو خلاف قانون قبح العقاب بلا بيان العقلي ، وإن أنشأت
حكما ظاهريا ونجزته ففيه :
أولا ـ انه خلاف
ما سوف يأتي من ان الحكم الظاهري ليس له تنجيز مستقل عن الحكم الواقعي المشكوك.
وثانيا ـ ان هذا ليس معناه التنزيل وقيام شيء منزلة القطع الطريقي
المنجز للحكم الواقعي بل هو تنجيز بملاك حكم آخر وهو الحكم الظاهري وقد وصل إلى
المكلف بالعلم الوجداني.
وهذه الشبهة مع
شبهة ابن قبة هما الشبهتان اللتان حركتا الفكر الأصولي في باب الأمارات والأحكام
الظاهرية باتجاه التماس تخريجات وتفسيرات لحقيقة هذا الحكم وكيفية الجمع بينه وبين
الحكم الواقعي.
والصحيح : ان هذه
الشبهة لا أساس لها على مبنانا وانما ينتهى إليها كشبهة بناء على مسالك القوم ـ أي
بناء على الاعتراف بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كحكم عقلي مستقل عن مسألة حق الطاعة
ـ والوجه في ذلك واضح فانه بناء على مسلك حق الطاعة للمولى في موارد الشك والجهل
بالواقع لا إشكال في الأمارات المنجزة لكونها بحسب الحقيقة مؤكدة للحق المذكور
وموجبة لمزيد مسئولية العبد تجاه مولاه في تلك الواقعة التي دلت الأمارة على
الالتزام الشرعي فيها. واما الأمارة المؤمنة الدالة على
الترخيص فهي أيضا
لا تكون منافية مع حكم عقلي لأن العقل وإن كان يحكم بالتنجيز لو لا قيام الأمارة
المرخصة إلا ان ذلك كان من باب حق الطاعة والمولوية ، وواضح ان هذا مرتفع موضوعا
مع قيام طريق قد اذن الشارع على أساسه في الإقدام ، فانه مع هذا الاذن يكون
الإقدام جريا على طبق العبودية وقانون الرقية ولا يكون سلبا لحق مولوي كما هو
واضح. نعم يبقى الإشكال في كيفية تعقل صحة الاذن المذكور المعبر عنه بالحكم
الظاهري واجتماعه مع الحكم الواقعي بنحو لا يلزم منه التضاد أو محذور آخر ، وهذا
هو الشبهة الأخرى التي آثارها ابن قبة وسوف يأتي التعرض لها وحلها.
واما على مسالك
المشهور فقد يجاب على الشبهة بجواب مبتن على تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده )
وذلك بأن يقال : ان البيان المأخوذ عدمه موضوعا في قاعدة قبح العقاب بلا بيان قد
تم ووجد بقيام الأمارة لأن دليل الحجية قد جعل الأمارة علما وبيانا.
وهذا المدعى تارة
يبين بلسان الحكومة وان دليل الحجية ينزل الظن الخبري مثلا منزلة العلم فيكون
حاكما على دليل قبح العقاب بلا بيان على حد حاكمية دليل ( الطواف بالبيت صلاة )
على دليل ( لا صلاة إلا بطهور ) وحينئذ يكون الإشكال فيه واضحا ، فانه يرد عليه :
أولا ـ ان الحكومة
انما تتصور بلحاظ أحكام مشرع واحد بأن يحكم دليل تشريع من تشريعاته على دليل
تشريعه الاخر ولا تتصور بين أدلة أحكام مشرع بالنسبة لأحكام العقل العملي كما في
المقام.
وثانيا ـ ان الحكومة ليست في روحها إلا التخصيص ، غاية الأمر انه
بلسان التنزيل والتعبد برفع الموضوع من دون أن يكون الموضوع مرتفعا حقيقة ، ولذلك
أرجعنا الحكومة إلى القرينة الشخصية في بحوث التعارض ، وعليه فكون دليل الحجية
بلسان الحكومة لا يغير من جوهر المسألة شيئا ولا يعالج الإشكال القائل بمناقضة
الجعل المذكور مع الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان.
وأخرى يبين المدعى
بلسان الورود وان موضوع القاعدة هو البيان الأعم من
الظاهري أو
الواقعي. وإن شئت قلت : الأعم من العلم الوجداني والتعبدي فيجعل العلمية للأمارة
يتحقق فرد من هذا الجامع حقيقة.
وهذا البيان وإن
كان أحسن حالا من سابقه ولكن على أي حال سواء قرر المدعى به أو بالبيان المتقدم
يرد عليه بأن هذا ليس علاجا لروح الإشكال وانما يتناول السطح الظاهري والصياغي
للمسألة ليس إلا ، فان كون المجعول في باب الأمارة الطريقية والعلمية أولا مجرد
تعابير صياغية لفظية لا يغير جوهر الحكم الظاهري المجعول شيئا ، ولا يمكن أن يكون
مجرد هذا التعبير والاعتبار سببا لارتفاع المناقضة مع الحكم العقلي بقبح العقاب
بلا بيان بل لا بد من التفتيش عن نكتة ثبوتية في نفس الحكم الظاهري المجعول لرفع
التناقض حتى لو لم يكن الجعل بلسان جعل الطريقية والعلمية ، كما هو كذلك في موارد
الأصول العملية الشرعية غير التنزيلية كأصالة الاشتغال الشرعية مثلا فانه لا إشكال
عند أحد في انه على تقدير جعله في مورد تكون مقدمة على البراءة العقلية أيضا.
فالصحيح في العلاج
أن يقال : انه لو تنزلنا عن إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسلمنا بها فلا بد
وأن لا نسلم بها على إطلاقها بل في قسم مخصوص من الأحكام وهو الحكم المشكوك الّذي
لا يعلم بأنه على تقدير ثبوته فالمولى لا يرضى بتفويته حتى من الشاك لمزيد اهتمامه
به كما في مورد احتمال هلاك المولى نفسه مثلا ، واما الحكم الشرعي المشكوك الّذي
يعلم في مورده بأنه على تقدير ثبوته فالمولى لا يرضى بتفويته فالعقل لا يحكم بقبح
العقاب بل يحكم بالعقاب على تقدير التفويت ، كما يشهد بذلك مراجعة حكم العقلاء في
مورد المثال المذكور ، ودليل الحكم الظاهري المنجز يكون بحسب الحقيقة دالا على ان
التكليف في مورده من هذا القسم فيرتفع موضوع القاعدة العقلية لا محالة.
ووجه هذه الدلالة
قد يقرب بطريق الإن ، وذلك بان يدعى كشف دليل الحكم الظاهري الإلزامي عن اهتمام
الشارع بالحكم الواقعي المشتبه حتى في حال الاشتباه لكونه معلولا عن هذه المرتبة
من الاهتمام ، إلا ان هذا موقوف على أن يضم إلى دليل الحكم الظاهري البراهين
المذكورة في حقيقة الحكم الظاهري والتي تثبت ان الحكم
الظاهري لا يعقل
دفع محذور التضاد أو التصويب أو غير ذلك فيه إلا بافتراض انه حكم ناشئ عن ملاك
التحفظ على الواقع والاهتمام به ، فيعلم من ذلك بان الحكم الواقعي المشتبه على
تقدير وجوده في مورد الحكم الظاهري مما يهتم به المولى فيرتفع بالعلم بهذه القضية
الشرطية موضوع القاعدة العقلية.
ويمكن أن يقرب
بدلالة عرفية لا عقلية بدعوى بان هذا هو المستظهر من أدلة الأحكام الظاهرية
اللفظية وهو النكتة العقلائية أيضا من وراء جعل الحجية العقلائية الممضاة شرعا في
الأدلة اللبية.
وبما بيناه اتضح
ان فذلكة دفع الشبهة انما هو بمقدار ما يبرزه الخطاب الظاهري من مرتبة الاهتمام
المولوي بالملاكات الواقعية أيا كان لسان الإنشاء والجعل وصياغة الحكم الظاهري من
جعل الطريقية أو المنجزية أو الحكم المماثل أو غير ذلك ، فان ذلك كله تفننات في
الصياغة والتعبير ولا دخل لها في أصل المطلب.
ثم انه يظهر من
بعض كلمات المحقق العراقي ( قده ) محاولة للجواب على هذه الشبهة بان الخطاب
الظاهري في مورد الأمارة أو الأصل امره مردد بين أن يكون مطابقا للواقع فيكون
خطابا واقعيا منجزا ، إذ لا نريد بالخطاب الواقعي المنجز عقلا إلا خطابا وراءه
ملاكات ومبادئ حقيقية ، وبين أن يكون خطابا ظاهريا أجوف لا ملاك وراءه. وبما أن
أصل الخطاب معلوم وجدنا فهذا يعني انه على أحد التقديرين وهو تقدير مطابقة الخطاب
للواقع يكون البيان ثابتا في حقنا فيكون المقام شبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب
بلا بيان فلا يصح التمسك بها.
والجواب ـ بعد
الفراغ عن ان الخطاب الظاهري ليس بنفسه منجزا يكون المعلوم هو الخطاب المردد بين
كونه واقعيا منجزا أو ظاهريا غير منجز والعلم بالجامع بين ما يتنجز ولا يتنجز ليس
بمنجز ، وإن شئت قلت : ان ما هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما هو كونه
واقعيا فمن دون العلم بذلك يقبح العقاب بلا بيان.
ومن مجموع ما
أوضحناه اتضحت عدة أمور :
١ ـ ان صاحب
الكفاية ( قده ) في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي قد اختار ان المجعول في
باب الأحكام الظاهرية هو المنجزية والمعذرية ، وقد استشكل
عليه من قبل مدرسة
المحقق النائيني ( قده ) بان جعل المنجزية والمعذرية غير معقول ، إذ لو أريد واقع
المنجزية فهو حكم عقلي لا معنى لجعله من قبل الشارع ، وإن أريد عنوان المنجزية
ومفهومها فالإنشاء وإن كان سهل المئونة إلا ان مثل هذا الإنشاء لا يعقل أن يكون
مستتبعا للمنجزية حقيقة لأنه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وقد تبين مما
ذكرناه ان هذا الاعتراض في غير محله وهو جري وتعامل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
كدليل من الأدلة اللفظية بحيث لا يمكن رفع اليد عنها إلا بتبديل موضوعها من
اللابيان إلى البيان والعلم ، وقد عرفت ان هذا التصور غير تام وان تنجيز الأمارة
للواقع المشكوك روحه وملاكه ان الخطاب الظاهري يكشف عن اهتمام المولى بخطابه
الواقعي على تقدير وجوده بنحو القضية الشرطية ، وهذا لا يفرق فيه أن يكون إبراز
ذلك بلسان جعل الأمارية والطريقية أو بلسان جعل المنجزية أو غير ذلك فلصاحب
الكفاية أولا ـ اختيار ان المجعول عنوان المنجزية والمعذرية وذلك كاف في رفع موضوع
القاعدة باعتبار مدلوله التصديقي المستكشف من خلال هذه الجعل.
وثانيا ـ اختيارا ان المجعول واقع المنجزية فانه وإن كان امرا واقعيا
مدركا بحكم العقل إلا انه قابل للجعل تبعا وبالتسبيب وذلك بإيجاد ملاكه ومنشئه وهو
إبراز اهتمام المولى وعدم ترخيصه في المخالفة الاحتمالية ، كما وقع ذلك في أدلة
الأحكام الأولية الواقعية ، حيث كثيرا ما يبرز الحرمة ببيان مدى العقاب المترتب
على الارتكاب والمخالفة ، فمسلك جعل المنجزية كسائر المسالك المتبناة من قبل
المحققين يمكن أن يكون صياغة معقولة لجعل الحكم الظاهري.
٢ ـ بعد أن فرغوا
عن استحالة جعل المنجزية للأمارة رتبوا على ذلك انه لا يمكن تنزيل الظن منزلة
العلم ابتداء لأن التنزيل معناه إسراء حكم المنزل عليه على المنزل ، وقد فرضنا ان
الحكم في المقام وهو المنجزية غير قابل للجعل ومن هنا حاولوا تخريج قيام الظن
والأمارة منزلة العلم على أساس اخر.
وقد اتضح على ضوء
ما تقدم ان لسان التنزيل أيضا لسان من ألسنة الحجية وجعل الحكم الظاهري اما بأن
يفرض ان هذا التنزيل بلحاظ حيثية شدة اهتمام المولى فيكون مرجعه إلى الإخبار عن
اهتمام بالتكاليف المظنونة كالمقطوعة ، واما بأن
يكون تنزيلا بلحاظ
المنجزية التي قد عرفت انها قابلة للجعل تبعا وتسبيبا ، أو عنوانا ، واما أن يكون
بمعنى إنشاء نفس التنزيل فان هذا أيضا صالح لإبراز الاهتمام ، فكل هذه الصياغات
والتفننات معقولة في نفسها وتؤدي غرضا ثبوتيا واحدا.
٣ ـ انهم حاولوا
تخريج قيام الأمارة مقام العلم الطريقي على أحد أساسين :
١ ـ ما صنعته
مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان المجعول في الأمارات هو الطريقية واعتبار
الأمارة علما من دون تنزيل وإسراء فيرتفع اللابيان وينقلب بيانا وعلما.
وقد اتضح مما سبق
ان هذا كله مرتبط بالألفاظ ونظر إلى عالم الصياغة فان مجرد جعل الحكم الظاهري إن
كان يكشف عن اهتمام المولى فهذا هو ملاك لرفع موضوع القاعدة سواء أنشأه بعنوان جعل
العلمية أو جعل الحكم المماثل أو جعل المنجزية ، وإلا فمجرد اعتبار ما ليس بعلم
علما لا يغير واقعا ولا يرفع موضوع الحكم العقلي كما لو فرضنا ان المولى انما جعل
العلمية لا من أجل التحفظ على الواقع بل لأن شخصا أعطاه دينارا لكي يعتبر ما ليس
بعلم علما. نعم هذا مجرد لسان فني للصياغة بل من أجود ألسنة صياغة الحكم الظاهري.
والغريب ان هذه المدرسة أشكلت على المحقق الخراسانيّ ( قده ) القائل بجعل المنجزية
في الأمارات بأنها غير قابلة للجعل إلا عنوانا وهو لا يرفع موضوع القاعدة لأنه
مجرد اعتبار ، مع انك عرفت ان المنجزية قابلة للجعل العنواني وللجعل الحقيقي
التبعي ، واما جعل الطريقية والعلمية للأمارة فلا يعقل إلا بنحو الجعل العنواني
والإنشائي الّذي هو سهل المئونة فكيف وافقت هذه المدرسة بارتفاع موضوع قاعدة قبح
العقاب بهذا الجعل العنواني الإنشائي ولم توافق على ما كان يعقل فيه الجعل الحقيقي
والعنواني معا؟.
٢ ـ ما ذهبت إليه
مدرسة الشيخ الأنصاري ( قده ) حيث ادعت ان التزيل بحسب الحقيقة لمؤدى الأمارة
منزلة المقطوع لأن المؤدى اما حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي فيكون قابلا للإسراء
الشرعي ، إلا ان هذا التخريج تبقى فيه نقطة فراغ حيث انه لا يوضح كيف يكون مثل هذا
التنزيل رافعا لموضوع القاعدة العقلية.
وعلى كل حال قد
عرفت ان كل هذه ألسنة وصياغات لا تمس روح الجواب
بشيء وانما حقيقة
الجواب ما شرحناه.
٣ ـ قيام الأمارات مقام القطع
الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية :
المقام الثالث :
في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية. وقد وقع البحث في
إمكانه ثبوتا لا من جهة الإشكال في إمكان التنزيل هنا شرعا لأن أثر القطع الموضوعي
شرعي بحسب الفرض فيعقل التنزيل بلحاظه. بل من ناحية منع إمكان جعل ذلك بنفس دليل
حجية الأمارة وقيامها مقام القطع الطريقي ، والغريب ان القوم اقتصروا على البحث
الثبوتي دون مرحلة الإثبات وملاحظة أدلة الحجية وانها هل تفي بإثبات هذا التنزيل
أو لا؟ فكأن توجههم إلى عالم الإمكان والاستحالة والصناعة.
وأيا ما كان فقد
صاغ المحقق الخراسانيّ برهان الاستحالة على النحو التالي : ان قيام الأمارة مقام
القطع الطريقي أو الموضوعي مرجعه إلى التنزيل ، كما عرفت ، والتنزيل إذا كان بصيغة
تنزيل المؤدى منزلة المقطوع فهذا انما ينتج قيامها مقام القطع الطريقي لأن مفاده
حينئذ جعل الحكم على طبق المقطوع لا القطع نفسه ، وإذا كان بصيغة تنزيل نفس
الأمارة منزلة القطع فهو ينتج قيامها مقام القطع الموضوعي فيما له من الأحكام ولا
ينتج قيامها مقام القطع الطريقي ، لأن الأثر المنزل عليه في الطريقي مترتب على
المؤدى والمقطوع به دون نفسه وملاحظة القطع فيه تكون على نحو الطريقية والمرآتية
لا الموضوعية فاستفادة التنزيلين معا يستلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي
على شيء واحد وفي لحاظ واحد وهو محال.
ثم استدرك بأنه لو
كان هناك ما بمفهومه يمكن ان يكون جامعا بينهما أمكن ذلك ولكنه لا يوجد.
وهذه العبارة قد
تحمل على إرادة وجود مفهوم جامع بين اللحاظين إلا انه ليس هو المقصود لوضوح ان
الجامع بين اللحاظين مفهوما موجود ولو نفس عنوان اللحاظ ولكنه لا يجدي في حل
الإشكال لأن مفهوم اللحاظ ليس لحاظا بالحمل الشائع فهو كغيره يتعلق به اللحاظ مع
ان اللازم في التنزيل المطلوب وجود اللحاظ بالحمل الشائع
كما هو واضح.
بل الظاهر ان
المقصود وجود مفهوم يعم الظن والمؤدي والقطع والمقطوع بحيث يكون له مصداقان فيكون
تنزيلا واحدا كليا لذلك العنوان منزلة العنوان الاخر فينحل إلى تنزيلين لا محالة
وحيث انه لا جامع كذلك فتثبت الاستحالة.
والإشكال المذكور
انما يتم فيما إذا لم يكن دليل الحكم الّذي ، أخذ في موضوعه القطع قد أخذه بما هو
حجة ومنجز فانه حينئذ يكون دليل حجية الأمارة واردا على ذلك الدليل بلا حاجة إلى
تنزيل آخر وهذا خارج عن البحث ، فمورد الإشكال ما إذا كان دليل الحكم الموضوعي قد
أخذ القطع بما هو قطع موضوعا للحكم لا بما هو حجة لكي نحتاج إلى حكومة وتنزيل.
ولحل هذا الإشكال
يوجد موقفان ، أحدهما للمحقق الخراسانيّ ( قده ) والاخر للميرزا النائيني ( قده )
وقبل التعرض لهما على نحو التفصيل نعلق على هذا المنهج بما يلي :
١ ـ ان هذا
الاتجاه للبحث خطأ من أساسه ، لأنه يفترض وكأننا نتعامل مع دليل لفظي من أدلة
الحجية لنمتحن قدرته على التنزيل مع ان مهم دليل الحجية عندنا هو السيرة العقلائية
فان أهم الأمارات في الشبهات الحكمية الظهور وخبر الثقة ، ومن الواضح ان مهم
الدليل على حجيتهما السيرة العقلائية وأما الأدلة اللفظية الواردة في هذا المجال
فكلها مسوقة مساق الإمضاء لما عليه السيرة ، فمنهج البحث ينبغي أن يكون مراجعة
السيرة وتحديد مفادها لنرى هل ان العقلاء بنائهم قد انعقد على إقامة الأمارة مقام
القطع الطريقي فقط أو هو مع الموضوعي؟ ولا حاجة بعد ذلك إلى دفع إشكال ثبوتي إذ
لسنا نواجه خطابا لفظيا واحدا ليقال علي فرض استحالة الجمع بين التنزيلين في خطاب
واحد بعدم إمكانه ثبوتا. فالبحث إثباتي محض على ما سوف نتعرض له فيما يأتي.
٢ ـ لو فرضنا وجود
دليل لفظي واحد فيمكن أن يقال ان تنزيل الظن منزلة القطع يفي بالتنزيلين معا ـ بقطع
النّظر عن إشكال نحن سوف نورده ـ لأن المحقق الخراسانيّ اعترف بإمكان تنزيل
الأمارة منزلة القطع في المنجزية وإن كانت حكما عقليا فيكون مرجع الأمر إلى تنزيل
الظن منزلة القطع في تمام إثارة وأحكامه.
٣ ـ ان ما أفيد من
لزوم آلية اللحاظ في تنزيل الأمارة مقام القطع الطريقي واستقلاليته في تنزيله مقام
القطع الموضوعي لا معنى له في المقام ، فان هذا التقسيم انما يتعقل في القطع والظن
بالحمل الشائع في نظر القاطع والظان ولا يتعقل في مفهوم القطع والظن الملحوظين في
مقام الجعل من قبل الشارع. فانه حينئذ يتصور مفهوم الظن والقطع كغيرهما من
المفاهيم الواردة في الخطابات الشرعية وتكون فانية في مصاديقها الخارجية.
نعم يمكن أن يغير
التعبير ويقال : بان المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي الصراحة والكناية بحسب
المدلول الاستعمالي ، لأن تنزيل الظن منزلة القطع في موارد القطع الطريقي كناية عن
تنزيل المظنون منزلة المقطوع باعتبار كون القطع مرآة في نظر القاطع دائما ، وفي
موارد القطع الموضوعي يراد منه تنزيل نفس الظن منزلة القطع فيما له من حكم
بالصراحة ، واستفادة كلا التنزيلين معناه الجمع بين الكناية والصراحة في كلام واحد
وهو نظير استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ولكن هذا تقريب
للإشكال ينتج محذورا إثباتيا لا ثبوتيا ، ويمكن تقريبه حينئذ بنحو فني بلا حاجة
إلى إدخال مسألة الصراحة والكناية ليطالب بملاك الكناية ومناسبتها بل بالبيان
التالي : ان الدليل الواحد المتكفل للخطاب التنزيلي اما أن يكون مفاده بحسب
المدلول التصديقي إبراز شدة اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مرحلة التحفظ
عليها أو يكون مفاده الجعل النفسيّ والحكم الواقعي النابع عن ملاكات نفسية في
متعلق الحكم ، وتنزيل الظن منزلة القطع الطريقي يكون المدلول التصديقي فيه هو
الأول على ضوء ما تقدم في معنى الحجية وحقيقتها بينما تنزيل الظن منزلة القطع
الموضوعي يكون المدلول التصديقي فيه هو الثاني ، والجمع بين المدلولين التصديقيين
في خطاب واحد بأن يكون التنزيل الواحد كاشفا عنهما معا كشفا تصديقيا جديا أمر غير
عرفي فان دليل الجعل الواحد يكشف عرفا عن سنخ مدلول تصديقي واحد أيضا لا عن سنخين.
وإن شئت قلت : ان
المدلول التصديقي في موارد قيام الأمارة مقام القطع الطريقي مدلول إخباري بينما في
موارد قيامها مقام القطع الموضوعي مدلول إنشائي فالجمع بينهما
في خطاب واحد
واستعمال الواحد على حد استعمال اللفظ في الإنشاء والإخبار بحسب المدلول التصديقي
لا التصوري ولا الاستعمالي وهو امر غير عرفي ، نظير قوله ( تعيد ) مريدا بذلك إنشاء الأمر والإخبار عن
الإعادة ولو كان المدلول التصوري للجمل المشتركة في الإنشاء والإخبار واحدا.
واما موقف كل من
المحقق النائيني ( قده ) وصاحب الكفاية نفسه في الجواب على هذه الشبهة. فمدرسة
المحقق النائيني ( قده ) حاولت التخلص عن الإشكال بافتراض ان المجعول في أدلة
الحجية ليس هو التنزيل بل جعل الظن علما على حد المجاز الادعائي السكاكي. وقد
استفادت هذه المدرسة من هذه الصياغة في باب جعل الحجية في المقام السابق للتخلص عن
محذور المنافاة مع القاعدة العقلية ، واستفادت منها في هذا المقام في دفع شبهة
الجمع بين اللحاظين ، فانه على هذا المبنى لا يوجد هناك تنزيل أصلا لكي يلحظ
المؤدى تارة والقطع أخرى فيلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين.
والتحقيق : ان
اعتبار الظن علما لو كان يحقق ورودا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى دليل
الحكم المترتب على القطع حقيقة فما أفيد يكون تاما حينئذ ، إلا ان هذا مبني على
افتراض ان البيان المأخوذ عدمه موضوعا للقاعدة والعلم المأخوذ موضوعا في دليل حكم
القطع الموضوعي هو الأعم من الفرد الحقيقي من العلم والفرد الاعتباري الادعائي ،
فان إنشاء العلمية واعتبارها حينئذ سوف يكون محققا لفرد من العلم بهذا المعنى
الجامع حقيقة وهو معنى الورود إلا أن هذا الافتراض لا موجب له فلا يتم موقف مدرسة
المحقق النائيني ( قده ).
توضيح ذلك ـ ان
القاعدة العقلية موضوعها بحسب حكم العقل الّذي هو الحاكم بها لا يعقل أن يرتفع
بمجرد إنشاء العلمية واعتبارها عنوانا. وانما يرتفع فيما إذا علم باهتمام المولى
بالحكم على تقدير وجوده في مورد عدم البيان ، أي العلم بالقضية الشرطية كما تقدم
توضيح ذلك مفصلا في المقام السابق ، فورود دليل الحجية على
__________________
القاعدة مبني على
كون مدلوله التصديقي شدة اهتمام المولى بحفظ التكاليف الواقعية الأولية في موارد
الشك.
واما دليل القطع
الموضوعي فلأنه بحسب الفرض دليل قد أخذ في موضوعه عنوان القطع وهو على حد أي عنوان
آخر لا يشمل إلا افراده الحقيقية لا الإنشائية الادعائية ، فمجرد إنشاء العلمية
عنوانا لا يشكل إطلاقا لدليل القطع الموضوعي وهذا واضح ، فإذا أريد إسراء حكم ذلك
الدليل كان لا بد من أن يكون دليل جعل العلمية ناظرا إلى ذلك الدليل لتنزيل ما ليس
بعلم علما في حكمه فيكون حكومة تنزيلية بحسب حقيقته لا ورودا ، وهذا ما لا يرى
المحقق النائيني إمكانه بلحاظ أحكام القطع الطريقي مضافا إلى ان هذا النّظر
التنزيلي يختلف سنخا بحسب مرحلة المدلول التصديقي عن جعل الطريقية وإبراز شدة
الاهتمام بالواقع لترتيب المنجزية العقلية ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا
يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، وهذا هو نفس إشكال صاحب الكفاية ( قده ) بتقريبه
العرفي الإثباتي المتقدم وإن كان الإشكال بصياغته الثبوتية غير وارد.
بل بحسب مقام
الإثبات نواجه في هذا الموقف إشكالا أشد مما سبق فانه حتى لو فرض إمكان الجمع بين
المدلولين المختلفين سنخا في دليل واحد اتجه هنا إشكال إثباتي آخر من ناحية ان
دليل الحجية بعد أن لم يكن بلسان التنزيل بل بلسان جعل الطريقية واعتبار ما ليس
بعلم علما ـ مسلك الميرزا ـ فلا تنزيل ليتمسك بإطلاق التنزيل لجميع آثار القطع
وانما لا بد وأن يستفاد ترتب آثار القطع على ما ليس بعلم حقيقة بل اعتبارا وإنشاء
بقرينة عقلية كدلالة الاقتضاء لكي لا يكون الاعتبار لغوا ، فصونا لكلام المولى عن
اللغوية لا بد وأن يحمل اعتبار العلمية على انه بداعي ترتيب ما للقطع من الأثر ،
ومن الواضح ان دلالة الاقتضاء دلالة عقلية لا تثبت إطلاقا أو عموما إذ يكفي في دفع
اللغوية ثبوت أثر في الجملة ، وفي المقام باعتبار ان ترتب آثار القطع الطريقي
متيقن على أي حال بحيث لا يحتمل العكس فلا لغوية ولا مقتضي لدلالة الاقتضاء. هذا
كله مضافا إلى ما أشرنا إليه في النقطة الأولى في مستهل هذا البحث من انا لا نواجه
عبارة واردة في دليل لفظي ليبحث عن إمكان التمسك بإطلاقه
لقيام الأمارة
مقام القطعين الطريقي والموضوعي معا بجعل واحد وصيغة واحدة ، وانما مهم الدليل على
الحجية في الشبهات الحكمية تتمثل في السيرة العقلائية التي هي دليل لبي فلا بد من
ملاحظة مقدار ما انعقدت عليه السيرة وهذا لا ربط له بالجعل الواحد والعبارة
الواحدة ، فقد تكون هناك عبارة واحدة وافية بالمطلبين معا ، ولكن السيرة غير وافية
بذلك وقد يكون بالعكس. والطريق ان المحقق النائيني ( قده ) في بحث كيفية الجمع بين
الأحكام الظاهرية والواقعية بعد أن حاول الجمع بينهما على أساس نفس نكتة جعل
الطريقية والكاشفية استدل على إثبات كون المجعول في الأمارات هو الطريقية بأن مهم
الدليل على حجيتها هو السيرة العقلائية وأما الأدلة اللفظية إذا تمت فهي إمضائية
لا أكثر والسيرة منعقدة على جعل الأمارات علما ولا ندري كيف استكشف من السيرة ان
الصياغة المجعولة لدى العقلاء هي جعل الطريقية لا الإلزام بالعمل مع ان المراد من
سيرة العقلاء بنائهم بما هم موالي عرفية لهم إلزامات وتكاليف ، واما الأدلة
اللفظية الآمرة بالاخذ بخبر الثقة فاستفادة جعل الطريقية والعملية منها بهذا
المعنى أبعد وأوضح. فالصحيح مراجعة هذه السيرة ليرى هل انها منعقدة على اعتبار
الأمارة علما في المقامين أو في خصوص موارد القطع الطريقي؟
ولسنا نواجه دليلا
لفظيا لكي يقال بأنه بعد فرض ان المجعول هو الطريقية نتمسك بإطلاقه في الموردين ،
وانما نواجه دليلا لبيا لا بد من البحث عن مقدار مدلوله سواء كان جعلا واحدا أو
جعلين فإتعاب النّفس في تشخيص صياغة المجعول وكيفيتها لا طائل تحته.
وحينئذ نقول : انه
لا يستفاد من السيرة العقلائية على حجية الأمارات أكثر من قيامها مقام القطع
الطريقي في التنجيز والتعذير ، لأن العقلاء ليست لهم أحكام يؤخذ فيها القطع موضوعا
بنحو شايع معروف بحيث تنعقد سيرتهم على معاملة الأمارات في موارد تلك الأحكام
معاملة القطع الموضوعي ، وانما المعروف والشائع عندهم في المولويات العرفية الآداب
والالتزامات القائمة فيما بين الموالي والعبيد والآباء والأبناء والتي يكون القطع
فيها مجرد طريق إليها وقد انعقدت سيرتهم على الاعتماد على الطرق وبعض الأمارات
الظنية بدلا عن القطع بها. فان أريد استفادة قيام الأمارات مقام
القطع الموضوعي
بدعوى ان السيرة قد انعقدت على اعتبار الأمارة علما حتى بلحاظ أحكامهم العقلائية
في موارد القطع فقد عرفت انه لا توجد أحكام عقلائية كذلك واضحة وشائعة ليستفاد
انعقاد سيرتهم العملية على إقامة الأمارة مقام القطع فيها وترتيب آثاره عليها.
وإن أريد ان
سيرتهم منعقدة على اعتبار الأمارة علما في الأحكام الشرعية التي قد أخذ في موضوعها
القطع الموضوعي فهذا غير معقول في نفسه ، فان شأن كل مشرع أن يتصرف في دائرة تشريع
نفسه لا أحكام غيره.
وعليه فلا يمكن أن
يستفاد من أدلة الحجية في الشبهات الموضوعية أكثر من قيام الأمارة مقام القطع
الطريقي فحسب.
واما موقف صاحب
الكفاية ( قده ) فقد حاول في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ( قده ) أن يحل
الإشكال بافتراض ان دليل تنزيل المؤدي منزلة الواقع المثبت بالمطابقة قيام الأمارة
مقام القطع الطريقي يدل بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي التعبدي
الحاصل ببركة التنزيل الأول منزلة القطع بالواقع الحقيقي الواقع موضوعا للحكم شرعي
، وبذلك يندفع الإشكال لعدم اجتماع التنزيلين في مدلول واحد وجعل واحد كي يلزم
محذور اجتماع اللحاظين المتنافيين أو نحو ذلك. اما وجه اللزوم مع وضوح عدم التلازم
عقلا فيمكن أن يقرب تارة عرفيا ـ كما هو ظاهر عبارته في الحاشية ـ بدعوى ان العرف
من باب عدم دقة نظره ومسامحته بعد أن يرى ان المؤدى واقع يتخيل ان القطع به قطع
بالواقع أيضا. وأخرى عقليا ـ كما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ من باب الاقتضاء
حيث ان تنزيل المؤدى في مورد يكون فيه الواقع جزء الموضوع للحكم لغو لو لا تنزيل
لشيء آخر منزلة القطع بالواقع ، والعرف بحسب مناسباته وذوقه يشخص ان الأمر الآخر
الدائمي الوجود والمناسب لتنزيله منزلة القطع بالواقع انما هو القطع بالواقع
التنزيلي.
وقد أورد صاحب
الكفاية نفسه على هذا الموقف في كفايته بما يتألف من مقدمتين :
أولاهما
ـ ان التنزيلين المذكورين طوليان ، حيث انه قد أخذ في موضوع
التنزيل
الثاني القطع
بالواقع التنزيلي وهو في طول الواقع التنزيلي لا محالة فيكون تنزيله منزلة القطع
بالواقع الحقيقي أيضا في طول الواقع التنزيلي المتحقق بالتنزيل الأول.
الثانية
ـ انه يشترط في تنزيل شيء منزلة جزء موضوع حكم مركب من جزءين
أو اجزاء أن يكون هذا التنزيل في عرض إحراز الجزء الاخر أو تنزيل شيء آخر منزلة
ذلك الجزء ، ويستحيل أن يكون في طوله كما هو الحال في المقام ، لأن واقع التنزيل
في باب موضوعات الأحكام عبارة عن إسراء حكم موضوع إلى موضوع اخر ، وجزء الموضوع
ليس له حكم حتى ينزل منزلته وانما الحكم للمجموع فتنزيل شيء منزلته لا يكون إلا
ضمن تنزيل واحد بلحاظ تمام الموضوع ، فأخذ تنزيل جزء الموضوع في موضوع تنزيل الجزء
الاخر خلف وحدة الحكم المنزل عليه وكون التنزيل بلحاظ تمام اجزاء موضوعه تنزيلا
واحدا.
ولعل هذا التفسير
لكلام صاحب الكفاية ( قده ) أحسن مما يتراءى من ظاهر عبارته من الاعتراض بإشكال
الدور ، على ان في العبارة تشويشا في كون الدور بين الدلالتين أو المدلولين.
اما تقريب الدور
بين الدلالتين فبأن يقال : ان دلالة دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع
فرع ثبوت دلالة أخرى على تنزيل الشيء الاخر منزلة الجزء الاخر إذا كان التنزيل في
الجزءين معا إذ لو لم تتم الثانية كانت الأولى لغوا فتكون غير منعقدة ، والدلالة
الأخرى في المقام باعتبارها دلالة التزامية تكون فرع الدلالة الأولى ومتوقفة عليها
وهذا دور.
وفيه : ان هذه
المغالطة بنفسها جارية في التنزيلين العرضيين أيضا ، فان كلا من الدلالتين تكون
متوقفة على الأخرى وإلا كانت لغوا وهو دور. وحلها واضح حيث ان ثبوت كل من
الدلالتين فرع سد باب عدم الأخرى من النواحي الأخرى لا من هذه الناحية ، أي فرع
ثبوت قضية شرطية مفادها لو ثبت هذا كان ذاك أيضا ثابتا فان هذا كاف في دفع اللغوية
الّذي هو ملاك هذه الدلالة كما لا يخفى.
واما تقريب الدور
بين المدلولين : فباعتبار ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع
بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي وإلا كان لغوا ،
والتنزيل الثاني
متوقف على التنزيل الأول توقف الحكم على موضوعه إذ لو لا التنزيل الأول لما كان
قطع بالواقع التنزيلي وهذا دور.
وهذا أيضا مغالطة
جارية في التنزيلين العرضيين أيضا ، فانه إذا كان كل من الدلالتين بنكتة دفع
اللغوية متوقفة على الأخرى لزم الدور. والجواب واحد أيضا وهو ان هذا التوقف ليس من
التوقف على فعلية التنزيل الاخر بل على ثبوته في فرض ثبوت الأول دفعا للغوية ، أي
ان كلا منهما لا بد وأن يكونا معا وضمن تنزيل واحد لأنه إسراء واحد بحسب الحقيقة.
فصياغة الإشكال بتقريب الدور غير سديد ، وانما الصحيح صياغته بالنحو الّذي ذكرناه.
وقد أفاد المحقق
العراقي ( قده ) انتصارا لما جاء في الحاشية ودفعا لمحذور استحالة طولية التنزيلين
في المقام بان كل جزء من اجزاء الموضوع أيضا له حكم ولكن معلقا على انضمام الجزء
الأخرى ، المولى في مقام التنزيل لا يطلب أكثر من إسراء هذا الحكم التعليقي على
المنزل ، وبما ان هذا الحكم التعليقي تمام موضوعه نفس الجزء أمكن أخذه في موضوع
التنزيل الاخر للجزء الاخر
من دون محذور.
والتحقيق : اننا
تارة نبني على الاتجاه الصحيح والمختار في نظرية الحكومة والتنزيل من انها مجرد
صياغة لفظية في مقام الإثبات يكشف عن مدلول تصديقي هو التخصيص ، وأخرى نبني على
انها عملية إنشائية ثبوتية كما هو المنسجم مع تصورات صاحب الكفاية ومدرسته.
فعلى الأول فلو
نزل الشارع مثلا الرشد منزلة البلوغ في وجوب الحج مثلا ، والبذل منزلة الاستطاعة
فحقيقة هذا التنزيل هو حقيقة التقييد والتنزيل مجرد بيان وتعبير عن القرينة
المنفصلة ، ومن الواضح انه على هذا الأساس لا يكون التنزيل إسراء وجعلا للحكم
وانما هو طرز لبيان سعة الحكم فتعدد التنزيل معناه تعدد البيان والقرائن المنفصلة
في مقام تحديد ما هو موضوع الحكم الشرعي في الدليل المنزل عليه. فلا يبقى موضوع
لأصل شبهة المحقق الخراسانيّ فضلا عن جواب المحقق العراقي.
وانما ينفتح موضوع
لهذا البحث بناء على الاتجاه الثاني القائل بأن التنزيل حقيقة ثبوتية بنفسها وجعل
للحكم بعنوان الإسراء ، فإشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) مبني
على هذا الافتراض
وحينئذ لا يتم ما أورده المحقق العراقي عليه وذلك.
أولا
ـ لأن التنزيل بلحاظ الحكم التعليقي المرتب على جزء الموضوع
غير معقول ، لأن هذا الحكم بحسب حقيقته مدلول إخباري منتزع عقلا عن جعل الحكم
الشرعي الواحد وترتيبه على الموضوع المركب لا انه بنفسه حكم شرعي ، وإلا لزم تعدده
عند اجتماع الجزءين لثبوته في كل منهما ، فالتنزيل منزلة الجزء بلحاظ هذا الحكم
بنحو ينتج النتيجة المطلوبة لا يعقل ـ بناء على ما هو المفروض من ان التنزيل عملية
ثبوتية ـ إلا بلحاظ منشأ الحكمين الانتزاعيين وهو حكم واحد لا محالة فلا يعقل
الطولية بين اجزائه في التنزيل.
وثانيا
ـ لو تعاملنا مع
القضيتين التعليقيتين كحكمين مجعولين مع ذلك لا يصح ما أفاده المحقق المذكور ، لأن
المقصود من هذا التنزيل إسراء حكم الموضوع المركب من جزءين ـ كالاستطاعة والبلوغ
أو الواقع والقطع به ـ إلى موضوع اخر مركب من جزءين أيضا بدلا عن الجزءين
المذكورين ـ كالبذل والرشد أو المؤدى والقطع بكونه واقعا تنزيليا ـ وليس المقصود
تنزيل أحد الجزءين منزلة الجزء الاخر منضما إليه جزؤه الأول الحقيقي ، فان هذا مما
لا إشكال فيه عند أحد فانه في فرض إحراز جزء الموضوع المركب لحكم لا مانع من تنزيل
شيء منزلة جزئه الاخر كما صرح به صاحب الكفاية نفسه ، فموضوع الكلام والإشكال ما
ذا أريد التنزيل منزلة كلا جزئي الموضوع ـ كما هو المقام فان المؤدى مع القطع
بالواقع الحقيقي لا يجتمعان ـ وحينئذ نقول : الحكم التعليقي لكل من جزئي الموضوع
في المنزل عليه انما هو ترتب الأثر الشرعي ـ كوجوب الحج ـ على تقدير انضمام الجزء
الاخر من موضوع المنزل عليه ، فإذا أريد التنزيل بلحاظ هذا الحكم وان البذل مثلا
ينزل منزلة الاستطاعة في انه إذا انضم إليه البلوغ وجب الحج فهذا لا ينتج المقصود
إذ المطلوب إسراء الحكم لفرض اجتماع البذل مع الرشد لا اجتماعه مع البلوغ ، وإن
أريد تنزيله منزلة الاستطاعة في انه لو انضم إليه الرشد لوجب الحج الثابت بمقتضى
التنزيل الاخر في الجزء الاخر أعني تنزيل الرشد منزلة البلوغ ، فهذا مضافا إلى انه
لم يكن ثابتا في المنزل عليه بقطع النّظر عن دليل التنزيل ودليل التنزيل ناظر
دائما إلى الحكم الثابت في المنزل عليه بقطع النّظر عن نفسه مستحيل لأنه يستلزم
نظر كل من
التنزيلين إلى مدلول الاخر وتوقفه على ثبوته وهذا دور.
ولا
يقال : ـ كما تصدق القضية التعليقية القائلة بان الاستطاعة إذا انضم
إليها البلوغ ثبت وجوب الحج كذلك تصدق قضية انها إذا انضم إليها ما ينزل شرعا
منزلة البلوغ ثبت وجوب الحج ، وهذه قضية صادقة حتى لو لم يثبت تنزيل شيء منزلة
البلوغ ، فان صدق الشرطية لا تستلزم صدق الطرفين ، فإسراء هذا الحكم التعليقي في
كل من الجزءين الأصليين إلى الجزءين التنزيليين لا يتوقف على ثبوت تنزيل فعلي لكي
يلزم الدور وتوقف مفاد كل من التنزيل على الاخر.
فانه يقال : ـ على
هذا التقدير يكون كل من التنزيلين في الجزءين مثبتا للحكم التعليقي المذكور على
الجزءين التنزيليين من دون إمكان إثبات فعلية التنزيل في شيء منهما بحيث يثبت
بالفعل إسراء الحكم إلى صورة اجتماع الرشد مع البذل ، لأن ذلك متوقف على ثبوت حكم
لفرض اجتماع كل واحد من الجزءين الأصليين مع الجزء التنزيلي للآخر ولا مثبت لذلك
بحسب الفرض غير هذا الدليل الّذي لا يفي بذلك بحسب الفرض.
والحاصل ـ ان
تنزيل المؤدى منزلة الخمر الواقعي لا بد وأن ينظر فيه إلى حكم ثابت للخمر اما فعلي
أو تعليقي ليسري بالتنزيل إلى المؤدى ، فلا بد وأن يكون نظر دليل التنزيل إلى حكم
ثابت للخمر الواقعي يكون المقصود إسراؤه إلى المنزل عليه وإلا فالتنزيل غير معقول
، والحكم الثابت في المنزل عليه هنا إن كان هو الحكم المعلق المستفاد من الجعل
الأولي للحكم على الخمر المقطوع الخمرية فهذا خلف ، لأنه معلق على انضمام الجزء
الأصلي الاخر ، فلو أريد إسراؤه لما انتج المقصود ، بل هو في نفسه غير معقول في
خصوص المقام لأن الجزء المعلق عليه في المقام هو القطع بالخمرية ومع حصوله لا يبقى
موضوع التنزيل الظاهري في المؤدى ، وإن كان هو الحكم المعلق على القطع التنزيلي
الثابت ببركة التنزيل الثاني فهذا أيضا خلف ، فان هذا معناه ان التنزيل الثاني قد
ضم فيه الجزء التنزيلي الثاني ـ وهو القطع بالواقع التنزيلي ـ لا الجزء الأصلي من
الاخر ـ وهو الخمر الواقعي ـ ، بل يلغو التنزيل الأول حينئذ لأن الجزء التنزيلي
الثاني دائما في خصوص المقام يكون مع التنزيلي الأول لكونه في طوله ،
فلا يبقى إلا أن
يكون التنزيل بلحاظ حكم غير ثابت للمنزل عليه بل يثبت بنفس دليل التنزيلين وهذا
محال ، لأنه لو أريد فيه النّظر إلى إسراء الحكم الثابت في نفس هذا الدليل فهو
محال في نفسه لأن معناه افتراض ثبوته قبل ثبوته وإن أريد فيه عدم النّظر إلى حكم
موضوع أصلا فهو خلف فرض التنزيل.
وثالثا ـ ان تنزيل
القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي معناه أخذ القطع بالواقع
الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد وهذا معناه أخذ القطع
بالحكم في موضوع شخصه وهو محال عندهم. نعم لو فرض ان الحكم متعدد كما ان التنزيل
متعدد فالمأخوذ في أحد الحكمين العلم بالحكم الاخر ولا مانع منه إلا انه خلف وحدة الحكم
الشرعي المقصود بالتنزيل.
واما كلام المحقق
الخراسانيّ ( قده ) في الكفاية فيرد عليه :
أولا
ـ بطلان المقدمة
الثانية القائلة باستحالة الطولية بين التنزيلين لجزئي الموضوع الواحد ، فان
التنزيل كما عرفت مجرد لسان إثباتي ولا يعني إسراء حقيقيا للحكم إلا بلحاظ المدلول
التصديقي الجدي فتعدد التنزيل ليس إلا من باب تعدد القرينة المنفصلة الكاشفة عن
جعل الحكم على الموضوع المركب.
ثانيا
ـ بطلان المقدمة
الأولى في كلامه وهي دعوى الطولية بين التنزيلين ، فان تنزيل القطع بالواقع
التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ليس في طول تنزيل المؤدى ، لأن تنزيل شيء
منزلة شيء آخر لا يتوقف على وجود المنزل خارجا بل يتوقف على مجرد افتراضه ، ولذلك
ينزل الفقاع منزلة الخمر حتى لو لم يكن فقاع خارجا ، فتنزيل القطع بالمؤدى
التنزيلي لا يتوقف على أكثر من فرض ذلك. نعم هنا إشكال اخر وهو إشكال أخذ القطع
بالحكم في موضوع شخصه حيث ان التنزيلين بلحاظ حكم واحد وإسراء واحد ، وهذا جوابه
ما عرفت مرارا من إمكان أخذ القطع بالجعل في موضوع فعلية المجعول.
ودعوى : ان الجزء
الثاني هو القطع بالخمر الواقعي خارجا فيكون الجزء التنزيلي الاخر أيضا هو القطع
بالواقع التنزيلي أي العلم بفعلية التنزيل لا العلم بالجعل فان هذا هو المناسب
عرفا تنزيله منزلة القطع بالواقع واما العلم بالجعل فليس علما
بالخمرية لا
الواقعية ولا التنزيلية.
مدفوعة ـ بان
القطع بالحكم الفعلي وإن كان هو المناسب إلا ان مجموع القطع بالجعل والقطع بموضوعه
كالقطع بالفعلة من حيث المناسبة فإذا كان ذاك مستلزما للدور ومحالا فهذا غير
مستلزم وهو ملازم مع ذاك والمفروض ان منشأ الدلالة هو الاقتضاء وصون الجعل عن
اللغوية لا الدلالة اللفظية لنعمل فيه هذه المناسبات العرفية.
ثالثا
ـ لو سلمنا المقدمتين معا مع ذلك أمكننا تتميم كلام الحاشية
بان الدلالة الالتزامية اما أن تكون عرفية أو عقلية بدلالة الاقتضاء ، فعلى الأول
ننقل الكلام إلى مورد يكون الواقع فيه تمام الموضوع لحكم واقعي كحرمة الشرب مثلا ،
ويكون القطع تمام الموضوع لحكم اخر كوجوب الإراقة مثلا ، ومعه يكون هناك تنزيلان
مستقلان لا ربط لأحدهما بالاخر ويكون القطع بالواقع التنزيلي حاصلا بقطع النّظر عن
التنزيل الثاني وبلا توقف عليه وملاك الدلالة الالتزامية العرفية وهي المسامحة
وعدم الفرق بين القطع بالواقع الحقيقي والقطع بالواقع التنزيلي جار هنا أيضا فيتم
المطلوب.
وعلى الثاني ـ فلو
فرض ان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي مستحيل فيستكشف
ان امرا اخر هو الّذي نزل منزلة القطع بالواقع ، فان دلالة الاقتضاء لم تكن تعين
ابتداء ما هو المنزل منزلة الجزء الثاني وانما عينا ذلك بالمناسبات العرفية فإذا
كان ذلك محالا فليكن المنزل الظن بالواقع مثلا أو أمر اخر ملازم.
رابعا
ـ ان الطولية لو كانت فهي بحسب الحقيقة بين التنزيل الثاني
والتنزيل الأول ، أي اننا بالتدقيق سوف نلاحظ ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع هو
الّذي يكون في طول تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ،
وذلك باعتبار ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع تنزيل ظاهري بينما تنزيل القطع به
منزلة القطع بالواقع في أثر القطع الموضوعي تنزيل واقعي ، وكل تنزيل ظاهري يكون في
طول التنزيل الواقعي لكونه مأخوذا في موضوعه الشك فيه ، وفي المقام التنزيل بلحاظ
المؤدى ظاهري بحسب الفرض فان أدلة الحجية تثبت أحكاما ظاهرية قد أخذ في موضوعها
الشك في
الحكم الواقعي في
مواردها مع حفظ الواقع على واقعيته بحيث قد ينكشف الخلاف ، واما تنزيل القطع
بالواقع التنزيلي فهو لا يكون تنزيلا ظاهريا لأن القطع الموضوعي الّذي هو المنزل
عليه يقطع بعدمه لا انه مشكوك ـ كما في الواقع والمؤدى ـ وكلما كان دليل التنزيل
يثبت حكما في مورد يقطع فيه بعدم حكم المنزل عليه كان تنزيلا واقعيا لا محالة وعلى
هذا الأساس يترتب في المقام :
أولا
ـ أن تكون طولية
التنزيلين على عكس ما كان يتراءى لصاحب الكفاية ( قده ) أي يكون تنزيل المؤدى في
طول تنزيل القطع به منزلة القطع بالواقع تنزيلا واقعيا لكي يعقل الشك في ثبوت ذلك
الحكم الواقعي في مورد الأمارة فينزل مؤداه منزلة الواقع.
وثانيا ـ ان تعدد التنزيل وطوليتهما لا إشكال فيه لأنه يوجد بحسب
الحقيقة حكمان أحدهما ظاهري والاخر واقعي فلا محذور في التعدد ولا في الطولية بين
التنزيلي فالمشكلة المثارة من قبل صاحب الكفاية ( قده ) فرع أن يكون التنزيلان معا
واقعيين وبلحاظ واحد ، وبهذا التحليل اتضح انه لا موضوع للمشكلة أساسا. نعم هنا
إشكال اخر لو فرض أخذ القطع بالحكم الظاهري الفعلي في موضوع التنزيل الواقعي حيث
انه فرع فعلية الحكم الظاهري وهي فرع ثبوت موضوع الحكم الظاهري وهو الشك في الحكم
الواقعي وهو فرع ثبوت القطع التنزيلي وإلا كان يقطع بعدم الحكم الواقعي لأن
التنزيل بلحاظ هذا الجزء واقعي كما قلنا. وهذا إشكال اخر ينحصر الجواب عليه
بافتراض ان المأخوذ في التنزيل الثاني اما هو القطع بالجعل أو الظن بالواقع أي امر
اخر ملازم.
وثالثا
ـ ان التنزيل الأول
في نفسه غير معقول على تقدير ولا يمكن استفادته من دليل الحجية على تقدير اخر ،
توضيح ذلك : ان تنزيل المؤدى ان لم يكن معلقا على جزء اخر فلا يعقل مطابقته للواقع
لأن الواقع وحده لم يمكن له حكم واقعي لكي يجعل بلحاظ الشك فيه حكم ظاهري ، وإن
فرض انه معلق على حصول الجزء الاخر فان كان الجزء الاخر هو القطع بالواقع فهو أيضا
غير معقول ، لأن فرض القطع بالواقع فرض ارتفاع موضوع التنزيل الظاهري في المؤدى ،
وإن فرض انه معلق على القطع
بالواقع التنزيلي
الجعلي فالمفروض انه بقطع النّظر عن دليل الحجية لا دليل على توسعة الحكم الواقعي
لفرض اجتماع الخمر الواقعي مع شيء اخر غير القطع بالواقع ، واما استفادة ذلك من
نفس دليل الحجية بدلالة الاقتضاء فهذه عناية زائدة من الواضح انه لا يمكن استفادتها
بدلالة الاقتضاء إذ دلالة الاقتضاء فرع تمامية موضوع دليل في مورد ولكن يكون
معقولية الحكم فيه متوقفا على ثبوت حكم آخر ، ولا يمكن أن ينقح بدلالة الاقتضاء
أصل موضوعية مورد الدليل وشمول دلالته له ، وفي المقام التنزيل الأول بعد أن كان
ظاهريا فهو موضوعا قد أخذ فيه الشك في الحكم الواقعي فكل مورد لا يوجد فيه شك في
الحكم الواقعي لا يكون مشمولا لإطلاق دليل الحجية ولا يمكن إحراز الشك بدلالة
الاقتضاء. وفي المقام الأمر كذلك فانه بقطع النّظر عن التنزيل الثاني الواقعي
المراد استفادته بدلالة الاقتضاء يقطع بعدم الحكم الواقعي فلا يكون مشمولا لإطلاق
دليل الحجية والتنزيل أصلا.
واما كلام
الخراسانيّ ( قده ) في الحاشية. فيرد عليه :
أولا
ـ ان الدلالة
الالتزامية المذكورة غير ثابتة لا بترتيبها العرفي ولا بتقريبها العقلي.
اما الأول ،
فلوضوح ان الدلالات الالتزامية العرفية دلالات واضحة قريبة من الفهم العرفي ملازمة
مع مدلول اللفظ تصورا أو تصديقا ، وتزيل القطع بالواقع التنزيلي الّذي يصعب تصوره
في نفسه كيف يعقل أن يكون مدلولا عرفيا التزاميا لدليل الحجية؟
واما الثاني ، فهو
أوضح بطلانا فان دلالة الاقتضاء انما تكون فيما إذا كان أصل مفاد الدليل لغوا من
دون افتراض امر زائد عليه لا ما إذا كان إطلاقه لمورد لغوا كما في المقام وإلا فلا
ينعقد الإطلاق لأنه مقيد لبا بوجود الأثر العملي أو عدم اللغوية ففي مورد لا يكون
أثر عملي لا إطلاق في نفسه لكي تضم إليه دلالة الاقتضاء.
وثانيا ـ انه لا يتم لإفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي فيما
إذا كان القطع تمام الموضوع للحكم فانه في مثل ذلك لا يكون المؤدى منزلا منزلة
الواقع لتكون الأمارة منزلة منزلة القطع.
وثالثا
ـ ان حق المطلب أن
يعكس ويقال انه لو ثبت بدليل قيام الأمارة مقام
القطع الموضوعي دل
ذلك بالالتزام على قيامه مقام القطع الطريقي. وذلك لأن القطع قد أخذ عدمه في موضوع
دليل البراءة الشرعية فلو حكم الشارع في مورد بقيام الأمارة منزلة القطع كان
بإطلاقه رافعا لموضوع ( رفع ما لا يعلمون ) وهذا وإن كان مدلوله المطابقي مجرد
ارتفاع الحكم الشرعي بالبراءة ولكن يمكن أن يدعى ان المستفاد منها عرفا ولو
بالالتزام جعل إيجاب الاحتياط في مورد تلك الأمارة الّذي هو معنى حجيتها. ولكن يرد
على هذه الاستفادة بعض ما قلناه على استفادة الحاشية.
وبهذا انتهينا من
الكلمات الثلاث. وقد تلخص من مجموع ما تقدم عدم إمكان استفادة قيام الأمارات مقام
القطع الموضوعي من نفس دليل الحجية. نعم أشرنا في مستهل البحث إلى ان دليل القطع
الموضوعي لو أخذ القطع في موضوعه بما هو حجة لا بما هو قطع قامت الأمارة مقامه
بنفس دليل الحجية للورود لا الحكومة ، ولهذا لا يحتاج إلى إثبات نظر في الدليل
الدال على الحجية إلى دليل القطع الموضوعي فيصح التمسك حتى بالسيرة العقلائية على
ذلك ، ولكن الصحيح مع ذلك التفصيل بين ما إذا كان المؤدى موضوعا مستقلا لحكم شرعي
وما إذا لم يكن كذلك سواء كان القطع تمام الموضوع أو جزء منه فانه في الفرض الثاني
لا تكون الأمارة حجة ليتحقق الورود إذ لا أثر لمؤداها لتكون حجة في إثباته .
__________________
٤ ـ قيام الأمارة مقام القطع
الموضوعي على وجه الصفتية :
المقام الرابع :
في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية ، وفي هذا المقام
لا يوجد مزيد كلام فانه بناء على ما تقدم من الإشكال في قيام الأمارة مقام القطع
الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية في المقام السابق يكون المنع هنا أوضح وأجلى.
واما بناء على
مسالك القوم القائلين بقيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الطريقية ، فائضا لا بد
من المنع من قيامها مقام القطع المأخوذ على وجه الصفتية لأنه قد تقدم عند التعرض
لأقسام القطع في المقام الأول ان صفتية القطع انما تتعقل بمعنى أخذ القطع بلحاظ
معلولاته النفسانيّة من الاستقرار وزوال القلق موضوعا للحكم الشرعي ومن الواضح ان
أدلة الحجية سواء استفيد منها اعتبار الأمارة علما ـ كما تقوله مدرسة المحقق
النائيني ( قده ) ـ أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ كما هو مسلك صاحب الكفاية ـ لا
تتضمن اعتبارها قطعا صفتيا بالمعنى المذكور أو تنزيله منزلة تلك المعلولات بل
غايته اعتباره طريقا كالقطع أو تنزيله منزلة الطريق فيما أخذ موضوعا فيه. فلا بد
من مزيد عناية تنزيل أو اعتبار وهي غير موجودة سواء كان دليل الحجية لفظيا أو
لبيا.
وهكذا يتضح ان
الأمارات فضلا عن الأصول العملية لا تقوم مقام القطع الموضوعي. وينبغي التنبيه على
أمور :
١ ـ انه بناء على
ما عليه المشهور من قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا تثبت في
مواردها كل من أحكام المؤدى وأحكام القطع نفسه ببركة دليل الحجية ولكن لا بد من
الالتفات إلى ان التوسعة والحكومة بلحاظ أحكام المؤدى حكومة ظاهرية وبلحاظ أحكام
القطع نفسه حكومة واقعية ، وذلك لما تقدم من ان كل توسعة تثبت بلحاظ الشك في الحكم
الموسع وفي مرحلة حفظه في مورد التزاحم تكون ظاهرية وكل توسعة تثبت في مورد يقطع
فيه بعدم الحكم الموسع لو لا تلك التوسعة تكون واقعية ولهذا لا يعقل في الحكومة
الواقعية انكشاف للخلاف كما إذا جعل الطواف بالبيت
صلاة مثلا ، وهذا
بخلاف موارد الحكومة الظاهرية وقد عرفت ان التوسعة الحاصلة في موارد الأمارات
بلحاظ أحكام المؤدى انما هي بملاك الشك فيها فتكون ظاهرية واما بلحاظ أحكام القطع
نفسه التي يقطع بعدمها لعدم موضوعها لو لا هذه التوسعة فالحكومة واقعية على حد
الحكومة في دليل الطواف.
٢ ـ هناك بحث بناء
على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا ـ في ان ذلك هل يكون في طول قيامها
مقام القطع الطريقي بحيث لو لم يكن في مورد أثر للقطع الطريقي لا تقوم الأمارة
هنالك مقام القطع الموضوعي أو لا تلازم بينهما بل هما عرضيان؟. ومن جملة ثمرات ذلك
تخريج عملية إفتاء الفقيه بالاحكام التي تكون خارجة عن محل ابتلائه كأحكام النساء
مثلا. فانه لا أثر بلحاظ مؤدى أدلة تلك الأحكام من الأمارات أو الأصول العملية
بلحاظ نفس الفقيه إذ لا تكون منجزة عليه وانما الأثر بلحاظ نفس العلم بها الواقع
موضوعا للحكم بجواز الإفتاء الّذي هو الحكم الداخل في ابتلائه . فان قيل
بالطولية بين القيامين فلا يمكن للفقيه أن يفتي بالحكم الواقعي لعدم كونه عالما به
ولا وجدانا ولا تعبدا بحسب الفرض وإن قيل بالعرضية بينهما جاز له الإفتاء لكونه
عالما بالواقع اعتبارا أو تنزيلا.
والظاهر ان هذه
النقطة تختلف باختلاف المسالك في مدرك القول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ،
فبناء على مسلك الميرزا ( قده ) من ان دليل الحجية يجعل الأمارة علما لا موجب
للطولية بين آثار القطع الطريقي والموضوعي في قيام الأمارة مقامها ، واما إن مشينا
على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) في حاشيته على الرسائل من ان دليل الحجية يدل
بالمطابقة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع وبالالتزام على تنزيل القطع بالواقع
الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي فربما يقال باختصاص ذلك بما إذا كان للواقع
أثر ولو ضمنا إذ من دون ذلك لا يكون لنا واقع جعلي لكي ينزل القطع به منزلة القطع
بالواقع الحقيقي.
__________________
ودعوى : ان الواقع
في هذه الحالة أيضا يكون له أثر وذلك لأن المفروض ان موضوع الحكم هو القطع
بالخمرية مثلا لا القطع بكل شيء فتكون الخمرية قيدا في موضوع الحكم وإن لم تكن
تمام الموضوع وهو كاف في صحة التنزيل.
مدفوعة : بان هذه
القيدية عنوانية لا واقعية ، بمعنى ان ما هو قيد هو عنوان الخمر ولحاظه لا واقعه
وحقيقته ولهذا يكون الحكم ثابتا ولو لم يكن خمر واقعا. وهذا لا ربط له بتنزيل
المؤدى منزلة الواقع فان الأثر الملحوظ في هذا التنزيل انما هو أثر الخمر بوجوده
الحقيقي وبالحمل الشائع لا بوجوده اللحاظي وهذا واضح.
٣ ـ ويتضح على ضوء
ما تقدم في الأمرين السابقين انه يمكن النقض على مسالك مدرسة الميرزا وتصوراتها في
كيفية استفادة قيام الأمارات والأصول المحرزة مقام القطع الموضوعي أن لا يكون
العلم الإجمالي بمخالفة إحدى الأمارتين ـ أعني موارد التعارض بين الأمارتين بملاك
العلم الإجمالي بكذب إحداهما ـ مبطلا لقيامهما مقام القطع الموضوعي وترتيب الأثر
المترتب عليه على كل منهما رغم تعارضهما وتساقطهما بلحاظ الواقع وآثار القطع
الطريقي. وهذه نتيجة غريبة لا يلتزم بها فقهيا فمثلا يجوز للفقيه أن يفتي بكل من
الأمارتين اللتين يعلم بكذب إحداهما ، والوجه في ذلك هو ما تقدم في الأمر الأول من
ان حكومة دليل الحجية بلحاظ أثر القطع الموضوعي بناء على جعل الطريقية واعتبار
الأمارة علما ـ حكومة واقعية ـ لا ظاهرية كما هو الحال بلحاظ آثار القطع الطريقي ـ
فلا انكشاف للخلاف بلحاظ هذا الأثر ولا يكون العلم الإجمالي بكذب إحداهما مانعا عن
ترتب أثر القطع الموضوعي بعد فرض ان قيامها مقام القطع الموضوعي ليس في طول حجيتها
في إثبات الواقع والمؤدى. وانما خصصنا النقض بموارد التعارض بملاك العلم الإجمالي
دون التعارض بملاك التناقض لأنه في موارد التناقض بين المؤديين يدعى وضوح عدم
إمكان اعتبار العلمية والكاشفية ولو عرفا بلحاظ النقيضين فكأن نفس اعتبار أحدهما
علما ينفي بدلالة التزامية عرفية اعتبار الآخر علما أيضا فيقع التعارض في دليل
الحجية بلحاظ إقامة الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا. ودعوى : انه في موارد
التعارض بين الأمارتين بملاك العلم الإجمالي أيضا يوجد تعارض بملاك التناقض
باعتبار حجية الدلالة الالتزامية في باب الأمارات فيكون كل منهما دالا بالالتزام
على
كذب الاخر بنحو
التناقض ، مدفوعة : بأنا ننقل الكلام إلى الأصول المحرزة حيث لا تكون المداليل
الالتزامية لها بحجة .
__________________
أخذ العلم
بالحكم في موضوعه
الجهة
الرابعة : في أخذ القطع
بالحكم في موضوع الحكم ولا إشكال في إمكان أخذ القطع بشيء خارجي ـ كمجيء الحاج
مثلا ـ في موضوع حكم شرعي ـ كوجوب الصدقة ـ واما القطع بالحكم الّذي يؤخذ في موضوع
حكم أيضا ، فتارة يكون الحكمان متخالفين وأخرى متضادين وثالثة متماثلين ورابعة
متحدين.
اما
القسم الأول ـ فلا إشكال في إمكانه كما
إذا أخذ القطع بوجوب الصلاة في وجوب الصوم مثلا.
واما
القسم الثاني ـ وهو أخذ القطع بحكم في
موضوع حكم مضاد كما إذا قال إذا قطعت بوجوب الصلاة حرمت عليك أو إذا قطعت بحرمة
الخمر فهو حلال لك. فهذا مستحيل لأنه يعني جعل حكم رادع عن طريقية القطع وكاشفيته
وقد تقدم انه لا يعقل لا على أن يكون حكما ظاهريا لعدم معقولية ملاكه في مورد
القطع ولا واقعيا للزوم التضاد ونقض الغرض على ما تقدم شرحه فيما سبق مفصلا.
واما
القسم الثالث ـ وهو أخذ القطع بحكم في
موضوع حكم مماثل كما إذا قال إذا قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك أو مقطوع الحرمة حرام
فهذا بحسب الحقيقة هو البحث المتقدم في بحوث التجري عن إمكان جعل خطاب شرعي يشمل
المتجري والعاصي
معا بعنوان مقطوع
الحرمة أو مقطوع الوجوب ، غاية الأمر ان موضوع البحث هناك خصوص القطع بالحكم
الإلزامي الّذي يتصور بلحاظ التجري وهنا مطلق الحكم.
وهنا نزيد بيانا
جديدا لم نذكره فيما سبق لإثبات الاستحالة.
وحاصله : انه قد
يبرهن على استحالة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل له ببرهان انه في مورد
اجتماع الحكمين حينئذ اما ان يلتزم بتعددهما أو بتأكدهما وكلاهما مستحيل فالمقدم
مثله.
اما بطلان التعدد
فلمحذور اجتماع المثلين ، حيث ان الأحكام كالإعراض بلحاظ موضوعاتها فيستحيل اجتماع
فردين متماثلين منها عليه.
واما بطلان التأكد
فبأحد بيانين :
١ ـ ان الحكمين
بحسب الفرض طوليان حيث انه قد أخذ في موضوع أحدهما القطع بالاخر ويستحيل توحد
الحكمين الطوليين وتأكدهما لأن ذلك يعني وحدة وجودهما مع انهما في رتبتين فيلزم
تأخر المتقدم وتقدم المتأخر بحسب عالم الرتبة وهو محال.
وهذا البيان سنخ
ما يقال في باب المقدمات الداخلية من انه لا يمكن افتراض وجوبها الغيري مع كونها
عين المركب الواجب النفسيّ لا بنحو التعدد لأنه من اجتماع المثلين ولا بنحو التأكد
لأن الوجوب الغيري في طول الوجوب النفسيّ فيستحيل توحده معه.
٢ ـ ان التأكد
بحسب عالم الجعل والحكم لا يعني بأن يندمج أحد الجعلين تكوينا في الاخر ، فان هذا
غير معقول في نفسه بل يعني ان مادة اجتماع الحكمين تخرج عن كل من الجعلين ويجعل
عليها جعل ثالث أكيد ومادة الاجتماع في المثال هو الخمر الحرام المقطوع حرمته ،
ومن الواضح انه يستحيل إخراجها عن الجعلين الأوليين إذ يلزم تقييد جعل حرمة الخمر
بالخمر غير المقطوع حرمته وتقييد جعل حرمة مقطوع الحرمة بغير المصادف للواقع وكلا
هذين التقييدين محال ، إذ الأول من باب أخذ عدم القطع بالحكم في موضوعه وهو على حد
أخذ القطع به فيه إشكال معروف عندهم ، والثاني من باب تقييد الحكم بالقطع غير
المصيب وهو غير قابل للتنجيز أيضا إذ القاطع يرى قطعه مصيبا دائما.
وملخص الجواب على
هذه الشبهة : ان الكلام إذا كان بلحاظ عالم الجعل فالمتعين الالتزام بالشق الأول
وهو تعدد الحكم ولا يلزم محذور اجتماع المثلين لأنه انما يكون في الصفات الحقيقية
الخارجية لا الأمور الاعتبارية ، وإن كان الملحوظ عالم الملاك ومبادئ الحكم من
الحب والبغض والإرادة والكراهة فالمتعين الالتزام بالشق الثاني وهو التوحيد
والتأكيد ولا ينشأ محذور من ناحية الطولية بين الحكمين إذ يكفي في دفعه أن يقال ان
التأخر والتقدم بين الحكمين في المقام من التقدم والتأخر بالطبع لا بالعلية ،
لوضوح ان الحكم الأول ليس علة للحكم الثاني وتوحد المتأخر بالطبع مع المتقدم
بالطبع لا محذور فيه كما هو الحال بين الجزء والكل والجنس والنوع.
واما
القسم الرابع ـ وهو أخذ القطع بالحكم في
موضوع شخصه. فالبحث فيه يقع في مقامين :
١ ـ في أخذ القطع
بالحكم شرطا في ثبوت شخص ذلك الحكم.
٢ ـ في أخذه مانعا
عن ثبوته أي أخذ عدم العلم بالحكم في ثبوته.
اما
المقام الأول ـ فالمعروف بين المحققين
استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه بحيث يناط به ثبوته ولعل أول من تنبه إلى
تسجيل هذا المطلب هو العلامة ( قده ) في بحوثه الكلامية في مقام الرد على العامة
القائلين بالتصويب حيث أورد عليهم بان ذلك يستلزم المحال لأنه من أخذ العلم بالحكم
في موضوع شخصه وهو دور ، إذ العلم بالحكم متأخر عن الحكم وفي طوله فإذا أخذ في
موضوعه لزم أن يكون الحكم متأخرا عنه وفي طوله وهذا دور.
والتحقيق : انه إن
أريد أخذ القطع بالحكم في موضوعه بنحو يكون كل من القطع والمقطوع به معا مأخوذين
في موضوع الحكم أي القطع بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض فهذا واضح الاستحالة لأنه
دون بل أشد من الدور لأنه من توقف الشيء على نفسه ابتداء وبلا دوران وهو روح الدور
ونكتة استحالته.
وإن أريد أخذ
القطع دون المقطوع به أي القطع بما هو مضاف إلى المقطوع به بالذات ففي الصياغة
المذكورة للمحذور إشكال واضح وهو ان الحكم الّذي أخذ في موضوعه العلم به وإن كان موقوفا
على العلم ولكن العلم به غير موقوف على الحكم بل يتوقف
بحسب بنائه ووجوده
التكويني على المعلوم بالذات فان ما يقوم العلم هو المعلوم بالذات القائم في نفس
العالم لا المعلوم بالعرض الموجود في الخارج ببرهان تخلفه عنه في موارد خطأ القطع
وعدم اصابته للواقع.
وهنالك وجوه ثلاثة
ذكرت من قبل المحققين بصدد التعويض عن محذور الدور تثبت الاستحالة بنحو آخر.
الوجه
الأول ـ لزوم محذور الخلف ، فان القطع من خصائصه التكوينية الكشف عن
الواقع وإراءته ولازمه أن القطع يرى القاطع ان المقطوع به شيء مفروغ عنه ثابت في
الواقع بقطع النّظر عن قطعه بحكم كونه كاشفا ومرآتا ويترتب على ذلك استحالة أخذ
القطع بحكم في موضوع شخصه ، لأنه إن أريد أخذ القطع بحكم ثابت بلحاظ نفس هذا القطع
فهذا خلف الخصوصية التكوينية المذكورة ، وإن أريد أخذ القطع بحكم ثابت بقطع النّظر
عن القطع نفسه فهذا الحكم ليس شخص ذلك الحكم بل حكم آخر لأن هذا الحكم المقطوع به
الثابت بحسب نظر القاطع بقطع النّظر عن قطعه حكم مطلق والحكم الثابت بسبب القطع
حكم مقيد والمطلق غير المقيد لا محالة ، والحاصل ، ان أخذ القطع بالحكم في موضوع
شخصه يستلزم الخلف بحسب نظر القاطع وهو مستحيل أيضا.
وهذا وجه فني
صحيح.
الوجه
الثاني ـ لزوم اللغوية ،
بتقريب : ان شخص الحكم انما يراد جعله للقاطع به بحسب الفرض ففي المرتبة السابقة
لا بد من فرض ثبوت القطع بالحكم لكي يجعل عليه ومن الواضح ان في هذه المرتبة إذا
لم يكن القطع بالحكم كافيا في محركية العبد ودفعه نحو الامتثال فلا يجدي جعل الحكم
عليه في ذلك أيضا والحكم انما يعقل جعله حيثما تعقل محركيته. وقد ذكر السيد
الأستاذ سنخ هذا البرهان في التجري لإثبات استحالة أخذ القطع بالحرام في موضوع
الحرمة. إلا انه قد تقدم منا عدم صحة هذا البرهان هناك إذ لم يفترض هناك وحدة
الحرمة بل يمكن تعدده ولو بنحو التأكد وهو صالح للمحركية زائدا على محركية التكليف
غير المؤكد. وهذا الكلام غير جار في المقام لأنه بحسب الفرض ليس هناك إلا شخص حكم
واحد يراد أخذ القطع به في
موضوع محركية
زائدة على محركية ما قطع به المكلف.
وهذا الوجه بهذا
المقدار قابل للمناقشة ، فان فائدة الجعل هنا ـ كما هو فائدته في تمام الموارد ـ أن
يصل إلى المكلف فيحركه فان الجعل بنفسه منشأ يتسبب به لإيجاد العلم بالحكم ، كيف
وهذا السنخ من الإيراد لو تم لأمكن أن يورد به على كل جعل ولو لم يؤخذ في موضوعه
العلم به ، فوجوب الصلاة مثلا يقال في حقه انه إن أريد جعله في حق العالم به فهو
لغو لأنه يتحرك من علمه سواء كان هناك وجوب أم لا ، وإن أريد جعله في حق الجاهل
فهو لا يتحرك منه على كل حال. والجواب في الجميع واحد وهو ان المحركية المصححة
للجعل هو أن يحرك في طول وصوله ويكون نفس جعله من علل إيصاله.
الوجه
الثالث ـ انه يلزم منه الدور في عالم وصول الحكم فتكون فعليته
مستحيلة وكل جعل يستحيل فعليته يستحيل جعله ، وجه اللزوم يتضح ببيان مقدمتين :
١ ـ ان الأحكام
بمعنى المجعولات الفعلية التي هي محل الكلام في المقام وصولها انما يكون بوصول
موضوعاتها بعد فرض إحراز أصل الجعل فالعلم بالمجعول تابع للعلم بموضوعه خارجا أي
يكون مستنتجا استنتاجا لميا دائما ولا يتصور فيه العكس إذ ليس المجعول امرا خارجيا
حسيا ليحس به مباشرة.
٢ ـ ان تطبيق هذا
فيما إذا كان العلم بالحكم مأخوذا فيه مستحيل لأن القطع بالحكم يكون متوقفا على القطع
بموضوعه بحكم المقدمة الأولى والمفروض ان موضوعه هو نفس هذا القطع وهذا يعني ان
القطع بالحكم يتوقف على القطع بالقطع بالحكم وهذا دور ، اما لأن القطع بالقطع هو
نفس القطع لأن هذا هو قانون كل الصفات الوجدانية الحضورية ، فانها معلومة بنفس
وجودها لا بصورة زائدة عنها فيكون معناه توقف القطع بالحكم على القطع بالحكم وهو
روح الدور ونكتة استحالته. واما لو افترض ان القطع بالقطع غير القطع نفسه بل صورة
زائدة مقتبسة منه على أساس الإحساس به على حد الإحساس بالأمور الخارجية والإحساس
بالشيء غير إدراكه فلا إشكال في ان القطع بالصفات الوجدانية معلول لها وليس من
قبيل العلم بالأمور الخارجية ولهذا لا يعقل فيها الخطأ والتخلف فيكون القطع بالقطع
بالحكم في المقام متوقفا على القطع
بالحكم فإذا كان
القطع بالحكم متوقفا على القطع بالقطع كان دورا لا محالة ، وهذا يعني استحالة وصول
هذا الحكم وفعليته ومعه يستحيل جعله أيضا. وهذا وجه صحيح أيضا.
وهكذا يتبرهن
استحالة الأخذ بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.
ولكن يبقى التساؤل
بعد هذا عن المخلص عن هذا المحذور في الموارد التي ثبت فيها اختصاص الحكم بالعلم
دون الجاهل كوجوب القصر مثلا أو وجوب الجهر والإخفات. بل لا إشكال عقلائيا
ومتشرعيا في إمكان تخصيص الحكم بالعالم به في نفسه لو أراد المشرع ذلك فلا بد من
تخريج فني لكيفية إمكان ذلك.
وهذا التخريج يكون
على أحد وجهين :
الوجه
الأول ـ أن يؤخذ العلم
بالجعل في موضوع فعلية المجعول ولا محذور لأن الجعل غير المجعول على ما حقق في
بحوث الواجب المشروط ، فيكون العلم بالجعل متوقفا على الجعل وهو لا يتوقف على
فعلية مجعولة فانه عبارة عن حقيقة ينشئها الجاعل قبل أن يكون موضوع في الخارج كما
هو واضح. والّذي يتوقف على العلم بالحكم بهذا المعنى هو فعلية المجعول خارجا عند
تحقق الموضوع ولا محذور في أن تكون فعلية المجعول متوقفة على العلم بكبرى الجعل
على حد توقفها على ساير القيود والشرائط كالبلوغ والقدرة مثلا.
وقد ذكرنا هذا
التخريج للسيد الأستاذ فأجاب عليه بما هو موجود في الدراسات من انه إن أخذ العلم
بجعل الحكم على زيد في موضوع الحكم عليه فمن الواضح ان الجعل لا يكون جعلا على زيد
إلا إذا كان قد تحقق موضوعه في حقه المساوق لفعليته والمفروض استحالة أخذ العلم
بها في موضوع الحكم ، وإن أخذ العلم بجعل الحكم على غير زيد في موضوع الحكم عليه
فهذا ممكن ولكنه خارج عن محل الكلام إذ لا إشكال في إمكان أخذ العلم بحكم شخص في
موضوع الحكم على شخص آخر.
وهذا الجواب غير
تام. فان الجعل نريد به القضية الحقيقية التي نسبتها إلى زيد وغيره على حد واحد.
وإن شئت قلت : ان
المقصود من الجعل هو الكبرى وهو جعل وجوب الحج على
المستطيع العالم
به مثلا فانه لا محذور حينئذ لا في عالم الجعل ولا في عالم فعلية المجعول ، اما في
عالم الجعل فلوضوح ان المأخوذ فيه هو مجرد فرض العالم بالجعل ولا يتوقف ذلك على
فعليته ، واما بلحاظ عالم المجعول والفعلية فلان المكلف يتعلق علمه بتلك القضية
المجعولة لا العلم بفعليتها في حقه ولا العلم بانطباقها عليه وتلك القضية قضية
واحدة ليست امرا إضافيا ، وانما العلم بالانطباق فرع العلم بالصغرى أيضا وهو العلم
بتحقق تمام قيود موضوع تلك القضية خارجا في حق المكلف وهو الّذي يستحيل أخذه في
فعلية الحكم وهذا مطلب واضح الصحة والإمكان عقلا وعقلائيا.
وهذا التخريج لا
يفرق فيه بين أن يقال بان المجعول له وجود حقيقي وراء الجعل أو ليس له إلا وجود
وهمي كما هو الصحيح.
ويترتب على هذا
أثران مهمان :
أحدهما ـ ما تقدم
من تصحيح التصويب في المورد الّذي يقوم الدليل عليه.
الثاني ـ إمكان
نفي احتمال دخالة العلم بالحكم في الغرض والملاك من الحكم حيث انه يكون التقييد به
ممكنا فيكون التمسك بالإطلاق في الخطاب لنفي إطلاق الغرض والملاك ممكنا أيضا خلافا
لما إذا قيل باستحالة التقييد به فلا يمكن التمسك بالإطلاق للكشف عن إطلاق الغرض
والملاك بلحاظ هذا القيد الّذي هو من القيود الثانوية.
الوجه
الثاني ـ أن يؤخذ العلم
بالإبراز في موضوع الحكم المبرز والإبراز غير الحكم المبرز فلا محذور في أخذ العلم
بالأول في موضوع الثاني ، وهذا نظير أن يقول المولى ( من سمع كلامي هذا يجب عليه
الحج ).
وهذا الوجه أيضا
كالوجه السابق يكون وافيا بترتيب كلا الأثرين الأصوليين المطلوبين من وراء إمكان
أخذ العلم بالحكم في موضوعه.
ثم ان المحقق
النائيني ( قده ) بعد أن بنى على استحالة تقييد الحكم بالعالم به سار سيرا آخرا في
التخلص عن الإشكال في الموارد التي ثبت فيها أخذ القطع وذلك بتطبيق طريقة متمم
الجعل فانه حيث استحال تقييد الحكم بالعلم به بل وكذلك بعدم العلم به استحال
الإطلاق المقابل لكل منهما وهذا يعني إهمال الجعل الأول لوجوب الصلاة
إهمالا مطلقا
فيضطر المولى إلى أن يتمم ذلك توصلا إلى غرضه المطلق أو المقيد بجعل ثان يؤخذ فيه
العلم بالجعل الأول لو فرض اختصاص غرضه به ـ ولا محذور فيه لتعدد الجعلين ـ أو
يكون مطلقا من ناحية العلم بالجعل الأول وعدمه لو فرض الإطلاق في غرضه ، وهذان
الجعلان باعتبارهما نابعين عن ملاك واحد فلا محالة يكونان في قوة حكم واحد روحا لا
حكمين مختلفين غاية الأمر قد توسل المولى في مقام إبرازه بإنشاء جعلين أحدهما مهمل
والثاني مبين إطلاقا أو تقييدا.
وهذه الطريقة غير
سديدة ولتوضيح ذلك نتكلم أولا عن الجعل الأول الّذي ادعى إهماله وثانيا عن الجعل
الثاني.
اما الجعل الأول.
فالصحيح ان استحالة التقييد توجب ضرورة الإطلاق لا استحالته فان التقابل بينهما
تقابل السلب والإيجاب ( التناقض ) فإذا استحال أحدهما وجب الآخر وليس التقابل
بينهما تقابل العدم والملكة كما يدعيه المحقق النائيني ( قده ) على ما حققناه في
محله من بحوث المطلق والمقيد. نعم مثل السيد الأستاذ الّذي يرى ان التقابل بينهما
تقابل التضاد لا يمكنه أن يورد في المقام ضرورة الإطلاق باستحالة التقييد ما لم
يثبت بعناية زائدة وبرهان ان هذين الضدين لا ثالث لهما وهذا ما سوف نشير إليه فيما
يأتي.
ولكن هذا الإطلاق
الضروري لا يفيد شيئا لأنه إطلاق مفروض على المولى فلا يكشف عن إطلاق حقيقي في
الحكم بلحاظ غرضه وملاكه فحال هذا الإطلاق حال الإهمال عند الميرزا ( قده ).
والسيد الأستاذ قد
اعترض على هذه الفقرة من كلام الميرزا ( قده ) باعتراضين :
أحدهما : ان
التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة ـ كما كان مبناه
أولا ـ إلا ان القابلية الملحوظة في
ذلك للمحل ليست القابلية الشخصية بل النوعية بدليل ما نجده من صدق الاعدام المقابل
للملكات في موارد يستحيل فيها الملكة بحسب شخص مورد معين فمثلا العلم بكنه الله
تعالى مستحيل ولكنه يصدق على الإنسان انه جاهل بكنه ذات الله تبارك وتعالى. وليس
ذلك إلا بلحاظ ان الميزان هو انحفاظ قابلية المحل لنوع تلك الملكة وإن كان خصوص
فردها في
المورد مستحيلا ،
وكذلك الحال في المقام فان الحكم بعد أن كان محلا قابلا لنوع التقييد بالقيود
فيكون عدم تقييده بالعلم إطلاقا وإن كان خصوص هذا القيد مستحيلا.
وفيه : ان البحث
ليس عن تحديد مصطلح العدم والملكة الّذي ذكره الحكماء مثلا فانه لم ترد آية أو
رواية بان الإطلاق والتقييد بينهما تقابل العدم والملكة لكي يبحث عن تحديد مفاد
هذا الاصطلاح وانما المنهج الصحيح للبحث ان سريان الحكم إلى تمام افراد الطبيعة هل
تكون متقومة بالقابلية الشخصية أو النوعية أو ليست متقومة بالقابلية أصلا سواء كان
المصطلح أو الاستعمال العرفي يساعد على صدق عدم الملكة في مورد فقدان القابلية
الشخصية أم لا ، فالمسألة ثبوتية وليست لفظية أو اصطلاحية.
والصحيح فيها على
ما تقدم في بحوث المطلق والمقيد عدم أخذ القابلية أصلا في الإطلاق بل حيثية سريان
الحكم إلى تمام الافراد متقومة بمجرد عدم التقييد فتكون العلاقة بينهما علاقة
التناقض لا العدم والملكة مهما كان مصطلح العدم والملكة من الناحية المثارة في
كلام السيد الأستاذ.
ثانيهما ـ ان
الإهمال في الجعل غير معقول لأن الإهمال انما يعقل في مقام الإثبات وإبراز الحكم
لا في مقام الثبوت فان كل شيء في مقام الثبوت يكون متعينا ومتحددا بحده ويستحيل
عدم تعينه في متن ثبوته ووجوده ذهنا أو خارجا.
وهذا الاعتراض غير
وجيه أيضا فانه تارة يبنى ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب
وأخرى يفرض انه من تقابل الضدين أي ان التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق لحاظ عدمه ،
فان بنينا على الأول فالمطلب لا يحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل
الاعتراض على الميرزا ( قده ) بل يقال بعبارة مختصرة وبديهية ان الإهمال بمعنى عدم
الإطلاق والتقييد معا معناه ارتفاع النقيضين وهو واضح الاستحالة. وإن بنى على
الثاني ـ كما هو مبناه ـ أو بنى على مبنى الميرزا من التقابل بنحو العدم والملكة
فلا يمكن إثبات استحالة الإهمال بالبيان المذكور لأن الإهمال حينئذ لا يعني
اللاتعيين والوجود المردد وانما يعني عدم لحاظ الإطلاق وعدم لحاظ التقييد أو عدم
القابلية لذلك بناء على مبنى الميرزا ( قده ) ـ فهو لحاظ للطبيعة بلا
لحاظ أي شيء زائد
عليها لا لحاظها مرددا بين الإطلاق والتقييد فأين هذا الإهمال من الإهمال في
الوجود؟ فلا بدّ في إثبات استحالة الإهمال في المقام من إبراز نكتة أخرى.
واما فيما يتعلق
بالجعل الثاني فيمكننا أن نسجل على المحقق النائيني ( قده ) ما يلي : ان المأخوذ
في موضوع الجعل الثاني ـ متمم الجعل ـ هل هو العلم بالجعل الأول أو بفعلية مجعولة
، فان قيل بالأول فهذا وإن كان ممكنا ومعقولا ولا يبتلى بمحذور الدور إلا انه
تطويل للمسافة بلا موجب لما تقدم من ان العلم بالجعل يمكن أخذه موضوع نفس الجعل
الأول بلا حاجة إلى متمم الجعل.
وإن قيل بالثاني
ورد عليه حينئذ :
أولا
ـ ان المهملة اما أن
تفترض في قوة الجزئية بحيث تنطبق خارجا على المقيد فقط أو تفترض في قوة الكلية أو
يفترض بأنها لا تنطبق على الخارج أصلا ولا شق رابع ، والأول يلزم منه ، الاكتفاء
بالجعل الأول فيما إذا كان غرض المولى في المقيد فيلغو متمم الجعل المقيد حتى لو
كان التقييد مستحيلا إذ نفس عدم جعل متمم الجعل المطلق يكون دليلا على ان غرض
المولى مقيد ولهذا اكتفي بالمهملة التي هي في قوة المقيد ، والثاني يلزم منه أن
يلغو الجعل الثاني إذا كان غرض المولى في المطلق إذ يمكنه أن يكتفي بالجعل الأول
الّذي هو في قوة الكلية ، والثالث يلزم منه استحالة العلم بفعلية المجعول في الجعل
الأول خارجا فيستحيل فعلية الجعل الثاني أيضا لكونه منوطا بالعلم بمجعول الجعل
الأول.
وثانيا ـ أن افتراض ان المهملة في قوة الكلية واضح الفساد ، لأن
المهملة معناها عدم التقييد والإطلاق معا والمقصود بالإطلاق حيثية السريان فإذا
فرض عدم الإطلاق فلا بدّ من فرض عدم حيثية السريان والكلية وإلا كانت محفوظة في
ذات الطبيعة وهو خلف. فيتردد الأمر بين أن تكون في قوة الجزئية أو لا تنطبق على
الخارج أصلا وعلى كلا التقديرين يلزم استحالة العلم بفعلية مجعول الجعل الأول ،
اما على الثاني فلما تقدم واما على الأول فلان الجزئية في المقام هو المقيد بقيد
العلم بالحكم وهذا يعني ان انطباق المهملة على فرد فرع العلم بالحكم المجعول فيها
والعلم بذلك فرع انطباقها وهذا دور وهو نفس المحذور المتقدم في أصل أخذ العلم
بالحكم في موضوعه
فإذا استحال العلم
بفعلية المجعول الأول استحال فعلية المجعول الثاني أيضا.
وثالثا
ـ ان المهملة في
خصوص المقام يستحيل أن تكون في قوة الجزئية أيضا أي تنطبق حتى على المقيد لأن
الانطباق على ذلك فرع أحد امرين ، اما أن تؤخذ الطبيعة المقيدة بذلك القيد في
موضوع الحكم ، أو تؤخذ مطلقة وغير مقيدة بما يقابل تلك الحصة من الحصص لأن حيثية
الإطلاق وسريان الحكم إلى فرد وحصة عند الميرزا ( قده ) ـ وبناء على مسالكه ـ انما
يكون من جهة إطلاق الحكم بالنسبة إلى الحصة المقابلة لتلك الحصة أي عدم تقيده بعدم
تلك الحصة فإذا كان هذا الإطلاق مستحيلا كان شمول الحكم للحصة الأولى مستحيلا أيضا
على مسالكه ، نعم بناء على مسلكنا من ان حيثية الإطلاق هي نفس عدم التقييد مع
الصلاحية الذاتيّة في الطبيعة للانطباق فلا موضوع لهذا الكلام. فيكون انطباق
الطبيعة المهملة في المقام على الخارج مستحيلا وهذا يؤدي بالنتيجة إلى استحالة
الإهمال لوضوح ان الحكم في القضايا المجعولة انما يجعل بلحاظ الافراد الخارجية
وانطباق الطبائع عليها فالطبيعة غير المنطبقة على الخارج لا يتعلق بها حكم وهذا
يعني استحالة الإهمال ، وهذه هي النكتة الأخرى التي أشرنا إليها في إثبات استحالة
الإهمال في خصوص المقام .
المقام
الثاني ـ في أخذ عدم العلم
بالحكم في موضوعه أي أخذ العلم به مانعا عن الحكم ، وهذا تصور قد سلكه الشيخ ( قده
) في مقام توجيه كلمات بعض المحدثين القائلين بعدم حجية القطع الناشئ من الدليل
العقلي بان ذلك ليس من باب الردع عن الحجية الذاتيّة للقطع الطريقي بل من باب أخذ
عدم العلم المخصوص وهو العلم الحاصل من مقدمات عقلية في موضوع تلك الأحكام فلا
يكون هذا القطع طريقيا لكي لا يمكن الردع عنه فانفتح الكلام في إمكان ذلك واستحالته.
__________________
والصحيح : ان أخذ
عدم العلم بالجعل في موضوع فعلية المجعول لم يكن فيه محذور الدور في طرف العلم
فضلا عن أخذ عدم العلم الّذي من الواضح عدم توقفه على ثبوت الحكم ، نعم هنا شبهة
أخرى هي لغوية جعل حكم مشروط بعدم العلم بجعله فان فائدة الجعل انما هو التحريك
نحو الامتثال في طول وصوله فإذا قيد الحكم بعدم وصول الجعل كان لغوا لكونه غير
قابل للتحريك حينئذ بلا للجاهل به لكونه جاهلا لا يتحرك ولا للعالم به لأنه بحسب
الفرض مقيد بعدمه فلا يكون شاملا له. والجواب : ان هذا انما يلزم لو كان القيد
المأخوذ هو عدم وصول الحكم بتمام مراتب الوصول لا عدم الوصول المخصوص كما هو مدعى
الشيخ في المقام وهو الوصول العلمي العقلي مثلا إذ يتبقى أثر الجعل ومحركيته بلحاظ
موارد الوصول والتنجز بغير الطريق المذكور.
واما أخذ عدم
العلم بالمجعول الفعلي قيدا فهذا لا يرد فيه محذور الدور المتقدم في أخذ العلم لأن
العلم وإن كان موقوفا على المعلوم إلا ان عدم العلم ليس موقوفا على ذلك ليلزم دور
في البين.
واما محذور
اللغوية فقد يقرب وروده في المقام بان أخذ العلم المخصوص بالحكم الفعلي مانعا عن
فعلية الحكم لا يترتب عليه أثر المانعية لأن غير العالم بفعلية الحكم لا يكون
موضوعا للمانعية المذكورة والعالم بها لا يمكن أن تصل إليه المانعية المذكورة لأنه
خلف كونه عالما بفعلية الحكم في حقه. والحاصل : ان العالم بالحكم الفعلي يستحيل في
حقه التصديق بهذه المانعية فاجتماع المانع مع وصول المانعية مستحيل ومعه يكون جعل
مثل هذه المانعية مستحيلا.
والجواب : أولا ـ ان هذه المانعية مجعولة بنفس جعل الحكم مقيدا بعدم العلم وليست مجعولة
بجعل مستقل فهي منتزعة من تقيد الجعل الثابت في حق غير العالم بالعلم المخصوص بعدم
العلم المذكور ، والتقييد المذكور وإن لم يكن له أثر عملي لا في حق العالم بالعلم
المخصوص ولا في حق غيره ، إلا انه يكفي في عدم لغويته تصور المقتضي وضيق الملاك
والغرض من الجعل بفرض وجود القيد المذكور.
وثانيا ـ ان جعل المانعية المذكورة ـ ولو مستقلا ـ اثره عدم وجود
المانع خارجا لا عدم وصول المانعية كما افترض في الشبهة فانه بعد علم المكلفين
بتقييد فعلية الجعل
بعدم العلم
المخصوص كالعلم الناشئ من مقدمات عقلية فسوف لن يحصل علم منها لا انه يحصل علم ولا
تكون المانعية فعلية كما زعم ، فاستحالة وجود المانع في المقام يكون من بركات نفس
جعل المانعية ويكفي هذا أيضا في تصحيح جعل المانعية مستقلا ومعقوليته رغم كونه
أثرا تكوينيا لنفس جعل المانعية وليس في طول الامتثال.
ثم ان الشيخ ( قده
) والمحققين من بعده أجروا كلاما طويلا في الظن واقسامه وموازاتها مع أقسام القطع
والتفتيش عن الفروق بينهما إلا ان تلك الأقسام والأبحاث حيث انها مجرد افتراضات
وليس لها تطبيق فقهي أو علمي إلا في مجال جعل الأحكام الظاهرية التي سوف يأتي
الحديث عنها وعن حيثياتها موضوعا ومحمولا فنطوي هنا عن تلك البحوث صفحا.
وجوب الموافقة
الالتزامية
الجهة
الخامسة : في وجوب الموافقة
الالتزامية ، وهذا البحث يتكلم فيه عن الموافقة الالتزامية من جهتين. من حيث
وجوبها في نفسها أولا ومن حيث مانعيتها على تقدير القول بوجوبها عن جريان الأصول
العملية في أطراف العلم الإجمالي ، ويظهر اثره فيما إذا لم يكن هناك مانع من ناحية
الموافقة العملية كما إذا كانت الأصول مثبتة والعلم الإجمالي ترخيصيا أو كان من
موارد الدوران بين المحذورين الّذي يستحيل فيها الموافقة أو المخالفة العملية
القطعية وتكون الموافقة الاحتمالية قهرية.
والمراد بالموافقة
الالتزامية ذلك الفعل الاختياري النفسانيّ للإنسان الّذي هو من سنخ التوجه
النفسانيّ الخاصّ المنتزع منه مفهوم الخضوع والتسليم والانقياد وهذا غير اليقين
والقطع والاعتقاد الّذي هو من مقولة الانفعال لا الفعل ، فيقال ان الحكم الشرعي كما
يستدعي فعلا خارجيا من المكلف فهل يستدعي فعلا نفسيا والتزاما قلبيا أم لا؟.
والتحقيق في
المقام يستوجب التكلم في أمور :
الأمر
الأول ـ في كيفية تصوير وتقريب مانعية وجوب
الموافقة الالتزامية عن إجراء الأصول في أطراف العلم فانه تارة يقرب ذلك على أساس انه يؤدي إلى الالتزام
بالمتنافيين وهو
محال باعتبار ان الالتزام بالحكم المعلوم بالإجمال مع الحكم الظاهري المخالف في
أطراف العلم يستحيل صدوره من العاقل.
وهذا البيان واضح
الفساد ، فان المفروض ان متعلق أحد الالتزامين حكم واقعي ومتعلق الاخر حكم ظاهري
واننا جمعنا بينهما من دون تناف أو تضاد ، بمعنى ان كليهما ثابت وواقع فالالتزام
بهما ليس التزاما بمتنافيين بل بمتوافقين.
وأخرى تقرب
المانعية : بان الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم وإن لم يكن التزاما بالمنافي مع
الحكم الظاهري المعلوم أيضا لأنه لا منافاة بينهما ولكن نفس هذا الالتزام مناف مع
الحكم العملي بالخلاف في تمام الأطراف فالالتزام الجدي بإباحة شيء لا يجتمع مع فرض
جريان استصحاب حرمته ووجوب الاجتناب عنه عملا.
وكأن هذا التقريب
هو الملحوظ في الدراسات عند ما أجيب عنه : بان هذه المنافاة انما تتم لو كان
الواجب هو الالتزام التفصيليّ في من الطرفين واما الالتزام الإجمالي بإباحة أحد
الإناءين فلا منافاة بينه وبين الحكم بحرمتهما عملا وظاهرا. هذا مضافا إلى انه
أساسا لا منافاة بين الالتزام بشيء وكون العمل الخارجي على خلاف ذلك فانا لا نسلم
ان الالتزام والبناء يقتضي موقفا عمليا من الملتزم دائما.
والصحيح : ان هناك
تقريبا ثالثا للمانعية هو الّذي ينبغي أن يقصد في المقام لا يفرق فيها بين كون
الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي أو التفصيليّ.
وحاصله : ان موضوع
وجوب الالتزام هو الحكم الواقعي المعلوم وبإجراء الأصل في تمام الأطراف ينفي ذلك
الواقع المعلوم بالإجمال فينفي موضوع وجوب الالتزام ظاهرا إجمالا أو تفصيلا مع انه
معلوم التحقق إجمالا فيكون ترخيصا في المخالفة من هذه الناحية وهو على حد الترخيص
في المخالفة العملية إذ الميزان في المنع عن جريان الأصول أن يؤدي إلى الترخيص في
مخالفة التكليف الشرعي المعلوم بالإجمال سواء كان متعلقه فعلا خارجيا أو فعلا
نفسيا كما لا يخفى.
الأمر
الثاني ـ في تحقيق حال المانعية المذكورة
بالصياغة المتقدمة فنقول : ان وجوب
الموافقة الالتزامية فيه احتمالات عديدة نذكرها مع بيان النتيجة على كل منها.
١ ـ أن يكون وجوب
الالتزام وجوبا عقليا في طول تنجز التكليف بأن يقال ان
العقل كما يحكم
بلزوم الموافقة العملية للتكليف المنجز كذلك يحكم بوجوب الموافقة الالتزامية
والنفسيّة لما يتنجز من التكاليف ، وعلى هذا التفسير يختص وجوب الموافقة
الالتزامية بالاحكام الإلزامية لا الترخيصية إذ لا تنجز لها ولا الأحكام غير
الواصلة لأنها ليست بمتنجزة ولا الواصلة بعلم إجمالي دائر بين محذورين.
وبناء على هذا
الاحتمال لا تعقل مانعية المخالفة الالتزامية عن جريان الأصول لأن موضوع هذا الحكم
هو التكليف المنجز والمفروض ان جريان الأصول يرفع التنجز حقيقة فلا تكون هناك
مخالفة.
٢ ـ أن يكون وجوب
الالتزام عقليا في عرض تنجز التكليف من الناحية العملية وذلك بأن يكون موضوعه نفس
وصول التكليف لا تنجزه.
وبناء عليه أيضا
لا مانع من جريان الأصول العملية من ناحية هذا الوجوب لأن العلم الإجمالي ينجز
الجامع لا الواقع ، ومن الواضح ان المقدار الّذي يتنجز بهذا العلم يكون بمقدار
الجامع لأنه المقدار الواصل وجريان الأصول حينئذ في الأطراف لا يؤدي إلى الترخيص
في المخالفة الالتزامية القطعية كما يؤدي إلى الترخيص في المخالفة العملية ، ونكتة
الفرق انه في باب الموافقة العملية وإن كان الواصل والمنجز بالعلم بمقدار الجامع
أيضا لا أكثر إلا ان إجراء الأصول في الأطراف يرخص في ترك الطرفين خارجا والجامع
الخارجي لا يوجد إلا في ضمن أحدهما فيكون المكلف مرخصا في ترك الجامع أيضا ، وهذا
بخلاف الالتزام فان موضوعه هو الصورة الذهنية والصورة الذهنية بمقدار ما هو واصل من
التكليف يمكن الالتزام بها لأنها مباينة مع الصورة الذهنية لكل من الفردين بعينه
فيمكن الامتثال بمقدار الجامع مع ترك الالتزام بالطرفين معا.
٣ ـ أن يكون وجوب
الالتزام وجوبا شرعيا مترتبا على واقع الحكم الشرعي الأولي سواء كان معلوما وواصلا
أم لا ، وهنا قد يتخيل ان جريان الأصول في الأطراف يوجب نفي تلك الإباحة أو الحرمة
الواقعية ظاهرا فيترتب عليه نفي أثرها من وجوب الالتزام بها وهو ترخيص في المخالفة
القطعية.
إلا ان هذا التوهم
باطل.
أولا ـ لأن الموافقة الالتزامية الواجبة تجاه الحكم الشرعي الواقعي غير الواصل
لا يعقل أن يكون بمعنى الالتزام به بعنوان التفصيليّ وإلا يلزم التشريع بناء على
انه عبارة عن الالتزام بما لا يعلم ـ ولو كان عبارة عن الالتزام بما ليس من الدين
واقعا من دون دخل عدم العلم فيه دخل المقام في موارد الدوران بين المحذورين بلحاظ
وجوب الالتزام في كل من الطرفين نعم بلحاظ الطرفين معا لو لم يلتزم بشيء منهما
خالف وجوب الالتزام مخالفة قطعية بخلاف ما لو التزم بأحدهما دون الاخر فان
المخالفة احتمالية لا قطعية إلا ان الصحيح عندنا ان التشريع يتحقق بالالتزام بما
لا يعلم كونه من الدين ـ وعليه فالواجب هو التعبد والالتزام بالحكم الواقعي على
إجماله ومن الواضح ان هذا موضوعه معلوم الثبوت لأن كل واقعة لها حكم واقعي وهو
يستدعي وجوب الالتزام الإجمالي به وجريان الأصول في أي واقعة لا ينفي هذا الوجوب
المتعلق بطبعي الحكم المعلوم بالإجمال ثبوته في كل واقعة. وإن شئت قلت : ان لازم حرمة
التشريع بالمعنى المذكور أخذ العلم بالحكم الشرعي في وجوب الالتزام به شرعا وإلا
لزم اجتماع الأمر والنهي النفسيين كما لا يخفى فلا يجب الالتزام إلا بمقدار العلم
فيكون حال هذه الصورة حال الصورة السابقة.
وثانيا ـ لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بوجوب الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيليّ ولو
كان تشريعا ، مع ذلك لا مانع من جريان الأصول العملية في الأطراف.
اما الأصول غير
التنزيلية منها أي التي لا تتعبد بنفي آثار المؤدى وانما تتعبد بالوظيفة العملية
تجاه كل حكم شرعي فمن الواضح ان جريانها في الأطراف لا ينفي ما هو موضوع وجوب الالتزام
وانما تثبت التأمين أو التنجيز بلحاظ الحكم الشرعي الأولي المعلوم بالإجمال في كل
طرف واما الحكم بوجوب الالتزام الّذي هو حكم شرعي ثان بحسب الفرض فلا بدّ بلحاظه
من إجراء أصل آخر مؤمن أو منجز ولا يكون ارتباط بين الأصلين والموقفين العملي
والالتزامي المترتب عليهما كما هو واضح.
واما الأصول
التنزيلية التي تتعبد بنفي المؤدى فغاية ما يلزم من جريانها وقوع التعارض بين
إطلاق نفيها آثار المؤدى بلحاظ هذا الأثر بالخصوص وهو وجوب
الالتزام لأن هذا
الوجوب بعد أن كان شرعيا فهو حكم آخر مستقل لا محالة عن الحكم الشرعي الأولي له
عصيان مستقل وإطاعة مستقلة. واما بلحاظ أصلها فلو لم يلزم مخالفة عملية فلا محذور
من إجرائها وهذا واضح أيضا.
ومما ذكرناه في
هذا الاحتمال ظهر حال احتمال رابع وهو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية وجوبا
عقليا موضوعه مطلق الحكم الشرعي ولو لم يصل كما في الاحتمال الثالث فانه يرد على
هذا الوجه ما أوردناه على الوجه الثالث أولا.
الأمر الثالث ـ في
أصل وجوب الالتزام وهذا بحث فقهي وحاصله : انه إن كان المراد بالالتزام هو البناء
على ان هذا الحكم حكم صادر من الشارع فمن الواضح ان مثل هذا البناء ليس بواجب لا
شرعا ولا عقلا ولا هو من شئون إطاعة التكاليف ، فان كل تكليف ليس فيه اقتضاء ذاتي
شرعا وعقلا لأكثر من إتيان متعلقه فإذا لم يؤخذ في متعلقه الالتزام والبناء فلا
مقتضي لوجوبه. نعم لا بد للمسلم أن يتعبد بان كل ما جاء به النبي 6 فهو من قبل الله
سبحانه وتعالى وإلا لم يكن مصدقا ومسلما بنبوته ، واما التعبد في كل حكم بأنه مما
قد جاء به النبي 6 فلا يجب.
والحاصل الواجب هو
الالتزام والبناء والتعبد بنبوة محمد 6 ورسالته وان ما جاء به واقعا من عند الله سبحانه ، وهذه
مرحلة أخرى غير مربوطة بمحل البحث ، واما وجوب الالتزام والتعبد بان هذا حكم جاء
به النبي وذاك حكم جاء به النبي فلا دليل على وجوبه.
وإن أريد
بالالتزام التسليم والانقياد والخضوع لشريعة الإسلام على العموم والإجمال فهذا من
شئون الإيمان ويكون واجبا بوجوبه ولا دخل له في المقام.
حجية الدليل
العقلي
الجهة
السادسة : في حجية الدليل
العقلي ، بعد الفراغ عن حجية القطع في نفسه يقع البحث في خصوص القطع الحاصل من غير
الكتاب والسنة أي من الأدلة العقلية. ولتوضيح الحال في تحرير هذا النزاع الّذي وقع
بين الاعلام لا بد من إيراد مقدمتين :
الأولى
ـ ان هناك نزاعين وبحثين حول مشروعية استخدام الأدلة العقلية
في مجال استنباط الأحكام الفقهية.
أحدهما ـ النزاع
بين الإمامية وغيرهم حول ان الدليل العقلي ، الظني كالقياس والاستحسان والمصالح
المرسلة ونحو ذلك الذين بنى جمهور العامة على حجيته هل يصح الاعتماد عليه أم لا؟
وقد أجمع الإمامية تبعا لأئمتهم : على عدم جواز التعويل على ذلك.
الثاني
ـ نزاع بين الإمامية أنفسهم في مشروعية استنباط الأحكام
الشرعية عن الأدلة العقلية القطعية. وقد ذهب المشهور إلى صحة ذلك وذهب المحدثين
إلى عدم حجيتها وهذا النزاع هو محل الكلام هنا لا الأول.
كما انه ينبغي أن
يعلم بان المراد بالحكم العقلي ليس هو حكم القوة العاقلة
بمعناها الفلسفي
بل حكم يصدره العقل على نحو الجزم واليقين غير مستند إلى كتاب أو سنة.
كما ان النزاع
مخصوص بالاحكام العقلية التي يراد استنباط حكم شرعي منها في عرض الكتاب والسنة لا
الحكم العقلي الواقع في مبادئ التصديق بالكتاب والسنة ، إذ لا إشكال في حجيته عند
الجميع وان حجية الكتاب والسنة لا بد وأن تنتهي إلى استدلال وقناعة عقلية ، ولا
الحكم العقلي الواقع في طول الكتاب والسنة وفي مرحلة معلولات الأحكام الشرعية بحسب
تعبير المحقق النائيني ( قده ) كحكم العقل بوجوب الامتثال وإطاعة الحكم وقبح معصيته.
الثانية
ـ ان الأحكام العقلية على قسمين أحكام نظرية وأحكام عملية وقد
قيل : ان العقل النظريّ إدراك لما هو واقع والعقل العملي إدراك لما ينبغي أن يقع.
ولعل الأحسن تغيير التعبير لأن العقل العملي أيضا إدراك لما هو واقع فان العقل ليس
له شأن إلا الإدراك لما هو واقع وثابت في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود والحسن
والقبح أيضا امران ثابتان في لوح الواقع ، وانما الفرق ان الأمر الواقعي المدرك
للعقل إن كان لا يستدعي بذاته موقفا عمليا وسلوكا معينا على طبقه فهو مدرك نظري
وإن استدعى ذلك فهو مدرك عملي.
ثم ان تشكيل دليل
عقلي على الحكم الشرعي تارة يكون مقتنصا من العقل النظريّ ، وأخرى من العقل العملي
، والقسم الأول يرجع إلى أحد بابين :
١ ـ باب العلاقات
والاستلزامات الواقعية التي يدرك العقل ثبوتها بين الأحكام كما يدركها في الأمور
التكوينية ، وإن شئت عبرت باب الإمكان والوجوب والاستحالة. فيحكم مثلا باستحالة
اجتماع الأمر والنهي أو بإمكان الخطاب الترتبي أو بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب
مقدمته أو حرمة ضده ، وهذه الأحكام العقلية النظرية وإن كانت تكفي وحدها في مقام
نقي الحكم الشرعي في مورد كنفي اجتماع كلا الحكمين المتضادين مثلا حيث يكفي في
انتفاء شيء ثبوت استحالته ولكنها لا تكفي لإثبات الحكم واستنباطه منها وحدها بل لا
بد من ضم ضميمة إليها. فان مجرد إمكان شيء أو استحالة ضده أو ثبوت الملازمة بينه
وبين شيء آخر لا يشكل دليلا على ثبوته.
٢ ـ باب العلية
والمعلولية بمعنى إدراك ما هو علة الحكم مثلا وملاكه التام فيستكشف لميا ثبوت
الحكم الشرعي في مورد إدراك العقل لذلك الملاك. وحكم العقل الراجع إلى هذا الباب
يمكن أن يستقل في إثبات الحكم الشرعي.
فظهر ان أحكام
العقل النظريّ قد تستقل في إثبات حكم شرعي. واما العقل العملي فهو وحده لا يكفي
لإثبات حكم شرعي ما لم نضم إليه حكم عقلي نظري سواء كان حكما منطبقا على فعل العبد
كحكم العقل بقبح الكذب مثلا فانه بحاجة إلى ضم حكم العقل النظريّ بالملازمة بين
حكم العقل وحكم الشرع ، أو كان متعلقا بفعل المولى كحكمه بقبح تكليف العاجز مثلا
فانه لا يستنبط منه حكم شرعي إلا بضم حكمه النظريّ باستحالة صدور القبيح من
المولى. هذه نبذة عن حكم الدليل العقلي في كل من القسمين النظريّ والعملي.
وحيث اتضح موضوع
هذا البحث وحيثياته نشرع في الحديث عن حجية الدليل العقلي وعدمه فنقول : الكلام
حول الدليل العقلي يقع في ثلاث مقامات. لأن القصور المزعوم في الدليل العقلي اما
أن يدعى بلحاظ عالم الجعل وإن هناك ضيقا فيه يستدعى عدم ثبوته في مورد الدليل
العقلي ، واما أن يدعى بلحاظ عالم الكشف وعدم صلاحية الدليل العقلي للكشف بعد
الفراغ عن عدم القصور في عالم الجعل ، واما أن يدعى بلحاظ عالم التنجز وان الدليل
العقلي قاصر عن تنجيز الحكم أو التأمين عنه.
اما المقام الأول ـ فالضيق في عالم جعل الحكم بنحو لا يشمل العالم به بالدليل
العقلي يمكن أن يدعى بأحد الأنحاء التالية :
١ ـ أن يؤخذ العلم
بالجعل الحاصل من الدليل السمعي في موضوع المجعول بناء على ما تقدم منا من إمكان
ذلك وهذا التقييد يستوجب أكثر مما يريده المنكر لحجية الدليل العقلي إذ يقتضي
انتفاء الحكم في حق الجاهل به.
٢ ـ أن يؤخذ عدم
العلم الحاصل من الدليل العقلي بالجعل في موضوع المجعول وهذا بمقدار المقصود إلا
انه لا بد وأن يقيد بعدم العلم من الدليل العقلي وحده وإلا لزم عدم الحكم في مورد
قيام الدليلين العقلي والنقلي الّذي لا إشكال في ثبوت الحكم فيه أيضا.
٣ ـ أن يؤخذ عدم
العلم الخاصّ بالمجعول في موضوعه بناء على ما تقدم منا أيضا من إمكانه.
٤ ـ أن يقيد الحكم
بنفس ما قيد به في الوجوه السابقة ولكن بنتيجة التقييد وبجعلين لا بجعل واحد كما
هو مسلك الميرزا ( قده ).
٥ ـ أن يؤخذ العلم
الشرعي أي الناشئ من الدليل الشرعي قيدا في متعلق الحكم لا موضوعه ، فوجوب الصوم
مثلا متعلق بالصوم مع قصد امره الّذي حصل العلم به من الدليل النقلي لا العقلي
فيقصد قصد القربة بخصوص الحصة التي تنشأ من العلم الحاصل من هذا الدليل. وهذا ما
ذكره المحقق العراقي ( قده ). وميزة هذا الوجه على ما سبق فعلية الوجوب في حق من
قطع بالدليل العقلي وكان يمكن تحصيل العلم بالدليل النقلي إلا ان عمله لا يكون
صحيحا وامتثالا ولكنه يختص بخصوص العبادات لا الواجبات التوصلية فضلا عن الأحكام
الترخيصي ، كما انه يرد عليه : بأن قصد الأمر والامتثال لا يتوقف على العلم بالحكم
لكي يمكن تحصيصه بحصة خاصة بل يمكن قصد الأمر رجاء أيضا ومعه لا يكون العلم أو
منشأه محصصا لقصد الأمر.
ثم انه لا يرد على
هذه الوجوه ما أورده الشيخ ( قده ) من ان التقييد المذكور حاصل في حق من قام عنده
الدليل العقلي أيضا لأن القاطع بالحكم يقطع لا محالة بان الشارع قد بين هذا الحكم
وبلغه بدليل نقلي ، فان هذا البيان مبني على أن يكون القيد هو العلم بتبليغ الحجج
لا الوصول من قبل الحجج كما هو ظاهر بعض الروايات المستند إليها في المقام حيث ورد
فيها عنوان ( بدلالة إمامه ) فان ظاهر الدلالة الوصول.
كما انه لا يرد ما
أورده الميرزا ( قده ) من ان الوصول أو التبليغ بالحجة متحقق لأن العقل رسول
الباطن وحجة على العباد. فانه ليس الكلام في لفظ الحجة ومدلولها العقلي أو اللغوي
وانما الكلام في الحجة بمعنى الإمام المعصوم الّذي هو المقصود في الروايات
المذكورة بلا إشكال.
والصحيح في
المناقشة أن يقال : بان هذا التقييد غير تام لا إثباتا ولا ثبوتا.
اما
إثباتا ـ فلوضوح ان مقتضى الإطلاقات في الأدلة الأحكام عدم تقيدها
بشيء مما ذكر في الوجوه المتقدمة ، وما تمسكوا به من الروايات التي أشار إليها
الشيخ ( قده ) في
الرسائل لا تتم
دلالة شيء منها إثبات هذا التقييد ، لأن تلك الروايات لا تخلو من أحد أمور ثلاثة.
فانها اما أن تكون مسوقة لبيان عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية الظنية
التخمينية والتي كان يدور عليها رحى الاستنباط عند جمهور العامة وأهل الرّأي منهم
فشدد الأئمة : النكير على من كان يعول عليها وهذا هو النزاع الأول الّذي تقدم انه خارج عن
محل الكلام ـ واما أن تكون دالة على اشتراط الولاية في صحة العمل وانه من دون
معرفة الإمام 7 لا تقع الأعمال صحيحة ـ وهذا أيضا أجنبي عن محل الكلام
لأنه إضافة شرط جديد في صحة العبادة وهو الإيمان كشرطية الإسلام واما أن تكون
ناظرة إلى التأنيب على ترك الفحص في الأدلة الشرعية والتوغل في الأدلة العقلية
بسرعة وقبل مراجعة الشارع ، كما لعله المستظهر من رواية أبان المشهورة والصحيحة
سندا ـ رغم ما قيل من ضعف سندها ـ فانها ناظرة إلى هذا المعنى عند ما تسرع أبان
إلى القطع بالحكم الشرعي بينما لو كان قد فحص ودقق أكثر لزال القطع المذكور كما هو
الحال في كل جاهل يراجع العالم ، وهذا هو ما يعبر عنه بالتقصير في المقدمات. وهذا
أيضا أجنبي عن محل الكلام.
اذن فالروايات
المذكورة على الإجمال كلها أجنبية عن محل الكلام واما تفصيل الكلام فيها
واستعراضها كل واحدة منها مع التعليق عليها فيخرجنا عن طبيعة البحث الأصولي.
واما ثبوتا ـ فيرد
عليه : أولا ـ ان هذه الوجوه غايتها جعل النزاع بين الطرفين نزاع تخطئة لا
نزاع اتهام ، بمعنى ان من يحصل له القطع من دليل عقلي يكون قطعه حجة ومنجزا عليه
غاية الأمر يكون في نظر الاخباري مثلا مشتبها إذ لا حكم في حقه نظير النزاع في
شرطية شيء أو جزئيته بين فقيهين فلا يثبت تقصير لا في النتائج ولا في المقدمات.
