

الإهداء
إليك يا أعز من في
الوجود عليّ .. يا من تعيش لأجلي ، وتشعر بآلامي ، وتحسّ بمشاكلي .. دون أن أراك ،
ودون أن أعرف مكانك ، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الأحيان لوجودك ..
إليك يا أملي الحي
، الذي يمدني بالقوة ، ويجدد فيّ العزيمة ..
ويا قبس الهدى
والنور ، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام ، ..
ظلام الوحدة ،
والحيرة ، والضياع ..
إليك. يا من تملأ
الأرض قسطا ، وعدلا ، بعد ما ملئت ظلما ، وجورا ..
إليك .. يا سيدي ،
ومولاي ، يا صاحب الزمان .. أرفع كتابي هذا ..
راجيا منك القبول
..
مقدمة الطبعة الثانية :
بسم الله الرحمن
الرحيم
والحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين ، محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
وبعد :
فهذه هي الطبعة
الثانية لهذا الكتاب ، نخرجها إلى القراء الكرام ، بعد حوالى ثلاث سنوات من ظهور
طبعته الاولى ، التي نفدت نسخها بسرعة.
وانني إذ أعتزّ
باقبال القراء على هذا الكتاب ، لا يسعني إلا أن أقف موقف التقدير والاكبار لهذه
الرغبة الصادقة منهم في الاطّلاع والمعرفة ، وهو أمر يبعث على الأمل ، ويبشر
بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى ..
هذا الكتاب :
لقد جاء التفكير
في هذا الكتاب في نفس الوقت الذي نشرت فيه مجلة لبنانية مقالا لبعض السطحيين ، من
طالبي الشهرة والمال!! يتهجم فيه على ساحة قدس الإمامين العظيمين : الحسن المجتبى 7 ؛ لصلحه مع
معاوية ..
والامام الرضا 7 ؛ لقبوله بولاية
العهد ، من قبل المأمون العباسي ..
فاما قضية الصلح فقد
كان قد بحثها الباحثون ، واهتم بها العلماء والمؤرخون ، وكشفوا عن جانب كبير من
ظروفها وملابساتها ؛ ومن هنا فقد انصبّ اهتمامى آنئذ على بحث قضية ولاية العهد ،
والتي كان البحث فيها شاقا وصعبا للغاية ، لاسباب لا يجهلها من له أدنى اطلاع على
واقع الكتب التاريخية ، ومؤلفيها ، وظروف تأليفها ..
ولعل ذلك المقال
نفسه أيضا ، قد كان هو الحافز لسماحة العلامة البارع ، السيد محمد جواد فضل الله ; ، ليكتب كتابه
الشّيق ، الذي أسماه : « حياة الامام الرضا (ع) » ، وعقد فيه فصلا للحديث عن ولاية
العهد أيضا ؛ فشكر الله سعيه ، وتغمده برحمته ، وجزاه خير جزاء المحسنين ..
الجديد في الكتاب :
وأودّ أن أشير هنا
، إلى أنه .. إما لسوء حظي ، أو لحسن حظّ القارئ!! لم تتهيأ لي الفرصة لاعادة
النظر في الكتاب من جديد ، بشكل يسمح لي بالتعديل والتطوير فيه ؛ ولذا فقد اكتفيت
باصلاح كثير من الأخطاء المطبعية ، مع زيادات طفيفة ، لا تكاد تذكر.
تنبيه وختام.
وبعد هذا .. فإنني
أود أن انبه : على أن كلمة « التشيع » الواردة في هذا الكتاب لا يراد بها المعنى
الخاص إلا نادرا .. كما أن المقصود من كلمة : « علوي » و « علويين » هو كل من يتصل
نسبه بأمير المؤمنين علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى ابنائه الطيبين
الطاهرين ..
وفي الختام ..
فانني أعود فأكرر رجائي الأكيد من كل القراء الكرام أن يكتبوا الي بملاحظاتهم ،
ووجهات نظرهم ، وأنا لهم من الشاكرين.
والحمد لله ، وله
المنة ، وبه الحول ، وعليه التكلان.
٢٢ / ١ / ١٤٠٠ ه.
ق.
جعفر
مرتضى الحسيني العاملي
تقديم :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
والحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين :
وبعد :
فقد كان هذا
الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر .. وهو يبحث في ظروف وأسباب
حدث تاريخي هام في التاريخ الاسلامي .. ألا وهو : « أخذ البيعة للامام الرضا 7 بولاية العهد
للمأمون » ..
ورغم الأهمية
البالغة لهذا الحدث ، وكونه جديرا بالدراسة ، والبحث ، والتمحيص .. فاننا رأينا
المؤرخين والباحثين ـ ولأسباب مختلفة ـ يضربون عنه صفحا ، ويحاولون تجاهله ،
والتقليل من أهميته ..
وعلى كل حال ..
ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم ، ومثيرة لحنق
آخرين .. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو :
إني لثقتي من نفسي
بأنني ما ادخرت وسعا ، ولم آل جهدا في تمحيص الحقائق ، وابراز المعالم الأصيلة
للصورة ، التي أريد ـ لسبب أو لآخر ـ طمسها ، وتشويه معالمها. وأيضا لحسن ظني
بالقارئ ، وثقتي بنزاهته ، ونظرته الواعية ..
من أجل ذلك أقول ـ
وبكل رضى ، وارتياح ، واطمئنان ـ :
إنني لا أريد أن
أفرض ما في هذا الكتاب من آراء ، واستنتاجات على أحد .. بل سوف أترك الحكم في ذلك
للقارئ نفسه ، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل ، أو أن يرفض ، إذا اقتضى الأمر
أيا من الرفض ، أو القبول ..
والله ولينا ..
وهو الهادي إلى سواء السبيل ..
جعفر
مرتضى الحسيني العاملي
تمهيد
صلة الماضي بالحاضر والمستقبل :
.. بديهي أن بعض
الأحداث التاريخية ، التي تمر بالأمة ، تؤثر تأثيرا مباشرا ، أو غير مباشر في
واقعها ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا .. بل وقد تؤثر في روح الأمة ، وعقلها ، وتفكيرها
.. ومن ثم على مبادئها العامة ، التي قامت عليها قوانينها ونظمها ، التي تنظم لها
مسيرتها ، وتهمين على سلوكها .. فقد تقوي من دعائمها ، وتؤكد وجودها ، واستمرارها
، وقد تنسفها من أسسها ، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في
ضمير الأمة ووجدانها .. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام ..
فمثلا .. نلاحظ أن
الاكتشافات الحديثة ، والتقدم التقني قد أثر أثرا لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان ،
التي يفرضها واقع التعايش .. وحتى في مواهبه وملكاته ، فضلا عن سلوكه ، وأسلوب
حياته ..
وحيث إن المبادئ
الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجدانه ، ولم تخرج
عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحيانا في
دورات تاريخية
قصيرة ـ نرى أنها
بدورها قد تأثرت بذلك ، ونسفت او كادت من واقع هذه الأمة ، وعدمت أو كادت من دائرة
حياتها .. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو « الذاتية » الكافرة
بكل العواطف الاجتماعية ، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة ، التي لا ترحم
ولا ترثي ، ولا تلين ، لا يجد لذة العاطفة ، ولا حلاوة الرحمة ، وليعود الانسان ـ بعد
لأي ـ متشائما حاقدا ، لا يثق بمستقبله ، ولا يأمن من يحيط به ، ولا يطمئن إلى
أقرب الناس إليه ..
وبطبيعة الحال ،
سوف يتأثر النشء الجديد بذلك ، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه .. وهكذا ..
وهكذا .. فإن
الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلا ، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة ، حتى
في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم.
وإذن .. فنستطيع
أن نستخلص من هذا : أن الأحداث التاريخية مهما بعدت ، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع
الأمة ، وفي تصرفاتها ، وفي حياتها ، وسلوكها على المدى الطويل .. وتتحكم ـ إلى حد
ما ـ في مستقبلها. وان العامل التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه
المجتمع بالفعل ، سواء في ذلك الأدبي منه ، أو العلمي ، أو الديني ، أو السياسي ،
أو الاقتصادي ، أو غير ذلك ..
وغني عن القول هنا
.. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى ، ومن عصر لآخر ..
لماذا كان تدوين التاريخ :
ومن هنا تبرز
أهمية التاريخ ، ونعرف أنه يلعب دورا كبيرا في حياة
الأمم : مما
يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة على سؤال : لماذا عنيت الأمم على اختلافها
بالتاريخ ، تدوينا ، ودرسا ، وبحثا. وتمحيصا؟!
فان ذلك لم يكن
إلا لأنها تريد أن تستفيد منه ، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه ؛ لتستفيد من ذلك
لمستقبلها الذي تقدم عليه .. ولتكتشف منه عوامل رقيها ، وانحطاطها ، ولتنطلق من ثم
لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة ..
فمهمّة التاريخ
إذن ـ تاريخ الأمة المدوّن ـ هي : أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال
وأوضاع ، وأزمات فكرية ، واقتصادية ، وظروف سياسية : واجتماعية ، وغير ذلك.
ونحن .. هل نملك تاريخا؟!!
ونحن أمة .. لكننا
لا نملك تاريخا ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا
المضمار ؛ لأن اكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة ، والهوى المذهبي ،
والتزلف للحكام.
وأقصد بـ « النظرة
الضيقة » : عملية ملاحظة الحدث منفصلا عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف
على حقيقته وواقعه ..
نعم .. إننا
بمرارة ـ لا نملك تاريخا نستطيع أن نستفيد منه الكثير ؛ لأن المسيرة قد انحرفت ،
والأهواء قد لعبت لعبتها وأثرت أثرها المقيت
__________________
البغيض ، حتى في
تدوين التاريخ نفسه.
وإنه لمما يدمي
قلوبنا ، ويملأ نفوسنا أسى وألما ، أن نكون قد فقدنا تاريخنا ، ودفناه تحت ركام من
الانانيات ، والعصبيات ، والأطماع الرخيصة ، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء ،
والذكريات الشجية ..
ومرة أخرى أقول :
إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين ، الذين تعاقبوا على كراسي
الحكم. وحتى تاريخ الحكام هذا ، رأيناه مشوها ، وممسوخا ؛ حيث لم يستطع أن يعكس
بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام ، وأعمالهم وتصرفاتهم ؛ وما ذلك
إلا لأن المؤرخين لم يكونوا أحرارا في كتابتهم للتاريخ. بل كانوا يؤرخون ويكتبون
حسب ما يريده الحكام أنفسهم ، ويخدم مصالحهم .. إما رهبة من هؤلاء الحكام ، او
رغبة ، او تعصبا لمذهب ، أو لغيره ..
ومن هنا .. فليس
من الغريب جدا أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة ؛ فيسهب القول في وصف مجلس
شراب ، أو منادمة ، حتى لا يفوته شيء منه ، أو يختلق ويفتعل أحداثا لم يكن لها
وجود إلا في عالم الخيالات والأوهام ، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر ، بل
قد لا يكون لهم وجود أصلا .. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها
مكانتها ، وخطرها في التاريخ ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه .. ويهمل أو
يشوه أحداثا ذات أهمية كبرى ، صدرت من الحاكم نفسه ، أو من غيره ، ومن بينها ما
كان له دور هام في حياة الأمة ، ومستقبلها ، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ ،
أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان ، والابهام.
ومن تلك الأحداث ..
وفي طليعة تلك
الأحداث التي كان نصيبها ذلك : « البيعة للامام
الرضا 7 بولاية العهد ..
» ، من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!! ..
هذا الحدث الذي لم
يكن عاديا ، وطبيعيا ، كسائر ما يجري وما يحدث ، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن
يتجاهلوه ، ويقللوا ما أمكنهم من اهميته ، وخطره ، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه ،
وظروفه بستائر من الكتمان .. وعند ما كانت تواجههم الأسئلة حوله تراهم يرددون تلك
التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس ، دون أن يكون من بينها ما يقنع ، أو
ما يجدي ..
إلا أننا مع ذلك ،
لم نعدم في هذا الذي يسمى ، بـ « التاريخ » بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا
وهناك ، التي تلقي لنا ضوءا ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي
خشيها الحكام ؛ فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم ، والاندثار ..
ولو فرض : أنه كان
للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذا الحدث ، والتقليل من أهميته ،
لظروف سياسية ، واجتماعية ، ومذهبية معينة ... فان من الغريب حقا أن نرى الباحثين
اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف ، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع ـ يحاولون
بدورهم تجاهل هذا الحدث ، والتقليل من أهميته ، عن قصد أحيانا ، وعن غير قصد أخرى
، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير ؛ إذ أننا نشك كثيرا في أن لا يسترعي حدث غريب
كهذا انتباههم ، ويلفت أنظارهم ..
وأيا ما كان السبب
في ذلك ، فان النتيجة لا تختلف ، ولا تتفاوت ؛ إذ انها كانت في الواقع الخارجي
سلبية على كل حال.
وبدافع من الشعور بالواجب ..
ومن هنا .. وبدافع
من الشعور بالمسؤولية ، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات ، للتعرف على حقيقة
دوافعه وأسبابه ، وواقع ظروفه وملابساته ..
وكانت نتيجة تلك
الدراسة ، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي : هذا الكتاب الذي بين يديك
..
ولا أدعي : أن كل
ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات ، لا تعدو الحقيقة ، ولا تشذ عن الصواب.
ولا أدعي أيضا :
أنني استطعت أن أضع يدي على كل خيوط القضية ، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة
والرئيسة ؛ فان ذلك ليس من الأمور السهلة بالنسبة لأي حدث تاريخي مضى عليه العشرات
والمئات من السنين ؛ فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له ـ كما قلنا ـ أن
تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان ، وظروفه وملابساته رهن الابهام والغموض
..
لا .. لا أدعي هذا
، ولا ذاك .. وإنما أقول :
إن هذا الكتاب
قادر ـ ولا شك ـ على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول « طبيعية » هذا الحدث ، وحول
المأمون ، ونواياه ، وتصرفاته المشبوهة ..
وانه ـ على الأقل
يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق ، والتعرف على كافة
العوامل والظروف ، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ...
تقسيم الكتاب .. باختصار ..
ومن أجل استيفاء
البحث من جميع جوانبه ، كان لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة :
الأول : يتناول
قيام الدولة العباسية ، وأساليب دعوتها ، ويعطي لمحة عن موقف العلويين ،
والعباسيين ، كل منهما من الآخر ، وردود الفعل لذلك ، وغير ذلك من أمور ..
الثاني : يبحث حول
ظروف البيعة ، وأسبابها ، ونتائجها ..
الثالث : يتكفل
بالقاء أضواء كاشفة عن المواقف ، سواء بالنسبة إلى المأمون ، أو بالنسبة إلى
الإمام (ع) ..
الرابع : نعرض فيه
لبعض الأحداث التي تلقي لنا ضوءا على حقيقة نوايا المأمون ، وتكشف لنا عن بعض
مخططاته .. وغير ذلك مما يتصل بذلك ، ويرتبط به ، بنحو من الارتباط والاتصال ..
هذا :
وقد وضعنا في آخر
الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة ، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها
الكامل ..
ونسأل الله أن
يوفقنا جميعا .. ويهدينا سبيل الرشاد ..
القسم الأوّل
ممهدات ..
١ ـ قيام الدولة
العباسية.
٢ ـ مصدر الخطر
على العباسيين.
٣ ـ سياسة
العباسيين ضد العلويين.
٤ ـ سياسة
العباسيين مع الرعية ..
٥ ـ فشل سياسة
العباسيين ضد العلويين.
قيام الدولة العباسية
العلويون في الماضي البعيد ..
بعد أن أمعن
الأمويون في الانحراف عن الخط الاسلامي القويم ، وأصبح واضحا لدى كل أحد ، أن
هدفهم ليس إلا الحكم والسيطرة ، والتحكم بمقدرات الأمة وامكاناتها .. وأن كل همهم
كان مصروفا إلى الملذات والشهوات ، أينما كانت ، وحيثما وجدت .. وليس لمصلحة الأمة
، وسعادتها ، ورفاهها عندهم أي اعتبار ..
وبعد أن لجوا في
عدائهم لأهل البيت : ، وبلغوا الغاية فيهم ، قتلا ، وعسفا ، وتشريدا .. وخصوصا
ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع ، ولا أفظع منها .. وجعلهم
لعن علي 7 سنة لهم ، يشب عليها الصغير ، ويهرم عليها الكبير .. ثم ملاحقتهم لولده ،
ولكل من يتشيع لهم ، تحت كل حجر ومدر ، وفي كل سهل وجبل ؛ ليعفوا منهم الآثار ،
ويخلوا منهم الديار ..
بعد كل هذا ..
وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل ، في سبيل توعية الامة ، وتعريفها بأحقيتهم ،
وبحقيقة ، وواقع تلك الطغمة الفاسدة .. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل
البيت
ويزيد ، كلما
ازداد نفورهم من الأمويين ، ونقمتهم عليهم ؛ وذلك تبعا لتزايد وعيهم ، وتكشف
الحقائق لهم ، ولأنهم أدركوا من واقع الأحداث التي مرت بهم : أن أهل البيت : هم : الركن
الوثيق ، الذي لا نجاة لهم إلا بالالتجاء إليه ، وذلك الأمل الحي ، الذي تحيا به
الأمة ، وتحلو معه الحياة ..
العرش الأموي في مهب الريح ..
ولهذا نجد : أن
الثورات والفتن ضد الحكم الاموي كانت تظهر من كل جانب ومكان ، طيلة فترة حكمهم.
حتى أنهكت قواهم ، واضعفتهم إلى حد كبير ، وفنوا وأفنوا ، حتى لم يعد باستطاعتهم
ضبط البلاد ، ولا السيطرة على العباد ..
وكانت تلك الثورات
تتخذ الطابع الديني على العموم ، مثل : ثورة أهل المدينة المعروفة بـ « وقعة الحرة
» ، وثورة قراء الكوفة والعراق ، المعروفة بـ « دير الجماجم » سنة ٨٣ ه .. وقبلها
ثورة المختار والتوابين سنة ٦٧ ه. وأيضا ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على
الوليد بن يزيد ؛ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سنة ١٢٦ ه. وكذلك ثورة عبد
الله بن الزبير ، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق ، وما والاها مدة من الزمن ..
ثم الثورة التي قامت ضد هشام في افريقيا. وثورة الخوارج بقيادة المتسمي بـ « طالب
الحق » سنة ١٢٨ ه .. وأيضا ثورة الحارث بن سريح في خراسان ، داعيا إلى كتاب الله
، وسنة رسوله سنة ١١٦ ه. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه ..
واما ما كان منها
بدافع غير ديني ، بل من أجل الحكم ، والسلطان ، فنذكر منها على سبيل المثال : ثورة
آل المهلب سنة ١٠٢ ه. وثورة مطرف بن المغيرة ..
وأما في زمن مروان ..
وفي زمن مروان بن
محمد الجعدي ، المعروف بمروان الحمار ، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية
، وأوفى على النهاية ؛ حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن ، التي كانت قد
شملت اكثر الاقطار : أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار ،
الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن ، ومن جملتها دعوة بني العباس ، التي كانت
تزداد قوة يوما بعد يوم ، بقيادة أبي مسلم الخراساني ..
من خلال الاحداث ..
كل ذلك يكشف عن
مدى تبرم الناس بحكم بني أمية ، وبسلطانهم ، الذي كان قائما على أساس من الظلم
والجور ، والابتزاز ، والتحكم بمقدرات الأمة ، وامكاناتها .. ويتضح لنا ذلك جليا
إذا لاحظنا :
أن ما كان يتقاضاه
الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر ؛ ويكفي مثالا على ذلك أن نشير إلى أن خالدا
القسري ، كان يتقاضى راتبا سنويا قدره مليون درهم ، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز
الـ «١٠٠» مليون . وإذا كان هذا حال الولاة ، فكيف ترى كان حال الخلفاء ،
الذين كانوا يحقدون على كل القيم ، والمثل ، والكمالات الانسانية .. والذين وصف
الكميت رأيهم في الناس ، فقال :
رأيه فيهم كرأي
ذوي الثلّة في الثائجات جنح الظلام.
جزّ ذي الصوف
وانتقاء لذي المخّة ، نعقا ودعدعا بالبهام .
نعم .. لقد كانت
الأمة قد اقتنعت اقتناعا كاملا ونهائيا : بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن
يفرضوا أنفسهم قادة للامة ، ولا روّادا لمسيرتها ؛ لأن نتيجة ذلك ستكون ـ حتما ـ هي
جرّ الامة إلى الهاوية ، حيث الدمار والفناء ؛ فلفظتهم ، وانقلبت عليهم ، تأخذ
منهم بعض الحقوق التي لها عندهم. إلى أن تمكنت أخيرا من أن تخلي منهم الديار ،
وتعفي منهم الآثار ..
وكان نجاح العباسيين طبيعيا ..
ومن هنا نعرف : أن
نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم ـ
__________________
في ذلك الحين ـ لم
يكن ذلك الأمر المعجزة ، والخارق للعادة. بل كان أمرا طبيعيا للغاية ؛ إذا ما أخذت
الحالة الاجتماعية ، والظروف والملابسات آنئذ بنظر الاعتبار ؛ فان الامة كانت
مهيأة نفسيا لقبول التغيير ، أي تغيير .. بل كانت تراه أمرا ضروريا ، لا بد منه ،
ولا غنى عنه ؛ إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة ، والعيش الكريم ..
ولهذا .. فليس من
الغريب أن نقول :
إنه كان بامكان
أية ثورة أن تنجح ، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف ، وسارت على نفس الخط ، واتبعت
نفس الأساليب ، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم ، وثورتهم.
ونستطيع أن نتبين
أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة ..
الخط الأول :
« كانوا يصورون
أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلا لينفذوا الأمة من شرور بني أمية ، وظلمهم ، وعسفهم ،
الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص ، وأنهم سوف
يقيمون حكما مبدؤه العدل ، والمساوات ، والأمن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر
الوعود الانتخابية ، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث .. بل لقد كانت الأماني
التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسئولة الى حد كبير عن ردود الفعل
العنيفة ، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك ؛ حيث كان حكمهم قائما على الطغيان
المتعطش إلى سفك الدماء .. ».
__________________
الخط الثاني :
إنهم لم يعتمدوا
كثيرا على العرب ، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة ، وإنما
استعانوا بغير العرب ، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين ، ومنبوذين ، ومضطهدين
، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة ، التي منحهم إياها الاسلام .. حتى لقد أمر
الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلا عربي .. وقال لرجل من أهل الكوفة : لا يصلح للقضاء
إلا عربي ..
كما طرد غير العرب
من البصرة ، والبلاد المجاورة لها ، واجتمعوا يندبون : وا محمدا وأحمدا. ولا
يعرفون أين يذهبون ، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم ، ويشتركون معهم في نعي
ما نزل بهم من حيف وظلم .
بل لقد قالوا : «
لا يقطع الصلاة إلا : حمار ، أو كلب ، أو مولى .. »
وقد أراد معاوية
أن يقتل شطرا من الموالي ، عند ما رآهم كثروا ، فنهاه الأحنف عن ذلك ..
وتزوج رجل من
الموالي بنتا من أعراب بني سليم ، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة ،
وواليها يومئذ ابراهيم بن هشام بن اسماعيل ،
__________________
فشكا إليه ذلك ،
فأرسل الوالي إلى المولى ، ففرق بينه وبين زوجته ، وضربه مأتي سوط ، وحلق رأسه ،
وحاجبه ، ولحيته .. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له :
قضيت بسنة وحكمت
عدلا
|
|
ولم ترث الخلافة
من بعيد
|
ولم تفشل ثورة
المختار ، إلا لأنه استعان فيها بغير العرب ، فتفرق العرب عنه لذلك .
ويقول أبو الفرج
الاصفهاني : « .. كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية ، إذا جاء العربي من
السوق ، ومعه شيء ، ورأى مولى ، دفعه إليه ، فلا يمتنع . »
بل كان لا يلي
الخلافة أحد من أبناء المولدين ، الذين ولدوا من أمهات أعجميات .
وأخيرا .. فان
البعض يقول : إن قتل الحسين كان : « الكبيرة ، التي هونت على الأمويين أن يقاوموا
اندفاع الايرانيين؟ إلى الدخول في الاسلام .. ».
وبعد هذا .. فان
من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم ، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من
حكم يعاملهم هذه المعاملة ، وله فيهم هذه النظرة ؛ فاعتماد الدعوة العباسية على
هؤلاء كان منتظرا
__________________
ومتوقعا ، كما أن
اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعا ، ومنتظرا أيضا ..
الخط الثالث :
أنهم ـ أعني
العباسيين ـ قد حاولوا في بادئ الأمر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيت : ..
وطبيعة البحث تفرض
علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لمالها من الأهمية البالغة ،
بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ ، ولأنها كانت الناحية التي اعتمد
العباسيون عليها اعتمادا كليا ، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة
، وحصولهم على مقاليد الحكم .. ولهذا .. فنحن نقول :
دولة بني العباس في صحيفة ابن
الحنفية :
قد نقل ابن أبي
الحديد ، عن أبي جعفر الاسكافي : أنه قد صحت الرواية عندهم عن
أسلافهم ، وعن غيرهم من أرباب الحديث ، أنه : لما مات علي أمير المؤمنين 7 ، طلب محمد بن
الحنفية من أخويه : الحسن ، والحسين ميراثه من العلم ، فدفعا إليه صحيفة ، لو
اطلعاه على غيرها لهلك. وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن
الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر ، وفصله له ..
والظاهر أن تلك
الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم ، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال : إنها
قد ضاعت منهم أثناء
__________________
حربهم مع مروان بن
محمد الجعدي ، آخر خلفاء الأمويين ..
وقد ذكرت هذه
الصحيفة في كلام بني العباس ، وخلفائهم كثيرا ، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون
للعباسيين ، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله ..
متى بدأ العباسيون دعوتهم ،
وكيف؟
وبعد هذا .. فان
الشيء المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم ، وكيف؟.
ونستطيع أن نبادر
هنا إلى القول :
إن الذين بدءوا
بالدعوة أولا هم العلويون ، وبالتحديد من قبل أبي هاشم ، عبد الله بن محمد بن
الحنفية. وهو الذي نظم الدعاة ، ورتبهم ، وقد انضوى تحت لوائه : محمد بن علي بن
عبد الله بن العباس ، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن
الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب ، وغيرهم .. وهؤلاء الثلاثة هم الذين
حضروه حين وفاته ، وأطلعهم على أمر دعاته ..
وقد قرأ محمد بن
علي ، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة ، المشار إليها آنفا ، ووجد كل منهما ذكرا
للجهة التي هو فيها ..
ولهذا نلاحظ : أن
كلا من محمد بن علي ، ومعاوية بن عبد الله ، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم ؛ مما
يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أيا منهما بالوصية ، وإنما عرفهما دعاته فقط ..
__________________
هذا .. وبعد موت
معاوية بن عبد الله ، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه ، من أبي هاشم ..
وكان له في ذلك شيعة ، يقولون بامامته سرا حتى قتل ..
وأما محمد بن علي
فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء ، وقد تعرف ـ كما قلنا ـ من أبي هاشم على الدعاة ،
واستطاع بما لديه من قوة الشخصية ، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم ، ويستقل بهم ، ويبعدهم عن
معاوية بن عبد الله ، وعن ولده ، ويبعدهما عنهم ..
واستمر محمد بن
علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية .. وكان عليه أن :
١ ـ يحذر العلويين
، الذين كانوا أقوى منه حجة ، وأبعد صيتا. بل عليه أن يستغل نفوذهم ـ إن استطاع ـ لصالحه
، وصالح دعوته .. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح ..
٢ ـ وكان عليه
أيضا أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية ، التي لن يكون تعامله معها في صالحه ، وفي
صالح دعوته ..
٣ ـ والأهم من ذلك
أن يصرف أنظار الحكام الأمويين عنه ، وعن نشاطاته ، ويضللهم ، ويعمي عليهم السبل
..
ولذا فقد اختار
خراسان ، فأرسل دعاته إليها ، وأوصاهم بوصيته
__________________
المشهورة ، التي
يقسم فيها البلاد والامصار : هذا علوي ، وذاك عثماني ، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر
، والآخر سفياني .. إلى آخر ما سيأتي ..
__________________
وأمرهم ـ أعني
الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين ، لكنه ظل هو شخصيا ، ومن معه من العباسيين ، الذين
استنوا بسنته ، وساروا من بعده بسيرته ـ ظلوا ـ يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم ،
وأن دعوتهم لهم. ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه : كان يدبر الأمر للعباسيين.
وقد أعطى دعاته
شعارات مبهمة ، لا تعين أحدا ، وصالحة للانطباق على كل فريق ، كشعار : « الرضا من
آل محمد » و « أهل البيت » ، ونحو ذلك ..
مدى سرية الدعوة :
والظاهر .. أن عبد
الله بن معاوية كان من جملة أولئك المخدوعين بهذه الشعارات ؛ إذ قد ذكر المؤرخون ،
ومنهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص ١٦٨ ، وغيره : أنه بعد ان استظهر ابن ضبارة
على عبد الله ابن معاوية توجه عبد الله إلى خراسان ، وكان أبو مسلم قد ظهر بها ؛
فخرج إلى أبي مسلم طمعا في نصرته!! فأخذه أبو مسلم ؛ فحبسه ، ثم قتله ..
__________________
وهذا يدل دلالة
واضحة على أن عبد الله بن معاوية كان يظن أن أبا مسلم سوف ينصره ، وأنه ـ يعني أبا
مسلم ـ كان يدعو إلى أهل البيت ، والرضا من آل محمد على الحقيقة ، ولم يخطر في
باله : أن الدعوة كانت للعباسيين ، وبتدبير من أعظم داهية فيهم!! ..
بل لعلنا نستطيع
أن نقول : إن محمد بن علي قد استطاع أن يخفي هذا الأمر حتى عن ولديه : السفاح ،
والمنصور ، ولذا نراهما قد التحقا مع جميع بني هاشم العباسيين والعلويين على حد
سواء ، وبعض الأمويين ووجوه قريش بعبد الله بن معاوية الخارج سنة ١٢٧ ه. في
الكوفة ، ثم في شيراز ؛ حيث تغلب على : فارس ، وكورها ، وعلى حلوان ، وقومس ،
واصبهان ، والري وعلى مياه الكوفة ، وعلى مياه البصرة ، وعلى همدان ، وقم ، واصطخر
، وعظم أمره جدا .
وقد تولى المنصور
من قبل عبد الله بن معاوية هذا على « إيذج » كما تولى غيره غير ذلك من الأمصار .. فقبول المنصور لولاية
« إيذج » من قبله ، باعتباره من الهاشمين يكشف عن أنه لم يكن يعلم : أن والده كان
ابتداء من سنة مائة ، أي قبل خروج عبد الله بن
معاوية بـ (٢٨) سنة يسعى جاهدا ، ويشقى
ويتعب في تدبير الامر للعباسيين ، وتركيز الدعوة لهم .. وانما كان يعلم أن الدعوة
كانت لأهل البيت ، والرضا من
__________________
آل محمد ، المنطبق
ـ بالطبع ـ على العلويين أكثر من غيرهم على الاطلاق ..
وإلا فلو كان
لمحمد بن علي دعوة واضحة ، ومشهورة ، ومتميزة ، وكان المنصور يعلم بها لكان توليه
لإيذج من قبل عبد الله بن معاوية مضرا جدا في دعوة أبيه ، وضربة قاضية لها ..
اللهم إلا أن يكون
ثمة غرض آخر أهم ؛ فيكون ذلك منهم حنكة ودهاء .. كأن يكون نظرهم إلى أنه : لو نجحت
دعوتهم ، فبها ..
وإلا .. فلو نجحت
دعوة عبد الله بن معاوية ، فباستطاعتهم أن يحتفظوا فيها بمراكزهم ، ونفوذهم ؛ إذ
لهم أن يقولوا : إننا كنا من المعاونين والمساهمين في هذه الدعوة .. كما أن بذلك
تنصرف أنظار الحكام عنهم ، ويأمن العلويون جانبهم ؛ فلا يناهضون دعوتهم ولا يقفون
في وجهها .. وبهذه الاسباب نستطيع أن نفسر بيعة العباسيين جميعا ، اكثر من مرة
لمحمد بن عبد الله العلوي ، وبه أيضا نفسر جواب المنصور لسائله عن محمد بن عبد
الله هذا ، حيث قال : « هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن ، مهدينا أهل
البيت » ويأخذ بركابه ، ويسوي عليه ثيابه .
وأيضا قوله في
مجلس البيعة لمحمد هذا : « ما الناس أصور أعناقا ، ولا أسرع إجابة منهم لهذا الفتى
.. » كما سيأتي .. ومما يوضح أيضا مدى تكتم العباسيين بأمر دعوتهم ، أن : إبراهيم
الامام قد بشر بأنه قد أخذت له البيعة بخراسان ـ وهو في نفس الاجتماع الذي كان قد
عقد ليجددوا فيه البيعة لمحمد بن عبد الله بن الحسن .. وسيأتي المزيد من الشواهد
لهذا أيضا إن شاء الله تعالى.
وهكذا .. فان
النتيجة تكون هي : أن العباسيين ظلوا يتسترون
__________________
بالعلويين ،
ويخدعونهم ، على اعتبار أنهم لو نجحوا في دعوتهم السرية ، فان بيعتهم للعلويين ،
ودعوتهم لهم لا تضرهم ، وإذا ما فشلوا فانهم سوف يحتفظون بنفوذهم ومراكزهم في دولة
أبناء عمهم ..
هذا مجمل الكلام
بالنسبة للدعوة العباسية ، ولكن طبيعة البحث تفرض علينا التوسع في بيان المراحل
التي مرّت بها هذه الدعوة ، ولا سيما فيما يتعلق بربطها بأهل البيت : ، والعلويين ،
ومدى اعتمادهم على هذا الربط .. فنقول :
لا بد من ربط الثورة بأهل البيت
..
إنه كان لا بد
للعباسيين من ربط الثورة والدعوة بأهل البيت : ، حيث إنهم كانوا بحاجة إلى :
أولا : صرف انظار الحكام عنهم ..
ثانيا : كسب ثقة الناس بهم ، والحصول على تأييدهم لهم.
ثالثا : أن لا تقابل دعوتهم بالاستغراب ، والاستهجان ، حيث إنهم
لم يكونوا معروفين في أقطار ، وانحاء الدولة الاسلامية المترامية الأطراف ، ولا
كان يعرف أحد لهم حقا في الدعوة لأنفسهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى العلويين ،
مما يجعل الدعوة لهم مع وجود العلويين مستغربة ومستهجنة إلى حد ما ..
رابعا : ـ وهو أهم ما في الامر ـ أن يطمئن إليهم العلويون ،
ويثقوا بهم ، حتى لا تكون لهم دعوة في مقابل دعوتهم ، لأن ذلك بلا شك سوف يضعفهم ،
ويوهن قوتهم ، لما يتمتع به العلويون من نفوذ ومكانة في نفوس الناس بشكل عام ..
ولهذا نرى أبا
سلمة الخلال ، يعتذر لابي العباس السفاح ، عن كتابته
للامام الصادق 7 ، بأن يجعل
الدعوة باسمه ، ويبايعه ـ يعتذر ـ بأنه : « كان يدبر استقامة الأمر ».
نعم .. لقد كان
لربطهم الثورة بأهل البيت : أثر كبير في نجاح ثورتهم ، وظهور دعوتهم. وقد أكسبها ذلك
قوة ومنعة ، وجعلها في منأى ومأمن من طمع الطامعين ، وتطلع المتطلعين ، الذين
كانوا يرجون لأنفسهم حظا من الحياة الدنيا ، وما أكثرهم ..
كما وأن ذلك قد
أثر أثرا بالغا في اكتسابهم عطف الأمة ، وتأييدها ، وخصوصا الخراسانيين ، الذين
كانوا لا يزالون يعيشون الإسلام بعيدا عن أهواء المبتدعين ، وتلاعب المتلاعبين ،
والذين : « وإن كانوا أقل غلوا ( أي من أهل الكوفة ) ، فقد كانوا أكثر حماسة
للدعوة لأهل البيت » ؛ وذلك لأنهم لم يعاملوا معاملة حسنة في الواقع ، ولم يسر
فيهم بسيرة محمد والقرآن إلا علي بن أبي طالب 7 ..
كما أنهم لم ينسوا
بعد ما لا لاقوه في الدولة الأموية من العسف والتنكيل ؛ ولذا فمن الطبيعي أن نراهم
مستعدين لتقبل أية دعوة لأهل البيت : ، والتفاعل معها ، بل والتفاني في سبيلها. كما أن بلدهم
كان بعيدا من مركز الخلافة بالشام ولم يكن فيه فرق وأحزاب متناحرة كالعراق الذي
كان فيه شيعة وخوارج ومرجئة وغير ذلك. وكانت وطأة الحكم العباسي على العراق ومراقبتهم
لكل حركة فيه أشد منها في خراسان ..
وبالفعل لقد شيد
الخراسانيون ، الذين كانوا يحبون أهل البيت : أركان دولة بني العباس ، وقامت خلافتهم على أكتافهم ،
واستقامت
__________________
لهم الامور بفضل
سواعدهم ، وأسيافهم ، وسيأتي إن شاء الله المزيد من الكلام عن الايرانيين ، وعن سر
تشيعهم ، وخاصة الخراسانيين منهم في فصل : ظروف المأمون الخ .. وغيره من الفصول ..
المراحل التي مرت بها عملية
الربط :
ولقد مرت عملية الربط
هذه بثلاثة مراحل أو أربعة ، طبقا للظروف التي كانت قائمة آنذاك .. وإن كانت هذه
المراحل قد تبدو متداخلة ، وغير مميزة في أحيان كثيرة .. إلا أن ذلك
كان تبعا للظروف المكانية ، والزمانية ، والاجتماعية ، التي كانت تتفاوت وتختلف
باستمرار إلى حد كبير .. وهذه المراحل هي :
الأولى : دعوتهم في بادئ الأمر « للعلويين ».
الثانية : دعوتهم إلى : « أهل البيت » ، و « العترة ».
الثالثة : دعوتهم إلى « الرضا من آل محمد ».
الرابعة : ادعاؤهم الخلافة بالارث ، مع حرصهم على ربط الثورة بأهل
البيت ، بدعوى : أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين ، وليرفعوا عنهم الظلم
الذي حاق بهم ..
المرحلة الأولى :
وإذ قد عرفنا أن
الدعوة كانت في بدء أمرها للعلويين ، فلا يجب
__________________
أن نستغرب كثيرا ،
إذا قيل لنا : إن جلة العباسيين ، حتى ابراهيم الامام ، والسفاح ، والمنصور كانوا
قد بايعوا للعلويين اكثر من مرة ، وفي اكثر من مناسبة ، فإن ذلك ما كان الا ضمن
خطة مرسومة ، وضعت بعناية فائقة ، بعد دراسة معمقة لظروفهم مع العلويين خاصة ، ومع
الناس بشكل عام ..
ويمكن أن نعتبر
بيعتهم هذه هي المرحلة الأولى من تلك المراحل المشار إليها آنفا ..
فنراهم عدا عن
تعاونهم الواضح مع عبد الله بن معاوية ، قد بايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن أكثر
من مرة أيضا ، فقد :
« اجتمع آل عباس ،
وآل علي 7 بالأبواء ، على طريق مكة ، وهناك قال صالح بن علي : « إنكم القوم الذين تمتد
إليهم أعين الناس ، فقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاجتمعوا على بيعة أحدكم ،
فتفرقوا في الآفاق ، فادعوا الله ، لعل أن يفتح عليكم ، وينصركم » ، فقال أبو جعفر
، أي المنصور : « لأي شيء تخدعون أنفسكم؟ والله ، لقد علمتم : ما الناس أصور ( أي
أميل ) أعناقا ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى » ، يريد محمد بن عبد الله
العلوي .. قالوا : « قد والله صدقت ، إنا لنعلم هذا » ، فبايعوا جميعا محمدا ،
وبايعه ابراهيم الامام ، والسفاح ، والمنصور ، وصالح بن علي ، وسائر من حضر » طبعا
ما عدا الامام الصادق 7 .. ».
وخرج دعاة بني
هاشم عند مقتل الوليد بن يزيد ، فكان أول ما يظهرونه فضل علي بن أبي طالب وولده ،
وما لحقهم من القتل ، والخوف ، والتشريد ، فإذا استتب لهم الأمر ادعى كل فريق
الوصية إلى من يدعو إليه ..
ولم يجتمعوا ( أي
المتبايعون الآنف ذكرهم ) إلى أيام مروان بن
محمد ، ثم اجتمعوا
يتشاورون ، إذ جاء رجل إلى ابراهيم الامام ، فشاوره بشيء ، فقام وتبعه العباسيون ،
فسأل العلويون عن ذلك ، فاذا الرجل قد قال لإبراهيم : « قد أخذت لك البيعة بخراسان
، واجتمعت لك الجيوش .. ».
بل لقد بايع
المنصور محمد بن عبد الله العلوي مرتين : إحداهما : بالأبواء على طريق مكة.
والأخرى : بالمدينة. وبايعه مرة ثالثة أيضا : في نفس مكة ، وفي المسجد الحرام
بالذات ..
ومن هنا نعرف
السبب في حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد ابن عبد الله العلوي ، فان ذلك لم
يكن إلا بسبب ما كان له في اعناقهما من البيعة ..
__________________
وقد ذكر أبو فراس
الحمداني هذه البيعة في قصيدته المشهورة ، المعروفة بـ « الشافية » ، فقال :
بئس الجزاء
جزيتم في بني حسن
|
|
أباهم العلم
الهادي وأمهم
|
لا بيعة ردعتكم
عن دمائهم
|
|
ولا يمين ، ولا
قربى ، ولا ذمم
|
وذكر ابن الأثير :
أن عثمان بن محمد ، بن خالد بن الزبير ، هرب بعد مقتل محمد إلى البصرة ، فأخذ وأتي
به إلى المنصور ، فقال له المنصور : يا عثمان ، أنت الخارج علي مع محمد؟!. قال له
عثمان : بايعته أنا وأنت بمكة ، فوفيت ببيعتي ، وغدرت ببيعتك. فشتمه المنصور ،
فأجابه ، فأمر به فقتل ..
وذكر البيهقي :
أنه لما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور ، من مدينة الرسول ، 6 ، قال لمطير بن
عبد الله : « أما تشهد أن محمدا بايعني؟. » قال : « أشهد بالله ، لقد أخبرتني أن
محمدا خير بني هاشم ، وأنك بايعت له .. » قال : يا ابن الزانية الخ : وكانت
النتيجة : أن المنصور أمر به ، فوتد في عينيه ، فما نطق!!.
إلى آخر ما هنالك
من النصوص الكثيرة ، التي يتضح معها بما لا مجال معه للشك : أن الدعوة كانت في بدء
أمرها لخصوص العلويين ، وباسمهم ، ثم استغلت بعد ذلك لمصلحة العباسيين ..
المرحلة الثانية ..
ثم رأينا بعد ذلك
: كيف أن الدعوة العباسية تستبعد العلويين ،
__________________
وتتحاشى التصريح
باسمهم ، بطريقة فيها الكثير من الدهاء ، والسياسة ، حيث اقتصروا في دعوتهم ـ بعد
ذلك ـ على أنها لـ « أهل البيت » ، و « العترة » ، وهذه هي المرحلة الثانية من
المراحل الأربع التي أشرنا إليها ..
وكان الناس لا
يفهمون من كلمة : « أهل البيت » إلا العلويين ، لانصراف الأذهان إليهم عند اطلاق
هذه العبارة ، وذلك بسبب الآيات والروايات الكثيرة ، التي استخدمت هذا التعبير
للدلالة عليهم ، دون غيرهم ..
فهذا أبو داود
يقول للنقباء : « .. أفتظنونه ـ أي النبي 6 ـ خلفه ـ أي العلم ـ عند غير عترته ، وأهل بيته ، الأقرب ،
فالأقرب؟! .. إلى أن قال : افتشكون أنهم معدن العلم ، وأصحاب ميراث رسول الله (ص)؟!
.. »
وهذا أبو مسلم
الخراساني القائم بالدولة العباسية ، يكتب إلى الإمام الصادق 6 ، ويقول : « إني
دعوت الناس إلى موالاة أهل البيت ، فان رغبت فيه ، فأنا أبايعك؟. ».
فأجابه الامام 6 : « .. ما أنت من
رجالي ، ولا الزمان زماني » ، ثم جاء أبو مسلم ، وبايع السفاح ، وقلده الخلافة .
وقال السيد امير
علي بعد أن ذكر ادعاء العباسيين للوصاية من أبي هاشم : « .. وقد لاقت هذه القصة
بعض القبول في بعض المناطق الإسلامية. أما عند عامة المسلمين ، الذين كانوا
يتعلقون بأحفاد محمد ،
__________________
فقد ظل دعاة
العباسيين يؤكدون لهم أنهم يعملون لحساب : أهل البيت. وحتى ذلك الوقت كان
العباسيون يظهرون الولاء التام لبني فاطمة ، ويخلعون على حركتهم ، وعلى سياساتهم
مظهر الوصول إلى هدف ضمان العدالة ، والحق لأحفاد محمد .. وكان ممثلوا أهل البيت ،
ومحبوهم ، لا يخامرهم الشك في الغدر ، الذي تبطنه هذه الاعترافات من العباسيين ؛
فشملوا محمد بن علي ، وجماعته بعطفهم وحمايتهم ، الذين كانوا في حاجة إليهما .. » .
ويقول : « ..
وكانت كلمة : « أهل البيت » هي السحر الذي يؤلف بين قلوب مختلف طبقات الشعب ،
ويجمعهم حول الراية السوداء .. » .
المرحلة الثالثة :
ثم تأتي المرحلة
الثالثة ، ويتقلص ظل العلويين ، وأهل البيت عن هذه الدعوة ، أكثر فأكثر ، كلما
ازدادت قوتها ، واتسع نفوذها ، حيث رأينا أخيرا انها اتسعت بحيث تستطيع أن تشمل
العباسيين أيضا مع العلويين. حيث أصبحت إلى : « الرضا من آل محمد » ، وإن كانوا لا
يزالون يذكرون فضل علي ، وما لحق ولده من القتل والتشريد ، كما يتضح بأدنى مراجعة
لكتب التاريخ ..
وهذه العبارة ،
وإن كانت لا تختلف كثيرا عن عبارة : « العترة ، وأهل البيت » ، ونحوها .. إلا أنها
كانت في أذهان العامة أبعد من أن يراد بها العلويون على الخصوص .. ولكن مع ذلك
بقيت الجماهير
__________________
تعتقد أن الخليفة
سيكون علويا ، كما كان العلويون يعتقدون ذلك .. » على حد تعبير أحمد شلبي .. وإذا صح هذا ، وفرض ـ ولو بعيدا
ـ أن شعار : الرضا من آل محمد لا يختلف عن شعار : العترة ، وأهل البيت في أذهان
عامة الناس ، فلسنا نصر على جعل هذا مرحلة مستقلة ، بل يكون داخلا فيما سبقه ،
وتكون المراحل حينئذ ثلاثة ، لا أربعة ..
ملاحظات لا بد منها في المرحلة
الثالثة :
وقبل الانتقال إلى
الكلام على المرحلة الرابعة ، والأخيرة. لا بد من ملاحظة أمور :
أ : انهم في نفس الوقت الذي نراهم فيه يبعدون الدعوة عن أهل
البيت ، كما يدلنا عليه قول محمد بن علي العباسي لبكير بن ماهان :
« وحذر شيعتنا
التحرك في شيء مما تتحرك فيه بنو عمنا آل أبي طالب ؛ فإن خارجهم مقتول ، وقائمهم
مخذول ؛ وليس لهم من الأمر نصيب ، وسنأخذ بثأرهم .. » .
وكما يدلنا عليه
ما رواه الطبري من أن محمد بن علي نهى دعاته عن رجل اسمه : غالب ؛ لأنه كان مفرطا
في حب بني فاطمة ..
نراهم من جهة
ثانية : وحتى لا يصطدموا بالعلويين وجها لوجه .. كانوا في جميع مراحل دعوتهم
يتكتمون جدا باسم الخليفة ، الذي يدعون الناس إليه ، وإلى بيعته ، بل إن الشخص
الذي كانوا يدعون
__________________
الناس إليه ، وإلى
بيعته .. بل وكان الناس يبايعونه ما كانوا يعرفونه ، بل يعرفه الدعاة فقط ، وعلى
الناس أن يبايعوا إلى « الرضا من آل محمد » ولا بأس بمراجعة نص البيعة في تاريخ
التمدن الاسلامي ، المجلد الأول ، الجزء الاول ص ١٢٥.
ولعل هدفهم من ذلك
كان أيضا : هو أن لا يربطوا الدعوة بفرد معين ، حتى لا تضعف إذا ما مات ، أو اغتيل
..
وعلى كل فقد نص
ابن الأثير في الكامل ج ٤ ص ٣١٠ ، حوادث سنة ١٣٠ على أن أبا مسلم كان يأخذ البيعة
إلى الرضا من آل محمد .. ومثل ذلك كثير في كلمات المؤرخين ، وإليك بعض النصوص
التاريخية ، التي تدل على ذلك :
ففي الكامل ج ٤ ص
٣٢٣ نص على أن محمد بن علي بعث داعيا إلى خراسان يدعو إلى « الرضا من آل محمد »
ولا يسمي أحدا ، ولعل الذي أرسله هو أبو عكرمة الآتي ذكره ..
وقد قال محمد بن
علي العباسي لأبي عكرمة : « فلتكن دعوتك إلى : « الرضا من آل محمد » ؛ فاذا وثقت
بالرجل ، في عقله ، وبصيرته ، فاشرح له أمركم ..
وليكن اسمي مستورا
من كل أحد ، إلا عن رجل عدلك في نفسك ، وتوثقت منه ، وأخذت بيعته .. ».
ثم أمره بالتحاشي
عن الفاطميين ..
ويقول أحمد شلبي :
« .. كانوا ( أي العباسيون ) يوهمون العلويين بأنهم يعملون لهم ، ولكنهم في الواقع
كانوا يعملون لأنفسهم » ..
__________________
ويقول أحمد أمين :
« .. ومع هذا فكان من إحكام أمرهم أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من
المواقف باسم الإمام ؛ ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض .. » .
ولو كان الخليفة
معينا ومعروفا عند الناس ، لما استطاع أبو مسلم ، وأبو سلمة ، وسليمان الخزاعي ،
أن يكاتبوا الإمام الصادق 7 ، وغيره من العلويين ، أنهم يبايعونهم ، ويجعلون الدعوة
لهم ، وباسمهم ..
وقد تقدمت رسالة
أبي مسلم للإمام الصادق 7 ، التي يصرح فيها بأنه : إنما دعا الناس إلى موالاة أهل
البيت فقط ، أي من دون تصريح باسم أحد ..
وقد قال أحدهم :
كنت عند أبي عبد الله 7 ، فأتاه كتاب أبي مسلم ؛ فقال : « ليس لكتابك جواب. أخرج
عنا » .
وقال السيد أمير
علي عن أبي مسلم : « وقد ظل إلى هذا الوقت مواليا ، بل مخلصا ، بل متحمسا لابناء
علي ».
وقال صاحب قاموس
الأعلام : « وعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة ابتداء على الامام الصادق ، فلم
يقبلها ».
__________________
وأما أبو سلمة :
فانه عند ما خاف من انتقاض الامر عليه ، بسبب موت ابراهيم الإمام ، أرسل ـ والسفاح
في بيته ـ إلى الامام الصادق 7 يطلب منه القدوم عليه ليبايعه ، وتكون الدعوة باسمه ، كما
أنه كتب بمثل ذلك إلى عبد الله بن الحسن .. لكن الامام 7 ، الذي كان في
منتهى اليقظة والحزم. رفض الطلب ، وأحرق الكتاب ، وطرد الرسول ..
وقد نظم أبو هريرة
الأبّار ، صاحب الامام الصادق 7 هذه الحادثة شعرا ، فقال :
ولما دعا
الداعون مولاي لم يكن
|
|
ليثي إليه عزمه
بصواب
|
ولما دعوه
بالكتاب أجابهم
|
|
بحرق الكتاب دون
رد جواب
|
__________________
وما كان مولاي
كمشري ضلالة
|
|
ولا ملسا منها
الردى بثواب
|
ولكنه لله في
الارض حجة
|
|
دليل الى خير ،
وحسن مآب
|
وكتب إليه أبو
سلمة أيضا مرة ثانية ، عند ما أقبلت الرايات : « إن سبعين الف مقاتل وصل إلينا ،
فانظر أمرك ». فأجابه الامام بالرفض أيضا ..
وأما سليمان
الخزاعي : المدبر الحقيقي للثورة في خراسان ، فانه اتصل بعبد الله بن الحسين
الأعرج ، وهما يسايران أبا جعفر المنصور في خراسان ، عند ما أرسله السفاح إليها ،
قال سليمان لعبد الله : « إنا كنا نرجو أن يتم أمركم ، فاذا شئتم فادعونا إلى ما
تريدون!! » ، فعلم أبو مسلم بالأمر ، فقتل سليمان هذا ..
بل إن هذا إن دل
على شيء فانما يدل على أن كثيرا من الدعاة ما كانوا يعرفون : أن الخليفة سيكون
عباسيا ، فضلا عن أن يكونوا يعرفونه باسمه الصريح ..
قال الدكتور فاروق
عمر : « على أننا نستطيع القول : إن اسم الامام كان معروفا لدى الحلقات الخاصة من
الشيعة الهاشمية ، أو العباسية ، وأن الكثير من الأنصار ، الذين ساندوا الثورة ، ومنهم
ابن الكرماني نفسه ، لم يكن يعرف أن « الرضا من آل البيت » سيكون عباسيا ، مع أن
ابن الكرماني كان قائدا كبيرا ، وكان يطمع إلى الاستيلاء على
__________________
خراسان .. ».
ب : يلاحظ أن العباسيين قد موهوا على الناس ، واستطاعوا أن
يخدعوهم ، حيث خيلوا لهم في بادئ الأمر أن الثورة كانت للعلويين .. ثم بدءوا يعدون
العدة لما سوف يقولون للناس عند اكتشافهم لحقيقة الأمر ؛ فصنعوا سلسلة الوصاية
المعروفة عنهم من علي بن أبي طالب ، إلى محمد ابن الحنفية ، فإلى أبي هاشم ، فإلى
علي بن عبد الله بن العباس .. وهكذا .. وهي في الحقيقة نفس عقيدة الكيسانية ، كما
سنشير إليها في بعض الهوامش الآتية.
وقد جازت حيلتهم
هذه على الناس ، الذين كانوا يظنون أنهم يعملون للعلويين ، حتى لقد خفي
أمرهم عن عبد الله بن معاوية حسما قدمنا ، بل لقد كان من جملة المخدوعين ، الذين
اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الأوان ، سليمان الخزاعي ، الذي تقدم أنه ـ باعترافه ـ كان
يرجو هذا الأمر للعلويين ، وأبو مسلم الخراساني الذي صارح المنصور بأن السفاح كان
قد خدعه .. وأنه خدع أيضا من قبل ابراهيم الإمام ، حيث ادعيا الوصاية والامامة ،
وحرفا الآيات الواردة في أهل البيت لتنطبق عليهم ، مما كان من نتيجته أن زوى الأمر
عن أهله ، ووضعه
__________________
في غير محله .
أما انخداع ابن
الكرماني فهو من الامور الواضحة والمعروفة. بل لقد رأينا البعض يذكر أن أبا سلمة
الخلال كان أيضا من جملة المخدوعين ، حيث كان يتوهم : أن الخليفة سيكون علويا لا
عباسيا ..
ج : ومما تجدر الاشارة إليه هنا ، هو ما تقدم : من رفض الامام
القاطع لعرض كل من أبي سلمة ، وأبي مسلم في جعل الدعوة له ، وباسمه ..
وما ذلك إلا لعلمه
7 : بأن هؤلاء ليس لهم من هدف ، إلا الوصول إلى مآربهم من الحكم والسلطان ، ثم
يتخلصون من كل من لا يعودون بحاجة إليه ، إذا اعتبروه عقبة في طريقهم .. كما كان
الحال في قتلهم أبا مسلم ، وسليمان بن كثير ، وأبا سلمة .. وغيرهم .. شاهدنا على
ذلك جواب الإمام 7 لأبي مسلم : « ما أنت من رجالي ، ولا الزمان زماني » ..
وكذلك المحاورة التي جرت بينه 7 ، وبين عبد الله بن الحسن ، عند ما جاءه كتاب من أبي سلمة
مثل كتابه .. وأيضا قوله 7 : مالي ولأبي سلمة ، وهو شيعة لغيري .. بل ومما يدل على
ذلك دلالة قاطعة .. ما قدمناه من اعتذار أبي سلمة للسفاح ، عن مراسلته للصادق ،
وغيره من العلويين ، بأنه : « كان يدبر استقامة الأمر » بل يذكر الطبري ج ٦ ص ١٠٢
وابن الأثير ج ٥
__________________
ص ٤٣٧ : أنه عند
ما جمع السفاح خاصته ليستشيرهم بقتل أبي سلمة وأخبرهم بمكاتبته للعلويين .. نجد أن
بعض خاصته انبرى ليقول : ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان من رأي أبي مسلم . وعليه فلا يصح
قول صاحب العيون والحدائق ص ١٨١ : « ولم يكن هوى أبي سلمة معهم ، وإنما كان هواه
مع الصادق جعفر الخ .. » فإن لجوءه إلى الصادق إنما كان لأجل استقامة الأمر. بل إن
بعض المحققين لا يستبعد أن يكون من جملة أهدافهم من رسائلهم تلك ، إلى الصادق ،
وعبد الله ابن الحسن ، وغيرهما من العلويين .. هو معرفة إن كان هؤلاء يطمحون إلى
الحكم ، ويرغبون فيه أولا .. وذلك ليستعد العباسيون ـ من ثم ـ لمواجهة دعوتهم ،
ورصد كل حركاتهم ، وسكناتهم ، ومن ثم شل حركتهم ، والقضاء عليهم .. وهذا أسلوب
استعمله المنصور من بعد ، لكن الإمام الصادق 7 تنبه للمكيدة ، وعمل على احباطها ..
د : وتصريح أبي سلمة هذا وموقف الإمام منه ، وقوله : إنه شيعة
لغيره يلقي لنا ضوءا على الروايات التي تتهمه ، وتتهم أبا مسلم بميول علوية .. وأن
أبا مسلم أراد أن يعلن خلافة علوية ، بمجرد وصوله إلى خراسان ، كما عن الذهبي ،
وشارح شافية أبي فراس ، وتاريخ الخميس. فان ذلك لا شاهد له إلا رسائلهما التي
أشرنا إليها .. مع أنها لم يكن الهدف منها إلا استقامة الأمر للعباسيين .. خصوصا
إذا لاحظنا أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات للعلويين ، وباسمهم ـ كما أشرنا إليه
ـ
__________________
وأنه كان يلاحقهم
تحت كل حجر ومدر ، وفي كل سهل وجبل ، على حد تعبير الخوارزمي ..
المرحلة الرابعة :
ثم تأتي المرحلة
الرابعة والاخيرة ، وهي : ادعاؤهم الخلافة بالإرث ، كما أشرنا إليه .. ولكنهم
استمروا يربطون الثورة بأهل البيت : من ناحيتين :
الأولى : ادعاؤهم الخلافة بالارث عن طريق علي بن أبي طالب ، ومحمد
بن الحنفية ، كما سيأتي بيانه.
الثانية : ادعاؤهم أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين .. فأما
ادعاؤهم استحقاقهم الخلافة بالارث ، عن طريق علي بن أبي طالب 7 ، واحتجاجهم
بقرباهم النسبية من رسول الله (ص) ، فاننا نلمحها في كثير من مواقفهم ، حيث كانوا
يستطيلون على الناس بهذه القربى ، ويحتجون بها في مختلف المناسبات ..
__________________
فقد قال داود بن
علي ، أول خطيب لهم على منبر الكوفة ، في أول كلام له أمام السفاح : « .. وإنما
أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا .. ».
ونرى السفاح في
خطبته الأولى أيضا في مسجد الكوفة ، بعد أن ذكر عظمة الرب تبارك وتعالى ، وفضل
النبي (ص) « قد قاد الولاية والوراثة ، حتى انتهيا إليه ، ووعد الناس خيرا .. ».
ويقال : إن من
جملة ما قاله السفاح في خطبته الأولى : « .. فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا ، وأوجب عليهم
حقنا ومودتنا ، وأجزل من الفيء ، والغنيمة نصيبنا ، تكرمة لنا وفضلا علينا ..
وزعمت السبائية
الضلال : أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة .. إلى أن قال : ورد علينا حقنا .. »
__________________
ويقول داود بن علي
في خطبته الأولى في مسجد الكوفة أيضا : « .. وأحيا شرفنا وعزنا ، ورد إلينا حقنا
وإرثنا .. » .
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
وعند ما ذهب داود بن
علي إلى مكة ، واليا عليها ، من قبل أخيه السفاح ، وأراد أن يخطب في مكة خطبته
الأولى ، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام ؛ فأذن له ؛ فوقف ؛ وقال من
جملة ما قال :
« .. أتزعم الضلال
: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة
، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب ، والورثة للسلب .. » .
ويقول داود بن علي
في نفس المناسبة ، أعني في أول خطبة له : « لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله (ص) ،
إلا علي بن أبي طالب ، وهذا القائم فيكم .. » وأشار إلى السفاح .
__________________
وقال المنصور في
خطبة له : « وأكرمنا من خلافته ، ميراثنا من نبيه .. » .
ولكنهم بعد
المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الارث هذه ،
وجعلوها عن طريق العباس ، وولده عبد الله ، ولكنهم أجازوا بيعة علي ؛ لأن العباس
نفسه كان قد أجازها .. كما سيأتي بيانه .. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من
المنصور ناظرة إلى الارث عن هذا الطريق ..
فنرى المنصور يبين
في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن : أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما
ورثه من النبي (ص) ، وأنها في ولده ..
وكان الرشيد يقول
: « ورثنا رسول الله ، وبقيت فينا خلافة الله ».
وقال الأمين عند
ما بويع له ، بعد موت أبيه الرشيد : « .. وأفضت خلافة الله ، وميراث نبيه إلى أمير
المؤمنين الرشيد .. ».
ومدح البعض
المأمون ، وعرض بأخيه الذي غدر به ، فقال في جملة أبيات له :
إن تغدروا جهلا
بوارث أحمد ووصي كل مسدد وموفق
__________________
إلى غير ذلك مما
لا مجال لنا لتتبعه .. ولنعد إلى ما كنا فيه أولا ، فنقول :
دعوى الأخذ بثارات العلويين :
وأما ادعاؤهم :
أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين ، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت ،
حتى بعد نجاح ثورتهم ، وتسلمهم لأزمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من
المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى .. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن
ماهان : « وسنأخذ بثارهم .. » يعني بثارات العلويين. وتقدم أيضا قول داود ابن علي
: « وانما أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا .. » ..
ويقول السفاح ،
عند ما أتي برأس مروان : « ما أبالي متى طرقني الموت ، فقد قتلت بالحسين ، وبني
أبيه من بني أمية مائتين ، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي ، وقتلت مروان
بأخي ابراهيم .. » .
ويقول صالح بن علي
لبنات مروان : « ألم يقتل هشام بن عبد الملك ، زيد بن علي بن الحسين ، وصلبه في
كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة ، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟! ألم يقتل
الوليد بن يزيد يحيى بن زيد ، وصلبه بخراسان؟!
__________________
ألم يقتل الدعي
عبيد الله بن زياد ، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!
ألم يقتل يزيد بن
معاوية الحسين ؟! ..
وبرواية ابن أبي
الحديد ، أنه قال لهن : « .. إذن ، لا نستبقي منكم أحدا ؛ لأنكم قد قتلتم ابراهيم
الإمام ، وزيد بن علي ، ويحيى بن زيد ، ومسلم بن عقيل.
وقتلتم خير أهل
الأرض حسينا ، وإخوته ، وبنيه ، وأهل بيته ، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري
الروم ـ على الأقتاب إلى الشام .. » .
ولا بأس بمراجعة
ما قاله داود بن علي عند ما قتل ثمانين أمويا مرة واحدة .
وكذلك فانهم ما
لقبوا أبا سلمة الخلال ، أول وزير في الدولة العباسية بـ « وزير آل محمد » ، وأبا
مسلم الخراساني بـ « أمين ، أو أمير آل محمد » .. إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت : ، ولتبقى ـ من ثم
ـ محتفظة بقوتها ، وحيويتها ..
وأخيرا .. فلم يكن
اتخاذهم السواد شعارا إلا تعبيرا عن الحزن والاسى
__________________
لما نال أهل البيت
في عهد بني أمية ..
وهكذا .. يتضح ،
بما لا مجال معه للشك : أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين ، ودماءهم الزكية في
محاولاتهم للوصول إلى الحكم ، وتثبيت أقدامهم فيه ..
بل إن من الملاحظ
أن كثيرا من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس ، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو
بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيت : ، وأنها تحظى
بتأييدهم ، وموافقتهم ، وكثير منها كان يرفع شعار : « الرضا من آل محمد ».
نهاية المطاف ..
وبعد كل ما تقدم
.. يتضح لنا بجلاء ، الاسلوب الذي انتهجه
__________________
العباسيون ،
والخطة التي اتبعوها ، من أجل كسب ثقة الناس بهم ، وتأييدهم لهم ، وصرف أنظار
الحكام عنهم ..
وأيضا الطريقة
التي اتبعوها في ابعاد العلويين عن مجال السياسة ، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا
خداعا وتمويها ، من أجل تنفيذ خطتهم ، وانجاح دعوتهم ..
كما وظهر أن كون
الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين ، لم يكن أمرا عفويا ، وتلقائيا .. وانما
كان ضمن خطة دقيقة ، ومدروسة ، وضعت بعناية فائقة ، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة
..
وظهر أيضا : كيف
أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيت : ، وكانوا يعتمدون
على هذا الربط كل الاعتماد ، ويصرون ، ويؤكدون عليه ، كلما سنحت لهم الفرصة ،
وواتاهم الظرف ، حتى عند ما وصلوا إلى الحكم ، وفازوا بالسلطان ..
وقد انقاد الناس
لهم في البداية ، واستقامت لهم الأمور ، ظنا منهم بحسن نيتهم ، وسلامة طويتهم ..
ولكن .. ما ذا
كانت النتيجة بعد ذلك ، بالنسبة للناس عامة ، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين ، الذين
قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟!
وما ذا كان نصيبهم
، ومصيرهم ، من هذه الثورة ومعها؟!
هذا .. ما سوف
نحاول الاجابة عليه فيما يأتي من الفصول.
مصدر الخطر على العباسيين
العلويون هم مصدر الخطر :
قد تقدم معنا : أن
الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين ، ثم
لأهل البيت ، ثم إلى الرضا من آل محمد .. وأن سرّ نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيت
: .. وإن كانت قد انحرفت فيما بعد ، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة
بدعوى القربى النسبية من الرسول الاكرم (ص).
ومن هنا .. فان من
الطبيعي ، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين ، وخلافتهم ، هو من جهة
ابناء عمهم العلويين ، الذين كانوا أقوى منهم حجة ، وأقرب إلى النبي (ص) منهم ،
باعتراف العباسيين أنفسهم ..
__________________
فادعاؤهم الخلافة
إذن ، له مبرراته الكاملة ، ولا سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية ،
ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم ، والعقل ، والحكمة ، وبعد
النظر في الدين والسياسة .. هذا بالاضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم ، من مختلف
الفئات والطبقات ، من الاحترام والتقدير ، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات ،
وبفضل سلوكهم المثالي ، وترفعهم عن كل المشينات ، والموبقات ..
أضف إلى ذلك كله
.. أن رجالات الاسلام ، وأبطاله ، كانوا هم آل أبي طالب « رضي الله تعالى عنه » ؛
فأبو طالب مربي النبي (ص) وكفيله ، وعلي 7 وصيه وظهيره ، وكذلك الحسن ، والحسين ، وعلي زين العابدين
، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية ، وغيرهم ، ممن يطول المقام
بذكرهم ، رضوان الله عليهم أجمعين.
ولقد كانت بطولات
العلويين ، ومواقفهم على كل شفة ولسان ، وفي كل قلب وفؤاد ، حتى لقد ألفت الكتب
الكثيرة في وصف تلك البطولات ، وبيان هاتيك المواقف ..
وخلاصة
الأمر : إنه لم يكن
هناك مجال لانكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة ، أو تجاهله ؛ فان ذلك إما
أن يكون عن قصر نظر ، وقلة معرفة ، أو مكابرة وعنادا ..
تخوف العباسيين من العلويين :
وقد كان الخلفاء
من بني العباس يدركون جيدا مقدار هذا النفوذ ، للعلويين ، ويتخوفون منه ، منذ
أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك :
أن السفاح ، من
أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن ؛ حيث قال لبعض ثقاته ، وقد خرج وفد
بني الحسن من عنده : « قم بانزالهم ولا تأل في الطافهم. وكلما خلوت معهم ؛ فأظهر
الميل إليهم ، والتحامل علينا ، وعلى ناحيتنا ، وأنهم أحق بالأمر منا ، وأحص لي ما
يقولون ، وما يكون منهم في مسيرهم ، ومقدمهم .. ».
وقد تنوعت هذه
المراقبة ، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح ، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ ..
خوف المنصور من العلويين
ومما يدل على مدى
تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي ، التي يحثه فيها على القبض
على عيسى بن زيد العلوي ، يقول المنصور :
« .. يا بني ، إني
قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي ، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه
خليفة قبلي ، وبنيت لك مدينة لم يكن في الاسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد
رجلين : عيسى بن موسى ، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى ، فقد أعطاني من العهود
والمواثيق ما قبلته ، وو الله ، لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك ؛
فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد ؛ فانفق هذه الأموال ، واقتل هؤلاء الموالي ،
واهدم هذه المدينة ، حتى تظفر به ،
__________________
ثم لا ألومك .. ».
وليس تخوف المنصور
إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا ، وانما كل ما في الأمر أن
المجتمع الاسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما
هي في ولد علي 7 .. وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة ، فانه سوف يلقى تأييدا
واسعا ؛ فهو من جهة ابن زيد الشهيد ، الثائر على بني أمية .. ومن جهة أخرى. كان من
المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد
بايعاه ، حسبما تقدم ، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الامام الصادق 7 ـ أنه مهدي هذه
الأمة .. كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد
الله الآنف الذكر ، والذي خرج بالبصرة ، وقتل بباخمرى ..
ومما يدل على مدى
خوف المنصور من العلويين أنه :
عند ما كان مشغولا
بحرب محمد بن عبد الله ، وأخيه ابراهيم ، كان لا ينام الليل في تلك الايام. وأهديت
له جاريتان ؛ فلم ينظر إليهما ؛ فكلم في ذلك ؛ فنهر المتكلمة ، وقال : « .. ليست
هذه الايام من أيام النساء ، لا سبيل لي إليهما ، حتى أعلم : أرأس ابراهيم لي ، أم
رأسي لإبراهيم؟ ».
__________________
وهيئت له آنئذ عجة
من مخ وسكر ، فاستطابها ، فقال : « أراد ابراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله ».
وأرسل إلى كل باب
من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذ ـ إبلا ودوابا ، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من
ناحية ، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى ..
وفي حربه ـ أي
المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جدا ، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من
خمسين يوما ..
وكان لا يستطيع أن
يتابع كلامه من كثرة همه ..
وأخيرا .. فكم من
مرة رأيناه يجلب الامام الصادق 7 ، ويتهدده ويتوعده ، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى
سلطانه.
فكل ذلك يدل دلالة
واضحة على مدى رعب المنصور ، وخوفه من العلويين ، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما
يتمتعون به من التأييد ، في مختلف الطبقات ، وعند جميع الفئات ..
__________________
حتى إنه عند ما
سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب : « .. ولد علي ، وولد جعفر ، وعقيل ،
وولد عمر بن الخطاب ، وولد الزبير بن العوام ، وسائر قريش ، وأولاد الانصار ».
وسيمر معنا أن
المنصور ادعى أن ولده هو المهدي ، عند ما رأى أن الناس ـ ما عدا الامام الصادق 7 ـ قد قبلوا
بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي .. وسيمر معنا أيضا طرف من معاملته للعلويين فيما
يأتي إن شاء الله تعالى ..
خوف المهدي من العلويين :
وأما خوف المهدي
من العلويين ، فذلك لعله من أوضح الواضحات ، فمثلا نرى أنه : عند ما أخرج الامام
الكاظم 7 من السجن ، يطلب منه أن لا يخرج عليه ، ولا على أحد من ولده .
كما أنه قد مكث
مدة يطلب عيسى بن زيد ، والحسن بن ابراهيم ، بعد هربه من السجن .. فقال المهدي
يوما لجلسائه : « لو وجدت رجلا من الزيدية ، له معرفة بآل حسن ، وبعيسى بن زيد ،
وله فقه ؛ فاجتلبه عن طريق الفقه ؛ فيدخل بيني وبين آل حسن ، وعيسى بن زيد » ؛
فدله الربيع على يعقوب بن داود ؛ فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي ، حتى
استوزره ، وفوضه جميع أمور الخلافة ، وخرج كتابه على الدواوين
__________________
بأنه : قد آخاه .. كل ذلك من أجل
أن يدله على الحسن بن ابراهيم ، وعيسى بن زيد ، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه
المنصور ، لخروجه عليه مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن ، والمهدي هو الذي أطلقه
..
ولكنه لما لم يدله
على عيسى بن زيد اتهمه بأنه : يمالىء الطالبيين فسجنه ، وبقي في السجن
إلى زمن الرشيد ؛ فأخرجه ، وقد كف بصره وصار شعره كالانعام ..
خوف الرشيد من العلويين :
وأما الرشيد «
الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة » ،
__________________
فقد كان معنيا
بالمسألة عن آل علي ، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم. كما سيأتي.
وقضيته مع يحيى بن
عبد الله بن الحسن ، الذي كان قد خرج في الديلم ، وحالته السيئة ، وهمومه في أيام
خروجه ، أشهر من أن تحتاج إلى بيان .. وكيف لا تأخذه الهموم ، وتذهب به الوساوس ،
وقد اتبع يحيى « خلق كثير ، وجم غفير ، وقويت شوكته ، وارتحل إليه الناس من الكور
والأمصار ؛ فانزعج لذلك الرشيد ، وقلق من أمره » .. وكان الساعي بالصلح بينه وبين
يحيى هو الفضل بن يحيى ، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد
جدا ، وفرح بذلك الصلح فرحا عظيما . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك ، كما هو معروف ومشهور ..
كما انه عند ما
ذهب إلى المدينة لم يعط الامام موسى بن جعفر 7 ، سوى مائتي دينار ، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به
الآلاف منها ، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون : أنه لو أعطاه اكثر من ذلك لم
يأمن أن يخرج عليه من الغد مائة الف سيف من شيعته ، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه
..
__________________
ثم عاد وسجنه بعد
ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج ، ثم يدس إليه السم ، ويتخلص منه ، وذلك هو
مصير اكثر الائمة على يد الخلفاء قبله وبعده ..
وأما في زمن المأمون!!
وأما في زمن
المأمون : فقد كان الأمر أعظم ، وأمر ، وأدهى ؛ حيث قد شملت الثورات والفتن الكثير
من الولايات والأمصار ، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ ، ولا كيف يعالج.
وأصبح يرى ، ويؤلمه أن يرى مصيره ، ومصير خلافته في مهب الريح ، تتقاذفه الانواء ،
ويضرى به الإعصار.
عقدة الحقارة لدى العباسيين :
وكان ذلك بطبيعة
الحال يزيد من رعب العباسيين ، ويضاعف من مخاوفهم .. لا سيما بملاحظة أنهم كانوا
يعيشون عقدة الحقارة والمهانة ..
يقول أبو فراس
مشيرا إلى ذلك :
ثم ادعاها بنو
العباس ملكهم
|
|
ومالهم قد فيها
ولا قدم
|
لا يذكرون إذا
ما معشر ذكروا
|
|
ولا يحكم في أمر
لهم حكم
|
ولا رآهم أبو
بكر وصاحبه
|
|
اهلا لما طلبوا
منها وما زعموا
|
فهل هم يدعوها
غير واجبة
|
|
أم هل أئمتهم في
أخذها ظلموا
|
وقد كتب ابو مسلم
للمنصور ، من جملة رسالة له : « .. وأظهركم الله بعد الاخفاء ، والحقارة والذل ،
ثم استنقذني بالتوبة الخ .. ».
__________________
وفي رسالة أخرى :
« .. حتى عرفكم من كان جهلكم ».
بل لقد صرح
المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي ؛ حيث قال له : « نحن بين قوم رأونا بالأمس
سوقة ، واليوم خلفاء ؛ فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة ، ونسيان العفو ..
» كما سيأتي ..
في مواجهة الخطر :
وإذا كان
العباسيون يدركون : أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم ، إنما هو من قبل أبناء عمهم
العلويين ، فان عليهم إذن .. أن يتحركوا ..
أن يفعلوا شيئا ..
أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة ، وبأي أسلوب كان .. سيما وهم يشهدون عن
كثب سرعة استجابة الناس للعلويين ، وتأييدهم ، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم ..
فكيف عالج
العباسيون الموقف؟! ..
وما هو مدى نجاحهم
في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.
__________________
سياسة العباسيين ضد العلويين :
مما سبق :
قد تقدم معنا بعض
ما يدل على مدى نفوذ العلويين ، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم
.. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين ، ومركزهم في الحكم
..
وقد كان العباسيون
يدركون بالفعل هذه الحقيقة ، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة
كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم ، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم ..
وقد اتبعوا من أجل
ذلك أساليب شتى ، وطرقا متنوعة :
فحاولوا في بادئ
الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة ..
تطوير نظرية الارث :
وكان من جملة
أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة ، التي كانوا يواجهون بها الناس في
تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبي (ص) ..
وذلك لأنهم كانوا
في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنين 7 ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية ، ثم إلى ابنه أبي هاشم
، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس ، فإلى ولده محمد بن علي ، فإبراهيم الامام ،
ثم منه إلى أخيه السفاح وهكذا .. هذا .. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر ،
وعثمان ، وغيرهم من خلفاء الامويين ، وغيرهم ..
ويتضح انكارهم
وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية .. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي ، التي
ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل ..