وثانيا ـ ان فرض ضيق الجعل وتقيده بعدم العلم العقلي انما يجدي في
التخطئة في الأحكام التي يجعلها الشارع ابتداء لا الحكم الشرعي المستكشف بالدليل
العقلي فانه بحسب الفرض لا إشكال في كاشفية الدليل القطعي وانما يراد دعوى ضيق
الجعل المستكشف ومع فرض تمامية الكاشفية لا يعقل ضيق الجعل فان هذا خلف
مستحيل ، فمثلا لو
فرض إدراك العقل لحكم شرعي على أساس قانون الملازمة وان كل ما يحكم به العقل يحكم
به الشرع فمع التسليم بصحة هذه الكاشفية لا يبقى مجال لدعوى الضيق في الجعل فانه
خلف إدراك العقل النظريّ للملازمة أو الإدراك العملي للحكم العملي وكلاهما مستحيل.
نعم لو كان حكم العقل من باب إحراز ما هو الملاك في نظر الشارع فقد يفترض الخطأ في
تشخيصه لتمام ما هو الملاك بافتراض ان من جملة ما هو دخيل فيه العلم الخاصّ مثلا.
وثالثا
ـ ان الدليل العقلي
قد يكون برهانا على عدم الحكم لا على ثبوته ، كما لو حصل يقين بعدم الخطاب الترتبي
لاستحالته مثلا ولا يعقل جعل إلزام مشروط بقطع المكلف بعدم الإلزام كما هو واضح.
ثم لو فرض تمامية
الوجوه المذكورة أو بعضها ثبوتا وإثباتا مع ذلك كان لنا أن نقول : بان الصغرى
محفوظة في موارد القطع بالحكم من الدليل العقلي لا ببيان الشيخ ( قده ) أو المحقق
النائيني ( قده ) الّذي قد عرفت الجواب عليهما بل ببيان آخر حاصله : ان الكتاب
والسنة أمرنا باتباع العقل على الأقل العقل الفطري الخالي عن الشوائب فيكون الرجوع
إلى العقل رجوعا إلى ما يرضى الشارع باتباعه بحكم امره المذكور وهذا نظير ما إذا
أمرنا الشارع باتباع القرعة في تعيين الحكم الشرعي فعيناه بها وعملنا به فان هذا
من العمل بأمر الشارع وليس خروجا عنه فلا يكون مثل هذا الحكم من غير طريق الأدلة النقليّة.
المقام
الثاني ـ في دعوى قصور الدليل العقلي بلحاظ
كاشفيته بمعنى انه لا يصلح لتكوين اليقين بالحكم الشرعي ، ولعل هذا هو المناسب مع ظاهر جملة من كلمات المحدثين
خصوصا المحدث الأسترآبادي في فوائده المدنية.
وحاصل ما يذكر من
قبلهم لتقرير ذلك انا إذا لاحظنا المدركات العقلية رأينا
__________________
شيوع الخطأ
والاشتباه فيها إذا استثنينا من ذلك جملة من فروع الرياضيات وعلم الحساب والهندسة.
وقد حاول الأسترآبادي أن يبرر ذلك بأنها بحسب موادها حسية أو قريبة من الحس أو من
البديهيات التي هي قضايا واضحة كالحسية واما غير الرياضيات من العلوم العقلية
النظرية فلا تكون موادها حسية ولا قريبة منها ولهذا يكثر فيها الخطأ والاشتباه ولا
يصح التعويل عليها ويندرج في ذلك بحوث الفلسفة والأصول العقلية.
وهذا النزاع لا
يختلف فيه بين القول بوقوع الخطأ في القوة العقلية المدركة مباشرة أو في تلفيق
النّفس واستنتاجها لمدركات القوة المدركة كما يدعيه بعض الفلاسفة القدماء ، فانه
على كل حال بحسب النتيجة هناك خطأ في النتائج النظرية العقلية وهو كاف في الغرض
الأصولي الّذي يتقصده الاخباري.
ومن الطريف ما نقل
عن السيد البروجردي ( قده ) من ان هذه النزعة التي ظهرت على يد الأسترآبادي متسربة
إلى الفكر الإسلامي من النزعة التجريبية الحسية في الفلسفة الأوربية آنذاك التي
رفضت المدركات العقلية حيث كانت النزعتان متقاربتين زمانا.
وهذه الملاحظة غير
صحيحة لما أشرنا إليه في معالم الأصول من ان الاتجاه التجريبي في الفلسفة الحديثة
متأخرة زمانا من المحدث الأسترآبادي ، فانها حصلت في أواخر القرن الثاني عشر بينما
المحدث الأسترآبادي كان يعيش في القرن الحادي عشر فلو كان هناك تأثير متبادل بين
النزعتين فلا بد وأن يكون بالعكس بأن تتسرب النزعة التجريبية من الاتجاه الّذي
أوجده المحدثون إلى الفلسفة الأوربية ، إلا ان هذا كله على فرض التعامل مع مدعيات
الأسترآبادي على أساس انها تمثل النزعة الحسية في نظرية المعرفة وهذا غير واضح إذ
ليس المستفاد من كلامه انه يروم حصر المعرفة البشرية في الحس والتجربة بل غرضه حصر
المعرفة بالدليل الشرعي النقلي وإلغاء الدليل العقلي النظريّ في مجال استكشاف
الحكم الشرعي.
وأيا ما كان
فلتمحيص هذا المدعى والتعليق عليه نتكلم في مقامين أولهما فيما يرجع إلى مدركات
العقل النظريّ ، وثانيهما ما يرجع إلى مدركات العقل العملي.
اما
المقام الأول ـ وهو البحث عن
مدركات العقل النظريّ فحاصل البحث فيه
ان اليقين له معنيان :
١ ـ اليقين
بالمعنى الأصولي وهو الجزم والانكشاف التام الّذي لا يتضمن تردد وشك.
٢ ـ اليقين
بالمعنى المنطقي في كتاب البرهان وهو الجزم المضمون الحقانية المطابق للواقع.
ومقصود المحدثين
تارة يكون إنكار اليقين الأصولي في الأدلة العقلية وأخرى إنكار اليقين المنطقي.
اما الأول فلو تمت
صغراه تمت كبراه بمعنى انه لا تكون الأدلة العقلية بحجة لأن موضوع الحجية هو
اليقين الشخصي سواء كان برهانيا أم لا ، فإذا لم يكن ثمة يقين فلا حجة ولكن الشأن
في تمامية الصغرى.
وقد ينقض عليه
بأمرين :
١ ـ انه إذا تعطل
الدليل العقلي لإيجاد اليقين حتى الأصولي منه وانحصر مصدره بالدليل الشرعي فكيف
وبما ذا نثبت أصل وجود الشارع والشرع؟ وما ذا يقال عن الأدلة العقلية التي نثبت
بها أصول الدين؟.
٢ ـ النقض
بالاستدلالات التي يمارسها حتى المحدث نفسه في الفقه ، فان جملة منها أيضا اعتماد
على أدلة وبراهين يكثر فيها الخطأ كالاستدلالات العقلية الأخرى.
وكلا هذين النقضين
الظاهر عدم ورودهما على المحدثين ، وذلك لأنهم ليسوا بصدد إنكار كاشفية الدليل
العقلي جملة وتفصيلا بل خصوص الأدلة العقلية ذات الطابع النظريّ التجريدي المستعمل
في علمي الكلام والفلسفة والأصول أحيانا ، أي ينكرون العقل النظريّ القبلي ـ قبل
التجربة والحس ويقطع النّظر عنه ـ ومثل هذا العقل لا يحتاج إليه لا في إثبات أصول
الدين ولا في الاستدلالات الفقهية. اما في الأول فلما ذكرناه في مقدمة الفتاوى
الواضحة من ان قضايا أصول الدين والعقيدة ثبوتها لدينا كثبوت القضايا العرفية
والتجريبية في الوضوح والحقانية لأنها تملك رصيدا من الدليل الحسي والاستقرائي على
حد سائر القضايا الاستقرائية التجريبية وإن كان
يمكن الاستدلال
عليها بالأدلة العقلية النظرية أيضا.
واما الثاني فلان
الاستدلالات الفقهية لا تعتمد غالبا إلا على قضايا الظهور والدلالة والتوفيق فيما
بينهما والسند ونحو ذلك ، وهي كلها قضايا عرفية وليست بنظرية برهانية ولا إشكال في
ان نسبة الخطأ فيها لا تبلغ نسبته في النظريات العقلية.
والتحقيق : ان هناك
تقريبين يمكن أن نذكرهما لتبرير مدعى المحدث في المقام وكلاهما غير تام.
الأول
ـ اننا بعد أن علمنا بوقوع الخطأ في كثير من القضايا
البرهانية العقلية فمنطقيا ورياضيا ـ وقضايا الرياضيات مسلمة عندهم ـ سوف تتشكل
نسبة معينة تحدد على ضوئها قيمة احتمال صحة كل قضية من تلك القضايا هي نسبة
المقدار المعلوم خطئها من تلك القضايا إلى مجموعها وهو معنى زوال اليقين بها .
وفيه : ان هذه
الطريقة انما تصح لتقييم استدلال يمارسه الغير واما الاستدلالات والبراهين التي
يمارسها المستدل نفسه فلا تحكم فيها هذه النسبة المعلومة من الخطأ في مجموع
القضايا البرهانية أو غير البرهانية ، والوجه في ذلك ان الّذي يعيش القضية
البرهانية والدليل العقلي مدركه على اليقين العقلي انما هو وجدانه العقلي بما
يتضمن من مواد وقضايا يرى بداهتها أو انتهائها إلى البديهي ويرى بحسب فحصه العقلي
صحة الاستنتاج منها وهذا على حد الوجدان الحسي أمارة كاشفة تورث اليقين فكما انك
لو فحصت عن أخيك في المسجد فلم تجده تحكم بعدم وجوده فيه كذلك يحصل نتيجة الفحص
العقلي إذا صح التعبير في المدركات العقلية الأولية اليقين والكشف عن قضية عقلية.
الثاني
ـ انه بعد العلم بوقوع الخطأ في القضايا العقلية كثيرا لا
ينبغي أن يحصل للإنسان اليقين والجزم من أدلتها.
وهذا التقريب يرد
عليه :
__________________
نقضا ـ بان
المقصود لو كان دعوى قضية كلية هي ان العلم بوقوع الخطأ مانع عن حصول اليقين في كل
معرفة عقلية نظرية فهذه القضية بنفسها لا بد وأن تستند اما إلى قضية رياضية فيرجع
إلى التقريب السابق أو إلى قضية عقلية فتكون بنفسها محكومة بحكم القضايا العقلية
الأخرى ، وان كان المقصود دعوى ان المحدث لا يحصل له بعد أن علم بالخطإ كثيرا
اليقين من الدليل العقلي فهذا معناه انه شاك لا يقين له وليس دليلا على عدم انبغاء
حصول اليقين موضوعيا ومنطقيا للآخرين الذين قد حصل لديهم منشأ لليقين.
وحلا ـ بان عدم
حصول اليقين بقضية نتيجة العلم بخطإ قضية أخرى يكون في إحدى حالات ثلاث.
١ ـ أن يكون بين
القضيتين تلازم موضوعي فإذا ثبت بطلان اللازم ثبت بطلان الملزوم لأن ما يستلزم
الباطل وهذا استلزام موضوعي منطقي بين المعتقدين واليقينين يسري من أحدهما إلى
الآخر.
٢ ـ أن تكون إحدى
القضيتين دخيلة في تشكيل الدليل على صدق القضية الأخرى فإذا علم ببطلانها فقدنا
البرهان على صدق القضية الثانية وان كان احتمال صدقها في نفسها واردا ، فمثلا
يخبرك وأنت تصدقه لعلمك بورعه عن الكذب لو علمت انه قد كذب عليك مرة أو مرات فيما
أخبرك به سابقا فسوف لن يحصل لك يقين من اخباره الجديد لأن مدرك يقينك كان حساب
الاحتمالات المنتهية إلى القطع فيما سبق وقد زال بعلمك بأنه قد كذب وانقلبت
الحسابات إلى نسبة معينة من الكذب أو الخطأ تتحكم على اخباره الجديد أيضا ، ومثال
آخر ما أقامته الفلسفة القديمة من البرهان على العقول العشرة المبتني على افتراض
ان العالم ذات سبعة أفلاك متغايرة سنخا وذاتا فلا بد وأن تكون متغايرة منشأ وعلة
لأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد.
فحيثما ثبت بطلان
قصة الأفلاك السبعة زال البرهان المذكور وإن كانت قصة وجود العقول العشرة معقولة
في نفسها.
٣ ـ أن يكون زوال
اليقين نتيجة حصول تلجلج عقلي ذاتي لدى الإنسان بعد وقوفه على الأخطاء الكثيرة
بحيث قد ينتهي إلى عدم حصول اليقين له أصلا ، كما حصل
ذلك للمشككين على
فرض صدقهم في دعواهم وهذه حالة مرضية ذاتية وليست قائمة على أساس تلازم منطقي
موضوعي ولا فقدان البرهان على الحكم كما هو واضح.
ولا إشكال ان محل
كلامنا أعني موارد الدليل العقلي في استدلالات الأصوليين ليست من الحالة الأولى إذ
لا كلام عندهم في انه لو ثبت ان دليلا عقليا ما يستلزم الباطل فهو باطل ، ولا
الثانية لأن الدليل العقلي عند المستدل نفسه يقوم على أساس الوجدان العقلي لا
النسبة الاحتمالية فالعقل بعد ان تتبع وفحص وجزم بمقتضى الكبريات التي طبقها وهو
جازم بصحة تطبيقه بحسب وجدانه العقلي فسوف لا يتأثر بالخطإ في وجدان وفحص عقلي في
استدلال اخر ، فلا تبقى لدينا إلا دعوى الحالة الثالثة من قبل المحدث وإثارتها ضد
الأصولي ، وواضح ان هذه الحالة مطلب نفسي موضوعي على حد سائر الأمور النفسيّة
والموضوعية تكون التجربة الخارجية هي الدليل على ثبوتها وعدم ثبوتها ، ونحن عند ما
نلاحظ الوضع الخارجي للنشاط الفكري والعقلي للبشر نجد ان وجدانهم العقلي وقريحتهم
العقلية لا تتعطل بالوقوف على الخطأ في مرات عديدة كثيرة أو قليلة بل تبقى قريحتهم
تلك تؤثر أثرها في إيجاد الجزم واليقين في المرة الأخرى أيضا.
واما اليقين
بالمعنى المنطقي البرهاني فلو كان مدعى المحدث زواله بالوقوف على الأخطاء فهذه
الدعوى لو تمت فهو لا يضر بنا في المقام لأن موضوع الحجية هو اليقين الأصولي لا ما
يسميه المنطقي باليقين أو البرهان ، هذا ما ينبغي أن يقال في مقام التعليق على ما
يقوله المحدث بلحاظ مدركات العقل النظريّ.
ولكن للقوم اتجاه
آخر في مناقشة كلمات المحدث الأسترآبادي والتعليق عليه. حيث ذكروا ان كثرة الخطأ
في القضايا النظرية العقلية تنشأ عن عدم مراعاة علم المنطق فيكون ضمان تفاديه
إتقان تلك القواعد المنطقية ومراعاتها فإذا ما روعيت كانت النتائج يقينية ومضمونة
الحقانية جزما.
وقد أشكل على هذا
المقدار في كلمات المحدث الأسترآبادي بان علم المنطق انما يعصم من ناحية الصورة
وكيفية الاستدلال لا المادة والقضايا التي تدخل في الأقيسة.
وأجيب عن هذا
الإشكال : بان الخطأ لا بد وأن ينتهي إلى الصورة لا المادة بعد
معرفة طريقة تولد
المعارف البشرية ـ حسبما يصورها المنطق الصوري ـ حيث ان الفكر يسير دائما من معارف
أولية ضرورية هي أساس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة
البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق ، فأي خطأ يفترض ان كان في الصورة
فعلم المنطق هو العاصم منه ، وان كان في مادة القياس فان كانت تلك المادة أولية
فلا مجال لوقوع الخطأ فيها. وان كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من
برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة لأن المعارف
الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الأولية في
الفكر البشري بمدركات العقل الأول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل
الثاني. ونحن تارة نسلم بهذا التصنيف للمعارف البشرية وطريقة سير الفكر البشري
فيها وأخرى لا نسلم به.
اما لو سلمنا بذلك
فيمكن مع ذلك الانتصار للمحدثين في المقام بان قواعد علم المنطق اما أن تكون
جميعها ضرورية كبرى وتطبيقا أو بعضها ليس ضروريا. اما الأول فواضح البطلان إذ لو
كانت كذلك لما وقع خطأ خارجا إذ لا يوجد من يخالف البديهة والضرورة ولا خطأ فيها
بحسب فرض هذا المنهج. وعلى الثاني فان قيل بعدم البداهة في الكبريات فسوف يقع
الخطأ في نفس العاصم لا محالة ، وان قيل بعدم البداهة في التطبيق احتجنا إلى عاصم
في مرحلة التطبيق ولم تكف مراعاة الكبريات المنطقية في عصمة الذهن عن الخطأ وعلم
المنطق لا يعطي إلا الكبريات وهذا الكلام أفضل مما ذكره المحدث الأسترآبادي بناء
على التصور المدرسي للمعرفة البشرية وطريقة التوالد فيها.
إلا ان هذا التصور
أساسا غير صحيح على ما شرحناه مفصلا في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، فان هذا
البحث كان منشأ لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغا
كبيرا في نظرية المعرفة البشرية لم يستطيع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفين سنة.
وفيما يلي نذكر
مجمل تلك النتائج التي انتهينا إليها في نقطتين :
الأولى
ـ فيما يتعلق بالعقل
الأول ومدركاته. وهي المدركات التي حددها المنطق
الصوري في قضايا
ست اعتبرتها مواد البرهان في كل معرفة بشرية وهي الأوليات والفطريات والتجربيات والمتواترات
والحدسيات والحسيات.
وقد ادعى المنطق
الصوري ان هذه القضايا كلها بديهية ونحن نسلم معهم في اثنين منها هما الأوليات ـ كاستحالة
اجتماع النقيضين ـ والفطريات وهي التي قياساتها معها ولم نقل برجوعها إلى الأوليات
على ما هو التحقيق ـ فهاتان قضيتان قبليتان واما غيرهما أي القضايا الأربع الباقية
فليست المعرفة البشرية فيها قبلية بل بعدية أي تثبت بحساب الاحتمالات وبالطريقة
الاستقرائية التي يسير فيها الفكر من الخاصّ إلى العام حسب قوانين وأسس شرحناها
مفصلا في ذلك الكتاب بعد إبطال ما حاوله المنطق الصوري من تطبيق قياس خفي فيها
بمناقشات عديدة مشروحة في محلها.
وقد أثبتنا هنالك
انه حتى المحسوسات التي هي أبده القضايا الأربعة الباقية تخضع للأسس المنطقية
للدليل الاستقرائي ، وتوضيح ذلك ان القضايا الحسية على قسمين :
١ ـ أن يكون واقع
المحسوس فيها امرا وجدانيا كالإحساس بالجوع والألم ، وهذا لا إشكال في أوليته ولا
يقوم على أساس حساب الاحتمالات والطريقة الاستقرائية ، لأن الإدراك في هذا النوع
يتصل بالمدرك بصورة مباشرة حيث يكون المدرك بنفسه ثابتا في النّفس لا انه أمر
موضوعي خارجي له انعكاس على النّفس ليراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الانعكاس مع
واقعه.
٢ ـ الإحساس
بالواقع الموضوعي خارج عالم النّفس كإحساسك بالسرير الّذي تنام عليه وصديقك الّذي
تجلس عنده وحرمك الّذي تسكن إليها ، وهذا هو الّذي لا يتعلق إحساسنا به مباشرة
فكيف يمكن إثبات واقعيته من مجرد انطباع حاصل في النّفس أو الذهن وكيف نثبت مطابقة
ذلك الانطباق للخارج؟ وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة. والاتجاه المتعارف عند
فلاسفتنا في حلها ان المحسوسات قضايا أولية وان كانت المسألة غير معنونة بهذا
الشكل وانما عنونت كذلك عند فلاسفة الغرب ، وقد ظهر لدى بعض المحدثين عندنا ان معرفتنا
بالحسيات لا يمكن أن تكون أولية لوقوع
__________________
الخطأ فيها مع انه
لا خطأ في الأوليات ، ولكنه عاد وزعم ان معرفتنا الحسية بالواقع الخارجي إجمالا
أولية وان كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك ، فكان هذا اتجاه يفصل في المعرفة
الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة
الحسية. ونحن في كتاب فلسفتنا حاولنا إرجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة
بقانون العلية لأن الصورة الحسية حادثة لا بد لها من علة وقانون العلية قضية أولية
أو مستنبطة من قضية أولية. وفي قبال هذه الاتجاهات الثلاثة المثاليون الذين أنكروا
الواقع موضوعي رأسا. وكل هذه الاتجاهات الأربعة التي تذبذب الفكر الفلسفي بينهما
غير صحيحة وانما الصحيح بناء على ما اكتشفناه من الأسس المنطقية للاستقراء ان
معرفتنا بالواقع الموضوعي جملة وتفصيلا في المدركات الحسية قائمة على أساس حساب
الاحتمال الّذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقل رزقه الله له سميناه بالعقل
الثالث قبال العقلين الأول والثاني.
وقد أوضحنا ذلك
مشروحا في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء وبينا هنالك في ضمن ما بيناه اننا حينما
نقارن بين أحساساتنا في عالم الرؤية مع أحساساتنا في عالم اليقظة لا نشك بان
الأولى لا واقع موضوعي لها بخلاف الثانية ـ إذا استثنينا شيخ الإشراق الّذي كان
قائلا بعالم الأمثال في الأحلام ـ مع انه لا فرق بين القسمين من ناحية وجدانية
الإحساس عند النّفس وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات وان الإيمان بموضوعية
الثانية قائم على أساس حسابات الاحتمال المبتنية على قرائن وخصوصيات مكتنفة
بالثانية مفقودة في الأولى التي تكون إحساسات زائلة متقلبة بمجرد كف الذهن عنها
وغير متشابهة إلى غير ذلك من خصائص ونكات تقوم على أساسها حساب الاحتمالات شرحناها
في ذلك الكتاب. اذن فليست المحسوسات قضايا أولية كما انها لا يمكن أن تكون مستنتجة
بقانون العلية لأن هذا القانون غاية ما يقتضيه وجود علة لحصول الصورة في النّفس
واما هل هي خارجية أو حركة جوهرية في النّفس فلا يعين أحدهما ، هذا مجمل الحديث
عما سموه بالعقل الأول ومنهجنا في طريقة تفسير المعرفة البشرية فيه.
الثانية
ـ فيما يتعلق بالعقل
الثاني ـ والمنطق الصوري بعد افتراضه للعقل الأول
بالنحو المتقدم
ذكر ان كلما يستنبط من العقل الأول من المعارف بطريقة الاستدلال المنطقي الصحيح ـ الراجع
بالأخير جميعا إلى الشكل الأول الضروري والبديهي الإنتاج ـ فهو مضمون الحقانية
ويسمى بالعقل الثاني ، والقياس يحتوي على حد أصغر وأوسط وأكبر وفي القياس الأول لا
تكون بين المحمول وموضوعه واسطة لأنها قضية أولية وانما المستنبط ثبوت الثالث
للأول وعلى هذا الأساس يكون مشتملا على قائمتين قائمة للمحمولات الثابتة بالضرورة
لموضوعاتها وقائمة أخرى للمحمولات الثابتة بالضرورة على تلك المحمولات وفي كل
منهما القضية أولية ضرورية وليست مستنبطة لعدم حد أوسط ، نعم ثبوت المحمول الثاني
للموضوع الأول يكون نظريا لأنه مستنبط بالحد الأوسط الّذي هو موضوع في القائمة
الثانية ومحمول في الأولى. ومن هنا لا يخلو الكلام المعروف من صحة ببعض المعاني من
أن المعرفة إذا كانت حسب هذه الطريقة فليس هناك نمو وزيادة حقيقية في المعرفة
وانما هو تحليل لما هو مجمل وتطبيق لما هو عام وكلي.
وأيا ما كان
فالمنطق الصوري بعد ان افترض حقانية القضايا الست التي تشكل مواد الأقيسة والمعارف
النظرية وكان استنتاج المعارف النظرية في العقل الثاني من تلك المواد حسب المقياس
البديهي الإنتاج من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضا كحقانية مدركات
العقل الأول.
وهذا الكلام ينحل
إلى جزءين :
١ ـ ان كل معرفة
أولية تكون مضمونة الحقانية.
٢ ـ ان المعارف
النظرية في العقل الثاني انما تستنتج من المعارف الأولية في العقل الأول بطريقة
التوالد الموضوعي القائم على أساس التضمن أو التلازم المنطقي المضمون الحقانية
أيضا.
وكلا هذين الجزءين
محل نظر ، اما الأول فلان بعض المعارف الأولية قد لا تكون مضمونة الحقانية بالرغم
من كونها أولية بل قد تكون مظنونة أو مشكوكة أو خاطئة ، ومن ذلك ينشأ ينبوع
للأخطاء في العلوم النظرية فان الخطأ فيها لا ينشأ من خطأ الاستدلال عادة بل من
الخطأ في أوليات الاستدلال حيث تطرح فكرة بتوهم صحتها وهي خاطئة فيبنى عليها
والحاصل : كون الفكرة أولية لا تحتاج إلى الاستدلال
واستنباط شيء
وكونها مضمونة الحقانية شيء آخر ولا تلازم بين الأمرين ويشهد على ذلك وقوع الخطأ
أو الشك في المعارف الوجدانية المحسوسة ـ المحسوس بالذات ـ التي قلنا انها أولية
لعدم توسيط شيء بينها وبين إدراكها بل ينصب الإدراك عليها مباشرة وأولا وبالذات
ومع ذلك قد يشكك فيها أو يخطأ كمن يشك في انه هل يسمع الصوت أم لا إذا ما ابتعد عن
مصدره تدريجا وهذا دليل على إمكانية وقوع الخطأ والاشتباه أو الشك في الوجدانيات
الأوليات فكيف بقضايا أولية غير وجدانية. وقد كان قديما يبرهن على استحالة التسلسل
ببرهان التطبيق أي تطبيق العلل على المعلولات فكأن يقال انه إن تساويا لزم تساوي
الجزء مع الكل لأن سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد ، والكل لا بد وأن
يكون أكبر من الجزء وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل. وقد كان هذا
برهانهم على استحالة التسلسل فترة طويلة من الزمن اعتمادا على بديهية ان الكل لا
يكون أكبر من الجزء حتى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في
الكميات اللامتناهية وجعلتها مختصة بالكميات المتناهية إذ ينعدم في غيرها معنى
الكل والجزء وهذا خلاف قضية أولية. وقد قال بعض الحكماء في التسلسل ان كل مقدار من
السلسلة عند ما نفترضه بنحو العام الاستغراقي نجده محصورا بين حاصرين فالعقل يحدس
ان مجموع السلسلة أيضا محصور بين حاصرين مفترضا انها قضية أولية حدسية في نظره.
ومن هنا امتاز المنطق والرياضيات البحتة على ساير العلوم النظرية في قلة الخطأ
فيها نتيجة ان مصادرات العلوم الأولية منهما محدودة وواضحة لدى الجميع ومن هنا قل
الخطأ فيهما إذ لا منفذ له حينئذ إلا الغفلة عن قواعد الرياضة والمنطق التي تتفادى
بالدقة والممارسة والتطبيق.
واما الثاني ـ فالمعارف
الأولية يتولد منها معارف على قسمين ، معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين
متعلق المعرفتين ومعارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال حسب قواعد حساب الاحتمالات ،
وهذا هو الّذي يدخل فيه أكثر معارفنا حيث يندرج فيه جميع المعارف المستمدة من
التجربة والاستقراء ، فان حساب الاحتمالات لا توجب اليقين مهما امتد وانما ينشأ
اليقين نتيجة ضعف الاحتمال إلى حد كبير حتى تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين
وجزم بقانون ذاتي لا موضوعي
ضمن مصادرات معينة
مشروحة في أسس الدليل الاستقرائي.
المقام
الثاني ـ مدركات العقل العملي ، وقد نوقش العقل العملي أيضا من قبل المحدثين بأنه لا يمكن
التعويل عليه كدليل على إثبات الحكم الشرعي لقصوره في مقام الكشف كالدليل العقلي
النظريّ ، وقد ذكروا في وجهه ما نجده من الاختلاف بين الأعراف والمجتمعات فيما
يرجع إلى هذه المدركات فكم من شيء كان يراه عرف أو قبيلة حسنا ويراه الآخرون
قبيحا.
وهذا التشكيك
الإثباتي في هذا العقل عند ما يتصاعد ينتهي به الشوط إلى تشكيك ثبوتي أشعري تجاه
أصل هذه المدركات فينكر على أساسه ثبوت قبح أو حسن ذاتي بقطع النّظر عما حسنه
الشارع أو قبحه.
وأيا ما كان فقد
نوقش في هذا التشكيك ثبوتيا كان أو إثباتيا بالنقض تارة وبالحل أخرى.
اما النقض فبإيراد
محذورين ولازمين باطلين :
أحدهما ـ انه لو
شككنا في قضايا العقل العملي فكيف يمكننا أن نثبت بعد ذلك وجوب طاعة الشارع وحرمة
معصيته إذ لا يمكن أن يكون هذا الحكم إلا عقليا كما هو مذكور في محله.
وهذا النقض جوابه
واضح. اما إذا كان التشكيك في العقل العملي إثباتيا كما هو لدى المحدثين فلا مكان
استكشاف إصابة العقل في خصوص هذا الحكم من الأدلة الشرعية الواردة بهذا الصدد وما
أكثرها كتابا وسنة.
واما إذا كان
التشكيك ثبوتيا فلأنه يقال بعدم الحاجة من أول الأمر إلى إثبات قبح المعصية في
مقام تحريك العبد نحو الطاعة إذ يكفي فرض وجود العقاب لذلك وقد ثبت وجوده بالأدلة
القطعية والتعرض له كاف لمنع العبد عن المعصية كما ان حصول الثواب كان لتحريكه نحو
الطاعة.
ثانيهما ـ انسداد
باب إثبات نبوة نبينا محمد 6 بل ساير النبوات لأن ذلك مبتن على مقدمة عقلية عملية هي
قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لأنه تغرير بالناس ونحو من الكذب فيكون قبيحا على
الله تعالى. فإذا أنكرنا القبح فكيف يمكن إثبات
صدق مدعي النبوة
لمجرد جريان المعجزة على يديه.
وهذا النقض أيضا
واضح الجواب : فانه يرد عليه :
أولا
ـ ان دلالة المعجزة
على النبوة يستحيل أن تتوقف على هذه المقدمة العقلية أعني قبح الكذب والتغرير ،
لأن المعجزة ان كانت بقطع النّظر عن قبح الكذب والتغرير دالة على نبوة من جرت على
يديه فهذا معناه عدم الحاجة في إثبات النبوة إلى مقدمة عقلية كهذه ، وإن كانت لا
تدل على ذلك إلا بضم هذه المقدمة العقلية أي انها بقطع النّظر عن كبرى قبح الكذب
لا تدل على نبوة مدعيها فسوف لا تدل على ذلك حتى بعد الاعتراف بهذه الكبرى لأن
كبرى قبح الكذب لا تحقق صغراها إذ لا بد من كذب وكشف عن النبوة ليقال بقبحه
والمفروض انه لا دلالة ولا كشف لمجرد ظهور إعجاز على يد النبي.
والحاصل : ان توقف
دلالة المعجزة على نبوة مدعيها على كبرى عقلية هي قبح الكذب وإظهار خلاف الواقع
تغريرا للناس دوري لأن فعلية الكبرى المذكورة فرع فعلية الدلالة والكشف ليكون كذبا
فيستحيل أن تكون فعلية الدلالة متوقفة على فعلية الكبرى.
اللهم إلا أن يقال
: بأنه يكفي في موضوع الكبرى العقلية التغرير بحسب فهم العوام ، وظهور المعجزة عند
العوام له دلالة على النبوة في نفسه وهذه الدلالة وان لم تكن عقلية وبرهانية وتامة
بالدقة ولكنها بضمها إلى الكبرى العقلية يتشكل دليل فني على النبوة. إلا ان
للأخباري أن يقول حينئذ بأننا نكتفي بالدلالة العرفية ونطمئن إليها في إثبات
النبوة ولا نحتاج إلى غيرها.
وثانيا ـ بالإمكان استبدال قضية قبح الكذب والتغرير إلى قضية عقلية
نظرية هي منقصة الكذب وهي منفية عن الواجب سبحانه وتعالى على حد نفي العجز عنه ،
وبهذا يمكن لمن ينكر خصوص العقل العملي أن يعتمد على هذه المقدمة لإثبات النبوة
ويبقى بعد ذلك البحث عن كيفية تحويل القضية العملية إلى قضية نظرية وهو خارج عن
هذا البحث.
وثالثا
ـ ان خصوص نبوة
نبينا محمد 6 لا يحتاج إثباتها إلى المقدمة المذكورة لأن
نفس كتابه ورسالته
التي جاء بها يكون معجزا ومثبتا لصحتها بالنحو المشروح في مقدمة كتابنا الفتاوى
الواضحة.
واما الحل :
فالمستفاد من كلمات الاعلام في المقام إنكار أن يكون الاختلاف بين العقلاء
المستويين في التفكير في كبرى العقل العملي بل يرجع خلافهم دائما إلى الاختلاف في
الصغريات والتطبيقات ، لأنهم يرون رجوع الكبريات العملية إلى قضيتين رئيسيتين هما
قبح الظلم وحسن العدل ولا يوجد هناك من يسمح لنفسه الإقرار بعدم قبح الظلم مع
الاعتراف بكونه ظلما وانما يشكك في صغرى الظلم والعدل وان هذا الفعل ليس بظلم أو
ليس بعدل ، اذن فلا طعن في حقانية مدركات العقل العملي كبرويا.
وهذا الجواب صوري
يتضح وجه المناقشة فيه مما تقدم في بعض البحوث السابقة حيث أوضحنا هنالك ان قضيتي
قبح الظلم أو حسن العدل ليستا هما المدركين العقلين العمليين الأوليين لأنهما
قضيتان بشرط المحمول ، إذ الظلم والعدوان هو الخروج عن الحد وليس المراد به الحد
التكويني إذ لا خروج عنه بل الحد الّذي يضبطه العقل ويحدده بنفسه بأنه ينبغي أو لا
ينبغي أن يتعداه الإنسان وهو عبارة أخرى عن القبيح بل هذه القضية ان كانت مفيدة
فهي تقيد كإشارة إلى مدركات العقل العملي اختصارا وإجمالا لا أكثر ، فعنوان الظلم
أخذ مشيرا ومعرفا إلى واقع ما لا ينبغي فعله في نظر العقل من الكذب والخيانة
ومخالفة الوعد وغير ذلك ، وكذلك عنوان العدل يكون مشيرا إلى واقع ما ينبغي في نظر
العقل فعله من الإحسان والشكر والصدق والمروءة إذا فقضيتا حسن العدل وقبح الظلم تكونان في طول القضايا
العقلية العملية لا انهما الأساس لها كما أفيد. وعلى هذا الأساس لا يكون الاختلاف
في عنوان الظلم والعدل
__________________
إلا اختلافا في
نفس الحكم العقلي العملي لا في صغراه.
والصحيح ـ في
الجواب الحلي أن يقال : بان مدركات العقل العملي لا خلاف فيها في نفسها أعني فيما
يدركه العقل بنحو الاقتضاء انه لا ينبغي أو ينبغي ، فالكذب مثلا لو لوحظ في نفسه
يحكم العقل بأنه يقتضي أن لا يرتكب والصدق فيه اقتضاء أن يكون هو الصادر من
الإنسان ولكن قد يقع التزاحم بين هذه المقتضيات كما إذا لزم من عدم الكذب الخيانة
مثلا فيتزاحم اقتضاء الصدق للحسن مع اقتضاء الخيانة للقبح. وفي هذه المرحلة قد يقع
اختلاف بين العقلاء في الترجيح وتقييم أحد الاقتضاءين في قبال الاخر فتشخيص موازين
التقييم والتقديم في موارد التزاحم هو الّذي قد يكون غائما يشوبه الشك أو الخطأ
ولا يكون بديهيا أوليا بل ثانويا ، ولا نقصد بالثانوي هنا كونه مستنتجا بالبرهان
بل كونه مشوبا بالشك وعدم الوضوح ، وقد ذكرنا فيما سبق انه قد تكون معرفة غير
برهانية وغير مستنتجة أي أولية ومع ذلك لا يكون واضحا بل يكون غائما ، وعليه
فالاختلاف بين العقلاء في بعض مدركات العقل العملي لا يوجب تشكيكا في أصل إدراكات
هذا العقل. ثم ان هنا شبهات وإشكالات أخرى للأشعريين تذكر في كتب الكلام لا مجال
هنا لطرحها ومناقشتها فليراجع في مظانها.
بقيت في المقام
نقطة هامة حاصلها : ان العقل العملي وحده لا يجدي في استكشاف الحكم الشرعي على
أساسه ما لم نضم إليه مقدمة عقلية نظرية دائما هي قانون الملازمة بين ما حكم به
العقل وما يحكم به الشرع.
وقد توهم بعضهم ان
هذه الملازمة بديهية واضحة باعتبار ان الشارع سيد العقلاء فإذا حكم العقلاء بحكم
بما هم عقلاء كان في طليعتهم وأول الحاكمين به ، ومن هنا ذكر ان التعبير بالتلازم
مسامحة وانما الأصح التضمن لاندراج الشارع في العقلاء فيكون حكمه ضمن حكمهم.
وهذا مما لا يمكن
المساعدة عليه لما تقدم مرارا من ان الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح
الواقع الأوسع من لوح الوجود وليسا امرين تشريعيين ، فحكم العقلاء في المقام يراد
به إدراكهم لا تشريعهم أو بنائهم ، ثم لو فرض ذلك جريا مع مشرب
هذا الأصولي في
باب الحسن والقبح مع ذلك لا موجب لدعوى الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع
الّذي هو سيدهم إذ حكمهم انما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق مصالحهم وحفظ
أنظمتهم والشارع سبحانه وتعالى خارج عن دائرة تلك المصالح والنظام فأي ملزم لأن
يحكم بأحكامهم وتشريعاتهم.
وقد يدعى في قبال
دعوى الملازمة استحالة جعل حكم شرعي وبالتالي استكشافه على طبق الحكم العقلي ،
وذلك لأن الحكم الشرعي انما يكون بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية بقبح
المعصية ولزوم الإطاعة للمولى والمفروض في المقام ان الحكم العقلي بالقبح أو الحسن
ثابت منذ البداية ، فإذا كان محركا للعبد كفى وحصل المقصود بلا حاجة إلى توسيط جعل
شرعي وإلا فلا فائدة في جعله لأنه وحده لا يكون محركا من دون محركية الحكم العقلي
بقبح معصيته.
وهذه الدعوى مع
أصل دعوى الملازمة كلتاهما باطلة.
اما الأولى :
فلأنه تقدم مرارا من ان إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن والقبح يوجب تحقق
ملاك ثان للحسن والقبح زائدا على الحسن والقبح الثابتين في العقل بعنوانه الأولي
حيث يتحقق عنوان إطاعة المولى أو معصيته فيتأكد الملاك العقلي وقد يكون محركا
حينئذ للعبد.
واما دعوى
الملازمة ـ فلان الشارع تارة يكون غرضه في مقام حفظ الحسن وترك القبيح بنفس مرتبة
ودرجة حافظية ومحركية المرتبة الذاتيّة الموجودة في الفعل نفسه من حيث اقتضائه
للحسن أو القبح واستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب ، وأخرى يفرض ان غرضه
يتعلق بمرتبة أقوى وأشد من ذلك ، فعلى الأول لا موجب لافتراض ان المولى يعمل
مولويته ويجعل على وزان الحكم العقلي حكما شرعيا وانما يرشد إلى ما هو واقع من
الحسن أو القبح الذاتيين في الفعل ، وعلى الثاني فلا محالة يتصدى من أجل تأكيد تلك
الحافظية وتشديدها إلى إعمال المولوية والأمر به أو النهي عنه. وتشخيص مرتبة هذا الاهتمام
قد يكون بدليل شرعي وقد يكون راجعا إلى مناسبات وأذواق عقلائية لا يمكن التعويل
عليها ما لم تبلغ مرتبة الجزم واليقين ومن هنا يظهر انه لا برهان على أصل الملازمة.
المقام
الثالث ـ في دعوى قصور الدليل العقلي من حيث
المنجزية والمعذرية بعد الفراغ في
المقامين السابقين عن عدم قصوره في كاشفيته وعدم ضيق في الجعل المستكشف به. وذلك
بدعوى نهي الشارع عن اتباعه ، وهذا النهي كما ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) يمكن أن
يفترض تارة نهيا عن الدليل العقلي بعد حصول اليقين به ، وأخرى نهيا عن التوجه إلى
ميدان الاستدلالات العقلية وصرف الذهن عن هذا المجال إلى الأدلة النقليّة. والأول
غير معقول على ما تقدم شرحه في البحوث السابقة ، وانما المعقول هو الثاني لأنه
يرجع إلى تنجيز الواقع من أول الأمر من ناحية ما يؤدي إليه التوجه إلى المطالب
العقلية من الوقوع في المخالفة ، والمكلف بعد أن حصل له القطع وإن كان مضطرا إلى
العمل على وفق قطعه لكونه حجة بالذات عليه إلا ان اضطراره هذا مسبوق بسوء اختياره
فلا ينافي تنجز الواقع في مورد قطعه عليه أيضا إذا صادف مخالفة الواقع نظير من
توسط الدار المغصوبة فاضطر إلى الغصب في حال الخروج بسوء اختياره.
والفرق العملي بين
النحوين يظهر فيما إذا صادف حصول القطع من الدليل العقلي للمكلف صدفة لا بتسبيب
منه وتوجه إلى باب الأدلة والاستدلالات العقلية فانه إذا كان النهي بالنحو الأول
بناء على معقوليته كان مشمولا له وإذا كان بالنحو الثاني لم يكن مشمولا له كما هو
واضح.
هذا إلا ان الشأن
في ثبوت مثل هذا النهي إذ لا دليل عليه عدى ما يتوهم من إمكان دعوى استفادته من
الروايات الناهية عن العمل بالرأي بدعوى صدقها على العمل بالأدلة العقلية.
والصحيح ـ ان من
يلاحظ هذه الروايات وألسنتها وملابساتها وتاريخ صدورها لا يكاد يشك في ان المقصود
من الرّأي فيها ما كان مطروحا وقتئذ من الاعتماد على الأقيسة والاستحسانات الظنية
والاستقلال في مقام الاستنباط عن الأئمة : بالرجوع مباشرة إلى الكتاب أو السنة أو العقل من دون
مراجعتهم في الوقوف على المخصص أو المقيد أو المفصل والمبين كما كان على ذلك ديدن
فقهاء العامة والجمهور ، هذا مجمل الجواب على التمسك بهذه الروايات ولو سلم إطلاق
الرّأي فيها على القطع الحاصل
بالدليل العقلي
كان بالإمكان أيضا الجواب على الاستدلال به بإيقاع المعارضة بين هذا الإطلاق وبين
ما دلت عليه الروايات والنصوص من لزوم اتباع العلم وجواز القضاء أو العمل به
وبراءة ذمة العامل به من دون تقييد بالعلم الحاصل من دليل شرعي ، والنسبة بينهما
عموم من وجه كما هو واضح ، وبعد التعارض والتساقط لا يبقى دليل على النهي المذكور.
وكذلك بالإمكان إيقاع المعارضة بين إطلاق هذه الروايات لو تم وإطلاق الروايات التي
تحث على الرجوع إلى العقل فانها لو تمت سندا ودلالة وقعت طرفا للمعارضة بنحو
العموم من وجه لأنها تشمل العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام والعقل النظريّ.
ودعوى : أخصية
روايات النهي عن العمل بالرأي لاختصاصها بخصوص النظريّ لا الفطري لعدم صدق الرّأي
عليه.
مدفوعة : بان روايات
النهي تكون أعم من جهة صدقها في الظنيات دون روايات الحث على الرجوع إلى العقل إذ
لا يستفاد منها تشريع حجية لا يدركها العقل بل هي تدل وترشد إلى ما يرشد إليه
العقل أيضا من لزوم الرجوع إلى العقل لتحصيل اليقين والقطع وعدم الاعتماد على
الظنون والتخمينات فالنسبة عموم من وجه وبعد التعارض والتساقط في مادة الاجتماع لا
يبقى ما يدل على مقصود الاخباري.
إلا ان هناك
إشكالا في صحة هذه الطائفة الأخيرة التي تعرض لها الشيخ ( قده ) فانها بين ما لا
يتم سندا وما لا يتم دلالة كما يظهر ذلك من خلال مراجعتها. وانما المهم في إيقاع
المعارضة الطائفة الأولى.
ثم ان الشيخ
الأعظم ( قده ) قد تعرض في ذيل هذا البحث إلى فروع قد يتوهم فيها وقوع الردع
والنهي فقهيا عن العمل بالعلم مما قد يوهم إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع وامره
بطرح علم تفصيلي حاصل للمكلف ، ونحن نقتصر على فروع خمسة ذكرها السيد الأستاذ أيضا
ولكن لا بملاك تكميل النقاش مع المحدثين بل لاشتمالها في نفسها على نكات وحيثيات
من البحث صناعية فنقول :
الفرع
الأول ـ ما إذا علم إجمالا بجنابته أو جنابة شخص آخر ، وهذا علم
إجمالي غير منجز لأن جنابة الاخر تكليف لشخص آخر لا له فلا يكون علما بالتكليف
عليه على
كل حال ، فتجري
الأصول المؤمنة في حق كليهما مع ان إطلاق هذه الفتوى يؤدي إلى المخالفة لعلم
تفصيلي وذلك فيما إذا اقتدى أحدهما بالاخر من دون غسل حيث يعلم المأموم حينئذ
ببطلان صلاته تفصيلا.
وهذا الفرع يمكن
حله بأحد وجوه مترتبة :
١ ـ يمكن أن يدعى
بان صحة الائتمام موضوعها صحة صلاة الإمام ولو ظاهرا أو اعتقادا وهذا ثابت في
المقام فلا علم تفصيلي ببطلان صلاة المأموم.
إلا ان هذا الجواب
غير صحيح مبنى فانه لا موجب لتقييد إطلاقات الأدلة الأولية التي تقتضي إناطة صحة
صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام واقعا.
٢ ـ ان الأصول
المؤمنة لا تجري في المقام في نفسها لكي يتوهم أداء إطلاق جريانها إلى مخالفة علم
تفصيلي. وذلك لأن العلم الإجمالي بجنابة أحد الشخصين علم إجمالي منجز فيما لو فرض
ان جنابة الاخر كان موضوعا لأثر بالنسبة إلى الأول كما لو كان عادلا يجوز الائتمام
به أو كان ممن يمكن إدخاله في المسجد وقلنا بحرمة إدخال الجنب إليه أيضا ، فانه في
مثل ذلك يتشكل علم إجمالي بالتكليف على كل حال ، إذ إما يجب عليه الغسل فلا يمكنه
الاجتزاء بصلاة من دون غسل أو يحرم عليه الائتمام بالاخر أو إدخاله في المسجد ولو
بعد أن يغتسل وهذا علم إجمالي منجز موجب لتساقط الأصول في الأطراف.
ودعوى : انحلاله
تارة بان استصحاب عدم الجنابة في كل منهما باعتبارهما أصلين من سنخ واحد يسقطان
فتصل النوبة إلى أصالة الصحة في صلاة الإمام مثلا وأصالة الاشتغال من ناحية إحراز
الطهور من الحدث الكبر لكونه شكا في المحصل ، وأخرى بان جواز الائتمام مرجعه إلى
إمكان تحمل الإمام القراءة عن المأموم أي عدم وجوب القراءة عليه وهذا بخلاف شرطية
الطهور من الحدثين فبعد تساقط الاستصحابين يكون الأصل الحكمي الجاري في أحد
الطرفين أصالة الاشتغال وفي الاخر أصالة البراءة عن وجوب القراءة لأنه من الشك في
الجزئية.
مدفوعة : اما
الأول ، فلان أصالة الصحة دليلها لبي لا إطلاق فيه لمثل هذه الحالات. واما الثاني
فلان الائتمام بحسب ما يستفاد من أدلته أمر وجودي هو
الاقتداء بمن تكون
صلاته صحيحة فيعلم بوجوب الجامع بين القراءة في الصلاة أو الاقتداء بالغير الّذي
تكون صلاته صحيحة فيكون من الشك في تحصيل هذا الجامع المعلوم وجوبه.
٣ ـ لو غفلنا عن
العلم الإجمالي المذكور وقلنا بجريان الأصول الموضوعية في حق الشخصين معا فلا
إشكال في ان الأصل الموضوعي انما يؤمن بلحاظ التكليف الّذي لا علم تفصيلي بثبوته
كما في صورة اقتداء أحدهما بالاخر من دون غسل من أحدهما ، لأن كل أصل مصحح انما
يصح محتمل البطلان لا معلومه فيلتزم بالتبعيض في الآثار المترتبة على الأصلين بين
ما لا يقطع بعدم ترتبه وما يقطع بذلك.
الفرع
الثاني ـ ما إذا اختلف شخصان في البيع والهبة بعد اعترافهما على
انتقال المال فالمالك الأول يدعي البيع ويطالب الثاني بالثمن والثاني يدعي الهبة
وبراءة ذمته من الثمن ، وفي مثل ذلك لا تثبت الهبة ولا البيع ـ مع عدم البينة ـ ويحكم
برجوع المال إلى الأول مع انه يعلم تفصيلا انتقاله إلى الثاني فهذا حكم ظاهري
مخالف للعلم التفصيليّ.
وقد ذكر الأستاذ
هنا بان الهبة المحتملة تارة تفترض جائزة وأخرى تفترض لازمة ، كما إذا كانت من ذي
رحم مثلا ، ففي الصورة الأولى يقطع فيها برجوع الملك إلى مالكه الأول إذ لو كان
موهوبا فنفس تداعيه من قبل واهبه رجوع عرفا ولو كان بيعا فباعتبار ان المشتري لا
يدفع الثمن يكون للبائع حق الفسخ والرجوع وتداعيه له رجوع لا محالة فلا مخالفة
احتمالية فضلا عن القطعية.
واما في الصورة
الثانية فكلا منهما يدعي شيئا وينكر ما يدعيه الاخر فالمالك الأول يدعي البيع
وينكر الهبة والثاني يدعي الهبة وينكر البيع فيصير من موارد التخالف والتحالف من أسباب
انفساخ المعاملة واقعا ومعه يرجع المال إلى صاحبه واقعا.
وهذا الّذي أفاده
بالنسبة إلى الصورة الأولى تام واما بالنسبة إلى الصورة الثانية ـ أي ما إذا كانت
الهبة لازمة ـ فمحل إشكال لأن الميزان في التحالف أن يكون كل منهما مدعيا ومنكرا
لما يدعيه الاخر والمراد بالادعاء ليس مجرد ادعاء مطلب مهما كان بل المراد به دعوى
إلزام على الاخر وحق عليه ، ومن الواضح انه في المقام المدعي هو
المالك الأول فقط
حيث يدعي على الثاني إلزامه بالثمن وبحق استرجاع العين منه إذا لم يوفه الثمن واما
الثاني فهو ينكر هذين الإلزامين ودعواه الهبة بالنسبة إلى أصل التملك وإن كان
إلزاما للأول إلى انه معترف به من قبلهما بحسب الفرض ومن حيث كونه بالهبة لا
بالبيع ليس إلا إنكارا لحق الأول وعليه فليس في المورد إلا مدع واحد ومنكر فليس
الحلف إلا على الثاني وبه تثبت نتيجة الهبة.
نعم لو قلنا بان
الجواز والخيار مرجعه إلى تقييد للملكية فالملكية اللازمة هي الملكية الطويلة
والملكية الجائزة هي الملكية القصيرة المحدودة بما قبل الفسخ أو الرجوع كان الثاني
في المقام مدعيا لأنه يدعي طول الملكية وبقائها والبائع يدعي عدم جعلها وانما
المجعول الملكية المقيدة بالفسخ فمقتضى الأصل حينئذ عدم جعل الملكية المطلقة فيكون
الثاني مدعيا كما ان الأول مدع بلحاظ حق إلزام الثاني بدفع الثمن.
الفرع
الثالث ـ لو أقر شخص بعين لزيد ثم أقر بها لعمرو فانها تدفع للأول
ويضمن المقر للثاني قيمتها إن كان قيميا أو مثلها إن كان مثليا مع انه يعلم إجمالا
بعدم استحقاق أحدهما لذلك فلو انتقلا معا إلى شخص ثالث علم إجمالا بالبطلان في
أحدهما ولو اشترى بهما معا شيئا ثالثا علم تفصيلا بعدم استحقاقه له.
وقد ذكر السيد
الأستاذ ان ما أفاده الفقهاء في المقام على القاعدة لأن دليل حجية الإقرار يشمل
كلا الإقرارين وبما ان العين تكون تالفة على المقر له ثانيا من قبل المقر بسبب
إقراره الأول يضمن بدله لا محالة ويلتزم بتمام آثار حجية الإقرارين عدى ما يعلم
تفصيلا والأحكام الظاهرية.
والنتيجة التي
أفادها الأستاذ صحيحة لا غبار عليها إلا انه لا بد من تمحيص لها إفادة كتكييف
وتخريج لها على قاعدة حجية الإقرارين ، فانه ربما يقال بان الإقرار الثاني لا يكون
حجة ومشمولا لدليل نفوذ الإقرار إذ العين بالإقرار الأول قد خرجت إلى ملك المقر له
أولا فيكون الإقرار الثاني إقرارا في حق مال الغير وهو لا يكون نافذا.
ولكن الصحيح ان
تطبيق حجية الإقرار على الإقرار الثاني انما يكون بلحاظ المدلول الالتزامي لكلام
المقر لا المطابقي حيث ان لازم إقراره انه قد أتلف العين على عمرو فيكون ضامنا
لبدلها وهذا إقرار على نفسه فيكون نافذا لا محالة ولا يشترط في حجية
الإقرار أن يكون
مدلولا مطابقيا لكلام المقر وهذا واضح. كما ان عدم ترتب الأثر على المدلول
المطابقي لكلام المقر من جهة عدم كونه إقرارا لا يضر بشمول دليل نفوذ الإقرار
للمدلول الالتزامي.
الفرع
الرابع ـ لو اختلف المتبايعان في تعيين المبيع أو الثمن كما إذا قال
البائع بعتك كتاب الحدائق بدينار وقال المشتري بل بعتني كتاب الجواهر ، فيكون من
التحالف حيث ان كلا منهما يدعي على الاخر حقا وإلزاما وينكر ما يلزمه به الآخر اما
البائع فلأنه وإن كان أصل ملكيته للثمن ـ الدينار مثلا ـ معلوما إلا انه يدعي على
المشتري حق الإلزام بدفعه بمجرد إعطائه كتاب الحدائق ، واما المشتري فيدعي على
البائع ملكيته لكتاب الجواهر وبالتالي حق إلزامه بدفعه بمجرد تقديم الثمن إليه ،
وبعد التحالف يحكم ظاهرا بعدم كليهما مع انه يعلم إجمالا بعدم ملكية البائع لأحد
الكتابين ويعلم تفصيلا ملكية المشتري للثمن إذا كان شخصيا.
وقد أفاد الأستاذ
في المقام بان هذا مبني على أن يكون التحالف غير موجب للانفساخ واقعا وإلا فلا
مخالفة لعلم إجمالي فضلا عن تفصيلي بل يعلم بمالكية كل منهما بما في يده بعد
التحالف وبناء على القول بان الانفساخ ظاهري في موارد التحالف لا واقعي يلتزم به
حيثما لا يؤدي إلى مخالفة علم منجز.
وفيما يلي لا بأس بالتحدث
عن ان الانفساخ المذكور في موارد التحالف هل يكون واقعيا أم ظاهريا بعد الفراغ عن
انه لو فرض انه ظاهري فيما أفاده الأستاذ من تقييده بما إذا لم يلزم منه مخالفة
علم منجز صحيح لا غبار عليه في مقام دفع النقض. فنقول :
يمكن أن يستدل على
اقتضاء التحالف للانفساخ الواقعي بأحد وجوه ثلاثة :
١ ـ دعوى استفادة
ذلك من دليل حجية اليمين وفصل الخصومة بها فان هذا يقتضي سد باب الخصومة باليمين
فينفسخ العقد لا محالة لكي تنتهي الخصومة بين المترافعين.
وفيه : ان غاية ما
يستفاد من دليل اليمين إنهاء الخصومة بها بان لا يجوز الترافع ثانيا ولا المطالبة
لا إنهاء منشأ الخصومة كما هو المطلوب ، كما ان إنهاء الخصومة لا تتوقف على الفسخ
الواقعي كما هو ظاهر.
٢ ـ دعوى لغوية
بقاء العقد عقلائيا بعد فرض نفوذ اليمين في فصل الخصومة وإسقاط حق المطالبة ، بل
لقد أفتى الفقهاء بان صاحب الحق الواقعي لو عثر بعد ذلك على ما له أيضا لا يجوز له
أخذه بعد نفوذ اليمين عملا بالروايات الدالة على ذلك والظاهرة في انه لا يجوز له
ذلك واقعا بعد الخصومة واليمين ، وواضح ان بقاء العقد وعدم انفساخها لغو في مثل
هذه الحالة إذ لا أثر ولا ثمرة له.
وفيه : انه يكفي
لدفع اللغوية إمكان استرجاع الحق فيما إذا تاب غير المحق وأقر بالحق للآخر حيث
يكون إقراره حينئذ حاكما على اليمين.
٣ ـ ان التحالف
إتلاف للمال على من انتقل إليه قبل قبضه عرفا لأنه يوجب امتناع فرصة المطالبة به
من قبل مالكه حتى بالمرافعة. بل بناء على عدم إمكان أخذه ولو بالسرقة واقعا ولو
أمكنه فكأن هذا المال تألف عرفا فيكون من تلف المبيع قبل قبضه وهو من مال بائعه.
والحاصل : يتعدى من مورد الرواية إن كانت هي المدرك على هذه القاعدة أو يتوسع في
الارتكاز العقلائي من التلف الحقيقي إلى هذا النحو من التلف ، بل بناء على ان مدرك
القاعدة هو الارتكاز العقلائي الممضى شرعا يمكن التعدي إلى غير البيع من سائر
المعاوضات أيضا لأن روح المعاوضة عقلائيا هو التسليم والتسلم فإذا تعذر ذلك انفسخت
لا محالة. نعم الرواية واردة في البيع بالخصوص.
وهذا ولكن الصحيح
انه يمكن تخريج الفسخ الواقعي في المقام حتى لو قيل بان التحالف لا يقتضي أكثر من
التفاسخ ظاهرا وذلك باعتبار ان أحد المتبايعين في المقام صاحب الحق فيكون له
الخيار لأنه متصد إلى تسليم ما بيده بينما الاخر غير متصد له فإذا ادعي ان مقام
التحالف خصوصا مع تصرف الطرفين في العوضين بعد التحالف كما هو الغالب دليل على ان
المحق منهما يفسخ المعاملة أيضا كانت النتيجة حصول الفسخ واقعا.
الفرع
الخامس ـ ما إذا أودع شخصان عند ثالث أحدهما درهما والآخر درهمين ثم
ضاع أحدهما من دون تمييز للضائع اما نتيجة خلطها أو لجهل الودعي بالتالف مع انه
يعلم بأنه كله لأحدهما.
والتحقيق أن يقال
: ان المشهور حكموا في هذا الفرع بإعطاء درهم لصاحب
الدرهمين لأنه حقه
على كل حال وتنصيف الاخر بينهما عملا برواية السكوني التي وردت في المسألة بالذات
، وذهب الشهيد الثاني في المسالك ـ ناسبا له إلى الشهيد الأول في الدروس وقيل انه
أحد أقوال العلامة ـ ان الدرهمين الباقيين تقسم بينهما أثلاثا فيعطى لصاحب
الدرهمين درهم وثلث ولصاحب الدرهم ثلثا درهم بدعوى ضعف رواية السكوني سندا وتطبيق
قاعدة الشركة القهرية على المال فتقع الخسارة فيهما بحسب النسبة على القاعدة. وهذا
الّذي حكم به الشهيد في المسالك مما لا يمكن المساعدة عليه لأن الشركة فرع
الامتزاج لا مجرد الاشتباه الّذي يمكن فيهما انحفاظ ملكية كل من الشخصين مستقلا
على حاله والمشهور أيضا قد حكموا بالشركة القهرية في الامتزاج الّذي يكون قد تجزأ
ملك كل منهما إلى حيث لا يعقل عرفا افتراض تعلق الملكية به مستقلا.
وأيا ما كان فعلى
قول الشهيد لا موضوع للنقض لأن الشركة انقلاب واقعي ، واما على القول المشهور فهو
مبني على أن يكون المستفاد من رواية السكوني التنصيف كحكم ظاهري فيتعين حينئذ في
مقام الجواب عليه أن يقال بعدم الالتزام بإطلاقه لما إذا خالف علم منجز ، ولكن لا
موجب لحمل الرواية على الحكم الظاهري بل قد لا يعقل ذلك مع العلم بعدم مطابقة
التنصيف للواقع على كل حال ، وانما المستفاد منها الصلح بينهما بذلك من قبل الشارع
قهرا ولو باعتباره وليا لهما فيكون كما لو تصالحا بأنفسهما وبذلك يكون الانقلاب
واقعيا أيضا فلا موضوع للنقض.
منجزية العلم
الإجمالي
الجهة
السابعة ـ يقع البحث عن منجزية العلم الإجمالي في موضعين ضمن مباحث
القطع تارة وضمن مباحث الأصول العلمية أخرى ، ورغم التداخل بين البحثين إلا أنه
بحسب المنهجية الفنية لكل من الموضعين حصة من الحديث غير الأخرى. فان البحث في
الموضع الأول ينبغي أن يكون عن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية
تارة وبلحاظ وجوب الموافقة القطعية أخرى وفي كل منهما بعد الفراغ عن المنجزية يبحث
عن كون ذلك بنحو الاقتضاء أي معلق على عدم ورود ترخيص شرعي أو بنحو العلية بحيث
يستحيل الترخيص بخلافه فان كل ذلك بحث عن شئون العلم وآثاره ، واما في الموضع
الثاني فإذا فرض اختيار علية العلم الإجمالي للتنجيز بلحاظ حرمة المخالفة ووجوب
الموافقة معا فلا تصل النوبة إلى بحث اخر إلا من باب التنبيهات والتطبيقات وإن فرض
اختيار مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي ولو بلحاظ وجوب الموافقة على الأقل
فسوف يبقى مجال للبحث عن جريان الأصول العملية في نفسها في مورده حيث فرض ان
تنجيزه كان بنحو الاقتضاء والتعليق على عدم ورود ترخيص شرعي فيه فيكون البحث في
الموضع الثاني حول شمول أدلة الأصول والأحكام الظاهرية لموارد الشبهات المقرونة
بالعلم الإجمالي.
وأيا ما كان
فالكلام هنا عن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ مرحلتي حرمة المخالفة القطعية ووجوب
الموافقة القطعية وفي كل منهما يبحث عن ان تأثيره في التنجيز هل هو بنحو العلية أو
الاقتضاء.
حرمة المخالفة القطعية للعلم
الإجمالي :
اما البحث عن
المرحلة الأولى وهو حرمة المخالفة القطعية فينبغي أن يعلم ان البحث عن أصل منجزية
العلم الإجمالي لحرمة المخالفة انما يتجه بناء على مسلك المشهور من افتراض قاعدة
قبح العقاب بلا بيان العقلية حيث يبحث عن ان العلم الإجمالي هل يصلح لأن يكون
بيانا أم لا. واما بناء على مسلكنا القائل بالاحتياط العقلي على أساس حق الطاعة
فسوف يكون احتمال التكليف منجزا بحسب افتراض هذا المسلك فكيف بالعلم به فينحصر
البحث على هذا المسلك في ان حصول العلم الإجمالي هل يوجب صيرورة التنجيز العقلي
المذكور مطلقا وعلى نحو العلية أو يبقى على تعليقيته واقتضائه.
وعلى أي حال فلا
ينبغي الإشكال في أصل منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة حتى على المسلك
المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن البيان تام بالنسبة إلى المخالفة
القطعية لمعلومية الجامع أو الواقع المعلوم بالإجمال أو الفرد المردد حسب المسالك
المختلفة في تفسير هوية العلم الإجمالي وما يتعلق به.
وانما الّذي ينبغي
البحث فيه تشخيص ان هذه المنجزية هل تكون بنحو العلية أو الاقتضاء. والمشهور بين
المحققين علية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة وخالف في ذلك المحقق الخراسانيّ
مدعيا انه مقتض لذلك وليس علة. والصحيح هو ما ذهب إليه ولكن لا بالنحو الّذي ذهب
إليه وبطريقته.
وقد ذكر المشهور
وجوها في مقام إثبات العلية وامتناع ورود الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي ،
من قبيل ان ذلك يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية وهي معصية والترخيص في
المعصية قبيح عقلا وسوف نتعرض إلى هذه الوجوه ومناقشتها بعد توضيح ان منهج البحث
في المسألة ينبغي أن يكون بالرجوع إلى بحث الجمع بين
الأحكام الظاهرية
والواقعية وكيفية دفع شبهات التضاد فيما بينهما أو استلزامها لنقض الغرض ونحو ذلك
ليرى هل ان المسلك المختار للتوفيق جار هنا أيضا أم لا ، فان البحثين بملاك واحد
إذ معنى البحث عن العلية والاقتضاء هو البحث عن إمكان التوفيق بين الحكم الظاهري
في تمام أطراف العلم الإجمالي مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وعدمه فلا بد من
الرجوع إلى مسالك التوفيق بينهما ليرى هل يجري شيء منها في المقام أم لا فإذا لم
يجر كان معناه ان العلم الإجمالي يمنع عن ذلك التوافق وهو معنى عليته لحرمة
المخالفة القطعية.
ومسلكنا في دفع
شبهة التضاد أو نقض الغرض هو توضيح ان الأحكام الظاهرية ليست لها مبادئ مستقلة
وراء مبادئ الأحكام الواقعية الإلزامية أو الترخيصية المقتضية لإطلاق العنان لكي يقع
التضاد أو نقض الغرض بلحاظها. بعد وضوح ان لا تضاد بين مرحلتي الجعل والاعتبار
والتنجر والامتثال لأن الاعتبار سهل المئونة والتنجز لأحد الحكمين دائما لا لهما
معا. بل الأحكام الظاهرية انما تجعل على طبق الأهم من الملاكات الواقعية في مرحلة
التزاحم الناشئ من الالتباس والاشتباه بين مواردها حفظا تشريعيا للأهم من الملاكين
، بأي لسان كانت صياغة الحكم الظاهري وقد أوضحنا هناك الفرق بين التزاحم الحفظي
والتزاحم الملاكي ( الآخوندي ) أو الامتثالي ( الميرزائي ) فلا نعيد. وعلى هذا
الأساس لا تضاد لعدم وجود ملاكات مستقلة عن نفس الملاكات الواقعية ولا نقض غرض لأن
ما يفوت منهما انما كان تحفظا على ما هو الأهم وليس هذا بنقض غرض بل طبق الغرض.
وهذا الجمع
والتوفيق كما يمكن ان يورد في موارد الشبهات البدوية كذلك يعقل في موارد العلم
الإجمالي فيما لو فرض ان الملاك الترخيصي الموجود في البين جزما أو احتمالا أهم من
الملاك الإلزامي المعلوم بالإجمال لأن كون ذلك الملاك الإلزامي إجماليا يعني وقوع
التزاحم بينه وبين الملاكات الترخيصية نتيجة هذا الإجمال والاشتباه لدى المكلف.
ودعوى : وقوع
التضاد بين الحكم الواقعي الإلزامي المعلوم بالإجمال والحكم الظاهري الترخيصي في
تمام الأطراف بلحاظ مرحلة التنجز والامتثال حينئذ لأن
الإلزام المعلوم
بالإجمال منجز بالعلم فيقتضي الامتثال وهو ينافي الترخيص في تمام الأطراف.
مدفوعة : بما سوف
يأتي في مناقشة مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان الحكم العقلي بالتنجيز في
موارد العلم الإجمالي كحكمه به في موارد الشك البدوي بناء على مسلكنا معلق على عدم
ورود الترخيص الشرعي وليس حكما منجزا فبورود الترخيص الشرعي يرتفع موضوع التنجيز
للإلزام الواقعي المعلوم بالإجمال ومعه لا تضاد.
وبهذا ظهر وجه
الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ فان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في
موارد العلم الإجمالي دون التفصيليّ إذ لا تزاحم بين الملاكات في موارد العلم
التفصيليّ ولو بنظر العالم على الأقل وهو مانع عن إمكان جعل حكم ظاهري بالترخيص
فيه على ما تقدم شرحه فيما سبق.
وفيما يلي نستعرض
كلمات مدرسة المحقق النائيني بهذا الصدد أولا وكلمات المحقق الخراسانيّ ثانيا
فنقول : ذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى علية العلم الإجمالي لحرمة
المخالفة القطعية وامتناع جعل الترخيص الشرعي الظاهري في تمام أطرافه لأن في
المخالفة القطعية عصيانا قطعيا للمولى وهو قبيح فيكون الترخيص فيه قبيحا ممتنعا
على الشارع.
وهذا الكلام لا بد
وأن يستبطن دعوى ان حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية أي منجزية العلم الإجمالي
حكم تنجيزي لا تعليقي وإلا كان الترخيص الشرعي رافعا لموضوع العصيان والقبح.
وإثبات التنجيزية
في الحكم العقلي لا بد وأن يكون على أساس افتراض خصوصية فيه تمنع عن إمكان رفعه من
قبل الشارع بالترخيص ، وهي يمكن أن تكون أحد الأمور التالية :
١ ـ خصوصية مولوية
المولى التي قلنا بأنها ليست مجعولة من قبل جاعل بل هي مولوية ذاتية يدركها العقل
وروحها وملاكها كونه سيدا وله حق الطاعة على عباده على ما شرحناه فيما سبق من
البحوث. وهذه الخصوصية لا إشكال في ذاتيتها وامتناع ارتفاعها على حد ارتفاع وجوب
الوجود عنه تعالى.
إلا ان الترخيص
الشرعي ليس رفعا لها بل رفع لموردها أي إعمال للمولوية وتقديم جانب الأهم من
الملاكات الواقعية.
٢ ـ خصوصية قبح
ظلم المولى وهتكه والخروج عن قوانين الرقية والعبودية بالنسبة إليه بالعصيان وعدم
إطاعته ، وهذه الخصوصية أيضا ذاتية أعني ان قبح هتك المولى امر ذاتي ، إلا ان هذا
غير حاصل في المقال لأن الارتكاب مستند إلى ترخيص من قبل المولى نفسه وبذلك لا
يكون خروجا عليه بل على العكس موافقة لقراره وتشريعه الّذي اتخذه نتيجة التزاحم
بين ملاكاته الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ.
٣ ـ دعوى ان العقل
يمنع المولى نفسه من أن يعمل مولويته في مقام التزاحم الحفظي وتقديم جانب المصالح
الترخيصية. ومن الواضح ان هذه الخصوصية غير مقبولة لأن هذا معناه التضييق وتحديد
مولوية المولى مع ان حرمة المخالفة انما يكون على أساس احترام مولويته كما لا
يخفى.
وهكذا وبهذا
التحليل يتضح ان الحكم العقلي بحرمة المخالفة القطعية بل بحرمة المخالفة مطلقا حتى
التفصيلية حكم تعليقي منوط بعدم استناد ذلك إلى ترخيص الشارع نفسه فيرتفع بترخيصه
غاية الأمر ان الترخيص المذكور لا يعقل في موارد العلم التفصيليّ لعدم معقولية
التزاحم الحفظي فيها بحسب نظر القاطع على ما تقدم مرارا ، واما في موارد الشك
والاشتباه ولو المقرون بالعلم الإجمالي فهو معقول وعلى تقدير ثبوته يكون رافعا
لموضوع الحكم العقلي بحرمة المخالفة القطعية.
واما صاحب الكفاية
( قده ) فقد أفاد في المقام ان التكليف الواقعي سواء كان مشكوكا أو معلوما
بالإجمال بل وحتى إذا كان معلوما بالتفصيل على ما يستفاد من مجموع كلامه إن كان
فعليا من جميع الجهات فيستحيل الترخيص على خلافه لأن محذور التضاد لا يفرق فيه بين
القطع باجتماع المتضادين أو احتماله إذ كلاهما محال وإن لم يكن فعليا من جميع
الجهات فلا بأس بالترخيص بخلافه حتى في موارد العلم لأنه مجرد حكم إنشائي وليس
بفعلي ولا تضاد بين الأحكام إلا بلحاظ مرحلة فعليتها.
وسوف يأتي تفصيل
المناقشة مع تصورات المحقق الخراسانيّ ( قده ) لدى التعرض
إلى كيفية الجمع
بين الأحكام الظاهرية والواقعية من بحوث الأصول العملية ولكنه في المقام على سبيل
الإجمال نقول : بأنه إن أراد بالتكليف الواقعي الفعلي الإرادة والحب والبغض
والمصلحة والمفسدة بل وحتى الأمر والاعتبار والاهتمام بقطع النّظر عن التزاحم
الحفظي فالحكم الواقعي فعلي في موارد الشك والاشتباه ومع ذلك يعقل جعل حكم ظاهري
على خلافه من دون لزوم تضاد لا قطعا ولا احتمالا لأن ملاك هذا الحكم الظاهري هو
التزاحم المشار إليه وهو لا يستدعي التضاد بلحاظ المبادي ، وإن أراد بالفعلية
الفعلية بلحاظ التزاحم الحفظي فليس الحكم الواقعي بفعلي في موارد الأحكام الظاهرية
بعد فرض شمول أدلتها لأنها تدل على عدم الفعلية بهذا اللحاظ.
إلا ان هذا انما
يكون في غير العلم التفصيليّ لأن التزاحم المذكور غير متصور فيه على ما تقدم
مرارا.
واما المحقق
العراقي ( قده ) فقد أفاد في المقام بأنا لا نتعقل الفرق بين العلم الإجمالي
والتفصيليّ في المنجزية لأن الإجمال انما هو في خصوصيات لا دخل لها فيما يدخل في
موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ، لأن ما هو موضوع لذلك انما هو الأمر أو النهي
الصادرين من المولى واما خصوصية كونه متعلقا بصلاة الجمعة أو الظهر فلا دخل لها في
المنجزية وإلا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا منجزا لكونه وجوبا لصلاة الجمعة بالخصوص
وهو واضح البطلان وعليه فالمنجز هو أصل الإلزام وهو معلوم تفصيلا ولا إجمال فيه.
وهذا الكلام صحيح
بمعنى انه لا فرق بين العلمين التفصيليّ والإجمالي في المنجزية بمقدار أصل الإلزام
والعقل في كل منهما يحكم بحرمة المخالفة القطعية ، وإلا ان الحكم العقلي المذكور
معلق على عدم ورود ترخيص من الشارع وهذا المعلق عليه في موارد العلم التفصيليّ
ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه إذ لو كان نفسيا لزم التضاد وإن كان طريقيا فهو
غير معقول لعدم معقولية التزاحم الحفظي فيه وهذا بخلاف العلم الإجمالي.
وهكذا ثبت انه
بحسب عالم الثبوت يمكن الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي وانه ليس علة ليس
لحرمة المخالفة القطعية واما وقوع ذلك بحسب عالم الإثبات فهذا
موكول إلى بحوث
الأصول العملية لأنه بحث عن مدى الإطلاق في أدلتها وقد ذكرنا في منهجتنا لهذا
البحث ان ذلك خارج عن بحوث القطع.
ولكنا نذكر المدعى
إجمالا في المقام وحاصله : المنع عن إطلاق أدلة الأصول لتمام أطراف العلم الإجمالي
لأنه ليس بعقلائي فانه بحسب إنظارهم يعتبر هذا مناقضا ومنافيا مع الحكم الواقعي
المعلوم بالإجمال رغم كونه ممكنا عقلا. وإن شئت قلت : ان الأغراض الإلزامية التي
يدركها العقلاء يتعاملون معها على أساس انه لا يوجد بينها غرض ترخيصي يكون بالغا
درجة بحيث يرفع اليد عنها لمجرد تردد بين أطراف محصورة ، وهذا باعتباره امرا
ارتكازيا يكون بمثابة القرينة اللبية المتصلة بالخطاب المانعة عن انعقاد إطلاق فيه
لتمام أطراف العلم الإجمالي. وسوف يأتي ما يترتب على هذا المسلك الإثباتي في المنع
عن جريان الأصول في تمام الأطراف من الثمرات والفوارق مع ما يترتب على المسلك
الثبوتي المشهور.
وجوب الموافقة القطعية :
والكلام فيه في
مرحلتين أيضا كما أشرنا ، فانه تارة في أصل تنجيز العلم الإجمالي له ، وأخرى في
كونه بنحو الاقتضاء أو العلية. اما أصل المنجزية فالمشهور ذلك كما انه بالنسبة إلى
البحث الثاني المشهور انه بنحو الاقتضاء لا العلية. وذهب المحقق العراقي ناسبا
لذلك إلى بعض عبائر الشيخ انه بنحو العلية. وأيا ما كان فبالنسبة لأصل المنجزية
توجد ثلاثة مسالك :
١ ـ ان العلم
الإجمالي بنفسه ومباشرة يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعية وهو ظاهر عبائر تقريرات
فوائد الأصول.
٢ ـ انه منجز لذلك
بعد تساقط الأصول فالعلم الإجمالي يوجب أولا تساقط الأصول ثم التساقط المذكور
يقتضي المنجزية ووجوب الموافقة وهو ظاهر عبائر أجود التقريرات.
٣ ـ انه بناء على
مسلكنا من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالاحتمال منجز فما ظنك بالعلم. واما
بناء على قبولها فالصحيح هو التفصيل بين بعض موارد العلم
الإجمالي فيحكم
فيه بمنجزيته مباشرة لوجوب الموافقة وبعض آخر يحكم فيه بعدم المنجزية أصلا.
وحيث انه وقع في
كلمات الباحثين بناء على هذه المسألة على ما هو المدعى والمتصور في حقيقة العلم
الإجمالي وانه إذا كان متعلقا بالجامع فلا يقتضي بنفسه وجوب الموافقة القطعية وإذا
كان متعلقا بالواقع فينجز وجوب الموافقة فلا بد من صرف الكلام أولا إلى توضيح
حقيقة العلم الإجمالي وما يتعلق به فنقول :
ان الاتجاهات في
شرح حقيقة العلم الإجمالي ثلاثة :
١ ـ أن يكون
متعلقا بالفرد المردد وهو ما يستفاد من كلام للمحقق الخراسانيّ ( قده ) في بحث
الواجب التخييري حيث حاول تصويره بأنه متعلق بالفرد المردد ودفع إشكال كيفية تعلق
صفة الوجوب بالفرد المردد بان الوجوب امر اعتباري لا بأس بتعلقه بالمردد كيف وصفة
العلم التي تكون حقيقية قد يتعلق بالفرد المردد كما في موارد العلم الإجمالي.
وقد استشكل عليه
المشهور بان هذا مستحيل لأن الفرد المردد مستحيل خارجا وذهنا وتوضيح هذا الإشكال
ان الحديث عن المعلوم بالذات وهو الصورة الذهنية المقومة للعلم وهي وجود ذهني
والوجود ذهنيا كان أو خارجيا يساوق التشخص والتعين فلا بد من تعين المعلوم بالذات
كوجود ذهني ، وإذا كان الوجود متعينا كانت ماهيته كذلك أيضا لأنها حد للوجود
فبترددها يتردد الوجود أيضا فلا يكون مشخصا وهو خلف ، فلا بد من تعين المعلوم
بالذات وجودا وماهية أي بالحمل الشائع والأولي معا.
وعلى أساس هذا
البرهان انصرف المشهور عن هذا المسلك.
٢ ـ أن يكون
متعلقا بالجامع فالعلم الإجمالي علم تفصيلي بالجامع وشك في الخصوصيات وهو ما ذهبت
إليه مدرسة المحقق النائيني وذهب إليه أيضا المحقق الأصفهاني ( قده ) وقد حاول
البرهنة عليه بان الأمر في متعلق العلم الإجمالي لا يخلو من أحد شقوق أربعة ، فاما
أن لا يكون متعلقا بشيء أصلا أو يكون متعلقا بالفرد بعنوانه التفصيليّ أو بالفرد
المردد أو بالجامع. والشقوق الثلاثة الأولى كلها باطلة لأن الأول
خلف كون العلم من
الصفات ذات الإضافة ، والثاني يوجب انقلاب العلم الإجمالي تفصيلا إذ لا يقصد به
إلا ذلك ، والثالث مستحيل بالبرهان المتقدم في رد مسلك صاحب الكفاية ، فيتعين
الرابع.
ومن هنا ذكر ان
العلم الإجمالي علم بالجامع وعلم بكونه غير خارج عن أحد الفردين أو الافراد وكأنه
يريد بذلك ان العلم بالجامع المقيد في ضمن إحدى الخصوصيّتين يمكن تحليله إلى علمين
كذلك.
٣ ـ ما ذهب إليه
المحقق العراقي ( قده ) من دعوى تعلق العلم الإجمالي بالواقع. وقد ذكر انه بلغني
ان بعض أهل الفضل من المعاصرين يدعي تعلقه بالجامع وانه لا تفاوت بينه وبين العلم
التفصيليّ من حيث العلم وانما الفرق بينهما في المعلوم وانه في التفصيليّ صورة
الفرد وفي الإجمالي صورة الجامع مع الشك في الخصوصية الفردية ، وهذا غير تام بل
الفرق بينهما من ناحية نفس العلم مع كون المعلوم فيهما معا الواقع أي الفرد المعين
وانما العلم الإجمالي علم مشوب بالإجمال كالمرآة غير الصافية بخلاف العلم
التفصيليّ والفرق بينهما نظير الفرق بين الإحساس الواضح والإحساس المشوب.
وقد جاء في كلام
المحقق العراقي ( قده ) بان العنوان القائم في أفق العلم أعني المعلوم بالذات
ينطبق على الواقع بتمامه ، وهذا كأنه إشارة إلى صورة برهان على هذا الاتجاه وإبطال
للاتجاه الثاني ، وتوضيحه : ان العلم لو كان متعلقا بالجامع فلا ينطبق إلا على
الحيثية الجامعة في الافراد التي هي جزء تحليلي من الفرد لأن الجامع انما ينتزع
بطرح الخصوصيات الفردية ومعه يستحيل أن ينطبق على الفرد بتمامه أي بما هو فرد مع
اننا نجد ان المعلوم الإجمالي كذلك ، ولا يجدي في إبطال هذا البرهان ما تقدم من
المحقق الأصفهاني ( قده ) من دعوى العلم بالجامع والعلم بكونه ضمن إحدى
الخصوصيّتين إذ لو أريد بذلك العلم بالجامع المقيد فننقل الكلام إلى خصوصية التقيد
وانه الفرد والواقع أو الجامع فإذا كان الواقع فليقل به من أول الأمر وإن كان
الجامع نقلنا الكلام فيه أيضا وانه كيف ينطبق على الواقع بتمامه مع انه جزء منه.
وإن أريد وجود علمين أحدهما علم بالجامع بنحو القضية الموجبة والاخر علم بقضية
سالبة هي عدم خروج الجامع عن الفردين فمن
الواضح ان العلم
الإجمالي فيه زيادة على هذين العلمين وهو العلم بوجود الجامع ضمن أحد الفردين لا
مجرد عدم وجوده في الافراد الأخرى ، فلا بد من فرض العلم بوجود الجامع ضمن أحد
الفردين فيقال هل انه متعلق بالجامع أو الواقع ونجري فيه البرهان المتقدم ، إلا ان
هذا انما يتم لو سلمنا الأصل الموضوعي له وهو ان كل عنوان جامع يستحيل أن ينطبق
على الفرد بخصوصيته إلا اننا ذكرنا في بحث الوضع العام والموضوع له الخاصّ ان هذا
ليس بصحيح على إطلاقه ، وإن هناك نوعا من الجوامع ينطبق على الفرد بخصوصه وهي
الجوامع العرضية بالنسبة لما هو فرده بالعرض لا بالذات كعنوان الفرد والخاصّ
والشخص فراجع. بل المحقق العراقي ( قده ) نفسه أيضا التزم بذلك وقد اعتبرها جوامع
اختراعية اصطناعية من قبل الذهن لا انها منتزعة من الخارج ومعه كيف يستدل في
المقام على تعلق العلم الإجمالي بالواقع بأنه ينطبق على الفرد بتمامه. اللهم إلا
ان يقصد من تعلقه بالواقع نفس هذا المعنى أي انه غير متعلق بالجامع الذاتي المنتزع
من الخارج بل بجامع عرضي أو اختراعي هذا حاصل الكلام في توضيح هذا الاتجاه.
وقد اعترض عليه من
قبل مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان العلم الإجمالي لو كان متعلقا بالواقع فما
ذا يقال في الموارد التي لا تعين فيها للواقع ثبوتا كما لو علم بنجاسة أحد إناءين
بالنجاسة البولية مثلا وكانا واقعا معا نجسين بالبول فان نسبة النجاسة المعلومة
بالإجمال هنا إلى كل منهما على حد واحد فتطبيقه على كل منهما بعينه جزاف محض ،
وتطبيقه عليهما معا خلف كون المعلوم نجاسة واحدة لا نجاستين فلا محيص عن الالتزام
بتعلقه بالجامع الّذي هو امر واحد.
وهذا البرهان لا
ربط له بالاتجاه المذكور أصلا إذ ليس مدعى صاحب هذا الاتجاه تعلق العلم بالواقع
الخارجي مباشرة لوضوح ان الواقع ليس هو المعلوم بالذات في العلم التفصيليّ فضلا عن
الإجمالي وإلا كان العلم مصيبا دائما ، وانما الكلام في المعلوم بالذات الّذي يفرغ
في الاتجاهات الثلاثة عن كونه صورة ذهنية في أفق النّفس والخارج معلوم بالعرض له.
وحينئذ يرجع مدعى صاحب الاتجاه الثالث إلى ان هذه الصورة الذهنية هي صورة الفرد لا
الجامع أي صورة متطابقة مع الفرد الخارجي على
تقدير وجوده
وبإزائه بما هو فرد لا صورة تتطابق مع الجامع وبإزاء الحيثية الخارجية المشتركة
على تقدير وجودها ، إلا ان هذه الصورة الذهنية للفرد حيث انها إجمالية أي انكشافها
مشوب بالإجمال وليس واضحا فيمكن أن يجعل بإزاء كل من الفردين في مورد عدم تعين
المعلوم بالعرض واقعا كما ان الجامع المعلوم بالذات يمكن أن يجعل بإزاء الحيثية
المشتركة في كل من الفردين أي بإزاء كل من الحيثيتين الخارجيتين التي تكون إحداهما
معلومة بالعرض لا كليهما بحسب الفرض. وإن شئت قلت : انه كما يوجد فردان في الخارج
كذلك يوجد جامعان فان نسبة الكلي إلى افراده في الخارج نسبة الآباء إلى الأب
الواحد وكما يقال ان أي الفردين معلوم كذلك يمكن ان يقال ان أي الجامعين الخارجيين
معلوم وبإزاء الصورة الذهنية.
والمحقق الأصفهاني
( قده ) كأنه يظهر من مجموع كلماته البرهنة على إبطال هذا الاتجاه بما حاصله : ان
الصورة الذهنية للفرد هل يكون حدها الشخصي داخلا فيها أولا؟ والأول معناه العلم
بالحد الشخصي أيضا وهو خلاف الوجدان وإلا كان علما تفصيليا. والثاني لا فرق بينه
وبين الجامع إذ لا نريد به إلا الصورة المعراة عن الحدود الشخصية.
والجواب : ان
الفرق بحسب مدعى أصحاب هذا الاتجاه من ناحية نفس العلم لا المعلوم وعليه فالمعلوم
صورة الفرد بحده الشخصي إلا انه مع ذلك ليس كالعلم التفصيليّ لأن العلم والانكشاف
مجمل مخلوط فيه بحيث لا تتميز فيه الخصوصيات ولا تحكى بالجانب التوضيحي من العلم
والانكشاف.
والتحقيق أن يقال
: انه بالإمكان الجمع بين هذه الاتجاهات الثلاثة ودفع الإشكالات عنها جميعا في
نظرية واضحة محددة صحيحة لتفسير حقيقة العلم الإجمالي يكون كل واحد من هذه
الاتجاهات الثلاثة قد لاحظت جانبا منها وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مقدمة حاصلها :
ان ما قرأناه في المنطق من انقسام المفاهيم إلى كلية وجزئية لا ينبغي أن يراد ما
هو ظاهره من ان المفهوم الجزئي يمتاز على الكلي في أخذ الخصوصية الزائدة على
الجامع مع الجامع ، بل من هذه الناحية لا يكون المفهوم إلا كليا لأن أي قيد
وخصوصية لو لاحظناها فهي خصوصية كلية في نفسها قابلة للصدق
على كثيرين وان
فرض انحصار مصداقها خارجا ، فبإضافته إلى الجامع يستحيل أن نحصل على مفهوم لا يصدق
على كثيرين فان إضافة الكلي إلى الكلي لا يصيره جزئيا حقيقيا بل إضافيا ، وانما
الجزئية انما تكون بالإشارة بالمفهوم إلى واقع الحصة والوجود الخارجي المتشخص به
ذلك المفهوم حيث ان التشخص الحقيقي يكون بالوجود لا بالماهيات مهما جمعناها بنحو
التركيب والتلفيق ، والوجود لا لون له ولا مفهوم ذاتي وانما يكون إدراكه بطريق
الإشارة والإشارة نحو استخدام للمفهوم من قبل الذهن كالإصبع الخارجية عند ما نشير
بها إلى شيء وهي غير الفنائية وملاحظة المفهوم فانيا في مصاديقه الخارجية فان ذلك
لا يقتضي التشخص ولا ينافي الصدق على كثيرين انما الّذي يقتضيه هو الإشارة فحسب.
فإذا اتضحت هذه
المقدمة اتضح حقيقة الحال في متعلق العلم فان العلم الإجمالي متعلق بمفهوم كلي إلا
ان هذا المفهوم الّذي تعلق به ملحوظ بنحو الإشارة إلى الخارج ، وبهذا يختلف عن
الجامع الّذي يتعلق به الوجوب في مرحلة الجعل مثلا لأنه غير ملحوظ كذلك وإن كان ملحوظا
بما هو فان في الخارج ، ومن هنا صح الاتجاه الثاني المشهور من افتراض تعلق العلم
بالجامع لأن هذا الاتجاه لاحظ المفهوم المتعلق به العلم وهو كلي لأن المفهوم بقطع
النّظر عن كيفية استخدامه كلي دائما ، والإشكال عليه بان العلم يكون بأكثر من
الجامع جوابه انه علم بالجامع بنحو الإشارة إلى الخارج وبهذا النّظر يكون جزئيا
بلا حاجة إلى ضم خصوصية بل لا فائدة في ضمها ما لم تكن إشارة كما صح الاتجاه
الثالث القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد لا الجامع لأن المفهوم الكلي مستخدم
بنحو الإشارة إلى الخارج وقد قلنا ان حقيقة الجزئية والفردية هو ذلك أيضا ،
والإشكال عليه بان حد الفرد إن كان داخلا في الصورة العلمية فالعلم تفصيلي لا
إجمالي وإلا فالعلم بالجامع ، جوابه ان الجزئية ليست بدخول الحد في الصورة العلمية
بل بالإشارة وبما ان الإشارة في المقام ليست إلى معين اختلف عن العلم التفصيليّ.
كما صح الاتجاه
الأول القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد المردد لأن الإشارة في موارد العلم
الإجمالي لا يتعين المشار إليه فيها من ناحية الإشارة نفسها لأنها إشارة إلى واقع
الوجود وهو مردد بين الوجودين الخارجيين لا محالة ، فالتردد في الإشارة بمعنى ان
كلا
منهما صالح لأن
يكون هو المشار إليه فالمشار إليه مردد وليس هذا بابه باب وجود الفرد المردد ذهنا
أو خارجا ليقال بأنه مستحيل. وبهذا نصل إلى نظرية واضحة محددة عن العلم الإجمالي
نجمع فيها بين الاتجاهات الثلاثة وندفع بها جميع المناقشات المثارة ضدها. والواقع
ان كل واحد من الاتجاهات الثلاثة قد أخذ بطرف ولاحظ زاوية معينة في مقام تشخيص
حقيقة العلم الإجمالي على ضوء التحليل الّذي ذكرناه.
وبعد أن اتضحت
حقيقة العلم الإجمالي وكيفية تعلقه بالمعلوم نعود إلى أصل البحث عن منجزية العلم
الإجمالي لوجوب الموافقة وقد ذكرنا ان هناك ثلاثة مسالك في المنجزية نبدأ فيما يلي
بعرض المسلك الأخير والمختار فنقول : اما بناء على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا
بيان فلا إشكال في منجزية الاحتمال فضلا على العلم ، وانما البحث مبني على قبول
قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى هذا التقرير الصحيح هو التفصيل بين بعض موارد
العلم الإجمالي وبعض والصيغة الأولية الساذجة التي نطرحها لبيان هذا التفصيل
التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية.
ففي الأول لا يكون
العلم الإجمالي منجزا وفي الثاني يكون منجزا بنفسه للموافقة القطعية.
وتوضيح ذلك : انه
لا إشكال كبرويا في وجوب الموافقة القطعية في موارد الشك في تفريغ الذّمّة عن
تكليف ثبت تنجزه واشتغال الذّمّة به ، والبحث في المقام بحسب الحقيقة بحث صغروي
بلحاظ المقدار المنجز من التكليف المعلوم بالإجمال ليرى انه بما إذا يحصل الفراغ
اليقيني عنه ، والمفروض بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ان المقدار المنجز من
التكليف هو المقدار المبين منه واما المقدار غير المبين منه فهو باق تحت تأمين
القاعدة. وعلى أساس هذا المنهج نقول في المقام ان لنا دعويين إحداهما عدم وجوب
الموافقة القطعية في الشبهات الحكمية من موارد العلم الإجمالي ، والأخرى وجوبها في
الشبهات الموضوعية منها.
اما الدعوى الأولى
، فتتضح صحتها من خلال بيان مقدمتين :
أولاهما ـ ان
العلم الإجمالي ينجز المقدار الّذي تم عليه العلم لأن هذا هو الّذي يخرجه عن
اللابيان إلى البيان وبالتالي عن التأمين إلى التنجيز ، ومن الواضح ان العلم
الإجمالي لا يجعلنا
عالمين بأكثر من الجامع على جميع المباني والاتجاهات المتقدمة في شرح العلم
الإجمالي حتى المبنى الأول والثالث منها ، لأن الإشارية في العلم الإجمالي غير
متعينة من قبل نفس الإشارة ـ كما شرحنا ـ فلا توصلنا إلى أكثر من الجامع ، بل
الأمر كذلك حتى لو جمدنا على حرفية كلام المحقق العراقي ( قده ) وافترضنا تعلق
العلم الإجمالي بالواقع ولكن بمعنى ان الصورة العلمية يختلط فيها جانب الوضوح مع
الخفاء فان الحد الواقعي على هذا التقدير وان كان داخلا في الصورة العلمية ولكنه
في الطرف المجمل منها لا المبين فلا يكون بلحاظه قد تم البيان. نعم بناء على
التفسير المغلوط الّذي افترضته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) لكلامه من تعلق
العلم بالواقع الخارجي يتجه القول بالمنجزية ولكنك قد عرفت انه ليس بصحيح ولا هو
مراد للمحقق العراقي ( قده ).
ثانيتهما ـ ان
الجامع الّذي اشتغلت به الذّمّة عقلا وتنجز تحصل موافقته القطعية بالإتيان بالجامع
وهو يتحقق بإتيان أحد الفردين أو الافراد ، لأن الجامع يوجد بوجود فرده فتكون
موافقة قطعية للمقدار المنجز المعلوم ، وبعبارة أخرى ان المقدار المعلوم هو إضافة
الوجوب إلى الجامع بين الظهر والجمعة لا الظهر بحدها ولا الجمعة بحدها فتكون
إضافته إلى كل من الحدين تحت تأمين القاعدة واما إضافته إلى الجامع بينهما فتحصل
موافقته القطعية بالإتيان إحداهما. فالحاصل : الجامع بين الوجوبين ليس له إلا
الجامع بين الاقتضاءين لا مجموعهما.
وعلى ضوء هاتين
المقدمتين يثبت ان العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية في الشبهة
الحكمية.
واما الدعوى
الثانية وهي المنجزية في الشبهة الموضوعية فمن باب ان الشغل اليقيني تستدعي الفراغ
اليقيني ، فإذا علم بوجوب إكرام العالم وتردد بين زيد وعمرو فقد علم بوجوب إكرام
ذات وان يكون عالما وكلاهما قد اشتغلت الذّمّة بهما يقينا لأنهما معا معلومان فلا
بد من الفراغ اليقيني ولا يكون إلا بالاحتياط ، وهذا بخلاف موارد الشبهة الحكمية
فان المقدار المعلوم فيه ليس بأكثر من أحدهما الّذي يتحقق بإتيان أي واحد منهما.
فالحاصل : المقدار
المعلوم والمبين في الشبهة الحكمية يعلم بانطباقه على كل منهما قهرا وهذا بخلاف
المقدار المعلوم في الشبهة الموضوعية وهو إكرام العالم فانه لا يعلم بانطباقه على
أحد الطرفين لو اقتصر عليه ، فلو كنا نقتصر على صناعة قاعدة قبح العقاب بلا بيان
من دون تجاوز أو تقليص لها كان لا بد من التفصيل المذكور .
وبالتعميق
والتدقيق يظهر ان فذلكة هذا التفصيل ليست قائمة بالشبهة الحكمية والموضوعية على
الإطلاق بل قائمة في أن يكون العلم الإجمالي ناشئا من التردد في قيد قد علم تقيد
الواجب به وأخذه تحت الأمر ، فانه حينئذ يكون ذلك التقيد داخلا في العهدة وتكون
الذّمّة مشتغلة به يقينا فلا بد من الخروج عنه كذلك ، وهذا يكون في الشبهة
الموضوعية كثيرا ولا يكون في الشبهة الحكمية ، إلا ان الشبهة الموضوعية أيضا قد
تكون كالشبهة الحكمية لا يكون التردد فيها إلا في أصل الوجوب لا قيد الواجب ، كما
إذا كان الموضوع المشتبه شرطا للتكليف أو للمكلف لا للمكلف به كما إذا ثبت وجوب
الصلاة ركعتين عند قدوم الحاج ووجوب التصدق بدرهم عند قدوم الزوار وعلم إجمالا
بقدوم أحدهما فانه يعلم حينئذ بوجوب الصلاة أو الصدقة وهو كالعلم بوجوب الظهر أو
الجمعة المقدار المعلوم منه وهو أحدهما يعلم بانطباقه قهرا على أحدهما فلا يستدعي
الشغل اليقيني به أكثر من تحقيق أحدهما.
ودعوى : إمكان
تصوير عنوان معلوم لا يحرز انطباقه في الشبهات الحكمية أيضا من قبيل عنوان ما دلت
عليه رواية زرارة أو الصلاة التي أمر بها الرسول 6.
مدفوعة : بان مثل
هذه العناوين انتزاعية ليست متعلق الأمر لكي يكون الاشتغال بها.
هذا كله في توضيح
المسلك الثالث.
واما المسلك
الثاني وهو ما جاء في تقرير أجود التقريرات من ان العلم الإجمالي انما يؤثر في
التنجيز ووجوب الموافقة بتوسط تساقط الأصول بالمباشرة فينحل إلى دعويين أيضا.
__________________
إحداهما ـ عدم
تأثير العلم الإجمالي مباشرة في ذلك ، وقد استدل عليها بما يشبه ما تقدم منا من ان
العلم الإجمالي انما تعلق بالجامع فالاشتغال اليقيني بمقداره لا أكثر.
والثانية ـ المنجزية
بعد تساقط الأصول وقد استدل عليها بان العلم الإجمالي باعتباره علة تامة لحرمة
المخالفة فلا يمكن الترخيص في تمام الأطراف وشمول دليله للبعض دون البعض ترجيح بلا
مرجح فتتساقط الأصول بالمعارضة وبعده يكون كل طرف شبهة من دون أصل مؤمن وهو كاف في
التنجيز. وهذا وإن كان منجزية الاحتمال إلا ان سقوط المؤمن انما كان ببركة العلم
الإجمالي ومن هنا صح أن
__________________
يقال بان العلم
الإجمالي منجز لوجوب الموافقة.
ولنا على الدعوى
الأولى : ـ
أولا
ـ ان إثباتها لا
يتوقف على اختيار المبنى المختار من قبل مدرسة الميرزا ( قده ) في حقيقة العلم
الإجمالي بل هو صحيح في الجملة على تمام المباني في حقيقته كما تقدم بيانه.
وثانيا ـ انها على إطلاقها غير صحيح وانما تصح في الشبهات الحكمية
وبعض الشبهات الموضوعية فالصحيح فيها بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان
التفصيل المتقدم.
ولنا على الدعوى
الثانية ـ انه ان قصد من تساقط الأصول المؤمنة جميع الأصول حتى العقلية ، ففيه :
ان التعارض والتساقط في البراءة العقلية غير معقول لأنها حكم عقلي ولا يعقل فرض
التعارض فيه ، لأن التعارض انما يكون بحسب عالم الإثبات لا الثبوت وأحكام العقل
أحكام ثبوتية تابعة لملاكاتها الواضحة لدى العقل الحاكم بها دائما ، وحينئذ لا بد
من ملاحظة الملاك وقد تقدم ان الخصوصيّتين بما هما خصوصيتان لا يتم عليه البيان
فلا بأس في المخالفة ولا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية لأن التأمين في
الخصوصية لا يلزم منه التأمين في الجامع المعلوم ـ ولو الجامع الانتزاعي وهو عنوان
إحدى الخصوصيّتين ـ ومثل هذا التحليل لا يمكن إجراءه في الأصول الشرعية لأنه ليس
بعرفي فان تحليل الوجوب الواحد إلى وجوب الذات ووجوب الخصوصية غير عرفي.
وإن قصد تساقط
البراءة الشرعية فقط فسقوطها غير مضر بعد فرض جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان
بلحاظ الخصوصية.
وإن قصد عدم
المقتضي لجريان القاعدة لكفاية هذا المقدار من البيان فهذا رفع لليد عن تطبيق
حرفية القاعدة كما أشرنا وقد كان الصحيح أن يرفع اليد عنها في تمام الموارد.
واما المسلك الأول
الّذي لعله المشهور وهو المتطابق مع ظاهر التقرير الاخر للمحقق النائيني ( قده )
فهو دعوى اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة ومن المتطرفين
في هذا المسلك
المحقق العراقي ( قده ) حيث ادعى ان اقتضائه لذلك يكون بنحو العلية ، وسوف يأتي
التعرض مفصلا لهذه الناحية.
ولا يتحصل من
تقريرات المحقق النائيني وجه فني في إثبات هذا المسلك وانما يمكننا أن نستخلص من
كلمات المحقق العراقي على ما في بعضها من التشويش بيانين لتقريب المنجزية :
البيان
الأول ـ مركب من عدة أمور لو تمت ثبت ما هو المطلوب وهي :
١ ـ ان التنجز لا
يقاس بالعلم فان الأخير انما يتعلق ويعرض على صورة في الذهن ويستحيل أن يتعلق
بالواقع الخارجي واما التنجز فهو صفة للحكم الشرعي وهو امر واقعي ثابت في لوح
التشريع.
٢ ـ ان الواقع
الخارجي الموضوعي للحكم انما يتنجز بشرط العلم به ولكن لا بمعنى تعلق العلم به
وعلى واقعه فان هذا غير معقول لما تقدم من ان العلم لا يتعلق بالواقع الخارجي بل
بمعنى تعلق العلم بالصورة المنطبقة عليه والحاكية عنه.
٣ ـ ان الصورة
العلمية المنطبقة على الواقع الخارجي كما تكون تفصيلية كذلك قد تكون إجمالية وهذان
الحدان التفصيليّ والإجمالي بحسب الحقيقة حدان للصورة الحاكية لا للواقع المحكي
بها الّذي لا يكون إلا تفصيليا.
وعلى ضوء تمامية
هذه الأمور نستنتج ان العلم الإجمالي يكون منجزا لواقع التكليف المعلوم بالإجمال
لا للمقدار الجامع ، لأن العلم وإن تعلق بجامع انتزاعي إلا ان الاشتغال والتنجز
بواقع الحكم المعلوم على واقعيته بعد العلم بصورته المنطبقة عليه ، وهذا لا يحرز
الفراغ عنه إلا بالاحتياط.
ولنا على هذا
البيان ملاحظتان :
أولاهما ـ وهي
ترتبط بالأمر الأول ـ ان التنجز من شئون الوجود العلمي للحكم لا الخارجي إذ المراد
به حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وتمام موضوع ذلك هو الوجود العلمي
للحكم ولو لم يكن حكم في واقع نفس المولى ، ولهذا قلنا بقبح التجري واستحقاق فاعله
للعقاب على حد العاصي وبنفس الملاك ، وعليه فإذا لم يكن العلم ساريا إلى الواقع
فكذلك التنجز لا يسري إليه بل يضع قدمه حيث يضع
العلم قدمه. فلا
يثبت التنجيز بأكثر من الجامع.
ثانيتهما ـ ان
المفروض اشتراط تنجز الحكم بوجوده الواقعي بشرط العلم به لكي يكون مبينا ومن
الواضح ان الحد الشخصي للحكم الواقعي غير مبين في موارد العلم الإجمالي فلا معنى
لأن يكون منجزا لأكثر من الجامع.
البيان الثاني ـ ان
العلم وإن تعلق بالجامع الا انه قد تعلق بجامع قد فرغ عن انطباقه وتخصصه بخصوصية
لا بجامع بحده الجامعي كما في موارد الوجوب التخييري.
وفيه : انه إن
أريد ان الجامع في مرحلة تعلق العلم به مفروغ عن تخصصه فهذا ليس بصحيح إذ في هذه
المرحلة لا يعلم بالخصوصية ، وإن أريد العلم بجامع الخصوصية فهذا أيضا جامع لا
يوجب الاشتغال به إلا التنجز بمقداره المنطبق قهرا على كل من الطرفين. والحاصل هذا
خلط بين الخصوصية بالحمل الأولي والخصوصية بالحمل الشائع فما هو معلوم جامع
الخصوصية أي الخصوصية بالحمل الأولي لا الخصوصية بالحمل الشائع وما يراد تنجيزه في
وجوب الموافقة واقع الخصوصية وبالحمل الشائع.
هذا تمام الكلام
في إثبات أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة.
واما كونه بنحو
الاقتضاء بحيث يمكن ورود ترخيص شرعي في بعض أطرافه أو بنحو العلية فيستحيل الترخيص
في شيء من أطرافه فهذا انما ينفتح مجال له بناء على القول بالعلية بلحاظ حرمة
المخالفة واما نحن الذين أنكرنا العلية هناك فما ظنك في المقام ، فان حكم العقل
بلزوم الإطاعة لو كان معلقا على ما عرفت لم يفرق في ذلك بين حرمة المخالفة أو وجوب
الموافقة ، كما انه بناء على المسلك الثاني في هذا البحث القائل بعدم اقتضاء العلم
الإجمالي للمنجزية مباشرة بل بتوسط تساقط الأصول أيضا لا مجال لهذا البحث لأن
التأثير في التنجيز انما هو للاحتمال من دون مؤمن لا العلم ومع جريان الأصل المؤمن
بلا معارض في طرف يرتفع هذا التنجز فهذا النحو من التنجز المتفرع على تعارض الأصول
وتساقطها في الأطراف يستحيل أن يكون مانعا عن جريان الأصل في بعض الأطراف كما هو
واضح. فالبحث عن العلية والاقتضاء انما يتجه بناء على المسلك الأول المشهور
والمسلك الثالث المختار القائل بالتأثير في الجملة بعد
الفراغ عن علية
العلم الإجمالي لحرمة المخالفة.
وقد اختار المحقق
العراقي ( قده ) القول بالعلية كما ان المعروف نسبة القول بالاقتضاء إلى المحقق
النائيني ( قده ) ولكنك قد عرفت ان ما يستفاد من أجود التقريرات هو المسلك الثاني
الّذي ينكر أصل الاقتضاء ، واما التقرير الاخر لبحوثه المطابق مع المشهور فبعض
عبائره ظاهرة في دعوى الاقتضاء وبعضها ظاهرة في دعوى العلية وكأن عدم وضوح هذه
الأفكار في كلمات المحققين عموما أوجب مثل هذا التشويش في العبائر حتى ان كلا من
الطرفين قد نسب مرامه إلى اختيار الشيخ ( قده ) في الرسائل مستفيدا ذلك من بعض
عبائره ، هذا مجمل القول والمواقف في المسألة.
وأيا ما كان فهناك
اتجاهان أحدهما ـ القول بالعلية ، والاخر ـ القول بالاقتضاء.
وقد حاول أصحاب كل
منهما إثبات مدعاهم حلا تارة ، ونقضا أخرى.
اما الموقف الحلي
في الاتجاهين. فقد ذكر الميرزا ( قده ) الّذي نفترضه ممثلا لاتجاه الاقتضاء على ما
يستفاد من تقريرات فوائد الأصول.
ان العلم الإجمالي
انما كان علة لحرمة المخالفة القطعية لكونها عصيانا قبيحا فلا يمكن الترخيص فيها
واما الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا يكون ترخيصا في مخالفة قطعية بل
احتمالية كما في الشبهات البدوية فيعقل وروده.
وهذا الكلام
بظاهره ليس له محصل إذ لا معنى لتعليل كون العلم الإجمالي علة لحرمة المخالفة
ومقتضيا لوجوب الموافقة بان الترخيص هناك في معصية وهنا ليس فيها إذ المقصود
بالمعصية ينبغي أن يكون حكم العقل بكون المخالفة منافية لحق طاعة المولى وحكم العقل
بأنها منافية أولا فرع بحث العلية والاقتضاء فلا معنى للبرهنة على العلية وعدمها
بذلك.
نعم يمكن حمل هذا
الكلام على انه مجرد منبه وجداني إلى إمكان الترخيص في مخالفة أحد الأطراف.
واما الموقف الحلي
للمحقق العراقي ( قده ) فهو انا لا نحتاج إلى مزيد برهان إضافة على ما تقدم في
إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب موافقة معلومه لإثبات العلية لأنا
متفقون على ان
العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به وانما الاختلاف في انه قد تعلق بالجامع حتى يجوز
الترخيص في بعض الأطراف أو بالواقع حتى لا يجوز ذلك ولهذا من قال بتعلقه بالجامع أيضا
يقبل العلية في منجزيته للجامع فلم يجوز الترخيص في مخالفته بالترخيص في تمام
الأطراف.
وهذا الكلام أيضا
بظاهره لا يكون برهانا لأن القول بمنجزية الواقع أيضا يستبطن منجزية الجامع ضمنه
فحينئذٍ يمكن أن يقال بان هذه المنجزية بلحاظ الجامع على نحو العلية وبلحاظ الخصوصية
الواقعية اقتضائي.
واما الموقف
النقضي للاتجاهين فلكل من العلمين نقض على الآخر فالمحقق النائيني ( قده ) ذكر بأن
حال العلم الإجمالي لا يكون بأشد وأفضل من التفصيليّ مع أنه لا إشكال في إمكان
إجراء الأصل فيه في موارد الشك في امتثاله كما في القواعد الظاهرية كالفراغ
والتجاوز.
وقد حاول المحقق
العراقي ( قده ) الدفاع عن مسلكه والإجابة على هذا النقض بأنه خلط بين الأصل في
مرحلة امتثال التكليف والأصل في مرحلة ثبوت التكليف ، فان قاعدة الفراغ تعبدنا بان
العمل المأتي به امتثال ومواقفة للأمر وبذلك نكون قد أحرزنا الموافقة القطعية
للتكليف المعلوم تعبدا وهو كالإحراز الوجداني لها وأين هذا من جريان أصل نافي
للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي ، نعم هذا يتم لو قامت أمارة على أحد الطرفين
حيث انها تدل بالالتزام على ان الواقع في الطرف الاخر. وفي فوائد الأصول تقريرا
لمطالب المحقق النائيني ( قده ) تعرض لهذا المطلب فذكر تارة ان العلم الإجمالي لا
ينجز أكثر من الجامع فيجوز الترخيص في بعض الأطراف وهذا يطابق المسلك الثاني
المستفاد من أجود التقريرات ، وذكر مرة أخرى بعد ذلك وكأنه يقرر للمحقق العراقي لا
النائيني ( قده ) فيقول وإن شئت قلت : ان العلم الإجمالي باعتباره ينجز التكليف
فلا بد من موافقته القطعية اما وجدانا أو تعبدا وجريان الأصل حتى النافي في أحد
الطرفين يدل بالالتزام على جعل الطرف الاخر بدلا عن الواقع
المعلوم بالإجمال.
وهذا الكلام انما هو جري على مسلك العلية في تنجيز العلم الإجمالي كما هو واضح.
والتحقيق : اننا
إذا مشينا حسب الإطار الفكرية المتبناة من قبل العلمين وحسب تصوراتهم في المقام
فالصحيح ما وقفه المحقق العراقي ( قده ) من النقض المذكور فان ما أجاب به عليه يفي
في مقابل مثل الميرزا ( قده ) الّذي يفرق بين الألسنة كما أفاد ذلك في قاعدة قبح
العقاب بلا بيان فيما سبق ، حيث جعل لسان جعل لطريقية والعلية حاكما عليها ورافعا
لموضوعها دون غيره من السنة الحكم الظاهري. واما ما أفيد من قبل الميرزا ( قده )
من ان جريان الأصل في أحد طرفي العلم يدل بالالتزام على جعل الطرف الاخر بدلا عن
الواقع تعبدا فقد أشكل عليه المحقق العراقي ( قده ) بأنه إن أراد استفادة جعل
البدل من نفس الأصل كما في الأمارة فهو من الأصل المثبت ، وإن أراد استفادته من
دليل الأصل الّذي هو دليل اجتهادي لا عملي من باب استحالة جعل الأصل في طرف من دون
جعل بدل الواقع في الطرف الاخر فمثل هذه الدلالة ممنوعة لأن الشرط لمعقولية جعل
الأصل هو وصول جعل البدل لكي تكون الموافقة التعبدية حاصلة ولا يكفي جعله الواقعي
من دون وصوله ، ومن الواضح انا لا نعلم بجعل الطرف الاخر بدلا بالوجدان اذن فشرط
صحة جعل الأصل النافي مما يقطع بعدمه فيقطع بعدم صحة جعل الأصل النافي لا محالة.
ولا يقال : ان الوصول يتحقق بنفس دليل الأصل.
لأن المفروض تقوم
الدلالة الالتزامية في المرتبة السابقة بالوصول فلا مدلول التزامي من دون وصول لا
ان المدلول ثابت ولا وصول له لكي يقال بأنه يصل بنفس دليل الأصل كما في موارد
الأمارة ومدلولها الالتزامي.
هذا ولكن حينما لا
تربط المسألة بالصياغة وعالم الألفاظ والاعتبارات فالصحيح ما عليه المحقق النائيني
( قده ) حينئذٍ في موقفه النقضي ما عليه المحقق العراقي ( قده ) وذلك لأننا أوضحنا
فيما سبق بان كل القواعد والأحكام الظاهرية مهما كان لسانها بحسب عالم الإثبات
ترجع إلى إيقاع التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية سواء
كانت القاعدة الظاهرية في مرحلة ثبوت الحكم أو مرحلة امتثاله وما عدا ذلك فصياغات
واعتبارات وألفاظ والحكم العقلي بالتنجيز والتعذير الراجع إلى تشخيص حدود حق
الطاعة للمولى يكون تابعا لهذه الحقيقة والمدلول الواقعي لا للصياغة ، وقد تقدم ان
هذا الحكم العقلي معلق دائما على عدم إعمال المولى
نظره ومولويته في
مقام حفظ ملاكاته المتزاحمة ، ولهذا لا يشك فقيه انه لو كانت قاعدة الفراغ بلسان
اخر كلسان عدم لزوم الاحتياط إذا شك في صحة عمل فرغ عنه أيضا كانت حجة ومعمولا بها
، فهذه النقطة أيضا من الموارد التي دار فيها الأصوليون في عالم الصياغة
والمصطلحات.
واما الموقف
النقضي للمحقق العراقي ( قده ) فقد تمثل في نقضين. أحدهما ـ ما ذكره بنفسه في
مقالاته الأصولية وحاصله : ان العلم الإجمالي لو لم يكن علة تامة لوجوب الموافقة
القطعية بحيث لا يمنع عن جريان الأصل المرخص في المخالفة الاحتمالية بل الأصل
المرخص شرعا مانع عنه وهذا المانع موجود دائما وذلك بالرجوع إلى أدلة الأصول
المؤمنة القطعية ، لا في أحدهما المعين ليكون ترجيحا بلا مرجح ، ولا في الفرد
المردد ليقال بأنه مستحيل ، بل في كل من الطرفين ولكن مشروطا بترك الاخر ، وهذا
يرجع بحسب الحقيقة إلى تقييد الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل بلحاظ كل من الفردين مع
التحفظ على عمومه الأفرادي لكل منهما ، فان محذور الترخيص في المخالفة القطعية
يرتفع بهذا المقدار فلا موجب لرفع اليد عن عمومه الأفرادي ، فينتج براءتين شرعيتين
في الطرفين مشروطتين كل منهما بترك الاخر وهو من الجمع بين الترخيص لا الترخيص في
الجمع بين الطرفين ، بل يستحيل أن يؤدي إلى الترخص في الجمع كما في باب الترتب بين
الأمرين الّذي يكون من الجمع بين الطلبين لا طلب الجمع بين الضدين.
وقد شاع هذا النقض
واستحكم حتى ان صاحب تقرير فوائد الأصول أفاد في المقام كلاما طويلا في مقام
التخلص عنه لا يرجع إلى محصل. والواقع ان هذا النقض شبهة قوية في ضوء الإطار
الذهني العام للفكر الأصولي. وباعتباره مرتبطا بحسب الحقيقة بجريان الأصل وإطلاق
دليله بنحو ينتج التخيير في جريانه بحسب النتيجة فنؤجل البحث عنه إلى مباحث الأصول
العملية.
والنقض الاخر ما
جاء في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) من النقض بموارد العلم التفصيليّ والشك في
الامتثال إذ لو كانت المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم مما يمكن للشارع الترخيص
في خلافه فلما ذا لا يتمسك بدليل أصل البراءة في موارد الشك في
الامتثال التي يشك
فيها في التكليف بقاء إذ أي فرق بين أن يكون الشك في التكليف في مرحلة حدوثه أو
بقائه ، مع انه لا إشكال عند أحد في عدم إجرائه فيه.
ولا يكفي لدفع هذا
النقض دعوى محكومية البراءة في موارد الشك في الامتثال دائما لاستصحاب عدم الإتيان
أو استصحاب بقاء الحكم ، لوضوح ان المنع عن البراءة فيها لعدم المقتضي لا لوجود
الحاكم ولهذا لا خلاف في عدم جريانها حتى عند من يخالف في حجية الاستصحاب.
والجواب على هذا
النقض اما بناء على ما هو الصحيح من ان التكليف لا تسقط فعليته بالعصيان والامتثال
وانما تسقط فاعليته فالامر واضح فانه لا شك في فعلية التكليف وثبوته لكي يكون مجرى
لأدلة الرفع والإباحة . واما بناء على المسلك المشهور من سقوط فعلية التكليف
بالامتثال والعصيان فلدعوى انصراف أدلة البراءة ورفع ما لا يعلمون إلى موارد الشك
في أصل ثبوت الحكم لا الشك في امتثاله وإن شئت قلت : ان ثبوت الحكم في الآن الأول
معلوم وهو يستدعي الفراغ اليقيني عنه ولو فرض انه بلحاظ الآن الثاني يكون بقاء
الحكم مشكوكا فتطبيق قاعدة البراءة الشرعية على الحصة البقائية للحكم لا يكون
مؤمنا من ناحية اشتغال الذّمّة بلحاظ الحصة الحدوثية منه المعلومة.