ومن ذلك أيضا قول
أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح ، قال : «
.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميّا مرة ، وعدويا مرة ، وأسديا مرة وسفيانيا مرة
، ومروانيا مرة ، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ، ولا بيته [ يعني نفسه ] يضربكم
بسيفه ؛ فأعطيتموها عنوة ، وأنتم صاغرون ، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى ، ومنار
سبيل التقى ، القادة الذادة السادة الخ .. ». وتقدم قول داود ابن علي : « لم يقم فيكم امام بعد
رسول الله الخ .. »
وروى أبو سليمان
الناجي ، قال : « جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات لهم ، وهو ولي عهد ، فبدأ ببني
هاشم ، ثم بسائر قريش. فجاء السيد [ أي الحميري ] ؛ فرفع إلى الربيع حاجب المنصور
رقعة مختومة ، وقال : ان فيها نصيحة للامير ؛ فأوصلها إليه. فأوصلها ؛ فإذا فيها :
__________________
قل لابن عباس
سمي محمد
|
|
لا تعطين بني
عدي درهما
|
احرم بني تيم بن
مرة انهم
|
|
شر البرية آخرا
، ومقدما
|
إن تعطهم لا
يشكروا لك نعمة
|
|
ويكافئوك بأن
تذم وتشتما
|
وإن ائتمنتهم أو
استعملتهم
|
|
خانوك ، واتخذوا
خراجك مغنما
|
ولئن منعتهم لقد
بدءوكم
|
|
بالمنع ؛ إذ
ملكوا وكانوا أظلما
|
منعوا تراث محمد
أعمامه
|
|
وابنيه ، وابنته
عديلة مريما
|
وتأمروا من غير
ان يستخلفوا
|
|
وكفى بما فعلوا
هنالك مأثما
|
لم يشكروا لمحمد
انعامه
|
|
أفيشكرون لغيره
إن أنعما
|
والله من عليهم
بمحمد
|
|
وهداهم ، وكسا
الجنوب ، وأطعما
|
ثم انبروا لوصيه
ووليه
|
|
بالمنكرات ،
فجرعوه العلقما
|
قال : فرمى بها
إلى عبد الله معاوية بن يسار ، الكاتب للمهدي ، ثم قال : اقطع العطاء ؛ فقطعه.
وانصرف الناس. ودخل السيد إليه ؛ فلما رآه ضحك ، وقال : قد قبلنا نصيحتك يا
إسماعيل .. ولم يعطهم شيئا .. ».
ونرى السيد
الحميري في مناسبة أخرى ينشد المنصور أبياتا يهجو بها سوارا القاضي ، من جملتها :
إن سوار بن عبد
|
|
الله من شر
القضاة
|
نعثلي ، جملي ،
|
|
لكم غير مواتي
|
__________________
ويقول القاسم بن
يوسف :
هاشم فخر قصي
كلها
|
|
أين تيم وعدي
والفخار
|
لهم أيد طوال في
العلى
|
|
ولمن ساماهم أيد
قصار
|
لهم الوحي وفيهم
بعده
|
|
آمر الحق وفي
الحق منار
|
وهم أولى
بأرحامهم
|
|
في كتاب الله إن
كان اعتبار
|
ما بعيد كقريب
سببا
|
|
لا ولا يعدل
بالطرف الحمار
|
إلى أن قال :
خسر الآخذ ما
ليس له
|
|
عمد عين والشريك
المستشار
|
ولفيف ألفوا
بينهم
|
|
بيعة فيها
اختلاط وانتشار
|
ورسول الله لم
يدفن فما
|
|
شغل القوم
اغتمام وانتظار
|
كان منهم قبل آل
المصطفى
|
|
أن يلوا الأمر
حذار ونفار
|
إلى آخر الابيات
..
والقاسم بن يوسف
معاصر لكل من الرشيد والمأمون ، وتوفي سنة ٢١٣ ه.
وكل ما ذكرناه يدل
على انكار العباسيين لشرعية خلافة أبي بكر وعمر .. ومثل ذلك كثير لا مجال لنا هنا
لاستقصائه ، وحسبنا هنا أقوال المؤرخين ، فانها القول الفصل ، والحكم العدل ..
هذا ما كان في
بداية الأمر .. أي أنهم كانوا يصلون حبل وصايتهم بعليّ 7 ، وينكرون شرعية
خلافة الثلاثة ، ثم عدلوا عن ذلك بعد فترة .. وذلك لما يتضمنه من الاعتراف بأن
الوصاية كانت في ولد عليّ 7.
__________________
فأسس المهدي فرقة تدعي : أن الامام
بعد رسول الله (ص) هو العباس بن عبد المطلب ، ثم ابنه عبد الله ، ثم ابنه علي ، ثم
ابنه محمد .. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إليهم .. هذا .. مع الاستمرار على البراءة
من أبي بكر ، وعمر ، وعثمان. ولكنهم أجازوا بيعة علي ابن أبي طالب ؛ لأن العباس
نفسه كان قد أجازها . وتسمى هذه الفرقة ب : « الراوندية والشيعة العباسية ».
ولكننا لا نجد
لهذه الفرقة أثرا في عصر المأمون ، لأن سياسة الخليفة قد اقتضت تجميد هذه المقالة
، ولو لفترة من الزمان كما سنوضحه وعلى كل حال فيقول منصور النمري يمدح الرشيد
ويشير الى ذلك :
لو لا عدي وتيم
لم تكن وصلت
|
|
إلى أمية تمريها
وترتضع
|
إن الخلافة كانت
إرث والدكم
|
|
من دون تيم ،
وعفو الله متسع
|
__________________
تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه :
وقد شجع الخلفاء
هذه النحلة ، أو فقل هذا الاتجاه. واستمروا يناصرونه إلى زمن هارون ..
وقد حصل مروان ابن
أبي حفصة من الخليفة العباسي « المهدي » على أعظم جائزة تعطى لشاعر في تلك الفترة
، على قوله مخاطبا آل علي :
هل تطمسون من
السماء نجومها
|
|
بأكفكم أو
تسترون هلالها
|
أو تدفعون مقالة
عن ربكم
|
|
جبريل بلغها
النبي فقالها
|
نزلت من الأنفال
آخر آية
|
|
بتراثهم ،
فأردتم ابطالها
|
يشير إلى آية : «
أولو الأرحام .. ».
فزحف المهدي من
صدر مصلاه إعجابا ، وأعطاه مائة ألف درهم ، لكل بيت ألف درهم. وكانت هذه أول مائة
ألف تعطى لشاعر في دولة بني العباس .
وأعطاه هارون
بدوره على هذه الأبيات ، بعد أن أصبح خليفة مائة ألف أيضا.
كما أن المهدي قد
أعطى مروان هذا على قوله :
أنى يكون وليس
ذاك بكائن
|
|
لبني البنات
وراثة الأعمام
|
أعطاه ثلاثين ألفا
من صلب ماله ، وكساه جبة ، ومطرفا ، وفرض على أهله ومواليه ثلاثين ألفا أيضا .
__________________
وينسب هذا الشعر
لبشار بن برد كذلك ..
وبعد ذلك يقف
مروان بن أبي الجنوب ( ويقال : بل مروان بن أبي حفصة ، وقد أنشدها المتوكل ، على
ما في الغدير ج ٤ ص ١٧٥ ) ، وينشد الخليفة قصيدته التي مطلعها :
لكم تراث محمد
|
|
وبعدلكم تشفى
الظلامة
|
إلى أن يقول :
ما للذين تنحلوا
|
|
ميراثكم إلا
الندامة
|
فيخلع عليه أربع
خلع ، وينثر ثلاثة آلاف دينار ، يأمره بالتقاطها ، ويعطيه عشرة آلاف درهم ، .. ثم
يعقد له ـ مع ذلك كله ـ ولاية على البحرين واليمامة
بل لقد تمادى
هارون ، وأراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك ، حيث أراد أن ينكر حتى شرعية خلافة الامام
علي 7 ، فأحضر « أبا معاوية الضرير » وهو أحد محدثي المرجئة ، وقال له : «
هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت .. ». فنهاه أبو معاوية عن ذلك ، واستدل
له بما أعجبه ، فارتدع ، وانصرف عما كان عزم عليه ..
__________________
بل إن بعض النصوص
التاريخية تفيد أن المهدي أيضا كان لا يريد أن يجيز بيعة علي 7 .
الامام علي في ميزان الاعتبار :
وإذا ما عرفنا أن
اظهار المأمون حبه لعلي بن أبي طالب ، وولده ، ليس إلا لظروف سياسية معينة كما
سيأتي توضيحه .. فاننا سوف نرى أنفسنا مقتنعين بأن تأرجح الامام علي 7 في ميزان
الاعتبار في تلك الفترة والتي بعدها عند العباسيين ، لم يكن إلا أمرا ظاهريا أملته
الظروف السياسية ، والاجتهادات المختلفة في أساليب مواجهة العلويين .. ولهذا نرى
ارتباكهم في ذلك ظاهرا للعيان من وقت لآخر ، ومن فترة لأخرى .. وهكذا .. نجد أن
الإمام عليا لم يكن معتبرا عند المأمون ،
__________________
غير معتبر عند
المنصور والرشيد ، بل هو غير معتبر عندهم جميعا. ولسنا هنا في صدد تحقيق هذا الأمر
، ولكن قد تكفي الاشارة في كثير من الأحيان.
استغلال لقب المهدي :
هذا .. ونلاحظ :
أن المنصور أيضا قد حاول أن يقارع العلويين بالحجة ، ولكن بنحو آخر ، وأسلوب آخر
..
فانه عند ما رأى
أن الناس قد قبلوا على نطاق واسع ( ما عدا الإمام الصادق 7 ) بأن محمد بن
عبد الله العلوي هو المهدي .. حاول أن يموه هو بدوره على النّاس ، فلقب ولده ،
والخليفة بعده بـ « المهدي » ، من أجل أن يصرف الناس عن محمد بن عبد الله هذا ..
فقد أرسل مولى له
إلى مجلس محمد بن عبد الله ، وقال له : « اجلس عند المنبر ، فاسمع ما يقول محمد »
، قال : فسمعته يقول : « إنكم لا تشكون أني أنا المهدي ، وأنا هو » فأخبرت بذلك
أبا جعفر ، فقال : « كذب عدو الله ، بل هو ابني » ..
ثم .. ومن أجل
اقناع الناس بهذا الأمر ، وجد المنصور من يضع له الاحاديث ، ويكذب على النبي 6 ، وطبق واضعوها «
مهدي الامة » على ولده الخليفة « المهدي » . ويقول القاضي النعمان الاسماعيلي في أرجوزته :
__________________
من انتظاره وقد
تسمى
|
|
بهذه الاسماء
ناس لما
|
تغلبوا ليجعلوها
حجة
|
|
فعدلوا عن واضح
المحجة
|
إذ مثلوا الجوهر
بالاشباه
|
|
منهم محمد بن
عبد الله
|
ابن علي من بني
العباس
|
|
ذوي التعدي
الزمرة الارجاس
|
إذ وافق الاسم
تسمّى مهدي
|
|
وهذه من الدواهي
عندي
|
وقد أقر أحمد أمين
المصري بكذب هذه الاحاديث ، ووضعها ، كما أقر غيره بذلك ..
بل إن المنصور
نفسه ـ الذي كان قد اعترف بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي ، وتبجح ، وافتخر بها ـ قد كذب نفسه في
ذلك ، وكذبها في مهدوية ولده أيضا ..
يقول مسلم بن
قتيبة : « أرسل إلى أبو جعفر ، فدخلت عليه ، فقال : قد خرج محمد بن عبد الله ،
وتسمى بالمهدي ، وو الله ، ما هو به ، وأخرى أقولها لك ، لم أقلها لأحد قبلك ، ولا
أقولها لأحد بعدك .. وابني والله ، ما هو بالمهدي ، الذي جاءت به الرواية. ولكني
تيمنت به ، وتفاءلت به .. ». والخليفة المهدي نفسه يقر بأن أباه فقط يروي أنه
المهدي الذي بعده في الناس .
وأما اتخاذهم
الزندقة ذريعة للقضاء على خصومهم ، سواء من العلويين ، أو من غيرهم .. فسيأتي
توضيحه إن شاء الله تعالى ..
__________________
وكل ذلك لم يكفهم :
ولكن العباسيين قد
وجدوا أن ذلك كله لم يكن ينطلي على أحد. وأن الامور ـ مع ذلك ـ تسير في غير صالحهم
؛ ولهذا فان من الافضل والأجدى لهم أن لا يفسحوا المجال للعلويين للمنطق والحجاج ؛
فان ذلك من شأنه أن يظهر كل ما كان يتمتع به العلويون من خصائص ومميزات عليهم. هذا
إن لم ينته الأمر بفضيحة ساحقة للعباسيين ، وكشف حقيقتهم وواقعهم أمام الملأ ،
الأمر الذي كان يزعجهم ، ويقض مضاجعهم إلى حد كبير ..
وإذن .. فإن من
الحكمة أن يتبعوا أساليب أخرى من أجل القضاء على العلويين ..
ولم تكفهم
مراقبتهم لهم ، حتى لم يكونوا يغفلون عنهم طرفة عين أبدا ، من أجل التعرف على
أحوالهم ، وإحصاء كل حركاتهم ، ابتداء من السفاح ، ثم اتبعه الخلفاء على ذلك من
بعده ..
كما لم يكفهم ..
التهديد والوعيد الذي كانوا يواجهونهم به ؛ بهدف إضعاف شخصياتهم ، وتحطيم
معنوياتهم ..
كما لم يكفهم
مصادرة أموالهم ، وهدم بيوتهم ، ومنعهم من السعي من أجل الحصول على لقمة العيش ،
حتى لقد بلغ البؤس بهم أن : العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة .
وكذلك لم يكفهم ..
عزلهم عن الناس ، ومنع كل أحد من الوصول إليهم ، تمهيدا لتشويه سمعتهم بما أمكنهم
من أساليب الكذب والافتراء ،
__________________
وإن كانت سيرتهم
الحميدة ، وخصوصا أهل البيت منهم ، كانت تدفع كل شائعة ، وسلوكهم المثالي يدحض كل
افتراء ..
وأما الاضطهاد
والتشريد ، وزج العشرات والمئات منهم في السجون الرهيبة ، التي كان من يدخل إليها
لا يأمل بالخروج منها ؛ حيث إن دخول السجن إنما كان يعني في الحقيقة دخول القبر ..
وأما دسهم السم لكل شخصية لا يستطيعون الاعتداء عليها جهارا ـ أما ذلك ـ فلم يكن
ليكفيهم أيضا ، ولا ليقنعهم قطعا .. حيث انهم إنما كانوا متعطشين إلى الولوغ في
دمائهم ، ومشتاقين إلى التفنن في تعذيبهم ، واختراع أساليب جديدة في ذلك ؛ فسمروا
بالحيطان من سمروا ، وأماتوا جوعا من أماتوا ، ووضعوا في الاسطوانات منهم من وضعوا
.. إلى غير ذلك مما يظهر لكل من له أدنى اطلاع على تاريخهم ، وتاريخ سلوكهم مع
أبناء عمهم العلويين ..
وأما قتلهم لهم
جماعات ، فأشهر من أن يحتاج إلى بيان .. وقضية المنصور مع بني حسن لا يكاد يخلو
منها كتاب تاريخي .. وكذلك قضية الستين علويا ، الذين قتلوا بأمر من الخليفة «
المنصور » باستثناء غلام منهم ، لا نبات بعارضيه .
__________________
موقف كل خليفة منهم على حدة :
وإننا من أجل أن
نلم بموقف كل خليفة منهم على حدة من أبناء عمهم العلويين ، نقول :
أما السفاح :
فقد قال عنه أحمد
أمين : « .. وكانت حياته حياة سفك للدماء ، وقضاء على المعارضين .. ».
وقال عنه الجنرال
جلوب : « .. وكان السفاح والمنصور قد نشئا نشأة المتآمرين ، ولذا وطدا ملكهما ـ بعد
نجاح الثورة ـ بكثير من سفك الدماء ، ولا سيما من دماء أولاد أعمامهم ، من بني
أمية ، وبني علي بن أبي طالب .. ».
ويقول الخوارزمي
عن السفاح : « .. وسلط عليهم ( يعني على العلويين ) أبا مجرم ، لا أبا مسلم ،
يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، ويطلبهم في كل سهل ، وجبل .. ».
ومن ذلك يعلم أن
اظهاره اللين تجاههم أمام الناس ما كان إلا من أجل تثبيت دعائم حكمه ، وتحكيم
قواعد سلطانه ، لكنه لم يغفل لحظة واحدة عن مراقبتهم ، والتجسس على أحوالهم ، بل
وقتلهم ، إذا ما سنحت الفرصة له لذلك ، كما قدمنا ..
__________________
وأما المنصور :
الذي لم يتورع عن
قتل ابن أخيه السفاح ، وعمه عبد الله بن علي .. وأبي مسلم ، مؤسس دولته ..
والذي سافر سنة ١٤٨ ه. إلى الحج ، وعزم على القبض على الامام الصادق (ع) ، وإن
كان لم يتم له ذلك .. والذي سمى نفسه المنصور بعد انتصاره على العلويين .
أما المنصور هذا
.. فهو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين .
وقد اعترف عند ما
عزم على قتل الإمام الصادق 7 ، بعدد ضخم من ضحاياه من العلويين ، حيث قال :
« .. قتلت من ذرية
فاطمة ألفا ، أو يزيدون ، وتركت سيدهم ، ومولاهم ، وإمامهم ، جعفر بن محمد .. » .
ولقد كان هذا
القول منه في حياة الإمام الصادق 7 ، أي في صدر خلافة المنصور .. فكيف بمن قتلهم بعد ذلك!!
وقد ترك خزانة
رءوس ميراثا لولده المهدي ، كلها من العلويين ، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما
يستدل به على صاحبه ، ومن بينها رءوس شيوخ ، وشبان ، وأطفال .
__________________
وهو الذي يقول
لعمه عبد الصمد بن علي ، عند ما لامه على أنه يعاجل بالعقوبة ، حتى كأنه لم يسمع
بالعفو ـ يقول له ـ : « إن بني مروان لم تبل رممهم ، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم
ـ ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة ، واليوم خلفاء ، فليس تتمهد هيبتنا الا بنسيان
العفو ، واستعمال العقوبة .. ».
وهو الذي يقول
للامام الصادق 7 : « لأقتلنك ، ولا قتلن أهلك ، حتى لا أبقي على الأرض منكم
قامة سوط .. ».
وعند ما قال
المنصور للمسيب بن زهرة : إنه رأى أن الحجاج أنصح لبني مروان .. أجابه المسيب : «
يا أمير المؤمنين ، ما سبقنا الحجاج إلى أمر ، فتخلفنا عنه ، والله ، ما خلق الله
على جديد الأرض خلقا أعز علينا من نبينا (ص) ، وقد أمرتنا بقتل أولاده ، فأطعناك ،
وفعلنا ، فهل نصحناك؟! » .
وهو أول من سن هدم
قبر الحسين 7 في كربلاء ..
وهو الذي كان يضع
العلويين في الاسطوانات ، ويسمرهم في الحيطان ـ كما نص عليه اليعقوبي ، وغيره ـ ويتركهم
يموتون في المطبق جوعا ، وتقتلهم الروائح الكريهة ، حيث لم يكن لهم مكان يخرجون
إليه لازالة الضرورة. وكان يموت أحدهم ، فيترك معهم ، حتى يبلى من غير دفن ، ثم
يهدم المطبق على من تبقى منهم حيا ، وهم في أغلالهم ـ كما فعل ببني حسن ، كما هو
معروف ومشهور.
__________________
ولقد قال أحد
العلويين ، وهو أبو القاسم الرسي بن ابراهيم بن طباطبا ، اسماعيل الديباج ، عند ما
هرب من المنصور إلى السند :
لم يروه ما أراق
البغي من دمنا
|
|
في كل أرض فلم
يقصر من الطلب
|
وليس يشفي غليلا
في حشاه سوى
|
|
أن لا يرى فوقها
ابن لبنت نبي
|
وعلى كل : فإن
معاملة المنصور لأولاد علي ، تعتبر من أسوأ صفحات التاريخ العباسي ..
وستأتي عبارة
الخضري عنه عن قريب ..
وأما المهدي :
الذي حبس وزيره
يعقوب بن داود ، وبنى على المطبق الذي هو فيه قبة ، وبقي فيه حتى عمي ، وطال شعر
بدنه ، حتى صار كالأنعام ـ حبسه ـ لاتهامه إياه بأنه يمالىء الطالبيين ، كما قدمنا
..
المهدي الذي عرفنا
فيما تقدم موقفه من أبي عون ، وولده ، الذي كان يذهب مذهب الشيعة في الخلافة ..
وكذلك موقفه من وصية القاسم ابن مجاشع ..
أما المهدي هذا
فقد اتخذ الزندقة ذريعة للقضاء على كل مناوئيه ، وخصوصا العلويين ، والمتشيعين لهم
:
قال الدكتور أحمد
شلبي : « إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للإيقاع بالأبرياء في كثير من الأحايين ..
» .
__________________
وقال الدكتور أحمد
أمين المصري : « الحق أن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم. سواء
في ذلك : الشعراء ، والعلماء ، والأمراء ، والخلفاء » .
وقد ألف له ـ أي
للمهدي ـ ابن المفضل كتابا في الفرق ، اخترع فيه فرقا من عند نفسه ، ونسبها لأولئك
الذين يريد المهدي أن يتتبعهم ، ويقضي عليهم. مع أنهم لم يكونوا أصحاب فرق أصلا ..
كزرارة ، وعمار الساباطي ، وابن أبي يعفور ، وأمثالهم ؛ فاخترع فرقة سماها «
الزرارية » ، نسبة لزرارة. وفرقة سماها « العمارية » نسبة لعمار ، وفرقة سماها «
اليعفورية » ، وأخرى سماها « الجواليقية » ، وأصحاب سليمان الأقطع .. وهكذا .. إلا
أنه لم يذكر « الهشامية » نسبة لهشام بن الحكم ..
__________________
وقال عبد الرحمن
بدوي : « إن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر ، كان يسير جنبا إلى جنب مع الانتساب
إلى مذهب الرافضة ، كما لاحظ ذلك الاستاذ ( فيدا ) .. » .
يقول أبو حنيفة أو
الطغرائي في جملة أبيات له :
ومتى تولى آل
أحمد مسلم
|
|
قتلوه أو وصموه
بالإلحاد
|
إلى غير ذلك مما
لا يمكننا تتبعه واستقصاؤه في مثل هذه العجالة ..
وأما الهادي :
« فقد أخاف
الطالبيين خوفا شديدا ، وألح في طلبهم ، وقطع أرزاقهم واعطياتهم. وكتب إلى الآفاق
بطلبهم .. ».
ولم تكن واقعة فخ
المشهورة إلا بسبب الاضطهاد الذي لحق العلويين ، والمعاملة القاسية لهم ، حسبما نص
عليه المؤرخون .. والتي بلغ عدد الرءوس فيها مائة ونيفا ، وسبيت فيها النساء
والأطفال ، وقتل السبي حتى الاطفال منهم على ما قيل ..
وأما الرشيد :
« الذي حصد شجرة
النبوة ، واقتلع غرس الامامة » ، على حد تعبير الخوارزمي ..
__________________
والذي « لم يكن
يخاف الله ، وأفعاله بأعيان آل علي (ع) ، وهم أولاد بنت نبيه ، لغير جرم ، تدل على
عدم خوفه من الله تعالى .. ».
والذي كان على حد
تعبير أحمد شلي : « يكره الشيعة ويقتلهم .. »
والذي بلغ من كرهه
لهم : أن الشعراء كانوا يتقربون إليه بهجاء آل علي 7 ، كما يظهر بأدنى مراجعة للتاريخ ..
أما الرشيد هذا ..
فقد أقسم على
استئصالهم ، وكل من يتشيع لهم ، فقال : « .. حتام أصبر على آل بني أبي طالب ،
والله لأقتلنهم ، ولأقتلن شيعتهم ، ولأفعلن وأفعلن .. ».
وعند ما تولى
الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعا من بغداد ، إلى المدينة ، كرها لهم ومقتا
..
« وكان شديد
الوطأة على العلويين يتتبع خطواتهم ، ويقتلهم .. ».
« .. وأمر عامله
على المدينة بأن يضمن العلويون بعضهم بعضا ».
وكان : « يقتل
أولاد فاطمة وشيعتهم » ..
__________________
وكان « مغرى
بالمسألة عن آل أبي طالب ، وعمن له ذكر ونباهة منهم ».
وعند ما أرسل
الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد ، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة
، ويسلب ما على نسائهم من ثياب ، وحلي ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا ..
وعند ما حضرته
الوفاة كان يقول : « .. وا سوأتاه من رسول الله ».
وهدم قبر الحسين ،
وحرث أرض كربلاء ، وقطع السدرة التي كان يستظل بها الزائرون لتلك البقعة المباركة
، وذلك على يد عامله على الكوفة ، موسى بن عيسى بن موسى العباسي .
ثم توج موبقاته
كلها ، وفظائعه تلك ، بقتل سيد العلويين ، وقائدهم ، الامام موسى بن جعفر ، صلوات
الله وسلامه عليه ..
__________________
ولقد خاطبه العقاد
مشيرا إلى نبشه لقبر الحسين 7 ، فقال :
« .. وكأنهم خافوا
على قبرك أن ينبشه أشياع علي ، 2 ، فدفنوك في قبر الامام العلوي ، لتأمن فيه النبش والمهانة
بعد الممات ..
فمن عجب أن يلوذ
أبناء علي بملكك الطويل العريض ، فيضيق بهم ، وأن يبحث أتباعك عن ملاذ يحتمي به
جثمان صاحب الملك الطويل العريض بعد مماته ، فيجدوه في قبر واحد من أولئك الحائرين
اللائذين بأكناف البلدان ، من غير قرار ، ولا اطمينان .. ».
يشير بذلك إلى قبر
علي بن موسى الرضا 8 ؛ حيث إن الرشيد مدفون إلى جانبه كأنه يريد أن يقول : إن
دفن المأمون للرضا 7 إلى جانب أبيه الرشيد كان لأجل الحفاظ على قبر أبيه من
النبش.
ولكن من المعلوم :
ان العلويين وشيعتهم ما كانوا ليقدموا على امر كهذا ، مهما بلغ بهم الحقد والغضب
بسبب اضطهاد الحكام لهم .. ؛ يقول محمد بن حبيب الضبي ، ; مشيرا إلى ذلك :
قبران في طوس
الهدى في واحد
|
|
والغي في لحد
ثراه ضرام
|
قرب الغوي من
الزكي مضاعف
|
|
لعذابه ، ولأنفه
الارغام
|
ويقول دعبل ; :
قبران في طوس
خير الناس كلهم
|
|
وقبر شرهم هذا
من العبر
|
ما ينفع الرجس
من قرب الزكي وما
|
|
على الزكي بقرب
الرجس من ضرر
|
ولقد بلغ من ظلم
الرشيد للعلويين أن جعل الناس يعتقدون فيه بغض علي 7 ، حتى اضطر إلى أن يقف موقف الدفاع عن نفسه ،
__________________
ويقسم على أنه
يحبه ، قال اسحاق الهاشمي : « كنا عند الرشيد ، فقال : بلغني أن العامة يظنون فيّ
بغض علي بن أبي طالب. وو الله ، ما أحب أحدا حبي له ، ولكن هؤلاء ( يعني العلويين
) أشد الناس إلخ .. » . ثم يلقي التبعة في ذلك عليهم ، ويقول : إنهم إلى بني أمية
أميل منهم إلى بني العباس الخ كلامه ..
بل لقد رأيناه
يعلن أمام أعاظم العلماء عن توبته مما كان منه من أمر الطالبيين ونسلهم ..
وذلك أمر طبيعي
بعد أن كان يتتبع خطواتهم ويقتلهم « وبعد أن كانت سجون العباسيين ، وخصوصا المنصور
والرشيد ، قد امتلأت من العلويين ، وكل من يتشيع لهم » على حد تعبير أحمد أمين ..
وأخيرا .. فقد بلغ
من ظلم الرشيد للعلويين أن توهم البعض أن المأمون إنما بايع للرضا بولاية العهد ؛
من أجل أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في آل علي 7 ، كما عن البيهقي ، عن الصولي
وأما المأمون :
فستأتي الاشارة
إلى بعض ما فعله في آل علي في تضاعيف الفصول الآتية إن شاء الله تعالى ..
والشعراء أيضا قد قالوا الحقيقة
:
وهكذا .. يتضح لنا
كيف أن العباسيين قد انقلبوا ـ بدافع من
__________________
خوفهم ـ على
العلويين يوسعونهم قتلا ، وعسفا وتشريدا ، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب ، التي لم
تكن لتخطر على قلب بشر ؛ بهدف استئصالهم من الوجود ، ومحو آثارهم ؛ ليصفو لهم الجو
، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم ، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم .. أو
بالأحرى حتى لا يبقى من من شأنه ذلك .. حتى لقد نسي الناس فعال بني أمية معهم ،
عند ما رأوا فعال بني العباس بهم .. وحتى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول :
تالله ما فعلت
أمية فيهم
|
|
معشار ما فعلت
بنو العباس
|
وقال آخر ـ وهو
أبو عطاء ، أفلح بن يسار السندي ، المتوفى سنة ١٨٠ ه. وهو من مخضرمي الدولتين :
الاموية والعباسية : قال في زمن السفاح.
يا ليت جور بني
مروان دام لنا
|
|
وليت عدل بني
العباس في النار
|
وقال منصور بن
الزبرقان النمري ، المتوفى في خلافة الرشيد :
آل النبي ومن
يحبهم
|
|
يتطامنون مخافة
القتل
|
أمن النصارى
واليهود وهم
|
|
من أمة التوحيد
في أزل
|
وقد أنشد الرشيد
هذين البيتين بعد موت منصور هذا ، فقال الرشيد ، بعد أن أرسل إليه من يقتله ،
فوجده قد مات : « لقد هممت أن انبش
__________________
عظامه فأحرقها » .. بل في رسالة
الخوارزمي ، الآتي شطر منها : أن قبره قد نبش بالفعل.
ويقول ابو حنيفة
أو الطغرائي على اختلاف النسبة في جملة أبيات له :
ومتى تولى آل
أحمد مسلم
|
|
قتلوه أو وصموه
بالإلحاد
|
ويقول إبراهيم بن
عبد الله بن الحسن ، يذكر العلويين ، الذين قتلهم المنصور ، ويقال : إن القائل هو
غالب الهمداني.
أصبح آل الرسول
أحمد في النا
|
|
س كذي عرة به
جرب
|
ويقول دعبل بن علي
الخزاعي في رثاء الرضا ، وهو شعر معروف ، ومشهور ، وقد أنشده للمأمون نفسه :
وليس حي من
الأحياء نعلمه
|
|
من ذي يمان ،
ولا بكر ، ولا مضر
|
إلا وهم شركاء
في دمائهم
|
|
كما تشارك أيسار
على جزر
|
قتلا ، وأسرا ،
وتحريقا ، ومنهبة
|
|
فعل الغزاة بأهل
الروم والخزر
|
أرى أمية
معذورين إن فعلوا
|
|
ولا أرى لبني
العباس من عذر
|
أما أبو فراس
الحمداني فيقول :
__________________
ما نال منهم بنو
حرب وإن عظمت
|
|
تلك الجرائر إلا
دون نيلكم
|
ويقول علي بن
العباس ، الشاعر المعروف بابن الرومي ، مولى المعتصم من قصيدة له :
بني المصطفى كم
يأكل الناس شلوكم
|
|
لبلواكم عما
قليل مفرج
|
أكلّ أوان للنبي
محمد
|
|
قتيل زكي
بالدماء مضرج
|
إلى أن قال مخاطبا
لنبي العباس :
أفي الحق أن
يمسوا خماصا وأنتم
|
|
يكاد أخوكم بطنة
يتبعج
|
وتمشون مختالين
في حجراتكم
|
|
ثقال الخطى
اكفالكم تترجرج
|
وليدهم بادي
الطوى ووليدكم
|
|
من الريف ريان
العظام خدلج
|
ولم تقنعوا حتى
استثارت قبورهم
|
|
كلابكم فيها
بهيم وديزج
|
والقصيدة طويلة
جدا ، من أرادها فليراجعها ..
نصوص اخرى :
يقول فان فلوتن :
« .. ولا غرو ، فإن العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الأولين من
خلفاء بني العباس .. » .
ويقول الخضري : «
.. فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم ، أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من
بني أمية ، فقتلوا ، وشردوا كل مشرد ، وخصوصا في زمن المنصور ، والرشيد ، والمتوكل
من بني العباس. وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من
__________________
بني علي كافيا
لاتلاف نفسه ، ومصادرة ماله. وقد حصل فعلا لبعض الوزراء ، وغيرهم الخ .. » .
ولما دخل ابراهيم
بن هرمة ، المعاصر للمنصور المدينة ، أتاه رجل من العلويين ؛ فسلم عليه ؛ فقال له
إبراهيم : « تنح عني ، لا تشط بدمي .. » .
بل يظهر من قضية
أخرى لابن هرمة أن العباسيين كانوا يعاقبون حتى على حب أهل البيت : في زمن الامويين
؛ فإنه ـ أعني ابن هرمة ـ عند ما سئل في عهد المنصور عن قوله في عهد الامويين :
ومهما ألام على
حبهم
|
|
فإني أحب بني
فاطمة
|
أجاب : « من عض
ببظر أمه ».
فقال له ابنه : ألست
قائلها؟!! قال : بلى ..
قال : فلم تشتم
نفسك؟! قال : « أليس يعض الرجل ببظر أمه خير له من أن يأخذه ابن قحطبة؟ .. » .
بل إن الجلودي
الذي أمره الرشيد بالاغارة على دور آل أبي طالب ـ كما قدمنا ـ قد قال للمأمون ،
عند ما جعل ولاية العهد للرضا :
__________________
« اعيذك بالله يا
أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم ، وخصكم به ، وتجعله في أيدي
أعدائكم ، ومن كان آباؤك يقتلونهم ، ويشردونهم في البلاد .. » .
وأمر الرشيد عامله
على المدينة : بأن يضمن العلويون بعضهم بعضا .. »
وكانوا يعرضون على
السلطات ؛ فمن غاب منهم عوقب!!.
والمأمون أيضا يعترف :
وجاء في كتاب
المأمون ، الذي أرسله إلى العباسيين ، بعد ما ذكر حسن سياسة الإمام علي 7 مع ولد العباس ما
يلي :
« .. حتى قضى الله
بالأمر إلينا ؛ فأخفناهم ، وضيقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أميه إياهم.
ويحكم ، إن بني أمية قتلوا من سل سيفا ، وانا معشر بني العباس قتلناهم جملا ..
فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ، ولتسألن نفوس القيت في دجلة والفرات ، ونفوس
دفنت ببغداد ، والكوفة أحياء الخ .. ». وسنورد الرواية ، ونذكر مصادرها في أواخر
هذا الكتاب إن شاء الله ..
جانب من رسالة الخوارزمي لأهل
نيشابور :
وحسب القارىء أن يرجع إلى مقاتل الطالبيين لابي الفرج الأصفهاني ،
__________________
مع أنه لم يستوف
كل شيء ، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم .. وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر
أخبار الخلفاء ص ٢٦ ، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية ، ليعلم مقدار
الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي ، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن ..
وحسبنا هنا بعد كل
الذي قدمناه ، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي ، التي أرسلها إلى أهل
نيشابور ، يقول أبو بكر ، بعد أن ذكر كثيرا من الطالبيين ، الذين قتلهم الامويون ،
والعباسيون ـ ومنهم الرضا الذي سم بيد المأمون ـ :
« فلما انتهكوا
ذلك الحريم ، واقترفوا ذلك الاثم العظيم ، غضب الله عليهم ، وانتزع الملك منهم ،
فبعث عليهم « أبا مجرم » ، لا أبا مسلم ، فنظر لانظر الله إليه إلى صلابة العلوية
، وإلى لين العباسية ، فترك تقاه ، واتبع هواه ، وباع آخرته بدنياه ، بقتله عبد
الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان ، واكراد
أصفهان ، وخوارج سجستان على آل أبي طالب ، يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، ويطلبهم في كل
سهل وجبل ، حتى سلط عليه أحب الناس إليه ، فقتله كما قتل الناس في طاعته ، وأخذه
بما أخذ الناس في بيعته ، ولم ينفعه : أن أسخط الله برضاه ، وأن ركب ما لا يهواه.
وخلت من الدوانيقي الدنيا ، فخبط فيها عسفا ، وتقضى فيها جورا وحيفا. وقد
امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة ، ومعدن الطيب والطهارة ، قد تتبع غائبهم ، وتلقط
حاضرهم ، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند ، على يد عمر بن
هشام الثعلبي ، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه ، ولان مسه على يديه.
__________________
وهذا قليل في جنب
ما قتله هارون منهم ، وفعله موسى قبله بهم ، فقد عرفتم ما توجه على الحسن بن علي بفخ من
موسى ، وما اتفق على علي بن الافطس الحسيني من هارون ، وما جرى على احمد بن علي
الزيدي ، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه ، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي ، حين
أخذ من قبله ، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة ، واقتلع غرس الإمامة.
وأنتم أصلحكم الله
، أعظم نصيبا في الدين من الأعمش ، فقد شتموه ، ومن شريك ، فقد عزلوه ، ومن هشام
بن الحكم ، فقد أخافوه ، ومن علي بن يقطين ، فقد اتهموه .. ».
إلى أن يقول ، بعد
كلام له عن بني أمية :
« .. وقل في بني
العباس ، فإنك ستجد بحمد الله مقالا ، وجل في عجائبهم ، فانك ترى ما شئت مجالا.
يجبى فيؤهم ،
فيفرق على الديلمي ، والتركي ، ويحمل إلى المغربي ، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة
الهدى ، وسيد من سادات بيت المصطفى ، فلا تتبع جنازته ، ولا تجصص مقبرته ، ويموت (
ضراط ) لهم ، أو لاعب أو مسخرة ، أو ضارب ، فتحضر جنازته العدول والقضاة ، ويعمر
مسجد التعزية عنه القواد والولاة ..
ويسلم فيهم من
يعرفونه دهريا ، أو سوفسطائيا ، ولا يتعرضون لمن يدرس كتابا فلسفيا ومانويا ،
ويقتلون من عرفوه شيعيا ، ويسفكون دم من سمى ابنه عليا ..
ولو لم يقتل من
شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس ، قتيل داود
__________________
ابن علي ، ولو لم
يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي ، لكان ذلك جرحا لا يبرأ ، وثائرة لا تطفأ ، وصدعا
لا يلتئم ، وجرحا لا يلتحم.
وكفاهم أن شعراء
قريش قالوا في الجاهلية أشعارا يهجون بها أمير المؤمنين 7 ، ويعارضون فيها
أشعار المسلمين ، فحملت أشعارهم ، ودونت أخبارهم ، ورواها الرواة ، مثل : الواقدي
، ووهب بن منبه التميمي ، ومثل الكلبي ، والشرقي ابن القطامي ، والهيثم بن عدي ،
ودأب بن الكناني. وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي ، بل ذكر معجزات
النبي 6 ؛ فيقطع لسانه ، ويمزق ديوانه ، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي ، وكما
أريد بالكميت بن زيد الأسدي ، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري ، وكما دمر
على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي ، ومن علي بن
الجهم الشامي ؛ ليس إلا لغلوهما في النصب ، واستيجابهما مقت الرب ؛ حتى إن هارون
بن الخيزران ، وجعفرا المتوكل على الشيطان ، لا على الرحمن ، كانا لا يعطيان مالا
، ولا يبذلان نوالا ، إلا لمن شتم آل أبي طالب ، ونصر مذهب النواصب ، مثل : عبد
الله ابن مصعب الزبيري ، ووهب بن وهب البختري ، ومن الشعراء مثل : مروان بن أبي حفصة
الاموي ، ومن الادباء مثل : عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل :
بكار بن عبد الله الزبيري ، وأبي السمط ابن أبي الجون الاموي ، وابن أبي الشوارب
العبشمي .. »
وبعد كلام له عن
بني أمية أيضا قال :
« وما هذا بأعجب
من صياح شعراء بني العباس على رءوسهم بالحق ، وإن كرهوه ، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه
، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون :
آل النبي ومن
يحبهم
|
|
يتطامنون مخافة
القتل
|
أمن النصارى
واليهود وهم
|
|
من أمة التوحيد
في أزل
|
وقال دعبل ، وهو
صنيعة بني العباس وشاعرهم :
ألم تر أني مذ
ثمانين حجة
|
|
أروح ، وأغدو
دائم الحسرات
|
أرى فيئهم في
غيرهم متقسما
|
|
وأيديهم من
فيئهم صفرات
|
وقال علي بن
العباس الرومي ، وهو مولى المعتصم :
تأليت أن لا
يبرح المرء منكم
|
|
يشل على حر
الجبين فيعفج
|
كذاك بني العباس
تصبر منكم
|
|
ويصبر للسيف
الكمي المدجج
|
لكل أوان للنبي
محمد
|
|
قتيل زكي
بالدماء مضرج
|
وقال ابراهيم بن
العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لما قربه المأمون :
يمن عليكم
بأموالكم
|
|
وتعطون من مائة
واحدا
|
وكيف لا يتنقصون
قوما يقتلون بني عمهم جوعا وسغبا ويملئون ديار الترك والديلم فضة وذهبا ، يستنصرون
المغربي والفرغاني ، ويجفون المهاجري والأنصاري ، ويولون أنباط السواد وزراتهم ،
وتلف العجم والطماطم قيادتهم ، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم ، وفيء جدهم. يشتهي
العلوي الاكلة ، فيحرمها ، ويقترح على الايام الشهوة فلا يطعمها ، وخراج مصر
والاهواز ، وصدقات الحرمين والحجاز ، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني ، وإلى
إبراهيم الموصلي ، وابن جامع السهمي ، وإلى زلزل الضارب ، وبرصوما الزامر ، وأقطاع
بختيشوع النصراني قوت أهل
__________________
بلد ، وجاري بغا
التركي ، والافشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد ..
والمتوكل زعموا
يتسرى باثني عشر الف سرية ، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية ، أو سندية.
وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة ، وعلى موائد المخاتنة ، وعلى طعمة
الكلابين ، ورسوم القرادين ، وعلى مخارق وعلوية المغني ، وزرزر ، وعمر بن بانة
المهلبي ، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة ، ويصارفونه على دانق وحبة ، ويشترون
العوادة بالبدر ، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس ،
وحرمت عليهم الصدقة ، وفرضت لهم الكرامة والمحبة ، يتكففون ضرا ، ويهلكون فقرا ،
ويرهن أحدهم سيفه ، ويبيع ثوبه ، وينظر إلى فيئه بعين مريضة ، ويتشدد على دهره
بنفس ضعيفة. ليس له ذنب إلا أن جده النبي ، وأبوه الوصي ، وأمه فاطمة ، وجدته
خديجة ، ومذهبه الايمان ، وإمامه القرآن .. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة
وإلى المغمزة ، إلى المزررة ، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية ، والقردة ،
وعلى رءوس اللعبة واللعبة ، وعلى مرية الرحلة ..
وما ذا أقول في
قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات ، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات ، وحرثوا
تربة الحسين 7 بالفدان ، ونفوا زواره إلى البلدان. وما أصف من قوم هم : نطف السكارى في
أرحام القيان؟ وما ذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا ، وفيهم راح التخنيث وغدا ،
وبهم عرف اللواط؟!. كان ابراهيم بن المهدي مغنيا ، وكان المتوكل مؤنثا موضعا ،
وكان المعتز مخنثا ، وكان ابن زبيدة معتوها مفركا ، وقتل المأمون أخاه ، وقتل
المنتصر أباه ، وسم موسى بن المهدي أمه ، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية
مخازي تذكر ، ومعايب تؤثر .. ».
وبعد أن عدد بعض
مخازي بني أمية ، ومعايبهم قال :
« .. وهذه المثالب
مع عظمها وكثرتها ، ومع قبحها وشنعتها ، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس ،
الذين بنوا مدينة الجبارين ، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين .. إلى
آخر ما قال .. » .
هذا جانب من رسالة
الخوارزمي ، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها ، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك
.. وعلى كل فإن :
ذلك كله غيض من
فيض .. ولعل فيما ذكرناه كفاية ..
__________________
سياسة العباسيين مع الرعية
نظرة عامة :
لا نريد في هذا
الفصل أن نعرض لأنواع القبائح ، التي كان العباسيون يمارسونها ؛ فإن ذلك مما لا
يمكن الالمام به واستقصاؤه في هذه العجالة.
وإنما نريد فقط أن
نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس ، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم ، وجورهم
عليهم ، الأمر الذي أسهم إسهاما كبيرا في كشف حقيقتهم ، وبيان واقعهم أمام الملأ
.. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشيء الكثير ؛ فمن
ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم :
حتى متى لا نرى
عدلا نسرّ به
|
|
ولا نرى لولاة
الحق أعوانا
|
مستمسكين بحق
قائمين به
|
|
إذا تلون أهل
الجور ألوانا
|
يا للرجال لداء
لا دواء له
|
|
وقائد ذي عمى
يقتاد عميانا
|
وقال سديف :
__________________
إنا. لنأمل أن
ترتد ألفتنا
|
|
بعد التباعد
والشحناء والإحن
|
وتنقضي دولة
أحكام قادتها
|
|
فينا كأحكام قوم
عابدي وثن
|
فكتب المنصور إلى
عبد الصمد بن علي بأن : يدفنه حيا ؛ ففعل .
وقد ذكر أبو الفرج
ابياتا كثيرة بالاضافة الى هذين البيتين ، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن ،
بحضرة الرشيد ، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري ، ومن جملتها قوله :
فطالما قد بروا
في الجور اعظمنا
|
|
بري الصناع قداح
النبع بالسفن
|
وقال آخر ، وهو
أحمد بن أبي نعيم ، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند :
ما أحسب الجور
ينقضي وعلى الن
|
|
اس أمير من آل
عباس
|
وقد تقدم قول أبي
عطاء السندي ، المتوفى سنة ١٨٠ ه :
يا ليت جور بني
مروان دام لنا
|
|
وليت عدل بني
العباس في النار
|
وقال الدكتور أحمد
محمود صبحي : « .. لكن ذلك المثل الاعلى للعدالة ، والمساواة الذي انتظره الناس من
العباسيين ، قد أصبح وهما من الاوهام ، فشراسة المنصور والرشيد ، وجشعهم ، وجور
أولاد علي بن
__________________
عيسى ، وعبثهم
بأموال المسلمين ، يذكرنا بالحجاج ، وهشام ، ويوسف ابن عمرو الثقفي ، وعم الاستياء
أفراد الشعب ، بعد أن استفتح أبو عبد الله ، المعروف بـ « السفاح » ، وكذلك
المنصور بالاسراف في سفك الدماء ، على نحو لم يعرف من قبل .. ».
ويقول صاحب
امبراطورية العرب : « .. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى
الملك ، فان الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين ، كما كانت في عهد
الامويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن : أنهم هم الذين أوصلوا « آل
البيت » إلى الحكم ، لإقامة عهد من الرحمة والعدل ، لا لإقامة عهد آخر من الطغيان
، المتعطش إلى سفك الدماء .. إلى أن يقول :
لكن الشيء الذي لا
ريب فيه : هو أن الاحلام باقامة عهد السلام والعدل ، التي كانت السبب في الثورة
العامة ضد الامويين قد تبخرت الآن ، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالا من الامويين ،
فانهم لم يكونوا ـ على أي حال ـ خيرا منهم .. ». وقريب منه كلام غيره
وستأتي في فصل :
آمال المأمون إلخ .. عبارة فان فلوتن الهامة ، والقيمة عن الحكم العباسي ،
وسياساته مع الرعية .. فانتظر ..
ولعل قصيدة أبي
العتاهية ، التي مطلعها :
من مبلغ عني
الاما
|
|
م نصائحا
متوالية
|
__________________
تعبر تعبيرا صادقا
عن الحالة العامة ، التي كانت سائدة آنذاك ، وهي معروفة ومشهورة ، ومذكورة في
ديوانه ص ٣٠٤. وهي بحق من الوثائق الهامة ، المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة
من الزمن ..
تفصيل مواقف الخلفاء مع الرعية
:
وبعد هذا .. وإذا
ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول :
أما السفاح :
الذي أظهر نفسه في
صورة مهدي ..
فهو الذي يقول عنه
المؤرخون : إنه : « كان سريعا إلى سفك الدماء ؛ فاتبعه عماله في ذلك ، في المشرق والمغرب
، واستنوا بسيرته ، مثل : محمد بن الأشعث بالمغرب ، وصالح بن علي بمصر ، وخازم بن
خزيمة ، وحميد بن قحطبة ، وغيرهم .. » .
حتى لقد خرج عليه
شريك بن شيخ المهري ، الذي كان ـ على ما يظهر ـ من دعاة العباسيين ـ خرج عليه ـ ببخارا
، في أكثر من ثلاثين ألفا ؛ فقال : « ما على هذا بايعنا آل محمد ، تسفك الدماء ،
__________________
ويعمل بغير الحق .. » ، فوجه إليه
السفاح أبا مسلم ، فقتله ، ومن معه ..
وقضية عامل السفاح
ـ وهو أخوه ، وقيل : ابن اخيه ، يحيى ـ مع أهل الموصل ، حيث ذبح الآلاف الكثيرة
منهم في المسجد .. هذه القضية معروفة ومشهورة.
وينص المؤرخون ،
على أنه : لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مائة إنسان ، صدموا الجند ،
فأفرجوا لهم .. كما أنه أمر جنده ، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء ، لأنه سمع
أنهن يبكين رجالهن .. وينص المؤرخون أيضا : على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك
المذبحة ، ولم يسمع لهم بعدها صوت ، ولا قامت لهم قائمة ..
وعند ما سألت
السفاح زوجته أم سلمة ، بنت يعقوب بن سلمة : « لأي شيء استعرض ابن أخيك أهل الموصل
بالسيف؟!. قال لها : وحياتك ما أدري ... »!!.
وقد تقدمت عبارة
الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معا عن قريب ..
__________________
وأما المنصور :
الذي أظهر نفسه في
صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطبا أبا مسلم الذي قتله المنصور :
أبا مجرم ما غير
الله نعمة
|
|
على عبده حتى
يغيرها العبد
|
أفي دولة المهدي
حاولت غدرة
|
|
ألا إن أهل
الغدر آباؤك الكرد
|
والذي قتل خلقا
كثيرا حتى استقام له الأمر ..
فأمره في الظلم
والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر ، حتى لقد أنكر عليه ذلك : « .. رجل من
أعظم الدعاة قدرا ، وأعظمهم غناء. وهو أبو الجهم بن عطية ، مولى باهلة. وهو الذي
أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة ، حفص بن سليمان الخلال
، وحرسه ، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة ؛ فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو
مسلم يثق به ، ويكاتبه ..
فلما استخلف أبو
جعفر المنصور ، وجار في أحكامه ؛ قال أبو الجهم : ما على هذا بايعناهم ، إنما
بايعناهم على العدل ؛ فأسرّها أبو جعفر في نفسه ، ودعاه ذات يوم ؛ فتغدى عنده ، ثم
سقاه شربة من سويق اللوز ؛ فلما وقعت في جوفه هاج به وجع ؛ فتوهم : أنه قد سم ؛
فوثب ، فقال له المنصور : إلى أين يا أبا الجهم؟! فقال : إلى حيث أرسلتني. ومات
بعد يوم أو يومين فقال :
__________________
احذر سويق اللوز
لا تشربنه
|
|
فان سويق اللوز
أردى أبا الجهم .
|
وأنكر عليه ذلك
أيضا ـ بالاضافة إلى عمه كما تقدم ـ جماعة من قواده ، فقاموا عليه ، ودعوا الناس
إلى موالاة أهل البيت ، فحاربهم عبد الرحمن الازدي سنة ١٤٠ ه. فقتل طائفة منهم ،
وحبس آخرين ..
وقال الطبري في
حوادث سنة ١٤٠ ه. أيضا : « .. وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن
خراسان ، فقدمها ، فأخذ بها ناسا من القواد ، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي
بن أبي طالب ، منهم : مجاشع بن حريث الانصاري ، وأبو المغيرة ، مولى لبني تميم ،
واسمه خالد ابن كثير ، وهو صاحب قوهستان ، والحريش بن محمد الذهلي ، ابن عم داود ،
فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلي ، ومعبد بن الخليل المزني ، بعد ما ضربهما
ضربا مبرحا ، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان .. ».
ولعل من الامور
الجديرة بالملاحظة هنا : أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بالوهيته ، ولا
ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك ، وعند ما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له ـ على
ما في تاريخ الطبري ـ : « لأن يكونوا في معصية الله وطاعتنا ، أحب إليّ من أن
يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا. ».
ولكنه عند ما
ثاروا عليه في الهاشمية ، وضع فيهم السيف وقتلهم ، ولكن لا لاجل مقالتهم الشنيعة
تلك ، وإنما لأجل عدم طاعتهم له!! ..
__________________
هذا .. وعند ما
قال لعبد الرحمن الافريقي ، رفيق صباه :
« كيف رأيت سلطاني
من سلطان بني أمية؟ ».
أجابه عبد الرحمن
: « ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور إلا رأيته في سلطانك .. » .
وعند ما قدم عليه
عبد الرحمن هذا من إفريقيا ، ودخل عليه ، بعد أن بقي ببابه شهرا ، لا يستطيع
الوصول إليه ، قال له عبد الرحمن :
« ظهر الجور
ببلادنا ، فجئت لا علمك ؛ فإذا الجور يخرج من دارك. ورأيت أعمالا سيئة ، وظلما
فاشيا ، ظننته لبعد البلاد منك ، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم ».
فغضب المنصور ،
وأمر باخراجه ..
وقال لابن أبي
ذؤيب : « أي الرجال أنا؟ ».
فأجابه : « أنت
والله عندي شر الرجال ، استأثرت بمال الله ، ورسوله ، وسهم ذوي القربى ، واليتامى.
والمساكين ، وأهلكت الضعيف ، وأتعبت القوي ، وأمسكت أموالهم .. » .. وحج أبو جعفر
فدعا ابن أبي ذئب ، فقال : نشدتك الله ، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال
ابن أبي ذئب : أما إذ نشدتني بالله فأقول : اللهم لا ، ما أراك تعدل ، وإنك لجائر
، وإنك لتستعمل الظلمة ، وتترك أهل الخير .
__________________
وعند ما كان يطوف
بالبيت سمع أعرابيا يقول : « اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد ، وما يحول بين الحق
وأهله ، من الطمع. » ؛ فطلبه المنصور ، فأتي به ، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف
عن الظلم ، والجور ، والفساد ، الذي كان فاشيا آنذاك ، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها
، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها .
ولا بأس بمراجعة
ما قاله له عمرو بن عبيد ، في موعظته الطويلة له ، ومن جملتها : « .. إن وراء بابك
نيرانا تتأجج من الجور ، والله ، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه
إلخ .. » .
وقد لقي أعرابيا
بالشام ؛ فقال له المنصور : « احمد الله يا أعرابي ، الذي رفع عنكم الطاعون
بولايتنا أهل البيت ».
فأجابه الاعرابي :
« إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون ».
فسكت ، ولم يزل
يطلب له العلل حتى قتله .
__________________
وقد كتب له سديف ،
الذي كان من المتحمسين للدولة العباسية :
أسرفت في قتل
الرعية ظالما
|
|
فاكفف يديك
اظلها « مهديها »
|
ويريد بـ « مهديها
» محمد بن عبد الله بن الحسن على ما يظهر ..
وقضية الرجل
الهمداني ، الذي أراد عامل المنصور أن يسلبه ضيعته ؛ فأبى عليه ذلك ؛ فكبله
بالحديد ، وسيره إلى المنصور ، فأودعه السجن أربعة أعوام ، لا يسأل عنه أحد ، هذه
القضية معروفة ، ومشهورة ..
وعند ما بنى مدينة
: « المصصية » قد أخذ أموال الناس ، حتى ما ترك عند أحد فضلا ، وعند ما أراد
أن يبني مدينة أخرى ثار الناس عليه ووقع القتال ؛ لأنهم علموا أنه سوف لا يبقي
عندهم فضلا أيضا.
وأما ما فعله عبد
الوهاب ابن أخي المنصور في أهل فلسطين ؛ فذلك يفوق كل وصف ويتجاوز كل بيان .
بعض ما يقال عن المنصور :
وأخيرا .. فقد قال
عنه البيهقي إنه : « كان يعلق الناس من أرجلهم ، حتى يؤدّوا ما عليهم .. » .
__________________
هذا .. وقد وصف
اليافعي والذهبي المنصور بأنه كان : « فيه جبروت وظلم » .
ووصفه السيد أمير
علي بأنه : « كان غادرا خداعا ، لا يتردد البتة في سفك الدماء .. إلى أن قال :
وعلى الجملة : كان أبو جعفر سادرا في بطشه ، مستهترا في فتكه ، وتعتبر معاملته
لأولاد علي من أسوأ صفحات التاريخ العباسي » .
ولا بأس بمراجعة
ما قاله الريان ، مولى المنصور لجعفر بن أبي جعفر ، حيث ينص على أنه قتل أهل
الدنيا ، ممن لا يعد ولا يحصى ، وان فرعون لا يقاس به .
وأما المهدي.
الذي اتخذ الزندقة
ذريعة للفتك بالأبرياء .. فقد كفانا الجهشياري مؤونة الحديث عنه ؛ حيث قال : إنه
في زمن المهدي هذا :
« كان أهل الخراج
يعذبون بصنوف من العذاب ، من السباع ، والزنابير والسنانير .. » .. وقد خرج عليه
يوسف البرم بخراسان ، منكرا عليه أحواله ، وسيرته ، وما يتعاطاه .
__________________
وأما الهادي :
فقد كان : «
يتناول المسكر ، ويجب اللهو والطرب ، وكان ذا ظلم وجبروت » .
وكان « سيّئ
الأخلاق ، قاسي القلب ، جبارا ، يتناول المسكر ، ويلعب. » .
وقد قال عنه
الجاحظ : « كان الهادي شكس الأخلاق ، صعب المرام ، سيئ الظن. قل من توقاه ، وعرف
أخلاقه إلا أغناه ، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني
بالمال الخطير الجزيل .. » .
وقال الجهشياري :
« كان فظا قاسيا ، غير مأمون على وفاء بوعد » .
نعم .. لقد كان
يأمر للمغني بالمال الجزيل الخطير ـ من بيت مال المسلمين ـ كما يقول الجاحظ .. وقد
بلغ من إسرافه في إجازة الخلعاء والمغنين ، أن دفع إسحاق الموصلي لأن يقول : « لو
عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة » .
وأخيرا .. فقد قال
عنه الذهبي : « قد كان جبارا ظالم النفس » . إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه ..
__________________
وأما الرشيد :
فسيرته تكفي عن كل
بيان .. ويكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلا في بذل المال
؛ حيث يقولون إن المنصور كان بخيلا ..
وقد تسلط ـ كالمنصور
ـ بعد مدة من خلافته على الامور ؛ فأفسد الصنائع ، وأحب جمع الأموال .
« وكان جبارا
سفاكا للدماء ، على نمط من ملوك الشرق المستبدين » .
وقد عسف عامله أهل
خراسان ، وقتل ملوكها ، ووجوه أهلها وأشرافها وصناديدها ، وأخذ أموالهم ، فأرسلها
إلى الرشيد ، الأمر الذي كان سببا في انتقاضها عليه .
وكان يعذب الناس
في الخراج ؛ حيث : « أخذ العمال ، والتنّاء ، والدهاقين ، وأصحاب الصنائع ،
والمبتاعين للغلات ، والمقبلين. وكان عليهم أموال مجتمعة ؛ فولى مطالبتهم عبد الله
بن الهيثم بن سام ، فطالبهم بصنوف من العذاب .. إلى أن دخل عليه ابن عياض ؛ فرأى
الناس يعذبون في الخراج ؛ فقال : ارفعوا عنهم ؛ إني سمعت عن رسول الله (ص) يقول :
من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة. ؛ فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس ؛
فرفع .. » .
__________________
وكان قد ولى رجلا
يضرب الناس ، ويحبسهم ، ليؤدوا ما عليهم من الخراج .
وقال أبو يوسف ،
في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج : « بلغني أنه : قد يكون في حاشية العامل ،
أو الوالي جماعة ، منهم من له حرمة ، ومنهم من له إليه وسيلة ، ليسوا بأبرار ولا
صالحين ، يستعين بهم ، ويوجههم في أعماله ، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما
يوكلون بحفظه ، ولا ينصفون من يعاملونه. إنما مذهبهم أخذ شيء ، من الخراج كان ، أو
من أموال الرعية. ثم انهم يأخذون ذلك كله ـ فيما بلغني ـ بالعسف ، والظلم ،
والتعدي ..
وقال : وبلغني
أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ، ويضربونهم الضرب الشديد ، ويعلقون عليهم الجرار
، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة ، وهذا عظيم عند الله ، شنيع في الاسلام .. » .
وبعد .. فقد كان
في قصره أربعة آلاف امرأة : من الجواري والحظايا
وكان على حد تعبير
بعضهم : « حريصا على اللذات المحرمة ، وسفك
__________________
الدماء ، وغصب
حقوق الناس ، وكان ظالما لأهل البيت (ع) ، وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو ، واللعب
، والمغنين ، والراقصات .. ».
وستأتي عبارة فان
فلوتن عنه في فصل : آمال المأمون الخ .. فانتظر ..
وحسب الرشيد ..
رسالة سفيان ، التي أرسلها إليه من غير طي ، ولا ختم. والتي تلقي لنا ضوءا على
جانب من سيرته وسلوكه .. ولسوف نثبتها ـ نظرا لا هميتها ـ مع الوثائق الهامة في
أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ..
وأما الأمين.
« .. الذي رفض
النساء ، واشتغل بالخصيان ، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين ، واستخف حتى بوزرائه
، وأهل بيته .. » .
فقد كان : « قبيح
السيرة ، ضعيف الرأي ، سفاكا للدماء ، يركب هواه ، ويهمل أمره ، ويتكل في جليلات
الامور على غيره الخ .. » .
ويضيف هنا
القلقشندي قوله : منهمكا في اللذات واللهو .. » .
ويكفيه أن كلا من
العبري ، وابن الاثير الجزري يقول عنه : إنه : « لم يجد للأمين شيئا من سيرته
يستحسنه ، فيذكره .. » .
ولقد كانت أيامه
على الناس ، أيام حروب ، وويلات ، وسلب
__________________
ونهب ، وما إلى
ذلك ، مما لا تقره شريعة ، ولا يرضى به خلق كريم ..
وأما المأمون :
فإنه لم يكن في كل
ما ذكرناه أفضل من أسلافه ، ولا كانت أيامه بدعا من تلك الأيام ، كما سنوضح ذلك في
أواخر فصل : آمال المأمون وآلامه ، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى
في السوء ، وبلغ الغاية في التدهور.
وصية ابراهيم الإمام :
وبعد كل الذي
قدمناه ، لم يعد يخفى على أحد ، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة ـ عدا عما
سفكوه من دماء بني عمهم العلويين ـ ونزيد هنا : أن إبراهيم الامام أرسل إلى أبي
مسلم يأمره : « بقتل كل من شك فيه ، أو وقع في نفسه شيء منه ، وإن استطاع أن لا
يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل ، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه
فليقتله ، وأن لا يخلي من مضر ديارا » .
ولعل سر أمره له
بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين ، الذين كانوا
مضطهدين على أيدي العرب .. كما أنه كان يعلم أن العرب لن يستجيبوا له استجابة
واسعة ضد الامويين ، لأن الدولة الاموية كانت ترضي غرور العربي ، وتؤكد اعتزازه
بجنسه ومحتده ..
__________________
يضاف إلى ذلك ما
كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية ، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم ..
وأما المضرية فقد
كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للامويين ، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني
المناهض لنصر ..
أبو مسلم ينفذ الوصية :
وقد حرص أبو مسلم
على تنفيذ وصية ابراهيم الامام كل الحرص ..
حتى لقد قتل ـ كما
يقول الذهبي واليافعي ـ : « خلقا لا يحصون محاربة وصبرا ، وكان حجاج زمانه .. ».
ويقول المؤرخون :
إن من قتلهم أبو مسلم صبرا قد بلغ « ست مائة الف نفس » من المسلمين ، من المعروفين
، سوى من لم يعرف ، ومن قتل في الحروب ، وتحت سنابك الخيل ..
وقد اعترف المنصور
نفسه بذلك ، عند ما عاتب أبا مسلم ، ثم قتله ، فكان من جملة ما عاتبه به قوله : «
فأخبرني عن ست مائة الف من المسلمين ، قتلتهم صبرا؟! » .. ولم ينكر أبو مسلم ذلك ،
وإنما أجابه بقوله :
__________________
« لتستقيم دولتكم
» !!.
واعترف جعفر
البرمكي بذلك أيضا .
وأبو مسلم نفسه
نراه قد اعترف بمائة الف منها أيضا في مناسبة أخرى .
وأما من قتلهم في
حروبه مع بني أمية وقوادهم ، فقد أحصوا فوجدوا : ألف ألف وستمائة ألف ..
وكل ذلك غير بعيد
.. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط (٢٠٠) الف جندي ،
كما سيأتي .. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع
المختلفة ، التي خاضها أبو مسلم ..
وبعد هذا .. فاننا
نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور : « فوترت أهل الدنيا في طاعتكم ،
وتوطئة سلطانكم .. » .
وفي رسالة أخرى
منه له أيضا يقول : « .. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف ، وآخذ بالظنة ، وأقتل على
التهمة ، ولا أقبل المعذرة ، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها ، وسفكت دماء فرض
الله حقنها ، وزويت الأمر عن أهله ، ووضعته في غير محله .. » .
يقصد بـ « أهله »
: أهل البيت (ع) ، وقد أوضح ذلك في رسالته
__________________
الاخرى للمنصور
التي يقول فيها : أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه. وأنه أوطأه في غيرهم من أهل
بيتهم العشوة ، بالإفك والعدوان ، وأنه ظهر له بصورة مهدي ..
أي أن أخا المنصور
قد حرف الآيات الواردة في أهل البيت (ع) لتنطبق على العباسيين ، وأنه بذلك تمكن من
إغراء أبي مسلم بالعلويين ؛ ففعل بهم ما فعل بالإفك والعدوان .. ويصرح بذلك في
رسالة أخرى للمنصور ؛ فيقول : « وأوطات غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل
والهوان ، والإثم والعدوان .. » يشير بذلك إلى العلويين .
وعلى كل فإننا سوف
لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عند ما حج : « هربت الأعراب
عن المناهل ، التي يمر بها ذهابا وإيابا ؛ فلم يبق منهم أحد ؛ لما كانوا يسمعونه
من سفكه للدماء » .
وقال المقريزي : «
وقتل ( يعني أبو مسلم ) زياد بن صالح ؛ من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول : إنما
بايعنا على اقامة العدل ، وإحياء السنن ، وهذا جائر ظالم ، يسير بسيرة الجبابرة ،
وإنه مخالف.
وكان لزياد بلاء
في إقامة الدولة ؛ فلم يرع له ؛ فغضب عيسى ابن ماهان ، مولى خزاعة لقتل زياد ،
ودعا لحرب أبي مسلم سرا ؛ فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ .. » ثم ذكر كيفية
احتيال أبي مسلم عليه وقتله إياه ..
__________________
وقد قال أبو مسلم
ليونس بن عاصم عند ما قال له : هذا جزائي؟! « ومن جازيناه بجزائه ؛ وضعت سيفي فلم
يبق بر ولا فاجر إلا قتلته » .
وقال أبو مسلم
أيضا : « إني أطفيت من بني أمية جمرة ، وألهبت من بني العباس نيرانا ، فإن أفرح
بالاطفاء ، فوا حزنا من الالهاب » .
وقال أبو مسلم
أيضا : « إني نسجت ثوبا من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس ، فكم من
صارخ الخ. » .
ولا مجال ثمة للشك :
كل ذلك يدل دلالة
قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة ، ومع
العلويين بشكل خاص .. والمتتبع للأحداث التاريخية يرى أن الامة كانت تعيش في رعب
دائم ومستمر ، خصوصا وأن كل أحد كان يرى ويعلم : كيف أن الآلاف من الناس ، كانوا
يذبحون لأتفه الأسباب وأحقرها ..
وأعود فأذكر
القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي ، التي تعتبر بحق من الوثائق الهامة ،
كما اعترف به غير واحد من الباحثين ..
وبعد فلا بد لنا من كلمة اخرى :
كانت تلك ـ كما
قلنا ـ لمحة خاطفة عن حالة العباسيين مع الناس عامة ، ومع العلويين خاصة .. ولعل
من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا ،
__________________
أن نمضي ولا نعطي
للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة ، وسلوكهم الخلقي.
ولذا نرى لزاما
علينا : أن نلم المامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع ، فنقول :
العباسيون في حياتهم الخاصة :
أما حياتهم الخاصة
، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح ، يندى لها جبين الانسان الحر الما وخجلا ،
ويقطر قلبه لها دما وألما ، فتلك حدث عنها ولا حرج .. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي
بعض ما يشير إلى ذلك ..
وحيث أن الاستقصاء
في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولو القوة ، فاننا لن نحاول التصدي لذلك ، ولا
سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلا.
ولعل الكلمة التي
تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون ، وهو في مرو في رسالة
منه للعباسيين ، بني أبيه في بغداد ، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا
الكتاب مع الوثائق الهامة ، إن شاء الله تعالى ..
والمأمون : هو من
أهل ذلك البيت ، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه ؛ لأنهم عاشورا في خضم الأحداث ،
وشاهدوا كل شيء ، وكل القضايا عن كثب .. يقول المأمون في تلك الرسالة :
« .. وليس منكم
إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله ، وتدبيره ، إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر ..
والله ، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ؛ فقيل لهم : لا تأنفوا من
معايب تنالوهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا.
ليس منكم إلا من إذا مسّه الشر جزع ، وإذا مسّه الخير منع. ولا
تأنفون ، ولا
ترجعون إلا خشية ؛ وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب
حمدا ، غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك
مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة الخ
.. ».
فهذه القطعة تبين
لنا بجلاء ـ كما يتبين من كثير أمثالها ـ كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في
الملذات والشهوات .. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها .. ولو لا أن المقام
يطول لأوردنا سيلا من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم ، وانتهاكهم للحرمات ،
وارتكابهم للموبقات ، ليعلم أن أقوال المأمون هذه ، وكذلك أقوال الخوارزمي ،
وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها ، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس
إلا غيضا من فيض .. وكتب التاريخ والأدب خير شاهد على ذلك ، وإن حاولت بعض الأيدي
الأثيمة تشويه الحقيقة ، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين ..
وفي نهاية المطاف :
وإذا كانت تلك هي
سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة ، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم ، فما ذا
يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم ، وسائر رجال دولتهم؟! التاريخ وحده هو الذي
يتولى الاجابة على هذا السؤال ..
أما نحن .. فنكتفي
بهذا القدر ، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك .. وخصوصا ما
كان منها يتعلق بالعلويين ..
فشل سياسة العباسيين ضد العلويين
سؤال لا بد منه :
والآن .. وبعد أن
عرفنا موقف العباسيين من العلويين ، وقدمنا لمحة عن معاملتهم للرعية ، التي لم تكن
أحسن حالا ، ولا أهدأ بالا من العلويين. سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على
الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى ، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل ، همها الدنيا
، وغايتها الاستئثار بكل شيء ، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء ، حتى عند ما
كانت تعبث بأموال الناس ، وحتى في دمائهم وأعراضهم .. وكيف لا!! والخلفاء أنفسهم
ما كانوا أحسن حالا من تلك الفئة ، ولا أقل انحرافا ، وبعدا عن تعاليم السماء ،
والخلق الانساني منها ..
بعد أن عرفنا ذلك
.. وغيره مما تقدم ؛ فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو :
ما هي نتائج وآثار
سياسات العباسيين تلك؟ .. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات؟
وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم ، واستهتارهم بكل القيم ، والفضائل الأخلاقية؟ ..
وهل استطاعوا أن
يكتسبوا عطف الامة ، بعد أن فعلوا بها ، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا؟! ..
أما الجواب :
الواقع .. أن
نتيجة ذلك كانت وبالا على العباسيين : « ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله .. ».
فقد كان الناس مستائين جدا من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية ، وكان من
الطبيعي جدا أيضا : أن يثير الناس ويسوؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في
حياتهم الخاصة ، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شيء ، حتى قد يبلغ الأمر بالخليفة
منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته .. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن
أراحه البرامكة من أعباء الحكم ، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الانسان الحر ألما
وخجلا ، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل ، وعلى ذلك جرى ولده الأمين من بعد ..
وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم .. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في
التاريخ ، الذي قد لا تمر بصفحة منه ، فيها حديث عن الخلفاء ، إلا وتجد فيها ما لا
يسر ، وما لا يغبط عليه أحد ..
وكان مما ساعد على
إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين ، وواقعهم ، الذي طالما جهدوا في التستر عليه
، واخفائه ، بحيث لم يعد ثمة شك في انهم ليسوا بأفضل من الامويين ، إن لم يكونوا
اكثر منهم سوءا .. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب ، الذين
ضحوا بكل شيء في سبيل هذا الدين ، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الامة ..
والذين كانوا هم الأمل الحي لهذه الامة المضطهدة ، والمغلوبة على أمرها ، التي
كانت ترى فيهم كل الفضائل ، والكمالات الانسانية .. والذين كان من الواضح لدى كل
أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم ، أكثر من غيرهم على الاطلاق ..
__________________
لقد رأوهم جميعا
متفقين ـ حتى المأمون كما سيتضح ـ على العداء لهم ، ووجوب التخلص منهم ، لكن الفرق
هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم ، تتميز ـ عموما ـ بالعنف
والقسوة ، بخلافه هو ، فإنه اتبع أسلوبا جديدا ، وفريدا في القضاء عليهم ، والتخلص
منهم ..
ولقد كان هذا
الموقف مفاجأة للامة ، وصدمة لها ، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة
في ضمير الامة ووجدانها ، وبخيبة أمل قاسية لها في العباسيين ..
بل لقد كان ذلك
سببا في زيادة تعاطفها مع آل على ، ومضاعفة احترامها لهم ـ ولو بدافع انساني بحت ـ
ومن هنا نلاحظ أنهم كثيرا ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء ، والعمال ، بل والعلماء
أيضا ـ صدقا كان ذلك أو كذبا ـ أنه أجار علويا ، أو أطلقه من السجن ، ودله على
طريق النجاة. وقد ذكرت هذه المنقبة للامام أحمد بن حنبل أيضا ، وأما موقف أبي
حنيفة ، والشافعي ، وغيرهم من العلماء ؛ فهو أشهر من أن يذكر.
ولعل الأهم من ذلك كله :
ولعل الأهم من ذلك
كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين ، ومع الناس عامة ،
وأيضا سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة .. كانوا يرون في مقابل ذلك : زهد
العلويين ، وورعهم ، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات ، وخصوصا الأئمة منهم :. وقد جعلهم ذلك
ينساقون معهم لا إراديا ؛ حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات ، ويتمتعون
بكافة الفضائل والمزايا ، التي
__________________
تجعلهم جديرين
بخلافة محمد (ص) ، وأهلا لقيادة الامة ، قيادة صالحة وسليمة ، كما كان النبي (ص)
يقودها من قبل ..
وواضح أن تلك
الخصائص : وهاتيك المؤهلات والمميزات لأئمة أهل البيت (ع) ، وذلك السلوك المثالي
لهم ـ كل ذلك ـ كان يغري العباسيين بمضايقتهم ، وملاحقتهم أشد الاغراء ، وكان أيضا
يدفع الحساد للوشاية بهم ، وتحريض الخلفاء على الايقاع والتنكيل فيهم.
ولهذا نرى أن
الخلفاء!! لم يكونوا يألون جهدا ، أو يدخرون وسعا في ملاحقتهم ، واضطهادهم ،
وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم ، بالوسائل التي تضمن ـ بنظرهم ـ عدم
إثارة شكوك الناس وظنونهم ..
التشيع للعلويين :
وبعد كل الذي قدمناه
، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات
والطبقات ، وأن نرى ازدياد احترام الناس ، وتقديرهم لهم باستمرار .. حتى لقد كان
لهم في نفوسهم من عميق الحب ، وصادق المودة ، ما أرهب العباسيين ، وأرعبهم .. وحتى
لقد رأينا الرشيد نفسه ـ وهو طاغية بني العباس بلا منازع ـ يشكو لعظيم البرامكة ،
يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الإمام موسى (ع) ، رغم أنه (ع) كان في السجن. ونرى
يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن : الإمام « المسجون » قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم!!
ولا يجب أن نستغرب
شكوى الرشيد تلك ، ولا اعتراف يحيى هذا بعد أن كان التشيع بحد سبيله الى كل
قلب ، وكل فؤاد ، حتى
__________________
وزراء العباسيين ،
وقوادهم ، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم ..
فهذه أم الخليفة
المهدي تقيم خادما لقبر الحسين (ع) ، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما ، دون أن
يعلم بها أحد .
وهذه بنت عم
المأمون ، التي كان لها نفوذ قوي عنده ، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الإمام
الرضا (ع) ..
بل وحتى « زبيدة »
، زوجة الرشيد ، وحفيدة المنصور ، وأعظم عباسية على الاطلاق ، يقال : إنها كانت
تتشيع ، وعند ما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها .. ولعل لهذا
السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظم (ع) وذلك
عند ما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة ٤٤٣ ه
وأما وزراء
العباسيين ، فأمرهم أظهر من أن يحتاج الى بيان ، فإن التاريخ يحدثنا : أن
العباسيين ، ابتداء من السفاح ، كانوا غالبا يبطشون بوزرائهم ؛ بسبب اطلاعهم على
تشيعهم ، وممالأتهم للعلويين. ابتداء بأبي سلمة ، فأبي مسلم ، فيعقوب بن داوود ..
وهكذا الى أن ينتهي الأمر بالفضل بن سهل ، وغيره من بعده ، بل وحتى نكبة البرامكة
يقال : إنّ سببها هو تشيعهم للعلويين!! وان كان يقال : إن الرضا 7 دعا عليهم ،
لأنّهم كانوا سبب قتل أبيه ..