وهكذا يتضح ان
الصحيح ما عليه الميرزا ( قده ) من عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة
القطعية وتظهر الثمرة بين المسلكين فيما إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي مجرى
للأصل المؤمن ولم يكن في الطرف الاخر دليل أو أصل شرعي منجز للتكليف ، فانه بناء
على العلية لا يجري الأصل المؤمن في الطرف الواحد وبناء على الاقتضاء يجري الأصل
فيه من دون محذور.
__________________
الامتثال
الإجمالي
الجهة
الثامنة : في الامتثال
الإجمالي ، لا إشكال في صحة الامتثال الإجمالي واجزائه إذا كان الواجب توصلياً كما
انه لا ينبغي الإشكال في اجزائه في التعبدي مع تعذر الامتثال التفصيليّ ، وانما
الكلام في اجزائه فيه مع إمكان الامتثال التفصيليّ ، والوجوه التي ذكرت للمنع عنه
تنطلق من أحد مآخذ ثلاثة :
١ ـ أن يدعى توقف
تحقيق شرط مفروغ عنه في العبادات على الامتثال التفصيليّ بحيث من دونه مع إمكانه
لا يتحقق ذلك الشرط فيبطل العمل من جهته.
٢ ـ أن يدعى تقيد
الواجبات التعبدية بعنوان التفصيلية في الامتثال والتمييز فيه مع التمكن ، وهذا
بحث فقهي بحسب الحقيقة عن اعتبار قيد جديد في العبادات زائدا على شرائطها العامة.
٣ ـ أن يدعى
اللزوم العقلي للامتثال التفصيليّ مع إمكانه اما لكونه من مقتضيات نفس التكليف
الواقعي وإطاعته أو بنكتة أخرى سوف تأتي الإشارة إليها.
وعلى ضوء هذه
المنطلقات نعالج الوجوه المذكورة في المقام للمنع عن صحة الامتثال الإجمالي فنقول
:
الوجه
الأول ـ ما أفاده المحقق
النائيني ( قده ) من ان العبادة يجب فيها الإتيان بها
بعنوان حسن عقلا
مقربا للمولى ، لأن هذا هو معنى العبودية والعبادية وهو امر مفروغ عنه في باب
العبادات فلا بد وأن يتعنون العمل العبادي بعنوان يحكم العقل بحسنه ومقربيته وفي
المقام لا يحكم العقل بحسن الامتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيليّ ، وهذا الوجه
ظاهر في الانطلاق من الأخذ الأول ولم يرد في تقريرات فوائد الأصول مزيد مطلب على
صرف هذه الدعوى ، ولكن في أجود التقريرات كأنه حاول إقامة صورة برهان عليه حاصلها
: ان الامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر وهو متأخر عن الامتثال التفصيليّ
الّذي هو انبعاث عن شخص الأمر ، ولعله يريد دعوى انه كما ان احتمال الأمر متأخر عن
شخصه كذلك الانبعاث عنه متأخر عن الانبعاث عن شخص الأمر.
وفيه : اننا لا
نرى بالوجدان طولية بين الامتثال الإجمالي والتفصيليّ بلحاظ حكم العقل بالحسن
والمقربية لأن هذا الحكم ليس جزافا بل بملاك الطاعة والانقياد للمولى وتعظيمه وهذا
حاصل في الامتثال الإجمالي حتى من المتمكن من التفصيليّ ، بل إن لم يكن الانقياد
فيه أشد فليس بأقل عن الانقياد في موارد الامتثال التفصيليّ جزما.
واما البرهان المذكور
فيرد عليه : أولا ـ ان كلا الانبعاثين ليسا عن شخص الأمر بل عن احتمال الأمر أو
القطع به لوضوح ان الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محركا بل يحرك بوجوده الواصل ،
فالانبعاثان من هذه الناحية في مرتبة واحدة.
وثانيا ـ لو سلمنا الطولية التكوينية بينهما في الوجود فأي ربط لذلك
بمحل كلامنا؟ إذ الكلام في الطولية في نظر العقل وحكمه بان الامتثال الإجمالي حسن
مع إمكان الامتثال التفصيليّ أم لا ، وملاك هذا الحكم هو انتساب العمل إلى المولى
سواء كان بتوسيط احتمال الأمر أو بشخص الأمر ابتداء ، فهذا خلط بين التقدم والتأخر
التشريعي في نظر العقل والتقدم والتأخر التكويني في عالم الخارج.
ثم أفاد المحقق
النائيني ( قده ) في ذيل كلامه انه إن أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك وهو مجرى
الاحتياط لأنه من موارد الدوران بين التعيين والتخيير وهو مجرى الاحتياط لا
البراءة.
ويرد عليه : أولا ـ انه لا يناسب الجزء الأول من كلامه ، لأنه كما أشرنا ظاهر في
الانطلاق من
المأخذ الأول وهو توقف امر مفروغ عن اعتباره وهو المقربية وحسن العمل في العبادة
على الامتثال التفصيليّ ، وبناء عليه يكون الشك فيه شكا في المحصل لا شكا في
التكليف الدائر بين التعيين والتخيير .
وثانيا ـ لو فرض رجوعه إلى الشك في جعل زائد فهو من الشك في الشرطية
الزائدة وهو مجرى البراءة لا الدوران بين التعيين والتخيير لأن الشك في الحكم
الشرعي يرجع إلى الشك في اعتبار التفصيلية وعدمها.
وثالثا ـ ان الصحيح في موارد الدوران بين التخيير والتعيين أيضا البراءة لا
الاحتياط.
إلا انه جاء في
أجود التقريرات في مقام تقرير الأصل العملي عند الشك في اعتبار التفصيلية في
الطاعة عقلا ان الشك فيه شك في الواجب العقلي لا الشرعي فلا تشمله أدلة البراءة
الناظرة إلى نفي ما يحتمل اعتباره في التكليف شرعا ، نعم لو ورد دليل خاص ناظر إلى
ذلك كان رافعا لموضوع الحكم العقلي إلا انه بالأدلة العامة النافية والمؤمنة لا
يمكن التأمين عن مثل هذا الاحتمال ولهذا وجب الاحتياط.
وهذا البيان كأنه
اقرب إلى مسألة الشك في المحصل ولكنه لا يخلو من غموض ، إذ لو أُريد به ان عنوان
الطاعة يحتمل أن لا تتحقق بدون التفصيلية فهذا يكون شكا في المحصل فلا بد من
التعليل به لا بقصور دليل البراءة وكونه ناظرا إلى ما يحتمل اعتباره شرعا ، وإن
أريد ان التفصيلية في الامتثال معتبر عقلا كقيد زائد على أصل الطاعة المعتبرة شرعا
فهي واجب عقلي زائدا على الواجبات الشرعية فمن الواضح انه لا موجب لاعتباره في
العبادات ، فان المقدار المفروغ لزومه فيها انما هو أصل الطاعة والتقريب لا أكثر.
ولعل المقصود ان هذا القيد مما لا يمكن اعتباره شرعا وانما يجب الإتيان به عقلا
ككل القيود الثانوية لكونه مجرى لأصالة الاشتغال وهذا مسلك سوف يأتي التعرض له.
__________________
ثم ان ما أفاده
الميرزا ( قده ) من ان الانبعاث عن احتمال الأمر متأخر عن الامتثال عن شخص الأمر
أو الأمر المعلوم قد يقال بأنه انما يفيد لإبطال عرضية الامتثال الاحتمالي مع
التفصيليّ لا الامتثال الإجمالي لأن الانبعاث فيه أيضا عن الأمر المعلوم. اللهم
إلا أن يدعى دعوى إضافية هي تقدم الانبعاث التفصيليّ على الإجمالي أيضا وإن كان
الانبعاث منهما معا عن الأمر المعلوم.
إلا ان الصحيح ان
الأمر في المقام وان كان معلوما إلا ان هذا الأمر المعلوم لا يكفي للتحريك والبعث
نحو كل من الطرفين إلا بعد ضم احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه فيكون التحرك من
مجموع الأمرين العلم بأصل الأمر واحتمال انطباقه على هذا الطرف ، أي التحرك عن
احتمال انطباق الأمر المعلوم وهو متأخر عن التحرك عن نفس الأمر المعلوم لأن احتمال
الأمر المعلوم في طول الأمر المعلوم نفسه.
الوجه
الثاني ـ ان التفصيلية واجب
شرعي بعنوانه اما ملاكا فقط أو خطابا أيضا.
وهذا تارة يستدل
عليه بالإجماع على بطلان تارك طريقي الاجتهاد والتقليد فانه يناسب مع دعوى شرط
شرعي ولو ملاكا لا عقلي لعدم حجية الإجماع في الأحكام العقلية. وجوابه : حينئذٍ
انه لا يمكن تحصيل إجماع في مثل هذه المسألة غير المعنونة إلا في كلمات المتأخرين
، خصوصا وان جملة منهم من المحتمل قويا في كلامهم أو المقطوع به انهم لا يريدون
دعوى الاشتراط الشرعي بل العقلي كما تقدم عن المحقق النائيني ( قده ) وأخرى يستدل
عليه : بان احتمال الاعتبار كاف في إثبات اللزوم لأن التفصيلية في الامتثال مما لا
يمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر لأن مرجعه إلى تخصيص الانبعاث بحصة خاصة منه وحيث
لا يمكن أخذ أصل قصد الامتثال في متعلق الأمر فكذلك لا يمكن أخذ حصة منه ، فإذا
ضممنا إلى ذلك كبرى لزوم الاحتياط في القيود الثانوية المحتملة الاعتبار والدخل في
غرض المولى لأنه لا يمكن نفيها لا بالإطلاق اللفظي فانه فرع إمكان التقييد فمع
استحالته لا يكشف عدمه عن إطلاق ملاكه ، ولا بالأصل العلمي لأن أدلته ناظرة إلى ما
يكون معتبرا شرعا في الواجب لا عقلا ثبت بذلك وجوب الامتثال التفصيليّ في المقام.
وهذا الوجه أيضا غير تام لا بلحاظ الأصل اللفظي ولا العملي.
اما بلحاظ الأصل
اللفظي فلأنه أولا ـ يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي قيدية
التفصيلية في
الامتثال اما بناء على إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي القيود الثانوية فواضح.
واما بناء على استحالة ذلك فلان القيد المحتمل في المقام ليس أصل قصد القربة
والامتثال وانما تفصيليته الراجعة إلى معلومية الواجب واما أصل قصد الامتثال
فمشترك بين الامتثالين ومعلوم الاعتبار على كل حال. والمعلومية أو التفصيلية مما
يمكن أخذه في متعلق التكليف على ما تقدم منا في مستهل هذه البحوث.
وثانيا ـ بالإمكان التمسك بالإطلاق المقامي لنفي دخالة القيود الثانوية
المحتملة كما أفاد صاحب الكفاية ( قده ) وتقدم مفصلا في محله.
واما بلحاظ الأصل
العملي فلعدة وجوه.
فانه أولا ـ قد عرفت منع الصغرى وان هذا القيد مما يمكن اعتباره شرعا
كالقيود الأخرى المحتملة فيمكن إجراء البراءة الشرعية لنفي اعتبارها ظاهرا.
وثانيا ـ لو فرض كونه قيدا ثانويا مع ذلك صح إجراء البراءة عنه ، وما ادعى
في الوجه المذكور من ان هذا الاعتبار عقلي لا شرعي مغالطة واضحة فان الاعتبار على
كل حال شرعي اما خطابا أو ملاكا وحكم العقل في مورد الشك انما هو بملاك أصالة
الاشتغال في تحصيل غرض الشارع دائما ودليل البراءة يؤمن عن كل ما يحتمل اعتباره
شرعا كما هو واضح.
وثالثا
ـ لو فرض انصراف
أدلة البراءة الشرعية عما يحتمل اعتباره من القيود ملاكا لا خطابا فيكفينا البراءة
العقلية وقاعدة قبح العقاب بلا بيان بناء على القول بها ، فانها جارية في المقام ،
إذ يمكن للمولى أن يبين ذلك ولو بجملة خبرية فإذا لم يبين قبح العقاب عليه ودعوى :
أن الشك من ناحية التكليف شك في السقوط فيجب الاحتياط بلحاظه. مدفوعة : بما تقدم
في بحث التعبدي والتوصلي من ان اشتغال الذّمّة يكون بالمقدار المعلوم من التكليف
وملاكاته لا أكثر فراجع.
الوجه
الثالث ـ إثبات لزوم التفصيلية في الامتثال من باب ان العقل يحكم
بقبح الامتثال الإجمالي وتكرار العمل مع التمكن من التفصيليّ لكونه لعبا بأمر
المولى وهو قبيح بل حرام شرعا أيضا وهما ينافيان التقرب والاجزاء.
وفيه
: أولا ـ النقض بالواجبات
التوصلية فانه إذا كان الامتثال الإجمالي ـ لهوا
ولعبا وكان محرما
فسوف لا يقع مصداقا للواجب ولا يكون مجزيا عن امره ولو كان توصليا ، لأن الواجب
يتقيد بغير الحرام لا محالة واجزاء غير المأمور به عن المأمور به بحاجة إلى دليل
خاص فلا بد وأن يلتزم ببطلان الامتثال الإجمالي حتى في التوصليات وهو ما لا يلتزم
به أحد مما يكشف عن وجود خلل في هذا الوجه إجمالا.
ثانيا
ـ ما أفاده صاحب
الكفاية ( قده ) من ان التكرار قد يكون لداع عقلائي كما إذا كان تحصيل العلم
التفصيليّ أصعب وأشق فلا يكون لعبا أو لغوا.
وقد نوقش فيه :
بأنه لا بد في صحة العبادة من عنوان حسن ولا يكفي مجرد عدم اللعب.
وفيه : ان العمل
معنون بعنوان التقرب على كل حال لو لا حيثية اللغو أو اللعب ، فلو حصل داع عقلائي
يخرج العمل عن عنوان اللغو أو اللعب كان حسنا عباديا.
وثالثا
ـ ان اللعب إذا لم
يكن بأمر المولى بل لعب في نفسه أو في تحصيل اليقين على حد تعبيرات بعض المحققين
فلا قبح فيه عقلا ولا حرمة له شرعا ، فلا يكون مانعا عن صحة العبادة ولو انطبق
عليه.
ورابعا
ـ ما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أيضا من ان هذا اللغو أو
اللعب لو سلم فهو في تطبيق المأمور به خارجا لا في امر المولى ابتداء فلا يضر بقصد
التقرب والامتثال في الإتيان بأصل المأمور به خارجا في ضمن أحد الامتثالين.
إلا ان هذا الجواب
مبني على أن لا يكون اللعب واللغو متحدا مع المأمور به ومنطبقا عليه بل مجرد
اقتران وإلا فيؤدي إلى بطلانه لا محالة على تقدير قبحه أو حرمته.
وهكذا يتضح صحة
الامتثال الإجمالي حتى مع التمكن من التفصيليّ.
تنبيهات
التنبيه
الأول ـ انه لو بني على تقدم الامتثال التفصيليّ على الإجمال فهل
هذه الطولية تختص بخصوص الامتثال التفصيليّ الوجداني أو يشمل ما إذا كان الامتثال
التفصيليّ تعبديا ، كما لو أمكن تحصيل الحجة على تعيين العبادة؟.
الظاهر ان الجواب
يختلف حسب اختلاف المسالك المتقدمة في تقريب هذه الطولية. فانه بناء على مسلك
المحقق النائيني ( قده ) القائل بالطولية على أساس ان الانبعاث عن احتمال الأمر
متأخر عن الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم تختص الطولية بالامتثال
التفصيليّ الوجداني ولا تشمل التعبدي ، لأن الانبعاث فيه عن احتمال الأمر أيضا لا
عن شخصه ولا عن العلم به ، والحجية لا تقتضي أكثر من تنجيز الاحتمال والتأمين عن
الاحتمال الآخر لا جعل ما ليس بعلم علما حقيقة ليكون الأمر العبادي معلوما حقيقة
ويكون الانبعاث عن شخص الأمر حتى لو قيل بمسلك جعل الطريقية في باب الحجج. اللهم
إلا أن تضاف دعوى ان الوجدان قاض بتقدم الامتثال التفصيليّ التعبدي على الإجمالي
أيضا.
واما بناء على
الوجه الثاني وهو التمسك بالإجماع فهو لا يبعد تعميمه للمقام لأنه قد نقل بصيغة
بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مع وضوح انه بالتقليد يكون
الامتثال تفصيليا
تعبديا لا وجدانيا بل وكذلك بالاجتهاد في أكثر الموارد. كما انه إذا تنزلنا عن
الإجماع وفرضنا منشأ للاحتياط بنحو لا يمكن نفيه بأصل لفظي أو عملي فائضا يكون ذلك
جاريا في المقام.
واما الوجه الثالث
وهو مسألة ان التكرار يكون لغوا أو لعبا بأمر المولى وهو ينافي الامتثال فهو غير
جار في المقام ، لوضوح ان الامتثال الإجمالي في قبال التفصيليّ التعبدي يكون بداع
عقلائي لأنه اما أن يكون بدلا عن الامتثال التفصيليّ التعبدي فقط فداعيه حفظ غرض
المولى احتياطا وإحراز اصابته وأي لغوية أو لهوية فيه؟ واما أن يكون بدلا عن الجمع
بين الامتثال التعبدي والإجمالي فداعيه العقلائي هو الاختصار ودفع المئونة
الزائدة.
التنبيه
الثاني ـ ان المستشكل في الامتثال الإجمالي قد
استثنى من ذلك عدة موارد.
أولها ـ ما إذا
كان الامتثال التفصيليّ غير ممكن ، وملاك هذا الاستثناء واضح فان الوجوه السابقة
لا يرد شيء منها فيه ، اما الإجماع فواضح لأن مورده التمكن من الاجتهاد أو التقليد
بل الإجماع على الخلاف في المقام. واما اللهو واللعب فلان داعي التكرار هو
الاحتياط وإحراز الامتثال وأي داع أوضح منه. واما الطولية فلأن موردها ما إذا كان
الانبعاث عن شخص الأمر ممكنا لا ممتنعا.
ثانيها : ـ ما إذا
كان الحكم غير منجز على المكلف بحيث كان يمكنه تركه رأسا.
وهذا له مصداقان :
أحدهما ـ باب
المستحبات.
ثانيهما ـ أن يكون
الواجب العبادي محتملا باحتمال مؤمن عنه غير منجز وهو مردد عنده بين عملين بنحو
يمكنه رفع التردد المذكور ، وهذا الاستثناء وإن كان واضحا على بعض المباني ولكنه
غير واضح على بعضها الاخر ، كالمسلك الأول والثالث. اما على الثالث فلأنه لو كان
التكرار لعبا بأمر المولى فأي فرق بين المستحب والواجب والمنجز وغير المنجز؟ وإذا
كان الانبعاث التفصيليّ متقدما على الإجمالي بحيث لا يكون حسنا ولا طاعة مع التمكن
من التفصيليّ فأي فرق بين المستحب والواجب؟ نعم في المصداق الثاني يكون الانبعاث
احتماليا على كل حال بلحاظ أصل التكليف وإن أمكن
تشخيصه من ناحية
متعلقه. وهكذا يمكن جعل وضوح هذا الاستثناء نقضا على من يتبنى أحد المسلكين.
ثالثها : ما إذا
لم يلزم من الامتثال الإجمالي تكرار العمل كما في مورد الدوران بين الأقل والأكثر
قبل الفحص مثلا ـ الّذي يكون منجزا ـ وهذا الاستثناء أيضا يختلف باختلاف المسالك
المتقدمة فانه على المسالك الأول ينبغي أن لا يفرق بين المقام وبين موارد التكرار
لأن الانبعاث بلحاظ الجزء العبادي المشكوك عن احتمال الأمر الضمني أي احتمال تعلق
الاستقلالي به ضمنا مع التمكن من الانبعاث عن شخصه أو الأمر المعلوم ، فلا فرق
واضح بين الموردين ، نعم بناء على الوجه الثاني والثالث يصح هذا الاستثناء لعدم
الإجماع في المقام ، وعدم انطباق عنوان اللعب واللهو عليه لأن ما جاء به يمكن أن
يكون هو المطلوب الشرعي بتمامه ولا زيادة فيه ولا تكرار ليتوهم كونه لعبا.
التنبيه
الثالث ـ بناء على ما هو الصحيح من عدم الطولية بين الامتثال
التفصيليّ والإجمالي يتضح أيضا عدم الفرق بين الامتثال الإجمالي الوجداني
والامتثال الإجمالي التعبدي كما لو أتى بالوضوء مرتين بماءين قامت الحجة على
الإطلاق أو طهارة أحدهما.
بل عدم الفرق بين
الامتثال التفصيليّ والإجمالي التعبدي أيضا ، وكذلك عدم الفرق بين الامتثال التفصيليّ
التعبدي والإجمالي التعبدي ، كل ذلك يتضح على ضوء ما تقدم من تحقق تمام ما هو
معتبر في العبادة من قصد القربة والعبودية بالانبعاث عن احتمال الأمر من دون محذور
ولو لزم تكرار العمل.
نعم ربما يفرض انه
مع التمكن من الامتثال الوجداني لا حجية للحجة الإجمالية لأخذ انسداد باب العلم
بالواقع في حجيتها. إلا ان هذا يعني رفع موضوع الحجة والتعبد فلا يجزي الامتثال
الإجمالي التعبدي من باب عدم التعبد وهو خارج عن موضوع البحث.
ثم ان هنا بحثا
اخر في موارد الامتثال الإجمالي التعبدي من ناحية انه قد يفرض عدم تعين مجرى الحجة
الإجمالية حتى في الواقع ، وذلك فيما إذا كان مجراه عنوان إجمالي لا تعين له حتى
واقعا كعنوان غير المعلوم بالإجمال مع فرض تعلق العلم الإجمالي بعنوان
أحدهما بلا أي
ميزة فانه في مثل ذلك لو كان كلاهما نجسا أو مضافا واقعا فنسبة العنوان المعلوم
بالإجمال إليهما على حد واحد فيكون غير متعين في نفس الأمر والواقع ويكون غير
المعلوم الّذي هو مجرى الأصل غير متعين أيضا في نفس الأمر والواقع ، وبما انه لا
بد من افتراض مجرى للأصل إذ لا يعقل جريانه من دون مصب متعين وحيث يحتمل المكلف
نجاسة كليهما فلا يمكنه حينئذٍ إحراز أصل التعبد والامتثال التعبدي فكيف يجتزئ
بالامتثال حتى بنحو الاحتياط. إلا ان هذا الإشكال مربوط بحسب الحقيقة بكيفية تخريج
جريان التعبد الإجمالي في مثل هذه الموارد وسوف يأتي التعرض له في مباحث الأصول
العملية.
مباحث الحجج
مبحث الظن
|
مقدمة
في إمكان التعبد بالظن وتأسيس الأصل
عند
الشك فيه
حجية
السيرة
السيرة
المتشرعية ـ السيرة العقلائية
حجية
الظواهر
حجية
الظهور في نفسه ـ حجية ظواهر القرآن الكريم
ـ
طريق إثبات صغرى الظهور.
حجية
الإجماع
الإجماع
المحصل ـ الإجماع المنقول
حجية
الشهرة
حجية
الاخبار
الخبر
المتواتر ـ الخبر الواحد
حجية
الظن المطلق
|
مقدمة في إمكان التعبد بالظن
وتذكر عادة قبل
الشروع فيه مقدمة تتكفل أمورا ثلاثة :
١ ـ ان الحجية
للظن ليست ذاتية له كما في القطع بل على فرض ثبوتها له تكون بحاجة إلى عناية جعل
أو طرو حالة استثنائية كالانسداد مثلا ، وهذا بحث ثبوتي.
٢ ـ ان الظن ليس
ممتنع الحجية خلافا لابن قبة ومن حذا حذوه ممن ادعى لزوم المحال أو القبيح من جعل
الحجية للظن وهذا بحث ثبوتي أيضا يتحصل منه ومن البحث الأول إمكان جعل الحجية للظن
بالإمكان الخاصّ.
٣ ـ بحث إثباتي
بعد الفراغ عن البحثين السابقين حول تأسيس الأصل عند الشك في حجية الظن.
اما الأمر الأول من هذه الأمور فيتكلم
فيه عادة من جهتين :
الجهة
الثانية ـ في إثبات ان الظن ليس بذاته حجة في تنجيز الحكم المظنون.
الجهة
الثانية ـ في انه ليس بذاته حجة في التأمين عن التكليف الّذي قد
اشتغلت الذّمّة به يقينا في مقام الفراغ عنه.
اما
الجهة الأولى ـ فقد أفيد في وجهه بان
الظن باعتبار نقصان كشفه وعدم كونه وصولا وبيانا للتكليف فلا يكون بذاته منجزا
للحكم المظنون ما لم يجعل له ذلك.
وهذا الكلام منهم
مسوق وفقاً لتصوراتهم في تحليل حجية القطع المتقدم شرحها ، حيث انهم كانوا يفصلون
بين مولوية المولى المفروغ عنها في علم الكلام الأسبق رتبة من علم الفقه والأصول ،
وبين تنجز تكاليف المولى ومقداره فجعلوا البحث عن دائرة التنجز بحثاً أصولياً. وقد
تفرع عن هذا التفكيك أَن طرحت حجية القطع بصيغة انَّ القطع حجة بذاته ، لأنّها من
لوازم الانكشاف والوصول الّذي يكون مقوماً للقطع ولازم ذلك انه إذا انتفى الانكشاف
التام انتفت المنجزية وهذا ما سمي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان الّذي هو بمثابة
المفهوم المذكور وهو معنى انَّ الظن ليس منجزاً بذاته ما لم تتم بيانيته.
وقد شرحنا هنالك
انَّ البحث عن المنجزية عين البحث عن المولوية فلا يصح التفكيك بينهما والمولوية
مرجعها وروحها إلى إدراك العقل العملي لحق الطاعة وموضوعه ليس هو الوجود الواقعي
النّفس الأمري للتكاليف بدليل معذورية القاطع بالعدم جهلاً ولا يكون جزءً الموضوع
فيه بدليل استحقاق المتجري للعقاب وانَّما موضوعه إحراز التكليف فالمولوية ترجع
إلى حكم العقل بلزوم إطاعة ما يحرز من تكاليف المولى فلا بدَّ حينئذٍ من ملاحظة
انَّ أي مرتبة من مراتب الإحراز يكون بحسب نظر العقل الحاكم في هذا الباب هو موضوع
هذا الحق. وقد ذكرنا انَّ العقل في المولى الحقيقي يرى كفاية مطلق الإحراز حتى الاحتمال
لوجوب إطاعته وانَّ البراءة العقلية تبعيض في دائرة حق طاعة المولى الحقيقي وتحديد
لمولويته في خصوص التكاليف القطعية فقط وهذا ما لا يوافق عليه وجداننا العملي. نعم
هذا قد يصح في الموالي العرفية التي تكون مولوياتهم مجعولة ولو من قبل العقلاء ،
فانهم جعلوها في خصوص التكاليف المعلومة لا مطلقاً فيكون العقاب منهم من غير بيان
قبيحاً لأنه عقاب من دون مولوية وارتكازية هذا المطلب العقلائي هو الّذي ادعى
القوم إلى تعميم القاعدة المذكورة وإسرائها إلى تكاليف المولى الحقيقي وقد عرفت
انه خلاف الوجدان العملي.
وعلى هذا الضوء
يعرف انَّ منجزية الظن في الجهة الأولى ذاتية له بمعنى انها ثابتة له أيضاً كما هي
ثابتة للعلم وانما يفترق الظن عن العلم في انحفاظ مرتبة الحكم
الظاهري فيه بخلاف
العلم لا بمعنى انحفاظ الشك وعدم العام المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري فحسب بل
انحفاظ روح الحكم الظاهري وملاكه وهو التزاحم الحفظي وقد تقدّمت الإشارة إليه
ويأتي شرحه مفصلاً في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. ومن هنا نحكم بعدم
المنجزية في موارد الظن غير المعتبر من جهة ثبوت البراءة الشرعية التي هي حكم
ظاهري شرعي بعدم وجوب الاحتياط ، وقد عرفت انَّ الحكم العقلي بالمنجزية وحقّ
الطاعة معلق على عدم الترخيص الشرعي. وهكذا يتّضح انَّ البحث عن دليل حجية الظن
بحسب الحقيقة بحث عن المخصص لدليل البراءة الشرعية بناءً على مسلكنا.
واما الجهة الثانية ـ فقد جاء في الكفاية انَّ الظن لا يكون حجة في تفريغ
الذّمّة بذاته ولو كان يظهر من كلمات بعضهم الاكتفاء بالامتثال الظني على القاعدة
، ولعله باعتبار عدم وجوب دفع الضرر المحتمل لأنَّ الاقتصار على الامتثال الظني
يوجب احتمال عدم تحقق الامتثال وبالتالي احتمال الضرر فلو قيل بعدم وجوب دفعه أمكن
الاكتفاء بالامتثال الظني بل يكفي الامتثال الاحتمالي حينئذٍ أيضاً ولعله قصده
بامره بالتأمل. وعلى كل حال قد ربط التنجز في المقام بمسألة دفع الضرر المحتمل.
وظاهر عبائر
الدراسات إمضاء هذا الابتناء والتفريع ، ولكن أشكل عليه بأنَّ وجوب دفع الضرر في
المقام متفق عليه لأنَّ الضرر المحتمل هو العقاب الأخروي ولا خلاف في لزوم دفعه من
أحد وانما النزاع بينهم إنْ كان ففي لزوم دفع الضرر الدنيوي.
والتحقيق : انه لا
ربط بين المسألتين من رأس لأنَّ قانون دفع الضرر المحتمل انما تنتهي إليه بعد فرض
احتمال الضرر والعقوبة وهو فرع تنجز التكليف في الرتبة السابقة دائماً إذ مع عدم
تنجز التكليف يقطع بعدم العقاب فيستحيل أَنْ يكون التنجز ناشئاً ببركة هذا
القانون.
والحاصل ـ لو كان
العقل يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فهو رافع لموضوع قانون دفع الضرر بمعنى
العقوبة ولو لم يحكم به ولو في المقام لوصول أصل التكليف وانما الشك في الفراغ
والسقوط فلا يقبح العقاب على المخالفة بل يصح وهو عين التنجز واستحقاق العقوبة
سواءً كان هناك حكم عقلي آخر بلزوم دفع الضرر أم لا.
والصحيح في
المنهجة على ضوء ما تقدم منا مراجعة الوجدان العقلي العملي ليرى هل يحكم بحق
الطاعة والمولوية للمولى في موارد الشك في السقوط أم لا ، وقد عرفت انه يحكم به في
موارد الشك في الثبوت فكيف بموارد الشك في السقوط مع العلم بأصل ثبوت التكليف
ففذلكة الموقف في الجهتين واحدة. هذا كلّه في الأمر الأول.
وامّا الأمر الثاني ـ فما ذكر أو يمكن
أَنْ يذكر بشأن إثبات امتناع جعل الحجية للظن بل مطلق الحكم الظاهري صنفان من
المحاذير :
١ ـ ما يرجع إلى
انَّ جعل الحكم الظاهري مخالف لحكم العقل بقطع النّظر عن التشريع الإلهي.
٢ ـ ما يرجع إلى
انَّ هذا الجعل مخالف مع الأحكام الشرعية الواقعية.
امّا الصنف الأول
من المحذور فقد تقدمت الإشارة إليه سابقاً أيضاً من انَّ حجية غير العلم منافٍ مع
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنَّ غير العلم لا يخرج عن كونه غير العلم مهما
جعلت له الحجية شرعاً أو عقلائياً فيكون العقاب في مورده عقوبة بلا بيان والأحكام
العقلية لا تقبل التخصيص ، وقد اضطر بعضهم في مقام علاج هذه النقطة من الالتزام
بأنَّ العقوبة في موارد الحكم الظاهري على مخالفة نفس الحكم الظاهري لا الواقع.
وذهبت مدرسة الميرزا ( قده ) من انَّ المجعول في الحجج هو العلمية والطريقية وبذلك
يكون قد تحقق البيان والعلم وقد تقدم الجواب على كلا هذين المطلبين وقلنا انَّ الصحيح
في علاج هذا الإشكال أحد امرين : اما إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو
الالتزام بأنَّ موضوع حكم العقل انما هو عدم بيان الحكم الواقعي وعدم بيان اهتمام
المولى به على تقدير ثبوته ودليل الحجية كاشف عن الاهتمام المذكور فيرتفع موضوع
القاعدة العقلية.
وامّا الصنف
الثاني من المحذور فعبارة عن ثلاثة أمور بعضها يثبت المحذور على المستوى مدركات
العقل النظريّ وبعضها يثبته على مستوى مدركات العقل العملي.
وهي على ما يلي :
١ ـ انَّ جعل
الحجية للظن بل مطلق الحكم الظاهري يؤدي إلى محذور اجتماع الضدين أو المثلين قطعاً
أو احتمالاً وكلها محال ، وجه الاستحالة واضح ، ووجه اللزوم
انَّ الحكم
الظاهري في معرض الخطأ والإصابة فيكون في مورده حينئذٍ حكم واقعي مضاد أو مماثل
بعد البناء على عدم التصويب. وهذا محذور على مستوى العقل النظريّ.
٢ ـ انه يؤدي إلى
نقض الغرض المولوي من الأحكام الواقعية المجعولة وهو محال في حق المشرع الملتفت
والمهتم بأغراضه التشريعية. وهذا المحذور أيضاً بلحاظ مدركات العقل النظريّ.
٣ ـ انه يؤدي إلى
إيقاع المكلف في مفسدة الحرام وتفويت مصلحة الواجب عليه بناءً على تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد وهو قبيح لا يصدر من الحكيم وهذا محذور على مستوى مدركات العقل
العملي ، أي انه يتوقف محذوريته على افتراض حكمة المولى المشرع.
هذه هي المحاذير
التي أَنْ تذكر تحت هذا الصنف من براهين الامتناع.
وقبل البداء في
مناقشة هذه البراهين. لا بأس بالإشارة إلى ما جاء في كلمات الشيخ الأنصاري ( قده )
، حيث حاول إثبات الإمكان بعد الفراغ عن بطلان تلك البراهين. بمجموع امرين :
١ ـ اننا بعد
مراجعة وجداننا لا نجد ما يدل على الامتناع.
٢ ـ انَّ عدم
الوجدان وإِنْ كان لا يدل على عدم الوجود إِلاَّ انه يكفي في المقام احتمال
الإمكان لإثباته استناداً إلى أصالة الإمكان التي قد انعقد بناء العقلاء عليها عند
الشك في الإمكان.
وقد اعترض على
الأمر الثاني من هذا الدليل من قبل صاحب الكفاية ( قده ) باعتراضات ثلاثة :
أحدها
ـ انه إِنْ فرض قيام دليل قطعي على جعل الحجية ، والحكم
الظاهري فهو بنفسه دليل قطعي على الإمكان ، لأنَّ الوقوع أخص من الإمكان فلا موضوع
لأصالة الإمكان عند الشك في الإمكان ، وإِنْ فرض عدم وجود دليل قطعي على جعل
الحجية فلا فائدة في إثبات الإمكان بأصالة الإمكان أو بغيره ، لأنَّ مجرد الإمكان
لا أثر له كما هو واضح.
ثانيها
ـ انا لا نسلم انعقاد بناء من العقلاء على الإمكان عند الشك
فيه ليكون هنالك أصل عقلائي بعنوان أصالة الإمكان ، نعم قد يحصل غالباً للعقلاء
العلم بالإمكان بحسب قريحتهم عند ما بحثوا فلم يجدوا وجها للامتناع.
ثالثها
ـ انه لو سلمنا انعقاد البناء العقلائي وجريهم على الإمكان
إِلاَّ انه لا قطع بموافقة الشارع لذلك وإمضائه لهم ، والسيرة العقلائية بما هي
عقلائية لا تكون مجدية وانما المفيد إمضاء الشارع لها وهذا ما لا قطع به غايته
الظن.
يبقى في هذا
الاعتراض التساؤل عن وجه عدم كشف الإمضاء الشرعي في خصوص هذه السيرة وكيف كانت
بدعاً من السيرة العقلائية الأخرى التي لم يناقش في إمضاء الشارع لها صاحب الكفاية
( قده ).
والجواب يمكن أَنْ
يكون باستحالة القطع بإمضاء الشارع لهذه السيرة في المقام ، لأنَّ حصول القطع بذلك
بنفسه قطع بوقوع الحكم الظاهري وبالتالي ارتفاع الشك وموضوع أصالة الإمكان.
والسيد الأستاذ
حاول الإجابة على الاعتراضات الثلاثة بافتراض انَّ مقصود الشيخ من أصالة الإمكان
أصالة حجية ظاهر كلام المولى وتشريعه ما دام لا يقطع بامتناع مدلوله ولا إشكال في
ذلك الا ترى انه لو قال المولى ( أكرم كلَّ فقير ) واحتملنا استحالة إيجاب إكرام
الفقير الفاسق فهل ترى يرفع اليد عن الإطلاق أو العموم بمجرد هذا الاحتمال؟ فكذلك
في المقام يبني على صحة ما دل بظاهره من الأدلة المعتبرة على جعل الحجية والحكم
الظاهري في مورد ما لم يثبت الامتناع فليس المقصود التمسك بالسيرة العقلائية بذلك
المعنى فلا يرد شيء من هذه الوجوه .
أقول : هناك فرق
واضح بين التمسك بظهور مثل أكرم الفقير في مورد احتمال امتناع مدلوله وبين المقام
فانَّ المحتمل امتناعه هناك ثبوت مدلول الظهور لا حجيته فانه ممكن بحسب الفرض ولا
إشكال في انَّ الحجة لا يمكن رفع اليد عنه إلا حيث يثبت بطلانه بالقطع أو بحجة
أقوى.
__________________
وامّا في المقام
فالمفروض انَّ المبحوث عنه إمكان نفس الحجية والحكم الظاهري وامتناعه ومعه سوف
يسري الشك والاحتمال إلى حجية نفس الظهور الّذي يراد افتراض التمسك به في إثبات
الحكم الظاهري المفاد به ، نعم لو فرض اختصاص الشك بإمكان صنف خاص من الحجج
والأحكام الظاهرية كالاخبار الآحاد بعد الفراغ عن إمكان حجية الظهور أمكن التمسك
به لإثباته ولكن هذا غير ما هو المدعى في هذا البحث من افتراض البحث عن إمكان
وامتناع أصل جعل الحكم الظاهري.
والتحقيق في
الإجابة على اعتراضات الكفاية أَنْ يقال : امّا بالنسبة إلى الاعتراض الأول فهناك
ملاحظتان :
أولاهما ـ انه
يمكن افتراض قيام دليل قطعي على التعبد بالحكم الظاهري من غير ناحية الإمكان أي
تام الدليليّة لو كان الإمكان تاماً في الواقع فدلالته منوطة بثبوت الإمكان.
وتوضيحه : اننا لا نفرض الدليل القطعي متمثلاً في اية قطعي السند والدلالة لكي
يقال انه يؤدي إلى القطع بالوقوع وهو أخص من الإمكان بل نفترضه مثل السيرة
العقلائية ـ كما هو الغالب في أدلة الحجية ـ والسيرة انما تكون دليلاً إذا ثبت
إمضاء الشارع له واستكشف ذلك من عدم ردعه عنها وعدم الردع انَّما يمكن أَنْ يجزم
به على تقدير عدم استحالة جعل الحجية وإلا فمع احتمال الاستحالة وكونها استحالة
عرفية فلعل عدم الردع من ناحية الاكتفاء بهذا الاحتمال والاعتماد عليه فلا يمكن
تحصيل الجزم بالإمضاء من سكوت المولى فتكون دلالة مثل هذا الدليل حينئذٍ فرع ثبوت
الإمكان فإذا بنى على أصل عقلائي يثبت الإمكان على حد الأصول العقلائية التي تكون
لوازمها حجة فسوف يدل مثل هذا بالالتزام على إمضاء الشارع لحجية الظن التي قد
انعقدت السيرة عليها أيضاً .
__________________
الثانية
ـ اننا نفرض قيام
دليل قطعي على جعل الحكم الظاهري ونقصد به الحكم المجعول في مورد الشك أو الظن
إِلاَّ انَّ مجرد هذا لا يوجب ارتفاع موضوع أصالة الإمكان كما أفيد في الاعتراض
الأول. لأنَّ محذور الامتناع والإمكان ليس في جعل هذا الحكم بحسب الحقيقة بل في
الجمع بينه وبين الحكم الواقعي فغاية ما يلزم من قطعية دليل هذا الحكم المجعول هو
القطع بثبوت أحد الحكمين وهو الحكم الثابت بعنوان الظن أو الشك وامّا كونه واقعياً
أو ظاهرياً بمعنى انه في مورده حكم واقعي مضاد أو مماثل فلا يثبت من هذا الدليل
لكي يقال بأنه قد ثبت الإمكان بلا حاجة إلى أصالة الإمكان وانما نثبت ذلك ببركة
أصالة الإمكان بمعنى إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية ، وهذا الإطلاق مقطوع الحجية
بحسب الفرض وانما الشك في إمكان مدلوله واستحالته فيكون من موارد صحة كلام السيد
الأستاذ الّذي تقدم في معنى أصالة الإمكان.
ومنه يظهر التعليق
المناسب على الاعتراض الثالث الّذي أفاده صاحب الكفاية ( قده ) بالبيان الّذي نحن
تممناه به من انَّ هذه السيرة العقلائية بالخصوص لا يعقل القطع بإمضاء الشارع لها.
فاننا نفترض القطع بالإمضاء وغاية ما يلزم منه القطع بجعل أصالة الإمكان كحكم شرعي
ولكنه لا يعني القطع بالجمع ـ إذ لعله جعل واقعي لا ظاهري ـ وانما نثبت ذلك بإجراء
أصالة الإمكان بالمعنى الآخر أي التمسك بإطلاقات أدلة الأحكام الواقعية لأن
المفروض انَّ الظهور حجة بقطع النّظر عن مسألة الإمكان والّذي أثبتناه بأصالة
الإمكان القطعية.
نعم لو كان مقصود
صاحب الكفاية ( قده ) انه لا موجب لحصول القطع بالإمضاء لأنَّ القضية ليست شائعة
ذائعة حتى يحصل القطع بالإمضاء فهو كلام آخر وجيه في نفسه.
وامّا الاعتراض
الثاني في صغرى السيرة العقلائية على أصالة الإمكان ففي كل
__________________
مورد أرجعنا أصالة
الإمكان إلى التمسك بدليل مفروغ عن حجيته فهذا طبق الارتكازات والبناءات العقلائية
لأنها لا تقبل رفع اليد عن حجية دليل لمجرد احتمال استحالة مدلوله. ولو أُريد
بأصالة الإمكان التعبد ابتداءً بالإمكان فالاعتراض المذكور متجه جداً ، فانَّ
العقلاء ليس لهم تعبدات كذلك على ما ذكرنا ذلك مراراً نعم قد يحصل لهم القطع
بالإمكان بحسب قريحتهم من مجرد عدم وجدان وجه للاستحالة.
بل لا يعقل بنائهم
على الإمكان لو كان عندهم الشك في إمكان جعل الحكم الظاهري في مجال علاقات الموالي
والعبيد لأنَّ هذا البناء بنفسه حكم ظاهري فإثبات إمكانه به مصادرة واضحة.
واما الوجوه التي
ذكرت لدفع المحاذير والشبهات المثارة بوجه الحكم الظاهري المتقدمة ففيما يلي
نستعرض ما ذكر لدفع شبهة التضاد ونقض الغرض أي المحاذير العقلية النظرية مع
التعليق عليه ثم نتكلم عن المحذور العقلي العملي وهو قبح الإيقاع في المفسدة :
الوجه
الأول ـ ما ذهب إليه جملة
من الأصوليين من انَّ الحكم الظاهري في بعض الموارد على الأقل كالأمارات مثلاً ليس
حكماً تكليفياً بل هو من سنخ الأحكام الوضعيّة لأنَّ المجعول فيه انما هو الحجية
بمعنى المنجزية والمعذرية كما أفاده صاحب الكفاية ( قده ) أو العلمية والطريقية
كما أفاده الميرزا ( قده ) بينما الأحكام الواقعية هي أحكام تكليفية من أمر أو نهي
والتنافي انما هو بين حكمين تكليفيين مختلفين أو متماثلين لا بين حكم وضعي وآخر
تكليفي ، وانما اختلف العلمان في تحديد صياغة المجعول باعتبار ما تقدم في بحث
القطع من قبل مدرسة الميرزا من انّ جعل المنجزية غير معقول لأنه خرق لقاعدة قبح
العقاب بلا بيان بخلاف جعل العلمية فانه رافع لموضوعها ، وقد تقدم التعليق على هذا
الكلام وعدم صحته وانَّ هذه مجرد صياغات لا تأثير لها على قاعدة قبح العقاب ، نعم
أثر اعتبار العلمية وجعل الطريقية قد يظهر بلحاظ القيام مقام القطع الموضوعي.
وهذا الوجه لا
محصل له لأنَّ جعل المنجزية أو المعذورية أو العلمية أو أي اعتبار آخر انْ كان غير
مستلزم لموقف عملي من قبل المكلف فعلاً أو تركاً فلا أثر لجعل مثل
هذا الحكم الوضعي
ولا يكون موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإطاعة ، وإنْ كان مستلزماً لذلك فانْ كان ،
غير ناشئ عن مبادئ الحكم التكليفي من ورائه من اراده وشوق نحو الفعل أو كراهة وبغض
فهذا وحده كاف لدفع المحاذير المتوهمة في المقام سواءً كان الحكم الظاهري بحسب
صياغته واعتباره القانوني من سنخ الأحكام التكليفية أو الوضعيّة لأنَّ التنافي
والمحاذير الناشئة منه انما تنشأ بلحاظ تلك المبادئ لا بين الصيغ الإنشائية
للحكمين ، وإنْ كان جعل المنجزية والمعذرية ناشئاً عن ملاكات واقعية فمحذور
التنافي باقٍ على حاله سواءً كانت صيغة الحكم الظاهري المجعول من سنخ الأحكام
التكليفية أو الوضعيّة. هذا مضافاً إلى انَّ هذا الوجه لا يدفع محذور نقض الغرض.
الوجه
الثاني ـ انّ مبادئ الحكم
الظاهري ومصلحته في نفس الجعل لا في متعلق الحكم ليلزم المنافاة بينهما وبين مبادئ
الحكم الواقعي الثابت في متعلقه.
وهذا الوجه أيضاً
غير تام لأنَّ نشوء الحكم عن مصلحة في الجعل نفسه غير معقول وانما الحكم لا بدَّ
وأَنْ ينشأ من مصلحة في متعلقه سواءً كانت ثابتة فيه بقطع النّظر عن جعل ذلك أو في
طول الجعل وبلحاظه ، كما في الأوامر التي يراد منها تطويع العبيد على الإطاعة
والأمثال ، ولعل جملة من الأوامر العبادية تكون كذلك. وامّا جعل الحكم لمصلحة في
نفس الجعل الّذي هو فعل المولى مع خلو المتعلق عن كل مصلحة حتى في طول الجعل فمثل
هذا الحكم لا يكون موضوعاً لحق الطاعة عقلاً ، لأنَّ تمام الغرض منه تحقق بنفس
جعله الّذي هو فعل المولى من دون حاجة إلى امتثال أصلاً. مع انه لا يدفع شبهة نقض
الغرض.
الوجه
الثالث ـ ما هو ظاهر عبارة الكفاية. من افتراض مراتب أربع للحكم.
١ ـ مرتبة
الاقتضاء والشأنية فانَّ كل حكم له ثبوت اقتضائي في رتبة مقتضية وهذا نحو من
الثبوت التكويني للحكم.
٢ ـ مرتبة الإنشاء
اما بمعنى الوجود الإنشائي للحكم بناءً على المسلك القائل بإيجادية بعض المعاني أو
بمعنى الاعتبار والجعل القانوني المبرز باللفظ.
٣ ـ مرتبة الفعلية
التي تعني وجود إرادة أو كراهة بالفعل على طبقه للتحريك.
٤ ـ مرتبة التنجز
التي هي تعبير عن حكم العقل بلزوم الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة.
والتنجز نوع بلوغ
الحكم مرتبة الفعلية ووصولها خارجاً فلا يكفي فيه العلم بالمرتبة الأولى أو
الثانية من الحكم كما انَّ التنافي بين الأحكام انما يكون بلحاظ مرحلة الفعلية لا
الإنشاء والاقتضاء. وحينئذٍ في موارد الحكم الظاهري إذا فرض انحفاظ الحكم الواقعي
أيضاً بمراتبه الثلاثة لزم محذور التضاد ونقض الغرض وامّا إذا فرض عدم انحفاظها
كذلك بل كانت إنشائية مثلاً فلا يلزم محذور التضاد ولا نقض الغرض.
نعم افتراض انَّ
الأحكام القطعية إنشائية بحتة مطلقاً يؤدي إلى عدم تنجزها حتى بعد العلم بها لما
تقدم من انَّ العلم بالحكم الإنشائي لا يكون منجزاً ، ومن هنا التزم بفرضية وسطى
هي انها أحكام فعلية ولكن معلقا على عدم فعلية الحكم الظاهري أي فعلي من سائر
الجهات وفعليتها قد استوفت تمام شروطها عدا شرط واحد هو أَنْ لا يكون على خلاف حكم
ظاهري.
وقد اعترض عليه من
قبل الاعلام بجملة اعتراضات.
منها ـ ما وجهه
المحقق النائيني ( قده ) من اننا لا نتعقل التفكيك بين الإنشاء والفعلية ، لأنَّ
قيد العلم اما أَنْ يكون قد أخذ في موضوع الجعل والإنشاء أو لا ، فانْ كان مأخوذاً
ففي موارد عدم العلم لا جعل ولا مجعول ، وإِنْ كان غير مأخوذ فكل من الجعل والمجعول
ثابت في موارد الحكم الظاهري لتحقق موضوعه وهو يستلزم الفعلية لا محالة.
وهذا الاعتراض
مبني على تحميل صاحب الكفاية مصطلحات الميرزا ( قده ) في تفسير الإنشاء والفعلية
بحمل الأول على الجعل والقضية الحقيقية الشرطية وحمل الثاني على المجعول والقضية
الفعلية وهذا بلا موجب ، بل مقصوده من الفعلية الإرادة أو الكراهة بوجوديهما
الفعليين في نفس المولى والمراد بالإنشاء الوجود الإنشائي للحكم أو الاعتبار
المبرز على الاختلاف المتقدم في تفسير الإنشاء ، والتضاد انما هو بين الأحكام
بلحاظ مرحلة فعلية مباديها من الإرادة الفعلية والكراهة الفعلية وامّا الوجود
الإنشائي لها بكلا المعنيين فلا تضاد فيما بينها لأنَّ الإنشاء أو الاعتبار
القانوني سهل المئونة فإذا ثبت
بطلان التصويب
التزمنا بأنَّ الأحكام الواقعية ثابتة بمرتبتها الإنشائية وامّا مرتبة فعليتها
فمعلقة على عدم جريان الحكم الظاهري فلا تضاد ولا نقض للغرض أيضاً لأنَّ الغرض
يراد به الملاك الّذي يريده المولى بالفعل.
ومنها ـ ما عن بعض
إفادات المحقق العراقي ( قده ) من انَّ هذا يؤدي إلى سلخ الخطاب الواقعي عن
الفعلية رأساً وكونه إنشائياً بحتاً وهذا باطل ولا يمكن الالتزام به ، والوجه في ذلك
في انَّ تقيد الإرادة الجدية الفعلية بالعلم به وعدم الشك الّذي هو موضوع الحكم
الظاهري لا يمكن استفادته من دليل الحكم الواقعي لأنَّ الفعلية المقيدة بالعلم
بالخطاب متأخرة عن نفس الخطاب برتبتين لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب تأخر المشروط
عن شرطه والعلم بالخطاب متأخر عن الخطاب أيضاً تأخر العلم عن معلومه ومعه يستحيل
أَنْ يكون مدلولاً للخطاب لأنَّ مدلول الخطاب متقدم على الخطاب الدال عليه.
وهذا الإشكال فيه
مواقع للنظر. نكتفي في المقام بالقول بأنَّ الفعلية المدلول عليها بالخطاب هي
الفعلية المعلقة لأنَّ مدلول الخطاب انما هو القضية الحقيقية الشرطية والتي يكون
موضوعها في موقع الفرض والتقدير فمدلول الخطاب لا يتضمن إِلاَّ فرض العلم بالخطاب
وما يدعى كونه متأخراً عن الخطاب انما هو العلم به فعلاً وواقعاً لا فرض العلم به.
والصحيح في مناقشة
هذا الوجه إذا أُريد ما هو ظاهره : انه التزام بالإشكال وليس جواباً عليه لأنَّ
الإشكال ينشأ من أصل موضوعي مفترض وهو بطلان التصويب عند العدلية بمعنى اشتراك
العالم والجاهل في الحكم الواقعي والمراد منه ليس قضية مهملة ليقال بكفاية
اشتراكهما في الحكم الإنشائي بل المراد به هو انحفاظ الأحكام الواقعية بمبادئها
الحقيقية في حق الجاهل كالعالم تماماً إلا من ناحية عدم تنجزه عليه.
الوجه
الرابع ـ هو الوجه الموروث من الشيخ الأنصاري وتلميذه الشيرازي (
قدهما ). من دعوى ارتفاع التضاد بتعدد الرتبة ، حيث انَّ مرتبة الحكم الظاهري الشك
في الواقعي وهو متأخر عنه وفي طوله فلم يجتمع الحكمان في مرتبة واحدة. وهذا الجواب
يمكن أَنْ يقرب بأحد بيانين :
١ ـ ما هو ظاهره
من انَّ الحكم الظاهري باعتبار أخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه يكون متأخراً
عنه رتبة.
وقد اعترض عليه في
الكفاية : بأنَّ الحكم الظاهري وإِنْ كان متأخراً عن الواقعي وفي طوله فيستحيل
أَنْ يجتمع معه في مرتبته إلا انَّ الحكم الواقعي باعتباره مطلقاً شاملاً للعالم
والجاهل يكون محفوظاً مع الحكم الظاهري فانَّ المعلول وإِنْ لم يكن ثابتاً في
مرتبة العلّة إلا انَّ العلة ثابت في مرتبة المعلول فيلزم محذور التضاد والتنافي.
وهذا الكلام واضح
البطلان لأنا إذا لاحظنا الاجتماع في عالم الرتب فكما لا يجتمع المعلول مع العلّة
في رتبتها كذلك لا تجتمع العلّة مع المعلول في رتبته والتعاصر بينهما زماني لا
رتبي ، وإذا لاحظنا عالم الزمان فكل منهما يجتمع مع الاخر. فالصحيح في الجواب.
أولا ـ اننا لا نسلم الطولية بالملاك المزبور لأنَّ الشك متأخر عن
المشكوك بالذات لا عن المشكوك بالعرض والتنافي والتضاد بين الحكمين بوجوديهما
الواقعيين لا العلميين إذ الكلام في كيفية اجتماع الحكمين بمبادئهما في نفسه لا
بحسب نظر المكلف أي في نفس المولى وبحسب نظره وهو يفترض الشك الواقعي في موضوع
جعله الظاهري لا انه يشك فيه بالفعل كما هو واضح.
وثانياً ـ انَّ
الطولية بحسب الرتبة لا ترفع غائلة التضاد لأنَّ المستحيل هو اجتماعهما في زمان
واحد لا اجتماعهما في رتبة واحدة بشهادة اننا لو فرضنا علّية أحد الضدين للآخر
أيضاً استحال اجتماعهما بل نستنتج من نفس التضاد عدم العلّية لا انَّ التضاد موقوف
على عدم العلّية وهذا واضح أيضاً.
٢ ـ والبيان
الثاني ما قد يتحصل من كلمات المحقق النائيني ( قده ) حيثما تصدى لشرح كلمات السيد
الشيرازي ( قده ) من انَّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية إذ لولاها لم
يكن جعل الحكم الظاهري معقولاً فيستحيل أَنْ تكون الأحكام الظاهرية مانعة عن
الأحكام الواقعية إذ يلزم من مانعيتها نفيها لنفسها ومن وجودها عدمها وهو محال.
وهذا البيان غير
تام أيضاً لأنَّ الأحكام الظاهرية وإِنْ استحال أَنْ تكون مانعة
عن الأحكام
الواقعية لأنها مترتبة عليها إلا انه لا محذور في مانعية الأحكام الواقعية عن
الظاهرية ولا يلزم من ذلك نفيها لنفسها. وإِنْ شئت قلت : انَّ فرض ترتب الحكم
الظاهري على الواقعي مستحيل إِلاَّ انْ تحل المضادة في المرتبة السابقة لأنَّ
المتضادين يستحيل أَنْ يكون أحدهما علّة للآخر فانْ حلت مشكلة التضاد فذاك هو
الجواب وإِلاَّ كان فرض الترتب مستحيلاً في نفسه فلا يمكن حل المضادة بهذا الفرض
نفسه ، وبتعبير ثالث أوضح : انَّ من يدعي التضاد بين الحكمين لا يفهم الحكم
الظاهري إلا كحكم واقعي ومعه لا تكون طولية بينه وبين الحكم الواقعي بل يكون في
عرضه فافتراض الطولية بالنحو المبين في التقريب انما يكون بعد تعقل الحكم الظاهري
وإمكانه كما هو واضح.
الوجه
الخامس ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) في مقالاته وكأنه مخصص
لدفع شبهة نقض الغرض وحاصلة : افتراض مقدمة ثم البناء عليها امّا المقدمة ففي بيان
انَّ الا إرادة إذا تعلقت بشيء سواءً التشريعية أو التكوينية فالمقدمات التي يتوقف
عليها وجود ذلك الشيء على قسمين :
١ ـ ما يكون مقدمة
لذات المراد في نفسه بنحو يكون محفوظاً بقطع النّظر عن تعلق الإرادة به من قبيل طي
المسافة للحج مثلاً.
٢ ـ ما يكون في
طول تعلق الإرادة والخطاب بذلك الشيء ، وهذا القسم بعضه يرجع إلى المولى نفسه
وبعضه راجع إلى العبد فالأوّل من قبيل إبراز الإرادة لكي يتحرك العبد بموجب التنجز
العقلي وهذه مقدمة في طول تعلق الإرادة بالمراد إذ هي من تبعاتها لا محالة ولولاها
لما إبراز المولى شيئاً ، والثاني من قبيل إرادة المكلف للامتثال فانها أيضاً في
طول الإرادة التشريعية للمولى.
والقسم الأول من
هذين القسمين تكون نفس الإرادة المتعلقة بشيء محركة نحوه ، وامّا القسم الثاني
فيستحيل أَنْ يكون التحريك نحوه من قبل نفس الإرادة الأولية بل لا بدَّ من إرادة
أخرى لأنه في طول الإرادة ومحركيتها بحسب الفرض وقد استنتج من ذلك مطلبين :
١ ـ في بحث مقدمة
الواجب أثبت انَّ تمام مقدمات الواجب تتصف بالوجوب
الغيري عدا
الإرادة لأنها في طول الخطاب ، فلا يمكن أَنْ تتصف به.
٢ ـ انَّ إرادة
المولى لشيء لا يمكن أَنْ تكون هي المنشأ المحرك نحو إبراز نفسها بالخطاب لكون
الإبراز هذا من المقدمات الطولية بل يحتاج ذلك إلى إرادة أخرى من قبل المولى نحو
الإبراز. وهذه النقطة هي روح الجواب في المقام في هذا الوجه حيث يستنتج المحقق
العراقي ( قده ) على ضوئها انَّ إرادة إبراز الإرادة بالخطاب لها مراتب شدة وضعفاً
حسب ملاكها ، فتارة يتعلق إرادته بإبراز الإرادة الأولى بأي خطاب ممكن واقعياً
وظاهرياً وفي تمام المراتب ، وأخرى تتعلق إرادته بالإبراز بالخطاب الواقعي فانْ لم
يصل إلى المكلف فالمولى لا تتعلق إرادته بأَنْ يبرز إرادته الأولية بخطاب اخر ظاهري
بل قد تتعلق أردته بخلاف ذلك يجعل خطاب ترخيصي ولا يكون في ذلك نقض للغرض لأنَّ
الغرض انما تمثله إرادة المولى وفي المقام لا نقض لشيء من الإرادتين ، امّا الأولى
فلأنها لم تكن تقتضي التحريك نحو الإبراز أصلاً لكي يكون هذا نقضاً لها ، واما
الثانية فلأنَّ مرتبتها بهذا المقدار من أول الأمر بحسب الفرض.
وهذا الّذي أفاده
غير تام. لا وجداناً ولا برهاناً.
امّا وجداناً ـ فلشهادته
بأنَّ من يريد شيئاً من غيره تكون نفس إرادته تلك محركة له إلى إبرازها له ولو
بترشيح إرادة غيرية منها نحو الإبراز لا انَّ هناك إرادة نفسية أخرى تتعلق
بالإبراز.
واما برهاناً ـ فكأنه
وقع خلط بين طوليتين ، طولية المقدمة وطولية المقدمية بمعنى انَّ القسم الثاني من
المقدمات طوليتها للإرادة بلحاظ وجودها لا مقدميتها فانَّ المقدمة إذا كانت في طول
الإرادة وتحريكها استحال تحريك الإرادة نحوها لأنَّ مقدميتها حينئذٍ فرع التحريك
فيستحيل أَنْ يكون التحريك نحوها باعتبار مقدميتها ، واما إذا كانت المقدمية من
أول الأمر غايته وجود المقدمة يكون في طول الإرادة فلا إشكال في تحريك الإرادة نحو
تلك المقدمة والمقام من هذا القبيل فانَّ صدور الفعل خارجاً من العبد متوقف على إبراز
المولى لإرادته كتوقفه على سائر المقدمات.
الوجه
السادس ـ وهو أيضاً منسوب إلى المحقق العراقي ( قده ) وكأنه أريد به دفع شبهة اجتماع
الضدين أو المثلين وهو متوقف على مقدمة حاصلها : انَّ الوجود الواحد قد يكون له
حيثيات متعددة بلحاظ بعضها يكون مطلوباً وباعتبار بعضها الاخر لا يكون كذلك ، وهذا
له تطبيق واضح في المركبات الحقيقية والمحقق العراقي ( قده ) يطبقه على الوجود
الواحد أيضاً بلحاظ مقدماته إذا كانت متعددة فيقول : انه قد يكون الوجود الواحد من
ناحية بعض مقدماته ومباديه مطلوباً دونه بلحاظ مباديه الأخرى ويستنتج من هذه
المقدمة انَّ التكليف والمرام الواقعي للمولى لتحققه خارجاً وانبعاث المكلف نحوه
مقدمات عديدة راجعة للمولى ، منها جعل الخطاب الواقعي ومنها جعل الخطاب الظاهري
بالاحتياط حين جهله بالخطاب الأول الواقعي ، وحينئذٍ ربما يفترض انَّ ذلك المرام
من ناحية المقدمة الأولى الراجعة إلى الخطاب الواقعي مراد ولكن من ناحية المقدمة
الثانية الراجعة إلى جعل خطاب ظاهري بإيجاب الاحتياط غير مطلوب بل مرخص في تركه
ولا يلزم من ذلك التضاد لتعدد الحيثيات.
وهذا الوجه أيضاً
لا محصل له فانه يرد عليه.
أولاً
: انَّ ما افترض في
المقدمة من انَّ لوجود ذي المقدمات حيثيات متعددة بعدد مقدماتها غير معقول في طرف
الوجود ، فانَّ الوجود البسيط مهما تكثرت مقدماته فليس له إلا باب واحد وهو باب
تحقق جميع تلك المقدمات نعم هناك تكثر وتحصيص بلحاظ أبواب عدم ذلك الشيء فقد يعدم
من ناحية عدم هذه المقدمة وقد يعدم من ناحية عدم مقدمته الأخرى فلا بدَّ من تصحيح
كلامه بما يرجع إلى هذا المعنى.
وثانياً
ـ انَّ إرادة سد باب عدم المرام من ناحية عدم الخطاب الواقعي
إرادة غيرية لا بدَّ من فرض إرادة قبلها ببرهان انَّ هذه إرادة سد باب عدم المرام
من ناحية عدم الخطاب الواقعي الّذي هو كاشف عن الإرادة فننقل الكلام إلى تلك
الإرادة المبرزة بالخطاب الواقعي فانْ أُجري فيها التحصيص المذكور أيضاً فكانت
غيرية كان لا بدَّ من إرادة قبلها تكون نفسية فلا بد من الانتهاء إلى إرادة كذلك
لاستحالة أَنْ تكون
__________________
إرادة سد باب
العدم من ناحية عدم الخطاب نفسية كما أشرنا وبلحاظ الإرادة النفسيّة يلزم التضاد
فانَّ مشكلة التضاد انما تكون بلحاظ إرادة الفعل النفسيّة كما هو واضح لا بلحاظ
الإرادة الغيرية لسد أبواب العدم من قبل المولى بجعل الخطابات.
وثالثاً
ـ وهو يرجع إلى الثاني روحاً ـ انَّ إرادة سد باب العدم من
ناحية عدم الخطاب الواقعي امّا أنْ تكون إرادة غيرية أي قبلها إرادة أو انها تمام
الإرادة في نفس المولى ، فعلى الأول عرفت محذور التضاد وعلى الثاني فهذا يتحقق
بمجرد جعل الخطاب الواقعي فانه به يكون عدم الامتثال من ناحية عدم جعل الخطاب
الواقعي ممتنعاً لا محالة فيكون تمام المراد نفس جعل الخطاب لا فعل المكلف.
ورابعاً
ـ انَّ لصدور المرام خارجاً باباً واحداً دائماً يسده المولى
لأنَّ المكلف اما أَنْ يعلم بالخطاب الواقعي أو لا فالمكلف العالم ليس له إلا باب
عدم جعل الخطاب الواقعي وامّا جعل الخطاب الظاهري فلا أثر له بالنسبة إليه والمكلف
الشاك ليس له أيضاً إلا باب عدم جعل الخطاب الظاهري بالاحتياط وامّا جعل الخطاب
الواقعي فعدمه لا يوجب عدم المرام فليس هناك بابان للعدم ليقال أحدهما سده تحت
الطلب دون الاخر.
والصحيح في كيفية
الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية يتوقف بيانه على رسم مقدمات جملة من نكاتها
قد تقدم البحث عنها عرضا وبالمناسبة إلا انَّ موضعها الرئيسي المقام فنقول :
المقدمة
الأولى ـ انَّ الغرض سواءً كان تكوينياً أو تشريعياً إذا أصبح مورده
معرضاً للاشتباه والتردد فانْ كان بدرجة بالغة من الأهمية بحيث لا يرضى صاحبه
بتفويته فسوف تتوسع دائرة محركيته فتكون أوسع من متعلق الغرض الواقعي ، فمثلاً لو
تعلق غرض تكويني بإكرام زيد وتردد بين عشرة وكان الغرض بمرتبة لا يرضى صاحبه
بفواته فلا محالة سوف يتحرك في دائرة أوسع فيكرم العشرة جميعاً لكي يحرز بلوغ غرضه
، وهذه التوسعة أمر وجداني لا ينبغي النزاع فيه وهي توسعة في المحركية وفاعلية
الغرض والإرادة لا في نفسهما بل الغرض والحب والإرادة باقية على موضوعها الواقعي
وهو إكرام زيد لا غيره إذ لا غرض نفسي في إكرام غيره ليتعلق شوق أو إرادة به ولا
هو مقدمة لوجود
المراد وهو إكرام زيد لتتعلق الإرادة الغيرية به. ومرجع ذلك إلى انَّ نفس احتمال
الانطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي كالقطع به لشدة أهميته
ونفس الشيء صادق في حق الغرض التشريعي الّذي يكون صاحب الغرض وهو المولى ومتعلق
غرضه فعل مأموره فانه إذا كان غرضه بدرجة عالية من الأهمية بحيث لا يرضى بفواته
حتى مع التردد والاشتباه فسوف يوسع دائرة محركية غرضه من دون أَنْ تتوسع دائرة نفس
الغرض بمبادئه وتكون توسعة دائرة المحركية هنا بمعنى جعل الخطابات تحفظ الغرض
الواقعي بأي لسان كان من الألسنة ، فانَّ ذلك لا يغير من جوهرها شيئاً فانَّ روحها
عبارة عن خطابات تبرز بها شدة اهتمام المولى بغرضه الواقعي بدرجة لا يرضى بفواته
مع التردد والاشتباه. وبهذا يكون منجزاً على العبد عقلاً ورافعاً لموضوع البراءة
والتأمين العقلي على القول به لأنه مشروط كما تقدم سابقاً بعدم إحراز أهمية غرض
المولى بالنحو المذكور.
وهذا يعني انَّ
الخطاب الموسع الّذي هو الخطاب الظاهري ليس على طبقه غرض في متعلقه ولكنه مع هذا
ليس بمعنى انَّ المصلحة في نفس جعله كما تقدم في بعض الوجوه السابقة بل هذه
الخطابات خطابات جدية وتحريكات مولوية حقيقة يراد بها التحفظ على الغرض الواقعي
المهم في نظر المولى ولهذا تكون رافعة لقاعدة البراءة العقلية على القول بها ،
وهذا بخلاف التصوير المشار إليه حيث قلنا ان مثله لا يكون منجزاً عقلاً ، لأنَّ
التنجيز لا يكون بأكثر من تنزيل العبد نفسه منزلة جارحة للمولى فإذا كان على هذا
التقدير هناك تحرّك من قبل المولى كان هناك تنجز وتحرك من قبل العبد وإلاّ فلا ،
وفي التصوير المذكور لا تحرّك منه لأنَّ المفروض تحقّق الغرض بنفس جعل الخطاب
بخلافه على هذا التصوير فانَّه قد أشرنا إلى كيفيّة توسّع دائرة المحركية
التكوينية في موارد الاشتباه والتردد.
وقد يتوهم : انَّ
الغرض إذا فرض تكوينياً فما معنى التوسع في محركيته من دون توسع في نفس الغرض
والإرادة مع انَّ الأفعال الصادرة خارجاً كلها صادرة بالاختيار لا بالقسر فلا بدَّ
من الالتزام بوجود إرادات متعددة بتعددها فيكون هناك توسع في الغرض والإرادة لا
محالة غاية الأمر انَّ هذه الإرادات لا تكون نفسية بل طريقية.
والجواب ـ إنْ
أُريد بالإرادة المعنى الفلسفي المعبر عنه بالشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات
فنحن لا نسلم انَّ الفعل الاختياري يصدر عن امر من هذا القبيل وانما يصدر عن إعمال
القدرة والسلطنة وما أكثر ما يصدر الفعل الاختياري من الإنسان وهو غير مشتاق إليه
أصلاً بل مبغوض لديه وإِنْ أُريد نفس صدور الفعل باختيار الإنسان فهذا هو معنى
توسع دائرة المحركية مع كون مصب الغرض والحب هو المطلوب الواقعي فحسب.
المقدمة
الثانية ـ انَّ التزاحم بين حكمين على ثلاثة أقسام :
١ ـ التزاحم
الملاكي وهو فيما إذا افترض وجود ملاكين في موضوع واحد أحدهما يقتضي محبوبيته
والأخرى يقتضي ما ينافيها ويضادها كالمبغوضية مثلاً فيقع التزاحم الملاكي بمعنى
انه يستحيل أَنْ يؤثر كل منهما في مقتضاهما لمكان التضاد بينهما ومن خصائص هذا
التزاحم انه لا يكون إِلاَّ في موضوع واحد وإِلاَّ لم يكن هناك اجتماع الضدين فلو
كان كل من الملاكين في موضوع أو حيثية تقييدية غير موضوع الاخر فلا محذور في
تأثيرهما معاً في إيجاد الحبّ والبغض. وكذلك من أحكام هذا التزاحم تأثير أقوى
المقتضيين بعد الكسر والانكسار في إيجاد مقتضاه وحينئذٍ يكون مقتضاه فعليّاً
ومقتضى الآخر ساقطاً مطلقاً.
٢ ـ التزاحم
الامتثالي ـ وهو ما إذا كان الملاكان في موضوعين وفعلين إِلا انه للتضاد بينهما لا
يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال فهذا التزاحم انما هو في مرحلة الامتثال
الناشئ من ضيق القدرة على الجمع والقدرة تكون دخيلة في التحريك والأمر ولا يشترط
وجودها في المحبوب أو المبغوض ومن هنا تكون مبادئ الحكم من الحب والبغض فعلية في
موارد هذا السنخ من التزاحم ما لم يفرض دخل القدرة في الملاك والغرض نفسه.
٣ ـ التزاحم
الحفظي ـ وذلك فيما إذا فرض عدم التزاحم الملاكي لتعدد الموضوع وعدم التزاحم
الامتثالي لإمكان الجمع بين مصب الغرضين والفعلين المطلوبين واقعاً وانما التزاحم
في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند الاشتباه واختلاط موارد أغراضه
الإلزامية والترخيصية أو الوجوبية والتحريمية فانَّ الغرض المولوي يقتضي
الحفظ المولوي له
في موارد التردد والاشتباه بتوسيع دائرة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض
فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين
والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما
معاً فلا محالة يختار المولى أهمهما في هذا المقام. ومن هنا يعرف انَّ هذا التزاحم
بين الغرضين والملاكين ليس بلحاظ تأثيرهما في إيجاد الحب والبغض لأنهما متعلقان
بموضوعين واقعيين متعددين ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النّظر
عن حالة الاشتباه والتردد لأنهما بوجوديهما الواقعيين مما يمكن الجمع بينهما بل
بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما
بالنحو المناسب له.
المقدمة
الثالثة ـ انَّ الترخيص على قسمين فتارة يكون ناشئاً من عدم المقتضي
في الإلزام ، وأخرى يكون ناشئاً من المقتضي في الإباحة وإطلاق العنان ، بمعنى انَّ
هناك مصلحة في أَنْ يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه وإِنْ كان كل من الفعل
والترك خالياً عن مصلحة. وحينئذٍ يقع السؤال عن هذا الأخير وانه هل يعقل التزاحم
بينه وبين مقتضي الإلزام؟ وبأي قسم من اقسامه؟
والجواب : انه
يعقل التزاحم الملاكي والحفظي بينه وبين مقتضي الإلزام دون التزاحم الامتثالي إذ
لا امتثال للترخيص ليقع التزاحم بينه وبين الإلزام.
وعلى ضوء هذه
المقدمات الثلاث نستخلص النتيجة المرجوة في المقام فنقول : انه تارة يكون الحكم
الظاهري إلزامياً والواقعي ترخيصياً كما لو أوجب المولى الاحتياط في قسم من
الشبهات بأي لسان كان وأخرى يفرض العكس وفي كليهما لا محذور.
امّا في القسم
الأول فلأنَّ مرجعه إلى انَّ المولى حينما يشتبه على عبيده أحكامه الإلزامية ولا
يوجد طريق لرفع هذا الاشتباه له أو لا مصلحة في ذلك فلا محالة يحفظ أغراضه
الإلزامية الواقعية بتوسعة دائرة المحركية لها فيجعل حكماً ظاهرياً إلزامياً روحه
عبارة عن إيجاب الاحتياط نتيجة شدة اهتمامه بأغراضه الواقعية الإلزامية وعدم رضاه
بفواته حتى في حالات الشك والاشتباه بالمباحات الواقعية من دون أَنْ يلزم من ذلك
اجتماع الضدين في مورد المباح الواقعي ولا المثلين في مورد الحرمة الواقعية ، لما
قلناه في
المقدمة الأولى من
انه لا توسعة في غرضية الغرض بمبادئه بل متعلقه هو الأمر الواقعي وليست هذه
الخطابات إِلاَّ توسعة في المحركية لذلك الغرض المنصب على متعلقه الواقعي ، كما
انَّ تقديم الغرض الإلزامي لأهميته لا يعني زوال الأغراض الواقعية الترخيصية أو
غيرها المخالفة مع الغرض الإلزامي الّذي رجحه المولى ذاتاً وانما يعني زوال حفظها
التشريعي بتوسيع دائرة محركيتها ظاهراً لعدم أهميتها في قبال الأغراض الإلزامية
المرجَّحة كما تقدم في المقدمة الثانية فلا منافاة بين هذه التوسعة في المحركية
والأغراض الواقعية في مورد المخالفة.
واما في القسم
الثاني فلعين ما تقدم في القسم الأول بإضافة نكتة انَّ الأحكام الترخيصية الواقعية
في هذا القسم لا بدَّ وأَنْ تكون عن مقتضٍ للترخيص وأَنْ يكون العبد مطلق العنان
من قبل مولاه ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام فانَّ الحكم الترخيص الناشئ عن
عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أَنْ يزاحم مقتضي الإلزام ، فدليل جعل الحكم الظاهري
الترخيصي بنفسه يدل على وجود أغراض ترخيصية اقتضائية من هذا القبيل. وكذلك الحال
فيما إذا جعل حكم ظاهري إلزاميّ في مورد حكم واقعي إلزاميّ مخالف.
وقد ظهر من مجموع
ما تقدم معنى قولنا انَّ الغرض إذا كان بدرجة من الأهمية فيستدعي من المولى حفظه
عند الاشتباه بتوسيع دائرة محركيته فانَّ درجة الأهمية هذه يراد بها ما إذا كان
حفظه التشرعي أهم من حفظ الغرض الاخر.
ومن هنا يعرف
بأنَّ هناك فعليتين للغرض الواقعي ، فعلية بقطع النّظر عن التزاحم الحفظي وفي هذه
الفعلية يكون الغرض الواقعي بمبادئه من الحب والبغض والإرادة فضلاً عن الملاك
محفوظاً في متعلقه الواقعي ، وفعلية أخرى بلحاظ التزاحم الحفظي وتعني فعلية المحركية
لأحد الغرضين في موارد الاشتباه والتزاحم الناشئ منه التي لا تكون إلاّ لأهم
الغرضين الفعليين بالفعلية الأولى. وغاية ما يدل عليه دليل القائل ببطلان التصويب
هو اشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية الفعلية بالمعنى الأول أي اشتراكهما
في المصالح الواقعية والحب والإرادة فضلاً عن الجعل والاعتبار.
ثم انَّ ما ذكره
صاحب الكفاية ( قده ) من وجود فعليتين للحكم الواقعي يمكن أَنْ يراد به هذا المعنى
وإِنْ كان تعبيره قاصراً عنه.
وهذا الّذي ذكرناه
في وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية واضح جداً في فرض انسداد باب العلم
واما إذا فرضنا انفتاح بابه وإمكان سعي المكلف للوصول العلمي إلى الواقع فلا بدَّ
لتصوير وقوع التزاحم الحفظي حينئذٍ من فرض عناية زائدة هي أَنْ يفرض وجود مصلحة في
أَنْ يكون العبد مطلق العنان من ناحية السعي والتعلم فيحكم بالترخيص من دون السعي
حفاظاً على مصلحة إطلاق عنان العبد من ناحيته.
ثم انه يمكن أَنْ
يستشكل على هذا الوجه للجمع بأحد إشكالين :
الأول
ـ انَّ الخطابات الواقعية انما تصدر بداعي المحركية والباعثية
وليست مجرد ملاكات وأغراض أو حب وبغض فالعلّة الغائبة من الأحكام انما هو الانبعاث
والتحرك من المكلفين ، وحينئذٍ يقال بأنَّ جعل الحكم الظاهري المخالف يكون نقضاً
لهذا الغرض من هذه الناحية وإِنْ لم يكن نقضاً للغرض من ناحية مبادئ الحكم.
وإِنْ شئت قلت :
انَّ الحكم الواقعي لا يراد منه مجرد الحب والبغض بل ذلك زائداً المحركية
والباعثية فالخطاب الواقعي بمعنى الحب والبغض المحركين لا يمكن أَنْ يجتمع مع
الحكم الظاهري المخالف له.
والجواب عليه ـ انَّ
داعي المحركية والباعثية له أحد معان أربعة :
١ ـ داعي المحركية
الفعلية. وهذا لا يحتمل أَنْ يكون دخيلاً في حقيقة الحكم الواقعي لأنه لا يناسب مع
توجيه الخطاب إلى العامي الّذي يعلم بأنه لا يتحرك بالفعل خارجاً فلو كان الحكم
كذلك لزم تخصيصه بالمطيع وهو واضح الفساد.
٢ ـ داعي المحركية
الفعلية بضم قانون العبودية أي تسجيل الانبعاث عقلاً على العبد كيف ما اتفق. وهذا
أيضاً غير محتمل لاقتضائه اختصاص الخطابات بغير موارد العذر العقلي كموارد قاعدة
قبح العقاب بلا بيان لو قيل به أو القطع بالخلاف أو الغفلة والنسيان ، إذ في هذه
الموارد لا يعقل تسجيل الانبعاث على العبد مع انه لا إشكال في إطلاق الخطابات
لجميع هذه الموارد عندنا ولغير الأخيرين عند الجميع مما يعني انَ
الداعي العقلائي
من الأحكام أوسع من المقدار المذكور.
٣ ـ داعي المحركية
من قبل المولى أي إيجاد تمام ما يكون بيد المولى في مقام تحريك العبد من التصدي
المولوي لتحصيل مرامه بقطع النّظر عن التأمينات والاعذار العقلية.
فالداعي هو أَنْ
لا يكون هناك قصور في الحجة من قبل المولى.
وبناءً على هذا المعنى
يكون جعل الحكم الظاهري نقضاً للغرض لأنَّ معناه القصور في المحركية من قبل المولى
في موارد الحكم الظاهري وإِنْ كان محفوظاً وغير قاصر في موارد التأمينات العقلية
من دون حكم ظاهري مولوي.
٤ ـ إِلاّ أنَّ
الصحيح بطلان هذه الفرضية أيضا لأنَّ أدلة الأحكام والخطابات الواقعية الأولية لا
يستفاد منها أكثر من داعي التحريك والباعثية بلحاظ صلاحية نفس ذلك الخطاب وبقطع
النّظر عن العوامل الطارئة من التزاحمات وجعل التأمينات الشرعية ، وهو الّذي عبرنا
عنه بالفعلية الأولى. وهذا هو الاحتمال الرابع لداعي المحركية والباعثية وهو محفوظ
حتى مع جعل الحكم الظاهري على الخلاف.
الثاني
ـ اننا حينما نصور ثبوت الأحكام الواقعية في مورد الحكم
الظاهري لا بدَّ وأَنْ نصورها بنحو تكون صالحة للدخول في العهدة بحيث تكون متنجزة
في نفسها بحكم العقل لا مجرد ملاك ومصلحة من دون صلاحية الدخول في العهدة عقلاً في
نفسه فانَّ مثل هذا لا يكون حكماً مولوياً وفي المقام وإِنْ استطعنا تصوير انحفاظ
ذات الأغراض الواقعية إِلاّ انها باعتبار كونها مزاحمة بالأغراض الترخيصية الأهم
أو المساوية معها بحسب الغرض فيكون من موارد الكسر والانكسار بين الأغراض الواقعية
المتزاحمة ، وبعد ترجيح جانب الغرض الترخيصي لا يكون الغرض الإلزامي حكماً بل مجرد
ملاك ومصلحة غير قابلة للتنجز والدخول في العهدة عقلاً فلم يثبت اشتراك العالم
والجاهل في الحكم حقيقة بل في مجرد الغرض والمصلحة وهذا هو ما تقدم الإشكال عليه
في الوجه الّذي ذكرناه عن الكفاية.
فانْ قلت : كيف
والمفروض انَّ الأغراض الواقعية الإلزامية إذا وصلت إلى المكلف فسوف تتنجز عليه
فهي صالحة للمنجزية.
قلت : انها انما
تتنجز في هذه الحالة لأنه بالعلم بها تخرج عن باب التزاحم ويزول
مزاحمها فتتبدل
موضوعاً وهذا واضح.
والجواب : انَّ
هذا خلط بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحفظي وافتراض انَّ الأغراض اللزومية
مبتلاة بالمزاحمة مع الأغراض الترخيصية بمعنى وجود غرض في إطلاق عنان المكلف في
نفسه ولو بحكم العقل بينما المدعى ومزاحمتها مع غرض ترخيصي بمعنى إطلاق عنانه من
قبل المولى بحيث لا يتحقق لو فرض كونه مرخصاً بحكم عقله نتيجة جهله أو عذر عقلي
اخر لأنَّ مثل هذا الترخيص غير مستند إلى المولى والغرض الترخيصي انما هو في إطلاق
عنانه من قبل مولاه بحيث يقال انَّ شريعته سمحاء سهلة مثلاً ومثل هذا الغرض
الترخيصي لا يمكن حفظه إلاّ من قبل المولى نفسه بمعنى انَّه إذا لم يجعل الترخيص
وإطلاق العنان ولو لتساوي الغرضين في نظره فالعبد لا يمكنه أَنْ يحقق هذا الغرض
بعد ذلك مهما كان وضعه ويكون الغرض اللزومي متنجزاً لا محالة إذ في تفويته حينئذٍ
فوات الغرضين معاً فلا يقاس بموارد مزاحمة الغرض اللزومي مع غرض آخر ترخيصي أو
تحريمي في نفس الفعل يتحقق بفعل العبد الّذي هو من موارد التزاحم الملاكي.
لا يقال : هذا
الترخيص وإطلاق العنان يكون على هذا التقرير من سنخ الحكم المجعول لمصلحة في نفس
جعله وقد تقدم الإشكال في معقوليته.
فانه يقال : ليس
الغرض وجود مصلحة في نفس جعل الترخيص من قبل المولى بل في كون المكلف مرخصاً ومطلق
العنان بالحمل الشائع المستند إلى جعل المولى وتشريعه لا إلى حكم عقله فالمصلحة في
واقع إطلاق العنان لا في مجرد جعله وهذا واضح.
ثم انَّ الحكم
الظاهري بالتفسير المذكور كما يعقل في باب اشتباه الأحكام والأغراض الإلزامية
للمولى كذلك يعقل في اشتباه الأغراض الواقعية غير الإلزامية كالاستحباب والكراهة
فلو دار الأمر بين أَنْ يكون شيء مستحباً أو مباحاً بالمعنى الأخص أو مكروهاً أو
مباحاً أمكن جعل حكم ظاهري يحفظ أحد الغرضين الواقعيين الأهم فقد يرجع الغرض
الإباحتي بالمعنى الأخص فيحكم بالإباحة ظاهراً وقد يرجح الغرض الاستحبابي أو
الكراهتي فيحكم بالاستحباب أو الكراهة ظاهراً. ومرجع
الأول نفي اشتغال
عهدة المكلف من قبل المولى بالمقدار المناسب والمعقول للأغراض غير اللزومية من
إشغال العهدة ومرجع الثاني إلى إدخال ذلك الغرض غير اللزومي في العهدة بالنحو المناسب
له.
وبهذا ظهر وجه
اندفاع القول بأنَّ جعل الحكم الظاهري في موارد اشتباه الأغراض غير اللزومية غير
معقول لأنه إِنْ أُريد به دفع العقاب فهو مقطوع العدم وإِنْ أُريد به نفي حسن
الاحتياط فهو مقطوع الثبوت على كل حال. فانَّ هذا خلط بين نفي الاحتياط العقلي
وبين نفي إشغال الذّمّة من قبل المولى المقتضي لتوقع صدور الفعل من عبده بالمقدار
المناسب مع مثل هذه الأغراض المولوية الثابتة في موارد العلم بها.
ثم انَّ هذا الوجه
للجمع واضح بناءً على الطريقية في حقيقة الأحكام الظاهرية بأن يفترض خلوها عن
مبادئ واقعية غير الأغراض الواقعية.
وامّا على السببية
والموضوعية التي تفترض وجود مبادئ لنفس هذه الأحكام الظاهرية فلا مخلص عن شبهة
وقوع التضاد بين مباديها ومبادئ الأحكام الواقعية.
وهناك محاولة
لتخريج الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية حتى على السببية والموضوعية مبتنية
على الاستفادة من بعض ملاكات القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وهو المسلك القائل
بكفاية تعدد العنوان لدفع غائلة الاجتماع لكون مصبّ الأحكام انَّما هو العناوين في
عالم الذهن بما هي حاكية عن الخارج لا المعنونات فمعروض المصلحة والغرض وإِنْ كان
هو المعنون إِلاّ انَّ معروض الحكم هو العنوان بالحمل الأوّلي الّذي يرى به كأنَّه
الخارج وهو متعدد واتّصاف المعنون الخارجي بالمطلوبية أو المحبوبيّة والمبغوضية
انَّما هو بالعرض والعناية لا بالحقيقة ، وعلى هذا فيجوز اجتماع الأمر والنهي على
موجود واحد خارجي بعنوانين كما إذا تعلّق الأمر بالجنس والنهي بالفصل رغم انَّ
التركيب بينهما في الخارج اتّحادي.
وعلى ضوء هذا
المسلك في بحث الاجتماع نذكر المحاولة المذكورة بأحد تقريبين :
التقريب
الأول ـ انَّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري بناءً على السببية
ليست قائمة في نفس الفعل بعنوانه الأولي المتعلق للحكم الواقعي ومبادئه كصلاة
الجمعة مثلاً بل قائمة بعنوان آخر كعنوان اتباع الأمارة وسلوكها فلا يلزم اجتماع
الحكمين الضدين
في عنوان واحد
وامّا التلازم والتزاحم بين الملاكين للتلازم بين العنوانين خارجاً بحسب الفرض
فانما يكون بين التكليفين الواصلين لا بينهما بوجوديهما الواقعيين فيمكن أَنْ تكون
صلاة الجمعة حراماً مثلاً واقعاً وتقوم الأمارة على وجوبها فيصبح سلوكها واجباً
ظاهراً ولا منافاة بينهما بعد فرض عدم وصولهما معاً لتقيد الحكم الظاهري بعدم وصول
الواقعي.
وهذا التقريب لئن
تم في مثل موارد كون الحكم الظاهري إلزامياً كالحكم الواقعي المحتمل فهو لا يتم في
مورد الحكم الظاهري الترخيصي كما إذا فرض قيام الأمارة على الترخيص والإباحة لأنَّ
مصب هذه الإباحة الظاهرية وموضوعها إِنْ كان نفس العنوان المتعلق به الحكم الواقعي
فهو ممتنع للتضاد بحسب الغرض وإِنْ كان عنواناً اخر فجعل الإباحة فيه لا يمكن أَنْ
يزاحم الحكم الواقعي الإلزامي لأنَّ الإلزام لا يمكن أَنْ يزاحمه الترخيص لكي يؤمن
عنه عقلاً فجعل هذه الإباحة ليس بأكثر من جعل الإباحة الواقعية على عنوان ملازم مع
الواجب الواقعي الّذي لا يكون مزاحماً بوجه مع اللزوم ، فجعل مثل هذه الإباحة لا
يستلزم تأميناً عن الوجوب الواقعي كما في جعل الحرمة الظاهرية من قبله المستلزم
لذلك عقلاً لكونه منعاً من قبل المولى.
التقريب
الثاني ـ أَنْ نتصور الحكم الظاهري بمبادئه الحقيقية في نفس العنوان
الأولي المتعلق به الحكم الواقعي ومع ذلك لا يلزم محذور التضاد. وقد أفاد المحقق
العراقي ( قده ) في تصوير ذلك بياناً غريباً ويمكن توضيحه من خلال النقاط التالية
:
١ ـ انَّ الغرض
بحسب الخارج وإِنْ كان دائماً في طول معروضه ومتأخراً عنه رتبة إِلاّ انه بحسب
عالم الذهن واللحاظ يمكن أَنْ يلحظ كذلك أيضاً فيكون على وزان الخارج ومطابقاً له
، ويمكن أَنْ يلحظ الموصوف متأخراً عن وصفه وفي طوله وذلك بالرجوع إلى ما لاحظه
أَولاً من المقيد فيلحظه مرة أخرى في طول تقيده بصفته وهذا شيء من شأن الذهن فقط
باعتبار قدرته على الرجوع ثانية إلى ما لاحظه أولا. ومثل هذا المعروض ، أي الذات
الملحوظة يكون متأخراً عن الذات الملحوظة باللحاظ الأول فتكون هناك ذاتان ملحوظتان
للذهن بحسب النّظر التصوري.
٢ ـ انَّ الحكم
إذا كان متعلقاً بالموصوف على نحو التقييد في النسبة الناقصة فلا
يكون ملحوظاً
إِلاَّ باللحاظ الأول أي في المرتبة السابقة على وصفه لعدم رجوع الذهن إلى الذات
الموصوفة مرة أخرى. وامّا إذا كان متعلقاً به على نحو الشرطية والنسبة التامة بأنْ
قيل مثلاً إذا كان الخمر مشكوك الحرمة جاز شربه فهنا قد أخذ في موضوع الحكم الذات
باللحاظ الثاني المتأخر عن وصفه.
٣ ـ انَّ الأحكام
الظاهرية إذا افترضناها مجعولة على نحو القضية الشرطية كما هو المستفاد من أدلتها
كان معروضها الذات الملحوظة في المرتبة الثانية المتأخرة عن الوصف والموصوف
الملحوظتين في موضوع الأحكام الواقعية ، وأحد الحكمين لا يمكن أنْ يشمل الذات
المعروضة للحكم الاخر فلا تضاد بين الحكمين لتعدد مركز كل منهما في الذهن الّذي هو
عالم عروض الحكم وإِنْ كان مصداقهما واحداً في الخارج.
وهذا التقريب غير
تام كما هو واضح.
فانه يرد عليه :
نقضا : بأنه لو تم
أمكن الحكم باجتماع الحكمين الواقعيين المختلفين وذلك بأخذ اتصاف الموضوع بأحدهما
بنحو الشرطية في موضوع الاخر فيقال إذا كان الخمر مباحاً فهو حرام وإذا كانت صلاة
الجمعة واجبة فهي محرمة ولا محذور لتعدد الذات الملحوظة معروضة لكل من الحكمين مع
وضوح بطلان ذلك.
وحلاًّ ـ انَّ
التغاير المذكور مجرد تغاير في كيفية اللحاظ دون تغاير في الملحوظ بذلك اللحاظ
نظير التغاير بين الإنسان والحيوان الناطق أي الحد مع المحدود المتغايران بالإجمال
والتفصيل في الصورة الذهنية اللحاظية عقلاً مع وحدةِ الملحوظ بهما ذاتاً ، وذلك
ببرهان انَّ الطولية المذكورة في اللحاظ بالنحو المذكور لو كانت قيداً في الملحوظ
لاستحال انطباقه على الخارج لأنَّ الذات التي تكون في طول وصفه يستحيل أَنْ تتحقق
في الخارج فهذا القيد من شئون اللحاظ فحسب ولا إشكال انَّ هذا المقدار من التغاير
لا يكفي لدفع غائلة التضاد بل لا بدَّ من تغاير الملحوظين بالذات أيضاً ولهذا لا
يقبل مثل المحقق العراقي أَنْ يتعلق الوجوب بإكرام الإنسان والحرمة بإكرام الحيوان
الناطق.
وهكذا يتضح بطلان
هذا التقريب أيضاً وغرابته ، بل يكفي في غرابته وضوح انَ
إمكان الحكم
الظاهري لا يتأثر سلباً وإيجاباً بكون صياغته بنحو القضية الشرطية أو الوصفية.
وقد اتضح انه
بناءً على الموضوعية لا مخلص عن محذور التضاد.
ومن مجموع ما تقدم
يتضح وجه اندفاع شبهة نقض الغرض من إشكالات العقل النظريّ ، فانَّ الحكم الظاهري
وإِنْ كان نقضاً للغرض الواقعي في مورد الخطإ إِلاَّ انه نقض لا ضعف الغرضين
حفاظاً على أقواهما في مورد التزاحم ومثله ليس بمستحيل ولا قبيح بل هو المطابق مع
حكمة المولى.
ثم انَّ هناك طرازاً
آخر من الإشكال على الأحكام الظاهرية لم يتعرض له الاعلام وهو الإشكال في معقولية
انحفاظ نفس الأحكام الواقعية في موارد الجهل بقطع النّظر عن جعل الحكم الظاهري
المضاد أو المماثل فيها أي الإشكال في معقولية نفس الحكم الواقعي لا في كيفية
الجمع بينه وبين الظاهري ، ويمكن تقريبه بإحدى صيغتين :
الصيغة
الأولى ـ انَّ انحفاظ الحكم
الواقعي واشتراك العالم والجاهل فيه غير معقول في بعض الموارد على الأقل كموارد
القطع بعدم ذلك الحكم الواقعي لتقوم الحكم الواقعي بالمحركية والباعثية وهذه لو
كانت معقولة في موارد احتمال الحكم الواقعي حيث يحسن الاحتياط فهي غير معقولة في
موارد القطع بعدمه فثبوته واقعاً لا يكون قابلاً للمحركية ولو الاحتمالية الناقصة.
الصيغة
الثانية ـ ما إذا فرض القطع
وجداناً أو تعبداً بحرمة صلاة الجمعة فانه حينئذٍ لا يعقل ثبوته في الواقع لو كان
لا من جهة محذور اللغوية وعدم المحركية بل لكونه تكليفاً بغير مقدور ، لأنَّ هذا
الخطاب إِنْ كان امراً بإتيان الجمعة مع التحفظ على الوظيفة المنجزة على العبد كان
من الأمر بالنقيضين وهو مستحيل لأنه يعتقد حرمتها بحسب الفرض ، وإِنْ كان يقتضي
إتيانها بدلاً عن وظيفته المنجزة عليه فهو غير مقدور مولوياً وإِنْ كان مقدوراً
تكويناً لأنه يلزم عليه عقلاً بقانون العبودية ترك صلاة الجمعة بحسب الفرض بل يمكن
تعميم إشكال عدم القدرة في خصوص العبادات فيما إذا قطع بعدم المطلوبية والمشروعية
ولو لم يقطع بالحرمة الذاتيّة لأنَ
الإتيان بالفعل
بقصد القربة غير مقدور حينئذٍ تكويناً إِلاَّ على وجه التشريع المحرم وهو مناف
للقربة أيضاً.
ويمكن تصوير نفس
المحذورين في الصيغتين في بعض حالات الشك في الحكم الواقعي أيضاً وذلك فيما إذا
فرض دوران الأمر بين المحذورين بأن احتمل المكلف الحرمة بنفس درجة احتماله للوجوب
فانَّ ثبوت الحكم الواقعي كما إذا كان هو الوجوب غير معقول لأنه يستحيل محركيته في
هذه الحالة حتى بالتحريك الناقص وهذا محذور الصيغة الأولى وكذلك يستحيل امتثاله
إذا كان عبادياً وهذا محذور الصيغة الثانية.
والجواب عن
الإشكال امّا بصيغته الأولى فاستحالة المحركية يمكن أَنْ يراد بها أحد أمور :
١ ـ انَّ الحكم
الواقعي يستحيل ثبوته لأن حقيقة الحكم وروحه المحركية من قبل المولى فإذا استحال
كان الحكم مستحيلاً.
وجوابه : انَّ
التحريك من قبل المولى يتوقف على حيثيتين ، إحداهما تحت سلطان المولى وهي إشغال
ذمة المكلف بالفعل بجعل خطاب يبرز فيه مبادئ الحكم بداعي إلقائه على عهدة العبد
مهما كانت صياغته القانونية الاعتبارية أو اللفظية التعبيرية.
إِلاَّ انَّ هذه
الحيثية لا تكفي وحدها للمحركية بل لا بدَّ من ضم حيثية ثانية إليها وهي وصول ذلك
الاشغال للعهدة إلى المكلف بنحو يحكم العقل بتنجزه وقبح مخالفته وهذه الحيثية ليست
تحت سلطان المولى بما هو مولى. وواضح انَّ ما هو مفاد الخطابات الواقعية والتي
يدعي المخطئة انحفاظها واشتراكها بين العالمين والجاهلين انما هو الحيثية الأولى
فقط لا الثانية فانها أجنبية عن مفاد الخطابات فضلاً عن كونه حقيقة الحكم وهذا
المقدار أعني الحيثية الأولى محفوظة حتى في موارد القطع بالعدم. وإِنْ قيل بأنَّ
هذا لا نسميه حكماً فذاك نقاش في اللغة وإِلاَّ فروح النزاع بين المخطئة والمصوبة
راجعة إلى ثبوت إطلاق مفاد الخطابات الواقعية وعدمه ومفادها ليس إِلاَّ التحريك
بمقدار الحيثية الأولى كما هو واضح.
٢ ـ انَّ الخطابات
الواقعية من جملة مدلولاتها العرفية التصديقية انها صادرة بداعي
المحركية
والباعثية فلا يعقل إطلاق مفادها لمن لا يعقل في حقه المحركية والباعثية.
والجواب : انَّ
الداعي المذكور وإِنْ كنا نسلم كونه مدلولاً عرفياً تصديقياً للخطابات أيضاً إلا
انَّ المدلول انما هو المحركية بمقدار ما يكون تحت سلطان المولى لا بالمقدار
الخارج عنه والأكثر منه أي بمقدار الحيثية الأولى فقط وهي معقولة في موارد القطع
بالعدم كما أشرنا فيكون إطلاق الخطابات الواقعية معقولة أيضاً. ومرجع ذلك إلى انَّ
كل خطاب مجعول بداعي التحريك والتنجز لو وصل إلى العبد.
٣ ـ أَنْ يراد
دعوى لغوية الإطلاق المذكور لأنَّ المحركية بمقدار الحيثية الأولى من دون ضمن
الحيثية الثانية أي أثر لها؟.
والجواب : انَّ
اللغوية انما تكون لو كان المولى قد تصدى لجعل الخطاب الواقعي في خصوص هذا المورد
لا ما إذا كان بالإطلاق الّذي هو أخف مئونة من التقييد.
هذا مضافاً إلى
إمكان فرض المصلحة في نفس إطلاق الخطاب بعد فرض تمامية الملاك في المتعلق بأنْ
يكون إطلاق الخطاب فيه مصلحة صياغية قانونية لا يمكن توفيرها وتنظيم تمام محصولها
وآثارها لو جعلت الخطابات الواقعية مقيدة. وامّا دعوى كفاية ترتب الأثر الشرعي على
الإطلاق بلحاظ الإعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف في دفع اللغوية فهو يرجع إلى
الجانب الصياغي كما يظهر بالتأمّل.
وبهذا يتضح الجواب
على الصيغة الثانية للإشكال من لزوم التكليف بغير المقدور فانَّ التكليف حينما يكون
محركاً يكون تكليفاً بالمقدور وذلك حينما تتوفر الحيثية وهي وصولها إلى المكلف
وكونه من دونها غير مقدور لا يضر به لأنه ليس محركاً بالفعل ليكون تحريكاً نحو غير
المقدور فانَّ غير المعقول انما هو التكليف بغير المقدور حينما يراد المحركية
وفاعلية التكليف وذلك حين وصوله لا أكثر من هذا المقدار فانَّ العقل لا يحكم بأكثر
من ذلك كما هو واضح.
هذا كله حال
الإشكالات النظرية أعني بلحاظ العقل النظريّ في مسألة الجمع بين الحكمين الواقعي
والظاهري.
وامّا الإشكال
بلحاظ أحكام العقل العملي وهو إشكال لزوم الإلقاء في المفسدة
أو تفويت المصلحة
الملزمة القبيحين عقلاً فقد تصدّى لدفعه المحقّقون فبرزت في المقام إجابتان عليه :
الإجابة
الأولى ـ ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم ( قده ) بالبناء على مبنى
السببية بدعوى : انَّ التفويت المذكور أو الإلقاء في المفسدة متدارك ومعه لا تفويت
حقيقة فلا موضوع للقبح. وحيث كان هذا الوجه مبنياً على الموضوعية فاعترف بلزوم
الإشكال بناءً على الطريقية في جعل الأحكام الظاهرية.
الإجابة
الثانية ـ الالتزام بوقوع التفويت كما هو بناءً على الطريقية إلا انه
لا قبح فيه إذا كانت هناك مصلحة تقتضي التعبّد بذلك الحكم الظاهري أي إذا كانت
هناك مصلحة في نفس الجعل نظير التفويت الثابت في موارد التقيّة وإِنْ كان فعل
المكلّف فارغاً من المصلحة.
والفرق بين
الإجابتين ، انَّ الأولى ترفع موضوع القبح العقلي وهو التفويت وذلك بجعل المصلحة
المتدارك بها مصلحة الواقع في الفعل ولو بعنوانه الثانوي بينما الثانية تعترف بأصل
التفويت ولكنها ترى عدم قبح فيه إذا كانت المصلحة في نفس جعله ، ومن هنا كانت
الإجابة الأولى معرضة للاستشكال عليها بلزوم التصويب وانقلاب الوظيفة الواقعية من
الفعل الواقعي إلى ما تعلق به الحكم الظاهري من فعل المكلف وهذا بخلاف الإجابة
الثانية حيث يبقى فعل المكلف في موارد خطا الحكم الظاهري خالياً عن المصلحة فلا
انقلاب في متعلق الحكم الواقعي ومصلحته.
وتعليقنا على
الإجابة الأولى ـ انَّ المحصل من مجموع كلمات القوم في المقام تقسيم السببية إلى
أشعرية ومعتزلية وإمامية وقد ربطوا الإجابة بالسببية الإمامية.
وتوضيح ذلك : انَّ
السببية الأشعرية يراد بها أَنْ يكون قيام الأمارة على الحكم موجباً لثبوت ذلك
الحكم نفياً وإثباتاً وهذا يكون له أحد نحوين :
١ ـ أَنْ لا يكون
هناك حكم واقعي بقطع النّظر عن الأمارة بل المجعول انَّ كل ما أدت إليه الأمارة
فهو حكم الله ، وهذا باطل لكونه غير معقول إذ لا يعقل حينئذٍ فرض الأمارية
والكاشفية عن الحكم ولا يجدي في دفع الاستحالة معقولية أخذ العلم بالحكم إذا أُريد
به الجعل في موضوع مجعوله لأنَّ تمام الجعل الواقعي بحسب الفرض
انما هو انَّ كل
ما أدت إليه الأمارة فهو حكمي ونسبة هذا الجعل إلى وجوب الجمعة أو الظهر على حد
واحد فكيف تكون الأمارة أمارة على وجوب الجمعة دون الظهر أو بالعكس. وإِنْ شئت قلت
: انَّ مثل هذا الجعل مفرغ لا يعقل إِلاَّ مع افتراض جعول واقعية قبله لتكون
الأمارة أمارة على حكم من الأحكام واما إذا كان تمام ما هو ثابت واقعاً هذا الجعل
فسوف يستحيل أمارية أمارة حينئذٍ.
لا يقال : لنفرض
انَّ هناك جعول عديدة بعدد ما يتحمله كل موضوع من الأحكام الشرعية فهناك جعل لوجوب
الجمعة لو علم به ولوجوب الظهر لو علم به ولحرمة الفقاع لمن علم به ولإباحته لمن
علم به وهكذا بناءً على ما تقدم من صحة أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم.
فانه يقال : انَّ
لازم ذلك ثبوت الأحكام الخمسة على كل موضوع بعد ثبوت التصويب والسببية بهذا المعنى
لأنه يمكن ان يعلم بتمام تلك الجعول وهو مستحيل.
اذن فهذا النحو من
التصويب يتهافت مع أصل فرض الأمارية.
٢ ـ أَنْ تكون
أحكام واقعية لها متعلقات معينة ثابتة واقعاً ولكن يكون قيام الأمارة عليها قيداً
في ثبوتها ، وفرقه عن الأول انَّه لو لم تؤد الأمارة إلى الحكم الواقعي المقيد
بالعلم به فلا حكم حينئذٍ امَّا الواقعي المجعول فلعدم حصول قيده وامَّا ما أدّاه
الأمارة فلعدم جعله.
وهذا الوجه لا
استحالة فيه بعد فرض معقولية أخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع شخصه إِلاَّ
انه باطل بالضرورة للزوم خلو الواقعة في المورد المشار إليه من الحكم الواقعي
رأساً.
وامّا السببية
المعتزلية فيراد بها أنْ تكون الأحكام الواقعية ثابتة على موضوعاتها وملاكاتها
إِلاَّ انها مقيدة بعدم وصول خلافها ، وفرق هذا عن السببية الأشعرية بالنحو الأول
واضح وامّا النحو الثاني فيظهر فيما لو فرض إمكان أخذ عدم العلم بالخلاف في موضوع
شخص ذلك الحكم. ولكنه باطل أيضاً للزومه خلو الواقعة عن الحكم كما تقدم وإِنْ كانت
دائرة الخلو بناءً على هذه السببية أضيق منها على السببية الأشعرية.
واما السببية
الإمامية فبافتراض مصلحة في عنوان سلوك الأمارة والجري على طبقها ما دامت أمارة
وفي حدود الجري عليها فمصب المصلحة ليس هو المؤدى بل عنوان السلوك الّذي هو عنوان
ثانوي ينطبق على فعل المكلف وينتزع عنه ولذلك تقدر هذه المصلحة بقدر هذا العنوان
أي يتدارك بها ما يفوت من المكلف بسبب سلوك الأمارة لا أكثر من ذلك فلا يمكن أَن
يتدارك بها المقدار الباقي من مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف كالإعادة في الوقت
والقضاء خارجه لأنَّ الفائت بالسلوك هو مصلحة الفضيلة مثلاً أو مصلحة أصل الوقت
واما الزائد فيبقى على حاله فيجب تحصيله.
وقد أفاد الشيخ (
قده ) انَّ هذا الوجه يجمع بين ميزتين حل إشكال قبح التفويت حيث يضمن للمكلف تدارك
الفائت منه وعدم لزوم التصويب وتواليه الفاسدة.
وقد اعترض عليه
السيد الأستاذ وغيره بأنَّ التصويب لا فرق فيه بين انقلاب الواقع من الوجوب
التعيني بالجمعة مثلاً إلى الوجوب التعييني بالظهر أو انقلابه من التعييني إلى
التخييري فعدم انحفاظ الواقع بحده تصويب على كل حال وفي المقام مع استمرار الحجة
إلى اخر الوقت يكون الحكم الواقعي الأدائي متعلقاً بالجامع بين الجمعة أو الظهر
حيث صار سلوك الأمارة عدلاً للواجب الواقعي.
وكان بالإمكان
الاعتراض بمورد اخر يكون فيه التصويب أشد وأوضح وذلك كما إذا فرضنا قيام أمارة على
إباحة ما هو حرام واقعاً كالعصير العنبي المغلي. فانَّ فوات المفسدة الواقعية
وتداركها بمصلحة سلوك الأمارة يوجب زوال الحرمة واقعاً وانقلابها إلى الإباحة وهذا
أشد مراتب التصويب.
وليعلم انَّ هذا
الإيراد لا فرق فيه بين افتراض المصلحة السلوكية استيفائية أو تداركية أي انها من
سنخ مصلحة الواقع أو غيرها ولكنها يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة وانما لم يؤمر
بها مع الواقع لعدم إمكان الجمع بينهما. فانه على كلا التقديرين يقال انه بعد
الكسر والانكسار تكون المصلحة المطلوبة للمولى القابلة للتحصيل هو الجامع بين
الأمرين كما هو واضح.
وكأن هذا الإيراد
كان ملحوظاً لمدرسة نظرية المصلحة السلوكية حيث يستفاد من تضاعيف كلماتهم محاولة
الإجابة عليها بافتراض الطولية بين المصلحة والحكم
الواقعي ـ كما جاء
ذلك في تعابير الشيخ ( قده ) صريحاً ـ وكان المراد من ذلك افتراض انَّ المصلحة
السلوكية استيفاؤها مشروط ببقاء الواقع وانحفاظه بحدّه فيكون انحفاظ الوجوب
التعييني لصلاة الجمعة مثلاً شرطاً في تحقيق المصلحة المطلوبة للمولى في الجامع
بين الفعلين ـ بنحو شرط التحقق والترتب لا الاتصاف ـ فلو فرض انَّ المولى رفع يده
عن حكمه الواقعي بحده والأمارة لم تكن في معرض أَنْ تصيب وتخطئ فلا مصلحة في
سلوكها أيضاً. وترتب المصلحة على السلوك بمقدار الواقع استيفاءً أو تداركاً لا
يؤدي إلى صيرورته عدلاً للواجب الواقعي لأنَّ عدلية مثل هذا العدل في طول انحفاظ
ذلك الواقع فيستحيل أَنْ يكون رافعاً له إذ يلزم من وجوده عدمه. نعم هناك توسعة
قهرية تكوينية في دائرة الغرض ومبادئ الحكم إِلاَّ انَّ هذه التوسعة لا تؤدي إلى
توسعة الجعل الشرعي لما ذكرناه. ومن هنا أفاد الشيخ ( قده ) بأنَّ هذا من وجوه
الرد على المصوبة وكان هذه المدرسة اكتفت في المقام بنفي التصويب بلحاظ الجعل فانْ
كان التصويب المتفق على بطلانه شاملاً للتصويب بلحاظ مبادئ الحكم فهذا لازم لا
محالة.
ثم انه لم تتضح
فذلكة فرض أصحاب هذه المدرسة المصلحة في السلوك الّذي هو عنوان ثانوي لا في المؤدى
والفعل كما ذهب إليه المعتزلة أو الأشاعرة فقد يقال : انَّ منظورهم في ذلك تصوير
مصلحة مرنة بحيث لا تستدعي الاجزاء لو انكشف الخلاف.
إِلاَّ انَّ هذا
كان يمكن تصويره حتى مع فرض المصلحة في المؤدى لأنها على كل حال منوطة ببقاء الحكم
الظاهري المنوط بالشك فمع ارتفاعه ترتفع المصلحة .
وقد يقال : بأنَّ
نظرهم إلى دفع مشكلة التضاد ضمناً بفرض مركز المصلحة ومبادئ الحكم الظاهري عنواناً
ثانوياً غير مركز مبادئ الحكم الواقعي ، وهذا مطلب قد تقدم شرحه.
__________________
وقد يقال : بأنَّ
المنظور لهم انَّ المصلحة إذا كانت في العنوان الأولي كان حكمه واقعياً كأحكام
الأفعال الأخرى.
ولكن قد عرفت انَّ
ظاهرية الحكم ليست منوطة بهذا التمييز بل يكفي في الظاهرية أَنْ يكون الحكم منوطاً
بالشك في الواقع ودائراً مداره سواءً كان على عنوان أولي أو ثانوي.
وقد يقال : انَّ
نظرهم إلى دفع التصويب وافتراض اشتمال المؤدى على مصلحة الواقع أو ما يتدارك به
حتى مع خطأ الأمارة.
وهذا أيضاً قد عرفت
الآن عدم صحته لأننا إِنْ افترضنا الطولية بين هذه المصلحة وانحفاظ الحكم الواقعي
فلا تصويب على كل حال بلحاظ الجعل وإِلاَّ فالتصويب لازم كما أفاده الأستاذ.
فتبين عدم وجود
نكتة فنية للتفرقة بين المصلحة السلوكية والمصلحة في المؤدى.
وامّا تعليقنا على
الإجابة الثانية : فتحقيق الحال فيه : انَّ مصلحة التعبد بالحكم الظاهري إِنْ كانت
مصلحة طريقية بحيث تكون روحها نفس الملاكات الواقعية المتزاحمة بنحو التزاحم
الحفظي وتلك المصلحة هي افتراض انَّ ما يحفظ بالحكم الظاهري من تلك الملاكات أكثر
أو أهم مما تفوت منها فهذا صحيح ورافع لقبح التفويت إِلاَّ انه رجوع إلى نفس
الجواب الّذي به دفعنا إشكالات العقل النظريّ ، وإِنْ كانت مصلحة أخرى نفسية وراء
الملاكات الإلزامية أو الترخيصية الواقعية فهذه المصلحة يمكن تصويرها بأحد شكلين :
١ ـ أَنْ تكون
المصلحة النفسيّة في الجعل والإنشاء كما إذا كانت المصلحة راجعة إلى جعل المولى
نفسه ولعل منه موارد التقية الراجعة إلى الإمام نفسه.
٢ ـ أَن تكون
المصلحة النفسيّة في نتيجة الجعل وهو إطلاق عنان العبد نظير التقية الواقعة في قصة
علي بن يقطين.
امّا الشكل الأول
ـ فقد تقدم انَّ مثل هذا الجعل لو فرض تحققه فهو لا يكون موضوعاً لحكم العقل بلزوم
الطاعة والمنجزية.
وامَّا الشكل
الثاني ـ فان كانت هذه المصلحة في نفس فعل المكلّف نتيجة قيام
الأمارة كوضوء علي
بن يقطين ، فهذا رجوع إلى المصلحة السلوكية ومبنى السببية ، وإِنْ كانت قائمة في
إطلاق عنان العبد الّذي هو نتيجة فعل المولى وداعٍ من دواعي فعل المكلف أي حالها
حال الإباحات الاقتضائية فسوف يقع التضاد بينها وبين الأحكام الواقعية بلحاظ
المبادي لا محالة ونحن انما دفعنا إشكال التضاد بنكتة جعل الحكم الظاهري طريقياً
محضاً.
حكم الشك في الحجية
الأمر الثالث من
المقدمة ـ في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية ، ولا إشكال انَّ مقتضى الأصل عند
الشك في الحجية عدم ثبوتها وانما الكلام في وجه ذلك وتخريجه الصناعي. وقد ذكر لذلك
وجوه :
الوجه
الأول ـ انَّ مقتضى الأصل
عدم الحجية لأنَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها وتوضيح الحال في هذا الوجه
يتوقف على بيان مقدمة حاصلها : انه لا بدَّ من التمييز بين مرحلتين.
١ ـ مرحلة جعل
الحجية كحكم شرعي ظاهري وهي المرحلة التي بيد المولى.
٢ ـ مرحلة تأثير
الحجية المجعولة واستتباعها للتنجيز والتعذير ( الموقف العملي للمكلف تجاه المولى
).
وما ذكر في هذا
الوجه من انَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها تارة يفرض : انه كذلك بلحاظ
المرحلة الثانية أي انَّ الشك في جعل الحجية شرعاً ـ المرحلة الأولى يكون مساوقاً
مع القطع بعدم الحجية بمعنى استتباع التنجيز والتعذير عقلاً ـ المرحلة الثانية ـ.
وأخرى : يفرض أكثر من ذلك بحيث يدعى مساوقة الشك في جعل الحجية
للقطع بعدمها حتى
بلحاظ المرحلة الأولى والّذي يرجع إلى أخذ العلم بالحجية في موضوعها.
امّا هذا الأخير
فثبوتاً وإِنْ كنا قد صورنا فيما سبق معقولية أخذ القطع بالحكم بمعنى الجعل في
موضوع شخصه بمعنى المجعول إِلاَّ انه حينئذٍ لا بدَّ من التماس برهان يقتضي مثل
هذا التقييد في أدلة جعل الحجية وما يمكن أَن يذكر كبرهان على ذلك دعوى انَّ إطلاق
الحجية لغير العالم به غير معقول إذ لا أثر له حينئذٍ وبقرينية امتناع اللغو عقلاً
أو عقلائياً على المولى الحكيم يستفاد تقيد الجعل بصورة العالم بها. والفرق بين
إطلاق الحجية وبين إطلاق الأحكام الواقعية انما يكون من جهة معقولية الأثر وهو
المحركية في موارد الأحكام الواقعية حتى مع الجهل بها حيث يمكن الاحتياط بلحاظها
وهو مرتبة من المحركية وعدم معقولية ذلك في موارد الشك في الحكم الظاهري لأنه بما
هو حكم ظاهري لا امتثال له ولا تنجيز فلا يكون بلحاظه احتياط أيضاً.
والجواب على هذا
التقريب من وجهين :
١ ـ اننا لو سلمنا
مانعية أمثال هذه اللغويات عن تمامية الإطلاق مع كونه أخف مئونة عن التقييد فيرد
النقض حينئذٍ بانحفاظ الإطلاق في أدلة الأحكام الواقعية في موارد القطع بعدمها إذ
لا يعقل حينئذٍ المحركية الناقصة بلحاظها بل مع الشك فيها في العبادات أيضاً على
ما تقدم وما يكون جواباً على النقض هناك من المصلحة في إطلاق الجعل أو غيره يكون
جواباً هنا أيضاً خصوصاً والمشهور التزموا بوجود المصالح في نفس جعل الأحكام
الظاهرية.