إلا إذا كان
تظاهرهم بمحبة العلويين مجاراة للرأي العام ، وسياسة منهم ؛ فاستغل ذلك الرشيد
ضدهم نعم .. لقد بلغ الامر حدا اصبح معه :
__________________
التسمي بـ «
الوزير » يعتبر شؤما : وينفر الناس منه كل النفور ، كما سنشير إليه فيما يأتي إن
شاء الله تعالى ..
وأما عن امرائهم
وقوادهم ، فالأمر فيهم أوضح وأجلى ؛ حيث إنهم ما كانوا يرون إلا واليا أو قائدا
يخرج عليهم داعيا للعلويين ، أو آخر قد خلع طاعتهم ، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي
، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم ، ويتعاطف معهم .. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من
زمن السفاح ، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري ، داعيا لآل علي ، وبعد ذلك كانت ثورة
القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت ، وقامت ثورة ضد المنصور ، وداعية
للعلويين في نفس خراسان ، وذلك في سنة ( ١٤٠ ه ). وبعد ذلك وفي زمن المهدي
العباسي قامت ثورة اخرى في خراسان تدعو الى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال
.. وعظم شأنه جدا ، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة وأما في زمن
الرشيد ، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة ، على حد تعبير النجوم الزاهرة ..
الخطر الحقيقي :
وأما الذي كان
يمكن فيه الخطر الحقيقي ، وكان يهز الدولة ، ويزعزع من أركانها .. فهو ثورات
العلويين أنفسهم ؛ حتى ليقال : إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن ، وأخيه
ابراهيم في أكثر الأمصار ، وذلك في سنة ١٤٥ ه. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة ،
ثم استمر الحال على ذلك ، فلم يكن العباسيون يرون ، إلا علويا ثائرا ، أو أنه يدبر
للثورة ، حتى أوائل زمن المأمون ؛ حيث بلغت الحالة فيه
__________________
في السوء والتدهور
الغاية ، وأوفت على النهاية .. حتى ليقال : إن الثورات العلوية ، التي قامت فيما
بين عهد السفاح ، وأوائل عهد المأمون ، وبالتحديد إلى حوالي سنة ٢٠٠ ه أي فيما
يقل عن سبعين عاما ، قد قاربت الثلاثين ثورة ، هذا بغض النظر عن الثورات الاخرى
التي كانت تدعو لهم ، وإلى موالاتهم ..
وستأتي الاشارة
إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص ، وإلى أنه حتى قائده
العظيم ، طاهر بن الحسين ، ـ بل وجميع آل طاهر ـ وكذلك وزيره الفضل بن سهل ، وهرثمة بن أعين ، وغيرهم ،
وغيرهم ، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين ..
ولسوف يتضح أن
الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيها بالوضع الذي كان سائدا في أواخر عهد
الامويين ، بفارق واحد بسيط ، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن ،
وهو : أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك
المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة!!!.
ويبقى هنا سؤال :
لماذا لم تكن
ثورات العلويين ، أو الثورات الداعية لهم ، تصادف النجاح ، مع أنها كانت تحظى
بالتأييد الواسع ، في مختلف فئات الشعب ، وطبقاته؟! ..
وجوابنا عن هذا
السؤال هو : أن الذي يراجع التاريخ يرى ـ بما لا مجال معه للشك ـ : أن تلك الثورات
لم يكن يسبقها التخطيط ،
__________________
والاعداد الكافيان
، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط واعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من
أن يذهب بدولة الجبارين ..
هذا بالاضافة إلى
فساد القيادة القبيلة آنذاك ، والتي كانت السبب الأول والأخير لنجاح أية ثورة أو
فشلها .. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي ، في فصل : مدى جدية العرض ،
إن شاء الله.
ونتيجة كل ذلك :
وهكذا .. يتضح :
أن سياسات العباسيين ، لم تستطع أن تحقق لهم الأهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها ،
وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم ، ودمارا ووبالا عليهم ، قبل أن تكون
وبالا على أي من خصومهم .. وبالأخص أبناء عمهم العلويين ..
القسم
الثاني
ظروف البيعة وأسبابها :
١ ـ شخصية الإمام
الرضا (ع).
٢ ـ من هو المأمون؟.
٣ ـ آمال المأمون
، وآلامه ..
٤ ـ ظروف البيعة
وأسبابها.
٥ ـ أسباب البيعة
لدى الآخرين.
شخصية الامام الرضا 7
لمحات :
الإمام الرضا (ع)
، هو ثامن الأئمة الاثني عشر ، الذين نص عليهم النبي (ص) : علي بن موسى ، بن جعفر
، بن محمد ، بن علي ، ابن الحسين ، بن علي ، بن أبي طالب ، صلوات الله عليهم
أجمعين ..
ستة آباؤه من هم
|
|
أفضل من يشرب
صوب الغمام
|
كنيته : أبو الحسن
..
ومن ألقابه :
الرضا ، والصابر ، والزكي ، والولي ..
نقش خاتمه : حسبي
الله ..
وقيل : بل نقشه :
ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ..
ولد في المدينة
سنة ١٤٨ ه. أي : في نفس السنة التي توفي فيها
__________________
جده الإمام الصادق
(ع) على قول أكثر العلماء والمؤرخين مثل :
المفيد في الارشاد
، والشبراوي في الانحاف بحب الاشراف ، والكليني في الكافي ، والكفعمي في المصباح ،
والشهيد في الدروس ، والطبرسي في أعلام الورى ، والفتال النيسابوري في روضة
الواعظين ، والصدوق في علل الشرائع ، وتاج الدين محمد بن زهرة في غاية الاختصار ،
وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ، والاردبيلي في جامع الرواة ، والمسعودي في
مروج الذهب ، وإن كان في كلامه اضطراب ، وأبو الفداء في تاريخه ، والكنجي الشافعي
في كفاية الطالب ، وابن الأثير في كامله ، وابن حجر في صواعقه ، والشبلنجي في نور
الأبصار ، والبغدادي في سبائك الذهب ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص ، وابن الوردي
في تاريخه ، ونقل عن تاريخ الغفاري ، والنوبختي. وكان عتاب بن أسد يقول : إنه سمع
جماعة من أهل المدينة يقولون ذلك ، وغير هؤلاء كثير وذهب آخرون ـ وهم الأقل ـ إلى
أن ولادته (ع) ، كانت سنة ١٥٣ ه. منهم : الاربلي في كشف الغمة ، وابن شهر اشوب في
المناقب ، والصدوق في عيون الأخبار ، وإن كان في كلامه اضطراب ، والمسعودي في
إثبات الوصية ، وابن خلكان في وفيات الأعيان ، وابن عبد الوهاب في عيون المعجزات ،
واليافعي في مرآة الجنان ..
وقيل : إن ولادته
كانت سنة ١٥١ ه.
والقول الأول هو
الأقوى والأشهر .. ولم يذهب إلى القولين الأخيرين إلا قلة ..
وتوفي (ع) في طوس
سنة ٢٠٣ ه. على قول معظم العلماء ، والمؤرخين ، والشاذ النادر لا يلتفت إليه ..
وبعد :
فأما علمه ، وورعه وتقواه :
فذلك مما اتفق
عليه المؤرخون أجمع ، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للكتب التاريخية ؛ ويكفي هنا أن نذكر
أن نفس المأمون قد اعترف بذلك ، أكثر من مرة ، وفي أكثر من مناسبة .. بل في كلامه
: أن الرضا (ع) أعلم أهل الأرض ، وأعبدهم .. ولقد قال لرجاء بن أبي الضحاك :
« .. بلى يا ابن
أبي الضحاك ؛ هذا خير أهل الأرض ، وأعلمهم ، وأعبدهم .. » .
وقد قال أيضا
للعباسيين ، عند ما جمعهم ، في سنة ٢٠٠ ه. وهم أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفا :
« إنه نظر في ولد
العباس ، وولد علي رضي الله عنهم ، فلم يجد أحدا أفضل ، ولا أورع ، ولا أدين ، ولا
أصلح ، ولا أحق بهذا الأمر من علي بن موسى الرضا » ..
__________________
قال عبد الله بن
المبارك :
هذا علي والهدى
يقوده
|
|
من خير فتيان
قريش عوده
|
ولوضوح هذا الأمر
نكتفي هنا بهذا المقدار ، وننتقل إلى الحديث عن امور هامة اخرى ، وما يهمنا في
المقام هو إعطاء لمحة سريعة عن مكانته ، وشخصيته (ع) ، فنقول :
وأما مركزه وشخصيته (ع) :
فهو من الامور
البديهية ، التي لا يكاد يجهلها أحد ، وقد ساعده سوء الأحوال بين الأمين والمأمون
على القيام بأعباء الرسالة ، وعلى زيادة جهوده ، ومضاعفة نشاطاته ؛ حيث قد فسح
المجال لشيعته للاتصال به ، والاستفادة من توجيهاته ؛ مما أدى بالتالي ـ مع ما كان
يتمتع به (ع) من مزايا فريدة ، وما كان ينتهجه من سلوك مثالي ـ إلى تحكيم مركزه ،
وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية ، يقول الصولي :
ألا إن خير
الناس نفسا ووالدا
|
|
ورهطا وأجدادا
علي المعظم
|
اتينا به للحلم
والعلم ثامنا
|
|
إماما يؤدي حجة
الله يكتم
|
بل لقد قال هو
نفسه (ع) مرة للمأمون. وهو يتحدث عن ولاية
__________________
العهد : « .. وما
زادني هذا الأمر ، الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئا ، ولقد كنت في المدينة ،
وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب ، ولقد كنت أركب حماري ، وأمر في سكك المدينة ، وما
بها أعز مني .. » .
ويكفي أن نذكر هنا
قول ابن مؤنس ـ عدوّ الإمام (ع) ، وقد أسّر (ع) للمأمون بشيء ، قال ابن مؤنس :
« .. يا أمير
المؤمنين ، هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله » .. وفي الكتاب
الذي طلب المأمون فيه من الرضا أن يجمع له أصول الدين ، وفروعه ، قال المأمون : إن
الإمام : « حجة الله على خلقه ، ومعدن العلم ، ومفترض الطاعة .. » . كما أن المأمون
كان يعبر عن الرضا (ع) ب : « أخيه » ، ويخاطبه بـ « يا سيدي ».
وكتب للعباسيين
يصف الرضا ، ويقول : « .. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق
منه لها في نفسه ، واختيار مني له .. إلى أن قال : وأما ما ذكرتم من استبصار
المأمون في البيعة لأبي الحسن ، فما بايع له إلا مستبصرا في أمره ، عالما بأنه لم
يبق على ظهرها أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ، ولا أزهد زهدا في
الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه
.. » .
__________________
وفي كل ما قدمناه
دلالة واضحة على سجايا الإمام ، ومركزه ، وشخصيته. وكما يقولون : « والفضل ما شهدت
به الأعداء » ..
ومما يدل على
مكانته وهيبته ما ورد في رواية أخرى ، يقول فيها المتحدث : « .. دخلنا ( أي هو
والرضا « ع » ) على المأمون ، فإذا المجلس غاص بأهله ، ومحمد بن جعفر في جماعة
الطالبيين والهاشميين ، والقواد حضور. فلما دخلنا قام المأمون ، وقام محمد بن جعفر
، وجميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفا والرضا جالس مع المأمون ، حتى أمرهم بالجلوس ؛
فجلسوا ؛ فلم يزل المأمون مقبلا عليه ساعة الخ ».
وأما ما جرى في نيسابور :
فلا يكاد يخلو منه
كتاب يتعرض لأحوال الرضا (ع) ، ومسيره إلى مرو ، فإنه عند ما دخل نيسابور تعرض له
الحافظان : أبو زرعة الرازي ، ومحمد بن أسلم الطوسي ، ومعهما من طلبة العلم ما لا
يحصى ، وتضرعوا إليه أن يريهم وجهه ؛ فأقرّ عيون الخلائق بطلعته ، والناس على
طبقاتهم قيام كلهم. وكانوا بين صارخ ، وباك ، وممزق ثوبه ، ومتمرغ في التراب ،
ومقبل لحافر بغلته ، ومطول عنقه الى مظلة المهد ، إلى أن انتصف النهار ، وجرت
الدموع كالأنهار ، وصاحت الأئمة :
« معاشر الناس ،
أنصتوا ، وعوا ، ولا تؤذوا رسول الله (ص) في عترته .. »
فأملى صلوات الله
عليه ، عليهم ، بعد أن ذكر السلسلة الذهبية الشهيرة
__________________
للسند ، قوله : «
لا إله إلا الله حصني ؛ فمن دخل حصني أمن من عذابي .. »
فلما مرت الراحلة
أخرج رأسه مرة ثانية إليهم ، وقال : « بشروطها ، وأنا من شروطها ».
فعد أهل المحابر
والدوى ، فأنافوا على العشرين ألفا. كذلك وصف المؤرخون هذه الحادثة الشهيرة .. ولسوف نتحدث
عن هذه القضية بالتفصيل في فصل : « خطة الإمام » إن شاء الله تعالى ..
وعن أسناد هذه
الرواية ، الذي أورده الإمام (ع) ، يقول الإمام أحمد بن حنبل : « لو قرأت هذا
الاسناد على مجنون لبرئ من جنته ».
على ما في الصواعق
المحرقة ، ونزهة المجالس ، وغير ذلك ..
ونقل أن بعض أمراء
السامانية بلغه هذا الحديث بسنده ؛ فكتبه بالذهب ، وأوصى أن يدفن معه.
__________________
وها نحن أمام نصوص اخرى :
وكذلك نرى هيبة
الإمام (ع) ، وقوة شخصيته ، في موقفه مع الفضل ابن سهل ـ أعظم رجل في البلاط
العباسي ـ وذلك عند ما طلب منه الفضل كتاب الضمان ، والأمان ؛ حيث أوقفه ساعة ، ثم
رفع رأسه إليه ، وسأله عن حاجته ؛ فقال : « يا سيدي .. إلى أن قال الراوي : ثم
أمره بقراءة الكتاب ـ وكان كتابا في أكبر جلد ـ فلم يزل قائما حتى قرأه!! الخ .. »
.
ثم رأينا المأمون
عند ما قتل الفضل بن سهل ذا الرئاستين ، وشغب عليه القواد والجند ، ومن كان من
رجال ذي الرئاستين. وقد جاءوا بالنيران ليحرقوا الباب عليه ، ليصلوا إليه ـ قد
رأينا ـ كيف هرع إلى الإمام ، يطلب منه أن يتدخل لانقاذه ؛ فخرج (ع) إليهم ،
وأمرهم بالتفرق ؛ فتفرقوا .. يقول ياسر الخادم : « فأقبل الناس والله ، يقع بعضهم
على بعض ، وما أشار لأحد إلا ركض ، ومر ، ولم يقف .. » . ونجا المأمون
بذلك بجلده ، واحتفظ بحياته ..
وفي كتاب العهد
الذي كتبه المأمون بخط يده ـ كما صرح به كل من تعرض له ـ فقرات تدل على سجايا
الإمام ، وعلى مركزه ، وشخصيته ، يقول المأمون عنه : « .. لما رأى من فضله البارع
، وعلمه
__________________
الناصع ، وورعه
الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه من الناس.
وقد استبان له ما
لم تزل الأخبار عليه متواطية ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم
يزل يعرفه به من الفضل يافعا ، وناشيا ، وحدثا ، ومكتهلا الخ .. » وكتاب العهد
مذكور في أواخر هذا الكتاب ..
وفي نهاية المطاف :
فإن الإمام (ع) هو
أحد العشرة ، الذين هم على حد تعبير الجاحظ : « كل واحد منهم : عالم ، زاهد ، ناسك
، شجاع ، جواد ، طاهر ، زاك ، والذين هم بين خليفة ، أو مرشح لها .. » .
وهو على ما في
النجوم الزاهرة : « سيد بني هاشم في زمانه ، وأجلهم. وكان المأمون يعظمه ، ويجله ،
ويخضع له ، ويتفانى فيه .. » .
ومثله ما عن سنن
ابن ماجة ، على في خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص ٢٧٨ ..
وقال عنه (ع) عارف
تامر : « يعتبر من الأئمة الذين لعبوا دورا كبيرا على مسرح الأحداث الإسلامية في
عصره .. » .
وأخيرا .. فقد
وصفه أبو الصلت ، ورجاء بن أبي الضحاك ، وإبراهيم ابن العباس ، وغيرهم ، وغيرهم ..
بما لو أردنا نقله لطال بنا المقام ..
وحسبنا ما ذكرنا ؛
فإننا إذا أردنا أن نلم بما قيل في حق الإمام (ع) لاحتجنا إلى تأليف خاص ، ووقت
طويل ..
__________________
من هو المأمون؟
لمحات :
هو عبد الله بن
هارون الرشيد.
أبوه : خامس خلفاء
بني العباس .. وهو سابعهم ، بعد أخيه الأمين ..
أمه : جارية
خراسانية ، اسمها : « مراجل ». وقد ماتت بعد ولادتها إياه ، وهي ما تزال نفساء ..
فنشأ يتيم الام.
وقد كانت أمه ـ كما
يقول المؤرخون ـ أشوه ، واقذر جارية في مطبخ الرشيد.
وذلك هو الذي
يجعلنا نصدق القصة التي تقال عن السبب في حملها به ..
__________________
دفعه أبوه إلى
جعفر بن يحيى البرمكي ؛ فنشأ في حجره.
كانت ولادته في
سنة ١٧٠ ه. في نفس الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة ..
وكانت وفاته سنة
٢١٨ ه.
وكان مربيه الفضل
بن سهل ، ثم أصبح وزيره ، وهو المعروف بذي الرئاستين ..
وكان قائده : طاهر
بن الحسين ذو اليمينين ..
ميزات وخصائص :
وقد كانت حياته
حياة جد ونشاط ، وتقشف ، على العكس من أخيه الأمين ، الذي نشأ في كنف « زبيدة » ،
وما أدراك ما « زبيدة » ؛ فقد كانت حياته حياة نعمة وترف ، يميل إلى اللعب
والبطالة ، أكثر منه إلى الجد والحزم .. يظهر ذلك لكل من راجع تاريخ حياة الأخوين
..
ولعل سر ذلك يعود
إلى أن المأمون لم يكن كأخيه ، يشعر بأصالة محتده ، ولا كان مطمئنا إلى مستقبله ،
وإلى رضا العباسيين به. بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفة وحاكما ؛ ولهذا .. فقد
وجد أنه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه ؛ فشمر عن ساعد الجلد ، وبدأ يخطط
لمستقبله منذ اللحظة الاولى التي أدرك فيها واقعه ، والمميزات التي كان يتمتع بها
أخوه الأمين عليه ..
__________________
بل نلاحظ : أنه
كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين ؛ فان : « الفضل عند ما رأى اشتغال الأمين باللهو
واللعب ، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين ، وحسن السيرة ؛ فأظهر المأمون ذلك
.. وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة » .
ومن هنا نعرف السر
فيما يظهر من رسالته للعباسيين ؛ حيث نصب فيها نفسه واعظا تقيا ، وأضفى عليها هالة
من التقى والورع!! والزهد في الدنيا!! والالتزام بأحكام الشريعة ، وتعاليم الدين!!
.. ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل نوعية أخيه الأمين ، وتزيد عليها ..
ما يقال عن المأمون :
وعلى كل حال ..
فان المأمون كان قد برع في العلوم والفنون ، حتى فاق أقرانه ، بل فاق جميع خلفاء
بني العباس ..
وقد قال بعضهم : «
لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون » .
وقال عنه ابن
النديم انه : « أعلم الخلفاء بالفقه والكلام » .
وقال عنه محمد
فريد وجدي : « لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين أكفأ منه » .
وفي الأخبار
الطوال : « وكان شهما ، بعيد الهمة ، أبي النفس ، وكان نجم بني العباس في العلم
والحكمة .. »
__________________
بل لقد روي عن
الإمام علي (ع) ، أنه قال ـ وهو يصف خلفاء بني العباس ـ : « سابعهم أعلمهم » .
وقد وصفه السيوطي
وابن تغري بردى ، وابن شاكر الكتبي ؛ فقالوا :
« وكان أفضل رجال
بني العباس : حزما ، وعزما ، وحلما ، وعلما ، ورأيا ، ودهاء ، وهيبة ، وشجاعة
، وسؤددا ، وسماحة ،
__________________
لو لا أنه شان ذلك
كله .. بالقول بخلق القرآن ، ولم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه .. » .
شهادة ذات أهمية :
وقد شهد له أبوه
نفسه بالتقدم على أخيه الأمين ؛ قال : « .. وقد عنيت بتصحيح هذا العهد ، وتصييره
إلى من أرضى سيرته ، وأحمد طريقته ، وأثق بحسن سياسته ، وآمن ضعفه ووهنه ، وهو :
عبد الله. وبنو هاشم ـ يعني العباسيين ـ مائلون إلى محمد باهوائهم ، وفيه ما فيه
من الانقياد لهواه ، والتصرف مع طويته ، والتبذير لما حوته يده ، ومشاركة النساء ،
والاماء في رأيه. وعبد الله المرضي الطريقة ، الأصيل الرأي ، الموثوق به في الأمر
العظيم ؛ فإن ملت إلى عبد الله ، أسخطت بني هاشم ، وإن أفردت محمدا بالأمر ، لم
آمن تخليطه على الرعية .. » .
وقال أيضا : « إني
لأعرف في عبد الله حزم المنصور ، ونسك المهدي ، وعزة الهادي ، ولو شئت أن أنسبه
إلى الرابع ـ يعني نفسه ـ لنسبته ، وقد قدمت محمدا عليه ، وإني لأعلم أنه منقاد
لهواه ، مبذر
__________________
لما حوته يده ،
يشاركه في رأيه الاماء والنساء ، ولو لا أم جعفر ـ يعني زبيدة ـ وميل بني هاشم ،
لقدمت عبد الله عليه .. » . يعني في ولاية العهد.
__________________
وعلى كل حال ..
فان كل من تعرض من المؤرخين وغيرهم ، لشرح حال المأمون ، قد شهد له بالتقدم ،
وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم ..
وما يهمنا هنا ،
هو مجرد الاشارة إلى حال المأمون ، وما كان عليه من الدهاء والسياسة ، وحسن
التدبير .. ولسنا هنا في صدد تحقيق أحواله ، والاحاطة بكافة شئونه ؛ فان ذلك لا
يناسب الغرض الذي وضع من أجله هذا الكتاب.
وسيمر معنا في
الفصول الآتية المزيد من الكلام عن المأمون وظروفه ، مما له نحو ارتباط بالموضوع
الذي نحن بصدد تحقيقه من قريب ، أو من بعيد ، إن شاء الله تعالى ..
__________________
آمال المأمون وآلامه
العباسيون لا يرضون بالمأمون!!
لا يشك المؤرخون
بأن المأمون كان أجدر من الأمين ، وأحق بالخلافة .. بل لقد مر
اعتراف الرشيد نفسه بذلك ، لكنه اعتذر عن إسناده الأمر للأمين : بأن العباسيين ،
لا يرضون بالمأمون خليفة ، وحاكما ؛ رغم سنه وفضله وكياسته ، وأنهم يرجحون أخاه
الأمين عليه ؛ قال الرشيد ، حسبما تقدم : « وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم ،
وفيه ما فيه .. إلى أن قال : فان ملت إلى ابني عبد الله ، أسخطت بني هاشم ، وإن
أفردت محمدا بالأمر ، لم آمن تخليطه على الرعية الخ!! »
ومر أيضا قول
الرشيد : « .. ولو لا أم جعفر ، وميل بني هاشم إليه ( أي إلى الأمين ) لقدمت عبد
الله عليه .. ».
كما أن المأمون
نفسه يقول في رسالته للعباسيين ، المذكورة في أواخر هذا الكتاب : « .. وأما ما
ذكرتم ، مما مسكم من الجفاء في ولايتي ؛ فلعمري ما كان ذلك إلا منكم : بمظافرتكم
عليه ، ومما يلتكم إياه
__________________
( أي الأمين ) ؛
فلما قتلته ، تفرقتم عباديد ؛ فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لاعرابي
، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا عليّ. ولو لا أن شيمتي العفو ،
وطبيعتي التجاوز ، ما تركت على وجهها منكم أحدا ؛ فكلكم حلال الدم الخ .. ».
وسوف يأتي قول
الفضل بن سهل للمأمون : « .. وبنو أبيك معادون لك ، وأهل بيتك الخ .. ».
إلى آخر ما هنالك
من النصوص الدالة على حقيقة الموقف السلبي للعباسيين ضد المأمون ، وتفضيلهم أخاه
الأمين عليه ..
سؤال قد تصعب الاجابة عليه :
فما هو السر يا
ترى؟ في عدم رضا العباسيين بالمأمون؟! ولماذا يفضلون أخاه الأمين عليه؟!! مع أنه
هو الأليق والأجدر والأحق بالخلافة!!.
إن الإجابة على
هذا السؤال ربما تبدو لأول وهلة صعبة ، وشاقة. ولكننا لن نستسلم لهذا الشعور ، ولسوف
نحاول الاجابة عليه ، معتمدين على بعض ما بأيدينا من النصوص التاريخية ، التي تلقي
لنا ضوءا كاشفا على حقيقة القضية ، وواقع الأمر : فنقول :
الجواب عن السؤال :
لعل سر انحراف
العباسيين عن المأمون إلى أخيه الأمين يرجع إلى أن الأمين كان عباسيا ، بكل ما
لهذه الكلمة من معنى :
فأبوه : هارون ..
وأمه : « زبيدة »
، حفيدة المنصور ، هاشمية ، والتي لو نشرت شعرها ، لما تعلقت ـ على ما قبل ـ إلا بخليفة ، أو
ولي عهد ، والتي كانت أعظم عباسية على الاطلاق ..
وكان في حجر الفضل
بن يحيى البرمكي ، أخي الرشيد من الرضاعة ، وأعظم رجل نفوذا في بلاط الرشيد ..
وكان يشرف على
مصالحه الفضل بن الربيع ، العربي ، الذي كان جده من طلقاء عثمان ، والذي لم يكن
ثمة من شك في ولائه للعباسيين.
أما المأمون :
فقد كان في حجر
جعفر بن يحيى ، الذي كان أقل نفوذا من أخيه الفضل.
وكان مؤدبه ،
والذي يشرف على مصالحه ، ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه بشكل خاص ؛
لأنه كان متهما بالميل إلى العلويين. والذي كانت العداوة بينه وبين مربي الأمين ،
الفضل بن الربيع على أشدها ، ذلك الرجل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمأمون ، ومدبرا
لاموره ، وأعني به : « الفضل بن سهل الفارسي » ، وقد
__________________
مل العباسيون
الفرس ، وخافوهم ؛ ولذا سرعان ما استبدلوهم بالأتراك وغيرهم ..
أما أم المأمون ..
فقد كانت خراسانية غير عربية ، وقد ماتت أيام نفاسها به ، وحتى لو كانت على قيد
الحياة ، فإنها ـ وهي أشوه ، وأقبح ، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد ـ لن تستطيع أن
تكون مثل زبيدة عظمة ، ونفوذا ولو قلنا إن موتها كان في مصلحة المأمون لما عدونا
الحقيقة ؛ كيف وقد بلغ من مهانتها ـ في نظر الناس ـ أن كان المأمون يعير بها ..
فهذه زينب بنت
سليمان ، التي كانت عند بني العباس بمنزلة عظيمة ، عند ما لم يحضر المأمون جنازة
ابنها ، واكتفى بارسال أخيه صالح من قبله ، تغضب ، وتقول لصالح : « قل له : يا ابن
مراجل ، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد ، لوضعت ذيلك على فيك ، وعدوت خلف
جنازته .. » .
والرقاشي الشاعر
يمدح الأمين ، ويعرض بهجاء المأمون ، فيقول :
لم تلـده أمـة تعرف في الـسوق التجارا
لا ولا حد ، ولا خان ، ولا في الخزي جارا
يعرض بالمأمون ،
وأن أمه كانت أمة تباع ، وتشرى في الأسواق ..
بل إن نفس الأمين
قد عير أخاه بأمه ، فقال :
وإذا تطاولت
الرجال بفضلها
|
|
فاربع فانك لست
بالمتطاول
|
__________________
أعطاك ربك ما
هويت وإنما
|
|
تلقى خلاف هواك
عند « مراجل »
|
تعلو المنابر كل
يوم آملا
|
|
ما لست من بعدي
إليه بواصل
|
وقد أقذع في هجائه
، حين كتب إليه أيام الفتنة بينهما بقوله :
يا بن التي بيعت
بأبخس قيمة
|
|
بين الملا في
السوق هل من زائد
|
ما فيك موضع
غرزة من ابره
|
|
إلا وفيه نطفة
من واحد
|
فأجابه المأمون :
وإنما أمهات
الناس أوعية
|
|
مستودعات
وللّأماء أكفاء
|
فرب معربة ليست
بمنجبة
|
|
وطالما أنجبت في
الخدر عجماء
|
وأخيرا .. فإن خير
ما يصور لنا الحالة المعنوية التي كان يعاني منها المأمون ، هو قول دعبل مخاطبا له
:
إني من القوم
الذين سيوفهم
|
|
قتلت أخاك ،
وشرفتك بمقعد
|
شادوا بذكرك بعد
طول خموله
|
|
واستنقذوك من
الحضيض الأوهد
|
مركز الأمين هو الأقوى :
وبعد كل ما تقدم ،
فإن ما لا بد لنا من الاشارة إليه هنا ، هو :
__________________
قوة مركز الأمين ،
بالنسبة إلى أخيه المأمون ؛ حيث قد كان للأمين حزب قوي جدا ، وأنصار يستطيع أن
يعتمد عليهم ، يعملون من أجله ، وفي سبيل تأمين السلطة له ، وهم : أخواله ، والفضل
بن يحيى البرمكي ، وأكثر البرامكة ، إن لم يكن كلهم ، وأمه : زبيدة ، بل والعرب
أيضا ، كما سيأتي ..
وإذا ما عرفنا أن
هؤلاء هم الذين كانوا يؤثرون على الرشيد كل التأثير ، وكان لهم دور كبير في توجيه
سياسة الدولة .. فلسوف نرى أنه كان من الطبيعي أن يضعف الرشيد أمام هذه القوة ،
وينصاع لها ، ومن ثم .. لتؤثر مساعيها أثرها ، وتعطي نتيجتها في الوقت المناسب ؛
فيجعل ولاية العهد من بعده لولده الأصغر سنا ، وهو الأمين ، ويترك الأكبر ـ المأمون
ـ ، ليكون ولي العهد الثاني بعد الأصغر ..
ولعل تعصب بني
هاشم ، وجلالة عيسى بن جعفر قد لعبا دورا كبيرا في فوز الأمين بالمركز الأول في
ولاية عهد أبيه الرشيد . هذا عدا عن الدور الرئيسي ، الذي لعبته « زبيدة » في
تكريس الأمر لصالح ولدها .
فيحدثنا المؤرخون
: أن عيسى بن جعفر بن المنصور ، خال الأمين جاء إلى الفضل بن يحيى ، وهو متوجه إلى
خراسان على رأس جيش ، وقال له : « انشدك الله ، لما عملت بالبيعة لابن أختي ؛ فإنه
ولدك ، وخلافته لك ، وإن أختي زبيدة تسألك ذلك .. فوعده الفضل أن يفعل ، وعند ما
انتصر على الخارجين هناك ، بايع هو ومن معه من القواد والجند لمحمد ،
__________________
رغم أن المأمون
كان أسن من الأمين بستة أشهر ، وعلى أقل الأقوال بشهر واحد ..
وأصبح الرشيد
حينئذ أمام الأمر الواقع ، حيث إن الذي أقدم على هذا الأمر ، هو ذلك الرجل ، الذي
لا يمكن رد كلمته ، والذي له من النفوذ والسلطان ، والخدمات الجلى ، والأيادي
البيضاء عليه ، ما لا يمكن له ، ولا لأحد غيره أن يجحده أو أن يتجاهله ..
ويلاحظ هنا : أن
عيسى بن جعفر قد ذكر أن أخته زبيدة ، تسأله أن يقدم على هذا الأمر ، وزبيدة التي
تحظى باحترام كبير عند العباسيين ، ولها نفوذ واسع ، وتأثير كبير على الرشيد ـ زبيدة
هذه ـ يهتم البرامكة جدا بأن تكون معهم ، وإلى جانبهم ؛ وذلك ليبقى لهم سلطانهم ،
ويدوم لهم حكمهم ، الذي أشار إليه عيسى بقوله : « فانه ولدك ، وخلافته لك » فإن في
هذا القول دليلا واضحا للفضل على سلامة وصحة ما يقدم عليه بالنسبة لمصالحه هو ،
ومصالح البرامكة بشكل عام ، وبالنسبة لدورهم في مستقبل الخلافة العباسية .. وهو في
الحقيقة يشتمل على إغراء وترغيب واضح بالعمل لهذا الأمر ، وفي سبيله ..
كما أن قول عيسى
الآنف الذكر يلقي لنا ضوءا على الدور الذي لعبته زبيدة في مسألة البيعة لولدها
بولاية العهد .. فهو يشير إلى أنها كانت قد استخدمت نفوذها في اقناع رجال الدولة
بتقديم ولدها .. هذا بالاضافة إلى أنها كانت تحرض الرشيد على ذلك باستمرار ، حتى لقد صرح
الرشيد نفسه بأنه : « لو لا أم جعفر وميل بني هاشم لقدم عبد الله على محمد ، كما
أشرنا إليه » ..
قال محمد فريد
وجدي مشيرا إلى أن الرشيد لم يكن يريد جرح عاطفة
__________________
زبيدة : « كانت
ولاية الأمين بعهد من أبيه ، قدمه على إخوته لمكان والدته. وكان الأحق بالتقديم
المأمون لعلمه وفضله وسنه .. » .
وبعد .. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالاضافة إلى ذلك قد استخدمت
أموالها ، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الأمين ، ولعل مما يشير إلى ذلك قول
الفضل بن سهل للمأمون : « وهو ابن زبيدة ، وأخواله بنو هاشم ، وزبيدة وأموالها ..
» ..
وأخيرا .. فإنّ من المحتمل جدا أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور
الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون
، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه ، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال : «
وفيها ( أي في سنة ١٧٦ ه ) عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه
الأمين .. إلى أن قال : وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد ، غير أن الأمين أمه
زبيدة بنت جعفر هاشمية ، والمأمون أمه أم ولد اسمها « مراجل » ماتت أيام نفاسها به
.. » .
محاولات الرشيد لصالح المأمون :
ومن كل ما تقدم
يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين ، وأهل بيت المأمون ، ورجال الدولة من المأمون ..
ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا ، ونجمه عاليا ، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ
الذي كان لأخيه الأمين.
__________________
إلا أن أباه
الرشيد ، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الادراك ، قد حاول أن يضمن له نصيبه من
الخلافة ، فجعله ولي العهد بعد أخيه الأمين ، وكتب بذلك العهود والمواثيق ، وأشهد
عليها ، وعلقها في جوف الكعبة ، ولا نعلم خليفة ، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء
عهده ، من أولاده أو من غيرهم ، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لأكثر من
واحد بعدهم.
كما أنه قد حاول
بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون ، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين ؛ لأنه كان
يخاف منه على أخيه المأمون ؛ فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة ، ويوليه
الحرب ، ويولي أخاه السلم ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح ، ويأمر الفضل
بن الربيع ، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون
في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفه ، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.
مركز المأمون ظل في خطر :
ولكن رغم كل
محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك ، وكيف لا يعرف
الجميع ذلك ، ولا يشعرون به ، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق
، وحلف الايمان ، بأنه : كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون .
لقد كان الكثيرون
يرون بأن هذا الأمر لا يتم ، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده ، «
وألقى بأسهم بينهم ، وعاقبة ما صنع
__________________
في ذلك مخوفة على
الرعية » ، وقالت الشعراء في ذلك الشيء الكثير. ومن ذلك قول بعضهم :
أقول لغمة في
النفس مني
|
|
ودمع العين يطرد
اطرادا
|
خذي للهول عدته
بحزم
|
|
ستلقي ما سيمنعك
الرقادا
|
فإنك إن بقيت
رأيت أمرا
|
|
يطيل لك الكآبة
والسهادا
|
رأى الملك
المهذب شر رأي
|
|
بقسمته الخلافة
والبلادا
|
رأى ما لو تعقبه
بعلم
|
|
لبيض من مفارقه
السوادا
|
أراد به ليقطع
عن بنيه
|
|
خلافهم ويبتذلوا
الودادا
|
فقد غرس العداوة
غير آل
|
|
وأورث شمل
الفتهم بدادا
|
والقح بينهم
حربا عوانا
|
|
وسلس لاجتنابهم
القيادا
|
فويل للرعية عن
قليل
|
|
لقد أهدى لها
الكرب الشدادا
|
وألبسها بلاء
غير فان
|
|
وألزمها التضعضع
والفسادا
|
ستجري من دمائهم
بحور
|
|
زواخر لا يرون
لها نفادا
|
فوزر بلائهم
أبدا عليه
|
|
أغيا كان ذلك أم
رشادا
|
و المأمون وحزبه كانوا يدركون
ذلك :
وبعد .. فإنه من
الطبيعي جدا أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر ،
وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عند ما عزم الرشيد
على الذهاب إلى خراسان ، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون :
« لست تدري ما يحدث بالرشيد ، وخراسان ولايتك ، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما
يصنع بك أن يخلعك ؛ وهو ابن زبيدة ، وأخواله
__________________
بنو هاشم ، وزبيدة
، وأموالها .. » .. وتقدم أيضا قوله له : إن أهل بيته وبني أبيه ، والعرب
معادون له ..
والرشيد أيضا كان في قلق :
بل لقد صرح الرشيد
نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون ؛ فإنه قال لزبيدة ، عند ما عاتبته على
اعطائه الكراع والسلاح للمأمون : « إنا نتخوف ابنك على عبد الله ، ولا نتخوف عبد
الله على ابنك إن بويع .. » .
هذا بالاضافة إلى
تصريحات الرشيد السابقة ، والتي لا نرى حاجة إلى اعادتها ..
ولقد قال الرشيد ،
عند ما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين :
محمد لا تظلم
أخاك فإنه
|
|
عليك يعود البغي
إن كنت باغيا
|
ولا تعجلن الدهر
فيه فإنه
|
|
إذا مال
بالأقوام لم يبق باقيا
|
ومهما يكن من أمر
، فان الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها ، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد
مغلوبا على أمره ، من مختلف الجهات .. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض
بين لحظة وأخرى ، وكم كان يؤلمه شعوره هذا ، ويحز في نفسه .. حتى لقد ترجم مشاعره
هذه شعرا فقال :
__________________
لقد بان وجه
الرأي لي غير أنني
|
|
غلبت على الأمر
الذي كان أحزما
|
وكيف يرد الدّرّ
في الضرع بعد ما
|
|
توزع حتى صار
نهبا مقسما
|
أخاف التواء
الأمر بعد استوائه
|
|
وأن ينقض الحبل
الذي كان أبرما
|
على من يعتمد المأمون؟
وهكذا .. وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد
أخيه الأمين ، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم
، وأن يأمن أخاه وبني أبيه العباسيين ، أن لا يحلوا العقدة ، وينكثوا العهد ؛ فهل
يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم ، لو تعرض مركزه ووجوده للتهديد في وقت ما؟!.
ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟ .. وما هو موقفهم فعلا منه؟!
وكيف يستطيع أن يصل الى الحكم ، والسلطان؟! ومن ثم .. كيف يستطيع أن يحتفظ به ،
ويقوي من دعائمه؟!
إن نظرة شاملة على
الفئات الاخرى في تلك الفترة من الزمن ، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام
المأمون غير العلويين ، والعرب ، والايرانيين ..
فما هو موقف هؤلاء
منه ، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟. وكيف يستطيع أن يغير
ماجريات الامور لتكون في صالحه ، وعلى وفق مراده؟! ..
هذا هو السؤال
الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والاجابة عليه ، بكل دقة ووعي وإدراك ، وأن
يتحرك من ثم على وفق تلك الاجابة ،
__________________
وعلى مقتضى ذلك
الحل .. ولنلق أولا نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون ، ولنخلص من ثم
إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الأخطار والتحديات
، التي تنتظره ، وتنتظر نظام حكمه ، بصورة عامة .. فنقول :
موقف العلويين من المأمون :
أما العلويون ..
فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين ، خليفة
وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين ، وأحق بهذا الأمر ، ولأن المأمون
، وغيره ، كانوا من تلك السلالة ، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي ؛ لأنها
قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم ، كما تقدم .. فقد سفكت دماءهم ، وسلبتهم
أموالهم ، وشردتهم عن ديارهم ، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد .. ويكفي
المأمون عندهم : أنه ابن الرشيد ، الذي حصد شجرة النبوة ، واجتث غرس الإمامة ،
والذي قد عرفت طرفا من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول ..
موقف العرب من المأمون ، ونظام
حكمه :
وأما العرب :
فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضا ، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما
تقدم ..
أما أولا : فلأن
أمه ، ومؤدبه ، والقائم بأمره ، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما الله أعلم به ، من
تقديم أسلافه للموالي ، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر ، وأصبح العربي أذل من
نعجة ، وأحقر من الحيوان ..
قال المسعودي : «
.. وكان ( أي المنصور ) أول خليفة استعمل
مواليه وغلمانه في
أعماله ، وصرفهم في مهماته ، وقدمهم على العرب ؛ فامتثل ذلك الخلفاء من بعده ، من
ولده ، فسقطت ، وبادت العرب ، وزالت رئاستها ، وذهبت مراتبها .. » .
وقال ابن حزم ،
وهو يتحدث عن العباسيين : « .. فكانت دولتهم أعجمية ، سقطت فيها دواوين العرب ،
وغلبت عجم خراسان على الأمر ، وعاد الأمر كسرويا ، إلا أنهم لم يعلنوا بسبب أحد من
الصحابة رضوان الله عليهم .. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين .. ».
ويقول الجاحظ : «
.. دولة بني العباس أعجمية ، خراسانية ، ودولة بني مروان عربية .. ».
إلى آخر ما هنالك
، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة ، وامتهانهم. ويبدو أن ذلك من المسلمات.
وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين ، في الجزء الأول من ضحى الاسلام ـ البحث
في هذا الموضوع ؛ فمن أراد فليراجع مظان وجوده ..
وإذا ما عرفنا :
أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب ، وإبادتها ، واضطهادها على يد الفرس ،
الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك .. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد
العرب ، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة ، على الفرس ، وعلى كل من
يتصل بهم ، ويمت إليهم بسبب ؛ من قريب أو من بعيد ..
__________________
وأما
ثانيا : فلسيرة أسلافه
، وأبيه الرشيد بالخصوص ، في الناس عامة ، ومع أهل بيت نبيهم خاصة ، والتي قدمنا
شطرا منها في الفصول التي سبقت.
أما الأمين : فقد
كان له ـ إلى حدّ ما ـ شافع عندهم ؛ حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد
منحهم ثقته وحبه ، وقربهم إليه ، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم .. من جهة
ثانية ؛ فتوسموا فيه أن يجعل لهم ، شأنا وأن ينظر إليهم بغير العين ، التي كان
أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل : سوف لا تكون نظرته إليهم ، على حد
نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون ، وإن
كان المأمون أفضل ، وأسن منه ؛ فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين ، وأقل الضررين
.. حتى إن نصر بن شبث ، الذي كان هواه مع العباسيين ، لم يقم بثورته ضد المأمون ،
التي بدأت سنة ١٩٨ ه. واستمرت حتى سنة ٢١٠ ه. إلا انتصارا للعرب ، ومحاماة عنهم
؛ لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم ، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه .
وحتى في مصر أيضا
، قد ثارت الفتن بين القيسية ، المناصرة للأمين ، واليمانية المناصرة للمأمون ..
وقال أحمد أمين :
« .. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون ، وأغلب العرب تعصبوا للأمين .. » .
كما أننا نكاد لا
نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين ، الذين أشرنا إليهما ،
وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث ..
__________________
ولكن فردينان توتل
يرى في منجد الاعلام : أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن : « المأمون لم يستطع أن
يجعل العرب يحبونه ؛ حيث إنه كان يظهر ميلا للايرانيين ، ويقربهم إليه. وقد أعانه
الايرانيون في مبارزاته ، وحروبه ، وخصوصا الخراسانيين منهم .. ».
ولكن الذي يبدو لي
هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للايرانيين ، وتحببه
للخراسانيين ، وانما عكس ذلك هو الصحيح ؛ فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا
بعد أن فرغت يده من العرب ، وأهل بيته ، والعلويين ..
لا بد من اختيار خراسان :
وبعد أن فرغت يد
المأمون من بني أبيه ، والبرامكة ، والعرب ، والعلويين ، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد
له يد العون والمساعدة ، وتكون سلما لأغراضه ، واداة لتحقيق أهدافه ومآربه .. ولم
يبق أمامه غير خراسان ؛ فاختارها ، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر
لهم الميل والحب ، وتقرب إليهم ، وقربهم إليه ، وأراهم : أنه محب لما ولمن يحبون ،
وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عند ما علم منهم الميل إلى العلويين ، والتشيع لهم
، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين ، ومتشيع لهم ..
كما أنه كان من
جهة ثانية قد قطع لهم على نفسه الوعود والعهود ، بأن يرفع
__________________
الظلم والحيف عنهم
، ويرد عنهم الكيد ، الأمر الذي جعلهم يثقون به ، ويطمئنون إليه ، ويعلقون كل
آمالهم عليه ..
تشيع الايرانيين :
هذا .. وليس تشيع الايرانيين
بالأمر الذي يحتاج إلى اثبات ، بعد أن تقدم معنا : أن دولة العباسيين ما قامت إلا
على أساس الدعوة للعلويين ، وأهل البيت .. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون
النياحة على « يحيى بن زيد » سبعة أيام ، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى
سمي بـ « يحيى » .. بل يذكر البلاذري : أنه لما استشار المنصور عيسى بن
موسى في أمر محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، فأشار عليه بأن يولي المدينة
رجلا خراسانيا ، قال له المنصور : « يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل
خراسان ممتزجة بمحبتنا ، وإن وليت أمرها رجلا من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه
وبين طلبهما ، والفحص عنهما ، ولكن أهل الشام قاتلوا عليا على أن لا يتأمر عليهم
لبغضهم إياه الخ .. » .
وقد تقدم معنا :
كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور ، حين دخلها الإمام الرضا ، وسيأتي في فصل :
خطة الإمام ، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس .. ولقد عرفنا أيضا
: كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عند ما أرادوا قتله ، انتقاما للفضل بن
سهل ..
__________________
بل لقد بلغ من حب
الايرانيين لأهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه ، لو أنه أراد أن
يرجع عن البيعة للامام الرضا بولاية العهد .
ويقول جرجي زيدان
: « وكان الخراسانيون ، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم ، قبل قيام الدولة
العباسية ، من شيعة علي ؛ وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفا منه ..
» .
وقال أحمد أمين :
« .. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع .. » .
ويقول الدكتور
الشيبي : « .. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع ، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولا ،
ثم المنصور ، ثم الرشيد .. » .
ويقول أحمد شلبي :
« .. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد ، هو أنه يريد أن يحقق آمال
الخراسانيين ، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل .. » .
ما هو سرّ تشيّع الايرانيين؟
يقول السيد أمير
علي ، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة : « .. وقد أظهر الامام علي
منذ بداية الدعوة الاسلامية
__________________
كل تقدير ، ومودة
نحو الفرس ، الذين اعتنقوا الاسلام. لقد كان سلمان الفارسي ، وهو أحد مشاهير أصحاب
الرسول ، رفيق علي وصديقه ، وكان من عادة الإمام أن يخصص نصيبه « النقدي » في
الانفال لافتداء الأسرى. وكثيرا ما أقنع الخليفة عمر بمشورته ؛ فعمد إلى تخفيف عبء
الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لأحفاده واضحا تمام الوضوح .. » .
ويرى فان فلوتن :
ان من أسباب ميل الخراسانيين ، وغيرهم من الايرانيين للعلويين ، هو أنهم لم
يعاملوا معاملة حسنة ، ولا رأوا عدلا إلا في زمن حكم الإمام علي (ع) ..
أما الاستاذ علي
غفوري فيرى : أن الايرانيين كانوا قبل الاسلام يعاملون بمنطق : أن
الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة ، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون : كيف؟
ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء ؛ فاعتنقوه بكل رضى وأمل ،
وبدأ جهادهم في سبيل اقامة حكومة اسلامية حقيقية.
وبما أن أولئك
الذين تسلموا زمام الامور ـ باستثناء الإمام علي طبعا ـ كانوا منحرفين [ المقصود
هنا بالطبع هو خلفاء الامويين ] عن الاسلام ، وتعاليمه ، ويحاولون تلبيس عاداتهم
الجاهلية ، حتى التمييز القبلي ، والعرقي بلباس الاسلام ، واعطائها صفة القانونية
والشرعية .. فان الايرانيين لم يجدوا أهداف الاسلام ، وتعاليمه في تلك الحكومات ؛
ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي ، والأئمة من ولده ، الذين تعدى الآخرون
على حقوقهم بالخلافة ، والذين كان سلوكهم المثالي هو
__________________
المرآة الصافية ،
التي تنعكس عليها تعاليم الإسلام وأهدافه ، ويمثلون الصورة الحقيقية للاسلام على
مدى التاريخ ، وكان صدى علمهم ، وزهدهم ، واستقامتهم يطبق الخافقين ، وخصوصا
الصادق والرضا ، الذي اهتبل والفرصة إبان الخلاف بين الأمين والمأمون لنشر تعاليم
الإسلام ، وتعريف الناس على الحقائق ، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد.
لكن لم يكن يروق
للقوى الحاكمة ، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام ، وتتعرف عليها
الامة الإسلامية ، وعلى فضائلها ، وكمالاتها ؛ لأن الناس حينئذ سوف يدركون الواقع
المزري لأولئك الحكام ، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الامة ،
وامكاناتها ؛ وإذا أدركوا ذلك فان من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة ،
ومساعدة أية نهضة ، أو ثورة من قبلهم ؛ ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم
ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس ، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة ، وفي أحيان كثيرة في
غياهب السجون .. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة ، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون
أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون ..
عود على بدء :
وعلى كل حال ..
فان ما يهمنا هنا هو مجرد الاشارة إلى تشيّع الايرانيين ، الذي حاول المأمون أن
يستغله لمصالحه وأهدافه .. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين ، وتحببه لهم ،
وتقربه منهم ، وتظاهره بالحب لعلي (ع) وذريته ، الثمار المرجوة منها ؛ لأن
الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون ،
ويضطهدون كل من عرفوه مواليا لأهل البيت محبا لهم ، ابتداء من المنصور ، بل السفاح
، وانتهاء بالرشيد ، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن
يسمع لعلوي ذكرا
في خراسان في زمانه .. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك ، وفي سبيله ، حسبما تقدم
..
كما أنهم ـ أعني
الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة ، الذين
ساموهم شتى ضروب العسف ، والظلم والعذاب. والذين لم يكن يهمهم غير مصالحهم ،
وارضاء شهواتهم وملذاتهم ، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ ..
قد وثقوا إلى حد
ما بوعود المأمون تلك ، التي كان يغدقها عليهم ، وعلى غيرهم بدون حساب ، وأمنوا جانبه
؛ فكانوا جنده ، وقواده ، ووزراءه المخلصين ، الذين اخضعوا له البلاد ، وأذلوا له
العباد ، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار ، التي كان يطمح إلى
الوصول إليها ، والسيطرة عليها ..
كيف يثق العرب بالمأمون؟!
وهكذا إذن .. يتضح
أن ميل المأمون للايرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة ، استغلها المأمون أحسن ما
يكون الاستغلال ، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم ، ويتربع على عرش الخلافة ، بعد أن
قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب ، وقضى على اشياعه بسيوف غير العرب ، وذلك
ذنب آخر لن يسهل على العرب الاغضاء عنه أو غفرانه.
ثم ولى على بغداد
رجلا غير عربي ، هو الحسن بن سهل ، أخو الفضل بن سهل ، الذي تكرهه بغداد والعرب كل
الكره ..
ثم إنه بعد هذا
كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية ، وليس بغداد العاصمة العربية الاولى التي خربها
ودمرها .. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية
العربية إلى امبراطورية
فارسية ، وخصوصا
إذا لاحظنا : أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم .. وقد اثبتوا جدارتهم ،
وأهليتهم في مختلف المجالات ، وخصوصا السياسة ، وشئون الحكم.
قتل الأمين وخيبة الأمل :
وإن قتل الأمين ،
وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصارا عسكريا للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا
نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون ، وأهدافه ، ومخططاته .. سيما بملاحظة
الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين ، الذي كان قد أصدر الأمر
لطاهر بالأمس بأن يقتله .. حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد
لله شكرا!! ـ ألف ألف « أي مليون » درهم .. ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار ، وأمر كل
من قبض رزقه أن يلعنه ؛ فكان الرجل يقبض ، ويلعن الرأس ، ولم ينزله حتى جاء رجل
فلعن الرأس ، ولعن والديه ، وما ولدا ، وأدخلهم في « كذا وكذا » من أمهاتهم. وذلك
بحيث يسمعه المأمون ؛ فتبسم ، وتغافل ؛ وأمر بحط الرأس !!.
ويا ليته اكتفى
بكل ذلك .. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان
__________________
أرسل إلى ابراهيم
بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الأمين ، ورثاه !!
فما ذا ننتظر بعد
هذا كله ، وبعد ما قدمناه : أن يكون موقف العباسيين ، والعرب ، بل وسائر الناس منه
..
إن أيسر ما نستطيع
أن نقوله هنا هو : أنه كان لقتله أخاه ، وفعاله الشائنة تلك .. أثر سيّئ على سمعته
، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس ، به ، وتأكيد نفورهم منه ، سواء في ذلك العرب ، أو
غيرهم ..
وقد استمر ذلك
الأثر أعواما كثيرة ، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس ، ورجع إلى بغداد ..
فقد جلس مرة يستاك
على دجلة ، من وراء ستر ؛ فمر ملاح ، وهو يقول : « أتظنون أن هذا المأمون ينبل في
عيني ، وقد قتل أخاه؟! ».
قال : فسمعه
المأمون ؛ فما زاد على أن تبسم ، وقال لجلسائه :
« ما الحيلة عندكم
، حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل .. » .
وقال له الفضل بن
سهل ، عند ما عزم على الذهاب إلى بغداد :
« ما هذا بصواب ؛
قتلت بالأمس أخاك ، وأزلت الخلافة عنه ، وبنو أبيك معادون لك ؛ وأهل بيتك والعرب
.. إلى أن قال : والرأي ،
__________________
أن تقيم بخراسان ،
حتى تسكن قلوب الناس على هذا ، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك .. » .
المأمون في الحكم :
وإذا ما أردنا أن
نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني ؛ فإننا سوف نرى أنه لم يكن
موفقا في سياسته مع الناس ، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون ، بالأخص أهل خراسان
؛ حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد ، التي كان يمارسها أسلافه
مع الرعية .. بل لعله زاد عليهم ، وسبقهم أشواطا بعيدة في ذلك.
أما سياسته مع العرب :
فالمأمون ، وان
استطاع أن يصل الى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب ، خصوصا إذا لاحظنا
بالاضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان « كيف يثق العرب بالمأمون ». ما نالهم منه ، ومن
عماله ، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة ، التي
شنها ضد أخيه الأمين ـ فان ذلك يفوق كل وصف ، ويتجاوز كل تقدير ؛
__________________
حتى لقد وصف : «
ديونيسيوس » جباة الخراج في العراق في سنة ( ٢٠٠ ه. ) بأنهم : « قوم من العراق ،
والبصرة ، والعاقولاء. وهم عتاة ، ليس في قلوبهم رحمة ، ولا إيمان ، شر من
الأفاعي. يضربون الناس ، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد ، حتى يكاد
يموت » .
والايرانيون أيضا لم يكونوا
أحسن حالا :
ولم يكن حال
الايرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق.
ويذكره الجاحظ :
أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف « فتحامل على الناس ، واستعمل فيهم
الأحقاد والدمن ؛ فخفض الأرزاق ، وأسقط الخواص ، وبعث في الكور ، وأنحى على أهل
الشرف والبيوتات ، حسدا لهم ، وإشفاء لغليل صاحبه منهم ، فقصد لهم بالمكروه
والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء ، وتركوا أسماءهم ، وطائفة
انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان ، فسقط بذلك السبب بشر كثير .. » .
يقول الجنرال جلوب
وهو يتحدث عن المأمون : « .. وراح يلقي خطبته الاولى في الناس ؛ فيعدهم بأن يكون
حكمه فيهم طبقا للشرع ، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود
التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن
تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس ؛ إذ أن الخليفة ما لبث أن نسيها .. » .
__________________
ويكفي أن نشير هنا
إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان ، والري ، وأصبهان ، وعزّ الطعام ، ووقع الموت
، وذلك في سنة ٢٠١ للهجرة ..
المأمون مع الرعية عموما :
وعن حالة المأمون
العامة مع الناس يقول فان فلوتن :
« .. ولم يكن جور
النظام العباسي وعسفه ، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الاموي المختل.
وتذكرنا شراهة المنصور ، والرشيد ، والمأمون ، وجشعهم ، وجور أولاد علي بن عيسى ،
وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج ، وهشام ، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا
البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد ، ومقدار انخداعهم به .. »
، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك ، ثم يقول : « .. كل ذلك يبين
أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني
أمية الأول .. » .
قال ابن الجراح :
إن ابراهيم بن المهدي كان : « يرمي المأمون بأمه ، وإخوته ،
وأخواته ، ومن أيسر ذلك قوله :
صدّ عن توبة وعن
إخبات
|
|
ولها بالمجون
والقينات
|
ما يبالي إذا
خلا بأبي عي
|
|
سى وسرب من بدّن
أخوات
|
أن يغص المظلوم
في حومة الجو
|
|
ر بداء بين
الحشا واللهاة
|
__________________
وما يهمنا هنا هو
البيت الأخير ، أما ما قبله ، فلا نملك إلا أن نقول : « أهل البيت أدرى بالذي فيه
.. » ..
وعلى كل حال ..
فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور .. بعد أن رأينا أنه عند ما
عرضت عليه سيرة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي (ع) ، يأبى أن يأخذ بها جميعا ،
لأنه كان يجد في آخر كل منها : أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها ، ويضعونها في
حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية ، الذي أراد الاعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير ؛
لأن في آخرها يقول : إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها ، ويضعها كيف شاء .. ، وقال
المأمون حينئذ : « إن كان فهذا »!! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه
الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.
وما ذا بعد الوصول إلى الحكم :
وهكذا .. فإن
المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه ، وتخلص من من أشياعه ومساعديه ، وبعد أن تؤتي
الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له
للاستقرار في الحكم ، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن ، وينام قرير العين.
ولكن فأله قد خاب
، وانقلبت ماجريات الامور في غير صالحه ؛ فإن الايرانيين قد : « انفضوا بعد الحرب
الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون ، عن
__________________
تأييد العباسيين
.. » . انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم ، وتأييدهم ؛ لأنهم يعرفون أنهم
هم الذين يقيمون العدل ، ويعملون بشريعة الله ـ وما موقف نيسابور ، وصلاتي العيد ،
إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة ، وذلك الحب والتقدير. وأيضا انفضوا
عنه لأنه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي ، وعرفهم بواقعه الأناني البشع ، وخصوصا بعد
أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد ، في ظل نظام الحكم
الذي طالما عملوا من أجله ، وضحوا في سبيله ..
وحتى لو أنهم
كانوا لا يزالون على تأييدهم له ، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك
التأييد ، وعلى ثقتهم به طويلا ؛ فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه ،
وغيرهم ، ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء .. كما أنه أصبح
من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الاولى معه ، ومع وعوده ، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن
يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال ، ولسوف لا يطمئنون إليه ، ولن
ينقادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها ..
الموقف الصعب :
كانت تلك لمحة
خاطفة عن موقف العباسيين ، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف ، الذي كان يزداد
حساسية وتعقيدا ، يوما عن يوم. أضف إلى ذلك أيضا الخطر الذي كان يكمن في موقف
الخراسانيين ، الذين رفعوا المأمون على العرش ، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان
..
وإذا ما أضفنا إلى
ذلك كله ، موقف العلويين ، الذين اغتنموا فرصة
__________________
الصدام بينه وبين
أخيه ، لتجميع صفوفهم ، ومضاعفة نشاطاتهم ، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة
لحقيقة الوضع والظروف ، التي كان يعاني منها المأمون ، ونظام حكمه آنذاك .. سيما
ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة ، وبالأخص ثورات العلويين أقوى خصوم
الدولة العباسية ، والتي كانت تظهر من كل جانب ومكان ، وكل ناحية من نواحي مملكته
..
ثورات العلويين .. وغيرهم :
فأبو السّرايا ـ الذي
كان يوما ما من حزب المأمون ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشا إلا هزموه ،
ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها .
ويقال : إنه قد
قتل من أصحاب السلطان ، في حرب أبي السرايا فقط ، مائتا ألف رجل ، مع أن مدته من يوم
خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر .
وحتى البصرة ،
معقل العثمانية ، قد أيدت العلويين ، ونصرتهم ؛
__________________
فقد خرج فيها زيد
النار ، ومعه علي بن محمد ، كما خرج منها من قبل على المنصور ابراهيم بن عبد الله
..
وفي مكة ، ونواحي
الحجاز : خرج محمد بن جعفر ، الذي كان يلقب ب : « الديباج » وتسمى ب : « أمير
المؤمنين » ..
وفي اليمن :
ابراهيم بن موسى بن جعفر ..
وفي المدينة : خرج
محمد بن سليمان بن داود ، بن الحسن بن الحسين ، ابن علي بن أبي طالب ..
وفي واسط : التي
كان قسم كبير منها يميل إلى العثمانية ـ خرج جعفر ابن محمد ، بن زيد بن علي.
والحسين بن ابراهيم ، بن الحسن بن علي ..
وفي المدائن :
محمد بن اسماعيل بن محمد ..
بل إنك قد لا تجد
قطرا ، إلا وفيه علوي يمني نفسه ، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص
عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة ، والشام ، المعروفة بتعاطفها مع
الامويين ،
__________________
وآل مروان .. إلى
محمد بن محمد العلوي ، صاحب أبي السرايا ؛ فكتبوا إليه : أنهم ينتظرون أن يوجه
إليهم رسولا ؛ ليسمعوا له ، ويطيعوا ..
وأما ثورات غير
العلويين ، فكثيرة أيضا ، وقد كان من بينها ما يدعو إلى : « الرضا من آل محمد » ،
كثورة الحسن الهرش سنة ١٩٨ ه. وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها
فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المعترضة لها ..
الزعيم العباسي الأول يعترف :
هذا مع أن أكثر
تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين ، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي
الأول : محمد بن علي بن عبد الله ، والد ابراهيم الامام ، حيث قال لدعاته :
« .. أما الكوفة
وسوادها : فهناك شيعة علي ، وولده. وأما البصرة ، وسوادها : فعثمانية ، تدين
بالكف. وأما الجزيرة : فحرورية مارقة ،
__________________
وأعراب كأعلاج ،
ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام : فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان ،
وطاعة بني مروان ، عداوة راسخة ، وجهل متراكم. وأما مكة والمدينة : فغلب عليهما
أبو بكر ، وعمر ؛ ولكن عليكم بأهل خراسان الخ .. » .
ونقل عن الأصمعي
أيضا كلام قريب من هذا ..
دلالة هامة :
ومن بعض ما قدمناه
في الفصول المتقدمة ، سيما فصل : موقف العباسيين من العلويين ، وأيضا مما ذكرناه
هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم ، قد أصبح من الامور المسلمة
لدى الناس ، في القرن الثاني ، الذي يعد من خير القرون .. حيث لم تكن عقيدة عامة
الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم ، والتي أشرنا
إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية .. وعليه .. فما يدعيه أهل السنة اليوم من
أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يدا بيد ، إلى عصر النبي (ص) غير صحيح على
الاطلاق. بل إن الشيخ محمد عبده يرى : ان رسوخ عقيدة « ان حق الخلافة لأهل البيت ،
وشيوع ذلك في العرب خاصة ». هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك ،
وغيرهم من العجم ، يقول الشيخ محمد عبده : « كان الإسلام دينا عربيا ، ثم لحقه
العلم فصار علما عربيا ، بعد أن كان
__________________
يونانيا ، ثم أخطأ
خليفة في السياسة ، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا : ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي ؛ لأن العلوي الصق ببيت النبي (ص) ؛ فأراد
أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الامم التي ظن أنه يستعبدها
بسلطانه ، ويصطنعها باحسانه ؛ فلا تساعد الخارج عليه ، ولا تعين طالب مكانه من
الملك .. » .
عود على بدء :
وعلى كل حال ..
فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات ، التي كانت تواجه الحكم العباسي ، فإننا سوف
نجد : أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين ، لانها كانت تظهر في
مناطق حساسة جدا في الدولة ؛ ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة
، والجدارة الحقيقية ، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب ..
وكان في تأييد
الناس لهم ، واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الامة ، بمختلف
طبقاتها ، وفئاتها تجاه حكم العباسيين ، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم ، وعلى مدى
الغضب الذي كان يستبد بالنفوس ؛ نتيجة استهتار العباسيين ، وظلمهم ، وسياساتهم
الرعناء ، مع الناس عامة ، ومع العلويين بشكل خاص ..
وقد كان المأمون يعلم
أكثر من أي شخص آخر ، كم سوف يكون حجم الكارثة ، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي
اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه ، لتحكيم مركزه ، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم ..
__________________
الناس لم يبايعوا المأمون كلهم
بعد :
وبعد كل ما تقدم
.. فإن من الأهمية بمكان ، أن نشير هنا ، إلى أن العلويين ، وقسما كبيرا من الناس
، بل وعامة المسلمين ، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلا :
فأما أهل بغداد ؛
فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر ، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في
رسالته ، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد ..
وأما أهل الكوفة ـ
التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له ، بل بقوا على الخلاف عليه ، إلى
أن ذهب أخو الإمام الرضا (ع)!! العباس بن موسى ، يدعوهم ، فقعدوا عنه ، ولم يجبه
إلا البعض منهم ؛ وقالوا : « إن كنت تدعو للمأمون ، ثم من بعده لأخيك ؛ فلا حاجة
لنا في دعوتك ، وإن كنت تدعو إلى أخيك ، أو بعض أهل بيتك ، أو إلى نفسك ؛ أجبناك
.. » .
ويلاحظ
هنا : كيف قد اختير
رجل علوي ، وأخو الإمام الرضا (ع) بالذات ؛ ليرسل إلى الكوفة ، المعروفة بالتشيع
للعلويين .. ويلاحظ أيضا : أن رفضهم الاستجابة له ، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن
الدعوة للمأمون العباسي.
وأما أهل المدينة
، ومكة ، والبصرة ، وسائر المناطق الحساسة في
__________________
الدولة ، فقد تقدم
ما يدل على حقيقة موقفهم منه ، ومن نظام حكمه .. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده ،
في وثيقة العهد للامام يقول : « .. ودعا أمير المؤمنين ولده ، وأهل بيته ، وقواده
، وخدمه ؛ فبايعوا مسارعين .. إلى أن قال : فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين ،
ومن بالمدينة المحروسة ، من قواده ، وجنده ، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين ،
وللرضا من بعده ، علي بن موسى .. » والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.
فقوله : « لأمير
المؤمنين ، وللرضا من بعده .. » يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد
بايعوا بعد : « لأمير المؤمنين » ، فضلا عن : « أهل المدينة المحروسة .. ».
وحتى لو أنهم
كانوا قد بايعوا له ؛ فان بيعتهم هذه ، وجودها كعدمها ؛ إذ أن عصيانهم ، وتمردهم
عليه ، وعلى حكمه ، لم يكن ليخفى على أحد .. بعد ما قدمناه من ثوراتهم تلك ، التي
كانت تظهر من كل جانب ومكان ، وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما
كانت تدعو إليه تلك ، أي إلى : « الرضا من آل محمد » ، أو إلى أحد العلويين ،
الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم ، وقوتهم ، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار
يوما عن يوم .. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان ..
نعم بعد أن عاد
إلى بغداد ، وكان قد قوي أمره ، واتسع نفوذه ، بدأ الناس يبايعونه في الاقطار ،
ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهريا ، وأنهم كانوا في السر معه ، وعلى ولائه ،
على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه ..
المأمون يدرك حراجة الموقف :
تلك هي باختصار
حالة الحكم العباسي بشكل عام ، وحالة المأمون ، وظروفه في الحكم بشكل خاص .. في
تلك الفترة من الزمن .. وقد اتضح لنا بجلاء : أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون ،
ونظام حكمه ، قد ازداد سوءا ، بعد وصول المأمون إلى الحكم ، وتضاعفت الأخطار ،
التي كان يواجهها ، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح ، وتحت رحمة الأنواء .. وإذا
كان ليس من الصعب علينا : أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون ، وخلافته ،
وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام .. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من
الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق ، إلى أي حد كان مركزه
ضعيفا ، وموقفه حرجا ؛ حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك
الخضم الزاخر بالمشاكل ، والمتاعب ، والأخطار. وخصوصا وهو يواجه الثورات ، وبالأخص
ثورات العلويين ، أقوى خصوم الدولة العباسية ، تظهر من كل جانب ومكان ، وكل ناحية
من نواحي مملكته .. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي
يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء ، التي انتهجها اسلافه ، مع الناس
عامة ، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد
الإهمال ، والتواني في علاج الوضع ، سوف يكون من ابسط نتائجه أن تلقى خلافة
العباسيين على ايدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الامويين على أيدي
أسلافه من قبل ..
ما ذا يمكن للمأمون أن يفعل :
ولكن .. وبعد أن
نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه ، وهو
الحكم والسلطان ،
وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه ، ولا العلويون ، ولا العرب ، وإذا كان حتى غير
العرب ، ضعفت ثقتهم به ، وتزعزع مركزه في نفوسهم.
وأيضا .. إذا كانت ثورات العلويين ، فضلا عن غيرهم .. تظهر من كل
جانب ومكان .. وإذا كان الكثيرون ، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد .. وهكذا
إلى آخر ما تقدم .. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف ، والانواء التي
تتهدده ، ونظام حكمه ، مكتوف اليدين؟!.
وما ذا يمكن
للمأمون بعد هذا أن يفعل ، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان ، الذي هو أعز ما في
الوجود عليه؟! ..
هذا ـ ما سوف نحاول الاجابة عليه في الفصل التالي.
ظروف البيعة وأسبابها
إنقاذ الموقف!!. كيف؟!
قد قدمنا في الفصل
السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم ، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوما
عن يوم .. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك ، والعمل بسرعة ، شرط أن لا يزيد
الفتق اتساعا ، والطين بلة .. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء ، في سبيل
انقاذ نفسه ، ونظام حكمه ، وخلافة العباسيين بشكل عام ..
وكان المأمون يدرك
: أن إنقاذ الموقف يتوقف على :
١ ـ إخماد ثورات
العلويين ، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير ، ولهم نفوذ واسع في جميع
الفئات والطبقات ..
٢ ـ أن يحصل من العلويين
على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين ، وليكون بذلك قد افقدهم سلاحا قويا ، لن يقر
له قرار ، إلا إذا افقدهم إياه ..
٣ ـ استئصال هذا
العطف ، وذلك التقدير والاحترام ، الذي كانوا يتمتعون به ، وكان يزداد يوما عن يوم
ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائيا ، والعمل على تشويهم أمام الرأي العام ، بالطرق
، والأساليب
التي لا تثير
الكثير من الشكوك والشبهات ؛ حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك ؛ ولا يجدون
المؤيدين لأية دعوة لهم ؛ وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائيا ـ سهلا وميسورا ..
٤ ـ اكتساب ثقة
العرب ومحبتهم ..
٥ ـ استمرار تأييد
الخراسانيين ، وعامة الايرانيين له.
٦ ـ إرضاء
العباسيين ، والمتشيعين لهم ، من أعداء العلويين.
٧ ـ تعزيز ثقة
الناس بشخص المأمون ، الذي كان لقتله أخاه أثر سيّئ على سمعته ، وثقة الناس به ..
٨ ـ وأخيرا .. أن
يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة ، التي كانت تملأ جوانبه فرقا ،
ورعبا. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضا (ع) ، وأن يمهد
الطريق للتخلص منها ، والقضاء عليها ، قضاء مبرما ، ونهائيا ..
لا بد من الاعتماد على النفس :
وبعد
هذا .. فإن من الواضح
أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد ، أنه :
لم يكن يستطيع أن
يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين ، بني أبيه ، بعد أن كانوا ينقمون عليه ،
قتله أخاه ، العزيز عليهم ، وعلى العرب ، وبعد مواقفه ، التي تقدم بيان جانب منها
تجاههم .. وأيضا .. بعد أن كانوا لا يثقون به ، ولا يأمنون جانبه ، بسبب موقفهم
السابق منه ..
والأهم من ذلك أنه
لم يكن فيهم الرجال الكفاة ، الذين يستطيع
أن يعتمد عليهم . يدلنا على ذلك
أنهم بعد أن ثاروا على المأمون ، بسبب بيعته للرضا 7 ، لم يجدوا فيهم شخصا أعظم ، وأكفأ من ابن شكلة المغني ،
فبايعوه ، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط .. وفيه يقول دعبل :
نعر ابن شكلة
بالعراق وأهله
|
|
فهفا إليه كل
أطلس مائق
|
إن كان ابراهيم
مضطلعا بها
|
|
فلتصلحن من بعده
لمخارق
|
ولتصلحن من بعد
ذاك لزلزل
|
|
ولتصلحن من بعده
للمارق
|
أنى يكون ، وليس
ذاك بكائن
|
|
يرث الخلافة
فاسق عن فاسق
|
كما أنه عند ما
أصبح ابراهيم هذا خليفة ، قال بعض الأعراب ، عند ما جاء الخبر بأنه : لا مال عند
الخليفة ليعطي الجند ، الذين ألحوا في طلب اعطياتهم ، قال : « فليخرج الخليفة
إلينا ، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات ، فتكون عطاءهم ، ولأهل هذا الجانب
مثلها .. »
فقال في ذلك دعبل
ـ شاعر المأمون ـ يذم ابراهيم بن المهدي :
يا معشر الاجناد
لا تقنطوا
|
|
خذوا عطاياكم ،
ولا تسخطوا
|
فسوف يعطيكم
حنينية
|
|
لا تدخل الكيس ،
ولا تربط
|
والمعبديات
لقوادكم
|
|
وما بها من أحد
يغبط
|
فهكذا يرزق
أصحابه
|
|
خليفة مصحفه
البربط
|
__________________
وإذا كان لا
يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين ، فبالأحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حلّ
مشاكله بالعلويين ، والمتشيعين لهم ، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له ،
والذين يخلقون له أعظم المشاكل ، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات ..
وأما العرب : فهو
أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه ..
والخراسانيون : لا
يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا ، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الاناني
البشع ، بقتله أخاه ، وإبعاده طاهرا بن الحسين ، مشيد أركان حكمه ، عن مسرح
السياسة : « ولقد ذكره الرضا بذلك ، عند ما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك
.. ». ثم هناك ما تعرضوا له من ظلم وحيف
أي الاساليب أنجع :
وبعد ذلك .. فانه
من الواضح أنه :
لم يكن لينقذ
الموقف القسوة والعنف ، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني ..
ولا المنطق
والحجاج ، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الامة ، بتشجيع من خلفائها ، من أن
السبب في استحقاق الخلافة ، هو القربى النسبية منه (ص) ـ إن العلويين بناء على هذا
: أقوى حجة من العباسيين ، لأنهم يمتلكون اعترافا صريحا منهم بأن المستحق للخلافة
هو
__________________
الأقرب نسبا إلى
النبي (ص) ..
هذا .. وإذا ما أراد العباسيون ، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية
والجدارة لقيادة الامة ، فان العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك ، وذلك لما كانوا
يتمتعون به من الجدارة والاهلية الذاتية لقيادة الامة قيادة صالحة وسليمة ..
وأما
النص فمن هو ذلك الذي
يجرأ على الاستدلال به ، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي ، وأئمة أهل البيت منهم
بالخصوص.
وهكذا .. نرى ويرى المأمون : أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك
الأساليب ، ولا غيرها من الطرق والاساليب الملتوية ، واللاإنسانية ، التي اتبعها
أسلافة من قبل ..
وإذن .. فلا بد
وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.
والسؤال
هو : ما ذا يمكن
للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه ، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء ،
وليس قبله ، ولا بعده شيء .. حتى لا يطمع فيه طامع ، ولا تزعزعه العواصف ، ولا
تنال منه الأنواء ، مهما كانت هو جاء وعاتية؟! ..
خطة المأمون :
وكان أن اتبع
المأمون من أجل انقاذ موقفه ، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية .. ومن أجل
الاحتفاظ بالخلافة لنفسه ، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوبا جديدا ،
وغريبا ، لم يكن مألوفا ، ولا معروفا من قبل .. وأحسب أنه لم يتوصل إليه إلا بعد
تفكير طويل ، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه ، والمشاكل التي كان يواجهها
..
لقد كانت خطته
غريبة وفريدة من نوعها ، وكانت في غاية الاتقان ، والاحكام في نظره ..
فبينما نراه من
جهة :
لا يذكر أحدا من
الخلفاء ، ولا غيرهم من الصحابة بسوء ، بل هو يتخرج حتى من المساس بغير الصحابة ،
وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين ، وتعاليم الشريعة ، معروفا
ومشهورا « كالحجاج ابن يوسف »! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي
معهم فكريا وسياسيا ، ومصلحيا. والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي ،
والحصن الحصين ..
فاستمع إليه يقول
ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له : « .. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا
بانتقاص غيره من السلف! والله ، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف ؛ فكيف بالسلف
الطيب؟! » .
وكذلك نراه يركن
إلى رأي يحيى بن أكثم ، الذي قال له ـ عند ما أراد الاعلان بسبب معاوية على
المنابر ـ : « والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه ، ولا تظهر أنك تميل إلى
فرقة من الفرق ؛ فإن ذلك أصلح في السياسة ، وأحرى في التدبير .. » ، ثم يدخل عليه
ثمامة ؛ فيقول له المأمون : « يا ثمامة ، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية. وقد
عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة ، وأبقى ذكرا في العامة الخ .. » .