٢ ـ انَّ هذه
اللغوية فرع أَن تكون الحجية المشكوكة لا يترتب عليها أثر عملي وهذا فرع إثبات
اللغوية بلحاظ المرحلة الثانية أعني بلحاظ الموقف العملي والأثر العقلي فلا بدَّ
من البحث بلحاظ تلك المرحلة فنقول : تحقيق حال هذه النقطة وتوضيحها مرتبط بتحديد
نوع العلاقة فيما بين الأحكام الظاهرية أنفسها فاننا فيما سبق تعرفنا على نوع
العلاقة فيما بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية وانها لا تضاد بينهما والآن
لا بدَّ من ملاحظة العلاقة بين حكمين ظاهرين لو اجتمعا في مورد وانه هل يوجد تضاد
بينهما أم لا؟ ومقدار ذلك على تقدير
وجوده على كل من
مسلكنا ومسلك المشهور في حقيقة الأحكام الظاهرية؟.
والصحيح أَنْ يقال
: تارة يفرض انَّ الحكمين الظاهرين طوليان بأَنْ أخذ في موضوع أحدهما الشك في
الاخر كما إذا أُريد إثبات حجية خبر الثقة مثلاً بالاستصحاب أو بالعكس ، وقد يفرض
انَّ موضوعهما في عرض واحد كما لو أُريد جعل البراءة والاستصحاب الملزم بالتكليف
في مورد واحد حيث انَّ موضوع كل منهما الشك في الحكم الواقعي.
فإذا فرض عرضية
الحكمين الظاهرين فبناءً على مسالك القوم من افتراض المصلحة في نفس جعل الأحكام
الظاهرية لا تنافي بينهما بوجوديهما الواقعيين وانما التنافي بمقدار وجوديهما
الواصلين إلى المكلف حيث يتنافيان من حيث التنجيز والتعذير واما بلحاظ المبادي فلا
تنافي لتعدد الجعلين واقعاً وتعدد موضوع المصلحة فمن يذهب إلى أحد مسالك القوم لا
بدَّ له من الالتزام بعدم التنافي بين جعل الأحكام الظاهرية العرضية بوجوداتها
الواقعية لعدم التضاد فيما بينهما إِلاَّ في مرحلة الوصول فالمحذور بهذا المقدار
لا أكثر.
واما على مسلكنا
من انَّ الحكم الظاهري ناشئ عن مبادئ حقيقية وهي نفس المبادي الواقعية ومقدار
اهتمام المولى بها في مقام التزاحم الحفظي فحينئذٍ لا يعقل جعل حكمين ظاهرين متعاكسين
حتى واقعاً ولو لم يصل إلى المكلف لأنَّ جعل الإلزامي منهما معناه اهتمام المولى
بملاكاته الإلزامية الواقعية وجعل الترخيصي منهما معناه عدم اهتمامه بها بل ترجيحه
لملاكاته الواقعية الترخيصية ، والاهتمام مع اللا اهتمام بأمر واحد متنافيان لا
محالة.
فعلى أساس
تصوراتنا في حقيقة الحكم الظاهري يكون التنافي بين حكمين ظاهريين عرضيين ثابتاً
واقعاً كالتنافي بين حكمين واقعيين كذلك ، وهذا أحد الفوارق والثمرات المترتبة بين
المسلكين.
واما إذا فرض
طولية الحكمين الظاهريين فلا تنافي بينهما بوجوديهما الواقعيين حتى على مسلكنا إذ
يعقل أَنْ يكون اهتمام المولى بملاكاته الواقعية مختلفاً في مرتبة الشك في نفس
الحكم الظاهري الّذي يراد تنجيز الواقع أو التعذير عنه به عما إذا لم يكن
للمكلف إلا الشك
في الحكم الواقعي الأولي فقط ، وبعبارة أخرى : بما انَّ موضوع الحكم الظاهري الأول
هو الشك في الواقع وموضوع الثاني هو الشك في ذلك الحكم الظاهري فلعل مقتضى التزاحم
الحفظي بين الملاكات الواقعية تختلف بلحاظ كل من المرتبتين للشك فباللحاظ الأول
يكون الترخيص هو الحافظ لما هو الأهم وباللحاظ الثاني يكون الإلزام هو الحافظ لما
هو الأهم في نظر المولى كيفاً أو كمّاً.
وعلى ضوء هذه
المقدمة نقول : انَّ الصيغة الساذجة لإثبات انَّ الشك في الحجية يساوق عدم الحجية
بلحاظ مرحلة التأثير والمنجزية والمعذرية عقلاً انَّ تمام ما كان يجري من أصول
وقواعد عقلية أو شرعية على تقدير عدم الحجية تبقى جارية مع الشك فيها أيضاً فالبراءة
العقلية مثلاً جارية على القول بها حتى مع الشك في الحجية لأن ضم احتمال الحجية
إلى احتمال الواقع لا يحقق علماً وبياناً ، وهكذا البراءة الشرعية يصح التمسك
بإطلاق دليلها لأنه من الشك في التخصيص الزائد بالنسبة إليه حتى لو قيل بحكومة
دليل حجية الأمارة على الأصل لأن الحكومة نوع من التخصيص ولكن بلسان رفع الموضوع.
نعم لو كان التقديم بملاك الورود لكان من الشبهة المصداقية له إِلاَّ انَّه مجرد
فرض ، وكذلك الحال بالنسبة إلى دليل الاستصحاب في مورد احتمال حجية أمارة على
خلافه ، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى التمسك بإطلاق دليل الحكم الواقعي فيما إذا
شك في حجية ما يدل على تخصيصه فانه حجة حتى يثبت المخصص ويحرز ومجرد احتمال حجية
المخصص لا يكون إحرازاً له.
والتقريب المعمق
لهذه النتيجة على ضوء ما تقدم في المقدمة السابقة ان يقال : بان الشك في حجية
أمارة مرجعه إلى احتمال حكم ظاهري فتارة يفرض الحصول على دليل يدل على حكم ظاهري
مخالف كما إذا لاحظنا دليل البراءة في مورد قيام ما يشك في حجة على حكم إلزاميّ ،
وأخرى نفرض الحصول على دليل يدل على حكم واقعي على خلاف مؤدى الأمارة المشكوكة.
اما في الحالة
الأولى فان كان الدليل على البراءة قطعياً فهو دليل قطعي على عدم حجية تلك الأمارة
وان كان ظنياً معتبراً كما لو تمسكنا بإطلاق دليل البراءة فهو حجة على البراءة
وبالتالي دليل على عدم جعل الحجية لتلك الأمارة في عرض البراءة حيث
انهما متنافيان
بناءً على مسلكنا مطلقاً وعلى مسلك القوم في خصوص حال الوصول فيدل على عدم إطلاق
حجية تلك الأمارة المشكوكة لمن وصلت إليه البراءة لا أكثر.
ولا يتوهم : انه
يلزم على فرض حجية المنجز في الواقع اجتماع حكمين ظاهريين متنافيين أحدهما الخبر
الملزم والثاني حجية الإطلاق في دليل البراءة على التعبد بالبراءة.
لأن هذين الحكمين
الظاهريين طوليان وقد تقدم عدم المنافاة بينهما حتى على القول بالتنافي بين
الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية.
واما الحالة
الثانية ـ فان كان الدليل على الحكم الواقعي قطعياً فلا موضوع للحجية ، وان كان
تعبدياً كإطلاق أو عموم تمسكنا به لإثبات مؤداه حيث ان الإطلاق حجة ما لم تثبت حجة
أقوى على خلافه. إِلاَّ ان هذا الإطلاق لا ينفي لنا جعل الحجية كما كان في الحالة
الأولى لأن مفاده الحكم الواقعي وهو لا ينفي جعل حكم ظاهري عند الشك فيه واما حجية
الإطلاق فهي حكم ظاهري في طول ذلك الحكم الظاهري وفرع عدم وصوله.
الوجه
الثاني ـ التمسك بما دل على
النهي عن اتباع الظن وغير العلم لأنه مع الشك في الحجية يكون الشك في تخصيص زائد
لعمومه فيمكن التمسك به لنفي الحجية المشكوكة.
وقد اعترض عليه
المحقق النائيني ( قده ) بان الشك في الحجية يوجب تعذر التمسك بالإطلاق في هذه
الأدلة لكونه من الشبهة المصداقية لها إذ الحجية المشكوكة على فرض ثبوتها تكون
بلسان جعل الطريقية والعلمية فتكون رافعة لموضوع عدم العلم.
وقد استشكل عليه
السيد الأستاذ.
أولاً
ـ بان الحجة بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عقلاً من
التنجز والتعذير ومن هنا قيل بان الشك فيها يساوق عدمها و
معه كيف يمكن ان
تكون رافعه لموضوع أدلة عدم العمل بالظن؟ وهذا يعني ان حكومتها موقوفة على فرض
وصولها فمع عدمه
__________________
يصح التمسك
بالعمومات.
وفيه : ان المقدار
الّذي يثبت من عدم الأثر على الحجية المشكوكة عدم تنجيزها وتعذيرها لا أكثر من ذلك
واما الحاكمية على الدليل المأخوذ فيها عدم العلم فليست بلحاظ المنجزية والمعذرية
ليقال بعدم ترتبها بالوصول بل باعتبار المجعول الاعتباري والتشريعي في الحجية وهو
جعل العلمية والطريقية أي بلحاظ المرحلة الأولى من الحجية لا الثانية وهي ليست مما
يقطع بعدمها حين الشك.
وثانياً
ـ بالنقض بأدلة الأصول العملية التي قد أخذ في موضوعها عدم
العلم فانه بناءً على هذا لا يصح التمسك بها عند الشك في حجية شيء لكونه من التمسك
بالعامّ في الشبهة المصداقية بنفس البيان.
وفيه : إمكان
التخلص عن النقض بالتمسك بالاستصحاب الموضوعي الّذي ينقح به عدم الحجة وبالتالي
موضوع الأصل العملي وهذا العلاج وان كان قد يقترح في المقام إِلاَّ انه صيغة
مستقلة بنفسها كافية لإثبات عدم الحجية ولو لم تكن أدلة النهي عن الظن ثابتة .
وثالثاً
ـ انه بناءً على هذا المنهج تكون الأدلة المذكورة لغواً لأنه
مع القطع بعدم الحجية لا حاجة إليها ومع الشك فيها لا فائدة لها لعدم إمكان
التمسّك بها.
وفيه : ان أي
فائدة أكبر من ان تكون هذه الأدلة بنفسها من موجبات القطع بعدم الحجية في جملة من
الموارد.
إِلاَّ ان ما
أفاده الميرزا ( قده ) أيضاً غير تام. لأحد وجهين :
١ ـ ان الحكومة
هنا على تقدير القول بها فهي رفع للموضوع تعبداً لا حقيقة ـ كما صرح به الميرزا
نفسه في موضعه ـ ومن الواضح ان حقيقة الحكومة هي التخصيص ولكن بلسان رفع الموضوع
وقد ذكرنا في محله انه مع الشك في الحاكم يكون المرجع إطلاق المحكوم لأنَّه من
الشك في التخصيص بحسب روحه. نعم إذا قلنا بالورود في وجه تقديم الأمارات على بيان
تبرعنا به نحن عن الميرزا ( قده ) وسمّيناه بالحكومة
__________________
الميرزائية
فالبيان المذكور غير تام إِلاَّ انَّ أصل ذلك الوجه لم يكن صحيحاً.
٢ ـ ان النواهي
المذكورة ليست تكليفية بل هي إرشاد إلى عدم حجية الظن فيكون في عرض دليل الحجية
نافياً للحجية والعلمية والطريقية عن الظن بحيث لو ثبتت الحجية في مورد كان دليلها
مخصصاً لإطلاق النفي المذكور. وهذا الجواب تام حتى على القول بالحكومة الميرزائية
بالمعنى الّذي يرجع إلى الورود لأن المستفاد من الأدلة المذكورة حينئذٍ الاخبار عن
عدم اعتبار الظن علماً بذلك المعنى إذ لا موجب لحمل الحجية المنفية في هذه الآيات
على مطلق الحجية والمنجزية والمعذرية لا خصوص العلمية والطريقية مع ان الموضوع
فيها الظن الّذي هو نفس موضوع الحجية في أدلتها والّذي فيه كشف ناقص خصوصاً وقد
ورد التعبير في الآية بأنه لا يغني عن الحق شيئاً الّذي هو نفي للكاشفية
والطريقية.
واما أصل كلام
الشيخ ( قده ) فلا بأس به فان هذه النواهي أدلة اجتهادية على عدم حجية الظن حيث نهت
عن اتباعه وانه لا يغني من الحق شيئاً وما ثبتت حجيته من الأمارات يكون بمثابة
تقييد لإطلاق هذه النواهي. وبهذه الأدلة أيضاً يُرد على القائلين بحجية بعض الظنون
الاجتهادية كالقياس والاستحسان. ودعوى : ان هذه النواهي مخصوصة بأصول الدين اما لظهور سياقها
في ذلك أو لكونه القدر المتيقن منها.
مدفوعة : بان مجرد
السياق لا يقتضي تخصيص مفاد النهي العام في الآية كما ان القدر المتيقن حتى إذا
كان من داخل الخطاب فضلاً عما إذا كان من خارجه لا يمنع عن انعقاد الإطلاق وتمامية
مقدمات الحكمة فيه.
الوجه
الثالث ـ ما يظهر من كلمات الشيخ ( قده ) أيضاً من التمسك بما دل على
حرمة الإسناد إلى الدين والإفتاء بلا علم من مثل قوله تعالى ( ءالله اذن لكم أم على
__________________
الله تفترون ) وفرق هذا الصنف
من الأدلة عما تقدم انها تدل على حرمة ذاتية نفسية في اسناد ما لم يعلم إلى الله
تعالى وليست ناظرة بمدلولها المطابقي إلى العمل والاتباع لتكون إرشاداً إلى عدم
الحجية فاستفادة عدم الحجية منها مبنية على ثبوت الملازمة بين حرمة الإسناد وعدم
الحجية إذ لو كان حجية لجاز الإسناد أيضاً.
والكلام حول هذا
الوجه يقع من عدة نقاط :
الأولى ـ في تحقيق حال الملازمة المذكورة ومقدارها.
والصحيح : ان كون
جواز الإسناد من شئون الحجية فرع مسألة قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي وعدمه
فانه لو قيل بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي فنفي جواز الإسناد يكون نفياً
للحجية لا محالة وإِلاَّ فيكون جواز الإسناد لازماً أخص فلا يدل نفيه على نفي
ملزومه ، بل حتى على القول بقيامها مقام القطع الموضوعي فليس ذلك إِلاَّ باعتبار
الملازمة بحيث يكون نفي هذا الأثر وثبوت حرمة الإسناد ملازماً لنفي قيامها مقام
القطع الطريقي الّذي هو الحجية المبحوث عنها في المقام. فالصحيح ان مجرد حرمة
الإسناد في مورد الأمارة المشكوكة لا تكفي لإثبات عدم الحجية ما لم تضم عناية
زائدة ولو عرفاً وهي ان حرمة الإسناد في الآية انما هو بلحاظ عدم الحجية.
الثانية
ـ ان جواز الإسناد
هل هو من لوازم الحجية بوجودها الواقعي أو بوجودها العلمي فلو قيل انه من لوازمها
بوجودها الواقعي تم الاستدلال وإلا لم يتم لأننا عالمون حينئذٍ بحرمة الإسناد على
كل حال سواءً كانت الأمارة المشكوكة حجة أم لا.
وتحقيق الحال في
هذه النقطة انه بعد الفراغ عن الملازمة في النقطة السابقة قد يقال بان هناك مسلكين
في باب قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي :
أحدهما ـ مسلك جعل
الطريقية والعلمية ، وبناءً عليه يكون جواز الإسناد من لوازم واقع الحجية وجعل
العلمية لأنه من التوسعة في موضوع جواز الإسناد واقعاً.
والاخر ـ مسلك
الملازمة بين تنزيل المؤدى ـ الحكم الظاهري ـ منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع
التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، وقد تقدم شرح المسلكين
__________________
وتوضيح كل منهما ،
وبناءً على هذا يقال : بان جواز الإسناد من آثار العلم بالمؤدى والواقع التنزيلي
الّذي هو الحكم الظاهري فيكون فرع وصول الحجية واما مع عدمه فيعلم بحرمة الإسناد
للعلم بارتفاع أحد جزئي الموضوع على كل حال وهو العلم بالواقع التنزيلي سواءً كانت
الحجية ثابتة أم لا فثبوت حرمة الإسناد في مورد الشك في الحجية لا يدل على عدم
حجيته واقعاً.
ولكن الصحيح : انه
بناءً على هذا المسلك أيضاً يمكن نفي الحجية للأمارة المشكوكة وذلك بالتمسك بإطلاق
هذه الأدلة بالنسبة لمن يعلم بحجية تلك الأمارة وإثبات انه يحرم عليه الإسناد
واقعاً أيضاً ـ وان كان قد يكون معذوراً بمقتضى علمه ـ وهذه الحرمة الثابتة في حقه
بمقتضى هذا الإطلاق وعدم تخصيص دليل حرمة الإسناد بغير مورد الأمارة المشكوكة لا
تتم إِلاَّ إذا كانت تلك الأمارة غير حجة واقعاً وإِلاَّ لكان كلا جزئي الموضوع
لجواز الإسناد محققاً في حقه.
النقطة الثالثة ـ ان
شبهة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية التي آثارها المحقق النائيني ( قده )
بالنسبة إلى الوجه الثاني جارية هنا ، ويدفعها جوابنا الأول عليها هناك دون الثاني
لأن الدليل هنا لا يتكفل نفي الحجية العلمية ابتداءً ليكون في عرض دليل العلمية
والحجية وانما يدل على حرمة الإفتاء من دون علم فلو فرض ان دليل الحجية يجعل غير
العلم علماً بنحو الورود كان تمسكاً به في الشبهة المصداقية.
الوجه
الرابع ـ التمسك باستصحاب عدم الحجية اما بإجرائه بلحاظ أصل جعل
الحجية وتشريعه فيرجع إلى استصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشرع ، أو بإجرائه بلحاظ
المجعول فيرجع إلى استصحاب عدم فعلية الحجية الثابتة ولو قبل تحقق الموضوع المشكوك
في حجيته بنحو الاستصحاب في الاعدام الأزلية وكلاهما ينتج المقصود.
وقد استشكل فيه
بتقريبين :
التقريب
الأول ـ ما فهمه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من كلام الشيخ ( قده ) من
الاستشكال فيه من قبل الشيخ ـ افتراض ان النّظر إلى حيثية حرمة الإسناد ومحاولة
إثباتها بمثل هذا الاستصحاب ـ بان حرمة الإسناد غير مترتب على عدم الحجية واقعاً
بل على الشك في الواقع وعدم حجة معلومة وهذا وجداني بقطع النّظر عن الاستصحاب
فلا أثر مشكوك لكي
تجري بلحاظه الاستصحاب.
فأورد عليه
بإيرادين :
١ ـ ان الأصل انما
يلتمس له الأثر الشرعي إذا كان جارياً في الموضوع لا في الحكم الشرعي نفياً
وإثباتاً فانه بنفسه أثر مجعول امره بيد الشارع رفعاً ووضعاً فيعقل التعبد به.
وقد أجاب عليه
الميرزا ( قده ) بان الأصل العملي لا بد في جريانه من أثر عملي ولا يكفي لتصحيحه
مجرد كون مؤداه ـ أي المستصحب ـ مجعولاً شرعياً من دون ان يترتب عليه تنجيزاً أو
تعذير.
٢ ـ ان حرمة
الإسناد كما يترتب على نفس الشك كذلك يترتب على عدم الحجية واقعاً وبالاستصحاب
يحرز الأثر بلحاظ الفرد الاخر من الموضوع.
وأجاب عليه
الميرزا ( قده ) أيضاً بأنه لو سلم الأصل الموضوعي الفقهي فهذا معناه ان موضوع
الحرمة هو الجامع بين الشك وبين عدم الحجية واقعاً وهذا الجامع موجود في ضمن أحد
فردية وهو الشك بقطع النّظر عن الاستصحاب فإثبات فرده الاخر بالاستصحاب لإثبات
اثره تحصيل للحاصل بل من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل لأنه تحصيل تعبدي لما هو حاصل
وجداناً.
وتوضيح الحال في
المقام يقتضي بسطاً من الكلام حاصله : ان افتراض ترتب حرمة الإسناد على عدم الحجية
والشك في الحجية له إحدى ثلاث صور.
الصورة
الأولى ـ ان يفترض وجود حرمتين مجعولتين إحداهما حرمة اسناد ما لا
حجية له واقعاً كما إذا دل دليل على حرمة اسناد مؤدى ما لا يكون حجة إلى الشارع ،
والثانية حرمة اسناد ما لم يعلم حجيته سواءً كان حجة في الواقع أم لا. وفي هذه
الصورة من الواضح انَّ محذور تحصيل الحاصل غير متّجه لأنَّ الأصل ينقح حرمة أُخرى
غير المحرزة بالوجدان فيتعدد التكليف والعقاب حسب تعدد موضوعه.
الصورة
الثانية ـ أن تفترض حرمة واحدة موضوعها الجامع بين عدم الحجيّة واقعاً
وعدم العلم بالحجيّة ويراد بعدم العلم الأعم من الشك والعلم بالعدم.
وفي هذه الصورة من
الواضح لزوم تحصيل الحاصل إِذ ليست هنالك إِلاَّ حرمة
واحدة موضوعها
محفوظ على كلّ حال وجداناً.
الصورة
الثالثة ـ أن يفرض وحدة الجعل كما في الصورة السابقة ولكن يفترض أن
المراد بعدم العلم خصوص الشك دون فرض العلم بالعدم ولو بنكتة كفاية موضوعيّة عدم
الحجيّة المحرزة حينئذ للحرمة بخلاف من يشك.
وفي هذه الصورة
يمكن أن يقال في دفع محذور تحصيل الحاصل المستحيل بأنَّه بناءً على قيام الاستصحاب
مقام القطع الموضوعي وحكومة دليل حجيّته على دليل القطع الموضوعي سوف يرتفع الشك
الوجداني ويتبدّل إلى العلم بالعدم تعبداً وبذلك يرتفع حكمة حقيقة لأن حكومة دليل
الأمارة أو الاستصحاب على دليل القطع الموضوعي واقعي لا ظاهري فيبقى الفرد الآخر
من الموضوع وهو عدم واقع الحجّة هو المحرز تعبداً وظاهراً بالاستصحاب فالحرمة
التعبديّة المحرزة بالاستصحاب لا تجتمع في عرض الحرمة الوجدانيّة لكي يكون من
تحصيل الحاصل.
نعم بناءً على
طولية قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي لقيامها مقام القطع الطريقي
لا يتمّ هذا البيان للزوم الدور حينئذ إِذ يتوقّف قيامه كذلك على جريانه بلحاظ
إحراز الحرمة التعبديّة الظاهريّة والمفروض انَّه فرع عدم ثبوت الحرمة الواقعية
وجداناً ، إِلاَّ أنَّ مسلك الميرزا ( قده ) نفسه في قيام الأمارة والاستصحاب مقام
القطع الموضوعي لم يكن يقتضي الطوليّة وإنَّما كانت الطوليَّة على مسلك المحقق
الخراسانيّ ( قده ).
وأمَّا الإشكال
بأَنَّه أيّ فائدة في جعل مثل هذا الاستصحاب مع أنَّه كان يترتّب الأثر المراد
تنجيزه بقطع النّظر عنه بالقطع الوجداني فهذا مرجعه إلى إِشكال اللغويّة إثباتاً
لا تحصيل الحاصل المحال ثبوتاً وهو لا يمنع عن الإطلاق.
إِلاَّ أنَّ هذه
الفرضيّة لا تخلو من غرابة في نفسها إِذ مضافاً إِلى ما تستلزمه من فرضيّة أشديّة
حال الشاك في الحجية من العالم بالعدم وهو غير عرفي ، يلزم منها أن يكون جريان
الاستصحاب مخففاً بلحاظ الحرمة المراد إثباتها حيث به يرتفع الشك الّذي كان يقتضي
ثبوت الحرمة واقعاً وبارتفاعه تكون الحرمة ثابتة تعبداً لا واقعاً بحيث لو كان
الاستصحاب مخالفاً للواقع فلا حرمة واقعية أصلاً.
التقريب
الثاني للإشكال ـ أن يلتفت إلى أن استصحاب
عدم الحجيّة لا يراد منه إثبات حرمة الإسناد بل من أجل التنجيز أو التعذير ،
وحينئذ ، قد يستشكل فيه بالإشكال المتقدم من الميرزا ( قده ) بأن يقال انَّ
التأمين حاصل وجداناً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على القول بها أو فرض الكلام
في الأمارة الإلزاميّة ـ.
والجواب
ـ انَّ هناك مرتبتين للقاعدة العقلية تأميناً أو تنجيزاً ـ إِحداهما
حكم العقل بلحاظ الشك في الواقع الّذي هو الشك الأولى للمكلَّف ، والأخرى حكمه
بلحاظ الشك الثانوي الناشئ في طول قيام الأمارة المشكوكة حيث انَّه يحتمل حينئذ
شدّة اهتمام المولى بالملاكات الواقعيّة التي على طبق مؤدّى الأمارة على ما تقدّم
في شرح حقيقة الحكم الظاهري. وإِشكال تحصيل الحاصل إِن كان بلحاظ الحكم العقلي
الأوّل فمن الواضح انَّه غير ما يُؤمن عنه الاستصحاب لأنَّه تأمين بلحاظ الشك
الأوّلي وهو غير مناف مع التنجيز بلحاظ الشك الثانوي المنفي بالاستصحاب ، وإِن كان
بلحاظ الحكم العقلي الثاني فهما وإِن كانا في مرتبة واحدة وبمؤدّى واحد إِلاَّ
أنَّهما مختلفان من ناحية انَّ الحكم العقلي تأمين بملاك عدم البيان بينما
الاستصحاب يكون تأميناً شرعيّا وبه يكون التأمين من سنخ آخر فلا تحصيل للحاصل كيف
وهذا بنفسه جار في جميع الاستصحابات والأمارات النافية للتكليف في موارد جريان
البراءة العقلية في نفسها مع أنَّه لم يستشكل فيه أحد ، فالصحيح انَّ حال استصحاب
عدم الحجيّة كحال الاستصحابات الجارية في الأحكام الفرعيّة لا ينبغي الاستشكال فيه
في نفسه وإِن كنَّا في غنىً عنه بالأدلة الاجتهاديّة الدالة على عدم حجيّة مشكوك
الحجيّة المتمثّلة في صنفين من الأدلة :
أحدهما
ـ عمومات حرمة اتباع الظنّ.
الثاني
ـ المدلول الالتزامي لإطلاق أدلّة الأصول والأحكام الظاهرية
الجارية في مورد الشك في حجية الأمارة المخالفة لها على ما تقدّم شرحه في الوجه
الأول من وجوه صياغة هذا الأصل.
وبهذا ينتهي
الكلام عن المقدمة.
حجيّة السيرة
يبدأ عادة
بالظواهر بوصفها أول الأمارات والظنون المعتبرة شرعاً بلا خلاف ولكن بما انَّ مهم
الدليل الّذي يجري الاستدلال به على حجيّة أهم الأمارات كالظواهر وخبر الثقة ـ وهما
أهم أمارتين في الفقه ـ انَّما هو السيرة العقلائية من هنا كنّا بحاجة إلى بحث
مستقل عن السيرة ودليليّتها ونكات هذه الدليليّة وشروطها لنكون على رؤية واضحة
فيما يأتي من مواضع الاستناد إِليها من المباحث الأصوليّة. والواقع انَّ الاستدلال
بالسيرة لم يقتصر على خصوص المسائل الأُصوليّة وفي باب الأمارات بل شاع ذلك في
الفقه أيضا خصوصاً في مثل أبواب المعاملات التي يكون للعقلاء تقنين فيها. بل
الملحوظ اتساع دائرة الاستدلال بها كلّما تقلّصت الأدلة التي كان يعول عليها
سابقاً لإثبات المسلمات والمرتكزات الفقهيّة من أمثال الإجماع المنقول والشهرة
وإِعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ونحو ذلك فانَّه قد عوض بالسيرة
عن مثل هذه الأدلة في كثير من المسائل التي يتحرّج فيها الفقيه الخروج عن فتاوى
القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهيّة المشهورة.
من أجل ذلك رأينا أنَّ
الصحيح عقد بحث مستقل عن السيرة العقلائيّة بعنوانها.
السيرة العقلائية :
ونقصد بها ما هو
أعمّ من السلوك الخارجي فهي تشمل أيضا المرتكزات العقلائيّة وإِن لم يصدر منهم
بالفعل سلوك خارجي على طبقها لعدم تحقق موضوعها بعد والعنوان الجامع المواقف
العقلائيّة سواءً تجسّدت في سلوك خارجي أم لا. كما انَّ مرادنا من السيرة هنا ما
يعمّ السيرة المتشرعيّة والسيرة العقلائيّة بالمعنى الأخصّ المقابل لها.
والكلام عن حجيتها
يقع في جهات :
أقسام السيرة العقلائية :
الجهة
الأُولى ـ انَّ السيرة العقلائية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
القسم
الأول ـ السيرة العقلائيّة التي تنقح موضوع الحكم الشرعي ولا تشرع
الحكم وانَّما يثبت الحكم بمقتضى إطلاق دليله من كتاب أو سنّة أو غيرها.
وتنقيح موضوع
الحكم الشرعي بالسيرة العقلائية يكون بأحد نحوين :
١ ـ أن تكون
السيرة العقلائيّة بنفسها منقحة ثبوتاً لفرد حقيقي من الموضوع كما إِذا لاحظنا
دليل وجوب إمساك الزوجة بمعروف أو تسريحها بإحسان ، الّذي دلّ على وجوب النفقة تحت
عنوان الإمساك بمعروف فانَّ المعروف من العرف وهو الشائع والمستساغ. فإذا اقتضت
السيرة والتعارف على أن تكون نفقة الزوجة في هذا الوقت مثلاً بنحو أتمّ وأكمل ممّا
كان معروفاً بالنسبة لها في غابر السنين بحيث خرج ذلك الحدّ عن كونه معروفاً
ومستساغاً نتيجة الاختلاف في الظروف الفكريّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعية فسوف
يتوسّع صدق عنوان النفقة بمعروف عمّا كان عليه سابقاً فتجب هذه المرتبة منها ولا
تكفي المراتب التي كانت كافية فيما سبق ، وهذا بحسب الحقيقة من تدخل السيرة في
تكوين موضوع الحكم الشرعي ثبوتاً توسعة أو تضييقاً.
٢ ـ أن تتدخل
السيرة في تنقيح الموضوع إثباتاً وكشفاً لا ثبوتاً كما كان في النحو الأول. كما
إِذا دلّ دليل على أن المؤمنين عند شروطهم واكتشفنا من تباني العقلاء وسيرتهم على
خيار الغبن انَّهم لا يرضون في البيع والمعاوضة بفوات المالية وانَّما يرفعون
اليد عن الخصوصيّة
مع الحفاظ على المالية بما يساويها عرفاً في العوض فانَّ مقتضى ظهور حال كلّ إنسان
على أنَّه يمشي حسب المقاصد العقلائية انَّه أيضا لا يرضى بذلك ، وهذا كاشف نوعي
عن انَّه يشترط على الآخر ضمناً بعدم تفاوت فاحش في المالية بين العوض والمعوض
وإِلاَّ فهو غير راض بالمعاوضة وتنفيذها.
ويترتّب على الفرق
المذكور بين النحوين انَّه لو شذَّ إنسان عن السيرة وخرج عن مقتضاها فلن يؤثر ذلك
في النحو الأول بل يبقى الحكم ثابتاً في حقّه أيضا لأنَّ انعقاد سيرة العقلاء من
دونه قد أوجد فرداً حقيقيّاً من الموضوع فلا أثر لمخالفته وهذا بخلاف النحو الثاني
الّذي كان دور السيرة مجرّد الكشف عن قصده وشرطه فلو نصّ على مخالفته لهم في مورد
معيّن كان ذلك رافعاً للحكم لكشفه عن عدم المنكشف بالسيرة في ذلك المورد والّذي هو
موضوع الحكم ثبوتاً فهذا الفرق يؤثّر في كيفيّة استنباط الفقيه الحكم على أساس كلّ
من النحوين.
وهذه السيرة بكلا
نحويها يكون حجّة على القاعدة بلا حاجة إلى التماس دليل عليها لأنَّها تنقح موضوع
الحكم الشرعي تنقيحاً حقيقيّاً امَّا ثبوتاً أو إِثباتاً ولهذا أيضا لا يتوقّف
استناد الفقيه في عمليّة الاستنباط إِليها على إثبات انَّها كانت معاصرة لزمن صدور
النصّ والتشريع لعدم دخل ذلك في الحكم الكلّي المشرع ، وانَّما اللازم ملاحظة
وجودها في الزمن الّذي يراد إثبات الحكم فيه فلو كانت موجودة في زمن التشريع
ولكنها تبدّلت بعد ذلك لسقطت عن التأثير في مجال الاستنباط وهذا واضح.
القسم
الثاني ـ السيرة التي تنقح ظهور الدليل وهذا يدخل تحته أعمال
المناسبات العرفيّة والمرتكزات الاجتماعية المرتبطة بفهم النصّ فإنَّنا سوف نذكر
في بحث الظواهر انَّ المرتكزات العرفيّة والعقلائيّة تتدخل أيضا في تكوين الظهور
وانَّها تعتبر بمثابة القرائن اللبّيّة المتصلة بالكلام التي تتصرّف وتحدد من ظهور
اللفظ والمراد منه توسعة أو تضييقاً.
وحجيّة هذا القسم
من السيرة أيضا على القاعدة بعد الفراغ عن كبرى حجيّة الظهور بلا حاجة إلى دليل
زائد.
ويفترق هذا القسم
عن القسم السابق في حاجته إلى إثبات معاصرة السيرة لزمن
صدور النصّ من المعصوم ،
لأنَّ الحجّة انَّما هو ظهور النصّ ولكن إِذا أحرزنا ثبوته في عصرنا واحتملنا عدمه
في زمن النصّ كفى ذلك في عدم إمكان التمسّك بالمدلول اللغوي للفظ لا لمجرّد احتمال
القرينة المتّصلة التي لا نافي له عندنا فحسب بل لأنَّه يمكن إدراجه تحت كبرى
أصالة عدم النقل في اللغة بأَنْ يراد بها أصالة عدم نقل مطلق الظهور النوعيّ العام
للكلام سواءً كان على أساس العلقة اللغوية أو القرينة النوعية اللُبيّة المتصلة
كالسيرة.
القسم
الثالث ـ السيرة المتشرعة وهي التي يراد الاستدلال بها على كبرى
الحكم الشرعي كالسيرة العقلائية القائمة على أنَّ من حاز شيئاً من الأموال
المنقولة المباحة ملكها وكذلك السيرة القائمة على خيار الغبن في المعاملة إِذا
أُريد الاستدلال بها على إثبات الخيار ابتداءً لا باستكشاف شرط ضمني على أساسه كما
كان فيما سبق ـ وينبغي التمييز بين الطرزين من الاستدلال بمثل هذه السيرة ليتبع في
كلّ منهما شروطه ـ.
والاستدلال بهذا
القسم من السيرة قد يكون لإثبات حكم شرعي كلّي واقعي وهذا ما يقع الاستدلال به في
كتب الفقه ، وقد يكون لإثبات حكم شرعي ظاهري وهذا ما يقع الاستدلال به في كتب
الأصول عادة كالسيرة القائمة على حجيّة الظواهر أو خبر الثقة مثلاً. وسوف يظهر بعض
الفوارق الفنيّة في طريقة استعمال هذه السيرة في كلّ من المجالين.
وهذا القسم من
السيرة تتوقّف دليليّته على إثبات عناية إضافيّة وليست على القاعدة كما في القسمين
السابقين إِذ لا معنى للاستدلال ابتداءً بعمل العقلاء وبنائهم على حكم الشارع
الأقدس.
وصيغة تلك العناية
التي لا بدَّ منها وسوف يأتي الحديث عنها مفصلاً انَّه لا بدَّ من استكشاف إمضاء
الشارع لها من اتّخاذه موقفاً ملائماً معها كاشفاً عن إمضائه لمضمونها والّذي
أدناه السكوت والتقرير فتكون الحجة بحسب الحقيقة الإمضاء والتقرير الصادر
__________________
عن المعصوم لا نفس
السيرة. وواضح انَّ هذه العناية بحاجة إلى أَنْ تكون السيرة معاصرة لزمن التشريع
وموجودة في زمن المعصوم 7 فلا تنطبق على السير المستحدثة والمتجددة فيما بعد زمانهم
فهناك ركنان لا بدَّ من توفرهما لتتمّ دليليّة هذه السيرة.
١ ـ إثبات
معاصرتها مع زمن يكون فيه المعصوم ظاهراً يتّخذ المواقف الفقهيّة تجاه أمثالها
إثباتاً أو نفياً.
٢ ـ فحص الموقف
الملائم الّذي أقلّه السكون ليرى انَّه ما هي الحدود التي يمكن أَنْ يستكشف منه
الإمضاء وكيفيّته ، وسوف يقع الحديث عن هذين الركنين مفصلاً.
ولعلّه بما ذكرناه
يتّضح الجواب على ما قد يتساءل عنه من انَّه لما ذا يحرص الفقهاء في الاستدلال
بمثل هذه الأدلة اللبيّة على التمسّك بالسيرة العقلائية القديمة دون السيرة
العقلائية المستحدثة مع أنَّ وضع العقلاء في تقدم ونضج وتزايد خبراتهم الفكرية
والاجتماعية والقانونية فلا يتمسّك مثلاً بالارتكاز العقلائي الحديث الّذي يرى في
بعض الاختصاصات المعنوية حقوقاً كحقّ التأليف والنشر على حدّ الاختصاصات المادية
الساذجة المتمثلة في الحيازة مثلاً.
فانَّ هذا الكلام
انَّما يصحّ فيما إِذا كان الاستدلال بالسيرة العقلائية بما هي سيرة للعقلاء
ومتابعة لهم لا بما هي كاشفة عن موقف الشارع وقد عرفت انَّ الّذي يفيد في مجال
استنباط الحكم الشرعي هو الثاني لا الأول وهو موقوف على معاصرة السيرة زماناً لعصر
التشريع.
وقد يقال : انَّ
الشارع قد أمضى السير العقلائية المعاصرة له لا بوصفها الشخصي بل بوصفها النوعيّ
العقلائي بمعنى انه يفهم من عدم تصدّي الشارع لبيان أحكام وتأسيس تشريعات في أبواب
متعددة من الحياة ممّا للعقلاء شأن فيه انَّه قد تركها إِليهم وحوّل على
ارتكازاتهم فيكون هذا إمضاءً إجماليّاً لما ينعقد عليه بنائهم إِلاَّ ما ثبت
جزئيّاً عدم متابعة الشارع لهم فيه وردعهم عنه.
وفيه
: أولا ـ انَّه لم يثبت
سكوت الشارع عن أعصار الأحكام والتشريعات في ساير الموارد التي يراد التحويل فيها
على السيرة العقلائية بل قد بينت أحكامها أيضا أو ورد ما يحتمل صدوره عن الشارع في
مقام بيانها ولو بنحو العموم والإطلاق أو القاعدة
الكليّة وعدم كثرة
ذلك لعله ناتج عن عدم كثرة الاستثناءات لتلك القواعد العامة الكليّة ، وما قد يقال
من عدم كفاية مجرّد الإطلاق للردع عن سيرة مرتكزة إِنَّما يصحّ في سيرة معاشة حيّة
لا ما سوف يحدث بعد عصر التشريع مع عدم ابتلاء المكلَّفين بها في زمانه.
وثانياً ـ انَّ
سكوت الشارع إِنَّما يدلّ على إمضاء السيرة بنحو القضيّة الخارجية وليس فيه تقرير
لأكثر من ذلك فلا يمكن استكشاف إمضاء عام منه لمطلق السير العقلائية بنحو القضية
الحقيقية إِذ ليس الاستدلال في المقام بكلام ودلالة لفظيّة ليكون ظاهراً في
القضيّة الحقيقية وانَّما بسكوت وتقرير وهو لا يقتضي أكثر من إمضاء القضية
الخارجية كما هو واضح.
السيرة المتشرعيّة وكيفية
الاستدلال بها :
الجهة
الثانية ـ تبين ممّا سبق انَّ السيرة المتشرعية بحاجة إلى أَنْ يتوفر
في حقّها أمران ليمكن الاستدلال بها :
أحدهما
ـ إثبات معاصرتها لزمن وجود المعصوم 7.
والآخر
ـ ثبوت الموقف الملائم منه تجاهها الكاشف عن إمضائه لمضمونها.
وفيما يلي نحقق حال هذين الركنين وكيفية إحراز كل منهما :
١ ـ طرق إثبات معاصرة السيرة مع
زمن المعصوم 7
إِذا واجه الفقيه
سيرة عقلائية متشرعية فغايته انَّه يجد نفسه معاصراً معها فلا بدَّ من إثبات
انَّها كانت ثابتة في زمن المعصومين : أيضا. وهذا ما قد يذكر بشأنه عدة وجوه :
الوجه
الأول ـ أَنْ يجعل نفس
انعقادها وتطابق العمل عليها بالفعل ـ مع كون موضوعها ومضمونهما عام البلوى بحيث
لا محالة ينعقد فيه تطابق عملي عام ـ دليلاً على أنَّها ذات جذور قديمة ترتفع إلى
عهد الأئمة المعصومين : فإذا فرض انعقاد السيرة مثلاً عند المتشرعة على الإخفات في
صلاة الظهر من يوم الجمعة يجعل نفس هذا
التطابق في العمل
دليلاً على ثبوتها منذ عهود الأئمة وانَّها متلقى منهم ، وذلك بنكتة انَّه من
المستبعد جداً بل من الصعب والممتنع عادة تحوّل التزام المتشرعة فجأة من لزوم
الجهر في صلاة الظهر من يوم الجمعة إلى الإخفات فيها فانَّ ذلك إِذا لم يكن
مستنداً إلى عصر التشريع فلا بدَّ وأن يكون مرتبطاً بسبب مثير وظروف استثنائية
طارئة أدّت إلى ذلك يشار إِليها عادة إِذا ما كانت.
وهذا الوجه لا
يمكن المساعدة عليه في كثير من الأحيان ـ حتى لو افترضنا انَّ مضمونها ممّا ينعقد
فيه تطابق عملي ـ إِذ انَّ صعوبة التحوّل في الالتزامات المتشرعيّة والعقلائية
مسلمة بمعنى انَّ التحوّل الفجائي يقطع بعدمه عادة بحساب الاحتمالات إلا انَّ أصل
هذا الافتراض في كيفيّة تحوّل السيرة ليس متعيناً بل هناك افتراضات أُخرى كأن تكون
السيرة قد تحوّلت تدريجاً وخلال قرون متمادية حسب عوامل مساعدة توفرت بالتدريج
بأَنْ نفرض في المثال بروز فتوى بعدم وجوب الجهر في ظهر الجمعة لعدم تمامية دليل
شرعي عليه تؤدي إلى عدم التزام جملة من المتشرعة بالجهر فيها ثمّ يجيء آخر بعد
فترة من الزمن ويشكك في أصل جواز الجهر لكون الإخفات في الظهرين هو مقتضى القاعدة
على مستوى الأدلة والسيرة أو الإجماع قد انثلمت نتيجة الفتوى السابقة فيفتي بلزوم
الإخفات ويصبح ذلك تدريجاً هو الموقف الفنّي والعلمي من هذه المسألة فتتطابق
الفتاوى على لزوم الإخفات فيها فتنعقد سيرة متشرعية عليه.
ففرضيّة من هذا
القبيل ليست بغريبة ولا صعبة التوقّع.
الوجه
الثاني ـ إثبات معاصرة
السيرة ووجودها في زمن المعصوم 7 بالنقل والشهادة من قبيل ما ينقله الطوسي ( قده ) من
استقرار بناء أصحاب الأئمة والمتشرعة في حياتهم على الاعتماد على اخبار الثقات في
مقام أخذ معالم دينهم جيلاً بعد جيل. وهذا الوجه إِنْ فرض فيه تظافر النقل
واستفاضته بنحو قطعي أو توافر قرائن على قطعيّته فلا إِشكال ، وإِنْ فرض فيه النقل
بخبر ثقة فهو انَّما يجدي فيما لو ثبتت حجيّة خبر الثقة في المرتبة السابقة بدليل
آخر فلا يجدي إِذا كانت السيرة يراد الاستناد إِليها في إثبات حجيّة نفس الخبر كما
هو واضح. والتسامحات التي تثبت من قبل الناقلين للإجماعات المنقولة لا تقدح في
المقام لأنَّها عادة إِنَّما كانت في مقام نقل فتاوى
الأصحاب حيث كان
يتسامح فيه لا في مقام نقل التزام المتشرعة وسيرة أصحاب الأئمة فانَّه لم يثبت
التسامح منهم في مقام نقلها فانَّه اخبار عن عمل خارجي لا عن مسألة علمية ليكتفي
في تحصيل الموافق فيها على مجرّد توفر الدليل واقتضائه لتلك الفتوى.
الوجه
الثالث ـ استقراء الأوضاع الاجتماعية المتعددة في مجتمعات مختلفة
وبعد ملاحظة تطابقها على شيء واحد يعمم الحكم على جميع المجتمعات العقلائية حتى
المعاصرة لعهد المعصومين :.
وهذا الوجه أيضا
لا يتمّ في جملة من الأحيان لأنَّنا بهذا الاستقراء نلاحظ المجتمعات المعاصرة
بينما يراد التعميم إلى مجتمع يفصلنا عنه زمان طويل بما كان يحتويه من أحداث وظروف
ووقائع ومثل هذا التعميم متعذّر بحسب قواعد حساب الاحتمالات غالباً لأنَّ التعميم
انَّما يصحّ فيما إِذا لم تحتمل نكتة وخصوصيّة في حالة معيّنة تميزها عن غيرها من
الحالات وهذا الاحتمال ثابت هنا بعد أَنْ علم إجمالاً بتغير الأوضاع الاجتماعية في
الجملة عمّا كانت عليه في الأزمنة السابقة وعدم ثباتها جميعاً على ما كانت عليه
نتيجة طرو عوامل مختلفة يحتمل تحقق بعضها بالنسبة إلى تلك السيرة.
الوجه
الرابع ـ انَّ المسألة التي يراد إثبات السيرة فيها إِذا كانت من
المسائل الداخلة في ابتلاء الناس بها كثيراً وكان السلوك الّذي يراد إثباته
وانعقاد السيرة عليه نحو سلوك لا يكون خلافه من الواضحات لدى الناس والمتشرعة مع
عدم تكثر السؤال والجواب عنها على مستوى الروايات والأدلة الشرعية فانَّه في مثل
ذلك يستكشف انَّ ذلك السلوك كان ثابتاً في زمان المعصوم 7 أيضا وإِلاَّ لزم
امَّا أَنْ يكثر السؤال عنه أو يكون خلافه من الواضحات عند الناس عادة وكلاهما خلف
، مثلاً إِذا فرض انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة الأمر الّذي ليس عدمه من
الواضحات بحسب الطباع العقلائية مع كون المسألة محلاً للابتلاء كثيراً ولم ترد في
الأدلة والنصوص الصادرة عنهم ما يمنع عن العمل بخبر الثقة بل فيها ما تؤكد العمل
به كان ذلك دليلاً على أنَّ هذا السلوك كان متبعاً في تلك الأزمنة أيضا.
الوجه
الخامس ـ وهو يتم في مورد لو لم تكن السيرة منعقدة على ما يراد إثبات
انعقادها عليه لكان لها بديل وكان ذلك البديل ظاهرة مهمة لا تقتضي العادة أَنْ
تمرّ بدون تسجيل لخطورتها ، ولعلّ من أحسن أمثلة ذلك انعقاد السيرة على العمل
بالظواهر فانه لو لم تكن هذه السيرة موجودة في عهدهم ولم يكن بناء الصحابة
والأصحاب على جعل الظهور مقياساً لاقتناص المعنى فلا بد من أَن تكون هناك مبانٍ
أُخرى بديلة لذلك في مقام الاقتناص ، إِذ لا شك في انَّهم كانوا يقتنصون المعاني
من الأدلة الشرعية على كلّ حال فلو لم يكن ذلك على أساس الظهور فلا بدَّ من قاعدة
أُخرى بدلاً عن الظهور وذاك البديل لو كان لكان ظاهرة اجتماعية فريدة وملفتة للنظر
بحيث لا يمكن أَنْ تمرّ دون أَنْ يصل إِلينا آثارها وأخبارها بشكل وآخر فانَّ ما
هو أقلّ من ذلك تصل آثاره عادة إلى المتأخرين بالتدريج فكيف لا تصل إِلينا رائحة
بديل عن الظهورات بوجه من الوجوه فيستكشف منه أنَّه لم يكن هناك بديل بل كان
الظهور هو الحجة.
هذه هي وجوه خمسة
قد يستند إِليها أو إِلى بعضها على الأقل في إثبات معاصرة السيرة لزمان المعصومين : وهناك وجوه أُخرى
جزئيّة كثيرة على أساس نكات وخصوصيّات غير منضبطة يواجهها الفقيه عادة في الفقه ،
فمثلاً ألسنة الروايات وطرز الأسئلة فيها قد تكون كاشفة إثباتاً أو نفياً عن
ارتكاز المتشرعة في عصر المعصومين : فبالنسبة إلى طهارة أهل الكتاب مثلاً قد جعلنا لسان
الروايات التي استند إِليها المشهور لإثبات نجاستهم دليلاً على أنَّه لم تكن
النجاسة ممّا انعقدت السيرة عليها عند أصحاب الأئمة والمتشرعة لأنَّ تلك الأسئلة
قد بيّن فيها الاستشكال بضميمة فرض انَّ أهل الكتاب يشربون الخمر ويأكلون لحم
الميتة فلو كانت النجاسة الذاتيّة لهم أمراً مشهوراً فلما ذا يفترض النجاسة
العرضية والمعرضية لها مع فرض نجاستهم ذاتاً ، وكذلك فقه العامة في باب المعاملات
مثلاً يمكن أَنْ يعطي بعض القرائن نفياً أو إثباتاً على استقرار التعامل الخارجي
في زمن الأئمة على موقف معيّن إلى كثير من الخصوصيات الحديثة والتاريخية وغيرهما
ممّا لا ضوابط لها يترك تفصيلها إلى الفقه حسب موارد المسائل وطبيعتها.
٢ ـ كيف نستكشف الموقف الملائم
الكاشف عن الإمضاء :
وهذا هو الركن
الثاني في تتميم دلالة السيرة وهذا ما تختلف صيغته في السيرة العقلائية عنها في
السيرة المتشرعية ذلك انَّ أصحاب الأئمة : المعاصرين معهم لهم حيثيّتان حيثيّة كونهم عقلاء تتحكّم
فيهم أحكامهم ومواقفهم وحيثيّة كونهم متشرعة يطبقون أحكام الشريعة المقدّسة فيما
لا ربط له بالعقلاء ومواقفهم كما إِذا انعقدت سيرتهم مثلاً على الجهر في صلاة ظهر
يوم الجمعة ـ وعلى هذا الأساس تكون هناك سيرتان لهم سيرتهم بما هم متشرّعة وسيرتهم
في القضايا التي للعقلاء موقف فيها وملاك كاشفيّة كلّ من السيرتين عن قبول الشارع
لمضمون تلك السيرة يختلف عن الآخر.
فالسيرة
المتشرعيّة دلالتها على قبول الشارع لمضمونها تشبه دلالة البرهان الإنِّي بتوضيح :
انَّنا نتكلّم عن المتشرعة المعاصرين لعهد الأئمة : الذين أُتيح لهم تلقّي الأحكام والمعارف الشرعية عنهم
بطريق الحسّ أو القريب من الحسّ وذلك بالسؤال عنهم ـ وهم جلّ الأصحاب المعاصرين
لهم والناقلين لآثارهم وامَّا فقهاء عصر الغيبة فانَّ تطابق آرائهم وفتاواهم على
شيء يكون إجماعاً في الفتوى القائمة على أساس الحدس لا الحسّ وهذا ما سوف يأتي
الحديث عن حجيّته وكاشفيّته في فصل قادم ـ ومن الواضح انَّ تطابق آراء الأصحاب
والمتشرعة في عصر من هذا القبيل لا محالة يكشف عن تلقيهم ذلك الحكم من الشارع
بمعنى استناد موقفهم العملي إِليه لأنَّ احتمال استناده إلى نكات عقلائية غير
موجود بحسب الفرض إِذ المفروض انَّ السيرة انعقدت في مسألة شرعيّة بحتة كالجهر في
الصلاة فلو فرض انَّ سلوكهم المذكور ممّا لا يرضى به الشارع وغير مقبول لديه بل
غير مستند إِليه فهذا معناه افتراض الغفلة الحسيّة في عدد كبير من الناس. امَّا
بالغفلة عن أصل الفحص والسؤال أو عن الفحص التام وهو منفي بحساب الاحتمالات فانَّ
كلّ واحد وإِنْ كان معقولاً في حقّه ذلك إِلاَّ أنَّ غفلة الجميع في قضية حسيّة
منفي بحسب قوانين حساب الاحتمالات ومنطق الاستقراء ، بل كيف تطابقت الغفلات على
نتيجة واحدة متّفق عليها فانَّ هذا أيضا بعيد بنفس الحساب ومن هنا كانت هذه السيرة
أقوى من إجماع أهل الرّأي
والاجتهاد بمراتب
في مقام الكشف عن الموقف الشرعي ، لأنَّ الإجماع انَّما يكون في قضيّة حدسية ممّا
يكون احتمال الخطأ فيها من قبل الجميع معقولاً لو لا عنايات فائقة.
وهذا البيان لا
يمكن إجراؤه في السيرة العقلائيّة إِذ يمكن فيها افتراض انَّ المرتكزات العقلائيّة
لشدّة سيطرتها على الأفراد وتحوّلها إلى عادة لا شعوريّة يكون منشئاً لاستقرار
السلوك المعين فلا ينحصر سببه في التلقي من الشارع. ومن هنا كان لا بدَّ في إثبات
دلالتها من الاستعانة بقضيتين شرطيّتين :
إحداهما
ـ انَّه لو لم يكن الشارع موافقاً على مضمون السيرة لردع
عنها.
الثانية
ـ انَّه لو كان قد
ردع عنها لوصل إِلينا.
وحيث انَّه لم يصل
إِلينا فلا ردع وهو كاشف عن الإمضاء بحكم الشرطيّة الأولى.
وهذا يعني انَّ
السيرة العقلائية بحاجة إلى ثلاث نقاط حتى تتم دلالتها على الموقف الشرعي.
النقطة
الأولى ـ إثبات الشرطية الأولى التي محصّلها دلالة عدم الردع على
الإمضاء وهذا ما يمكن تقريبه بأحد وجهين :
١ ـ أَنْ تكون
دلالة عقليّة بملاك استحالة نقض الغرض وتخلّف المعصوم عن أداء رسالته من تبليغ
الشريعة وبيان أحكامها وحلالها وحرامها ، فانَّه بحكم كونه حجّة على العباد في
تبليغ الشريعة مسئول عن توضيح ما يخالفها من أوضاع الناس وإلا كان مخالفاً
لمسئوليّته بما هو مكلَّف ـ بالفتح ـ وناقضاً لغرضه بما هو مكلِّف ـ بالكسر ـ وكلاهما
مستحيل. وهذا الوجه ينطبق فيما إذا كانت السيرة العقلائية تشكّل خطراً على أغراض
الشارع بأنْ كان مفعولها سارياً إلى باب الشرعيات كالسيرة على الرجوع إلى أهل
الخبرة في كلّ فنّ المقتضي للرجوع إلى الفقهاء في أخذ معالم الدين امَّا جرياً
وراء العادة أو لعموم النكتة في نظرهم وعدم الفرق بين علم الفقه وساير الفنون.
٢ ـ أَنْ تكون
دلالة حالية بدعوى انَّ لسكوت المعصوم 7 عن موقف عقلائي عام يقع بين يديه ظهوراً حالياً في أنَّه
موافق عليه ويقبله نظير دلالة سكوته عن عمل شخصي يقع أمامه أو سكوت الأب عن تصرّف
معيّن من ابنه الكاشف عن رضاه به وقد قيل انَّ السكوت قد يكون أبلغ من الكلام في
التعبير عن المرام.
وهذا يختلف
باختلاف الظروف والملابسات والإمام 7 بوصفه له مقام التبليغ والمسئولية في أداء الأحكام يكون
لسكوته ظهور حالي يشبه ظهور سكوت الأب عن تصرف ابنه في الكشف عن موافقته عليه ،
وهذا الظهور الحالي إِنْ بلغ مرتبة اليقين كان حجة بلا كلام وإلاّ احتيج في إثبات
حجيتها ضمّ كبرى حجية الظهور حتى إِذا كان حالياً. ومنه يظهر انَّه لا يمكن بهذا
الظهور ـ إذا لم يكن قطعيّاً ـ تتميم الاستدلال بالسيرة على حجية الظهور نفسه.
النقطة
الثانية ـ إثبات الشرطية الثانية ومحصلها : انَّ عدم وصول الردع كاشف
عن عدمه ثبوتاً وملاك ذلك انَّ الردع عن كلّ سيرة المقابل للسكوت عنها يتحدد حجمه
ومقداره وعمقه بمقدار أهمية تلك السيرة ومدى تركزها وسعتها فردع المعصوم 7 عن عمل شخصي من
قبل مكلَّف على خلاف الموازين يمكن أَنْ لا يصل إِلينا إِذ ليست كلّ واقعة واقعة
لا بدَّ وأَنْ تصل إِلينا إِلاّ انَّ الردع عن تصرف نوعي للجمهور في مختلف الأحوال
لا بدَّ فيه من تكرر الردع وتركزه لكي يناسب قوة المردوع ويؤثر أثره في قلع جذوره
، ومثله يولد انتباهاً من المتشرعة في السؤال عن الأئمة : نتيجة البلبلة
والتذبذب الّذي يحصل بالردع في البداية وهذا ينعكس لا محالة في الروايات والآثار
المنقولة عنهم لتدلّ على توضيح بطلان مضمون تلك السيرة بنحو بحيث يكون من البعيد
جداً بحساب الاحتمالات أَنْ يخفى كلّ ذلك عنّا مع توفر الدواعي على نقلها لكونها
قضية تأسيسية تغييريّة مخالفة مع الوضع العام الّذي كان سائداً.
النقطة
الثالثة ـ عدم الوصول وهذا يقصد به عدم مطلق الوصول لا خصوص الوصول
بخبر صحيح أو موثق فالوصول ولو باخبار ضعاف كاف في عدم تمامية الاستدلال بالسيرة
ما لم تنضم عناية زائدة فانَّ ملاك الدلالة والملازمة في الشرطية الثانية انَّما
هو حسابات الاحتمال العقلية لا الحجية الشرعية فهي لا تقتضي أكثر من انَّه لو لم
يصل ردع أصلاً كان كاشفاً عن عدم وجوده لا انَّه لو لم يصل الردع باخبار الثقات
بالخصوص.
ثم انَّ المحقق
الأصفهاني ( قده ) في حاشيته على الكفاية اكتفي في حجية السيرة بعدم إحراز الردع
وقد ذكر في وجهه انَّ للشارع حيثيتين حيثية كونه عاقلاً من العقلاء
بل سيدهم وحيثية
كونه شارعاً ، وفي موارد السير العقلائية يعرف انَّ الشارع بما هو عاقل له نفس
الموقف المنعقد عليه السيرة وإِلاّ لكان خلف عقلانيته أو عقلائية السيرة ويشك في
انَّه بما هو شارع هل يخالف ذلك أم لا أي انَّ حيثية كونه مشرعاً هل تمنع عن ذلك
أم لا وهذا مجرّد احتمال بعد إحراز أصل موافقته عليه فلا يعتنى به ما لم يثبت
خلافه.
وفيه
: أولا ـ انَّ إحراز موافقة
الشارع للعقلاء بما هو عاقل لمجرّد كونه أحد العقلاء غير صحيح إِذ يحتمل مخالفته
لهم بما هو عاقل أيضا لأحد سببين ، امَّا لكون السيرة العقلائية غير عقلية بحتة بل
متأثّرة بالعوامل غير العقلية من العواطف والمشاعر الموجودة لدى العقلاء والمؤثرة
في قراراتهم كثيراً وامَّا لكون مرتبة عقله أتمّ وأكمل من مراتب عقولهم المستلزم
لاتخاذه موقفاً أفضل أو أشمل من موقفهم نتيجة ذلك.
وثانياً
ـ لو سلّمنا إحراز الاتحاد بينه وبين العقلاء في المسلك
العقلائي فتارة يفرض انَّ هذا الاتحاد يوجب القطع بأنَّه بما هو شارع أيضا لا
يخالفهم فهذا معناه عدم إمكان صدور الردع منه وانتفاء احتماله وهو خلف المفروض ،
وأخرى يفرض انَّ احتمال اختلاف موقفه بما هو شارع ومولى عن موقفه العقلائي موجود
فمن الواضح حينئذ انَّ مجرد إحراز موقفه بما هو عاقل لا أثر له في التنجيز والتعذير
عقلاً إذ لا موضوعية لمواقفه غير المولويّة في هذا المجال وإِنْ أُريد جعل ذلك
كاشفاً ظنيّاً عن موقفه بما هو شارع فهذا الظنّ لا دليل على حجيّته ما لم يرجع إلى
باب الظهور الحال في الإمضاء والقبول على أساس النكات التي تقدّم شرحها.
مقدار ما يثبت بالسيرة المتشرعية
:
الجهة
الثالثة ـ في مقدار ما يثبت بالسيرة المتشرعية من حدود الحكم الشرعي
فنقول :
تارة تنعقد السيرة
المتشرعية على عدم التقيد بفعل كمسح القدم بتمام الكفّ فتدلّ حينئذ على عدم وجوبه
بملاك حساب الاحتمالات المتقدم شرحها. وأُخرى تنعقد على الإتيان بفعل ـ أو ترك ـ فلا
إشكال حينئذ في ثبوت الجواز بالمعنى الأعم
حينئذ المقابل
للحرمة بل الكراهة أيضا بنفس الملاك وامَّا ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو جامع
المطلوبية بها؟ فهو بحاجة إلى بحث وتفصيل. لأنَّ السيرة العملية المتشرعية انْ
أحرزت نكتتها الارتكازية وعنوان عمل المتشرعة فيها كان علم انهم يعملون ذلك على
وجه الاستحباب والأفضلية فنفس ملاك حجية السيرة جاء بلحاظ النكتة المتّفق عليها في
السيرة وإِلاّ بأن كان وجه العمل المتشرعي مجملاً غير واضح فتارة يفرض وجود دواع
خارجية طبيعية للالتزام بذلك الفعل كالعرف العام مثلاً فلا يمكن أَنْ يستكشف من
انعقاد العمل المطلوبية إذ لعله على أساس ذلك الداعي الخارجي وأُخرى يفرض عدم وجود
داع كذلك فيكشف ذلك لا محالة عن أصل المطلوبية ولو بدرجة الاستحباب هذا مجمل
مفادات سيرة المتشرعة.
مقدار مفاد الإمضاء للسيرة
العقلائية :
الجهة
الرابعة ـ في مقدار مفاد الإمضاء للسيرة العقلائية وهل هو في حدود ما
هو معمول به خارجاً وقام التعارف عليه في عهد المعصوم 7 أو يكون الإمضاء
أوسع من ذلك وضمن سعة دائرة النكتة العقلائية لها التي قد تكون أوسع من مقدار
الجري الخارجي ، فالسيرة على سببيّة الحيازة للتمليك مثلاً كان المقدار المعمول به
منها خارجاً الحيازة بالطرق والوسائل البدائية كالاغتراف والاحتطاب وامَّا مثل
حيازة الطاقة الكهربائية لم يكن لها وجود آنذاك فهل المقدار المستفاد إمضاؤه يكون
في دائرة تلك الموارد المعمول بها أم أوسع من ذلك؟ وهذا له آثار مهمّة في الفقه.
قد يقال : بأنَّ
السكوت وعدم الردع لا يدلّ على أكثر من إمضاء ما وقع خارجاً من عمل العقلاء وامَّا
سعة نظر العقلاء من دون أَنْ يقع جري خارجي على طبقها فلا يمكن أَنْ يستكشف إمضاء
الشارع لها من مجرّد سكوته.
إِلاّ انَّ
الإنصاف دلالة عدم الردع على إمضاء تمام النكتة العقلائية التي هي أساس العمل
الخارجي للعقلاء وملاكه في نظرهم ، لأنَّ المعصوم له مقام التشريع وإبلاغ أحكام
الله سبحانه وتعالى وتصحيح أو تغيير ما ارتكز عند الناس من شرائع غير صحيحة ومثل
هذا المقام أوسع مدلولاً من مجرد كونه ناهياً للمنكر الخارجي وآمراً
بالمعروف بل يدلّ
بحسب ظهوره الحالي على انَّه ناظر إلى النكات التشريعية الكبروية نفياً أو إثباتاً
فيكون لسكوته وعدم ردعه ظهور في إمضاء تمام النكتة العقلائية للسيرة.
الفوارق بين السيرة المتشرعية
والعقلائية :
الجهة
الخامسة ـ يظهر من مجموع ما تقدّم عدة فوارق بين سيرة المتشرعة وسيرة
العقلاء.
ومن جملتها انَّنا
حينما نريد أَنْ نستدلّ بسيرة المتشرعة لا بدَّ وأَن نثبت استقرار بناء المتشرعة
وعمل أصحاب الأئمة والأجيال المعاصرة لهم على ذلك العمل ، وامَّا السيرة العقلائية
فيكفي فيها أَنْ نثبت انَّ الطباع العقلائية لو خليت ونفسها ولم تردع لكان مقتضاها
عمل ما وإِن كان بالفعل لم يجرِ أصحاب الأئمة والعقلاء في زمانهم على ذلك فانَّ
هذا نثبته بنفس برهان عدم الردع بالشرطية الثانية المتقدمة. وإِنْ شئت قلت : انَّه
يكفي في الاستدلال بالسيرة العقلائية أَنْ نثبت انَّ الطباع العقلائية لو خليت
ونفسها ومن دون ردع كانت تقتضي جري العقلاء عليها ولا نحتاج ـ في الركن الأول ـ إلى
أكثر من ذلك وإثبات انَّ العقلاء في زمن الأئمة بالفعل كانوا يعملون طبقاً لتلك
الطبيعة كما نحتاجه في السيرة المتشرعية لأنَّ نفس ثبوت القضية الطبيعة العقلائية
مع عدم وصول ردع عنها كاف في الكشف عن إمضاء الشارع لمقتضاها.
ومن الفوارق انَّ
سيرة المتشرعة إذا استكملت شرائطها فلا معنى لاحتمال الردع فيها لأنَّها تكشف عن
البيان الشرعي كشف المعلول عن علّته فهي وليدة البيان الشرعي على وفقها فكيف يحتمل
الردع عنها وهذا بخلاف سيرة العقلاء فانَّ انعقادها ليس معلولاً للشارع بل لقضية
عقلائية فيحتمل الردع عنها شرعاً.
وينبغي أَنْ يعلم
انَّ ما نجعله سيرة متشرعة له أحد معنيين :
١ ـ سيرة المتشرعة
بنحو يكون تشرعهم حيثية تعليلية للسيرة نظير سيرتهم على الجهر بصلاة الظهر من يوم
الجمعة لو فرضت وهذه سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص.
٢ ـ السيرة التي
مارسها بالفعل المتشرعة وجرى عليها سواءً كان ذلك لتشرعه أو بمقتضى طبعه ، ومثاله
سيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة على العمل باخبار الثقات
خارجاً من دون جزم
لنا بأنَّ هذا العمل هل هو من باب عقلائيتهم أو لأجل تشرعهم وتلقيهم ذلك من
المعصومين : وهذه سيرة متشرعية بالمعنى الأعم. ويقابلهما السيرة العقلائية بمعنى إحراز
انَّ الطباع العقلائية لو خليت ونفسها ، تقتضي مطلباً ما ولكن لا يعلم ـ بقطع
النّظر عن برهان عدم الردع ـ جريان المتشرعة على طبقه.
وكلا المعنيين
للسيرة المتشرعية تكون حجّة بملاك كشف المعلول عن علّته إِلاّ انَّ السيرة بالمعنى
الأول أقوى دلالة من المعنى الثاني إذ لا يحتمل فيه أَنْ تكون ناشئة من الطبع
العقلائي وانَّما منشأ وقوع الخطأ فيها أَنْ تكون المتشرعة قد أخطأت في تلقّي
البيان الشرعي وهو منفي بحساب الاحتمالات على ما تقدّم شرحه ، وامَّا السيرة
المتشرعية بالمعنى الثاني الأعم فيحتمل نشوؤها من الطبع العقلائي ، ومن هنا كانت
مثل السيرة المتشرعية على الجهر في الصلاة أقوى من سيرتهم على العمل باخبار الثقات
في الكشف عن الحكم الشرعي إِلاّ انَّ كلتيهما حجة على كلّ حال بملاك واحد ، لأنَّ
النزعة العقلائية وإِنْ كانت تقتضي الجري على طبقها إِلاّ انَّ المتشرعة حيث
انَّهم متشرعون فاحتمال انَّهم جميعاً قد غفلوا عن حكم المسألة شرعاً وانساقوا
وراء طباعهم العقلائية من دون سؤال واستفسار أو تفهّم للموقف الشرعي ولو روحاً في
مسألة داخلة في محل ابتلائهم كثيراً منفي أيضا بحساب الاحتمالات.
وبهذا نختم الحديث
عن السيرة.
حجيّة الظواهر
والبحث عنها يقع
في جهات :
الجهة
الأُولى ـ في أصل حجيّة الظهور. والعمدة في الاستدلال عليه التمسّك بالسيرة التي فرغنا عن
كبراها في المسألة السابقة.
والاستدلال تارة
يكون بالسيرة المتشرعية وأُخرى بالسيرة العقلائية.
امَّا السيرة
المتشرعية فقد قلنا فيما سبق انَّ الاستدلال بها يتوقّف على إثبات وقوع العمل
فعلاً من قبل المتشرعة من أصحاب الأئمة : باخبار الثقات بأحد وجوه خمسة متقدمة نطبق منها في المقام
الوجه الخامس وحاصله : انَّ فقهاء ذلك العصر كانوا يعملون بالظواهر جزماً ، إذ لو
لم يكن قد انعقد بناؤهم على العمل بالظهور في مقام اقتناص الحكم من الأدلة الشرعية
وكان بناؤهم على قاعدة اليقين أو الاطمئنان أو الاحتياط أو أيّ قاعدة أُخرى لكان
ذلك حدثاً فريداً في الفقه ولا نحتمل انَّ مثل هذا الحادث يقع ويكون مبنى فقهاء
الطائفة عليه ثم لا يشار إِليه ولا يصل إِلينا منه عين ولا أثر بل يصل إِلينا
العكس ، فانَّ كلّ من كتب في الأصول بنى على حجيّة الظهور ولم يشكك فيه أحد ولم
يحتمل وجود خلاف.
ولا يتوهّم :
احتمال انَّهم كان يحصل لهم الاطمئنان غالباً من الظهورات ومن هنا
لم يشكل ظاهرة
فريدة ملفتة للنظر. إِذ من الواضح انَّ أكثر مراتب الظهور لا يحصل منها اطمئنان لا
لاحتمال التجوز أو الإظهار أو التقدير أو نحوها من خلاف الظاهر الكثير في اللغة
العربية فحسب بل لأنَّ وضع الأئمة : واعتمادهم على التقيّة أو القرائن المنفصلة لم يكن يساعد
على حصول الاطمئنان من ظاهر كلماتهم جزماً.
وبهذا نثبت انعقاد
السيرة المتشرعية بالمعنى الأعم على العمل بالظهورات وقد تقدّم انَّه حجّة كالسيرة
المتشرعية بالمعنى الأخص وبناءً عليه لا تصل النوبة إلى البحث عن احتمال الردع
بإطلاقات النهي عن العمل بالظنّ مثلاً والبحث عن انَّها هل تصلح للرادعية أم لا ،
فانَّ هذا الاستدلال بالسيرة المتشرعية الكاشفة كشفاً إنيّاً عن موقف الشارع
مباشرة.
وامَّا السيرة
العقلائية فلا ينبغي الإشكال أيضا في انَّ قضية العمل بالظهور على وفق الطبع
العقلائي ، بل هذا من أوضح طباعهم وجوانب سلوكهم العام حيث لا يتقيدون في مقام
الإفادة والمحاورة بالتنصيص والصراحة في مقام التعبير جزماً.
وكيفية تقريب
الاستدلال بالسيرة العقلائية في المقام يمكن أَنْ يكون بأحد شكلين :
الأول
ـ الاستدلال بسيرة العقلاء في معاشهم وأوضاعهم الخارجية اليومية
حيث انَّها انعقدت على الأخذ بالظهورات وهذا بناء عقلائي في مجال أغراضهم
التكوينية.
الثاني
ـ التمسّك بسيرتهم في عالم المولويات العرفية والأغراض
التشريعية لهم حيث انَّ بناء العقلاء على إلزام كل من الآمر والمأمور بالظهور
ويرونه حجة.
وقد يعترض على
الاستدلال بالسيرة العقلائية على النهج الأول بأنَّه غير تام صغرى وغير مفيد كبرى
، إِذ العقلاء وإِنْ كانوا لا يطالبون بالألفاظ الصريحة في مجال بيان أغراضهم
التكوينية ، إِلاّ انَّ هذا ليس من باب التعبّد بالظهور بل على أساس نكات أُخرى
كيف ولا يعقل التعبد في مجال الأغراض التكوينية ولا معنى للحجية والمنجزية
والمعذرية فيها. وامَّا نكات العمل وملاكاته فقد يكون عبارة عن حصول الاطمئنان من
الظهور أحياناً بأنَّ المتكلّم ليس بناؤه على التأويل والإلغاز أو الإجمال أو حصول
الغفلة العرفية عن احتمالات خلاف الظاهر أو عدم الأهميّة بالغرض التكوينية بحيث
يرتب الأثر على
احتمالات خلافه المقتضية للاحتياط أو كونه على وفق الاحتياط أو إيقاع باب التزاحم
مثلاً بين أطراف القضية ونحو ذلك ، هذا من حيث الصغرى ، وامَّا من حيث الكبرى فلو
سلّمت الصغرى تعقّلاً ووقوعاً فأيّ فائدة في مثل هذه السيرة العقلائية في مجال
الأغراض التكوينية وأيّ فائدة في عدم ردع الشارع عنها فانَّ غايته إمضاؤه في مجاله
لا في مجال الأغراض التشريعية وعالم التنجيز والتعذير الّذي هو المهم من هذا
البحث.
والتحقيق ـ انَّ
الاعتراض الصغروي المذكور وإِنْ كان صحيحاً في الجملة بمعنى أنَّه لا معنى للحجية
والتعبّد في باب الأغراض التكوينيّة واحتمال كون المحرك فيها انَّما هو الاحتمالات
التكوينية ودرجتها أو المحتملات التكوينية وأهميتها ، إِلاّ انَّ هذا لا يمنع عن
صحّة الاستدلال بها في محل الكلام لأنَّ هذه السيرة بقطع النّظر عن تحليل مناشئها
ودوافعها باعتبارها سلوكاً يوميّاً عاماً في حياة كلّ عاقل الاعتيادية فسوف تشكّل
عادة وجبلة وفطرة ثانوية للإنسان العرفي بحيث يكون بابه باب العادة لا باب التعقل
والتبصّر والدراية ومع تحوّل السلوك العقلائي من سلوك تبصر مدروس إلى سلوك عفوي
جبلي لا يضمن بحسب الخارج حينئذ أَنْ لا يكون السير عليه أوسع من مأخذه الأول
ونكتته العقلية التي يفترض لها بل لعله يصبح تدريجاً أدباً عقلائيّاً ونهجاً
عرفيّاً يعاب الإنسان على مخالفته والخروج عنه المعبر عنه بالتقاليد العرفية أو
العقلائية.
وبذلك سوف تشكل
هذه السيرة إحراجاً للشارع في مجال الأغراض التشريعية أيضا إذ لا ضمان لعدم
امتدادها إلى هذا المجال انسياقاً معها وتأثرها بها كعادة جارية فلو لم يكن الشارع
راضياً وموافقاً عليها لزمه التنبيه على ذلك وردعهم عن استخدام نفس النزعة العادية
في مجال التشريعيات.
ومنه ظهر جواب
الاعتراض الكبروي فانَّ سكوت الشارع عن هذه السيرة لا يثبت مجرد عدم المضايقة منها
في مجال الأغراض التكوينيّة بل يثبت موافقته على امتدادها إلى مجال الظواهر في
الأدلة الشرعية أيضا.
نعم لو كان مسلكنا
في استكشاف الرضا ما تقدّم من المحقق الأصفهانيّ ( قده ) من استكشاف ذلك على أساس
كون الشارع سيد العقلاء وأحدهم فهذا لا يقتضي أكثر
من استكشاف
موافقته معهم في مجال الأغراض التكوينية.
وإِنْ شئت قلت :
انَّ السيرة على هذا التقدير لا يعدو أَنْ يكون مجرّد عادة عفويّة ولا يكون بناءً
عقلائيّاً تشريعيّاً لكي تكون عقلائية الشارع مجدياً في إثبات الحجيّة في
التشريعيات وانَّما يتوقّف استكشاف ذلك كموقف تشريعي على أساس عدم
الردع بالتقريب
المتقدم منّا.
وامَّا الشكل
الثاني من الاستدلال بالسيرة العقلائية وهو دعوى إدانة العقلاء لكل من الأمر
والمأمور بالظهور في أغراضهم التشريعية فهو سليم عن الاعتراضين السابقين حتى على
مسلك الأصفهاني ( قده ) لأنَّ الحجية والتعبد معقول في هذا المقام فلا يحتاج في
الاستناد إلى هذه السيرة لإبراز نكتة تحولها إلى سلوك عادي جبلي ، إذ يكفي ثبوت
نفس الإدانة العقلائية المولويّة إِلاّ انَّ مصاديق هذه السيرة خارجاً أقلّ من
تطبيقات السيرة العقلائية في الأغراض التكوينية ، كما انَّه ليس المراد بهذه
السيرة دعوى الإدانة العقلائية على أساس كاشفية عقلية عملية وإِلاّ كانت حجية
الظهور ذاتية كحجية القطع مع انَّه قد فرغنا عن عدمها ، كما انَّه ليس المراد انَّ
العاقل يعاقب أو يعاتب الأمر أو المأمور إذا خالف الظهور فانَّ الحجيّة حكم يجعله
نفس الآمر بلحاظ مأموره بالخصوص لا شخص آخر ، لما تقدّم من انَّها عبارة عن حكم
ظاهري يجعله صاحب الأغراض التشريعية وهو المولى في مقام علاج التزاحم الواقع فيما
بينها فيرجح بعضها على بعض على أساس قوة الاحتمال أو على أساس الاحتمال أو على
أساس أهمية المحتمل ومثل هذا لا يكون إِلاّ من قبل كل مولى بلحاظ مواليه لا غير.
وانَّما المقصود
انَّ كلّ عاقل يرى انَّه لو كان جالساً مجلس ذلك المولى الأمر لجعل الظهور حجّة
فيما بينه وبين مأموريه وهذه قضية شرطية يبنى عليها كلّ عاقل ولو ارتكازاً وهو
معنى السيرة العقلائية.
هذا كلّه في
كيفيّة تقرير نفس السيرة العقلائية.
وامَّا إثبات
إمضائها من قبل الشارع ، فقد تقدّم انَّه يستكشف من عدم ردعه عنها على أساس أحد
ملاكين امَّا لزوم نقض الغرض لو لم يكن موافقاً عليها ولم يردع أو انعقاد ظهور
حالي في إمضائه وتقريره ، والأول منهما تام في المقام على ضوء ما تقدّم في تقرير
حقيقة هذه السيرة
العقلائية الممتدة إلى مجال الأغراض التشريعية ، وامَّا الثاني فالظهور الحالي
وإِنْ كان ثابتاً هنا أيضا بنحو أقوى بل يمكن اعتباره ظهوراً لفظيّاً لأنَّ نفس
تصدّي الشارع لتفهيم مرامه بالظهورات وعدم تقيده بإبراز العبارات الصريحة ظاهر في
البناء على مرجعيتها وحجيّتها في مقام اقتناص المرام ، وهذا ظهور للشارع بما هو
متكلّم لا بما هو مشرع فحسب فيكون ظهوراً كاللفظي إِلاّ انَّه لا يمكن جعل ذلك
دليلاً على إمضاء السيرة في المقام ، لأنَّ الكلام بعد في حجية الظهورات ، اللهم
إِلاّ أَنْ يحصل لنا اليقين بمدلول هذا الظهور أو التلفيق بين السيرة المتشرعية
والعقلائية بأنْ نثبت حجيّة شخص هذا الظهور بالسيرة المتشرعية ثم به نثبت إمضاء
السيرة العقلائية وليس هذا عبثاً أو مستدركاً ، لأنَّ المقدار الّذي يثبت بسيرة
المتشرعة من الحجية قد يكون له قدر متيقّن هو خصوص الظهور القوي لا مطلق الظهور
ويكون شخص هذا الظهور داخلاً في القدر المتيقّن.
وامَّا إثبات عدم
الردع فيكون بعدم وصوله كما تقدم ، وقد يشكل عليه في المقام بأنَّه يكفي في الردع
عمومات النهي عن العمل بالظنّ أو إطلاق أدلّة الأصول والقواعد الشرعية المقررة
لموارد عدم العلم الشامل للظن أيضا كحديث الرفع مثلاً.
وهذه الشبهة تورد
على الاستدلال بالسيرة على حجيّة خبر الواحد في بحث حجيته وهناك نكات وبحوث مشتركة
بين المسألتين نؤجلها إلى ذلك الفصل وانَّما نتعرض في المقام إلى نكتتين :
إحداهما
ـ انَّ هذه العمومات لا تصلح لذلك ، بداهة انَّ مثل هذه
السيرة لشدة ترسخها واستحكامها في أذهان العقلاء والمتشرعة حتى انَّه لم يتزعزع
شيء منها بعد ورود المطلقات المذكورة التي كانت على مرأى ومسمع من الناس لا يكفي
في ردعها الاعتماد على مثل هذه المطلقات فانَّ الردع لا بدَّ وأَنْ يتناسب مع
المردوع عنه ، فمثلاً نحن نرى في باب الردع عن القياس ما أكثر وأشدّ التصريحات
الصادرة عنهم في مقام الردع عنه رغم انَّه لا ترسخ له في أذهانهم وانَّ الحاجة
الفقهية إِليه والتعامل الفقهي معه أقلّ بمراتب من الحاجة إلى الظهور والتعامل معه
في الفقه فضلاً عن المجالات الأُخرى.
الثانية
ـ قد يقال : انَّ
الرادعيّة في المقام مستحيلة ، لأنَّ ما يراد جعله رادعاً بنفسه ظهور وظنّ فيلزم
من حجيته لكي يكون رادعاً عدم حجيته وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه محال.
وهذا البيان يحتاج
في تتميمه إلى دعوى مصادرة وجدانية عهدتها على مدّعيها وهي القطع بعدم الفرق في
فرض عدم الحجية بين سائر الظهورات وشخص هذا الظهور الرادع وإِلاّ فنثبت حجيّة شخص
هذا الظهور بالسيرة العقلائيّة ، إِذ لا رادع عنه غيره بحسب الفرض وهو يستحيل أَنْ
يكون رادعاً عن نفسه فإذا كان حجّة فيردع به عن حجية ساير الظهورات .
المقارنة بين الاستدلال
بالسيرتين على حجية الظهور :
قد اتّضح ممّا سبق
انَّ السيرة المتشرعية تمتاز على السيرة العقلائية في انَّها لا تحتاج إلى إثبات
عدم ردع الشارع عنها ولهذا تكون أقوى في الدلالة على الموقف الشرعي منها ، هذا على
العموم. إِلاّ انَّه في خصوص المقام ربّما يقال ببعض جهات النقص والضعف في
الاستدلال بالسيرة المتشرعية من انَّ هذه السيرة باعتبارها دليلاً لبياً لا بدَّ
وأَنْ يقتصر فيه على القدر القطعي المتيقّن من مدلوله ، فلا يمكن أَنْ نثبت بها
إِلاّ ما أحرز يقيناً عمل المتشرعة به من الظهورات فمثلاً لا يمكن أَنْ نثبت بها
حجيّة الظواهر الحالية البحتة غير المكتنفة بالكلام ، إِذ لا يمكن القطع بأنَّ عمل
أصحاب الأئمة كان على الأخذ بها لعدم شيوع الاستدلال بمثلها في مجال الاستنباط
بخلاف الظواهر اللفظية المتمثلة في الكتاب والسنة بل بعض مراتب الظهورات اللفظية
أيضا قد لا يحرز العمل به من قبلهم. والحاصل : يكون مضمون السيرة المتشرعية قضية
مهملة وهي في قوة الجزئية فلا يمكن الرجوع إِليها كلّما شك أو شكك في حجيّة ظهور
كان فيه نكتة تستوجب مثل التشكيك من قبيل كونه يظنّ بخلافه أو لا يظنّ بوفاقه أو
غير
__________________
ذلك ، وهذا بخلاف
السيرة العقلائية المنعقدة بمعنى القضية الطبعية العقلائية فانَّه لا يشك في
عمومها لمطلق الظواهر الحالية واللفظية بمراتبها المتعارفة عقلائيّاً.
إِلاّ انَّ الصحيح
إمكان تعميم نتيجة السيرة المتشرعية بعد ضمّ افتراض وجود السيرة العقلائية أولا بل
افتراض أخذ أصل ثبوت السيرة العقلائية بعين الاعتبار أمر لا بدَّ منه في إثبات أصل
السيرة المتشرعية وليس هذا مستدركاً لما قلنا من انَّ الاستدلال بالسيرة المتشرعية
ليس بحاجة إلى عدم الردع بخلاف العقلائية التي لا يكفي في الاستدلال بها أصل
ثبوتها. ووجه الاحتياج انَّ العقلاء لو لم يكونوا يبنون على الظهورات فكان حال
الظهور عندهم حال غيره من القواعد غير المقبولة كالقرعة أو الاستخارة مثلاً. فلا
يمكن استكشاف ثبوت سيرة متشرعية في زمان المعصومين : ، لأنَّ ذلك انَّما كان ببيان انَّه لو كانت لهم طريقة
أُخرى في مقام اقتناص المرام لكانت حادثة فريدة على خلاف الوضع العقلائي العام
ومثله لن يمرّ بدون تسجيل تاريخي بشكل وآخر مع انَّه لم تصل رائحة ذلك إِلينا ،
وواضح انَّ مثل هذا البيان انَّما يتمّ فيما لو افترض انَّ الوضع العقلائي العام
كان يعتبر أي طريقة أُخرى غير الظهور أمراً غريباً عن طباعهم وإِلاّ كان حال
الظهور حال تلك القضايا فلما ذا يفترض انَّ العمل كان به لا بها ، فافتراض انَّ العمل
بالظهور هو الطريقة العقلائية الطبعية مقوم لطريقتنا في استنتاج السيرة المتشرعية.
وحينئذ بالطريقة نفسها نثبت التعميم في مضمون السيرة
__________________
المتشرعية إِذ لو
كان مؤداها أقلّ من مؤدّى القضية الطبعية وأخصّ منه فهذا لا منشأ عقلائي طبعي له
وانَّما ينحصر منشؤه في البيان الشرعي الّذي يعتبر تحديداً للقضية العقلائية
وردعاً عنها ومثله لو كان لوصل إِلينا عادة مع انَّه لم يصل شاهد عليه من قريب أو
بعيد فليست السيرة المتشرعية مهملة بذلك النحو الّذي يجعل مؤداها في قوة الجزئية
دائماً ، هذا بالنسبة إلى سيرة المتشرعة.
وأمَّا السيرة
العقلائية فربما يبرز بإزائها بعض نقاط الضعف ، منها ما تقدّمت الإشارة إِليه ، من
أنَّ هذه السيرة مجرّد ثبوتها لا يكفي للاستدلال بها على الحكم الشرعي ما لم يثبت
عدم الردع عنها الكاشف عن الموافقة مع مضمونها وهذا يتوقّف في بعض الأحيان على
إثبات حجية ظهور حالي أو لفظي للشارع في الإمضاء وهو لا يكون إِلاّ بالتمسّك بدليل
آخر على حجيّته لا بنفس هذه السيرة ، ومن هنا كان بحاجة إلى ضمّ السيرة المتشرعية
إِليها في إثبات حجية شخص هذا الظهور على ما تقدّم شرحه.
وقد يقال بلزوم
ضمّ السيرة المتشرعية في إثبات أصل ثبوت السيرة العقلائية في الظهورات الموجودة في
ثنايا الأدلة الشرعية ، لأنَّ هذه الظهورات تختلف عن الظهورات العرفية في مقام
المحاورة والتي هي القدر المتيقّن من شمول السيرة العقلائية لها في انَّها ظهورات
صادرة في مجالس متعددة مفصولة بعضها عن بعض زماناً ومكاناً وحتى من حيث المتكلّم نفسه
، فانَّ الأئمة : قد خالفوا الطرائق العرفية في المحاورة بكثرة اعتمادهم على
القرائن المنفصلة المتعددة والصادرة في مجالس مختلفة وأزمنة متباعدة ومن أئمة
متعددين في عصور مختلفة ومثل هذه الطريقة ليست بعرفية ولا أقلّ في انَّها لا تكون
رائجة فيما بين العقلاء لكي ينظر ما هو بنائهم فيها ، فالسيرة العقلائية على العمل
بالظهورات العرفية المتعارفة وحدها لا تكفي لإثبات حجية مثل هذه الظهورات.
وهذه الشبهة تارة
تُبين كاعتراض على دليلية السيرة العقلائية ، وحينئذ قد يجعل نفس عمل أصحاب الأئمة
: بهذه الظهورات مع اطلاعهم على انَّ لهم حالة اعتماد القرائن المنفصلة
وتأجيلها شاهداً على عموم السيرة العقلائية ، لأنَّهم انَّما كانوا يعملون ذلك
بعقلائيتهم لا لتلقي نصّ منهم عليه.
وقد تُبيّن هذه
الشبهة للتشكيك في كلتا السيرتين ، امَّا العقلائية فبما تقدّم ، وامَّا المتشرعية
فلما تقدّم أيضا من توقّف تماميتها على افتراض العموم في السيرة العقلائية في
المرتبة السابقة عليها وإِلاّ لم يكن طريق لإثبات عمومها.
والصحيح : انَّه
لا يمكن إبطال عموم السيرة المتشرعية ولا العقلائية بهذه الشبهة فلنا في المقام
دعويان :
امَّا
الأُولى ـ فلأنَّ ثبوت السيرة المتشرعية انَّما يتوقّف على ثبوت أصل
كبرى حجيّة الظهور عند العقلاء وبحسب طباعهم لا انطباقها في خصوص كلمات الشارع
فثبوت الكبرى ولو بنحو القضية المهملة الأوّليّة كافية في ثبوت سيرة المتشرعة ،
إِذ هذا المقدار كافٍ في أَنْ يكون أي طريقة أُخرى لدى المتشرعة والشارع في مقام
اقتناص المرام من ظواهر كلماتهم طريقة فريدة مرصودة لو كانت لنقلت إِلينا لا محالة
لخطورتها وجدارتها.
وإِن شئت قلت :
انَّ تطبيق تلك الكبرى الطبعيّة على كلمات الشارع وظهوراتها وإِنْ كان خارجاً أو
يشك في دخولها عن المتيقن من مضمون السيرة العقلائية إِلاّ انَّه باعتبار تجانسه
معها لا يشكل حادثاً فريداً بخلاف اتباع طريقة أُخرى كالاستخارة والقرعة مثلاً.
وامَّا
الدعوى الثانية ـ فلأنَّ السيرة العقلائية
في باب الأغراض التشريعية قد انعقدت على انَّ لنفس صدور الكلام والظهور واستناده
إلى المولى موضوعية في باب الحجيّة والإدانة وليس حال الظواهر في هذا المجال حال
الظواهر في مجال الأغراض التكوينيّة التي يتعامل معها لمجرد كاشفيتها التكوينية
ليقال بأن مجالها الظهورات المتعارفة. نعم لا بأس بدعوى انَّ الإدانة والحجية
إِنَّما تكون بعد الفحص عن المخصص والمقيّد والقرينة المنفصلة خصوصاً فيما إِذا
كان المولى من دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة.
هذا كلّه لو سلّم
وجود طريقة غير متعارفة للشارع في مقام اعتماده على القرائن المنفصلة ، فان أصل
هذا المطلب وإِنْ كان صحيحاً في الجملة إِلاّ انَّه لا بالمرتبة التي تخرجها عن
الطرائق المتعارفة في نظائرها على ما تقدّم تفصيل ذلك في بعض بحوث العام والخاصّ.
بعد أنْ كان الأئمة المتعددين بحكم مشرع واحد لعصمتهم واطلاعهم على
كل ما صدر من
الإمام الآخر.
وهناك شبهة أُخرى
قد تثار بوجه الاستدلال بالسيرة العقلائية على القضية المطلقة ، حاصلها : انَّ الاستدلال
بالسيرة العقلائية مبتنٍ على استكشاف عدم الردع ولو من عدم وصوله وهذا بالنسبة إلى
المراتب القوية من الظهور وبالنسبة إلى ظهور الروايات والأحاديث ثابت بلا إِشكال
إِلاّ انَّه بالنسبة إلى بعض الظهورات مرتبة أو مورداً يوجد ما يحتمل كونه ردعاً
عنه ، وذلك لأنَّ هناك طائفتين من الروايات يبلغ مجموعها حدّ الاستفاضة.
الأُولى
ـ ما دلّت على الردع عن تفسير الكتاب بالرأي ، وقد استند
إِليها بعض المحدثين لإسقاط حجيّة الظهورات الواردة في الكتاب الكريم ، فيدعى
بأنَّ ما لا يكون القرآن صريحاً فيه واضحاً قد يصدق عليه انَّه تفسير بالرأي.
الثانية
ـ ما دلّ على الردع
عن العمل بالقياس ، فيقال انَّ بعض مراتب الاستظهار المبتنية على إعمال تحليلات
عرفية أو إبراز مناسبات ونكات للظهور أو إِلغاء الخصوصيات المأخوذة بحسب ظاهر
الدليل ونحو ذلك قد يصدق عليه عنوان القياس والاستحسان ، لأنَّها تعميمات مبتنية
على مناسبات وهي وإِنْ كانت تشكل ظهوراً في الدليل بحيث يعترف بالظهور والدلالة
فيها بعد الالتفات إلى تلك النكات إِلاّ أنَّه قد يقال بأَنَّ هذه لشباهتها باعمال
الرّأي والقياس يحتمل شمول الروايات الرادعة لها ومعه لا يبقى جزم بعدم الردع لو
لا إبراز السيرة المتشرعية وفعلية عملهم بها.
والجواب ـ يمكن
أَنْ يكون على أساس أحد وجوه :
الوجه
الأول ـ انَّ هذا المقدار
لا يكفي في الردع عن السيرة بعد فرض انعقادها وعموم نكتتها ، فانَّه قد ذكرنا
سابقاً انَّه لا بدَّ في مقام الردع عن سيرة أو تعديلها أَنْ يكون الرادع واضحاً
صريحاً في إرادة ذلك فمجرد التشابه بين بعض الظهورات والقياس أو إعمال الرّأي
المردوع عنه ـ الّذي هو بنفسه ضرب من القياس مع الفارق ـ لا يشكل ردعاً فعدم الردع
المناسب ثابت.
الوجه
الثاني ـ انّا نثبت حجيّة
هذه المراتب من الظواهر بأدلة لفظيّة لا بالسيرة
العقلائية ابتداءً
، وتوضيحه : انَّ هناك طائفتين من الروايات دلّتا على حجية الظواهر.
إحداهما
ـ الروايات التي أمرت بالتمسّك والرجوع إلى الكتاب والسنة
والموضوع فيها هو الكتاب والسنة أمَّا بما هما من مقولة اللفظ والكلام والدلالة أو
بلحاظ المعنى وواقع ما هو المراد فيهما ، وعلى الأول تكون دالة بالإطلاق اللفظي
على حجية تمام مراتب الظهور فيهما وعلى الثاني تكون دالة بالإطلاق المقامي على
حجيّة ذلك أيضا ، فانَّه يقتضي الإحالة على العرف والطريقة المتعارفة في كيفية
تشخيص ما هو المراد فيهما سنخ ما يقال في أدلة إمضاء المعاملات بمعنى المسببات من
انَّ مقتضي إطلاقها المقامي إمضاء الأسباب العقلائية لها.
الثانية
ـ ما دلّ على تحكيم
دلالات القرآن الكريم ابتداءً كمعتبرة عبد الأعلى مولى آل سام ـ ( هذا وأشباهه
يعرف من كتاب الله ) وهكذا روايات العرض على الكتاب الكريم ، وميزتها على
الطائفة الأُولى انَّها ناظرة إلى الكتاب الكريم بما هو دلالة ولفظ لا بما هو معنى
، فالإطلاق فيها لتمام مراتب الدلالة لفظي لا مقامي ، وحينئذ نثبت حجيّة إطلاق أو
عموم هاتين الطائفتين بالسيرة العقلائية لأنَّ ذلك من القدر المتيقّن المندرج فيها
لكونه عموماً أو إطلاقاً ظاهراً بلا إِعمال نكات أو إِلغاء خصوصيات ثمّ نثبت حجية
المراتب التي يقتنص منها الظهور على أساس إِعمال نكات وإِلغاء خصوصيات بهذه
الروايات.
الوجه
الثالث ـ انَّ الردع المحتمل متأخر زماناً عن صدر الإسلام لتأخر
روايات الردع عن القياس والرّأي ونحو ذلك مع انَّ السيرة العقلائية على حجية
الظهور كانت منعقدة منذ صدر الإسلام من دون ردع عنها وقتئذ بل مع إمضائها كجملة من
القضايا التي كانت ممضاة في صدر الإسلام ثمّ نسخت من باب التدرج في التشريع فيرجع
احتمال الردع إلى احتمال النسخ فيستصحب بقاء الحجيّة وهذا عمل بإطلاق دليل
الاستصحاب الداخل في القدر المتيقّن من السيرة لأنَّه إطلاق لفظي غير قائم على
__________________
أساس إِلغاء
الخصوصيّة وإِعمال نكات كما لا يخفى .
الوجه
الرابع ـ التمسّك بروايات صادرة عنهم تدلّ على أنَّهم كانوا يستدلون
بظواهر قرآنيّة من نفس النمط أي حيث يكون الاستدلال بها مبنيّا على إعمال عنايات
وإلغاء خصوصيات فيثبت انَّ هذا صحيح لا ردع عنه ولا نقصد بذلك ما يكون ظاهراً في
تفسير القرآن الكريم وبيان واقع المرام منه فانَّه باب آخر أجنبيّ عن حجية الدلالة
، وإِنَّما المراد ما يكون ظاهراً في الاستدلال بالآية على الحكم الّذي بيّنه
الإمام 7 وهذا له مصاديق كثيرة وجملة منها وإِنْ لم يكن خالياً عن المناقشة سنداً أو
دلالة إِلاّ انَّ الإنصاف إمكان استفادة المدعى منها في الجملة.
وعلى سبيل المثال
نورد ما يلي :
١ ـ ما رواه عمر
بن يزيد عن أبي عبد الله 7 قال : قال الله تعالى في كتابه : « فمن كان منكم مريضاً أو
به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا
ينبغي للمحرم إذا كان صحيحاً فصيام ثلاثة أيّام ... إلخ .
فانَّ ظاهرها انَّ
الإمام 7 يريد استخراج الحكم من الآية الكريمة بقرينة الاستشهاد والتفريع عليها بقوله
: ( فمن عرض .. .. ) ، وقد استفاد منها الإمام 7 ضابطة كليّة مع انَّها بحسب حاق مفادها اللغوي خاصة بمورد
الأذى من رأسه في مسألة حرمة الحلق على المحرم فاستفاد الإمام بمناسبات الحكم والموضوع
إلغاء الخصوصية والتعدّي إلى مطلق تروك الإحرام.
٢ ـ معتبرة معاوية
بن عمّار قال سألت أبا عبد الله 7 عن طائر أهلي دخل الحرم
__________________
حيّاً فقال لا
يمسّ لأنَّ الله تعالى يقول ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً ) وهناك عدة روايات بهذا المضمون مع الاستشهاد بالآية.
وهي أيضا واضحة في
التعليل والاستدلال بالآية على الحكم مع انَّها بحسب مدلولها اللفظي مختص بذوي
العقول لمكان ( مَن ) الموصولة فاستفادة التعميم منها مبني على إعمال مناسبات
الحكم والموضوع المقتضية كون الحكم المذكور لكرامة المقام والبيت لا لخصوصية في
الداخل إِليه.
٣ ـ معتبرة محمد
بن مسلم قال سألت أبا عبد الله 7 عن الرّجل كانت له جارية فأعتقت فزوجت فولدت أيصلح لمولاها
الأول أَنْ يتزوّج ابنتها قال لا هي حرام وهي ابنته والحرّة والمملوكة في هذا سواء
ثمّ قرأ هذه الآية ( وَرَبائِبُكُمُ
اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) .
والاستدلال بالآية
انَّما يتمّ بعد إلغاء خصوصية الربيبة وكونها في حجر الإنسان إلى مطلق بنت المرأة
المنكوحة بنكاح صحيح كما فهمه الفقهاء بعد ذلك أيضا في مقام الاستدلال بها.
٤ ـ رواية الحسن
بن علي الصيرفي عن بعض أصحابنا قال : سئل أبو عبد الله 7 عن السعي بين
الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال : فريضة. قلت : أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ ( فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال : كان ذلك في عمرة القضاء انَّ رسول الله 6 شرط عليهم أَنْ
يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيّام وأُعيدت
الأصنام فجاءوا إِليه فقالوا يا رسول الله انَّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة
وقد أُعيدت الأصنام فأنزل الله عزّ وجلَ ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أي وعليهما الأصنام .
فانَّ السائل قد
استظهر من نفي الجناح في الآية الترخيص ونفي الوجوب فانَّ الواجب لا يناسب عرفاً
أَنْ يعبر عنه بلا جناح وإِنْ كان بحسب حاق اللغة لا ضير فيه.
__________________
والإمام 7 قد أمضى استظهاره
هذا ولكنه حاول أَنْ يلفته إلى انَّ التعبير بذلك انَّما جاء بلحاظ خصوصية واقعة
معينة كان يتوهم فيها سقوط السعي لابتلائه بمحذور الأصنام ، فنفي الجناح ليس بلحاظ
أصل عمل السعي وانَّما إتيانه في تلك الحال وكلّ هذه إعمال عنايات ومناسبات عرفية
تتدخل في تشكيل الظهور كما هو واضح.
٥ ـ رواية عبد
الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله 7 علي الإمام أَنْ يسمع من خلفه وإِنْ كثروا فقال : ليقرأ
قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى : ( وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) وهناك غيرها نظيرها ومن الواضح انَّ نفي الجهر والإخفات لا
يدلّ بحسب حاق اللفظ على تعين القراءة الوسط إِلاّ باعمال العنايات والمناسبات
العرفية القاضية بأنَّ المنفي بقرينة التقابل المرتبة الشديدة من كلّ منهما.
٦ ـ صحيحة زرارة
قال قلت لأبي جعفر 7 ألا تخبرني من أين علمت وقلت انَّ المسح ببعض الرّأس وبعض
الرجلين؟ فضحك فقال يا زرارة قاله رسول الله 6 ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ لأنَّ الله عزّ وجلّ قال ( فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ ... ) ثمّ فصل بين الكلام فقال : وامسحوا برءوسكم فعرفنا حين قال
برءوسكم انَّ المسح ببعض الرّأس لمكان الباء ثمّ وصل الرجلين بالرأس ... إلخ .
مع انَّ الباء قيل
انَّها لا تكون للتبعيض بل للإلصاق ومع ذلك يمكن استفادة التبعيض منها لأنَّ
إِلصاق المسح بالرأس بسبب الباء يشعر عرفاً بتخفيف الإلصاق الّذي يكفي فيه مسح
البعض.
٧ ـ رواية الحكم
بن الحكم قال : سمعت أبا عبد الله 7 يقول : وسئل عن الصلاة في البيَع والكنائس فقال : صلِّ
فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت أيصلي فيها وإِنْ كانوا يصلّون فيها؟ فقال نعم أما
تقرأ القرآن ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً ) صلّ إلى القبلة
وغرّ بهم .
مع انَّ الآية لو
لا إعمال عناية ذوقيّة فيها لا تدلّ على نفي مانعية البيع والكنائس
__________________
عن صحة الصلاة.
٨ ـ رواية عبد
الأعلى مولى آل سام التي تقدّمت الإشارة إِليها حيث قد أُمر فيها بالمسح على
المرارة لمن انقطع ظفره مستخرجاً ذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى ( ما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .
مع انَّ الآية لا
يستفاد منها الحكم الإيجابي وهو بدلية المسح على الجبيرة إِلاّ بضم عناية انه
ميسور من المسح على البشرة وانَّ الميسور لا يسقط بالمعسور.
إلى كثير غيرها من
الروايات التي بمجموعها قد تشكل دليلاً أو تأييداً على الأقل لما ذكرناه من حجية
مثل هذه الظهورات العرفية وإِنْ كانت قائمة على أساس إعمال عنايات ومناسبات.
ثمّ انَّنا
بملاحظة مجموع ما ورد من الأئمة : في التعويل والإحالة على الكتاب الكريم والاستدلال
والاستشهاد بها إذا استطعنا تحصيل ما يكون صريحاً في استدلالهم : بالظهور لا
ظاهراً كان ذلك بنفسه دليلاً قطعياً على حجية الظهور شرعاً.
فيكون تاماً مع
قطع النّظر عن السيرة العقلائية وعهدة ذلك على المتتبع.
وقد يقال : بثبوت
الردع بلحاظ قسم خاص من الظواهر الّذي يكثر التعويل عليه في الفقه وهو الظهورات
التي ترجع إلى دلالات التزامية عرفية فانَّ الدلالة الالتزامية قد تكون على أساس
عدم الانفكاك بين مدلولين عقلاً وهذا خارج عن منظورنا ، وقد يكون على أساس عدم
تعقل العرف للانفكاك وإِنْ كان ممكناً عقلاً من قبيل ما يقال في باب طهارة المياه
من انَّ الدليل الدال على مطهرية الماء دال بالالتزام على طهارته عرفاً لأنَّ
العرف لا يتعقل مطهرية الماء النجس ، وهذا القسم من الظواهر قد يقال بالردع عنه
شرعاً بمثل رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة قال قلت لأبي عبد الله 7 ما تقول في رجل
قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها قال عشرة من الإبل قلت قطع اثنين قال : عشرون
قلت قطع ثلاثاً قال ثلاثون قلت قطع أربعاً قال عشرون قلت سبحان الله يقطع ثلاثاً
فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه
__________________
عشرون انَّ هذا
كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول الّذي جاء به شيطان فقال مهلاً يا
أبان هذا حكم رسول الله 6 انَّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث
رجعت إلى النصف يا أبان إنَّك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محقت .
وتوضيح فقه
الرواية : انَّه قد اتّفق فقهائنا على انَّ الجنابة إذا قرّر عليها عنوان الدية أو
نسبة منها فتكون للمرأة ديتها وللرجل ديته وامَّا إذا قرر في مورد مقدار معيّن
كعشرين درهماً أو من الإبل فالمرأة تعاقل الرّجل وتساويه ما لم يبلغ ثلث ذلك
المقدار المجعول أو لم يتجاوز ـ على الخلاف في ذلك ـ فإذا بلغ أو تجاوز رجعت إلى
النصف وهذه هي القاعدة التي استغرب منها أبان بمقتضى هذه الرواية لأنَّه على خلاف
المتفاهم العرفي إذ العرف لا يتعقل أَنْ تكون دية قطع أربعة أصابع من المرأة أقل
من دية قطع ثلاثة منها.
والرواية معتبرة
سنداً ، وهي تارة يستدلّ بها على الردع عن حجية القطع الناشئ من مقدمات عقلية وهذا
ما تقدّم الجواب عليه في بحث حجية الدليل العقلي حيث ذكرنا هناك انَّه لا يستفاد
منها الردع عن حجية القطع العقلي بعد حصوله وانَّما العتاب فيه بلحاظ انَّه كيف
تسرع أبان في الجزم بالحكم الشرعي من دون التفات إلى القواعد الشرعية والبيانات
الصادرة من الشارع على أساس مجرد استذواق عرفي أو عقلي ، وكم فرق بين ذلك وبين
القطع العقلي بعد الالتفات إلى البيانات والقواعد الشرعية والفحص عنها.
وأخرى يستدلّ بها
في مقامنا لإثبات الردع عن الظهورات العرفية القائمة على أساس ملازمات عرفية فانَّ
الملازمة المذكورة وإِنْ لم تكن ثابتة عقلاً ، ولهذا ثبت بنحو الموجبة الجزئية
مساواة المرأة للرجل في الدية أو الميراث ـ كما في الميراث بين الإخوة والأخوات من
طرف الأُم فقط ـ إِلاّ انَّ ذلك بنحو الموجبة الجزئية لا أكثر ولعله للإشعار بأنَّ
هذه التفاوتات لم يكن المنظور فيه التفضيل بل بنكات اجتماعية ومصالح نوعية
__________________
وعليه فالدلالة
العرفية في مثل الدليل الدال على انَّ أصابع المرأة إذا قطعت ثلاثة منها لزم فيها
دية قدرها ثلاثون منعقدة على انَّه لو قطعت أربعة لم تكن ديتها أقلّ من ذلك مع
انَّ هذا هو الّذي ردع عنها الإمام 7 وطبق عليه عنوان القياس.
والجواب : انَّ
ظاهر الرواية انَّ ردع أبان وتأنيبه انَّما كان بلحاظ تحكيمه لهذه الدلالة
والملازمة على النصّ الشرعي ، لأنَّ أبان كان على أساس هذه الملازمة يطرح النصّ
الشرعي الّذي كان يرده وهو في العراق بل استنكر على الإمام بذلك بعد سماعه النصّ
منه وهذا مطلب آخر مؤداه طرح النص الشرعي والاعتراض عليه لوجود ملازمة عرفية أو
ذوقية ومثله مردوع عنه شرعاً وفاسد عقلاً ، لأنَّه تحكيم للأذواق والمناسبات على
الدين ولهذا قال له الإمام 7 ( انك أخذتني بالقياس ) وأين هذا من الأخذ بالظهور العرفي
للسنة نفسها تحكيماً للملازمة العرفية لها لا عليها وإِن شئت قلت : بعد أَنْ ثبت
انَّ حكم المرأة في باب الدية يختلف عن الرّجل في الجملة فلا تنعقد دلالة من هذا
القبيل بل تنتفي وانَّما يبقى مجرد الاستذواق العرفي لمن هو بعيد عن مجموع القواعد
والأحكام الشرعية وهو لا يمكن الاعتماد عليه لأنَّه قياس واستحسان وفي قبال النصّ.
ثم انَّه قد يقال
: بامتياز الاستدلال بالسيرة المتشرعية على حجية الظهور على الاستدلال بالسيرة
العقلائية ، من جهة انَّه قد يفترض وجود أمارة عقلائية مقدمة عند العقلاء على
الظهور في مقام التزاحم معه بحيث انَّهم يعملون بها لا بالظهور مع كونها غير حجة
شرعاً ولو للردع عنها كالقياس مثلاً فانَّه في مثل ذلك لا يمكن التمسّك بالسيرة
العقلائية ، لأنَّ مجرد الردع عن الأمارة المزاحمة لا يعني حجية الظهور المخالف
لها والمفروض انَّ العقلاء أيضا لا يعلمون به فلا يمكن إثبات حجيته ، وهذا بخلاف
ما لو كان المدرك سيرة المتشرعة فقد يفرض فعليتها حتى مع وجود أمارة مزاحمة لكونها
ملغاة شرعاً.
إِلاّ انَّ هذا
التمييز مبني على أَنْ نسلك في الاستدلال بالسيرة العقلائية على مثل مسلك المحقق
الأصفهاني ( قده ) من انَّ المقدار الثابت بها إمضاء الشارع لما وقع بالفعل خارجاً
من تطبيقات السلوك العقلائي لا إمضاء النكتة والمبنى العقلائي الّذي اقتضى
ذلك السلوك العام
، وإِلاّ فمقتضى الحجية ثابت للظهور المذكور والمانع عنها انَّما كان حجية المزاحم
والمفروض إلغاؤه شرعاً. وإِنْ شئت قلت : انَّ هناك قضيّة تعليقيّة عقلائية هي
انَّه لو لم يكن ذلك المزاحم حجة ـ لا لو لم يكن موجوداً ـ كان الظهور المذكور حجة
لاشتماله على مقتضي الحجية ونكتتها والمستكشف إمضاء هذه النكتة عموماً بنحو القضية
الحقيقية سواءً كان شرطها ثابتاً شرعاً أم لا.
تحديد موضوع أصالة الظهور :
الجهة
الثانية ـ في تشخيص موضوع حجية الظهور وهذا بحث تحليلي يرجع إلى تحليل
المرتكزات العقلائية التي هي أساس كبرى حجية الظهور. وقد وقع الخلاف بين المحققين
المتأخرين في تحديد موضوع أصالة الظهور وقبل استعراض كلماتهم لا بدَّ من استذكار
ما تقدّم في بحوث العام والخاصّ من انَّ للكلام ظهورات ودلالات ثلاثة.
١ ـ الدلالة
التصورية وهي الصورة التي تنتقش من سماع اللفظ في الذهن على أساس من الوضع
والمحفوظة اللفظ من لافظ غير ذي شعور.
٣ ـ الدلالة
التصديقيّة الاستعمالية وهي الدلالة على إرادة المتكلّم وقصده لإخطار المعنى
والمدلول التصوري إلى ذهن السامع ، وهذا لا يكون إِلاّ حيث يكون هناك متكلّم عاقل
ذي قصد وشعور ولذلك تكون أخصّ من الأول.
٣ ـ الدلالة
التصديقية الجدية وهي الدلالة على انَّ المتكلّم ليس هازلاً بل مريد جداً للمعنى
حكاية أو إنشاء وهذا أخصّ من الثاني أيضا ، إذ الدلالة التصديقية الأُولى تكون
محفوظة في موارد الهزل أيضا.
والدلالة الأُولى
منشأها الوضع ولا ينثلم بالقرينة ، وانَّما القرينة تؤثر على الظهورين الاستعمالي
والجدّي إذا كانت متصلة لأنهما ظهوران حاليان للمتكلّم بما هو متكلّم يدلان على
أنَّه يريد إخطار ما للألفاظ من مداليل تصوريّة وضعية إلى ذهن السامع وهذا انَّما
يكون حيثما لم ينصب بنفسه قرينة على إرادته خلاف ذلك استعمالاً أو جدّاً.
إِذا اتّضحت هذه
المقدمة فنقول في المقام : لا إِشكال عند الجميع في انَّ المقصود من أصالة الظهور
انَّما هو التوصّل إلى إثبات
المراد الجدّي
للمتكلّم إِلاّ انَّ الكلام في كيفية جعل هذا الأصل ، وهنا ثلاث فرضيات رئيسيّة
لتصوير هذا الأصل :
الفرضية
الأُولى ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) تبعاً للشيخ ( قده )
من انَّ موضوع أصالة الظهور مركّب من جزءين : أحدهما الظهور التصديقي ، والآخر عدم
القرينة المنفصلة ، فمتى ما أحرزنا كلا هذين الجزءين كان الظهور حجة ومتى شككنا في
ذلك فانْ شككنا في الأول من ناحية احتمال القرينة المتصلة التي تقدّم في المقدمة
انَّها تثلم الظهور التصديقي أو شككنا في الثاني من ناحية احتمال القرينة المنفصلة
فلا تجري أصالة الظهور بل كنّا بحاجة إلى أصل في المرتبة السابقة ينقح لنا موضوع
أصالة الظهور وهو أصالة عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة فانَّه بأصالة عدم القرينة
المتصلة نحرز الجزء الأول وهو الظهور التصديقي وبأصالة عدم القرينة المنفصلة نحرز
الجزء الثاني فنحتاج إلى إجراء أصلين طوليّين إِلاّ إِذا قطع وجداناً بعدم القرينة
المتصلة أو المنفصلة.
الفرضية
الثانية ـ ما ذهب إِليه المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ موضوع
الحجية عبارة عن الظهور التصوري وعدم العلم بالقرينة على الخلاف ففي موارد الشك في
القرينة سواء كانت متصلة أو منفصلة نرجع إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجة إلى
أصل عدم القرينة الطولي لانحفاظ المدلول التصوّري على كلّ حال.
الفرضية
الثالثة ـ ما هو المختار من انَّ حجية الظهور موضوعها عبارة عن الظهور
التصديقي لا التصوّري كما أفاد المحقق الأصفهاني ( قده ) إِلاّ انَّ الجزء الثاني
هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم واقع القرينة المنفصلة كما أفاد المحقق
النائيني ( قده ) ، ونتيجة ذلك انَّه إذا احتملنا القرينة المتصلة كنّا بحاجة إلى
إحراز موضوع أصالة الظهور في المرتبة السابقة بأصل أو غيره وإذا احتملنا القرينة
المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجة إلى أصل طولي لانحفاظ كلا
الجزءين المذكورين كما هو واضح.
والاختلاف بين هذه
الفرضيات ربما يتصوّر انَّه مجرّد خلاف تحليلي نظري لا أثر عملي له ، إِلاّ انَّه
سوف يظهر من خلال البحث وجود مغزىً عملي له ، ولنبدأ بالتعليق على الفرضيتين
الأُولى والثانية لنخرج منه بتثبيت فرضيتنا المختارة فنقول : أمَّا الفرضية
الأُولى التي تبنّاها المحقق النائيني ( قده ) وفاقاً مع الشيخ
الأنصاري ( قده )
فما ذكر فيها من انَّ موضوع أصالة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري صحيح على
ما سوف يأتي تحقيقه من خلال التعليق على الفرضية الثانية ولكن ما ذكر فيها من
توقفه على عدم واقع القرينة المنفصلة بحيث لا بدَّ من تنقيح عدمها في المرتبة
السابقة بأصالة عدم القرينة غير تام ، وذلك لأنَّ أصالة عدم القرينة هذه امَّا أَن
تكون أصلاً تعبّدياً بحتاً على حدّ الأصول العملية الشرعية وامَّا أَنْ تكون أصلاً
عقلائيّاً على أساس نكتة الكاشفية والطريقيّة ، والأول باطل لوضوح انَّ العقلاء
ليست لهم تعبدات عملية وانَّ أصولهم اللفظية كلّها بملاك الكاشفية والطريقية لا
التعبّد العملي البحث. وامَّا الثاني فهو صحيح إِلاّ انَّه لا كاشف ولا طريق عن
عدم القرينة إِلاّ نفس الظهور التصديقي المنعقد في الخطاب باعتبار استبعاد انَّ
المتكلّم يتكلّم بكلام ظاهر في إرادته لمعنى ولا ينصب قرينة متصلة على مرامه ،
بشهادة انَّه لو لم يكن كلامه ظاهراً في ذلك بل مجملاً لم يكن يستبعد مجيء الشارح
والمبين ، فتمام نكتة استبعاد القرينة المنفصلة هو ظهور الكلام في المرام التصديقي
نفسه وهذا معناه انَّ الرجوع إلى الظهور ابتداء فهو موضوع الحجية عند عدم وصول
القرينة المنفصلة بلا حاجة إلى أصل طولي أسبق ، وبهذا التحليل يمكن إبطال هذه
الفرضية لا بما جاء في مناقشة المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ الظهور عند
العقلاء مقتضٍ لعملهم به فلا يمكن أَنْ تكون القرينة بوجودها الواقعي مانعة عن
العمل لأنَّ المانع لا بدَّ وأَنْ يكون في أُفق المقتضي وصقعه وما يمكن أَنْ يكون
مانعاً لهم عن عملهم انَّما هو وصول القرينة لهم فعدمه وهو عدم العلم بالقرينة هو
الّذي ينبغي أَنْ يكون الجزء الآخر من العلّة أو الموضوع.