وأيضا .. نرى شعره
الذي يرويه لنا غير واحد :
أصبح ديني الذي
أدين به
|
|
ولست منه الغداة
معتذرا
|
حب علي بعد
النبي ولا
|
|
أشتم صديقا ولا
عمرا
|
__________________
ثم ابن عفان في
الجنان مع
|
|
الابرار ذاك
القتيل مصطبرا
|
ألا ولا أشتم
الزبير ولا
|
|
طلحة إن قال
قائل غدرا
|
و عائش الام لست
أشتمها
|
|
من يفتريها فنحن
منه برا
|
ونراه أيضا يتجسس
على عبد الله بن طاهر ؛ ليعلم : هل له ميل إلى آل أبي طالب أولا .
ونراه يقدم على
قتل الرضا (ع) ، وإخوته ، وآلاف من العلويين غيرهم ، ويصدر أمرا لامرائه ، وقواده
بالقضاء عليهم ، وفض جمعهم ، بعد أن منعهم من ملاقاته ، ومن الدخول عليه كما
سيأتي.
ونراه كذلك ..
يرسل إلى عامله على مصر ، يأمره بغسل المنابر ، التي دعي عليها لعلوي ( هو الإمام
الرضا (ع) ) .. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه ..
بينما نراه كذلك
..
نراه من جهة ثانية
يقدم على الاعلان
ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل علي (ع)
، والبراءة من معاوية دينا رسميا ، يحمل الناس كلهم عليه ، كما كان الحال بالنسبة
لقضية خلق القرآن ..
والاعلان بسب
معاوية ، وإن كان الاقدام عليه في سنة ٢١٢ ه. لكن تفضيله عليا ، على جميع الخلق ،
وتقربه لولده ، وإظهاره التشيّع
__________________
والحب لهم إنما كان من أول
أيامه .. يدلنا على ذلك أمور كثيرة ، ويكفي هجاء ابن شكلة له ، وهجاؤه لابن شكلة
شاهدا على ذلك .. فضلا عن الكثير من الامور الاخرى غيره.
ثم نراه بعد ذلك
يبيح المتعة ، ويصف الخليفة الثاني ، عمر بن
__________________
الخطاب بـ « جعل »
، أو نحو ذلك ..
ونراه أيضا أنه
عند ما سأل أصحابه عن : أنبل من يعلمون نبلا ، وأعفهم عفة ، فقال له علي بن صالح :
« أعرف القصة في عمر بن الخطاب ، فأشاح بوجهه ، وأعرض ، وذكر كلاما ليس من جنس هذا
الكتاب ، فنذكره ، إلخ .. » على حد تعبير البيهقي .. وذكر طيفور : أن أبا عمر الخطابي
دخل على المأمون ؛ فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون : إلا أنه غصبنا ، فقال له
أبو عمر يا أمير المؤمنين ، يكون الغصب الا بحق يد فهل كانت لكم يد ، قال فسكت
المأمون عنه ، واحتملها له .
ولكن اعتراض
الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال؟ أم هي حق جعله الله لهم؟
ولا ندري سر سكون المأمون عنه ، واحتماله منه ، إلا ما قدمناه ..
بل إن الأهم من
ذلك كله .. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة ، وغيرهم من الصحابة بأنهم : « ملحدين »
، ناسيا ، أو متناسيا كل أقواله السابقة ، وخصوصا شعره ، وقوله : إنه يتحرج حتى من
تنقص
__________________
الحجاج ، فكيف
بالسلف الطيب ، فاستمع إليه يقول ، على ما يرويه لنا البيهقي ، والظاهر انها جواب
على ابيات ابن شكلة لانها على نفس الروي ، والوزن ، والموضوع ـ يقول المأمون :
ومن غاو يغص علي
غيظا
|
|
إذا أدنيت أولاد
الوصيّ
|
يحاول أن نور
الله يطفى
|
|
ونور الله في
حصن أبيّ
|
فقلت : أليس قد
أوتيت علما
|
|
وبان لك الرشيد
من الغوي
|
وعرفت احتجاجي
بالمثاني
|
|
وبالمعقول
والأثر الجلي
|
بأية خلة ، وبأي
معنى
|
|
تفضل « ملحدين »
على « عليّ »
|
علي أعظم
الثقلين حقا
|
|
وأفضلهم سوى حق
النبيّ
|
بل وزاد على ذلك
وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد اتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من
أن الحق كان للعباس ، وانه أجاز عليا ، فصحت خلافته وذلك بأن اظهر تقديم علي على
العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوما عن المأمون :
« سمعته اليوم قدم
علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب ، وما ظننت أني أعيش حتى اسمع عباسيا
يقول هذا ، فقال الفضل له : تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله » . ولكن الظاهر : أن
أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب ، لكن الآن قد اضطرت السياسة
المأمون إلى الجهر بذلك ، وإظهاره.
وهكذا .. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي
تناقض ، أو منافاة ، بل كانت كلها في نظره صحيحة ، ومنطقية ؛ لأنها كانت في ظروف
مختلفة ، وكان لا بد له من مسايرة تلك
__________________
الظروف ،
والانسجام معها ، فلا مانع عنده ، من أن يقرب العلويين إليه ، ويتظاهر باكرامهم ،
وتقديرهم .. في يوم .. ثم منعهم من الدخول عليه ، واضطهادهم ، وقتلهم بالسم تارة ،
وبالسيف أخرى في يوم آخر .. وهكذا ..
وأيضا .. لا بد من خطوة أخرى.
ولكن ذلك وحده لم
يكن كافيا لإخماد ثورات العلويين ، ولا لتحقيق كافة الأهداف ، التي قدمنا ، وسيأتي
شطر منها ..
فكانت خطوته
التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت ، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر
الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث .. وتلك
الخطوة هي :
« أخذ البيعة
للامام علي الرضا 7 بولاية العهد بعده .. » وجعله أمير بني هاشم طرا ، عباسيهم
، وطالبيهم ، وليس الخضرة ..
لم يبق إلا خيار واحد :
ومن نافلة القول
هنا : أن نقول : إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء ؛ مما ساعده على معرفة الدواء ،
الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية ، التي لم تكن لتقاس أبدا بما سوف يعقبها
من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا ، ورجولة ، وشجاعة ..
إن المأمون ـ على
ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب ، ومن أسرة هي أقوى وأخطر
المنافسين للحكم العباسي في
__________________
تلك الفترة ..
ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك .. إلا إذا أراد أن يتغابى
أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته ، التي أصبحت ظلا ، لا يلبث
أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة ، فتحوله إلى سراب ..
ما
الحيلة له .. بعد أن رأى
أنه لن تنقاد له الرعية والقواد ، ولن تستقيم له الامور إلا إذا أقدم على مثل تلك
اللعبة الجريئة ..
ولقد صرح المأمون
نفسه للريان ، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون : بأن البيعة للامام كانت من
تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله : « .. ويحك يا ريان ، أيجسر أحد أن يجيء إلى
خليفة ، قد استقامت له الرعية ، والقواد. واستوت له الخلافة ؛ فيقول له : ادفع
الخلافة من يدك الى غيرك؟. أيجوز هذا في العقل؟! .. ».
مع رسالة الفضل بن سهل للامام :
وكاتب الامام ،
وألح عليه ، وكاتبه الفضل بن سهل أيضا .. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة
بالملاحظة ؛ فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه
الرسالة ..
كما أني أوردت نص
هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب ؛ ليطلع القارئ عليها
بنفسه ، ويستخلص منها ما يراه مناسبا وضروريا ..
أما الملاحظات
التي رأيت أن من الضروري الاشارة إليها هنا ؛ فتتلخص بما يلي :
__________________
ملاحظات لا بد منها :
أول
ما يطالعنا في هذه الرسالة
هو استعمال الفضل لكلمة : « الرضا » ، التي تنص وثيقة العهد ، وغيرها : على أن
المأمون هو الذي جعلها لقبا للإمام (ع) ـ كما سيأتي ـ .. فاطلاق الفضل بن سهل
لكلمة « الرضا » عليه (ع) يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقبا مشهورا ومعروفا له
ـ : إن جعل المأمون هذا اللفظ لقبا رسميا للإمام (ع) كان بوحي من ذي الرئاستين
نفسه .. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماما : أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة
كان بايحاء من المأمون ولا أقل من كونهما قد اتفقا على ذلك.
وثانيا : إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمام (ع) :
بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون ، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين ،
الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الاطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ
نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي
الرئاستين والمأمون على امضاء هذا الأمر ، وهذا يعني : أن الممانعة والمقاومة لا
تجدي ولا تفيد ؛ ولذا فإن من الأفضل له (ع) أن يكف عن ذلك ، ويمتنع عنه .. وهذا ما
أشار إليه الفضل بقوله : « .. وان كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين ، عبد الله
الإمام المأمون ومني الخ .. ».
وثالثا : يلاحظ : أن الرسالة تتناسب في صياغتها ، وانتقاء جملها
وألفاظها مع ذوق الإمام (ع) ، ومذهبه العقائدي ، ومذهب شيعته.
وتنسجم مع ما
يدعيه هو ، ويدعيه آباؤه ، وكان قد اشتهر وشاع بين الناس : من أن الحق في خلافة
النبي (ص) لهم دون غيرهم ، وأن الغير ـ أيا كانوا ـ ظالمون لهم ، ومعتدون عليهم في
هذا الحق ..
ثم يحاول الفضل أن
يفهم الإمام : أنه وإن كان هو والمأمون
قد صمما على
توليته العهد ، لكنه يقول له ، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون ؛ فأنا
أقول فيك : أنك ابن رسول الله ، وأنك المهتدي ، والمقتدى ، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك
إليك ، وردّ لمظلمتك عليك. أما المأمون : فهو يراك شريكا في أمره ، وشقيقا في نسبه
، وأولى الناس بما تحت يده.
فالفضل يحاول بهذا
أن يتقرب من الإمام ، ويكتسب محبته وثقته .. ولعل إظهار هذا الاختلاف ، مما اتفق
عليه كل من المأمون والفضل ..
وهكذا كان
السياسيون ، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة ، التي يرون أنها توصلهم إلى
أهدافهم ، وتحقق لهم مآربهم.
ورابعا : وأخيرا .. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده
، حتى يصير إلى باب المأمون!! .. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة : إلى أن ذلك منه (ع)
يوجب صلاح الامة به .. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم ، كما كان الكل يعلم : أنه إذا
تأكد لدى الإمام (ع) : أن صلاح الامة متوقف على عمل ما من جهته ؛ فإنه لا يتوانى ،
ولا يألو جهدا في العمل بوظيفته ، والقيام بواجبه .. هذا بالاضافة إلى أن في ذلك
إشارة للحالة العامة ، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب ..
ملاحظات هامة :
هذا .. وقبل الخوض
في تفصيل أسباب البيعة ، لا بد من ملاحظة :
أ ـ : إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين ، الذين
ناصبوه العداء ، وشجعوا أخاه الأمين عليه ، ولسوف يزيد من حنقهم ، وغضبهم : حتى
إنهم رضوا بابراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم ، عند ما سمعوا بهذا النبأ الذي
كان له وقع الصاعقة عليهم ..
كما أن من الطبيعي
أن يثير دهشتهم ، ويذهلهم .. بعد أن لم يكن
بينهم رجالات كفاة
، يدركون الأعيب السياسة ، ودهاء ومكر الرجال.
وقد عبر عن دهشتهم
هذه نفس الخليفة الذي اختاروه ، واستعاضوا به عن المأمون .. فلقد قال ابن شكلة
معاتبا العباسيين :
فلا جزيت بنو
العباس خيرا
|
|
على رغمي ولا
اغتبطت بري
|
أتوني مهطعين ،
وقد أتاهم
|
|
بوار الدهر
بالخبر الجلي
|
وقد ذهل الحواضن
عن بنيها
|
|
وصد الثدي عن فم
الصبي
|
وحل عصائب
الاملاك منها
|
|
فشدت في رقاب
بني علي
|
فضجت أن تشد على
رءوس
|
|
تطالبها بميراث
النبيّ
|
ب ـ : ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما ، في جانب ذهاب الخلافة
عنهم بالكلية ، وسفك دمائهم .. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم ، حيث قال : «
.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، فما
كان ذلك مني إلا أن اكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا
وبينهم .. ». والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.
وقريب من ذلك ما
جاء في وثيقة العهد ، مخاطبا « أهل بيت أمير المؤمنين » حيث قال لهم : « .. راجين
عائدته في ذلك ( أي في البيعة للرضا 7 ) في جمع الفتكم ، وحقن دمائكم ، ولم شعثكم ، وسد ثغوركم
.. »
فليغضبوا إذن
قليلا ، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيرا ، وذلك عند ما يعرفون الاهداف
الحقيقية ، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة ، وأنها لم تكن إلا من أجل الابقاء
عليهم ، واستمرار وجودهم
__________________
في الحكم ،
والقضاء على اخطر خصومهم ، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم.
إنهم دون شك عند
ما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه ، ويعترفون له بالجميل ، ويعتبرون أنفسهم
مدينين له مدى الحياة. ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إليها آنفا :
« .. فان تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ( يعني للعلويين ) عاقبة ومنفعة ، فاني في
تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ، ولابنائكم من بعدكم .. » ..
ومضمون هذه
العبارة بعينه ـ تقريبا ـ قد جاء في وثيقة العهد ، حيث قال فيها ، موجها كلامه
للعباسيين ، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك .. فبعد أن طلب منهم بيعة
منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ : « .. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها ، وآثر طاعة
الله ، والنظر لنفسه ، ولكم فيها ، شاكرين الله على ما الهم أمير المؤمنين ، من
قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم ، وصلاحكم ، راجين عائدته في ذلك في جمع
ألفتكم ، وحقن دمائكم إلخ. ما قدمناه .. ».
لا شك أنه إذا غضب
عليه العباسيون ؛ فانه يقدر على ارضائهم في المستقبل ، « وقد حدث ذلك بالفعل » ،
عند ما يطلعهم على حقيقة نواياه ، ومخططاته ، وأهدافه ، ولكنه إذا خسر مركزه ،
وخلافته ، فانه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة ، أو أن يعتاض عنها
بشيء ذي بال ..
ج ـ : إن من الانصاف هنا أن نقول : إن اختيار المأمون للرضا (ع)
وليا للعهد ، كان اختيارا موفقا للغاية ، كما سيتضح ، وإنه لخير دليل على حنكته
ودهائه السياسى ، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون ،
ويعاني منها ما يعاني ..
د ـ : إن من الامور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون
لولي عهده ، الذي
لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل .. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم
مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة ؛ إذا ما أخذت مكانة الإمام (ع) ،
ونفوذه بنظر الاعتبار ، سيما مع ملاحظة : أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر
على المأمون ، ونظام حكمه ؛ حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير ، والتأييد
الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الامة الاسلامية.
ولكننا إذا دققنا
الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد ، إلا وهو على ثقة
من استمرار الخلافة في بني أبيه ؛ حيث كان الإمام (ع)
يكبره بـ (٢٢) سنة ؛ وعليه فجعل
ولاية العهد لرجل بينه ، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن ، لم يكن
يشكل خطرا على الخلافة ؛ إذ لم يكن من المعروف ، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو
بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!! .. إلى ما بعد
الخليفة الفعلي ، فإن ذلك من الامور التي يبعد احتمالها جدا ..
هـ ـ : ولهذا .. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظرا من مثله ؛ وهو
الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك ، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيت : .. احتاج المأمون
إلى أن يثبت صدقه ، واخلاصه فيما أقدم عليه ، وأن يقنع الناس بصفاء نيته ، وسلامة
طويته .. فأقدم لذلك .. على عدة أعمال :
فأولا : أقدم على نزع السواد شعار العباسيين ، ولبس الخضرة شعار
العلويين وكان يقول : انه لباس أهل الجنة . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضا (ع)
، وتمكنه هو من دخول بغداد
__________________
عاد إلى لبس
السواد شعار العباسيين ، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله ، على حد قول أكثر المؤرخين
، وقيل : بل بقي ثلاثة أشهر .. نزع الخضرة رغم أن العباسيين ، تابعوه ، وأطاعوه في
لبسها ، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد ، على ما صرح به في مآثر الإنافة
، والبداية والنهاية ، وغير ذلك ..
وثانيا : ولنفس السبب أيضا نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضا (ع).
وثالثا : أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضا (ع) ابنته ، رغم
أنها كانت بمثابة حفيدة له ، حيث كان يكبرها الإمام (ع) بحوالي أربعين سنة. كما
أنه زوج ابنته الاخرى للامام الجواد (ع) ، الذي كان لا يزال صغيرا ، أي ابن سبع
سنين .
ومن يدري : فلعله
كان يهدف من تزويجهما أيضا إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل ،
لكي تكون الأداة الفعالة ، التي
__________________
يستعملها في
القضاء على الإمام (ع) ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد ، الذي قتل
بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون ، بأمر من عمها المعتصم ؛ فيكون بذلك قد
أصاب عدة عصافير بحجر واحد .. كما يقولون .. ويجب أن نتذكر هنا : أن المأمون كان
قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل ؛ فألح عليه أن يزوجه ابنته
فرفض ، وكان الرأي العام معه ، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئا ، كما سنشير إليه
.. لكن الإمام (ع) لم يكن له إلى الرفض سبيل ، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته
على مثل هكذا زواج ؛ لأن الرأي العام لا يقيل ذلك منه بسهولة .. بل ربما كان ذلك
الرفض سببا في تقليل ثقة الناس بالإمام ، حيث يرون حينئذ أنه لا مبرر لشكوكه تلك ،
التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة ..
وعلى
كل حال : فإن كل الشواهد
والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسيا ، مفروضا إلى حد ما
.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسيا
أيضا ، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الايرانيين ، ويجعلهم يطمئنون إليه ،
خصوصا بعد عودته إلى بغداد ، وتركه مروا ، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل ،
ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل ، المعروف بثرائه ونفوذه ..
ورابعا : وللسبب نفسه أيضا كان يظهر الاحترام والتبجيل للامام (ع)
ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لاكرامه
__________________
للعلويين ، حيث قد
صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء ، ومن أجل الوصول إلى
أهداف سياسية معينة ؛ فقد قال في رسالته للعباسيين ، المذكورة في أواخر هذا الكتاب
: « .. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى .. فما كان ذلك مني ، إلا أن
اكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ؛ باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق
أسلكها في اكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء ، بيسير ما يصيبهم منه .. ».
ويذكرني قول
المأمون : « ومواساتهم في الفيء إلخ .. » بقول ابراهيم بن العباس الصولي ـ وهو
كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عند ما قربه المأمون :
يمن عليكم
بأموالكم
|
|
وتعطون من مائة
واحدا
|
و ـ : إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم : أن ذلك كله ـ حتى البيعة
للامام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد
أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل ، للخط من الإمام قليلا قليلا ، حتى يصوره
للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه ، وكما صرح بذلك
أيضا عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون ، والتي سوف نوردها في أواخر هذا
__________________
الكتاب إن شاء
الله ؛ حيث يقول له فيها : « .. وكنت الطف حيلة منهم ، بما استعملته من الرضا بنا
، والتستر لمحننا ، تختل واحدا فواحدا منا إلخ .. » .
إلى غير ذلك من
الشواهد والدلائل ، التي لا تكاد تخفى على أي باحث ، أو متتبع ..
أهداف المأمون من البيعة :
هذا .. وبعد كل الذي قدمناه ، فاننا نستطيع في نهاية المطاف :
أن نجمل أهداف المأمون ، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضا (ع) بولاية العهد
بعده .. على النحو التالي :
الهدف الأول :
أن يأمن الخطر
الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة ، شخصية الامام الرضا (ع) ، الذي كانت
كتبه تنفذ في المشرق والمغرب ، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس
المأمون ـ ، حيث لا يعود باستطاعة الامام (ع) أن يدعو الناس الى الثورة ولا ان
يأتي بأيّة حركة ضد الحكم ، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس
إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها تكران للجميل ، لا مبرر
لها ، ولا منطق يدعمها ..
وقد أشار المأمون
إلى ذلك ، عند ما صرح بأنه : خشي إن ترك الامام على حاله : أن ينفتق عليه منه ما
لا يسده ، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه
__________________
فأراد أن يجعله
ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل : مع بعض خطط المأمون إن شاء
الله تعالى ..
الهدف الثاني :
أن يجعل هذه
الشخصية تحت المراقبة الدقيقة ، والواعية من قرب ، من الداخل والخارج ، وليمهد
الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة .. وقد أشرنا فيما سبق ، إلى أننا
لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته ، هو :
أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو ، ويطمئن إليه الإمام نفسه ..
وإذا ما لا حظنا
أيضا ، أن : « المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء .. » ، وأنه كان
: « للمأمون على كل واحد صاحب خبر .. » .. فاننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه الى الإمام
الرضا (ع) بعنوان : هدية .. وقد أرجعها الإمام (ع) إليه مع عدة أبيات من الشعر ،
عند ما رآها اشمأزت من شيبه .
ولم يكتف بذلك ،
بل وضع على الإمام (ع) عيونا آخرين ، يخبرونه بكل حركة من حركاته ، وكل تصرف من
تصرفاته ..
فقد كان : « هشام
بن ابراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضا (ع) ، وكانت امور الرضا تجري من عنده ،
وعلى يده. ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن ابراهيم بذي الرئاستين ، والمأمون ؛
__________________
فحظي بذلك عندهما.
وكان لا يخفي عليهما شيئا من أخباره ؛ فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى
الرضا إلا من أحب ، وضيق على الرضا ؛ فكان من يقصده من مواليه ، لا يصل إليه. وكان
لا يتكلم الرضا في داره بشيء الا أورده هشام على المأمون ، وذي الرئاستين .. »
وعن أبي الصلت :
أن الرضا « كان يناظر العلماء ، فيغلبهم ، فكان الناس يقولون : والله ، إنه أولى
بالخلافة من المأمون ؛ فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه .. »
وأخيرا .. فإننا نلاحظ : أن جعفر بن محمد بن الاشعث ، يطلب من
الإمام (ع) : أن يحرق كتبه إذا قرأها ؛ مخافة أن تقع في يد غيره ، ويقول الإمام (ع)
مطمئنا له : « إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها .. » .
إلي غير ذلك من
الدلائل والشواهد الكثيرة ، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها ..
الهدف الثالث :
أن يجعل الإمام (ع)
قريبا منه ؛ ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية ، وابعاده عن الناس ، وابعاد
الناس عنه ؛ حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية ، وبما منحه الله إياه
من العلم ،
__________________
والعقل ، والحكمة.
ويريد أن يحدّ من ذلك النفوذ له ، الذي كان يتزايد باستمرار ، سواء في خراسان ، أو
في غيرها ..
وأيضا .. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه
؛ وخصوصا بالنسبة لرجال الدولة ؛ إذ قد يتمكن الإمام (ع) من قلوبهم ؛ ومن ثم من
تدبير شيء ضد النظام القائم ، دون أن يشعر أحد ..
والأهم
من ذلك كله : أنه كان يريد
عزل الإمام (ع) عن شيعته ، ومواليه ، وقطع صلاتهم به ، وليقطع بذلك آمالهم ، ويشتت
شملهم ، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره ، ما قد يكون له أثر كبير على
مستقبل المأمون ، وخلافته.
وبذلك يكون أيضا
قد مهد الطريق للقضاء على الإمام (ع) نهائيا ، والتخلص منه بالطريقة المناسبة ،
وفي الوقت المناسب ..
وقد قال المأمون
إنه : « يحتاج لأن يضع من الإمام قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا
يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه .. » كما سيأتي ..
وقد قرأنا آنفا
أنه : « كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ( أي هشام بن إبراهيم ) ، وضيق على الرضا
؛ فكان من يقصده من مواليه ، لا يصل إليه ».
كما أن الرضا نفسه
قد كتب في رسالة منه إلى أحمد بن محمد البزنطي ، يقول : « وأما ما طلبت من الإذن
علي ؛ فان الدخول إلي صعب ، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن ؛ فلست تقدر الآن ،
وسيكون إن شاء الله .. » .
__________________
كما أننا نرى أنه
عند ما وصل إلى القادسية ، وهو في طريقه إلى مرو ، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر
: « اكتر لي حجرة لها بابان : باب إلى الخان ، وباب إلى خارج ؛ فانه استر عليك ..
» .
ولعل ذلك هو السبب
في طلبه من الإمام (ع) ، ومن رجاء بن أبي الضحاك : أن يمرا عن طريق البصرة ،
فالأهواز إلخ .. كما سيأتي :
ولا نستبعد أيضا
أن يكون عزل الإمام عن الناس ، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد
مرتين .. وللسبب نفسه أيضا فرق عنه تلامذته ، عند ما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس ،
وحتى لا يظهر علم الإمام ، وفضله .. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون
السوداء ..
الهدف الرابع :
إن المأمون في نفس
الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الامام مجنا يتقي به سخط الناس على بني العباس ،
ويحوط نفسه من نقمة الجمهور .. يريد أيضا ؛ أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل
البيت ـ والتي زادت
__________________
ونمت بعد الحالة
التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو ، وصالح الحكم العباسي
بشكل عام ..
أي أنه : كان يهدف
من وراء لعبته تلك ، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جدا ـ إلى أن يحصل على
قاعدة شعبية ، واسعة ، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر : أن نظام حكمه سوف ينال من
التأييد ، والقوة ، والنفوذ ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد ، والنفوذ
والقوة .. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها ، فإنه يكون قد امن خطرا
عظيما ، كان يتهدده من قبلها ، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر ..
إن المأمون قد
اختار لولاية عهده رجلا يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات ، وله من
النفوذ ، والكلمة المسموعة ، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان
الكثيرون يرون : أن الخلافة حق له ، وينظرون الى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له
وغاصبة لذلك الحق :
يقول الدكتور
الشيبي ، وهو يتحدث عن الرضا (ع) : « إن المأمون جعله ولي عهده ، لمحاولة تألف
قلوب الناس ضد قومه العباسيين ، الذين حاربوه ، ونصروا أخاه .. ».
ويقول : « .. وقد
كان الرضا من قوة الشخصية ، وسمو المكانة : أن التف حوله المرجئة ، وأهل الحديث ،
والزيدية ، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته .. » .
__________________
وكذلك هو يقول ـ وهو
مهم فيما نحن بصدده ـ : « .. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم
، وإنما مرّ بنا : أن الناس ، حتى أهل السنة ، والزيدية ، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة
.. قد اجتمعت على إمامته ، واتباعه ، والالتفاف حوله .. » .
وهذا كما ترى
تصريح واضح منه بهدف المأمون ، الذي نحن بصدد بيانه ..
ويقول محمد بن
طلحة الشافعي مشيرا إلى ذلك ، في معرض حديثه عن الإمام الرضا (ع) : « .. نما
إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانه ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتى أحله
الخليفة المأمون محل مهجته ، وأشركه في مملكته .. » .
وتقدم أنه (ع) كان
ـ باعتراف المأمون ـ « الأرضى في الخاصة ، والعامة .. » وأن كتبه كانت تنفذ في
المشرق والمغرب ، حتى إن البيعة له بولاية العهد ، لم تزده في النعمة شيئا .. وأنه
كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون : « هذا الذي
بجنبك والله صنم يعبد دون الله » إلى آخر ما هنالك ، مما قدمنا « غيضا من فيض منه
».
كما وتقدم أيضا
قول المأمون في رسالته للعباسيين : « .. وإن تزعموا : أني أردت أن يؤول إليهم
عاقبة ومنفعة ( يعني للعلويين ) ؛ فإنى في تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ،
وأبنائكم من بعدكم .. » ، وأيضا عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد
؛ فلا نعيد ..
وهكذا .. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالا ، ويقروا عينا ؛
فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم .. وليس كما يقوله
__________________
الدكتور الشيبي ،
وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع ؛ ليقابل العباسيين ، ويقف في وجههم.
إشارة هامة لا بد منها :
هذا .. ويحسن بنا
أن نشير هنا : إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. والقاء نظرة فاحصة على السبب
الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه .. فهو يقول :
لقد قال الروافض
في علي
|
|
مقالا جامعا
كفرا وموقا
|
زنادقة أرادت
كسب مال
|
|
من الجهال
فاتخذته سوقا
|
وأشهد أنه منهم
بريّ
|
|
وكان بأن يقتلهم
خليقا
|
كما كذبوا عليه
وهو حي
|
|
فأطعم ناره منهم
فريقا
|
وكانوا بالرضا
شغفوا زمانا
|
|
وقد نفخوا به في
الناس بوقا
|
وقالوا : إنه رب
قدير
|
|
فكم لصق السواد
به لصوقا
|
وهذه الأبيات تعبر
عن مدى صدمة ابن المعتز ، وخيبة أمله في الروافض ، الذين ضايقه جدا امتداد دعوتهم
في طول البلاد الاسلامية ، وعرضها. وخصوصا في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئا يستطيع
أن يتنقص به إمامهم الرضا (ع) سوى أنه كان اسود اللون ؛ وأن الروافض قالوا : إنه
رب قدير .. وسرّ حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في علي (ع) ـ التي كان
يراها خطرا حقيقيا على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنه (ع) : يستحق الخلافة
بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم
بين
__________________
وصفي الكفر
والزندقة ، واتهامه لهم ، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم
قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضا (ع) ؛ فقالوا : إنه الإمام الثابت إمامته
بالنص ، وشهّروا بذلك ، حتى علم به عامة الناس ، ونفخوا به في الناس بوقا .. وحتى
لقد التف حوله أهل الحديث ، والزيدية ، بل والمرجئة ، وأهل السنة ، على حد تعبير
الشيبي ، وقالوا : بإمامة أبيه ، ثم بإمامته ..
وبديهي .. أن لا يرتاح ابن المعتز ، الذي كان في صميم الاسرة
العباسية لهذا الامتداد للتشيع ، ولمقالة الروافض ، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة
الذين هم بين الرضا ، وعلي أمير المؤمنين 8 ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص ..
ولقد بلغ من حنقه
عليهم ، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصا في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى
أن يخلط عن عمد ، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه ، وبين عقيدة الغلاة ، حيث
أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة اخرى ، هي : القول بألوهية علي (ع).
وإذا كنا واثقين
من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض ، وعقيدة الغلاة ، لم يكن ليخفى على مثل ابن
المعتز ، بل على من هو أقل منه بمراتب ، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك : أنه
يقصد بهذا الخلط المعتمد : التشنيع على الروافض ، وتهجين عقيدتهم ، إذ أنه يقصد بـ
« الروافض » ، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا ، وإمامة علي
أمير المؤمنين ، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم : أنه ليس فيهم من يقول بالوهية
أحدهما ، أو ألوهيتهما ، أو ألوهية غيرهما من أئمة أهل البيت :.
وأخيرا .. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ
لخير دليل على مدى
تحرر الشيعة في زمن الرضا ، واتساع نفوذهم ، وعلى أن شخصية الرضا (ع) ، كانت قد
استقطبت قطاعا واسعا ، إن لم نقل : أنه القطاع الأكبر من الامة الاسلامية ، في طول
البلاد وعرضها ، في تلك الفترة من الزمن ، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك ، فلا
نعيد.
الهدف الخامس :
هذا .. ونستطيع أن
نقول أيضا : إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه ، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية
تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم. ولقد كان الحكم بأمس الحاجة الى شخصية من هذا
القبيل .. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين ، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم
العباسي ، طلبا للشهرة ، وطمعا بالمال ، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم
.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الاخرى ، والذين كانوا قد
ضاعفوا نشاطاتهم ، عند ما رأوا ضعف الدولة ، وتمزقها ، وتفرقها الى جماعات وأحزاب
..
نعم .. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الاكفاء ، والأحرار في
تفكيرهم ، وفي نظرتهم الواعية للانسان والحياة ، ولم يعد بحاجة الى المتزلفين ، والجامدين
، والانهزاميين ، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين ، الذين كان أكثرهم في
الجهة المناوئة له ، يشدون من أزرها ، ويقيمون أودها .. ويقرب المعتزلة : كبشر
المريسي ، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية ، التي لا يشك أحد
في تفوقها على جميع أهل الأرض علما وزهدا ، وورعا وفضلا الخ .. كانت منحصرة في
الامام الرضا (ع) ، باعتراف من نفس المأمون ، كما قدمنا ، ولهذا فقد كان الحكم
يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية اخرى ، مهما بلغت.
الهدف السادس :
ولعل من الأهمية
بمكان بالنسبة إليه ، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات ، قد أتى
الامة بمفاجئة مثيرة ، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري ، وما يحدث
، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والامة منها ، وما أكثرها ..
وقد عبر ابراهيم
بن المهدي ، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة .. حتى لقد ذهل ـ على حدّ قوله
ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فم الصبي!! »
وبعد
هذا .. فلسنا بحاجة
إلى كبير عناء ، لإدراك مدى دهشة غيرهم : ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين
لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لا حظنا : أنهم كانوا سياسيا
أقل وعيا وتجربة من مثل ابراهيم بن المهدي ، الذي عاش في أحضان خلافة. كان بمرأى
ومسمع من الأعيب السياسة ، ومكر الرجال ..
الهدف السابع :
هذا .. طبيعي بعد
هذا : أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي ، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ
: أن جميع تصرفاته ، وأعماله ، لم يكن يهدف من ورائها ، إلا الخير للامة ، ومصلحة
المسلمين ، وحتى قتله أخاه ، لم يكن من أجل الحكم ، والرئاسة ، بقدر ما كان من أجل
خير المسلمين ، والمصلحة العامة ، يدل على ذلك : أنه عند ما رأى أن خير الامة ،
إنما هو في اخراج الخلافة من بني العباس كلية ، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها ،
وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عند ما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا باخراجها
إلى ألد أعدائهم ،
سارع إلى ذلك ،
بكل رضى نفس ، وطيبة خاطر .. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء ، والتي كانت
أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به ، ألا وهي : قتله أخاه الأمين ، العزيز على
العباسيين والعرب ..
وليكون بذلك ، قد
ربط الامة بالخلافة ، وكسب ثقتها فيها ، وشد قلوب الناس ، وأنظارهم إليها ؛ حيث
أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل ، وترفع الظلم ، وأن تكون معهم ،
وفي خدمتهم ، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير ، ما يجعلها في
منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص ، ويبغون لها الغوائل ..
ويدل
على ذلك ـ عدا عما ورد في
وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي ، عامله
على المدينة : أن اخطب الناس ، وادعهم إلى بيعة الرضا ؛ فقام خطيبا ؛ فقال :
« يا أيها الناس ،
هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون ، والعدل الذي كنتم تنتظرون ، والخير الذي كنتم
ترجون ، هذا علي بن موسى ، بن جعفر ، بن محمد ، بن علي ؛ بن الحسين ؛ بن علي بن
أبي طالب :
ستة آباؤهم ما
هم
|
|
من أفضل من يشرب
صوب الغمام
|
وقد أكد ذلك بحسن
اختياره ؛ إذ قد اختار هذه الشخصية ، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الامة ،
ورجاءها ، في حاضرها ، ومستقبلها.
وتكون النتيجة ـ بعد
ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل ، وكل عمل يقوم به
.. مهما كان غريبا ، ومهما كان غير معقول ؛ فإن على الامة أن تعتبره صحيحا وسليما
،
__________________
لا بد منه ، ولا
غنى عنه ، وإن لم تعرف ظروفه ، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها ؛ فان
عليها أن تؤوّل ما يقبل التأويل ، وإلا .. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب ،
وتتناسى ما تعلم .. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في
تلك التصرفات الغريبة ، وأن ما أدركته ولو كان حقا ـ لا واقع له ، ولا حقيقة وراءه
ويدل على ذلك بشكل واضح ابيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥ / ٣٠٦ ، يقول ابن المعتز :
وأعطاكم المأمون
حق خلافة
|
|
لنا حقها لكنه
جاد بالدنيا
|
ليعلمكم أن
الّتي قد حرصتموا
|
|
عليها وغودرتم
على اثرها صرعى
|
يسير عليه فقدها
غير مكثر
|
|
كما ينبغي
للصالحين ذوى التقوى
|
وعلى كل حال ؛
فإنه يتفرع على ما ذكرناه :
أولا : إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه ؛ فليس من المنطقي بعد
للعرب أن يسخطوا عليه ، بسبب معاملة أبيه ، أو أخيه ، وسائر أسلافه لهم ؛ فإن
المرء بما كسب هو ، لا بما كسب أهله ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ..
وكيف يجوز لهم أن
يغضبوا بعد ، وهو قد أرجع الخلافة إليهم ، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا :
أنه لا يريد لهم ، ولغيرهم ، إلا الصلاح والخير ..
وليس لهم بعد حق
في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم ، ولا قتله أخاه ، ولا أن يزعجهم ، ويخيفهم
تقريبه للايرانيين ، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك .. ما دام أن
الخلافة قد عادت إليهم ، على حسب ما يشتهون ، وعلى وفق ما يريدون ..
ومن
هنا .. فلا يجب أن
نعجب كثيرا ؛ حين نراهم : قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة ، وقلوب رضية .. حتى أهل
بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير ؛ فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري وابن
مسكويه ـ على أن بعضهم وافق ، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني
العباس ـ رفض.
وهذا يدل دلالة واضحة : على أن بغداد ، معقل العباسيين الأول ، كانت تتعاطف مع
العلويين إلى درجة كبيرة ..
بل ونص المؤرخون ،
على أن : ابراهيم بن المهدي ، المعروف بابن شكلة ، الذي بويع له في بغداد غضبا من
تولية الرضا للعهد : لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد ، والكوفة والسواد ، بل وحتى الكوفة
قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهرا عديدة بين أنصار المأمون ، وعليهم
الخضرة ، وأنصار العباسيين وعليهم السواد .
وثانيا : وأما الايرانيون عامة ، والخراسانيون خاصة ، والمعروفون
بتشيعهم للعلويين ؛ فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له ، وثقتهم به ؛ بعد أن حقق
لهم غاية أمانيهم ، وأغلى أحلامهم ، وأثبت لهم عملا ، حبه لمن يحبون ، وودّه لمن
يودّون .. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره ، ولا لعربي على غيره ، وأن الذي يسعى
إليه ، هو ـ فقط خير الامة ، ومصلحتها ؛ بجميع فئاتها ، ومختلف طبقاتها ، وأجناسها
..
ملاحظة هامة :
إن من الجدير
بالملاحظة هنا : أن الرضا (ع) كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في
حدود سنة ١٩٣ ه. ، أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد ؛ فقد ذكر الرضي المعاصر
للمجلسي في كتابه : ضيافة الإخوان : أن عليا الرضا (ع) كان مستخفيا في قزوين في
دار داود بن سليمان الغازي أبي عبد الله ، ولداود نسخة يرويها عن الرضا (ع) ، وأهل
قزوين يروونها عن داود ، كاسحاق بن محمد ،
__________________
وعلي بن مهرويه .
وقال الرافعي في
التدوين : « وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال : إنه كان مستخفيا
في دار داوود بن سليمان الغازي ، روى عنه النسخة المعروفة ، وروى عنه اسحاق بن
محمد ، وعلي بن مهرويه ، وغيرهما.
قال الخليل :
وابنه المدفون في مقبرة قزوين ، يقال : إنه كان ابن سنتين ، أو أصغر .. » انتهى كلام
الرافعي.
والمراد بالخليل
في كلامه ، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي ، القزويني ، وهو
الحافظ المشهور ، مصنف كتاب الارشاد ، وكتاب تاريخ قزوين ، الذي فرغ من تأليفه
حوالي سنة أربعمائة هجرية ، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه.
الهدف الثامن :
لقد كان من نتائج
اختياره الإمام ، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ : أن أخمد ثورات
العلويين في جميع الولايات والامصار. ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد
البيعة للرضا ، سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق
المؤرخين ـ هو فقط : ظلم الولاة وجورهم ، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية
مطالبه ..
بل لا بد لنا أن
نضيف الى ذلك :
أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم .. بل لقد حصل على ثقة
__________________
الكثيرين منهم ،
ومن والاهم ، وشايعهم ، والخراسانيون منهم ، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في
رسالته ، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى ؛ حيث يقول :
« .. ما ظننت أحدا
من آل أبي طالب يخافني ؛ بعد ما عملته بالرضا » والرسالة مذكورة في أواخر هذا
الكتاب .. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته ، التي أشرنا إليها غير مرة ،
يقول لهم : إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم ، ويذود عنهم ؛ باستدامة المودة بينهم ،
وبين العلويين ..
ب : بل ونزيد هنا على ما تقدم : أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم
من لم يكن بعد قد بايعه ، وهم قسم كبير جدا ، بل لقد بايعه اكثر المسلمين ، ودانوا
له بالطاعة ، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته ، حسبما قدمناه ..
وهذه دون شك هي
إحدى امنيات المأمون ، بل هي أجل امنياته وأغلاها.
ج : قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت
:
« .. هذا منجم
مأموني ، كبير القدر في صناعته ، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا
عالما مشهودا له ، بعد الاختبار ..
وكان المأمون قد
رأى آل أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب متخشّين ، متخفين ، من خوف المنصور ، ومن
جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء ؛ فظنوا ما
يظنونه بالانبياء ، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة ، من التغالي ..
فأراد معاقبة
العامة على هذا الفعل ..
ثم فكر : أنه إذا
فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به ؛ فنظر نظرا دقيقا ، وقال : لو ظهروا للناس ،
ورأوا فسق الفاسق منهم ، وظلم الظالم ، لسقطوا من أعينهم ، ولا نقلب شكرهم لهم ذما
..
ثم قال : إذا
أمرناهم بالظهور خافوا ، واستتروا ، وظنوا بنا سوءا ، وإنما الرأي : أن نقدم أحدهم
، ويظهر لهم إماما ، فإذا رأوا هذا أنسوا ، وظهروا ، وأظهروا ما عندهم من الحركات
الموجودة في الآدميين ؛ فيحقق للعوام حالهم ، وما هم عليه ، مما خفي بالاختفاء ؛
فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته ، ورددت الأمر إلى حالته الاولى ..
وقوي هذا الرأي
عنده ، وكتم باطنه عن خواصه .. وأظهر للفضل ابن سهل : أنه يريد أن يقيم إماما من
آل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه.
وفكر هو وهو ،
فيمن يصلح ، فوقع إجماعهما على الرضا ؛ فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك ، وترتيبه
وهو لا يعلم باطن الأمر.
وأخذ في اختيار
وقت لبيعة الرضا ؛ فاختار طالع السرطان ، وفيه المشتري الخ » .
ثم ذكر أن عبد
الله بن سهل أراد اختيار المأمون ؛ فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت
؛ فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات ، لأنه سوف يعتبر
أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ ..
وابن القفطي هنا ،
لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضا (ع) من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم
للناس ، ولكنه يوجه نظره إلى بقية
__________________
العلويين في ذلك
.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن
نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون ، إذ لا نعتقد أن المأمون كان
من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالا ـ على الحال التي كان
يريد أن يظهرهم عليها للناس ، وأنهم كانوا أكثر تدينا والتزاما من أي فئة اخرى على
الإطلاق ..
هذا .. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي
هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيت (ع) ، كما سيأتي بيانه ، وبيان مدى
خطله وفساده في الفصل التالي. وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعا ، وعلى أن
المأمون لم يكن مخلصا فيما اقدم عليه ..
د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن اكثر ثورات العلويين ،
التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضا (ع) طبعا ـ كانت من بني الحسن ،
وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية ؛ فأراد المأمون أن يقف في وجههم ،
ويقضي عليهم ، وعلى نحلتهم تلك نهائيا ، وإلى الأبد ؛ فأقدم على ما أقدم عليه من
البيعة للرضا (ع) بولاية العهد ..
هذا .. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة ،
وكانت تزداد قوة يوما عن يوم ، وكان للقائمين بها نفوذ واسع ، وكلمة مسموعة ، حتى
إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داود ، وهو زيدي ، وآخاه ، وفوضه جميع امور الخلافة .
وعلى حد تعبير
الشبراوي : « .. فولاه الوزارة ، وصارت الأوامر كلها بيديه ؛ واستقل يعقوب حتى
حسده جميع أقرانه .. » .
__________________
بل كان « لا ينفذ
للمهدي كتاب إلى عامل ؛ فيجوز ، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بانفاذه .. » .
وقد بلغ من نفوذ
يعقوب هذا .. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة ، التي قدمناها ، والتي يقول
فيها : « إن الخليفة يعقوب ابن داود ».
وقد سعي بيعقوب
هذا إلى المهدي : وقيل له : « .. إن الشرق والغرب في يد يعقوب ، وأصحابه ؛ وإنما
يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا في يوم واحد ؛ فيأخذوا الدنيا .. » .
وذلك لأنه قد : «
أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية ، وأتى بهم من كل أوب ، وولاهم من امور الخلافة في
المشرق والمغرب كل جليل ، وعمل نفيس ، والدنيا كلها في يديه .. » .
وإذا ما عرفنا أن
معاوني يعقوب إنما كانوا هم : متفقهة الكوفة ، والبصرة ، وأهل الشام .. فإننا نعرف أن
الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيرا ، وكثيرا جدا على الثقافة العامة ، والاتجاهات
الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلا .. حتى لقد صرح ابن النديم بأن : « أكثر
علماء المحدثين إلا قليلا منهم ، وكذلك قوم من الفقهاء ، مثل : سفيان الثوري ،
وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية .. » .
وقد صرح المؤرخون
أيضا : بأن أصحاب الحديث جميعهم ، قد
__________________
خرجوا مع ابراهيم
بن عبد الله بن الحسن ، أو أفتوا بالخروج معه .
وعلى كل حال ..
فإن ما يهمنا بيانه هنا : هو أن المأمون كان يريد
__________________
__________________
__________________
أن يقضي على
الزيدية ، ويكسر شوكتهم بالبيعة للامام الرضا (ع) بولاية العهد ؛ ولهذا نرى أنه قد
طبق اللقب ، الذي طالما دعا إليه الزيدية ، واعترف به العباسيون ، بل ودعوا إليه
في بدء دعوتهم ودولتهم ، ألا وهو لقب : « الرضا من آل محمد » ، طبقه على علي ابن
موسى (ع) ؛ فسماه : « الرضا من آل محمد » . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية ، بل لم يعد لهم حجة
أصلا. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين ، إذ قد أصبح « الرضا من آل محمد » موجودا
، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة
وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية ، وكسر شوكتهم ،
وشلّ حركتهم ..
والذي ساهم إلى حد
كبير في اضعافهم ، وشل حركتهم ، هو اختياره الإمام (ع) بالذات ، حيث إنه الرجل
الذي لا يمكن لأحد كائنا من كان أن ينكر فضله ، وعلمه ، وتقواه ، وسائر صفاته
ومزاياه ، التي لم تكن لأحد في زمانه على الاطلاق ، فليس لهم بعد طريق للاعتراض
عليه : بأن الذي اختاره لولاية عهده ، والخلافة من بعده ، ليس أهلا
__________________
لما أهّله له. ولو
أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد ، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم ، والخسران لهم
دون غيرهم.
فذلكة لا بد منها :
هذا .. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون ، لم يخترع
اسلوبا جديدا للتصدي للزيدية ، والحد من نفوذهم ، وكسر شوكتهم : ببيعته للرضا (ع)
؛ إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفه المهدي ، الذي كان قد استوزر يعقوب بن
داود الزيدي ، ليحد من نشاط الزيدية ، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما
: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي ، بعد استيزاره ليعقوب ،
وتقريبه للزيدية ، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور ، وخصوصا ثورة محمد وابراهيم
ابني عبد الله ..
كما
يلاحظ أن تقريب العباسيين
للزيدية في عصر المهدي ، وتسليطهم على شئون الدولة وإداراتها ، لم يؤثر في الوضع
العام أثرا يخشاه العباسيون ، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الاقدام على ما
كان قد عقد العزم عليه ، بجنان ثابت وإرادة راسخة ..
يضاف
إلى ذلك : أن سهولة إبعاد
العباسيين لهم عن مراكز القوة ، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه ، الذي نكب يعقوب
بن داود ، الوزير الزيدي ، حيث لم تصاحبه ردة فعل ، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد
العباسيين ، لا حقيرة ، ولا خطيرة .. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس
الفكرة ، ويلعب نفس اللعبة ، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم ، وكسر شوكتهم ،
بالبيعة للرضا (ع) بولاية العهد بعده.
وعلى
كل حال ، فان هذا اسلوب
قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الاولى أيضا ، حيث بايعوا للعلويين ، وأظهروا أن
الدعوة لهم وباسمهم .. ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد ، حيث انقلبوا عليهم
يوسعونهم قتلا وعسفا ، وتشريدا عند ما خافوهم ، ولم يعودوا بحاجة إليهم ..
هـ ـ : أضف إلى ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة
العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمة (ع) ، وبين الزيدية ، حيث إنها كانت على درجة
من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم ، والانسجام فيما بينهم واضحا للعيان .. حتى
لقد شكى الائمة (ع) منهم ، وصرحوا : بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم ، أما
الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم ، وفي الكافي رواية مفادها : إنه (ع) قال إنهم قبل أن
يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم
وتبوعوا كرسي الرئاسة.
__________________
وقد
رأينا : أن عبد الله بن
الحسن ، عند ما جاء يعرض على الإمام الصادق (ع) كتاب أبي سلمة ، الذي يدعوه فيه
للقدوم إلى الكوفة ، لتكون الدعوة له ، وباسمه ؛ فنهاه الإمام (ع) عن ذلك ـ رأيناه
ـ ينازع الإمام الصادق الكلام ؛ حتى قال له :
« والله ، ما
يمنعك من ذلك الا الحسد إلخ .. » وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضبا .
ورأينا
أيضا أنه في موقف آخر
له مع الإمام الصادق (ع) يتهمه بنفس هذه التهمة ، ويصمه بعين هذه الوصمة ، وذلك
عند ما أرادوا البيعة لولده محمد ، وأبدى الإمام (ع) رأيه في ذلك .. ذلك الرأي
الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده .
بل لقد كان عيسى
بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله : « .. من خالفك من آل أبي طالب ، فأمكني أضرب عنقه
.. » وقد تجرأ عيسى هذا أيضا على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره ..
وأما موقف محمد بن
عبد الله نفسه مع الإمام الصادق (ع) ، فأشهر من أن يذكر ، حيث إنه سجن الإمام (ع)
، واستصفى أمواله ، وأسمعه كلاما قاسيا ، لا يليق بمقام الإمام وسنه .
__________________
إلى آخر ما هنالك
مما يدل على كرههم ، وحقدهم على الائمة (ع) ، أو بالاخرى حسدهم لهم ..
والمأمون .. كان
يعلم بذلك كله ، ويدركه كل الإدراك ، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية
الدهياء ـ قد أراد أيضا في جملة ما أراد : أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي :
بين الأئمة ، والمتشيعين لهم ، وبين الزيدية ، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص ،
حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر ، ولم يعد فيهما بقية .. انقض هو
عليهما ، وقضى عليهما بأهون سبيل ..
بل إن بعض
الباحثين يرى : أنه أراد من لعبته هذه : « .. ضربا للثائرين العلويين من إخوة علي
بن موسى بأخيهم .. ».
ولو اننا استبعدنا
كل ذلك ، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية ، وعلى كل من
يدعو إلى « الرضا من آل محمد » ، ولم يعد يخشى أحدا منهم ، بعد أن أصبح « الرضا من
آل محمد موجودا ..
الهدف التاسع :
كما أنه ببيعته
للامام الرضا (ع) بولاية العهد ، وقبول الإمام (ع) بذلك .. يكون قد حصل على اعتراف
من العلويين ، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية ، ولقد صرح المأمون بأن ذلك
كان من جملة أهدافه ، حيث قال : « .. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ، ليكون دعاؤه لنا
، وليعترف بالملك والخلافة لنا .. » وسنتكلم حول تصريحات المأمون
__________________
هذه بنوع من
التفصيل في فصل : مع بعض خطط المأمون ، وغيره إن شاء الله تعالى ..
نعود إلى القول :
إن تصريح المأمون هذا يعطينا : أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون ، إنما
يعني بالنسبة للمأمون : أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره ، ولا
في العلويين دون غيرهم. وأنه كما يمكن أن يكون هو جديرا بها ، وأهلا لها ، كذلك
غيره يمكن أن يكون كذلك .. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح
الذي بأيديهم ، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم ، إذا دعوا لأية ثورة
ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته ، وأيدوه ، وتعاونوا معه من قبل ، وعلى أعلى مستوى ومن
أعظم شخصية فيهم ..
بل لقد كان يريد
أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم ، فليس لهم
فيه أدنى نصيب. وما فعله المأمون ـ من إسناد ولاية العهد لواحد منهم ، ما كان إلا
تفضلا وكرما ، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي ، وتصفو القلوب ويمحو
ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين ..
ولقد حاول المأمون
أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين ، شفاها أيضا فكانت النتيجة
عكس ما أراد المأمون ، وذلك عند ما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده ،
فأجابه الإمام (ع) :
بأن هذا الأمر لم
يزده في النعمة شيئا ، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.
كما أن المأمون قد
قال لحميد بن مهران ، وجمع من العباسيين :
« .. وليعتقد فيه
المفتونون به ، بأنه ليس مما ادعى في قليل ، ولا
كثير ، وأن هذا
الأمر لنا دونه .. » ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا ..
وبعد .. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا : إن حصول
المأمون على اعتراف من العلويين ، ومن الإمام الرضا (ع) خاصة ، بشرعية خلافته ،
وخلافة ، بني أبيه أخطر على العلويين من الاسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين
وعباسيين ضدهم ، : من قتلهم ، وتشريدهم ، وسلب أموالهم ، إلى غير ذلك مما هو معروف
ومشهور ..
الهدف العاشر :
يضاف
إلى ذلك ، أنه يكون قد
حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته ، طيلة فترة ولاية العهد ، وليعطي
الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم ، وليؤكد للملإ أجمع : أن
الحاكم هذا هو سلوكه ، وهذه هي تصرفاته : من كان ، ومهما كان ، وإذن فليس لهم بعد
حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئا جديدا. ولا أن ينظروا إلى جهة على
انها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم ، والمخرج من الظلمات إلى النور ، حتى ولو كانت
تلك الجهة هي آل بيت نبيهم ، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب ، ويتكلموا
بأشياء كثيرة ، ينسونها بمجرد وصولهم إلى الحكم ، وتسلمهم لأزمّة السلطة ، فإن تلك
لا تعدو كونها تكتيكات ، ووعودا انتخابية ، يحتاجون إليها في ظروف معينة ، ثم يستغنون
عنها .. كما كانت الحال في وعود المأمون ، التي أشرنا إليها فيما تقدم ..
وهكذا .. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد ، عن تصرفات
الهيئة الحاكمة ، دالا على رضاه بها ، ويعتبر إمضاء لها .. وبعد هذا ..
فلا يجب أن يكون
من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام ، وكل من يقدر له أن يصل
إلى الحكم والسلطان ، سواء من العلويين ، أو من غيرهم ..
وإذا كانت الصورة
واحدة ، والجوهر واحد ، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان ، فليس لهم بعد
حق ، أو على الأقل ما الداعي لهم ، لأن يطلبوا حكما أفضل ، أو حكاما أعدل ، فانه
طلب لغير موجود ، وسعي وراء مفقود ..
الهدف الحادي عشر :
هذا .. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه ، وحقن
دماء العباسيين ، واستوثقت له الممالك ، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته . وقوي مركزه ،
وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين ، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة ،
والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة ، ووهبها من الحياة في ضمير الامة
ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه .. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة ،
وإخماد أية ثورة ، ومقاومة كل الأنواء ، وذلك هو حلمه الكبير ، الذي طالما جهد في
تحقيقه ـ إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه :
__________________
يكون قد أفسح
لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه ، أيا كانوا ، وبأي وسيلة
كانت ، وبهدوء ، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.
كما أنه يكون قد
مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية ، بعيدا عن
الشبهات ، ودون أن يتعرض لتهمة أحد ، أو شك من أحد .. ألا وهو : القضاء على
العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائيا ، وإلى الأبد ،
على أكبر مصدر للخطر ، يمكن أن يتهدده ، ويتهدد خلافته ومركزه ..
إنه يريد زعزعة
ثقة الناس بهم ، واستئصال تعاطفهم معهم ، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت ،
بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر ، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات ..
يظهر ذلك في
محاولاته إسقاط الإمام اجتماعيا ، والوضع منه قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية
بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد
بلائه .. كما صرح لحميد بن مهران ، وجمع من العباسيين ، وسنتكلم بنوع من التفصيل
عن محاولات المأمون هذه ، التي باءت كلها بالفشل الذريع ، وعادت عليه بالخسران ؛
لأن الإمام (ع) كان قد أحبطها عليه ، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة
إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا ، بعد أن أشرف هو منه (ع) على الهلاك ..
بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات ..
ملاحظة لا بد منها :
ومن الامور
الجديرة بالملاحظة هنا : أن المأمون كان يقدر أن مجرد
جعل ولاية العهد
للإمام ، سوف يكون كافيا لتحطيمه اجتماعيا ، وإسقاطه نهائيا من أعين الناس ؛ حيث
يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول : أن الإمام رجل دنيا فقط ، وأن تظاهره بالزهد
والتقوى ما هو إلا طلاء زائف ، لا واقع له ، ولا حقيقة وراءه .. ولسوف تكون
النتيجة هي تشويه سمعة الإمام (ع) ، وزعزعة ثقة الناس به ؛ وذلك بسبب الفارق
الكبير بالسن ، بين الخليفة الفعلي ، وبين ولي عهده ؛ إذ أن ولي العهد لا يكبر
الخليفة الفعلي بسنتين ، أو ثلاثة ، أو خمسة ، لا .. بل اكثر من
ذلك بكثير ، إنه يكبره بـ (٢٢) سنة ، وإنه لمن الامور غير الطبيعية أبدا : أن يقبل
ولاية العهد ، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين ، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق
بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس ، وظنونهم ، ولسوف يتسبب بوضع علامات
استفهام كبيرة حوله .. كما كان الحال. بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة ، وكلام الريان
المتقدم .. ولسوف يفسر ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري ، وما يحدث ،
ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون ، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن
زهده (ع) بالدنيا ، ليس إلا ستارا تختفي وراءه مطامعه فيها ، وحبه المستميت لها ،
حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي ، الذي هو أصغر من ولده ، ويصل
إلى الحكم .. وباختصار نقول :
__________________
إنه يريد أن : «
.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه : ليس مما ادعى في قليل ولا كثير .. » حسبما صرح
به هو نفسه .. وعلى حد قول الإمام نفسه ، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه : « .. أن
يقول الناس : إن علي بن موسى ، لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ؛ ألا ترون
كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟! .. ». كما سيأتي ..
وعن الريان قال :
« دخلت على الرضا ؛ فقلت : يا ابن رسول الله ، إن الناس يقولون : إنك قبلت ولاية
العهد ، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!! ، فقال (ع) : قد علم الله كراهتي .. » وقد أشرنا إلى
سؤال محمد بن عرفة ، وكلام الريان فيما تقدم.
وعلى أي شيء يبكي
المأمون ، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب ، ويسهر الليالي ، ويتحمل المشاق .. إلا على
هذا .. إن هذا هو أجل أمنياته واغلاها ..
سؤال وجوابه :
قد يدور بخلد
القارئ أن ما ذكرناه هنا : فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن ، ينافي ما تقدم من أن
المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية ، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ ..
ولكن
الحقيقة هي : أنه لا منافاة
هناك .. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة ، لأن مقدار التفاوت بالسن بين
الامام (ع) والمأمون ، لم يكن مما يعرفه الكثيرون ، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس
في بادئ
__________________
الأمر ؛ لأنهم
يأخذون الامور على ظواهرها ، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك ، إلا بعد تنبيه وتذكير ؛
فللوهلة الاولى تجوز عليهم الخدعة ، ويقدرون خطوة المأمون هذه ، وتنتعش الآمال في
نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة ، تحت ظل حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا ، والانصاف
طريقة ..
ثم .. وبعد أن
يجند المأمون أجهزة إعلامه ، من أجل تسميم الأفكار ، يجد أن نفوس الناس مهيأة
ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لاسقاط
الامام ، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم ؛ فإن الحكم يكون
قد استنفذ أغراضه من البيعة ، وحصل على ما يريد الحصول عليه منها .. هذا ولا بد
لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الامام بالرغبة
بالدنيا والتفاني في سبيلها .. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تماما ؛ فيطلب
المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد ، والورع والتقوى .. وأنه لا يريد
مما أقدم عليه الاخير الامة ومصلحتها ؛ حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر
عليه ، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين
، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد ، وغيرها.
رأي الناس فيمن يتصدى للحكم :
لعل من الواضح أن
كثيرا من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم ، وقلة معرفتهم
: أن هناك منافاة بين الزهد والورع ، والتقوى ، وبين المنصب ، وأنهما لا يتفقان ،
ولا يجتمعان.
__________________
وقد رأينا
الكثيرين يمتنعون عن تولي المناصب للحكام ، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.
ولعل سر فهمهم هذا
: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق ، والدماء ، والأموال ،
وعلى أحكام الدين ، والنواميس الانسانية ، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع
ذلك كله ، ولا ينسجم معه ..
ولكن
الحقيقة هي : أن لا منافاة
بينهما أبدا ؛ فإن الحكم إذا كان وسيلة لا يصال الخير إلى الآخرين ، ورفع الظلم
عنهم ، وإشاعة العدل ، واقامة شريعة الله تعالى ؛ فيجب السعي إليه ، والعمل من
أجله ، وفي سبيله .. بل إذا لزم من ترك السعي إليه ، تضييع الحقوق ، وانهيار صرح
العدل ، والخروج على أحكام الدين ؛ فإن ترك السعي هذا ، يكون هو المنافي للزهد
والورع والتقوى ..
ولقد قاد النبي (ع)
الامة ، وقبله قادها سليمان بن داود ، وغيره ، وبعده الإمام علي بن أبي طالب ،
وولده الحسن ، ثم الحسين ، وهكذا ..
وحال هؤلاء في
الزهد والورع ، لا يحتاج إلى مزيد بيان ، واقامة برهان. بل لم يكن على ظهرها أزهد
، ولا أتقى ، ولا أفضل ، ولا أورع منهم ، عدوهم يعرف منهم ذلك تماما كما يعرفه
منهم صديقهم .. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى ، نرى
الإمام علي (ع) قمة في ذلك أيضا ؛ وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها ، وكان
راقعها هو ولده « الإمام الحسن (ع) » . وكان
__________________
يصلي في بيت المال
ركعتين شكرا لله ، بعد فراغ المال منه. وكان يقول : « إليك عني يا دنيا غري غيري ،
أبي تعرضت؟!! إلخ .. » وهو الذي قال فيه عدوه معاوية : « لو كان له بيتان : بيت من
تبر ، وآخر من تبن ؛ لأنفق تبره قبل تبنه .. » .. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه ..
العلويون يدركون نوايا المأمون
:
إن نوايا المأمون
تجاه العلويين ، ومحاولاته لإسقاطهم اجتماعيا ، وابتزازهم سياسيا .. حتى إذا أخفق
في ذلك راح يختلهم واحدا فواحدا ، كلما واتاه الظرف ، وسنحت له الفرصة .. لم يكن
العلويون يجهلونها ، بل كانوا يدركونها كل الإدراك ، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات
والأساليب المبهرجة .. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا : أن المأمون
كتب لعبد الله بن موسى ، بعد وفاة الرضا ، يعده بأنه يجعله ولي عهده ، ويقول له :
« ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا » ..
فأجابه عبد الله
يقول : « وصل إليّ كتابك ، وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال علي
حيلة المغتال ، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد ، وولايته لي بعدك ، كأنك
تظن : أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي
الملك الذي غرتك حلاوته؟! .. إلى أن يقول : أم في العنب المسموم الذي قتلت به
الرضا؟! ». ويقول له أيضا ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ : « هبني لا ثأر لي عندك
، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا ، الذين جاهروا في أمرنا ، فحذرناهم.
وكنت ألطف حيلة منهم ؛ بما استعملته من الرضا بنا ، والتستر لمحننا ، تختل واحدا ،
__________________
فواحدا منا الخ ..
» .
ولا بد من ملاحظة
: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد .. للرسالة التي
أرسلها إلى العباسيين في بغداد ، فور وفاة الرضا (ع) ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية
العهد فيهم ، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل : مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى
كل حال .. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أمورا ،
نشير إلى بعضها :
أولا : إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات
التي كان يخشاها ، والغدر بها ؛ إذ أن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن
يكون ولي العهد هو الذي يتآمر ، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي ، ليختصر المسافة
، ويصل إلى الحكم ، الذي ينتظر الوصول إليه ، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من
الطبيعي ، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده ، إلا إذا كان يريد أن
يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه ، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.
وهكذا .. فان النتيجة تكون : هي أن الخليفة الفعلي يكون آخر من
يتهم في ولي العهد ، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال ، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا
شك من جملة ما كان يريده المأمون ، ويسعى إليه ..
ثانيا : إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية
الرضا (ع) العهد .. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصرا وناجحا في لعبته تلك ، ولذلك
نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن
__________________
موسى. ولكن يقظة
هذا الأخير ، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمام (ع) قد فوتت عليه الفرصة ،
وأعادته. بخفي حنين.
كما أننا لا
نستبعد أن المأمون قد أراد بالاضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضا (ع) ، بعد أن
كان قد افتضح واشتهر ، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان ..
ثالثا : ما تقدمت الاشارة إليه من أن إكرامه للعلويين ، والرضا
بهم ، والتستر لمحنهم ، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة ، وإلا سياسة منه ودهاء ،
من أجل أن يأمن العلويون جانبه ، ويطمئنوا إليه ، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن
موسى : « ما ظننت أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا ». وقد قدمنا
أنه أشار إلى ذلك أيضا في كتابه للعباسيين ؛ فلا نعيد ..
رابعا : أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن
يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضا (ع) ، وسمه له بالعنب ، وكذلك غدره بغيره من
العلويين. وسر ذلك واضح ؛ فان جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك ، كما
سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.
موقف الامام في مواجهة مؤامرات
المأمون :
لقد رأينا كيف أن
المأمون أراد من لعبته تلك ، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها ، والاستفادة
منها في تقوية دعائم خلافته ، وخلافة العباسيين بشكل عام .. والسؤال الذي يطرح
نفسه هنا هو : ما هو موقف الإمام (ع) نفسه من لعبة المأمون تلك ، وخططه ، وأهدافه؟
، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه ، ويصل إلى ما
كان يريد الوصول
إليه؟ .. وهل كانت لديه خطط من نوع معين ، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول
إليها ، والحصول عليها؟! ..
الحقيقة
هي : أن الإمام (ع)
قد استطاع ، بما اتبعه من خطة حكيمة ، وسلوك مثالي : أن يضيع على المأمون كافة
الفرص ، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران ، ويمنى بالفشل الذريع ، حتى لقد أشرف
المأمون منه على الهلاك ، وبدا الارتباك واضحا في كل تصرفاته ، وأقواله ، وأفعاله
.. وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين : الثالث ، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك
إن شاء الله.
المأمون في قفص الاتهام :
وهكذا .. وبعد أن اتضحت الاسباب الحقيقية للبيعة ، وبعد أن عرفنا
بعض الظروف والملابسات ، التي أحاطت بهذا الحدث الهام ، فاننا نستطيع أن نضع
المأمون ، ونواياه ، وأهدافه ، في قفص الاتهام ، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبدا
، أي ادّعاء سطحي ، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة ، وسلامة طويته ،
ولا سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا ، وكذلك سلوكه المشبوه
مع الرضا (ع) من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر ، وحتى إلى ما بعد وفاته
، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية .. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم ..
والأدهى من ذلك
كله رسالته للسري ، عامله على مصر ، التي « يخبره فيها بوفاة الرضا ، ويأمره بأن
تغسل المنابر ، التي دعي عليها لعلي بن موسى ، فغسلت .. » .
__________________
وكذلك لا يمكن أن
نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين ، الآخرين .. كما أشرنا إليه في رسالته
لعبد الله بن موسى ، التي يذكر فيها : أنه راح يختلهم واحدا فواحدا .. وأيضا عند
ما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه ، بعد وفاة الرضا ، ويأخذهم بلبس السواد .. بل ويأمر
ولاته وأمراءه بملاحقتهم ، والقضاء عليهم ، كما سيأتي ..
مع المأمون في وثيقة العهد :
ويحسن
بنا هنا : أن نقف قليلا مع
وثيقة العهد ، التي كتبها المأمون للامام (ع) بخط يده ؛ فلقد ضمنها المأمون إشارات
هامة ، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث اننا قد تحدثنا ، ولسوف
نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها .. فلسوف نقتصر هنا على :
أولا : إننا نلاحظ : أنه يؤكد كثيرا على نقطتين : الاولى : أنه
منطلق في هذه البيعة من طاعة الله ، وإيثاره لمرضاته ، الثانية : أنه لا يريد بذلك
إلا مصلحة الامة ، والخير لها ..
وسر
ذلك واضح : فهو يريد أن
يذهب باستغراب واستهجان الناس ؛ الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم
ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب ، ولمن يعتبر زعيما لأخطر المنافسين
للعباسيين .. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به ، وبنظام حكمه.
وعدا عن ذلك فهو
يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع ، بل هو
أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته ، ومصلحة الامة ، والصالح العام ..
__________________
وثانيا : نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة ؛ وذلك
لكي يضمن لأهل بيته حقا في الخلافة كآل علي.
وثالثا : يلاحظ : أنه يعطي خلافته صفة الشرعية ؛ حيث يربطها
بالمصدر الأعلى ( الله ) ، وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح ؛ لأنهم بمجرد أن
يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة ، ويصير مقبولا لدى الناس ..
إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه ، وحجته على عباده ..
وهو أيضا تام
وصحيح حسب منطق العباسيين ، الذين يدعون الخلافة بالارث عن طريق العباس بن عبد
المطلب ، حسبما تقدم بيانه ..
ولهذا نلاحظ أنه
يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب!! مع أن عبد الله تلميذ علي .. وليس
ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة ، وجعل حق له بالخلافة ، بل وجعل نفسه الأحق بها
.. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي ، وصل إليه بالطريق الشرعي ، سواء على حسب منطق
الناس في تلك الفترة ، أو على حسب منطق العباسيين ..
وفي هذا إرضاء
للعباسيين ، وتطمين لهم ، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس ، الذين كانوا
غالبا ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين
باستشهاده بقول عمر ؛ حيث أثبت لهم : أنه لا يزال على مذهبه ، وعلى نفس الخط الذي
هم عليه ..
ورابعا : إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه ، ووجهة
نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفا ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي
: أنه إنما يجعل الخلافة للرضا (ع) ، لا من جهة أنها حق له ، ولا من جهة النص عليه
، حسبما يدعيه الرضا ، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه .. وهذا أمر طبيعي جدا ،
وليس إقرارا بمقالة
الرضا .. وكما
ينطبق الآن على الرضا ، يمكن أن ينطبق غدا على غيره ، عند ما يوجد من له فضل ،
وأهلية .. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة ،
ومن النص ، وغير ذلك .. هذا ..
ولسوف يأتي في فصل
: خطة الإمام ، شرح ما كتبه الإمام (ع) على ظهر الوثيقة ، ولنرى من ثم كيف نسف
الإمام كل ما بناه المأمون ، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف ..
كلمة أخيرة :
وأخيرا : فاننا مهما شككنا في شيء ، فلسنا نشك في أن المأمون كان
قد درس الوضع دراسة دقيقة ، قبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة
الاحتمالات ، ومختلف النتائج ، سواء مما قدمناه ، أو من غيره ، مما أخفته عنا
الايدي الأثيمة ، والأهواء الرخيصة .. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها ، التي
كان يرجوها منها ؛ وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمام (ع) قد اتبعها.
ولعمري : « .. إن بيعته للامام لم تكن بيعة محاباة ؛ إذ لو كانت
كذلك لكان العباس ابنه ، وسائر ولده ، أحب إلى قلبه ، وأجلى في عينه .. ». على حد
تعبير المأمون في رسالته للعباسيين ، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء
الله تعالى.
أسباب البيعة لدى الآخرين :
أحمد أمين المصري ، وأسباب
البيعة :
وعلى ضوء ما تقدم
، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين ، والباحثين ، مما جعلوه أسبابا
لأخذ البيعة للامام (ع) بولاية العهد ؛ ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود
أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق ؛ إذ أنها على الغالب : إما لا تعتمد على سند
تاريخي أصلا ، أو تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه ..
ولعل الدكتور أحمد
أمين المصري ، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسبابا للبيعة ، حيث
نلاحظ : أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي ، بل التاريخ على اختلاف أهوائه ،
واتجاهاته يدحضه ، ويكذبه .. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد
عليه ؛ ولذا فلا يكون من التجني عليه القول : إن ما ذكره كان سطحيا ، أو بوحي من
تعصب مذهبي رخيص ..
وما ذكره يرجع إلى
أسباب أربعة ، رأى أنها صالحة ، كلا أو بعضا ، لأن تكون سببا لأخذ البيعة للرضا
بولاية العهد .. ونلخصها بما يلي :
١ ـ إن المأمون قد
أراد بذلك : أن يصلح بين البيتين ، العلوي ، والعباسي ، ويجمع شملهما ؛ ليتعاونا
على ما فيه خير الامة ، وصلاحها. وتنقطع الفتن ، وتصفو القلوب.
٢ ـ إنه كان
معتزليا ، على مذهب معتزلة بغداد ، يرى أحقية علي (ع) وذريته بالخلافة ؛ فأراد أن
يحقق مذهبه ..
٣ ـ إنه كان تحت
تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين ، والفرس يجري في عروقهم التشيع ؛ فما زالا
يلقنانه آراءهما ، حتى أقرها ، ونفذها ..
٤ ـ « إنه رأى أن
عدم تولي العلويين للخلافة ، يكسب أئمتهم شيئا من التقديس ؛ فإذا ولوا الحكم ظهروا
للناس ، وبان خطؤهم ، وصوابهم ، فزال عنهم هذا التقديس .. » .
هذا .. وقد ادعى
في كتابه : « المهدي والمهدوية » : أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في
الخلفاء ، فأراد المأمون : أن يظهرهم ، ليعرفهم الناس على حقيقتهم ..
كان ذلك ما يراه
أحمد أمين يصلح ـ كلا أو بعضا ـ سببا للبيعة ..
آراء أحمد أمين في الميزان :
ونحن بدورنا ، وإن
كنا نعتقد أن فيما قدمناه ، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم واسقاطها ، إلا
أننا نرى لزاما علينا أن نشير بايجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها ، معتمدين
في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ ، وتنبهه ، ووعيه .. فنقول :
__________________
أما
ما ذكر أولا : فقد كفانا هو
نفسه مؤونة الكلام فيه ، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى
السطحية والسذاجة ..
وأما
ما جعله سببا ثانيا : فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن ، ولا سيما بملاحظة ما قدمناه في
الفصلين السابقين ، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها ، وأيضا ملاحظة ما
سيأتي من سلوك المأمون المشبوه ، مع الإمام (ع) ، ومعاملته السيئة للعلويين ، وكل
من يتشيع لهم ، ويتعاطف معهم .. وعلى الأخص إذا لاحظنا : أن المأمون لم تكن عقيدته
هي المنطلق له في مواقفه السياسية ، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة ،
ويؤكد وجوده في الحكم ، وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف ،
وتارة يصف الصحابة ، ما عدا الإمام علي (ع) بـ « الملحدين » ، ويصف الخليفة الثاني
عمر بن الخطاب بـ « جعل » ، إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة ، مما لا نرى
ضرورة لاعادته.
ولعل الأهم من ذلك
كله : أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ عليا (ع) على جميع الصحابة ، لم يكن
واضحا بعد في تلك الفترة ، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل
خطة الإمام .. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم ، على جميع الوجوه والتقادير.
وأما
ما جعله سببا ثالثا ؛ فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل ..
ولكننا نستغرب منه
جدا ، بل ونأسف كل الأسف ، لما طلع به علينا ؛ بما جعله سببا رابعا : من أن عدم
تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئا من التقديس ؛ فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد ؛
ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن
القفطي في تاريخ الحكماء ..
وليس واضحا تماما
من هم « الأئمة » ، الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد
الأئمة الاثني عشر ، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم ، وهو الإمام الرضا .. بل
أعلن ذلك صراحة في عبارته الاخرى ، التي أوردها في كتابه : « المهدي والمهدوية » ـ
إذا كان كذلك ـ ، فاننا نرى : أن لنا كل الحق في أن نتساءل :
هل عثر أحمد أمين
لهؤلاء الأئمة ، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس ، على مدى تاريخهم الطويل؟!
وهل يستطيع أن
يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم ، ويتنافى مع مروءتهم ، ويخالف دينهم ورسالتهم؟!
..
ولماذا تظهر
تفاهات غيرهم ، وأخطاؤهم ، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها ، واخفائها .. ولا تظهر
أخطاء هؤلاء الأئمة ، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم ، والتعرف على أية نقيصة
أو خطاء منهم إن كان؟!!.
ومتى كان هؤلاء
الأئمة مستورين عن الناس ، منفصلين عنهم ، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!!.
وهل كل شخصية لا
تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!!.
وهل كل شخصية تصل
إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!!.
وهل التقديس مقصور
على الشخصية المستورة ، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!!.
وهل أثر وصول
الإمام علي (ع) للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.
وهل يستطيع أحمد
أمين أن يذكر لنا خطأ واحدا ، ارتكبه الإمام علي (ع) ، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن
معاوية وسواه ، ممن كانوا معادين للإمام (ع) ، ما كانوا يألون جهدا في الصاق التهم
به ، والافتراء عليه؟!!.
وأما عن الإمام
الرضا (ع) :
فمتى كان مستورا
عن الناس ، بعيدا عنهم؟!!.