فانَّ هذا البيان
كأنَّه انسياق مع تصوّر انَّ المراد بالسيرة العقلائية نفس عملهم الخارجي بما هو
تحرّك وفعل صادر من العقلاء لا ما يكشف عنه ذلك العمل الخارجي من مبنى ومعنى كلّي
بنحو القضية الحقيقية المجعولة فانَّ العمل الخارجي لا محالة يكون المؤثر فيه
والعلّة له هو وصول المانع لا وجوده الواقعي ، وامَّا المضمون المستكشف منه فقضية
جعلية وقرار على حدّ سائر القضايا والجعول يكون الحكم فيها وهو الحجية تابعاً
لموضوعه الواقعي المأخوذ مقدر الوجود. على أنَّ امتناع العقلاء عن عملهم بالظهور
كما
يتوقّف على العلم
بالقرينة ووصولها كذلك يتوقّف على العلم بالظهور فليكن الجزء الأول لموضوع حجية
الظهور والمقتضي لها العلم بالظهور لا واقعه ، اللهم إِلاّ أَنْ يفسر الظهور بما
يساوق ذلك لأنَّه يقصد به الدلالة التصوريّة ولعلّها مساوقة للعلم والانسباق عنده.
وأمَّا فرضية
المحقق الأصفهاني ( قده ) التي تجعل الظهور التصوري موضوعاً للحجية فالمناقشة فيه
: انَّ هذا الظهور مجرد أمر تكويني إيجادي والحجية العقلائية انَّما تكون بملاك
الكاشفية. نعم هذا الظهور من الحيثيات التعليلية لتكوين الظهور التصديقي الكاشف عن
المراد فيما إذا لم ينصب قرينة متّصلة على خلافه. وعليه فجعل هذا الظهور موضوعاً
للحجية خلاف ما ذكرناه من انَّ الأصول والقواعد العقلائية قائمة على أساس الطريقية
والكاشفية.
وبهذا ننتهي إلى
صحّة الفرضية الثالثة ، وهي انَّ موضوع الحجية مركّب من جزءين الظهور التصديقي
الكاشف عن المراد ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وامَّا القرينة المتصلة فقد
عرفت انَّ عدمها مأخوذ في الجزء الأول لأنَّها كما عرفت تهدم الظهور التصديقي
ذاتاً.
وحينئذ تارة يعلم
بعدم القرينة وأُخرى يشك فيها ، وعلى الأول لا إِشكال في الرجوع إلى أصالة الظهور
ابتداءً ، وعلى الثاني فتارة يكون الشك في وجود القرينة المنفصلة مع العلم بعدم
المتصلة فيرجع إلى أصالة الظهور ابتداءً أيضا لتحقق موضوعها وجداناً ، وأُخرى يشك
في وجود قرينة متصلة وفي مثله لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً للشك في
تحقق موضوعه وهو الظهور التصديقي وهنا حالتان :
الأُولى
ـ أَنْ يكون احتمال القرينة المتصلة ناشئاً من احتمال غفلة
حسيّة عن القرينة ، كما إذا كنَّا مشافهين بالخطاب وهنا تجري أصالة عدم القرينة
التي مرجعها روحاً إلى أصالة عدم الغفلة في الأُمور الحسيّة التي تكون بملاك
كاشفية نوعية واضحة.
الثانية
ـ أَنْ يكون احتمال
القرينة المتصلة ناشئاً من غير ناحية الغفلة ، كما إذا لم نكن مشافهين بالخطاب
وانَّما وصلنا الخطاب ضمن رسالة إِلاّ انَّ قسماً منها كانت مقطوعة مثلاً واحتملنا
وجود قرينة في المقدار المقطوع منها ، وفي مثل هذه الحالة لا يشك
عاقل في عدم حجية
الظهور ولا أصالة عدم القرينة. وهكذا يعرف انَّ احتمال القرينة سواءً كان من
احتمال قرينية الموجود أو من أصل وجود القرينة لا نافي له إذا كان من غير ناحية
الغفلة كما لو كان الكلام منقولاً إِلينا.
ومن هنا يظهر المغزى
العملي بين الفرضيات الثلاث فانَّه بناءً على الفرضية الأُولى والثانية كان يمكن
التمسّك بأصالة الظهور في موارد احتمال القرينة المتصلة لتمامية الظهور التصوري أو
التمسّك بأصالة عدم القرينة.
وقد يقال : على
هذا ينسدّ باب العمل بالظهورات في الفقه لاحتمال وجود قرائن متصلة مع الروايات
الصادرة عن المعصومين : ولم تصل إِلينا.
والجواب : انَّ
احتمال قرينة متصلة فيها لم تنقل إِلينا ، إِنْ كان من جهة احتمال غفلة الناقل عن
سماعها فهو منفي بأصالة عدم القرينة على أساس عدم الغفلة ، وإِنْ كان من ناحية
احتمال إسقاط الناقل لذكرها فهو منفي بشهادة الناقل السلبية السكوتية ، فانَّ
سكوته في مقام النقل واقتصاره على ما نقل من الظهور بنفسه شهادة منه بعدم وجود
قرينة مغيّرة لمعنى ذلك الظهور ، لأنَّه في مقام نقل كل ما له دخل في فهم ذلك
المعنى الّذي ينقله إِلينا كما هو واضح.
نعم لو احتملنا
قرينة متصلة لا يكون للراوي نظر إِليها في مقام النقل فلا يمكن نفيها بشهادته كما
هو الحال في القرائن اللبية المرتكزة في الأذهان بنحو تكون كالمتصل ، فانَّ الراوي
ليس في مقام نقل المرتكزات العامة المعايشة في عصره والتي لا يلتفت إِليها تفصيلاً
غالباً كما هو واضح.
أصالة الظهور والأصول اللفظية
الأُخرى :
الجهة
الثالثة ـ في النسبة بين أصالة الظهور وساير الأصول اللفظية كأصالة
الحقيقة والعموم والإطلاق وعدم القرينة ونحو ذلك ، وغير أصالة القرينة من هذه
الأصول اللفظية حصص من أصالة الظهور بحسب الحقيقة فأصالة الحقيقة تعني أصالة
الظهور التصديقي الأول أي انَّ الأصل انَّ المتكلّم يقصد افهام المعنى الحقيقي
التصوري لا المجازي ، وأصالة العموم في مقابل تخصيص لا يلزم منه تجوز ، وأصالة
الإطلاق من
حصص أصالة الظهور
بلحاظ الظهور التصديقي الثاني الكاشف عن المراد الجدّي ، وكذلك سائر الأصول
اللفظية الاستظهارية كأصالة عدم الاستخدام والتقدير والحذف ونحوها فانَّها جميعاً
حصص من أصالة الظهور بلحاظ إحدى المرتبتين ، وهي كلّها قد نسمّيها بالأصول
الوجودية وفي مقابلها أصالة عدم القرينة أو عدم التخصيص والتقييد ، وقد عرفت
النسبة بينها وبين أصالة الظهور في الجهة السابقة من انَّها بمثابة الأصل الموضوعي
لها في مورد جريانها وهو ما إذا كان احتمالها من ناحية احتمال الغفلة الحسية. لا
أكثر وفي غير ذلك فهي عبارة أخرى عن أصالة الظهور.
ويتراءى من كلمات
الشيخ الأنصاري والمحقق الخراسانيّ ( قدهما ) محاولة كل منهما التوحيد بين الأصلين
ـ السلبي والإيجابي أعني أصالة عدم القرينة والتخصيص والتقييد وأصالة الظهور
والعموم والإطلاق .. ..
فالمحقق
الخراسانيّ ( قده ) حاول إرجاع أصالة عدم القرينة ـ الأصل العدمي ـ إلى أصالة
الظهور ـ الوجوديّ ـ وقد استدلّ عليه في بعض كلماته : بأنَّ العقلاء لا إِشكال في
انَّهم يعملون بالظهور سواءً قطعوا بعدم القرينة المتصلة أو احتملوها ـ ولو من باب
الغفلة ـ كما انَّ الوجدان العقلائي شاهد في انَّ المرجع لهم في الحالتين أمر واحد
، أي انَّ هناك نكتة كاشفية مشتركة في الحالتين لا نكتتين مختلفتين مع انَّه في
حالة القطع بعدم القرينة ليس أصالة الظهور إذ لا معنى لإجراء أصالة عدم القرينة
فيها فيعرف من ذلك انَّ الأصل في حالة الشك هو الظهور أيضا لا غير.
وهذا البيان إِنْ
أُريد به إثبات وحدة الأصلين فغير تام ، لأنَّ وجدانية وحدة النكتة في الموردين لا
تقتضي أكثر من الاحتياج إلى أصالة الظهور في الحالتين فهي مرجع فيهما وهذا لا
ينافي أَنْ نكون في إحداهما ـ وهو حالة الشك في القرينة ـ بحاجة إلى إجراء أصل آخر
في المرتبة السابقة وهو أصالة عدم القرينة وإِلاّ فيكون التمسّك بالظهور تمسكاً
بالأصل مع الشبهة المصداقية في موضوعه وهذا ما لا يرتكبه العقلاء.
لا يقال ـ الجاري
في كلّ من الحالتين أصل واحد على كلّ حال ، لأنَّ حكومة أصالة عدم القرينة على
أصالة الظهور ظاهرية لا واقعية فبها نرتب آثار حجية الظهور لا انَّه نتمسك بأصالة
الظهور فيها حقيقة على ما هو التحقيق.
فانَّه يقال ـ هذا
لا ينافي وجدانية مرجعية أصالة الظهور على كلّ حال ولو بمعنى انَّه في حالة الشك
أيضا لا بدَّ من افتراض حجية كبرى الظهور لكي تجري أصالة عدم القرينة ، فالوجدان
بهذا المقدار مقبول ولا يضرّ بتعدد الأصلين.
وإِنْ أُريد إثبات
عدم كفاية أصالة عدم القرينة وحدها كما يحاوله الشيخ على ما يأتي بل لا بدَّ من
أصالة الظهور فهذا لا يحتاج فيه إلى الوجدان المذكور ، بل يبرهن عليه بأنَّ أصالة
عدم القرينة في حالة الشك لا يجعلها بأولى من حالة القطع بعدم القرينة ، ومع ذلك
من الواضح انَّه يمكن أَنْ يكون مراد المتكلّم على خلاف الظهور من دون قرينة ولا
نافي لهذا الاحتمال إِلاّ أصالة الظهور.
وأمَّا الشيخ
الأنصاري ( قده ) فالمتراءى من بعض عبائره التوحيد بين الأصلين بإرجاع أصالة
الظهور ـ الأصل الوجوديّ ـ إلى أصالة عدم القرينة ـ الأصل العدمي ـ ولا يتحصّل لنا
برهان واضح على هذا المدعى من كلماته.
إِلاّ انَّ المحقق
العراقي ( قده ) حاول البرهنة عليه بربط هذه المسألة بمسألة قبح تأخير البيان عن
وقت الحاجة وعدمه ، فذكر انَّه بناءً على القول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة
لا محالة يستكشف في كلّ مورد ثبت فيه عدم إرادة الظهور انَّه كان هناك قرينة لكي
لا يلزم القبح المذكور ، وعليه يكون احتمال إرادة خلاف الظاهر ـ الّذي يراد نفيه
بأصالة الظهور ـ مساوقاً دائماً لاحتمال القرينة ، فإذا نفينا هذا الاحتمال بأصالة
عدم القرينة ثبت إرادة الظهور جداً وإِلاّ لزم القبح وهو محال بلا حاجة إلى أصالة
الظهور ، وهكذا ربط الحاجة إلى أصالة الظهور بالقول بجواز تأخير البيان عن وقت
الحاجة.
وهذا البيان أيضا
غير تام ، لأنَّ تطبيق قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فرع بيانية الظهور في
الدليل الأول وهي فرع حجيته ، وإِلاّ فلو كان الخطاب مجملاً وليس بحجة فأيّ قبح في
تأخير البيان حينئذ فانَّ حاله حال عدم الخطاب رأساً ، وعليه فإثبات إرادة الظهور
بأصالة عدم القرينة فرع حجية الظهور في المرتبة السابقة حتى بناءً على مسلك قبح
تأخير البيان.
التفصيل في حجية الظهور :
الجهة
الرابعة ـ في التعرّض إلى التفصيلات في الحجية بين بعض المكلَّفين
وبعض أو بعض الظهورات وبعض وأهمها ثلاثة أقوال :
القول
الأول ـ التفصيل بين المقصودين بالإفهام فيكون الظهور حجة لهم دون
غيرهم. وهذا تارة يقرب بدعوى قصور مقتضي الحجية وهو السيرة العقلائية عن شمول من
لم يكن مقصوداً بالإفهام حيث لم يعلم انعقاد بناء العقلاء على العمل بالظواهر ولو
لم يكونوا مقصودين بالإفهام.
وأُخرى يقرب
بإبراز نكتة فرق بين المقصود بالإفهام وغيره ، وذلك لأنَّ المقصود بالإفهام لا
منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه إِلاّ اختفاء القرينة عليه وهو منفي
بأصل عدم القرينة إذ لو لم تكن هناك قرينة ومع ذلك أُريد خلاف الظاهر في حقّه كان
خلف كونه مقصوداً بالإفهام ، وامَّا غير المقصود بالإفهام فيحتمل إرادة خلاف
الظاهر من غير ناحية الاختفاء عليه وذلك لأنَّه يحتمل أَنْ يكون هناك تواطؤ خاص أو
اصطلاح أو إشارة معيّنة بين المتكلّم وبين من قصد افهامه يكون قرينة عنده لا
يفهمها غيره لعدم كونه مقصوداً بالإفهام فليس منشأ احتمال إرادة خلاف الظاهر في
حقّه منحصراً في احتمال الغفلة عن القرينة.
وقد أُجيب عن هذا
التفصيل بكلا تقريبيه في الكتب ، بأنَّ أصالة الظهور أو عدم القرينة أصل برأسه في
مقابل أصالة عدم الغفلة وهو غير مخصوص بالمقصود بالإفهام بل مطلق بحسب مقتضى
الحجية.
وهذا المقدار من
الجواب قد اتّضح على ضوء ما سبق عدم وفائه بحسم الإشكال ، لأنَّه لو أُريد التمسّك
بأصالة الظهور فقد عرفت انَّه متوقّف على إحراز موضوعه بأصالة عدم القرينة وأصالة
عدم القرينة ليست تعبّداً بحتاً بل لا بدَّ من أَنْ ترجع إلى نكتة كاشفية نوعية
عقلائية كعدم الغفلة مثلاً.
ومن هنا كان
الأحسن فرز الاحتمالات في إرادة خلاف الظاهر من الكلام والتفتيش عن نكتة كاشفية
نوعية في نفي كلّ منها ثمّ يرى انَّ تلك النكتة ما هي
حدودها وهل تجري
في حقّ غير المقصود بالإفهام أم لا؟
فنقول : احتمال
إرادة خلاف الظاهر يكون له أحد مناشئ خمسة :
الأول
ـ أَنْ لا يكون المتكلّم في مقام البيان أصلاً بل في مقام
الإهمال والإجمال ، ولهذا قد يقطع بأنه لم ينصب قرينة ومع ذلك يحتمل إرادته لخلاف
الظاهر لكونه في مقام التمويه على سامعيه وهذا الاحتمال وارد في حقّ المخاطب وغيره
نعم المقصود بالإفهام لا يرد في حقّه ذلك لأنَّه خلف كونه مقصوداً بالإفهام
والنسبة بينه وبين المخاطب عموم من وجه كما لا يخفى ، والنافي لهذا الاحتمال في
حقّ غير المقصود بالإفهام أصل عقلائي هو أصالة كون المتكلّم في مقام البيان فانَّ
نفس خروجه من حالة الصمت إلى حالة التكلّم ظاهر في ذلك ولذلك كانت نكتة هذا الأصل
العقلائي الظهور الحالي السياقي ونسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء كما هو
واضح.
الثاني
ـ أَنْ يكون مريداً خلاف الظاهر ونصب قرينة منفصلة عليه ،
وهذا الاحتمال أيضا منسد بالنسبة إلى المقصود بالإفهام بشخص ذلك الكلام لأنَّه خلف
كونه كذلك. ولكنه منفي في حق غيره أيضا بظهور حالي سياقي للمتكلّم في انَّه في
مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه لا بمجموع كلمات منقطعة منفصلة إلى آخر عمره ،
وهذا هو الظهور الّذي يجعل الاعتماد على القرائن المنفصلة أمراً على خلاف الطبع
العقلائي وهذا أيضا لا يختلف الحال فيه بين المخاطب وغيره.
الثالث
ـ أَنْ يكون قد أراد خلاف الظاهر ونصب عليه قرينة متصلة غفل
عنها ، وهذا الاحتمال وارد حتى بالنسبة إلى من قصد افهامه ، والنافي له هو أصالة
عدم الغفلة لكل من كان في محضر الإحساس بذلك الكلام.
الرابع
ـ أَنْ يكون قد أراد خلاف الظاهر وقد اعتمد طريقة مخصوصة في
المحاورة بينه وبين مخاطبه أو المقصود بالإفهام من قبله ، وهذا الاحتمال أيضا منفي
بظهور حالي سيأتي هو ظهور حال المتكلّم على أنَّه يجري وفق لغة العرف والمحاورة
عند ما يتكلّم بتلك اللغة ما لم يكن هناك قرينة على اعتماد اصطلاحات أو طريقة
مخصوصة غير الطرائق العرفية.
الخامس
ـ احتمال قرينة متصلة لم تصل إلينا من جهة الضياع ، وهذا
الاحتمال
تقدم انَّه لا
يمكن التمسّك بالظهور لنفيه سواءً في ذلك المقصود بالإفهام أو غيره على ما تقدّم
مفصلاً. وهكذا اتّضح عدم الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره لتماميّة نكتة حجية
الظهور في حقّهما كبرى وصغرى.
القول
الثاني ـ التفصيل بين الظهور الّذي يظنّ بخلافه فلا يكون حجة وما لا
يظن بخلافه فيكون حجة وقد يتشدد في ذلك فيشترط حصول الظن بالوفاق ، ومدرك هذا التفصيل
كأنَّه ملاحظة موارد السيرة والعمل من قبل العقلاء بالظهورات في أوضاعهم الخارجية
حيث انَّهم قد لا يعملون بها إذا ظنّ بخلافها.
إِلاّ انَّ الصحيح
: انَّ الموارد المذكورة لو فرض وجودها فإنَّما تكون في مجال الأغراض الشخصية
التكوينية لا مجال الأغراض التشريعية والإدانة العقلائية أعني باب الحجية والتنجيز
والتعذير بين الموالي وعبيدهم ، فانَّه في هذا المجال لا يفرق العقلاء بين ما يظنّ
بخلافه أو لا ، ومن هنا أفاد المحقق النائيني ( قده ) في مقام مناقشة هذا القول
بأنَّه انَّما يتّجه في سيرة العقلاء بلحاظ مصالحهم الشخصيّة لا المولوية ، وهذا
الالتفات منه متين إِلاّ أنَّه بحاجة إلى تكميل وتمحيص ، ذلك انَّه ربما يعترض
عليه بهذا المقدار بأنَّ حجية الظهور في باب الأغراض المولوية التشريعية أيضا
انَّما تكون بملاك الطريقية والكاشفية لا الموضوعية والتعبد البحت ومعه كيف ينسجم إطلاق
الحجية في هذا المجال مع عدمه في مجال الأغراض الشخصية والّذي يكون الظهور طريقاً
إِليها ، وهل هذا إِلاّ الالتزام بموضوعية الظهور للحجيّة؟.
والجواب ـ انَّ
فذلكة الفرق المذكور راجع إلى الفرق في نكتة الكاشفية والطريقية لا أصلها ، فانَّ
ملاك الكاشفية في مجال الأغراض الشخصية انَّما يكون هو الكشف الشخصي ، لأنَّ الغرض
فيه شخصي ليس له طرف آخر ولا علاقة له به ومن هنا كان الظهور متأثراً بالظنّ
الشخصي على خلافه سلباً أو إيجاباً. وهذا بخلاف باب الأغراض المولوية فانه غرض بين
طرفين المولى والعبد وبلحاظ الإدانة والتسجيل وفي هذا المجال لا يناسب أَنْ تكون
الكاشفية الشخصية عند العبد مثلاً ميزاناً بل الميزان الكاشفية النوعية المحفوظة
في الظهور في نفسه باعتباره غالب المطابقة والحفظ للواقع ولإعراض المولى ، فانَّ
هذا هو الميزان الموضوعي المناسب والمحدد من جهة وهو الأوفق
لأغراض المولى من
جهة ثانية فانَّ المولى الّذي إِليه يرجع أمر هذه الحجية جعلاً ورفعاً انَّما
يجعلها بلحاظ التزاحم الحفظي الواقع بين ملاكات أحكامه ولا معنى لأنْ يلحظ الظنّ
الشخصي للعبد في مقام تحديد ما يكون احفظ لها.
القول
الثالث ـ التفصيل بين ظواهر الكتاب الكريم وغيرهما من النصوص الشرعية
، وهناك اتجاهان في تخريج هذا التفصيل ، أحدها دعوى الخروج التخصيصي عن الحجية بعد
الاعتراف بتحقق أصل الظهور في الآيات القرآنية ، والأخرى دعوى الخروج التخصّصي من
جهة إنكار انعقاد ظهور في تلك الآيات لنكات خاصة. والقول بالتفصيل انَّما يكون على
الاتجاه الأول لا الثاني فانَّه لا يكون تفصيلاً في حجية الظهور كما هو واضح.
وأيّاماً كان
فالاتجاه الأول يذكر في إطاره عدة وجوه نقتصر فيها على وجهين :
الوجه
الأول ـ التمسك بما دلَّ
من الآيات القرآنية على النهي عن اتباع المتشابه من القرآن بعد دعوى انَّ المتشابه
يشمل الظاهر والمجمل ، لأنَّ المتشابه انَّما لوحظ فيه وجود معنيين متشابهين من
حيث صلاحية اللفظ القرآني لإرادة كلّ منهما وإِنْ كان أحدهما أقرب وأشدّ علقة
باللفظ من الآخر.
وما قيل أو يمكن
أَنْ يقال في مناقشة هذا الوجه أُمور :
الأول
ـ استحالة شمول النهي عن المتشابه للظواهر القرآنية ، إذ غاية
ما يثبت بالتقريب المذكور ظهور كلمة المتشابه في شمول الظاهر والمجمل معاً ولا
يكون صريحاً في ذلك فتكون هذه الآية بنفسها من الظواهر القرآنية فلو دلّت على
النهي عن العمل بها المساوق مع عدم حجيتها لزم من ذلك عدم حجية نفسها فتكون حجيتها
مستلزمة لعدم حجية نفسها وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه محال.
وقد يقال : انَّها
لا تشمل نفسها ليلزم المحال المذكور لقرينتين :
إحداهما
ـ قرينة عقلية وهي لزوم المحال ، فانَّ مركز هذا المحذور بحسب
الحقيقة إطلاقها لنفسها فانَّ هذا الإطلاق هو الّذي لو كان حجة لزم من وجود حجيتها
عدمها فهي التي تسقط عن الحجية لأنَّ المحذورات العقلية تسقط الحجية بمقدارها لا
أكثر كما هو واضح.
والثانية
ـ قرينة عرفية هي انَّ الآية قضية خارجية وليست حقيقية ،
لأنَّها ناظرة إلى القرآن الكريم وما فيه من المتشابهات والمحكمات وهي قضايا
وخطابات خارجية كما هو واضح ومعه فيكون نظر الآية الناهية إلى غيرها من الآيات
النازلة خارجاً فلا إطلاق لها في نفسها لنفسها ليلزم من حجيته عدم حجيتها.
وقد يتخلّص عن هذا
الجواب ، بأنَّها وإِنْ كانت لا تشمل نفسها بإحدى القرينتين إِلاّ انَّنا بعدم
الفرق في ملاك عدم الحجية بين ساير الظهورات القرآنية وشخص هذا الظهور فإذا ثبت
عدم حجية غيرها يلزم عدم حجية نفسها فيعود الإشكال.
وهذا الحوار
إشكالاً وجواباً كأنَّه يفترض انَّ المحذور المذكور انَّما هو في وقوع شيء يلزم من
وجوده عدمه ، ولهذا يحاول في الإشكال المنع عن وقوعه مع انَّ المحذور في نفس
استلزام الشيء لعدم نفسه كقضية واقعية ثابتة في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود
وليس المحذور بلحاظ عالم الوجود والوقوع الخارجي لكي يكتفي في التخلّص عن المحذور
بالالتزام بعدم وقوع اللازم والملزوم خارجاً ، فانَّ عالم الاستلزامات والملازمات
على ما تقدّم مراراً عالم واقعي وليس خيالياً وثبوت الاستلزام المذكور في نفسه
محال.
فلا بدَّ من إبطال
نفس الاستلزام وهذا مطلب سيال في جملة من البحوث الأصولية وغير الأصولية كنقل
السيد المرتضى للإجماع على عدم حجية الخبر في مسألة حجية خبر الواحد ، والظاهر من
المحقّقين في جميع ذلك انهم قبلوا الاستلزام وأبطلوا وقوع اللازم خارجاً ومثله صدر
منهم في محذور الدور الّذي كان يلزم في بعض الموارد فلم يبطلوا الدوران والتوقفين
وانَّما أنكروا وقوع الدائرين في الخارج وهذا غير فنّي كما عرفت ، بل لا فائدة له في
التخلّص عن المحذور إذ ما ذا يقولون حينئذ في موارد ثبوت الاستلزام المذكور من
الطرفين كما إذا لزم من وجوده عدمه ومن عدمه وجوده فهل يلتزمون بالوجود أو العدم
أو بهما أو ارتفاعهما وكلّها محال كما لا يخفى. فهناك مثلاً شبهة خبر الإغريقي
المعروفة ، من انَّه إذا قال أغريقي انَّ كلّ خبر أغريقي كاذب فانَّ هذا الخبر
بنفسه خبر أغريقي فانْ كان كاذباً لزم منه صدقه بعد فرض كذب سائر أخبار الإغريق ـ وإِنْ
كان صادقاً لزم منه كذبه لأنَّه بنفسه خبر أغريقي وهو صادق فلم يكن
كلّ خبر أغريقي
كاذباً فانَّ السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكليّة فيلزم من صدقه كذبه ومن كذبه
صدقه.
وهذه الشبهة
إِنَّما أُثيرت في المنطق لنقض مبدأ عدم التناقض وفي مثله لا معنى لقبول الاستلزام
ونفي الوقوع ، لأنَّ العدم أيضا كان محالاً وارتفاعه مع الوجود أيضا محال. فلا
بدَّ من إبطال الاستلزام ، وهذا ما نورده في مقامين :
المقام
الأول ـ في دفع شبهة
التناقض المذكورة ، وحاصله : انَّ هذه القضية قضية خبرية حقيقية تنحل إلى قضايا
ومدلولات لا نهائية كلّ قضية منها تقع بنفسها مصداقاً وموضوعاً لقضية أُخرى تنطبق
عليها ، لأنَّ كلّ واحدة منها هي قضية خبرية صادرة عن أغريقي وإذا دققنا في هذه
السلسلة اللانهائية من القضايا نجد انَّ صدق كلّ واحدة منها يلزم منه كذب طرفيها
ما قبلها وما بعدها أي القضية المحكية بها عنها والقضية الحاكية عنها ، لأنَّ
المحمول فيها هو الكذب فإذا كانت صادقة كان محكيها كاذبة لا محالة كما انَّ الحاكي
عنها كاذبة أيضا لأنَّها تحكي كذبها والمفروض صدقها ويلزم من كذب كلّ واحدة صدق
طرفيها لأنَّها تحكي كذب القضية السابقة عليها فإذا كانت كاذبة في هذه الحكاية كان
لا محالة ما قبلها صادقة وإِلاّ لم تكن بكاذبة ، كما انَّ ما بعدها الحاكية عن
كذبها تكون صادقة لا محالة وهكذا نجد انَّه لم يلزم من صدق كلّ قضية كذب نفسها بل
كذب قضية أُخرى ولا من كذبها صدقها بل صدق قضية أخرى. فالخبر الإغريقي الأول إذا
كان كاذباً كان نفس هذا الاخبار عن كذبه صادقاً لا محالة ، فإذا كان هذا الإخبار
بنفسه موضوعاً لقضية أُخرى تحليلية مستفادة من كون القضية حقيقية لا خارجية فهناك
أخبار اخر عن كذبها وذاك أخبار كاذب لأنَّ المفروض صدق الاخبار الأول عن الكذب وهو
بنفسه مصداق أيضا لقضية أخرى تحليلية فهناك أخبار اخر عن كذبها لا محالة وهذا
أخبار صادق لأن المفروض كذب الاخبار الثاني التحليلي عن الكذب. وهكذا تكون هذه
القضايا التحليلية متسلسلة في الكذب والصدق من دون اجتماعهما على مركز واحد وقضية
واحدة.
وأمَّا نفس انحلال
هذه القضية إلى قضايا لا نهائية من حيث مضمونها فلا محذور فيه ، لأنَّ التسلسل
انَّما يكون محالاً في جانب العلل لا المعلولات هذا في عالم الوجود
فكيف في عالم
الواقع وصدق مثل هذه النسب والقضايا التصديقية الواقعية.
ثم انَّ هناك شبهة
تناقض اخر آثاره الفيلسوف المادي ( رسل ) وعلى أساسه بنى لنفسه منطقاً جديداً هو
المنطق الرمزي الرياضي ، وهي شبهة انَّ الكلّي الّذي لا يصدق على نفسه هل يصدق على
نفسه أولا. فانْ قيل يصدق يلزم منه أَنْ لا يصدق على نفسه ، لأنَّ المحمول فيه ذلك
، وإِنْ قيل لا يصدق على نفسه لزم أَنْ يكون صادقاً على نفسه لأنَّ انطباق عدم
الصدق على واقعة ضروري فيكون واجداً لمحمول نفسه وهو معنى الصدق.
والجواب : انَّ
قيد لا يصدق على نفسه من القيود الثانوية وليست الأولية ، بمعنى انَّه لا بدَّ من
افتراض عنوان كلّي في المرتبة السابقة على نفس عنوان الصدق وعدمه لكي يلحظ فيه
الصدق وعدمه فإذا أُريد بهذا العنوان نفس عنوان الكلّي فهو يصدق على نفسه ، وإِنْ
أُريد الكلّي المقيد بأنَّه لا يصدق أي هذا المفهوم المقيد فهذا القيد من القيود
الطولية نظير أَنْ يقول المتكلّم إخباري هذا كاذب ويقصد شخص هذا الاخبار فكما انَّ
هذا الكلام لا محكي له أصلاً بل قضية مفرغة كذلك المقام ، ولهذا نجد انَّه لا معنى
لملاحظة الصدق وعدم الصدق سواءً في عنوان المفهوم الّذي لا يصدق على نفسه أو في
عنوان المفهوم الّذي يصدق على نفسه ، لأنَّ كليهما عنوانان ثانويان طوليان بالمعنى
المتقدم.
المقام
الثاني ـ في حلّ الإشكال في
مقامنا فنقول : إذا تعاملنا مع النهي عن اتباع المتشابه معاملة القضايا الحقيقية
المنحلة إلى ما لا نهاية من قضايا يكون مدلول كلّ واحدة منها عدم حجية القضية
السابقة عليها ، وحينئذ يلزم من حجية كل منها التعبد بمفادها الّذي هو عدم حجية
التي قبلها لا عدم حجية نفسها. نعم لو كانت القضية خارجية أو حقيقية وادعينا القطع
بعدم الفرق بين عدم حجية التي قبلها وعدم حجية نفسها فسوف تتشكل دلالة التزامية
على عدم حجية نفسها أيضا ، فقد يقال : يلزم المحذور وهو انَّ حجيّتها يستلزم عدم
حجيتها.
إِلاّ انَّ الصحيح
عدم الاستلزام أيضا لأنَّ الّذي يلزم من حجية هذه الدلالة هو التعبد بمفادها لا
ثبوت مفادها حقيقة ، فانَّ الحجة قد تخطأ وهذا يعني انَّ لازم حجيتها ثبوت عدم
حجية الدلالة التي قبلها وبالملازمة عدم حجية نفسها تعبداً لا حقيقة
فلم يلزم من
حجيتها عدم حجيتها بل من حجيتها واقعاً التعبد بعدم حجيتها ظاهراً وهذا ليس بمحال
وإِنْ كان لغواً إِذ لا معنى لجعل حجية تستلزم نفيها ظاهراً ، إذ يستحيل أَنْ تصل
مثل هذه الحجية.
الثاني
ـ ما يقتضيه النّظر الدّقيق في فهم الآية الكريمة وهي قوله
تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، فلقد قسمت فيها الآيات القرآنية إلى قسمين محكمات
ومتشابهات ثمّ عابت على أهل الزيغ والهوى من اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
والتأويل وقد استفيد منه النهي عن اتباع المتشابه حيث اعتبرت ذلك طريقة أهل الزيغ
وإِلاّ فلا نهي صريح عن اتباع المتشابه ، ولكن من الواضح انَّ المتفاهم عرفاً من
هذا التعبير بعد تلك القسمة الثنائية انَّ النّظر إلى الذين يختصمون باتباع
المتشابهات ويلتقطونها ويفصلونها عن المحكمات ابتغاء الفتنة والمشاغبة وتشويش
الأذهان من خلال ذلك التشابه كما هو شأن من يريدون الفتنة والمشاغبة ، فظاهر الآية
على هذا النهي عن مثل هذه الفتنة التي تكون بالاقتصار على المتشابهات والتركيز
عليها من دون الرجوع إلى المحكمات التي هنَّ أُمّ الكتاب.
وقد ورد في تفسير
الآية انَّها نزلت في نصارى آل نجران الذين كانوا يشنعون على المسلمين ببعض
المتشابهات الواردة في حقّ عيسى وانَّ له حالة فوق البشر وانَّه روح منه سبحانه
بغرض الفتنة والوصول إلى ما يزعمونه إِفكاً وكفراً ، وأين هذا من حجيّة الظواهر
القرآنية بعد مراجعة المحكمات لغرض اقتناص المراد منها.
الثالث
ـ ما ذكره المحقّقون من علماء الأُصول من المنع عن شمول
المتشابه للظاهر ، فانَّ مجرَّد قابلية اللفظ لأنْ يستعمل في كلّ من المعنيين لا
يجعله متشابهاً إِذا كان واضحاً بيّناً في أحدهما لكونه المعنى الحقيقي دون الآخر
بل لا بدَّ من تساوي نسبة دلالة اللفظ إلى كلّ منهما وتقاربهما ليصدق عليه
المتشابه وهذا لا يكون إِلاّ في المجمل.
وهذا الكلام لا
ينبغي الشك فيه ، إِلاّ انَّ هناك بحثاً ينبغي استيعابه ، وهو انَ
__________________
المتشابه ما ذا
يراد به في الآية الكريمة ، التشابه والإجمال في المفهوم والمدلول الاستعمالي للفظ
أو التشابه في المصداق بمعنى عدم معروفية المصداق مع وضوح المدلول المستعمل فيه
اللفظ في نفسه؟ والتمسّك بالآية استدلالاً وجواباً مبنيّ على إرادة التشابه
المفهومي إِلاّ أنَّ هذا الافتراض في نفسه بعيد لأمرين :
١ ـ تصريح القرآن
نفسه بأنَّ آياته انَّما نزلت بياناً وتبياناً وهدىً ونوراً بل بلسان عربيّ مبين ،
وهذا لا ينسجم مع فرض التشابه المفهومي والإجمال.
٢ ـ وجود قرائن في
نفس الآية تنفي إرادة هذه المعنى ، وذلك قرينتان :
إحداهما
ـ التعبير ( الاتباع ) في قوله تعالى (
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ ) ، فانَّ الاتباع لا معنى له إِذا أُريد المتشابه المفهومي
إذ ذلك فرع وجود مدلول ظاهر يتعيّن فيه اللفظ ومع التشابه المفهومي لا مدلول ليتبع
، وهذا بخلاف ما لو أُريد التشابه المصداقي بمعنى انَّهم يتّبعون الآيات التي
مصاديقها الخارجية متشابهة لا تناسب مع المصداق الواقعي الغيبي الّذي ينطبق عليه
مفهوم الآية ، فمثلاً كلمة الصراط في اهدنا الصراط المستقيم أو العرش والكرسي في
الآيات الأُخرى التي مدلولها اللغوي واضح لا تشابه فيه إِلاّ انَّ مصاديقه
الخارجية سنخ مصاديق لا تنسجم أَنْ تكون هي المقصودة في هذه الآيات فمن في قلبه
زيغ يتبع مثل هذه الآيات ليطبقها على مصاديقها الخارجية المتشابهة ـ وهذا التطبيق
عبر عنه بالتأويل من الأول كما في تأويل الرؤيا وتطبيقه على مصداقه الواقعي ـ ابتغاء
الفتنة وتشويش العقائد والأفكار.
الثانية
ـ كلمة التأويل في
قوله تعالى ( ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) فانَّ المتشابه
لو أُريد به المتشابه المفهومي فيكون معنى التأويل حمله على خلاف معناه ومفهومه ،
ومن الواضح انَّ هذا غير صادق إِلاّ في حقّ الظاهر لا المتشابه الّذي يتساوى
المعنيان فيه. وهذا بخلاف ما لو أُريد من التشابه المصداقي ويكون معنى التأويل
الجري والتطبيق على المصاديق.
والحاصل ظاهر
الآية إرادة التشابه المصداقي بمعنى أَنَّ هناك أُناساً في قلوبهم زيغ فيتبعون
الآيات التي مصاديق مداليلها المفهومية في الخارج لا تنسجم مع واقع مصاديقها ،
لأنَّ هذه من عالم الشهود والمادة وتلك من عالم الغيب فيطبقونها على المصاديق
الخارجية الحسية باعتبار عدم معروفية تلك المصاديق الغيبية وعجز الذهن
البشري عن إدراكها
في هذه النشأة ويحاولون بذلك إِلقاء الشبهة والفتنة والبلبلة في الأذهان وهذا مسلك
عام في فهم وتفسير الآيات المتشابهة ، وعلى ضوء هذا يتّضح انَّ الآية أجنبيّة عن
محل الكلام بالمرّة.
لا يقال : إِذا
كانت المصاديق الخارجية غير معقولة فلا محالة يكون ذلك قرينة على إرادة معنى آخر
مجازاً فيكون من التشابه المفهومي.
فانَّه يقال : لا
موجب لرفع اليد عن ظهور استعمالها في مداليلها اللغوية والعرفية وعدم المعقولية لا
تقتضي ذلك وانَّما تقتضي أَنْ يكون تطبيق المفاهيم المذكورة على تلك المصاديق
الواقعية الغيبيّة فيه نوع من العناية نظير المجاز السكاكي ، فانَّ هذا هو مقتضي
تقريب الإنسان حسي النشأة والنزعة إلى عالم الغيب لا استعمال اللفظ ابتداءً في
معانٍ غيبية غير مفهومة بل غير قابلة للفهم أحياناً ، فانَّ هذا لا يكون استعمالاً
أصلاً مع انَّه لا إِشكال في انَّ الآيات القرآنية مستعملة في معانيها المفهومية
المحددة عند السامعين لها على حدّ الكلمات العربية الأُخرى.
ومن مجموع ما
ذكرناه في هذا الجواب بالإمكان استخلاص جوابين آخرين كما يلي :
الرابع
ـ انَّ الاستدلال بالآية مبني على حمل التشابه على التشابه
بلحاظ المفهوم والمدلول الاستعمالي ، مع أنَّك قد عرفت انَّ المراد هو التشابه
بلحاظ عالم المصاديق والتطبيق.
الخامس
ـ لو سلم إرادة المتشابه بحسب المفهوم ، فما في ذيل الآية من
قوله تعالى ( ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) دليل على أنَّ
المنهي عنه هو اتباع المتشابه بنحو التأويل فلو كانت الآية شاملة للظاهر القرآني
كان دليلاً على النهي عن المعنى التأويلي لها وهو الحمل على خلاف الظاهر لا اتباع
الظاهر نفسه.
السادس
ـ لو قطع النّظر عن كلّ ذلك وسلّم الاستدلال فغايته إطلاق
الآية للعمل بالظواهر فيقيد بما دلَّ من الروايات على حجية الظواهر القرآنية ولزوم
الرجوع إليها لكونها أخص منها كما هو واضح.
السابع
ـ وهو جواب جدلي على علمائنا الأخباريين الّذي بنوا على عدم
حجيّة
ظواهر الكتاب تمسّكاً
بمثل هذا الاستدلال أو غيره والتزموا أيضا بقطعية ما في الكتب الأربعة من الروايات
، ولعل أحد الدواعي على إِلغائهم حجية الظواهر القرآنية فتح الباب على مصراعيه
لتقبل الروايات المنقولة عنهم : في تفسيرها أو تأويلها بقطع النّظر عن أسانيدها وعن تحكيم
القرآن عليها ، فانَّه لمثل هؤلاء نقول بأنَّه يجب الرجوع في العمل بشخص هذا
الظهور القرآني إلى الروايات الواردة في تفسيره وبمراجعة الكتب الأربعة نجد انَّه
قد ورد في الكافي عن شيخه الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن أُورمة عن
علي بن حسان عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله 7 في قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) قال : أمير
المؤمنين 7 والأئمة ( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) قال : فلان وفلان
( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابه وأهل ولايتهم
( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمة : .
ومثل هذه الرواية
على طريقتنا لا يعمل بها ، لأنَّها مخالفة للكتاب من جهة وغير تامة سنداً من جهة
أُخرى ولا يكفي مجرّد نقلها في الكتب الأربعة.
أمَّا المخالفة مع
الكتاب فلما سوف يأتي في بحوث التعادل والتراجيح من انَّ كلّ رواية تكون مخالفة
لكتاب الله سبحانه زخرف باطل لم يقله الأئمة : ، وأيّ مخالفة أشد من مثل هذه التأويلات الباطنية التي لا
يمكن تطبيقها بوجه من الوجوه مع الكتاب الكريم.
وأمَّا ضعف السند
، إذ ليس في سندها من ثبتت وثاقته إِلاّ الكليني ( قده ) وشيخه الحسين بن محمد
وأمَّا الباقين فعبد الرحمن بن كثير قد ذكر النجاشي انَّه كان يضع الحديث ، وحسان
الهاشمي قال عنه انَّه ضعيف جدّاً وانَّه ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد
الاعتقاد وفي الخلاصة فاسد ضعيف رأيت له كتاباً في تفسير القرآن ليس له صلة
بالإسلام ومحمد بن أروقة قال النجاشي حكى جماعة من شيوخ القميين عن الحسن بن وليد
انَّه طعن عليه بالغلو ، وقال الشيخ انَّه ضعيف وروى عن القميين أيضا
__________________
رميه بالغلو حتى
دسوا إِليه من يفتك به ـ ممّا يعني انَّهم استحلّوا دمه ـ ، ومعلى بن محمد ذكر
النجاشي انَّه مضطرب الحديث والمذهب وقد نقل العلامة عن ابن الغضائري انَّ حديثه
نعرفه وننكره.
وهذه الرواية
وغيرها من أمثالها خير دليل وشاهد عند المنصف على ان ليس كلّما يتواجد في الكتب
الأربعة بصحيح ولا أصحابها يلتزمون بذلك وانَّما كان غرضهم تدوين الحديث ولهذا
كانوا يروون فيها المتناقضات فلا بدَّ من إعمال قواعد السند في الأخذ برواياتها.
الوجه
الثاني ـ الاستدلال بجملة
من الروايات التي يدعى دلالتها على عدم حجية القرآن الكريم وهي طوائف ثلاث :
الأُولى
ـ ما دلَّ على اختصاص فهم القرآن الكريم بأهل بيت العصمة ،
لأنَّه لا يفهمه إِلاّ من خوطب به ولم يخاطب به إلاّ هم. وهذه الطائفة لا إِشكال
في وضوح دلالتها على المطلوب ، فانَّ حصر فهم القرآن بجماعة مساوق لإسقاط حجيّة
فهم الآخرين ولو كان فهماً عاماً الّذي هو الظهور وإِلاّ لم يكن محصوراً بهم ، بل
هذه الطائفة لو تمّت تسقط الدلالات القرآنية الصريحة أيضا ولا تختص بالظواهر ،
لأنَّ ما حصر فهمه بأهل البيت : كلّ الكتاب لا قسم منه إِلاّ انَّ الاستدلال بهذه الطائفة
غير تام لعدة وجوه :
أوّلها
ـ انَّها معارضة للسنة القطعية المتواترة الحاكية لقول
المعصوم وفعله وتقريره ممّا يدلّ على مرجعية القرآن للمسلمين وإحالتهم إِليه في
مقام اقتناص المعاني ، بل السيرة العملية للنبي 6 والأئمة مضافاً إلى أحاديثهم الصريحة التي ترجع المسلمين
إلى القرآن الكريم ثابتة ثبوتاً قطعياً بنحو يقطع معه ببطلان مفاد هذه الطائفة ،
بل حديث الثقلين وأمثاله الّذي هو مدرك الرجوع إلى أهل البيت ومرجعيتهم كالصريح في
عرضية مرجعية الكتاب الكريم للعترة وإِلاّ كان المرجع واحداً وهو العترة وكان
الكتاب الكريم مجرد كتاب معميات وألغاز إلى غير ذلك من أدلة الإرجاع والإحالة إلى
الكتاب المنقولة عنهم : والتي تدلّ دلالة قاطعة لا شك فيها على أنَّ القرآن مرجع
مباشر للمسلمين.
ثانيها
ـ انَّ هذه الطائفة لا تصلح للردع عن العمل بالظهورات
القرآنية ، لأنَّ الردع عن ارتكاز من هذا القبيل وفي موضوع له هذه الأهمية
والخطورة العظيمة لا يكفي فيه صدور أربع روايات بل لو كان هناك ردع عن العمل
بالقرآن الّذي كان هو المصدر الأساسي لكل المعارف الإسلامية طيلة تاريخ الإسلام
لكان واضحاً معروفاً.
ثالثها
ـ انَّها ضعيفة سنداً جميعاً ، فان أوجدت عند أحد احتمال
الردع فهو مسبوق بالإمضاء فيجري استصحاب بقاء الحجية الثابتة في أول الشرع بالنحو
الّذي تقدم شرحه.
وممّا يؤكد بطلان
هذا المفاد انَّ رواة هذه الروايات توجد ظاهرة مشتركة فيما بينهم هي ظاهرة
الباطنية ومحاولة تحويل النّظر من ظاهر الشريعة إلى باطنها ، ومن تتبع في أحوال
المنتسبين إلى الأئمة : وجد انَّ هناك اتجاهين فيما بينهم :
أحدهما ـ الاتجاه
السائد في فقهاء الأصحاب الّذي كان يمثل ظاهر الشريعة والّذي هو واقعها أيضا وكان
يتمثل في زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهم. والآخرة اتجاه باطني كان يحول دائماً أَنْ
يلغز في القضايا ويحول المفهوم إلى اللا مفهوم وفي أحضان هذا الاتجاه نشأ الغلو
وحيث لم يكن لهم مدارك واضحة اتجهوا إلى تأويل القرآن واستخراج بطون له ، فمثل سعد
بن طريف الواقع في سند هذه الروايات كان له اتجاه باطني وقد قال انَّ الفحشاء رجل
والمنكر رجل والصلاة تتكلّم في تفسير قوله تعالى انَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر ونحو ذلك من الغرائب وجابر يزيد الجعفي هو الّذي ينسب إِليه انَّه يقول
دخلت على أبي جعفر 7 وأنا شاب فناولني كتاباً وقال هذا علم لك وحدك لا تظهره
على الناس وإِلاّ كانت عليك لعنتي وكتاباً آخر لا أظهره إِلاّ بعد هلاك بني
أُميّة. ونقل أيضا عنه انَّه قد سمع من الباقر 7 سبعين ألف حديث لا يمكنه أَنْ يقول شيء منها لأحد. ونحو
ذلك من الأُمور التي تتجه إلى تركيز هذه المعاني وهي كلّها أجزاء من قضيّة كلية
حاولها الغلاة المنحرفون وهي صرف الأنظار من ظاهر الشرع إلى باطن لا معنى له.
ولهذا نجد انَّ
أمثال هذه الأُمور لم ينقل شيئاً منها فقهاء أصحاب الأئمة الذين كانوا حملة فقههم
وفكرهم وتراثهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهم أفلم يكن الأولى
ـ لو كان هناك ردع
عن العمل بظواهر القرآن ـ من أَنْ يبين ذلك الردع إلى هؤلاء الفقهاء الأجلاء وتصل
إِلينا تلك الردوع عن طريقهم فإنَّهم أولى بذلك وهم مورده ومحتاجون إليه ، كلّ ذلك
يوجب الاطمئنان بأنَّ هذه الطائفة من الروايات موضوعة ولا محصل لها أو لا بدَّ من
تأويلها وصرفها إلى معانٍ أُخرى غير حجية الظواهر القرآنية.
الطائفة
الثانية ـ ما يدلّ على عدم جواز الاستقلال بتفسير القرآن والاستغناء
عن الأئمة : في التوصل إلى واقع المراد الإلهي منها كما كان شأن العامة ، وهذا المفاد لا
إِشكال في ثبوته بل قطعيته عندنا فانَّ القرآن أحد الثقلين لا كلاهما وظهوراته
انَّما تكون حجة بعد الفحص عن المفسّر والمخصص في الثقل الآخر. إِلاّ انَّ هذا
المطلب أجنبي عن محل بحثنا وهو حجية الظواهر القرآنية بعد الفحص وعدم وجدان
التخصيص ، فانَّ هذا لا يعني الاستقلال بالقرآن بوجه من الوجوه.
الطائفة
الثالثة ـ ما نهت عن تفسير القرآن بالرأي وانَّ من فعله فقد كفر أو
هوى.
والاستدلال بها
موقوف على دعوى انَّ حمل اللفظ على ظاهره تفسير بالرأي. ومن هنا استشكلوا عليه
بأنَّ هذا ليس تفسيراً إذ التفسير هو كشف القناع وإزالة الستر والظاهر ليس مستوراً
، ولو سلّم انَّه تفسير فليس بالرأي إذ المراد منه الرّأي والاجتهاد الشخصي لا
التفسير بما يفهمه الناس نوعاً بحسب قواعد العرف واللغة.
وهذا جواب صحيح ،
ولكن قد يقابل بشبهة هي انَّ الظهورات أحياناً تقتنص بعد التدبر والتأمل وإعمال
الرّأي خصوصاً إذا كان ظهوراً سياقياً أو على أساس إعمال نكات ومناسبات إذ الظهور
لا يكون واضحاً ساذجاً دائماً بل قد تحتاج إلى ألمعية ونباهة للتوصل إليه وإعمال
دقة ورأي ومن هنا اختلف فهم العلماء عن العوام واختلفت أنظار الاعلام فيما بينهم
أيضا حسب اختلاف درجات علمهم وفطنتهم فيصدق في مثل ذلك انَّه تفسير بالرأي.
والجواب : انَّ
الدقة وإعمال الرّأي المذكور في التوصل إلى الدال لا المدلول أو التفسير ، بمعنى
انَّ الألمعية والتدبر يؤثران في الاستيعاب للنكات والالتفات إلى الخصوصيات التي
تعطي للكلام ظهوراً في المعنى بحيث لو شرحها للآخرين وألفتهم إِليها لسلموا
بالظهور في ذلك المعنى وهذا ليس تفسيراً بالرأي.
ثمّ انَّ هناك
احتمالين آخرين في المراد بالتفسير بالرأي في قبال الاجتهاد الشخصي :
الأول
ـ أَنْ يراد به
إعمال الجانب الذاتي في التفسير في قبال الجانب الموضوعي ، أي تحكيم موقف مسبق على
النصّ القرآني ومحاولة تأويله بما ينسجم مع الرّأي المتبنى والمرغوب للمفسر.
فانَّه قد شاعت مذاهب واتجاهات وآراء حاول صاحب كل منها أَنْ يستدل بالقرآن على
مذهبه ورأيه وهو استغلال للقرآن في واقعه ولكن بصورة استدلال.
والحاصل المراد
التفسير بما يرغبه الإنسان وما توافق مصلحته لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه وهذا من
أشنع الأعمال وجدير أَنْ يعبر عنه بالكفر والهوى إذ هو مساوق مع تحريف الحقائق
والدلائل وبالتالي عدم الإيمان بمرجعية القرآن الكريم. والفرق بينه وبين الاجتهاد
الشخصي انَّ الاجتهاد الشخصي قد يكون موضوعياً أي على أساس البرهان والدليل العقلي
كما في تفاسير المعتزلة بخلاف هذا المسلك في تفسير القرآن.
وهذا رأي ذهب إليه
أكثر المسلمين في مقام فهم هذه النواهي. وهذا الاحتمال لو لم يحصل القطع بإرادته
على ضوء بعض الشواهد والقرائن فلا أقلّ من انَّه محتمل قريباً في جملة منها.
الثاني ـ أَنْ
يراد بالرأي المدرسة الفقهية المعاصرة لعصر الصادقين وهو الاتجاه الّذي بني على
العمل بالتخمينات والظنون الناشئة منها كالقياس والاستحسان والاستصلاح ، فانَّه
كان قد بدأ انقسام خطير بين المسلمين إلى اتجاهين ومدرستين مدرسة الرّأي ومدرسة
الحديث ، فمن المحتمل قوياً أَنْ يكون المراد بالرأي هنا هذا المعنى ولا أقل من
احتماله وهو كاف في الإجمال ، وهذا المعنى وإِنْ كان اصطلاحياً نقل إِليه اللفظ عن
معناه اللغوي إِلاّ انَّ أصالة عدم النقل لا تجري في أمثال المقام على ما سوف
يظهر. وهذا الاحتمال قريب روحاً مع الأول ، لأنَّ إعمال الظنون يستبطن لا محالة
جانباً ذاتياً غير موضوعي وهو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر في مقام التفسير بلا
دليل وعلم وهو نحو من الذاتيّة في التفسير.
ثمّ انَّه في
مقابل هذه الطائفة توجد روايات دلّت على حجية الظواهر القرآنية
فتكون معارضة معها
أو مقدمة عليها وهي على طوائف عديدة.
الأولى
ـ ما دلّ على وجوب
التمسّك بالقرآن الكريم خصوص ما جعل فيه الكتاب عدلاً عرضياً للعترة ، وهذه
الطائفة تدلّ امَّا بالإطلاق اللفظي لو أُريد منه الكتاب بما هو لفظ دال على
المعنى ، أو بالإطلاق المقامي لو أُريد به المعنى على حجية دلالاته فتكون معارضة
مع الطائفة السابقة لو تمّت في نفسها والنسبة بينهما عموم من وجه لشمولها لما إذا
كانت الآية صريحة وشمول تلك لما إذا كان تشابها وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى
استصحاب حجية الظهور الثابتة ولو بالإمضاء في أول الشرع.
الثانية
ـ ما دلَّ على عرض
الشرط في المعاملات ونحوه على كتاب الله الدال بأحد البيانين المتقدمين ـ الإطلاق
اللفظي أو المقامي ـ على حجية الظواهر القرآنية والتعارض بنحو العموم من وجه فانْ
لم نقل بتقديم هذه الطائفة في مورد الاجتماع لعدم إمكان اختصاصها بخصوص موارد
مخالفة الشرط مع النصّ الصريح فلا أقلّ من التساقط والرجوع إلى استصحاب الحجية.
الثالثة
ـ ما دلَّ على عرض نفس الروايات الصادرة عنهم على الكتاب
الكريم وهذا أوضح دلالة على المطلب من سابقتها لعدم تأتي احتمال النّظر فيها إلى
الكتاب بما هو معنى كما تقدم فيما سبق الإشارة إليه أيضا فتدلّ على مرجعية مستقلة
للظهورات القرآنية وهذه أيضا لا يحتمل اختصاصها بالنصوص القرآنية الصريحة إذ الكذب
عليهم : عادة لا يكون بما يخالف النصوص القرآنية كما هو واضح. فتكون أخصّ من الطائفة
السابقة فتخصص بها.
الرابعة
ـ ما دلَّ على ممارسة الإمام 7 بنفسه الاستدلال والاستشهاد بالآيات الكريمة ، وهي روايات
كثيرة وتكون أخص من عمومات النهي عن التفسير بالرأي لو سلّم دلالتها فتخصص بها لا
محالة.
وقد يتوهّم انَّ
استدلاله 7 بها لا يدلّ على أكثر من جواز رجوع الإمام 7 إلى الظهورات القرآنية وهو خارج عن محل الكلام.
والجواب : أولا ـ انَّ الإمام في كثير من موارد هذه الاستدلالات قد تقمّص ثوب المدعي
ونزع ثوب الحجة والمعصوم الّذي لا يحتاج فيه إلى الاستدلال أصلاً ، فانَّ نفس
سياق الاستدلال
يكون ظاهراً في ذلك في كثير من الحالات فيدلّ على حجية ظهورات الكتاب في نفسها.
وثانياً ـ انَّ
جملة منها قد سيق الاستدلال فيها مساق تعليم الآخرين وإحالتهم على الظواهر
القرآنية ، كما في قوله 7 في رواية عبد الأعلى ( هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله ما
جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة ). فيكون صريحاً في حجية الظهور
القرآني لغير الإمام 7 أيضا.
وامَّا الاتجاه
الثاني في إسقاط حجية الظهور القرآني فهو الاتجاه الّذي يمنع عن أصل انعقاد الظهور
للآيات القرآنية لإجمالها امَّا ذاتاً أو عرضاً ومن جهة علم إجمالي بالخلاف.
امَّا الإجمال
الذاتي ـ فقد يقرب بأنَّ الآيات الكريمة قد قصد منها أَنْ تكون مبهمة مجملة لا
يتيسّر للإنسان الاعتيادي فهمه إِلاّ بالرجوع إلى الأئمة : ولو بنكتة ربط
الأمة بهم.
وأُخرى يقرب بأنَّ
هذا الإجمال وعدم تيسر الفهم للإنسان الاعتيادي طبيعي ناشئ من عظمة الكتاب وعظمة
صاحبه ودقة مضامينه ، فإنَّا نجد انَّ كتاب عالم اعتيادي كإقليدس مثلاً لا يفهمه
الناس العاديين لكونه مشتملاً على مطالب دقيقة تفوق مستوى أذهان العوام فما ظنَّك
بكتاب الله سبحانه؟ فمقتضى التناسب أَنْ يتعذّر فهمه على غير الأوصياء :.
وكلا التقريبين
عليلان.
أمَّا الأول فواضح
، إذ كيف يتصوّر انَّ حكيماً يأتي بكتاب ليهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى
النور ويغير من طرائق سلوكهم وحياتهم ثمّ يعتمد في أَنْ يلغز فيه ويجعله بحيث لا
يفهمه الناس مع انَّه يريد به أَنْ يثبت حقانيّة المرسِل والمرسَل به ورسالته
فانَّ أهم معجزة النبي 6 انَّما هو القرآن الكريم ، فإذا فرض الإجمال والإبهام
والإلغاز فيه فكيف يتوصّل بذلك إلى كلّ هذه النتائج ، ومنه يعرف انَّ مسألة ربط
الأُمة بالأئمة لا يكون إِلاّ مع فرض حجية الكتاب في المرتبة السابقة والاعتراف
بمعجزيّته فربطهم بهم لا يحتاج إلى أَنْ يكون الكتاب ملغزاً مبهماً بل الحاجة
إِليهم ثابتة
على كلّ حال لأنَّ
الجزء الأعظم من تفاصيل حقائق الشريعة غير مذكور في القرآن الكريم ومتروك إلى
السنة المتلقاة عن العترة :.
وامَّا الثاني ـ فلأنَّ
كلّ كتاب لا بدَّ وأَنْ يتناسب مع الغرض الّذي من أجله أُلّف ذلك الكتاب وكلّما
كان صاحبه أعلى شأناً كان وفاء الكتاب بذلك الغرض أكمل وأتقن ، وحينئذ لو كان غرض
صاحب الكتاب تبيان الحقائق العلمية الهندسية مثلاً استوجب ذلك أَنْ يكون الكتاب
معمقاً بأعمق درجة علمية ، وامَّا إذا لم يكن هذا هو الغرض بل الغرض هداية الإنسان
وإخراجه من الظلمات إلى النور وتربيته وتغذيته فكرياً وروحياً وخلقياً ـ الّذي كان
الكتاب الكريم وافياً به بأعلى مراتب الوفاء الّذي لا نظير له في سائر الكتب كما
يشهد به التاريخ ـ فهو يتوقّف على أَنْ يكون الكتاب بياناً واضحاً ونوراً هادياً
لا مبهماً ملغزاً.
هذا مضافاً إلى
انَّنا نتكلّم في آيات الأحكام والتشريعات التي هي جمل إنشائية لا خبريّة فلا معنى
للدقة والعمق والإلغاز فيها إذ ليس فيها اخبار عن المغيبات وقضايا عالم الغيب لكي
يستعصي على أفهامنا إدراكها. وامَّا الدقة والعمق في ملاكات الأحكام فلا ربط لها
بنفس الأحكام والتشريعات التي هي محل استفادة المكلّفين ومدلول آيات الأحكام.
وامَّا الإجمال
العرضي فمبنيّ على دعوى العلم الإجمالي بعدم إرادة بعض الظواهر القرآنية لمخصص أو
قرينة فيقع التعارض والإجمال فيما بينها.
وهذا الكلام صحيح
صغرى إِلاّ انَّه لا يثبت مطلوب الخصم ، كيف ومثل هذا العلم موجود بالنسبة إلى
السنة أيضا فهل يدعي الخصم سقوطها عن الحجيّة؟. بل كما يقال بانحلال هذا العلم
هناك بالفحص عن المخصصات والقرائن كذلك في المقام ، وقد تقدّم البحث عن ذلك مفصلاً
في أبحاث العام والخاصّ.
وهكذا يتّضح انَّ
الصحيح حجيّة الظواهر القرآنية من آيات الأحكام كالظواهر في السنة الشريفة.
الظهور الذاتي والموضوعي :
الجهة الخامسة ـ في
تشخيص انَّ حجية أصالة الظهور هل يكون موضوعها الظهور الذاتي أو الموضوعي ، وهذا
بحث لم يطرحه المحقِّقون وانَّما طرحوا مسألة أُخرى لم يكن جديراً بالبحث المستقل
وهي انَّ أصالة الحقيقة هل تكون معتبرة من باب التعبد أو من باب أصالة الظهور ، أي
هل الحجة هو حمل اللفظ على معناه الحقيقي تعبداً أو حمل اللفظ على المعنى المنسبق
إلى الذهن منه فعلاً ولو لم يكن معنى حقيقياً له. وفرعوا عليه انَّه في موارد
احتمال قرينيّة المتصل بناءً على الأول تجري أصالة الحقيقة لإثبات المراد وامَّا
بناءً على الثاني فلا تجري أصالة الظهور للشك في موضوعه بعد فرض احتمال قرينية
المتصل الهادم للظهور.
وقد تقدّم انَّ
ملاك الحجية ليس هو حمل اللفظ على المعنى الموضوع له في اللغة تعبداً أي بما هو
موضوع له وبقطع النّظر عمّا له دخل في تكوين المدلول الفعلي للكلام ، بل الصحيح
انَّ الحجيّة موضوعها المعنى الظاهر لمجموع الكلام بما يكتنفه من قرائن متصلة ،
والوضع أحد الأمور الملحوظة ضمناً في مقام الدلالة مع القرائن والملابسات الأخرى
وهذا واضح.
إِلاّ انَّ هناك
كما أشرنا بحثاً آخراً جديراً بالذكر ، هو انَّ موضوع أصالة الظهور هل هو الظهور
الذاتي أو الموضوعي. والمراد بالظهور الذاتي الظهور الشخصي الّذي ينسبق إلى ذهن
كلّ شخص شخص ، وبالظهور الموضوعي الظهور النوعيّ الّذي يشترك في فهمه أبناء العرف
والمحاورة الذين تمت عرفيتهم ، وهما قد يختلفان لأنَّ الشخص قد يتأثر بظروفه
وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص
لا يفهمه العرف العام عن اللفظ.
ومن هنا يعلم انَّ
الظهور الذاتي الشخصي نسبي مقام ثبوته عين مقام إثباته ولهذا قد يختلف من شخص إلى
آخر ، وامَّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة مقام ثبوته غير مقام إثباته
لأنَّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين
الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة ، وإِنْ شئت عبرت
بأنه الظهور عند
النوع من أبناء اللغة ومن هنا يعرف انَّه يعقل الشك فيه لكونه حقيقة موضوعية ثابتة
قد لا يحرزها الإنسان وقد يشك فيه. والظهوران قد يتطابقان كما عند الإنسان العرفي
غير المتأثر بظروفه الخاصة ، وقد يختلفان فيخطئ الظهور الذاتي الشخصي الظهور
الموضوعي وذلك امَّا لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة أو
لتأثره بشئونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى ، وموضوع أصالة
الظهور لا ينبغي الإشكال في انَّه الظهور الموضوعي لا الذاتي لأنَّ حجية الظهور
بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلّم في متابعة قوانين لغته وعرفه ، ومن
الواضح انَّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاصّ للسامع القائم
على أساس أُنس شخصي وذاتي يختص به ولا يعلم به المتكلّم عادة وهذا واضح.
إِلاّ انَّه يتجه
السؤال عندئذ عن كيفية إحراز هذا الظهور الموضوعي ، فانَّ ما هو بيد كلّ إنسان
وجداناً انَّما هو الظهور الذاتي والمفروض انَّه ليس موضوعاً لحجية الظهور
العقلائية.
والجواب انَّه
يمكن إحراز الظهور الموضوعي بإحدى طريقتين :
الأولى
ـ إحرازه تعبداً ،
وذلك بدعوى جعل الظهور الذاتي أمارة عقلائية عليه ، فانَّ السيرة العقلائية قائمة
على جعل ما يتبادره كلّ شخص من الكلام هو الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي
المشترك عند العرف .
ولا يخفى الفرق
بين هذا الأمر والتبادر الّذي يجعل علامة على الحقيقة ، فانَّ ذلك التبادر يقصد
منه كشف المعنى الحقيقي للفظ عند عدم القرينة كشفاً إِنّيّاً من باب كشف المعلول
عن علّته ، أي يراد به إثبات الوضع لا نفي استناد الانسباق إلى أنس شخصي ولهذا لا
بدَّ وأَنْ يراد به التبادر عند العرف لا عند من يشك في عرفيته ويحتمل استناد
الانسباق عنده إلى أنس شخصي ، وامَّا التبادر في المقام فيراد به إثبات التطابق
بين ما يفهمه الشخص مع ما يفهمه العرف العام سواءً كان مستند الفهم
__________________
الوضع أو القرينة
العرفية ولهذا لا يشترط فيه إحراز عدم القرينة كما هو واضح.
الثانية
ـ إحرازه وجداناً
وبالتحليل ، وذلك بملاحظة ما ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعددين
مختلفين في ظروفهم الشخصية بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات انَّ انسباق ذلك المعنى
الواحد من اللفظ عند جميعهم انَّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامة لا
لقرائن شخصية لأنَّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية.
ثمّ انَّ هنا
سؤالاً آخر وهو : انَّ الظهور الموضوعي الحجة هل هو المعاصر لزمن صدور الكلام أو
لزمان وصوله إِلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين؟ كما في النصوص الشرعية بالنسبة
إِلينا ، فانَّ الأوضاع اللغوية بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغير
وتتطوّر بمرور الزمان وإِنْ كان ذلك بطيئاً جدّاً لأنَّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة
اجتماعية فتكون متأثرة بطرائق الحياة الاجتماعية المتغيّرة لا محالة.
والصحيح : انَّ
الحجية موضوعها الظهور الموضوعي في زمن صدور الكلام والنصّ لا وصوله ، والنكتة في
ذلك وفقاً لمنهجنا العام في فهم هذه البحوث انَّ أصالة الظهور ليست تعبدية بل أصل
عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه ، ومن الواضح انَّ
ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمانه لا التي سوف تنشأ في
المستقبل وعليه سوف يقع السؤال عن كيفية إمكان إحراز الظهور الموضوعي حال صدور
النصّ مع انَّ غاية ما نستطيع إثباته فعلاً عن طريق الظهور والفهم الذاتي لنا
تشخيص الظهور الموضوعي في أزمنتنا لا أكثر وليس موضوعاً للحجيّة.
والمحقّقون قد
عالجوا هذه النقطة بأصل عبّروا عنه بأصالة عدم النقل وقد يسمّونه بالاستصحاب
القهقرائي لأنَّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً ،
إِلاّ انَّه من الواضح عدم إمكان استفادة حجيّته من دليل الاستصحاب وانَّما هو
مفاد السيرة العقلائية وقد اصطلحنا عليه بأصالة الثبات في الظهورات لأنَّ هذا كما
أشرنا لا يقتصر فيه على الأوضاع اللغوية بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير
الوضعيّة أيضا.
ولا ينبغي الإشكال
في انعقاد السيرة على هذا الأصل ولها مظهران أحدهما عقلائي ، والآخر متشرعي ،
والمظهر العقلائي يمكن تحصيله في مثل ترتيب العقلاء آثار الوقف والوصية ونحوهما
على النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا طبق ما يفهمه المتولي في عصره ولو
كان بعيداً عن عصر الوقف. والمظهر المتشرعي يمكن تحصيله من ملاحظة انَّ أصحاب
الأئمة : كانوا يعملون بالنصوص الأوليّة من القرآن والسنة النبوية الشريفة وفق ما
يستظهرون منه في عرفهم وزمانهم كما كان يصنع أسلافهم مع انَّه كان يفصلهم عنهم
زمان يقارب ثلاثة قرون وقد كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيرات.
ونكتة هذه السيرة
وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه بحيث انَّ كلّ إنسان عرفي
بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة ، لأنَّ عمر اللغة أطول من عمر
كلّ فرد ، فأدّى ذلك إلى انَّ كلّ فرد يرى انَّ التغير حادثة على خلاف الطبع
والعادة. وحينئذ امَّا أَنْ يفترض انَّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل
والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظهور أو
انَّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات ، فعلى الأول
يكون بنفسه دليلاً على حجية أصالة الثبات شرعاً ، وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل
هذا الموضوع تعرضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجة فسكوت المعصوم
7 وعدم تصديه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطريقة وكفاية الظهور الّذي يفهمه
الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام.
هذا ولكن أصالة
عدم النقل لا تجري في موردين :
الأول
ـ ما إذا علم بالنقل
وشك في التقدّم والتأخر ، والسبب عدم انعقاد السيرة على ذلك لأنَّ العقلاء انَّما
يبنون على أصالة الثبات لاستبعاد وقوع تغير في اللغة وامَّا إذا فرض وقوع هذا
الأمر البعيد فلا فرق بعد ذلك في وقوعه يوم السبت أو الأحد مثلاً.
الثاني
ـ ما إذا كان الشك في مؤثرية الموجود في النقل ، كما إذا شاع
استعمال لفظ الصلاة مثلاً في المعنى الشرعي كثيراً نتيجة كثرة ابتلاء المتشرعة
بذلك ودخول الصلاة الخاصة كعبادة في أوضاعهم وحياتهم الاجتماعية فاحتمل انَّ هذا
الشيوع بلغ مرتبة
نقل بسببها اللفظ
عن معناها اللغوي وتعين في المعنى الشرعي. وفي مثل ذلك أيضا لا جزم بإجراء أصالة
عدم النقل لقصور السيرة بكلا مظهريه عن شموله ، إذ أصحاب الأئمة لا يجزم بعملهم
بالظهور الأولي حتى في مثل هذه الحالة ، كما انَّ السيرة العقلائية قائمة بنكتة
الاستبعاد وهي لا تكون مع توفر مقتضٍ للنقل بالنحو المذكور.
وامَّا إجراء
استصحاب عدم النقل بحيث يمكن أَنْ يستند إليه في المورد الّذي لا تجري فيه أصالة
عدم النقل العقلائية فغير سديد ، إذ لو أُريد استصحاب نفس العلقة الوضعيّة بين
اللفظ والمعنى فهذا لا يثبت ظهور اللفظ الصادر في ذلك المعنى الّذي هو موضوع
الحجية إِلاّ بالملازمة العقلية فيكون مثبتاً ، وإِنْ أُريد استصحاب ظهور ذلك
الكلام بنحو القضية التعليقية وانَّه لو كان صادراً قبل ذلك لكان ظاهراً في نفس المعنى
فهذا من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات وهو غير جار كما هو محقق في محله.
حجيّة قول اللغوي :
الجهة
السادسة ـ في حجية قول اللغوي في إثبات المعنى ، وكأن المشهور بين
المتقدمين من علمائنا هو الحجية وقد نسب إلى السيد المرتضى دعوى الإجماع عليه وقد
استدلّ بها على الحجية إِلاّ انَّ مشهور المتأخرين من علماء الأصول ذهبوا إلى عدم
الحجية وتفصيل الكلام يقتضي البحث في مقامين :
المقام
الأول ـ في حجية قول
اللغوي في إثبات موارد الاستعمال.
المقام
الثاني ـ في حجيته في تعيين
المعنى الحقيقي والمجازي.
امَّا المقام
الأول ـ فما ذكر في المنع عن حجية قول اللغوي هنا يمكن تحليله إلى عدة وجوه :
الأول
ـ انَّه لا أثر ولا
فائدة عملية في تعيين موارد استعمالات اللفظ عند العرب بعد أَنْ لم يثبت بذلك كونه
معنى حقيقياً للفظ والحجية فرع ترتب أثر عملي على قوله.
والجواب ـ انَّ
هناك ثمرات عديدة يمكن تصويرها في المقام لو كان قوله حجة.
منها ـ انَّ اللفظ
إذا لم يكن يحتمل فيه تعدد المعنى وانَّما كان الشك في سعة معناه وحدوده كما في
لفظ الصعيد مثلاً فإذا أخبر اللغوي باستعماله في مطلق وجه الأرض
ثبت بذلك الإطلاق
في مثل آية التيمّم.
ومنها ـ انَّ
تعيين موارد الاستعمال لو كان بنحو الحصر ، كما إذا شهدوا بأنه لا يستعمل إِلاّ في
هذا المعنى المعيّن كان دليلاً على المعنى الحقيقي.
ومنها ـ انَّه قد
يثبت بتعيينهم موارد استعمال عديدة إجمال اللفظ وتردده بين أكثر من معنى واحد.
ومنها ـ انَّه قد
يثبت كون المعنى حقيقياً ، وذلك فيما إذا عرف انَّ استعمال اللفظ فيه مساوق مع
كونه حقيقيّاً لأنَّه لا علاقة بينه وبين المعنى الأول كاستعمال المولى في السيد
وابن العمّ مثلاً مع فقدان العلاقة المصححة للمجاز بينهما. إلى غير ذلك من الثمرات
المتصورة.
الثاني
ـ انَّ قوله انَّما يكون حجة من باب الشهادة في الموضوعات وهي
بحاجة إلى توفّر شرائط الحجية فيها من العدالة والتعدد فلا بدَّ من البيّنة
الشرعية.
وفيه ـ انَّه لو
سلّم انَّ حجيته من باب حجية الشهادة في الموضوعات فنحن نكتفي فيها بخبر الثقة
الواحد كالأحكام.
الثالث
ـ ما في الكفاية من انَّ الرجوع إلى اللغوي انَّما يكون
باعتباره أهل الخبرة والرجوع إلى أهل الخبرة وحجية كلامهم عند العقلاء منوط بحصول
الوثوق والاطمئنان من قوله.
والجواب ـ انَّ
المقصود انْ كان اشتراط حصول الوثوق في حجية قول أهل الخبرة فهذا خلاف التطبيقات
الأُخرى لهذه الكبرى عنده وعند غيره ، فانَّه لا يشترط لزوم حصول الاطمئنان من
قوله وقد طبقه بنفسه بلا هذا التقييد في بحث الاجتهاد والتقليد.
وإِنْ كان المقصود
النقاش في انطباق تلك الكبرى في المقام فغاية ما يمكن أَنْ يقال في تقريبه انَّ
أهل الخبرة معناه أهل الحدس والاجتهاد وفي المقام ليس عمل اللغوي إِلاّ تجميع
المسموعات وموارد الاستعمالات ونقلها فلا يكون مشمولاً لدليل حجية قول أهل الخبرة.
وفيه : أولا ـ انَّ خبرة اللغوي كثيراً ما يكون على أساس الحدس وإعمال النّظر أيضا
، فانَّه وإِنْ كان رأس ماله السماع وتتبع موارد الاستعمالات إِلاّ انَّه لا بدَّ
له أيضا
أَنْ يقارن بين
موارد الاستعمالات ويجتهد في تخريج وتجريد المعاني التي يستعمل فيها اللفظ والتي
تستفاد من مجموع تلك المسموعات.
وثانياً ـ انَّ
هذه المقالة أساساً لا محصل لها لأنَّ الحدسية تضعيف لقيمة الاخبار فكيف يعقل أَنْ
تكون الحجية العقلائية المبنية على الكاشفية والطريقية منوطة بها. بل الصحيح انَّ
العقلاء بحسب فطرتهم بنوا أولا على حجية اخبار الثقات في الحسّيّات أولا لأنَّ
احتمال الخطأ فيها منفيّ بأصالة عدم الخطّ في الحسّ واحتمال الكذب منفي بالوثاقة ،
وامَّا الحدسيات فوثاقة المخبر فيها لا تقتضي أكثر من صدقه في الإخبار عن حدسه
فيبقى احتمال خطأ حدسه عن الواقع ولا يمكن نفيه بأصالة عدم الخطأ ، لأنَّ موضوعها
الحسّ الّذي يقلّ فيها الخطأ لا الحدس الّذي يكثر فيه الخطأ إِلاّ انَّهم استثنوا
عن عدم الحجية في الحدسيات خصوص الموارد التي يكون الحدس فيها متوقفاً على تفرّغ
وخبرة واجتهاد لا يمكن توفره عادة لكلّ أحد فكأنَّه بحكمة الانسداد العرفي لباب
العلم فيها جعلوا قول أهل الخبرة في مثل هذه الموارد وحدسهم حجة على الآخرين الذين
انسدّ عليهم باب العلم ولو باعتبار تفرغهم لاعمال أُخرى ، نعم من لم ينسد عليه ذلك
كمن كان بنفسه من أهل تلك الخبرة لا يكون حدس غيره حجة عليه كما هو واضح.
وهكذا يتّضح انَّ
حجية قول أهل الخبرة انَّما هو إِلحاق بحجية اخبار الثقة في الحسيّات ، وبناءً
عليه فقول اللغوي وشهادته إِنْ كان من باب الشهادة الحسيّة فهو مصداق لحجية الأصل
وإِنْ كان من باب الخبروية فهو مصداق لحجية الفرع.
نعم لو فرض انَّ
خبرة اللغوي قائمة على مدارك من البحث نظرية اجتهادية نسبتها إلى الفقيه وإليه على
حد واحد فلا تكون مثل هذه الخبرة حجة على الفقيه على ما سوف نشير إليه.
فيتحصل انَّ قول
اللغوي في هذا المجال حجة بقدر ما يكون شهادة عن حسّ لموارد الاستعمال ولا بدَّ
وأَنْ يخضع عندئذ لقانون الشهادة عن الحسّ أي يكون الناقل ثقة ومباشراً أو عن ثقة
مباشرة. وامَّا تحقيقاته وأنظاره الاجتهادية فلا تكون حجة على الفقيه لكونه فيها
أهل الخبرة أيضا.
وأمَّا
المقام الثاني ـ فلا إشكال في انَّ تعيين
الأوضاع اللغوية يمكن أَنْ يكون بطريق حسّي كما إذا سمع شهادة من العرب الأوائل
على المعنى الموضوع له الحقيقي إِلاّ انَّ مثل هذا ممّا لا يشهد به اللغوي عن حسّ
بل هو امَّا أَنْ يشهد بموارد الاستعمال الأعم من الحقيقة أو يجتهد في استخراج
المعنى الحقيقي ويعتمد على أنظار وآراء الأمر الّذي نسبته إليه وإلى المجتهد على
حد واحد فلا موجب لحجية قوله عليه ، نظير أَنْ يلحظ تاريخ استعمال كلمة الأسد في
الحيوان المفترس والرّجل الشجاع ويرى تقدّم الأول على الثاني ويرى انَّ موارد
الاستعمال في الثاني محفوظ بالقرينة دائماً بخلاف الأول ، ويرى انَّ في موارد
الاستعمال في الثاني يراد المبالغة في الشجاعة دون الأول إلى غير ذلك من القرائن
التي بتجميعها ربما يحصل على أساسها الجزم بالمعنى الموضوع له اللفظ.
وامَّا الاستدلال
على حجية قول اللغوي تارة بالإجماع وأُخرى بدليل الانسداد فغير تام.
امَّا الإجماع ،
فإنْ أُريد به الإجماع العملي من قبل العلماء على مراجعة أقوالهم فهذا وإِنْ سلمت
صغراه إِلاّ انَّه لم يعلم انَّ ذلك من باب الرجوع إلى الحجة التعبدية بل المظنون
انه لحصول الاطمئنان والاطلاع المباشر على الوضع ، وإِنْ أُريد الإجماع القولي فهو
غير موجود لأنَّ المسألة لم يتعرض لها إِلاّ عند المتأخرين والنقل المنسوب إلى
المرتضى ( قده ) يكون كسائر إخباراته التساهليّة عن الإجماع على تقدير صحّة
النسبة.
مضافاً إلى انَّ
الإجماع لو تمّ فلا يجزم بكونه تعبديّاً إِنْ لم يجزم بعدم كونه كذلك وانَّه تطبيق
لإحدى الكبريات لا انَّه متلقى بعنوانه عن الأئمة : فانَّه بعيد غايته.
وامَّا الانسداد
وإجرائه في دائرة الألفاظ المشكوكة التي لا طريق إلى تحصيل العلم بها فيؤخذ بقول
اللغويين لكونه يُفيد الظنّ بالظهور فغير تام لوجوه :
ومنها : ان تتميم
دليل الانسداد بحاجة إلى تشكيل علم إجمالي منجز أي علم بالتكليف لكي تتم مقدماته
وهنا لا علم إجمالي بالتكليف المنجز في دائرة أقوال اللغويين بل غايته العلم
بالتكليف الأعم من الإلزاميّ والترخيصي.
ومنها : لو سلّم
وجود علم إجمالي بتكليف منجز فيتعيّن الاحتياط في تمام الأطراف إذ لا يلزم منه عسر
وحرج لعدم كثرة أطرافه.
ومنها ـ انَّ
تتميم دليل الانسداد انَّما يوجب الرجوع إلى الظنّ فيما إذا تعذر الرجوع إلى
الأمارات المفروغ عن حجيّتها كالإطلاقات والعمومات الأولية إِنْ كانت في مورد قول
اللغوي. اللهم إِلاّ أن يدعى وجود علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيّدات لها ولو من
جهة عدم احتمال خطأ أقوال اللغويين كلّها وهذه دعوى زائدة على العلم الإجمالي.
ثمّ انَّه قد
استشكل على تقرير دليل الانسداد في المقام بإشكالين آخرين :
أحدهما
ـ ما في الكفاية من
انَّ دليل الانسداد الكبير لو كان تاماً فكل ظنّ حجة لا خصوص قول اللغوي ولو من
غير قول اللغوي وإِنْ لم يتم فلا يتم دليل الانسداد الصغير.
ولم يبين وجه عدم
تمامية الانسداد الصغير فلا بدَّ وأَنْ يكون راجعاً إلى أحد الوجوه التي ذكرناها.
الثاني
ـ انَّه لو سلّم تمامية دليل الانسداد الصغير فهذا لا ينتج
حجية قول اللغوي فحسب بل ينتج حجية مطلق الظنّ بالظهور ولو حصل من غير قول اللغوي.
وهذا الجواب يمكن
إبطاله بأنَّ المفروض انَّ دائرة علمنا الإجمالي خصوص أقوال اللغويين ولو من جهة
عدم احتمال كذبهم جميعاً لا أكثر من ذلك فيجري البراءة في الزائد عنه.
إثبات الظهور بالاستدلال
والبرهان :
الجهة
السابعة ـ هناك شبهة تتردد في الأذهان هي انَّ الأُصوليين في مقام
إثبات جملة من الظواهر والدلالات خاضوا بحوثاً استدلالية برهانية مع انَّ الظهور
أمر المرجع فيه إلى العرف والوجدان العرفي لا صناعة البرهان؟
والصحيح انَّ
عملية الاستدلال أو أعمال الصناعة في إثبات الظهور منهج سليم في جملة من الموارد
يمكننا حصرها في أربعة مواضع كما يلي :
١ ـ إثبات أصل
الظهور.
٢ ـ إثبات صغراه
بعد الفراغ عن كبراه.
٣ ـ إثبات خصوصية
في الظهور.
٤ ـ التنسيق بين
الظواهر لكي يقتنص الظهور النهائيّ الّذي عليه مدار الحجية.
أمَّا الموضع
الأول ـ فتارة يراد نفي الظهور فيه بالبرهان وهذا جانب سلبي ، وأُخرى يراد إثباته
به.
أمَّا الجانب
السلبي ، فصحة استعمال البرهان فيه واضح من قبيل ما صنعه الأُصوليّون في بحث
الصحيح والأعم أو المشتق من البرهنة على استحالة تعقل الجامع بين الأفراد الصحيحة
أو بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ لنفي القول بوضع الأسماء للصحيح أو المشتق
للجامع بين المنقضي والمتلبس ، فانَّ إمكان الوضع لذلك فرع وجود معنى جامع متقرر
مفهوماً فانَّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت فإذا برهن على عدم جامع مفهومي كان
ذلك برهاناً على عدم إمكان الوضع له.
وأمَّا الجانب
الإثباتي فأيضاً يمكن إثباته بالاستدلال ولو الاستقرائي لما تقدّم من انَّ الظهور
الموضوعي أمر واقعي وليس وجدانيّاً فيمكن إثباته بالاستدلال والملاحظة ، كما إذا
جرب إطلاق اللفظ عند جماعة مختلفين في ظروفهم وملابساتهم وثقافاتهم للتأكد من عدم
التأثر بعامل ذاتي غير موضوعي في تشخيص الظهور فهذا الاستقراء استدلال في الظهورات
الذاتيّة المختلفة للتوصّل منها إلى الظهور الموضوعي ، وقد يكون الاستقراء في نفس
الظهور الموضوعي مباشرة كما فعله صاحب المحجّة من ملاحظة صيغ ( فعيل ) وانَّها
تدلّ على الذات الحاملة للمبدإ دائماً بخلاف صيغة ( فاعل ) فاستنتج من ذلك انَّ
كلّ مبدأ لا يكون قائماً بالذات لا تجري عليه صيغة فعيل فقد استنبط أخذ حيثية
مشتركة في مدلول فعيل من استقراء مجموع المواد الداخلة عليه كخطيب وسميع وبصير
وخبير وهكذا وإِلاّ كان عدم دخوله على مادة ومبدأ لا يقوم بالذات مجرد صدفة منفية
بقانون الاستقراء.
وشخص هذا
الاستدلال وإِنْ كان قد يناقش فيه لورود صيغة فعيل في مبدأ لا يقوم بالذات كأليم
مع انَّ الألم قائم بالمؤلم لا المؤلم ومن هنا لم يدع اللغويين هذا الاختصاص أيضا إِلاّ انَّ منهج
هذا الطرز من الاستدلال لإثبات الأوضاع اللغوية سليم في نفسه.
__________________
وامَّا الموضع
الثاني ـ فمن قبيل باب مقدمات الحكمة ، فانَّ كبراها وهي عبارة عن ظهور حال كلّ
متكلّم في انَّ تمام مرامه بمقدار بيانه مسلمة ، ولكن قد يقع الإشكال في الصغرى
وكيفية تطبيق تلك الكبرى ، فمثلاً قد يدعى في باب الشرط انَّ اللزوم له حصّتان
لزوم انحصاري وغير انحصاري وانَّ غير الانحصاري محدود ومقيّد بشرط فيكون مقتضى
الإطلاق وعدم التحديد إرادة الحصّة الانحصاريّة ، وهذا برهان على صغرى الإطلاق لا
أصل الظهور الإطلاقي أو ملاكه كما هو واضح ، وهذا المنهج سليم أيضا ولكن على شرط
أَنْ يكون التطبيق قابلاً للإدراك عرفاً وإِلاّ كان هناك أحد أمرين امَّا خطأ في
البرهان أو تخصيص في كبرى الظهور بما إذا كان القيد عرفياً ، ومن هنا لا نقول
بتمامية هذا البرهان في باب الأوامر حيث ادعي انَّ مقتضي إطلاق الطلب هو الطلب
المطلق غير المحدود والاستحباب محدود بحد عدمي وهو قيد عقلاً ، ولهذا قيل في
الفلسفة انَّ كلّ ممكن محدود ومقيّد بحدٍّ عدمي إِلاّ انَّ مثل هذه قيود غير عرفية
وهذا معناه بحسب الدقة انَّ البرهان يكون مجاله التنبيه إلى صغرى الظهور ، ونظير
هذا أيضا الاستمداد بالبرهان لتشخيص مصاديق لإطلاق لا يشك العرف في مصداقيتها على
تقدير معرفتها وانَّما لا يعرف المصداق.
وقد يكون التطبيق
بلحاظ مدلول التزامي وهذا له باب واسع كما إذا استدلَّ على المفهوم مثلاً بأنَّ
ظاهر الشرطية دخل الشرط بخصوصه فإذا قام البرهان على استحالة صدور الواحد من
الكثير مثلاً ثبت بالالتزام الانحصار وبالتالي المفهوم ، إذا فرض وجود شرط آخر
معناه تأثير الجامع بينهما وهو خلف الظهور المدعى.
وأمَّا الموضع
الثالث ـ وهو تشخيص خصوصية في الظهور ، فمن قبيل البحث عن انَّ دلالة الأمر على
الوجوب هل تكون بالوضع أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فانَّ مثل هذا التشكيك معقول
بعد ما عرفنا في أبحاث الوضع انَّ إدراك الظهور الوضعي فرع نفس الوضع والقرن بين
اللفظ والمعنى لا العلم به كما انَّ الظهور بالقرينة العامة أو الخاصة فرع واقع
وجودها لا العلم بها وبهذا دفعنا إشكال الدور عن علامية التبادر.
وتعيين خصوصية
الظهور ونوعه يترتّب عليه آثار في مثل باب التعارض فيكون للصناعة والاستدلال دور
في هذا المجال حيث يمكن على أساس المقارنات والملاحظات وإعمال
الدقة الصناعية
إحراز خصوصية الظهور المبحوث عنه بل الطرحة الصحيحة الحديثة لكثير من البحوث
اللفظية الأصولية تقوم على هذا المنهج فمثلاً دلالة صيغة الأمر على الوجوب لا نقاش
فيها بحسب الحقيقة وانَّما البحث عن ملاكها وخصوصيتها.
وأمَّا الموضع
الرابع ـ وهو التنسيق بين ظهورين في كلام واحد بحيث على أساسها تستنتج دلالة ثالثة
، فمن قبيل ما ذكرناه في بحث المفهوم للجملة الشرطية من أنَّه لا بدَّ من ملاحظة
انَّ التعليق يطرأ على إجراء الإطلاق في الجزاء أو الإطلاق يجري في الحكم المعلَّق
، وعلى الأول يدلّ الكلام على انتفاء سنخ الحكم فينتج المفهوم بخلافه على الثاني.
وللصناعة أيضا مجال في إثبات إمكان طرو التعليق على المطلق وعدمه وهذا بحسب روحه
وإِنْ كان بحثاً صغروياً عن مصداق الظهور المفروغ عن كبراه إِلاّ انَّه
بلحاظ كونه كيفية
للتنسيق بين صغرى ظهورين أو أكثر أفردناه في الذّكر.
ثمّ انَّ هناك
حالة أُخرى يحتاج فيه الفقيه إلى إِعمال الصناعة في باب الدلالات لا لإثبات أصلها
بل لتفسير ما يعترف مسبقاً بثبوته من أنواع الدلالة والظهور وقد اصطلحنا على ذلك
بالبحوث اللغوية التفسيرية لأنَّه قد يكون أصل الدلالة والظهور بحسب الوجدان
ثابتاً ولكن لا يعرف تخريجه الفنّي ونكتته لكي يستفاد من ذلك في مقام الإقناع أو
في التأكّد من الظهور أو دفع تهافت وتذبذب متوهّم بين ظهورين ودلالتين وجدانيّتين
لا يمكن رفعه إِلاّ بإعطاء نظرية يمكن أَنْ ينسق على أساسها بين كلّ تلك الوجدانات
من دون تهافت ، وهذا نظير أبحاثنا في مفهوم الشرط حيث قلنا انَّ أصل وجدانية
المفهوم للجملة الشرطية ينبغي أَنْ لا يشكك فيها وانَّما لا بدَّ من إعطاء تفسير
فنّي لمثل هذه الاستفادة يدفع على أساسها شبهات فنيّة أوردناها هناك من انَّ
المعلَّق شخص الحكم فكيف يستفاد المفهوم أو كيف يجري الإطلاق في الحكم المعلق
بلحاظ التعليق مع انَّه نسبة ناقصة إلى غير ذلك ، وكذلك ينسق على أساسها بين
وجدانيين قد يتوهّم التنافي بينهما وهو وجدانية المفهوم للجملة الشرطية ودلالتها
على انحصارية الشرط من جهة ووجدانية عدم لزوم المجاز في موارد استعمالها مع ثبوت
العدل وعدم اللزوم الانحصاري فقد دفعنا هذا التذبذب الّذي قد يؤدّي بصاحبه إلى
التشكيك في أصل الدلالة الوجدانية ، بل المظنون انَّ من أنكر المفهوم للشرط كان مهم
السبب عنده مثل
هذه العوامل والنكات الصناعية بشهادة انَّهم في الفقه تمسّكوا بالمفهوم في الجملة
الشرطية في مثل قوله 7 ( إِذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجسه شيء ) . وهذا المنهج من
البحث نهج تفسيري علمي نظير البحوث العلمية التفسيرية للقضايا الطبيعية في العلوم
وهو منهج صحيح وبهذا نختم بحث الظواهر وحجيتها.
__________________
حجيّة الإجماع
والبحث أولا عن
وجه حجيّة الإجماع المحصَّل ثمَّ عن ملاك حجية نقله.
١ ـ الإجماع المحصَّل :
هنالك أحد مسالك
ثلاثة في وجه حجيّة الإجماع المحصَّل.
١ ـ حجيته بقانون
العقل العملي المعبّر عنه بقاعدة اللطف.
٢ ـ حجيته بدليل
شرعي.
٣ ـ حجيته بقانون
العقل النظريّ وكشفه عن الواقع.
أمَّا
المسلك الأول ـ فقد نسب إلى بعض الأقدمين
من أصحابنا من جملتهم الشيخ ( قده ) وهو يبتني على أساس قاعدة اللطف العقلية ، وهي
قاعدة متفرعة على أصل العدل الإلهي في علم الكلام إذ يراد بها إدراك العقل لما
يكون واجباً على الله سبحانه وتعالى بحكم كونه عادلاً وتسميته باللطف تأدباً ، وقد
تمسّكوا بها في علم الكلام لإثبات النبوّة العامة وحاول تطبيقها الفقهاء الأقدمون
في مسألة الإجماع لإثبات حجيته بدعوى انَّ من اللطف اللازم عليه سبحانه أَنْ لا
يسمح بضياع المصالح الحقيقية في أحكام الشارع على الناس نهائيّاً بل لا بدَّ من
انحفاظها ولو ضمن
بعض الأقوال فإذا
أجمعت الطائفة على قول ينكشف انَّه هو الحقّ وإِلاّ لزم خفاء الحقيقة كليّاً وهو
خلاف اللطف.
وهذا المسلك غير
تام لوجوه :
أحدها
ـ انَّه لو أُريد من المصالح الحقيقية الملاكات التكوينية
الثابتة بقطع النّظر عن أحكام الشارع وتشريعاته فمثل هذه الملاكات من الواضح عدم
لزوم حفظها من قبل الله سبحانه على البشرية ولم تجر العادة أيضا على حفظها بتدخل
مباشر من الله سبحانه بل أُوكل ذلك إلى خبرة البشر وبصيرتهم المتنامية المتطورة من
خلال التجارب والممارسات ولعلَّ الحكمة في ترك البشر وخبرته ليتكامل ويكدّ وتتفتّح
قدراته وإمكاناته تدريجيّاً ، والحاصل قاعدة اللطف لا يمكن تطبيقه على مثل هذه
الملاكات الأوليّة التكوينية امَّا لعدم المقتضي لمثل هذا التطبيق أو للمزاحمة مع
الملاك الّذي ذكرناه ، ولهذا لم يلزم على الله سبحانه أَنْ يبعث أطبّاءً كما بعث
أنبياء.
ولو أُريد تطبيقها
على المصالح والملاكات البعدية التي تحصل في طول التشريع الرباني وهي ملاكات
الطاعة والعبودية لله والتكامل المعنوي وهي التي طريق حفظها منحصر بالله سبحانه
بما هو مشرع وواضع العقاب والثواب فكبرى تطبيق قاعدة اللطف على مثل هذه المصالح
وإِنْ كان لا يخلو من وجه ولهذا طبقت القاعدة لإثبات أصل النبوة العامة. إِلاّ
انَّ صغرى ذلك غير منطبق في المقام إِذ لا فرق في حفظ هذه الملاكات الطولية بين
الحكم الظاهري والواقعي فحتى إذا كان ما أجمع عليه الفقهاء خلاف الحكم الواقعي لا
يكون ذلك خارجاً عن الشرع بل على طبقه وبقاعدة أو أصل من أصوله ووظائفه المقررة
ظاهرياً كما هو واضح.
الوجه
الثاني ـ انَّه لو تنزلنا
فاللطف المذكور في إبراز الحقيقة امَّا أَنْ يدعى انَّه لطف لازم من قبله سبحانه
بالنسبة إلى كلّ المسلمين أو إلى بعضهم بأنْ يرشد خمسة من العلماء مثلاً إلى
الحقيقة ويكفي ذلك لإنجاز المهمة العقلية العملية ، امَّا الثاني فغريب في نفسه
كبروياً إذ ميزان ترقّب اللطف هو العبودية والحاجة إلى اللطف وهو في الجميع على حد
واحد فكيف يختص ببعض ويكفي ذلك في سد الحاجة عن غيرهم ، وامَّا الأول بأَنْ يفترض
انَّ طريق الحقيقة مفتوح للجميع بحيث كلّ عالم يمكنه أَنْ
يصل إِليها كما
وصل إِليها البعض غاية الأمر بحاجة إلى مزيد جهد وبذل وسع أكثر من المقدار اللازم
في مقام الاكتفاء بإجراء الأصول والقواعد العامة في الاستنباط فدعوى الجزم ببطلانه
ليس مجازفة ، إذ في كثير من المواضع نقطع بأنه مهما اجتهد وبذل الجهد أكثر فأكثر
لا يتغير الموقف ولا يصل إلى ما يغير مقتضى القاعدة أو الأصل.
الوجه
الثالث ـ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كفاية اللطف المردد بين بعض
المجمعين في إشباع هذه الحاجة وإنجاز المهمة العقلية العملية ، فاللطف المذكور
انَّما يجب بمعنى انَّه لا بدَّ للمولى سبحانه من أَنْ ينصب من يكون في نفسه
طريقاً إلى الحقائق لا بمعنى رفع الموانع عن الوصول إِليها مطلقاً حتى إذا كان
بفعل العباد وعصيانهم أنفسهم والنصب بالمعنى المذكور قد سلكه سبحانه بنفس نصب
الإمام ( عجل الله فرجه ) وغيابه انَّما هو من جهة منع العباد وعصيانهم فلا قصور
من ناحية المولى.
المسلك
الثاني ـ إثبات حجية الإجماع بدليل شرعي وقد استدلّ فقهاء الجمهور
على حجيته في إطار هذا المسلك بوجوه عديدة ما يستحق منها الذّكر هو التمسّك
بالنبوي المشهور « أُمّتي لا تجتمع على ضلالة » وقد وجدناه بصيغتين.
إحداهما ـ ما عن
أبي خلف الأعمي قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله 6 يقول انَّ أُمّتي
لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم « نقله ابن ماجة في
سننه ج ٢ ص ١٢٠٣ ».
الثانية ـ ما نقله شريح عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله 6 : انَّ الله
أجاركم من ثلاث خلال : أَنْ لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً ... وأَنْ لا
تجتمعوا على ضلالة.
« نقله أبو داود
في سُننه ج ٤ ص ٩٨ ».
فيستدلّ بها على
حجية الإجماع لكونها شهادة من النبي 6 بعصمة مجموع الأُمة.
وقد يناقش في هذا
الاستدلال بأنَّ غاية ما يثبت بهذا المضمون حجية المجموع وهذا أمر صحيح مسلم عندنا
أيضا لوجود المعصوم ضمن المجموع وهو الإمام 7 الموجود في كلّ زمان ، فليس في الحديث على تقدير صدوره
دلالة على أكثر من وجود المعصوم في الأمة.
وفيه : انَّ ظاهر
الحديث انَّ موضوع العصمة وملاكها المجموع حيث عبر بأنها لا تجتمع على ضلالة لا
انَّ ذلك من باب وجود معصوم بينهم بحيث يكون ضمّ ساير الأقوال إليه من قبيل ضمّ
الحجر إلى جنب الإنسان.
نعم قد يقال :
انَّ هذه الرواية وإِنْ دلّت على وجود معصوم آخر وهو مجموع الأُمة إِلاّ انَّ هذا
لا تتضمن نتيجة مفيدة بالنسبة إلينا لأنَّ مثل هذا المعصوم إحرازه توأم دائماً مع
إحراز قول المعصوم الأول وهو الإمام 7 إذ لو أحرزنا دخوله في المجمعين كفى ذلك في الحجية وإِلاّ
فلا يحرز المعصوم الثاني أيضا لأنَّه جزء من الأُمة. اللهم إِلاّ أَنْ يقال بأنَّ
ظاهر الذيل ( فعليكم بالسواد الأعظم ) الوارد في الصيغة الأُولى إرادة المعنى
العرفي للإجماع لا المعنى الحرفي الدّقيق فلا ينثلم بخروج فرد أو فردين.
والصحيح في
المناقشة :
أولا ـ عدم دلالة الحديث على ما يفيد في مسألتنا الأُصولية ، لأنَّ
الوارد في الحديث عنوان لا تجتمع على ضلالة ، والضلالة تستبطن الإثم والانحراف وهو
أخصّ من الخطأ وعدم الحجية المبحوث عنه في الإجماع فانَّ خطأ المجمعين جميعاً في
مسألة فرعية لا تعني ضلالتهم كما هو واضح.
وثانياً ـ ضعف
السند لا فقط بلحاظ الأصول الموضوعية المذهبية لنا بل حتى بحسب موازينهم في الجرح
والتعديل لأنَّ أبي خلف الأعمي الناقل للصيغة الأُولى قد شهد بضعفه جملة من
علمائهم وقال بعضهم انَّ هذا الحديث جاء بطرق في كلّها نظر.
وامَّا الصيغة
الثانية ففي سندها قضمضم الّذي هو محل خلاف عندهم من حيث الصحة وعدمها ، وإِنّ
شريح الّذي ينقل عنه قضمضم هذا الحديث وإِنْ كان قد شهدوا بوثاقته إِلاّ انَّه قد
نقل الحديث عن أبي مالك الأشعري ومن المظنون قوياً انَّه لم يدرك أبي مالك لأنَّه
قد شهد في حقّه انَّه لم يدرك سعد بن أبي وقّاص وأبو مالك قد توفي في حياة سعد
وهناك من تشكك في أصل رواية شريح مباشرة عن الصحابة فانَّه نقل عن محمد بن عوف
انَّه سئل هل سمع شريح عن أصحاب رسول الله 6 فقال لا أظنّ ذلك وصرح أبو حاتم انَّ كلّ ما يرويه عن أبي
مالك الأشعري فهو مرسل.
المسلك
الثالث ـ إثبات حجية الإجماع بلحاظ مدركات العقل النظريّ ، وقد ذكر
في الكتب انَّ الإجماع تارة يدعى كونه كاشفاً عن الواقع ـ الحكم الواقعي ـ بالملازمة
العقلية ، وأخرى بالملازمة العادية ، وثالثة بالملازمة الاتفاقية ، ومثلوا للأولى
بالتواتر الموجب للقطع ، وللثانية بطول العمر الملازم عادة مع الهرم والشيخوخة وإِنْ
كان لا يستحيل الانفكاك عقلاً وللثالثة بالقطع الحاصل صدفة واتفاقاً من مجموعة
أخبار لا تبلغ حدَّ التواتر.
والصحيح : انَّ
الملازمة على نحو واحد دائماً وهي بملاك استحالة الانفكاك عقلاً ، فانَّ الاستحالة
والإمكان لا يدرك إِلاّ بالعقل دائماً ولكنه تارة يحكم العقل بذلك مطلقاً ، وأُخرى
يحكم به ضمن ظروف موجودة عادة وغالباً ، وثالثة ضمن ظروف اتفاقية. كما انَّ الصحيح
انَّه لا ملازمة عقلية حتى في التواتر بين التواتر والصدق فضلاً عن الإجماع ،
لأنَّ كلّ خبر يحتمل نشوؤه من مناشئ محفوظة حتى مع كذب القضية فلا ملازمة كذلك كما
برهنا على ذلك في كتاب الأُسس المنطقية وانَّما الاستكشاف مبنيٌ على أساس الدليل
الاستقرائي المبتني على أساس حساب الاحتمالات وحينئذ ما يقال في كاشفية التواتر
يمكن أَنْ يقال في الإجماع مع فوارق سوف نشير إِليها. فانَّ احتمال الخطأ في فتوى
كلّ فقيه وإِنْ كان وارداً إِلاّ انَّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعين وإجراء
حسابات الاحتمال فيها عن طريق ضرب احتمالات الخطأ بعضها بالبعض نصل إلى مرتبة
القطع أو الاطمئنان على أقل تقدير بعدم خطئها جميعاً وهو حجة على كلّ حال.
والصحيح انَّ روح
الكاشفية وملاكها في كلّ من التواتر والإجماع وإِنْ كان واحداً إِلاّ انَّ هناك
نقاط ضعف عديدة في الإجماع توجب بطء حصول اليقين منه بل وعدم حصوله في كثير من
الأحيان غير موجودة في التواتر نذكر فيما يلي أهمّها :
الأولى
ـ انَّ مفردات
التواتر تكونه شهادات حسيّة ، وامَّا الإجماع فمفرداته شهادات حدسية لأنَّها عبارة
عن فتاوى وهي مبنية عادة على النّظر والاجتهاد ، ومن الواضح انَّ احتمال الخطأ في
الحدس أكبر منه في الحسّ لأنَّ نسبة الخطأ في الحدسيات أكثر بكثير من نسبته في
الحسيات فيكون مبدأ حسابات الاحتمال التي بها نتوصل إلى اليقين أو
الاطمئنان في باب
الإجماع قيمة احتمالية أضعف منه في التواتر ، ومن هنا كانت كاشفية الإجماع تتأثر
بدرجة اقتراب فتاوى المجمعين إلى الحسّ فكلّما كان حجم النّظر والاجتهاد فيها أقلّ
كانت كاشفيتها عن الواقع أقوى وآكد ، وبهذا يتميز الإجماع في المسائل الفقهية ذات
المبادئ النظرية الاجتهادية عادة على الإجماع في المسائل الفقهية ذات المبادي غير
النظرية المعقدة وكذلك يختلف الإجماع من عصر إلى عصر لأنَّه كلّما اقتربنا إلى عصر
الأئمة كان حجم الجانب الحسّي أكبر وحجم تأثر المسألة بالجانب النظريّ أقلّ ومن
هنا كانت قيمة فتاوى القدماء أكبر من قيمة فتاوى المتأخرين ، كما انَّه على هذا
الأساس أيضا كلّما كان مبلغ تبصّر المجمعين وألمعيّتهم وخبرتهم للوصول إلى الواقع
أكثر كانت القيمة الاحتمالية لفتاواهم أكبر.
الثانية
ـ انَّ الخطأ
المحتمل في الاخبار عن الحسّ له مصبّ واحد عادة بينما في باب الإجماع قد لا يكون
له مصبّ واحد ، ومن الواضح انَّ احتمال خطأ جميع العشرة مثلاً في اخبارهم عن مصب
واحد أبعد من احتمال خطأ عشرة في إخباراتهم غير المنصبة على مصبّ واحد ، فمثلاً
احتمال خطأ العشرة المخبرين بموت زيد بالخصوص أبعد من احتمال خطأهم في اخبار كل
منهم عن موت جاره الّذي هو غير جار الآخر. وهذا المدعى نذكره هنا كمدعى وجداني وقد
برهنا عليه وذكرنا قوانينه وضوابطه في كتاب الأُسس فهي قضايا نذكرها هنا كمصادرات
معتمدين فيها على الوجدان وإِلاّ فهي مبرهن عليها من قبلنا في محلها ، ومن هنا
كلّما كان مناشئ الفتوى في المسألة الإجماعية وجهاتها أقرب إلى المصب الواحد كان
أقوى كما إذا فرض انَّ كلّ جهات المسألة واضحة لوجود رواية لا إشكال في سندها
وانَّما الكلام في دلالتها فأجمعوا على دلالتها مثلاً على الحكم المجمع عليه ،
وهذا بخلاف ما إذا كان يحتمل لكل فتوى تخريج ومصب غير الآخر كما في مسألة جواز
رجوع الأيادي المتعاقبة السابق منهم إلى اللاحق في البحث الفقهي المعروف من كتاب
البيع.
الثالثة
ـ في التواتر لا يحتمل عادة أَنْ يكون بعض المخبرين قد وقع
تحت تأثير وهم المخبر الآخر ، لأنَّ ذلك خلف المفروض في التواتر وهذا بخلاف باب
الإجماع فانَّ تأثر اللاحق بالسابق في الفتوى أمر واقع كثيراً وقد يكون التأثر
إجمالياً ارتكازياً ، وهذا
سوف ينقص كثيراً
من قيمة احتمال مطابقة الفتوى اللاحقة للواقع مستقلاً عن الفتوى السابقة وبالتالي
تتغير نتائج حساب الاحتمالات ، ومن هنا كلّما كانت الفتاوى أكثر عرضية كانت أقوى
في الكاشفية عمّا إذا كانت مترتبة زماناً أو مدرسيّا.
الرابعة
ـ عدم وجود نكتة مشتركة للخطإ في التواتر والإخبارات الحسية
عادة ، بخلاف ذلك في الإجماع والفتاوى الحدسية ، ووجود نكتة مشتركة للخطإ له أثر
كبير في إبطال حسابات الاحتمال ، فمثلاً إذا أخبر عشرة عن وجود الهلال وكانوا في
نقطة فيها نصب يشبه بالهلال فلا يحصل العلم من إخباراتهم وهذا بخلاف ما إذا لم يكن
ذلك النصب موجوداً ، وفي باب الإجماعات وجود نكتة مشتركة للخطإ أمر محتمل في أغلب
الأحيان كما إذا فرض مثلاً إجماعهم على بطلان الصلاة المزاحمة مع الإزالة لعدم توصلهم
إلى فكرة الترتب فإذا احتمل ذلك كان مؤثراً في حساب الاحتمالات بحسب النتيجة.
وهناك نقاط وعوامل
أُخرى جزئية غير ما ذكر لا ضابط لها يمكن الالتفات إليها وتفصيلاً في الفقه في كل
باب بحسبه.
وبالالتفات إلى
روح كاشفية الإجماع هذا يتبيّن ما معنى ما استقرّ عليه رأي المتأخرين من
الأُصوليين بحسب ارتكازهم من انَّ الإجماع بالملازمة الاتفاقية يكشف عن قول
المعصوم ، فانَّ هذا مدركه الفني ما ذكرناه من انَّ كاشفية الإجماع انَّما هي
بنكتة حساب الاحتمالات وهو يتأثر بعوامل وضوابط عامة وخاصة متعددة ، ولهذا تختلف
الإجماعات من حيث الكشف المذكور حسب اختلاف مواردها وخصائصها.
كما انَّه باكتشاف
ضوابط الكشف الرئيسية يقضى على الفوضى الفقهية في الاستدلال بالإجماع ، إذ قلّما
يمكن تحديد وتفسير مواقف بعض الفقهاء في مجموع المسائل الفقهية حيث قد يناقش
الإجماع في مسألة وقد لا يناقش في أُخرى.
ثمَّ انَّ هذه
الكاشفية بالنحو المتقدّم لها أحد طرزين من التطبيق ، أحدهما ضعيف والآخر قوي صحيح
وضعف الأول وقوة الثاني كلاهما مرتبطان بمؤثرات حساب الاحتمال.
فالتطبيق الضعيف
هو أَنْ يراد بالإجماع كشف صلاحية المدرك لدى المجمعين بعد الفراغ عن أصل وجوده ،
فيقال مثلاً انَّ مدارك المجمعين إذا كانت الرواية المعيّنة مثلاً فنطبق حساب
الاحتمالات على استناد المجمعين إِليها ونقول انَّ احتمال خطأ واحد في فهم الحكم
من هذا المدرك وإِنْ كان وارداً بأَن لا تكون الرواية تامة الدلالة على الحكم
إِلاّ انَّ افتراض خطأ المجموع بحساب الاحتمالات منفي كما أُشير إليه فيتحصل
اليقين أو الاطمئنان بصلاحية ذلك المدرك وتماميته ، إذ لا يمكن افتراض ان كل أولئك
قد أخطئوا ، وهذا الاطمئنان حجة لصاحبه على الأقل وإِنْ لم يكن حجة لغيره فيما إذا
فرض حصوله من مجرد جمع آراء الآخرين وملاحظة إجماعهم دون الرجوع إلى مدارك المسألة
، مثلاً ليكون تقليد العامي له من رجوع الجاهل إلى العالم.
ووجه الضعف في هذا
النحو من التطبيق ابتلاؤه بنحو شديد بتمام نقاط الضعف الأربع المتقدمة ، خصوصاً مع
الالتفات إلى انَّ الإنسان يعلم تفصيلاً أو إجمالاً انَّ كثيراً من القضايا النظرية
الحدسية كانت قد اتّفقت عليها كلمة جمهور العلماء في كلّ فن ثمّ انكشف بعد ذلك
بطلان تلك القضية وخطأهم جميعاً.
نعم لو فرضنا انَّ
الأنظار المتجمعة كانت تشبه الحسّ بحيث تخلو عن نقاط الضعف المذكورة لكان لهذا
التطبيق مجاله ، كما لو استندوا جميعاً إلى ظهور في رواية معينة صحيحة سنداً عندنا
فانَّ مسألة الاستظهار مسألة تشبه الحسّ لكون أولئك يمثلون بنفسهم العرف بل هم
العرف الأدق والأبصر فإذا فهموا بأجمعهم معنى معيناً من النصّ فلا محالة يحصل
الجزم أو الوثوق بأنَّ ذلك الفهم العرفي صحيح لو لا نكتة خاصة يمكن أَنْ تكون
مفسرة لخطئهم في الفهم كنكتة مشتركة.
وأمَّا التطبيق
الصحيح فيتمثل في إجماع الفقهاء المعاصرين لعصر الغيبة الصغرى أو بُعيدها إلى فترة
كالمفيد والمرتضى والطوسي والصدوق ( قد هم ) ، فإنَّهم إذا استقرَّ فتواهم جميعاً
على حكم ولم يكن يوجد بأيدينا ما يقتضي تلك الفتوى بحسب الصناعة لكونها على خلاف
القواعد العامة المنقولة من قبل نفس هؤلاء في كتب الحديث مثلاً استكشفنا وجود مأخذ
على الحكم المذكور بيدهم وذلك ببيان : انَّ إفتاء أولئك الأجلاء من دون دليل ومآخذ
غير محتمل في حقّهم مع جلالة قدرهم وشدة تورعهم
عن ذلك كما أنَّه
لا يحتمل في حقّهم أَنْ يكونوا قد غفلوا عن مقتضى القاعدة الأولية المخالفة لتلك
الفتوى لأنَّهم هم نقلته إِلينا بحسب الفرض خصوصاً إذا كانت تلك القاعدة واضحة
مشهورة مطبقة من قبلهم في نظائر ذلك فلا بدَّ من وجود مأخذ على أساسه خرجوا عن
مقتضى تلك القاعدة وذلك المأخذ المخصِّص لحكم القاعدة يتردد في بادي الأمر بين
احتمالين ، أَنْ يكون هناك رواية عندهم قد استندوا إِليها ولم تصل إِلينا ، أو أمر
آخر. إِلاّ انَّ الاحتمال الأول ساقط عادة إذ لو كانت توجد رواية كذلك عندهم فكيف
لم يذكروها في كتبهم الفقهية الاستدلالية أو الروائيّة ، إذ من غير المعقول انَّهم
جميعاً قد استندوا إلى رواية واضحة الدلالة على ذلك ولذلك أجمعوا على مضمونها ومع
ذلك لم يتعرض لذكرها أحد منهم مع انَّهم قد تعرّضوا لروايات ضعاف لا يستندون
إِليها سنداً أو دلالة في مجاميعهم الحديثية أو كتبهم الاستدلالية ، بل كيف يحتمل
ذلك مع ملاحظة انَّ فتاواهم ومتونهم الفقهية كانت على حسب الروايات الواردة غالباً
لا انَّها تفريعات وتشقيقات مستقلة كما في المتون الفقهية المتأخرة فكيف يفترض
وجود رواية لم يجعلوا لها متناً في كتبهم فغفلوا عنها نهائيّاً؟ كلّ ذلك يوجب
العلم عادة بسقوط هذا الاحتمال وبالتالي تعيين الاحتمال الآخر وهو انَّهم قد
تلقّوا الحكم المذكور بنحو الارتكاز العام الّذي لمسوه عند الجيل الأسبق منهم وهم
جيل أصحاب الأئمة : الذين هم حلقة الوصل بينهم وبين الأئمة : ومنهم انتقل كلّ
هذا العلم والفقه إليهم ، وهذا الارتكاز ليس رواية محددة لكي تنقل بل هو مستفاد
بنحو وآخر من مجموع دلالات السنة من فعل المعصوم أو تقريره أو قوله على إجمالها ،
ولهذا لم تضبط في أصل معين وهذا هو التفسير الوحيد الّذي تلتئم به قطعياتنا
الوجدانية في المقام وباعتبار انَّ هذه الافتراضات كلّها قريبة من الحسّ لأنَّ
الارتكاز أمر كالحسّ وليس كالبراهين العقلية الحدسية فلا يقال لعلهم أخطئوا جميعاً
في فهمه ، فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بالحكم ضمن شروط وتحفظات لا بدَّ من
أخذها بعين الاعتبار لتتم الحسابات الكاشفة ، ولعلّ دعاوى الإجماع من قبل بعض
الأقدمين تحكي عن إجماع غير مكتوب حقيقته الارتكاز المذكور.
وعلى ضوء هذا
الفهم تندفع الإشكالات المعروفة على التمسك بالإجماع نورد
فيما يلي أربعة
منها :
الأول
ـ قالوا انَّ إجماع
أصحاب شخص انَّما يكشف عن رأيه أو ذوقه إذا كانوا في موقع يمكنهم من الاتصال
المباشر معه وامَّا إذا كان محجوباً عنهم وليس بينهم وبينه إِلاّ الظنون والحدس
فاتفاقهم لا يكشف عن رأيه ، ومقامنا من هذا القبيل لأنَّ فقهاء عصر الغيبة كانوا
محجوبين عن إِمامهم ( عجل الله فرجه ).
والجواب ـ ظهر
ممّا تقدم ، فإنَّا لا نحاول الكشف عن رأي المعصوم 7 مباشرة من الإجماع ليقال انَّه محجوب عنهم بل بتوسط
الارتكاز المتلقى عن أصحاب الأئمة السابقين 7 وارتكازهم كاشف عن رأيه لكونهم معاصرين معهم ومتلقّين لكل
تصوراتهم عنهم.
الثاني
ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) ، من انَّ غاية ما يقتضيه
الإجماع انَّ الفقهاء لتورعهم وعدالتهم لا يفتون بدون مدرك إِلاّ انَّ هذا لا يفيد
لنا شيئاً لأنَّه :
أولا
ـ لا يكشف عن وجود
رواية صحيحة وصلتهم ولم تصلنا لأنَّ هذا بنفسه غريب إذ كيف يمكن أَنْ يفرض وصول
رواية صحيحة عندهم إليهم وقد استندوا إليها جميعاً ومع ذلك لم ينقلوها لنا مع
انَّهم هم حملة الروايات إلينا وانَّهم قد نقلوا الغثّ والسمين والصحيح والسقيم من
الروايات.
وثانياً ـ لو فرض
ذلك فما يدريك أَنَّ تلك الرواية لو كانت تصل إلينا لكانت تامة الصلاحية عندنا
فلعلها كانت غير تامة امَّا سنداً لاختلاف المباني في تصحيح الأسانيد ، أو دلالة
لالتفاتنا إلى نكتة خفيت عليهم كما يقع ذلك كثيراً.
وهذا الإشكال أيضا
ظهر جوابه ممّا تقدّم ، حيث اتّضح انَّ المأخذ ليس هو استكشاف مدرك روائي وصلهم
ولم يصلنا ليلاحظ عليه بالملاحظتين بل استكشاف ما هو أقوى من الرواية وهو الارتكاز
الكاشف تكويناً وقطعاً عن رأي المعصوم بالنحو المتقدّم شرحه.
الثالث
ـ اعتراض وجهه الأخباريون في المقام من انَّ الإجماع ليس
مدركاً في الاستنباط لأنَّ مصادره قد حصرت في الكتاب والسنّة.
وهذا الاعتراض لا
ندخل هنا في صحّة كبراه في نفسه ، فانَّ ذلك قد تقدّم مفصلاً
في بحث حجية
الدليل العقلي وانَّما يمنع عن حجية الإجماع لو أُريد تخريجه على غير هذا المسلك
الّذي سلكناه ، فانَّه على أساس هذا المسلك يكون كاشفاً قطعيّاً على حدّ كاشفية
التواتر وليس حجة شرعية ولا دليلاً عقليّاً لينفى الأول ويناقش في دليليّة الثاني
في مجال الاستنباط وهذا واضح.
الرابع ـ نقاش
صغروي في كيفية تحصيل الإجماع بعد الالتفات إلى انَّ ما وصلتنا من الأقوال على
أحسن التقادير لا تعبر عن أكثر من فتاوى أصحاب الكتب أو من كان له منبر تحته أصحاب
الكتب ممّن نقل إِلينا فتاواهم ، وهذا المقدار لا يمكن أنْ يمثل إجماع علمائناً في
عصر واحد فضلاً عن أكثر من عصر ، ولهذا نجد انَّ من ينقل عنهم عادة الفتاوى
الفقهية في هذا المجال لا يتجاوزون الأصابع مع وضوح انَّ علماءنا أكثر من هذا
المقدار بكثير.
والجواب ـ أيضا
يظهر بالتأمل فيما سلكناه في تقرير حجية الإجماع فإنَّنا غير تابعين لعنوان
الإجماع إذ لم يقع ذلك موضوعاً لحجية أو أثر شرعي وانَّما المناط الكشف عن ارتكاز
أصحاب الأئمة : المعاصرين لهم والمعاشرين معهم وهذا يكفي فيه الجيل
الطليعي من علمائنا الأبرار الأقدمين الذين كانوا هم حملة علم أولئك وامتداد فقههم
في المحاور الرئيسية لوجودهم ، فضمّ غيرهم من علماء الشيعة ممن لم يكن بمستواهم
علماً أو مكانة وقرباً من محاور فقه أهل البيت أو اهتماماً بتلقيه وضبطه ونقله لا
يكون دخيلاً في ملاك الحجية الّذي شرحناه وهو الكشف عن الارتكاز بحساب الاحتمالات
الكاشف عن رأي المعصومين : ونظرهم ، ومن هنا لا نرى قدح مخالفة الإجماع من قبل بعض
القدماء من الأصحاب إذا كان سنخ مخالف بلحاظ ظرفه التاريخي أو وضعه العلمي أو
خصوصية في آرائه تكون مخالفته غير متعارفة وخارجة عن روح الفقه الإمامي وإطاره
العام.
ويمكننا أَنْ نلخص
على ضوء مجموع ما سبق أربع خصوصيات لا بدَّ من توفرها في كاشفية الإجماع عن الحكم
الشرعي وهي كما يلي :
١ ـ أَنْ يكون
مشتملاً على فتاوى الأقدمين من علمائنا ولا أثر لفتاوى المتأخرين عنهم ، لأنَّ
التطبيق الصحيح للإجماع على ما تقدّم انَّما كان على أساس كشف
الارتكاز عند
أصحاب الأئمة وهو لا يمكن كشفه إِلاّ من قبل إجماع القدماء من علمائنا المتصلين
بأولئك الأصحاب.
٢ ـ أَنْ لا يكون
قد استندوا في كلماتهم إلى مدرك شرعي موجود بل ان لا يحتمل ذلك احتمالاً معتداً به
وإِلاّ لزم تمحيص تلك الفتاوى بتمحيص ذلك المدرك. نعم قد يكون الإجماع حينئذ
معززاً لذلك المدرك على نحو تقدّمت الإشارة إِليه امَّا دلالة أو سنداً أو جهة.
٣ ـ أَنْ لا تكون
هناك قرائن على عدم وجود ارتكاز في طبقة أصحاب الأئمة : وإِلاّ كانت
معارضة مع كاشفية الإجماع ومانعة عن إنتاج قوانين حساب الاحتمال ، ومن أمثلة ذلك
ما ذكر في بحث طهارة الكتابي ونجاسته حيث استنتجنا من طرز أسئلة الأصحاب في مقام
السؤال عنهم : وافتراض انَّ الكتابي يشرب الخمر ويأكل الميتة ونحو ذلك عدم وجود ارتكاز
لديهم على النجاسة وإِلاّ لم يكن يحتاج إلى ذلك الافتراض.
٤ ـ أَنْ تكون
المسألة ممّا لا يترقب حلّها إِلاّ ببيان من الشارع مباشرة لا أَنْ تكون المسألة
عقلية أو عقلائية أو تطبيقية لقاعدة أولية واضحة مسلمة فانَّه في مثله لا يكون
الإجماع كاشفاً عن ارتكاز كذلك ، وهذا الشرط بالإمكان إرجاعه إلى الشرط الثاني تحت
جامع واحد.
ثمّ انَّ الإجماع
له معقد وهذا المعقد قد يكون له إطلاق وله قدر متيقن ولا بدَّ من ملاحظة أَنَّ
كاشفية الإجماع بحساب الاحتمالات بلحاظ القدر المتيقن أقوى من كاشفيته بلحاظ إطلاق
معقده ، لأنَّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطأهم في تشخيص حدوده
وامتداداته.
هذا تمام كلامنا
في الإجماع البسيط وحجيته ، ومنه قد اتّضح انَّه بناءً على طريقتنا في حجية
الإجماع يكون الإجماع دائماً دليلاً طوليّاً على الحكم الشرعي ، لأنَّه يكشف عن
الارتكاز المتشرعي الّذي هو عبارة أُخرى عن السيرة المتشرعية ولهذا كانت القرائن
النافية للسيرة نافية لحجية الإجماع أيضا.
الإجماع المركّب :
وامَّا الإجماع
المركّب فهو عبارة عن الاستناد إلى رأي مجموع العلماء المختلفين على قولين أو أكثر
في نفي قول آخر لم يقل به أحد منهم ، وهنا تارة يفرض انَّ كلاًّ من القولين قائله
ينفي القول الآخر بقطع النّظر عن قوله ، وأُخرى يفرض انَّه ينفيه بلحاظ قوله وفي
طوله لاستلزامه نفي غيره.
أمَّا الأول
فالإجماع يكون حجة في نفي ذلك القول الآخر على جميع المسالك المتقدمة في حجية
الإجماع لأنَّه ملاكاً كالإجماع البسيط.
وأمَّا على الثاني
فلا بدَّ من التفصيل فيه بين المسالك ، فانَّه بناءً على المسلك القائل بالحجية
على أساس قاعدة اللطف تثبت الحجية أيضا لأنَّه لو كان القول الثالث حجية لما كان
به قائل وهو خلاف اللطف المفروض فيستكشف عدم صحّته. وكذلك بناءً على القول
باستكشاف دخول الإمام 7 في المجمعين وامَّا بناءً على مسلكنا فلا يكون حجة إذ يعلم
بأنَّ القيم الاحتمالية الموجودة في مجموع الفتاوى لنفي الثالث قسم منها غير مصيب
للواقع جزماً للعلم بكذب ذلك نتيجة التخالف في الآراء وهذا لا يؤدّي إلى تقليل
القيم الاحتمالية للإجماع المركب عن الإجماع البسيط كمّاً فحسب بل وكيفاً أيضا
للتعارض وكون كلّ قيمة احتمالية لأحد القولين منفياً بالقيمة الاحتمالية للقول
الآخر المخالف وكذلك تكون القيمة الاحتمالية لنفي القول الثالث.
الإجماع المنقول :
والبحث في حجيته
يكون بعد الفراغ عن أصول موضوعية محولة إلى بحث حجية خبر الواحد من حجية خبر الثقة
، واختصاصها بالخبر الحسّي لا الحدسي ، والبناءِ على أصالة الحسية عند الشك في
الحدس والحسّ ونحو ذلك ، وحينئذ نقول تارة : يكون النقل للسبب بمعنى الفتاوى
المتفق عليها والتي تكون سبباً إثباتاً لاستكشاف قول المعصوم 7 وأخرى : يكون
النقل للمسبب مباشرة.
امَّا نقل السبب
فمقتضى القاعدة حجية النقل إذا توفرت فيه شرائط حجية الخبر
المفروغ عنها
لإثبات ما يدلّ عليه من السبب وبمقداره ، وفي هذا المجال يتبع مقدار ظهور النقل
بحسب لفظه والقرائن الحالية أو المقالية التي يكون لها دخل في اقتناص المعنى.
والوجه في حجية
هذا الاخبار انَّه اخبار عن الحسّ فانَّه لا استبعاد في ذلك خصوصاً إذا كان الناقل
للإجماع من المتقدمين الذين يترقب في شأنه أن تكون فتاوى المجمعين محسوسة لديه أو
قريبة من الحسّ وعند الشك واحتمال الحدسية تجري أصالة الحسّ كما قلنا فإذا كان ذلك
المقدار كافياً عندنا للملازمة واستكشاف رأي المعصوم كان حجة لا محالة في ثبوت
لازمه الثابت لزومه عندنا بالقطع واليقين ، ولا يقدح في الحجية كون الملازمة حدسية
وكون المدلول الحسّي ليس بنفسه حكماً شرعياً ولا موضوعاً له. فانَّ المقدار اللازم
أن يكون الاخبار حسيّاً وهو كذلك في المقام وامَّا لوازم الاخبار الحسّي فهي تثبت
في باب الأمارات ولو كانت برهانية نظرية ، كما انَّه لا يشترط في حجية الأمارة في
مدلولها الالتزامي ترتب أثر بلحاظ مدلولها المطابقي وانَّما اللازم عدم سقوطها
بالتعارض ونحوه بناءً على ما هو الصحيح من التبعية بين الدلالتين.
وان فرض ان
المقدار المنقول من السبب كان أقلّ من المقدار الكافي للملازمة والاستكشاف فائضاً
يكون النقل حجة فيما إذا أمكن تحصيل ما يكمل الملازمة ويتممها من أقوال للآخرين أو
قرائن أُخرى مباشرة.
وهذا كلّه صحيح
على مقتضى القاعدة ولكن قد يستشكل في ذلك بأحد إِشكالين :
١ ـ ما ذكره
المحقق الأصفهاني ( قده ) في موارد نقل جزء السبب حيث استشكل بأنَّه إِنْ أُريد
إثبات الحجية له بلحاظ مدلوله الالتزامي فالمفروض عدم الملازمة ليكون له مدلول
التزامي ، وإِنْ أُريد ذلك بلحاظ مدلوله المطابقي فليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً
له.
وهذا الإشكال واضح
الدفع فانَّه يكفي في دفعه أن يقال بان في المقام أيضا يوجد مدلول التزامي وهو
قضية شرطية انَّه إذا ما توفّر الجزء الآخر ـ المفروض توفره ـ كان ذلك مطابقاً مع
قول المعصوم 7 وحجية هذا المدلول الالتزامي الشرطي كافٍ لنا كما لا يخفى.
٢ ـ ما كنّا نورده
نحن في الدورة السابقة من انَّ استكشاف قول المعصوم من الإجماع لا يكون على أساس
الملازمة وانَّما الكاشفية بحساب الاحتمالات وتراكمها على محور واحد إلى أن يحصل
لدى الإنسان المحاسب اليقين ذاتاً ، وهذا يعني انه لا تلازم بين الإجماع أو
التواتر وبين رأي المعصوم لأنَّ التلازم لا يكون على أساس ملازمة موضوعية بل ذاتية
، بمعنى ان الإنسان عند ما يواجه بنفسه تلك الحسابات للاحتمال يبلغ ذلك عنده في
النهاية مرتبة بحيث ينطفئ ويزول ذاتياً احتمال الخلاف في النهاية ومثل هذا ليست
ملازمة عقلية.
وبعبارة أُخرى :
لا يصحّ أن نشكل قضية شرطية بأنه كلّما حصلت تلك القرائن أو الاخبار والحسابات
لكان كذا ، وانَّما الصحيح انَّه كلّما حصلت تلك الحسابات وواجهنا تلك الاخبار أو
الأقوال لحصل لنا العلم ، والملازمة لا بدَّ وان تكون بين المعلوم وبين الشيء كما
هو واضح.
وهذا الاعتراض
انَّما كنَّا نورده قبل أن تتوضّح لنا النظرة التفصيلية لمباني منطق الاستقرار
بشكل كامل وإِلاّ فقد أوضحنا في كتاب الأُسس المنطقية بأنَّ هناك حساب احتمال في
القضية الكلية للتواترات تثبت بنحو القضية الشرطية انَّه في عالمنا كلّما اجتمعت
عندنا إخبارات متعددة في قضية واحدة من أشخاص متغايرين بحسب الظروف والملابسات
والأغراض ونحو ذلك فاحتمال عدم تأثير نقاط الاختلاف وعدم التشارك وتأثير خصوص نقاط
التشارك القليلة جداً بالنسبة لنقاط الاختلاف والتي منها اتفاق مصلحتهم جميعاً على
الكذب في تلك القضية أمر منفي بحساب الاحتمالات في هذه القضية الكليّة بالذات وهي
إثبات نقاط الاشتراك فقط دون نقاط اختلاف ، وعليه فلا نحتاج في كاشفية كلّ إجماع
أو تواتر إلى إجراء حساب احتمالات فيه بالخصوص لنفي هذا الاحتمال بل هو منفي بنحو
القضية الشرطية الكلية ، والإجماع المنقول اخبار عن الملزوم في تلك القضية فيكون
دالاً على انتفاء اللازم وهو أن يكون اتفاقهم جميعاً لاتفاق مصلحتهم على ذلك
وامَّا احتمال كذب الناقل أو اشتباهه فينفى بوثاقته.
ومن كلّ ذلك ظهر
بأن الناقل لو عدل عن نقله السبب إلى نقل المسبب ابتداءً
لم يجد شيئاً لأن
اخباره عن المسبب وهو قول المعصوم 7 ليس حسيّاً ليشمله ابتداءً دليل حجية خبر الثقة وانَّما
الحسّي نقله للسبب فان كان كافياً للسببية عندنا أثر وإِلاّ فلا.
هذا كلّه على
مقتضى القاعدة العامة إِلاّ انَّه حيث ثبت عندنا وقوع تسامح نوعي واصطلاح عمومي من
قبل علمائنا الأقدمين في نقل الإجماع وادعائه أو اعتمادهم لمشارب غير صحيحة في
تشخيصه فلم يبق للفقيه ثقة كبيرة بمثل دعاوى الإجماع المنقولة في الكتب ما لم
تتضافر الدعاوي وتنضمّ إِليها القرائن والشواهد والمؤيدات على صحّتها.
حجيّة الشهرة
وفي ذيل البحث عن
الإجماع لا بأس بالتعرّض إلى حجية الشهرة بوصفها دليلاً لبّيّا استقرائيّاً أو
إجماعاً ناقصاً.
والشهرة تارة :
يتكلّم عنها في بحث المرجحات لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، وأُخرى : في
انجبار الخبر الضعيف بها. وكلا البحثين خارجان عن محل الكلام وانَّما البحث هنا عن
حجية الشهرة الفتوائية في نفسها.
والكلام عنها تارة
: على مقتضى القاعدة ، وأُخرى ، على ضوء بعض الروايات الخاصة.
امَّا على مقتضى
القاعدة فحجية الشهرة لا بدَّ وأن تكون كحجية الإجماع على أساس حساب الاحتمالات
وتراكمها حتى يحصل اليقين أو الاطمئنان بالحكم على أساسها ، إِلاّ انَّ جريان حساب
الاحتمالات فيها أضعف من جريانه في باب الإجماع لسببين ، قصور كميّة الأقوال
والفتاوى لأنَّ المفروض عدم اتفاق كلّ العلماء ، ومعارضتها بفتاوى غير المشهور لو
كانت مخالفة فتكون مزاحمة مع حساب الاحتمالات في فتاوى المشهور. ولهذا يكون الغالب
عدم إنتاج حساب الاحتمالات في باب الشهرة فلا تكون حجة غالباً.
وامَّا على ضوء
الروايات الخاصة فقد يستدلّ على حجيتها بعدة وجوه :
الوجه
الأول ـ التمسّك بمقبولة
عمر بن حنظلة حيث جاء فيها قوله 7 « ينظر إلى ما كان من روايتيهما عنّا في ذلك الّذي حكما به
المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند
أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه » .
والاستدلال بها
موقوف على تمامية مقدمتين :
أولاهما
ـ أن يراد بالإجماع الإجماع النسبي المساوق مع الشهرة إلحاقاً
للمخالف النادر بالعدم والقرينة التي قد تدعى على ذلك انَّه قد فرض في الرواية
وجود الشاذ النادر في قبال المشهور عند الأصحاب فيكون قرينة على أنَّ المراد
بالمجمع عليه في الذيل ( فان المجمع عليه لا ريب فيه ) هو المشهور أيضا.
الثانية
ـ انَّ الرواية وإِن
كانت في مورد الشهرة الفتوائية إِلاّ انَّ قوله ( فان المجمع عليه لا ريب فيه )
مسوق مساق التعليل وهو يقتضي التعميم وحمل الكلام على انَّ كلّ مشهور لا ريب فيه
فتثبت حجية الشهرة وكلتا المقدمتين باطلتان.
امَّا الأُولى ـ فلان
الشهرة في إطلاق الرواية يراد منها المعنى اللغوي المنطبق على الإجماع أيضا ، وما
قيل من القرينة غير صالح لذلك لأنَّ النّظر فيها إلى الشهرة الروائيّة لا
الفتوائية وفي باب الرواية يعقل الاتفاق والإجماع على نقل رواية مع وجود رواية
شاذة يتفرد بنقلها بعض أولئك لا كلهم وليست الرواية كالفتوى ليكون وجود النقل
الشاذ منافياً مع الاتفاق على نقل الرواية المشهورة ومعه لا موجب لحمل قوله 7 ( فان المجمع
عليه لا ريب فيه ) على الشهرة الاصطلاحية أصلاً.
وامَّا الثانية ـ فلأنَّ
نفي الريب يوجد فيه أربعة احتمالات :
١ ـ أن يراد نفي
الريب الحقيقي بمعنى الشك حقيقة ، ويكون المعنى ان الرواية المجمع عليها في النقل
لا شك في صدورها وصحّتها إطلاقاً ، وهذا هو ظاهر الكلام وهذا انَّما يكون مخصوصاً
بالشهرة الروائيّة بالمعنى الّذي ذكرناه ولا يتمّ في الشهرة الفتوائية لوضوح عدم
انتفاء الريب الوجداني فيها.
__________________
ودعوى ، انَّ
المقبولة انَّما رجحت بالشهرة بعد الصفات فلو أريد من الشهرة فيها الاستفاضة في
النقل والشهرة الروائيّة بمرتبة حصول اليقين لم يصحّ ذلك لأنَّ المعارض كان ساقطاً
حينئذ في نفسه وكان من تعارض الحجة مع اللاحجة.
مدفوعة : بان
الترجيح بالصفات ترجيح للحاكم لا للرواية على ما ذكرنا ذلك مفصلاً في شرح الرواية
في بحث التعارض.
٢ ـ أن يراد نفي
الريب العقلائي عن المشهور بمعنى انَّ اتباعه هو الطريقة العقلائية لا اتباع الشاذ
وبهذا تكون الرواية بصدد إمضاء حجية عقلائية للشهرة.
وهذا الاحتمال
مضافاً إلى انَّه خلاف الظاهر لما تقدّم من ظهور الريب في الشك الوجداني لا ما
يقابل الحجية العقلائية ، لا يفيد في إثبات حجية الشهرة الفتوائية كما هو المطلوب
، لأنَّ التعليل إذا كان مسوقاً لإمضاء قضية عقلائية فتنحصر بحدودها ومن الواضح
انَّ العقلاء لا يتبعون الشهرة الفتوائية في الأمور الاجتهادية الحدسية كما هو
واضح.
٣ ـ أن يراد نفي
الريب الشرعي بمعنى نفي الحجية الشرعية ، وحينئذ قد يقال بإمكان استفادة التعميم
من التقليل إذ يمكن للشارع أن يجعل الحجية ونفي الريب عن كلّ مشهور ـ وان كان هذا
أيضا قابلاً للخدشة لأنَّ اللام يحتمل أن يكون للعهد ولا نافي له إِلاّ ظهور
التعليل وهو انَّما ينفيه إذا كان التعليل بأمر عرفي ارتكازي لا تعبدي وغيبي.
وفيه ـ أولا ـ انَّه خلاف الظاهر من ناحية انَّه مبتنٍ على حمل الريب على
ما يقابل الحجية الشرعية والريب التعبدي أو جعل الجملة إنشائية لا خبرية وكلاهما
خلاف الظاهر.
وثانياً ـ انَّ
ظاهر التعليل انَّه تعليل بأمر تكويني ارتكازي لا غيبي تعبدي.
٤ ـ ان يراد نفي
الريب الإضافي ومن ناحية الشهرة فان المشهور كلّ ما فيه من احتمالات البطلان موجود
في غير المشهور ولكن في غير المشهور احتمال البطلان من ناحية قلة العدد والشذوذ
وهو غير موجود في المشهور فالمراد نفي هذا الريب الحيثي.
وفيه : أولا ـ انه خلاف الظاهر لما تقدّم من ظهوره في نفي الريب المطلق لا
الحيثي.
وثانياً ـ انَّه
لا يفي بالمقصود لأن مفادها حينئذ الترجيح بالمزية فلو استفيد التعميم
فغايته التعميم في
الترجيح بكلّ مزية في أحد الخبرين مفقودة في الآخر بعد الفراغ عن أصل الحجية لا
إثبات حجية تأسيسية بعنوان عدم الريب النسبي ، فيكون خبر الكاذب مثلاً حجة لأنَّه
لا ريب نسبي فيه بلحاظ خبر الكذاب وهذا واضح الفساد.
الوجه
الثاني ـ التمسّك بالمرفوعة
التي ورد فيها « خذ بما اشتهر بين أصحابك » وهنا حيث انَّه لم ترد هذه الفقرة في سياق التعليل فلا
يمكن استفادة العميم منها لكلّ شهرة حتى في الفتوى فلا بدَّ في مقام الاستدلال بها
من تعيين انَّ المراد بالمشهور فيها الشهرة في الفتوى لا الرواية. وقد استقر بنا
ذلك في بحوث التعارض على أساس قرائن من جملتها تقدّم الترجيح بالشهرة في المرفوعة
على الترجيح بصفات الراوي حيث يفرض السائل بعد هذه الفقرة انَّهما معاً مشهوران
وهذا لا يناسب مع كون المراد بالشهرة الشهرة الروائيّة لأنَّها توجب الوثوق بالصدور
عادة ومعه لا مجال للترجيح بالصفات التي هي مرجحات سندية فيتعيّن أن يكون المراد
الشهرة في الفتوى والعمل.
إِلاّ انَّ هذا
الوجه غير تام أيضا وذلك.
أولا
ـ ضعف سند المرفوعة
بل هي من أضعف الروايات.
ثانياً ـ ضعف
الدلالة حيث انَّها ظاهرة في الأخذ بالحديث المشتهر بين الأصحاب شهرة فتوائية فان
( ما ) الموصولة لا مرجع لها إِلاّ ذلك لأنَّه المذكور في كلام الراوي لا الفتوى :
ولو أغمضنا عن ذلك وافترضنا إرادة الفتوى المشهورة كالرواية فسياقها سياق الترجيح
في مقام التعارض لإحدى الحجتين على الآخر لا تأسيس حجية جديدة.
الوجه
الثالث ـ استفادة حجيتها من دليل حجية خبر الواحد بعد افتراض انَّه
يثبت حجيته من باب الطريقية لا الموضوعية وافتراض انَّ الشهرة قد تفيد الظنّ
والطريقية بنحو أكمل أو مساو لما يفيد الخبر خصوصاً إذا كان مع الواسطة.
وقد علّق السيد
الأستاذ على هذا الوجه بأنَّ ملاك حجية الخبر قد لا يكون مجرد افادته الظنّ
ليتعدّى منه إلى الشهرة بدعوى افادتها ذلك أيضا بل غلبة مطابقة الخبر للواقع وهذا
لا يحرز في الشهرة.
__________________
وهذا الكلام غير
صحيح إذ لو فرض انَّ الشهرة تفيد الظنّ وأنّه ظنّ نوعي عقلائي لا شخصي وانَّه
يساوي في درجة كشفه لدرجة كشف الخبر فلا محالة يكون درجة مطابقة مجموع الشهرات
للواقع بمقدارها في مجموع الاخبار ، وهذا مضافاً إلى انَّه وجداني واضح مبرهن عليه
في منطق الاستقراء وحساب الاحتمالات فالتفكيك بين درجة الكشف النوعيّ وغلبة
المطابقة للواقع غير فني. نعم يمكن دعوى انَّ الشارع بعلمه الغيبي ربَّما أحرز
صدفة انَّ مجموع اخبار الآحاد أكثر مطابقة للواقع من مجموع الشهرات.
وأيا ما كان
فالجواب عن هذا الوجه امَّا أن يكون على أساس ما ذكرنا من إحراز الشارع بعلمه الغيبي
أغلبية مطابقة الخبر للواقع من الشهرة وهذا انَّما يتجه إذا كانت حجية الخبر
تأسيسية شرعية لا إمضائية عقلائية. أو إنكار إفادة الشهرة الحدسية للظنّ بمقدار
خبر الثقة الحسي. أو انَّ التزاحم الحفظي الّذي هو ملاك جعل الحجية والحكم الظاهري
يكفي فيه في نظر الشارع أو العقلاء جعل الحجية بمقدار خبر الثقة وامَّا في غيره من
الدوائر فيرجع إلى القواعد والأصول الأخرى ، فالملاكات المتزاحمة يستوفى الأهم
منها بمقدار جعل الحجية للخبر بلا حاجة إلى جعلها للشهرة أيضا. وهذا هو حلّ هذه
المغالطة الكلية وهي دعوى استفادة حجية شيء من دليل حجية مماثله.
حجيّة الأخبار
الخبر ينقسم إلى
خبر علمي مفيد لليقين الحقيقي أو العرفي والاطمئنان ، وخبر غير علمي ، والأول أوضح
مصاديقه الخبر المتواتر. والثاني هو خبر الواحد في اصطلاحهم والكلام في حجيته اتجه
عندهم نحو القسم الثاني إذ الأول بعد ان كان قطعياً لم يبق معنى للبحث عن حجيته
فان القطع حجة بذاته. ولكن مع ذلك نرى من المناسب التكلم في الخبر المتواتر لتشخيص
كيفية إيجابه للعلم وتحصيل الميزان الفني له ولو في الجملة لكي يؤدي إلى اتخاذ
الاختيارات المناسبة في فروع بحث التواتر الّذي انساقت كلماتهم إليه عرضاً من
التواتر الإجمالي والمعنوي ، فان تلك الاختيارات سوف تكون أكثر سداداً وصواباً
حيثما نبحث أولا حقيقة التواتر وكيفية افادته لليقين.
الخبر المتواتر :
وقد عرّف الخبر
المتواتر أو القضية المتواترة بأنها اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو
يمتنع تواطؤهم على الكذب نتيجة كثرتهم العددية ، وهذا التعريف بتحديده وتمحيصه
يرجع إلى انَّ القضية المتواترة دليليتها تنحلّ إلى صغرى وكبرى.
أمَّا الصغرى ،
فهي اجتماع عدد كبير على الاخبار بقضية معينة. وامَّا الكبرى
فحكم العقل الأولي
بامتناع تواطؤ أولئك على الكذب. وبضمّ إحداهما إلى الأُخرى يستنتج على طريقة
القياس حقانيّة القضية المتواترة وصدقها. والقضية الأُولى ـ الصغرى ـ خارجية ،
والثانية عقلية أوليّة وليست مستمدة من الخارج والتجربة ومن هنا جعل المنطق
الأرسطي القضية المتواترة إِحدى القضايا الست الأولية في كتاب البرهان لأنَّ
كبراها عقلية أولية وإِلاّ فنفس القضية المتواترة بحسب التحليل قضية مستنتجة
بالاستدلال القياسي الاستنباطي بحسب المصطلح الحديث وهو ما تكون النتيجة دائماً
مستنبطة في المقدمات وليست أكبر منها في قبال الاستدلال الاستقرائي الّذي تكون
النتيجة المتحصلة فيه أكبر من المقدمات. وسنخ هذا ذكره المنطق الأرسطي أيضا في
القضايا التجريبية والتي جعلها أيضا إِحدى القضايا الست لأنَّ الكبرى القائلة (
انَّ الصدفة لا تكون دائمية ) مضمرة فيها.
ونحن في منطق
الاستقراء لم نصادق على شيء من هذه الكلمات فلا توجد هناك كبريات عقلية أولية في
باب التواتر والتجربة تقضي بامتناع التواطؤ على الكذب أو امتناع غلبة الصدفة
كقضايا أوليّة قبلية وانَّما هذه الكبريات بأنفسها قضايا تثبت بالاستقرار
والمشاهدات أي انَّها قضايا غير أولية بحيث لو قطعنا النّظر عن العلم الخارجي
ومقدار تكرر الصدفة أو التواطؤ على الكذب فيها لكنّا نحتمل عقلاً تكرر الصدفة
دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير وانَّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة
لعالم الخارج وليس حكم عقولنا في مثل هذه القضايا كحكمه باستحالة اجتماع النقيضين.
إِذن فهذه قضايا تجريبية بنفسها غاية الأمر أكبر من القضايا التجريبية الخاصة في
كلّ مورد مورد ، فتكون محكومة للقوانين المنطقية التي تحكم على التجربة والاستقراء
وهي قوانين حساب الاحتمال والتوالد الموضوعي أولا ثم قوانين المنطق الذاتي
والتوالد غير الموضوعي ثانياً. وسوف يتّضح ان روح القضية التجريبية والمتواترة وملاكها
واحد.
وقد برهنا في كتاب
الأُسس المنطقية على عدم كون هذه القضايا قبلية أولية ببراهين عديدة نقتصر هنا على
واحد منها هو : انَّنا نجد انَّ مفردات كلّ قضية متواترة أو تجريبية كان احتمال
الصواب والمطابقة فيها أكبر كان حصول اليقين بالنتيجة فيها
أسرع وأشد ، ففرق
مثلاً بين شهادة ألف ثقة بوقوع شيء وشهادة ألف مجهول وجداناً وهذا معناه انَّ
اليقين الحاصل من القضايا المذكورة يتأثر بالقيم الاحتمالية لكل مفرد من مفرداتها
لا بقاعدة عقلية قبلية موضوعها كم معين.
ثمّ انَّ القضية
التجريبية المستدلّ عليها بالاستقرار تنقسم إلى أحد شكلين رئيسين :
١ ـ إثبات علّيّة
الموجود.
٢ ـ إثبات وجود
صغرى العلّة بعد الفراغ عن عليتها.
امَّا الشكل الأول
ـ ومثاله ما ذا أردنا إثبات علية حبة الآسبرين مثلاً لرفع الصداع فعند ما نقوم
بتجارب عديدة نعطي في كلّ مرة منها للمريض حبة الأسبرين فنجد انه قد شوفي من
الصداع لا بدَّ وأن نعرف ان احتمال علية الآسبرين للشفاء في كلّ مرة قيمتها
الاحتمالية مساوية مع القيمة الاحتمالية للعلية في مجموع المرات خلافاً لقانون
الضرب لأنَّ هذه الاحتمالات وإِن كانت عديدة إِلاّ انَّها متلازمة فيما بينها
ثبوتاً وعدماً ، إذ لو كانت طبيعة الآسبرين علة للشفاء من الصداع فسوف تكون العلية
سارية وثابتة في تمام المرات فلا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال كلّ واحد
منها. وإِن شئت قلت : انَّنا بإزاء قضية واحدة بعد أن كانت القضايا الانحلالية
متلازمة وحينئذ لنفرض ان الاحتمال القبلي الأولي لعلية حبة الآسبرين في المرة
الأولى هو النصف ـ وتحديد الاحتمالات القبلية له حسابات وقواعد شرحناها في كتاب
الأُسس لا مجال للدخول فيها هنا ـ واحتمال علية غيره بأن يكون هناك أمر آخر كالنوم
مثلاً أو شرب اللبن وجد صدفة فرفع الصداع أيضا نفترضه النصف الآخر من رقم اليقين
الّذي ينقسم بالتساوي على المحتملات ، إِلاّ انَّ احتمال علية الآسبرين في المرة
الأولى والثانية احتمالان متلازمان وامَّا احتمال علية غيره في كلّ من المرتين
فليسا بمتلازمين لعدم وجود أمر مشترك معلوم غير حبة الآسبرين فيطبق عليه في مقام
تقدير قيمته الاحتمالية ـ أي أن تكون العلة في كلّ مرة غير الآسبرين ـ قانون الضرب
الّذي يؤدي إلى تضعيف الاحتمال وكلّما ضعف هذا الاحتمال قوى الاحتمال المقابل له
وهو علّية الآسبرين. ونكتة هذا التوازن والتقابل بين الاحتمالين قد كشفنا سرّه
المنطقي
في كتاب الأُسس
المنطقية حيث بيّنّا ان منشأ الاحتمال بحسب الحقيقة هو العلم الإجمالي ذو الأطراف
المحصورة عقلاً ففي المثال المتقدّم الأمر بالنسبة إلى وجود ذات علة أُخرى غير
الآسبرين يدور الأمر بين أحد احتمالات أربعة لا خامس لها عقلاً وهي كما يلي :
امَّا أن تكون العلة الأُخرى موجودة في التجربتين ، أو في الأُولى دون الثانية ،
أو بالعكس ، أو غير موجودة فيهما معاً ، وهذا حصر عقلي دائر بين النفي والإثبات
فيكون قيمة كل احتمال منها مساوياً للربع ـ حيث انَّ رقم اليقين والعلم ينقسم على
أطرافه بالتساوي ـ وهذه الاحتمالات باستثناء الأول منها تكون بصالح علية الآسبرين
كما هو واضح ، وامَّا الأول فهو احتمال حيادي إذ كما انَّ ذات ما سميناه بالعلة
الأُخرى موجودة في الحالتين كذلك الآسبرين موجود فيهما بناءً على هذا الاحتمال ،
فكما يحتمل أن تكون العلة الأمر الآخر كذلك يحتمل أن تكون العلة هي الآسبرين وهذا
يعني انَّ نصف الربع وهو الثمن فقط بصالح العلة الأُخرى و ٧ ـ ٨ بصالح علية
الآسبرين هذا في التجربيتين فإذا كررنا التجربة ثلاث مرات صعد الحساب إلى ١٥ ـ ١٦
وهكذا إلى أن يتضاءل احتمال وجود علة أُخرى غير الآسبرين فيقطع بعلية الآسبرين حسب
قواعد المنطق الذاتي لحصول اليقين بعد مرحلة التوالد الموضوعي على أساس حساب
الاحتمالات.
ونفس الطريقة
نستخدمها في الشكل الثاني أي إثبات وجود العلة وذلك فيما إذا كانت أصل علية شيء
معلومة وانَّما يشك في وجود العلة خارجاً ، كما إذا رأينا مثلاً انَّ مجموعة كتب
بحث الوضوء موضوعة أمام أُستاذ فاحتملنا انَّ ذلك لوجود بحث له في الوضوء الّذي لا
إِشكال في كونه علة لجمع ما يرتبط بالوضوء من الكتب الفقهية واحتملنا أيضا أن يكون
كلّ كتاب منها قد وجد هناك صدفة لعامل آخر من دون وجود بحث له في الوضوء ، بأن
يكون أحدها قد وجد للتجليد والآخر لاستعارة صديق والثالث لأخذ ورقة منه وهكذا ،
إِلاّ انَّ الاحتمالات المذكورة غير متلازمة بخلاف احتمال وضع كلّ كتاب بنكتة بحث
في الوضوء للأُستاذ المذكور فبنفس الطريقة من الحساب ننتهي إلى إثبات وجود تلك
العلة ونفي وجود العلل الأخرى من باب الصدفة. وقد ذكرنا في كتاب الأُسس انَّ جميع
الاستدلالات التجريبيّة ترجع إلى أحد هذين
الشكلين ، كما
أثبتنا انَّ الشكل الثاني منه ينطبق على إثبات العلة الأولى للكون وهو الصانع
سبحانه وتعالى بنفس الملاك المنطقي المنطبق في العلوم التجريبية الطبيعية بحيث
يكون أساس العلم والإيمان بالله من الناحية المنطقية واحداً.
وقد أورد المفكّر
الأوربي ( راسل ) على هذا الاستدلال باعتراضات ليس هنا مجال ذكرها وانَّما نقتصر
على واحد من أهمّها وهو دعوى : انَّ هذا الدليل الاستقرائي انَّما يتمّ في العلوم
الطبيعية التجريبية لوقوع التكرار فيها وامَّا في عالم الطبيعة فنحن لم نعاصر
عوالم متعددة متكررة كعالمنا ونجد لكل منها خالقاً لكي نستنتج ذلك في حقّ عالمنا
أيضا.
وهذا الاعتراض
واضح الجواب على ضوء تحديد جوهر منطق الاستقراء فان التكرار بما هو تكرار لا أثر
له وانَّما الميزان وملاك الكشف هو العلم الإجمالي وانقسامه على أطرافه بالنحو
المتقدّم شرحه ، وهذا كما ينطبق في القضايا التكرارية كذلك في غير التكرارية إذا
كانت الفرضيات الأخرى غير فرضية وجود الصانع الحكيم فرضيات كثيرة تكون قيمتها
الاحتمالية ضئيلة إلى حدّ لا نهائي بالنحو الّذي أشرنا إليه في مثال كتب بحث
الوضوء.
هذا كلّه في القضية
التجريبية.
وامَّا المتواترة
فهي بحسب الحقيقة ترجع إلى الشكل الثاني من الشكلين المتقدمين حيث انَّ فرضية صدق
القضية ووقوع الحادثة المخبر عنها بالتواتر بنفسها علة مشتركة للاخبار بحسب طبع
الإنسان ، فافتراض وقوعها يشكل وجود العلة لتفسير كلّ تلك الإخبارات وهذا بخلاف ما
إذا افترضنا عدمها وان كلّ اخبار من تلك الإخبارات كان على أساس مصلحة معينة
لصاحبه فان حساب الاحتمالات يضعف احتمال تلك الافتراضات لعدم كونها احتمالات
متلازمة حتى تتضاءل درجتها جداً بتكثر الاخبار وتواترها ، وامَّا وصولها إلى
اليقين فبمقتضى ما تفضل به الله سبحانه على الإنسان من الضابط الذاتي لانطفاء
القيم الاحتمالية والكسرية الضعيفة جداً ولو لا ذلك لما كان يمكنه أن يقطع بشيء
إطلاقاً ، على ما شرحنا ذلك في الأسس المنطقية للمرحلة الذاتيّة من الاستقراء.
والكثرة العدديّة
هي جوهر التواتر ولكنه ليس بالإمكان تحديدها في رقم معين كما حاوله بعض الفقهاء
فحددها بتحديدات مضحكة ، وصفها الشهيد الثاني ( قده ) بسخف القول من قبيل التحديد
بأنها ٣١٣ بعدد شهداء بدر أو ١٢ بعدد نقباء بني إسرائيل أو سبعين بعدد أصحاب موسى
الذين ذهبوا لميقات ربّهم أو انَّه أكثر من أربعة لئلا تكون البيّنة في بعض
الأبواب الفقهية التي يشترط فيها أربعة شهود تواتراً ونحو ذلك. وقد أفاد الشهيد
بأنَّ الميزان إفادة العلم وهذا أيضا كما ترى من تفسير الشيء بنفسه كتفسير الماء
بالماء. وقد عرفت انَّ أساس افادته للعلم هو حساب الاحتمالات لا كم عددي معين وكان
اتجاه التحديد هذا من وحي منطق أرسطو القائل بأنَّ الاستدلال الاستقرائي قائم على
أساس قضية عقلية أولية قبلية هي وجود عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب ممّا أوجب البحث
عن تحديد ذلك العدد.
ولكن مع ذلك يمكن
تحديد عوامل عديدة مؤثرة في إفادة التواتر لليقين وهي على قسمين :
١ ـ عوامل موضوعية
مربوطة بالشهادات.
٢ ـ عوامل ذاتية
مربوطة بنفسية السامع.
امَّا الموضوعية
فأهمّها ما يلي :
١ ـ درجة الوثاقة
والتصديق لمفردات التواتر فكلّما كانت شهادة كلّ مخبر ذات قيمة احتمالية أكبر كان
حصول التواتر أسرع وبعدد أقلّ لما عرفت من أنَّ أساس حصول اليقين حساب الاحتمالات
فإذا كانت الاحتمالات أكبر كان تجميعها وبلوغها لليقين أسرع والعكس بالعكس ، وهذه
الزيادة في القيمة الاحتمالية والكاشفية للوثاقة أيضا محكومة لقوانين حساب
الاحتمالات وبملاكها ولكن حساب الاحتمالات في مثل هذا المجال لا بدَّ وأن يثبت قضية
استقبالية أيضا هي انَّ كلّ خبر ثقة تكون قيمتها الاحتمالية وكاشفيتها عن الواقع
أكثر وهذا ما برهنا عليه وشرحناه مفصلاً في كتاب الأُسس المنطقية.
٢ ـ الاحتمال
القبلي للقضية المتواترة ، فكلّما كانت قيمة هذا الاحتمال القبلي أكبر كان حصول
التواتر أسرع والعكس بالعكس أيضا ، فمثلاً إذا أخبروا بوجود
دجاجة ذات أربع
قوائم الّذي احتماله القبلي ضعيف جداً كان حصول التواتر أبطأ وهذا أيضا على أساس
نفس نكتة حساب الاحتمالات وليعلم بان الاحتمال القبلي قد يكون ضعيفاً على أساس
حساب استقرائي في علل تلك القضية وأسباب وجودها في نفسها كما في المثال المتقدم ،
وقد يكون ضعيفاً على أساس كثرة البدائل المحتملة لتلك القضية لا لحساب الاحتمالات
في الأسباب والعلل ، كما فيما إذا طرق بابك طارق مردد بين آلاف من الناس لأنَّهم
جميعاً يحتمل في حقهم ذلك فان احتمال أن يكون الطارق زيداً احتمال من مجموعة آلاف
احتمالات إذ له بدائل متعددة بعدد الآلاف.
وضعف الاحتمال
القبلي انَّما يؤثر في بطء حصول التواتر فيما إذا كان من القسم الأول لا الثاني
وهذا أمر وجداني واضح وامَّا نكتته وبرهانه فموكول إلى كتاب الأسس المنطقية أيضا.
٣ ـ تباين الشهود
في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية فانَّه كلّما كانوا متباينين فيها أكثر
كان حصول التواتر أسرع لأنَّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك
للكذب أبعد وأضعف. وقد أدرك القدماء هذا الشرط أيضا بفطرتهم فاشترط بعضهم أن يكون
الشهود من بلدان عديدة أو من ملل وأديان مختلفة ونحو ذلك وجوهر النكتة ما أشرنا من
انَّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً.
٤ ـ كيفية تلقي
القضية من قبل كلّ شاهد شاهد إذ كلّما كانت القضية المتلقاة لهم أقرب إلى الحسّ
وأبعد عن النّظر كان حصوله أسرع والعكس بالعكس أيضا فالتواتر في نزول المطر يحصل
بعدد أقل من التواتر في عدالة زيد مثلاً والسبب ما تقدّم أيضا من انَّ القضية
الحسيّة يكون احتمال الخطأ والاشتباه فيها أقلّ فالتجميع في حساب الاحتمالات يكون
من احتمالات أكبر قيمة.
وامَّا العوامل
الذاتيّة فأهمّها ما يلي :
١ ـ حالة الوسوسة
والبطء الذاتي للذهن فانَّ الناس يختلفون في سرعة حصول اليقين لهم وبطئه اختلافاً
ذاتياً حتى مع وحدة الدليل الموضوعي فكلّما كانت الحالة الذهنية الذاتيّة للإنسان
أبطأ كان حصول التواتر بالنسبة إليه أبطأ والعكس بالعكس
أيضا.
٢ ـ وجود الشبهة
أي أن يكون الإنسان معتقداً بالخلاف بحيث أصبح له ألفة وعادة ذهنية بالخلاف
فانَّها قد تشكّل مانعاً ذاتياً تقف أمام سرعة حصول اليقين بالتواتر.
٣ ـ العاطفة
فانَّها أحياناً تحكم على الإنسان وعقله فيما إذا كانت القضية المتواترة على خلاف
عاطفته وطبعه فتكون حجاباً بينه وبين حصول اليقين فيبطأ حصوله.
ثمّ انَّه إذا لم
نعاصر مفردات التواتر وانَّما نقل ذلك إلينا بالواسطة فهل يكفي أن ينقل عن كلّ
واحد من المخبرين واحد أولا. ذكروا انَّه لا بدَّ من أن ننقل كل شهادة واخبار من
مفردات التواتر بالتواتر حتى يثبت فلا يكفي نقل واحد عن واحد ، لأنَّ كلّ اخبار
حادثة مستقلة عن اخبار الآخر فلا بدَّ من إحراز كلّ خبر بالتواتر حتى يثبت
التواتر. فمثلاً إذا نقل الصحابة حديث الغدير عن النبي 6 بالتواتر فهذا لا
يثبت لنا إِلاّ أن ينقل كلام كلّ صحابي لنا بالتواتر فلا يكفي أن ينقل عن كلّ
صحابي تلميذه التابعي مثلاً وان كانوا بعدد التواتر الّذي يمتنع تواطؤهم على الكذب
لإمكان كذب نصف هؤلاء وكذب النصف من الصحابة من دون لزوم نقض قانون الامتناع
المذكور.
وعلى هذا يصبح
التواتر حالة شبه مثالية خيالية لا يتّفق له مصداق في باب الأحاديث والاخبار مع
الواسطة.
إِلاّ انَّ الصحيح
بناءً على مسلكنا في كاشفية التواتر عدم الحاجة إلى ذلك بل قد يكفي نقل واحد عن
واحد وذلك لأنَّ ميزان الكاشفية المذكورة هو حساب الاحتمالات وتجميع القيم
الاحتمالية لكلّ اخبار اخبار على مركز واحد بالنحو المتقدّم شرحه غايته سوف تكون
القيمة الاحتمالية لكلّ اخبار مباشر بمعنى درجة كاشفيته عن صدور الحديث عن المعصوم
أقلّ من الاخبار المباشر بلا واسطة لأنَّها تحسب بضرب قيمة احتمال صدق المخبر
الأول في قيمة احتمال صدق المخبر الثاني.
ولهذا يكون حصول
اليقين بحاجة إلى مقدار أكثر من المفردات في الاخبار مع الواسطة.
وإِن شئت قلت :
انَّ صدق القضية المتواترة ولو بالواسطة نكتة مشتركة لصدق المخبرين
حتى مع الواسطة
بحيث يكون احتمال صدقهم جميعاً احتمالات متلازمة ولو بدرجة أقلّ.
أقسام التواتر :
قسموا التواتر إلى
الإجمالي والمعنوي واللفظي ، وسوف يتضح الحال من التشقيق الآتي فنقول : قد اتّضح
مما سبق انَّ جوهر التواتر الكثرة العددية وهذه الكثرة تتصور على أنحاء :
١ ـ ان نأخذ
عشوائياً كثرة من الاخبار كالأحاديث المروية في الكتب الأربعة بلا اشتراك فيما
بينها في مضمون أصلاً. وهنا رغم عدم وجود مدلول مشترك فيما بينها لكونها في مواضيع
مختلفة لا إشكال ان احتمال صدق واحد منها احتمال كبير جداً واحتمال كذبها جميعاً
صدفة احتمال ضعيف جداً بنفس ملاك حساب الاحتمالات بان يفترض ان اختيارنا العشوائي
صدفة وقع على جملة من الاخبار كلّها كاذبة فان هذا بحساب الاحتمالات تكون قيمته
الاحتمالية ضعيفة جداً ، إِلاّ انَّ هذا الضعف لا ينعدم ولا يبلغ درجة اليقين
بالعدم وإِن كان مقتضى مرحلة التوالد الذاتي لمنطق الاستقراء ذلك لما ذكرناه في
منطقنا من انَّه كلّما كان الاحتمال الضعيف ناشئاً من طرفية المحتمل للعلم
الإجمالي المردد معلومه بين بدائل محتملة كثيرة جداً ـ وسمينا ذلك بالمضعف الكمّي
لأنَّه لا ينظر إِلاّ إلى العدد والكم ـ. فما دام ذلك العلم الإجمالي موجوداً
يستحيل انطفاء احتمال طرفية ما اختير عشوائياً لذلك العلم الإجمالي ، والأمر في
المقام كذلك لأنَّنا نعلم إجمالاً بوجود مائة خبر كاذب في مجموع أحاديث الكتب
الأربعة مثلاً ومعه احتمال أن يكون المائة التي أخذناها هي الكاذبة أحد أطراف
علمائنا الإجمالي المذكور ، فانَّ كلّ مائة مائة ـ وهي بالملايين بحساب التوافيق ـ
يحتمل أن تكون هي الكاذبة وما دام العلم الإجمالي قائماً يستحيل زوال هذا الاحتمال
في أي طرف فان زواله فيه مساوق مع زواله في الأطراف الأُخرى وهو مساوق مع زوال
العلم نفسه وهو خلف ، كما انَّ المضعف الكمّي الآخر الموجود هنا وهو احتمال كذب
كلّ أولئك المخبرين البعيد بحساب الاحتمال في نفس إخباراتهم هذا المضعف أيضا موجود
في
كلّ مائة مائة
بأخذها من الاخبار فهو مضعف كمّي موجود في تمام الأطراف فيستحيل أن يوجب زوال
الاحتمال لأنَّه ترجيح بلا مرجح بلحاظ هذا الطرف بالخصوص وبلحاظ جميع الأطراف خلف
العلم الإجمالي.
ولهذا لا يزول هذا
الاحتمال إِلاّ إذا وجد مضعف له مخصوص به وليس هو إِلاّ ما اصطلحنا عليه بالمضعّف
الكيفي المخصوص بخصوص هذا الطرف ، وذلك انَّما يكون فيما إذا كان هناك مصبّ مشترك
مثلاً ولو ضمناً لجميع الاخبار ، فان المضعف حينئذ هو انَّه كيف اتفقت مائة مصلحة
للمختلفين على سنخ كذب واحد معيّن مع انَّ عوامل التباين فيهم أكثر من الاشتراك.
وهذا بالتحليل يرجع إلى علم إجمالي آخر بحسب حساب عوامل التباين والاتفاق في حياة
هؤلاء وبمقتضاه يكون احتمال كذبهم جميعاً لمصلحة مشتركة أضعف بكثير من احتمال كذب
أية مائة أُخرى من الاخبار ليس بينها قدر مشترك وهذا أساس عام لحصول اليقين في
تمام موارد حساب الاحتمالات التي ترجع بحسب تحليلنا إلى علوم إجمالية منقسمة على
أطرافها فمثلاً في مثال قرص الآسبرين يعلم إجمالاً بعليته أو علّية غيره في رفع
الصداع وهو علم إجمالي بين النقضين إِلاّ أن أحد طرفيه وهو علية غيره له مضعف كيفي
خاص به هو ملاحظة العلم الإجمالي في التجارب العديدة وما يقتضيه من الحساب لقيمة
احتمال علية غير قرص الآسبرين.
وبهذا يظهر الوجه
الفني في عدم اعتبار مثل هذه المجموعة من الاخبار بالتواتر لأنَّها لا تؤدّي إلى
حصول اليقين ولو إجمالاً وبذلك يندفع شبهة منجزية مثل هذه الكثرة العددية فيما إذا
كان مجموع الاخبار المائة إلزامية مثلاً في موضوعات مختلفة فانَّها لا يشكل علم
إجمالي بجامع الإلزام ليكون حجة ، وامَّا حصول الاطمئنان فهو وإِن كان صحيحاً
إِلاّ انَّ حجية مثل هذا الاطمئنان الناشئ من مجرد المضعف الكمّي الّذي لا يبلغ
اليقين عهدة دعواها على مدّعيها.
وقد اتّضح من
مجموع ما تقدّم انَّ التواتر لا يكفي فيه مجرد المضعف الكمّي بل لا بدَّ أيضا من
المضعف الكيفي على ما يظهر من شرح الحالات القادمة ، كما انَّه لا بدَّ وأن يعلم
بأنَّ المضعف الكيفي قيمته الاحتمالية أكبر بكثير من المضعف الكمّي ، بمعنى انَّه
بإضافة عدد واحد على المخبرين المضعف الكمّي يتضاعف إلى مستوى ضعف ما كان
عليه سابقاً حيث
انَّ كلّ الصور السابقة تضرب في تقديرين إِلاّ انَّ المضعف الكيفي يتضاعف إلى
مستوى أكثر من الضعف بكثير لأنَّ هذا من إجراء حساب الاحتمالات والعلم الإجمالي في
عوامل الاتفاق والتباين الموجودة بين هذا المخبر والسابقين وهي كثيرة أي أكثر من
عاملين كما هو واضح.
وبهذا يظهر اندفاع
إشكال قد يورد على ما تقدّم منّا في كيفية حصول اليقين على مسلكنا من التواتر مع
الواسطة من انَّه إذا كان قيمة احتمال الخبر مع الواسطة أقل من قيمة احتمال الخبر
بلا واسطة ـ كما هو كذلك ـ فسوف نحتاج إلى كمّ أكبر من الاخبار مع الواسطة لعله
يكون مثالياً فمثلاً إذا افترضنا انَّ الخبر بلا واسطة كان احتمال الصدق فيه النصف
فسوف يكون قيمة احتمال الخبر مع الواسطة الواحدة الربع مثلاً وإذا كان يحتاج إلى
أربع اخبار بلا واسطة لحصول التواتر كنا بحاجة إلى أكثر من ستة عشر خبر مع الواسطة
لتحصيل ذلك الرقم من اليقين بحساب الاحتمالات فيرجع الأمر مثالياً.
والجواب ـ اتّضح
ما تتقدّم فان قيمة احتمال صدق المخبرين مع الواسطة في الحساب النهائيّ ليس دائماً
نصف قيمة اخبار المخبرين بلا واسطة أو أقلّ بل أكثر لوجود المضعف الكيفي في
اخبارهم وهو انَّه كيف اقتضت مصالحهم أن يكذبوا في خصوص هذا الاخبار مع تباين
ظروفهم فان المنظور في الاخبار لكلّ منهم الحديث المروي لا خصوصية ان الصحابي أو
الراوي كان فلاناً أو فلاناً عادة.
٢ ـ أن يكون هناك
مصب مشترك منظور إليه في جميع تلك الاخبار ، وهذا تارة : يكون مدلولاً تحليلياً ،
وأخرى ، مطابقياً. والأول نقصد به ما يشمل المدلول التضمني أو الالتزامي العرفي
وهذا ما يسمّى بالتواتر المعنوي وفي هذه الحالة يكون المضعف الكيفي موجوداً بلحاظ
ذلك المصب المشترك إذ كيف يفترض اجتماع مصالحهم على الكذب فيه مع انَّ عوامل
التباين أكثر بكثير من عوامل الاشتراك وهذا المضعف يوجب حصول اليقين وزوال
الاحتمال الضعيف المضعف كميّاً نهائياً كما عرفت. وكلّما كان المصب المشترك أضيق
وذا تفاصيل أكثر كان الحساب أوضح وأسرع. وهكذا يحصل القطع بالمصبّ المشترك وفي
طوله يرتفع قيمة احتمال المدلول المطابقي لكلّ
اخبار منها أيضا
لأن توقع كلّ منها واحتماله سوف يكون من احتمال قضية مضمونها المعنوي ثابت فيكون
موقعها أشدّ وأقوى.
ونقصد بالثاني ما
إذا كان المصبّ واحداً بلحاظ المدلول المطابقي للاخبار كاملاً وهنا يكون المصبّ
المشترك أضيق دائرة ممّا سبق في الأول فيكون المضعف الكيفي أقوى لأنَّ احتمال
تأثير عوامل الاشتراك في المصبّ الأضيق أي في خصوص شخص قضية معينة بتفاصيلها دون
عوامل التباين الكثيرة أبعد جداً ، ولهذا كلّما تكون التفاصيل في الواقعة المنقولة
أكثر كان المضعف الكيفي أقوى وأسرع تأثيراً في إيجاد اليقين. والتواتر اللفظي أحد
مصاديق ضيق المصب المشترك وتفاصيله إذ اتّفاق عوامل المصلحة المشتركة أو اختلال
الحدس والخطأ في نقل قصة بهذه الألفاظ بخصوصها أبعد جداً. وبهذا عرف وجه أقوائية
التواتر اللفظي عن المعنوي أيضا.
خبر الواحد :
ويراد به مطلق ما
لا يفيد العلم من الاخبار سواءً كان واحداً حقيقة أو أكثر.
والحديث عنه تارة
: في أصل حجيته في الجملة ، وأُخرى : في حدودها وشروطها.
والبحث الأول يقع
في مقامين :
١ ـ في الأدلة
التي يستدل بها على عدم الحجية.
٢ ـ في ما يستدل
به على الحجية.
ما يستدلّ به على عدم الحجية :
امَّا المقام
الأول ـ فقد استدلّ على عدم الحجية بالكتاب والسنة والإجماع.
امَّا الكتاب ،
فبآيات النهي عن العمل بالظنّ وأهمّها اثنان آية ( وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) . و ( إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فان إطلاق عدم العلم والظنّ
__________________
شامل للخبر أيضا.
والتحقيق : انَّ
هاتين الآيتين لا دلالة لهما على عدم الحجية في مطلق الظنّ فضلاً عن الخبر.
امَّا الآية
الأُولى ، فلأنَّ النهي قد تعلّق فيه بالاقتفاء بغير العلم لا مجرد العمل على طبقه
والاقتفاء عبارة عن الاتباع والذهاب خلف الشيء وجعله سنداً ودليلاً بحيث يكون هو
الداعي والمحرك للإنسان ، وهذا المطلب صحيح في باب الظنّ وعقلائي أيضا ولكنه لا
ينافي حجيته فان الاقتفاء حينئذ في مورد الظنّ يكون للعلم بالحجية ووجوب متابعته
شرعاً لا لنفس الظنّ وإِن كان العمل على طبق الظن .
وامَّا الآية
الأُخرى فقد تبين حالها ممّا قلناه في الأُولى فانَّها واردة في سياق التنديد
بالكفار الذين يعولون على الظنون والتخمينات فاستنكرته الآية وهذا السياق أي سياق
تعليل استنكار طريقة الكفار بنفسه قرينة على انَّ المقصود هو الإشارة إلى سنخ قاعدة
عقلية أو عقلائية مفروغ عن صحّتها لا قاعدة شرعية تأسيسية وإِلاّ لم يكن مناسباً
مع مقام الاختصام والاحتجاج وما يمكن أن يكون سنخ قاعدة مفروغ عن صحّتها انَّما هو
عدم إمكان التعويل على الظنّ بما هو ظنّ لا عدم جعل الحجية للظنّ شرعاً أو
عقلائيّاً وعليه فيكون دليل الحجية وارداً على الآيتين.
أضف إلى ذلك :
انَّ قوله تعالى ان الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئاً مدلوله المطابقي انَّما هو
بيان صغرى انَّ الظن لا يغني في التوصل إلى لبّ الحق والواقع لأنَّه يخطئ ، وهذه
صغرى واضحة في نفسها فإذا ضمّ إِليها كبرى ان المطلوب هو التوصل إلى لبّ الحقّ
__________________
والواقع انتج
المطلوب إِلاّ انَّ هذه الكبرى انَّما تكون واضحة في باب أصول الدين الّذي يكون
المطلوب فيه الوصول إلى لبّ الحقيقة فلا تكون الكبرى المقدرة أكثر من هذا المقدار
ومعه لا يتمّ في الآية إطلاق لغير أصول الدين.
ثمَّ انَّ مدرسة
المحقق النائيني ( قده ) علقت على هذا الاستدلال بان دليل حجية خبر الواحد يكون
حاكماً على الآيتين بجعل الظنّ علماً. وقد أشرنا سابقاً إلى عدم تمامية هذا الجواب
لأنَّ الآية الكريمة ليس مفادها النهي التكليفي بل الإرشاد إلى عدم الحجية وحينئذ
إذا فرض عدم تمامية دلالتها في نفسها على نفي الحجية فلا حاجة إلى الحكومة وان فرض
كونها إرشاداً إلى عدم الحجية فكما ان دليل الحجية يكون مثبتاً للعلمية والطريقية
كذلك هذا الدليل ينفي العلمية والطريقية وكلاهما في موضوع واحد وهو الظنّ وعدم
العلم فلا وجه لافتراض حكومة أحدهما على الآخر.
وامَّا صاحب
الكفاية فقد اعترض على الاستدلال بأمرين :
١ ـ انَّ القدر
المتيقّن من إطلاقها الظنّ في أصول الدين لا الفروع.
وفيه : ان أُريد
ان المتيقّن منها ولو بلحاظ خارج مقام التخاطب الظنّ في أصول الدين فصحيح إِلاّ
انَّه لا يضرّ بالإطلاق على ما تقدّم ، وإِن أُريد نفي إطلاقها للظنّ في الفروع في
نفسها فلا موجب له خصوصاً في الآية الأُولى التي جاءت في سياق مستقل عن أصول
الدين.
٢ ـ ان دليل حجية
خبر الواحد يكون مخصصاً لإطلاق الآية لأن الخبر قسم من أقسام الظنّ. وهذا الوجه في
الجملة وإِن كان صحيحاً إِلاّ انَّه لا بدَّ من ملاحظة أدلة الحجية فانَّها ليست
جميعاً أخصّ مطلقاً من الآية وإِن كان منها ما يكون أخصّ فمثلاً لو كان المدرك
السيرة المتشرعية أو العقلائية فهي توجب القطع بالحجية ومعه امَّا لا إطلاق في
الآية أو لا حجية له ، ولو كان المدرك آية النفر أو الكتمان أو النبأ بناءً على
انَّ مفهومها ان لم يجئ الفاسق بنبإ سواءً جاء العادل أم لا فلا يجب التبين فهذه
الآيات انَّما تدلّ على الحجية بإطلاقها لصورة مجيء خبر الواحد غير الموجب للعلم
فتفترق عن آيات النهي فيما إذا كان الخبر علمياً أو لم يكن خبر أصلاً ـ كما في آية
النبأ بناءً على ما ذكر ـ فتكون المعارضة بالعموم من وجه. اللهم إِلاّ أن يقال
بالناسخية لتأخر
آيات الحجية ولو
بعضها عن آيات النهي لأن الأخيرة واردة في السورة المكيّة بينما آية النفر واردة في
سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي 6 قبل ثلاثة أشهر من وفاته كما في الرواية الصحيحة وكذلك آية
النبأ واردة في سورة مدنية.
وامَّا السنة ،
فقد استدلّ بعدة روايات. وليعلم بان السنة المستدل بها تارة : تكون قطعية ، وأخرى
: من خبر الواحد. فان فرض قطعيتها فالاستدلال بها في المقام لا محذور ثبوتي فيه ،
وامَّا إذا كان خبر الواحد فتارة : نفترض القطع بأنه بحسب الملاك لا فرق ولا
احتمال لخصوصية في حجية شخص ذلك الخبر من بين الاخبار الآحاد ، وأخرى : يفرض
احتمال ذلك. فعلى الأول لا يعقل الاستدلال به في المقام لأنَّ حجيته مساوقة للعلم
بكذبه لافتراض الملازمة القطعية بين حجيته وحجية سائر الاخبار ، وجعل الحجية لخبر
يلزم من وصول حجيته القطع بكذبه غير معقول على ما تقدّم فيما سبق شرحه مفصلاً ،
وعلى الثاني لا يلزم من إحراز حجيته القطع بكذبه بل يثبت به عدم حجية غيره من الاخبار
، وحينئذ إطلاق مدلوله وإِن كان شاملاً لنفسه إذ لا محذور فيه حتى عرفاً لأنَّ
المدلول كلام المعصوم 7 فيعقل إطلاقه لشمول شخص هذا النقل ولا يكون من شمول الدليل
لنفسه ولكن هذا الإطلاق بالخصوص لا يعقل حجيته لمحذور عقلي. وبعبارة أُخرى : لا
يعقل حجية هذا الإطلاق لأنه فرع حجية سنده فإذا كانت حجيته متوقّفة على حجية السند
استحال أن يكون نافياً لها. وروح المطلب ترجع إلى ان دليل حجية السند يعبدنا بترتب
آثار حجية الظهور بمقدار سائر الإطلاقات فيه لا إطلاقه لنفس هذا السند.
لا يقال ـ يعلم في
المقام إجمالاً امَّا بكذب هذه الاخبار أو عدم حجيته لأنَّ المخبر يخبر عن واقعة
واحدة ولا يخبر عن كلّ إطلاق إطلاق وانَّما الإطلاقات مدلول تلك الواقعة الواحدة
وهي حديث المعصوم 7 وحينئذ إذا كان الحديث المذكور صادراً واقعاً فبمقتضى حجية
إطلاقه يثبت عدم حجية شخص هذا النقل لا محالة وهذا يعني انَّه يعلم إجمالاً امَّا
بكذبه أو بعدم حجيته ، أي لا يمكن أن يكون حجة إِلاّ إذا كان كذباً.
وإِن شئت قلت :
يلزم من حجيته كونه كاذباً فدليل حجيته يدلّ بالالتزام على انَّه كاذب وجعل مثل
هذه الحجية غير معقول.
فانه يقال :
المفروض احتمال الفرق بين شخص هذا الاخبار وغيره ثبوتاً وهذا يعني انَّنا نحتمل
اتصال قرينة بالحديث المنقول دلّت على استثناء شخص هذا الاخبار ولا نافي لهذا
الاحتمال إلاّ شهادة الراوي السكوتية عن ذكر هذا التقييد وهذا يعني انَّ العلم
بالكذب أو عدم الحجية انَّما يكون بلحاظ الشهادة السلبية للراوي وسكوته عن ذكر
القيد المذكور فهي التي لا يعقل أن تكون حجة دون الشهادة الإثباتية التي نقل بها
أصل الحديث.
وهكذا في هذه
الصورة يمكن التمسك بدليل الحجية ولو مثل السيرة العقلائية لإثبات حجية شخص هذا
الخبر وبه نثبت عدم حجية غيره تخصيصاً لدليل الحجية أو ردعاً عن السيرة بلحاظها ،
وهذا هو معنى انَّ تطبيق السيرة على هذا الخبر يكون حاكماً على تطبيقه على سائر
الاخبار لأنَّ التطبيق فرع عدم الردع ولا ردع عنها جزماً وهو ردع عن غيره إذا كان
بحسب مضمونه صالحاً لذلك ولا عكس لأنَّ بقية الاخبار لا تسلب الحجية عن هذا الخبر.
هذا منهج
الاستدلال بالسنة النافية للحجية. وامَّا نفس الروايات فتقسم إلى طائفتين :
الأولى : ما دلَّ
على النهي عن العمل بخبر لا يعلم صدوره منهم : كما في الحديث المروي في بصائر الدرجات ( ما علم انَّه
قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا ).
الثانية
ـ ما دلَّ على النهي
عن العمل بخبر لا يوافق الكتاب الكريم أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه والتي نسميها
باخبار الطرح أو العرض على الكتاب.
امَّا الطائفة
الأولى فيرد على الاستدلال بها :
أولا
ـ انَّها لا يعقل
جعل الحجية لها لكي تصلح لأن يستدل بها على عدم الحجية لأنَّها خبر واحد يقطع بعدم
تميزه عن بقية الاخبار وعدم استثنائه منها في الحجية.
وثانياً
ـ لو تنزلنا عن ذلك واحتملنا الامتياز فلا دليل على جعل
الحجية له لأنَّها ضعيفة السند.
__________________
وثالثاً
ـ لو تمّ سندها مع ذلك لا يمكن إثبات حجيتها لمعارضتها بما
دلَّ على الحجية من الاخبار بل هي معارضة مع الدليل القطعي على الحجية على ما سوف
يأتي من قطعية أدلة الحجية.
وامَّا
الطائفة الثانية ـ فالبحث عنها طويل الذيل
قد فصلناه في بحث تعارض الأدلة فليراجع.
وامَّا الإجماع ـ فقد
استدلّ بنقل السيد المرتضى ( قده ) إجماع الطائفة على عدم العمل باخبار الآحاد ـ على
ما جاء في أجوبته على مسائل الموصليات ـ بل ادعي انَّ هذا واضح بمرتبة بحيث يعد من
ضروريات المذهب كحرمة العمل بالقياس عندهم.
وهذا وإِن كان
إجماعاً منقولاً ولكنه واجد لشرائط الحجية لأنَّ المقدار المنقول كاشف عن قول
المعصوم 7 قطعاً لأنَّه ينقل ضرورة المذهب ومثلها لا إشكال في كاشفيته عن رأي المعصوم
ولأن النقل عن حسّ لا حدس لأنَّه يدعي استقرار الإجماع بمستوى الضرورة كما في حرمة
القياس ومثل هذا التطابق الضروري يكون من الأُمور الحسيّة بلا كلام.
وفيه : أولا ـ انَّنا نقطع بعدم مطابقة ظاهر هذا الكلام المنقول للواقع
لما سوف يأتي في بحث الاستدلال على الحجية بسيرة المتشرعة ان العمل كان مستقراً
على التعبد باخبار الثقات والعمل بها.
وثانياً
ـ انَّه خبر واحد بنفسه لا يعقل جعل الحجية له لعدم احتمال
المزية فيه هذا لو أُريد التعامل معه كخبر واحد.
وثالثاً
ـ انَّه معارض بما ينقله الشيخ الطوسي ( قده ) من الإجماع على
الحجية بل وكلّ ما يدلّ على الحجية من أخبار الآحاد والأدلة القطعية.
ورابعاً
ـ ان المظنون ان مقصود السيد ( قده ) لم يكن ما هو ظاهر
الكلام بل لا يعقل ذلك مع فرض دعوى الشيخ استقرار إجماع الطائفة على التعبد بالعمل
باخبار الثقات من الإمامية مع انَّه كان معاصراً من حيث الزمان معه ومن حوزته بل
كان زميله عند الشيخ المفيد وتلميذه من بعده فكيف يعقل وقوع التهافت في النقل بهذه
المرتبة بينهما بعد الفراغ عن صدقهما وأمانتهما ، وبما انَّ كلام الشيخ ( قده ) لا
يحتمل فيه التقية
بخلاف السيد حيث
نقل ذلك في أجوبة المسائل الموصلية فيحتمل قوياً أن يكون نظره إلى أبناء العامة
وحينئذ امَّا أن يكون مقصوده من الاخبار الآحاد اخبارهم التي لا يحرز فيها وثاقة
الرّواة ، أو كان بقصد نفي الكبرى ابتداءً تحاشياً عن جرح مشاعرهم في جرح رواتهم.
وقد نقل الشيخ ( قده ) في العدة النقل المذكور بعنوان ان المسموع من أشياخ الطائفة
ان الطائفة لا تعمل باخبار الآحاد ثم فسّره وبيّن انَّ المراد منه مثل هذه
المحامل. وهذا تفسير ممن هو من أهل البيت لأنَّه تلميذ السيد ( قده ) فيكون قرينة
شبه قطعية على مرام السيد من هذه المقالة.
أدلة الحجية :
وامَّا المقام
الثاني ـ ففي استعراض أدلة الحجية وقد استدلّ عليها بالأدلة الأربعة.
أمَّا الكتاب الكريم فبآيات :
الاستدلال بآية النبأ :
منها : آية النبأ
وهي قوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) .
والاستدلال بها
يكون بتقريبين تارة بلحاظ مفهوم الوصف ، وأخرى بلحاظ مفهوم الشرط.
امَّا التقريب
الأول فيمكن أن يبين بوجوه عديدة :
الوجه
الأول ـ الملاك العام في
مفهوم الوصف بناءً على قبوله في محله ، وبهذا تكون المسألة مبنائية. وقد ذكرنا
هناك انَّ الوصف وإِن كان يدلّ على الانتفاء عن الانتفاء بمقتضى قانون احترازية
القيود المقتضي لكون الوصف قيداً حقيقة والمقيد عدم عند عدم قيده إِلاّ ان المنتفي
حينئذ شخص الحكم لا نوعه ، ومنه يعرف ضعف ما هو ظاهر تعابير فوائد الأصول من انَّ
الجملة الوصفية تدلّ على ثبوت الحكم لواجد الوصف
__________________
وساكتة عن فاقده.
الوجه
الثاني ـ انَّ الآية تنيط
وجوب التبين بعنوان خبر الفاسق وهذا يدلّ بقانون احترازية القيود على انتفاء شخص
الحكم بانتفاء الوصف وهو مساوق في المقام مع انتفاء سنخ الحكم بوجوب التبين عن خبر
العادل وهو مساوق مع حجية إذ لو كان هناك جعل آخر فان كان بعنوان الخبر مطلقاً لزم
منه لغوية جعل وجوب التبين على خبر الفاسق بخصوصه وإِن كان بعنوان خبر العادل بما
هو عادل فهو غير محتمل لأنَّ العدالة لا تؤثر في وجوب التبين إِن لم تكن مؤثرة في
عدمه.
وهذا الوجه لعله
أفضل تعميق للاستدلال بمفهوم الوصف في الآية. ولكنه غير تام أيضا . لأنه يمكن
افتراض وجوب التبين في غير خبر الفاسق أيضا ولو في الجملة ولكن لا بعنوان خبر
العادل أو مطلق الخبر بل بعنوان آخر بينه وبين خبر الفاسق عموم من وجه كعنوان
الخبر الّذي يظنّ بخلافه أو لا يظنّ بصدقة أو لا تقوم أمارة ولو غير معتبرة في
قباله ونحو ذلك من الخصوصيات التي يعقل أن تكون دخيلة في عدم الحجية ولو من باب
الموضوعية ونوعية الحكم المخبر به وتكون النسبة بينها وبين خبر الفاسق العموم من
وجه ، ومعه كيف يمكن إحراز انتفاء سنخ الحكم؟ هذا مضافاً : إلى انَّ الأمر بالتبين
إرشاد إلى عدم الحجية فهو حكم عدمي من باب عدم اقتضاء الحجية فلا ينافي أن يكون
خبر العادل أيضا بما هو خبر العادل لا يقتضي الحجية وليس هذا معناه انَّ العدالة
أثرت في إيجاب التبين كما هو واضح.
الوجه
الثالث ـ ما يظهر من كلام الشيخ ( قده ) من انَّ علة وجوب التبين
امَّا أن تكون وصف الفسق في المخبر أو أصل الخبرية ، والأول وصف عرفي والثاني وصف
ذاتي بالنسبة إليه فإذا كانت العلة هو الوصف العرفي فمعناه انَّ الخبر لو لا وصف
الفسق في المخبر لم يكن يجب التبين فيه وهو المطلوب ، وإذا كانت العلة هو الخبرية
فهذا خلاف ظاهر الآية لأنَّه امَّا أن يكون الوصف العرفي علة أيضا أو لا فان لم
يكن فهذا
__________________
خلف إناطة الحكم
بالفسق كما هو ظاهر الآية وإِن كان علة أيضا فحيث انَّ الوصف الذاتي أسبق من
العرفي فالمعلول يستند إلى أسبق علله فكان المناسب إناطته به لا بالفسق وهو خلاف
ظاهر الآية.
وفيه : أولا ـ انَّه قاصر عن إثبات المطلوب لو لم يضم إليه ما أبرزناه في البيان
السابق إذ لنا أن نختار علية الوصف العرفي ولكنه مع ذلك هناك علة أُخرى عرفية ولو
في بعض أقسام خبر العادل.
وثانياً ـ ان
قاعدة ان المعلول يستند إلى أسبق علله يراد بها الأسبقية الزمانية لا الرتبية ولا
أسبقية كذلك في المقام.
الوجه الرابع ـ ما
جاء في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) في تفسير كلام الشيخ ( قده ) وكأنه بيان
عرفي له وحاصله : انَّ الأمر يدور بين علية الوصف العرضي وعلية الوصف الذاتي فعلى
الأول يثبت المطلوب وعلى الثاني بأن يكون الوصف الذاتي علة مستقلاً أو مع العرفي
فلا يناسب عرفاً إناطة الحكم بالوصف العرفي مع كفاية الذاتي. وهذا الوجه وإِن كان
لا يخلو من وجاهة بلحاظ المناسبات العرفية إِلاّ انَّه توجد مناسبة في قبال هذه
المناسبة العرفية في ذكر الوصف العرفي في المقام وهو التنبيه على فسق المخبر
مثلاً. علماً بأنَّه يرد على هذا الوجه ما أوردناه أولا على الوجه السابق.
الوجه
الخامس ـ ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) على الكفاية من
أن الأمر لا يخلو من أن يكون مجموع الوصفين علة أو أن يكون كلّ منهما علة أو أن
يكون الوصف الذاتي علّة دون العرفي أو بالعكس. فان كانت العلة منحصرة في العرفي
فقط فقد ثبت المطلوب وإِن كان المجموع علة فكذلك لانتفاء العلة بانتفاء أحد أجزاء
علته وإِن كانت منحصرة في الذاتي فهو خلاف ظهور الآية في دخل العرفي وإِن كان
كلاهما علة فهو خلاف الظاهر أيضا لأنَّ معناه لغوية ذكر الوصف العرفي.
وكأنَّه ( قده )
شعر بنقصان هذا الجواب لاحتمال أن يكون العرفي علة وهناك علة أُخرى عرضية غيره في
خبر العادل فحاول تعديل الوجه بإضافة ان هذا غير معقول لأنَّه ان كان كلّ منهما
علة بعنوانه الخاصّ لزم صدور الواحد من الكثير وهو محال وإذا كان الجامع بينهما
علة كان خلاف ظاهر الآية في علية الفسق بعنوانه.
وهذا التحليل لو
تمّ لكان بياناً على كبرى مفهوم الوصف في تمام الموارد وقد تعرضنا له في بحث مفهوم
الوصف مع جوابه.
الوجه
السادس ـ وهو أيضا يمكن أن يجعل تفسيراً لما ذكره الشيخ ( قده ) من
انَّه لو كان الخبر في نفسه لا يقتضي الحجية فعدم الحجية مستند إلى عدم المقتضي
لها لا إلى فسق المخبر الّذي هو بمثابة المانع وحيث انَّ الآية إناطته بالفسق أي
بوجود المانع فيفهم من ذلك تمامية المقتضي في الخبر للحجية.
ويرد عليه : أولا ـ نقصه كما تقدّم فيما سبق لاحتمال وجود مانع آخر.
وثانياً ـ انَّ
المانع عن الحجية هو احتمال الخلاف والمقتضي لها الكاشفية وكلّما اشتدّ احتمال
الخلاف اشتدّ المانع وقوى فإذا افترضنا انَّ الخبر في نفسه ليس بحجة لوجود المانع
معه دائماً وهو احتمال الخلاف غاية الأمر انَّ الفسق يقوي احتمال الخلاف ولهذا
أُنيط به فلا محذور حينئذ ، أي لا يلزم إناطة عدم المعلول أو الأثر إلى المانع مع
عدم المقتضي بل إلى المانع الأقوى دون الأضعف وهو أمر صحيح عقلاً ومناسب عرفاً.
هذه وجوه تقريب
الاستدلال بالآية على أساس مفهوم الوصف وقد عرفت بطلانها جميعاً.
وامَّا التقريب
الثاني ـ وهو الاستدلال بلحاظ مفهوم الشرط في الآية الكريمة فالبيان الابتدائي له
انَّ الشرط يدلّ على انتفاء الحكم عن الموضوع بانتفاء الشرط. وفي المقام الموضوع
هو النبأ والحكم وجوب التبين عنه والشرط مجيء الفاسق به ، فتدلّ الجملة الشرطية
على انتفاء وجوب التبين عن النبأ لو لم يكن الجائي به فاسقاً أي كان عادلاً وهو
المطلوب.
ثمَّ انَّ هذا التقريب
والتقريب السابق لو تمّا فيدلان على انتفاء وجوب التبين عند مجيء العادل بالنبإ
وهل هذا يكفي في الحجية أو بحاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية أُخرى هي عدم أسوئية خبر
العادل عن الفاسق إذ لا يحتمل عدم وجوب التبين بمعنى طرحه رأساً وإهماله ـ كما قيل؟
ناقش الشيخ ( قده
) في ضرورة ضمّ هذه المقدمة الخارجية وادعي إمكان
استفادة الحجية من
مفهومها مباشرة.
والتحقيق حول هذه
النقطة يرتبط بفهم معنى وجوب التبين وحقيقته فان هناك عدة وجوه في تفسيره.
١ ـ ان يدعى انَّ
وجوب التبين وجوب نفسي لا غيري وحقيقي لا طريقي كوجوب ردّ التحية مثلاً فكأنَّ
هناك تكليفاً من الشارع بالتجسّس على الفاسق وفضح اخباره الكاذبة ، وبناءً على هذا
سوف نحتاج إلى مقدمة خارجية لإثبات حجية خبر العادل إذ المفهوم لا يدلّ حينئذ على
أكثر من انتفاء هذا الوجوب النفسيّ وهو غير الحجية.
إِلاّ انَّ هذا
الاحتمال غير تام في نفسه ولو تمّ لما أمكن إثبات الحجية بناءً عليه حتى بضمّ
المقدمة الخارجية. امَّا عدم التمامية فلأنَّ هذا التفسير لوجوب التبين خلاف ظهور
التعليل في ذيل الآية في الطريقية والحرص على الواقع ، وأيضا خلاف معنى مادة
التبين المأمور به الظاهر عرفاً في الطريقية والوصول إلى الواقع.
وأمَّا عدم تمامية
الاستدلال فلأنَّ انتفاء هذا الوجوب النفسيّ الحقيقي عن خبر العادل من دون الحجية
لا يستلزم أسوئيته بل أحسنيته من الفاسق الّذي يكلّف الناسي بفضحه كما هو واضح.
٢ ـ ما اختاره
الشيخ ( قده ) من انَّ هذا الوجوب شرطي والمشروط جواز العمل بخبر الفاسق وحينئذ
يدلّ بالمفهوم على انتفاء هذا الوجوب الشرطي وامَّا هل يجوز العمل مطلقاً أو لا
يجوز مطلقاً فلا يكون المفهوم ناظراً إلى ذلك فلا بدَّ من ضمّ مقدمة الأسوئية على
تقدير عدم جواز العمل مطلقاً إِلاّ انَّه في هذه الحالة توجد مقدمة أخرى أيضا تبطل هذا
الاحتمال وهو انَّه لو فرض عدم جواز العمل به مطلقاً حتى مع التبين فهذا مناف مع
حجية القطع وهو غير معقول. وإِن شئت قلت : انَّ دليل الشرطية لا يثبت إِلاّ نفس
الشرطية منطوقاً وينفيها مفهوماً وامَّا إطلاق المشروط فيثبت بدليل المشروط وليس
لدليل الشرطية نظر إليه ، ولهذا لا يستفاد من الآية مباشرة إطلاق جواز
__________________
العمل بالخبر إذا
لم يجئ به الفاسق بل يبقى الأمر مردداً بين ذلك وبين أن لا يجوز العمل به مطلقاً
فينفي هذا الاحتمال بإحدى المقدمتين.
٣ ـ ان يكون وجوب
التبين طريقياً بمعنى انَّه مرتبة من الحجية لخبر الفاسق لأنه في الشبهة الموضوعية
إذ لم يأت الفاسق بخبر فالمولى يحكم بالبراءة ولا يجب الفحص ولكن إذا جاء الفاسق
بخبر فالمولى يرفع اليد عن البراءة ويوجب الفحص وهذه مرتبة من وجوب الاحتياط
والحجية لخبر الفاسق والمفهوم حينئذ عدم ثبوت هذه المرتبة في الحجية في خبر العادل
وهذا فيه احتمالان أيضا بحيث لا بدَّ من ضمّ مقدمة عدم الأسوئية لإثبات انَّ خبر
العادل حجة على الإطلاق.
وهذا الاحتمال
خلاف الظاهر لأنه لو كان النّظر إلى ذلك لناسب أن يعلل ذلك باحتمال إصابة الفاسق
للواقع مع انَّ التعليل جاء بإبراز احتمال كذب الفاسق وإصابة القوم بجهالة.
٤ ـ أن يكون الأمر
بالتبين إرشاداً إلى عدم الحجية شرعاً وهذا لسان من السنة عدم الحجية بحسب الحقيقة
فيكون المفهوم ثبوت الحجية في خبر العادل بلا حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية وهذا هو
الظاهر في تفسير وجوب التبين.
٥ ـ ما ذكره
المحقق العراقي ( قده ) بناءً على أن يراد بالتبين ما يعمّ تحصيل الظنّ من أنَّ
وجوب التبين حينئذ يكون غيريّاً ومقدمة لوجوب العمل بخبر الفاسق ، وحينئذ غاية ما
تدلّ عليه الآية انتفاء هذا الوجوب الغيري في خبر العادل وامَّا الوجوب النفسيّ
بالعمل به فيحتمل ثبوته ويحتمل عدم ثبوته إِلاّ انَّ التقدير الثاني يلزم منه
أسوئية خبر العادل عن الفاسق فينفي وبهذا أثبت الحاجة إلى مقدمة الأسوئية .
وفيه ـ انَّ
الوجوب الغيري للتبين إِن كان على أساس مقدمية التبين للعمل عقلاً
__________________
فواضح البطلان ،
وإِن كان على أساس المقدمية شرعاً فان أُريد بالتبين تبين الحال فهو لا يعقل أن
يكون قيداً للعمل بخبر الفاسق إذ قد يتبين خلافه وإِن أُريد تحصيل الوثوق أو الظنّ
بصدق الفاسق فهذا القيد إِن رجع قيداً لوجوب العمل بخبر الفاسق فيكون من مقدمات
الوجوب لا الوجود فلا يترشح عليه الوجوب الغيري وإِن كان قيداً للواجب فمن الواضح
انَّه لا يجب تحصيل الظنّ في العمل بخبر الفاسق بل ليس هذا غرض الشارع وانَّما
غرضه عدم الإصابة بجهالة وخطأ.
٦ ـ ما ذكره
العراقي ( قده ) أيضا بناءً على أن يراد بالتبين تحصيل العلم من انَّ الأمر
المذكور يمكن أن يكون إرشاداً إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم ما لم تقم حجة على
الخلاف ـ وهذا بخلاف ما لو أُريد بالتبين ما يعمّ الظنّ فان العقل لا يحكم بلزوم
تحصيله ـ وحينئذ أيضا نحتاج في إثبات حجية خبر العادل إلى ضمّ مقدمة عدم الأسوئية
ولكن ببيان انّ عدم وجوب التبين عن خبر العادل امَّا أن يكون من جهة القطع بكذبه
فيكون أسوأ حالاً وامَّا أن يكون لحجيته وهو المطلوب.
وفيه : أولا ـ انَّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل العلم بالواقع وتبينه بل بلزوم تحصيل
العلم بالامتثال ولو بالاحتياط فما وقع مصباً للأمر ليس بعنوانه موضوعاً لحكم
العقل ليحمل الدليل على الإرشاد إليه .
وثانياً ـ انَّ
الآية قد علقت وأناطت وجوب التبين على الفسق مع انَّ الحكم العقلي المذكور ليس
معلقاً عليه بل على مطلق الشك وعدم العلم. اللهم إِلاّ أن ترجع الإناطة المذكورة
إلى الإرشاد إلى عدم حجية خبر الفاسق بلسان انَّه يجب تحصيل العلم حتى إذا جاءكم
الفاسق بالخبر المشكوك.
وثالثاً ـ انَّ
حكم العقل ليس وجوباً ولا حكماً بل إدراك لعدم المؤمن إِلاّ بالقطع أو القطعي ومن
الواضح انَّ هذا المعنى محفوظ حتى لو فرض انَّ خبر العادل كان معلوم الكذب فانَّه
يصدق انَّه لا مؤمن إِلاّ القطع بالواقع فوجود القطع لا ينفي اللابديّة العقلية
__________________
إذ ليس هذا
تكليفاً ليقال بأنه تحصيل للحاصل مثلاً بل وضع وقضية واقعية شرطية ، وحينئذ
فالمفهوم لا يلائم مع الاحتمال الثاني فلا نحتاج إلى ضمّ مقدمة الأسوئية وانَّما
يدلّ بنفسه على انَّه إذا جاء العادل بالخبر فليس انَّه لا مؤمن إِلاّ القطع وهو
معنى الحجية .
الاعتراضات على الاستدلال بآية
النبأ :
وقد اعترض على
الاستدلال المذكور بوجوه يرجع بعضها إلى إنكار أصل الظهور الاقتضائي للآية على
المفهوم ، وبعضها إلى دعوى وجود مانع عنه بعد افتراض وجوده بنحو القرينة المتصلة
الرافعة لفعليته ، وبعضها إلى دعوى عدم حجيته بعد افتراض فعلية ظهوره في المفهوم
لوجود مانع منفصل.
امَّا الأول فبأن
يقال انَّ الشرطية في المقام مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم للجملة ذاتاً.
وليعلم بأنَّ
الشرط يمكن أن يصنف إلى ثلاثة أنحاء :
الأول
ـ أن يكون الشرط
عبارة عن سنخ تحقق الموضوع ونحو وجوده بحيث لا يتصور للموضوع وجود إِلاّ بالشرط
كقولك ( إذا رزقت ولداً فاختنه ) فان الفرق بين الشرط أو الموضوع للحكم في المثال
كالفرق بين الإيجاد والوجود.
الثاني
ـ أن يكون الشرط أجنبيّاً عن وجود الموضوع وانَّما هو أمر
طارئ كقولك ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ).
الثالث
ـ أن يكون الشرط نحواً من وجود الموضوع ولكنه غير منحصر به بل
يمكن أن
__________________
يوجد الموضوع بنحو
آخر كما هو في الآية الكريمة لو جاءت بعنوان ( النبأ إذا جاءكم به الفاسق فتبيّنوا
) فان مجيء الفاسق يراد به إنباؤه وإيجاد النبأ إِلاّ انَّه لا ينحصر وجوده به إذ
يعقل وجوده بإنباء العادل أيضا فالشرط في هذا القسم حصة خاصة من الإيجاد فكأنه قال
النبأ إذا أوجده الفاسق فتبيّنوا.
ولا إشكال في عدم
المفهوم في النحو الأول كما لا إشكال في ثبوته في النحو الثاني.
ويمكن أن يقرب وجه
عدم المفهوم في الأول بأحد تقريبين :
الأول
ـ انَّ المفهوم نفي
حكم الجزاء على تقدير انتفاء الشرط وحينئذ إذا أُريد نفي مفاد الجزاء وهو وجوب ختن
الابن عند انتفاء الشرط وهو وجوده فهذا انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع
المحفوظ حتى في الجملة غير الشرطية فلا يكون لتركيب الشرطية دخل في تحصيله ، وإِن
أُريد نفي وجوب ختن الأخ مثلاً بانتفاء وجود الولد فهذا سنخ مفاد آخر غير حكم
الجزاء ، والمفهوم لا يدلّ إِلاّ على انتفاء مفاد الجزاء.
الثاني
ـ انَّ المفهوم انَّما يثبت بملاك إرجاع الشرط قيداً للحكم
والنسبة الحكمية في الجزاء وبهذا تتميز الجملة الشرطية عن الوصفية التي يكون الوصف
فيها من قيود الموضوع قبل طرو الحكم عليه فإذا كان الشرط نفس الموضوع ذاتاً فليس
هناك تقييد زائد بين الحكم والشرط غير تقيده بموضوعه الثابت في كلّ جملة حكمية فلا
مفهوم.
وكلا التقريبين لا
يجريان في القسم الثالث لأنَّ الموضوع ذاتاً محفوظ حتى مع انتفاء الشرط إذ الشرط
حصة خاصة من إيجاد ذلك الموضوع فلا يكون انتفاؤه مساوقاً مع انتفاء الموضوع ليكون
الانتفاء عقلياً أو التقييد مستحيلاً ، وهكذا يثبت انَّ الصحيح ثبوت المفهوم في
القسم الثالث كالقسم الثاني.
وامَّا تشخيص انَّ
الآية من أيّ هذه الأقسام فإذا كان مفادها ( نبأ الفاسق إذا جيء به أو جاءكم
الفاسق به فتبيّنوا ) كان من القسم الأول لا محالة لأنَّ انتفاء نبأ الفاسق
بانتفاء مجيئه عقلي ، وإِذا كان مفادها ( النبأ إذا جاء به الفاسق فتبيّنوا ) كان
من القسم الثالث كما أشرنا ، وإذا كان مفادها ( نبأ المخبر يجب التبين عنه إذا كان
الجائي به فاسقاً ) كان من القسم الثاني لأن فسق المخبر بخبر حالة طارئة بلحاظ
الموضوع.
ولا ينبغي
الاستشكال في انَّ المستظهر من الآية المعنى الثاني الوسط فتكون الشرطية من القسم
الثالث الّذي فيها مفهوم بحسب طبعها .
هذا كلّه لو أُريد
بالموضوع موضوع الحكم ، فالشرطية في الآية الكريمة بلحاظ ما هو موضوع الحكم فيها
لا تكون مسوقة لبيان تحققه.
إِلاّ انَّ هناك
موضوعاً للشرطية بمعنى آخر وهو ما يمكن فرضه قبل الجملة الشرطية وموضوعاً لها كما
في قولك ( زيد إِن جاءك فأكرمه ) وبين هذا المعنى للموضوع والمعنى السابق عموم من
وجه إذ قد يفترقا كما في قولك ( زيد إِن جاءك فتصدق على جيرانك ) حيث ان موضوع
الجزاء هو الجيران مع انَّ موضوع الشرطية هو زيد ، وقد يجتمعان كما في ( زيد إِن
جاءك فأكرمه ) وهذا النحو من الموضوع للقضية الشرطية أعني ما يجعل موضوعاً لنفس
الشرطية والتعليق بحسب الحقيقة تطعيم للقضية الشرطية بالحملية ، وهذا يؤدّي إلى أن
يكون ما جعل موضوعاً بهذا المعنى في القضايا الشرطية مأخوذاً بنحو الفرض والتقدير
كما هو الحال في القضايا الحقيقية التي تكون الأحكام الشرعية منها عادة لأن
الموضوع في القضايا الحقيقة مفروض ومقدر الوجود وهذا يترتّب عليه ثمرات في باب
الاستنباط.
منها ـ انَّ
الشرطية لا تدلّ على الانتفاء حين انتفاء ذلك الموضوع للشرطية عند انتفاء الشرط
وانَّما يدلّ على الانتفاء عند انتفاء الشرط ما دام ذلك الموضوع محفوظاً وامَّا
إذا ارتفع فلا مفهوم حتى لو كان موضوع الحكم في الجزاء محفوظاً ، كما في مثال (
الختانان إذا التقيا وجب الغسل ) فانَّه لا مفهوم له لما إذا لم يكن للإنسان ختان
كما في مقطوع الحشفة فلا يدلّ على انتفاء الغسل عليه لو لم يلتق ختانه من جهة
انتفاء موضوع أصل القضية الشرطية.
__________________
ومنها ـ في محل
الكلام حيث انَّه إذا استظهرنا انَّ النبأ موضوع للشرطية نفسها فكأنَّه قال (
النبأ إذا جاءكم فاسق به فتبيّنوا ) فلا مجال حينئذ لدعوى انَّ الشرطية مسوقة
لتحقق الموضوع لأنَّ النبأ أخذ موضوعاً مقدر الوجود لأصل الشرطية ولا تكون القضية
مسوقة لفرض تحققه فلا محالة يتعين أن تكون الشرطية لغرض صفة ثانوية وهو فسق المخبر
وإناطة الحكم به فيكون اندفاع الإشكال المتقدم على هذا أوضح وثبوت المفهوم للجملة
أجلى وأصرح .
ثمَّ انَّه بهذه
المناسبة لا بأس بالاستطراد إلى بحث الفرق بين الموضوع في القضية
__________________
الحملية الحقيقية
والقضية الحملية الخارجية فانَّه في الأول يكون مأخوذاً بنحو التقدير والفرض
فقولنا « النار حارة » و « المسكر حرام » يكون المحمول فيها منصباً على الموضوع
المقدر للنار أو المسكر بمعنى انَّ كلّ ما يفرض مصداقاً للنار أو المسكر يكون
حاراً أو حراماً ، وهذا بخلاف القضية الخارجية كقولك « كلّ من في الصحن عادل فانها
تنظر إلى أفراد معينين خارجاً ـ سواءً كانوا موجودين فعلاً أم لا ـ ويترتّب على
ذلك انَّ الموضوع في القضية الحقيقية يكون كليّاً دائماً لكي يكون قابلاً للانطباق
على كلّ أفراده المقدرة والموجودة وهذا بحسب الحقيقة يستبطن من الناحية المنطقية
تلازماً بين ماهية الموضوع وماهية المحمول إذ لو لا هذا التلازم لما أمكن جعل
المحمول على الموضوع بمقدراته سواءً كان التلازم على أساس عقلي قبلي أو تجريبي.
ومن هنا كانت القضية الحقيقية تستبطن القضية الشرطية من الناحية المنطقية وإِن لم
يكن مفادها اللغوي وتركيبها النحوي ذلك.
وعلى هذا الضوء
يتّضح انَّه منطقياً تكون القضايا الجزئية الحملية من قبيل قولنا بعض الحيوان
إنسان دائماً من القضايا الحملية الخارجية لا الحقيقة لأنَّ الحقيقية تستلزم
التلازم والكلية وهذا لا يعقل في القضية الجزئية ما لم يصرف الموضوع فيها عن ظاهره
فتؤول إلى الكلية حينئذ بمعنى لا يسعنا شرحه في المقام ـ بأن يكون عنوان البعض
مشيراً إلى عنوان آخر كلّي يكون ملازماً مع المحمول ـ وهذا يترتّب عليه ان كلّ
موجبة جزئية ليس فيها تقدير بل موضوعها خارجي محقق الوجود وهذا يعني انَّه لا يمكن
منطقياً أن نستنتج موجبة جزئية من أيّ قضية كلية كما قالوا في المنطق الأرسطي من
إنتاج الموجبة الكلية للموجبة الجزئية بالعكس المستوي مثلاً وإنتاج الشكل الثالث
للموجبات الجزئية ، فقولنا كلّ ذهب معدن لا يمكن أن ينتج أنَّ بعض المعدن ذهب. والوجه
فيه : انَّ الأولى قضية حقيقية لا تتكفّل إثبات وجود ذهب بالفعل في الخارج لكون
موضوعها ملحوظاً بما هو مقدر الوجود بينما الثانية قضية جزئية فهي في قوة الخارجية
التي تحكى عن ثبوت بعض المعدن الذهب في الخارج مع انَّ الأولى لم تكن تدلّ على
ذلك.
ثمَّ إِن هناك
بيانين آخرين لتقريب عدم المفهوم في آية النبأ رغم افتراض انَّها
ليست مسوقة لتحقق
أصل الموضوع بل حصّة منه على ما تقدّم شرحه.
الأول
ـ انَّ المفهوم من
تبعات طرو الشرط على النسبة الحكمية في الجزاء لكي يدلّ على انتفائها بانتفائه
وهذا معناه انَّ التقييد والتعليق على الشرط يكون ملحوظاً في طول النسبة الحكمية
في الجزاء وفي مرتبة متأخرة عنه في مقام التصوّر واللحاظ ، وهذا يعني انَّ التعليق
والتقييد بالشرط في طول طرفي تلك النسبة من الموضوع والمحمول وهذا لا يكون فيما
إذا كان الشرط مسوقاً لغرض تحقق نفس موضوع الحكم في تلك النسبة ولو بحصة منه فانه
يلزم التهافت في لحاظ الموضوع والشرط.
والحاصل : لا يكون
مثل هذه الشرطية تعليقاً حقيقياً بل صورة شرط هو بحسب الحقيقة موضوع للحكم وفرض
لتحققه فحال هذه الشرطية حال الشرطية المسوقة لبيان أصل الموضوع من كونها
كالحملية.
وهذا التقريب بهذه
الصياغة الثبوتية يمكن الإجابة عليه : بان ما هو موضوع النسبة الحكمية ذات الموضوع
ـ وهو النبأ ـ وما هو الشرط وطرف التعليق الجملة الشرطية أعني نسبة النبأ إلى
الفاسق لا ذات النبأ فلا تهافت ولا محذور.
الثاني
ـ وهو نفس البيان السابق الّذي يقتضي أن يكون موضوع الجزاء
ملحوظاً ومفروضاً في المرتبة السابقة على الشرطية والتعليق على الشرط فإذا كانت
الشرطية مسوقة لبيان نفس افتراض موضوع الجزاء لم تكن ذات مفهوم ولكن بإضافة نكتة
إثباتية هي انَّه لا بدَّ من ان يتوفر في الكلام ما يدلّ على الطولية المذكورة ولا
يكفي مجرد إمكان الطولية ثبوتاً ما دام عالم الإثبات والدلالة مسوقاً لافتراض واحد
لأصل تحقق الموضوع ولو بحصة منه وذلك لأن مقتضى القاعدة في الظهور هو التطابق بين
العالمين فإذا فرض وحدة الافتراض بحسب عالم الإثبات استكشفنا ذلك بحسب عالم الثبوت
وبذلك تكون الشرطية في قوة الحملية ، والأمر في المقام كذلك لأنّ الآية لم تفترض
النبأ موضوعاً في الرتبة السابقة على تحقق الشرطية والتعليق بل قد افترض مجموع
مفاد الجملة الشرطية بافتراض واحد ومن هنا لا يكون لها مفهوم. نعم لو قال ( النبأ
إِن جاءكم فاسق به فتبيّنوا ) أو قال ( إِن جاءكم فاسق بالنبإ فتبيّنوا ) كان
النبأ الموضوع للحكم في الجزاء مفروضاً بقطع النّظر عن التعليق بافتراض مسبق امَّا
لتقديمه كموضوع
للحكم أو للتعريف
المشعر بذلك والمستبطن للافتراض ونفس الشيء يقال في ( إِن أعطاك زيد درهماً فخذه ،
وإِن أعطاك زيد الدرهم فخذه ) حيث لا مفهوم للأولى بخلاف الثانية.
ولعل هذا هو الوجه
الفنّي لذهاب الشيخ الأعظم ( قده ) إلى عدم المفهوم في الآية الكريمة.
هذا كلّه في الأمر
الأول وهو الإشكال في الاستدلال بالآية على أساس منع المقتضي.
وامَّا الأمر
الثاني ـ وهو إبراز المانع المتصل بعد فرض ثبوت مقتضي المفهوم فيها فما ذكره
المشهور من انَّ ذيل الآية ( أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) قرينة على إلغاء
المفهوم لدلالته على أنَّ مناط الحكم بالتبين هو الجهل وعدم العلم منه وهو إلغاء
لمفهومها ولا أقل من التعارض والإجمال كما لا يخفى.
وقد أجيب عنه
بوجوه :
١ ـ دعوى انَّ
المفهوم أخص من عموم التعليل لاختصاصه بخبر العادل ومقتضى القاعدة في مثل ذلك
التخصيص.
وكأن استعمال لفظة
( عموم التعليل ) أوقع السيد الأستاذ في التباس غريب حيث أورد على هذا الجواب :
بان الدلالة المفهومية إطلاقية فإذا تعارضت مع العموم قدم العام عليه ثمّ دخل في
بحث احتياج العام إلى مقدمات الحكم وعدمه. مع انَّ كلّ هذا لا ربط له بالمقام إذ
ليس هنا عموم وضعي للتعليل وانَّما هو أيضا دلالة إطلاقية والتعبير بعموم التعليل
يراد به عدم الاقتصار على مورد الحكم المعلل لا العموم في قبال الإطلاق.
والصحيح في ردّ
هذا الجواب أمور :
الأول
ـ ان مقام التعليل
مقام النّظر إلى المعلل فيكون فيه قرينية بملاك الحكومة وهي القرينية الشخصية وهذه
خصوصية أقوى من الأخصية التي هي قرينية نوعية ومقدمة عليها في مقام اقتناص المرام.
الثاني
ـ انَّ التعليل ظاهر في التعميم وإلقاء خصوصية المورد وهذا
يكون مضاداً
ومعارضاً مع الأخص
لا محكوماً له كما هو الحال في العام والخاصّ.
الثالث
ـ وهو مبني على أن يكون مفهوم الشرط في الآية عبارة عن انَّه
إذا لم يجئ الفاسق بالنبإ فلا يجب التبين سواءً لم يجئ أحد أو جاء العادل به فتكون
حجية خبر العادل مستفادة من إطلاق المفهوم إذ حينئذ يقال بأنَّ التعارض بين إطلاق
المفهوم وإطلاق التعليل لا أصل المفهوم فلا أخصية.
٢ ـ دعوى حاكمية
المفهوم على عموم التعليل وهذا ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بزعم
انَّ الحجية معناها جعل الطريقية والعلمية ومعه لا يكون العمل عملاً بجهالة.
وفيه
: أولا ـ انَّ جعل الطريقية ليس
إِلاّ لساناً من ألسنة جعل الحكم الظاهري ثبوتاً ـ أي في عالم الاعتبار ـ أو
إثباتاً ، وقد بيّنا انَّ الحكم الظاهري كما يمكن جعله بذلك كذلك يمكن جعله بألسنة
أخرى كجعل المنجزية والمعذرية أو جعل الحجية وغير ذلك ، وعلى هذا فلا معين في
الآية الكريمة على انَّها بصدد جعل الطريقية لا ثبوتاً واعتباراً ولا إثباتاً ،
فان عنوان عدم وجوب التبين لا يتعين في انَّ يكون بمعنى انَّه علم وبيان غايته
احتمال ذلك منه ومعه لا يمكن إحراز الحكومة فتكون النتيجة إجمال الآية مفهوماً
وتعليلاً صدراً وذيلاً لاتصالهما كما هو واضح. نعم لو ادّعي انَّ المفهوم وارد على
التعليل ورافع لموضوعه حقيقة لما أمكن التمسّك بعمومه لنفي مفاد مفهوم الآية بل
لأي شيء يشك في حجيته لأن احتمال حجية شيء مساوق مع احتمال العلمية فيكون التمسّك
به من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية وسوف نعود إلى الحديث عن هذه النقطة
بعد قليل.
وثانياً ـ انَّه
لو سلّم انَّ الحجية مساوقة أو ملازمة مع جعل الطريقية والعلمية مع ذلك لا حكومة
للمفهوم على التعليل إذ كما يكون إثبات الحجية معناها جعل العلمية كذلك يكون نفيها
نفياً لها في عرض واحد على ما تقدّم بيان ذلك في بحث النهي عن الظنّ.
وثالثاً ـ انَّ
الحكومة روحها روح التخصيص ولكن بلسان الحكومة فحالها حال التخصيص المزعوم في
الجواب السابق من انَّه معارض مع التعليل الدال على التعميم
والحاكم على
المعلل لكونه ناظراً إليه فكلّ منهما فيه ملاك للحكومة والنّظر فلو لم نقدم النّظر
التعليلي لكونه نظر إلى شخص هذه القضية بخلاف النّظر المفهومي الناظر إلى مطلق
الظنون فلا أقلّ من التعارض والإجمال.
نعم لو قلنا بأنَّ
الحاكمية من باب جعل الطريقية بنحو الورود بأن كان المراد من عدم العلم في التعليل
عدم الحجة أو عدم العلم الأعم من الحقيقي والاعتباري لم يكن ذلك من باب التخصيص بل
يرفع المفهوم موضوع التعليل حقيقة ، إِلاّ انَّ هذا غير صحيح مبنى في باب الأمارات
على ما تقدّم ، ومستهجن عرفاً لأنَّ التعليل سوف ينسلخ عن كونه تعليلاً لوجوب
التبين في المنطوق إذ يكون معناه حينئذ انَّ خبر الفاسق ليس بحجة لأنَّه ليس بحجة
أو لم يجعل علماً فهو يرجع لبّا إلى تعليل عدم الحجية بعدم الحجية وهذا لا معنى له
ولا يمكن أن يعلل عدم الحجية في مورد بتعليل قد أخذ في موضوعه عدم الحجية لأنَّه
في طوله بينما العلة لا بدَّ وأن يكون عدم الحجية في طولها ، وما أشرنا إليه من
كون التمسّك بعمومات النهي وعدم الحجية يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة
المصداقية مبنى على الحكومة بمعنى الورود.
ثمّ انَّه قد أورد
على جواب الحكومة في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) بلزوم الدور لأنَّ حاكمية
المفهوم يتوقّف على وجوده وانعقاده ووجود المفهوم في المقام فرع عدم عموم التعليل
لأنَّه متّصل به فإذا أُريد إثبات عدم هذا العموم بحكومة المفهوم كان دوراً.
وفيه ـ ان فرض
صلاحية المفهوم للحاكمية على التعليل بنكتة من النكات فسوف تكون هذه الصلاحية
والاقتضاء بنفسها رافعة لعموم التعليل لا متوقفة على عدمه. وإِن شئت قلت : انَّ
انعقاد المفهوم بل كلّ دلالة حاكمة على دلالة أُخرى لا يكون متوقّفاً على عدم الدلالة
المحكومة بل على عدم دلالة غير محكومة وهذا واضح.
إِذن فلا بدَّ من
إبطال أصل الصلاحية ومع إبطالها لا تحتاج إلى تلفيق مثل هذا الدور.
٣ ـ ما ذكره في
الكفاية من انَّ المراد بالجهالة السفاهة التي هي جهالة عملية لا عدم العلم
والجهالة النظرية ، والعمل بخبر العادل ليس سفاهة عند العقلاء. وأورد عليه المحقق
الأصفهاني ( قده ) : بأنَّ خبر العادل بقطع النّظر عن مفهوم الآية إِن كان
حجة ومما يجدر
العمل به فقد ثبتت حجيته بذلك بلا حاجة إلى الآية وإِلاّ كان العمل به سفاهة
وجهالة لأنَّه عمل بلا حجة فيشمله عموم التعليل.
وهذا الاعتراض
يمكن دفعه : بافتراض انَّ خبر العادل حجة عند العقلاء فان ذلك كاف لإخراج العمل به
عن كونه سفاهة ، وممّا لا ينبغي ، ولا نحتاج في ذلك إلى فرض حجيته عند الشارع.
وإِن شئت قلت : انَّ مجرد عدم ثبوت الحجية عند الشارع لا يكفي لكون العمل بالخبر
سفاهة إذا لم يكن فيه مقتضي عدم الحجية ، وعليه فالاستدلال بالآية على الحجية تام
بلا حاجة إلى فرض الحجية شرعاً في الرتبة السابقة.
والصحيح في مناقشة
هذا الجواب : انَّه لا معيّن لحمل الجهالة على السفاهة إذ لا أقلّ من احتمال إرادة
الجهالة النظرية خصوصاً مع انَّه المناسب مع ذيل التعليل حيث ذكرت الندامة التي لا
تكون إِلاّ بلحاظ عدم إصابة الواقع لا العمل السفهي.
ثمّ ان الظاهر
عرفاً من التعليل انَّه تعليل لأصل الحكم بوجوب التبين المرتب على خبر الفاسق لا
انَّه تعليل للحكم المعلّق أو تعليق للحكم المعلل ليتوهم عدم معارضته مع المفهوم
بل كل من التعليق والتعليل في عرض واحد أنيط بهما الحكم ولذلك يقع التعارض بين
مفهوم التعليق وإطلاق التعليل.
وهكذا يظهر تمامية
الإشكال على الآية بثبوت المانع كما تمّ الإشكال عليها بعدم تمامية أصل المقتضي
للمفهوم فيها.
وهناك اعتراض آخر
على الاستدلال بمفهوم آية النبأ ذكره كلّ من المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد
الأستاذ بنحو وحاولا الإجابة عليه.
فقد ذكر المحقق
الأصفهاني بأنه لو أريد من النبأ طبيعي النبأ الشامل لنبإ العادل أيضا فهذا يؤدي
إلى وجوب التبين عن طبيعي النبأ حتى الّذي جاء به العادل بمجرد مجيء الفاسق بطبيعي
النبأ الّذي يتحقق بمجيئه بنبإ واحد وهذه نتيجة غريبة لا يمكن المصير إِليها ،
وإِن كان المراد نبأ خاصاً فرض وجوده خارجاً فهذا خلاف سياق الشرطية غير الظاهرة
في افتراض نبأ خاص فرض وجوده وإِلاّ كان ينبغي أن تصاغ بنحو يدلّ على فرضه ووقوعه.
ونفس الإشكال ذكره
السيد الأستاذ مع تطوير شقّه الثاني إلى انَّه لو كان
المقصود نبأ
الفاسق بالخصوص لا طبيعي النبأ يلزم أن تكون الجملة ( نبأ الفاسق إِن جاءكم به
الفاسق فتبيّنوا ) وهذه شرطية مسوقة لتحقق الموضوع فلا مفهوم له لأنَّ نبأ الفاسق
يكون مجيء الفاسق به محققاً له.
والجواب على هذا
الاعتراض واضح فانَّ كون الموضوع طبيعي النبأ في الشرط والجزاء لا يعني وجوب
التبين عن كلّ نبأ لمجرد تحقق مجيء الفاسق بطبيعي النبأ ، وانَّما يعني انَّ موضوع
الحكم المذكور هو طبيعي النبأ وهو منحل لا محالة إلى أفراده فيكون كلّ نبأ له حكم
مشروط هو وجوب التبين عنه إذا جاء به الفاسق فلا يثبت بمجيء الفاسق بنبإ وجوب
التبين عن الحصص الأُخرى من النبأ التي لم يتحقق فيها الشرط بل وجوب التبين عنه
بالخصوص وهذا واضح .
وهذا هو الجواب
الصحيح لا ما في الدراسات من الالتزام باختلاف مقام الثبوت عن الإثبات وان كل قيد
أو شرط في مقام الإثبات موضوع للحكم بحسب مقام الثبوت وان الحيثيات كلّها تقييدية
ثبوتاً وإِن كانت بحسب مقام الإثبات تعليلية ، وعليه فالموضوع بحسب مقام الإثبات
والدلالة طبيعي النبأ لا نبأ الفاسق فالشرطية غير مسوقة لبيان الموضوع ومع ذلك
ثبوتاً ما يجب التبين عنه موضوعه خبر الفاسق لا طبيعي الخبر.
__________________
إذ يرد عليه
: أولا ـ انَّ ما ذكر من انَّ كلّ
القيود لبّا راجعة إلى الموضوع صحيح فيما إذا أُريد بالموضوع ما يؤخذ مفروض الوجود
في الجعل. وهو اصطلاح قد أسسه الميرزا ( قده ) ـ والموضوع بهذا المعنى منطبق على
الشرط لأنَّه أيضا يؤخذ مفروض الوجود ، إِلاّ انَّ هذا غير الموضوع المراد في
المقام وهو المقابل للشرط وهو بهذا المعنى لا برهان على إرجاع كلّ القيود إليه إذ
يمكن لبّا جعل حكم تعليقي مشروط بشرط على موضوع بحيث يكون حكم ذلك الموضوع نفس
القضية الشرطية التعليقية على ما تقدم في بحث الواجب المشروط حيث قلنا هناك انَّه
لا برهان على رجوع كلّ الحيثيات التعليلية إلى التقييدية لبّا.
وثانياً ـ لو سلّم
قيام برهان على ما ذكر فهو يقتضي تقييد الحكم لبّا بالشرط بمقداره لا أكثر وصاحب
الشبهة في المقام يدعي انَّ الشرط مجيء الفاسق بطبيعي النبأ فيكون ذلك هو قيد
النبأ لبّا أيضا لا أكثر والنتيجة كفاية مجيء فاسق بطبيعي النبأ لوجوب التبين عن
كلّ نبأ حتى نبأ العادل ، وهذا نظير ما إذا قال أكرم كلّ فقير إذا نزل المطر فانه
لا يتقيد وجوب إكرام الفقير إِلاّ بمجيء طبيعي المطر لا مجيء أمطار بعدد الفقراء.
وامَّا الأمر الثالث
، وهو إبراز المانع المنفصل عن مفهوم الآية فأهم ما ذكر بهذا الصدد انَّ مورد
الآية هو الشبهة الموضوعية وخبر العادل ليس بحجة فيه جزماً لاشتراط البيّنة في
الموضوعات وبما انَّ تخصيص المورد المتيقن غير ممكن فاما أَنْ تحمل الآية على معنى
لا يكون لها مفهوم أو يقع التعارض بين مفهومها وما دلَّ على اشتراط البينة في
الموضوعات وعلى كلّ حال لا يمكن إثبات الحجية في الشبهة الحكمية بها بعد ذلك.
وقد أجاب الشيخ (
قده ) على هذا الاعتراض بأنا نلتزم بدلالتها على حجية خبر العادل حتى في الشبهة
الموضوعية غاية الأمر نقيدها بدليل اشتراط البينة بالتعدد وهذا من التقييد لإطلاق
المفهوم في مورده وليس تخصيصاً له وهو جائز.
ولنا في المقام
ثلاث كلمات :
١ ـ انَّ هذا
الإشكال لا موضوع له أساساً لأنَّ الصحيح عندنا فقهيّاً حجية خبر الثقة في
الموضوعات أيضا.
٢ ـ ان تقييد
المورد عن المفهوم جائز وإِن لم يجز عن المنطوق ، لأنَّ دلالة المفهوم على
الانتفاء انَّما
كان ببركة إجراء الإطلاق في الحكم المعلّق لإثبات انَّه طبيعي الحكم وما يلزم من
إخراج المورد عن المفهوم مجرد تقييد هذا الإطلاق فلو قال ( هل أكرم زيد؟
فقال : إذا كان
الإنسان فقيراً فأكرمه ) ودلَّ دليل على انَّه حتى إذا كان زيد غير فقير يجب
إكرامه لأنَّه هاشمي مثلاً فغاية ما يلزم منه تقييد إطلاق الحكم بوجوب الإكرام
المعلّق على الفقير بغير الوجوب الثابت بعنوان الهاشمي.
٣ ـ وامَّا ما
أفاده الشيخ ( قده ) فلو فرض انَّ النبأ المأخوذ في موضوع الآية آخذ كاسم جنس جامع
بين الواحد والكثير ـ كما لو كان معناها النبأ إذا جاء به الفاسق فتبينوا ـ كان
قيد التعدد بحسب الواقع تقييداً لطبيعي النبأ الواقع موضوعاً لا إِلغاءً كما أفاد
الشيخ ( قده ) وامَّا إذا كان مأخوذاً بقيد الوحدة المستفادة ولو من التنوين فيكون
مفاد الجملة النبأ الواحد لو جاء به الفاسق فتبيّنوا ومفهومه النبأ الواحد لو جاء
به العادل فهو حجة وحينئذ يكون اعتبار التعدد والبيّنة إِلغاءً لقيد الوحدة لا
تقييداً للطبيعي .
حجيّة الاخبار مع الواسطة :
ثمّ انَّ
المحقّقين تعرضوا في ذيل البحث عن آية النبأ إلى مطلب كلّي لا ربط له بالآية وهو
الإشكال المعروف في شمول دليل حجيته للاخبار مع الواسطة كما إذا أخبر علي بن
إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن الإمام 7 والإشكال يمكن تقريره بأحد تقريبين :
الأول
ـ لزوم محذور اتحاد
الحكم مع موضوعه وأخذه فيه وهو محال لأنَّ الحجية موضوعها الخبر الّذي يترتّب على
ثبوت مفاده أثر شرعي عملي امَّا لكونه بنفسه أثراً
__________________
شرعياً أو موضوعاً
له وهذا يعني انَّ موضوع الحجية مركّب من جزءين الاخبار بشيء وترتّب الأثر على ذلك
الشيء ، وفي المقام الخبر المباشر لنا وهو اخبار علي بن إبراهيم لا يكون اخباراً
عن أثر شرعي لأنَّه يخبر عن اخبار أبيه وهو ليس أثراً شرعياً وانَّما هو اخبار عن
موضوع لأثر شرعي إِلاّ انَّ هذا الأثر هو نفس حجية الخبر المراد ترتيبه على خبر
علي بن إبراهيم وهذا يعني انَّ موضوع الحجية في الخبر مع الواسطة قد أخذ فيه نفس
الحجية فاتّحد الحكم مع موضوعه.