وهل تتفق دعواه
باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس ، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام
الرضا (ع) ، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد ، حيث يقول : « .. وقد استبان له [
أي للمأمون ] ما لم تزل الأخبار عليه متواطية ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه
جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل : يافعا ، وناشئا ، وحدثا ، ومكتهلا الخ ..
».
فهل يعقل : أن
إنسانا من هذا النوع يكون مستترا عن الناس ، بعيدا عنهم ، ولا يعيش فيما بينهم ،
منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.
ومع
ذلك .. فأي خطأ
يستطيع أحمد أمين ، أن يسجله على الإمام الرضا (ع) طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون
، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الامام (ع) قليلا
قليلا ، ويصوّره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ، على حد تعبير نفس
المأمون؟!.
وهل لم يقرأ أحمد
أمين أقوال كبار علماء أهل السنة ، وأئمتهم ، وتصريحاتهم الكثيرة جدا حول أئمة أهل
البيت (ع) ، والإمام الرضا منهم بالذات ؛ ليعرف مقدار عظمتهم ، وطهارتهم ،
ونزاهتهم التي لا يشك ، ولا يرتاب ، ولا يناقش فيها أحد؟! ..
وأخيرا .. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا ، عند ما ظهر للناس؟!
أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماما؟!! ..
هذه بعض الأسئلة
التي نوجهها للاستاذ : « أحمد أمين » ، ولكل من يرى رأيه ، ويذهب مذهبه .. وإننا
لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد .. وإنما ستواجه
عنتا وعنادا صاعقين ، يبتزان منهم كل غريبة ، ويظهران الكثير الكثير من الترهات
العجيبة .. ولكن ليطمئن بالهم ، وتهدأ ثائرتهم ؛ فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل
هذه الترهات ، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات ؛ فما تلك إلا : « شنشنة أعرفها من
أخزم » ..
رأي غريب آخر في البيعة :
هذا .. ويرى بعض المؤلفين : أن المأمون كان في بيعته للرضا (ع)
واقعا تحت تأثير القوات المسلحة ، وأنها هي التي أجبرته على ذلك ، حيث كان القسم
الكبير من قوادها ، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين ، وقد شرطوا عليه : أنهم لا
يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده ؛ فأجابهم إلى ذلك ..
وأقول : ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ ، الذي نقل له
هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون ، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه ،
وسلوكه مع الإمام (ع) ، حتى قبل أن يصل إلى مرو ، وكذلك سائر مواقفه معه ، والتي
تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.
__________________
وأحسب أن هذا
المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته : « الأمين والمأمون »
ص ٢٠٣ ، طبع دار الاندلس ، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك.
واحتمل ذلك أيضا في كتابه : تاريخ التمدن الإسلامي ، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩.
وكأن مؤلفنا يريد أن يقول : إن المأمون كان مضطرا إلى إجابتهم : إما خوفا من
انتقاضهم عليه ، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين ، أو للسببين معا .. ولكن هذا
الاشتراط كما قلنا ، ليس له أي سند تاريخي يدعمه ، بل الشواهد التاريخية كلها على
خلافه ، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخاه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره
« زيدان » ، لا يصلح شاهدا تاريخيا ، بعد أن كان روائيا ، لا يلتزم بالحقائق
التاريخية .. وبعد أن لاحظنا : أنه يتعمد التضليل في كتابه : تاريخ التمدن
الإسلامي ..
وأحسب أن هذا هو
عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة ؛ بأنه هو المدبر لها ، والقائم
بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الايهام والابهام ..
وفريق آخر يرى :
وهناك بعض
الباحثين يرى : أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة : هو أن المأمون أراد أن يحذر
العباسيين من مغبة المخالفة له ، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم ، ويدفعهم إلى
الوقوف إلى جانبه ؛ بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين.
وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد ، وتأييدهم أخاه الأمين عليه ،
وتشجيعهم له
ضده. كما أنه يكون
بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له ، ليستطيع مقابلتهم ، والوقوف في وجههم ،
وينتقم منهم .
ولكنه رأي لا تمكن المساعدة
عليه :
لأن منطق الأحداث
، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الاباء أن يكون هذا سببا منطقيا للبيعة .. وقد
قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع .. هذا
بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون ، من الدهاء والسياسة ،
وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك
الفترة من الزمن ، التي كانت طافحة بالمشاكل ، كان العصيان فيها معلنا في أكثر
مناطق الدولة ، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!!.
إن
الحقيقة هي : أن المأمون في
تلك الفترة بالذات ، كان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلا عن ثقة
وحب أهل بيته ، وعشيرته : العباسيين ..
ثم .. وهل يمكن أن
يلجأ المأمون للانتقام منهم ، الى هذا الاسلوب العاجز ، بعد أن خضعوا له وانقادوا
لأمره ، وسلموا بالأمر الواقع ، بعد مقتل الأمين؟!.
ولماذا لا يقدر :
أنهم سوف يقابلونه بالمثل ، ويقومون في وجهه ؛ ثأرا لكرامتهم ، ودفاعا عن وجودهم؟!
..
ولماذا يعطيهم
الفرصة لابراز عضلاتهم ضده ، ويجعلهم يفكرون في
__________________
تحدي سلطته ، وهتك
حرمته؟! .. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون ؛ بسبب بيعته للإمام (ع) ، وبايعوا
لإبراهيم بن المهدي ، في أواخر ذي الحجة ، من نفس السنة التي بويع فيها للإمام (ع)
بولاية العهد.
وأخيرا .. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه
الضعفاء جدا ، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم ، بأساليب أخرى ، أقل
إثارة ، وأشد نكاية؟!! ..
ولقد أشرنا ،
ولسوف نشير الى ما قاله المأمون لحميد بن مهر وجمع من العباسيين .. بل ويكفينا هنا
: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم ، يقول
المأمون : « .. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ( يعني للعلويين ) عاقبة ومنفعة
، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ، وابنائكم من بعدكم .. » وكذلك ما كتبه
بخط يده في وثيقة العهد .. إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه ..
فتلخص أن ما ذكر هنا ، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون
، ودهائه السياسي ..
الفضل في قفص الاتهام :
وأخيرا .. فإن بعض
المؤلفين ، كأحمد أمين في كلامه المتقدم ، وجرجي زيدان وأحمد شلبي ، وغيرهم. وبعض
المؤرخين كابن الأثير في الكامل ، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٣ ، وابن الطقطقي في :
__________________
الفخري في الآداب
السلطانية ص ٢١٧ ، وغيرهما .. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة «
ولاية العهد » هذه ، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل ، الذي كان
يتشيع.
ويرى آخر : أن سبب
إشارة الفضل على المأمون بذلك ، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في
العلويين ..
الفضل بريء من كل ما نسب إليه :
أما نحن فإننا
بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي :
إن ما بأيدينا من
النصوص التاريخية يابى عن نسبة التشيع للفضل ، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون
بهذا الأمر ، فضلا عن كونه المدبر له ، والقائم به .. اللهم إلا أن تكون مؤامرة
اشترك الرجلان معا في وضع خطوطها العريضة ، آخذان في اعتبارهما ظروفهما ،
ومصالحهما الشخصية ، ليس إلا ..
بل إن بعض النصوص
تفيد أن الفضل كان عدوا للامام (ع) ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة ، أعداء أهل
البيت (ع). وأنه لم يكن حتى راغبا في البيعة للرضا (ع) ، وأنه وأخاه قد مانعا في
عقد العهد للرضا ؛ فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له .. بل لم
يكن
__________________
يعلم أن المأمون
يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان واحضار المأمون له ، واعلامه بأنه
يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ والطبري وغيرهما. وإن كان
ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي ارسلها إلى الإمام وهو في المدينة
والتي أوردها الرافعي في التدوين.
وذلك ما يقوي أنه
كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه
وبين المأمون فراجعها.
ولو أنه كان ممن
يتشيع للإمام (ع) ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه ، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة
للاقدام على التخلص منه (ع) ، وذلك عند ما ذهب إلى الرضا ، وحلف له بأغلظ الأيمان
، ثم عرض عليه قتل المأمون ، وجعل الأمر إليه.
لكن الإمام بسبب
وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة ، حيث أدرك للتوّ أنها دسيسة
ومؤامرة ، فزجر الفضل وطرده ، ثم دخل من فوره على المأمون ، وأخبره بما كان من
الفضل ، وأوصاه أن لا يأمن له ..
وبذلك يكون الإمام
(ع) قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن ـ كما أنه يكون قد
شكك المأمون في اخلاص الفضل له.
وعاد الفضل من
مهمته تلك بخفي حنين ، يجر هو وسيده أذيال الخيبة ، والخزي ، والخسران ..
أما إذا كان الفضل
قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما
__________________
هو غير بعيد ـ فليس
ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمام (ع) ، وحسده له ، يريد بذلك تمهيد الطريق
لمقتله ، ليخلو له الجو ، وليفعل من ثم ما يشاء ، وحسبما يريد ..
وأيا ما كانت
الحقيقة ، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار ، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في
هذه القضية ..
ويا ليته كان قد
قنع بذلك .. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمام (ع) ، حتى إن بعض
المؤرخين يرى : أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!! ..
وبعد .. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون
بارجاع الإمام عن صلاة العيد ، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟! .. كما سنشير إليه
إن شاء الله.
وأيضا .. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمام (ع) وحسده له على ما
كان المأمون يفضله به ، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!! .
وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي ، وجعله عينا للمأمون
على الإمام ، ينقل إليه حركاته وسكناته ، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!!.
ولو أن الفضل كان
ممن يتشيع للإمام ، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء ، إذ كيف لا يلتفت لأمر
المأمون المؤكد لرسله : أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم ، لئلا يفتتن به
الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل ، إن لم يقبل ما يعرضه عليه ، ثم إلى جلبه
العلماء والمتكلمين
__________________
من أقاصي البلاد ،
من أجل افحام الإمام ، واظهار جهله وعجزه ، إلى آخر ما هنالك ، من صفحات تاريخ
المأمون السوداء.
ثم نرى أنه هو
بنفسه يشارك في ذلك كله ، وسواه ، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للامام ،
إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون ..
وإذا كان نفوذه قد
بلغ حدا يجعل المأمون يتنازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب ، فلماذا
لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني ، الذي
انتهجه مع الإمام ، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة ، وإلى آخر لحظة عاشها
معه ، وبعد ذلك إلى ما شاء الله ..
هذا كله من جهة ..
موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة
التشيع له :
ومن
جهة ثانية .. لو كان للفضل
فضل في مسألة البيعة للإمام (ع) ، أو كان ممن يتشيع له ، لم يكن من اللائق من
الرضا (ع) ، أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون ، وجعل الأمر
إليه .. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له ، ويخبره بغشه وكذبه ، وأنه يخفي
عنه حقيقة ما يجري في بغداد ، وغيرها ..
ولا من اللائق منه
أيضا : أن يعامله تلك المعاملة ، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون ، والتي كان
فيها الكثير من الخشونة ، والاحتقار والامتهان ، فقد قدمنا أنه عند ما ذهب إليه
الفضل يطلب منه كتاب
__________________
الامان ، لم يسأله
عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه ، ثم أمره بقراءة الكتاب ، فقرأه ـ وكان كتابا في
اكبر جلد ـ وهو واقف ، لم يأذن له بالجلوس ..
وكذلك لم يكن من
اللائق منه : أن يزري عليه عند المأمون ، فقد ذكر المؤرخون : أنه « .. كان يذكر
ابني سهل عند المأمون ، ويزري عليهما ، مما دفعهما إلى السعاية به ، وكان يوصيه أن
لا يأمن لهما » .
إلى آخر ما هنالك
مما لا يصدر من اى انسان عادي آخر في حق من يتشيع له ، فضلا عمن يتسبب في جعله
وليا لعهد الخلافة الإسلامية للامة بأسرها.
والمأمون نفسه يستنكر ذلك :
ومن جهة ثالثة ..
فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية .. ولا شك
أن « عند جهينة الخبر اليقين ».
فقد قدمنا في
الفصل السابق : أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل !! ـ عند ما رأى
أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا ، وأنهم يقولون : « إن هذا من تدبير
الفضل » .. قال للمأمون ذلك ، فأجابه المأمون : « .. ويحك يا ريان!! أيجسر أحد أن
يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية ، والقواد ، واستوت الخلافة ، فيقول
__________________
له : ادفع الخلافة
من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!! .. الخ »
لا .. أبدا .. لا
يمكن أن نتصور ، ولا يجوز في العقل : أن يأتي وزير ملك إليه ، ويطلب منه التنازل
عن عرشه ، ويسلمه إلى رجل غريب ، وهو يعلم أن ذلك الملك ، قد قتل أخاه ، وغيره ،
وهدم البلاد ، وأهلك العباد ، من أجل ذلك العرش .. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له
هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب ، أي شأن ، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون
له من النفوذ ، والسلطة والطول ، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي
فرد عادي آخر ، محكوما لا حاكما ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى .. اللهم إلا أن
يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول ، لتنفيذ خطة معينة ، قد رسماها معا من قبل ،
وعملا على أن تكون الامور في نهاية الأمر في صالحهما ، ومن أجل تعزيز نفوذهما
وسلطتهما ..
أما حصيلة هذه الجولة :
وهكذا .. تأبى الأحداث ، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه
القضية شيء ، إلا عن طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون ، أفعى الدهاء والسياسة
، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع ، وتقييم عام له .. اتفقا على أثره على خطة للتخلص
من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما ، وتشكل ـ إلى حدّ ما ـ خطرا على وجودهما في
الحكم ، وتفردهما بالسلطة .. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول ابراهيم بن العباس في
مدح الفضل في جملة أبيات له :
وإذا الحروب غلت
بعثت لها
|
|
رأيا تفل به
كتائبها
|
رأيا إذا نبت
السيوف مضى
|
|
عزم به فشفى
مضاربها
|
أجرى إلى فئة
بدولتها
|
|
وأقام في أخرى
نوادبها
|
ولعل الفضل كان مخدوعا!.
ولكن ألا يحتمل
قريبا : أن يكون الفضل مخدوعا في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضا راح ضحية تآمر
وتضليل من نفس سيده : المأمون؟! ..
الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جدا ، لأننا نرى في النصوص التاريخية ،
ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون ، وأنه قد جازت عليه
حيلته في بادئ الأمر ، بادّعائه : أنه إنما يوليه العهد ، لأنه يريد خير الامة
ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره ( أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين ؛ فلسوف
يسلم الخلافة لرجل غريب!! ) ..
وقد تقدم أن ابن
القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية ، ولا عالما بواقع الأمر .. ولعلنا
نستطيع : أن نستدل على ذلك بقوّة بمانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر ..
كما أننا رأينا
المأمون : يرفض أن يطلب من الإمام (ع) كتاب الأمان للفضل ، بحجة أن الإمام كان قد
اشترط : أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشئونها .
ثم نرى المأمون
نفسه يطلب من الإمام : أن يولي فلانا ، أو أن يكتب إلى فلان بكذا ، أو أن يساعده في
إدارة شئون الخلافة ، أو أن
__________________
يصلي بالناس ، إلى
غير ذلك من الامور .. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام ، لم يكن له من الأهمية
مثل ما كان يطلبه منه المأمون ..
وعلى كل فقد يجوز
للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه ..
الفضل يقع في الشرك :
واخيرا .. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول :
مسكين الفضل بن
سهل ، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه ، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي
ارتكبها ، وأن يجعل هذا الوزير المسكين ، الذي كان عدوا للامام ، والذي لم يشعر
إلا وهو في الفخ ، هو المسئول عن أكثر جرائمه وموبقاته ، بل وعنها جميعا ، حتى
البيعة للرضا (ع) ، بل وحتى عن قتل أخيه الأمين!!
ولقد أدرك الفضل
أنه قد وقع في الشرك ، ولكن .. بعد فوات الأوان ، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى
بغداد ، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار ، وما سوف يتعرض له من مؤامرات ،
وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه ، وبيّن له صراحة أنه هو المتهم
بالبيعة للرضا ، وبقتل الأمين ، فلقد قال له :
« .. يا أمير
المؤمنين ، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك ، وعند العامة ، والناس يلومونني بقتل أخيك
المخلوع ، وببعة الرضا ، ولا آمن السعاة والحساد ، وأهل البغي أن يسعوا بي ، فدعني
أخلفك بخراسان الخ .. » .
__________________
ولكن أنى له أن
يتركه المأمون ، الذي كان يريد التخلص منه ، من أجل أن ترضى عنه بغداد ، مضافا إلى
أنه هو أيضا كان يخشاه ويخافه ..
فلقد كان قد أعدّ
العدة ، وأحكم الخطة في أمره ، ولم يبق إلا التنفيذ ( كما سيأتي بيانه ) ..
وبعد أن يئس الفضل
من اقناع المأمون ، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك ، فطلب منه أن يكتب له كتاب
ضمان وأمان ، فاستجاب المأمون لهذا الطلب ، وكتب له كتابا ، يسمى كتاب
الحياء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون ،
وتوطيد سلطانه.
ونلاحظ : أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد ، بل وزاد على ما
كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير ، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه ، ما دام أنه
قد أحكم الخطة ، ودبر له النهاية.
وكما رسم ودبر ..
كانت النهاية!! ..
لماذا الاصرار على اتهام الفضل :
وهكذا .. فإننا بعد كل ما تقدم ، لا نرى مجالا للإصرار على نسبة
التشيع للفضل ، أو القول : بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره ،
وخاضعا لارادته ، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة ..
ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك ، حتى وإن أنكره المأمون نفسه ،
وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة
ـ بما
__________________
لا يحبون اتهامه
به ، كالتشيع ، والحب لآل علي (ع) ، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة ، لو فرض
وجودها فعلا .. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة
ظروف المأمون ، وأهدافه من البيعة ..
هذا .. وقد رأينا
: أن العباسيين في بغداد ، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم ، يتهمون الفضل بن سهل
بتدبيرها .. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع
القضية ، وما ذلك إلا لما قلناه ، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون ، وليبقى باب
الصلح معه في المستقبل مفتوحا .. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون ، حتى لا تلصق
بها تهمة ، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها ،
ألا وهي تهمة : الحب لعلي ، وآل بيته ..
ولعله أيضا لهذه
الاسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل ، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئا ،
حتى لقد قالوا عنه : إنه مسجون ومسحور . وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلا إلا البيعة للرضا (ع) ،
ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلا ..
جميل .. وجميل جدا .. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل ، وإن
كانت جميع الدلائل والشواهد متظافرة على العكس من ذلك .. ولو لم يكن ذلك يكفي
لتبرئة المأمون ، فهم على استعداد لاتهامه بعقله ، كما قد حدث ذلك بالفعل ، فذلك
عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي ، والتشيع لهم ..
__________________
احتمال وجيه جدا :
على أننا لا
نستبعد كثيرا .. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذى هذه التبريرات والتمويهات ،
وخصوصا بعد مقتل الفضل ، ليبرئ نفسه أمام العباسيين ، وليشوه الفضل .. كما أننا لا
نشك أبدا في أن كثيرا مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير ، التي
شجعها المأمون وحزبه ، لأن الأمين كان هو المغلوب ، والمأمون كان هو الغالب ..
وللغالب القدرة ، بل والحق أيضا ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب ،
ويصوره بالصورة التي يريد ..
ويدلنا على أن
المأمون هو المسئول عن ذلك ، ما رواه الحصري في زهر الآداب من : « أنه لما خلع
المأمون أخاه الأمين ، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته ، كان يعمل كتبا بعيوب أخيه
، تقرأ على المنابر بخراسان الخ .. » . وطبيعي بعد ذلك : أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا
أحرارا ، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم : أن يؤرخوا كما يريد المأمون ، وأن
يكتبوا ما يمليه عليهم ، لا ما هو حق وواقع .. يرونه بام أعينهم. أو تحكم به ـ إن
كانت ـ ضمائرهم ..
وأخيرا .. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع ، وتهمة تدبير
أمر البيعة الاعلى نحو التآمر ، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح «
فكل إناء بالذي فيه ينضح » ..
__________________
القسم
الثّالث
أضواء على الموقف :
١ ـ عرض الخلافة ،
ورفض الإمام ..
٢ ـ قبول ولاية
العهد بعد التهديد ..
٣ ـ مدى جدية عرض
الخلافة ..
٤ ـ موقف الإمام
..
٥ ـ خطة الإمام ..
عرض الخلافة ، ورفض الامام (ع)
: نصوص تاريخية
: تحدثنا كتب
التاريخ : أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولا .. لكنه (ع) رفض
قبولها أشد الرفض ، وبقي مدة يحاول اقناعه بالقبول ؛ فلم يفلح .. وقد ورد أن
محاولاته هذه ، استمرت في مرو وحدها اكثر من شهرين والإمام 7 يأبى عليه ذلك .
بل لقد ورد أنه (ع)
كان قد أجاب المأمون بما يكره ؛ فقد :
قال المأمون
للإمام : « .. يا ابن رسول الله ، قد عرفت فضلك ، وعلمك ، وزهدك ، وورعك ، وعبادتك
؛ وأراك أحق بالخلافة مني .. ».
__________________
فقال الإمام (ع) :
« .. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز
بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله ..
قال المأمون :
فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة ، وأجعلها لك ، وأبايعك؟! ..
فقال الإمام (ع) :
إن كانت هذه الخلافة لك ؛ فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسكه الله ، وتجعله لغيرك ،
وإن كانت الخلافة ليست لك ؛ فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك .
قال المأمون : لا
بد لك من قبول هذا الأمر!! فقال الإمام (ع) : لست أفعل ذلك طائعا أبدا ..
فما زال يجهد به
اياما ، والفضل والحسن يأتيانه ، حتى يئس من قبوله ..
وخرج ذو الرئاستين
مرة على الناس قائلا : وا عجبا!! وقد رأيت عجبا!! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض
أمر الخلافة إلى الرضا.
__________________
ورأيت الرضا يقول
: لا طاقة لي بذلك ، ولا قدرة لي عليه .. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها .
__________________
قبول ولاية العهد بعد التهديد
مع محاولات المأمون لاقناع
الإمام
: الذي يبدو من
ملاحظة كتب التاريخ والرواية ، هو : أن محاولات المأمون لاقناع الامام بما يريد ،
كانت متعددة ، ومتنوعة. وأنها بدأت من حين كان الإمام (ع) لا يزال في المدينة ؛
حيث كان المأمون يكاتبه ، محاولا إقناعه بذلك ؛ فلم ينجح ، وعلم الإمام أنه لا يكف
عنه ..
ثم أرسل رجاء بن
أبي الضحاك ، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل ؛ فأتى بالإمام (ع) من المدينة الى مرو رغما عنه .. وبذل
المأمون في مرو أيضا محاولات عديدة ، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الإمام
بالقتل ، تلويحا تارة ، وتصريحا أخرى ، والإمام (ع) يأبى قبول ما يعرضه عليه ..
إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه ، وأنه لا محيص له عن القبول ؛ فقبل ولاية
العهد مكرها ، وهو باك حزين ـ على حد تعبير الكثيرين ـ ، وكانت البيعة له في
السابع من شهر رمضان ، سنة ( ٢٠١ ه ـ. ) ، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد ..
__________________
بعض ما يدل على عدم رضا الإمام (ع)
:
والنصوص الدالة
على عدم رضا الإمام (ع) بهذا الأمر كثيرة ، ومتواترة ؛ فقد قال أبو الفرج : « ..
فأرسلهما ( يعني الفضل والحسن ابني سهل ) إلى علي بن موسى ؛ فعرضا ذلك ( يعني
ولاية العهد ) عليه ، فأبى ؛ فلم يزالا به ، وهو يأبى ذلك ، ويمتنع منه .. إلى أن
قال له أحدهما : إن فعلت ذلك ، وإلا فعلنا بك وصنعنا ، وتهدده ، ثم قال له أحدهما
: « والله ، أمرني بضرب عنقك ، إذا خالفت ما يريد »!!. ثم دعا به المأمون ، وتهدده
؛ فامتنع ، فقال له قولا شبيها بالتهديد ، ثم قال له : « إن عمر جعل الشورى في ستة
، أحدهم : جدك ، وقال : من خالف فاضربوا عنقه ، ولا بد من قبول ذلك .. » !!
ويروي
آخرون : أن المأمون قال
له : « .. يا ابن رسول الله ، إنما تريد بذلك ( يعني بما أخبره به عن آبائه من
موته قبله مسموما ) التخفيف عن نفسك ، ودفع هذا الأمر عنك ؛ ليقول الناس : إنك
زاهد في الدنيا ..
فقال الرضا :
والله ، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ؛ وإني لأعلم
ما تريد؟!! ..
فقال المأمون :
وما أريد؟! قال : الأمان على الصدق؟
قال : لك الأمان.
قال : تريد بذلك
أن يقول الناس : إن علي بن موسى لم يزهد في
__________________
الدنيا ، بل زهدت
الدنيا فيه ؛ ألا ترون : كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟!
فغضب المأمون ،
وقال له : « إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه. وقد آمنت سطوتي ، فبالله أقسم : لئن قبلت
ولاية العهد ، وإلا أجبرتك على ذلك ؛ فإن فعلت ، وإلا ضربت عنقك .. » .
وقال الإمام الرضا
(ع) في جواب سؤال الريان له ، عن سرّ قبوله لولاية العهد :
« .. قد علم الله
كراهتي لذلك ؛ فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل. ويحهم
.. إلى أن قال : ودفعتي الضرورة إلى قبول ذلك ، على إجبار واكراه ، بعد الاشراف
على الهلاك إلخ .. » .
وقال في دعاء له :
« .. وقد اكرهت واضطررت ، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل ، متى لم أقبل
ولاية العهد .. ».
وقال في جواب أبي
الصلت : « وأنا رجل من ولد رسول الله (ص)
__________________
أجبرني على هذا
الأمر واكرهني عليه .. ».
بل لقد أعرب عن
عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد ، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر ،
وإنما يفعل ذلك امتثالا لأمر المأمون ، وإيثارا لرضاه ..
أما الباحثون وغيرهم فيقولون :
أما الباحثون ،
فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الأمر ينسى أن يؤكد على رفض الإمام (ع)
لهذا الأمر ، واستيائه منه ..
يقول أحمد أمين :
« .. والزم الرضا بذلك ، فامتنع ، ثم اجاب .. » .
وقال القندوزي :
إنه قبل ولاية العهد ، وهو باك حزين ..
وقال المسعودي : «
.. فألح عليه ، فامتنع ، فأقسم ؛ فأبر قسمه الخ .. » .
وعلى كل حال : فإن
النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاه (ع) بهذا الأمر ، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة
جدا . وتضارعها كثرة
__________________
أقوال الباحثين ،
الذين تعرضوا لهذا الموضوع ؛ ولذا فليس من اليسير الاحاطة بها واستقصاؤها في مثل
هذه العجالة ..
ولهذا .. فإننا
نكتفي هنا بهذا القدر ؛ حيث إن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك ..
__________________
مدى جدية عرض الخلافة :
عرض الخلافة ليس جديّا ..
: مر معنا أن
المأمون كان قد عرض أولا الخلافة على الإمام ، وأنه ألح عليه بقبولها كثيرا ، سواء
وهو في المدينة ، أو بعد استقدامه إلى مرو ، وأنه تهدده فلم يقبلها. فلما يئس من
قبوله الخلافة ، عرض عليه ولاية العهد ، فامتنع أيضا. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده
بالقتل ، وعرف الجدّ في ذلك التهديد!!.
وهنا سؤال لا بد
من الاجابة عليه ، وهو :
هل كان المأمون
جادا في عرضه الخلافة على الامام؟! ..
ويتفرع على
الاجابة على هذا السؤال سؤال آخر ، وهو :
إذا لم يكن
المأمون جادا في عرضه ذاك ؛ فما ذا ترى سوف يكون موقف المأمون ، لو أن الامام قبل
أن يتقلد الخلافة ، ويضطلع بشئونها؟!.
ومن أجل استيفاء
الجواب عن هذين السؤالين ، لا بد لنا من الإسهاب في المقال ، بالقدر الذي يتسع لنا
به المجال فنقول :
الاجابة على السؤال الأول
: أما عن السؤال
الأول ، فان الحقيقة هي : أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جادا في
عرضه للخلافة :
وقد قدمنا أننا لا
يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه ، والذي قتل من أجلها
أخاه ، وأتباعه ، بل وحتى وزراءه هو وقواده ؛ وغيرهم. وأهلك العباد ، وخرب البلاد
، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه ، وأزال كل محاسنها ـ لا يمكن أن نتصور ـ المأمون ،
الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة .. يتنازل عنها بهذه السهولة ،
بل ومع هذا الالحاح والإصرار منه ، لرجل غريب ، ليس له من القربى منه ما لأخيه ،
ولا من الثقة به ماله بقواده ، ووزرائه!!. أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء
جميعا ، والرضا فقط هو الأعز منها؟!! ..
وهل يمكن أن نصدق
، أو يصدق أحد : أن كل ذلك ، حتى قتله أخاه ، كان في سبيل مصلحة الامة ومن أجلها ،
ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة ، وأحق بها من أخيه ، ومنه؟!! ..
وكيف يمكن أن
نعتبر اصراره الشديد على الامام ، والذي استمر أشهرا عديدة ، قبل استقدامه إلى مرو
وبعده ، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل ـ كيف يمكن أن نعتبره رفقا منه
بالامة ، وحبا لها ، وغيرة على صالحها .. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح
: بأن نفسه لم تسخ بالخلافة ، عند ما عرضها على الامام؟!! .
وإذا لم تسخ نفسه
بالخلافة ؛ فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها؟!!.
__________________
وكيف يمكن أن نوفق
بين تهديداته تلك ، وجدية عرضه للخلافة .. وبين قوله : إنه لم يقصد إلا أن يوليه
العهد ؛ ليكون دعاء الإمام له ، وليعتقد فيه المفتونون به الخ .. ما سيأتي؟!!.
وإذا كان قد نذر
أن يوليه « الخلافة » ، لو ظفر بأخيه الأمين ، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية
؛ فلماذا ، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!!.
وكيف استطاع
إجباره على قبول ولاية العهد ، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟!
وأيضا .. ولماذا بعد أن رفض الإمام (ع) العرض ، لا يتركه وشأنه؟ وأين
هي أنفة الملوك ، وعزة السلطان؟!!.
وإذا كان يأتي به
من المدينة ليجعله خليفة المسلمين ، ويرفع من شأنه ؛ فلماذا يأمره ويؤكد عليه في
أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم ، حتى لا يفتتن به الناس؟!!.
وأيضا .. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للإمام (ع) عن صلاة العيد مرتين
، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر ؛ لو أن الإمام (ع) وصل
إلى المصلى؟!! .. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعا ، وصلى بالناس ، رغم تظاهره بالمرض ،
ورغم زعمه ، أنه : كان يريد من الإمام أن يصلي بالناس ؛ من أجل أن تطمئن قلوبهم
على دولته المباركة ـ على حد تعبيره ـ بسبب مشاركة الإمام (ع) في ذلك ..
وأيضا .. هل يتفق عرضه الخلافة على الإمام ، وتنازله عنها له ،
ثم توليته العهد ، وبكاؤه عليه حين وفاته ، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام ، حسبما
سيأتي بيانه .. هل يتفق كل ذلك ، مع كتابته لعامله على
مصر : يأمره بغسل
المنابر التي دعي عليها للامام (ع) ؛ فغسلت؟!! .
وبعد .. وإذا كان الإمام (ع) حجة الله على خلقه ، وأعلم أهل
الأرض على حد تعبير المأمون ؛ فلماذا يفوض عليه نظرية لا يراها مناسبة ، ويتهدده ،
ويتوعده على عدم قبولها ، والاخذ بها؟! ..
وأخيرا .. هل يتفق ذلك كله ، مع ما أشرنا ، ولسوف نشير إليه ، من
ذلك السلوك اللاإنساني مع الإمام (ع) ، قبل البيعة ، وبعدها ، في حياة الإمام ،
وحين وفاته ، وبعدها .. وكذلك سلوكه مع العلويين ، وإخوة الإمام الرضا (ع) بالذات.
ذلك السلوك الذي يترفع حتى الاعداء عن انتهاجه ، والالتزام به.
إلى آخر ما هنالك
مما عرفت ، وستعرف جانبا منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ..
المأمون يرتبك في تبريراته :
ولعل من الامور
الجديرة بالملاحظة هنا : أن المأمون لم يكن قد حسب حسابا للأسئلة التي سوف تواجهه
في هذا الصدد ؛ ولذا نرى أنه كان مرتبكا جدا في تبريراته لما أقدم عليه ؛ فهو تارة
يعلل ذلك بأنه :
__________________
أراد مكافأة علي
بن أبي طالب في ولده!! .
وأخرى : بأن ذلك
كان منه حرصا على طاعة الله ، وطلب مرضاته ؛ ولما يعلمه من فضل الرضا ، وعلمه ،
وتقاه .. وأنه أراد بذلك الخير للامة ، ومصلحة المسلمين!! .
وثالثة : بأنه أراد أن يفي بنذره : أنه إن أظفره الله بالمخلوع
يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!!.
بل ورابعة : بأنه
أراد أن يجعله ولي عهده ؛ ليكون دعاؤه له ، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ .. ما سيأتي
تفصيله ..
مع تبريرات المأمون تلك
: ومن الواضح أن
تلك العلل والتبريرات ، وسواها ، مما كان يتعلل
__________________
به المأمون ؛ كانت
مفتعلة قبل أوان نضجها. ولعله لما أشرنا إليه من أنه لم يكن قد حسب حسابا لهذه
الاسئلة التي واجهته ، كانت أجوبته متناقضة ، متضادة ، من موقف لآخر ، ومن وقت
لآخر .. حتى إن التناقض يبدو في التبرير الواحد ، إذ تراه مرة يقول : « إنه نذر أن
يجعل الخلافة في ولد علي ». وأخرى يقول : « إنه نذر أن يجعل ولاية العهد فيهم ».
وثالثة : يضيف إليهم آل العباس .. وهكذا ..
ولو لا خوف الناس
منه ، ومن بطشه لوجدنا الكثيرين يسألونه : إنه إذا صح : أنه نذر الخلافة لولد علي
، فلماذا قبل منه واكتفى بولاية العهد؟! ، إذ قد كان عليه أن يجبره على قبول
الخلافة ، كما أجبره على قبول ولاية العهد .. وإذا صح أنه نذر له ولاية العهد ؛ فلماذا
عرض عليه الخلافة ، وأصر عليه بقبولها.
وإننا وإن لم نجد
لهذه الأسئلة ، وسواها أثرا فيما بأيدينا من كتب التاريخ. إلا أننا رأينا الشواهد
الكثيرة الدالة على أن الناس كانوا يشكون كثيرا في نوايا المأمون وأهدافه مما أقدم
عليه. وحسبنا هنا : ما رواه لنا الصولي ، والقفطي ، وغيرهما من قضية عبد الله بن
أبي سهل النوبختي المنجم ؛ حيث أراد اختبار ما في نفس المأمون ؛ فأخبره أن وقت
البيعة للامام (ع) كان غير صالح ؛ فأصر المأمون على إيقاع البيعة في ذلك الوقت ،
وتهدده بالقتل إن حدث تغيير في الوقت والموعد ، وقد تقدمت القصة بكاملها تقريبا في
فصل سابق ، وقد ذكرها غير واحد من المؤلفين .
__________________
الامام يدرك أهداف المأمون من
عرض الخلافة :
ولعلنا نستطيع أن
نجد فيما قدمناه في هذا الكتاب ما يفسر لنا موقف الإمام (ع) من المأمون .. ذلك الموقف
الذي لم يكن يتسم بالمهادنة ، أو الموافقة أصلا. بل كان قاسيا وعنيفا في مقابل عرض
المأمون للخلافة عليه ، كما ألمحنا إليه في باب : « عرض الخلافة ، ورفض الإمام ».
وما ذلك .. إلا
لأنه كان يعلم أنها لعبة خطيرة ، تحمل في طياتها الكثير من المشاكل والأخطار ، وسواء
بالنسبة إليه (ع) ، أو بالنسبة إلى العلويين ، أو بالنسبة إلى الامة بأسرها ..
ولقد كان (ع) يدرك
: أن المأمون كان يرمي من وراء هذا العرض إلى أن يعرف حقيقة نوايا الامام (ع) ،
ويستظهر دخيلة نفسه ، حتى إذا ما رآه راغبا فيها رغبة حقيقية ، سقاه الكأس ، التي
سقاها من قبل لمحمد بن محمد بن يحيى بن زيد ، صاحب أبي السرايا ، ومن بعد لمحمد بن
جعفر ، وطاهر بن الحسين ، وغيرهم ، وغيرهم .. وانه كان يريد أن يجعل ذلك ذريعة
لفرض ولاية العهد ، وتمهيدا لإجباره على قبولها ؛ لأن ما يحقق له مآربه ، ويوصله
إلى غاياته ، التي تحدثنا عن جانب منها في فصل : ظروف البيعة .. هو قبول الإمام
لولاية العهد ، لا الخلافة .. كما أن هذا هو الذي يمكن أن يكون ممهدا لتنفيذ الجزء
التالي من خطته ، ألا وهو القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم.
ومن ثم .. وبعد كل
ما تقدم .. تكون النتيجة هي : أن المأمون لم يكن جادا في عرضه للخلافة ، وإنما فقط
كان جادا في عرضه لولاية العهد ..
ويبقى هنا سؤال
: « لو أن الإمام
قبل عرض الخلافة ؛ فما ذا ترى سوف يكون موقف المأمون؟! ».
والجواب :
أولا
: انه قد يمكن
الاقتناع بالجواب هنا لو قيل :
بديهي أن المأمون
كان قد أعد العدة لأي احتمال من هذا النوع .. وقد كان يعلم أنه يستحيل على الإمام
، خصوصا في تلك الظروف : أن يقبل عرض الخلافة ، من دون إعداد مسبق لها ، وتعبئة
شاملة لجميع القوى ، وفي مختلف المجالات ، ولسوف يكون قبوله لها بدون ذلك عملا
انتحاريا ، لا مبرر له ، ولا منطق يساعده ..
إذ من البديهي أن
الإمام الذي كان يعلم كم كان للقائد الحقيقي ، والمصلح الواعي ، من أثر في حياة
الامة ، وفي مستقبلها. وكيف يمكن أن تتحد في ظله قدرات الامة ـ أفرادا وجماعات ـ وامكاناتها
المادية ، والفكرية وغيرها في طريق صلاحها ، واصلاحها .. ويعلم أيضا : كيف يكون
الحال ، لو كان القائد فاسدا ، حتى بالنسبة لما يبدو من تصرفاته في ظاهره صحيحا
وسليما ..
إن الإمام الذي
كان يعلم ذلك وسواه ـ وبصفته القائد الحقيقي للامة ، لو حكم ؛ فلا بد له أن يقيم
دولة الحق والعدل ، ويحمل الناس على المحجة ، ويحكم بما أنزل الله ، كما حكم جده
محمد (ص) ، وأبوه علي (ع) من قبل .. وحكمه هذا سوف يكون مرفوضا جملة وتفصيلا ؛ لأن
الناس ، وإن كانوا عاطفيا مع أهل البيت : ؛ إلا أنهم حيث لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة ، وصالحة ،
إذا أراد العلويون ، أو غيرهم حملهم على المحجة ؛ فلسوف لا ينقادون لهم بسهولة ،
ولا يطيعونهم بيسر. ولسوف يكون الحكم بما أنزل الله غريبا على أمة اعتادت
على حياة خلفاء
بني العباس ، ومن قبلهم بني أمية المليئة بالانحرافات والموبقات.
أولئك الخلفاء
الذين كانوا في طليعة المستهترين ، والمتحللين من كل قيود الدين والانسانية ، والذين
كانوا يتساهلون في كل شيء ، ما دام لا يضر بوجودهم في الحكم .. نعم .. في كل شيء
على الاطلاق ، حتى في الدين وأحكامه ، والأخلاق ، والمثل العليا ؛ وما ذلك إلا
لأنهم لم يكن همهم إلا الحكم ، والتسلط ، وامتصاص دماء الشعوب ، ولا يهمهم ـ بعد ـ
أن يفعل الناس ما شاءوا ، ليتستروا بالدين ، ليكفروا بالله ، ليتحللوا من الأخلاق
والفضائل الانسانية ، ليأكل بعضهم بعضا ، ليكونوا أنعاما سائمة ، أو ليكونوا وحوشا
ضارية ؛ فان ذلك كله لا يضر. والذي يضر فقط هو : أن يتعرضوا للحكم ، ويفكروا
بالسلطان ، كيفما كان التعرض ، وأيا كان التفكير ..
وإذا كان الإمام
علي (ع) ، عند ما أراد أن يحكم بما أنزل الله تعالى ، قد لاقى ما لاقى مما لا
يجهله أحد .. رغم ما سمعته الامة من فم النبي (ص) مباشرة في حقه ، وقرب عهدها به
.. فكيف بعد أن مرت عشرات السنين ، وأصبح الانحراف عادة جارية ، وسنة متبعة ، واتخذ
نحوا من الاصالة في حياة الامة ، وروحها ، وأصبح ـ للأسف ـ جزءا لا يتجزأ من
كيانها وواقعها ..
وأيضا .. إذا كان أبو مسلم قد قتل ست مائة ألف نفس صبرا ، عدا
مئات الالوف الاخرى ، التي ذهبت طعمة للسيوف في المعارك ..
وإذا كانت ثورة
أبي السرايا قد كلفت المأمون ألف جندي ، من جنوده هو ..
وإذا كان العصيان
ما انفك يظهر من كل جانب ومكان ، رغم أن
الحكم كان أولا
وآخرا ينسجم مع أهواء الناس ، ومصالحهم الشخصية ..
فهل يمكن مع هذا
.. ان لا يتعرض الإمام (ع) لعصيان أصحاب الأهواء ـ وما أكثرهم ـ ، والكيد من قبل
الأعداء ، الذين سوف يزيد عددهم. وتتضاعف قوتهم ، عند ما يحاول الامام (ع) ان يفرض
عليهم حكما ما اعتادوه ، وسلوكا ما ألفوه؟! ..
إن من الواضح : ان
الناس وان كانت قلوبهم معه ، الا ان سيوفهم سوف تنقلب لتصير عليه ، كما انقلبت على
آبائه وأجداده من قبل ، وذلك عند ما لا ينسجم حكمه (ع) مع رغائبهم ، وأهوائهم ،
وانحرافاتهم .. حيث إن الإمام (ع) إذا أراد أن يحكم ، فلسوف يواجه ـ بطبيعة الحال
ـ تلك العناصر القوية ، ذات النفوذ ، وأولئك المستأثرين بكل الاموال والاقطاع ، من
أصحاب الأطماع ، والمصالح الشخصية ، وجها لوجه .. إذ أننا لا يمكن أن ننتظر من
حكومة الإمام ، التي هي على الفرض حكومة الحق ، والعدل : أن تقرهم على ما هم عليه
، فضلا عن أن توفر لهم الحماية لتصرفاتهم المشبوهة ، وغير المنطقية ، بل حتى ولا
الاخلاقية أيضا ..
إن حكومة الإمام (ع)
، إذا أرادت أن تقوم بعمل أساسي في سبيل استئصال كل جذور الانحراف والفساد .. فان
عليها أولا ، وقبل كل شيء ، أن تقوم بقطع أيدي أولئك الغاصبين لاموال الامة ،
والمتحكمين بقدراتها. وإبعاد كل أولئك الذين كانوا يستغلون مناصبهم ، التي وصلوا
إليها عن طريق الظلم ، والغطرسة ، والابتزاز ـ يستغلونها ـ لمآربهم الشخصية ،
وانحرافاتهم اللاأخلاقية ..
ثم .. قطع أعطيات
ذلك الفريق من الناس ، الذين كانوا يعيشون على حساب الأمة ، ويأكلون خيراتها .. ثم
لا يقومون في مقابل ذلك بأي عمل ، أو نشاط يذكر ..
وأيضا .. منع المحسوبيات ، والوساطات ، من أصحاب الوجاهات ،
الذين كانت تسيرهم الروح القبلية ، ويهيمن عليهم الشعور الطبقي في دولة الأطماع
والمزايدات ، أو دولة التهديد ، والعسف ، والارهاب.
يضاف
إلى ذلك كله .. أنه إذا أراد
الإمام (ع) أن ينطلق في كل نصب وعزل من مصلحة الامة ، لا من مصلحة الحاكم والقبيلة
؛ فطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القبائل ضده ، ويؤلبهم عليه .. فزعماء القبائل
سواء كانوا عربا أو فرسا كانوا يلعبون دورا هاما في انجاح اية ثورة وقيام أية دعوة
واستمرار ونجاح أي حكم.
وبعد
كل ذلك ؛ فإن من الطبيعي
إذن : أن يستفحل الصراع بينه ، وبين العناصر القوية ، ذات النفوذ ، من أصحاب
الأهواء ، والمصالح الشخصية ، وأولئك الذين يعتمل في نفوسهم طموح كبير ، نحو زبارج
الدنيا ، وبهارجها .. وذلك عند ما يعطي القيمة الحقيقية لهؤلاء جميعا ، ويجعلهم في
المستوى الذي يجب أن يكونوا فيه ، ويحدّد ويقيّم لهم واقعهم الذي لن يرضوا أبدا
بتحديده وتقييمه. وعلى الأقل لن تساعده تلك العناصر على تصحيح الوضع ، وإقرار
النظام .. هذا إن لم تكن هي العقبة الكأداء ، التي تحول بينه وبين ما يصبو إليه ،
وتمنعه من تحقيق ما يريد ..
يضاف
إلى ذلك كله : أن القيادة
القبلية كانت قد فسدت آنذاك ، واعتاد رؤساء القبائل على نكث العهود والمواثيق التي
يعطونها ؛ فكانوا يؤيدون هذه الدعوة ، وهذا القائم بها ، إلى أن يجدوا من يستفيدون
منه ، ويغدق عليهم أكثر من الأموال ، ويخصهم بما يفضل ما يخصهم به ذاك من المناصب.
وكان للقيادات القبلية دور كبير في إنجاح أية دعوة ، وانتصار أية ثورة ..
وبعد .. فإنه إذا كان الإمام (ع) لن يحابي أحدا على حساب دينه
ورسالته .. وإذا كان ـ من الجهة الأخرى ـ مركزه ضعيفا في الحكم .. وإذا كان ليس
لديه القوة والقدرة الكافية لمواجهة مسئولياته كاملة.
فلسوف ينهار حكمه
وسلطانه أمام أول عاصفة تواجهه ، ولن يستطيع أن يبقى محتفظا بوجوده في الحكم ، أو
على الأقل بمركز يخوله أن يفرض الحكم الذي يريد على المجتمع ، بجميع فئاته ،
ومختلف طبقاته ..
إلا أن يكون حاكما
مطلقا ، لا تحد سلطته حدود ، ولا تقيدها قيود ، وأنى له بذلك.
وبعد
كل ما تقدم ؛ فان النتيجة
تكون ، أن الامام (ع) ، وإن كان يمتلك القدرة على الاصلاح ، لكن الامة لم تكن
لتتحمل مثل هذا الإصلاح ، خصوصا وأن الحكام ـ بوحي من مصالحهم الخاصة ـ كانوا قد
أدخلوا في أذهان الناس صورا خاطئة عن الحكم ، وعن الحكام ، الذين يفترض فيهم ان
يقودوا الامة في مسيرها إلى مصيرها ..
هذا
كله .. لو فرض ـ جدلا
ـ سكوت العباسيين والمأمون عنه ، مع أن من المؤكد أنهم سوف يعملون بكل ما لديهم من
قوة وحول ، من أجل تقويض حكمه ، وزعزعة سلطانه ..
وإذا كان يستحيل
على الإمام (ع) ، في تلك الفترة على الأقل : أن يتسلم زمام السلطة إلا أن يكون
حاكما مطلقا كما قدمنا .. فمن الواضح أن سؤالا من هذا النوع لا مجال له بعد. ولن
يكون في تجشم الاجابة عليه كبير فائدة ، أو جليل أثر.
ولكن .. مع ذلك ، وحتى لا نفرض على القارئ وجهة نظر معينة ؛ إذ
قد يرى أن من حقه أن يفترض ـ وإن أبى واقع الأحداث مثل هذا الافتراض ـ أنه كان على
الإمام (ع) : أن يجاري ، ويداري في بادئ الأمر ؛ من أجل الوصول إلى أهداف فيها خير
الامة ومصلحتها ؛ من أجل ذلك .. نرى لزاما علينا أن نجاريه في هذا الافتراض ،
ونتجه إلى الإجابة على ذلك السؤال بنحو آخر ؛ فنقول :
وثانيا
: إنه إذا كان
المأمون في تلك الفترة هو الذي يمتلك القدرة والسلطان .. وإذا كانت كل أسباب القوة
والمنعة متوفرة لديه بالفعل ؛
فإنه سوف يسهل
عليه ـ إذا لم يكن حكم الإمام (ع) على وفق ما يشتهي ، وحسبما يريد ـ : أن يأخذ على
ذلك الحكم : ( الذي يرى نفسه ، ويرى الناس أنه مدين للمأمون ) أقطار الأرض ، وآفاق
السماء. ولن يصعب عليه تصفيته ، والتخلص منه من أهون سبيل ؛ حيث إنه حكم لا يزال ،
ولسوف يسعى المأمون لأن يبقيه في المهد ، يستطيع المأمون أن ينزل به الضربة
القاصمة القاضية متى شاء ، دون أن تعطى له الفرصة لحشد قدراته ، وتجميع قواه في أي
من الظروف والأحوال ..
وهكذا .. فإن النتيجة تكون : أن الإمام (ع) سوف يكون بين خيارين
لا ثالث لهما : فاما أن يحاول تحمل المسئولية الحقيقية ، بكل أبعادها ، وتبعاتها ،
باعتباره القائد الحقيقي للامة ، ويقدم على كل ما تقدمت الاشارة إليه من اصلاحات
جذرية في جميع المجالات ، وعلى مختلف المستويات ؛ مما سوف يكون من نتائجه أن يعرض
نفسه للهلاك ؛ حيث لا يستطيع الناس ؛ والمأمون واشياعه تحمل ذلك ، والصبر عليه ،
ويكون له ولهم كل العذر في تصفيته ، والتخلص منه.
وإما أن لا يتحمل
مسئولية الحكم ، ولا يأخذ على عاتقه قيادة الامة ، وإنما تكون مهمته ، وما يأخذه
على عاتقه هو فقط تنفيذ إرادات المأمون ، وأشياعه من المنحرفين. ويكون هو الواجهة
التي يختفي وراءها الحكام الحقيقيون ، المأمون ومن لف لفه ..
وواضح أن نتيجة
ذلك سوف تكون أعظم خطرا على الإمام ، وعلى العلويين ، وعلى الامة بأسرها ، وأشد
فداحة من نتيجة الخيار السابق ؛ حيث يكون قد قضى بذلك على كل آمال الامة ، وكل
توقعاتها.
وذلك هو كل ما
يريده المأمون ، ويسعى من أجل الحصول عليه ، بكل ما أوتي من قوة وحول ..
وثالثا
: إن من الواضح : أن
عرض المأمون التنازل عن الخلافة للامام (ع) ، لا يعني أبدا أن المأمون سوف لا
يحتفظ لنفسه بأيّ من
الامتيازات ؛ التي
تضمن له ـ في نظره ـ نصيبا من الأمر . ولسوف يرى الناس كلهم أن له كل الحق في ذلك ..
كما أن ذلك لا
يعني أنه سوف لا يعود له نفوذ في الاوساط ذات النفوذ والقوة. بل إنني أعتقد أنه
سوف يكون في تلك الحال أقوى بكثير منه في غيرها ؛ حتى إن المنصب للإمام (ع) ، قد
يكون شكليا ، ومركزه صوريا ، لا حول له فيه ولا قوة ..
وحينئذ .. وإذا كان المأمون سوف يبقى له نفوذ وقوة ، وإذا كان سوف
يشترط لتنازله عن الخلافة للامام ، ما يضمن له استمرار تلك القوة ، وذلك النفوذ ،
بل وعودة الخلافة له في نهاية الأمر .. فلسوف لا يصعب عليه كثيرا أن يدبر ـ وهو
الداهية الدهياء ـ في الإمام (ع) بما يحسم عنه مواد بلائه ، على حد تعبير المأمون
..
وليطمئن ـ من ثم ـ
خاطره ، ويهدأ باله ؛ حيث يكون قد حقق كل ما كان يصبو ويطمح إلى تحقيقه. كما أنه
يكون قد اصبح يمتلك اعترافا من العلويين بشرعية خلافته .. بل يكون العلويون على يد
أعظم شخصية فيهم ، هم الذين رفعوه على العرش وسلموا إليه أزمّة الحكم والسلطان ..
إلى آخر ما هنالك مما قدمناه ، ولا نرى ضرورة لاعادته ..
وفي النهاية :
والآن .. وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على مدى جدية المأمون ، في
عرضه للخلافة على الإمام (ع) ، وتحدثنا عن الوضع الذي سوف ينتج لو أن الإمام قبل
ذلك العرض .. فإن من الطبيعي أن نتطلع لنعرف ما هو موقف الإمام من تلك اللعبة ـ لعبة
ولاية العهد ـ وما هي خطته في مواجهة ما يعلمه من خطط المأمون ، وأهدافه الشريرة
..
فإلى الفصل التالي
، والذي بعده ..
__________________
موقف الامام (ع) :
سؤال يطرح نفسه :
هل يعقل أن رجلا
تعرض عليه الخلافة ، أو ولاية العهد ، بل ما هو أقل منهما بمراتب ؛ ويعرف جدية
العرض ، ثم يرفض ذلك رفضا قاطعا ، ثم يهدد ، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا ،
وأقل احتمالا ـ بالنسبة إلى سنه ـ وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم ،
وتجعل من كل شيء مجرد إجراءات شكلية ، لا أثر لها ..
هل يعقل أن رجلا
من هذا القبيل ـ يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه؟!! .. اللهم
إلا إذا كان هناك ما هو أعظم ، وأدهى وأخطر من ذلك المنصب ، وإلا إذا علم أنه سوف
يدفع ثمن ذلك غاليا ، وغاليا جدا ، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه!! ..
والامام .. الذي
نعرف ، ويعرف كل أحد : أنه ذلك الرجل الجامع لكل صفات الفضل والكمال : من العلم ،
والعقل ، والحكمة ، والدراية ، والتقى ، شهد له بذلك أعداؤه ومحبوه ، على حد سواء
ـ هذا الامام .. قد رفض كلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد .. رفضهما رفضا
باتا وقاطعا ، ولم
يقبل ولاية العهد إلا على كره واجبار منه ، وإلا وهو باك حزين ، وعاش بعد ذلك في
ضيق شديد ، ومحنة عظيمة ، حتى إنه كان يدعو الله بالفرج بالموت!! ..
وعليه .. أفلا يكفي موقف الامام هذا ، وسائر مواقفه من مختلف
تصرفات المأمون ، لأن يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعية هذا الحدث؟! ..
ألم يكن من الواجب
أن يكون الامام (ع) مستبشرا مبتهجا كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعا عن
المأمون ، ونظام حكمه ، ومناصرا له ، بكل ما أوتي من قوة وحول؟! ..
ثم ألا يفهم من
ذلك كله : أنه (ع) كان يدرك ما يكمن وراء قبوله لأي من العرضين من مشاكل ، وما
ينتظره من أخطار؟! .. وأن ذلك ليس إلا شركا يقصد ايقاعه به ، ومن بعده كل العلويين
، وشيعتهم للقضاء عليه وعليهم ، وإلى الابد!!! ..
وإذا كان الامام (ع)
يعرف الحقيقة ، كل الحقيقة .. فهل يمكن أن نتصور أن يكون راضيا بأن يجعله المأمون
وسيلة لأغراضه ، وآلة لتحقيق مآربه وأهدافه؟!! ولا سيما إذا لاحظنا أنه يعرف أكثر
من أي انسان آخر ما لتلك اللعبة من عواقب سيئة ، وما تحمله في طياتها من آثار ،
ليس عليه هو ، وعلى العلويين ، والمتشيعين لهم فحسب .. وإنما على الامة بأسرها إن
حاضرا ، وإن مستقبلا!! ..
هذا كله عدا عن أن هذه اللعبة سوف تكون بمثابة قطع الطريق عليه
في أي تحرك يقوم به ، وأي نشاط إصلاحي يمارسه ؛ حيث لم يعد
يستطيع أن يكون في
المستقبل قائدا للحركة المضادة للمأمون ، ونظام حكمه ، القائم على غير أساس شرعي ،
ومنطقي سليم ..
لا يرضى الإمام (ع) ، ولا يقتنع
المأمون :
لا .. لا يمكن أن
يرضى الإمام بذلك ، وخصوصا بعد أن تلقى العلم عن آبائه الصادقين ، عن النبي (ص) الذي
لا ينطق عن الهوى : بأن ذلك شيء لا يتم ، وأوضح ذلك بما كتبه على وثيقة العهد
الآتية بخط يده ، حيث قال : « والجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك ، لكنني امتثلت
أمر أمير المؤمنين .. ».
لا .. لا يمكن أن
يرضى ببيعة يعلم أنها لا تتم له ، وإنما تخدم مصالح آخرين. وتحقق لهم مآربهم ، على
حساب الدين ، والامة ؛ ولهذا رفض بشدة وعنف ، وأصر عليه المأمون بشدة وعنف أيضا ..
ولم يكن ليقنع
المأمون شيء ، بعد أن كان يرى أن القضية بالنسبة إليه قضية مصير ومستقبل. وهو
مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل مصيره ومستقبله ، كما ضحى بأخيه وأشياعه من قبل ..
وإنه إذا تأكد
لديه رفض الإمام (ع) القاطع ، وتصور ما سوف تؤول إليه حاله نتيجة لذلك الرفض ؛
فلسوف لا يألو جهدا ، ولا يدخر
__________________
وسعا في الانتقام
لنفسه من الإمام (ع) ، ومن كل من تصل إليه يده ، ممن له به (ع) أية صلة أو رابطة
..
هي قضية مصير :
وبأوضح بيان نقول
: إنه لم يكن امتناع الإمام (ع) عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان
قد عقد العزم عليه ؛ لأن الاسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبدا
بالاصغاء لهذا الرفض ؛ فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك ، مهما كلفه الأمر ، ومهما كانت
النتائج.
ولم يكن لديه مانع
من تنفيذ تهديداته ، لو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه ، والحصول على ما
يريد الحصول عليه ؛ فالقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير
ومستقبل ، لا يمكن المساومة معها ، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها ..
وإذا كان قد قتل
أخاه من أجل الملك وفي سبيله ؛ فأي مانع يمنعه من قتل الرضا (ع) من أجل الملك أيضا
، وفي سبيله .. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه ، وسائر من قتل من وزرائه
هو ، وقواده ، وأشياعه؟!؟ ..
ولسوف لا نستغرب
على المأمون ـ بعد قتله أخاه ـ الاقدام على أي تصرف في سبيل الملك ، حتى الاقدام
على قتل الرضا (ع) ، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس « الملك عقيم » ،
وقال له : « والله ، لو نازعتني أنت هذا الأمر ؛ لأخذت الذي فيه عيناك ؛ فإن الملك
عقيم .. » .
__________________
ولم يكن ليخفى
عليه أيضا قول موسى بن عيسى ، عند ما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه ، في وقعة
فخ : « .. هم والله ، اكرم عند الله ، وأحق بما في أيدينا منا ، ولكن الملك عقيم.
ولو أن صاحب هذا القبر ( يعني النبي (ص)) ، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف .. »
. والمنصور أيضا قد قرر هذه القاعدة بالذّات حينما اعترض عليه سليمان بن مهران
الاعمش على قتله أولاد علي (ع) .
وهذا الدرس قد
أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان ؛ فإنه عند ما قتل مصعب بن الزبير بكى ، وقال : «
لقد كان أحب الناس إليّ ، وأشدهم مودة لي ، ولكن الملك عقيم ؛ ليس أحد يريده من
ولد ولا والد إلا كان السيف » .
بل وحتى نفس أخيه
الأمين ، عند ما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون ، نراه يتذكر هذه القاعدة ،
فيقول : « هيهات ، الملك عقيم ، لا رحم له .. » .
ولقد عمل المأمون
بهذه القاعدة ؛ فقتل أخاه ، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم ، بعد أن سجد شكرا
لله ، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس ، إلى آخر ما مر تفصيله ..
وإذا كانت القضية
بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان ؛ فطبيعي إذن أن نراه
يخاطر بالخلافة ( وان كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض
ولاية العهد ) ،
__________________
وأقدم على التخلي
عن ولاية العهد ، مع أن العباس ابنه وسائر ولده كانوا أحب إلى قلبه ، وأجلى في
عينه من كل أحد ، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين ..
ولقد قدمنا الشرح
الكافي والوافي لحقيقة الظروف والأسباب ، التي دعت المأمون إلى ذلك ، والتي هي دون
شك كافية لأن تجعل المأمون يقدم على أي عمل ـ ولو كان انتحاريا ـ من أجل انقاذ
نفسه وخلافته ، والعباسيين .. حتى ولو كان ذلك الشيء هو قتل الإمام (ع) .. ولقد
أخبر الإمام كرّات ، ومرات : أنه لم يقبل إلا بعد أن اشرف من المأمون على الهلاك
..
مبررات قبول الإمام لولاية
العهد :
ولقد قبل الإمام (ع)
ولاية العهد ، ولكن .. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين
جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين ، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار
هم في غنى عنها .. ولو فرض أنه كان له هو (ع) الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن
يعرض نفسه للهلاك ، فلن يكون له حق أبدا في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه ،
والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضا ..
هذا .. عدا عن أنه
(ع) كان عليه أن يحتفظ بحياته ، وحياة شيعته ومحبيه ؛ لأن الامة كانت بأمس الحاجة
إلى وعيهم وإدراكهم ؛ ليكونوا لها قدوة ومنارا ، تهتدي ، وتقتدي به ، في حالكات
المشاكل ، وظلم الشبهات ..
نعم .. لقد كانت
الامة بأمس الحاجة إلى الإمام (ع) ، وإلى من رباهم الإمام ؛ حيث كان قد غزاها في
ذلك الوقت تيار فكري ، وثقافي غريب ، من الزندقة والالحاد ، وشاعت فيها الفلسفات
والتشكيكات
بالمبادئ الإلهية
الحقة ؛ فكان على الإمام (ع) أن يقف ، ويقوم بواجبه ، وينقذ الامة ، ولقد كان ذلك
منه بالفعل ؛ فلقد قام بواجبه ، وأدى ما عليه ، على أكمل وجه ، رغم قصر المدة التي
عاشها بعد البيعة نسبيا ؛ ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية ؛ « .. السلام على من
كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين ؛ حتى خصم أهل الكتب ، وثبت قواعد الدين .. »
والمراد بذلك :
الإمام الرضا (ع) ..
ولو أنه (ع) رفض
ولاية العهد ، وعرض نفسه ، وشيعته ، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته ؛ وموتهم
أدنى أثر في هذا السبيل ، بل كان الاثر عكسيا ، وخطيرا جدا ..
أضف
إلى ذلك : أن قبول الإمام
بولاية العهد ، معناه اعتراف من العباسيين عملا ، مضافا إلى القول : بأن العلويين
لهم حق في هذا الأمر ، بل إنهم هم الأحق فيه ، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن
ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم ..
وقد رأينا ابن
المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليا للعهد ، لا يعني أن الحق
في الخلافة كان للرضا والعلويين ، دون المأمون والعباسيين ؛ وأنه انما أعطاهم ذلك
عن طريق التقوى والورع ، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها
وقتلوا انفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه ، فهو يقول :
وأعطاكم المأمون
حق خلافة
|
|
لنا حقها لكنه
جاد بالدنيا
|
ليعلمكم أن التي
قد حرصتم
|
|
عليها وغودرتم
على اثرها صرعى
|
__________________
يسير عليه فقدها
غير مكثر
|
|
كما ينبغي
للصالحين ذوي التقوى
|
فمات الرضا من
بعد ما قد علمتم
|
|
ولاذت بنا من بعده
مرة أخرى
|
وأيضا .. حتى لا يتناساهم الناس ، ويقطعوا آمالهم بهم. وحتى لا
يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء ، لا يهمهم العمل لما فيه خير
الامة. ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح واصلاح ولعل إلى ذلك
كله ، يشير الإمام (ع) في قوله لمحمد ابن عرفة ، عند ما سأله عن قبوله بولاية
العهد ؛ فقال له : « يا ابن رسول الله ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!! »
.. فأجابه الإمام (ع) : « ما حمل جدي على الدخول في الشورى .. » .
هذا بالإضافة إلى
أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الناس ، وعرّفهم
بواقع واهداف كل ما أقدم عليه ، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل
..
هل الإمام راغب في هذا الأمر :
ولكن هذا كله
وسواه ، لا يعني أن الإمام (ع) كان راغبا في أي من الخلافة ، أو ولاية العهد ؛ فإن
ما ذكرناه لا يبرر ذلك ؛ حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان يمكن
الحصول على بعضها
__________________
من دون الدخول في
هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره ، ما سوف يجره الدخول في هذا
الأمر من مآس ومشاكل ، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.
وقد قدمنا في
الفصل السابق البيان الكافي والوافي ، لما سوف يعترض طريق الإمام (ع) من عقبات في
الحكم ؛ لو أنه كان قبل عرض الخلافة ، وكيف ستكون النهاية له ، ولنظام حكمه ..
وهو يوضح لنا أيضا
حقيقة حاله ، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد أيضا ؛ إذ أنه (ع) كان يعلم : أن
وصوله للخلافة ، وتسلمه لأزمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة ، وأهوال عظيمة ،
لن يكون من اليسير التغلب عليها ، وتجاوزها.
فلقد كان يعلم ـ كما
أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه ، بحيث
يبقى محتفظا بحياته ، أو على الأقل بمركزه ، إلى ما بعد وفاة المأمون ، ولم يكن
يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة ؛ من أجل التخلص منه ، وتصفيته ، إن
جسديا ، وان معنويا ..
بل .. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل ، فإن آماله
بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، وهو بهذه السن المتقدمة ،
بالنسبة لسن المأمون .. كانت ضعيفة جدا ، لا تبرر له الاقدام على قبول مثل هذا
الأمر ، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعا عن نفسه ، بأنه لم يزهد بالدنيا ،
وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه ، كما كان يريد المأمون!!!
ومع غض النظر عن
كل ذلك .. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، فلسوف
يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة
عامة ، وفوق
ذلك كله ، لسوف
يصطدم بمؤامرات العباسيين ، وأشياعهم ، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا
المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك ، ولو تمكن من ذلك ؛ فلسوف لا يدخرون وسعا ،
ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول ؛ من أجل زعزعة حكمه ، وتقويض سلطانه ،
وخلق المشاكل الكثيرة له ؛ لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت
تواجه الحكم ..
إنهم سوف لا
يمكنونه من قيادة الامة قيادة صالحة ، وسليمة وحكيمة ؛ وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل
الذريع ، والخيبة القاتلة ..
ولسوف يجدون هناك
مرتعا خصبا لمؤامراتهم ، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف ، الطافحة
بالمشاكل ، وذلك عند ما يجدون أن الإمام (ع) لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جدّيه محمد (ص)
وعلي (ع). وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لنقبل حكم
كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك ، ويخضعوا لارادته ، بعد أن كانوا قد
اعتادوا على حياة الخلفاء الامويين ، والعباسيين ، المليئة بالانحرافات والموبقات
..
اللهم إلا أن يقوم
الإمام (ع) في فترة ولاية العهد ، أو بداية حكمه باعداد مسبق ، وتعبئة عامة وشاملة
، على جميع المستويات ، وفي مختلف المجالات .. ولن يفسح العباسيون ، والمأمون ،
وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الاعداد ، وتلك التعبئة مهما كلفهم ذلك من تضحيات.
فالسلبية اذن هي الموقف الصحيح
:
وبعد كل ما تقدم :
فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمام (ع) في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق
الملتوي ، والمحفوف بالأخطار ، والذي لن يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس :
سوف يكون
موجبا للقضاء عليه
، وعلى كل آماله ، وكل العلويين ، والمتشيعين لهم ، ويحقق فقط آمال الآخرين ،
وأهدافهم .. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملا انتحاريا ، لا مبرر له ،
ولا منطق يساعده.
لا بد من خطة لمواجهة الموقف :
وأخيرا .. وإذا كان لم يكن للرضا (ع) خيار في قبول ولاية العهد ..
وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف ، وآلة يتوصل بها إلى مآرب
يمقتها ، ويكرهها كل الكره ؛ لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة ، على
حاضر الامة ، ومستقبلها ، وعلى مستقبل هذا الدين. وكذلك لا يمكنه أن يسكت ، ويظهر
بمظهر الموافق ، والمؤيد ، والمساعد ..
فان كل ما يمكن له
أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة ، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون ، وإحباط
مخططاته ؛ حتى لا يزداد الوضع سوءا ، والطين بلة ..
فإلى الحديث عن
خطته هذه في الفصل التالي ..
خطة الامام (ع)
انحراف الحكام :
إن أدنى مراجعة
لتاريخ الحكام آنذاك ـ العباسيين والامويين على حد سواء ـ لكفيلة بأن تظهر بجلاء
مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام ، وسلوكهم ، وحياتهم لمبادئ الاسلام وتعاليمه ..
الاسلام ، الذي كانوا يستطيلون على الناس به ، ويحكمون الامة ـ حسب ما يدّعون ـ باسمه
، وفي ظله .. حتى لقد اصبح الناس ، والناس على دين ملوكهم ، يتأثرون بذلك ،
ويفهمون خطأ : أن الاسلام لا يبتعد كثيرا عما يرون ، ويشاهدون ؛ مما كان من نتائجه
شيوع الانحراف عن الخط الاسلامي القويم. بنحو واسع النطاق ، ليس من السهل بعد
السيطرة عليه ، أو الوقوف في وجهه ..
العلماء المزيفون وعقيدة الجبر
:
ولقد ساعد على ذلك
، وزاد الطين بلة ، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم ، ممن يتسمّون ، أو
بالأحرى سماهم الحكام بـ « العلماء » ؛ حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الاسلام ،
وتعاليمه ؛
لتوافق هوى ،
وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين ، الذين أغدقوا عليهم المال ، وغمروهم
بالنعمة.
حتى إن أولئك
المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر ـ الواضح لكل أحد زيفها وسخفها ـ من العقائد
الدينية الاسلامية!!. ؛ من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس ، ولكي
يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك ، التي يندى لها جبين الانسان الحر ألما وخجلا ؛
إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره ؛ ولذا فليس
لأحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم ، أو أي جناية من جناياتهم ..
وكان قد مضى على
ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة ـ حتى زمان المأمون ـ أكثر من قرن ونصفا ، أي من أول
خلافة معاوية ، بل وحتى قبل ذلك أيضا .. بزمان طويل!!
عقيدة الخروج على سلاطين الجور
:
كما أنهم ـ أعني
هؤلاء العلماء ـ قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات ،
وعظيمة من العظائم ..
وقد جرحوا بذلك
عددا من كبار العلماء : مثل الإمام أبي حنيفة وغيره ؛ بحجة أنه : « يرى السيف في
أمة محمد » ..
__________________
بل لقد جعلوا عدم
جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية ، كما يظهر من تتبع كلماتهم .
أما عقائد التشبيه
، وقضية خلق القرآن ، فلعلها أشهر من أن تذكر ، أو تحتاج إلى بيان.
والذي زاد الطين بلة :
يضاف إلى ذلك كله
غرور الحكام ، الذي لا مبرر له ، وكذلك من لف لفهم ، الذين كانوا يحكمون الامة
باسم الدين ..
وكذلك غفلة الناس
، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث ، وللواقع المزري ، الذي كان قائما آنذاك
..
وأيضا .. وهو الأهم من كل ذلك ـ ابتعادهم ؛ بسعي من الهيئات
الحاكمة ، عن أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ..
كل
ذلك .. قد أدى بالفعل
إلى انحلال الدولة داخليا ، وتمزيق أوصالها .. كما وأنه قد أسهم إسهاما كبيرا في
ابعاد الناس عن تعاليم السماء ، وشريعة الله .. الأمر الذي لم يكن يعني إلا نهاية
الحكم الإسلامي ،
__________________
وردة الناس إلى
الجاهلية الجهلاء .. الأمر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيرا ؛ لأن الإسلام الذي
يريدون ، والدين الذي ينشدون ، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الامة ،
ويستأثروا بقدراتها وامكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرار هم في فرض
نفوذهم وسيطرتهم ، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية ، وكل المفاهيم
الانسانية ..
إن أولئك الحكام ،
ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم ، وإلا في شئونهم
ومصالحهم الخاصة بهم. أما الامة المسلمة ، وأما الإسلام ، فلم يكن لهما لديهم أية
قيمة ، أو شأن يذكر ، إلا في حدود ما يستطيعون الافادة منهما في بقائهم ووجودهم في
الحكم والسلطة ..
الأئمة في مواجهة مسئولياتهم :
وفي هذا الوسط
الغريب : من غفلة الناس ، ومن سيرة الحكام ، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم .. كان
الأئمة : يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء ، ويكافحون ، وينافحون عنها ، بقدر ما
كانت تسمح لهم ظروفهم ، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد.
وأما عن الامام الرضا بالذات :
وقد سنحت للامام
الرضا (ع) فرصة لفترة وجيزة ، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم .. للقيام
بواجبه في توعية الامة ، وتعريفها بتعاليم الإسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة
الرشيد ، وحتى قتل الأمين. بل نستطيع أن نقول : إنها امتدت ـ ولو بشكل محدود ـ حتى
وفاة الإمام (ع) في سنة (٢٠٣). الأمر الذي كان من نتيجته ازدياد
نفوذه (ع) ،
واتساع قاعدته الشعبية ؛ حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب. وكان هو
الأرضى في الخاصة والعامة ، حسما ألمحنا إليه من قبل.
الخطة الحكيمة :
وعند ما أراد
المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد ، وعرف الرضا : أن لا مناص له من
قبول ذلك ، كان من الطبيعي أن يعد (ع) العدة ، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون ،
واحباط أهدافه الشريرة ، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الامام (ع) ، وتحطيمه
معنويا واجتماعيا.
ولقد كانت خطة
الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام. وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة ،
وتضييع كثير من أهدافها ، وجعل الامور في صالح الإمام (ع) ، وفي ضرر المأمون ..
حتى لقد ضاع رشد المأمون ( بل ورشد أشياعه أيضا ) ، وهو أفعى الدهاء والسياسة ،
ولم يعد يدري ما يصنع ، ولا كيف يتصرف ..
مواقف لم يكن يتوقعها المأمون :
ولعلنا نستطيع أن
نسجل هنا بعض المواقف للامام (ع) ، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا ، والتي
كانت ضمن خطة الإمام (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون ..
الموقف الأول :
اننا نلاحظ أن
الإمام (ع) قد رفض دعوة المأمون ، وهو في المدينة
ولم يقبل إلا بعد أن
علم أنه لا يكف عنه .. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه ،
لا باختياره ..
وما ذلك إلا ليعلم
المأمون : أن حيلته لم تكن لتجوز عليه ، وأنه (ع) على علم تام بأبعاد مؤامرته
وأهدافها .. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث ، وسلامة
النوايا فيه.
الموقف الثاني :
إنه رغم أن
المأمون كان قد طلب من الإمام (ع) ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل
بيته في سفره إلى مرو ..
انه رغم ذلك .. نلاحظ : أنه (ع) لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجواد (ع)
، مع علمه بطول المدة ، التي سوف يقضيها في هذا السفر ، الذي سوف يتقلد فيه زعامة
الامة الإسلامية ، حسب ما يقوله المأمون .. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره
ذاك ، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية ..
شكوك لها مبرراتها :
ونرى أننا مضطرون
للشك في نوايا المأمون واهدافه من وراء طلبه هذا « أن يصطحب الامام (ع) من شاء من
أهل بيته إلى مرو » .. بعد أن رأينا : أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر
الى مرو ، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه ، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد ، ولا غير
هؤلاء ، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره ..
فلعل الامام (ع) ،
بل إن ذلك هو المؤكد ، الذي تدل عليه
تصريحاته وتصرفاته
حين تأهب للسفر ـ لعله ـ قد فطن لنوايا المأمون هذه ؛ فضيع الفرصة عليه ، وأعاد
كيده إليه ..
الموقف الثالث :
سلوكه في الطريق ،
كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك ، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته ، ويطلب من رجاء
هذا : أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد ؛ بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على
لسانه ، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا ، حتى ولو مرة واحدة ؛ فلم يدّع أحد أنه سمع
شيئا من المأمون عن سلوك الامام (ع) ، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء ، فلعله لم
يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون ، وبعد أن ارتفعت الموانع ،
وقضي الأمر ..
الموقف الرابع :
موقفه في نيشابور
، الذي لم يكن أبدا من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من
المصادفة أيضا ؛ حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف ، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات
بل مئات الالوف ـ أبلغهم ـ : « كلمة لا إله إلا الله حصني ؛ فمن دخل
__________________
حصني أمن من عذابي
» ..
هذه
الكلمة .. التي عد أهل
المحابر والدوى ، الذين كانوا يكتبونها ؛ فانافوا على العشرين الفا .. هذا على قلة
من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك ، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف
العظيم ..
«. ونلاحظ : أنه (ع)
ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية ، ترتبط ببعض مجالات الحياة : كالصوم ،
والصلاة ، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا ، وترغبهم في الآخرة ،
كما كان شأن العلماء آنذاك ..
كما أنه لم يحاول
أن يستغل الموقف لاهداف شخصية ؛ أو سياسية ، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه
المواقف .. مع أنه يتوجه إلى مرو ؛ ليواجه أخطر محنة تهدد وجوده ، وتهدد العلويين
، ومن ثم الامة بأسرها.
وانما كلم الناس
باعتباره القائد الحقيقي ، الذي يفترض فيه : أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات
ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم ، ووجودهم ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا. ألا وهي مسألة
:
التوحيد .. التوحيد : الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى ، بمختلف
جوانبها ، وإليه تنتهي ، وعليه وبه تقوم ..
التوحيد : الذي ينجي كل الامم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا
فقده الانسان ؛ فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه ..