الثاني
ـ لزوم تأخر الموضوع عن حكمه وكونه في طوله وهو أشنع محذوراً
ممّا سبق وذلك لأنَّ المطلوب من تطبيق دليل الحجية على خبر علي بن إبراهيم ـ مع
الواسطة ـ إثبات الخبر المباشر وهو اخبار إبراهيم بن هاشم لتطبيق دليل الحجية عليه
ثانياً للتوصّل إلى حكم الشارع ، ومن الواضح انَّ إثبات خبر إبراهيم بن هاشم لا
يكون إِلاّ في طول الحكم بحجية الخبر إذ لا طريق لنا إلى اخباره إِلاّ حجية اخبار
ابنه وهذا يعني انَّ خبر الواسطة الّذي هو الموضوع يكون في طول نفس الحجية التي هي
الحكم وهذا محال.
والتقريبان
للإشكال كما يلاحظ مختلفان ملاكاً ومورداً لأنَّ ملاك الأول اتحاد الحكم مع موضوعه
وأخذه فيه وملاك الثاني طولية الموضوع عن الحكم ، كما انَّ الأول يجري في الخبر مع
الواسطة لا الخبر المباشر فإذا كانت هناك وسائط مختلفة فالإشكال بتقريبه الأول جار
فيها جميعاً عدا الخبر الأخير المتّصل بالإمام لأنَّه اخبار للأثر الشرعي مباشرة
بينما الإشكال بتقريبه الثاني يجري في الخبر الواسطة دون الخبر الّذي نحرزه
وجداناً لأنَّ إحرازه وجداني وليس في طول الحجية.
كما انَّ التقريب
الثاني يبتني على خلط بين عالم الثبوت والإثبات فان ما هو في طول الحجية الوجود
الإثباتي الإحرازي لخبر الواسطة وما يكون موضوعاً للحجية خبر الواسطة بوجوده
الواقعي وهو ليس في طول الحجية.
والإشكال بكلا
تقريبيه انَّما يرد فيما إذا افترض وحدة جعل الحجية للخبر وامَّا إذا فرض تعدد
الجعول بعضها للواسطة وبعضها للخبر مع الواسطة فلا محذور كما هو واضح. ومنه يعرف
انَّه لو كان دليل الحجية لبياً كالسيرة العقلائية فلا إشكال لأنَّها لو كانت غير
قائمة على العمل بالأخبار مع الواسطة فالمحذور
إثباتي وإِن كانت
قائمة على العمل بها استكشفنا من ذلك تعدد الجعل لا محالة.
وكذلك لو كان دليل
الحجية لفظيّاً غير ظاهر في وحدة الجعل كما إذا كان خبرياً غير ظاهر في الاخبار عن
جعل واحد ، فانه حينئذ يتمسّك بإطلاق الخبر للخبر مع الواسطة أيضا ويستكشف منه
تعدد الجعل لبّا.
والجواب عن الشبهة
بكلا تقريبيها نوقعه في مقامين :
المقام
الأول ـ في الإجابة على
الشبهة بنحو فنّي يرفع موضوع الإشكال ويجعل من الخبر مع الواسطة خبراً بلا واسطة
في إثبات قول المعصوم 7.
وهذا ما يكون بأحد
وجهين :
الوجه الأول ـ انَّ المدلول الالتزامي للخبر مع الواسطة ـ ولنفترضها واسطة واحدة ـ كأخبار
الشيخ الكليني ( قده ) عن الصفار عن المعصوم 7 قضية شرطية هي انَّه لو لم يكذب الصفار فقد قال المعصوم 7 هذا الحديث ،
وحينئذ بالإمكان تطبيق دليل الحجية على خبر الكليني ( قده ) بلحاظ هذا الأثر
الشرعي الّذي هو قول المعصوم 7 لا بلحاظ حجية خبر الصفار ليلزم المحذورين المتقدّمين في
الإشكال فنثبت بتطبيق دليل الحجية على خبر الكليني المحرز لنا وجداناً القضية
الشرطية المزبورة ثم نثبت شرطها وهو عدم كذب الصفار ببيان انَّه يعلم إجمالاً
امَّا قد أخبر الصفار أو لم يخبر ـ لاستحالة ارتفاع النقيضين ـ فلو كان قد أخبر
واقعاً فهو لا يكذب بمقتضى دليل حجية خبر الثقة وهذا تطبيق له على موضوعه الواقعي
فلا محذور فيه ، ولو كان لم يخبر أصلاً فهو لم يكذب أيضا وهذا يعني انَّه يعلم
إجمالاً بأنَّ الصفار لم يكذب امَّا وجداناً أو تعبداً وبذلك ننتهي إلى إثبات
الجزاء الّذي هو قول المعصوم 7.
وقد يستشكل في هذا
الوجه بأحد إِشكالين :
١ ـ انَّ شأن هذه
القضية الشرطية شأن أي مدلول التزامي للدليل يكون منوطاً ومشروطاً بثبوت مدلوله
المطابقي لأنَّ الدلالة الالتزامية بحسب الحقيقة من دلالة المدلول على المدلول
وهذا يعني انَّه لا بدَّ في المرتبة السابقة من إثبات خبر الصفار الّذي هو المدلول
المطابقي لخبر الكليني بدليل الحجية لكي يثبت مدلوله الالتزامي ويتوصّل منه إلى
قول المعصوم فيعود المحذور من رأس كما لا يخفى.
والجواب ـ انَّ
إناطة الدلالة الالتزامية بالمطابقية لا تعني انَّ الدلالة الالتزامية دلالة
تقديرية مشروطة بثبوت المدلول المطابقي وجداناً أو تعبداً وانَّما تعني انَّ
الدلالة والاخبار بالمدلول المطابقي هي المناط والحيثية التعليلية في الدلالة على
المدلول الالتزامي وانَّ ملاك الكاشفية فيها واحد بحيث لو كذب ذلك الملاك سقطت
الكاشفية فيهما معاً مع كون كلتا الدلالتين والإخبارين فعليين في عرض واحد. وعليه
فلا تتوقّف حجية الاخبار عن المدلول الالتزامي على ثبوت المدلول المطابقي وجداناً
أو تعبداً ليرجع المحذور.
٢ ـ انَّ المدلول
الالتزامي دائماً هو الحصّة الخاصة من اللازم المقيد بالملزوم فالاخبار عن شرب زيد
للسمّ اخبار عن موته بالالتزام ولكنه الموت الحاصل من شرب السمّ لا مطلق الموت ،
وفي المقام أيضا يكون المدلول الالتزامي متقيّداً بالمطابقي أي انَّ الكليني ( قده
) يخبر بالملازمة عن المعصوم 7 على تقدير عدم كذب الصفار لا مطلقاً بل مقيداً بصدور
الاخبار منه الّذي هو المدلول المطابقي لخبر الكليني ، وهذا يعني ان الشرط في
القضية الشرطية عدم كذب الصفار مع اخباره لا مطلق عدم كذبه ولو من باب السالبة
بانتفاء الموضوع وهذا الشرط لا يمكن إثباته إِلاّ بتطبيق دليل الحجية على خبر
الكليني بلحاظ مدلوله المطابقي فيعود المحذور.
والجواب : انَّه
لو سلّم بكبرى هذا الكلام ـ ولم نسلم بها في محلّها مطلقاً ـ فالتخصيص والتقييد
انَّما يكون في ما هو المدلول الالتزامي لا غير وفي المقام ما هو المدلول
الالتزامي لخبر الكليني نفس الشرطية والملازمة مع بقاء الشرط على إطلاقه وهذا يعني
انَّ الشرطية تتقيد بنحو قيد الواجب بصدور الاخبار عن الصفار أي انَّه يدلّ على
شرطية مقترنة مع اخبار الصفار وامَّا شرطها فهو مطلق عدم كذبه المحرز امَّا
بالوجدان أو التعبد بالنحو المتقدّم .
__________________
الوجه
الثاني ـ انَّ حجية خبر
الثقة انَّما تكون على أساس كاشفية الوثاقة عن عدم كذب المخبر الجامع بين عدم كذبه
من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو السالبة بانتفاء المحمول. وهذه الكاشفية
والطريقية مصبّها الحقيقي وثاقة المخبر لا اخبار الثقة وهي كما تقتضي الكشف عن صدق
ما أخبر به المخبر ، كذلك وبنفس الدرجة تقتضي الكشف عن عدم صدور الاخبار من الثقة
إذا ما أحرز عدم صدق القضية وعلم الثقة بذلك. وعلى هذا الأساس نقول في المقام
بأنَّنا بمجرد وجدان الخبر مع الواسطة وهو خبر الكليني نعلم بقضية شرطية هي انَّه
إذا لم يكذب الكليني ولم يكذب الصفار فقد صدر الحديث عن المعصوم 7 والشرط في هذه
الشرطية مجموع أمرين عدم كذب الكليني وعدم كذب الصفار.
وكلا هذين الشرطين
يثبتان بدليل الحجية عن طريق تطبيقه على وثاقة الرجلين المحرزة وجداناً فان مقتضى
وثاقة الكليني انَّه لم يكذب ومقتضي وثاقة الصفار انَّه لا يكذب أيضا وبذلك يحرز
كلا الشرطين فيحرز الجزاء ، والحجية موضوعها على هذا التقرير وثاقة المخبر لا
اخباره وهي محرزة وجداناً في كلّ من المخبر بالواسطة والواسطة فيكون هذا التطبيق
نظير تطبيق دليل حجية الخبر على خبرين مباشرين أخبر كلّ منها بجزء موضوع الأثر
الشرعي. ومعه يرتفع موضوع الإشكال من رأس فانَّه كان مبنيّا على افتراض طولية
الإخبارين الموضوعين لدليل الحجية.
ثمَّ انَّه في
الدورة السابقة ذكرنا في هذا المقام وجهاً آخر مبنيّا على مسالك جعل الطريقية
والعلمية وحاصله : انَّ الكليني ( قده ) يخبرنا عن علمه التعبدي بقول المعصوم 7 وبما انَّ
الاخبار عن العلم الوجداني كالاخبار عن الواقع في الحجية ـ إذ يمكن له الاخبار عنه
استناداً إليه ولا خصوصية للتلفظ بالأخبار عن الواقع ـ فيكون اخباره عن علمه
التعبدي اخباراً عن المعلوم وهو قول المعصوم 7 بناءً على جعل
__________________
الطريقية والعلمية
فيكون حجة بهذا الاعتبار.
إِلاّ انَّ هذا
البيان لا يدفع روح الإشكال إذ كون الكليني ( قده ) يخبرنا عن علمه التعبدي فرع أن
يكون خبر الواسطة ـ الصفار ـ علماً وحجة فيكون شمول دليل الحجية لخبر الكليني ولو
بلحاظ الأثر الشرعي الّذي هو قول المعصوم فرع ثبوت الحجية للخبر وهو رجوع إلى
المحذور كما لا يخفى. فالصحيح هو أحد الوجهين السابقين.
وجاء في كلام
للمحقق الأصفهاني ( قده ) نقلاً عن بعض أجلة عصره ( قده ) محاولة في دفع المحذور
وكأنَّها ناظرة إلى هذا المقام أعني دفع المحذور بإخراج الخبر مع الواسطة إلى خبر
بلا واسطة. حاصلها : انَّ الاخبار عن الاخبار أمارة على الأمارة والأمارة على
الأمارة أمارة على الواقع أيضا.
وأصل هذا الاتجاه
في مقام دفع الإشكال وإِن كان فلتة ذكية منه ( قده ) في حلّ الإشكال إِلاّ انَّ ما
قرر به لا يمكن المساعدة عليه إذ لو أُريد من كون الخبر مع الواسطة أمارة على
الأمارة أنَّها أمارة خبرية على الواقع فهو واضح البطلان ، وان أريد انَّه كاشف
وطريق ظنّي إلى الواقع فهذا صحيح إِلاّ انَّ الحجية موضوعها لم يكن مطلق الطريق
والظنّ بالواقع وانَّما هو الظنّ الخبري ولو ادعي وحدة مناط حجية هذا الظن مع
الظنّ الخبري الحاصل من الخبر بلا واسطة رجع إلى كلام سوف يأتي عن المحقق صاحب
الكفاية مع جوابه.
المقام
الثاني ـ في الإجابة على
الشبهة مع حفظ موضوعها. وقد ذكر في هذا المجال وجوه من الأجوبة أهمّها اثنان :
١ ـ ما ذكره
المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ الإشكال لو سلم فغايته عدم إمكان شمول دليل
الحجية بإطلاقه اللفظي للخبر مع الواسطة لاستحالة أن تكون الحجية أثراً شرعياً
مصححاً لنفسها في دليل جعل واحد. ولكن يعرف من الخارج انه لا فرق في الحجية شرعاً
بين أثر وأثر فكما انَّ الاخبار عن موضوع أي حكم شرعي يكون حجة كذلك الاخبار عن
موضوع هذا الأثر فيتعدّى إلى الاخبار مع الواسطة من ناحية الجزم بوحدة المناط.
وفيه : انَّ
المناط الحقيقي في جعل الحجية هو الطريقية والكاشفية بلحاظ أغراض
المولى الواقعية
التي يكشف عنها قول المعصوم 7 ومن الواضح انَّ كاشفية الخبر بلا واسطة عن هذا الغرض أقوى
وأشدّ من كاشفية الخبر مع الواسطة ومعه لا يبقى جزم بعدم الفرق وأي غرابة في جعل
الحجية لخصوص الخبر بلا واسطة فليست المسألة مربوطة بوجود أثر شرعي لكي يقال لا
فرق بين أثر وأثر.
٢ ـ الجواب
المدرسي المعروف والّذي قد أشار إلى جانب منه المحقق الخراسانيّ وإلى جانب آخر منه
المحقق النائيني ( قده ) حيث انَّ الأول لاحظ محذور اتحاد الحكم وموضوعه في عالم
الجعل ، والثاني لاحظه في المجعول.
وأيّاً ما كان
فتارة : نلاحظ عالم جعل الحجية ـ المجعول بالذات ـ فيقال بأنَّ موضوع الجعل انَّما
هو الخبر الّذي له أثر شرعي وهذا الأثر الملحوظ في طرف موضوع الجعل لو فرض انَّه
نفس الحجية لزم الاتحاد بين الحكم وموضوعه وهو مستحيل. وهذا المحذور هو الّذي كان
يعالجه صاحب الكفاية بقوله انَّ القضية طبيعية أي انَّ الحكم بالحجية موضوعه طبيعي
الخبر الّذي له طبيعي الأثر ولا يلزم أخذ كلّ أثر أثر بخصوصه في طرف الموضوع فانَّ
الإطلاق ليس إِلاّ رفضاً للقيود لا جمعاً لها وعليه فلا يلزم وحدة الحكم والموضوع
في مرحلة جعل القضية الحكمية ، ومنه يعرف انه ليس مقصوده من القضية الطبيعية ان
الحكم متعلّق بالطبيعة بما هي طبيعة لا بما هي خارجية كالإنسان نوع ليقال بأنَّ
هذا خلاف تعلّق الأحكام بموضوعاتها بما هي خارجية وانَّما المقصود انَّ الملحوظ في
طرف الموضوع في عالم الجعل ليس إِلاّ طبيعي الأثر لا الحجية بعنوانها فلا يلزم
الاتحاد في هذا العالم.
وأُخرى : نلاحظ
عالم المجعول بالعرض الّذي هو عالم فعلية ذلك الجعل على كلّ خبر خبر في الخارج
فيقال بأنَّ شمول الجعل وفعليته للخبر مع الواسطة مستحيل لأنه فرع فعلية موضوعه
بأن يكون ذا أثر شرعي ولا يكون ذا أثر إِلاّ بلحاظ الحجية نفسها إذ لا أثر له
غيرها. وهذا هو الّذي عالجه الميرزا ( قده ) بأنه في عالم الفعلية يتكثر المجعول
بتكثر الموضوعات وحينئذ ما يكون في طول فعلية الموضوع في الخبر مع الواسطة الحجية
المجعولة له وما يكون فعلية الموضوع في طوله لأنَّه مأخوذ فيه الحجية المجعولة
لخبر الواسطة وإحداهما غير الأُخرى فلم يتحد فعلية الحكم مع فعلية موضوعه.
وبهذا يظهر الجواب
على التقرير الثاني للإشكال فانه إذا أُريد تقرير الإشكال بلحاظ عالم الجعل فواضح
انَّه في عالم الجعل يكون الموضوع هو مفهوم الخبر لا وجوده الخارجي ومفهوم الخبر
ليس في طول الحجية وانَّما الّذي يكون في طول الحجية وجود خبر الواسطة : نعم لو
كان المأخوذ في الموضوع كلّ خبر بعنوانه لزم أخذ الخبر الّذي يكون في طول الحجية
بعنوانه في موضوعها فيلزم التهافت أو الخلف بحسب لحاظ الجاعل ولكن عرفت انَّ
المأخوذ طبيعي الخبر . ولو أريد تقريره بلحاظ عالم المجعول والفعلية فخبر
الواسطة في طول حجية مجعولة لخبر الكليني وهي غير الحجة المجعولة لخبر الواسطة
فالموقوف غير الموقوف عليه كما هو واضح. هذا إِلاّ انَّ الإشكال الثاني كما أشرنا
إليه في مستهل البحث فيه خلط بين عالم الثبوت والإثبات يعني انَّ الّذي يكون في
طول حجية خبر الكليني ليس هو الوجود الواقعي لخبر الصفار بل الوجود التعبدي الّذي
يعني التعبد بوجوده ومعنى التعبد بوجوده ترتيب ما لوجوده الواقعي من أثر شرعي
الّذي هو الحجية بحسب الحقيقة فلو كان هناك إشكال فهو الإشكال الأول وهو أخذ
الحجية في موضوع الحجية لا الطولية وتولد الموضوع عن الحكم. والظاهر انَّه إلى هذا
أشار صاحب الكفاية ( قده ) حينما أفاد بأنَّه لا وجه بعد دفع الإشكال الأول
بالقضية الطبيعية إلى الاستشكال ثانياً بلحاظ خبر الواسطة.
وهذا الجواب صحيح
لا غبار عليه.
يبقى انَّ الميرزا
( قده ) له كلامان آخران في المقام.
الأول
ـ انَّه ادعى عدم
مجيء المحذور رأساً بناءً على مسالكه في باب الحجية من انَّ المجعول فيها هو الطريقية
والعلمية لأنَّها على هذا المسلك تكون الحجية مجرّد اعتبار
__________________
ما ليس بعلم علماً
وهو ليس كتنزيل المؤدّى أو الظنّ أو جعل الحكم المماثل ممّا يحتاج فيه إلى ملاحظة
أثر المنزل عليه أو الحكم المماثل بل يمكن الاعتبار بلا ملاحظة أي أثر غاية الأمر
انَّ هذا الاعتبار يكون لغواً حيث لا يترتب عليه نتيجة عملية ويكون رافعاً لموضوع
قبح العقاب بلا بيان حيث يكون متعلّقه تكليفاً ، وهذا حاصل في المقام إذ يلزم من
اعتبار الخبر مع الواسطة علماً بخبر الواسطة وخبر الواسطة علماً بمؤدّاه ـ وهو قول
المعصوم 7 ارتفاع موضوع القاعدة كما هو الحال في العلم بالعلم بالتكليف فان هذا بيان أيضا
رافع للتكليف وانَّما تلزم اللغوية حيث لا يكون جعل الطريقيات والعلميات منتهياً
إلى العلم بالحكم أو العلم بالعلم به.
وفيه : انَّ أُريد
جعل خبر الكليني ـ الخبر مع الواسطة ـ علماً بقول المعصوم 7 مباشرة فهو لا
يمكن لأنَّ دليل الحجية يجعل الخبر علماً بما هو مدلوله وليس مدلول خبر الكليني
قول المعصوم 7 وإِن أُريد جعله علماً بمدلوله فان أُريد انَّه علم بذات مدلوله وهو ذات
اخبار الصفار فهذا لا يفيد في التنجيز أو التعذير فان حاله حال العلم الوجداني
بذات خبر من دون علم بحجيّته ولا يلزم من اعتبار ذلك واعتبار واقع ذلك الخبر علماً
اعتبار الاخبار به علماً بالعلم فان اللوازم والملازمات لا تثبت بين الاعتبارات
وانَّما بين العلمين الواقعيين كما هو الحال في الأصول المثبتة. وإِن أُريد انَّه
علم به بما هو حجة وعلم أي انَّ اخبار الكليني عن تحقق موضوع الحجية ـ وهو خبر
الصفار ـ بما هو موضوع للحجية والعلمية أي اخباره عن المجعول الجزئي لدليل الحجية
يعتبر علماً بالعلم فهذا معناه أخذ الحجية الّذي هو الحكم في موضوع شخصه فيعود
المحذور.
نعم لو اكتفينا في
رفع التأمين والتنجيز العقليين بالعلم بكبرى الجعل والعلم بصغراه بلا حاجة إلى
العلم بالنتيجة التي هي فعلية المجعول تمّ ما أفاده ( قده ) لأنَّ اخبار الكليني
علم بذات خبر الصفار الّذي هو صغرى لكبرى الحجية المعلومة بالوجدان والمفروض انَّ
العلم بالصغرى وحده بيان رافع للتأمين في حال العلم بالكبرى فكذلك في المقام يكون
العلم التعبدي بها رافعاً له إِلاّ انَّ هذا المبنى لا يقبله الميرزا ( قده ) فانه
يشترط العلم بالمجعول الفعلي.
الثاني
ـ أبرز الميرزا ( قده ) في المقام إشكالاً ثالثاً حاصله :
لزوم اتحاد الحاكم والمحكوم لأنَّ حجيّة خبر الكليني منقحة لموضوع حجيّة خبر
الواسطة وبذلك تكون حاكمة عليها فإذا كان دليل الحجّيتين واحداً لزم اتحاد الحاكم
والمحكوم وهو محال.
وقد عرض هذا
الإشكال في فوائد الأصول ببيان ساذج من دون أن يبيّن وجه المحذور في اتحاد الحاكم
والمحكوم ، وكأنه لأن الحاكم والمحكوم متقابلان فلا يمكن اتحادهما ولهذا أجاب على
الإشكال بأنَّ جواب الانحلال المتقدّم بنفسه جواب على هذا الإشكال لأن الحاكم
انَّما هو حجية خبر الكليني والمحكوم حجية خبر الواسطة فلا اتحاد ، وبهذا يكون هذا
الإشكال نفس إشكال الطولية المتقدم مع تغيير في العبارة إلى الحاكم والمحكوم.
ولكن في أجود
التقريرات قد بيّن نكتة فنيّة للإشكال حاصله : انَّ الحكومة شأن باب الأدلة ومقام
الإثبات والدلالة لا مقام الثبوت إذ الحكومة عبارة عن القرينيّة بلسان الحكومة
والتفسير وهو انَّما يكون بلحاظ مقام الإثبات والكشف ومعه لا تكون الحكومة معقولة
مع وحدة الدليل لأنَّ التفسير والقرينية فرع وجود كلامين ودالّين ليكون أحدهما
قرينة على المراد من الآخر. وهذا البيان لا يكفي في دفعه مسألة الانحلال لأنَّ
الانحلال انَّما هو من شئون عالم المجعول الّذي هو أجنبي عن مفاد الدليل والجعل.
وقد أجاب عليه بما
حاصله : انَّ الحكومة على ثلاثة أقسام :
١ ـ الحكومة
التفسيرية ـ كما إذا فسّر مراده من العالم مثلاً بالعارف.
٢ ـ الحكومة التي
هي تخصيص بلسان رفع الموضوع كما إذا قال ( لا شك لكثير الشك ) وهذان القسمان لا
بدَّ فيهما من وجود دليلين ولا يمكن اجتماع الحاكم والمحكوم فيهما في دليل واحد إذ
لا يعقل مع وحدة الجعل والدليل المفسّر أو المخصص.
٣ ـ ما يكون حكومة
لبّا ولساناً بأن يكون الحاكم متصرفاً في موضوع الدليل بمعنى انَّ الدليل الأول
يدلّ على ثبوت الحكم على موضوعه المقدر الوجود والدليل الثاني ينقح في مجال تطبيق
الدليل الأول وفعليته ـ الّذي هو أجنبي عن مدلول الدليل والجعل الكلّي ـ موضوعاً
له نظير حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي والأمارات على
الأُصول أو
الأمارات والأُصول على الأحكام الواقعية المحرزة بها. ومثل هذا القسم لا بأس في
وقوعه بدليل واحد ، ومحل الكلام من هذا القبيل فلا محذور إِذن في اتحاد الحاكم
والمحكوم واجتماعهما في دليل واحد.
والتحقيق في تقسيم
الحكومة ـ بالمعنى الأعم ـ من حيث ما يرتبط بالمقام أن يقال انَّها على أربعة
أقسام :
١ ـ الحكومة بملاك
النّظر إلى الدليل المحكوم وتفسيره ـ وهذا هو القسم الأول عنده ـ كما إذا قال أعني
بالعالم الفقيه.
٢ ـ الحكومة بملاك
النّظر إلى مدلول الدليل الآخر بما هو وفي نفسه مع قطع النّظر عن الدليل المثبت له
ويكون الناظر بصدد علاج الشبهة الحكمية من قبيل قوله 7 لا شك لكثير الشك ـ وقد جعله القسم الثاني ـ فانَّ النّظر
هناك إلى أحكام الشك في الصلاة في نفسها وبقطع النّظر عن الدليل المثبت لها
بافتراض ثبوتها في المرتبة السابقة في نفسها من أجل نفيها عن شك كثير الشك وكذلك
لا ربا بين الوالد والولد ولا ضرر ولا حرج ، فانَّ كلّ هذه الأدلة تنظر إلى
الأحكام الثابتة في موارد موضوعاتها بقطع النّظر عن نوع الدليل الدال عليها ـ وهذا
هو القسم الّذي اصطلح عليه بالتخصيص بلسان الحكومة ونفي الموضوع ـ وهذا قد يكون
بلسان نفي الموضوع وقد يكون بلسان نفي الحكم كما في لا حرج.
٣ ـ أن يكون
الحاكم غير متصرّف في مفاد الدليل المحكوم أصلاً وانَّما هو رافع أو محقق لموضوعه
حقيقة وهو المسمّى بالورود.
٤ ـ كالقسم الثالث
مع فرض كون النفي والإثبات للموضوع تعبديّاً لا حقيقياً كما في إثبات موضوع
الأحكام الواقعية أو الظاهرية بالأُصول والأمارات.
تختلف هذه الأقسام
للحكومة في الأحكام فالثلاثة الأُولى تكون الحكومة فيها واقعية والقسم الأخير تكون
الحكومة فيه ظاهرية أي انَّ الأثر الشرعي لذلك الموضوع يثبت فيه ظاهراً وفي طول
الشك لا واقعاً. كما انَّ القسم الرابع لا يحتاج فيه إلى نظر الدليل الحاكم لا إلى
الدليل المحكوم ولا إلى مفاده بما هو هو بخلاف الأقسام الأُخرى فانَّه لا بدَّ
فيها من النّظر امَّا إلى الدليل المحكوم أو إلى مفاد دليل أي إلى أثر وحكم
شرعي مترتب على
ذلك الموضوع لنفيه أو إثباته حقيقة أو تعبداً.
وبما ذكرنا ظهر
انَّ الأمثلة المذكورة للميرزا ( قده ) لم تقع موقعها الفنّي فان حكومة أدلة
الأمارات والأصول المنقحة لموضوع الأحكام الواقعية من القسم الرابع وامَّا حكومة
الأمارات على الأصول أو الأصول السببي على المسببي فهي حكومة واقعية من القسم
الثاني لأنَّ دليل الحجية للأمارة أو للأصل السبب مخصص لدليل الأصل.
وامَّا أصل
الإشكال فنقول : انَّ اتحاد الحاكم والمحكوم محال في القسم الأول فقط أي الحكومة
بين نفس الكلامين وامَّا الأقسام الثلاثة الأُخرى بما فيه القسم الثاني فوحدة
الحاكم والمحكوم فيها بمكان من الإمكان لأن النّظر إلى ذات المدلول والأثر الشرعي
بقطع النّظر عن الدليل المثبت له ، والمراد بالنظر مجرّد الفراغ عن ثبوته فيعقل أن
يكون الأثر الثابت بإطلاق دليل محكوما لإطلاق آخر له لأنَّه قد أخذ في موضوعه
طبيعي الحكم والأثر المجعول حتى بشخص هذا الجعل ومن هذا الباب ـ أي القسم الثاني ـ
تقدّم الأصل السببي على المسببي رغم كونهما من سنخ واحد. ومحل كلامنا من القسم
الرابع الّذي أيضا يعقل فيه وحدة الحاكم والمحكوم.
الاستدلال بآية النفر :
ومن الآيات التي
يستدلّ بها على حجية خبر الواحد آية النفر وهي قوله تعالى في سورة التوبة ( فَلَوْ لا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .
وقد شدّد بعضهم
على دلالتها حتى جعلتها مدرسة المحقق النائيني ( قده ) أوضح الآيات دلالة في مقابل
من شدد على عدم دلالتها حتى جعلها كحديث ( من حفظ على أُمّتي أربعين حديثاً ...
إلخ ) من حيث وضوح عدم دلالتها على الحجية.
وأيّاً ما كان فقد
قرّبت دلالتها بوجوه عديدة بينها قدر مشترك هو انَّها تدلّ على
__________________
وجوب التحذّر
مطلقاً حتى في صورة عدم حصول العلم من اخبار المنذر وهو يلازم الحجية ، وتختلف بعد
ذلك في كيفية استفادة وجوب التحذر مطلقاً من الآية على ما سيظهر من خلال استعراض
الوجوه التالية :
الوجه
الأول ـ استفادة وجوب
التحذّر من كلمة ( لعلَّ ) الموضوعة للترجّي ، ومقتضى أصالة التطابق بين عالم
الإثبات والثبوت وإِنْ كان انَّ الداعي هو الترجّي الحقيقي إِلاّ انَّ ذلك
باعتباره مستحيلاً في حقّه تعالى يحمل على أقرب الدواعي الجديّة إِليه وهو
المطلوبية والمحبوبية ، ومطلوبية التحذر تلازم وجوبه إذ لو كان هناك مقتضٍ له فلا
محالة يجب ، لأنَّ المتحذر منه في المقام العقاب الأُخروي المساوق احتماله للتنجز
، وإِنْ لم يكن له مقتضٍ فلا معنى له ولا مطلوبية له حتى استحباباً إذ لا موضوع له
، وبالتمسّك بإطلاق الآية لحالات عدم حصول العلم من اخبار المنذر نثبت مطلوبية
التحذّر حتى في حالة عدم العلم وهو يساوق حجيته.
الوجه
الثاني ـ انَّ التحذر جعل
في الآية غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة كما إذا قيل توضّأ لتصلّي
فيثبت مطلوبية التحذر وبمقتضى التمسّك بإطلاق الغاية والمغيَّا نثبت وجوبه حتى مع
عدم حصول العلم من اخبار المنذر.
الوجه
الثالث ـ انَّ وجوب الإنذار فيها مطلق شامل حتى لصورة عدم حصول العلم
من اخبار المنذر ووجوبه يلازم وجوب القبول والتحذر وإِلاّ كان لغواً.
ولنا حول الاستدلال
بالآية ثلاث كلمات :
الكلمة
الأُولى ـ في ملاحظة القدر المشترك المفترض في كلّ الوجوه من انَّ
وجوب التحذّر والقبول ملازم مع الحجية فانَّه يمكن أَنْ يناقش فيه بوجوه :
الأول
ـ انَّ هناك حالتين
لا بدَّ من التمييز بينهما :
الأُولى : حالة
الشك في التكليف الّذي يكون مجرى للبراءة والتأمين عقلاً أو شرعاً بحيث يكون رفع
اليد عنه وثبوت التنجيز بحاجة إلى قيام الحجة على التكليف.
الثانية
ـ حالة الشك في
التكليف الّذي يكون في نفسه مجرى لأصالة الاشتغال وعدم العذر كما في الشبهة قبل
الفحص أو المقرون بالعلم الإجمالي ، وفي هذه الحالة يكون التنجيز لنفس الشك لا
لقيام الحجة على الإلزام وإِنْ كان قيامها قد يؤدّي إلى
مزيد التحريك وشدة
اهتمام المكلّف بالواقع نتيجة قوة الاحتمال عنده.
ومن الواضح انَّ
وجوب التحذّر عند قيام الخبر انَّما يكشف عن الحجية في مثل الحالة الأُولى لا
الثانية ، فلا بدَّ من ملاحظة انَّ الآية ناظرة إلى أي الحالتين فنقول :
هناك قرينة في
الآية تقتضي ظهورها في النّظر إلى الحالة الثانية لا الأُولى وهي تعليل وجوب
الإنذار بالتحذر في قوله تعالى ( لِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، فانَّ تعليل
الأمر بشيء بعلّة ظاهر في انَّ ذلك الشيء المأمور به ليس تحققه شرطاً في مطلوبية
تلك العلّة ومن مقدمات وجوبه بل شرط في وجوده ومن مقدمات وجوده ، ولهذا يصحّ قولك
( توضأ لكي تصلّي ) ولا يصحّ ( أنذر لكي تفي بنذرك ) ، لأنَّ الوضوء في الأول من
مقدمات الوجود والنذر في الثاني من مقدمات الوجوب ولا معنى للأمر بإيجاد شرط وجوب
شيء ثم تعليله به. إِذن فظاهر هذا التعليل انَّ تحذرهم مطلوب في نفسه بقطع النّظر
عن الإنذار وإِنَّ الأمر بالإنذار لمجرّد تحقيق التحذّر المطلوب ومن شرائط وجوده
خارجاً ، وهذا يعني انَّ الإنذار ليس هو سبب التنجيز ووجوب التحذر بل التنجيز
ووجوب التحذر ثابت مطلقاً والإنذار ممّا يساعد على وقوعه خارجاً حيث يكون منبهاً
ومحفزاً على تحرّك المكلّفين ومزيد تخوفهم من النتائج المترتبة على المخالفة
وامَّا التنجيز فثابت من أول الأمر بنفس الشبهة والشك كما هو الغالب بالنسبة إلى
أصحاب القرى في ذلك الزمان ، إذ كانوا يعلمون إجمالاً بوجود تشريعات ونزول الوحي
باحكام في حقّ العباد وهو احتمال منجز امَّا للعلم إجمالاً بالتكاليف في ضمنها أو
لكون الشبهة قبل الفحص ، وهكذا يثبت انَّ الآية ناظرة إلى الحالة الثانية التي لا
يكون وجوب التحذّر فيها ملازماً مع الحجية.
الثاني
ـ انَّ التحذّر قد رتّب على إنذار المخبر لا اخباره ،
والإنذار هو الاخبار الموجب للخوف أي الاخبار عن أمر مخوف فإذا لم يكن هناك موجب
للخوف في المرتبة السابقة على الاخبار لا يصدق عليه عنوان الإنذار. والملاك للخوف
في المقام وإِنْ كان يحتمل فيه بدواً احتمالان أحدهما ـ العقاب الناجم عن تنجز
التكليف ، والآخر ـ مخالفة الحكم الشرعي ولو لم يكن عقاب فانَّ الصديقين يرون
مجرّد ذلك محذوراً يخاف منه ، إِلاّ انَّه لا إِشكال في انَّ الظاهر من الآية بحسب
المتفاهم العرفي هو الأول لأنَّه الأمر
المخوّف نوعاً
وعموماً لا الثاني ولا أقلّ من عدم ظهورها في الثاني الكافي في الإجمال وعدم صحّة
الاستدلال. وعليه لا يمكن استفادة الحجية من التحذّر المذكور لأنَّه تحذّر في مورد
الإنذار لا الاخبار وهو لا يكون إِلاّ مع تنجز العقاب في المرتبة السابقة ومثله لا
يكشف عن الحجية بل يستحيل أَنْ يكشف عنها لأنَّه في طول الحجية والتنجز ، وهذه
قرينة أُخرى على انَّ الآية ناظرة إلى الحالة الغالبة على أهل القرى آنذاك من تنجز
الشبهات لكونها قبل الفحص أو مقرونة بعلم إجمالي.
الثالث
ـ انَّ غاية ما يلزم من الآية لو سلّم دلالتها وجوب التحذّر
في مورد الخبر الدال على الإلزام ، وهذا غير الحجية المطلوبة وانَّما هو وجوب
الاحتياط ولكن في خصوص الشبهة التي قام فيها خبر على الإلزام لأنَّها تأمر بالتحذر
وهذا لا يعقل إطلاقه بلحاظ المدلول الترخيصي للخبر ، كما انَّ لسان الجعل فيها
للخبر الإلزاميّ ليس لسان إثبات المؤدّى بل لسان التحذر ولزوم الاحتياط ، وممّا
يؤيد ذلك مجيء الإنذار مطلقاً بلا فرض عدالة في المنذر أو وثاقة حتى اضطرَّ
المستدلّ بها أَنْ يقيد مفادها بأدلة خاصة خارجية مع انَّ هذا في
نفسه غريب عرفاً وبحسب المرتكزات العقلائية في باب الحجية والأمارية بل يكون
المناسب مع هذا الإطلاق أَنْ يكون الحكم المذكور روحه إيجاب الاحتياط وتنجز
الأحكام الواقعية في مورد إنذار المنذرين.
الكلمة الثانية ـ في
الإشكال على الوجوه الثلاثة التي تقدّمت في إثبات القدر المشترك فيرد على الوجه
الأول منها.
أولا ـ انَّا لو سلّمنا دلالة كلمة ( لعلَّ ) على المطلوبية فالحذر المطلوب إِنْ
كان هو الحذر من العقاب المساوق مع وجوب التحذر بلحاظه ولا بديته فهذا الفرض يساوق
عرفاً كون الإنذار بلحاظ العقاب أيضا ، لأنَّ ظاهر الآية انَّ الحذر من نفس الشيء
المخوف المنذر به وهو يعني انَّ الإنذار فرض في طول العقاب والمنجزية على ما تقدّم
، وإِنْ كان المراد الحذر من المخالفة للحكم الواقعي بعنوانها فمطلوبية هذا الحذر
لا يلزم
__________________
منها وجوبه بل
يمكن أَنْ يكون مستحبّاً كما هو مقتضى حسن الاحتياط دائماً.
وثانياً ـ ما
أفاده المحقّق الأصفهاني ( قده ) من انَّ كلمة ( لعلّ ) ليست موضوعة للترجّي على
ما يظهر من تتبع موارد استعمالاته بل موضوعة لترقّب مدخولها الّذي هو جزء من
الترجّي سواءً كان محبوباً أو مكروهاً مخوفاً ، كما في الدعاء « لعلَّك عن بابك
طردتني ولعلَّك وجدتني ألف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني » ومعه لا يمكن
استفادة مطلوبية التحذر من الآية.
وهذا الكلام متين
، إِلاّ انَّه بحاجة إلى تكميل ليكون إبطالاً لهذا الوجه ، إذ يمكن أَنْ يقال بأنا
نستفيد مطلوبية مدخول الترقّب في المقام من السياق الدال على انَّه من الترقّب
المطلوب لا المكروه. ووجه التكميل انَّ مدلول الكلمة إذا كان هو الترقّب فيكفي في
إشباع حاجة هذا المدلول ترقّب حصول العلم من إيجاب الإنذار فلا يمكن إثبات مطلوبية
التحذر حتى في صورة عدم حصول العلم من الإنذار.
وامَّا الوجه الثاني ـ فيرده انه إِنْ أُريد دعوى الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب
غايته من باب انَّ الاهتمام بذي الغاية طريقي معلول للاهتمام النفسيّ بالغاية فلا
محالة يكشف عن وجوب الغاية إِلاّ إذا كانت غير اختيارية والتحذر ليس كذلك. ففيه :
إنكار الكبرى باعتبار انَّه قد يفرض انَّ المولى يأمر بسدّ باب عدم الغاية من
ناحية بعض مقدماتها دون بعض ، فانَّ حفظ الشيء عن طريق مقدمة مغاير عن حفظه من
ناحية مقدمة أُخرى من دون تلازم بينهما فلا يمكن أَنْ يستكشف من إيجاب حفظ أمر من
ناحية بعض المقدمات إيجابه مطلقاً.
وإِنْ أُريد دعوى
الملازمة العرفية وانَّ الأمر بشيء لغاية ظاهر عرفاً في انَّ المأمور به الحقيقي
انَّما هو تلك الغاية ، كما إذا قيل ( لا تشرب الخمر لإسكارها ) أو ( اذهب إلى
المسجد لكي تصلّي ) فالكبرى تامة ، ولكنه من حيث الصغرى مخصوص بما إذا كان الخطاب
موجهاً نحو مكلّف واحد لا ما إذا كان الأمر بذي الغاية للمنذِرين ـ بالكسر ـ والغاية
فعل المنذَرين ـ بالفتح ـ لأنَّ الأمر بالإنذار في حقّ المنذرين لا يمكن أَنْ يكون
مجرّد استطراق إلى أمرهم بالتحذير إذ ليس التحذر فعلهم بل فعل المنذَرين ـ بالفتح
ـ وإِنْ شئت قلت : انَّ التحذر الّذي هو فعل المنذَرين ـ بالفتح ـ ليس مقدوراً
للمنذرين
ـ بالكسر ـ فلا
يكون الأمر بالإنذار ظاهراً في كونه طريقيّاً .
وامَّا الوجه
الثالث ، فيرد عليه انَّه لا محذور في أَنْ يكون الخطاب أوسع من دائرة الغرض
والملاك احتياطاً من قبل المولى وتحفظاً على أغراضه الواقعية وحرصاً عليها ، حيث
انَّه لو قيد وجوب الإنذار بصورة حصول العلم فسوف لا ينذر من لا يحرز انَّ إنذاره
يسبّب حصول العلم للمنذَر ـ بالفتح ـ فضلاً عمّا إذا كان يحرز العدم مع انَّه في
الواقع لو كان قد أنذر لعله كان يحصل العلم للمنذرين ، فالمولى حفظاً لتحقق غرضه
وهو إيصال الأحكام إلى المكلّفين لكي يتحذّروا يجعل الأمر بالإنذار مطلقاً من دون
لزوم لغوية من ناحية عدم الحجية إذ يكفي عقلائياً وعقلاً في تبرير إطلاق وجوب
الإنذار ما ذكرناه ، وهذا له أمثلة كثيرة في الفقه نظير إيجاب التعريف باللقطة سنة
كاملة مثلاً حتى مع اليأس عن حصول صاحبها. وهكذا يتبيّن عدم تمامية شيء من وجوه
الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد.
الكلمة
الثالثة ـ في استعراض مهم الاعتراضات التي وجهت في كلمات الأصحاب إلى
الاستدلال بآية النفر ونقتصر منها على ثلاثة :
الأول
ـ دعوى المنع عن
إطلاقها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار لعدم كونها في مقام البيان من ناحية وجوب
التحذر بل من ناحية وجوب النفر والإنذار ومن دونه لا يتمّ الإطلاق.
وفيه ـ إِنْ أُريد
تسجيل هذا الإشكال على الوجه الأول ، فالجواب انَّه بناءً عليه تكون مطلوبية
التحذر مستفادة من لفظة ( لعل ) ومعه يكون ذيل الآية وضعاً متعرضاً لإفادة
مطلوبيته فيتمسّك بإطلاقه كما يتمسّك به بالنسبة إلى وجوب الإنذار. وإِنْ أُريد
تسجيله على الوجهين الثاني أو الثالث حيث كان يستفاد بناءً عليهما وجوب التحذر
بالملازمة من وجوب الإنذار من باب كونه غاية له أو بدلالة الاقتضاء ، فمن الواضح
انَّهما لا يتوقفان على إجراء الإطلاق في التحذر بل في وجوب الإنذار والآية في مقام
__________________
البيان من ناحيته
بلا إشكال.
الثاني
ـ ما أشار إليه الشيخ من انَّ وجوب الحذر مرتب على الإنذار
المأمور به والإنذار المأمور به هو الإنذار بما هو من الدين وحكم الله الواقعي ،
إذ لا يعقل أَنْ يأمر بالإنذار بما ليس منه ، كما انَّ ظاهر الآية أيضا انَّ
متعلّق الإنذار نفس ما تفقّه فيه المنذر من الدين ، وعليه فغاية ما تدلّ عليه
الآية وجوب التحذر فيما إذا كان إنذار المنذر بالدين ، ومثل هذا التحذر الواجب لا يمكن
أَنْ يكون مساوقاً مع الحجية لأنَّه أُنيط بكون الإنذار مطابقاً للواقع فمع إحراز
هذا القيد يعلم بالحكم الواقعي فلا معنى للحجية عندئذ ومع الشك فيه يشك في موضوع
وجوب التحذر.
وبهذا البيان ظهر
أولا ـ عدم رجوع هذا الاعتراض إلى
الاعتراض السابق. وثانياً ـ عدم صحة ما أُجيب به عليه من انَّ الحجية والتعبد يحرز
كون المنذر به من الدين ، فانَّ هذا فرع أَنْ يستفاد من وجوب التحذر المفاد بالآية
ما يساوق الحجية وقد عرفت انَّه غير معقول لأنَّه قد أخذ في موضوع وجوب التحذر
أَنْ يكون المنذر به من الدين.
والجواب ـ انَّ
وجوب التحذّر في مورد الإنذار بالدين معناه جعل المنجزية والاهتمام للواقع في مورد
الإنذار وهذا بنفسه لسان من ألسنة جعل الحجية وإيجاب الاحتياط على ما تقدّم منّا
في حقيقة الحكم الظاهري ، نظير قوله 7 ( لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ) وليس الحكم
الظاهري حكماً مستقلاً عن الحكم الواقعي ليكون له موضوع واقعي مستقل عنه بل هو
طريق محض إليه ، وهذا معناه انَّ وجوب التحذر المفاد بالآية ليس حكماً موضوعه
الإنذار بالواقع بل هو حكم بمنجزية الواقع المنذر به ولزوم التحذر من تبعة مخالفته
فكأنَّه قال لا بدَّ من التحذر من تبعة مخالفة الواقع المنذر به.
الثالث
ـ ما جاء في الكفاية من انَّ الآية تدلّ على حجية قول المنذر
المتفقه في الدين وهذا لا يصدق على كلّ راوٍ ، بل الإنذار بنفسه فرع فهم المعنى
ليكون منذراً بما يترتّب عليه من تبعات فلا يصدق على مجرّد الاخبار ، فالآية ،
إِنْ دلّت على الحجية
__________________
فتدلّ على حجية
الرّأي والفقه والفتوى لا الشهادة والاخبار.
لا يقال ـ نثبت
حجية الراوي غير المتبصر في المعنى والمتفقه في الدين بالملازمة وعدم القول بالفصل
بينه وبين المتبصر.
فانَّه يقال : ليس
المقصود انَّ الآية أخصّ من المدعى ، بل المقصود انَّها أجنبية عنه لأنَّها حتى في
الراوي المتبصر تدلّ الآية على حجية رأيه ودرايته لا شهادته وروايته فلا معنى
للتعدّي في حقّه فما ظنّك بغيره.
وهذا الاعتراض لا
بأس به فانَّ الظاهر انَّ الآية غير ناظرة إلى مسألة الاخبار وحجيته بل تنظر إلى
مسألة أُخرى هي لزوم وجود طائفة بين الأُمة تتحمّل مسئولية الجهاد العقائدي
والفكري في سبيل الله عن طريق التفقّه في الدين وحمله إلى الأطراف والأجيال وهذه
مسألة أجنبية عن حجّيّة خبر الواحد المبحوث عنها في علم الأصول.
الاستدلال بآية الكتمان :
ومن جملة الآيات
التي يستدلّ بها على الحجية قوله تعالى ( الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ ) .
وتقريب الاستدلال
بها يشبه الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بآية النفر ، بدعوى انَّ تحريم الكتمان
ووجوب الإظهار يستلزم وجوب القبول وإِلاّ كان لغواً فبدلالة الاقتضاء يثبت وجوب
القبول وبمقتضى الإطلاق ثبت وجوبه حتى في صورة عدم حصول العلم من الإظهار فتثبت
حجية خبر الواحد. وكون الكتمان لا يصدق مع عدم وجود مقتضٍ للاخبار كالسؤال ونحوه
لا يقدح بالاستدلال إذ لو استفدنا الحجية في الاخبار المسبوق بالسؤال تثبت في مطلق
الاخبار لعدم احتمال دخل خصوصية السؤال في حجية الخبر المبتنية على الكاشفية
والطريقية.
وقد يورد على
الاستدلال بأنَّ الكتمان هو الإخفاء الّذي يعني حجب الحقيقة عن الظهور مع توفّر
مقتضيات ظهورها وهذا لا يكون إِلاّ في مورد يكون بحيث لو لم يكتم
__________________
يحصل العلم
بالحقيقة لتمامية مقتضيات جلائها ووضوحها لكونها في طريق وصولها إلى المكلّفين
وظهورها لو لا الكتمان وامَّا حيث لا يكون كذلك كما في موارد عدم حصول العلم من
الاخبار فلا يصدق الكتمان لتدلّ الآية على حرمته وبالتالي على حجية الاخبار.
وفيه ـ انَّ
الكتمان وإِنْ كان هو إخفاء الحقيقة إِلاّ انَّه الإخفاء النسبي لا المطلق أي
الإبراز من ناحية المخبر لا مطلقا فمن لا يكون قوله مفيداً للعلم لعدم وثاقته
مثلاً أيضا يصدق الكتمان على إخفائه للحقيقة.
والصحيح الإيراد
على الاستدلال المذكور بوجوه أُخرى أهمّها ما يلي :
١ ـ ما أشرنا إليه
في مناقشة الاستدلال بآية النفر من عدم المحذور في جعل وجوب الإنذار أو الإظهار
مطلقاً مع كون الغاية و
الغرض منه وهو
وجوب القبول مخصوصاً بصورة العلم وانَّما جعل وجوب الاخبار مطلقاً من جهة احتياط
المشرع في مقام تحصيل ذلك الغرض.
٢ ـ من المحتمل
قوياً انَّ التحريم في الآية الكريمة نفسي لا طريقي ، لأنَّ الكتمان كأنَّه عبارة
عن تعمّد إخفاء الحقيقة وهذا نحو مقابلة مع الدين ومعاندة فيكون من المحرمات
النفسيّة بل من أعظمها ولهذا صبّت في الآية على مرتكبها لعنة الله ولعنة اللاعنين
، ولا ملازمة بين التحريم النفسيّ للكتمان من باب كونه عناداً مع الدين ووجوب
القبول كما لا يخفى.
٣ ـ انَّ كلمة (
الكتاب ) لعلَّ المراد منه القرآن الكريم لا التوراة والإنجيل فيكون المقصود انَّه
بعد ما بيّنا في الكتاب الكريم انَّ النبيّ قد توفّرت بشائر نبوته في كتب العهدين
وانَّ اسمه وأوصافه مذكورة ومسطورة عندهم في التوراة والإنجيل فمن ينكر أو يكتم علمه
بذلك من أهل الديانتين مع كونه مطّلعاً عليه بحكم كونه من العلماء بما جاء في
العهدين عداوة لهذا الدين وصاحبه فأولئك يلعنهم الله واللاعنون ، ومن الواضح انَّ
الكتمان والسكوت من هؤلاء يعد تكذيباً لما جاء في القرآن الكريم لا مجرد عدم إظهار
الحقّ ، فانَّ نفي العلم والاطلاع أو السكوت ممن يكون أهل الاطلاع بالنحو المذكور
بنفسه تكذيب وتشكيك في صدق ما يدعيه القرآن الكريم من مجيء بشائر نبوة
رسول الله 6 في كتب العهدين
وهو من أعظم المحرمات وأجنبي عن مسألة حجية الاخبار.
الاستدلال بآية الذّكر :
ومن جملة ما
يستدلّ بها قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .
وتقريب الاستدلال
بها استفادة وجوب القبول بالملازمة من وجوب السؤال وبالإطلاق لصورة عدم حصول العلم
من الجواب تثبت حجيته ، وقد فسّر أهل الذّكر بأهل العلم والاطلاع وهو صادق بالنسبة
إلى كل فئة بحسبه فالرواة بالنسبة إلى المجتهدين أهل اطلاع وعلم والمجتهدين
بالنسبة إلى العوام أهل العلم والأئمة والأنبياء بالنسبة إلى جميع البشر أهل
الذّكر والعلم ، فيمكن أَنْ يستدلّ بها على حجية جميع ذلك كلّ بحسبه.
ويرد عليه وجوه
نقتصر منها على ما يلي :
١ ـ ما أشرنا إليه
من عدم الملازمة بين وجوب السؤال ووجوب القبول تعبداً.
٢ ـ انَّ سياق
الآية لا يبقي مجالاً للشك في انَّها واردة في مقام المخاصمة مع المنكرين للنبي 6 بدعوى انَّه
إنسان كسائر البشر في حاجاته وهو لا يناسب مع السفارة الربانية فيناقشهم القرآن
الكريم في سياق الآية مؤكداً على انَّ الرسالات كلّها كانت على أيدي رجال من البشر
ثمّ يحولهم في ذلك على مراجعة أهل الذّكر ، لأنَّ المشركين لم يكونوا من أهل
الكتاب والنبوات السابقة لكي يعلموا مباشرة هذه الحقيقة ، ومن الواضح انَّ هذا
المقام ليس مقام جعل الحجية والتعبد بوجه أصلاً بل مقام المخاصمة والإحالة
الطبيعية إلى كيفية الوصول إلى الحقّ والحقيقة.
ويؤكد هذا بل يدلّ
عليه انَّ متعلّق السؤال في الآية محذوف ولكنه ليس مطلقاً كما قد يتوهم بل بقرينة
التفريع نفهم انَّ السؤال عن بشرية الأنبياء في جميع الرسالات
__________________
وهو من حقائق أصول
الدين فلا معنى للتعبد فيها.
ويؤيد ذلك أيضا
التعبير في ذيلها ـ إِنْ كنتم لا تعلمون ـ الظاهر في انَّ السؤال من أجل تحصيل
العلم والإطلاق المفقود لديهم.
وبما ذكرنا ظهر
انَّ المراد من الذّكر هو الكتاب والدين وقد استعمل في القرآن الكريم كثيراً بهذا
المعنى حيث أطلق على الكتاب الكريم وعلى التوراة في عدة مواضع.
وامَّا ما ورد في
تفسيرها من انَّ المراد بأهل الذّكر الأئمة : فلا شك في انَّهم هم أهل الذّكر الحقيقيّين لأنَّهم ورثة
كلّ الرسالات والشرائع والكتب السماوية وورثة آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وكلّ من
تقدمهم من أنبياء الله ورسله ، إِلاّ انَّ هذا من التفسير بالباطن لا الظاهر
وإِلاّ فلا معنى ولا مناسبة في إرجاع المشكّكين في نبوة محمد 6 إلى الأئمة : لإثبات حقانية
الرسول ودفع شبهة بشريته.
وبهذا نختم الحديث
عن الاستدلال على حجية خبر الواحد بالآيات الكريمة وقد ظهر انَّه لا توجد فيها آية
تدلّ على ذلك.
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالسنة :
لا بدَّ أَنْ نشير
قبل استعراض الروايات التي يستدلّ بها على حجية خبر الواحد إلى انَّ الأصحاب ذكروا
في تحديد منهج هذا الاستدلال بأنه لا بدَّ وأَنْ تكون السنة التي يراد إثبات حجية
خبر الواحد بها متواترة قطعية. وقد عمّق صاحب الكفاية ( قده ) هذه الفكرة بأنه
يكفي أَنْ يثبت ولو بالتواتر الإجمالي حجية خبر واحد واجد لأخص صفات الاعتبار
كالعدالة مثلاً والظنّ أو الوثوق بصدق مضمونه إذ نثبت حينئذ حجية سائر اخبار
الثقات التي لا تكون من الصحيح الأعلائي بالتمسّك بإطلاق رواية تدلّ على الحجية
وتكون من حيث السند صحيحاً واجداً للشروط المتقدمة ، وهذا يعني انَّ حجية الصحيح
الأعلائي يثبت بالقطع وحجية سائر المراتب من الموثق تثبت بالحجة وهذا منهج صحيح
فنّي نظرياً ولكن المحققين لم يصرفوا الجهد بعد ذلك في ملاحظة تطبيقه على ما
بأيدينا من الأحاديث والروايات الدالة على حجية خبر الواحد.
والمتتبع في
الروايات التي صنفت تحت عنوان حجية خبر الثقة يرى انَّ أكثرها
لا دلالة لها على
الحجية أصلاً وما يتبقى منها بعد فرز ذلك لا يكاد يبلغ حد التواتر إذ لا يزيد على
خمس عشرة رواية وفيما يلي نشير إلى الطوائف المستدلّ بها على الحجيّة في مجموع
الاخبار التي ذكرت تحت هذا العنوان على ما جاء في كتاب جامع أحاديث الشيعة الّذي
حاول أن يجمع كافة أحاديثنا في هذا المجال.
١ ـ ما ورد بعنوان
تصديق الإمام لبعض الروايات بعينها على نحو القضية الخارجية ، كما في رواية أبي
بصير حماد بن عبيد الله بن أسيد المروي عن داود بن القاسم انَّ أبا جعفر الجعفري
قال أدخلت كتاب يوم وليلة الّذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري 7 فنظر فيه وتصفّح
كلَّه ثم قال : هذا ديني ودين آبائي وهو الحقّ كلّه .
وواضح انَّ هذه
الطائفة لا تدلّ على أكثر من التصديق الشخصي بنحو القضية الخارجية لبعض الروايات
وهذا غير الحجية.
٢ ـ ما ورد بعنوان
لزوم التسليم لما ورد عنهم والانقياد له ، من قبيل رواية الحسن بن جهم قال قلت
للعبد الصالح هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إِلاّ التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا
يسعكم إِلاّ التسليم لنا.
وواضح عدم دلالتها
أيضا ، لأنَّها تنظر إلى ما هو قول المعصوم وصادر عنه وانَّه لا بدَّ من التسليم
والانقياد لهم وعدم إعمال الذوق والاجتهاد في مقابلهم كما كان يفعل العامة.
٣ ـ ما ورد بعنوان
الحثّ على تحمل الحديث ونقله ، من قبيل رواية جابر عن أبي جعفر 7 قال : سارعوا في
طلب العلم فو الّذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير من
الدنيا وما حملت من ذهب وفضة ... إلخ.
ومثلها أحاديث
منقولة عن رسول الله 6 ( من حفظ من أُمتي أربعين حديثاً ممّا يحتاجون إليه في أمر
دينهم بعثه الله عزّ وجلّ يوم القيامة فقيهاً عالماً ) .
__________________
وهي تدلّ على
الحثّ على المعرفة الإسلامية ولا إشكال في انَّه من أفضل الأعمال بل مرتبة منه
واجبة كفاية على الأمة ، وهو أجنبي عن محل الكلام اللهم إِلاّ من باب الملازمة
التي تقدم جوابها.
٤ ـ ما ورد بعنوان
الإحالة على أشخاص معينين ، من قبيل ما ورد في أحوال السيد الشريف عبد العظيم
الحسني (ره) عن أبا حماد الرازي يقول دخلت على علي بن محمد 7 بسرّ مَن رأى
فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها فلمّا ودعته قال لي يا أبا حماد
إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني
وأقرئه منّي السلام .
وهي حوالة على
أشخاص معيّنين ، فحتى لو سلّم دلالتها على انَّ الإحالة المذكورة أعمّ من الإحالة
على الفقيه في أخذ الفتوى بحيث تشمل الإحالة على الراوي مع ذلك لا تدلّ على الحجية
المطلوبة في المقام ، إذ لعلَّ ذلك باعتبار علم الإمام 7 بأنَّ أولئك
الأشخاص لا يكذبون لكونهم على مرتبة عظيمة من التقوي والجلالة ، وهذا أمر قد يتّفق
حصول العلم به لغير المعصوم 7 فكيف به ، نعم لا بأس بأَنْ يستأنس منها حجية أصالة عدم
الغفلة الثابتة عقلائياً أيضا.
٥ ـ ما أُمر فيها
بنقل الحديث وتداوله ، من قبيل رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله 7 قال يا أبان إذا
قدمت الكوفة فاروِ هذا الحديث : من شهد انَّ لا إِله إِلاّ الله مخلصاً وجبت له
الجنة .
وهي أيضا لا تدلّ
على المطلوب إِلاّ بتوهّم الملازمة بين الأمر بالرواية ووجوب القبول تعبداً وقد
مرَّ تفنيدها.
٦ ـ ما دلَّ على
الثناء على المحدثين ورواة أحاديث أهل البيت : وتراثهم ، من قبيل رواية عيسى بن عبد الله العلوي العمري
عن أبيه عن آبائه عن علي 7 قال قال رسول الله 6 ، اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك
قال
__________________
الذين يبلغون
حديثي وسنّتي ثمّ يعلمونها أمّتي .
وهي أيضا لا دلالة
فيها على المطلوب ، لأنَّها ناظرة إلى وجوب حفظ التراث وتعليمه الناس وذلك لا يدلّ
على الحجية إِلاّ على الملازمة غير الصحيحة على ما تقدم.
٧ ـ ما دلَّ على
انَّ انتفاع السامع للحديث قد يكون أكثر من انتفاع راويه ، من قبيل ما عن غوالي
اللئالي عنه 6 انَّه قال : رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فربّ حامل فقه
ليس بفقيه وفي رواية ـ فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه والاستدلال بها
مبني على دعوى انَّ انتفاع السامع فرع الحجية.
وفيه : انَّها
ليست في مقام بيان انَّه متى يثبت صدور الحديث عن المعصوم وانَّما يتعرّض بعد
الفراغ عن ثبوته إلى انَّه ربما يكون السامع أفضل فهماً وأكثر ورعاً من المتحمل
للحديث المطلع عليه مباشرة وأين هذا من الحجية؟
٨ ـ ما دلّت من
الأحاديث على انَّ على رأس كلّ قرن يبعث الله من يحفظ هذا الدين ويحميه ويرد عنه
الإشكالات والشبهات ويتمّ الحجة على الناس لتبقى كلمة الله وحجته قائمة إلى يوم
الدين ، وهي أيضا أجنبية عن الحجية التعبدية بل تدلّ على الحجية الحقيقية والتمييز
بين الحقّ والباطل ودحضه بالبرهان المبين ، وهذا شيء ثابت بالتجربة الخارجية أيضا.
٩ ـ ما دلَّ على
الترغيب في حفظ الكذب وكتابة الأحاديث ، كما في حديث عبيد بن زرارة قال ، قال :
أبو عبد الله 7 احفظوا بكتبكم فإنَّكم سوف تحتاجون إليها .
والاستدلال بها
مبني على دعوى الملازمة بين وجوب الحفظ والكتابة الطريقي ووجوب القبول والحجية وقد
عرفت تفنيدها بل في الأمر بالحفظ والكتابة لوحظ صيانة نفس الراوي ، الأمر الّذي
فيه غرض نفسي سواءً كان نقله حجة للغير أم لا.
__________________
١٠ ـ ما دلَّ على
التحذير من التحريف في نقل الحديث ، من قبيل رواية أبي بصير عن أحدهما 8 في قول الله
تعالى فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
قال هم المسلِّمون
لآل محمد صلوات الله عليهم إذا سمعوا الحديث أدّوه كما سمعوه لا يزيدون ولا ينقصون
.
وهي أيضا أجنبية
عن المدّعى ، لأنَّها تنظر إلى وظيفة الراوي وانَّه لا يجوز له التحريف وهو أمر
واجب في نفسه سواءً كان نقله حجة أم لا.
١١ ـ ما دلَّ على
جواز نقل الحديث بالمعنى ، من قبيل رواية محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله 7 اسمع الحديث منك
فأزيد وأنقص؟ قال إِنْ كنت تريد معانيه فلا بأس .
وهي أيضا لا تدلّ
على المطلوب ، لنظرها إلى تحديد وظيفة الراوي في مقام النقل وتحمل الحديث.
١٢ ـ ما دلَّ على
وجوب السماع من صادق ، من قبيل رواية المفضل بن عمر قال قال أبو عبد الله 7 من دان الله بغير
سماع عن صادق ألزمه الله التيه إلى العناء ومن ادّعى سماعاً من غير الباب الّذي
فتحه الله فهو مشرك وذلك الباب المأمون على سرّ الله المكنون ومثلها غيرها .
وواضح انَّ المراد
بالصادق فيها الإمام 7 لا مطلق الثقة ، ولهذا عبر عنه ( بمن دان الله ) أي المراد
الصادق بقول مطلق الّذي هو المعصوم ويشهد بذلك ذيل الحديث.
١٣ ـ ما دلَّ على
حجية نقل ثقات الإمام 7 ، من قبيل رواية المراغي وقد ورد في ذيلها ( لا عذر لأحد
من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم بسرنا
ونحمله ( إِيّاه ) إِليهم وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله ) .
وهي أيضا لا تدلّ
على حجية خبر الثقة ، لأنَّ الوارد فيه عنوان ثقاتنا وعنوان ثقتي
__________________
أخص من عنوان
الثقة المطلق بل يدلّ على انَّ أولئك ممن اصطفاهم الإمام 7 وجعلهم حملة علمه
وسرّه ومثله لا إشكال في صدقه وعدم تطرّق احتمال الكذب إليه.
١٤ ـ ما دلَّ على
المنع من رفض الرواية لمجرّد رأي وذوق واستحسان ، من قبيل ما جاء في رواية الحذاء
( وأمقتهم ـ أي من أصحابه ـ للذي إذا سمع الحديث ينسب إِلينا ويروي عنّا فلم يقبله
واشمأزّ منه وجحده وكفَّر من دان به وهو لا يدري لعلَّ الحديث من عندنا خرج
وإِلينا أسند فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا ) .
وهي أيضا أجنبية
عن المدعى ، لأنَّها تنهى عن إعمال الرّأي والاستحسان والذوق وردّ الحديث لمجرد
ذلك بل تكفير من يدين به وجعل الدين ما يراه بحسب ذوقه ولا ينافي ذلك مع عدم حجية
خبر الواحد.
١٥ ـ ما دلَّ على
الترجيح عند التعارض بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، بدعوى انَّ ذلك دليل على
حجية الخبر في نفسه وإِلاّ لما وقع تعارض بين حجتين.
وفيه : يمكن إرادة
الحجية القطعية كما إذا كان الخبر قطعي السند ، وليست هذه الطائفة من اخبار
الترجيح والعلاج في مقام البيان من ناحية حجية أصل الخبر ليتمسّك بإطلاقها كما هو
واضح.
وهكذا يتّضح انَّ
هذه الطوائف لا دلالة في شيء منها على المطلوب وبعد إفرازها لا تبقى لدينا أكثر من
خمس عشرة رواية ممّا قد تتمّ دلالتها على الحجية وهو عدد لا يبلغ حدّ التواتر.
ولكن في خصوص
المقام هناك بعض القرائن الكيفية التي قد توجب حصول الاطمئنان بصدور بعض هذه الروايات
إذا ما لوحظت إلى جانب الخصوصية الكمية ، والميزان هو الاطمئنان لا صدق عنوان
التواتر ، بل هناك رواية واحدة يمكن دعوى القطع أو الاطمئنان الشخصي بعدم تعمد شيء
من رواتها للكذب فيها لخصائص في سندها على ما سوف يأتي شرحها ، ولو فرض عدم حصول
ذلك منها فلا أقلّ من حصوله بها مع ضمّ الروايات الأُخرى إليه.
__________________
وفيما يلي نستعرض
هذه الروايات جاعلين محور الاستدلال وأساسه تلك الرواية التي أشرنا إليها وهي
رواية الحميري (ره) فنقول :
روى الكليني ( قده
) عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى العطار جميعاً عن عبد الله بن جعفر
الحميري ، قال اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو ـ عثمان بن سعيد (ره) ـ عند أحمد بن
إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أَنْ أسأله عن الخلف ـ أي الحجة ( عجل الله فرجه ) ـ فقلت
له يا أبا عمرو إنِّي أُريد أَنْ أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أُريد أَنْ أسألك
عنه فانَّ اعتقادي وديني انَّ الأرض لا تخلو من حجة إِلاّ إذا كان قبل القيامة
بأربعين يوماً فإذا كان ذلك وقعت الحجة وأغلق باب التوبة فلم يك ينفع نفساً
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً فأولئك شرار من خلق الله عزّ
وجلَّ وهم الذين تقوم عليهم القيامة ولكنّي أحببت أَنْ ازداد يقيناً وانَّ إبراهيم
سئل ربّه عزّ وجلّ أَنْ يريه كيف يحي الموتى قال أو لمْ تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي ، وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن 7 قال. سألته وقلت
من أعامل أو عمّن أخذ وقول من أقبل فقال له العمري ثقتي فما أدّى إِليك عنّي فعني
يؤدّي وما قال لك عنّي فعني يقول فاسمع له وأطع فانَّه الثقة المأمون ، وأخبرني
أبو علي انَّه سئل أبا محمد عن مثل ذلك فقال له العمري وابنه ثقتان فما أديا إِليك
عنّي فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فانهما الثقتان
المأمونان فهذا قول إمامين قد مضيا فيك ، قال فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثمّ قال
سل حاجتك فقلت له أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد 7 فقال أي والله ورقبته مثل ذا ، وأومأ بيده. فقلت له فبقيت
واحدة فقال هات قلت فالاسم؟ قال محرم عليكم أَنْ تسألوا عن ذلك ولا أقول هذا من
عندي فليس لي أَنْ أحلل ولا أحرم ولكن عنه 7 ، فانَّ الأمر عند السلطان انَّ أبا محمد 7 مضى ولم يخلف
ولداً وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له فيه وهو ذا عياله يجولون ليس لأحد أَنْ يتعرف
إليهم أو ينيلهم شيئاً وإذا وقع الاسم وقع الطلب فاتّقوا الله وأمسكوا عن ذلك .
__________________
والكلام في هذا
الحديث الشريف من حيث السند تارة والدلالة أُخرى.
امَّا من حيث
السند فهي مظنونة الصدق ظنّاً شخصياً اطمئنانياً ، من ناحية عدم تعمد الكذب على
الأقل بحيث نحتاج فقط إلى ضمّ أصالة عدم الغفلة العقلائية لقرائن سوف نذكرها ، ولو
فرض عدم حصول الظنّ الاطمئناني المذكور من تلك القرائن الخاصة أمكن تكميل الظنّ
المذكور بضمّ الروايات الأُخرى التي سوف نوردها. وإِنْ فرض التشكيك في كلّ ذلك
وعدم حصول اطمئنان شخصي فلا إشكال انَّ هذا السند من أعلى الأسانيد الّذي أفراده
كلّهم أصحاء بالوجدان لا التعبد فيكون هو القدر المتيقن من السيرة العقلائية
الدالة على الحجية وبذلك تثبت حجية تمام مفاده فإذا كان مفاده حجية مطلق خبر الثقة
أثبتنا به حجية مطلق خبر الثقة.
والحديث موجود في
الكافي الكتاب الّذي لا شك في انَّه للكليني ( قده ) لأنَّ أصله ثابت لنا بالتواتر
القطعي ، واحتمال التصحيف والاشتباه من النساخ في خصوص هذه الرواية منتفٍ باتفاق
النسخ الموجودة منه وتطابقها مع ما نقل أصحاب الكتب الأُخرى عنه ، إِذن فكان
الرواية مسموعة من الشيخ الكليني ( قده ) وهو شخص لا يتطرق إليه احتمال تعمد الكذب
وذلك واضح لمن تأمل جلالة مقامه واتفاق الفقهاء على ورعه وتقواه وإتقانه ، حتى
انَّ الشيخ الطوسي ذكر في ترجمته انَّه ما ألف شخص كتاباً في الإسلام أثبت وأضبط
من الكافي. ومثل هذه الشهادة موجودة من غير الشيخ الطوسي في حقّه أيضا ، واحتمال
الخطأ منه ضعيف. مضافاً إلى إمكان نفيه بأصالة عدم الغفلة ، مع انَّ الرواية
منقولة عن شخصين ممّا يبعد احتمال الخطأ فيه. وبعد الكليني يوجد شخصان محمد بن
يحيى العطار الّذي هو ثقة جليل القدر مشهور بذلك مشهود له من قبل الشيخ الطوسي
والنجاشي وغيرهما ولم يغمز فيه حتى من قبل المتوسعين في الغمز ، وقد عبر عنه
النجاشي بأنَّه شيخ أصحابنا في عصره ومثله لا يحتمل تعمد كذبه جزماً بل يطمئن
بصدقة ، هذا إذا كان وحده فكيف إذا انضم إليه محمد بن عبد الله الحميري الّذي هو
مثله أيضا في اتفاق كلمة الأصحاب على توثيقه وجلالة قدره ومكانته وانَّه كان له
مراسلات مع الإمام 7 ، وبعدهما عبد الله بن جعفر الحميري الّذي كان من أجلاء
الطائفة أيضا معروف بوثاقته وضبطه
حتى قال النجاشي
انَّه شيخ أصحابنا في قم الّذي كان موطناً لحوزة معروفة بالنقد والحساسية تجاه من
يروي عن الضعاف فضلاً عن الضعيف نفسه وهو ينقل فقرة الاستدلال في الرواية عن مجلس
أحمد بن إسحاق وهو من أجلاء الأصحاب وقد كان جالساً فيه أيضا عثمان بن سعيد الّذي
هو من خواص الإمام العسكري وثقاته وأبوابه وأحد النوّاب الأربعة ، إِذن فمثل هذه
السلسلة الذهبيّة ممّا يطمئن بصدق تمام رواتها.
وامَّا من حيث
الدلالة ففيها فقرتان يمكن الاستدلال بكل منهما :
الأُولى ـ ما صدر
من الإمام أبي الحسن الثالث 7 ( العمري ثقتي فما أدّى إليك فعني يؤدي وما قال لك عنّي
فعنّي يقول فاسمع له وأطع فانَّه الثقة المأمون ).
وصدر هذه الفقرة
وإِنْ كانت حوالة شخصية على العمري فتكون نظير الحوالة على السيد عبد العظيم
الحسني في الطائفة الرابعة المتقدمة وقد ذكرنا انَّها لا تدلّ على المطلوب إذ
يحتمل قوياً انَّه من جهة القطع العادي بصدق ذلك الشخص وعدم تعمد كذبه ، إِلاّ
انَّ الاستدلال بذيلها حيث انَّه ورد فيه التعليل بقوله ( فاسمع له وأطع فانَّه
الثقة المأمون ) وهو بمثابة كبرى كلية أُشير إِليها وهي انَّ كلّ ثقة مأمون يسمع
له وهو معنى حجية خبر الثقة. وقد يلاحظ على هذا الاستدلال بتشكيكين.
الأول
ـ انَّ هذه الحوالة
حوالة على مرتبة عالية من الوثاقة لا مجرد كون الشخص ثقة متحرجاً بحسب طبعه عن
الكذب ، وذلك بقرينة ما جاء في الصدر من انَّ العمري ثقتي فانَّ من ينصب من قبل
الإمام يكون عادة على مكانة عالية من الوثاقة والعدالة والتعليل تفريع على ذلك ،
هذا مضافاً إلى انَّ التعليل ورد بعنوان انَّه الثقة المأمون واللام في مثل هذا
المقام كما أفاد علماء العربية تدلّ على الكمال كما في قولك انَّه الفقيه العالم ،
فغاية ما يقتضيه التعليل هو التعدّي إلى الثقة المطلق أي من كان غاية في الوثاقة
والأمانة ومثله قد يحصل الاطمئنان بقوله عادة.
وفيه : عدم تمامية
القرينتين معاً ، امَّا الأولى فلأنَّ مجرد التفريع على الصدر لا يضرّ بعموم
التعليل المشير إلى قاعدة كلية مركوزة والتمسك به لا بالصدر.
وامَّا الثانية ـ فلأنَّ
اللام ليس من معانيها الكمال بل هي للجنس والعهد بل الجنس أيضا نوع عهد ذهني كما
قال صاحب الكفاية ( قده ) ومنشأ استفادة الكمال
مناسبة حمل اسم
الجنس المعرّف باللام على الشخص فانَّه حيث لا معهودية لشخص معين ووضوح عدم كونه
الجنس بما هو جنس معهود ذهناً فيشعر ذلك بوجود عناية ملحوظة في هذا الحمل ، وقد
اعتبروا العناية الملحوظة كونه على مرتبة عالية من المعنى المفاد باسم الجنس التي
تكون متعينة بذاتها لكونها مرتبة جلية واضحة. ولكن كما يمكن أَنْ تكون العناية ذلك
يمكن أَنْ تكون العناية وضوح المصداقية للجنس وانطباقه عليه إثباتاً بل هذا هو
المناسب في مقام التعيين .
الثاني
ـ انَّ هذه الحوالة يحتمل في حقّها أَنْ تكون من باب الإرجاع
إلى المقلَّد في مقام أخذ الفتوى لا الإرجاع إلى الراوي بقرينة قوله ( وأطع ).
وفيه : انَّ وجوب
الإطاعة لا يناسب عرفاً بالنسبة إلى المفتي أيضا وانَّما يناسب الحاكمية والولاية
، فلا بدَّ وأَنْ يحمل على الإطاعة في استماع الاخبار التي ينقلها عن الإمام 7 ولزوم تصديقه
فيها. وممّا يدلّ على ذلك انَّ المأمور هو أَحمد بن إسحاق الّذي لم يكن من العوام
بل من خواص الأئمة : ومن أصحاب الكتب والمقام وله تلاميذ كما يظهر من ترجمة
حاله فلا يناسب إرجاعه إلى العمري في التقليد بل إرجاع له إليه في الروايات
باعتباره كان يعيش في حوزة قم البعيدة عن موطن الإمام ( عجل الله فرجه ).
الفقرة الثانية ـ ما
صدر عن الإمام العسكري 7 في حقّ ( عثمان بن سعيد العمري وابنه ثقتان فما أديا إِليك
عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنَّهما الثقتان
المأمونان ).
وتقريب الاستدلال
بها كما تقدّم ، بل الاستدلال بهذه الفقرة أولى وأوضح لعدم تفريع التعليل فيها على
قوله ( ثقتي ) بل على قوله ( انَّهما ثقتان ) ، كما لا يحتمل أَنْ يكون هذا
الإرجاع من باب الإرجاع إلى باب الإمام 7 لأنَّ ابنه لم يكن باباً للإمام الحادي
__________________
عشر لكي يحول
أَحمد بن إسحاق عليه بل هي إحالة على الثقة في مقام قبول اخباره .
ومن جملة هذه
الروايات صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله 7 انَّه ليس كلّ
ساعة ألقاك يمكن القدوم ويجيء الرّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني
عنه قال : فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فانَّه قد سمع أبي وكان عنده مرضياً
وجيهاً .
وهي من حيث السند
صحيحة ورواتها كلهم من الثقات بالوثاقة الوجدانية ، وهناك طريقان لها ممّا يعزز
صدورها.
وامَّا الدلالة
فالاستدلال بها لمكان التعبير الوارد فيها ( فما يمنعك. ). المشعر بالمفروغية عن
كبرى مركوزة يراد تنبيه السائل وإلفاته إليها وليست هي إِلاّ حجية خبر الثقة ،
وهذه الإحالة ليست من الإرجاع في التقليد لوضوح انَّ ابن أبي يعفور كان من أجلّة
الأصحاب والعلماء وأصحاب المصنفات وكان ممّن يرجع إليه في الحلال والحرام كما هو
يذكره في سؤاله من الإمام 7 في هذه الرواية فليس الإرجاع إِلاّ بملاك الإرجاع إلى
الأحاديث والروايات ، كما انَّ التعليل بالوجاهة يراد به الوجاهة الدينية المساوقة
مع الوثاقة في النقل بحسب مناسبات الحكم والموضوع فتكون الرواية دالة على إمضاء
كبرى حجية خبر الثقة.
ومن جملة هذه
الروايات صحيحة يونس بن يعقوب ، قال كنّا عند أبي عبد الله 7
__________________
فقال أما لكم من
مفزع أما لكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة .
والاستدلال بها
كالاستدلال بما سبقها وبنفس النكتة المشار إليها.
وهناك روايات
أُخرى لا بأس بدلالتها أيضا على الحجية من قبيل رواية محمد بن عيسى عن الرضا 7 قال قلت لأبي
الحسن جعلت فداك إنِّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني
أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال نعم .
فانَّ ظاهرها انَّ
السائل يشير فيها إلى الكبرى المركوزة ويطبقها على يونس بن عبد الرحمن والإمام 7 يمضي ذلك ويأمره
باتباعه وقبول قوله.
إِلاّ انَّ هذه
الرواية وغيرها ممّا يمكن أَنْ يستدلّ بها على الحجية غير صحيحة السند فتكون قيمها
الاحتمالية ضعيفة نسبياً فتصلح لأنْ تكون مؤيدة مكملة للقيمة التصديقية المطلوبة
في الرواية التي جعلناها محور كلامنا.
الاستدلال بالإجماع والسيرة :
وهو بحسب روحه
استدلال بالسنة إِلاّ انَّها تستكشف بالدليل القطعي المتمثل في سيرة المتشرعة وعمل
الأصحاب أو سيرة العقلاء.
وقد ذكر الشيخ
الأعظم ( قده ) في الرسائل وجوهاً عديدة لتقريب الإجماع أوجهها تقريبه بالسيرة
فنقتصر عليها في المقام ، وهي تارة : تقرب كسيرة متشرعة وعمل أصحاب الأئمة. وأُخرى
: كسيرة العقلاء وعلمهم. فهنا تقريبان تقدم نظيرهما في بحث حجية الظواهر وبيان
منهجة الاستدلال بكلّ منهما ولذلك نوجز في المقام تلك النكات ضمن تطبيقه على خبر
الثقة فنقول :
التقريب
الأول ـ الاستدلال بالسيرة العقلائية ، ذلك انَّه لا ينبغي الإشكال
في
__________________
وجود مسوغات
عقلائية تقتضي العمل بخبر الثقة في مقام تشخيص الوظيفة العملية وهذه المسوغات
سواءً افترضنا نشأها عن استقرار عادتهم على الاكتفاء بخبر الثقة في مجال أغراضهم
التكوينية أو استقرار بنائهم على حجيته في مجال الإدانة وتحميل المسئولية فهي على
كلّ حال تشكّل للعرف العام عادة عقلائية تقتضي أو تعرض على الأقل العقلاء على
الإقدام بالعمل بخبر الثقة ، فلو كان الشارع لا يرضى بذلك كان عليه أَنْ يردع عن
مثل هذا الديدن ويمنع عن تعرض أغراضه الشرعية لمثل هذه العادة ، فيستكشف من عدم
الردع الإمضاء بأحد التقريبات المتقدمة في مسألة حجية الظواهر ، كما انَّ عدم
الردع نحرزه من عدم وصوله في مسألة من هذا القبيل توجد فيه مقتضيات الوصول ، وبهذا
قد اتّضح انَّ الاستدلال بهذه السيرة لا يتوقّف على افتراض انعقادها على حجية خبر
الثقة بعنوانه بل يكفي حصول العادة والطريقة بنحو يعرض أغراض الشارع إلى الخطر
فيما إذا لم تكن طريقة مشروعة وتحقق هذه العادة لا ينبغي التشكيك فيها مهما شكك في
مناشئها وجذورها.
التقريب
الثاني ـ الاستدلال بالسيرة المتشرعية من أصحاب الأئمة : وعلماء الطائفة ،
فانَّه لا إِشكال في انَّ الروايات التي بأيدينا ليس رواتها كلّهم من الأجلاء
الذين لا يحتمل في حقّهم تعمد الكذب كيف وفي الرّواة من ثبت كونه وضّاعاً دجّالاً
كما شهد بذلك الأئمة : في حقّ بعضهم وشهد بذلك النقّادون من علماء الرّجال وكبار
الطائفة ، بل انَّ بعض الرّواة أيضا كان يتّهم بعضهم بعضاً ويكذبه ، وبين القسمين
طائفة منهم كانوا وسطاً بين الطائفتين وهم أكثر الرّواة حيث لا يعهد انَّهم على
تلك المرتبة العالية من التقوي والورع والضبط ولكن لا يعرف في حقّهم الوضع والدّس
أو الكذب ، ولا إِشكال انَّ روايات مثل هذه الطائفة لم يكن يحصل منها العلم أو
الاطمئنان والفقهاء وأصحاب الأئمة : كانوا يواجهون هذه الروايات في أكثر المسائل الفقهية ،
لأنَّ الأحاديث هي أساس الفقه وعماده عند جميع المذاهب الفقهية الإسلامية فلا بدَّ
لهم من موقف تجاهها ولا يحتمل أَنْ يكون موقفهم تجاهها الرفض من دون استعلام حالها
عن الإمام 7 إذ كيف يمكن افتراض ذلك مع انَّ العمل بخبر الثقة إِنْ لم يكن عقلائيّاً فلا
أقلّ انَّه ليس مرفوضاً عقلائيّاً فكيف يفرض عدم استعلام حال حجيته
عنهم : مع كون الشبهة
حكمية بل أُمّ الشبهات التي يقوم عليها عماد الفقه ، كما لا يحتمل انَّهم رفضوها
بعد استعلام حالها عن المعصومين : إذ كيف يمكن فرض ذلك مع عدم وصول رواية على المنع بل ما
وصل امَّا دال على الحجية أو مناسب معها قابل للحمل عليها ، بل أساساً احتمال رفض
العمل بهذه الاخبار غير وارد للقطع بعملهم بها وإِلاّ لم يقم للفقه عماد ولما وقع
هذا الاهتمام بها في مقام النقل والضبط والإفتاء. كما انَّه لو فرض ممنوعية هذا
العمل شرعاً كان لزوم الردع عنه أوضح من الردع عن القياس والاستحسان ، لأنَّ جميع
المدارس الفقهية من أصحاب الرّأي والحديث كانوا معاً يذهبون إلى حجيته بخلاف
القياس فكيف لم يرد ما يشعر بالردع بل ورد ما يدلّ على الإمضاء والقبول. وامَّا احتمال
أَنْ يكونوا قد عملوا بها من دون سؤال جرياً على سليقتهم العقلائية أو الموروثة من
عصر النبي 6 والصحابة أو من جهة استعلام ذلك عن المعصومين : واستفادة أمرهم بذلك من الروايات المتقدمة وغيرها ممّا
يحتمل صدوره عنهم ، فهذان الاحتمالان كلاهما بصالح الحجية فانَّ ذلك يكشف عن السنة
المتمثلة في تقرير المعصوم لعمل أصحابه أو بيان موافق صادر منه إِليهم وامَّا
احتمال انَّهم قد عملوا بها لحصول العلم أو الاطمئنان لهم منها فهو بعيد بل ممّا
يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الأعظم في رسائله وأبرز قرائن وشواهد عليه فراجع وتأمل.
وبهذا التقريب
للاستدلال بالسيرة على الحجية لا يبقى مجال للإيراد المعروف من انَّ السيرة مردوع
عنها بعمومات النهي عن اتباع الظنّ وغير العلم ، فانَّ التقريب المذكور يدلّ على
انعقاد عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة : بالفعل على العمل باخبار الثقات ممّا يعني عدم كفاية
وصلاحية تلك العمومات لردعهم ، فلا يحتمل أَنْ يكون الإمام 7 قد اعتمد عليها
في مقام الردع بل نفس انعقاد سيرتهم دليل قطعي على عدم شمول تلك النواهي للعمل
بخبر الثقة. نعم على التقريب الأول من الاستدلال بالسيرة ينفتح مجال لمثل هذه
الشبهة ويكون جوابنا عليها ما تقدّم في تأسيس الأصل من عدم صحة الاعتماد في مقام
الردع عن سيرة عقلائية راسخة وطبع وسليقة مستحكمة بهذه الدرجة على مجرد إطلاق أو
عموم من هذا القبيل والّذي قد وقع الخلاف في أصل دلالتها ، ولهذا نجد انَّ الشارع
لم يكتف في مقام الردع عن العمل
بالقياس بذلك بل
أكّد وشدد النكير فيه حتى صار ذلك واضحاً جلياً فلو كان العمل بخبر الثقة كذلك
أيضا لصار بصدد الردع عنه كذلك خصوصاً مع انَّ الحاجة إلى العمل به أشد وأركز
وتورط الناس عموماً والمسلمين خصوصاً بالأخذ والعمل بأحاديث الثقات أكثر. هذا
مضافاً إلى ما تقدّم من المناقشة في أصل دلالة هذه النواهي على عدم الحجية فراجع.
وقد واجه
المحقّقون من علماء الأصول هذه الشبهة بنحو آخر فاتّخذت مدرسة المحقق النائيني
جواباً عليها ومدرسة صاحب الكفاية جواباً آخر ، فذكرت الأولى بأنَّ السيرة في
المقام حاكمة على الأدلة الناهية عن العمل بالظنّ لأنَّها تجعل الخبر حجة والحجية
معناها جعل الطريقية وكونه علماً فيرتفع موضوعها.
وفيه : أولا ـ ما تقدّم مراراً في أصل دعوى حاكمية أدلة الحجية على الأدلة
الناهية عن العمل بالظنّ من انَّ مفاد الأخيرة إِنْ كان هو نفي الحجية فتكون في
عرض دليل إثبات الحجية فأحدهما ينفي العلمية والآخر يثبتها وهو معنى التعارض
بينهما ، وإِنْ فرض انَّ مفادها أمر مترتب على نفي الحجية فمثل هذا المفاد يكون
محكوماً لكلّ ما يدلّ على الحجية بأيّ لسان كان ولا يعقل أَنْ يكون رادعاً لأنَّها
فرع عدم الحجية.
وثانياً ـ في خصوص
المقام لا يعقل حكومة دليل الحجية على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، لأنَّ
الحكومة تصرف تصرّف من الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم إنشاءً وتعبداً وهذا
انَّما يعقل فيما إذا كان الدليل الحاكم المتصرف من قبل نفس المشرع للدليل المحكوم
، وفي المقام حيث انَّ دليل الحجية هو السيرة العقلائية فلا يعقل أَنْ تكون مباشرة
حاكمة على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ شرعاً ، إذ لا يعقل للعقلاء بما هم
عقلاء التصرّف في موضوع حكم الشارع وامَّا إذا أُريد جعل إمضاء الشارع لها حاكماً
ومتصرّفاً في الآيات فهو صحيح إِلاّ انَّ الكلام بعد في كيفية استكشاف هذا الإمضاء
وامَّا لو فرض ثبوته والفراغ عنه فلا محالة تثبت حجية خبر الثقة سواءً كان مفاد
الحجية جعل العلمية أو لا .
__________________
وامَّا مدرسة صاحب
الكفاية فقد تطورت في مقام التخلّص عن رادعية الآيات في دعوى غريبة ، هي استحالة
الرادعية لأنَّها دورية. إذ رادعية المطلقات عن السيرة فرع عدم تخصيص السيرة لها
وإِلاّ لم يكن إطلاقها حجة ليكون رادعاً عن السيرة وعدم مخصصية السيرة فرع
الرادعية فتوقفت الرادعية على نفسها.
ثم اصطدم صاحب
الكفاية بدور آخر في جانب المخصصية انسياقاً مع نفس المنهج في التفكير ، لأنَّ
مخصصية السيرة أيضا فرع عدم الرادعية وإِلاّ لم تكن حجة وعدم الرادعية فرع
المخصصية وإِلاّ كانت المطلقات حجة فتوقفت المخصصية على نفسها.
والنتيجة الغريبة
انَّ المخصصية ممتنعة وعدمها أيضا ممتنع مع انَّ هذا بنفسه ممتنع لأنَّ ارتفاع
النقيضين ممتنع وفيما يلي نتكلّم في نقطتين :
الأُولى ـ في
تحقيق حال أصل هذه التوقفات المذكورة في تقريب دورية كلّ من مخصصية السيرة ورادعية
الآيات.
وليعلم انَّ مثل
هذه المغالطة التي أوقعتهم في مثل هذا المأزق والدوران المغلق انَّما ينشأ من خطأ
تورط فيه بعض المحققين عند تطبيق مشكلة الدور على بعض الموارد ، حيث تصور انَّ
الدور المستحيل انَّما هو وجود ما يتوقّف على نفسه خارجاً ولهذا حاول إبطال وجوده
وإثبات عدمه خارجاً لأنَّه لو وجد كان متوقّفاً على نفسه وهو محال ، مع انَّ
المستحيل هو نفس توقّف الشيء على نفسه وعلّيته لنفسه سواءً وجد خارجاً أم لا فلا
بدَّ من إبطال التوقّف في نفسه فنقول : امَّا دورية المخصصية من جهة توقفها على
عدم الرادعية المتوقف على التخصيص ، فالجواب عليها : انَّ مخصصية السيرة تارة يدعى
انَّها على تقدير ثبوتها تكون بنحو التخصيص بالمتصل لكونها قرينة لبّيّة كالمتصل
بالخطاب المانع عن انعقاد إطلاق فيه ، وأُخرى يدعى انَّها على تقدير ثبوتها تكون
بنحو التخصيص بالمنفصل الرافع
__________________
لحجية الإطلاق.
امَّا على التقدير
الأول فمن الواضح انَّ مخصصية السيرة لا تتوقّف على شيء وانَّما تتوقف على أصل
وجود السيرة تكويناً ، لأنَّها بوجودها التكويني الارتكازي يمنع عن انعقاد الإطلاق
في الآيات سواءً استكشف إمضاؤها من قبل الشارع أو لا. وعليه فلا تتوقّف المخصصية
بهذا المعنى على عدم الرادعية فلا دور بل تكون السيرة رافعة لموضوع الإطلاق.
وامَّا على
التقدير الثاني ، فالمخصصية باعتبارها منفصلة فتتوقف على حجية السيرة بمعنى
كاشفيتها عن ثبوت مفادها شرعاً وهو يتوقف على إحراز إمضائها شرعاً فلا يكفي مجرد
وجودها تكويناً للمخصصية وحيث انَّ إحراز إمضائها متوقف على إحراز عدم رادعية
المطلقات لها فتتوقف المخصصية على عدم الرادعية الموقوف على المخصصية فتأتي شبهة
الدور ، ولكن هنا أيضا يجب أَنْ يقال بأنه تارة يُبنى على انَّ الكاشفية الوجدانية
للسيرة متوقفة على عدم وجود دلالة وبيان من الشارع على الردع ولو لم يكن حجة على
ما أشرنا إِليه في بحوث السيرة ، حيث قلنا انَّه يكفي في عدم حجية السيرة وجود
اخبار وبيانات ولو ضعيفة السنة وغير حجة تردع عنها لأنَّ ذلك يكفي لتحقق احتمال
الردع ولا بدَّ من إحراز عدمه وجداناً ، وأخرى يبنى على انَّ كاشفية السيرة فرع
عدم وجود دلالة حجة على الردع فيكفي عدم ثبوت الردع ولو بحجة في تمامية كاشفية
السيرة ، فعلى الأول لا تكون السيرة مخصصة ولا دورية لمخصصيتها ، لأنَّ مخصصيتها
فرع عدم ذات البيان الرادع عن مفادها وهو موجود لتمامية إطلاق المطلقات ذاتاً على
كلّ حال من غير أَنْ يكون متوقفاً على المخصصية. وعلى الثاني الّذي قد تستحكم شبهة
الدور فيه ، لأنَّ المخصصية فرع عدم حجية الإطلاق وهو فرع المخصصية ، أيضا لا تكون
السيرة مخصصة ولا مخصصيتها دورية ، والوجه فيه انَّ كاشفية السيرة تشبه البرهان
الإنِّي أي كشف المعلول عن علته ، لأنَّه استكشاف للإمضاء من عدم الردع حيث انَّ
عدم الردع معلول للإمضاء كما انَّ الردع كاشف عن عدم الإمضاء ومعلول له ومن الواضح
انَّ عدم الردع الحجة المعلول لإمضاء الشارع للسيرة غير عدم الردع الحجة المعلول
لحجية السيرة ومخصصيتها ، فانَّ الأول هو عدم الردع الحجة في نفسه بينما الثاني عدم
الردع الحجة
باعتبار السيرة ، وعليه فالمخصصية تتوقف على هذا التقدير ـ على عدم حجية الإطلاقات
في نفسها وبقطع النّظر عن السيرة ـ بنحو القضية الشرطية ـ ومن الواضح انَّه بقطع
النّظر عن السيرة تكون الإطلاقات حجة بحسب الفرض فلا إمضاء ولا مخصصية كما لا
دورية ، لأنَّ عدم الردع الحجة المتوقّف على المخصصية عدم الردع الحجة بالفعل وعدم
الردع الحجة المتوقف عليه المخصصية عدم الردع الحجة في نفسه وبنحو العدم اللولائي
الشرطي.
وامَّا دورية
الرادعية فأيضاً غير صحيحة ، إذ لو بني على انَّ السيرة بمثابة التخصيص المتصل
فالرادعية متوقفة على عدم ذات السيرة تكويناً وهي غير متوقفة على عدم الرادعية كما
هو واضح. وإِنْ بني على انَّ السيرة بمثابة التخصيص المنفصل فانْ بني على كفاية
ذات الرادع ولو لم يكن حجة للردع فالرادعية لا تتوقف إِلاّ على ثبوت ذات الدلالة
الإطلاقية وهي غير متوقفة على عدم مخصصية السيرة ، لأنَّها لا ترفع ذات الدلالة.
وإِنْ بنى على عدم كفاية ذلك بل لا بدَّ من حجية البيان الرادع في نفسه وبقطع
النّظر عن السيرة فالرادعية لا تتوقف إِلاّ على حجية الإطلاق الرادع في نفسه وهي
متوقفة على أمرين ثبوت ذات الدلالة وعدم العلم ببطلان مفادها على تقدير حجيتها ،
ولو فرض انَّه على تقدير عدم حجيتها يمكن افتراض العلم ببطلان مفادها كما لو كان
هناك إطلاق محكوم لها بحيث يكون حجة على تقدير عدم حجيتها وفرض العلم من الخارج
بأنَّ حجية ذلك الإطلاق يلازم مطابقته للواقع فانَّ دليل الحجية تشمل الدلالة
المذكورة بلا إشكال لأنَّ موضوع الحجية ذات الدلالة وامَّا عدم الحجية في فرض
العلم بالبطلان فمن باب القيد العقلي والعقل لا يقتضي التقييد بأكثر من القضية
التعليقية الشرطية وهي أَنْ لا يكون على تقدير حجية الدلالة يقطع ببطلانها ، وفي
المقام على تقدير حجية إطلاقات النهي لا قطع ببطلانها فتكون حجة ، إِذن رادعية
الآيات لا تتوقف على عدم مخصصية السيرة بل على ذات الدلالة والقضية التعليقية
وكلاهما ثابت.
النقطة الثانية ـ في
ما انقسمت إليه مدرسة صاحب الكفاية من اتجاهين ذهب أحدهما إلى تقدّم السيرة على
الآيات وتخصيصها بها وذهب الآخر إلى العكس ولكل
من الاتجاهين
تقريباته.
امَّا الأول ـ فقد
قرب بوجوه :
أحدها
ـ ما انتهى إليه في الكفاية ، من انَّ الرادعية إذا كانت دورية
ومستحيلة فسوف لا يثبت الردع لا محالة والمخصصية ليست دورية لأنَّها متوقفة على
عدم العلم بالردع الّذي يكفي فيه عدم صلاحية الآيات للرادعية.
وفيه :
أولا
ـ ما تقدّم من عدم
دورية رادعية الآيات.
ثانياً
ـ ما أُفيد من عدم دورية المخصصية لكفاية عدم ثبوت الردع في
ثبوتها غير تام على ما تقدّم ، إِذ لا بدَّ من ثبوت عدم الردع ليستكشف الإمضاء.
ثالثاً
ـ إذا كانت المخصصية متوقفة على عدم العلم بالردع أيضا تبقى
شائبة الدور ، لأنَّ الردع عنده متوقّف على عدم التخصيص فيكون عدم العلم بالردع
متوقفاً على عدم العلم بعدم التخصيص وهذا يعني انَّ التخصيص متوقّف على عدم العلم
بعدم التخصيص أي الشك في التخصيص وهو مستحيل لاستحالة توقّف شيء على العلم أو عدم
العلم بشخص ذلك الشيء.
ثانيها
ـ ما جاء في تعليق صاحب الكفاية على كفايته ، من انَّ المقام
من صغريات الدوران بين مخصصية الخاصّ المتقدم أو ناسخية العام المتأخر ، لأنَّ
السيرة العقلائية على حجية الخبر بمثابة الخاصّ المتقدم زماناً على نزول الآيات
الناهية والمفروض انَّه لا ردع عنها بقطع النّظر عن هذه الآيات فكانت ممضاة شرعاً
في صدر الشريعة قبل نزولها ، كما انَّ الآيات ليست ظاهرة في الردع من أوَّل الأمر
لأنَّ التشريعات الصادرة في عصر النبي 6 ليس لها ظهور في ثبوتها من أول البعثة وانَّما يوجد ظهور
من هذا القبيل في الخطابات الصادرة عن الأئمة : لأنَّهم ليسوا بمشرعين ، وعليه فالتعارض بحسب الحقيقة بين
الإطلاق الزماني للخاص المتقدم والإطلاق الأفرادي للعام المتأخر والمختار في ذلك
تقديم التخصيص على النسخ.
وهذا الوجه يتوقّف
على أَنْ يفترض تأخر الآيات الناهية زماناً بنحو بحيث يكون قد مرَّ على السيرة
زمان كان يمكن للمولى عرفاً الردع فيه ولم يردع ، وامَّا لو لم يفرض ذلك
كما إذا كانت
الآيات الناهية مكيّة النزول مثلاً فلا دوران كما هو واضح.
ويرد عليه : انَّ
المقام ليس من صغريات الكبرى المذكورة ، لأنَّ الخاصّ المتقدم ليس دليلاً لفظياً
له إطلاق أزماني بل سيرة عقلائية وهي دليل لبّي تتم دلالته على أساس استكشاف
إمضائه من عدم الردع ، ومن الواضح انَّ عدم الردع في كلّ زمان لا يمكن أَنْ يستكشف
منه عقلاً أو بظهور الحال أكثر من إمضاء مفاد السيرة في ذلك الحال لا في جميع
الأحوال والأزمنة القادمة. فالحاصل : ليس لعدم الردع دلالة على الإمضاء إلى الأبد
ليكون هناك دلالة على الإطلاق الأزماني لمفاد الخاصّ وعليه فلا معارض للإطلاق الأفرادي
للعام ، نعم لو افترض انَّ الظهور الحالي في الإمضاء الّذي كان أحد مدارك حجية
السيرة له سعة بقدر ما للارتكاز من عموم أزماني تمّ ما ذكر إِلاّ انَّه ليس كذلك
بل غاية ما يقتضيه الظهور الحالي المذكور تقرير وإمضاء السيرة بالفعل.
لا يقال ـ على هذا
لا يمكن التمسّك بدليل السيرة لتخصيص أو تقييد الإطلاقات الفوقانية ولو كانت
السيرة ممضاة في عصر المعصومين : ، لأنَّ ذلك لا يدلّ على أكثر من الموافقة عليها في ذلك
الزمان وامَّا الآن فلا دليل لنا على ثبوت ذلك المفاد عند الشارع إِلاّ الاستصحاب
المحكوم للدليل الاجتهادي.
فانَّه يقال ـ لا
يحتمل في المطلقات التخصيص بلحاظ الزمن الأول بالخصوص في الشريعة فلو خرج الزمان
الأول منها بالسيرة لم يبق لها دلالة على ثبوت مفادها في الزمن الثاني والثالث ،
وعليه فالاستصحاب المذكور هو المرجع في أمثال المقام. والنتيجة انَّ موارد تمسّك
الفقيه بالسيرة بحسب الحقيقة يثبت فيها مؤدّى السيرة شرعاً في زمن المعصوم 7 وامَّا بالنسبة
لنا فلا بدَّ من التمسّك بالاستصحاب وعدم النسخ مثلاً.
ثالثها
ـ بعد فرض الدوران بين الرادعية والمخصصية أو بين النسخ
والتخصيص وعدم تقديم أحدهما على الآخر ، يقال بالتساقط والرجوع إلى الاستصحاب.
وهذا يتوقّف
: أولا ـ على الافتراض المشار
إليه في الوجه السابق من ثبوت إمضاء السيرة قبل نزول الآيات شرعاً.
وثانياً ـ عدم
تعين الناسخية من جهة عدم إطلاق أزماني في الخاصّ المتقدم.
وبعد هذا وذاك يرد
عليه انَّ دليل حجية الاستصحاب هو خبر الواحد نفسه فلا يعقل التمسّك به لإثبات
حجيته كما هو واضح. اللهم إِلاّ أَنْ يدعى انَّ استصحاب عدم النسخ بالخصوص دليله
الإجماع القطعي.
رابعها ـ ما ذكره
الأصفهاني ( قده ) من انَّ الرادع عن السيرة المذكورة انَّما هو ظهور الآيات
الناهية وحجيته فرع حجية الظهور الثابتة بالسيرة أيضا ، ومن الواضح انَّه لا معنى
لافتراض انعقاد سيرتين وبناءين عمليين من العقلاء على العمل بكلّ من الخبر والظهور
المذكور لأنَّه تناقض فإذا سلّمنا السيرة على العمل بخبر الواحد الثقة فلا محالة
لا عمل بالظهور المذكور.
وهذا التقريب من
الغرابة بمكان ، فانَّ المراد من انعقاد سيرة العقلاء على العمل بالظهور انعقاد
سيرتهم على كاشفية الظهور عن المراد امَّا انَّهم هل يعملون بمراد متكلّم كالشارع
أو يعصونه فذلك لا ربط له بالسيرة المنعقدة ، فربّما يعصي بعض العقلاء الشارع في
صريح خطاباته فضلاً عن ظواهرها كما لو فرض انَّ بعض العقلاء لا يقيمون الصلاة كما
هو كذلك واقعاً فهل هذا يعني انَّهم لا يبنون على حجية ظهور أقيموا الصلاة في
الكشف عن وجوبه شرعاً؟ فالحاصل وقع خلط بين العمل بالظهور بمعنى حجيته في الكشف عن
مراد المتكلم والعلم به بمعنى الأخذ بمؤدّاه وامتثاله.
وامَّا الاتجاه
الثاني وهو تقديم رادعية الآيات على مخصصية السيرة فله تقريبات أهمّها اثنان :
الأول
ـ وهو عكس ما ذكر في
التقريب الأول للاتجاه السابق ـ انَّ المخصصية إذا كانت دورية فلا محالة تكون
الآيات حجة في إثبات الردع لأنَّ كلّ ظهور حجة ما لم يعلم بالمخصص وفي المقام لم
يعلم مخصصية السيرة وهذا يعني انَّ رادعية الآيات متوقفة على عدم العلم بالمخصصية
لا عدم المخصصية واقعاً فلا دورية في الرادعية فيكون إطلاق الآيات حجة ويثبت به
الردع عن السيرة.
وقد حاول المحقق
الأصفهاني ( قده ) أَنْ يجمع بين هذا وبين ما ذكرناه في تقريب الاتجاه الأول من
عدم دورية المخصصية لأنَّها متوقفة على عدم ثبوت الردع لا عدم الردع فاستنتج انَّ
كلا من الرادعية والمخصصية ليست دورية ، لأنَّ كلاً منهما متوقّف
على عدم ثبوت
الآخر أي عدم العلم به لا عدمه واقعاً ، بل نسب ذلك أيضا إلى صاحب الكفاية وجعله
هو مراده من الكلام المتقدّم في إثبات الاتجاه السابق ثم أشكل عليه : بأن هذا ينتج
نتيجة الرادعية ، لأنَّ لازم ذلك انَّ موضوع كلّ من حجية إطلاق الآيات وحجية
السيرة تام وحيث انَّه لا يمكن فعلية حجيتهما معاً فلا يكون شيء منهما حجة فلا تتم
السيرة في إثبات حجية خبر الثقة ، وهي نتيجة الرادعية.
وهذه النتيجة
مضافاً إلى انَّا لا نعرف وجه استفادتها من كلام صاحب الكفاية مع ظهوره في نفي
دورية مخصصية السيرة لا رادعية الآيات غير تام ، إذ لا معنى لافتراض تمامية مناط
كلّ من المتنافيين معاً فيقال بأنَّهما لا يوجدان للتنافي بينهما ، لأنَّ هذا
معناه انَّ كلا منهما متوقّف على عدم الآخر وهذا دور مستحيل على ما تقدّم في بحث
الضدّ واعترف به المحقق المذكور نفسه ولهذا يلتزم في باب التضاد انَّ المانع في
مرحلة علّة الضدّين بمعنى انَّ كلّ منهما متوقّف على عدم علّة الضدّ الآخر فلا
يتمّ المناط في كلّ من الحجيتين لا انَّه يتمّ ولا يتحقق شيء منهما للتضاد
والتمانع بينهما.
وامَّا أصل هذا
التقريب فأيضاً غير تام ، لأنَّ الاثنينية بين المخصص والعلم بالمخصص انَّما
يتصوّر في الأدلة اللفظية التي لها مقام ثبوت ومقام إثبات بنحو قد ينفك أحدهما عن
الآخر ، وامَّا في المقام فمخصصية السيرة مقام إثباتها عين مقام ثبوتها لأنَّ
حجيتها انَّما تكون على أساس كاشفيتها الوجدانية المساوقة للعلم بالتخصيص وعدم
إرادة الإطلاق من الآيات ، وعليه فانْ تمّت كاشفية السيرة فهي مساوقة مع العلم
بالتخصيص وإِنْ لم تتم فلا مخصص واقعاً. وانَّما الصحيح في إبطال دورية رادعية
الآيات ما ذكرناه في الاتجاه السابق من انَّ حجية الآيات متوقفة على أمرين ذات
الدلالة وعدم العلم بالكذب والأول محرز بناءً على عدم المخصصية المنفصلة للسيرة ،
والثاني مبنيٌّ على ما أشرنا إليه من انَّ اللازم عدم العلم بالكذب على تقدير
الحجية لا مطلقاً أي حتى على تقدير عدم الحجية إذ لا موجب لتقييد الحجية عقلاً أو
عقلائيّاً بأكثر من هذا المقدار ، وفي المقام لو كانت المطلقات حجة لما كان يعلم
بكذبها لأنَّ السيرة لا تكون حجة حينئذ إذ تكون دليلاً على الردع ، وإِنْ فرض
انَّه على تقدير عدم حجيتها كانت السيرة حجة لعدم دليل معتبر على الردع فرادعية
الآيات ليست دورية
بهذا البيان لا
بالبيان المذكور في هذا التقريب ، كما انَّ المخصصية أيضا ليست دورية بالبيان
المتقدم في النقطة السابقة ، لأنَّها متوقفة على عدم حجية الآيات في نفسها وبقطع
النّظر عن السيرة وعدم حجيّتها في نفسها غير متوقفة على المخصصية وانَّما المتوقف
عليها حصّة أُخرى من عدم الحجية.
لا يقال : تكفي
هذه النكتة وهي توقف المخصصية على عدم حجية الآيات في نفسها لإثبات الرادعية وعدم
المخصصية ، لأنَّ الآيات حجة في نفسها لو لا السيرة بلا إشكال اذن فشرط مخصصية
السيرة غير ثابت فتكون الآيات حجة بالفعل.
فانه يقال : فعلية
حجية إطلاق الآيات انَّما تكون فيما إذا لم تكن متوقفة على عدم القطع بخلافها في
نفسه وبقطع النّظر عن حجيتها ـ كما هو الصحيح ـ حيث قلنا انَّه يكفي عدم القطع ولو
على تقدير حجيتها فقط وامَّا لو توقف على ذلك فلا يكون شيء من حجية السيرة والآيات
ثابتة لأنَّ شرط حجية كلّ منهما مفقود فلا تكفي النكتة المذكورة إِلاّ لإثبات عدم
المخصصية فقط.
ويستخلص من كلّ
ذلك انَّ حجية السيرة متوقفة على عدم حجية إطلاق الآيات في نفسها وامَّا حجية
إطلاقها فيتوقّف على عدم حجية السيرة بالفعل وكلّما تعارض دليلان من هذا القبيل
قدم الثاني على الأول ، نظير الوجوبين المتواردين بالنحو المذكور. وهكذا يتلخص
انَّ حجية كلّ من الإطلاقات والسيرة لو كانت متوقفة على عدم حجية الآخر بالفعل كان
دوراً ولو كانت متوقفة على عدم حجية الآخر في نفسه لم يكن دوراً ولكن شيء منهما لم
يكن فعلياً في المقام ، ولو كانت إحداهما متوقفة على عدم حجية الآخر في نفسه
وامَّا حجية الآخر فمتوقفة على عدم الأول بالفعل لم يكن دوراً وكان الثاني حجة دون
الأول وحجية الإطلاقات من الثاني بينما حجية السيرة من الأول.
لا يقال ـ لم لا
تكون حجية السيرة أيضا موقوفة على عدم حجية الإطلاقات بالفعل ، بدعوى انَّه لا
بدَّ للشارع من إقامة حجة فعلية على الردع ولا تكفي الحجية في نفسها ولو لا حجية
السيرة. وإِنْ شئت قلت : لا بدَّ في الرادع أَنْ لا يكون محكوماً للسيرة بل
معارضاً معها فعدم الإمضاء علّة لردع شرعي حجة بالفعل لا ردع محكوم في حجيته
وبهذا ترجع غائلة
الدور من جديد.
فانَّه يقال ـ مخصصية
السيرة ليست من باب القرينية والحكومة على دليل حجية الإطلاقات بل من باب كاشفيتها
الوجدانية أي
العلم بالخلاف
فيكون الرادع معارضاً معه لو لا كونه علماً يسقط معارضه عن الحجية ، ولكن حيث انَّ
حصول هذا العلم موقوف على عدم حجة على الردع كذلك والإطلاقات حجة كذلك بالفعل فلا
تكون السيرة حجة.
الثاني
ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) ، من انَّ المقام من
موارد التزاحم بين المقتضي التنجيزي والتعليقي ، فانَّ مقتضي الحجية في الإطلاقات
تنجيزي وهو الظهور وانَّما يحتمل عدم تأثيره لمانعية السيرة وامَّا مقتضي الحجية
في السيرة فتعليقي لأن أصل حجيتها معلّق على عدم الردع ، وكلّما تزاحم مقتضيان من
هذا القبيل قدم التنجيزي على التعليقي لتمامية المقتضي فيه وعدم المانع ، امَّا
تمامية المقتضي فلأنَّه المفروض ، وامَّا عدم المانع عن تأثيره فلأنَّ ما يتصوّر
كونه مانعاً انَّما هو تأثير المقتضي التعليقي ومانعيته مستحيلة لأنَّها دورية ،
لأنَّ تأثير المقتضي التعليقي فرع وجود المقتضي وهو فرع عدم تأثير المقتضي
التنجيزي فلو كان عدم تأثيره من جهة مانعية المقتضي التعليقي كان دوراً. إِذن
فتأثير المقتضي التنجيزي لا مانع منه وامَّا التعليقي فيستحيل تأثيره للدور
المذكور ، فانَّ تأثيره فرع وجوده وهو فرع عدم تأثير المقتضي التنجيزي وعدم تأثير
المقتضي التنجيزي فرع وجود المانع وليس هو إِلاّ تأثير المقتضي التعليقي وهو دور.
ثمّ تصدّى ( قده )
لتقرير الدور في تأثير المقتضي التنجيزي أيضا ، لأنَّ تأثيره لا يكفي فيه مجرد
وجود المقتضي بل لا بدَّ من إعدام المانع فيكون تأثيره موقوفاً على عدم المانع فلو
كان إعدام المانع بنفس تأثيره كان دوراً.
وبهذا وقع هذا
المحقق في مخالفة وجدانية واضحة ، إذ لازم ذلك عدم تأثير المقتضي التنجيزي في
موارد ابتلائه بمقتضى تعليقي كما إذا كان هناك ماء واحد وكانت إرادة أحد الشخصين
لشربه معلقة على عدم إرادة الآخر دون العكس مع وضوح انَّه في موارد من هذا القبيل
لا محالة يؤثر المقتضي التنجيزي ويتعطّل التعليقي.
والصحيح ـ انَّ
هذه المغالطة أيضا من تبعات المنهج المغلوط الّذي سار عليه هؤلاء
المحققون من تصور
استقرار الدور في عالم الوجود وفعلية الدائر لا في عالم نفس التوقف والعلّية. وقد
بيّنا انَّ نفس العليّة والتوقف غير معقول. وفي موارد التزاحم بين المقتضي
التعليقي والتنجيزي انَّما يؤثر التنجيزي دون التعليقي لأنَّ المانع عن تأثيره غير
موجود لا ببرهان الدور المذكور بل ببرهان انَّ المقتضي التعليقي يستحيل مانعيته
فلا يكون صالحاً لها لأنَّه هل يمنع في فرض وجوده أو عدمه امَّا في فرض وجوده فهو مساوق
مع تحقق المعلّق عليه الّذي هو انعدام المقتضي التنجيزي ومن الواضح انَّه مع
انعدامه يستحيل مانعية المقتضي التعليقي عنه ، فانَّ مانعية المانع فرع وجود
المقتضي الممنوع ، وامَّا في فرض عدمه فلأنَّ المعدوم يستحيل مانعيته وعليه ففي
فرض وجود مقتضي المانع التنجيزي يكون المانع عنه مفقوداً لاستحالة مانعية المقتضي
الآخر وباعتبار تنجيزيته يؤثر لا محالة وبذلك يكون مانعاً بل رافعاً لأصل وجود
المقتضي التعليقي.
هذا بشكل عام
وامَّا في المقام ، فحيث انَّ المسألة ليست تكوينية بل تشريعية فلا يكفي الحساب
المذكور بل لا بدَّ من ملاحظة موضوع الجعل التشريعي لحجية كلّ من إطلاق الآيات
والسيرة بالنحو المتقدّم شرحه مفصلاً. وقد عرفت فعلية حجية الإطلاق دون السيرة.
هذا كلّه لو مشينا حسب المنهج الّذي سار عليه صاحب الكفاية ( قده ) وتابعه عليه
المحققون من بعده ولكن لا تصل النوبة إلى ذلك كما أشرنا إليه في صدر المسألة
لأنَّه :
أولا
ـ التشكيك في أصل
دلالة الآيات الناهية على الردع عن العمل بالظنّ.
وثانياً
ـ لو فرض ذلك قد يدعى انَّ رسوخ السيرة على العمل بخبر الثقة
وارتكازيتها يمنع عن انعقاد إطلاق في الآيات بلحاظ صيرورتها بمثابة القرينة
المتصلة المانعة عن الإطلاق ذاتاً.
وثالثاً
ـ لو فرض انعقاد الإطلاق فهو ليس رادعاً جزماً ، باعتبار
انعقاد سيرة المتشرعة فعلاً على العمل باخبار الثقات الكاشف إِنّا عن عدم الردع.
ورابعا
ـ لو قطعنا النّظر عن سيرة المتشرعة وبقينا وسيرة العقلاء مع
ذلك نقول لا تصلح إطلاقات الآيات المذكورة للردع عنها لما أشرنا إليه مراراً من
أنَّه لا بدَّ من أَنْ يكون البيان الرادع يردع عن نكتة السيرة صراحة فلا يكفي فيه
مجرد إطلاق أو عموم
بل لا يكفي بيان
واحد أو بيانات بل لا بدَّ من مزيد بيانات وتأكيدات وتصريحات لكي تقلع جذور السيرة
ونكتتها عن أذهان المتشرعة كما وقع ذلك بالنسبة إلى العمل بالقياس.
الاستدلال بالدليل العقلي على
حجية خبر الثقة :
وقد استدلّ على
الحجية أيضا بالدليل العقلي ، وذلك بتطبيق قواعد منجزية العلم الإجمالي ، بدعوى
انَّنا إذا لاحظنا الروايات التي تكون بصدد إثبات حجيتها فسوف نعلم إجمالاً
بمطابقة جملة منها مع الواقع إذ لا يحتمل أَنْ يكون كلّها على خلاف الواقع فيكون
منجزاً ، وهذا وإِنْ كان غير الحجية مفهوماً إِلاّ انَّ نتيجته نتيجة الحجية من
حيث عدم جواز الرجوع إلى الأصول المؤمنة.
والحديث عن هذا
الدليل يقع في مقامين :
أولا
ـ في أصل تنجيز هذا
العلم الإجمالي.
ثانياً
ـ في انَّ نتيجة هذا التنجيز هل هي نفس نتيجة الحجية أم لا.