مدى ارتباط مسألة الولاية
بمسألة التوحيد :
هذا .. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ
__________________
لهم سماع كلمة
الإمام (ع) ؛ لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة ؛ أو لتوجههم لامور جانبية أخرى ،
كما يحدث ذلك كثيرا في مناسبات كهذه ..
نرى الإمام (ع)
يتصرف بنحو آخر ؛ حيث إنه عند ما سارت به الناقة ، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم
، وقلوبهم مشدودة إليها ..
نراه يخرج رأسه من
العمارية ؛ فيسترعي ذلك انتباه الناس ، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي
عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم ؛ ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الاخرى :
« بشروطها ؛ وأنا
من شروطها ».
لقد أملى الإمام (ع)
كلمته هذه عليهم ، وهو مفارق لهم ؛ لتبقى الذكرى الغالية ، التي لا بد وأن يبقى
لها عميق الأثر في نفوسهم ..
لقد أبلغهم (ع)
مسألة أساسية أخرى ، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوحيد ، ألا وهي مسألة : « الولاية »
..
وهي مسألة بالغة
الأهمية ، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى ، وتنعم بالعيش الكريم ؛ إذ ما
دامت مسألة القيادة الحكيمة ، والعادلة ، والواعية لكل ظروف الحياة ، وشئونها ،
ومشاكلها ـ ما دامت هذه
__________________
المسألة ـ لم تحل
؛ فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت ، والذين يجعلون
لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله ، ويحكمون بغير ما أنزل الله ؛
وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعاني الشقاء والبلاء ، ويعيش في متاهات الجهل ، والحيرة
، والضياع .. » .
وإننا إذا ما
أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة : « الولاية » بمسألة « التوحيد » ؛ فلسوف نعرف : أن
قوله (ع) : « وأنا من شروطها » لم تمله عليه مصلحته الخاصة ، ولا قضاياه الشخصية
.. ولسوف ندرك أيضا : الهدف الذي من أجله ذكر الإمام (ع) سلسلة سند الرواية ،
الأمر الذي ما عهدناه ، ولا ألفناه منهم : ، إلا في حالات نادرة ؛ فإنه 7 قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للامة
بالمبدإ الأعلى ..
الإمام ولي الأمر من قبل الله ،
لا من قبل المأمون :
وعدا عن ذلك كله
.. فإننا نجد أن الإمام (ع) ، حتى في هذا الموقف ، قد اهتبل الفرصة ، وأبلغ ذلك
الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الالوف : أنه الإمام للمسلمين جميعا ، والمفترض
الطاعة عليهم ، على حد تعبير القندوزي الحنفي ، وغيره .. وذلك عند ما قال لهم : «
وأنا من شروطها ».
وبذلك يكون قد ضيع
على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمام (ع) إلى مرو. ألا وهو :
الحصول على اعتراف بشرعية خلافته ، وخلافة بني أبيه العباسيين ..
__________________
إذ أنه قد بين
للناس بقوله : « وأنا من شروطها » : أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد ، لا من
جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون ، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله ؛ وإنما
لأن الله تعالى جعله من شروطها.
وقد أكد (ع) على
هذا المعنى كثيرا ، وفي مناسبات مختلفة ، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما
سيأتي ، وأيضا في الكتاب الجامع لاصول الاسلام والأحكام ، الذي طلبه منه المأمون ؛
حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشر : ، مع أن عددا منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد ، كما أنه ذكر
أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية ، وفي غير ذلك من
مواقفه الكثيرة (ع) ..
الإمام يبلغ عقيدته لجميع
الفئات :
وأخيرا .. لا بد
لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الاشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن
يضم ذلك الحشد العظيم ، الذي يقدر بعشرات ، بل بمئات الالوف :
١ ـ حشدا من أهل
الحديث واتباعهم ، الذين جعلوا صلحا جديدا بين الخلفاء الثلاثة ، وبين عليّ (ع) في
معتقداتهم ، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك
ما شاءت لهم قرائحهم ؛ حتى جعلوه إذا سمع ذكرا لأبي بكر يبكي حبا ، ويمسح عينيه
ببرده .
وجعلوه أيضا ضرابا
للحدود بين يدي الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ،
__________________
وعثمان ، كما تنبأ هو
نفسه (ع) بذلك . إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير ،
والناقد الخبير ..
٢ ـ وحشدا من أهل
الإرجاء ، الذين ما كانوا يقيمون وزنا لعلي ، وعثمان. بل كانت المرجئة الاولى لا
يشهدون لهما بإيمان ، ولا بكفر ..
٣ ـ وأيضا .. أن
يضم حشدا من أهل الاعتزال ، الذين أحاطوا بالمأمون ، بل ويعد هو منهم ، والذين
تدرجوا في القول بفضل عليّ (ع) حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم ؛ فقد كان مؤسّسا
نحلة الاعتزال : واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل
مثلا ، ولكن أتباعهما تدرّجوا على مر الزمان في القول بفضله ؛ فقد شكك أبو الهذيل
العلاف في أفضليته على أبي بكر ، أو القول بتساويهما في الفضل. ولكن رئيس معتزلة
بغداد : بشر بن المعتمر ، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة ، ولكنه قال بصحة
خلافتهم .. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد ، وكثير من البصريين ..
وإذا كان ذلك
الحشد الهائل يضم كل هؤلاء ، وغيرهم ممن لم نذكرهم .. فمن الطبيعي أن تكون كلمة
الإمام هذه : « وأنا من شروطها » ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء ، وإقامة للحجة
عليهم جميعا ، على اختلاف أهوائهم ، ومذاهبهم ..
ويكون قد بلغ بهذه
الكلمة : « وأنا .. » صريح عقيدته ، وعقيدة
__________________
آبائه الطاهرين (ع)
في أعظم مسألة دينية ، تفرقت لاجلها الفرق في الاسلام ، وسلت من أجلها السيوف. بل
لقد قال الشهرستاني :
« .. واعظم خلاف
بين الامة خلاف الامامة ؛ إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثلما سل على
الامامة في كل زمان .. » .
وبعد
كل ما قدمناه .. لا يبقى مجال
للقول : إن قوله هذا : « وأنا .. » لا ينسجم مع ما عرف عنه (ع) من التواضع البالغ
، وخفض الجناح ؛ إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان
لا بد للامام في ذلك المقام ، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولا وآخرا ، ويفتح
عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا ، وإن
جزع من ذلك قوم ، وحنق آخرون ..
تعقيب هام وضروري :
ومما هو جدير
بالملاحظة هنا ، هو أن أئمة الهدى : كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهم : الأحق بقيادة
__________________
الامة ، وخلافة
النبي (ص). مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم ، كما تشير إليه عبارة الشهرستاني
الآنفة ، وغيرها.
وذلك يدل على مدى
ثقتهم بأنفسهم ، وبأحقيتهم بهذا الأمر ..
فنرى الإمام موسى (ع)
يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة ، ويصارحه بها ، أكثر من مرة ، وفي
أكثر من مناسبة .. بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من
المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ ..
ولقد نقل غير واحد
أنه : عند ما وقف الرشيد على قبر النبي (ص) ، وقال مفتخرا : السلام عليك يا
ابن عم. جاء الإمام موسى (ع) ، وقال : السلام عليك يا أبة. فلم يزل ذلك في نفس
الرشيد إلى أن قبض عليه. : وعند ما قال له الرشيد : أنت الذي تبايعك الناس سرا؟!
أجابه الإمام (ع)
: أنا إمام القلوب ، وأنت إمام الجسوم ..
وأما الحسن ،
والحسين ، وأبوهما ؛ فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان ..
بل إن أعظم شاهد
على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضا (ع) للقائل له : إنك قد
شهرت نفسك بهذا الأمر ، وجلست مجلس أبيك ؛ وسيف هارون يقطر الدم؟!! ..
__________________
فأجابه الإمام (ع)
: « جرأني على هذا ما قال رسول الله (ص) : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة ؛ فأشهد
أني لست بنبيّ .. وأنا أقول لكم : إن أخذ هارون من رأسي شعرة ؛ فاشهدوا أني لست
بإمام .. » .
وفي هذا المعنى
روايات عديدة ..
ولكنهم : قد انصرفوا بعد
الحسين (ع) عن طلب هذا الأمر بالسيف .. إلى تربية الامة ، وحماية الشريعة من
الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار ؛ ولأنهم كانوا يعلمون : أن طلب هذا
الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة ، وواعية ، لن يؤدي إلى نتيجة ،
ولن يقدّر له النجاح ، الذي يريدونه هم ، ويريده الله .. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلوا
: يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر ، حتى مع خلفاء وقتهم ، كما يظهر لكل من راجع
مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة ..
الموقف الخامس :
رفضه (ع) الشديد
لكلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد ، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر
أشهرا ، وهو في مرو نفسها ، حتى لقد هدده المأمون اكثر من مرة بالقتل ..
وبذلك يكون قد مهد
الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة ؛ حيث قال له صراحة : إنه يريد أن يقول للناس : إن
علي بن موسى لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه ؛ وليكون بذلك قد
أفهم المأمون أن
__________________
حيلته لم تكن
لتجوز ، وأن زيفه لا ينطلي عليه ، ولذا فان عليه أن يكف في المستقبل عن كل
مؤامراته ومخططاته .. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لأي عمل يقدم عليه ، وضعيف
الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالاضافة إلى أن الناس سوف يشكون في
طبيعية هذا الأمر ، وسلامة نوايا المأمون فيه ..
الموقف السادس :
ولم يكتف الامام (ع)
بذلك كله .. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون قد اكرهه على
هذا الأمر ، وأجبره عليه ، وهدد بالقتل إن لم يقبل ..
يضاف
إلى ذلك .. أنه كان يخبر
الناس في مختلف المناسبات : أن المأمون سوف ينكث العهد ، ويغدر به .. حتى لقد قال
في نفس مجلس البيعة للمستبشر : « لا تستبشر ؛ فانه شيء لا يتم ». بل لقد كتب في
نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة ، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن
..
هذا عدا عن أنه
كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون ، ولا يسمه إلا هو ، حتى لقد واجه نفس المأمون
بهذا الأمر ..
بل إنه لم يكن
يكتفي بمجرد القول ، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير
إلى عدم رضاه بهذا الامر ، وإلى أنه مكره مجبر عليه ..
حيث إنه كان على
حد تعبير الرواة : « في ضيق شديد ، ومحنة عظيمة » و « لم يزل مغموما مكروبا حتى
قبض » ، و « قبل البيعة ، وهو باك حزين » وكان كما يقول المدائني : « إذا رجع يوم
الجمعة من
الجامع ، وقد
أصابه العرق والغبار ، رفع يديه وقال : « اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت ؛
فعجل لي الساعة .. ».
إلى آخر ما هنالك
، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة ..
وواضح أن كل ذلك
سوف يؤدي إلى عكس النتيجة ، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة ؛ وخصوصا إذا ما
أردنا الملائمة بين مواقفه هذه ، وموقفه في نيشابور ، وموقفه في صلاتي العيد في
مرو.
الموقف السابع :
إنه (ع) كان لا
يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له ، وأنه لم
يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله ، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم ، بل واثبات
أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا شرعية ..
أما ما يتعلق بصحة خلافة
المأمون :
فنلاحظ : أنه (ع) حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير
من المؤرخين ـ إلى أن المأمون ، الذي يحتل عنوة مجلس رسول الله (ص) ، يجهل حتى
كيفية ذلك العقد الذي خوّله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير ؛ حيث إنه (ع)
: « .. رفع يده ؛ فتلقى بظهرها وجه نفسه ، وبطنها وجوههم ؛ فقال له المأمون : ابسط
__________________
يدل للبيعة ؛ فقال
له : إن رسول الله هكذا كان يبايع ؛ فبايعته الناس .. » .
ونظير
ذلك أيضا : ما روي من أن
المأمون قد أمر الناس : أن يعودوا للبيعة من جديد ، عند ما أعلمه الإمام (ع) : بأن
كل من كان قد بايعه ، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير .. وهاج الناس بسبب
ذلك ، وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه
القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضا .
وأما أن الخلافة حق للامام (ع)
دون غيره :
فلعله لا يكاد
يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمام (ع) ومواقفه وقد تحدثنا آنفا عن موقفه
في نيشابور ، وهو في طريقه إلى مرو ، وكيف أنه (ع) جعل نفسه الشريفة والاعتراف
بامامته شرطا لكلمة التوحيد ، والدخول في حصن الله الحصين ..
وأشرنا أيضا إلى
أنه قد عدد الأئمة الشرعيين ، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما
كتبه للمأمون ..
بل لقد المح إلى
ذلك أيضا بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.
كما أن من الامور
الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمام (ع) حينما بويع له بولاية العهد ، وهو ما يلي :
__________________
« .. إن لنا عليكم
حقا برسول الله ، ولكم علينا حق به ؛ فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم
.. ».
ولم يؤثر عنه في
ذلك المجلس غير ذلك .. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ ..
ومن الواضح أن
اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة ، يتعرض فيها
لمختلف المواضيع ، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن
اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوبا رائعا لتركيز المفهوم الذي يريده الإمام (ع) في
أذهان الناس ، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة ، وعن موقفه منها ، ومن جهاز
الحكم ، في نفس مجلس البيعة ، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن : الإمام كان يرغب
في هذا الأمر ، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه ، وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون
..
يضاف إلى كل ذلك
أنه (ع) قال لحميد بن مهران ، حاجب المأمون :
« .. وأما ذكرك
صاحبك ( يعني المأمون ، والمأمون جالس ) ، الذي أجّلني ؛ فما أحلني إلا المحل الذي
أحله ملك مصر ليوسف الصديق (ع) ، وكانت حالهما ما قد علمت .. ».
كما أنه (ع) قد
قال أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة : « إن من أخذ برسول الله ؛ لحقيق بأن يعطي به
» ، وذلك عند ما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده ، وفي غير هذه
المناسبة أيضا ..
المأمون يعترف بأحقية آل علي
بالأمر :
ولعل من أعظم المواقف
الجديرة بالتسجيل هنا موقفة (ع) مع المأمون ،
عند ما حاول هذا
أن يحصل منه (ع) على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من
النبي 6 ؛ وذلك من أجل أن يثبت ـ بزعمه ـ أن له ولبني أبيه حقا في الخلافة ؛ فكانت
النتيجة : أن نجح الإمام (ع) في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب
.. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون ، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي : أن
العلويين هم الأحق بالخلافة والرئاسة ، وأنه هو ، وآباءه غاصبون ، ومعتدون ..
فبينما المأمون
والرضا (ع) يسيران ؛ إذ قال المأمون :
« .. يا أبا الحسن
، إني فكرت في شيء ؛ فنتج لي الفكر الصواب فيه : فكرت في أمرنا وأمركم ، ونسبنا
ونسبكم ؛ فوجدت الفضيلة فيه واحدة ، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى
والعصبية ..
فقال له أبو الحسن
الرضا (ع) : إن لهذا الكلام جوابا ، إن شئت ذكرته لك ، وإن شئت أمسكت ..
فقال له المأمون :
إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه ..
قال له الرضا (ع)
: أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمدا (ص) ؛ فخرج
علينا من وراء أكمة من هذه الآكام ، يخطب إليك ابنتك ، كنت مزوجه إياها؟ ..
فقال : يا سبحان
الله ، وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟!.
فقال له الرضا (ع)
: أفتراه كان يحل له أن يخطب إليّ؟ ..
قال : فسكت
المأمون هنيئة ، ثم قال :
« أنتم والله ،
أمس برسول الله رحما .. » .
__________________
وكانت هذه ضربة
قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من
أي عمل ضد الإمام (ع) ؛ بعد أن كان هو الجاني على نفسه ؛ ف « على نفسها جنت براقش
».
وبعد كل ذلك فقد
قدمنا قول ابن المعتز :
وأعطاكم المأمون
حق خلافة
|
|
لنا حقها ، لكنه
جاد بالدنيا
|
وخلاصة الأمر :
انه (ع) لم يكن
يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون ، وتضييع الفرصة عليه ، وإفهام الناس أنه مكره
على هذا الأمر ، مجبر عليه .. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له
؛ ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية ،
أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقا للامام قد اغتصبه
الغاصبون ، واعتدى عليه فيه المعتدون ؛ فليس للمأمون حق في أن يعرض له (ع) بالمن
عليه ، بما جعل له من ولاية العهد ..
وكذلك ليس للمأمون
بعد : أن يدعي العدل والانصاف ، فضلا عن الايثار والتضحية في سبيل الآخرين ؛ بعد
أن فضح الإمام اهدافه من لعبته تلك ، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة ..
الاكذوبة المفضوحة :
وبعد .. فقد ذكر بعض أهل الأهواء ، كابن قتيبة ، وابن عبد ربه ،
واقعة خيالية ، غير تلك التي ذكرناها آنفا وهي :
أن المأمون قال
لعلي بن موسى : علام تدعون هذا الأمر؟! ..
قال : « بقرابة
علي وفاطمة من رسول الله (ص) .. »
فقال المأمون : «
إن لم تكن إلا القرابة ، فقد خلف رسول الله (ص) من هو أقرب إليه من علي ، أو من هو
في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله (ص) ؛ فإن الأمر بعدها للحسن ،
والحسين ؛ فقد ابتزهما علي حقهما ، وهما حيان ، صحيحان ، فاستولى على ما لا حق له
فيه .. ».
فلم يحر علي بن
موسى له جوابا .. انتهى ..
وهي واقعة مزيفة
ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية ، التي جرت بينهما ، والتي تنسجم مع
كل الأحداث والوقائع ، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها ، ألا وهي تلك
التي قدمناها آنفا ..
والدليل على زيف
هذه الرواية : أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها ؛ لأنهم
يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة ، وأقوالهم المتضافرة ـ : أن منصب الإمامة
لا يكون إلا بالنص.
وأما الاستدلال
بالقرابة ؛ فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب : أن أول من التجأ إليه أبو بكر
، ثم عمر. ثم الامويون ، فالعباسيون ، ثم أكثر ، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة ..
وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك ، فإنما اقتضاه الحجاج مع
خصومهم.
وبعد .. فهل يخفى على الإمام (ع) ضعف ووهن هذه الحجة ؛ مع أننا
نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وانه
لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات ، وعلى جميع المستويات.
ولقد كان على
المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة ،
__________________
ويعلنها على الناس
جميعا ، ويشهّر بالإمام (ع) ؛ ليسقطه ـ ومن ثم .. يسقط العلويين كلهم من أعين
الناس .. ويسلبهم وإلى الابد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به .. مع
أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار ، ويدبر المكايد ، ويعمل الحيل ، من
أجله ، وفي سبيله ..
وعدا
عن ذلك كله .. كيف يمكن أن
تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام ، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الامامة ، وبأي
شيء تثبت ، وحول أوصاف الإمام ووظائفه ، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى
عشرات الصفحات؟!!.
وكذلك .. مع احتجاج الإمام (ع) على العلماء والمأمون في اكثر من
مناسبة بالنص ، وأيضا مع موقفه (ع) في نيشابور؟!
اللهم إلا أن يكون
أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته ، وحجة آبائه ، وكل من ينتسب إليهم
، ويذهب مذهبهم .. تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ
نسيها ـ في تلك اللحظة فقط ؛ لأن المأمون هو الذي يسأل ، والرضا هو الذي يجيب!!!.
وبعد ؛ فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد .. وهو يرى رسالة الرضا ،
التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه ، وجمع له بها أصول الاسلام ، والتي صرح فيها
بالنص على علي (ع). بل وذكر فيها الائمة الاثني عشر ، الذين نص عليهم النبي (ص)
كلهم بأسمائهم ، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها
واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين ..
__________________
وفيها يصف الإمام (ع)
أئمة الهدى أدق وصف ، وأروعه ، وأوفاه ..
بل إن المأمون
نفسه كان يرى وجوب نصب الإمام من قبل الله كالنبي ، كما يتضح من مناظرته الشهيرة
لعلماء وقته ، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ ، والأدب ، والرواية ، وذكرها
في العقد الفريد أيضا قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها ( أي
في المناظرة ) ؛ فحرف فيها ، وحذف منها الكثير .. وأشار إليها أيضا أحمد أمين في
ضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٧ ، وغيره ..
فلماذا لا يلزمه
الإمام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها؟!. أم يمكن أن لا يكون مطلعا على مقالة
المأمون هذه ، التي سار ذكرها في الآفاق؟!.
ويحسن بنا هنا أن
ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا ، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالأمر
الذي يخفى على أحد ؛ فقد رأينا : أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن ،
يرويه كل من الشيعة ، والمعتزلة ، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة. ومناظرة هشام
لأبي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لأبي الهذيل ، بينما يروي
الشيعة ، ويؤيدهم المسعودي أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا
بل المئات ..
ولكن الأمر هنا
مختلف تماما ؛ إذ أن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كليا
مع نظرة الأئمة : ورأيهم في الخلافة ومستحقها .. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على
الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الإمامة ؛ ولذا نراه ينسب إلى الإمام (ع)
رأيا لا يقول به ، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة
ولد علي (ع) من فاطمة ؛ بشرط أن يكون بليغا ، شجاعا ، عادلا مجتهدا ،
__________________
يخرج بالسيف ضد كل
ظلم وانحراف إلخ .. وبأن إمامة علي (ع) قد ثبتت بالوصف والإشارة إليه ، لا
بالتصريح والنص عليه .
كما أنه غفل عن أن
الذين كانوا يحتجون بالقرابة والإرث هم العباسيون ، الذين كانوا إلى عصر المهدي ـ كما
قدمنا ـ يدّعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق علي (ع) ، ومحمد بن الحنفية ، وفي عصر
المهدي عدلوا عن ذلك ؛ لما يتضمنه من اعتراف للعلويين. ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن
طريق العباس وأبنائه .. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة ، وبذلوا من أجلها
الأموال الطائلة للعلماء والفقهاء ، والشعراء.
ولم يكن لتخفى على
أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة :
هل تطمسون من
السماء نجومها
|
|
أو تسترون إلخ
..
|
ولا قوله :
أنى يكون وليس
ذاك بكائن
|
|
لبني البنات
وراثة الأعمام
|
وقد أجابه جعفر بن
عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله :
ما للطليق
وللتراث وإنما
|
|
صلى الطليق
مخافة الصمصام
|
وكيف يخفى كل ذلك
على الإمام (ع) ، خصوصا بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائما على قدم وساق في
زمن هارون ، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم :
فضجت أن تشد على
رءوس
|
|
تطالبها بميراث
النبي
|
__________________
ومن قول القاسم بن
يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع
إلى غير ذلك مما
لا مجال لتتبعه واستقصائه .. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة
المأمون ، واثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه ؛ فلا يمكن أبدا أن تجري المحاورة
بين أعلم أهل الأرض ( باعتراف المأمون ) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على
هذا النحو من السذاجة والبساطة .. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الأرض ، لا يرى ولا
يسمع ، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم ، أو في سرداب تحت الأرض .. واللهم إلا
إذا كان القائل : ما للطليق وللتراث إلخ .. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم
أهل الأرض من مدعي الدعوى نفسه .. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون ـ لو سلم أنه
احتج بالقرابة ـ : إن قرابة العباس لا تفيده ؛ بعد أن تخلى عنها يوم الانذار. وبعد
أن كان من الظالمين ، الذين حرمهم الله من عهده ، حيث قال تعالى : « لا ينال عهدي
الظالمين ». وبعد أن ترك الهجرة معه (ص). وبعد أن حارب النبي (ص) يوم بدر. وبعد
جهله بالدين واحكامه ؛ ولقد قال سبحانه : « أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتّبع ،
أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى ، فما لكم كيف تحكمون .. » . إلى آخر ما
هنالك ..
وأخيرا .. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها
.. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا : أنه لم يخف علينا ، ونأمل أن لا
يخفى على أحد سرّ ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة ، بعد ذكره لرواية
احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية علي (ع) على جميع الخلق ، والتي تصرف
فيها ما شاء له حقده ونصبه ،
__________________
الحذف والتحريف ؛
فإنه ـ على ما يبدو ـ ليس إلا من أجل التشويش على تلك ، وإبطال كل أثر لها ، ظلما
للحقيقة ، وتجنيا على التاريخ ..
الموقف الثامن :
وأعتقد أنه أعظمها
أثرا ، وأعمها نفعا ، وهو ما كتبه (ع) على وثيقة العهد ، التي كتبها المأمون بخط
يده ..
فإننا إذا ما
رجعنا إليه نجد : أن كل سطر فيه ، بل كل كلمة لها مغزى عميق ، ودلالة هامة ، تلقي
لنا ضوءا كاشفا على خطته (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون ، وخططه ، وأهدافه ..
فلقد كان يعلم :
أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الأقطار الإسلامية ؛ ولذلك نراه (ع) قد اتخذها
وسيلة لإبلاغ الامة الحقيقة كل الحقيقة ، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون.
وأيضا تأكيد حق العلويين ، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم ..
فبينما نراه (ع)
يبدأ كلامه ـ فيما كتبه في الوثيقة المشار إليها ـ بداية غير طبيعية ، ولا مألوفة
في مناسبات كهذه حيث قال : « الحمد لله الفعال لما يشاء ، ولا معقب لحكمه ، ولا
راد لقضائه .. » .. لا يأتي بعدها بما يناسب المقام ، ويتلائم مع سياق الكلام ، من
تمجيد الله ، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين!! هذا الأمر .. بل نراه يأتي
بعبارة غريبة ، وغير متوقعة ؛ ألا وهي قوله : « يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي
الصدور الخ .. ».
أفلا توافقني ـ قارئي
العزيز ـ على أنه (ع) يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الأمر ينطوي على خيانة
مبيتة ، وأن هناك صدورا تخفي غير ما تظهر؟!. ثم .. ألا توافقني على أن هذه العبارة
تعريض بالمأمون
نفسه ؛ من أجل
تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه؟!. هذا مع علمه (ع) بأن هذه الوثيقة سوف ترسل
إلى مختلف أقطار العالم الاسلامي ؛ لتقرأ على الملأ العام ، كما حدث ذلك بالفعل ..
وإذا ما وصلنا إلى
فقرة أخرى ، مما كتبه (ع) على وثيقة العهد ؛ فإننا نراه يقول : « .. وصلاته على
نبيه محمد خاتم النبيين ، وآله الطيبين الطاهرين .. » فإننا إذا لاحظنا : أنه لم
تجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف « الآل » على « محمد » ، ثم
توصيفهم بـ « الطيبين الطاهرين » ـ نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون
، وهجوم آخر عليه ؛ حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الإمام (ع) ، وسنخه ،
ومحتده ؛ وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية ، وليس لكل من سواهم ، حتى الخليفة
المأمون ، مثل هذا الشرف ، ولا مثل تلك المزية ..
ثم نراه (ع) يعقب
ذلك بقوله : « .. إن أمير المؤمنين .... عرف من حقنا ما جهله غيره .. » ..
فما هو ذلك الحق
الذي جهله الناس كلهم ، حتى بني العباس ، فيما عدا المأمون؟! ..
فهل يمكن أن تكون
الامة الاسلامية قد انكرت أنهم (ع) ابناء بنت رسول الله (ص)؟!!. أليس ذلك منه (ع)
إعلان للامة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له ، وأنه لم يزد بذلك
على أن أرجع الحق إلى أهله ، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون ، واعتدى عليهم
به المعتدون؟! .. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه ، وأن خلافته ليست شرعية ، ولا
صحيحة ؛ لأنه كآبائه مغتصب لحق غيره؟!.
نعم .. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن
الإمام (ع) يتقي
المأمون ، ولا غيره من رجال الدولة ، في إظهار هذا الحق ، وبيان أن خلافة الرسول (ص)
إنما كانت في علي (ع) ، وولده الطاهرين ، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم ،
والانقياد لهم. وقد اعلن (ع) ذلك في نيشابور كما قدمنا .. ورأيناه يصرح به ، ويطلب
من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به ، في محضر من رجال الدولة في خراسان ، ففي
الكافي : بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال : كنت قائما على رأس الرضا (ع) بخراسان
، وعنده عدة من بني هاشم ، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ؛ فقال : « يا
إسحاق ، بلغني أن الناس يقولون : إنا نزعم : أن الناس عبيد لنا!!. لا وقرابتي من
رسول الله (ص) ما قلته قط ، ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي
قاله ، ولكنني أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، موال لنا في الدين ؛ فليبلغ
الشاهد الغائب .. » .
وستأتي الاشارة
إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي .. وليتأمّل في عبارته الأخيرة. فليبلغ
إلخ .. وليلاحظ أيضا أنه اختار لتوجيه خطابه : اسحاق بن موسى بن عيسى العباسي!!!
وفي الكافي أيضا
بسنده عن معمر بن خلاد قال : سأل رجل فارسي أبا الحسن (ع) ، فقال : طاعتك مفترضة؟.
فقال : نعم. قال : مثل طاعة علي بن أبي طالب (ع)؟. قال : نعم .
والمراد بأبي
الحسن هو الرضا (ع) ؛ لأنه هو الذي كان في خراسان ، وهو الذي يروي عنه معمر بن
خلاد كثيرا .. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه ..
__________________
ويقول (ع) في
وثيقة العهد ، بعد تلك العبارة مباشرة : « .. فوصل أرحاما قطعت ، وآمن أنفسا فزعت
، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ».
فهو كما ترى .. في
حين يشكر المأمون ، ويكتب تحت اسمه : « بل جعلت فداك » ( حسب رواية الإربلي فقط )
، لا ينسى أن يشوب ذلك بالازراء ضمنا على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في
حق العلويين ، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر ، ويطلبونهم في كل سهل وجبل ،
كما قدمنا ..
هذا .. ولا بأس أن نقف قليلا عند قوله : « وانه جعل إلى عهده ،
والامرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده .. ».
فإننا لا نكاد
نتردد في أنه (ع) يشير بقوله : « إن بقيت بعده » إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه
(ع) ، وبين المأمون. وأنه يعتمد توجيه الأنظار إلى عدم طبيعية هذا الأمر ، وإلى
عدم رغبته فيه.
وإنه كان يريد أن
يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعا من أجل التخلص منه ، ولو
بالاعتداء على حياته (ع) ، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك ، بعد أن يكون قد حقق كل
ما كان يريد تحقيقه ، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه ؛ حيث لا بد حينئذ أن
« يحل العقدة التي أمر الله بشدها ». ولا بد أيضا أن تنكشف خيانته للملإ ، ويظهر
ما يخفيه في صدره ، على حد تعبيره (ع) .. وإلا فما هو الداعي له (ع) لاقحام هذا
الشرط ـ إن بقيت ـ في أثناء مثل هذا الكلام ..
وإننا إذا نظرنا
بعمق إلى قوله بعد ذلك : فمن حل عقدة أمر الله بشدها ، وفصم عروة أحب الله إيثاقها
.. ». وتأملنا قوله السابق :
يعلم خائنة الأعين
، وما تخفي الصدور. وقوله اللاحق : لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه
.. فلسوف نعرف : أنه (ع) يعرض هنا بالمأمون نفسه ، ويقول للناس جميعا : إنه لا يشك
في أن المأمون سوف ينقض العهد ، ويحل العقدة.
ويلاحظ
هنا أيضا : أنه وصف هذه
العقدة بأنها مما أمر الله بشده ، وأحب إيثاقه .. وهذا لعله لا يختلف عما كان (ع)
يردده ، ويؤكد عليه كثيرا ، ونص عليه آنفا ، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق
الذي جهله غيره ، واغتصبه هو وآباؤه ، منه (ع) ومن آبائه ..
وإذا ما وصلنا إلى
قوله (ع) : « .. بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على
العزمات ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية الخ ..
».
فإننا نراه كأنه
يستشهد لاطاعته المأمون ، وعدم اصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه ، والعلويين ،
وشيعته للهلاك ، والاضطهاد ـ يستشهد لذلك ـ بما جرى لسالفه : وهو أمير المؤمنين
علي (ع) ، حيث صبر على الفلتات التي كانت من خلفاء عصره ، ولم يعترض (ع) على ما كانوا قد
عقدوا العزم عليه ، من المضي قدما في مخططاتهم ، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح
السياسة ، وتكريس الأمر الواقع ، وتثبيته ، لأنه يخدم مصالحهم ، ويرضي مطامحهم ..
ـ لم يعترض علي (ع)
على ذلك ـ لأنه خاف من شتات الدين ،
__________________
واضطراب حبل
المسلمين ؛ ولقرب أمر الجاهلية .. وهذا مما قد نص عليه علي (ع) نفسه في أكثر من
مورد ، وأكثر من مناسبة ؛ قال (ع) : « .. وأيم الله ، لو لا مخافة الفرقة بين
المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه .. » ،
ويقول : « إن الله لما قبض نبيه ، استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن
أحق به من الناس كافة ؛ فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ،
وسفك دمائهم ؛ والناس حديثوا عهد بالاسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى
وهن ، ويعكسه أدنى خلف .. » .
وهكذا تماما كان
الحال بالنسبة للإمام الرضا (ع) ، حفيد علي ، ووارثه ؛ والذي كان زمانه لا يبعد
حال الناس فيه عن حال الجاهلية ، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة ، خوفا من شتات
الدين ، واضطراب حبل المسلمين ؛ وذلك بتعريض نفسه ، وشيعته ، والعلويين للهلاك ،
أو على الأقل للاضطهاد ، الأمر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والامة ،
كما قلنا ..
وإذا ما قرأنا بعد
ذلك قوله (ع) : « .. وقد جعلت الله على نفسي ، ـ إن استرعاني على المسلمين ،
وقلدني خلافته ـ العمل فيهم عامة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة ، بطاعة
الله ، وسنة رسوله (ص) .. » .. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس
خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله ، ورسوله .. « فلا يسفك دما حراما ، ولا يبيح
فرجا ولا مالا ، إلا ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه إلخ .. ».
فإن هذا التنصيص
إنما هو في مقابل « الأرحام التي قطعت ، وفزعت ،
__________________
وتلفت ، وافتقرت
.. ، من العلويين ، على يد بني العباس ، الذين فعلوا بهم ، أكثر من فعل بني أميّة
معهم ، حسبما قدمنا ..
وتعهده والتزامه
بأن يعمل في المسلمين عامة ، وفي بني العباس خاصة ، بطاعة الله ، وسنة رسوله .. هو
التزام بنفس الخط الذي التزم به علي (ع) ، وتعهد بانتهاجه. الأمر الذي كان سببا في
ابعاده عن الخلافة في الشورى ، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في ابعاده
عنها ، بالنسبة لما قبل ذلك أيضا ، وما جرى بعده.
وعليّ (ع) هو نفس
ذلك الذي استشهد به آنفا ، وبيّن أنه صبر على الفلتات ، ولم يعترض على العزمات
خوفا من شتات الدين إلخ ..
والالتزام بخط علي
(ع) لن يرضي المأمون ، والعباسيين ، والهيئة الحاكمة. ولن يكون في مصلحتهم ، حسبما
المحنا إليه في فصل : جدية عرض الخلافة ..
كما أننا لا نستبعد
كثيرا : أنه (ع) يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت ،
ومنطلقات سياسات خصومهم ، التي عرفت جانبا منها في القسم الأول من هذا الكتاب ..
ومن هنا نعرف السر
في قوله (ع) : « .. وأن
أتخير الكفاة جهدي وطاقتي .. ». فإنه إشارة إلى أنه (ع) سوف ينطلق في كل نصب وعزل ـ تماما كالإمام علي (ع)
ـ من مصلحة الامة ، وعلى وفق رضا الله ، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية ، أو
اعتبارات سياسية ، أو قبلية ، أو غير ذلك من الاعتبارات ، التي لا يعترف بها
الاسلام ، ولا يقيم لها وزنا ..
وإذا ما قرأنا
قوله (ع) : « .. وإن
أحدثت ، أو غيرت ، أو بدلت ، كنت للغير مستحقا ، وللنكال متعرضا ، وأعوذ بالله من
سخطه إلخ .. ».
فإننا ندرك للتوّ
أنه (ع) يريد ضرب العقيدة ، التي كان قد شجعها الحكام ، وروّج لها علماء السوء ..
من أن الخليفة ، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة ، أو عقاب ، مهما
اقترف من جرائم ، وأتاه من موبقات ؛ فهو فوق القانون ، ولا يجوز لأحد الخروج ، أو
الاعتراض عليه ، في أي من الظروف والأحوال ، حتى ولو رمى القرآن بالنبل ، وقتل ابن
بنت رسول الله ، فضلا عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات ..
والإمام .. الذي
يعرف كيف كانت سيرة المأمون ، وسائر خلفاء بني العباس ، ومن لف لفهم ، والتي عرفت
فيما تقدم طرفا منها ، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة .. قد أراد أن
يوجه ضربة قاضية لهم جميعا ، حتى للمأمون ، وأشياعه ، وكل من كان من الطواغيت
والظلمة على شاكلتهم ، ويبين لهم ، وللملإ أجمع : أن الحاكم حارس للنظام والقانون
، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون ؛ ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن
العقاب والقصاص ، لو ارتكب أي جريمة ، أو اقترف أية عظيمة.
فالمأمون ، وآباؤه
، وأشياعهم ، كانوا يضحون بكل شيء في سبيل أنفسهم ، ومصالحهم الشخصية ، ويقترفون
كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم ، وتقوية سلطانهم .. أما الامام (ع) فهو مستعد لأن
يقدم نفسه ـ إن اقتضى الأمر ـ للعقاب والنكال ، عند صدور أية مخالفة ، وحصول أي
تجاوز عما يرضي الله تعالى ، وعن سنة رسوله ..
وبعد
كل ما تقدم .. نراه يعبر عن
عدم رضاه بهذا الأمر ، وعدم تهالكه عليه ؛ لعلمه بعدم تماميته له ؛ ويقول بصريح
العبارة : إنه أمر لا يتم ؛ لأن « .. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك .. ». كما أن في هذا تنويه مهمّ منه (ع) بذكر الركن الثاني
من أركان إمامة أئمة
أهل البيت : ، وهو أن الله
تعالى اختصهم بأمور غيبية ، وعلوم لدنية ، منعها عن سائر الناس.
وهذان الكتابان :
الجفر ، والجامعة ، هما من الكتب التي أملاها رسول الله (ص) على علي أمير المؤمنين
(ع) ، وكتبها بخط يده. وقد أظهر الأئمة : بعض هذه الكتب التي بخط علي (ع) ، وباملاء الرسول (ص) لعدة
من كبار شيعتهم ، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الأحكام ..
وفي
الحقيقة .. إن الامام (ع)
، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون .. ولكنه يريد بكلامه هذا ، واستشهاده
بالجفر والجامعة أن يقول له ، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة : « .. قد
انبأنا الله بأخباركم ، وسيرى الله عملكم ، ورسوله ، والمؤمنون ، وستردون إلى عالم
الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا ،
وانتهاككم الحرمات منا ، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا ، وأموالنا .. ».
ثم نراه يترقى في
صراحته ، حيث يقول : « .. لكنني
امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه .. ». أي أنه لو لم يقبل بهذا الأمر لتعرض لسخط المأمون ..
والكل يعلم ما ذا كان يعني سخط أولئك الحكام ، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر
لاقترافهم أي جريمة ، واقدامهم على أي عظيمة ..
وأخيرا .. ورغم أن المأمون قد تقدم منه (ع) ، وطلب منه أن يشهد
الله ، والحاضرين على نفسه .. نراه يأبى أن يكون المأمون ، ولا أي من الحاضرين
شاهدا على نفسه ، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا ؛ لأنه
__________________
كان يعلم بما كانت
تكنه صدورهم ، وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيدا عليه ، واستعان
بالآية الكريمة ، التي تقطع الطريق على كل أحد ، وتكتفي بالله شهيدا ، حيث قال : «
وأشهدت الله على نفسي ( وكفى بالله شهيدا ) .. ».
وإذا كان لا بد من كلمة :
وإذا كان لا بد في
نهاية المطاف من كلمة ؛ فاننا نقول : إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة ، ووقفوا
على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا
أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الامام (ع) من كل كلمة ، كلمة ، مما كتبه
على وثيقة العهد ..
وإذا كان هناك من
يرى : أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه .. فاننا نرى : أن كون بعض الفقرات
الاخرى لا يحتمل غير ما قلناه ، وأيضا بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو
العام ، الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جدا ، والتي قدمناها وسيأتي شطر
منها ـ إن ذلك ـ هو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرهي إليه (ع) مما
كتبه على وثيقة العهد ..
ملاحظات هامة :
إن من الامور
الغريبة حقا أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جدا!! ـ بخط يده ..
وأغرب منه أنه تقدم إلى الامام (ع) ، وقال له : « اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله
والحاضرين عليك ،
بما
تعده في حق الله ورعاية المسلمين .. ».
وهذا إن دل على
شيء ، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون ، وأنه يريد تطويق
هذا الموضوع من جميع جهاته ، وإن استلزم ذلك كل تلك الامور ؛ وإلا .. فما هو
الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!! .. ثم ما الداعي
لأن يطلب من الإمام ذلك!!!.
هذا .. ولا بأس أيضا بملاحظة تعبير المأمون بـ « قبول »!!!. ثم
ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول بـ « خط يده »!!!. ثم طلب منه أن يشهد الله
والحاضرين على نفسه!!!.
حقا .. إنها للعبقرية السياسية
:
وعلى كل حال ..
فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنائع المستظرفة ؛ وذلك لما تتضمنه من
تعريضات وكنايات ، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية ، التي يلتزم بها المتحاورون ..
ولذا .. نلاحظ أنه
(ع) .. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون ، بل ويكتب تحت اسمه ـ حسب رواية الاربلي
فقط ـ : بل جعلت فداك .. ولكن يبطن كلامه ، ويضمنه تعريضات عميقة ؛ بلهجة معتدلة ،
لا عنف فيها ، وذلك يعني : أن الإمام (ع) لم يتنازل عن مبدئه ، ولا حاد عن نهجه ،
الذي اختطه لنفسه ، بوحي من رسالة الله ، وتعاليم محمد (ص) ، وخطى جده علي (ع) ..
لم يحد عنه قيد شعرة ، ولا هادن فيه ، ولا حابى أحدا ، حتى في هذا الموقف ..
__________________
ولعمري .. لو كان
ما كتبه الإمام الرضا (ع) على وثيقة العهد من شخص عادي آخر ، لكان يقال عنه الشيء
الكثير تعظيما وتبجيلا ؛ حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه ، ولا حاد عن
نهجه قيد أنملة .. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة ، ولم يكن
هو مستعدا ، ولا متوقعا لذلك ؛ لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك ..
وهذا ولا شك مما
يزيد من عظمة الإمام ، ويعلي من شأنه ، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له ..
ولكن الحقيقة هي :
أنه ـ وهو الإمام المعصوم ـ غني عن كل تلكم التقريظات ، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل
..
الموقف التاسع :
شروطه (ع) على
المأمون لقبول ولاية العهد ، وهي :
« أن لا يولي أحدا
، ولا يعزل أحدا ، ولا ينقض رسما ، ولا يغير شيئا مما هو قائم ، ويكون في الأمر
مشيرا من بعيد » ؛ فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.
وفي ذلك تضييع
لجملة من أهداف المأمون .. إذ أن :
__________________
١ ـ السلبية تعني الاتهام :
فإن من الطبيعي أن
تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس ، ولسوف تكون سببا في وضع علامات
استفهام كبيرة ، حول الحكم ، والحكام ، وكل اعمالهم وتصرفاتهم ؛ إذ أن السلبية
إنما تعني : أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه ؛ بأي نحو من أنحاء التعاون ؛
وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه ، ويأبى
التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!! ..
٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك
النظام :
ولقد قدمنا : أن
من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمام (ع) على اعتراف ضمني بشرعية حكمه
وخلافته ، كما صرح هو نفسه بذلك « وليعترف بالملك ، والخلافة لنا ».
والإمام .. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم
، بأي نحو من أنحاء الاعتراف ، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك ،
ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الاسلامي الأصيل ..
هذا .. وقد عضد شروطه هذه ، بسلوكه السلي مع المأمون ، والهيئة
الحاكمة ، طيلة فترة ولاية العهد ، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة ، التي تحدثنا
عنها فيما سبق ..
٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة
نظره في الحكم :
والأهم من كل ذلك
: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسئولية عن أي تصرف يصدر من
الهيئة الحاكمة. وليس
للناس ـ بعد هذا ـ
أن ينظروا إلى تصرفات واعمال المأمون وحزبه ، على أنها تحظى برضى الإمام (ع)
وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظره (ع) في الحكم ورأيه في
أساليبه ، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الاسلام الصحيح فيه. الاسلام .. الذي يعتبر
الائمة (ع) الممثلين الحقيقيين له ، في سائر الظروف ، ومختلف المجالات ..
وانطلاقا
مما تقدم : نراه (ع) يرفض
ما كان يعرضه عليه المأمون ، من : كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان .. ويرفض أيضا
: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين .. إلى آخر ما سيأتي بيانه.
وفي كل مرة كان
يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك ؛ فلا يجد المأمون الحيلة
لما يريده ، وتضيع الفرصة من يده.
ولا بد من ملاحظة
: أنه عند ما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة ، ورأى 7 : انه لا بد له
من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ : أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول الله (ص) ،
لا كما يخرج الآخرون ..
ولم يكن المأمون
يدرك مدى أهمية هذا الشرط ، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا ؛ فقال له
ولعله بدون اكتراث : أخرج كيف شئت .. وكانت نتيجة ذلك .. أنه (ع) قد أفهم الناس
جميعا : أن سلوكه وأسلوبه ، وحتى مفاهيمه ، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك
الآخرين. وأن خطه هو خط محمد (ص) ، ومنهاجه هو منهاج علي (ع) ، ربيب الوحي ، وغذي
النبوة ، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام ، الذين اعتاد الناس عليهم ، وعلى
تصرفاتهم وأعمالهم.
ولم يعد يستطيع
المأمون ، أن يفهم الناس : أن الحاكم : من كان ، ومهما كان ، هذا هو سلوكه ، وهذه
هي تصرفاته. وأن كل شخصية : من ومهما كانت ، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ
العدل ،
والحرية :
والمساواة ، وغير ذلك شعارات لها ، إلا أنها عند ما تصل إلى الحكم ، لا يمكن إلا
أن تكون قاسية ظالمة ، مستأثرة بكل شيء ، ومستهترة بكل شيء ؛ ولذا فليس من مصلحة
الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم ، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمام (ع)
المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ .. فضلا عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد
يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماما ؛ إذ قد رأينا :
كيف أن الإمام (ع) بشروطه تلك ، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه .. يضيع على
المأمون هذه الفرصة ، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئا. بل إن كثيرا منها كان سوءا
ووبالا عليه ، كما سيأتي ..
٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ
مخططاته :
ولعل
من الواضح : أن شروطه تلك
قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون ، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ
بقية حلقات مؤامرته ؛ إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي
وتضر بقضيته هو ، وقضية العلويين ، ومن ثم تؤثر على الامة بأسرها .. وعدا عن ذلك
فإن هذه الشروط ، قد حفظت له (ع) حياته في حمام سرخس ، حيث كان المأمون قد حاك
مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة ، كما سيأتي بيانه .. مما يعني أن
سلبيته (ع) مع النظام كانت أمرا لا بد منه ؛ إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل ،
وأخطار هو في غنى عنها .. والذي أمّن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك ، التي
جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها ، ولا رجاء ..
ولعل الأهم من كل
ذلك .. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة ، التي صرح الإمام (ع)
أنه كان عارفا بها ، ولم يكن له خيار في تحملها ، والصبر عليها ، إلى أن يقضي الله
أمرا كان مفعولا ..
وعدا
عن ذلك كله أن تعاونه مع
النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك ، وتلافي الأخطاء ، التي كان يقع فيها
الحكم ، والهيئة الحاكمة .. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام ، ويجد
المأمون ـ من ثم ـ العذر ، والفرصة لتصفيته (ع) من أهون سبيل ؛ فشروطه تلك أبعدت
عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون ، وأشياعه ، وجعلته ـ كما
قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم ..
٥ ـ الإمام .. لا ينفذ ارادات
الحكم :
ولعل
من الأهمية بمكان .. أن نشير إلى أنه (ع) كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون : أنه ليس على
استعداد لتنفيذ إرادات الحكم ، والحاكم ، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات ،
والامور الشكلية ؛ فإنه .. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للامة ؛ لا يمكن أن يرضى
بديلا عن أن ينقذ الامة ، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت
والظلمة ، الذين جلسوا في مكان رسول الله (ص) ، وأوصيائه : ، وحكموا بغير ما
أنزل الله ..
إنه يريد أن يخدم
الامة ، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى ، والعيش الكريم ، ولا يريد أن
يخدم نفسه ، ويحقق مكاسب شخصية على حساب الآخرين ؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع
بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن ، ولا تغني من جوع ..
٦ ـ لا زهد أكثر من هذا :
إنه مضافا إلى أن
مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد ، دليل قاطع على زهده
فيه .. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة ، وجليل الأثر في الاظهار لكل أحد أن
الإمام ليس رجل دنيا ، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على
أنه لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه .. لم يكن إلا هباء اشتدت به
الريح في يوم عاصف .. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب ؛ من أجل تشويه
الإمام والنيل من كرامته ..
ولقد
قدمنا : أن الإمام (ع)
قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه ، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه ، ولن تخفى
عليه مقاصده ؛ ولذا فان من الافضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته ..
وإلا فإنه إذا ما أراد اجبار الإمام على التعاون معه ؛ فلسوف يجد أنه (ع) على
استعداد لفضحه ، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ ، وافهام الناس السبب الذي من أجله
يجهد المأمون ليزج بالإمام (ع) في مجالات لا يرغب ، بل واشترط عليه أن لا يزجّ
فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبدا في صالح المأمون ،
ونظام حكمه ..
ومن هنا رأيناه (ع)
يجيب الريان عند ما سأله عن سر قبوله بولاية العهد ، واظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه
ـ : ببيان أنه مجير على هذا الأمر ، ويذكره بالشروط هذه ، والتي تعني أنه قد دخل
فيه دخول خارج منه ، كما تقدم ..
وهكذا .. وبعد أن كان (ع) سلبيا مع النظام ، وبعد رفضه لكلا عرضي
المأمون ، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد ؛ فليس من السهل على
المأمون ، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب
إليه (ع) : أنه
رجل دنيا فقط ، وأنه ليس زاهدا في الدنيا ، وإنما هي التي زهدت فيه.
وعلى
كل حال : ورغم كل
محاولات المأمون تلك .. فقد استطاع الإمام (ع) ؛ بفضل وعيه ، ويقظته ، واحكام خطته
: أن يبقى القمة الشامخة للزهد ، والورع ، والنزاهة ، والطهر ، وكل الفضائل
الانسانية .. وإلى الابد.
الموقف العاشر :
موقفه (ع) في
صلاتي العيد .. ففي إحداهما :
« بعث المأمون له
يسأله : أن يصلي بالناس صلاة العيد ، ويخطب ، لتطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضله ،
وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة ؛ فبعث إليه الرضا (ع) ، وقال : قد علمت ما
كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر ؛ فاعفني من الصلاة بالناس. فقال
المأمون : إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة ، والجند ، والشاكرية هذا الأمر
؛ فتطمئن قلوبهم ، ويقروا بما فضّلك الله تعالى به ..
ولم يزل يراده
الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال : يا أمير المؤمنين ، إن أعفيتني من ذلك ، فهو
أحب إليّ ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) ، وكما خرج أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
قال المأمون :
أخرج كيف شئت ..
وأمر المأمون
القواد ، والحجاب ، والناس : أن يبكروا إلى باب أبي الحسن (ع) ؛ فقعد الناس لأبي
الحسن في الطرقات ، والسطوح : من الرجال ، والنساء ، والصبيان ، وصار جميع القواد
، والجند إلى بابه (ع) ؛ فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس ..
فلما طلعت الشمس
قام الرضا (ع) فاغتسل ، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ، والقى طرفا منها على صدره ،
وطرفا بين كتفيه ، ومس شيئا من الطيب ، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه : افعلوا مثل
ما فعلت ..
ثم أخذ بيده عكازة
، وخرج ، ونحن بين يديه ، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق ، وعليه ثياب
مشمرة ..
فلما قام ، ومشينا
بين يديه ، رفع رأسه إلى السماء ، وكبر أربع تكبيرات ؛ فخيل إلينا : أن الهواء
والحيطان تجاوبه. والقواد والناس على الباب ، قد تزينوا ، ولبسوا السلاح ، وتهيئوا
بأحسن هيئة ..
فلما طلعنا عليهم
بهذه الصورة : حفاة ، قد تشمرنا. وطلع الرضا ووقف وقفة على الباب ، وقال : « ..
الله اكبر ، الله اكبر على ما هدانا ، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام ،
والحمد لله على ما أبلانا ». ورفع بذلك صوته ، ورفعنا أصواتنا ..
فتزعزعت مرو بالبكاء
، فقالها : ثلاث مرات ؛ فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة ، وسمعوا تكبيره
سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض ، ورموا بخفافهم ، وكان أحسنهم حالا من كان معه
سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها ، وتحفى .. وصارت مرو ضجة واحدة ، ولم يتمالك
الناس من البكاء والضجة.
فكان أبو الحسن
يمشي ، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات ؛ فيتخيل إلينا : أن السماء
، والأرض ، والحيطان تجاوبه.
وبلغ المأمون ذلك
؛ فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين : إن بلغ الرضا المصلى
على هذا السبيل افتتن به الناس ، وخفنا كلنا على دمائنا ؛ فالرأي أن تسأله أن يرجع
..
فبعث المأمون إلى
الإمام يقول له : إنه قد كلفه شططا ، وأنه ما
كان يحب أن يتعبه.
ويطلب منه : أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم ..
فدعا أبو الحسن
بخفه ؛ فلبسه ، ورجع ..
واختلف أمر الناس
في ذلك اليوم ، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ .. » .
ولقد قال البحري
يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس
:
ذكروا بطلعتك
النبي ؛ فهللوا
|
|
لما طلعت من
الصفوف وكبروا
|
حتى انتهيت إلى
المصلى لابسا
|
|
نور الهدى يبدو
عليك فيظهر
|
ومشيت مشية خاشع
متواضع
|
|
لله ، لا يزهى ،
ولا يتكبر
|
ولو أنّ مشتاقا
تكلف غير ما
|
|
في وسعه لمشى
إليك المنبر
|
ومما
يلاحظ هنا : أنه في هذه
المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه ،
ويصلي بالناس ، رغم تظاهره بالمرض ..
وعلى
كل حال .. فإننا وإن كنا
قد تحدثنا في هذا الفصل ، وفي فصل : ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما
يتعلق بهذه الحادثة ؛ إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط .. وهما :
__________________
١ ـ الأثر العاطفي ، والقاعدة
الشعبية :
فنلاحظ : أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة ، لا
نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها ، من الانفعال والتأثر بها ؛ فكيف إذن كانت حال
أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!!.
وغني
عن البيان هنا : أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور ، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على
كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم ، وعلى مدى اتساع القاعدة
الشعبية له (ع) ..
٢ ـ لماذا يجازف المأمون بارجاعه
(ع) :
وإذا كان هدف
المأمون من الاصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند
والشاكرية ، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضا أن إرجاع
المأمون للإمام (ع) في مثل تلك الحالة ، وذلك التجمع الهائل ، وتلك الثورة العاطفية
في النفوس ، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون ، وأشياعه ؛
حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي
، ويؤكد كراهيتها له .. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال ..
وبعد
هذا .. فإنه إذا كان
المأمون يخشى من مجرد اقامة الإمام للصلاة .. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها ..
وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي ، وتلك الحالة الروحية ، التي أثارها
فعل الإمام (ع) وتصرفه في هذا الموقف .. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه ..
فمن أي شيء خاف
المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم
وأبعد أثرا ، وأشد
خطرا .. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر ، وخطب الناس ، بعد أن هيأهم نفسيا
، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في
نيشابور : « وأنا من شروطها .. » لا سيما وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج
عليها النبي محمد (ص) ، ووصيه علي (ع) وهو أمر جديد عليهم .. مما من شأنه أن يجعل
المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على انفسهم ، كما ذكر الفضل بن سهل .. ولسوف يحول
الامام مروا من معقل للعباسيين والمأمون ، وعاصمة ، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من
العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون ، حصن لأئمة أهل
البيت .. ففضل المأمون : أن يختار إرجاعه (ع) عن الصلاة ، لأنه رأى أن ذلك هو أهون
الشرّين واقل الضررين.
ولقد جرب المأمون
الرضا أكثر من مرة ، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه
فيه الفرصة ، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور ، ولا ما كتبه
في وثيقة العهد ، ولا غير ذلك من مواقفه (ع) ، وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف
..
الموقف الحادي عشر :
وأخيرا .. فقد كان سلوك الإمام (ع) العام ، سواء بعد عقد ولاية
العهد له ، أو قبلها ، يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته. ذلك السلوك المثالي ،
الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه ..
ويكفي أن نذكر هنا
ما وصفه به إبراهيم بن العباس ، كاتب القوم وعاملهم ، حيث قال :
« ما رأيت أبا
الحسن جفا أحدا بكلامه قط ، وما رأيته قطع على
أحد كلامه حتى
يفرغ منه ، وما رد أحدا عن حاجة يقدر عليها ، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط ،
ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا شتم أحدا من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته
تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط ، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا ، ونصبت
مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ، حتى البواب والسائس. وكان قليل النوم بالليل
، يحيي اكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام ؛ فلا يفوته صيام ثلاثة
أيام في الشهر ، ويقول : ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السر ،
واكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ؛ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله ؛ فلا
تصدقوه .. » .
وهذه الصفات بلا
شك قد أسهمت اسهاما كبيرا في أن يكون الإمام (ع) هو الارضى في الخاصة والعامة ،
وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب ، إلى غير ذلك مما تقدم ..
الحكم ليس امتيازا وإنما هو
مسئولية :
وقد اعترض عليه
بعض أصحابه ؛ عند ما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه ، حتى البواب والسائس ؛ فأجابه (ع)
: « مه ؛ إن الرب تبارك وتعالى واحد ، والام واحدة ، والأب واحد ، والجزاء
بالأعمال .. » .. وقال له أحدهم : أنت والله خير الناس ، فقال له الإمام
: « لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى لله تعالى ، واطوع له ؛ والله ما
__________________
نسخت هذه الآية :
« وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم .. » .
وقال لإبراهيم
العباسي : إنه لا يرى أن قرابته من رسول الله (ص) تجعله خيرا من عبد أسود ، إلا أن
يكون له عمل صالح فيفضله به .
وقال رجل له : ما
على وجه الأرض اشرف منك أبا. فقال : التقوى شرفتهم ، وطاعة الله أحظتهم .
وما نريد أن نشير
إليه ونؤكد عليه هنا ، هو أنه (ع) يريد بذلك أن يفهم الملأ : أن الحكم لا يعطي
للشخص ـ من كان ، ومهما كان ـ امتيازا ، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره ، وإنما
الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الاخلاقية .. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء
أعماله : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ؛ وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام ، ليس
هو السلوك الذي يريده الله ، وتحكم به النواميس الاخلاقية ، والانسانية.
والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم ، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع ،
ولا يحكم بها قانون ..
وبكلمة
مختصرة : إن الإمام (ع)
يرى : أن الحكم ليس امتيازا ، وإنما هو مسئولية ..
وعلى
كل حال .. فان سلوك
الامام (ع) ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الاخلاقية ، والفضائل
النفسية .. ويكفي أنه لم يظهر منه (ع) طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما
ازداد به فضلا بينهم ، ومحلا في نفوسهم ، على حدّ تعبير أبي الصلت. وعلى حدّ تعبير
شخص
__________________
آخر : أقام بينهم
لا يشركهم في مآثم من مآثم الحكم .. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من
الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكم آنئذ .. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس
المأمون ، ويمنعه من الشراب والغناء ، طيلة الفترة التي عاشها معه ، إلى آخر ما
هنالك ، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه ..
وفي نهاية المطاف نقول :
وحسبنا هنا ما
ذكرنا من الأمثلة ، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءا كاشفا على الخطة التي
اتبعها الامام (ع) في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته .. تلك الخطة التي كانت تكفي
لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس ، ولا مبرر للشكوك لأن
تبقى تراود نفوسهم .. ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون ، وأعوانه ، وجعلهم
يتصرفون بلا روية ، ويقعون بالمتناقضات .. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك ،
حسبما صرح به المأمون نفسه .. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد
بلائه. كما وعد حميد بن مهران ، وجماعة من العباسيين ..
القسم
الرّابع
من خلال الأحداث
١ ـ مع بعض خطط
المأمون ..
٢ ـ كاد المريب أن
يقول خذوني
٣ ـ ما يقال حول
وفاة الإمام ..
٤ ـ دعبل والمأمون
..
٥ ـ كلمة ختامية
..
مع بعض خطط المأمون
التوجيهات الراضية غير مقبولة :
كل ما تقدم يلقي
لنا ضوءا على بعض نوايا المأمون تجاه الإمام (ع) ، وعلى كثير من الأحداث التي
اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام ..
وإننا حتى لو
سلمنا جدلا ، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة ، وعلامات الاستفهام التي يمكن
استخلاصها مما تقدم .. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن
نية ، وسلامة طوية. ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته ، طيلة فترة ولاية
العهد ، وبعدها تجاه الإمام ، الذي كان يكبر
المأمون بـ (٢٢) سنة ، والذي كان مجبرا
على قبول هذا الأمر ، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم لا يتركه وشأنه ما دام أنه لا
يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه ، وتزهق الأرواح من أجله؟! ..
نعم .. إننا لا
نستطيع أن نسلم بذلك ، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة ، بل
والمفضوحة تجاه الإمام (ع) ، والتي لا تبقي مجالا للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من
كل ما أقدم وما كان عاقدا العزم على الاقدام ..
وهذا الفصل معقود
للحديث عن بعض تلك التصرفات ، ومن أجل بيان تلك الخطط ..
المأمون يفضح نفسه :
وقد تعجب إذا قلنا
لك : إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه ، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها ، ويعلن
بعض الدوافع ، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام ، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك
ما أجاب به حميد بن مهران ، وجمعا من العباسيين ، عند ما عاتبوه ولاموه على ما
أقدم عليه ، من البيعة للرضا (ع) ، يقول المأمون :
« .. قد كان هذا
الرجل مستترا عنا ، يدعو إلى نفسه ؛ فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ؛ ليكون دعاؤه لنا
؛ وليعترف بالملك والخلافة لنا ؛ وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في
قليل ولا كثير ، وأن هذا الأمر لنا دونه.
وقد خشينا إن
تركناه على تلك الحال : أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ، ويأتي علينا ما لا نطيقه
..
والآن .. فإذ قد
فعلنا به ما فعلنا ، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا ، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه
باسمه على ما أشرفنا ؛ فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه
قليلا ، قليلا ، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر ، ثم ندبر فيه
بما يحسم عنا مواد بلائه .. »
ثم طلب منه حميد
بن مهران : أن يسمح له بمجادلة الإمام (ع) ، ليفحمه ، وينزله منزلته ، ويبين للناس
قصوره ، وعجزه ؛ فقال المأمون : « لا شيء أحب إلي من هذا ».
ثم كانت النتيجة
عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون ، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع ،
والخيبة القاتلة ..
والذي يعنينا الحديث عنه هنا :
هو قوله : وقد
خشينا إن تركناه على تلك الحال .. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا ؛ فإنها أوضحت أن
المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة ، كان يخطط أولا إلى أخذ زمام المبادرة
من الإمام ، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منه (ع) قليلا
قليلا إلى آخر ما تقدم ..
ولا يرد : أن كلام
المأمون مع حميد بن مهران ظاهره : أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمام 7 ، وإنما بدا له
ذلك حين قوي مركز الامام 7 ، واستحكم أمره .. لا يرد ذلك ..
لأن كلامه هذا لا
ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك ، بل هو يؤكد ذلك ، لأنه يصرح فيه : أنه إنما
قدم على ما أقدم عليه ، عند ما رأى افتتان الناس به 7 ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمام 7 مركزه ، ويقضي
على كل نشاطاته ، ويذهب بما له من القدرة والنفوذ نهائيا ، وإلى الأبد.
ولقد تحدثنا فيما
سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خططه تلك مثل : فرضه للرقابة على الامام (ع)
، والتضييق عليه ؛ فلا يصل إليه إلا من أحب ، وعزله عن شيعته ومواليه ، وأيضا
تفريقه الناس عنه ، عند ما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس ، وكذلك قضية صلاة العيد ،
وغير ذلك مما تقدم.
__________________
ونزيد هنا بعض
الامور الاخرى ، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها ؛ ولكنه كان حديثا من زاوية
اخرى ، ومن أجل استفادة أمور غير الامور التي نحاول استفادتها منها هنا .. وذلك
أمر طبيعي ، ولا يكون تكرارا ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة
، وافادات مختلفة .. ولذا فإننا نقول :
لماذا على البصرة فالأهواز :
إن من جملة الامور
التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمام (ع) وحتى على معنوياته
النفسية .. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك قرابة الفضل بن
سهل ، والذي كان من قواد المأمون ، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه ، عند ما أرسله ليأتي
بالإمام (ع) من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر ..
فقد
أمره : أن يجعل طريقه
بالإمام « على البصرة ، والاهواز ، ففارس. وحذره كثيرا من المرور على طريق الكوفة
، والجبل ، وقم .. » .
__________________
بل لقد ورد : أن
المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه ، يقول له : « لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على
طريق البصرة ، فالأهواز ، ففارس .. » .
وسر
ذلك واضح ؛ فإن أهل الكوفة
، وقم ، كانوا معروفين بالتشيّع للعلويين وأهل البيت. ومرور الامام (ع) من هذين البلدين ، وخصوصا
الكوفة ، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جدا في الدولة .. سوف
__________________
يكون من نتيجته :
أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه : من الاجلال ، والاعزاز والتكريم.
ولا شك أن الإمام (ع)
سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس ،
__________________
ويؤثر عليهم بما
حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية ، وبما آتاه الله من العلم والحكمة ،
والورع والتقوى ، الذي سار ذكره في الآفاق ، حتى لا يكاد يجهله أحد .. وإذا كان
أهل نيشابور ، بل وحتى أهل مرو ، معقل العباسيين والمأمون ، قد كان منهم تجاه
الإمام ما لا يجهله أحد .. حتى إنهم كانوا بين صارخ ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ
.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف
تكون حالة أهل الكوفة وقم ، معقلي العلويين ، والمحبين لأهل البيت ، والمتفانين
فيهم ، لو أنهم رأوا الإمام (ع) بينهم ، وبالقرب منهم .. يقول الراوندي في ذلك : «
إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك : أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة ؛ لئلا
يفتتن به أهلها .. » !!.
والمأمون لا يريد
أن يفتتن الناس بالامام ، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماما .. إنه يريد أن يضع
من الامام لا أن يرفع ..
أما أهل البصرة :
فعثمانية ، يدينون بالكف ، ويقولون : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله
القاتل .. بل لقد كانت البصرة معقلا مهما للعباسيين ، الذين حرق دورهم زيد النار ،
ابن الامام الكاظم ، كما قدمنا ؛ ولهذا نلاحظ : أن دور البصريين في التشيع لم يكن
يضارع دور غيرهم ، لا روائيا ، ولا كلاميا ..
وأما ما ربما
يحتمله البعض : من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة ، أو غيرها من يخلصه من
الإمام (ع) نهائيا .. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون ، التي كان يرمي
إليها من وراء لعبته تلك ..
__________________
الإمام يرفض كل مشاركة تعرض
عليه :
إنه برغم شروط
الإمام على المأمون ، والتي أشرنا إليها فيما سبق ، فإننا نرى المأمون كل مدة
يحاول أن يجري اختبارا للامام ، ليعرف حقيقة نواياه ، وأنه هل أصبح له طمع
بالخلافة ، وطموح لها ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه .. أم لا.
فكان يأتي كل مدة
إليه ، يطلب منه أن يولي فلانا ، أو أن يعزل فلانا ، أو أن يصلي بالناس .. بل لقد
طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شئون الخلافة بحجة أنه يعجز
وحده أن يقوم بأعباء الحكم ، ويدير دفة السلطان!!
هذا .. إن لم نقل :
أنه كان يريد من وراء ذلك : أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام ، بحجة أنه نقض
الشرط ، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعا ، وإلى الأبد.
أو على الأقل كان
يريد بذلك : أن يوجد للامام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ ..
وأيا ما كانت
نوايا المأمون وأهدافه ، فإن الإمام (ع) كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار ، ويذكره
بالشروط تلك ، ويقول له : « إن وفيت لي وفيت لك .. » .. وهذا تهديد صريح له من
الإمام (ع). ولا نعجب كثيرا ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ اذا رأينا
المأمون يتحمل هذا التهديد ، بل ويخضع له ، ويقول : « بل أفي لك »!! ..
__________________
وهكذا .. فقد كان الإمام (ع) يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه
فرصة مؤاتية له ، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته ، ولا من تنفيذ ما يريد
تنفيذه ..
الاختبار لشعبية الإمام (ع) :
كما أنه كان كل
مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمام (ع) ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في
الاوساط الشعبية ، ليعرف إن كان أصبح (ع) يشكل خطرا حقيقيا ؛ ليعجل بالقضاء عليه
أم لا .. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤمّ الناس بالصلاة للعيد ، أو ما شاكل .. وهذا إن
دل على شيء ، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منه (ع). (
راجع : السبب الثالث من فصل البيعة ، والموقف العاشر في فصل : خطة الإمام « ع » ).
سؤال .. وجوابه :
ولعلك تقول : إذا
كان المأمون يخشى الإمام (ع) إلى هذا الحد ؛ لما يعلمه من نفوذه ومكانته ؛ فلماذا لا
يتخلص منه بذلك الاسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الامويين ، والعباسيين ،
وتبعهم عليه هو فيما بعد ، وكذلك من أتى بعده .. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم ،
وهو في المدينة ، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو ، والبيعة له بولاية العهد ،
وتزويجه ابنته ، إلى غير ذلك من الامور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام ،
وترفع من شأنه ، وتوجه إليه الانظار والقلوب ، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود
إلى ما جرت عليه عادة أسلافه ، وأتباعه!!.
ولكن الجواب على
هذا قد اتضح مما قدمناه ، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الامام ، ولا
كان هو يستطيع أن يفعل ذلك. ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة ، لها أول
وليس لها آخر ؛ حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الامام (ع) ؛ وذلك لما قدمناه من
الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك ، التي وإن كانت
تنطوي على مخاطرة جريئة ، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة ، وأحكم التدبير
للتخلص من الامام (ع) بمجرد أن يحقق مآربه ، وأهدافه ، بالطريقة التي لا تثير شك
أحد ، ولا توجب تهمة أحد ؛ وقد حدث ذلك بالفعل ، كما سيمر علينا ..
وأما كتمه لفضائل الإمام (ع) :
ومن جملة الامور
التي كانت تدور في فلك خطة المأمون ، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الامام قليلا
قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل
الامام (ع) ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا .. وقد تقدم : أنه عند ما
سأل رجاء بن أبي الضحاك ، الذي تولى إشخاص الرضا (ع) من المدينة إلى مرو ، عن حال
الرضا (ع) في الطريق ؛ فأخبره عما شاهده من عبادته (ع) ، وزهده وتقواه ، وما ظهر
له من الدلائل والبراهين ، قال له المأمون : « .. بلى يا ابن أبي الضحاك ، هذا خير
أهل الأرض ، وأعلمهم ، وأعبدهم ؛ فلا تخير أحدا بما شهدت منه ؛ لئلا يظهر فضله إلا
على لساني .. »!!.
وهكذا .. فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير ، إلا أنه لم
يكن يجد بدا في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك
المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها ، التي اضطر فيها
المأمون لأن يكشف
عن وجهه الحقيقي .. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من
جوع.
ولا أعتقد أن
المأمون كان يجهل : أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس ، بل كان يعلم
ذلك حق العلم ، ولكن كما يقولون : « الغريق يتشبث بالطحلب ».
ـ ولكن .. بالرغم من محاولات المأمون تلك .. فإننا نرى أن فضائل
الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب ، لم تزل تظهر ، وتنتشر وتذاع .. بل ولعل
محاولات المأمون تلك ، التي كانت ترمي للحط من الإمام واسقاطه ، قد أسهمت كثيرا
وساعدت على إظهار فضائله ، وشيوعها ، كما سيتضح.
الشائعات الكاذبة!!
وكان بالاضافة إلى
ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة ، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة ،
ومن الإمام (ع) ، وسائر الأئمة : خاصة ..
فهذا أبو الصلت
يسأل الإمام (ع) ، فيقول : « يا ابن رسول الله ، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟! ..
قال (ع) : ما هو؟!
قال : يقولون :
إنكم تدّعون : أن الناس لكم عبيد!!.
قال (ع) : يا عبد
السلام ، اذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم؟! » إلخ .
__________________
ونرى أنه (ع) يقول
ـ وعنده جماعة من بني هاشم ، فيهم إسحاق ابن عيسى العباسي ـ : « يا إسحاق ، بلغني
أن الناس يقولون : إنا نزعم : أن الناس عبيد لنا. لا .. وقرابتي من رسول الله ما
قلته قط ، ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله الخ .. ». وقد
تقدمت هذه الرواية في فصل : خطة الامام ..
كما أن هشام بن
ابراهيم العباسي ، الذي وضعه الفضل بن سهل ليراقب الرضا (ع) ، ويضيق عليه ، كان
يشيع عن الرضا (ع) : أنه أحل له الغناء ، فلما سئل (ع) عن ذلك قال : « كذب الزنديق
الخ .. ».
بهذه الشائعات
الكاذبة ، وامثالها أراد المأمون الحط من كرامة الامام وتضعيف مركزه ، وزعزعة ثقة
الناس به ، وبالعلويين بصورة عامة ..
ولكن كما يقولون :
حبل الكذب
قصير ؛ إذ أن أقوال
الامام (ع) وأفعاله وجميع جهات سلوكه ، سواء قبل توليته للعهد أو بعدها .. كانت
تناقض هذه الشائعات ، وتدحضها .. الأمر الذي كان من شأنه
__________________
أن يثير شكوك
الناس ، وظنونهم في المأمون نفسه ؛ فلم ير بدا من أن يضرب عن هذا الاسلوب صفحا ،
ويتجه إلى غيره بتخيل أنه أجدى وأكثر نفعا وأقل ضررا!! ..
وبقي في كنانته
سهم أخير ، كان يحسب أنه سوف يصيب الهدف ، ويحقق الغاية : التي هي تشويه سمعة
الامام (ع) ، والحط من كرامته .. ألا وهو :
التركيز على افحام الامام (ع) :
فبدأ يجمع العلماء
، وأهل الكلام من المعتزلة ، وهم أصحاب جدل ، وكلام ، واستدلال ، وتنبه للدقائق من
الامور ، ليحدق هؤلاء بالرضا (ع) وتجري فيما بينهم وبينه محاورات ، ومجادلات ، من
أجل أن ينقصوا منه مجلسا بعد مجلس ، وأن يكسروه في أعظم ما يدعيه هو وآباؤه (ع) : من
العلم والمعرفة بآثار رسول الله (ص) ، وعلومه .. والذي هو الشرط الأعظم لإمامة
الإمام ، على ما يدعيه الشيعة المفتونون بالرضا (ع) ، وبسائر آبائه وأبنائه الأئمة
الطاهرين ..
وحتى لا يبقى من
ثم مجال لأبي نؤاس لأن يقول فيه عند ما رآه خارجا من عند المأمون :
مطهرون نقيّات
ثيابهم
|
|
تجري الصلاة
عليهم أينما ذكروا
|
من لم يكن علويا
حين تنسبه
|
|
فما له في قديم
الدهر مفتخر
|
__________________
الله لما برى
خلقا فأتقنه
|
|
صفّاكم واصطفاكم
أيها البشر
|
فأنتم الملأ
الأعلى وعندكم
|
|
علم الكتاب وما
جاءت به السور
|
هذه الأبيات التي
سارت بها الركبان ، والتي هي تعبير صادق عن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها ، والتي
كانت تقض على المأمون وكل أسلافه وأتباعه مضاجعهم ، وتنغص عليهم حياتهم .. وعليه :
وإذا استطاع
المأمون أن يظهر للملإ أن الإمام (ع) صفر اليدين مما يدعيه ، ويدعيه آباؤه من قبل
، فإنه يكون قد قضى على المصدر الأول والأساس لكل المشاكل ، والاخطار ، وينهار
المذهب الشيعي حينئذ بانهيار فكرة الامامة فيه ، التي هي المحور ، والاساس له ،
ويتحقق من ثم ـ حلمه الكبير ، الذي طالما جهد وشقي من أجل تحقيقه.
وأعتقد : أنه لو كان تم له ما أراد ، فلسوف لا يتعرض بعد هذا
للامام (ع) بسوء ، وأنه كان سوف يبقي على حياته (ع) إبقاء لحجته ، وأنه خال من
شرائط الإمامة ، وليأفل من ثم .. نجمه ، ونجم العلويين من بعده .. وإلى الأبد ..
__________________
ومن أجل ذلك ـ بكل
تأكيد ـ أخذ يجمع العلماء ويجلبهم من أقاصي البلدان ، ويأمرهم بتهيئة أشكل المسائل
وأصعبها ، وطرحها على الامام (ع) علّه يقطعه عن الحجة ، ولو مرة واحدة ؛ ليحط بذلك
من كرامته ، ويشوه سمعته ، ويظهر عجزه وعيه ، ويرى الناس أن ما يدعيه من العلم
والمعرفة بآثار رسول الله وعلومه لا حقيقة له ، ولا واقع وراءه ..
قال الصدوق عليه
الرحمة : « .. كان المأمون يجلب على الامام (ع) من متكلمي الفرق ، وأهل الأهواء
المضلة كل من سمع به ؛ حرصا على انقطاع الرضا (ع) عن الحجة مع واحد منهم إلخ .. » .