امّا المقام
الأوّل ـ فقد اعترض الشيخ الأعظم ( قده ) في الرسائل على منجزية هذا العلم
الإجمالي باعتراض نقضي يمكن تقريبه : بأنَّ مثل هذا العلم لو كان منجزاً وبالتالي
مثبتاً لنتيجة حجية الخبر لكانت كافة الأمارات الظنية حجة ، لأنَّها بمجموعها تشكل
أطرافاً لعلم إجمالي من هذا القبيل إذ لا يحتمل عادة كذبها جميعاً.
وقد تصدّى كلّ من
صاحب الكفاية والسيد الأستاذ للجواب على هذا النقض بما حاصله : انحلال العلم
الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة الّذي أطرافه تمام الشبهات ومدركه نفس العلم
بأنَّ في الشريعة أحكاماً وحراماً وحلالاً بالعلم الإجمالي بالتكليف في ضمن مجموع
الأمارات الظنية الّذي أطرافه مجموع الأمارات من اخبار وشهرات وإجماعات منقولة
وغيرها ومدركه عدم احتمال كذبها جميعاً ، كما انَّ هذا العلم بدوره منحل بالعلم
الإجمالي بوجود تكاليف بنفس المقدار المعلوم في العلمين السابقين ضمن دائرة اخبار
الثقات مثلاً فينحل العلم الكبير بالوسط والوسط بالصغير لا محالة ، لأنَّه كلّما
كان هناك علمان إجماليان متداخلان وكان المقدار المعلوم من
التكليف فيهما
متساوياً انحلّ العلم الكبير بالعلم الصغير وجرت الأصول المؤمنة في مورد افتراق
أطراف الكبير عن الصغير بلا معارض وفي المقام الأمر كذلك ، لأنَّنا إذا أفرزنا من
الروايات أطراف العلم الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال ثمّ لاحظنا الباقي منها مع
سائر الأمارات والشبهات لم يبق لنا علم إجمالي بالتكليف فيها ، وهذا شاهد على انَّ
المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير نفس المعلوم بالعلمين الإجماليين الوسط والكبير.
والصحيح انَّ
العلم الإجمالي الوسط المذكور لا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الروايات ،
لأنَّ العلم الإجمالي الوسط بحسب الحقيقة تلفيق وتجميع لعلوم إجمالية متعددة بعدد
الأمارات قائمة على أساس إجراء حساب الاحتمالات في كل نوع من الأمارات ، ومن أجل
توضيح الفكرة لنفترض انحصار الأمارات الظنية في صنفين الروايات والشهرات ولنفترض
انَّ مجموع الروايات مائة ومجموع الشهرات مائة أيضا ويعلم إجمالاً في كلّ منهما
بصدق عشرة أمارة على الأقل حيث لا يحتمل كذب الجميع من كلّ صنف بحساب الاحتمالات
ونفترض انَّهما متطابقان مجتمعان في تسعين مورد ومفترقان في عشرة من كل جانب ،
وحينئذ نقول يستحيل أَنْ ينحلّ العلم الإجمالي بعشرة أحكام مثلاً مطابقة للواقع في
مجموع أطراف الأمارتين وهي مائة وعشرة حسب ما فرضناه ـ وهو العلم الإجمالي الوسط ـ
بالعلم الإجمالي بمطابقة عشرة روايات ضمن مجموع الروايات مع العلم الإجمالي الصغير
، وذلك ببرهان انَّ العلم المذكور كما رأينا تلفيق بين العلمين الصغيرين العرضيين
وحينئذ إِنْ افترض انحلاله بأحد العلمين الصغيرين وهو مائة رواية بالخصوص دون مائة
شهرة فهو ترجيح بلا مرجح ، وإِنْ فرض انحلاله بموارد الاجتماع والتطابق بينهما وهي
التسعين فهذا معقول إِلاّ انَّه لا ينتج المطلوب وهو حجية تمام الروايات كما انَّه
خلاف فرض المستدلّ ، لأنَّ معناه وجود علم إجمالي أصغر من الصغير وبهذا يعرف انَّه
لا يكفي للبرهنة علم انحلال العلم الإجمالي الوسط دعوى انَّ المعلوم في العلم
الصغير مساو للكبير لأنَّنا لو أفرزنا بمقداره من أطرافه لما بقي في الباقي منها
منضماً إلى أطراف العلم الكبير الأُخرى علم إجمالي.
بل بالتأمّل يظهر
انَّ هذا الميزان أيضا غير منطبق في المقام ، لأنَّنا إذا أفرزنا من موارد
الاجتماع بين الأمارتين بمقدار المعلوم بالإجمال لم يبق علم إجمالي بملاحظة الباقي
من أطراف العلم
الوسط وامَّا إذا أفرزنا بمقداره من مورد افتراق إحدى الأمارتين عن الأُخرى
ولاحظنا الباقي كان العلم الإجمالي فيها باقياً على حاله ، لأنَّ المفروض عدم
احتمال كذب الأمارة الأخرى بتمامها وهذا يعني انَّ علمنا الإجمالي بحسب الحقيقة
علم إجمالي دائر بين الأقل والأكثر لأنَّه علم بوجود عشرة أحكام في مورد الاجتماع
أو أزيد إلى عشرين في موردي الافتراق لأنَّ أي حكم يكون في أحد موردي الافتراق فهو
حكم زائد على العشرة المعلومة بالإجمال في دائرة الأمارة الأخرى وحيث انَّ موضوع
الأكثر ومورده غير الأقل ـ وهو العشرة ـ لا يكون هذا العلم الإجمالي الدائر بين
الأقل والأكثر منحلاً إلى العلم بالأقل والشك في الأكثر فهو نظير العلم بوجود نجس
بين هذين الإناءين أو نجسين بين الأواني الثلاث الأُخرى وإذا كان علمنا الإجمالي
كذلك كان معناه انَّ معلومنا الإجمالي بالعلم الصغير لا يحرز كونه على كلّ تقدير
يحتمل انطباقه مع المعلوم بالعلم الكبير بل يكون كذلك على تقدير كونه في مادة
الاجتماع للأمارتين ولا يكون لو كان شيء منه في مادة الافتراق لإحداهما عن الأخرى
وهذا يعني انَّ الميزان في الانحلال هو إحراز احتمال التطابق بين المعلومين على
كلّ تقدير وعلامته انَّه لو أفرزنا بمقداره من أيّ طرف لم يبق في الأطراف الأُخرى
علم إجمالي وهذا غير منطبق في المقام كما هو واضح. تبقى في المقام شبهتان.
إحداهما ـ دعوى
انحلال العلم الوسط بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الروايات دون العلم الصغير في
دائرة الشهرات ، لأنَّ معلومه لا يزيد على معلوم الأول ولكن يزيد على معلوم الثاني
ولو من جهة انَّ المعلوم صحته من الروايات أكثر من المعلوم صحته من الشهرات.
والجواب عليها : أولا ـ بإنكار أصل الدعوى ، فانَّ القيمة الاحتمالية لكلّ شهرة
شهرة إِنْ لم تكن أكثر من القيمة الاحتمالية لكلّ رواية خصوصاً إذا كانت مع
الوسائط الكثيرة فليست بأقلّ منها وميزان حصول العلم المذكور هو حساب هذه القيم
الاحتمالية الموزعة في أطراف كلّ صنف من الأمارات فلا موجب لافتراض زيادة المعلوم
صحته من الروايات عن المعلوم صحته من الشهرات أو أمارة أُخرى.
وثانياً
ـ انَّ هذه الأكثرية في المعلوم لا أثر لها بلحاظ مادة
الاجتماع وانَّما يظهر أثرها
بلحاظ مادتي
الافتراق أي الروايات التي لا شهرة على طبقها والشهرات التي لا رواية على طبقها ،
ومن الواضح انَّ القيمة الاحتمالية عادة للشهرات التي لا رواية على طبقها أكثر
بكثير من القيمة الاحتمالية للروايات التي لا شهرة على طبقها لقوة كاشفية الشهرة
غير المدركية والتي لا رواية على طبقها وقوة احتمال وجود روايات ضاعت علينا بل
القطع بذلك وانَّ الروايات الموجودة بأيدينا قد وصلت إلينا عن طريق المشهور الّذي
لم يعمل بها أو لم يعمل كلّهم بها ممّا يكشف عن وهن فيها على كلّ حال ومعه كيف
يصحّ فرض انَّ ضم مادة الافتراق من الروايات إلى مادة الاجتماع يزيد في مقدار
المعلوم دون ضم مادة الافتراق من الشهرات التي هي أقوى كاشفية وقد قلنا انَّ ميزان
هذه الكاشفية هو حساب القيم الاحتمالية فكلّما ازدادت ازداد المعلوم لا محالة.
وثالثاً
ـ ربّما يفرض انَّنا لو أخذنا مقداراً من مادة الافتراق
للروايات ـ ولنفرضه المقدار الأقوى كاشفية ـ مع مقدار من مادة الافتراق من الشهرات
أو جميعها وضممناها إلى مادة الاجتماع أيضا حصل لنا العلم الإجمالي في دائرة
الروايات حيث يعوض عن كاشفية الروايات المتروكة من مادة الاجتماع بالشهرات المضافة
من مادة الافتراق فيصعد بمقتضى حساب الاحتمالات مقدار المعلوم بالإجمال ضمن هذه
الدائرة عن المعلوم بالإجمال ضمن دائرة مادة الاجتماع فقط كما كان يصعد عند ما نضم
إليها مادة الافتراق من الروايات. وحينئذ سوف تكون هذه الدائرة هي دائرة علمنا
الإجمالي الصغير الّذي يكون في عرض العلم الإجمالي الصغير في دائرة الروايات فقط
ويكون بينهما عموم من وجه فلا وجه لانحلال العلم الوسط بأحدهما دون الآخر .
ورابعاً
ـ لو سلّمنا كلّ ذلك فغايته انَّ العلم الإجمالي الوسط ينحل
بالعلم الإجمالي الرواياتي ولا ينحل بالعلم الإجمالي الشهراتي ولكن مع ذلك يبقى
العلم الإجمالي
__________________
الشهراتي في دائرة
الشهرات منجزاً لتمام أطرافه ما لم نضم دعوى زائدة سوف تأتي في الشبهة الآتية.
الثانية
ـ دعوى انحلال العلم
الوسط بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات وانحلال العلم الإجمالي الشهراتي بعلم
إجمالي أصغر منه في خصوص مادة الاجتماع بين الشهرات والروايات ، إذ لا إشكال في
انَّ تطابق الروايات مع الشهرات ربّما يوجب العلم إجمالاً بصدق مقدار من مادة
الاجتماع لا يقلّ عن المعلوم الإجمالي في دائرة الشهرات جميعاً ، لأنَّ القيمة
الاحتمالية للروايات المتطابقة مع الشهرات في مادة الافتراق ليست بأقلّ من القيمة
الاحتمالية للشهرات في مادة الافتراق وبهذا يندفع الجواب الرابع عن الشبهة السابقة
أيضا كما هو واضح.
ولنا على هذه
الشبهة تعليقات :
الأُولى
ـ انَّ المعلوم بالعلم الإجمالي الشهراتي إِنْ فرض مساواته مع
المعلوم بالعلم الإجمالي الرواياتي فانحلال الأول بالعلم الإجمالي في خصوص مادة
الاجتماع يوجب انحلال الثاني أيضا لا محالة وهو خلف المطلوب كما تقدّم. وإِنْ فرض
انَّه أقلّ منه فهذا يعني انَّ القيم الاحتمالية للروايات أكبر من القيمة
الاحتمالية للشهرات وقد تقدّم المنع عن ذلك في دفع الشبهة السابقة.
الثانية
ـ انَّ العلم
الإجمالي الأصغر في مادة الاجتماع لا يمكنه أَنْ يحلّ العلم الإجمالي الشهراتي
فيما إذا فرضنا انَّ واحداً على الأقل من مادة الاجتماع قيمته الاحتمالية ليست
بأكثر من مجموع الشهرات في مادة الافتراق بحيث لو أفرزنا ذاك الواحد وضممنا مادة
الافتراق للشهرات إلى مادة الاجتماع بقي علمنا الإجمالي على حاله ، فانَّه إذا
قبلنا هذا فسوف يتكون لنا علمان إجماليان صغيران بينهما عموم من وجه نظير ما
ذكرناه في الجواب الثالث على الشبهة السابقة.
الثالثة
ـ انَّ مادة الافتراق من الشهرات إِنْ فرض انَّها كانت تؤثر
في زيادة عدد المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الوسط الّذي أبرزه الأستاذ وادعى
انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير فلا يمكن الانحلال حينئذ لأنَّه بإفرازها لا محالة
يقلّ عدد المعلوم بالإجمال ، وإِنْ فرض عدم تأثيرها في ذلك فهذا معناه خروجها من
أول الأمر عن
الطرفية لا أنَّها
طرف فيه وقد انحلَّ بعلم صغير ، وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم بمقدار المعلوم بالعلم
الإجمالي الشهراتي في مادة الاجتماع إذ يعلم حينئذ بوجود تكاليف امَّا فيها أو
أكثر منها في مادتي الافتراق فتكون كلّ من مادتي الافتراق طرفاً للعلم الإجمالي.
ثمّ انَّ المحقق
النائيني ( قده ) في فوائد الأصول قد ذكر صيغة أُخرى في تقريب هذا الدليل العقلي ،
وذلك بأَنْ يدعى انَّنا نعلم إجمالاً بصدور جملة من الروايات والأحاديث المنقولة
باخبار الآحاد عن المعصوم 7 وهذا علم إجمالي بالحجة ، لأنَّ تلك الأحاديث باعتبار
اشتمالها على الظهور تكون موضوعاً للحجية ولو فرض عدم العلم بمطابقة شيء منها
للواقع. والعلم الإجمالي بهذا التقريب يمتاز على التقريب السابق في انَّ أطرافه
خصوص الروايات كما انَّ معلومه قد يكون أكثر من المعلوم في العلم الإجمالي
بالتكليف الواقعي في دائرة الشبهات ، وبهذا قد تندفع بعض الإشكالات المتقدمة ولكن
مع ذلك يبقى الإشكال الّذي أبرزناه نحن من انَّ هناك علماً إجمالياً بالواقع في
دائرة غير الاخبار من الأمارات الظنية بنحو تكون النسبة بين أطرافه وأطراف العلم
المذكور العموم من وجه ومعه يكون كلا العلمين منجزاً.
وامَّا
المقام الثاني ـ من البحث ففي ملاحظة
نتيجة هذا الدليل ، وانَّها هل تكون نفس نتيجة الحجية أم مغايرة معها عملياً كما
هي مغايرة معها مفهوماً؟ قد يقال ، بأنَّ النتيجة العملية واحدة وانَّما الاختلاف
في بعض الآثار غير المربوطة بالوظيفة العملية ، إذ على كلّ حال لا بدَّ من العمل
بالأخبار الدالة على التكاليف سواءً كان من جهة منجزية العلم أو حجيتها. نعم لا
يمكن للفقيه اسناد مفادها إلى الشارع بناءً على مسلك منجزية العلم الإجمالي بينما
قد يجوز ذلك بناءً على مسلك الحجية ، كما انَّه بناءً على الحجية لو صادف مطابقة
جميع الاخبار للواقع وخالف المكلّف كان عاصياً فيها جميعاً فيعاقب بعدد تلك
الوقائع عقاب العصيان لثبوت التكليف الواقعي وتنجزه عليه بالحجة وامَّا بناءً على
مسلك منجزية العلم فحيث لا يعلم بأكثر من عشرة تكاليف مثلاً في مجموع الاخبار فحتى
لو فرض مطابقة جميعها للواقع وارتكاب المكلّف لها جميعاً فلا يكون عاصياً لأكثر من
عشرة تكاليف نعم يكون متجرياً بعدد الأطراف لاحتمال
انطباق أحد
التكاليف المعلومة بالإجمال عليه. إِلاّ انَّ كلاًّ من هذين الأثرين غير عمليين.
والصحيح وجود فارق
عملي بين المسلكين أيضا وتوضيح ذلك وتفصيله ، انَّ هناك صنفين من الروايات :
١ ـ الروايات
الدالة على الترخيص ولو بالدلالة الالتزامية.
٢ ـ الروايات
الدالة على الإلزام ولو بالالتزام.
وفيما يلي نلاحظ
الفوارق بين المسلكين في مجال كلّ من الصنفين فنقول. امَّا في موارد الروايات
النافية للتكليف فالصحيح وجود الفارق العملي بين المسلكين من ناحية انَّه على
القول بالحجية يجب العمل بها ولو كان في قبالها أصل لفظي أو عملي يقتضي الإلزام
بينما على القول بمنجزية العلم الإجمالي قد يثبت الإلزام وذلك فيما إذا كان في
قبالها أصل لفظي أو عملي ملزم إذ لم تثبت حجيتها لكي يجوز رفع اليد عنه.
وقد يدّعى انَّ
العلم إجمالاً بمطابقة بعض تلك الروايات الترخيصية للواقع أو صدورها عن المعصوم
يوجب سقوط تلك الأصول اللفظية أو العملية إذا كانت في تمام أطراف هذا العلم
الإجمالي فيجوز الرجوع إلى البراءة العقلية على القول بها أو الشرعية لو كان
دليلها قطعياً.
والجواب ـ امَّا
بلحاظ الأصول العملية المثبتة للتكليف فلأنها تتمثل في أصلين امَّا أصالة الاشتغال
العقلية أو الاستصحاب المثبت للتكليف الثابت حجيته بالقطع أو بالروايات الداخلة في
أطراف العلم الإجمالي المنجز لمداليلها الإلزامية والتي منها الاستصحاب المثبت ،
وكلاهما يجريان حتى لو علم إجمالاً بصدور بعض الروايات الترخيصية لأنَّه علم
إجمالي بالحكم الترخيصي وهو لا ينافي جريانهما ، امَّا الأول فواضح لأنَّ مقتضي
الاشتغال عقلاً لا يزاحمه ولا يرفعه العلم الإجمالي بالترخيص بل لا بدَّ من العلم
بالمؤمّن تفصيلاً ليرفع اليد عن مقتضى أصالة الاشتغال. وامَّا الثاني فلأنَّ دعوى
سقوط الاستصحاب المثبت للتكليف عن الحجية في المقام موقوف على تمامية أمرين كلاهما
غير تام عندنا.
الأول
ـ اختيار مسلك الشيخ
( قده ) من انَّ اليقين الإجمالي بالانتقاض مانع عن
جريان الاستصحاب
في أطرافه للتعارض بين الذيل والصدر في دليل الاستصحاب.
الثاني
ـ العلم إجمالاً بمطابقة بعض تلك الروايات النافية للواقع لكي
يعلم بانتقاض الحالة السابقة إجمالاً ، وامَّا لو كان يعلم بصدور بعض تلك الروايات
فهو مجرد علم بالحجة الإجمالية على الترخيص وهو لا يمنع عن جريان الاستصحاب المثبت
إِلاّ بناءً على مسلك قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي.
وامَّا بلحاظ
الأصول اللفظية فالعلم الإجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لبعض العمومات
والمطلقات المثبتة للتكليف في قبال الروايات النافية وإِنْ كان يوجب التعارض فيما
بينها بل يكفي لإيقاع التعارض وإجمالها العلم إجمالاً بوجود مخصصات ومقيدات لمجموع
الإطلاقات الأولية في الأدلة القطعية زائداً على المقدار الثابت بالدليل القطعي من
المقيدات والمخصصات ، إِلاّ انَّه مع ذلك يجب الاحتياط ، وذلك لصحة التمسك
بالعمومات المثبتة بالعنوان الإجمالي في غير المقدار المعلوم بالإجمال تخصيصه منها
الّذي هو أقلّ من مجموع العمومات المثبتة لا محالة ونتيجته تحصيل علم إجمالي
بالحجة على التكليف.
وامَّا في موارد
الاخبار المثبتة للتكليف ـ التي هي مورد هذا الدليل العقلي ـ فعلى العموم تكون
النتيجة على المسلكين هو العمل على طبق الروايات المثبتة للتكليف ولو بالالتزام ،
امَّا لكونها حجة أو لكونها أطرافاً للعلم الإجمالي المنجز. ولكنه مع ذلك هنالك
حالات وموارد قد يظهر الفرق بين المسلكين نشير إلى جملة منها فيما يلي :
المورد
الأول ـ أَنْ يفرض انَّ الخبر المثبت للتكليف يكون على خلافه عموم أو
إطلاق في دليل اجتهادي قطعي السند دال على الترخيص ، فانَّه بناءً على الحجية لا
بدَّ من العمل على طبق الخبر المثبت للتكليف وامَّا بناءً على منجزية العلم
الإجمالي الّذي أطرافه الروايات المثبتة للتكليف فالمنجزية لا تشمل الأطراف التي
فيها أصل مؤمن بلا معارض خصوصاً إذا كان دليلاً اجتهادياً معيناً للتكليف المعلوم
بالإجمال في سائر الأطراف.
وقال جملة من
المحقّقين انَّه بناءً على مسلك منجزية العلم الإجمالي أيضا تجري أصالة الاشتغال ،
للعلم إجمالاً بطرو مخصصات ومقيدات على خصوص المطلقات
الترخيصية أو مطلق
العمومات وهو كافٍ في تعارضها وإجمالها. ولا يفيد هنا ما ذكرناه فيما سبق من إمكان
إثبات مفاد العام فيما زاد على القدر المعلوم ، لأنَّه ترخيص ليس فيه مقتضي عدم
التنجيز فلا يزاحم ما فيه مقتضي الاحتياط والتنجيز.
المورد الثاني ـ أَنْ
يفرض في قبال الخبر المثبت أصل عملي نافٍ للتكليف ، وهذا الأصل النافي تارة يكون
جارياً في تمام موارد الروايات المثبتة أي في تمام أطراف العلم الإجمالي في نفسه
كالبراءة مثلاً وهذا لا إشكال في كونه خارجاً عن محل الكلام ، لأنَّه ساقط بنفس
العلم الإجمالي المفترض وأخرى يكون جارياً في خصوص بعض موارد الخبر المثبت كأصالة
الطهارة مثلاً. وهنا تارة يفرض انَّ ذلك الأصل النافي دليله العقل ، وأخرى دليله
شرعي قطعي ، وثالثة دليله من نفس الروايات.
فعلى الأول يرجع
إلى ذلك الدليل لو كان بلا محذور ، وعلى الثاني يرجع إليه أيضا بناءً على مسلكنا
من جواز الرجوع إلى الأصل النافي في بعض أطراف العلم الإجمالي لو كان مختصاً به
ولو فرض وجود أصل نافٍ مشترك في تمام الأطراف لكونه من غير سنخه ، هذا إذا لم يعلم
بطرو التخصيص أو بمخالفة بعض موارد جريان هذا الأصل للواقع بحيث يصبح إطلاقه
متعارضاً ومجملاً كإطلاق العمومات الترخيصية في الموارد السابق ، وعلى الثالث فلا
أثر للأصل المذكور بل يجب الأخذ بمفاد الخبر المثبت بمقتضى منجزية العلم الإجمالي.
المورد
الثالث ـ أَنْ يفرض في قبال الخبر المثبت للتكليف خبر نافٍ له ، وهنا
بناءً على الحجية لا يجب العمل بشيء منهما للتعارض والتساقط ، وامَّا بناء على
مسلك منجزية العلم الإجمالي يجب العمل بالخبر المثبت من باب الاحتياط لكونه طرفاً
للعلم الإجمالي ومجرد وجود خبر نافٍ في قباله لا يقتضي خلاف ذلك ، اللهم إِلاّ
أَنْ يدعى انحلال العلم الإجمالي في دائرة الروايات بالعلم الإجمالي في خصوص
الروايات غير المعارضة بأَنْ يكون المعلوم إجمالاً صدوره منها بمقدار المعلوم
إجمالاً في مجموع الروايات وهو يعني خروج مورد الرواية المعارضة عن الطرفية ولو
باعتبار تعارض القيم الاحتمالية في كلّ منهما مع الآخر.
المورد
الرابع ـ أَنْ يكون في قبال الخبر المثبت للتكليف خبر آخر أيضا مثبت
للتكليف ولكنه
بشكل معاكس بأَنْ يدلّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ، فبناءً على مسلك
الحجية النتيجة هي التعارض والتساقط والرجوع إلى مقتضى القاعدة الأولية ، بينما
على القول بمنجزية العلم الإجمالي فسوف يكون الخبران معاً طرفاً للعلم الإجمالي
بالتكليف. فانْ بنينا على انحلال العلم الإجمالي وانحصاره بخصوص موارد الاخبار
التي لا معارض لها خرج المورد عن الطرفية فالنتيجة نفس النتيجة ، وامَّا لو لم نقل
بذلك فسوف يكون العلم الإجمالي غير مقتضٍ للتنجيز في هذا الطرف لدوران الأمر فيه
بين محذورين وامَّا بالنسبة إلى سائر الأطراف فيكون منجزاً على تفصيل تأتي الإشارة
إليه في المورد السادس.
المورد
الخامس ـ إذا كان الخبر المثبت للتكليف في مقابله أصل مثبت للتكليف
بنحو معاكس ، فانه بناءً على الحجية يجب العمل على طبق الخبر وامَّا بناءً على
منجزية العلم الإجمالي إِنْ كان الأصل المثبت للتكليف عقلياً كأصالة الاشتغال
فمرجعه إلى علم إجمالي آخر يقتضي ذلك فيصبح كلّ من الوجوب والحرمة طرفا لعلم
إجمالي وحينئذ لا يؤثر كلّ منهما بلحاظ مادة الاجتماع للتزاحم بينهما وامَّا بلحاظ
مادتي الافتراق فيؤثران على كلام يأتي في المورد السادس وإِنْ كان شرعياً
كالاستصحاب ، فانْ كان في سائر الأطراف أصول شرعية نافية للتكليف أيضا وقعت
المعارضة فيما بينها جميعاً ، لأنَّ الاستصحاب المذكور وإِنْ كان مثبتاً للحرمة
مثلاً إِلاّ انَّه بلحاظ الوجوب المعلوم بالإجمال نافٍ للتكليف لأنَّه يؤمن من
الترك لا محالة كأصالة البراءة عنه وإِنْ لم يكن أصل ناف في تلك الأطراف ـ أو كان
من سنخ يجري في هذا الطرف أيضا بخلاف الاستصحاب المختص به ـ فانْ كان دليل
الاستصحاب قطعياً جرى وانحلّ العلم الإجمالي بمعنى انَّه يؤمن من ناحية الوجوب
المحتمل في مورده مع بقاء التنجيز في سائر الأطراف وإِنْ فرض دليله من نفس الاخبار
فلا يكون مؤمناً عن الوجوب بل يكون مدلوله التحريمي منجزاً من باب أصالة الاشتغال
ومنجزية العلم الإجمالي فيكون كالمورد الرابع مع كون الحرمة ظاهرية لا واقعية.
المورد
السادس ـ أَنْ يكون الخبر المثبت في قباله أصل لفظي يثبت التكليف بشكل
معاكس ، فبناءً على الحجية ينبغي العمل به وتخصيص الأصل اللفظي وامَّا
بناءً على منجزية
العلم الإجمالي فانْ فرض عدم العلم الإجمالي بالمخصصات للعمومات القطعية أكثر من
المقدار الثابت بالدليل القطعي جرت أصالة العموم ودلّت على نفي التكليف الإلزاميّ
المدلول عليه بالخبر وتعيينه في الأطراف الأُخرى ، وإِنْ فرض العلم الإجمالي
بالتخصيص أكثر من ذلك وقع التعارض بين العمومات. ولكنا ذكرنا فيما سبق بقاء
العمومات المثبتة للتكليف على الحجية إجمالاً في غير المعلوم بالإجمال تخصيصه
فيتشكل من ذلك علم إجمالي بالحجة على التكليف فيكون المورد طرفاً مشتركاً بين
علميين إجماليين أحدهما في دائرة الروايات الإلزامية والآخر في دائرة العمومات
الإلزامية فيتزاحمان في التأثير في الطرف المشترك ، وحينئذ قد يقال بعدم تأثير شيء
منهما للدوران بين المحذورين ، وقد يقال بتقديم العلم الإجمالي في دائرة العمومات
على العلم في دائرة الروايات في التنجيز لأنَّ احتمال انطباق الحجة الإجمالية من
العمومات أقوى من احتمال انطباق المعلوم بالإجمال صدقه أو صدوره من الروايات في
المورد ، لأنَّ المقدار المعلوم بالإجمال صدقه أو صدوره من الروايات نسبته إلى غير
المعلوم كذلك أقلّ بكثير من نسبة ما هو الحجة إجمالاً من العمومات إلى ما ليس بحجة
منه لثبوت المخصص له إجمالاً ، لأنَّ المخصص المذكور عادة من ناحية الروايات
المعلوم إجمالاً بصدورها وما يعلم إجمالاً صدوره أقلّ مما لا يعلم في دائرة
الروايات والعقل يستقل بلزوم تحصيل أكبر قدر ممكن من الموافقة بعد فرض منجزية
العلم الإجمالي وعدم إمكان الموافقة القطعية ، هذا كلّه في مادة الاجتماع وامَّا
في مادتي الافتراق فتصوير تأثير العلم الإجمالي فيهما يكون له تقريبات :
الأول
ـ أَنْ يقال بأنَّ
ما بقي من موارد الافتراق أيضا فيه معلوم بالإجمال ، إذ لم يكن معلومنا الإجمالي
في دائرة الروايات بقدر مورد التعارض المذكور بل أكثر منه فتنجز بذلك.
الثاني
ـ أَنْ تكون المنجزية لسائر الأطراف من جهة سقوط الأصول
المؤمنة في جميع الأطراف بالتعارض وانَّما لا منجزية بلحاظ هذا الطرف من جهة العجز
عن الاحتياط فيه لا لوجود المؤمن فيكون احتمال التكليف في الأطراف الأُخرى كافياً
في التنجيز لأنَّه لا مؤمن عنه.
وقد يقال هنا بما
يذكر عادة في بحث الدوران بين المحذورين من جريان الأصل المؤمن عن الطرفين معاً من
دون محذور ، لأنَّ المحذور انَّما يكون من جهة الترخيص في المخالفة القطعية وهي
غير ممكنة ففي المقام أيضا لا يمكن المخالفة القطعية للعلمين الإجماليين فلا محذور
من جريان الأصول المؤمنة في جميع الأطراف.
إِلاّ انَّ هذه
الشبهة لو تمّت في محلّها فتتم في المقام في المورد الرابع والخامس المتقدمين لا
في هذا المورد ، لأنَّ المفروض هنا وجود علمين إجماليين مشتركين في طرف واحد وكلّ
منهما في نفسه مخالفته القطعية ممكنة وهو كافٍ في تعارض الأصول وتساقطها في
أطرافه.
نعم لو قيل بما
ذكره الكفاية ( قده ) في بحث الاضطرار إلى بعض الأطراف من دون تعيين من سقوط العلم
الإجمالي عن المنجزية لأنَّه متى ما لم تجب الموافقة القطعية بلحاظ طرف سقطت
المنجزية في الطرف الآخر أيضا لاحتمال أَنْ يكون التكليف ثابتاً فيه بل على تقدير
كونه في غير الطرف الّذي جازت مخالفته فلا يكون العلم علماً بالتكليف على كلّ
تقدير ، أقول هذه الشبهة روحاً جارية في المقام أيضا.
الثالث ـ انَّ
لدينا في المقام علم إجمالي بلحاظ مادتي الافتراق ، لأنَّه لا يحتمل انطباق
المعلومين الإجماليين معاً في مادة الاجتماع للتنافي بينهما فيعلم إجمالاً بثبوت
تكليف إِلزامي في إحدى مادتي الافتراق على أقلّ تقدير وهو كافٍ في وجوب الاحتياط
فيهما ، فإنَّا نعلم بأنَّه على تقدير كذب الخبر الإلزاميّ في مورد الاجتماع فهو
صادق في مورد الافتراق كذلك بلحاظ الدليل الآخر المثبت للتكليف المعاكس وبما انَّ
أحدهما كاذب لا محالة ـ إذ لا يعقل صدقهما معاً فيعلم بثبوت التكليف في أحد موردي
الافتراق إجمالاً على الأقل. وهذا البيان مخصوص بما إذا كان هناك علمان إجماليان
كما في المقام ولا يتمّ في المورد الرابع والخامس إذا كان هناك علم إجمالي واحد
ضمن أطراف أحدهما يدور بين متباينين كما يظهر بالتأمل.
وهذا الجواب
انَّما يتمّ فيما إذا لم يكن العلم الإجمالي بصدق أو صحة إحدى الروايات مستنداً إلى
تجميع القيمة الاحتمالية للصدق في مجموع الأطراف ، وإِلاّ فلا يتشكّل لنا قضية
شرطية بأنَّ أحد الأطراف لو كانت الرواية فيه كذباً لكان المعلوم
بالإجمال في
الأطراف الأُخرى ، إذ على تقدير كذب تلك الرواية سوف تفقد القيمة الاحتمالية لها
وبالتالي نفقد مبرر علمنا الإجمالي ومن هنا قلنا في بحوثنا عن الأُسس المنطقية
للاستقراء انَّ ما يتصوّره المنطق الأرسطي من إمكان تشكيل قضايا شرطية في أطراف
العلوم الإجمالية لا يتمّ إِلاّ في أطراف علوم إجمالية متحصلة من قيم احتمالية
بقطع النّظر عن أطرافها وثابتة في رتبة أسبق لا ما إذا كانت متحصلة من تجميع القيم
الاحتمالية لنفس الأطراف كما هو في المقام.
وهكذا يتّضح عدم
تمامية الدليل العقلي على حجية اخبار الآحاد وعدم الانتهاء إلى نفس النتيجة
المطلوبة من الحجية على تقدير تماميته.
ثمَّ انَّ هنا
تقريبات أُخرى للدليل العقلي على الحجية راجعة إلى دليل الانسداد وإثبات حجية
الظنّ لا تختصّ ببحث حجية خبر الواحد.
تلخيص واستنتاج :
اتّضح من مجموع ما
ذكرناه انَّ المهم من الأدلة على حجية خبر الثقة هو السنة المستكشفة من السيرة
خصوصاً سيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة : ، ويتلوها في الأهمية الروايات الخاصة المشار إليها آنفاً
وامَّا الآيات أو الدليل القطعي فلم يتم شيء منهما والإجماع إِنْ تمّ فبمعنى يرجع
إلى سيرة أصحاب الأئمة :. وقد عرفت كيفية الاستدلال بسيرة المتشرعة من أصحابهم ولكن
بقيت شبهة لا بدَّ من التعرّض إليها مع جوابها.
حاصل الشبهة :
انَّ عمل أصحاب الأئمة بالأخبار والروايات باعتباره دليلاً لبّيّا لا لسان له
ليعلم انَّ أساس ومبنى عملهم هل هو أماريّة وثاقة الراوي وحجيته أو حصول اطمئنان
شخصي لهم من تلك الروايات الّذي بناءً عليه يكون المستفاد من السيرة حجية
الاطمئنان والعلم العادي الّذي لا إشكال فيها حتى لو حصل من غير خبر الثقة ، فلا
بدَّ في تتميم الدليل على حجية خبر الثقة من نفي هذا الاحتمال.
والتحقيق : انَّه
لا ينبغي التشكيك بوجه في انَّ أصحاب الأئمة : انَّما عملوا بهذه الروايات على أساس أمارية الوثاقة
وحجيتها لا على أساس حصول الاطمئنان
الشخصي لهم بصدورها
، لأنَّ دعوى حصول ذلك لهم من جميع هذه الروايات واهية جداً سواءً أُريد ادعاء انه
اطمئنان شخصي بحق وعلى أساس حساب احتمالات صحيحة لمن كان في مثل موقفهم أو أُريد
ادعاء انَّهم قد حصل لهم الاطمئنان منها ولو جزافاً ومن جهة حسن الظنّ أو الغفلة
عن المضعفات.
امَّا الادعاء
الأول ، فلأنَّ من غير المحتمل حصول الاطمئنان الشخصي بحق في كثير من الحالات
الغالبة في الروايات المذكورة لاقترانها بالمضعفات الواضحة التي بموجبها لا يمكن
أن يحصل الاطمئنان الشخصي عادة منها ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ إذا كان الخبر
معارضاً مع عموم قطعي السند واضح الدلالة فانَّ العموم وإِنْ كان قابلاً للتخصيص
إِلاّ انَّه على كلّ حال له كاشفية عن الواقع فيكون عاملاً مضعفاً لحصول الاطمئنان
الشخصي من الرواية المخالفة معه.
٢ ـ عكس ذلك ، أي
ما إذا كان الخبر دالاً على عموم في قباله مخصصات قطعية السند ، فانَّ ذلك أيضا
يضعف من قيمة احتمال صدور العام الظنّي السند بمقدار أمارية العموم وقيمته
الاحتمالية.
٣ ـ الخبران
المتعارضان فانَّ المستظهر من حال المتشرعة والمستشف من الاخبار العلاجية أيضا
انَّهم كانوا يتحيرون في الأخذ بأيّهما ، وهذا يكشف عن انَّهم كانوا يفترضون ثبوت
مقتضي الاعتبار في كلّ منهما في نفسه مع انَّه إذا كان أساس الاعتبار هو حصول
الاطمئنان الشخصي فعادة لا يحصل ذلك في حالات التعارض فلما ذا التحير بل حالها حال
خبرين من غير الثقة.
٤ ـ حالة التعارض
بين خبر الثقة وخبر غيره ، فانَّ عملهم كان على الأخذ بخبر الثقة من دون اعتناء
بمعارضه الصادر عن غير الثقة ، مع انَّه لو كان أساس الحجية هو الاطمئنان الشخصي
بصدور الخبر والكشف التكويني فهذا قد لا يحصل مع وجود معارض له ولو من غير الثقة ،
فانَّ المضعف لا ينحصر بخبر الثقة لأنَّ المسألة ترتبط حينئذ بالكشف التكويني وحساب
الاحتمالات.
٥ ـ عدم التفرقة
في الاعتبار بين ما إذا كان الخبر المنقول قد تحمله الراوي شفهياً عن الإمام 7 ثمّ نقله أو سجله
عنده وجعله أصلاً مع انَّ القيمة الاحتمالية تضعف
في حالات النقل
الشفهي خصوصاً إذا كان هناك فاصل زمني بين زمن النقل وزمن التحمل .
٦ ـ موارد وجود
مصلحة أو اتجاه مسبق للراوي قد يقتضي أَنْ يكون الحكم الشرعي على نحو مخصوص. كما
إذا كان الراوي نخّاساً مثلاً أو صرّافاً وينقل حكماً في موضوع مرتبط بالنخاسة أو
البيع والصرف ، فانَّ مثل هذه الخصوصيات والملابسات قد تضعف من قيمة احتمال الصدق
وتمنع من حصول الاطمئنان الشخصي بصدق الراوي.
٧ ـ موارد مزاحمة
أمارية وثاقة الراوي وكاشفيتها التكوينية مع حساب احتمالات في المضمون المنقول من
قبله ، كما إذا كان مضموناً غريباً يستبعد صدقه أو على خلاف المرتكزات والمتبنّيات
أو كان المتن مشوّشاً لفظاً أو أُسلوباً ، فانَّ مثل هذه الملابسات لها دور في
تضعيف قيمة احتمال صدور الرواية.
٨ ـ بنائهم العملي
على العمل بالخبر مع الواسطة ، مع انَّه لا إشكال في عدم حصول الاطمئنان الشخصي
عادة مع تعدد الوسائط ولو فرض حصوله فيما إذا لم تكن وسائط.
وامَّا الادعاء
الثاني وهو حصول الاطمئنان الشخصي لهم جزافاً ، فهذا أشنع إذ هذا لا يحتمل وقوعه
بالنسبة إليهم جميعاً وفي جميع الروايات بعد ملاحظة انَّ قوانين حساب الاحتمالات
وقواعده عامة وجدانية عند كلّ إنسان وإِنْ لم يبحثوا أُسسه المنطقية.
وهكذا يثبت انَّ
أساس عملهم لا يمكن أَن يكون حصول الاطمئنان الشخصي لهم منها بل ولا الظنّ الشخصي
، وانَّما كان على أساس أمارية الوثاقة وحجيتها شرعاً.
__________________
تحديد دائرة الحجية :
والكلام حول
المقدار الّذي يثبت حجيته من اخبار الآحاد يقع على ضوء المسالك المختلفة في مدارك
وأدلة حجية خبر الواحد المتقدمة وذلك على التفصيل التالي :
١ ـ أَن يكون مدرك
الحجية مثل آية النفر والكتمان ، فانَّه على أساس ذلك تثبت الحجية لمطلق الخبر
والإنذار فيكون مقتضى الأصل الأوّلي حجية كلّ خبر إِلاّ ما يخرج بالدليل الخاصّ ،
والدليل المخصص قام في خصوص خبر الفاسق. فانَّه مضافاً إلى الإجماع والتسالم على
عدم حجية اخباره يقتضيه منطوق آية النبأ حيث أمرت بالتبين عنه الّذي هو إرشاد إلى
عدم الحجية وهذا لا إشكال فيه كبروياً ، إِلاّ انَّ الكلام في المراد بالفاسق فهل
المراد منه الفسق الشرعي أو الفسق الخبري أي غير الثقة. امَّا الإجماع والتسالم
فمتيقنه الأخير وامَّا آية النبإ فأيضاً يمكن تقريب ذلك فيها بأحد وجهين :
أولهما ـ تشخيص
ذلك على أساس مناسبات الحكم والموضوع للحكم المبين فيها ، حيث انَّ الفسق الخبري
هو الميزان المناسب في التوقّف والتثبّت عن اخبار المخبر خصوصاً وكلمة الفاسق لم
يكن بعد قد اصطلح فيها على المعنى الشرعي وانَّما كان يراد بها المعنى اللغوي
العام من مطلق الانحراف والمروق فيعين بمقتضى المناسبات المذكورة في الانحراف في
مقام الاخبار المساوق مع عدم التورع عن الكذب والافتراء ولا أقلّ من انَّها توجب
احتمال ذلك وإجمال المخصص المنفصل.
ثانيهما ـ استظهار
ذلك بقرينة التعليل في ذيلها بالجهالة التي تكون بمعنى السفاهة جزماً أو احتمالاً
على أقلّ تقدير ، والسفاهة انَّما تكون في التعويل على خبر غير الثقة لا الثقة
وإِنْ كان فاسقاً من سائر الجهات.
٢ ـ أَن يكون مدرك
الحجية مفهوم آية النبأ. وعلى هذا الأساس تثبت حجية خبر غير الفاسق وحينئذ إِنْ
تمَّ استظهار حمل الفسق فيها على الفسق الاخباري بأحد الوجهين المتقدمين فالنتيجة
هي النتيجة على المدرك السابق ، وإِلاّ بأَن كان مجملاً مردداً بين المعنيين فضلاً
عمّا إذا استظهر المعنى الشرعي فلا يمكن إثبات حجية خبر غير
العادل من الثقات
لأنه لا دليل على الحجية غير نفس الآية المجمل منطوقاً بحسب الفرض فيكون مجملاً
مفهوماً أيضا.
٣ ـ ان يكون
المدرك السنة والسيرة. ولا إشكال في انَّه بناءً على هذا يكون خبر الفاسق الاخباري
خارجاً عن موضوع الحجية ، لأنَّ السيرة العقلائية المركوز فيها عدم حجية اخبار
الكاذب فكيف يحتمل شمول سيرتهم له. ولو احتمل ذلك فآية النبأ الواردة في خصوص ذلك
وكثير من الروايات الواردة في التحذير عن العمل باخبار الوضّاعين والكذّابين وغير
الثقات كافية في الردع عن إطلاقها. كما انَّ سيرة المتشرعة منعقدة على العمل بخصوص
اخبار الثقات لا غير الثقات ، والتقريب المتقدم لكيفية الاستدلال بالسيرة
المتشرعية على الحجية لا يتمّ إِلاّ في حقّ خبر الثقة فقط الّذي يوجد مقتضٍ عقلائي
للعمل به لا خبر غير الثقة الّذي يكون مقتضى الطبع العقلائي عدم العمل به ، وامَّا
السنّة اللفظية فموضوع ما تمّ منها دلالة خصوص الثقة من الرّواة خصوصاً إذا
جعلناها إمضاءً للكبرى المرتكزة عند العقلاء.
وامَّا خبر الثقة
فهل يكون ميزان حجيته بناءً على هذا المدرك وثاقة الراوي أو لا بدَّ إضافة إلى ذلك
من الوثوق بالنقل وصدقه بقرائن وأمارات أُخرى زائداً على أصل وثاقة الراوي ، وهل
انَّ الوثاقة يكتفي فيها بأقلّ مراتبها أو لا بدَّ من توفّر المرتبة العالية منها؟
الصحيح هو التعميم
من كلتا الناحيتين وذلك يكون بأحد طريقين :
الأول
ـ التمسّك بعموم
السيرة العقلائية ، فانَّها لا تشترط أكثر من وثاقة الراوي وبذلك يمكن تقريب عموم
سيرة المتشرعة أيضا بنفس البيان المتقدم في أصل تقريبها ، من انَّه لو كان عملهم
على غير ذلك مع كثرة الموارد التي لا تتوفر فيها الشروط الزائدة كان لا بدَّ من
السؤال والفحص عنهم : ولانعكس الردع والاشتراط مع انَّه ليس شيء من هذا القبيل
ممّا يكشف عن التعميم لا محالة.
الثاني
ـ أَن نتمسك بالسنة اللفظية التي يكون متنها مطلقاً كرواية
أحمد بن إسحاق المتقدمة والتي جاء فيها التعليل بمطلق الوثاقة ويكون سندها قطعياً
أو من المتيقن حجيته لكونه واجداً للشروط المذكورة فنثبت بها حجية مطلق خبر الثقة.
يبقى بعد ذلك
أُمور لا بدَّ من التعرض إليها.
الأول
ـ انَّ خبر الثقة
إذا زوحم بأمارة أقوى من وثاقة الراوي في الأمارية فهل يكون مشمولاً لدليل الحجية
أيضا؟ الصحيح : عدم شمول دليل الحجية له ، والسبب فيه انَّ الوثاقة التي هي ملاك
الحجية تكون بحسب الارتكاز العقلائي وظهور الدليل والسنة اللفظية المحمولة على
الارتكازات العقلائية ملحوظة باعتبار كاشفيتها النوعية لا على وجه الصفتية
والموضوعية فإذا ابتليت بمزاحم أقوى أوجب وهن احتمال صحّة النقل فلا تشمله السيرة
العقلائية ، ولا يتمّ فيه تقريبنا للاستدلال بسيرة المتشرعة كما تنصرف عنه السنة
اللفظية. ومن مصاديق ذلك المسألة المعروفة بإعراض المشهور عن خبر صحيح فانَّه يوجب
سقوطه عن الحجية إذا كانت الشهرة من قبل الأقدمين من علمائنا القريبين لعصر النصوص
ولم يكن تفسير مدركي اجتهادي واضح لفتاواهم.
الثاني
ـ خبر غير الثقة إذا كان يوثق بمضمونه نتيجة قرائن وأمارات
خارجية بحيث لا تقلّ كاشفيتها وأماريتها عن أمارية خبر الثقة مع ذلك لا يكون حجة ،
وذلك لعدم شمول شيء من السنة اللفظية أو السيرة له. اللهم إِلاّ أَنْ يدعى تنقيح
المناط وهو فاسد ، لأنَّ المناط في جعل الحجية هو التحفظ على الأحكام الواقعية
فلعلّه قد أشبعت حاجة التحفّظ المذكور بمقدار جعل الحجية لخبر الثقة غير الموهون
فكيف يمكن التعدّي وإحراز المناط ، بل لو أمكن ذلك لأمكن إِلغاء الخبر أيضا
والتعدّي إلى غيره من الأمارات الظنية كالشهرة الفتوائية مثلاً إذا استوجبت نفس
تلك الدرجة من الوثوق والكاشفية ومن هنا لا نقبل انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب
به.
الثالث
ـ خبر الثقة إذا كان مشتملاً على وسائط أيضا يكون مشمولاً
لأدلة الحجية اللفظية واللبيّة بل من المتيقن انَّ عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة : بالروايات لم يكن
مقصوراً على الاخبار بلا واسطة ، كيف وكثير من الروايات خصوصاً الصادرة من الأئمة
الأقدمين 7 كانت مع الوسائط ولم يؤثر عن أحد منهم النقاش أو الدغدغة في صحّة العمل بها
لمجرد اشتمالها على وسائط بل لو كانت الواسطة توجب خروج الاخبار عن الحجية لزم
تغيير مدارك الاستنباط كلّما مضت فترة على الروايات ومصادر الاستنباط بحيث كان
الأمر بحاجة إلى علاج من قبلهم ومثل هذا واضح الفساد.
دليل الانسداد
وحجيّة مطلق الظن
ونتكلّم فيه
بالمقدار الّذي يفي بتقرير أصل هذا البحث وأساسياته مع ترك التفاصيل الفرضية
والتقديرية ، لأنَّ أصل هذا الدليل تقدير وفرض مبني على عدم تمامية الدليل على حجة
شرعية وانسداد بابه وقد عرفت حجية خبر الثقة شرعاً.
وقد ركبه صاحب
الكفاية ( قده ) من مقدمات خمس كما يلي :
الأُولى
ـ العلم إجمالاً بثبوت تكاليف في الشريعة.
الثانية
ـ انسداد باب العلم
والعلمي في مقام تعيينها.
الثالثة
ـ عدم جواز إهمالها رأساً لمجرّد انسداد باب العلم.
الرابعة
ـ عدم جواز الرجوع إلى القواعد والأصول المقررة أو المحتمل
تقررها في كلّ مسألة من أصالة البراءة أو الاحتياط أو الاستصحاب أو القرعة.
الخامسة
ـ عدم جواز الأخذ بالموهومات في مقابل المظنونات.
فإذا تمّت هذه
المقدمات الخمس تعيّن العمل بالظنّ ، إذ لو لم نأخذ به فإما أَنْ يكون من جهة
الإهمال لكلّ المحتملات وهو خلف المقدمة الثالثة أو باعتبار الجمع والاحتياط
بلحاظها وهو خلف المقدمة الرابعة أو بترجيح الموهوم على المظنون وهو خلف المقدمة
الخامسة.
وهذا التنسيق رغم
صورته لا يخلو من قلق من الناحية الفنية ، لأنَّا إذا لاحظنا المقدمة الأولى نجد
انَّها ليست مقدمة في عرض سائر المقدمات بل هي برهان بعض المقدمات الأُخرى وهي
الرابعة ، فانَّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كلّ مسألة مثلاً هو
العلم الإجمالي بالتكاليف فهي على حدّ قاعدة نفي العسر والحرج لنفي لزوم الاحتياط
من حيث كونها حيثية تعليلية لتلك المقدمة. كما انَّ المقدمة الثالثة لو أُريد
بالإهمال فيها عدم المنجزية وإجراء البراءة فهو رجوع إلى الرابعة ، وإِنْ أُريد
عدم جواز الإهمال بمعنى لزوم تحصيل المؤمن تجاه الحكم الواقعي فهذا معناه انَّ
مولوية المولى ثابتة بحيث لا بدَّ من التصدّي لتكاليفه وهذا أصل موضوعي لتمام
الفقه لا لدليل الانسداد ، ولو أُريد انَّ مجرد انسداد باب العلم لا يوجب ارتفاع
التكاليف الواقعية فهذا بحسب الحقيقة رجوع إلى المقدمة الأُولى من فرض العلم
بالتكاليف إجمالاً حتى بعد الانسداد.
ولعلَّ الأفضل في
منهجة هذا الدليل ، أَن يقال : بعد الفراغ عن أصل مولوية المولى ولزوم الاهتمام
بتكاليفه والخروج عن عهدتها ، انَّ الخروج عن عهدة تلك التكاليف وتعيينها يتصوّر
على أنحاء ، امَّا بتحصيل العلم التفصيليّ بها أو بالحجة ـ العملي ـ أو بالرجوع
إلى الأصول المقررة في كلّ مسألة أو بالاحتياط التام أو بالتقليد لمجتهد أو
بالقرعة أو بالعمل بالموهومات أو بالعمل بالمظنونات. فنبطل كلّ المحتملات ما عدا
الأخير وبذلك يثبت المقصود.
ثمَّ انَّ مقدمات
دليل الانسداد تارة ترتب بنحو ينتج حجية الظنّ على الكشف ، وأخرى حجيته على
الحكومة. وقبل البحث عن كلّ من الترتيبين لا بدَّ من تفسير مصطلحي الكشف والحكومة
في المقام.
امَّا الكشف فيراد
بها حجية الظنّ شرعاً غاية الأمر يستكشف ذلك بدليل الانسداد العقلي أو الملفق من
مقدمات عقلية ونقلية ، والحجية الشرعية للظنّ حجية مجعولة ومشرعة من قبل المولى
وهذا واضح.
وامَّا حجية الظنّ
على الحكومة فقد فسّرها صاحب الكفاية ( قده ) بحكم العقل بحجية الظنّ عند الانسداد
على حدّ حكمه بحجية القطع عند الانفتاح.
وقد استشكلت مدرسة
المحقق النائيني ( قده ) على هذا التفسير بأنَّه امَّا أَن تكون هذه الحجية المدعى
ثبوتها للظنّ بحكم العقل مجعولة أو منجعلة ، فان فرض انَّها مجعولة فهذا معناه
انَّ العقل يجعل الحجية للظنّ مع انَّ العقل شأنه الإدراك لا الجعل والتشريع ،
وإِنْ فرض انَّها منجعلة فهذا معناه انَّها من لوازم الظنّ وذاتيّاته لأنَّ ما لا
يكون من لوازم موضوع ذاتاً لا يكون منجعلاً بجعله ، مع انَّه قد تقدّم في مستهلّ
البحث عن الحجج والأمارات انَّ الحجية ليست ذاتية لغير العلم بل لو لم يحكم الشارع
بحجية ظنّ ومنجزيته لحكم العقل في مورده بقبح العقاب بلا بيان.
ويمكن أَن يجاب
على هذا الإشكال من زاوية فكر صاحب الكفاية ( قده ) ، بأنَّ حجية الظنّ على
الحكومة منجعلة له عند الانسداد كالحجية للقطع غاية الأمر انَّها ليست من لوازم
ماهية الظنّ مطلقاً بل نظير لوازم الوجود التي ترتبها على اللزوم موقوف على تحقق
شرط كالإحراق المترتب على النار بشرط الجفاف مثلاً أو الملاقاة ، وفي المقام الظنّ
بشرط انسداد باب العلم والعلمي يحكم العقل بحجيته وتكون روح المطلب حينئذ دعوى
انَّ العقل يدرك انَّ الظنّ في حال الانسداد كافٍ للبيانية وارتفاع موضوع قاعدة
قبح العقاب بلا بيان المزعومة لأنَّه كالقطع في حال الانفتاح من حيث انَّه أقصى ما
يمكن تحصيله من التصديق والكشف عن التكليف الواقعي سواءً سمّيناه بالبيان والحجة
لغة أم لا لأنَّ حقّ الطاعة للمولى ثابت فيه عند الانسداد على الأقل.
هذا إذا لم نتمسك
بحرفية القاعدة ، وامَّا إذا تمسّكنا بها فيستحكم الإشكال لأنَّه حتى إذا تمّت
مقدمات الانسداد فلا ينتج حجية الظنّ بحكم العقل لأنَّ الظنّ بقطع النّظر عن
منجزية العلم الإجمالي ليس ببيان لكي يكون منجزاً ورافعاً للقاعدة وفرض حجية له
حاكمة على القاعدة خلف كون العقل مدركاً لا جاعلاً ومشرعاً. نعم العلم الإجمالي
منجز وبيان وهو يقتضي الاحتياط التام لو لا الدليل على عدم لزومه ، فتكون النتيجة
هو التبعيض في الاحتياط وهو غير حجية الظنّ بحكم العقل.
وقد حاول الميرزا
( قده ) العثور على وجه معقول لحجية الظنّ على الحكومة لا يرجع إلى التبعيض في
الاحتياط وبنفس الوقت لا يرجع إلى ما ذكره صاحب الكفاية المستلزم لثلم قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ـ ومنه سوف يظهر انَّ ما جاء في الدراسات
من تفسير حجية
الظنّ على الحكومة بمسلك التبعيض في الاحتياط على إطلاقه غير صحيح ـ وما يمكن أَنْ
تصاغ به هذه المحاولة على ضوء مجموع كلمات الميرزا ( قده ) إحدى فرضيات مختلفة في
المبنى والأصول الموضوعية وإِنْ كانت مشتركة في إثبات نحو حجية للظنّ بحكم العقل
في حال الانسداد.
الأُولى
ـ أَن يراد حجية الظنّ بحكم العقل في مقام الامتثال والخروج
عن عهدة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي ، حيث انَّه بعد فرض عدم إمكان الاحتياط
والامتثال اليقيني أو عدم وجوبه شرعاً يحكم العقل بلزوم الامتثال الظنّي والخروج
عن عهدة التكليف المتنجز بالعلم خروجاً ظنّيّاً ، فليس المقصود تنجز التكليف
بالظنّ لكي يكون منافياً مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما انَّ هذا ليس مجرد
التبعيض في الاحتياط الّذي قد يتحقّق بمجيء دليل شرعي يدلّ على عدم وجوب الاحتياط
في بعض الأطراف. والحاصل بعد فرض منجزية العلم الإجمالي تارة : يدلّ دليل على عدم
وجوب الاحتياط في بعض الأطراف فيجب الاحتياط في الباقي بقانون منجزية العلم
الإجمالي وهذا هو التبعيض في الاحتياط ، وأُخرى : يدلّ الدليل على عدم وجوب
الاحتياط التام من دون تعيين ذلك في أطراف معيّنة فيمكن أَن تكون هي المشكوكات كما
يمكن أَنْ تعين في المظنونات فانَّ كلّ ذلك من زاوية العلم الإجمالي ومنجزيته
للأطراف الباقية على حدّ سواء فلا بدَّ من إضافة دعوى حكم العقل حينئذ بلزوم تطبيق
ترك الاحتياط في المشكوكات دون المظنونات ، لأنَّ العلم الإجمالي بعد أَنْ كان
منجزاً حتى بعد عدم لزوم الاحتياط التام يحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدته بالظنّ
إذا كان ممكناً ولا يجوز تركه إلى الامتثال الشكّي أو الوهمي.
الثانية
ـ انَّ الظنّ يوجب
صرف تنجيز العلم الإجمالي ـ بعد عدم إمكان الموافقة القطعية أو عدم وجوبها أي عدم
تنجيزه لجميع الأطراف ـ إلى الطرف المظنون.
الثالثة
ـ انَّ العلم الإجمالي وإِنْ كان ينجز الجامع وأمَّا الأطراف
بخصوصياتها فتتنجز بالاحتمال بعد تعارض الأصول فيها إِلاّ انَّه حيث تتزاحم
الاحتمالات في مقام التنجيز بعد عدم وجوب الاحتياط التام يكون الظنّ مرجحاً في
مقام حلّ هذا التزاحم.
الرابعة
ـ انَّ التنجز من حيث الوصول ثابت للتكليف في أي طرف كان
بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال ، وانَّما هناك اضطرار إلى ترك الاحتياط الّذي قد
يؤدّي إلى ترك بعض التكاليف المعلومة بالإجمال والمتنجزة من حيث الوصول ، وحينئذ
لا بدَّ من ترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات بقوة احتمال الأهمية ـ التي
هي من مرجحات باب التزاحم ـ.
وروح هذه الفرضيات
ونتيجتها واحدة وإِنْ اختلفت صياغتها حسب اختلاف المباني في منجزية العلم الإجمالي
وغيرها بنحو لا يسعنا الدخول في عرضها في المقام على التفصيل.
ثمّ انَّنا فيما
يلي نتكلّم في كلّ واحدة من مقدمات الانسداد حسب ترتيبها في الكفاية فنقول :
امَّا
المقدمة الأُولى ـ وهو العلم الإجمالي بثبوت
تكاليف في مجموع الشبهات ، فمما لا ينبغي الإشكال فيه لأحد منشأين.
١ ـ البرهان
اللّمي الناتج من الاعتقاد بالشريعة والدين المستلزم للاعتقاد بثبوت أحكام
وتشريعيات إلزامية فيها.
٢ ـ البرهان
الإنِّي القاضي باستكشاف ذلك من مجموع الروايات والأمارات والشواهد المنتشرة في
الفقه الدالة إجمالاً على وجود تكاليف في الشريعة المقدسة.
وإِنَّما الكلام
في تحقيق دعوى انحلال هذا العلم بعلم أصغر منه بحيث يمكن الاحتياط التام في
أطرافه. وهذه الدعوى يمكن تصويرها بأحد وجوه :
١ ـ انحلال العلم
الإجمالي بالتكاليف في مجموع الشبهات بالعلم الإجمالي في حدود الأمارات القائمة في
الفقه على الحكم الشرعي ، فلا يجب الاحتياط في الشبهات المجردة عن الأمارة على
التكليف. وهذا صحيح وقد تقدّم ذكره عند التعرّض للدليل العقلي على حجية خبر الثقة
، حيث قلنا انَّه لا موجب لافتراض انَّ المعلوم بالإجمال بالعلم الكبير أكبر عدداً
ممّا يعلم إجمالاً ثبوته في دائرة مجموع الأمارات لا من ناحية البرهان اللمِّي ولا
الإنِّي المتقدمَين ، أمَّا الأول فواضح وأمَّا الثاني فلأنَّ هذه الأمارات بحسب
الحقيقة هي المدرك الكاشف عن ثبوت التكاليف في الشريعة. والاحتياط في
أطراف هذا العلم
الإجمالي قد لا يوجب عسراً ولا حرجاً.
٢ ـ انحلال كلا
العلمين السابقين بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات التي بأيدينا ، خاصة وهذه
الدعوى هي عين الدليل العقلي المتقدّم على حجية خبر الثقة وقد تقدّمت مناقشته.
٣ ـ دعوى انحلال
العلمين المتقدمين بعلم إجمالي أصغر في دائرة مجمع الأمارات خاصة ، حيث انَّ
المعلوم بالإجمال فيها لا يقلّ عن المعلوم بالعلوم الإجمالية الأُخرى ولو نتيجة
قوة الاحتمال فيه وتطابق الأمارات عليه.
٤ ـ دعوى انحلال
كلّ العلوم الإجمالية المذكورة بما يعلم به تفصيلاً من التكاليف نتيجة الضرورات
والمسلمات الفقهية أو الروايات والأدلة المتواترة والقطعية كالإجماعات والارتكازات
مضافاً إليها ما يطمئن به اطمئناناً شخصياً من الأحكام مع دوائر العلوم الإجمالية
الصغيرة في المسائل الفقهية حسب الموضوعات لا الأمارات كالعلم بوجوب القصر والتمام
أو الظهر والجمعة أو بأنَّ للصلاة أجزاءً غير الأركان ضمن ما هو متعارف وشايع فيها
ونحو ذلك ممّا فيه علوم إجمالية صغيرة منجزة ، فانَّه بضمّ مجموع هذه الأقلام من
التكاليف الثابتة أو المتنجّزة بعضها إلى بعض ربّما نحصل على موارد وأطراف يتنجز
فيها التكليف لا تقلّ عن المعلوم بالإجمال من التكاليف في مجموع الشبهات بحيث لا
يعلم بوجود تكليف خارج عنها فينحل العلم الإجمالي الانسدادي في مجموع الشبهات
بذلك.
وأمَّا
المقدمة الثانية ـ من انسداد باب العلم
والعلمي بالنسبة إلى معظم الفقه ، وهذا الانسداد في مثل زماننا واضح بالنسبة إلى
العلم ولعلّه واضح بالنسبة إلى أزمنة الأئمة : أيضا في بعض البلاد والحالات ، وأمَّا انسداد العلمي فهو
مربوط بتحقيق حال حجية الظهورات وأخبار الآحاد فانْ بني على عدم حجيتهما معاً ثبت
الانسداد من ناحية العلمي أيضا ، كما انَّه إذا بني على حجيتهما معاً فلا انسداد
لكفايتهما بمعظم الفقه وإِنْ كان باب العلم منسداً ، وأمَّا إذا دلَّ الدليل على
حجية الخبر دون الظهور فأيضاً الانسداد تام لقلّة الروايات الصريحة القطعية من حيث
الدلالة ولو فرض الدليل على حجية الظهور دون الخبر فانْ فرض العلم إجمالاً بتخصيص
بعض الظهورات فأيضاً
سوف يسري إِليها
الإجمال فتسقط وإِلاّ فتبقى الأدلة القطعية السند أو الاطمئنانية حجة إِلاّ انَّ
الظاهر عدم كفاية ذلك بمعظم الفقه وأنَّ المعلوم بالإجمال من التكاليف أكثر من
المقدار الثابت بها وهذا يعني انَّ الانفتاح مبنيّ على حجية الظهور وخبر الواحد
معاً.
وأمَّا
المقدمة الثالثة ـ وهي عدم جواز إهمال
التكاليف ، فقد تقدّم منَّا الإشكال في معناها وانَّها مستدركة ، ومن هنا نريد
منها
هنا عدم جواز
الرجوع إلى البراءة في كلّ الشبهات في قبال المقدمة الرابعة التي نقصد بها عدم
لزوم الاحتياط في تمام الأطراف.
والكلام في إثبات
عدم جواز الرجوع إلى البراءة في تمام الأطراف يقع في مقامين :
أولا
ـ في إثبات أصل
المقتضي للبراءة.
وثانياً ـ في
إبراز المانع عنه.
أمَّا
المقام الأول ـ فانْ بنينا على مسلك
البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان فالمقتضي الطبعي للبراءة العقلية ثابت لا
محالة. وحينئذ إِنْ ادعينا ما ذكرناه في تفسير ظاهر كلام صاحب الكفاية ( قده ) من
حكم العقل بحجية الظنّ عند الانسداد وانَّه بيان فسوف لا يتمّ موضوع البراءة في
المظنونات لكون الظنّ بياناً في حال الانسداد ويكون موضوعها تاماً في المشكوكات
والموهومات بلا مانع أيضا لانحلال العلم الإجمالي بمنجزية الظنّ ، وإِنْ أنكرنا
البراءة العقلية رأساً أو أنكرنا التفسير المذكور واعتبرنا العلم الإجمالي بياناً
كما هو مسلك المشهور فلا مقتضي للبراءة العقلية وعلى كلّ المسالك لا مقتضي للبراءة
العقلية في المظنونات.
وأمَّا البراءة
الشرعية فانْ كان دليلها خبر الواحد كحديث الرفع مثلاً فمن الواضح انَّه لا حجية
له عند الانسداد فلا مقتضي لها إثباتاً أيضا ، وإِنْ كان دليلها الكتاب الكريم من
قبيل قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً ) . فانْ بنى على عدم حجية الظهورات فالنتيجة كما تقدّم أيضا
وإِلاّ فالمقتضي للبراءة الشرعية يكون تاماً ، وإذا تمّ
__________________
الدليل على
البراءة الشرعية في المظنونات ولم يكن مانع عن إجرائها في المقام القادم فسوف تكون
هذه البراءة رافعة لحجية الظنّ على الحكومة بالمعنى المتقدم في تفسير ظاهر كلام
الكفاية لأنَّ حجية أو منجزية الظنّ عند الانسداد الثابتة بنظر العقل معلقة على
عدم الترخيص الشرعي في الخلاف وهذا ترخيص شرعي فيكون حاكماً عليها.
وأمَّا
المقام الثاني ـ فتذكر عادة ثلاثة موانع
عن الرجوع إلى البراءة في تمام الشبهات.
١ ـ الإجماع حيث
يقال انَّه لا يحتمل في حقّ فقيه أَنْ يرخص في إجراء البراءة في تمام الفقه.
٢ ـ لزوم الخروج
عن الدين ، وليس المقصود به الكفر ليقال بأنَّ ترك التكاليف المعلومة تفصيلاً لا
يوجب ذلك فكيف بالمعلومة إجمالاً ، وانَّما المقصود الخروج عن مذاق الدين المعلوم
بالضرورة منه لما يعلم من ملاحظة مجموع ما ثبت من الأحاديث التي هي مصادر لهذه
الأحكام والاهتمام بها والتأكيد والحرص إلى حد التضحية عليها من قبل أئمة الإسلام
والطائفة وعلمائها في سبيل حفظها انَّ الشارع لا يرضى بتركها جميعاً وإهمالها
لمجرد عدم العلم بها.
٣ ـ العلم
الإجمالي الموجب لتساقط أصالة البراءة في أطرافه.
وقد يناقش في
الوجه الأول عن طريق التشكيك في ثبوت إجماع من العلماء حتى في فرض الانسداد بل
المتيقن عدم جريانها عندهم في الشبهات في حال الانفتاح لأنَّهم لم يعيشوا الانسداد
ولم يعنونوه في كلماتهم.
ولكنه لا ينبغي
الإشكال بملاحظة ما ذكر في الوجه الثاني صحّة دعوى القطع الضروري بأنَّ علمائنا
رضوان الله عليهم أيضا لم يكن من مذاقهم السماح بإجراء البراءة في جميع الشبهات
فانَّ هذا واضح منهم بلا حاجة إلى مراجعة كلماتهم ومسائلهم التي عنونوها. إِلاّ
انَّ الإجماع بهذا التقرير سوف يكون في طول وضوح صحّة القضية المجمع عليها في
نفسها شرعاً فلا يمكن أَنْ يكون الإجماع مدرك صحّتها فيرجع الوجه الأول إلى الثاني
بحسب الحقيقة.
وقد يحاول إرجاع
الوجه الثاني إلى الثالث بدعوى انَّه لو لا القطع بثبوت تكاليف
إجمالاً لم يكن
وجه لعدم إجراء البراءة في الشبهات إذ لو احتمل حقّاً عدم التكليف أصلاً فلما ذا
يفترض انَّ مذاق الشارع مانع عن جريانها.
إِلاّ انَّ الصحيح
عدم رجوعه إليه ، لأنَّ الوجهين وإِنْ افتقرا معاً إلى أصل فرض علم بالتكاليف ولو
إجمالاً إِلاّ انَّ الوجه الثالث يجعل منجزية العلم مانعاً عن جريان الأصول
وموجباً لتساقطها ، بينما الوجه الثاني لا يبتني على ذلك فحتى لو بني على انَّ
الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي في نفسه جائز وإِنَّ إطلاق أدلة الأصول لا
مانع من التمسّك فيها إِلاّ انَّه في خصوص هذا العلم الإجمالي لا يجوز ذلك لكونه
إجمالاً في أصل الشريعة بحيث يكون إجراء الأصول المرخصة في تمام الأطراف تفويتاً
لأصل الشريعة ومعظم الفقه ومثل هذا ممّا يقطع بعدم رضى الشارع به ، وإجراء البراءة
في بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح فتتساقط الأصول.
وأمَّا صحّة الوجه
الثالث فقد استشكل عليه بوجهين :
١ ـ انَّ هذا
العلم الإجمالي غير منجز ، لأنَّ المكلّف مبتلى بالاضطرار إلى ارتكاب بعض أطرافه
بعد عدم تيسر الاحتياط التام لكونه متعسراً فيكون من الاضطرار إلى ترك الاحتياط في
بعض الأطراف وهو كافٍ عند مثل صاحب الكفاية ( قده ) في إسقاط العلم عن التنجيز في
سائر الأطراف ولو كان الاضطرار إلى أطراف غير معيّنة.
وهذا التقرير
للإشكال جوابه المنع عن المبنى على ما سوف يأتي في محلّه ، مضافاً إلى ما سوف يأتي
من إمكان دعوى انَّ هذا الاضطرار من أجل دفع العسر والحرج ليس إلى غير المعين بل
المعين.
ومن هنا حاول
المحقق العراقي ( قده ) تقرير هذا الاستشكال بدعوى انَّ الاضطرار إلى أطراف معينة
وهي الموهومات أو بإضافة المشكوكات ، وذلك لأنَّ الاضطرار ابتداءً وإِنْ كان متوجهاً
إلى غير المعين لأنَّه بملاك دفع العسر الناشئ من الاحتياط التام في تمام الأطراف
فيرتفع باقتحام بعضها لا بعينه إِلاّ انَّ أطراف الاحتياط باعتبارها ليست متساوية
الإقدام بل بعضها مظنون الانطباق على المعلوم بالإجمال وبعضها موهومة أو مشكوكة
فالعقل يستقل بلزوم صرف هذا الخروج عن قانون العلم الإجمالي إلى أبعد الأطراف عن
المعلوم الإجمالي وهو الموهومات أو مع المشكوكات
فيكون كالاضطرار
إلى معين.
وهذا التقرير أيضا
غير تام ، فانَّه أولا
ـ انَّ هذا التعيين
بحكم العقل انَّما يكون في طول تنجيز العلم الإجمالي فلا يعقل أَنْ يكون مانعاً عن
تنجيزه ، إذ لو قطعنا النّظر عن منجزيته فالاضطرار إلى غير المعين وانَّما يأتي
التعيين في طول الفراغ عن منجزية العلم ولزوم الخروج عن عهدته ، وليته كان قد صور
تعين الاضطرار في دائرة الموهومات بأنه لا عسر في الاحتياط في المظنونات في نفسها
وانَّما الموهومات هي التي يلزم من الاحتياط فيها العسر نتيجة انَّ باب الوهم
والاحتمال واسع فربّما يحتمل التكليف في الأمور الحياتية المهمة التي في نفسها لا
يمكن الاحتياط فيها.
وثانياً ـ لو سلّم
انَّ العلم الإجمالي سقط عن المنجزية للاضطرار إلى اقتحام بعض أطرافه بأحد
البيانين المتقدمين ، فهناك علم إجمالي آخر في خصوص دائرة المظنونات يوجب تعارض
الأصول المؤمنة فيها إذ لا يحتمل كذبها جميعاً وما فرضناه سابقاً في المقدمة
الأولى انَّ هذا العلم الصغير لا يؤثر في حلّ العلم الإجمالي الانسدادي ولو لكون
معلومه أقلّ من معلومه لا ينافي تأثيره فيما هو المقصود في هذه المقدمة من تعارض
الأصول المؤمنة في دائرة المظنونات.
ثمّ انَّ الغرض
الأساس من هذه المقدمة وهو إسقاط البراءة ونفي وجود وظيفة شرعية واصلة يحتاج إليه
على جميع المسالك في حجية الظنّ عند الانسداد ، امَّا على مسلك التبعيض في
الاحتياط فواضح لأنَّه يقتضي منجزية العلم الإجمالي في كلّ شبهة ما لم يثبت خلافه
ومنجزيته في كلّ شبهة شبهة فرع عدم جريان البراءة فيها ، وامَّا على مسلك حجية
الظنّ على الحكومة بالتفسير الّذي تقدّم عن الكفاية فلأنَّ العقل انَّما يحكم
بأنَّ الظنّ عند الانسداد كالقطع عند الانفتاح معلقاً على عدم ترخيص من الشارع
والبراءة الشرعية ترخيص منه رافع لموضوع هذا الحكم ، وامَّا على مسلك الكشف فلأنَّ
اكتشاف جعل الشارع الظنّ حجة موقوف على عدم مرجعية البراءة إذ لو جرتِ البراءة
الشرعية بل لو كانت البراءة العقلية أيضا جارية لكفى ذلك في عدم إمكان استكشاف جعل
الشارع الظنّ طريقاً فلعله اعتمد على ما يحكم به العقل من البراءة.
٢ ـ ما يمكن أَنْ
يستفاد من مجموع كلمات متفرقة للمحقق العراقي ( قده ) من الإشكال في هذه المقدمة
بما حاصله : انَّ العمدة في إثبات هذه المقدمة الوجه الأول والثاني دون الثالث وهو
العلم الإجمالي لأنَّه يبطل بضمه إلى الوجهين ولا يوصلنا إلى مرام الانسدادي
بتبديلهما به ، توضيح ذلك : انَّه لو تمّ أحد الوجهين وأثبتنا بهما تنجز التكاليف
على نحو لا يمكن إجراء البراءة بقطع النّظر عن العلم الإجمالي فهذا يكشف لنا انَّ
الشارع جعل منجزاً في بعض الأطراف والشبهات إذ لو لا ذلك لما ذا يقوم إجماع أو
ضرورة على عدم جواز إجراء البراءة بل انَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان عقلية لا
يمكن تخصيصها إِلاّ برفع موضوعها وهو المنجز الواصل ، فلا محالة يكشف كلّ من
الوجهين الأولين لو تمّا عن وجود منجز كذلك ، وهذا المنجز المستكشف بهما يوجب
انحلال العلم الإجمالي لأنَّه منجز في بعض أطراف العلم فيدخل تحت كبرى انحلال
العلم الإجمالي بقيام منجز في بعض أطرافه. ولو فرض عدم تمامية الوجهين والاقتصار
على الثالث فلا ينتج حجية الظنّ بل غايته التبعيض في الاحتياط ، لأنَّ هذا العلم
الإجمالي إِنْ بني على عدم منجزيته فلا تتعارض الأصول النافية في أطرافه ، وإِنْ
بني على منجزيته فكلّ شبهة سوف تكون منجزة بالعلم المذكور وحينئذ لا يعقل تنجزه
ثانياً بالظنّ لأنَّ المتنجز لا يتنجز.
ونلاحظ على ما
ذكره : أولا ـ انَّ الوجهين الأولين لو تمّا فلا يحلان العلم الإجمالي ،
لأنَّ غاية ما يقتضيان عدم جواز الاقتحام في تمام الشبهات إذ بذلك يتحقق الخروج عن
الدين وهو المخالف للإجماع وأمَّا اقتحام بعض وترك بعض فلا يكون فيه محذور ، وهذا
يعني انَّ المقدار الّذي يترتب بناءً على تماميتهما حرمة المخالفة القطعية
بالاقتحام في تمام الشبهات التي يقتضيها العلم الإجمالي ـ الوجه الثالث ـ أيضا
وهذا لا يعقل أَنْ يوجب انحلال العلم الإجمالي ، فانَّه يتوقّف على أَنْ يقوم منجز
تعييني في بعض أطرافه والوجهان الأولان لا يقتضيان ذلك بوجه. ومنه يظهر انَّ هذين
الوجهين ليسا فقط لا يضرّان بالثالث بل لا ينفعان من دونه لأنَّ غاية ما يثبت بهما
حرمة الاقتحام في تمام الأطراف الحاصل بالاحتياط في بعضها أيّاً كان وحينئذ لا
يمكن ترجيح المظنونات على الموهومات بحكم العقل إِلاّ بفرض العلم الإجمالي الّذي
هو الوجه الثالث ، وأمَّا لو خلينا
والوجهين الأولين
فتشبع حاجتهما بترك الاقتحام في كلّ الشبهات وإجراء البراءة ـ على الأقل العقلية ـ
في سائر الشبهات .
نعم لو قلنا بأنَّ
العقل يستقل بحجية الظنّ بمجرد سقوط البراءة التعيينية في المظنونات بلا حاجة إلى
المقدمة الخامسة المتكلّفة لترجيح الامتثال الظنّي على الوهمي فسوف ينحل العلم
الإجمالي وتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الموهومات والمشكوكات.
وثانياً ـ انَّ ما
أفاده من استحالة تنجز الشبهة المتنجزة بالعلم الإجمالي بالظنّ ثانية جوابه : انَّ
العلم الإجمالي انَّما ينجز حرمة المخالفة القطعية ولا ينجز الأطراف ابتداءً ،
وبهذا تسقط الأصول الشرعية المؤمنة في الأطراف فيبقى الاحتمال في كلّ طرف بلا مؤمن
شرعي أو عقلي فيكون منجزاً لا محالة ، ومن الواضح انَّ الظنَّ أيضا يمكن أَنْ يكون
منجزاً امَّا شرعاً بناءً على الكشف أو عقلاً بناءً على الحكومة من دون أَنْ تكون
هذه المنجزية في طول منجزية الاحتمال ليكون من تنجز المتنجز ، غاية الأمر انَّ
منجزية الظنّ على الحكومة مبنيٌ على سقوط البراءة الشرعية فقط دون العقلية لكونها
بحسب الفرض تخصيص فيها بينما منجزيته على الكشف فرع سقوط البراءتين معاً لكفاية
جريان البراءة العقلية في عدم إمكان استكشاف الحجية الشرعية. وعلى كلّ حال فليست
حجية الظنّ ومنجزيته في طول منجزية الاحتمال هذا كلّه بناءً على مسلك الاقتضاء ،
وأمَّا على مسلك علّية العلم الإجمالي فالتكليف وإِنْ كان قد تنجز بنفس العلم
الإجمالي فيتراءى تمامية مدعى المحقق العراقي ( قده ) إِلاّ أنَّه مع ذلك يمكن
أَنْ يقال بأنَّ حجية الظنّ كشفاً أو حكومة في عرض منجزية العلم الإجمالي ،
لأنَّها وإِنْ كانت في طول العلم الإجمالي ومنجزيته إِلاّ انَّها في طول منجزيته
للجامع أي لحرمة المخالفة القطعية وليست في طول منجزيته لوجوب الموافقة أي ليست في
طول منجزيته
__________________
للمظنونات
فالتنجيز الّذي يدعى للظنّ ليس في طول ثبوت نفس التنجيز للعلم بل في طول ثبوت
تنجيز آخر له ، إِلاّ انَّ هذا الجواب مبنيٌ على أَنْ يقبل أصحاب مسلك العلّية
وجود مرتبتين للتنجيز في العلم الإجمالي.
المقدمة
الرابعة ـ في نفي وجوب الاحتياط أو غيره من القواعد العملية المثبتة
للتكليف.
أمَّا الاحتياط
فمقتضي الاحتياط التام تام في نفسه للعلم الإجمالي بالتكاليف أو منجزية الاحتمال
نفسه بعد تساقط الأصول المؤمنة الشرعية في الشبهات. وهناك وجهان للمنع عن مرجعية
الاحتياط.
الوجه
الأول ـ التمسّك بقاعدة
نفي العسر والحرج وبذلك ينفي وجوب الاحتياط ، وقد استدلّ الشيخ بها في المقام
فاستشكل عليه صاحب الكفاية ( قده ) وكأنَّ مبنى الإشكال اختلافهما في فقه القاعدة
وتفسيرها من هنا تجدر الإشارة إلى المباني في تفسيرها وأمثالها كلا ضرر ليرى انَّ
الاستدلال بها في المقام يتمّ على أساس أي واحد منها والمباني في ذلك ثلاثة :
١ ـ مبنى مدرسة
المحقق النائيني ( قده ) من انَّ المراد بالعسر والحرج المنفي الحكم الشرعي نفسه ،
لأنَّه دقة وإِنْ لم يكن يصدق عليه عنوان الحرج أو الضرر بل على آثاره إِلاّ انَّه
حيث تكون الآثار الضررية أو الحرجية معلولة ومسببة عن الحكم الشرعي فصحّ تطبيقه
على السبب وعلى هذا يكون النفي نفياً حقيقياً لأنَّه منصب على الحكم الشرعي القابل
للرفع الحقيقي غايته انَّه قد أُشير إليه وعبّر عنه بعنوان ثانوي وهو عنوان الضرر
والحرج كناية عن نكتة الرفع. وهذا المبنى فيه عناية تلبيس الحكم عنوان نتيجته
وأثره.
٢ ـ ما ذهب إليه
صاحب الكفاية ( قده ) من أنَّ هذه العناوين تنطبق حقيقة على متعلّق الحكم الّذي هو
المنشأ الحقيقي للضرر أو الحرج كالوضوء الضرري أو الحرجي والحكم ليس إِلاّ من
دواعي الضرر أو الحرج وعليه فيكون نفي الضرر أو الحرج نفياً غير حقيقي ، إذ ليس
المقصود نفي الموضوع الخارجي بل نفي ادعائي طريقاً إلى نفي حكمه نظير قوله 6 لا رهبانية في
الإسلام.
٣ ـ المختار من أن
المنفي نفس الضرر والحرج الخارجيين الحقيقيّين إِلاّ انَّه حيث كان من الواضح انَّ
الضرر واقع خارجاً وانَّ المولى بما هو مولى ليس في مقام نفيه فنقيد إطلاق المنفي
بالحرج أو الضرر الّذي ينشأ من الشارع وهذا تقييد قرينته معه وهي ظهور حال المولى
في النفي المولوي.
وعلى المبنى الأول
من هذه المباني يوجد تقريبات للاستدلال بالقاعدة في المقام على نفي وجوب الاحتياط
:
الأول
ـ تطبيق القاعدة على
نفس التكاليف المعلومة بالإجمال ، لأنَّها في حالة الانسداد تكون سبباً للاحتياط
وللحرج وإِنْ كانت في حال الانفتاح وفي نفسها لا تكون حرجية والمفروض انَّ الحكم
يلبس ثوب نتيجته.
وهذا التقريب على
مبنى علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة تام ، وأمَّا على مبنى الاقتضاء فيمكن
أَنْ يقال انَّ الحرج لم ينشأ عن التكليف بل عن المجموع المركب منه وعدم الترخيص
في الأطراف .
الثاني
ـ تطبيق القاعدة على نفس وجوب الاحتياط ، وقد استشكل فيه صاحب
الكفاية ( قده ) بأنَّ وجوب الاحتياط عقلي والقاعدة ترفع ما يكون من الشارع لا
أحكام العقل.
وفيه : انَّه إِنْ
أُريد انَّ حكم العقل غير قابل للرفع ، فالجواب : انَّ بيد المولى رفعه بالترخيص
في بعض الأطراف لأنَّ حكم العقل كما هو معلوم معلّق على عدم الترخيص ، وإِنْ أُريد
به محذور إثباتي وهو انَّ القاعدة ناظرة إلى أحكام الشارع
__________________
لا أحكام حاكم آخر
فالجواب : انَّ العقل ليس بشارع آخر له أحكام في قبال حكم الشارع وإِنَّما حكم
العقل يعني إدراكه للوظيفة العملية تجاه الشارع فيكون وجوب الاحتياط نتيجة واقعية
يدركها العقل تجاه الشارع فهو من تبعات أحكام الشارع والمفروض إمكان رفعه برفع
موضوعه فلما ذا تنصرف عنه القاعدة.
الثالث
ـ إجراء قاعدة نفي الحرج بلحاظ عدم الترخيص الشرعي في بعض
الأطراف الّذي ينشأ منه لزوم الاحتياط التام الحرجي. وقد يتوهّم انَّه انَّما يصحّ
فيما إِذا أمكن إجراء هذه القواعد النافية بلحاظ عدم الحكم أيضا ، إِلاّ انَّ هذا
الاستظهار لو تمّ فهو غير ضائر في المقام لما بيناه في حقيقة الحكم الظاهري من
انَّ روحه عبارة عن شدة اهتمام المولى بأغراضه الإلزامية وعدمه فمرجع تطبيق
القاعدة في المقام نفي شدة اهتمام المولى بأغراضه الإلزامية المعلومة بالإجمال وبنفيها
يرتفع موضوع حكم العقل بالتنجز وهذه مرتبة من مراتب الحكم الشرعي وليست مجرد عدم
الحكم فلا ينصرف عنه دليل النفي.
وأمَّا بناءً على
المبنى الثاني الّذي ذهب إليه في الكفاية من انَّ مفاد القاعدة نفي الموضوع ـ المتعلق
ـ استطراقاً إلى نفي حكمه لبّا فقد يستشكل في تطبيق القاعدة ، بأنَّه لا موضوع
لحكم شرعي ضروري ، لأنَّ متعلّق التكاليف الواقعية في نفسه ليس بضرري ولا حرجي
والحرج في الاحتياط وإِنْ كان ثابتاً إِلاّ انَّه ليس موضوعاً لحكم الشارع حتى
بمعنى شدة الاهتمام المبرز في التقريب الثالث المتقدم على المبنى السابق.
وهنا عدة أجوبة عن
هذا الإشكال :
١ ـ أَنْ تدعى
التوسعة في القاعدة لمثل موضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط إذا كان حرجياً أو ضررياً
، لكونه من تبعات التكاليف الشرعية وقابلة للرفع برفع منشئه تبعاً فلا موجب لتخصيص
النفي فيها بالحكم الشرعي المجعول من قبله بالأصالة.
٢ ـ انَّنا نطبق
القاعدة بلحاظ نفس موضوعات التكاليف الواقعية ، فانَّها تكون حرجية إذا أُريد
الاحتياط التام ولكن في نهاية المطاف حيث انَّه إذا تجمعت تدريجياً الشبهات التي
احتاط المكلّف فيها فسوف يصل إلى شبهة لو احتاط فيها أيضا لوقع في الحرج فيكون
متعلّق التكليف الواقعي المشتبه في تلك الشبهة حرجياً حقيقة فيرفع بالقاعدة.
وهذا الجواب مبنيٌ
على أَنْ يكون الاحتياط التام الموجب للحرج في مجموع وقائع متدرجة لا عرضية كما
انَّه مبنيٌ على أَنْ تكون التدريجية في التكليف لا في زمان الابتلاء مع فعلية
التكليف من الأول وإِلاّ يكون المكلّف قد ألقى نفسه في الحرج باختياره فلا يكون
التكليف حرجياً نظير ما إذا اشتغل بعد فعلية وجوب الصلاة عليه باعمال شاقة إلى
أَنْ يصبح الصلاة عن قيام في حقّه حرجيّاً فانَّه لا يسقط عنه وجوب الصلاة عن
قيام.
٣ ـ قد ينقض على
صاحب الكفاية بجريان القاعدة فيما إذا فرضنا انَّ الحرج نشأ عن اجتناب مجموع
حرامين مثلاً يكون اجتنابهما معاً موجباً للحرج على المكلّف أو الضرر مع انَّه لا
إِشكال في جريان القاعدة لنفي إحدى الحرمتين حينئذ مع انَّه يرد نفس الإشكال من
أنَّه لو أُريد تطبيق القاعدة على كلّ من متعلقي التكليفين في نفسه فهو ليس بحرجي
ولو أُريد تطبيقها على مجموعهما فهو ليس موضوعاً لحكم الشارع وانَّما هو مجموع
الموضوعين فإذا صحّ هذا التطبيق هنا صحّ في المقام أيضا ، لأنَّ غير الحرام
الواقعي أيضا يجب الاجتناب عنه ولو بحكم العقل فكأنَّه مقدر عليه من قبل الشارع.
إِلاّ انَّ هذا
النقض غير وارد ، لأنَّه يمكن تطبيق القاعدة في مورده على واقع المجموع لا عنوانه
فإنَّهما أيضا موضوعان لحكمين شرعيين موجبان للحرج فيرتفع أحدهما لا محالة
بالقاعدة بخلاف المقام الّذي لا يكون فيما هو موضوع لحكم الشارع واقعاً حرج أصلاً.
٤ ـ انَّ التكليف
بالواقعة المرددة بين الشبهات وإِنْ كان تكليفاً بذات الفعل إِلاّ انَّ الفعل له
حصتان حصّة مقترنة مع الاحتياط في سائر الوقائع وهي حرجية وحصة غير مقترنة بذلك
وهي غير حرجية والتكليف بالجامع بين الحصّتين وإِنْ كان غير حرجي لأنَّ الجامع بين
الحصّة الحرجية وغير الحرجية ليس حرجياً كما لو كلّف بالصلاة الجامع بين الصلاة
على قمة الجبل الحرجية والصلاة على سفحه غير الحرجية إِلاّ انَّه كلّما أصبحت
الحصة غير الحرجية بحكم غير المقدور للمكلّف كان التكليف بذلك الجامع تكليفاً
بالحرج والضرر لا محالة ، والمقام كذلك لأنَّ وجوب الاحتياط في سائر الشبهات سواءً
كانت عرضية أو تدريجية ثابت على المكلّف ولو بحكم العقل فهو كأنَّه
من باب القضاء
والقدر عليه .
٥ ـ انَّنا
بالقاعدة ننفي وجوب الاحتياط شرعاً المحتمل ثبوتاً وبذلك ننفي ملاكه ومقتضية ،
لأنَّ نفي حكمه بالقاعدة لا يعني نفي مجرد الخطاب بل نفسه بمبادئه ففي المقام يثبت
بإجراء القاعدة عن حكم شرعي ظاهري محتمل في نفسه ـ وهو إيجاب الاحتياط شرعاً ـ عدمه
وبالتالي عدم اهتمام المولى بملاكاته الإلزامية المتزاحمة في مقام الحفظ وهذا كافٍ
في ارتفاع موضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط لأنَّه على ما تقدّم مراراً معلّق على
عدم وصول الترخيص الشرعي وليس المقصود بالترخيص الشرعي الّذي تكون المنجزيّة
العقلية معلقة على عدمه إِلاّ إحراز عدم اهتمام المولى بتكاليفه الإلزامية .
وأمَّا على المبنى
الثالث فتطبيق القاعدة في غاية الوضوح ، لأنَّ هذا الحرج الخارجي انَّما نشأ من
قبل الشارع لأنَّه من الاحتياط التام في امتثال تكاليف الشارع فينفي بنفي منشئه
ولو بإثبات الترخيص في بعض الأطراف.
الوجه
الثاني ـ التمسّك بالإجماع
لإثبات نفي وجوب الاحتياط وله تقريبان :
١ ـ أَنْ يدعى
قيامه على نفي وجوبه بالمقدار الّذي يمكن إثباته بالقاعدة لا أكثر ، والإجماع بهذا
التقريب لو تمّ فلا يكون تعبدياً لاحتمال نشوئه من مدرك هو القاعدة.
٢ ـ أَنْ يدعى
الإجماع على سنخ مضمون لا تفي به القاعدة ، بأَنْ يدعى الإجماع على عدم مرجعية
الاحتياط وعدم تعينه شرعاً وهذا المعنى أكثر من مجرد نفي وجوب الاحتياط لأنَّه
يعني الكشف عن عدم اعتماد الشارع على سلوك طريق الاحتياط في مقام امتثال أحكامه
رغم جوازه وحسنه عقلاً بل الشريعة قد تكفّلت بوضع حجة في تعيين التكاليف وتشخيصها
وهذا هو المناسب مع مسلك الكشف.
__________________
وهذا التقريب لا
يرد عليه ما أوردناه على التقريب السابق لأنَّ مفاده أكثر من مفاد القاعدة. ودعوى
مثل هذا الإجماع ليست مجازفة لأنَّ المستفاد من ذوق الشارع وطريقته في التبليغ
والاهتمام بتنظيم حياة الإنسان بمختلف شئونها ومجالاتها انَّه لا يرضى بمرجعية
الاحتياط بل لا يعقل أَنْ يكون بناء الشريعة على وجه كلّي على الاحتياط ، فانَّ
هذا انَّما يعقل لو كانت الشريعة مجموعة تكاليف فردية لا تشريعات تتكفّل تنظيم
مختلف مناحي حياة الإنسان الاجتماعية والفردية والسياسية فكتاب القضاء مثلاً لا
يعقل فيه مرجعية الاحتياط ولا يحتمل الفرق فقهياً بين باب وباب فمرجعية الاحتياط
مساوقة مع تعطل الشريعة وأغراضها الأساسية.
هذا كلّه في إبطال
وجوب الاحتياط.
وأمَّا القواعد
الأُخرى فالاستصحاب لا يمكن الاكتفاء به لأنَّ دليل الاستصحاب اخبار الآحاد وهي
غير حجة عند الانسدادي ولو فرض قطعية أسانيدها ودلالتها فالاستصحابات النافية
حالها حال البراءة الساقطة بالمعارضة والاستصحابات المثبتة لا مانع من جريانها
لقلة مواردها في الشبهات الحكمية بحيث يحتمل صحّتها جميعاً ، ولو فرض العلم
بانتقاض بعضها إجمالاً مع عدم إمكان تعيينها كما عند الانفتاحي بالعلم أو العلمي
خصوصاً في دائرة المعاملات التي تجري فيها أصالة الفساد الراجعة إلى استصحاب عدم
ترتب الأثر الشرعي فلا يضرّ بجريانها على ما هو الصحيح المختار في بحوث الاستصحاب
، والغريب انَّ صاحب الكفاية ( قده ) أراد التخلّص عن المحذور حتى مع تسليم مبنى
الشيخ الّذي يمنع عن جريان الاستصحابات المثبتة مع العلم بالانتقاض ، بدعوى : انَّ
هذا انَّما يتجه إذا كان أطراف العلم الإجمالي كلّها ممّا يلتفت إِليها الفقيه في
عرض واحد كما إذا كانت محدودة وأمَّا إذا كانت كثيرة وفي تمام الفقه فكلّ شبهة
منها عند ما يجري الاستصحاب المثبت فيها تكون الشبهات الأُخرى مغفول عنها فلا يجري
الاستصحاب فيها ليلزم التناقض بين الصدر والذيل في أدلة الاستصحاب الّذي هو منشأ
إشكال الشيخ ( قده ).
وفيه : أولا ـ انَّ الغفلة وعدم الالتفات الفعلي عن الشك لا يمنع عن جريان الاستصحاب
لوجود الشك ارتكازاً ، فانَّ الشك كالعلم يجامع الغفلة والالتفات
ولا يشترط أَنْ
يكون الشك الموضوع للاستصحاب ملتفتاً إليه.
ثانياً ـ حصول
التناقض بين الصدر والذيل في نهاية المطاف ، فانَّ الفقيه بعد ما يمارس استنباطاته
في جميع الشبهات تكون كلّها عرضية بالنسبة إليه ولو بلحاظ الإفتاء بها.
فالاستصحابات
المثبتة لا بأس بجريانها إِلاّ انَّ ذلك لا يضر الانسدادي لقلّة مواردها فلا توجب
ولو بضمّها إلى المعلوم تفصيلاً من التكاليف انحلال العلم الإجمالي الكبير ، ونفس
الشيء يقال عن القرعة لو توهّم فقيه مرجعيتها ، فانَّه :
أولا
ـ لا مقتضي لحجيّتها
إذ دليلها اخبار الآحاد.
وثانياً ـ انَّه
قيل في القرعة انَّ المستفاد من دليلها جعل قاعدة القرعة في طول انعدام تمام
الوظائف الشرعية والعقلية فانْ كان يوجد ما يحلّ المشكلة ولو عقلاً ارتفع موضوعها
فلا يعقل أَنْ تكون رافعة لحجية الظنّ كشفاً أو حكومة.
وأمَّا أصالة
التخيير فلا دليل عليها إِلاّ في موارد الدوران بين المحذورين ولا بأس بالرجوع
إليها فيها من دون أَنْ يضرّ ذلك بالعلم الإجمالي.
وامَّا التقليد
للمجتهد الانفتاحي بعد فرض انَّ تقليد الجاهل للعالم ثابت بدليل قطعي فأيضاً غير
صحيح ، لأنَّ الانفتاحي تارة يفرض معاصراً مع الانسدادي وأُخرى يفرض انَّه من
الفقهاء الأقدمين ( قد هم ) ، والأول غير مشمول لأدلة التقليد لأنَّه بالنسبة إلى
الانسدادي جاهل لا عالم غاية الأمر جاهل مركب حيث يتخيّل انفتاح باب العلم أو
العلمي بالأدلة التي ناقش فيها الانسدادي ، ومن الواضح انَّ التقليد من باب رجوع
الجاهل إلى العالم من جهة كاشفية علمه فلو علم بخطئه فلا يكون مشمولاً له. وفي
الثاني وإِنْ لم يكن اعتقاد الخطأ موجوداً لاحتمال انَّ باب العلم أو العلمي كان
مفتوحاً في ذلك الزمان المقارب لعصر التشريع إِلاّ انَّ الدليل لم يدل على جواز
تقليد الميت ابتداءً. نعم لو افترضنا عموم الدليل وانَّما قام الإجماع على عدم
جواز تقليد الميت ابتداءً فقد يقال بأنَّ المتيقّن منه حال الانفتاح لا الانسداد
ما لم يدع الإجماع على انَّ صاحب ملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد مطلقاً.
المقدمة
الخامسة ـ في انَّ ترجيح الموهوم على المظنون قبيح ، فلو دار الأمر
بينهما بعد
تمامية المقدمات
السابقة تعين الأخذ بالمظنونات.
وهذه المقدمة لا
بدَّ وأَنْ تدرس على المسالك المختلفة من التبعيض في الاحتياط والكشف والحكومة
المدعاة من قبل صاحب الكفاية ( قده ).
أمَّا على مسلك
التبعيض في الاحتياط. فتارة يفترض انَّ العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة سواءً
كان ذلك على نحو العلّية أو مجرد الاقتضاء على شرط أَنْ لا يبني القائل بالعلّيّة
على انحلال العلم الإجمالي بالاضطرار إلى غير المعين وإِلاّ كان خلف مسلك التبعيض
في الاحتياط ، وأُخرى يفرض انَّ العلم الإجمالي لا يقتضي إِلاّ حرمة المخالفة
القطعية وأمّا وجوب الموافقة فمن جهة منجزية الاحتمال مع عدم المؤمن عقلاً وشرعاً
بعد تساقط الأصول ، والفرق انَّه على الأول لا موضوع لقاعدة قبح العقاب في أطراف
العلم الإجمالي في نفسه لبيانية ومنجزية العلم وعلى الثاني الموضوع تام ولكن
القاعدة ساقطة بالتعارض.
فعلى الأول لا
بدَّ من افتراض اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة الظنية والامتثال الظنّي
لأنَّه بحسب الفرض لم ينحل ولم يسقط عن تنجيز ما يمكن تنجيزه من مراتب الامتثال
والاحتياط ، وأمّا على الثاني فقد يتوهّم انَّ العلم الإجمالي لم يكن يقتضي إِلاّ
عدم المخالفة القطعية وهو حاصل سواءً احتاط في الموهومات أو المظنونات ولا معيّن
للثاني في قبال الأول.
ولكن التحقيق :
انَّه لا بدَّ من صرف الترخيص المستفاد من قاعدة نفي العسر والحرج إلى الموهومات
دون المظنونات ، لأنَّ استفادة الترخيص من القاعدة امَّا أَنْ يكون بتطبيقها على
نفس وجوب الاحتياط كحكم ظاهري أو يكون بإجرائها عن إطلاق التكاليف الواقعية وقد
تقدّم شرح كلا الوجهين ، وعلى كلا التقديرين لا بدَّ من صرف الترخيص إلى دائرة
الموهومات لا المظنونات.
امَّا على الأول ،
فلأنَّ الترخيص المستكشف بالقاعدة امَّا أَنْ يكون في دائرة الموهومات تعييناً أو
المظنونات كذلك أو في كلّ منهما تخييراً والثاني غير محتمل لعدم احتمال تعيين
الشارع الترخيص في موارد ترجح احتمال التكليف وقوته بعد فرض عدم التفاضل بين
ملاكات الأحكام الواقعية فيبقى الأمر دائراً بين الأول والثالث
وبما انَّ الأول
هو القدر المتيقّن من الترخيص على كلّ حال وبه يندفع العسر والحرج فلا يمكن
استكشاف أكثر من ذلك من القاعدة والمفروض بقاء العلم الإجمالي أو الاحتمال في كلّ
طرف على تنجيزه فيجب الاحتياط في غير المقدار المتيقّن.
وعلى الثاني ـ فالقدر
المتيقّن ارتفاعه من التكاليف الواقعية إطلاقها لحالة الاحتياط في المظنونات حيث
لا يحتمل العكس تعييناً والارتفاع في الجميع وإِنْ كان محتملاً إِلاّ انَّه تقييد
زائد لا دليل عليه لكفاية الأول في نفي العسر والحرج ، ومرجع هذا التقييد إلى انَّ
الأحكام الواقعية مشروطة بعدم الوهم بها وهماً مقترناً مع الاحتياط في المظنونات
وهذا التقييد معقول على ما ذكرناه في محلّه.
وبهذا أيضا يجاب
عن شبهة انحلال العلم الإجمالي حين انتفاء وجوب الاحتياط في بعض أطرافه تخييراً ،
فانَّه لا موجب لأكثر من رفع اليد عن إطلاق التكليف الواقعي بهذا المقدار أي لمن
احتاط في الأطراف الأُخرى وإِلاّ كان التكليف الواقعي فعلياً ودليل النفي بملاك
العسر أو الاضطرار لا يقتضي أكثر من هذا المقدار من التقييد.
وامَّا على مسلك
الحكومة التي يدّعيها صاحب الكفاية فمن الواضح تعين الاحتياط في المظنونات لأنَّ
ظنّ الانسدادي علم الانفتاحي بحسب الفرض فيكون بياناً وبالتالي موجباً لجريان
البراءة العقلية في غيرها حتى المشكوكات لعدم معارضتها مع البراءة في المظنونات
لعدم موضوع لها بحسب الفرض وهذا يتمّ حتى على مسلك علّية العلم الإجمالي بناءً على
ما ذهب إليه أصحابه من جريان البراءة العقلية في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا ما
قام منجز في أطرافه الأُخرى.
وامَّا على مسلك
الكشف فلا إشكال انَّ الظنّ هو المتيقّن في مقابل الوهم والشك حيث لا يعقل تعين
غيره للحجية شرعاً وفي داخل المظنونات لو وجد قدر متيقّن أخذ به وإِلاّ فيؤخذ
بمطلق الظنّ إذ لا بدَّ وأَنْ تكون الحجية بنحو تصل إلينا وإِلاّ كان بناء الشريعة
على مرجعية الاحتياط ولا منشأ لوصوله إِلاّ ملاحظة المحتملات والأخذ بالقدر
المتيقّن وتجري البراءة عقلاً وشرعاً في غيره. فالمقدمة الخامسة تامة على المسالك
الثلاثة.
وبهذا تمّ الكلام
في المقدمات الخمس. وقد اتّضح من مجموع ما تقدّم انَّ هناك
نكتتين إحداهما
يحتاجها مسلك الكشف والأُخرى يحتاجها مسلك الحكومة التي يدّعيها صاحب الكفاية (
قده ).
امَّا الأولى ـ فهي
ما تقدّم من دعوى الإجماع على عدم مرجعية الاحتياط في الشريعة بالنحو المتقدّم
شرحه.
وامَّا الثانية ـ فدعوى
بيانية الظنّ للانسدادي ومنجزيته له كالعلم للانفتاحي.
فانْ لم يتم شيء
من النكتتين فلا يتمّ مسلك الكشف ولا الحكومة كما هو واضح.
بل يتعيّن حينئذ
مسلك التبعيض في الاحتياط ويتمّ هذا المسلك بتسليم أُمور هي :
أولا
ـ انسداد باب العلم
والعلمي وإِلاّ لم يكن موجب للاحتياط.
ثانياً
ـ وجود مقتضٍ لتنجيز
التكاليف الواقعية من علم إجمالي أو ما يشبهه ممّا يقتضي الاحتياط في كلّ شبهة
شبهة.
ثالثاً
ـ أَنْ لا ينحل
مقتضي التنجيز بحجة مجعولة ولو في طول الانسداد كحجية فتوى الانفتاحي في حقّ
الانسدادي وإِلاّ جرت البراءة في غير موردها.
رابعاً
ـ أَنْ يكون هناك
مسوغ لرفع اليد عن الاحتياط التام في الجملة.
خامساً
ـ أَنْ يتعيّن
بالبرهان المتقدّم في شرح المقدمة الخامسة لزوم صرف الاحتياط إلى دائرة المظنونات.
وامَّا لو تمّت
النكتة الثانية دون الأولى فسوف يتمّ مسلك الحكومة عقلاً دون الكشف وهو يتوقّف أولا ـ على انسداد باب العلم والعلمي لأنَّه موضوع حجية الظنّ
وبيانيته.
وثانياً ـ عدم
جريان أصول مؤمنة شرعية في المظنونات وإِلاّ ارتفع حكم العقل بمنجزية الظنّ
وبيانيته لأنَّه تعليقي وهذا فرع وجود علم إجمالي أو نحوه ممّا يقتضي تساقط الأصول
الشرعية المؤمنة في الأطراف.
وثالثاً ـ أَنْ لا
يكون هناك قاعدة وحجة شرعية منجزة مجعولة ولو للانسدادي خاصة كالتقليد مثلاً
وإِلاّ فلا يحكم العقل بمنجزية الظنّ.
فإذا تمّت هذه
الأُمور الثلاثة حكم العقل بمنجزية الظنّ وجرت البراءة العقلية في غير دائرة
المظنونات ، وهل يثبت حجية مطلق الظنّ أو المرتبة القوية منه هذا مبنيٌ
على كفاية المرتبة
القوية بمعظم الفقه وإِلاّ كان باب تلك المرتبة منسداً أيضا فتكون المرتبة التي
دونها بياناً لا محالة.
وامَّا لو تمّت
النكتة الأولى دون الثانية فسوف يتمّ مسلك الكشف دون الحكومة وهو يتوقّف أولا ـ على انسداد باب العلم والعلمي.
وثانياً
ـ على تنجز التكاليف الواقعية بملاك العلم الإجمالي أو غيره ،
أي أَنْ لا تجري الأصول المؤمنة وإِلاّ لم يمكن استكشاف جعل الظنّ طريقاً شرعاً.
وثالثاً
ـ عدم ثبوت حجة للانسدادي ولو في حال الانسداد كتقليده
للانفتاحي وإِلاّ فلعله اقتصر عليه من دون لزوم مرجعية الاحتياط.
ورابعاً
ـ أَنْ يفرض انَّ الظنّ متيقّن في مقام جعل الحجية بعد أَنْ
عرفنا عدم مرجعية الاحتياط وباعتبار انَّ الحجة لا بدَّ وأَنْ تكون واصلة وإِلاّ
احتجنا إلى مرجعية الاحتياط فتتعين في القدر المتيقن لا محالة.
وأمّا إذا تمّت
النكتتان معاً تمّ كلا المسلكين في أنفسهما ، ولكن مسلك الكشف يكون حاكماً على
مسلك الحكومة ورافعاً لموضوعها لأنَّه حكم عقلي تعليقي كما تقدّم. ولا يتوهم العكس
بدعوى احتمال اعتماد الشارع على حكم العقل بمنجزية الظنّ عند الانسداد وجريان
قاعدة قبح العقاب بلا بيان في غير المظنونات لأنَّ المدعى في الإجماع على عدم
مرجعية الاحتياط أكثر من هذا المقدار أي انَّه لا بدَّ من وجود طريقة تعبّديّة
شرعيّة يمكن على أساسها من الامتثال التفصيليّ للأحكام لا مجرَّد اعتماد وظيفة عقليّة
عمليّة.
وبهذا تمّ الكلام
عن دليل الانسداد من بحوث حجيّة الظنّ.
فهرست
الموضوعات
مباحث
الحجج والأصول العملية ( ج ١ )
الحجج
والامارات.................................................................. ١
ـ ٤٤٩
مقدمة الكتاب.............................................................................. ٥
مقدمة : تقسيم الحجج والامارات.......................................................... ٧
مبحث
القطع..................................................................... ٢٥
ـ ١٨٢
الجهة
الاولى : حجية القطع......................................................... ٢٧
ـ ٣٤
معاني القطع............................................................................... ٢٧
اقسام المولويّة وحق
الطاعة........................................................ ٢٨
ـ ٣١
البحث عن امكان جعل
حكم على خلاف الحكم المقطوع به...................... ٣١
ـ ٣٤
الجهة
الثانية : مبحث التجري...................................................... ٣٥
ـ ٥٣
المقام الاول : قبح
التجري........................................................ ٣٦
ـ ٥٣
مسألة الحسن والقبح
العقليين..................................................... ٤٠
ـ ٤٨
براهين اثبات عدم قبح
الفعل المتجرى به.......................................... ٤٨
ـ ٥٣
المقام الثاني :
العقوبة على التجري................................................. ٥٣
ـ ٥٥
المقام الثالث : حرمة
التجري...................................................... ٥٥
ـ ٦٥
١ ـ التمسك بالإطلاقات
الأولية لحرمة التجري :................................ ٥٥
ـ ٥٧
٢ ـ التمسك بقاعدة
الاستلزام العقلي لحرمة التجري :........................... ٥٧
ـ ٦٢
٣ ـ التمسك بالإجماع
على حرمة التجري :..................................... ٦٢
ـ ٦٣
٤ ـ التمسك بالأخبار
لحرمة التجري :.......................................... ٦٣
ـ ٦٥
تنبيهات مسألة التجري
:......................................................... ٦٥
ـ ٦٧
الجهة
الثالثة : اقسام القطع ومدى قيام الامارة مقامه.............................. ٦٩
ـ ٩٨
المقام الاول :
تقسيمات القطع الموضوعي......................................... ٦٩
ـ ٧٣
المقام الثاني : قيام الامارة
مقام القطع الطريقي..................................... ٧٣
ـ ٧٩
المقام الثالث : قيام
الامارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية.... ٧٩ ـ ٩٤
المقام الرابع : قيام
الامارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية...... ٩٥ ـ ٩٨
الجهة
الرابعة : اخذ العلم بالحكم في موضوعه................................... ٩٩
ـ ١١١
اخذ القطع بالحكم في
موضوع شخصه........................................ ١٠١
ـ ١١١
١ ـ اخذ القطع بالحكم
شرطا في ثبوت شخص ذلك في الحكم............... ١٠١
ـ ١٠٩
٢ ـ اخذ عدم العلم
بالحكم في موضوعه...................................... ١٠٩
ـ ١١١
الجهة
الخامسة : وجوب الموافقة الالتزامية..................................... ١١٣
ـ ١١٧
١ ـ كيفية تقريب ما
نعية وجوب الموافقة الالتزامية عن اجراء الاصول في اطراف العلم ١١٣ ـ ١١٤
٢ ـ تحقيق حال
المانعية....................................................... ١١٤
ـ ١١٧
٣ ـ اصل وجوب الالتزام.............................................................. ١١٧
الجهة
السادسة : حجيّة الدليل العقلي......................................... ١١٩
ـ ١٤٧
المقام الاول : في
دعوى قصور الدليل العقلي بلحاظ عالم الجعل................ ١٢١
ـ ١٢٤
المقام الثاني : في
دعوى قصور الدليل العقلي بلحاظ عالم الكشف.............. ١٢٤
ـ ١٣٩
١ ـ البحث عن مدركات
العقل النظري...................................... ١٢٦
ـ ١٣٥
٢ ـ البحث عن مدركات
العقل العملي...................................... ١٣٥
ـ ١٣٩
المقام الثالث : في
دعوى قصور الدليل العقلي بلحاظ عالم التنجيز.............. ١٤٠
ـ ١٤١
فروع فقهية قديتوهم
فيها وقوع الردع والنهي عن العمل بالعلم................ ١٤١
ـ ١٤٧
الجهة
السابعة : منجزية العلم الاجمالي......................................... ١٤٩
ـ ١٧٢
حرمة المخالفة القطعية
للعلم الاجمالي........................................... ١٥٠
ـ ١٥٥
وجوب الموافقة القطعية........................................................ ١٥٥
ـ ١٧٢
الجهة
الثامنة : الامتثال الاجمالي................................................. ١٧٣
ـ ١٧٨
تنبيهات مسألة
الامتثال الاجمالي............................................... ١٧٩
ـ ١٨٢
مبحث
الظن.................................................................... ١٨٣
ـ ٤٤٩
مقدمة في امكان التعبد
بالظن.................................................. ١٨٥
ـ ٢٣٢
الامر الأول : حجيّة
الظن ليست ذاتية......................................... ١٨٥
ـ ١٨٨
الامر الثاني : حجيّة
الظن ليست ممتعنة......................................... ١٨٨
ـ ٢٢٠
كيفية الجمع بين
الاحكام الظاهرية والواقعية................................... ٢٠١
ـ ٢٢٠
الامر الثالث : حكم
الشك في الحجية.......................................... ٢٢١
ـ ٢٣٢
حجيّة
السيرة :................................................................. ٢٣٣
ـ ٢٤٨
السيرة العقلانية................................................................ ٢٣٤
ـ ٢٣٨
الجهة الاولى : اقسام
السيرة العقلانية.......................................... ٢٣٤
ـ ٢٣٨
الجهة الثانية :
السيرة المتشرعية وكيفية الاستدلال بها........................... ٢٣٨
ـ ٢٤٥
١ ـ طرق اثبات معاصرة
السيرة لزمن المعصوم (ع).......................... ٢٣٨
ـ ٢٤١
٢ ـ كيف نستكشف الموقف
الملاثم الكاشف عن الامضاء.................... ٢٤٢
ـ ٢٤٥
الجهة الثالثة : مقدار
ما يثبت بالسيرة المتشرعية................................ ٢٤٥
ـ ٢٤٦
الجهة الرابعة : مقدار
مفاد الامضاء للسيرة العقلائية............................ ٢٤٦
ـ ٢٤٧
الجهة الخامسة :
الفوارق بين السيرة المتشرعية والعقلائية....................... ٢٤٧
ـ ٢٤٨
حجية
الظواهر :................................................................ ٢٤٩
ـ ٢٠٣
الجهة الاولى : حجية
الظهور.................................................. ٢٤٩
ـ ٢٦٦
الاستدلال على الحجية
بالسيرة المتشرعية....................................... ٢٤٩
ـ ٢٥٠
الاستدلال على الحجية
بالسيرة العقلانية....................................... ٢٥٠
ـ ٢٥٤
المقارنة بين
الاستدلال بالسيرتين على حجية الظهور........................... ٢٥٤
ـ ٢٦٦
الجهة الثانية : تحديد
موضوع اصالة الظهور.................................... ٢٦٦
ـ ٢٧٠
الجهة الثالثة :
النسبة بين اصالة الظهور والاصول اللفظية الاخرى.............. ٢٧٠
ـ ٢٧٢
الجهة الرابعة :
التفصيلات في حجية الظهور................................... ٢٧٣
ـ ٢٩٠
١ ـ التفصيل بين
المقصودين بالافهام وغيرهم................................. ٢٧٣
ـ ٢٧٥
٢ ـ التفصيل بين ظواهر
الذي يظن بخلافه وما لا يظن بخلافه................. ٢٧٥
ـ ٢٧٦
٣ ـ التفصيل بين ظواهر
الكتاب الكريم وغيرهما من النصوص الشرعية........ ٢٧٦
ـ ٢٩٠
الجهة الخامسة :
الظهور الذاتي والموضوعي..................................... ٢٩١
ـ ٢٩٥
الجهة السادسة : حجية
قول اللغوي........................................... ٢٩٥
ـ ٢٩٩
الجهة السابعة : اثبات
الظهور بالاستدلال والبرهان............................ ٢٩٩
ـ ٣٠٣
حجية
الاجماع :................................................................. ٣٠٥
ـ ٣٢٠
الاجماع المحصل................................................................ ٣٠٥
ـ ٣١٦
١ ـ حجيته بقانون
العقل العملي (قاعدة اللطف)............................. ٣٠٥
ـ ٣٠٧
٢ ـ حجيته بدليل شرعي..................................................... ٣٠٧
ـ ٣٠٨
حجيته بقانون العقل
النظري وكشفه عن الواقع................................ ٣٠٩
ـ ٣١٦
الاجماع المركب......................................................................... ٣١٧
الاجماع المنقول................................................................ ٣١٧
ـ ٣٢٠
حجتيه
الشهرة :................................................................ ٣٢١
ـ ٣٢٥
حجتيه الشهرة
الفتوائية على مقتضى القاعدة............................................ ٣٢١
حجية الشهرة الفتوائية
على ضوء الروايات الخاصة............................. ٣٢٢
ـ ٣٢٥
حجيته
الاخبار :................................................................ ٣٢٧
ـ ٤٢٦
الخبر المتواتر................................................................... ٣٢٧
ـ ٣٣٨
اقسام التواتر.................................................................. ٣٣٥
ـ ٣٣٨
خبر الواحد................................................................... ٣٣٨
ـ ٤٢٦
المقام الاول : ادلة
عدم الحجية................................................. ٣٣٨
ـ ٣٤٤
المقام الثاني : ادلة
الحجية...................................................... ٣٤٤
ـ ٤٢٣
الاستدلال بآيات.............................................................. ٣٤٤
ـ ٣٨٤
الاستدلال بآية النباء........................................................... ٣٤٤
ـ ٣٥١
الاعتراضات على
الاستدلال بآية النباء......................................... ٣٥١
ـ ٣٦٣
حجية الاخبار مع الواسطة..................................................... ٣٦٣
ـ ٣٧٤
الاستدلال بآية النفر........................................................... ٣٧٤
ـ ٣٨١
الاستدلال بآية
الكتمان........................................................ ٣٨١
ـ ٣٨٣
الاستدلال بآية الذكر.......................................................... ٣٨٣
ـ ٣٨٤
الاستدلال على حجية
خبر الواحد بالاجماع والسيرة........................... ٣٩٥
ـ ٤٠٩
الاستدلال على حجية
خبر الواحد بالدليل العقلي.............................. ٤٠٩
ـ ٤٢١
تلخيص واستنتاج............................................................. ٤٢١
ـ ٤٢٣
تحديد دائرة الحجية............................................................ ٤٢٤
ـ ٤٢٦
دليل
الانسداد وحجية مطلق الظن............................................. ٤٢٧
ـ ٤٤٩
|