وقال ابراهيم بن
العباس : « سمعت العباس يقول : ..... وكان المأمون يمتحنه ( أي يمتحن الامام (ع) ـ
) بالسؤال عن كل شيء ؛ فيجيبه الجواب الشافي .. » .
وقال أبو الصلت :
« .. فلما لم يظهر منه للناس إلا ما ازداد به فضلا عندهم ، ومحلا في نفوسهم .. جلب
عليه المتكلمين من البلدان ؛ طمعا في أن يقطعه واحد منهم ؛ فيسقط محله عند العلماء
؛ وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة ؛ فكان لا يكلمه خصم من اليهود ، والنصارى ،
والمجوس ، والصابئين ، والبراهمة ، والملحدين ، والدهرية ، ولا خصم
__________________
من فرق المسلمين
المخالفين له إلا قطعه ، والزمه الحجة ، وكان الناس الخ .. » .
وقال المأمون
لسليمان المروزي : « .. إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك ، وليس مرادي إلا أن تقطعه
عن حجة واحدة فقط .. » .
وتقدم قوله لحميد
بن مهران ، عند ما طلب منه هذا أن يوليه مجادلته ؛ لينزله منزلته : « ما من شيء
أحب إليّ من هذا .. ».
بل لقد صرح
المأمون نفسه : بأنه كان يريد أن يجعل من جهل الامام ـ نعوذ بالله ـ ذريعة ووسيلة
إلى خلعه ؛ ليشتهر بين الناس أنه قد خلع بسبب جهله ، وقلة معرفته ؛ فقد ورد أنه
عند ما أخبره الرضا بصفات حمل جاريته ، قال المأمون :
« فقلت في نفسي
هذه والله فرصة ؛ إن لم يكن الأمر على ما ذكر ، خلعته ؛ فلم أزل أتوقع أمرها إلخ
.. » .
إلى غير ذلك مما
قد امتلأت به كتب الأخبار والسير ..
وحتى مع الامام الجواد قد حاول
ذلك :
ولا نستبعد أيضا :
أن يكون قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع
__________________
الإمام الجواد (ع)
أيضا ، والذي كان لا يزال صغير السن ؛ فأغرى العباسيين بأن يقفوا ذلك الموقف ؛
ليفسح المجال ليحيى بن أكثم ليطرح مسائله الصعبة على الإمام الصغير ؛ ليعجز عنها ،
ويظهر للملإ : أن إمام الشيعة طفل صغير ، لا يعلم ولا يعقل شيئا ، وان كل ما
يدعونه في الامام ما هو إلا زخرف باطل ، وظل زائل ..
ويلاحظ : أنه قام بهذه اللعبة قبل أن يسلم إليه ابنته ، التي كان
قد عقد له عليها في حياة أبيه الرضا (ع) ، وجعل شرط تسليمها أن يغلب يحيى بن اكثم
ويجيبه على مسائله!! ومعنى ذلك : أنه لو توقف ولو في مسألة واحدة لامتنع عن اعطائه
زوجته ، وكانت النتيجة هي : أن يشتهر ذلك بين الناس كلهم ، ويصبح حديث كل الندوات
والمحافل أن سبب عدم تسليمه زوجته هو جهله وعيّه ..
لكن الامام الجواد
كان كأبيه قد أعاد على المأمون كيده ومكره ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ..
ولقد سبقه إلى ذلك المنصور مع الامام الصادق (ع) ؛ حيث أمر أبا حنيفة بتهيئة مسائل
صعبة يلقيها على الامام ؛ لأنه رأى أن الناس قد فتنوا به .. وجرى على
منواله في ذلك المعتصم مع الجواد أيضا ، وغيره مع غيره .. وكان الله هو المؤيد
والناصر والمسدد ..
ملاحظة لا بد منها :
ومما يلاحظ هنا :
أننا لا نجد أثرا لهذه المجالس العلمية والمناظرات ، الكلامية للمأمون!! بعد موت
الإمام (ع) ، فبعد أن مات (ع) بسم المأمون ، وهدأت ثائرة العلويين والشيعة ، أو صد
الباب كليا تقريبا ،
__________________
وانصرف عن ذلك
نهائيا .. اللهم إلا بعض مناظرات نادرة ومحدودة جدا في بغداد ، لا تقاس بتلك التي
كانت تجري في مرو على الاطلاق ..
الإمام يقول : المأمون سوف يندم
:
هذا .. ولم يكن من
الغريب : أن يعلم الرضا (ع) بمقاصد المأمون ، وحقيقة نواياه من مثل هذه التصرفات ،
وكان (ع) يقول : « .. إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل
الانجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى
أهل الهرابدة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم
؛ فإذا قطعت كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ، ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن
الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ؛ فعند ذلك تكون الندامة منه .. » .
نعم .. إنه سوف
يندم كثيرا عند ما يرى : أن كل ما كان يدبره ينقلب عليه ، ويؤدي إلى عكس النتيجة
التي كان يرجوها منه .. حتى إن الناس كانوا يقولون : « والله ، إنه أولى بالخلافة
من المأمون. فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه ؛ فيغتاظ ويشتد حسده .. » .. وهكذا .. فإن
هذا القول يعتبر تحقيقا لنبوءة الإمام : من أن المأمون سوف يندم ، إذا علم أن
الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ..
ولقد علم المأمون
، ولكن بعد فوات الأوان بذلك ، وبأنه قد ساعد بأعماله تلك على اتساع القاعدة
الشعبية للإمام (ع) ، وإظهار مزاياه
__________________
وفضائله ، التي
كان يجهد المأمون في طمسها وإخفائها ، بل لقد ساعد على ترسيخ عقيدة الشيعة في
نفوسهم ، وشد إليها قلوب الكثيرين ؛ حيث قد ثبت بالفعل : أن الإمام أعلم أهل الأرض
على الاطلاق وأفضلهم وأتقاهم إلى آخر ما هنالك من الكمالات والفضائل الأخلاقية ،
ولم يعد ذلك مجرد دعوى لا يدعمها دليل ، ولا يؤيدها برهان ..
وكان على المأمون
أن يتبع أسلوبا جديدا ، يضمن له تحقيق غاياته في التخلص من الإمام (ع) ، والقضاء
عليه اجتماعيا ، ونفسيا ، بل وحتى جسديا أيضا ..
وبقي في كنانته
سهم آخر ، ظن أنه سوف يحقق له ما عجز كل ما سواه عن تحقيقه .. ألا وهو :
الاقتراح العجيب :
وكل قضايا المأمون
تثير عجبا ، وهو أن يذهب الإمام إلى بغداد ، وقبل أن نتكلم عن هذا الاقتراح العجيب
.. يحسن بنا أن نتكلم عن بغداد أولا ، وعن موقفها من البيعة للرضا (ع) ، وعن ردة
الفعل فيها تجاه هذا الفعل الذي أقدم عليه المأمون من دون رضا منها .. فنقول :
موقف بغداد من المأمون والبيعة
للرضا (ع) :
تعتبر بغداد أهم
معقل للعباسيين على الاطلاق وهي عاصمتهم ، وحصنهم ، الذي يلوذون به ، ويلجئون إليه
..
والعباسيون هم
الذين نقموا على المأمون بسبب جعل ولاية العهد للرضا (ع) ، وخلعوا المأمون بمجرد
سماعهم لذلك النبأ الذي نزل عليهم نزول
الصاعقة ، فشغبوا
في بغداد ، وأخرجوا الحسن بن سهل منها ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي ، المعروف :
بابن شكلة المغني ، الذي كان عاملا للمأمون على البصرة ، والذي كان من
ألدّ أعداء الإمام علي بن أبي طالب وولده ..
وموقف بغداد هذا لم
يكن ليخفى على أحد ، فكيف يخفى على المأمون ، وقد رأينا : أن الإمام نفسه يخبر
المأمون : بأن الناس ـ يعني العباسيين ، ومواليهم ـ ينقمون عليه
مكان الإمام منه ، ومكان بيعته له بولاية العهد .
والفضل بن سهل
أيضا قال للمأمون : « .. ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك جعلت ولاية العهد لأبي
الحسن ، وأخرجتها من بني أبيك. والعامة والعلماء ، والفقهاء ، وآل عباس ، لا يرضون
بذلك. وقلوبهم
__________________
متنافرة عنك ،
والرأي : أن تقيم بخراسان ، حتى تسكن قلوب الناس على هذا إلخ .. » .
وسيأتي أن المأمون
قد كتب للعباسيين ، بعد وفاة الإمام : أن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد
زالت .. إلى غير ذلك مما ليس في تتبعه كثير فائدة ..
وأما نصب ابن شكلة :
لقد رضي العباسيون
بابن شكلة حاكما عليهم ، مع علمهم بانحرافه عن علي ، ونصبه ، بل لعل هذا هو أحد
المرجحات لاختيارهم له ..
ويكفي دلالة على
انحرافه عن علي (ع) ، وولده ما تقدم : من أن المأمون كان يظهر التشيع ، وابن شكلة
يظهر التسنن ، وأنه غير المأمون بتشيعه فقال :
إذا الشيعي جمجم
في مقال
|
|
فسرك أن يبوح
بذات نفسه
|
فصل على النبي
وصاحبيه
|
|
وزيريه وجاريه
برمسه
|
وغيره المأمون
بنصبه ، فقال :
إذا المرجي سرك
أن تراه
|
|
يموت لحينه من
قبل موته
|
فجدد عنده ذكرى
علي
|
|
وصل على النبي
وأهل بيته
|
وقال ابراهيم هذا
مرة للمأمون : إن عليا ليس من البلاغة في شيء ؛
__________________
حيث إنه رآه في
منامه ، فسأله مسألة ؛ فقال له الإمام (ع) : « سلاما سلاما » .. فعند ما أفهمه
المأمون : أنه (ع) يشير بذلك إلى قوله تعالى : « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
» خجل ، وندم على إخباره المأمون بما كان ..
وعن صلاح الدين
الصفدي في شرح الجهورية : أنه لما مات ابراهيم ابن المهدي سأل الواثق عن وصيته ؛
فوجده قد أمر بمال عظيم : أن يفرق على أولاد الصحابة ، إلا أولاد علي (ع) ؛ فقال
الواثق : « والله ، لو لا إطاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه ، ولا انتظرت دفنه »
، ثم انصرف الواثق وهو يقول : « منحرف عن شرفه ، وخير أهله ؛ والله ، لقد أدليته
في قبره كافرا. » .
إلى غير ذلك من
الدلائل والشواهد التي يطول بذكرها المقام ..
المأمون .. هو الذي ينقل لنا
اقتراحه العجيب :
ولكن رغم موقف
بغداد ذاك ، ورغم أنه كان يعلم به ، ويعلم بكل ما جرى في بغداد بسبب جعله ولاية
العهد للرضا نرى المأمون يحاول أن يرسل الامام إلى بغداد ، ليكون وجها لوجه مع ألد
أعدائه العباسيين ، وفي نفس معقلهم ، ومحل قوتهم ، وحيث لهم كل النفوذ والسيطرة. يرسله
ـ وحده!! ـ ويبقى هو خليفته في خراسان ..
ويرفض الامام ،
ويصر على الرفض ، حتى يئس المأمون من قبوله ..
يقول المأمون : «
رحم الله الرضا (ع) ، ما كان أعلمه ، لقد
__________________
أخبرني بعجب.
سألته ليلة ، وقد بايع له الناس ، فقلت : جعلت فداك ، أرى لك أن تمضي إلى العراق ،
وأكون خليفتك بخراسان ؛ فتبسم ، ثم قال : لا .. لعمري .. » إلى أن يقول المأمون :
« فجهدت الجهد كله ، وأطمعته في الخلافة ، وما سواها ، فما أطمعني في نفسه .. » .
ولماذا هذا العرض :
عجيب إذن!! ..
هكذا أصبحت الخلافة رخيصة إلى هذا الحد!! الخلافة .. التي لم يكن يعدلها عنده في
الدنيا شيء!!. الخلافة .. التي قتل من أجلها المئات والالوف!! ، وخرب المدن ودك
الحصون!! .. والتي قتل من أجلها أخاه ، ومن معه ، وقواده ، ووزراءه!! .. الخلافة
هذه .. أصبحت رخيصة إلى حد أنه يبذلها ـ حسب منطقه ـ لرجل غريب!! ، وفي مقابل أي
شيء؟! في مقابل أن يذهب إلى العراق!!.!.
ولقد عرفنا
الخلافة التي بذلها ، لكن ما سواها لم نستطع أن نعرفه بالتحديد!!.
ولماذا يجهد الجهد
كله؟! ولماذا يبذل الخلافة؟! ، ولماذا يبذل ما سواها؟! لماذا كل ذلك؟!!. أليس هو
ذا القوة والسلطان؟! ؛ فلم لا يجبر الإمام (ع) على ذلك ، كما أجبره على قبول ولاية
العهد؟!! .. ألم يكن باستطاعته أن يرسله مقيدا مصفدا بالحديد؟!! .. ولماذا يسمح له
بأن يعصيه ويخالف أمره؟! .. أفلا يعتبر ذلك جريمة يستحق عليها أقسى العقوبات ؛
باعتبار أنه يعرض الخليفة والخلافة ، وهيبتهما للخطر؟! ..
__________________
نعم .. إنه يريد أن يذهب الإمام إلى بغداد ، ولكنه يريد في نفس
الوقت أن يذهب راضيا وغافلا عما يهدف إليه المأمون من وراء ذهابه هذا .. وإلا فإن
ذهابه لن يجديه نفعا ؛ لأنه قد جرب معه الاكراه والاجبار من قبل ، في قضية ولاية
العهد ، ورأى أن الإمام قد اتخذ ذلك وسيلة من الوسائل المضادة ، من أجل تضييع
الفرصة على المأمون .. كما أن بذله للخلافة لم يكن مجازفة بها ؛ لأنه كان مطمئنا
إلى أن ما يبذله اليوم سوف يعود إليه غدا .. وبالشكل الأفضل والأكمل ؛ لو أن
الإمام (ع) قبل منه ما كان عرضه عليه ..
نعم .. إنه يريد أن يرسله إلى العراق ـ بغداد ـ وطلب منه أن
يذهب وحده ، ويبقى هو خليفة له في خراسان ؛ ليواجه المحنة ، التي لن يكون له
القدرة على تحملها ، والصمود في وجهها .. ويتخلص المأمون منه بذلك من أهون سبيل ..
المأمون يتحرك نحو بغداد بنفسه
:
لكن رفض الامام
القاطع جعله يفكر في الأمر بنحو آخر ؛ فلقد تحرك هو بنفسه نحو بغداد ، مصطحبا معه
وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الامام الرضا (ع) ، الذي كان هو الشجا المعترض في
حلق المأمون ..
ولقد كان من
الممكن : أن يحتفظ بهما حتى يدخلوا بغداد ، فتقوم قائمة بني العباس ، ويثورون ،
ويعصفون ، وتعم الفوضى ، ويختل النظام .. وقد يتخلص المأمون حينئذ من الامام (ع)
على يد من يرتفع به حقده ، ويخرجه غضبه عن طوره ..
وإن لم يكن ذلك ،
وجبنوا عن الإقدام عليه .. وبعد أن يكون الناس قد رأوا أن وجود الامام ـ وليس قتل
الأمين ـ هو المانع والعائق
من عودة المياه
إلى مجاريها بين المأمون ، وبين العباسيين بني أبيه ، الذين أصبح يرى الناس : أن
لهم ـ كغيرهم ـ الحق في الخلافة .. فإن المأمون سوف يجد ـ من ثم ـ العذر والمبرر
لخلعه من ولاية العهد ؛ من أجل أن تستقر البلاد ، وتذهب الأحقاد والإحن ، وتعود
الامور إلى حالتها الطبيعية بينه وبين بني أبيه ، والمحبين والمتشيعين لهم ..
ولتكون هذه ـ وبعد ملاحقتها بحملة دعائية واسعة ـ ضربة قاضية لسمعة الامام ، وطعنة
نجلاء في كرامته ، سوف يسعد المأمون بها أيّما سعادة ..
لكن المأمون لم يكن يثق
بالعباسيين :
لقد كان من الممكن
ذلك .. ولكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين ، الذين في بغداد ، أن يتفهموا حقيقة
موقفه ، ويدركوا ما ترمي إليه مخططاته .. فقد يثورون ضده هو ، ويوصلون إليه ما
يسوؤه ويزعجه ؛ كما حدث ذلك من قبل .. فهو مع أنه لم يبايع للرضا بولاية العهد ،
إلا من أجل أن يحقن دماءهم ، ومع أنه كان يدبر الأمر ليدوم لهم ، ولعقبهم من بعدهم
.. إلا أنهم لم يدركوا ذلك رغم أنه كتب إليهم به صراحة .. واستمروا على مناوءته
ومحاربته ..
ولا كان واثقا من سكوت الامام (ع)
:
كما أنه كان يخشى
أن الامام ، الذي رأى المأمون منه العجائب ، والذي أصبح قريبا من العباسيين ،
وأشياعهم ، وقريبا من محبيه ومواليه أيضا ـ كان يخشى أن يتمكن ـ من قلب ما يدبره ،
ويخططه ، وجعله وبالا عليه .. وقد تقدم ان أباه موسى (ع) قد أفسد على الرشيد قلوب
شيعته ، رغم أنه كان في سجونه وتحت نظره ومراقبته الدقيقة ..
كما أنه لم ينس
بعد أبدا : أنه قد أفسد عليه جلّ ، إن لم يكن كل مؤامراته ، وتدبيراته .. بل لقد
كان يجعلها كلها في صالحه هو ، ودمارا ، ووبالا على المأمون مدبرها ، ومخططها
الحقيقي ..
وقد يكون الامام
مستعدا لقبول اقتراح من المأمون بالتنحي عن ولاية العهد. ولكن ذلك ولا شك سوف يعيد
الامور إلى سيرتها الاولى. بل سوف يزيد الأمر تعقيدا ، والوضع خطورة عما كان عليه
قبل البيعة له (ع) بولاية العهد. ولن يسكت العلويون ولا الخراسانيون ، بل حتى ولا
العرب عن أمر كهذا. ولن يعيد الامور إلى سيرتها الاولى بيعة أو مناورة أخرى من أي
نوع كانت ، وعلى أي مستوى كانت.
كيف يخرج المأمون من المأزق إذن؟!
وهكذا .. وبعد أن رأى المأمون نفسه قد فشل في تحقيق الجزء الأهم
من خطته ، ألا وهو أن يضع منه (ع) قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من
لا يستحق لهذا الأمر .. بل لقد رأى نفسه يحصد غير ما يزرع ، وأن النتائج التي كان
يحصل عليها هي تماما عكس ما كان ينتظر ويؤمل ؛ وذلك بسبب وعي الإمام وحنكته ،
ويقظته ..
ورأى أنه قد حارب
الإمام بجميع الاسلحة التي كان يمتلكها ، من المكر والخديعة ، والدهاء إلخ .. لكن
أسلحة الإمام كانت أمضى وأقوى من كل ما كان يمتلكه المأمون. ومن أين للمأمون علم
الامام وزهده ، وتقواه وفضله ، وفضائله النفسية ، وشخصيته الفذة ، وسائر صفاته
وخصاله الحميدة ، صلوات الله وسلامه عليه؟ ..
وإذا كان قد تأكد
لديه أن محاولاته تلك لم تكن تثمر إلا أن يزداد الامام رفعة بين الناس ، ومحلا في
نفوسهم ، وإلا اتساع قاعدته الشعبية
باطّراد. وأنه هو
نفسه قد ساعد على اتساعها .. حتى لقد اضطر هو نفسه لأن يستجير بالامام لينقذه من
أولئك الذين شغبوا عليه بسبب قتله الفضل ابن سهل .. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه
.. إذا كان كذلك. فإنه قد أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي الذي تلقاه من
حميد بن مهران ، وجمع من العباسيين ؛ حيث قال له حميد : « .. ما أخوفني أن يخرج
هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي ، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة
نعمتك ، والتوثب على مملكتك. هل جنى أحد مثل جنايتك؟! » .. وقد تقدم جواب المأمون
لهم في أول هذا الفصل ؛ فلا نعيد ..
ويلاحظ
هنا : أن قول حميد بن
مهران : « ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي » قد كان بعد
البيعة للرضا (ع) بولاية العهد ؛ فكأنه كان على علم بخطة المأمون ، وأهدافه من
البيعة!! .. نعود فنقول : إنه كما أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي أصبح
أيضا يرى : أن من الضروري العثور على وسيلة تسهل عليه الخروج من ذلك المأزق الحرج
، الذي أوقع نفسه فيه .. حتى لا ينتهي به الأمر إلى تلك النهاية المرعبة ، التي
كان يخشاها كل الخشية ، وتمتلئ نفسه فرقا ورعبا منها ..
فما هي تلك
الوسيلة؟! ، وأين يجدها؟! وهل يستطيع أن يحصل عليها؟! وكيف؟؟ ..
.. ولقد وجد
الوسيلة وهي سهلة جدا ، ولكنها غير مأمونة العواقب ، وهذه الوسيلة هي :
تصفية الإمام (ع) جسديا :
والتدبير فيه ـ وبسرعة
ـ بما يحسم عنه مواد بلائه .. وواضح :
أن قتل الإمام (ع)
جهارا سوف يثير مشاعر العلويين والشيعة ، سواء من الخراسانيين ، أو من غيرهم ، بل
هو يثير الامة بأسرها. ولسوف يعطيهم ، وخصوصا العلويين الفرصة ، بل والحق في
القيام بوجه نظام الحكم من جديد .. وبكلمة .. سوف يخسر المأمون حينئذ كل ما كان
يرى نفسه أنه قد ربحه ، هذا إن لم تكن النتيجة أسوأ من ذلك بكثير .. وأسوأ مما
يتصور.
وإذن .. فلا بد
للقضاء على الإمام من إعمال الحيلة ، واحكام الخطة ، ودراستها دراسة كافية ووافية.
قضية حمام سرخس :
وحاول أن يقضي على
الامام (ع) ، والفضل معا ، مرة واحدة في حمام سرخس. ولكن يقظة الامام (ع) ، ووعيه
قد حال دون ذلك ؛ حيث إنه رفض الذهاب إلى الحمام. وأصر المأمون بدوره على ذلك ،
وأعاد عليه الرقعة مرتين!!. لكن الامام قد بيّن له بيانا قاطعا : أنه لن يدخل
الحمام بأي وجه من الوجوه .. كما أنه (ع) قد حاول أن يدفع المكيدة عن الفضل ؛ فقال
للمأمون : « ولا أرى للفضل أن يدخل الحمام غدا .. ». لكن المأمون يصر على أن يدخل
الفضل الحمام ، ويمتنع من تحذيره ؛ حيث قال للامام : « وأما الفضل فهو أعلم وما
يفعله .. » .
مقتل الفضل بن سهل :
ونجح المأمون في
تنفيذ أحد جزئي مهمته ، وفشل في تنفيذ الجزء
__________________
الآخر ، والأهم
منها ؛ فقد نجا الامام (ع) بفضل وعيه ويقظته ، ووقع الفضل في الشرك وحده وقتل
بتدبير من المأمون ، فرضي بذلك العباسيون. وقتل قتله ، فرضي الحسن بن سهل ،
والخراسانيون.
ومجمل قضية قتل
الفضل هنا : « أن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى
بني علي ، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل ، ورأى الفتنة قائمة ولا يستطيع أن
يقتل الفضل جهارا لمكان أخيه الحسن بن سهل ، وكثرة من معه من الرجال فأعمل الفكرة في
ذلك ، ودس جماعة لقتل الفضل ..
والذين قتلوا
الفضل كانوا خمسة اشخاص من حشم المأمون ، أحدهم : خاله غالب ؛ فأخذوا وجيء بهم
إليه ؛ فقالوا : أنت أمرتنا بقتله!! .. فقال لهم : أنا أقتلكم باقراركم ، وأما ما
ادعيتموه : من أني أنا أمرتكم بذلك ؛ فدعوى ليس لها بينة. ثم أمر بهم فضربت
أعناقهم ، وحمل رءوسهم إلى الحسن أخي الفضل ، وأظهر الحزن عليه .. » !! كما أنه قد
اقصى قوما من قواده سماهم الشامتة ؛ واظهر عليه أشد الجزع كما نص عليه اليعقوبي.
وواضح أن قتله لقتلة الفضل ، ثم إرساله رءوسهم إلى الحسن ، ثم إظهاره للحزن عليه
لخير دليل على دهائه وحنكته السياسية ..
بل ذكر المسعودي ،
ويظهر ذلك من غيره أيضا : أن المأمون قتل
__________________
الفضل بن سهل بيده
، وأنه باشر قتله بنفسه ، ولعله اتهم هؤلاء من أجل أن يبعد التهمة عن نفسه لاسباب
سياسية لا تكاد تخفى ومن أهمها أن لا يفسد عليه الحسن بن سهل ومن معه
والخراسانيين.
وتحسن الاشارة هنا
إلى ما قدمناه من عرض المأمون على الفضل أن يزوجه ابنته ـ على الرغم من استهجان
تزويج بنات الخلفاء من غير ذوي قرباهم ، فرفض الفضل العرض ، وشكر المأمون ، وجهد
المأمون الجهد كله في اقناعه ، فلم يفلح!!. وقال له : لو صلبتني ما فعلته .
فإن عرضه هذا ،
وجهده في اقناعه ما كان إلا شركا منه للتجسس والايقاع بالفضل على يدها ، كما فعل
بالجواد والرضا (ع) .. وعند ما لم يفلح في اقناع الفضل ، وفشلت مؤامرته ، دبّر
قضية حمام سرخس ، ونحج في تدبيره ذاك كما عرفنا ..
وقبل أن نمضي في
الحديث يحسن بنا أن نشير الى ما ذكره الاصفهاني في أغانيه ، فيما يتعلق بمقتل
الفضل ، حيث قال ما ملخصه : إن ابراهيم ابن العباس الشاعر كان من خواص الفضل بن
سهل. وجعله كاتبا لعبد العزيز بن عمران ؛ فلما دبر المأمون قتل الفضل ، وندب إليه
عبد العزيز ابن عمران. علم ابراهيم بذلك ، فأخبر به الفضل ، فأظهره للمأمون ،
وعاتبه عليه .. وبعد قتل المأمون للفضل ولقتلته سأل من أين سقط الخبر للفضل ؛ فعرف
أنه من جهة ابراهيم ؛ فطلبه ؛ فاستتر ، وتحمل ابراهيم بالناس على المأمون. وجرد في
أمره هشام الخطيب المعروف بالعباسي ،
__________________
وكان جريئا على
المأمون ، لأنه رباه ، فلم يجبه المأمون الى ما سأل . إلى آخر ما قال.
ظاهرة قتل الوزراء :
وتحسن
الاشارة هنا : إلى أن قتل
الوزراء كان ظاهرة شائعة في حياة الخلفاء العباسيين ؛ حتى إن أحمد بن أبي خالد
الأحول امتنع بعد مقتل الفضل عن قبول اسم « وزير » ، مع قبوله بالقيام بكل أعمال
الوزير ووظائفه ..
وهنا لطائف وظرائف
تتعلق بهذا المطلب ، ليس هنا محل ذكرها ..
ولنعد الآن للحديث
عن موقف المأمون فنقول :
لا بد من العودة الى سنة معاوية
:
إنه رغم فشل
المأمون في قضية حمام سرخس ، لم ييأس ، ولم يهن في الوصول إلى ما كان يطمح إلى
الوصول إليه ؛ فاستمر يعمل الحيلة ويدبر المكيدة للإمام (ع).
وكان
عليه : أن لا يعرض
نفسه للخطأ الذي وقع فيه في قضية الفضل ؛ حيث أعلن القتلة في وجهه بأنه هو الذي
أمرهم بقتله ؛ مما كان سببا في ثورة الجند عليه ، وتعرض لخطر عظيم جدا ، لو لم
يلتجئ الى الامام ، الذي أنقذ موقفه ، وفرق الناس عنه ، كما تقدم ..
ولم ير وسيلة أسهل
وأسلم من تلك التي سنها سلفه معاوية ، الذي
__________________
قدمنا في فصل :
آمال المأمون وآلامه : أن المأمون قد ارتضى سيرته ، ورد سيرة أبي بكر وعمر وعلي
وهذه الوسيلة هي : « السم » ..
ودسّ إليه السم في
العنب ، أو في ماء الرمّان ، ومضى الإمام (ع) شهيدا ، صابرا محتسبا .. وهذه هي نفس
الطريقة التي تخلص بواسطتها ، من قبل : من محمد بن محمد ، صاحب أبي السرايا ، ولا
نستبعد أنه قد دبر مثل ذلك في محمد بن جعفر ، الذي مات هو الآخر ـ كالرضا (ع)
والفضل بن سهل ـ في طريق بغداد .
كما ويلاحظ : أنه
لما مات محمد بن جعفر نادى منادى المأمون : « ألا لا تسيئن الظن بامير المؤمنين ؛
فان محمد بن جعفر جمع بين أشياء في يوم واحد. وكان سبب موته أنه جامع وافتصد ،
ودخل الحمام فمات »
وهكذا .. مات اللذان تكرههما بغداد ، في نفس طريق بغداد .. ولم
يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه ، وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم ، وأصبح
باستطاعته ان يكتب إليهم :
« .. إن الأشياء
التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت ، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى
الرضا (ع) ، وقد مات ؛ فارجعوا إلى السمع والطاعة ، وانه يجعل ولاية العهد في ولد
العباس .. » .
__________________
فرجعوا إليه ،
وانقادوا له ، ولكن بعد التخلص ممن كان يكره ويكرهون ، ويخاف ويخافون ..
رجع إلى بغداد ،
فأطاعته ، وانقادت له ؛ لأنه قضى على من كانت تخافهم ، وتخشاهم ، وحقق لها ما كانت
ترجوه ، وتصبو إليه ، وغفرت له قتله أخاه ، ونسيته حتى كأنه أمر لم يكن!! .. بل
لقد أصبحت ترى أنه أفضل من أخيه الأمين ؛ لأنه استطاع أن يثبت أقدام بني أبيه في
الحكم والسلطان إلى ما شاء الله ..
رجع إلى بغداد ،
إلى بني أبيه ؛ لأن رجوعه إليهم كان ضروريا ؛ من أجل أن يرجع إليهم اعتبارهم من
جهة .. ولأنهم هم الدرع الواقي له ، والحصن الحصين من جهة أخرى .. هذا بالاضافة
إلى أن خلافة لا تكون بغداد مقرا لها ليست في الحقيقة بخلافة .. إلى غير ذلك من
أمور واعتبارات.
نبوءة الإمام (ع) قد تحققت :
هذا .. وكما تنبأ الامام (ع) من قبل بأن أمر البيعة لا يتم ،
وتنبأ أيضا بأنه يموت ويدفن بخراسان .. لم يكن ليصعب عليه أن يتنبأ بأن المأمون
سوف يقدم في النهاية على ما أقدم عليه : من الاعتداء على حياته (ع) ، سيما وأنه
كان على علم أكثر من أي إنسان آخر بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه .. وبالفعل نرى
الامام (ع) يصرح بذلك في أكثر من مورد ، وأكثر من مناسبة ، حتى للمأمون نفسه ، كما
تقدم ..
__________________
ومن
جهة أخرى ؛ فرغم محاولات
المأمون للتستر على جريمته النكراء تلك خوفا من ثورة الرأي العام ضده .. فإنه لم
يستطع إخفاء الحقيقة ، وطمس الواقع بل شاع الأمر ، وافتضح المأمون .. بل سيمر معنا
أنه هو نفسه قد فضح نفسه ..
الحقد الدفين :
وأخيرا .. فإن ما
أقدم عليه المأمون من الغدر بالامام (ع) ، ودس السم إليه لخير دليل على فشل
المأمون في سياسته ، الفشل المزري والمهين .. حتى إنه عند ما عجز عن أن ينال من
الامام (ع) حيا ، أراد أن ينال منه ميتا ؛ بدافع من حقده الدفين ، الذي لم يعد
يستطيع أن يتحمل مضاعفاته ؛ فكتب إلى السري عامله على مصر ، يخبره بوفاة الرضا ،
ويأمره بغسل المنابر ، التي دعي له عليها ، فغسلت .. كما تقدم .. وهذا إن دل على
شيء ؛ فإنما يدل على أن الحقد كان قد أكل قلبه ، وأعمت البغضاء بصره وبصيرته ..
كما أنه يدل على
خسّة في النفس ، وإسفاف في التفكير ، وشعور بالعجز ، وبالنقص أيضا ..
كاد المريب أن يقول : خذوني.
ومع غض النظر عن كل ما تقدم :
لسوف نغض النظر
هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد
بلائه ، وعن تأكيدات الإمام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيدا بسمّ المأمون ، حتى لقد
واجه نفس المأمون بذلك ، لكنه تجاهل الأمر ، وغير الحديث ..
ولسوف نغض النظر
أيضا عن اعتراف المأمون نفسه بأن الإمام (ع) لم يمت حتف أنفه ، وإنما مات مقتولا
بالسم. وأن قتلته هما عبيد الله ، والحمزة ، ابنا الحسن ، واللذان لم يكن
بينهما وبين الإمام (ع) ما يوجب ذلك .. بل إن كان لهما دور ما ، فإنما هو باشارة
من يهمه مثل هذا الأمر ..
بل لقد ورد : أن
المأمون رمى بنفسه على الأرض ، وجعل يخور كما يخور الثور ، ويقول : « ويلك يا
مأمون ، ما حالك ، وعلى ما
__________________
أقدمت. لعن الله
فلانا وفلانا ، فإنهما أشارا علي بما فعلت .. » .
لسوف نغض النظر عن
كل ما تقدم ، وحتى عن رسالته للسري ، عامله على مصر ، والتي أشرنا إليها غير مرة
..
والذي نريده هنا :
ولا نريد هنا إلا
أن نضع بعض علامات الاستفهام على بعض تصرفات المأمون ، وأقواله حين وفاة الامام (ع)
، حيث رأيناه : قد ارتبك في أمر وفاة الرضا (ع) أشد ما يكون الارتباك ..
الأسئلة التي لن تجد جوابا :
فأول ما يطالعنا
من الأسئلة هو أنه :
لماذا يستر موت
الرضا (ع) يوما وليلة؟! .
ولماذا يقول
للامام ، وهو بعد لم يمت : « .. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم : فقدي إياك ، أو
تهمة الناس لي : أني اغتلتك وقتلتك » ؟!.
__________________
ولماذا يظهر
التمارض ، بعد أن أكل مع الإمام (ع) العنب ..؟! وكيف مات الامام (ع) في مرضه من العنب ، ولم يمت
المأمون منه أيضا؟! ..
ولماذا يحضر محمد
بن جعفر ، وجماعة من آل أبي طالب ، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه ، لا مسموما
؟!!.
ولماذا يبقى على
قبره ثلاثة أيام!! يؤتى!! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!! .. الأمر الذي لم يفعله
حتى عند ما مات أبوه الذي ولد منه ، وأخوه الذي قتله ، وفعل برأسه ما فعل؟!!.
وهل يمكن أن نصدقه
حينما نسمعه يقول : « وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك » !!. هذا مع علمه
بأن الامام (ع) كان يكبره بـ (٢٢) سنة؟!! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا
معنى له ، ولا واقع وراءه؟!!.
ولماذا
أيضا : يجبره على أكل
العنب بعد امتناع الامام (ع) من أكله ، ثم يقول له : « لا بد من ذلك ، وما يمنعك
منه ، لعلك تتهمنا بشيء؟! » وبعد أن أكل منه الامام (ع) قام ، فقال له المأمون : إلى
أين؟ قال (ع) : إلى حيث وجهتني .. » ؟!
ولماذا؟ ولماذا؟
إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام ..
__________________
كاد المريب أن يقول : خذوني :
وبعد .. فهذه بعض
الأسئلة ، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الامام (ع) .. تحتاج إلى جواب
.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح ، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه ، هي
الجواب الكافي والشافي ، فلقد قيل ، وما أصدق ما قيل : « كاد المريب ان يقول : خذوني .. كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة
أحيانا ، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحيانا أخرى ..
فإلى الفصل التالي
، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين ، بالنسبة لسبب وفاة الامام (ع) ..
ما يقال حول وفاة الامام (ع)
ما ذا ترى بعض الفرق في الحكام
:
قبل كل شيء نود أن
نشير إلى أمر مهم ، كنا قد أشرنا إليه من قبل ، وله ـ إلى حدّ ما ـ صلة فيما نحن
بصدده .. وهو : أن بعض فرق المسلمين ترى : أن الحكام تجب طاعتهم ، ولا تجوز
مخالفتهم ، والقيام ضدهم ، والوقوف في وجههم بحال من الأحوال .. مهما كانت هويتهم
، وأيا كان سلوكهم ، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات ، وانتهكوا جميع الحرمات
..
أي .. أنهم حتى لو
قتلوا الابرياء ـ ولو كانوا أبناء محمد ـ ، وهدموا الكعبة .. مع ذلك كله ـ تجب
طاعتهم ، ولا تجوز مخالفتهم ، ولا الوقوف في وجههم ..
هكذا .. تعتقد الفرق الاسلامية ـ كما قلنا ـ .. ومن المؤسف جدا
أن من هؤلاء الفرق : أهل الحديث ، وعامة أهل السنة ، قبل الامام الاشعري ، وبعده.
وهو أيضا قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة ..
ولقد أيدوا هذه
العقيدة بمختلف أنواع التأييد ، حتى لقد وضعوا في
تأييدها الروايات
على لسان النبي (ص) ، مع عدم تنبههم إلى أن ذلك ينافي صريح القرآن ، ويصادم حكم
العقل والوجدان ..
انعكاسات هذه العقيدة على
التراث :
وطبيعي أن ينعكس
ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم ، وحتى على علمائهم ، وفقهائهم أيضا ، حيث كان لا بد لهم
من التستر على كل هفوات أولئك الحكام ، وكل مخازيهم وموبقاتهم ، مما كان من نتيجته
ـ بطبيعة الحال ـ إخفاء كثير من الحقائق ، وطمسها ، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك ،
تراهم يحاولون اللف والدوران ، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع .. هذا إن لم
تخولهم غيرتهم ، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها ، والتغيير والتبديل فيها ؛ بحيث تبدو
مستهجنة ، وغريبة ، ولتسقط من ثم عن الاعتبار .. وقد يختلقون في كثير من الأحيان
في مقابلها ، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة ، وتعصبهم المقيت ، أو يوافق هوى نفوسهم ،
ويرضي حكامهم ، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى ..
إخفاء كل الحقائق عن الأئمة : :
ولقد أراد الحكام
ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة الأطهار : ، أو تشويهها ،
فكان لهم ما أرادوا ، ووجدوا من العلماء ، والكتاب ، والمؤرخين ، من لا يألوا جهدا
، ولا يدخر وسعا من أجل تنفيذ إرادتهم تلك ، التي يرون : أنها إرادة الله
__________________
ـ حسب عقيدة الجبر
التي ابتدعوها ـ .. حتى إنك قد لا تجد في كثير من الكتب التاريخية ، حتى اسم
الأئمة الأطهار :. فضلا عن شرح أحوالهم ، وبيان نشاطاتهم ..
وليس ذلك لأنهم : كانوا غير
مشهورين ، ولا معروفين .. أو لأنهم ممن لا يعتنى بشأنهم ، ولا يلتفت إليهم .. لا
.. أبدا. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الاسلامية المترامية
الأطراف : إما حبا وتشيعا ، واما عداء ونصبا ..
وقد ذكر الجاحظ في
رسالته : « فضل هاشم على عبد شمس » ـ وهو الكاتب المعروف في عصره ، وبعد عصره ..
وحتى الآن ، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه ،
ومنها موضوع رسالته المشار إليها .. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته ، وإن كان
المعتزلة ـ أهل نحلته ـ مثل الاسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لأهل البيت : ، ومما يدل على
نصبه وتعصبه : أنه قد ألّف كتابا في نقض فضائل الامام أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (ع) ـ الجاحظ هذا ـ يقول في رسالته المشار إليها :
« .. ومن الذين
يعد من قريش ، أو من غيرهم ، ما بعد الطالبيون في نسق واحد ، كل واحد منهم : عالم
، زاهد ، ناسك ، شجاع ، جواد ، طاهر ، زاك ، فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشحون : ابن ،
ابن ، ابن ، ابن .. هكذا إلى عشرة .. وهم : الحسن بن علي ، بن محمد ، ابن علي ، بن
موسى ، بن جعفر ، بن محمد ، بن علي ، بن الحسين ، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من
بيوت العرب ، ولا من العجم إلخ .. » .
__________________
هذا .. ويجب أن لا يفوتنا هنا : التنبيه على أن الجاحظ كان في
البصرة ، والامام العسكري (ع) كان في سامراء ، موضوعا تحت الرقابة الشديدة.
وتوفي الجاحظ قبل
وفاة العسكري بخمس سنين ..
وقد كان عمره (ع)
عند ما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة ، لو فرض ان الجاحظ كان قد
ألفها في آخر يوم من أيام حياته ..
ولم يكن الامام
العسكري اعرف ، ولا أشهر من آبائه الطاهرين (ع) ، سيما الامام علي ، والحسن ،
والصادق ، والرضا : ..
بل كان الأئمة (ع)
، بعد الرضا (ع) ـ مع نباهة شأنهم ، وعلو أمرهم ـ يسمون : بـ « ابن الرضا » ، وذلك
يدل على أنه (ع) كان أنبه من أبنائه الطاهرين ، فكان يقال ذلك ـ يعني : ابن الرضا
ـ للجواد ، والهادي بعده ، بل وللعسكري أيضا ، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث ، اسلم بن مهموز المنبجي في
داليته المعروفة ، التي يمدح فيها أئمة سامراء : :
إذا ما بلغت
الصادقين بني الرضا
|
|
فحسبك من هاد
يشير إلى هاد
|
نعم .. إن هؤلاء الأئمة ، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق ، قد
لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية .. مع أنك تجد ما شاء الله : من
قصص المغنين ، والجواري ، والاعراب ، بل وحتى قطاع الطرق ، مما لا يسمن ، ولا يغني
من جوع ..
__________________
كل ذلك خيانة
للحقيقة ، وتخليا عن الأمانة ، التي أخذوا على أنفسهم أداءها للأجيال التي تأتي
بعدهم ؛ حيث كان عليهم : أن يصدعوا بالحق ، ويظهروا الواقع ، مهما كانت الظروف ،
وأيا كانت الأحوال .. وإلا .. فيجب أن لا يتصدوا للكتابة ، ويبوءوا باثم الخيانة
..
هذا .. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيت (ع) ،
ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة ؛ وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم ، ومحاولات القضاء
عليهم أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وبأي ثمن كان .. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم
أئمة الهدى ، وقادتهم ، القادة إلى الحق ..
ويبقى هنا سؤال :
لماذا إذن كان
يهتم الخلفاء بالعلماء ، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الأقطار والأمصار؟! ..
وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الأئمة ، أئمة أهل البيت ، وشيعتهم ومواليهم؟! ،
ومحاولاتهم تصغير شأنهم ، وطمس ذكرهم؟!.
سرّ اهتمام الخلفاء بأهل العلم
:
وللإجابة على هذا
السؤال نقول : إن سرّ اضطهادهم لأهل البيت (ع) يعود : أولا : إلى أن الحق في الحكم كان لأهل البيت ، من كل جهة ،
فالقضاء عليهم معناه القضاء على ذلك الحق ، وتكريس الامور لهم ، وفي صالحهم ..
وثانيا : إلى أن الأئمة : ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام ، ولا يرضون عن أعمالهم ،
وسلوكهم الذي كان يتنافى مع مبادئ الاسلام وتعاليمه ..
وثالثا : إلى أن الأئمة : بسلوكهم المثالي ، وبشخصياتهم الفذة كانوا يشكلون أكبر
مصدر للخطر عليهم ، وعلى حكمهم ذاك غير الأصيل ..
إلى غير ذلك من
أمور يمكن استخلاصها من الفصول الاولى من الكتاب ..
وأما السبب في
تشجيعهم ـ في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية
معينة ، وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطرا في الحكم ؛ لأن الحكم كان في
نظرهم هو كل شيء ، وليس قبله ولا بعده شيء ، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله
، وفي خدمته ، حتى العلماء والمفكرون ..
ولم يكن جمعهم
للعلماء من حولهم ، والاتيان بهم من كل حدب وصوب ، إلا :
١ ـ ليكون أولئك
العلماء ، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الامة تحت نظرهم ، وسيطرتهم ..
٢ ـ ليتمكنوا
بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم ، والوصول إلى كثير من مآربهم ، كما تشهد به
الأحداث التاريخية الكثيرة ..
٣ ـ ليظهروا للناس
بمظهر المحبين للعلم والعلماء ؛ ليقوى مركزهم في نفوسهم ، وتتأكد ثقتهم بهم ؛ إذ
كان لا بد لهم ، بعد أن تركوا أهل البيت : ، من الاستعاضة عنهم بغيرهم ، ودفع شكوك وشبهات الناس عن
أنفسهم ..
٤ ـ محاولة
التشويش بذلك على أهل البيت : ، وطمس ذكرهم ، واخفاء أمرهم ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا
.. ولكن .. يأبى الله إلا أن يتم نوره ..
ويتفرع على ما سبق :
وإذا تحقق لدينا
أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لاهداف سياسية معينة كما أوضحنا .. فلسوف
لا نستغرب إذا رأينا :
أنهم كانوا إذا
شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية ، ولو كانت علمية ، لا يترددون في القضاء
عليها ، والتخلص منها ، بأي وسيلة كانت ..
قال أحمد أمين :
إن المنصور كان « يقرب المعتزلة إذا شاء ، ويقرب المحدثين والفقهاء ، ما لم تقض
تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه ؛ فهناك التنكيل .. » .
وقال السيد أمير
علي : « .. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى
الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب ؛ إذا تجرءوا على الافصاح عن رأي لا يتفق
ومصلحة الحاكمين .. » ..
ولقد رأينا
المنصور يدس السم لأبي حنيفة ، ويضيق على الإمام الصادق ـ الذي لم يبايع لمحمد بن
عبد الله العلوي ـ ، وضيق على من تلاه من ذريته ، ولا حق تلامذته ومحبيه ..
لكنه لم يقتل عمرو
بن عبيد ، ولا أهانه بل مدحه بقوله :
كلكم يطلب صيد
|
|
غير عمرو بن
عبيد ..
|
رغم أن عمرا هذا
كان قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي ، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على
النظام ؛ لأن من أصول المعتزلة الخمسة ،
__________________
التي يكون الانسان
بها معتزليا هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعملا بهذا الأصل كان عمرو
هذا قد خرج مع يزيد الناقص سنة ١٢٦ ه. على الوليد بن يزيد ـ لم يفعل المنصور مع
ابن عبيد إلا كل ما يقتضي الاجلال والتكريم بخلاف ما فعله مع أولئك ـ لأن عمرا ـ بخلافهم
ـ قد تخلى عن مذهبه ، ومالأ النظام ، وكان المنصور ، ومن تبعه من الخلفاء يستفيدون
منه ، ومن أضرابه ، ولم يروا بأسا في مبايعته لمحمد لكنهم لما لم يكونوا يستفيدون
من أولئك نكلوا بهم ، وفعلوا بهم الافاعيل رغم امتناعهم عن مبايعة محمد .. وإلا فما
قيمة عمرو هذا عند واحد من تلامذة الصادق ، كزرارة ، وهشام ، ومحمد بن مسلم ،
وأضرابهم ..
عود على بدء :
قلنا : إن الحكام
كانوا يريدون ـ لسبب أو لآخر ـ اخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة : ، أو تشويهما ؛
فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم : « علماء » ، فتلاعبوا ،
ودسوا ، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم ، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت ..
ولعلنا لا نعدو
الحقيقة إذا قلنا : إن ابن الأثير ، والطبري ،
__________________
وأبو الفداء ،
وابن العبري ، واليافعي وابن خلكان .. كانوا من أولئك الذين ظلموا الحقيقة
والتاريخ ، بل وأنفسهم ، عند ما أرخوا للامة الاسلامية ، وكتبوا في أحوالها ،
وأوضاعها السالفة ، دون أن يراعوا الانصاف والحيدة فيما أرخوا ، وفيما كتبوا ..
ولعل من جملة
سقطات هؤلاء الشنيعة ، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها ، وانقيادهم للحكام ،
والهوى الأعمى في بيانها ، قضية : « كيفية وفاة الإمام الرضا (ع) .. » ؛ حيث ذكروا
: أن سبب وفاته (ع) هو أنه : « أكل عنبا ؛ فأكثر منه ؛ فمات .. » .
وكأنّ ابن خلدون ،
الاموي النزعة ، يريد أن يتابعهم في ذلك ؛ حيث قال في تاريخه : « ولما نزل المأمون
مدينة طوس ، مات علي الرضا فجأة ، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين ، من عنب أكله .. »
. ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة ابراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه
اياه بقتل أخيه. كما سيأتي.
ما عشت أراك الدهر عجبا :
وهو كلام عجيب حقا
:
فهل يعقل ويتصور
أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي ، فضلا عن الإمام ، الذي شهد بعلمه ، وحكمته ،
وزهده ، كل من عرفه ، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره؟!.
__________________
أفهل يمكن أن يسمح
أحد لنفسه أن يصدق بأن شخصا عاقلا ، وحكيما ، كالإمام (ع) ، يسمح لنفسه بالاقدام
على الانتحار من كثرة الأكل؟!.
وهل عرف عن الإمام
في سابق عهده : أنه كان اكولا ، أو نهما إلى هذا الحد؟! ، أي إلى حد أنه ينتهي به
ذلك إلى قتل نفسه؟! ..
أم أن الزهد
والتقوى والعلم ، فضلا عن العقل والحكمة .. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار
الهائل ، الذي من شأنه أن يؤدي بحياته؟!.
أم أن الإمام (ع)
قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية ، التي كتبها للمأمون ، والتي هي من أشهر وأجلّ
الوثائق المأثورة عنه؟! ..
أم أنه (ع) لم يكن
قد رأى العنب في حياته ؛ فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية ، لينال أكبر قدر تصل
إليه يده؟! ..
لا .. لا هذا ،
ولا ذاك ، ولا ذلك ..
وإنما العصبية
المذهبية ، والهوى الأعمى .. هما اللذان فرضا على الإمام (ع) أن يأكل العنب ،
ويكثر منه ، ويموت هذه الميتة .. حتى ولو لم يقبل بها العقل ، ويصدق بها الوجدان
..
إن الإمام (ع) لو
كان هو الحاكم ، والمتسلط لم يمت هذه الميتة ، بل كان مات على حسب ما اشتهى ،
وبالكيفية التي أراد ..
دعك من هؤلاء
وأمثالهم ؛ فإنني لا أرى : أن كلاما كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك .. بل لا
أرى أنه يستحق شيئا من العناية على الاطلاق ..
دعك منه .. وذره
لأهله في سنبله!! ..
وتعال معي لننظر
الى ما يقوله الآخرون ، ممن أرخو للامة ، وتحدثوا عن ماضيها ؛ فقد نجد في كلامهم
ما ينقع الغلة ، ويشفي الغليل ..
قول فريق آخر من المؤرخين :
وإننا بعد القاء
نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال ، نستطيع أن نلاحظ : إلى أي
حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية ، وتباينت اتجاهاتهم ..
فعدا عن أولئك
القلة الذين تحدثنا عنهم آنفا نرى :
فريقا ثانيا قد
أوردوا خبر وفاته مجردا عن بيان السبب ، ثم سكتوا ، أو عقبوا ذلك بقولهم : « وقيل
: إنه مات مسموما » ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج ٣ ص ٨٠. وإن كان يظهر من
عبارته اختيار مسموميته ، وابن العماد في شذرات الذهب ، وغيرهم.
ولعل هؤلاء ممن
جازت عليهم لعبة المأمون ، وانطلت عليهم حيلته ، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية
التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضا (ع) .. أو لعلهم لم يكونوا
بصدد بحث هذا الأمر وتمحيصه .. أو لأنهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة ؛ لما
كانوا يخشونه من سطوة الحكام ، وبطشهم. ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه ،
فآثروا السكوت ، واهمال ذلك ، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع
.. إلى غير ذلك من الاحتمالات ، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة ..
رأي فريق ثالث في ذلك :
وهناك فريق آخر
يرى أنه (ع) مات مسموما ، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون .. وهذا هو رأي السيد
أمير علي ، وأشار إليه
أحمد أمين أيضا ..
وهذا الرأي ليس له
أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الاربلي انه قال : « فلما رأوا أن الخلافة قد
خرجت إلى أولاد علي ، سقوا علي بن موسى سما ؛ فتوفي بطوس في رمضان » . وهو عدا عن أنه
كلام مبهم ؛ فإن ، الشواهد كلها على خلافه .. كما قدمنا وسيأتي .. ولذا فهو لا
يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده ..
ورأي آخر يقول :
إنه (ع) مات
مسموما من قبل المأمون ، ولكن بإشارة الفضل ، واغرائه.
ونرى نحن بدورنا :
أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث واغراء ، بعد أن كان يرى أن وجود الإمام (ع) يشكل
خطرا محققا عليه ، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن ـ وإن كنا لا نستبعد أن يكون
هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون ـ السلطة ـ إلا أننا لا نضايق في أن
الفضل ، الذي قتل قبل الإمام (ع) بمدة!!! كان من الراغبين في التخلص من الإمام ،
ولا سيما إذا لاحظنا : أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه ..
ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك ، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل
، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان!!! ..
__________________
وقد تحدثنا في فصل
: أسباب البيعة لدى الآخرين ، وغيره من الفصول ، وسيأتي الحديث بما فيه الكفاية إن
شاء الله تعالى ..
ورأي فريق خامس يقول :
إنه (ع) قد مات
حتف أنفه ، ولا يقبل أبدا بأنه (ع) مات مسموما ، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي
رأى أنها كافية للدلالة على أنه (ع) لم يمت مسموما.
ونذكر من هؤلاء
سبط ابن الجوزي ، حيث قال ـ بعد أن أورد خبر وفاته ، وحكى القيل بأنه دخل الحمام
ثم خرج ، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الابر المسمومة ، من غير أن يظهر أثرها
، فأكله ، فمات ـ قال بعد ذلك : « وزعم قوم : أن المأمون سمه ، وليس بصحيح ؛ فإنه
لما مات علي توجع له المأمون ، وأظهر الحزن عليه ، وبقي أياما لا يأكل طعاما ، ولا
يشرب شرابا ، وهجر اللذات إلخ .. » .
لكن عبارة سبط ابن
الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه ، ولا ينكر أن يكون (ع) قد
مات بسم غير المأمون.
وقد تابعه الاربلي
في كشف الغمة على ذلك ، محتجا بعين ما احتج به ، وأضاف إلى ذلك : أن سمه إياه
يتنافى مع اكرامه له ، وأنه كان ينبه على علم الرضا ، وشرف نفسه وبيته إلخ ..
__________________
وأما أحمد أمين
فيقول : إن ذلك بعيد ؛ لأن المؤرخين « يروون حزن المأمون الشديد عليه ، كما يروون
أن المأمون بعد موته ، وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة .. إلى أن قال : فإن
كان حقا قد سم ، يكون قد سمه أحد غير المأمون ، من دعاة البيت العباسي .. » ثم
استشهد لذلك أيضا بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الإمام علي (ع) ، والتي ذكرها
ابن عبد ربه في العقد الفريد ، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين ، رغم كثرة
خروجهم عليه .
وصاحب كتاب عصر
المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية التي أظهرها المأمون له ، وذلك
الاحترام والتقدير ، الذي كان يحيطه به ، وخصوصا بعد أن توثقت عرى المودة بينهما
بالمصاهرة .. ويضيف إلى ذلك أيضا : أن نفسية المأمون ، وخلقه ، يأبيان ـ على زعمه
ـ عليه ذلك .. وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن
نية المأمون ، وسلامة طويته ..
والدكتور أحمد
محمود صبحي يرى : أن قضية مسمومية الرضا (ع) هي من مختلقات الشيعة « الذين لم
يجدوا تناقضا بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون ، ثم مبايعته له بولاية العهد
، وتزويجه أخته ، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب ، ثم يصلي عليه ،
ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد ؛ فقد أصبح مقدرا على الأئمة منذ الحسن : أن يكون
قاتلوهم هم : الخلفاء ، أو بإيعاز منهم .. » .
__________________
هذه هي الحجج ،
التي حاول هؤلاء إقامتها على صحة ما ذهبوا إليه ، من براءة المأمون من دم الامام (ع).
ملخص ما سبق :
ومن أجل التسهيل
على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الأدلة في النقاط التالية :
١ ـ عقده له ولاية
العهد من بعده ..
٢ ـ إكرامه وتقديره
له ، وتنبيهه على شرفه ، وعلمه وفضله ، وبيته.
٣ ـ تزويجه ابنته
، الأمر الذي كان سببا في توثيق عرى المودة بينهما.
٤ ـ احتجاجه على
العلماء في تفضيل علي (ع) على جميع الخلق ..
٥ ـ إظهاره الحزن
والتوجع لوفاته ، وهجره الطعام والشراب ، واللذات لذلك.
٦ ـ دفنه له بجوار
أبيه الرشيد ، وصلاته عليه ..
٧ ـ بقاؤه بعد
وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد ..
٨ ـ إنه ظل يظهر
العطف على العلويين رغم كثرة خروجهم عليه ..
٩ ـ إن نفسية
المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك ..
١٠ ـ إن ذلك من
مختلقات الشيعة ؛ حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء ، أو بإيعاز
منهم ..
آفة ذلك : هل هو الجهل ، أم
التعصب :
هذا ملخص أدلة ما
ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للإمام (ع) ، ونحسب أن هؤلاء : إما أنهم لم
يطلعوا على الحقائق اطلاعا كافيا ، يخولهم
إصدار أحكام صائبة
، في قضايا هي من أكثر المسائل التاريخية تعقيدا ، بل وغموضا وابهاما ، كقضية
حقيقة ظروف وعلاقات المأمون بالرضا ؛ فحكموا على الامور حكما سطحيا ، لا يلبث أن
ينهزم أمام المنطق السليم والنظر الصائب.
وإما أنهم جروا
على ديدن أسلافهم في التعصب على الأئمة (ع) ، والمجاراة لأهوائهم ، ولخلفائهم في
طمس معالم الحقيقة ، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها ، ومعرفة
الناس لها ..
نحن .. وما يقوله هؤلاء :
إن كل ما ذكره
هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه ..
كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل ، الذي أراد أن يزوجه ابنته ، وكما دبر في
قائده الكبير هرثمة بن أعين ، الذي قتله فور وصوله إلى مرو ، دون أن يستمع لشكواه
، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه ، وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه وغيرهم ،
__________________
وغيرهم ، ممن كان
يختلهم واحدا فواحدا ـ على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له ـ سواء من
العلويين أو من غيرهم ..
مع أن هؤلاء كانوا
وزراءه وقواده ، ولهم من الفضل عليه ، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد ؛
فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه ، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد ، وأذلوا
له العباد ، وقامت دولته بأسيافهم ، وعلى أكتافهم ..
لقد ختلهم واحدا
فواحدا .. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للامام
.. وحسبنا أن نذكر هنا : أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الاشارة إليه من أجل
الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان ، أيضا .. ثم يتستر على
فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره؟! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعا ..
وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله؟! ..
وأما تظاهره
بالحزن والاسى لوفاة الامام (ع) إلخ .. فما أدري إن كان هؤلاء يريدون من ذلك
الأفعى الداهية : أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الامام (ع)!!.
وهل نسوا أنه قتل
الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه وتتبع قتلته
__________________
وقتلهم. وأرسل
رءوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل ، ثم تزوج ابنة الحسن هذا؟!. ولكنه عاد فغض من الحسن
بن سهل حينما ظفر بابراهيم ابن شكلة ، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده .
وقتل طاهرا ثم
أرسل يحيى بن اكثم إلى الرقة ، لينوب عنه في تقديم التعازي ، لولده عبد الله ، ثم
ولى أبناءه مكانه ، ثم غدر بهم واحدا بعد الآخر ..؟! .
وقتل محمد بن جعفر
، ثم جاء وجمل نعشه ، وقال : إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة؟! ..
وغيرهم وغيرهم ،
ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم .. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الإمام
، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزنا ، ولا أعارها أي منهم أذنا صاغية ، أو قلبا
واعيا؟! ..
وكيف يتفق كل ما
ذكرناه ـ وخصوصا ما فعله مع أخيه حيا ، أو ميتا ، وتخريبه بغداد ، وأيضا قتله
لسبعة من أخوة الإمام واضطهاده للعلويين كما سنبينه ، وكتابه للسري عامله على مصر
يأمره فيه بغسل المنابر إلخ .. كيف يتفق كل ذلك ، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطرا
منها مع خلق المأمون ونفسيته؟! .. ولا يتفق قتله الإمام (ع) مع نفسيته وخلقه
الكريم؟!. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والاكرام لهم
__________________
لا يتنافى مع
نفسيته وخلقه الكريم ؛ ويتنافى قتل الإمام مع الاكرام والمحبة له وللعلويين مع
نفسيته وخلقه الكريم أيضا؟! ..
وأيضا هل بعد كل
ذلك ، يمكن أن يقال : إن مصاهرته للإمام تمنعه من الغدر به ، ودس السم إليه؟! ولقد
بينا في فصل : ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه ، وتزويج ولده الجواد ، وتزويج
الفضل أيضا .. وتحدثنا أيضا عن السبب في لباسه الخضرة ، ودوافع ولاية العهد ، وغير
ذلك من أمور.
بل نجرؤ على القول
هنا : إن المأمون قد اكره الامام (ع) على هكذا زواج ؛ إذ كيف يمكن أن نتصور رجلا
حكيما عاقلا ، زاهدا في الدنيا .. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه
بمنزلة حفيدته ، بل أصغر ؛ حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة .. ثم لا يكون هناك
سرّ آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج؟! ، إلا أن يدعي هؤلاء : أن ذلك يتفق مع العقل
والحكمة ، وينسجم مع زهد الامام في الدنيا ، وانصرافه عنها ..
وإذا كان ثمة سرّ
آخر يكمن وراء ذلك الزواج ، فان ما تجدر الاشارة إليه هنا هو أنه (ع) لم يكن
يستطيع التصريح بحقيقة الأمر ، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل : ظروف
البيعة.
وأما قوله بتفضيل
علي (ع) على جميع الخلق .. فاننا إن لم نقل : أنه كان من ضمن المخطط ، الذي كان قد
رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه ـ كما اتضح في فصل ظروف البيعة .. فاننا ـ ونحن نرى
تباين مواقفه وتصريحاته ـ نرى أنفسنا مضطرين إلى القول : بأنه لم يكن ينطلق في
مواقفه السياسية من مواقف عقائدية ..
وأما إكرامه
للعلويين .. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين : بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة
ودهاء .. وتقدم أنه بعد وفاة الرضا (ع)
قد أخذهم بلبس
السواد ، ومنعهم من الدخول عليه .. وأنه كان يختلهم واحدا فواحدا حسب ما كتب إليه
عبد الله بن موسى.
وسيأتي بيان أنه
قتل سبعة من اخوة الإمام (ع) .. وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي ..
وأما ما ذكره أحمد
أمين : من كثرة خروج العلويين عليه ..
فإننا لم نجد ،
ولم نسمع ذكرا في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون ، بعد وفاة الرضا (ع) إلا ثورة
عبد الرحمن بن أحمد في اليمن ، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال ،
وظلمهم .. وسوى ثورة إخوة الإمام الرضا (ع) طلبا بثأر أخيهم كما سيأتي ..
ولم يبق ثمة إلا
نسبة فكرة اغتيال الرضا (ع) إلى الشيعة .. وأنهم انما اختلقوها وابتدعوها بدافع من
الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات ؛ إذ قد كتب إلخ ..
فهي دعوى تكذبها
جميع الشواهد والدلائل التاريخية .. هذا بالاضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون
بهذه التهمة ، قبل اتهام الشيعة له بها ، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل
السنة ، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك ، والتي يؤيدها الكثير مما قدمناه في
هذا الكتاب ، وغيره ..
وهكذا .. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح ما نعا ولا دليلا على
أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الإمام (ع) .. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة
على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما ، ولو لا أن تعداد مواقف
المأمون مع الإمام وتصريحاته يستلزم تكرارا نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه ..
لا استطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد ، التي تؤكد سوء نية
المأمون ، وخبث طويته تجاه الإمام (ع) .. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك ،
لا يصلح للاستناد
إليه ، ولا للاعتماد عليه ، وإن صيغ بعبارات منمقة ، وأساليب مختلفة ، فيها
الاغراق والمبالغة أحيانا ، ويبدو عليها الاتزان والموضوعية أحيانا أخرى ..
وبعد .. فعلى المكابر : أن يجيب
على السؤال التالي :
وإلا .. فاننا نرى
: أن لنا كل الحق في توجيه السؤال التالي إلى كل من يكابر ، ويصر على براءة
المأمون ، وحسن نيته ، والسؤال هو :
إنه إذا كان قد
عرض ولاية العهد. بعد وفاة الرضا (ع) على عبد الله بن موسى ؛ فلماذا لم يجعل ولد
الرضا « الجواد » وليا لعهده ، مع أنه كان زوج ابنته ، وولد ولي عهده ، الذي أظهر
عليه الحزن والجزع ، ومع أنه كان قد اعترف له بالعلم ، والفضل والتقدم ، كما اعترف
لأبيه من قبل!!! ..
ولا مجال هنا
للإصغاء للقول : بأن الجواد (ع) لم يكن يصلح لولاية العهد ، بالنظر لصغر سنه .. ،
إذ أن جعله وليا للعهد لا يعني تسليمه بالفعل أزمة الحكم والسلطان .. وقد أخذ
الخلفاء ، حتى أبوه الرشيد ، وأخوه الأمين البيعة لمن كانوا أصغر من الجواد سنا ،
ولمن لم يكن له من العقل والحكمة والدراية ما كان للجواد (ع) ..
هذا بالاضافة إلى
أن صغر سنه لم يكن ليضره ، بعد أن كان من أهل بيت زقوا العلم زقا ، وبعد أن شهد
المأمون ، واعترف له العباسيون بالعلم والفضل ، بعد ذلك المجلس الذي أجاب فيه يحيى
بن اكثم عن مسائله ، حيث كان العباسيون قد بذلوا له الأموال الطائلة ليقطعه عن
الحجة!! . راجع فصل : مع
بعض خطط المأمون لتعرف أهداف المأمون من هذه المناظرة ..
رأي الفريق السادس : الرأي الحق
:
وأما ذلك الفريق
الذي يرى : أنه (ع) مات مسموما دون شك ، والذين أشار إليهم سبط ابن الجوزي بقوله :
« وزعم قوم أن المأمون قد سمه » ـ أما هؤلاء ، فكثيرون :
ويمكننا أن نقول :
إن ذلك مما تسالم عليه الشيعة رضوان الله عليهم ، ما عدا المرحوم الإربلي في كشف
الغمة ، ونسب ذلك أيضا إلى السيد ابن طاوس ، وإلى الشيخ المفيد 1 ، ولكن ربما
يستظهر من المفيد أنه يذهب إلى مسموميته ؛ حيث ذكر أنهما ـ أي المأمون والرضا ـ قد
اكلا معا عنبا ، فمرض الرضا ، وتمارض المأمون!! ..
واتفاق الشيعة على
ذلك لخير دليل على أنه (ع) قد قضى شهيدا ؛ لأنهم هم أعرف وأخبر بأحوال ائمتهم من
غيرهم ، وليس لديهم ما يوجب كتم الحقائق ، أو تشويهها. فإذا ما سنحت لهم فرصة
لاظهارها أظهروها ، دون تكتم على شيء ، أو تشويه لشيء ..
ومن أهل السنة ،
وغيرهم ، طائفة كبيرة من العلماء ، والمؤرخين ، يعتقدون بأنه (ع) لم يمت حتف أنفه
، أو على الأقل يرجحون ذلك ، وإن لم يغين كثير منهم من فعل ذلك ، أو أمر به ..
ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر :
__________________
ابن حجر في صواعقه
ص ١٢٢.
وابن الصباغ
المالكي في الفصول المهمة ص ٢٥٠
والمسعودي في
اثبات الوصية ص ٢٠٨ ، وفي التنبيه والاشراف ص ٢٠٣ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧ ، وإن
كان في مكان آخر من مروجه قد حكى ذلك بلفظ : قيل ..
والقلقشندي في
مآثر الانافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢١١.
والقندوزي الحنفي
في ينابيع المودة ص ٢٦٣ ، وغيرها ..
وجرجي زيدان في
تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص. ٤٤. قال : « وفكر في بيعته علي
الرضا ، فأعظم أن يرجع عنها ، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان ، فيقتلوه ،
فعمد إلى سياسة الفتك ، فدس إليه من أطعمه عنبا مسموما ، فمات ».
وذكر ذلك أيضا في
آخر صفحة من كتابه : الأمين والمأمون.
وأبو بكر
الخوارزمي يقول في رسالته : « وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون » وقد تقدم شطر
كبير من هذه الرسالة .. ويؤيد قوله هذا بعض ما تقدم بالاضافة إلى عدة روايات ليس
هنا محل ذكرها ..
وأحمد شلبي في :
التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ١٠٧ يقول : إن ثورة بغداد قد أرغمت
المأمون على التخلص من الرضا ، وخلع الخضرة إلخ ..
وأبو الفرج
الأصفهاني يقول في مقاتل الطالبيين : « وكان المأمون عقد له على العهد من بعده ،
ثم دس إليه ـ فيما ذكر ـ بعد ذلك سما فمات ».
وذكر استشهاده
أيضا أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل ١٧١ / ٣٥٢.
وابن طباطبا في
الآداب السلطانية ص ٢١٨.
والشبلنجي في نور
الابصار ص ١٧٦ ، ١٧٧ طبع سنة ١٩٤٨ يروي ذلك أيضا.
ويروي ابن حجر عن
الحاكم في تاريخ نيسابور أنه قال : « استشهد علي بن موسى الرضا بسناآباد » ..
وهو نفسه ينقل عن
ابن حبان أنه (ع) مات مسموما بماء الرمان .
والسمعاني أيضا في
أنسابه ج ٦ ص ١٣٩ ، يذهب إلى استشهاده (ع).
وينقل القندوزي
ذلك عن محمد پارسا البخاري في كتاب فصل الخطاب. كما وينقله عن اليافعي ؛ فراجع ص
٣٨٥ من ينابيع المودة ..
وفي خلاصة تذهيب
تهذيب الكمال في اسماء الرجال ص ٢٧٨ ينقل ذلك عن سنن ابن ماجة القزويني ..
وينقل ذلك أيضا عن
السلامي في كتابه الذي ألفه في تاريخ خراسان .
وعن البيهقي في
تاريخ بيهق.
وعارف تامر في
كتابه : الامامة في الاسلام ص ١٢٥ يقول بذلك أيضا ..
ونقله في احقاق
الحق ( الملحق ) ج ١٢ ص ٣٤٦ فصاعدا عن :
النبهاني في جامع
كرامات الأولياء ج ٢ ص ٣١١.
وعن السيد عباس بن
علي بن نور الدين في نزهة الجليس ج ٢ ص ٦٥.
وعن المناوي في
الكواكب الدرية ج ١ ص ٢٥٦.
وعن ابن طلحة في
مطالب السؤل ص ٨٦ ..
__________________
وعن الهاشمي
الأفغاني في كتابه : « أئمة الهدى ص ١٢٧.
وعن البدخشي في :
مفتاح النجا ص ١٨١ ( مخطوط ).
وعن الجوزجاني
الحنفي في : طبقات ناصري ص ١١٣.
وذكر ذلك أيضا
صاحب كتاب عيون الحدائق ص ٣٥٧.
وأخيرا فقد قال
الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه : الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٦ : « .. ومات
الرضا مسموما ، كما يرى أكثر المؤرخين ».
وهذا غيض من فيض
.. وحسبنا ما ذكرنا هنا ؛ فإننا لو أردنا تتبع ما قيل حول وفاة الإمام ، لاحتجنا
إلى وقت طويل ..
هذا كله ..
بالنسبة إلى أقوال المؤرخين ..
صدى قتل الرضا في نفس زمن
المأمون :
وأما إذا راجعنا
كتب التاريخ أنفسها ؛ فإننا نستطيع أن نقول : إن استشهاد الإمام (ع) بالسم على يد
المأمون كان شائعا ومعروفا بين الناس في ذلك الزمان ، أعني : زمن المأمون نفسه ،
ومتسالما عليه فيما بينهم ..
فلقد تقدم في
الفصل السابق : أن المأمون قد اعترف بأن الناس يتهمونه : بأنه قد اغتاله وقتله
بالسم!!.
وورد أيضا أن
الخلق عند وفاة الرضا (ع) اجتمعوا وقالوا : إن هذا قتله واغتاله ـ يعنون المأمون ـ
، واكثروا من القول والجلبة ، حتى أرسل إليهم المأمون محمد بن جعفر ، عم أبي الحسن
يخبرهم : أن أبا الحسن لا يخرج في ذلك اليوم ؛ خوفا من الفتنة ..
__________________
كما وأن عبد الله
بن موسى يصرح في رسالته التي أرسلها إلى المأمون بأنه قد بلغه ما فعله بالرضا من
اطعامه العنب المسموم ، وستأتي هذه الرسالة بتمامها في أواخر هذا الكتاب ..
وسئل أبو الصلت
الهروي : « كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إياه ومحبته له؟!. » فجاء
في آخر جوابه قوله : « فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله ؛ فقتله بالسم .. » .
فإن هذا السؤال
يكشف عن أن ذلك كان معروفا آنذاك بين الناس لكن الناس كانوا في حيرة من ذلك ؛ بسبب
ما كانوا يرونه من اكرام المأمون للرضا (ع) في الظاهر ..
وعن الطالقاني : «
إنه كان متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل ، وحسن تدبير حسده على ذلك ، وحقده
عليه ، حتى ضاق صدره منه ؛ فغدر به فقتله ».
بل لقد ذكر ابن
خلدون : أن سبب خروج إبراهيم ابن الإمام موسى (ع) على المأمون هو أنه اتهم المأمون
بقتل أخيه علي الرضا (ع) .
ويؤيد ذلك : أنه
قد نقل الاتفاق من كل من ترجم لإبراهيم هذا على أنه مات مسموما ، وأن المأمون هو
الذي دس إليه السم ، وقد أنشد ابن السماك الفقيه ، حينما ألحده :
مات الإمام
المرتضى مسموما
|
|
وطوى الزمان
فضائلا وعلوما
|
قد مات بالزوراء
مظلوما كما
|
|
أضحى أبوه
بكربلاء مظلوما
|
__________________
إلى آخر الأبيات .. وابراهيم هذا
هو الذي كان قد خرج على المأمون في اليمن قبل ذلك أيضا. كما أن المأمون قد دس السم
إلى أخية زيد ابن موسى ، الذي كان قد خرج عليه قبلا بالبصرة ، وإن كان اليعقوبي
يذكر أن المأمون قد عفا عن زيد وابراهيم .. لكن من الواضح أن عفوه عنهما في الظاهر بسبب خروجهما
عليه في البصرة واليمن ، لا ينافي أنه دس إليهما السم بعد ذلك بأعوام ؛ بسبب
مطالبتهما بدم أخيهما الرضا (ع).
كما أن بعض المصادر
التاريخية تذكر : أن « أحمد بن موسى » أخا الامام الرضا .. لما بلغه غدر المأمون
بأخيه الرضا ، وكان آنذاك في بغداد ، خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه ، وكان معه
ثلاثة آلاف من العلوية. وقيل : اثنا عشر ألفا ..
وبعد وقائع جرت
بينه وبين « قتلغ خان » ، الذي أمره المأمون فيهم بأمره ، والذي كان عاملا للمأمون
على شيراز .. استشهد أصحابه ، واستشهد هو ، وأخوه « محمد العابد » أيضا ..
__________________
وأيضا .. فإن شرطة
المأمون قد قتلوا « هارون بن موسى » أخا الرضا ؛ حيث إن هارون هذا كان في القافلة
التي كانت تقصد خراسان ، وكانت تضم (٢٢) علويا ، وعلى رأسها السيدة فاطمة أخت
الرضا (ع) . فأرسل المأمون إلى هذه القافلة ؛ فقتل وشرد كل من فيها ،
وجرحوا هارون المذكور ، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه . وأما زعيمة
القافلة السيدة فاطمة بنت موسى (ع) ؛ فيقال إنها هي الاخرى قد دس إليها السم في
ساوة ؛ ولهذا لم تلبث إلا أياما قليلة واستشهدت .
وآخر من يذكره
المؤرخون من ضحايا المأمون : « حمزة بن موسى » ، أخا الإمام (ع) ؛ حيث ذكروا أنه
كان من جملة من قتلهم أتباع المأمون .
فيكون المأمون قد
قتل ستة ، بل سبعة من إخوة الإمام (ع) ؛ لأنهم طالبوه بدم أخيهم ، أو كادوا. وألحق
بهم ما شاء الله ممن تابعهم ، أو خرج معهم ..
ويقول الكاتب
الفارسي ، علي أكبر تشيد : « إن كثيرا من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان ، أيام
تولي الإمام العهد من المأمون ، لكن أكثرهم لم يصل ؛ وذلك بسبب استشهاد الإمام (ع)
، وأمر المأمون الحكام ، وأمراء البلاد بقتل ، أو القبض على كل علوي. » .
__________________
و في الشعر أيضا نجد ما يدل على
ذلك :
بل إن دعبلا
المعاصر للإمام والمأمون ، يرثي الإمام (ع) فيقول :
شككت : فما أدري
أمسقي شربة
|
|
فأبكيك أم ريب
الردى فيهون
|
أيا عجبا منهم :
يسمونك الرضا
|
|
ويلقاك منهم
كلحة وغضون
|
فدعبل لم يكن شاكا
في الأمر. بدليل البيت الثاني ، أعني قوله :
أيا عجبا منهم
يسمونك إلخ .. وبدليل مرثيته الاخرى للإمام ، التي يقول فيها :
لم يبق حي من
الأحياء نعلمه
|
|
من ذي يمان ولا
بكر ولا مضر
|
إلا وهم شركاء
في دمائهم
|
|
كما تشارك أيسار
على جزر
|
الى آخر الأبيات
.. ومهما شككت في شيء ، فإنني لا أشك في أن أقوال دعبل هذه هي التي دعتهم لاتهامه
بالزندقة ، والمروق من الدين ..
ويقول السوسي :
بأرض طوس نائي
الأوطان
|
|
إذ غره المأمون
بالأماني
|
حين سقاه السم في
الرمان
والقاضي التنوخي
أيضا يقول :
ومأمونكم سم
الرضا بعد بيعة
|
|
فآدت له شم
الجبال الرواسب
|
وأبو فراس أيضا يقول
في شافيته :
باءوا بقتل
الرضا من بعد بيعته
|
|
وأبصروا بعض يوم
رشدهم وعموا
|
__________________
عصابة شقيت من
بعد ما سعدت
|
|
ومعشر هلكوا من
بعد ما سلموا
|
لا بيعة ردعتهم
عن دمائهم
|
|
ولا يمين ، ولا
قربى ، ولا ذمم
|
وهكذا .. يتضح بما لا مجال معه للشك : أن كون المأمون هو الذي
اغتال الإمام قد كان معروفا لدى الناس ، وشائعا بينهم منذ ذلك الحين .. ولا غرابة
في ذلك فلقد كان وعد حاجبه ، وجمعا من العباسيين بأنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم
عنه مواد بلائه!!.
الإمام وآباؤه : يخبرون بشهادته :
وبعد كل ما تقدم
.. نرى أنه لا بد لنا قبل أن نأتي على آخر هذا الفصل من الاشارة إلى أن الإمام
نفسه قد أخبر أكثر من مرة بأنه سوف يقضي شهيدا بالسم ، بل لقد أخبر بذلك آباؤه
الطاهرون ، وغيرهم ممن عاشوا في ذلك الزمان ..
ونستطيع أن نقسم
هذه الروايات الكثيرة جدا إلى ثلاث طوائف :
١ ـ طائفة وردت
على لسان النبي (ص) ، والأئمة (ع) : يخبرون فيها عن استشهاد الإمام الرضا (ع) في طوس
، وهذه على ما يبدو خمسة أحاديث.
٢ ـ طائفة وردت عن
الإمام نفسه ، يخبر فيها بهذا الأمر ، وبأن المأمون نفسه هو الذي سوف يقدم على ذلك
، وأنه سوف يدفن في طوس إلى جنب هارون ..
وهذه الطائفة
كثيرة جدا ـ وفي بعضها يصرح بذلك للمأمون نفسه ، كما المحنا إليه ـ حتى إنه زاد في
قصيدة دعبل ؛ من أجل تتميم قصيدته قوله :
وقبر بطوس يا
لها من مصيبة
|
|
الحت على
الأحشاء بالزفرات
|
٣ ـ تلك الطائفة التي تشرح لنا كيفية دس السم إليه. وأنه
بالعنب ، أو بادخال الابر المسمومة فيه ، أو بالرمان ، أو بهما معا ، أو بغير ذلك
..
وهذه الطائفة
كثيرة أيضا ، وقد ورد بعضها عن الإمام نفسه. وقال بعض الكتاب : إنه تتبع هذه
الروايات ، فوجد انها تنتهي إلى ستة أشخاص ، هم :
أبو الصلت عبد
السلام الهروي ، والريان بن شبيب ، وهرثمة بن أعين ومحمد بن الجهم ،
وعلي بن الحسين الكاتب ، وعبد الله بن بشير ..
ولكنني قد راجعت
بدوري هذه الروايات ؛ فوجدت : أن عددا آخر غير هؤلاء قد رووا ذلك أيضا ..
وحتى الزيارة تؤكد على استشهاده
(ع) :
وأخيرا .. فقد ورد في الزيارة الجوادية قول الامام الجواد (ع) :
__________________
« السلام عليك من
إمام عصيب ، وامام نجيب ، وبعيد قريب ، ومسموم غريب .. »
وفي كامل الزيارة
لابن قولويه ، وهو من الكتب المعتمدة ، والموثوقة ، وغيره : قد ورد قولهم (ع) في
زيارته : « قتل الله من قتلك بالأيدي والألسن ». وفقرة أخرى في زيارته تقول : « السلام عليك أيها الشهيد
السعيد ، المظلوم المقتول .. إلى أن قال : لعن الله أمة قتلتك ، لعن الله أمة
ظلمتك ».
وأما قولهم (ع) :
أيها الصديق الشهيد ، فهي موجودة في غير مورد من زيارته ، وفي مختلف الكتب الموردة
لها.
القمة الشامخة الخالدة :
والآن .. وبعد أن
أصبح الصبح واضحا لكل ذي عينين ، وبان وظهر ما جهد المأمون ومن يدور في فلكه في
إخفائه وطمسه ـ الآن ـ قد آن لنا أن نقول :
فليكد المأمون
كيده ، وليسع سعيه ، وليناصب جهده ؛ فلقد بقي الإمام (ع) ، رغم كل مؤامراته
ودسائسه : قمة شامخة ، لم تدنسه الاهواء ، ولم تنل منه العوادي .. ويبقى ـ وإلى
الأبد ـ كعبة الزوار ، ومهوى الأفئدة ، من شرق الأرض وغربها ..
أما المأمون ..
فيبوء بعارها وشنارها ، ويذهب إلى .. لعنة الله والتاريخ.
__________________
دعبل والمأمون!! :
الموقف الجريء
جاء في أمالي
الشيخ ج ١ ص ٩٨ ، ٩٩ ، وأمالي المفيد ص ٢٠٠ ، ٢٠١ ، وط الحيدرية في النجف ص ١٩٢ ـ ١٩٣
والاغاني ٨ ص ٥٧ ، والغدير ج ٢ ص ٣٧٥ ، ٣٧٦ عنه ، وعن ابن عساكر في تاريخه ج ٥ ص
٢٣٣ وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ٩٤ ـ ٩٥ ما يلي :
عن يحيى بن أكثم ،
قال : إن المأمون أقدم دعبل ; ، وآمنه على نفسه ؛ فلما مثل بين يديه ، وكنت جالسا بين
يدي المأمون ؛ فقال له : أنشدني قصيدتك « الرائية » ؛ فجحدها دعبل ، وأنكر معرفتها
؛ فقال له : لك الأمان عليها كما آمنتك على نفسك ؛ فأنشده :
تأسفت جارتي لما
رأت زوري
|
|
وعدت الحلم ذنبا
غير مغتفر
|
ترجو الصبا بعد
ما شابت ذوائبها
|
|
وقد جرت طلقا في
حلبة الكبر
|
أجارتي : إن شيب
الدهر يعلمني
|
|
ذكر المعاد ،
وأرضاني عن القدر
|
لو كنت اركن
للدنيا وزينتها
|
|
إذن بكيت على
الماضين من نفر
|
أخنى الزمان على
أهلي فصدعهم
|
|
تصدع الشعب لاقى
صدمة الحجر
|
بعض أقام ، وبعض
قد أصار به
|
|
داعي المنية
والباقي على الأثر
|
أما المقيم :
فأخشى أن يفارقني
|
|
ولست أوبة من
ولى بمنتظر
|
أصبحت أخبر عن
أهلي وعن ولدي
|
|
كحالم قص رؤيا
بعد مدكر
|
لو لا تشاغل
عيني بالاولى سلفوا
|
|
من أهل بيت رسول
الله لم أقر
|
وفي مواليك
للحرين مشغلة
|
|
من أن تبيت
لمشغول على أثر
|
كم من ذراع لهم
بالطف بائنة
|
|
وعارض بصعيد
الترب منعفر
|
أمسى الحسين
ومسراهم لمقتله
|
|
وهم يقولون هذا
سيد البشر
|
يا أمة السوء ما
جازيت أحمد في
|
|
حسن البلاء على
التنزيل والسور
|
خلفتموه على
الأبناء حين مضى
|
|
خلافة الذئب في
إنفاد ذي بقر
|
قال يحيى :
وأنفذني المأمون في حاجة ؛ فقمت ، فعدت إليه ، وقد انتهى إلى قوله :
لم يبق حي من
الأحياء نعلمه
|
|
من ذي يمان ،
ولا بكر ، ولا مضر
|
إلا وهم شركاء
في دمائهم
|
|
كما تشارك أيسار
على جزر
|
قتلا ، وأسرا ،
وتخويفا ومنهبة
|
|
فعل الغزاة بأهل
الروم والخزر
|
أرى أمية
معذورين إن قتلوا
|
|
ولا أرى لبني
العباس من عذر
|
قوم قتلتم على
الاسلام أو لهم
|
|
حتى إذا
استمكنوا جازوا على الكفر
|
أبناء حرب ،
ومروان ، وأسرتهم
|
|
بنو معيط ، ولاة
الحقد والوغر
|
اربع بطوس على
قبر الزكي بها
|
|
إن كنت تربع من
دين على وطر
|
قبران في طوس :
خير الناس كلهم
|
|
وقبر شرهم ، هذا
من العبر
|
ما ينفع الرجس
من قرب الزكي ولا
|
|
على الزكي بقرب
الرجس من ضرر
|
هيهات كل امرئ
رهن بما كسبت
|
|
له يداه ؛ فخذ
من ذاك أو فذر
|
قال : فضرب
المأمون بعمامته الأرض ، وقال :
« صدقت والله يا
دعبل ».
كلمة ختامية :
وفي الختام :
فإنني أرجو أن
اكون قد وفقت في هذه الدراسة ، للكشف عن الحقائق التي أريد لها أن تبقى طي الكتمان
.. وأن يكون القارئ قد وجد فيها ما يصح أن يكون جوابا على الاسئلة الكثيرة ، التي
قد يثيرها لديه هذا الحدث التاريخي الهام ، الذي لم يكن طبيعيا وعادّيا ، كسائر ما
يجري وما يحدث ..
الإكثار من النصوص التاريخية في
الكتاب :
ولعل المطلع على
هذا الكتاب يكون قد لاحظ : أنني أكثرت فيه من النصوص التاريخية ، ولم يكن هدفي من
ذلك إلا أن لا يجد القارئ كبير عناء في استخلاص الحقائق ، بعيدا عن نزوات العاطفة
، وعترات الميول ..
ولا شك أنه يكون
قد لاحظ أيضا : أنني لم أحاول انتقاء ألفاظه ، ولا صياغة جمله صياغة فنية أنيقة ..
وإذا كنت مقتنعا بأن ذلك من مميزاته ، وحسناته ؛ لاعتقادي بأن ذلك هو ما تفرضه
طبيعة البحث
الموضوعي الهادئ
.. فلسوف لا أستغرب ، ولا أتألم إذا كان هناك الكثيرون ، ممن يعتقدون أنه عيب ونقص
، كان بالامكان تجنبه ، والابتعاد عنه .. ومع ذلك : فلن أجد نفسي مغبونا حين أقدم
ـ بإخلاص ـ اعتذاري لهم ، وطلب المسامحة ، وغض النظر منهم ..
رجاء واعتذار :
وإذا كان يجوز لي
أخيرا : أن أطلب من إخواني الاعزاء شيئا ؛ فان رجائي الأكيد من كل من يقرأ كتابي
هذا : أن يتحفني بملاحظاته ، وأن ينبهني لما يجده ، أو يراه خطأ ، أو نقصا ؛ فان
الإنسان ـ إلا من اصطفى الله ـ معرض للخطأ وللصواب .. وإذا كان كثيرا ما يكون له
فضل فيما أصاب ؛ فكثيرا ما يكون له العذر أيضا فيما أخطأ ..
شكر وتقدير :
هذا .. ولا يسعني
هنا الا أن أتقدم بجزيل شكري ، وعميق تقديري لسماحة حجة الاسلام المحقق السيد مهدي
الروحاني ، ولأصحاب السماحة والفضيلة ، من أساتذتي وإخواني ، الذين تفضلوا بمطالعة
هذا الكتاب ؛ حيث كان لآرائهم الصائبة ، وتوجيهاتهم السديدة ، وملاحظاتهم الدقيقة
أكبر الأثر على هذا الكتاب ، إن في الشكل ، وإن في المحتوى ..
وأخيرا .. فإنني
أتقدم أيضا بخالص شكري ، وفائق تقديري للقارئ الكريم ، الذي جعلني مدينا له ، بما
منحني من وقته ، وعقله ، وفكره .. وأرجو أن أكون قد وفقت للفوز بثقته أيضا ..
ولا أطيل عليك ـ قارئي
الكريم ـ ؛ فقد كان الفراغ من نقله إلى
المبيضة ليلة
الأحد السابع من صفر ، الساعة التاسعة منها سنة ١٣٩٦ ه. ق. الموافق ٨ شباط سنة
١٩٧٦ م ش.
والحمد لله ، وله
المنة ، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين ..
نزيل قم
المقدسة
|
جعفر
مرتضى الحسيني العاملي
|
رسالة نقد ، وجوابها
وبعد .. فان سماحة
الأخ الجليل ، والفاضل النبيل ، الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله ، قد تفضل مشكورا
برسالة .. أبدى فيها رضاه واعجابه بالكتاب ، ثم أشار فيها إلى المآخذ التالية :
١ ـ لقد ورد في ص
١٣٣ : أن زبيدة ، زوجة الرشيد ، كانت تتشيّع .. مع أن سلوكها ، وظروفها ، وأجواءها
، وأيضا تاريخ أهلها وذويها ـ كل ذلك يبعدها كل البعد عن نسبة التشيع لها ؛ لا
بمعناه الخاص ، ولا العام ، الذي يعني الوقوف مع الامام الكاظم 7 ضد خصومه ،
والتعاطف معه ، والاستنكار للظلم ..
وإرادة الرشيد
طلاقها لعله لمضايقتها له ، في محاولاتها منعه من التمتع بحسناوات القصر .. وأما
إحراق قبرها فهو لعدم تمييز العامة بين قبرها ، وبين قبور آل بويه ..
٢ ـ جاء في ص ١٣٣
أيضا : أن نكبة البرامكة يقال : ان سببها هو تشيعهم للعلويين ، وهذا لا يتلاءم مع
موقف يحيى حينما شكا إلى الرشيد أمر الكاظم 7 ، وشحن صدره غيظا على العلويين ، وبالأخص على الامام الرضا
7 منهم .. مع أن هذا ينافي ما ذكر في ص ٢٦٣ من أن البرامكة كانوا أعداء لأهل
البيت : ..
٣ ـ ما جاء في
هامش ص ٣٥٥ من عدم الجزم بأن الابيات ، التي أولها :
ذكروا بطلعتك
النبي محمدا إلخ ..
هي للبحترى ، وقد
كان اللازم الجزم بذلك ؛ لانسجام هذه الابيات مع سائر ابيات قصيدة البحتري .. هذا
بالاضافة إلى أن الشاعر يقول : ( حتى انتهيت الى المصلى لابسا ) ومعلوم أن الامام 7 لم يصل إلى
المصلى ، بل رجع من وسط الطريق .. الأمر الذي يدل على أن الأبيات قد قيلت في غير
الامام 7 ، وقضية صلاته ..
أما نحن فنقول :
ونستميح سماحة
الأخ العذر ، إذا أشرنا الى ما يلي ..
١ ـ أما بالنسبة
إلى النقطة الأولى ، وهي تشيع زبيدة ، فاننا نقول : إننا لربما نجدهم في كتب
التاريخ يقولون عن مثل المغيرة بن شعبة ، والاشعث بن قيس وامثالهما ممن بايع عليا 7 في خلافته ،
وكذلك كل من ناصر قضايا أهل البيت سياسيا ، وبذل نفسه في سبيلها : إنه من شيعة علي
7 وأهل البيت .. من دون نظر إلى سلوكه ، وميوله ، وعقائده ، ومذهبه .. وهذا
الاطلاق كان في الصدر الأول طبعا .. والمقصود منه : أنه من أتباع علي وأهل البيت
وانصارهم ..
وإذا تجاوز ناتلك
المرحلة .. فاننا لا بد وأن نؤكد على الفرق بين كلمتي « شيعي » ، و « تشيع » ..
فان « الشيعي » في اصطلاحهم هو من كان من الامامية ، أو الزيدية ، أو الكيسانية ،
أو غيرهم من فرق الشيعة.
وكلمة : « يتشيع »
، أو « فيه تشيع » يقصد منها في كتب المتقدمين من أهل السنة ـ كما يرى العلامة
المحقق السيد مهدي الروحاني ـ كل من كان يحب عليا 7 ، وأهل بيته الطاهرين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ..
ونشأت هذه الكلمة على شكل تهمة وطعن ؛ بتاثير من الاجهزة الحاكمة ، كمعاوية
والمروانيين بعده ، ثم كل الحكام المعادين لأهل البيت : ؛ فكانت المحبة
لأهل البيت ـ مجرد المحبة ـ تعدّ عند الناس أتباع السلطة الحاكمة جريمة كبرى ،
وعظيمة لا تغفر .. قال الكميت ; ..
بأي كتاب أم
بأية سنة
|
|
ترى حبهم عارا
علي وتحسب
|
وطائفة قد
كفرتني بحبكم
|
|
وطائفة قالوا
مسيء ومذنب
|
يعيبونني من
خبّهم وضلالهم
|
|
على حبكم ، بل
يسخرون وأعجب
|
فمحبة آل الرسول
كانت في دولة بني أمية تعدّ تشيعا ، استبشاعا لها ، وتقبيحا لأمرها ، ثم زالت بشاعتها
في عصر بني العباس لأمور تاريخية ذات طابع خاص ، حتى كان يطلق على كل من كان من
غير الشيعة كلمة « التشيع » ..
ولأجل هذا قال ابن
النديم في الفهرست : إن الامام الشافعي كان شديد التشيع ، وقالوا في محمد بن جرير
الطبري : فيه تشيع يسير ، وموالاة لا تضر .. مع أن من الواضح : انهما ليسا من
الشيعة .. وهذا الاطلاق يوجد كثيرا في كتب التراجم والرجال في مقام الجرح والتعديل
..
وعلى كل حال ..
فان هذا الفرق بين « الشيعة » و « المتشيعة » قد خفي على سيدنا آية الله الامام
شرف الدين ; ؛ حيث إنه .. قد ذكر عددا ممن كان فيه « تشيّع » فجعلهم من « الشيعة » ..
ولعل الذي أوقعه
في الاشتباه هو أن بعض « أهل الجرح والتعديل » ممن تغلب عليه نزعة النصب ، قد عدّ
جماعة من هؤلاء « المتشيعة » من الروافض ، توهينا لنزعتهم ، وتسفيها لرأيهم في
محبة علي 7 وأهل بيته الطاهرين.
وهارون الرشيد كان
ناصبيا ، وقد تقدم في فصل « موقف العباسيين من العلويين » وغيره بعض مواقفه
وأفعاله .. فلعله لما رأى حب زوجته لأهل البيت أراد طلاقها ..
وواضح .. أن «
التشيع » على النحو الذي ذكرناه ، لا يتنافى ، ولا يتعارض مع الاعلان عن مواقف هي
ضد الجهة التي يتعاطف معها ، بوحي من مصالحه المعيشية والأمنية ونحوها .. كما أنه
لا يتنافى ، ولا يتعارض مع عدم الالتزام العملي بالتعاليم المذهبية ، بل إنه قد
يكون مستهترا عملا ، وينتهج سلوكا شاذا ، وبعيدا عن روح وتعاليم الدين الحنيف. ومع
ذلك يدّعي أنه ملتزم بدين ، ومنتم إلى مذهب ، شأن الكثيرين من السياسيين من
المعاصرين وغيرهم .. كما أنه لا ملازمة بين التشيع وبين وجوب القيام بثورة مسلحة
ضد نظام الحكم القائم .. وعليه .. فتشيّع زبيدة ربما يكون مقتصرا على هذا التعاطف
والحب لأهل البيت ، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكره سماحة الأخ الكريم.
كما أن من البعيد
جدا : أن لا يكون قبر زبيدة ، أعظم عباسية في التاريخ متميزا ، ومعروفا لدى الناس
، حتى العامة منهم .. كما أن تعليل طلاقه لها بأنها : كانت تضايقه ، وتمنعه من
التمتع بحسناوات القصر ، ما هو إلا اجتهاد في مقابل النص!! ..
٢ ـ وأما البرامكة
، فان ما ذكره الأخ لم يغب عن بالي وقتها ، وهو صحيح مائة بالمائة .. ولكنه لا
يعني أن النص الآخر كذب محض ؛ إذ ربما يكون القصد منه : ليس أنهم كانوا يتشيعون
حقيقة ، وإنما المراد أنه : حين رأى الرشيد نفوذهم وقوتهم ، وخافهم على الملك ،
تعلل عليهم بذلك ؛ ليقتلهم ، ويتخلص منهم ..
كما أنه ليس من
البعيد .. أنهم كانوا يجارون التيّار ، فيتظاهرون بالتشيع للعلويين ؛ ليحافظوا على
مكانتهم في العامة .. في نفس الوقت الذي كانوا يتآمرون فيه على آل علي 7 ، ويبغون لهم فيه
الغوائل ، تماما ، كما كان المتوكل يكرم الهادى 7 في الظاهر ، ويبغى له الغوائل في الباطن والشواهد
التاريخية على مثل هذا كثيرة جدا ..
٣ ـ وأما قضية
الشعر .. فاننا لا نصرّ على أنه للبحري .. وإن كنا قد اشرنا إلى أن من الجائز أن
يكون البحترى قد أخذه على سبيل الاستشهاد ، والتضمين ؛ فان ذلك أمر شائع ومعروف
بين الشعراء .. كما أنني قد بينت أن من الجائز أن يكون البحترى قد صحف عمدا أو
سهوا فصار : البحري .. كما أنه قد يكون العكس هو الصحيح. وأما أنه لم يصل الى
المصلى ، فان للشاعر ان يدعي ذلك اذا كان الامام (ع) قد قرب منه على سبيل
المبالغة.
وبعد .. فاننا
نستميح الأخ الشيخ العذر ، ونسأل الله له دوام التوفيق والتسديد.
جعفر مرتضى
الحسيني العاملي ..
٢٢ / ١ / ١٤٠٠ ه.
ق.
وثائق هامة
١ ـ رسالة الفضل
بن سهل الى الامام (ع).
٢ ـ وثيقة ولاية
العهد.
٣ ـ رسالة المأمون
الى العباسيين.
٤ ـ رسالة عبد
الله بن موسى إلى المأمون.
٥ ـ رسالة سفيان
إلى هارون.
قصيدة الأمير أبي
فراس الحمداني.
رسالة الفضل بن سهل الى الامام (ع)
هذه الرسالة :
هذه الرسالة هي
التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الامام (ع) ، يطلب فيها منه القدوم ، من أجل عقد
ولاية العهد له ..
وقد اطلعت عليها
في وقت متأخر ، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب ..
ونظرا لأهميتها ..
فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة ، ليطلع عليها القارئ بنفسه ..
وقد أورد هذه
الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد ، بن عبد الكريم الرافعي ، الشافعي ،
القزويني ، المتوفى سنة ٦٢٣ ه. في كتابه : « التدوين ».
والكتاب موجود منه
نسختان خطيتان : إحداهما في مكتبة « ناصرية » القسم الثاني رقم ٧٨٢ في لكنهو.
والاخرى : خطية أيضا موجودة في الاسكندرية .. وهناك نسختان مصورتان عنهما :
إحداهما : في مكتبة دفتر تبليغات اسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو ، والاخرى : في
مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الاسكندرية.
وهي في النسخة
المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني .. وفي المصورة عن مكتبة الاسكندرية
موجودة في ج ٤ ص ٥١. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج ١٢ من ملحقات
الإحقاق ص ٣٨١ ، ٣٨٢ :
نص الرسالة :
قال في التدوين :
والنص لنسخة : لكنهو :
ولما عزم المأمون
على تفويض العهد إليه ( أي إلى الرضا ) ، بسعي ذي الرئاستين الفضل بن سهل .. كتب
إليه ذو الرئاستين :
بسم الله الرحمن الرحيم :
لعلي بن موسى
الرضا ، وابن رسول الله المصطفى ، المهتدى بهديه ، المقتدى بفعله ، الحافظ لدين
الله ، الخازن لوحي الله ، من وليه الفضل ابن سهل ، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته
، ووصل ليله فيه بنهاره ..
سلام عليك أيها
المهتدي ورحمة الله وبركاته.
فاني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.
أما بعد :
فإني أرجو أن الله
قد أدّى لك ، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك ، وأن يعظم مننه عليك ، وأن يجعلك
الامام الوارث. ويري أعداك ، ومن رغب عنك ، منك ما كانوا يحذرون ..
وإن كتابي هذا عن
إزماع من أمير المؤمنين ، عبد الله الامام المأمون
ومني : على رد
مظلمتك عليك ، وإثبات حقوقك في يديك ، والتخلي منها إليك ، على ما أسأل الله الذي
وقف عليه : أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين ، وعند الله من الفائزين ، ولحق
رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين ، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا
الحسنتين .
فإذا أتاك كتابي ـ
جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك ، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين ، الذي
يراك شريكا في أمره ، وشفيعا في نسبه ، وأولى الناس بما تحت يده .. فعلت ما أنا
بخيرة الله محفوفا ، وبملائكته محفوظا ، وبكلاءته محروسا. وإن الله كفيل لك بكل ما
يجمع حسن العائدة عليك ، وصلاح الامة بك ..
وحسبنا الله ونعم
الوكيل ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ..
وكتبت بخطي ..
__________________
وثيقة ولاية العهد
مصادر الوثيقة :
نذكر من المصادر
التي أوردت هذه الوثيقة ، على سبيل المثال لا الحصر :
القلقشندي في صبح
الأعشى ج ٩ من ص ٣٦٢ ، إلى ص ٣٦٦ ، وأكملها بذكر ما كتبه الرضا (ع) والشهود في نفس
الجزء من ٣٩١ وحتى ٣٩٣ ، وأوردها أيضا في مآثر الانافة في معالم الخلافة ج ٢ من ص
٣٢٥ حتى ص ٣٣٦. ، وهي أيضا في شرح ميمية أبي فراس من ٢٩٩ إلى ٣٠٣. وفي نور الابصار
١٤٢ ، ١٤٣ ، وفي البحار ج ٤٩ ص ١٤٨ ، إلى ١٥٣ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ من ص
١٠٢ إلى ص ١٠٧ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص ٢٩٣ ، ووسيلة النجاة
لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص ٣٨٧ ، طبع لكنهو ، ورواها أيضا الكاشاني في معادن
الحكمة ، والشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف مختصرا وابن شهر اشوب في مناقب آل أبي
طالب ، والاربلي في كشف الغمة ، والسيد الامين في المجالس السنية ، وأعيان الشيعة
، وابن الجوزي في التذكرة ، وذكر الأخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين. وعن
التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده ، والاربلي أيضا يقول
بأنها كانت موجودة
في عهده ، وأنه في سنة سبعين وستمائة اطلع على وثيقة العهد الأصلية ، ونقلها في
كتابه حرفا فحرفا .. وأشار إليها أيضا ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية.
وغير هؤلاء كثير
.. ونحن نذكر الوثيقة موافقة لما في صبح الاعشى ، ومآثر الانافة ، فنقول :
نص الوثيقة :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ :
هذا كتاب كتبه عبد
الله بن هارون الرشيد ، أمير المؤمنين ، لعلي بن موسى بن جعفر ، ولي عهده ..
أما بعد :
فإن الله عز وجل
اصطفى الاسلام دينا ، واصطفى من عباده رسلا دالين عليه ، وهادين إليه ، يبشر أولهم
بآخرهم ، ويصدق تاليهم ماضيهم ، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (ص) ، على فترة من
الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به
النبيين ، وجعله شاهدا لهم ، ومهيمنا عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز ، الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، بما أحل وحرم ،
ووعد وأوعد ، وحذر وأنذر ، وأمر به ، ونهى عنه ؛ لتكون له الحجة البالغة على خلقه
؛ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم ..
فبلغ عن الله
رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به : من الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة
بالتي هي أحسن ، ثم بالجهاد والغلظة ،
حتى قبضه الله
إليه ، واختار له ما عنده (ص) ؛ فلما انقضت النبوة ، وختم الله بمحمد (ص) الوحي
والرسالة ، جعل قوام الدين ، ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، واتمامها وعزها ،
والقيام بحق الله فيها بالطاعة ، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده ، وشرائع
الاسلام وسننه ، ويجاهد بها عدوه ..
فعلى خلفاء الله
طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ،
ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبيل ، وحقن الدماء ، وصلاح ذات البين
، وجمع الالفة. وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين ، واختلالهم ، واختلاف ملتهم ،
وقهر دينهم ، واستعلاء عدوهم ، وتفرق الكلمة ، وخسران الدنيا والآخرة
فحق على من
استخلفه الله في أرضه ، وائتمنه على خلقه ، أن يجهد الله نفسه ، ويؤثر ما فيه رضا
الله وطاعته ، ويعتد لما الله مواقفه عليه ، ومسائله عنه. ويحكم بالحق ، ويعمل
بالعدل فيما أحله الله وقلده ؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود : « يا داود إنا
جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ، ولا تتبع الهوى ، فيضلك عن سبيل الله
، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ». وقال الله عز
وجل : « فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » ، وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال
: « لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات ، لتخوفت أن يسألني الله عنها ».
وأيم الله ، إن
المسئول عن خاصة نفسه ، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله ، ليعرض على أمر
كبير ، وعلى خطر عظيم ، فكيف بالمسؤول عن رعاية الامة. وبالله الثقة ، وإليه
المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة ، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ،
والفوز من الله بالرضوان والرحمة ..
وأنظر الامة لنفسه
، وأنصحهم لله في دينه وعباده ، من خلائقه في أرضه ، من عمل بطاعة الله وكتابه ،
وسنة نبيه (ص) في مدة أيامه ، وبعدها ، وأجهد رأيه فيمن يوليه عهده ، ويختاره
لامامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علما لهم ، ومفزعا في جمع الفتهم ، ولمّ
شعثهم ، وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فرقتهم ، وفساد ذات بينهم واختلافهم ،
ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم ، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام
الاسلام وكماله ، وعزه ، وصلاح أهله ، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من
بعدهم من عظمت به النعمة ، وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق
والعداوة ، والسعي والفرقة ، والتربص للفتنة.
ولم يزل أمير
المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة ، فاختبر بشاعة مذاقها ، وثقل محملها ، وشدة
مؤونتها ، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمله منها ،
فأنصب بدنه ، وأسهر عينه ، وأطال فكره فيما فيه عز الدين ، وقمع المشركين ، وصلاح
الامة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة. ومنعه ذلك من الخفض والدعة ، ومهنأ
العيش ، علما بما الله سائله عنه ، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه ، وعباده
، ومختارا لولاية عهده ، ورعاية الامة من بعده : أفضل من يقدر عليه : في دينه
وورعه ، وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه ، مناجيا بالاستخارة في ذلك ،
ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته ، في آناء ليله ونهاره. معملا في طلبه والتماسه
في أهل بيته : من ولد عبد الله بن العباس ، وعلي بن أبي طالب فكره ، ونظره. مقتصرا
ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده
وطاقته .. حتى استقصى أمورهم معرفة ، وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم
معاينة ، وكشف ما عندهم مساءلة ، فكان خيرته بعد
استخارته الله ،
وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده ، في البيتين جميعا :
علي بـن موسى ، بـن جعفر ، بـن محمد
ابن علي ، بن الحسين ، بن علي ، بن أبي طالب
لما رأى من فضله
البارع ، وعلمه النافع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه
من الناس ..
وقد استبان له ما
لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم
يزل يعرفه به من الفضل : يافعا ، وناشئا ، وحدثا ، ومكتهلا ، فعقد له بالعقد
والخلافة من بعده .. واثقا بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله أنه فعله إيثارا
له ، وللدين ، ونظرا للاسلام والمسلمين ، وطلبا للسلامة ، وثبات الحجة ، والنجاة
في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
ودعا أمير
المؤمنين ولده ، وأهل بيته ، وخاصته ، وقواده ، وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين ،
عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ، ممن هو أشبك
منه رحما ، وأقرب قرابة.
وسماه « الرضا » ؛ إذ كان رضا عند
أمير المؤمنين.
__________________
فبايعوا معشر أهل
بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة ، من قواده وجنده ، وعامة المسلمين ،
لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده علي ابن موسى على اسمه وبركته ، وحسن قضائه لدينه
وعباده ، بيعة مبسوطة إليها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد أمير
المؤمنين ، بها ، وآثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين الله على ما
ألهم أمير المؤمنين بها : من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ،
راجين عائدة ذلك في جمع الفتكم ، وحقن دمائكم ، ولمّ شعثكم ، وسد ثغوركم ، وقوة
دينكم ، ورغم عدوكم ، واستقامة أموركم.
وسارعوا إلى طاعة
الله ، وطاعة أمير المؤمنين ؛ فإنه الأمن إن سارعتم إليه ، وحمدتم الله عليه ،
عرفتم الحظ فيه إن شاء الله.
وكتب بيده يوم
الاثنين ، لسبع خلون من شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين ..
قال القلقشندي : «
ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى ، وقال له : اكتب خطك بقبول هذا العهد ، وأشهد الله ،
والحاضرين عليك بما تعده في حق الله ، ورعاية المسلمين ، فكتب علي الرضا تحته إلخ
.. ».
صورة ما كان على ظهر العهد ،
بخط الامام علي بن موسى الرضا 8
بسم الله الرحمن الرحيم :
الحمد لله الفعال
لما يشاء ، ولا معقب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي
الصدور. وصلاته على نبيه محمد ، خاتم النبيين ، وآله الطيبين الطاهرين ..
أقول ـ وأنا علي
بن موسى الرضا بن جعفر ـ : إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ، ووفقه للرشاد ،
عرف من حقنا ما جهله غيره ؛
فوصل أرحاما قطعت
، وأمن أنفسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضا رب
العالمين ، لا يريد جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ، ولا يضيع أجر المحسنين
..
وإنه جعل إليّ
عهده ، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدها ، وفصم
عروة أحب الله إيثاقها ، فقد أباح الله حريمه ، وأحل محرمه ، إذ كان بذلك زاريا
على الإمام ، منتهكا حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم
يعترض على العزمات ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر
الجاهلية ، ورصد فرصة تنتهز ، وبائقة تبتدر ..
وقد جعلت الله على
نفسي ، إن استرعاني أمر المسلمين ، وقلدني خلافته : العمل فيهم عامة ، وفي بني
العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته ، وطاعة رسوله (ص) ، وأن لا أسفك دما حراما ،
ولا أبيح فرجا ، ولا مالا ، إلا ما سفكته حدود الله ، وأباحته فرائضه. وأن أتخير
الكفاة جهدي وطاقتي. وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا ، يسألني الله عنه ؛ فإنه عز
وجل يقول : « وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسئولا ».
وإن أحدثت ، أو
غيرت ، أو بدلت ، كنت للغير مستحقا ، وللنكال متعرضا. وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه
أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته ، في عافية لي وللمسلمين ..
والجامعة والجفر
يدلان على ضد ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن الحكم إلا لله ، يقضي بالحق ، وهو خير
الفاصلين ..
__________________
لكنني امتثلت أمر
أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي بذلك ،
وكفى بالله شهيدا ..
وكتبت بخطي ،
بحضرة أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه ، والفضل ابن سهل ، وسهل بن الفضل ، ويحيى
بن اكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحماد بن
النعمان ، في شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين ..
الشهود على الجانب الأيمن :
شهد يحيى بن أكثم
على مضمون هذا المكتوب ، ظهره ، وبطنه.
وهو يسأل الله :
أن يعرف أمير المؤمنين ، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد ، والميثاق. وكتب بخطه في
تاريخ المبيّن فيه ..
عبد الله بن طاهر
بن الحسين ، أثبت شهادته فيه بتاريخه.
شهد حماد بن
النعمان بمضمونه : ظهره وبطنه ، وكتب بيده في تاريخه.
بشر بن المعتمر
يشهد بمثل ذلك.
الشهود على الجانب الأيسر :
رسم أمير المؤمنين
، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة ، التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها
الصراط ، ظهرها وبطنها ، بحرم سيدنا رسول الله (ص) ، بين الروضة والمنبر ، على
رءوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وساير الأولياء والأجناد ، بعد
استيفاء شروط البيعة عليهم ، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع
المسلمين ، ولتبطل
الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين : « وما كان الله ليذر المؤمنين على ما
أنتم عليه » ..
وكتب الفضل بن سهل
بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه .
انتهى ..
__________________
رسالة المأمون الى العباسيين
مصادر الكتاب :
هذا الكتاب مذكور
في طرائف ابن طاوس ، الترجمة الفارسية من ص ١٣١ ، إلى ص ١٣٥ ، نقلا عن كتاب نديم
الفريد ، لابن مسكويه ، صاحب كتاب حوادث الاسلام .. وفي البحار للعلامة المجلسي ج
٤٩ من ص ٢٠٨ إلى ص ٢١٤ ، وفي قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٥٦ ، إلى ٣٦٠ ، وفي ينابيع
المودة للقندوزي الحنفي ص ٤٨٤ ، ٤٨٥ مختصرا ، ونقل في الغدير ج ١ ص ٢١٢ قسما منه
عن عبقات الأنوار للهندي ج ١ ص ١٤٧ ، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين ..
نص الكتاب :
كتب العباسيون
كتابا إلى المأمون ، وطلبوا منه الاجابة عليه ؛ فأجابهم بما يلي :
« بسم الله الرحمن
الرحيم : والحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على محمد وآل محمد ، على رغم أنف الراغمين ..
أما بعد :
عرف المأمون
كتابكم ، وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم
مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم ، في مراوضة الباطل ، وصرف وجوه
الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله والآثار ، وكلما جاءكم به الصادق محمد (ع) ،
حتى كأنكم من الامم السالفة ، التي هلكت بالخسفة ، والغرق ، والريح ، والصيحة ،
والصواعق ، والرجم ..
أفلا يتدبرون
القرآن أم على قلوب أقفالها؟ .. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد ، لو لا
أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم ؛ من سوء أخلاقكم ، وقلة
أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ؛ فليستمع مستمع ،
فليبلغ شاهد غائبا ..
أما بعد :
فإن الله تعالى
بعث محمدا على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها ، وأموالها ، لا يرون أحدا يساميهم
، ولا يباريهم ، فكان نبينا (ص) أمينا من أوسطهم بيتا ، وأقلهم مالا ؛ فكان أول من
آمن به خديجة بنت خويلد ؛ فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
سبع سنين ، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ، ولم يأكل ربا ، ولم
يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين ، أو كافر
معاند ، إلا حمزة ؛ فإنه لم يمتنع من الاسلام ، ولا يمتنع الاسلام منه ، فمضى
لسبيله على بينة من ربه ..
وأما أبو طالب :
فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ، ومانعا منه ؛ فلما قبض الله أبا طالب ،
فهمّ القوم ، وأجمعوا عليه ليقتلوه ؛
فهاجر إلى القوم
الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم
حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون ..
فلم يقم مع رسول
الله (ص) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع) : فإنه آزره ووقاه بنفسه ،
ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكا بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل
عن قرن ، ولا يولي عن جيش ، منيع القلب ، يؤمر على الجميع ، ولا يؤمر عليه أحد.
أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله ،
وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام.
وهو صاحب الولاية
في حديث « غدير خم » ، وصاحب قوله : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا
نبي بعدي » ، وصاحب يوم الطائف. وكان أحب الخلق إلى الله تعالى ، وإلى رسول الله (ص).
وصاحب الباب ، فتح له ، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر. وصاحب عمرو
بن عبد ود في المبارزة. وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين ..
وهو منيع جزيل.
وهو صاحب آية : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا ». وهو زوج
فاطمة سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة ، وهو ختن خديجة (ع). وهو ابن عم
رسول الله (ص) ، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله
(ص) في يوم المباهلة.
وهو الذي لم يكن
أبو بكر وعمر ينفذان أمرا حتى يسألانه عنه ؛ فما رأى إنفاذه أنفذاه ، وما لم يره
رداه. وهو دخل من بني هاشم في
الشورى ، ولعمري
لو قدر أصحابه على دفعه عنه (ع) ، كما دفع العباس رضوان الله عليه ، ووجدوا إلى
ذلك سبيلا لدفعوه.
فأما تقديمكم
العباس عليه ؛ فإن الله تعالى يقول : « أجعلتم سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام
كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ، لا يستوون عند الله ».
والله ، لو كان ما
في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل ، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل
من رجالكم ، أو غيره ، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة ، مقدما على أصحاب رسول الله
بتلك الخلة ، ثم لم يزل الامور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد
من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس ، تعظيما لحقه ، ووصلة لرحمه ، وثقة به ، فكان
من أمره الذي يغفر الله له ..
ثم .. نحن وهم يد
واحدة ـ كما زعمتم ـ حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا ، فأخفناهم ، وضيقنا عليهم ،
وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم .. ويحكم ، إن بني أمية إنما قتلوا من سل
منهم سيفا ، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا ، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب
قتلت ، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء ،
هيهات ، إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ..
وأما ما وصفتم في
أمر المخلوع ، وما كان فيه من لبس ؛ فلعمري ما لبّس عليه أحد غيركم ؛ إذ هونتم
عليه النكث ، وزينتم له الغدر ، وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك ، وهو رجل
مغرب ، ومعك الأموال والرجال ، نبعث إليه ، فيؤتى به ؛ فكذبتم ، ودبرتم ،
__________________
ونسيم قول الله
تعالى : « ومن بغي عليه لينصرنه الله .. ».
وأما ما ذكرتم :
من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا (ع) ؛ فما بايع له المأمون إلا مستبصرا
في أمره ، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع
ورعا ، ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ،
ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما
أجد في الله لومة لائم ..
ولعمري ، لو كانت
بيعتي بيعة محاباة ، لكان العباس ابني ، وسائر ولدي أحب إلى قلبي ، وأجلى في عيني
، ولكن أردت أمرا ، وأراد الله أمرا ؛ فلم يسبق أمري أمر الله.
وأما ما ذكرتم :
مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، علي
( خ د ) ، وممايلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد ، فطورا أتباعا لابن أبي
خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي.
ولو لا أن شيمتي العفو ، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم
حلال الدم ، محل بنفسه ..
وأما ما سألتم :
من البيعة للعباس ابني .. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم ، إن
العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ، ولم تحكمه التجارب. تدبره
النساء ، وتكفله الاماء ، ثم .. لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا
معرفة لا تأتي به رعية ، ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا ، قد أحكمته التجارب ،
وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا ، وصرف النفس عنها ..
ما كان له عندي في الخلافة ، إلا ما كان لرجل من عك وحمير ، فلا تكثروا من هذا
المقال ، فإن لساني لم
يزل مخزونا عن
أمور وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عند ما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ،
ومظهر قضاه يوما ..
فإذ أبيتم إلا كشف
الغطاء ، وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه ، وعما وجده في كتاب الدولة ،
وغيرها : أن السابع من ولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال
النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودّعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا
فقدتم شخصي ، فاطلبوا لأنفسكم معقلا ، وهيهات ، ما لكم إلا السيف ، يأتيكم الحسني
الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغّم ، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم
إلا بحقها ..
وأما ما كنت أردته
من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، واختيار مني له ، فما كان
ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا
وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما
يصيبهم منه.
وإن تزعموا : أني
أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ولعقبكم ،
وابنائكم من بعدكم .. وأنتم ساهون ، لاهون ، تائهون ، في غمرة تعمهون ، لا تعلمون
ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي
مركوبا ، ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها ، وآلهتكم البرابط ، مخنثون
، مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ، ولا استدامة نعمة ، ولا اصطناع
مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله
بقلب سليم ..
أضعتم الصلاة ،
واتبعتم الشهوات ، واكببتم على اللذات ، فسوف تلقون غيا. وأيم الله ، لربما أفكر
في أمركم ، فلا أجد أمة من الامم استحقوا
العذاب ، حتى نزل
بهم لخلة من الخلال ، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم ، مع خلال كثيرة ، لم أكن
أظن أن إبليس اهتدى إليها ، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه
العزيز عن قوم صالح :
أنه كان فيهم تسعة
رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض
، قد اتخذتموهم شعارا ، ودثارا ، استخفافا بالمعاد ، وقلة يقين بالحساب. وأيكم له
رأي يتبع ، أو روية تنفع ، فشاهت الوجوه ، وعفرت الخدود.
وأما ما ذكرتم :
من العثرة كانت في أبي الحسن (ع) نور الله وجهه ، فلعمري. إنها عندي للنهضة
والاستقلال ، الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع
الاكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك ، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله ، وأين
لي بذلك ، وأنى لكم بتلك السعادة ..
وأما قولكم : إني
سفهت آراء آبائكم ، وأحلام أسلافكم ، فكذلك قال مشركوا قريش : « إنا وجدنا آباءنا
على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ». ويلكم ، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ،
فافقهوا ، وما أراكم تعقلون ..
وأما تعييركم إياي
: بسياسة المجوس إياكم ، فما أذهبكم الانفة من ذلك ، ولو ساستكم القردة والخنازير ، وما أردتم إلا
أمير المؤمنين .. ولعمري ، لقد كانوا مجوسا فأسلموا ، كآبائنا ، وأمهاتنا في
القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير
من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ،
ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ،
__________________
يتباهجون بما نال
الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير .. منهم من قضى
نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا.
وليس منكم إلا
لاعب بنفسه ، مأفون في عقله وتدبيره : إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر. والله ، لو
أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ، فقيل لهم : لا تأنفوا من معايب تنالوهم
بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا ..
ليس منكم إلا من
إذا مسه الشر جزع ، وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ، ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف
يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب حمدا ، غايته بطنه وفرجه
، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين
له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة ، وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال
.. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح ، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم
.. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد ..
ولا قوة إلا بالله
، وعليه توكلي ، وهو حسبي ».
رسالة عبد الله بن موسى الى المأمون
النص الأول للرسالة :
قال أبو الفرج
الاصفهاني ، صاحب كتاب « الأغاني » ، في كتابه : مقاتل الطالبيين ص ٦٣٠ ، ٦٣١ ، في
معرض حديثه عن عبد الله بن موسى ، بن عبد الله بن الحسن ، بن علي بن أبي طالب (ع)
، الذي كان قد توارى في أيام المأمون :
« .. وأخبرني جعفر
بن محمد الورّاق الكوفي ، قال : حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي
الحسيني ، عن أبيه ، قال :
كتب المأمون إلى
عبد الله بن موسى ، وهو متوار منه ، يعطيه الأمان ، ويضمن له : أن يوليه العهد
بعده ، كما فعل بعلي بن موسى ، ويقول :
« .. ما ظننت أن
أحدا من آل أبي طالب يخافني ، بعد ما عملته بالرضا .. ».
وبعث الكتاب إليه.
فكتب إليه عبد الله بن موسى :
« .. وصل كتابك ،
وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال علي حيلة المغتال ، القاصد لسفك
دمي ..
وعجبت من بذلك
العهد ، وولايته لي بعدك ؛ كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا!! ففي أي شيء
ظننت أني أرغب من ذلك؟!. أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟!. فو الله ، لأن
أقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمرا بين المسلمين ، أو أشرب
شربة من غير حلها ، مع عطش شديد قاتل ..
أم في العنب
المسموم ، الذي قتلت به الرضا؟!.
أم ظننت أن
الاستتار قد أملني ، وضاق به صدري؟!. فو الله ، إني لذلك ، ولقد مللت الحياة ،
وأبغضت الدنيا ، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك ، حتى تبلغ من قبلي مرادك ،
لفعلت ذلك ، ولكنّ الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي ، من غير أن
أبذل نفسي لك ، فتقتلني ، ولقيت الله عز وجل بدمي ، ولقيته قتيلا مظلوما ؛ فاسترحت
من هذه الدنيا ..
واعلم : أني رجل
طالب النجاة لنفسي ، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عني ، وفي عمل أتقرب به إليه ؛
فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك ، فرجعت إلى القرآن ، الذي فيه الهدى والشفاء ،
فتصفحته سورة سورة ، وآية آية ، فلم أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه ، من الشهادة في
طلب مرضاته ..
ثم تتبعته ثانية ،
أتأمل الجهاد أيّه أفضل ، ولأي صنف ، فوجدته جل وعلا يقول : « قاتلوا الذين يلونكم
من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام ، وأقرب من
موضعي ، فلم أجد أضر على الاسلام منك ، لأن الكفار أظهروا كفرهم ، فاستبصر الناس
في أمرهم ، وعرفوهم فخافوهم .. وأنت ختلت المسلمين بالإسلام ، وأسررت الكفر ،
فقتلت بالظنة ، وعاقبت بالتهمة ، وأخذت مال الله من غير حله ، فأنفقته في غير حله
، وشربت الخمر المحرمة صراحا ،
وأنفقت مال الله
على الملهين ، وأعطيته المغنين ، ومنعته من حقوق المسلمين ، فغششت بالاسلام ،
وأحطت بأقطاره إحاطة أهله ، وحكمت فيه للمشرك ، وخالفت الله ورسوله في ذلك ، خلافة
المضاد المعاند ، فان يسعدني الدهر ، ويعنّي الله عليك بأنصار الحق ، أبذل نفسي في
جهادك ، بذلا يرضيه مني ، وان يمهلك ، ويؤخرك ، ليجزيك بما تستحقه في منقلبك ، أو
تختر مني الأيام قبل ذلك ، فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي ، والسلام
.. ».
وثمة نص آخر :
وكان أبو الفرج قد
ذكر قبل ذلك أي في ص ٦٢٨ ، ٦٢٩ من نفس الكتاب نصا آخر هو إما رسالة أخرى .. أو نص
آخر لهذه الرسالة نفسها .. والظاهر أنه رسالة اخرى .. وكيف كان فقد قال أبو الفرج
:
« وكان عبد الله
توارى في أيام المأمون ، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ، ليجعله مكانه ،
ويبايع له ، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله ، وما أشبه هذا من القول :
فأجابه عبد الله
برسالة طويلة يقول فيها :
فبأي شيء تغرني؟
ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.
والله ، ما يقعدني
عن ذلك خوف من الموت ، ولا كراهة له ، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ،
ولو لا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.
ويقول فيها :
هبني لا ثأر لي
عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا ، الآخذين حقنا ،
الذين جاهروا في
أمرنا فحذرناهم ، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا ،
تختل واحدا فواحدا منا. ولكنني كنت امرأ حبب إليّ الجهاد ، كما حبب إلى كل امرئ
بغيته ، فشحذت سيفي ، وركبت سناني على رمحي ، واستفرهت فرسي ، لم أدر أي العدوّ
أشد ضررا على الإسلام ، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء ، فقرأته ، فإذا فيه : «
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ..
فما أدري من يلينا
منهم ، فأعدت النظر ، فوجدته يقول : « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادّون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم » ،
فعلمت أن عليّ أن أبدأ بما قرب مني ..
وتدبرت ، فإذا أنت
أضر على الاسلام والمسلمين من كل عدو لهم ، لأن الكفار خرجوا منه ، وخالفوه ،
فحذرهم الناس ، وقاتلوهم ، وأنت دخلت فيه ظاهرا ، فأمسك الناس ، وطفقت تنقض عراه عروة
عروة ، فأنت أشد أعداء الإسلام ضررا عليه .. » .. ثم قال أبو الفرج : وهي رسالة
طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير ..
رسالة سفيان الى هارون
مصادر الرسالة :
ذكر هذه الرسالة
الدميري في حياة الحيوان ج ٢ ص ١٨٨ ، ١٨٩ ، نقلا عن ابن بليان ، والامام الغزالي ،
ودحلان في الفتوحات الاسلامية ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٤٤٩ حتى ٤٥٣.
وأشار إليها ابن
خلدون في مقدمته ، ص ١٧ مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه .. وذكر جرجي زيدان
شطرا منها في كتابه : تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الأول ، جزء ٢ ص ٣٨٥ ، ٣٨٦ ،
والمجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٨٠. ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان.
مناقشة لا بد منها :
ولكن الرسالة تذكر
أن الذي كاتبه الرشيد ، والمجيب له هو سفيان الثوري .. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا
؛ فان سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا ، في سنة ١٦١ ه ؛ وهارون لم يتولّ
الخلافة إلا في سنة ١٧٠ ه.
ولعل الصواب : هو
أن مرسلها هو : إمام مكة سفيان بن عيينة ، المتوفى سنة ١٩٨ ه. عن إحدى وتسعين سنة
..
ولعل الراوي قد
اشتبه عليه الأمر ، عفوا ، أو عمدا!! لحاجة في نفسه قضاها .. وأيّاما كانت الحقيقة
؛ فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة ؛ لأنها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك
الفترة من الزمن ..
وتعطينا شأنها شأن
رسالة الخوارزمي ، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه
خلفاء ذلك الوقت من مآثم ، وما يرتكبونه من موبقات ..
نص الرسالة :
وملخص حكاية هذه
الرسالة هي : أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري!! ـ وقد قلنا : إن الظاهر : أنه ابن
عيينة ـ كتابا يتودد إليه فيه ، ويطلب منه أن يقدم عليه.
فلما وصل الكتاب
إلى سفيان ، رماه من يده ، وقال لإخوانه : ليقرأه بعضكم ؛ فإني أستغفر الله أن أمس
شيئا مسه ظالم ..
فلما قرءوه ،
أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي :
« من العبد الميت
سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ، ولذة قراءة
القرآن ..
أما بعد :
فإني كتبت إليك
أعلمك : أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودّك ، وقليت موضعك ، وأنك جعلتني شاهدا عليك ؛
بإقرارك على نفسك في كتابك : بما هجمت على بيت مال المسلمين ؛ فأنفقته في غير حقه
،
وأنفذته بغير حكمه
، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا فإني
قد شهدت عليك ، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي
الله الحكم العدل ..
يا هارون ، هجمت
على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم ، والعاملون عليها
في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن ،
وأهل العلم؟!
أم رضي بفعلك
الأيتام والأرامل؟!.
أم رضي بذلك خلق
من رعيتك؟! ..
فشد يا هارون
مئزرك ، وأعدّ للمسألة جوابا ، وللبلاء جلبابا ، واعلم أنك ستقف بين يدي الله
الحكم العدل ؛ فاتق الله في نفسك ، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة
القرآن ، ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما ، وللظالمين إماما ..
يا هارون ، قعدت
على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستورا دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب
العالمين. ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون.
ويشربون الخمر ، ويحدون الشارب. ويزنون ، ويحدون الزاني ، ويسرقون ، ويقطعون
السارق. ويقتلون ، ويقتلون القاتل.
أفلا كانت هذه
الأحكام عليك ، وعليهم ، قبل أن يحكموا بها على الناس؟! فكيف بك يا هارون غدا ،
إذا نادى المنادي من قبل الله : احشروا الظلمة ، وأعوانهم أين الظلمة ، وأعوان
الظلمة ؛ فتقدمت بين يدي الله ، ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك
وانصافك ، والظالمون حولك ، وأنت لهم إمام ، أو سائق إلى النار.
وكأني بك يا هارون
.. وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات
غيرك في ميزانك على سيئاتك ، بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ؛ فاتق الله يا هارون
في رعيتك ، واحفظ محمدا (ص) في أمته. واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك ، إلا وهو
صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها ، واحدا بعد واحد ؛ فمنهم من تزود زادا
نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته.
وإياك ، ثم إياك
أن تكتب إليّ بعد هذا ؛ فإني لا أجيبك .. والسلام .. » ..
ثم بعث بالكتاب
منشورا ، من غير طيّ ، ولا ختم ..
قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني
نقاط رئيسية :
كنت قد وعدت
القارئ الكريم في فصل : سياسة العباسيين ضد العلويين ، بأن أورد في أواخر هذا
الكتاب قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني المعروفة ب : « الشافية ».
وقد حان الآن موعد
الوفاء بذلك الوعد .. وقبل ذلك ، لا بأس بالإشارة إلى :
أن أبا فراس قد
ولد في سنة ٣٢٠ ه. ، وتوفي في سنة ٣٥٧ ه. عليه الرحمة والرضوان ..
وفي زمانه : كان
بنو العباس الخلفاء ، وآل بويه السلاطين ، وآل حمدان الامراء ..
ولاء .. وشجاعة :
وأما عن سبب نظم
هذه القصيدة ، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة ، التي يتحامل فيها على
العلويين ، والتي أولها :
بني علي دعوا
مقالتكم
|
|
لا ينقض الدر
وضع من وضعه
|
فحمي أبو فراس ،
ونظم هذه القصيدة ، التي سارت بها الركبان.
ودخل بغداد ، وأمر
أن يشهر في المعسكر خمسمائة سيف ، وقيل : أكثر من ذلك .. ثم أنشد هذه القصيدة ،
وخرج من الناحية الاخرى وقد شرح هذه القصيدة عدد من الادباء والعلماء ، منهم ابن
خالويه ، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني.
والقصيدة هي :
الدين مخترم
والحق مهتضم
|
|
وفيء آل رسول
الله مقتسم
|
والناس عندك لا
ناس فيحفظهم
|
|
سوم الرعاء ولا
شاء ولا نعم
|
إني أبيت قليل
النوم أرّقني
|
|
قلب تصارع فيه
الهم والهمم
|
وعزمة لا ينام
الدهر صاحبها
|
|
إلا على ظفر في
طيه كرم
|
يصان مهري لأمر
لا أبوح به
|
|
والدرع والرمح
والصمصامة الخذم
|
وكل مائرة
الضبعين مسرحها
|
|
رمث الجزيرة
والخذراف والعنم
|
وفتية قلبهم قلب
إذا ركبوا
|
|
يوما ورأيهم رأي
إذا عزموا
|
يا للرجال أما
لله منتصر
|
|
من الطغاة ، أما
للدين منتقم
|
بنو علي رعايا
في ديارهم
|
|
والأمر تملكه
النسوان والخدم
|
__________________
محلئون فأصفى
وردهم وشل
|
|
عند الورود
وأوفى شربهم لمم
|
فالأرض إلا على
ملاكها سعة
|
|
والمال إلا على
أربابه ديم
|
فما السعيد بها
إلا الذي ظلموا
|
|
وما الشقي بها
إلا الذي ظلموا
|
للمتقين من
الدنيا عواقبها
|
|
وإن تعجل فيها
الظالم الأثم
|
لا يطغين بني
العباس ملكهم
|
|
بنو علي مواليهم
، وإن رغموا
|
أتفخرون عليهم
لا أبا لكم
|
|
حتى كأن رسول
الله جدكم
|
وما توازن يوما
بينكم شرف
|
|
ولا تساوت لكم
في موطن قدم
|
ولا لكم مثلهم
في المجد متصل
|
|
ولا لجدكم مسعاة
جدهم
|
ولا لعرقكم من
عرقهم شبه
|
|
ولا نثيلتكم من
أمهم أمم
|
قام النبي بها «
يوم الغدير » لهم
|
|
والله يشهد ،
والأملاك ، والامم
|
حتى إذا أصبحت
في غير صاحبها
|
|
باتت تنازعها
الذؤبان والرخم
|
وصيروا أمرهم
شورى كأنهم
|
|
لا يعلمون ولاة
الحق أيهم
|
تالله ما جهل
الاقوام موضعها
|
|
لكنهم ستروا وجه
الذي علموا
|
ثم ادعاها بنو
العباس ملكهم
|
|
وما لهم قدم
فيها ، ولا قدم
|
لا يذكرون إذا
ما معشر ذكروا
|
|
ولا يحكم في أمر
لهم حكم
|
ولا رآهم أبو
بكر وصاحبه
|
|
أهلا لما طلبوا
منها وما زعموا
|
فهل هم يدعوها
غير واجبة
|
|
أم هل أئمتهم في
أخذها ظلموا
|
أمّا علي فقد
أدنى قرابتكم
|
|
عند الولاية إن
لم تكفر النعم
|
أينكر الحبر عبد
الله نعمته
|
|
أبوكم ، أم عبيد
الله ، أم قثم
|
بئس الجزاء
جزيتم في بني حسن
|
|
أباهم العلم
الهادي ، وأمهم
|
لا بيعة ردعتكم
عن دمائهم
|
|
ولا يمين ، ولا
قربى ولا ذمم
|
هلا صفحتم عن
الاسرى بلا سبب
|
|
للصافحين ببدر
عن أسيركم
|
هلا كففتم عن
الديباج سوطكم
|
|
وعن بنات رسول
الله شتمكم
|
ما نزهت لرسول
الله مهجته
|
|
عن السياط فهلاّ
نزّه الحرم
|
ما نال منهم بنو
حرب وان عظمت
|
|
تلك الجرائر إلا
دون نيلكم
|
كم غدرة لكم في
الدين واضحة
|
|
وكم دم لرسول
الله عندكم
|
أأنتم آله فيما
ترون وفي
|
|
أظفاركم من بنيه
الطاهرين دم
|
هيهات لا قربت
قربى ، ولا رحم
|
|
يوما إذا أقصت
الأخلاق والشيم
|
كانت مودة سلمان
لهم رحما
|
|
ولم تكن بين نوح
وابنه رحم
|
يا جاهدا في
مساويهم يكتمها
|
|
غدر الرشيد
بيحيي كيف ينكتم
|
ذاق الزبيري عبء
الحنث وانكشفت
|
|
عن ابن فاطمة
الأقوال والتهم
|
ليس الرشيد
كموسى في القياس ولا
|
|
مأمونكم كالرضا
إن أنصف الحكم
|
باءوا بقتل
الرضا من بعد بيعته
|
|
وأبصروا بعض يوم
رشدهم وعموا
|
يا عصبة شقيت من
بعد ما سعدت
|
|
ومعشر هلكوا من
بعد ما سلموا
|
لبئسما لقيت
منهم وان بليت
|
|
بجانب الطف تلك
الأعظم الرمم
|
__________________
لا عن أبي مسلم
في نصحه صفحوا
|
|
ولا الهبيريّ
نجى الحلف والقسم
|
ولا الأمان لأهل
الموصل اعتمدوا
|
|
فيه الوفاء ، ولا
عن غيهم حلموا
|
أبلغ لديك بني
العباس مألكة
|
|
لا تدّعوا ملكها
ملاكها العجم
|
أي المفاخر أمست
في منابركم
|
|
وغيركم آمر فيها
، ومحتكم
|
أنّى يفيدكم في
مفخر علم
|
|
وفي الخلاف
عليكم يخفق العلم
|
يا باعة الخمر
كفوا عن مفاخركم
|
|
لمعشر بيعهم يوم
الهياج دم
|
خلوا الفخار
لعلامين إن سئلوا
|
|
يوم السؤال ،
وعمّالين إن علموا
|
لا يغضبون لغير
الله إن غضبوا
|
|
ولا يضيعون حكم
الله إن حكموا
|
تنشى التلاوة في
أبياتهم سحرا
|
|
وفي بيوتكم
الأوتار والنغم
|
إذا تلوا آية
غنى إمامكم :
|
|
قف بالديار التي
لم يعفها قدم
|
منكم علية أم
منهم ، وكان لكم
|
|
شيخ المغنين
ابراهيم ، أم لهم
|
ما في بيوتهم
للخمر معتصر
|
|
ولا بيوتهم للشر
معتصم
|
ولا تبيت لهم
خنثى تنادمهم
|
|
ولا يرى لهم قرد
له حشم
|
الركن ، والبيت
، والاستار منزلهم
|
|
وزمزم والصفا ،
والحجر ، والحرم
|
وليس من قسم في
الذكر نعرفه
|
|
إلا وهم دون شك
ذلك القسم
|
وبذلك ينتهي هذا
الكتاب ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على خير خلقه أجمعين ، محمد وآله
الطيبين الطاهرين ..
|
جعفر
مرتضى الحسيني العاملي
|
فهارس
الكتاب :
١ ـ مصادر الكتاب
..
٢ ـ محتويات
الكتاب اجمالا ..
٣ ـ محتويات
الكتاب بالتفصيل ..
مصادر
الكتاب
الكتب التي
راجعناها لهذا الكتاب كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
حرف الألف
١ ـ آثار الجاحظ
|
|
للجاحظ
|
٢ ـ الابانة
|
|
لأبي الحسن
الاشعري
|
٣ ـ الإتحاف بحب
الاشراف
|
|
للشبراوي
الشافعي
|
٤ ـ إثبات
الوصية
|
|
للمسعودي
|
٥ ـ الاحتجاج
|
|
للطبرسي
|
٦ ـ أحسن
التقاسيم
|
|
للمقدسي
|
٧ ـ إحقاق الحق
( الملحق )
|
|
للمرعشي النجفي
|
٨ ـ أخبار السيد
الحميري
|
|
للمرزباني
|
٩ ـ أخبار شعراء
الشيعة
|
|
للمرزباني
|
١٠ ـ الأخبار
الطوال
|
|
للدينوري
|
١١ ـ الاختصاص
|
|
للشيخ المفيد
|
١٢ ـ الأدب في
ظل التشيع
|
|
للشيخ عبد الله
نعمة
|
١٣ ـ الارجوزة
المختارة
|
|
للقاضي النعمان
|
١٤ ـ الارشاد
|
|
للشيخ المفيد
|
١٥ ـ أساس
الاقتباس
|
|
للقاضي اختيار
الدين
|
١٦ ـ الاسلام
والنصرانية
|
|
للشيخ محمد عبده
|
١٧ ـ الأعلام
|
|
للزركلي
|
١٨ ـ اعلام
الناس
|
|
للإتليدي
|
١٩ ـ إعلام
الورى
|
|
للطبرسي
|
٢٠ ـ أعيان
الشيعة
|
|
للسيد الأمين
|
٢١ ـ الأغاني
|
|
للأصفهاني
|
٢٢ ـ الأمالي
|
|
للسيد المرتضى
|
٢٣ ـ الأمالي
|
|
للقالي
|
٢٤ ـ الأمالي
|
|
للصدوق
|
٢٥ ـ الأمالي
|
|
للشيخ الطوسي
|
٢٦ ـ الأمالي
|
|
للشيخ المفيد
|
٢٧ ـ امبراطورية
العرب
|
|
لجون باجوت جلوب
|
٢٨ ـ أمراء
الشعر العربي في العصر العباسي
|
|
لأنيس المقدسي
|
٢٩ ـ الإمامة
|
|
للشيخ محمد حسن
آل ياسين
|
٣٠ ـ الإمامة في
الإسلام
|
|
لعارف تامر
|
٣١ ـ الإمامة
والسياسة
|
|
لابن قتيبة
|
٣٢ ـ الإمام
الحسين
|
|
للعلائلي
|
٣٣ ـ الإمام
الصادق والمذاهب الاربعة
|
|
للشيخ أسد حيدر
|
٣٤ ـ الإمام علي
الرضا ولي عهد المأمون
|
|
|
٣٥ ـ الامين
والمأمون
|
|
لجرجي زيدان
|
٣٦ ـ الأنساب
|
|
للسمعاني
|
٣٧ ـ أنساب
الاشراف
|
|
للبلاذري
|
ـ ب ـ
٣٨ ـ كتاب بغداد
|
|
لطيفور
|
٣٩ ـ بحار
الانوار
|
|
للمجلسي
|
٤٠ ـ البداية
والنهاية
|
|
لابن كثير
|
٤١ ـ البرهان في
تفسير القرآن
|
|
للبحراني
|
٤٢ ـ البصائر
والذخائر
|
|
لأبي حيان
|
٤٣ ـ البلدان
|
|
للهمداني
|
٤٤ ـ البيان
المغرب
|
|
لابن عذارى
|
٤٥ ـ البيان
والتبيين
|
|
للجاحظ
|
ـ پ ـ
٤٦ ـ پند تاريخ
|
|
لخسروي ( فارسي
)
|
ـ ت ـ
٤٧ ـ التاج
|
|
للجاحظ
|
٤٨ ـ تاج العروس
|
|
للزبيدي
|
٤٩ ـ تاريخ ابن
الوردي
|
|
لابن الوردي
|
٥٠ ـ التاريخ
الاسلامي والحضارة الإسلامية
|
|
لأحمد شلبي
|
٥١ ـ تاريخ
بغداد
|
|
للخطيب البغدادي
|
٥٢ ـ تاريخ
التمدن الاسلامي
|
|
لجرجي زيدان
|
٥٣ ـ تاريخ
جرجان
|
|
للسهمي
|
٥٤ ـ تاريخ
الجنس العربي
|
|
لمحمد عزة دروزه
|
٥٥ ـ تاريخ
الحكماء
|
|
للقفطي
|
٥٦ ـ تاريخ
الخلفاء
|
|
للسيوطي
|
٥٧ ـ تاريخ الخميس
|
|
للديار بكري
|
٥٨ ـ تاريخ
الرسل والملوك
|
|
للطبري
|
٥٩ ـ تاريخ
الشيعة
|
|
للمظفر
|
٦٠ ـ تاريخ
كربلاء
|
|
لعبد الجواد
الكليدار
|
٦١ ـ تاريخ
الموصل
|
|
لابن زكريا
|
٦٢ ـ تاريخ
اليعقوبي
|
|
لابن واضح
|
٦٣ ـ تأويل
مختلف الحديث
|
|
لابن قتيبة
|
٦٤ ـ تتمة
المنتهى
|
|
للشيخ عباس
القمي ( فارسي )
|
٦٥ ـ تجارب
الامم
|
|
لابن مسكويه
|
٦٦ ـ التدوين
|
|
للرافعي ( مخطوط
)
|
٦٧ ـ تذكرة
الخواص
|
|
لابن الجوزي
|
٦٨ ـ التربية
الدينية
|
|
للفضلي
|
٦٩ ـ التنبيه
والاشراف
|
|
للمسعودي
|
٧٠ ـ تهذيب التهذيب
|
|
لابن حجر العسقلاني
|
ـ ث ـ
٧١ ـ ثمرات الأعواد
|
|
للهاشمي النجفي
|
ـ ج ـ
٧٢ ـ جامع
الأنساب
|
|
لروضاتي ( فارسي )
|
٧٣ ـ جامع
الرواة
|
|
للاردبيلي
|
٧٤ ـ جعفر بن
محمد
|
|
لعبد العزيز سيد
الأهل
|
٧٥ ـ الجواري (سلسلة اقرأ رقم ٦٠)
|
|
جبور عبد النور
|
ـ ح ـ
٧٦ ـ الحسنيون
في التاريخ
|
|
للساعدي
|
٧٧ ـ الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري
|
|
لآدم متز
|
٧٨ ـ حلية الأولياء
|
|
لأبي نعيم
|
٧٩ ـ حياة الامام موسى بن جعفر
|
|
للقرشي
|
٨٠ ـ حياة الحيوان
|
|
للدميري
|
|
|
|
ـ خ ـ
٨١ ـ الخرائج
والجرائح
|
|
للراوندي
|
٨٢ ـ الخراج
|
|
لأبي يوسف
|
٨٣ ـ خلاصة تذهيب تهذيب الكمال
|
|
للخزرجي
الأنصاري
|
٨٤ ـ خمسون ومائة صحابي مختلق
|
|
للعسكري
|
ـ د ـ
٨٥ ـ دائرة
المعارف
|
|
لوجدي
|
٨٦ ـ الدرة النجفية
|
|
للشيخ يوسف
البحراني
|
٨٧ ـ ديوان ابن المعتز
|
|
لابن المعتز شرح
وتقديم ميشيل نعمان
|
٨٨ ـ ديوان السيد الحميري
|
|
للسيد
|
٨٩ ـ ديوان الطغرائي
|
|
للطغرائي
|
ـ ر ـ
٩٠ ـ ربيع
الابرار
|
|
للزمخشري
|
٩١ ـ رجال الكشي
|
|
|
٩٢ ـ رجال المامقاني
|
|
|
٩٣ ـ رسائل الخوارزمي
|
|
|
٩٤ ـ رسالة في بني أمية
|
|
للجاحظ
|
٩٥ ـ رسائل الجاحظ
|
|
تحقيق عبد
السلام هارون
|
٩٦ ـ روح الاسلام
|
|
للسيد أمير علي
|
٩٧ ـ روض الأخيار المنتخب من ربيع الابرار
|
|
لابن قاسم
|
٩٨ ـ روضة الواعظين
|
|
للفتال
النيسابوري
|
ـ ز ـ
٩٩ ـ زندگاني
حضرة إمام علي بن موسى الرضا
|
|
لعطائي خراساني
( فارسي )
|
١٠٠ ـ زهر الآداب
|
|
للقيرواني
|
١٠١ ـ زينة المجالس
|
|
لحسيني
|
|
|
|
ـ س ـ
١٠٢ ـ سبائك
الذهب
|
|
للسويدي
|
١٠٣ ـ السرائر ( المستطرفات )
|
|
لابن إدريس
|
١٠٤ ـ سفينة البحار
|
|
للشيخ عباس
القمي
|
١٠٥ ـ السنة قبل التدوين
|
|
لمحمد عجاج
الخطيب
|
١٠٦ ـ السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات
|
|
لفان فلوتن
|
ـ ش ـ
١٠٧ ـ شذرات
الذهب
|
|
لابن العماد
|
١٠٨ ـ شرح قصيدة ابن عبدون
|
|
لابن بدرون
|
١٠٩ ـ شرح ميمية أبي فراس
|
|
لحاج حسيني
|
١١٠ ـ شرح نهج البلاغة
|
|
لابن أبي الحديد
|
١١١ ـ الشعر والشعراء
|
|
لابن قتيبة
|
١١٢ ـ شيخ الامة : الإمام أحمد بن حنبل
|
|
لعبد العزيز سيد
الأهل
|
ـ ص ـ
١١٣ ـ صبح
الأعشى
|
|
للقلقشندي
|
١١٤ ـ صفة الصفوة
|
|
لابن الجوزي
|
١١٥ ـ الصلة بين التصوف والتشيع
|
|
للشّيبيّ
|
١١٦ ـ الصواعق المحرقة
|
|
لابن حجر
الهيثمي
|
ـ ض ـ
١١٧ ـ ضحى
الإسلام
|
|
لأحمد أمين
|
١١٨ ـ ضيافة الاخوان
|
|
لرضي الدين
القزويني
|
ـ ط ـ
١١٩ ـ طبقات
الحنابلة
|
|
لأبي يعلى
الحنبلي
|
١٢٠ ـ طبقات الشعراء
|
|
لابن المعتز
|
١٢١ ـ الطبقات الكبير
|
|
لابن سعد
|
١٢٢ ـ طبيعة الدعوة العباسية
|
|
لفاروق عمر
|
١٢٣ ـ الطرائف
|
|
لابن طاوس (
الفارسية )
|
ـ ع ـ
١٢٤ ـ العبر في أخبار من غبر
|
|
للذهبي
|
١٢٥ ـ العبر وديوان المبتدأ والخبر وهو تاريخ
|
|
ابن خلدون
|
١٢٦ ـ العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل
|
|
لمحمد بن عقيل
|
١٢٧ ـ العثمانية
|
|
للجاحظ
|
١٢٨ ـ عصر المأمون
|
|
للرفاعي
|
١٢٩ ـ العقد الفريد
|
|
لابن عبد ربه
|
١٣٠ ـ العقد الفريد للملك السعيد
|
|
لمحمد بن طلحة الوزير
|
١٣١ ـ علل الشرائع
|
|
للصدوق
|
١٣٢ ـ العمدة
|
|
لابن رشيق
|
١٣٣ ـ عمدة الطالب
|
|
لابن مهنا
|
١٣٤ ـ عيون الأخبار
|
|
لابن قتيبة
|
١٣٥ ـ عيون أخبار الرضا
|
|
للصدوق
|
١٣٦ ـ عيون المعجزات
|
|
للشيخ حسن بن
عبد الوهاب
|
١٣٧ ـ العيون والحدائق
|
|
لمؤلف مجهول
|
ـ غ ـ
١٣٨ ـ غاية الاختصار
|
|
لتاج الدين بن
محمد بن زهرة
|
١٣٩ ـ غاية المرام في محاسن بغداد دار السلام
|
|
للشيخ ياسين
العمري الخطيب الموصلي
|
١٤٠ ـ الغدير
|
|
للاميني
|
١٤١ ـ الغيبة
|
|
للطوسي
|
ـ ف ـ
١٤٢ ـ الفتوحات
الاسلامية
|
|
لدحلان
|
١٤٣ ـ الفتوح
|
|
لابن أعثم
|
١٤٤ ـ فتوح البلدان
|
|
للبلاذري
|
١٤٥ ـ الفخري في الآداب السلطانية
|
|
لابن الطقطقي
|
١٤٦ ـ فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم
|
|
لابن طاوس
|
١٤٧ ـ فرق الشيعة
|
|
للنوبختي
|
١٤٨ ـ الفصول المختارة من العيون والمحاسن
|
|
للسيد المرتضى
|
١٤٩ ـ الفصول المهمة
|
|
لابن الصباغ
|
١٥٠ ـ الفهرست
|
|
لابن النديم
|
١٥١ ـ فوات الوفيات
|
|
لمحمد بن شاكر
|
ـ ق ـ
١٥٢ ـ القرآن
الكريم
|
|
|
١٥٣ ـ قاموس الرجال
|
|
للتستري
|
١٥٤ ـ قيام سادات علوي
|
|
لعلي اكبر تشيد
( فارسي )
|
ـ ك ـ
١٥٥ ـ الكافي
|
|
للكليني
|
١٥٦ ـ كامل الزيارات
|
|
لابن قولويه
|
١٥٧ ـ الكامل في التاريخ
|
|
لابن الأثير
|
١٥٨ ـ الكامل في اللغة والأدب
|
|
للمبرد
|
١٥٩ ـ كشف الغمة
|
|
للإربلي
|
١٦٠ ـ كفاية الطالب
|
|
للكنجي
|
١٦١ ـ الكنى والألقاب
|
|
للشيخ عباس
القمي
|
١٦٢ ـ كنز الفوائد
|
|
للكراجكي
|
ـ ل ـ
١٦٣ ـ لطائف
أخبار الاول
|
|
للإسحاقي
|
١٦٤ ـ لطف التدبير
|
|
لأبي عبد الله
الاسكافي
|
ـ م ـ
١٦٥ ـ مآثر
الانافة في معالم الخلافة
|
|
للقلقشندي
|
١٦٦ ـ مثير الأحزان
|
|
للشيخ شريف
الجواهري
|
١٦٧ ـ مجمع الفوائد ومجمل العوائد
|
|
السيد مصطفى
مرتضى ( مخطوط )
|
١٦٨ ـ المحاسن
|
|
للبرقي
|
١٦٩ ـ المحاسن والمساوي
|
|
للبيهقي
|
١٧٠ ـ محاضرات تاريخ الامم الاسلامية
|
|
للخضري
|
١٧١ ـ مختصر التاريخ
|
|
للكازروني
|
١٧٢ ـ مختصر تاريخ الدول
|
|
لابن العبري
|
١٧٣ ـ مختصر تاريخ العرب
|
|
للسيد أمير علي
|
١٧٤ ـ المختصر في أخبار البشر ، المعروف بتاريخ :
|
|
أبي الفداء
|
١٧٥ ـ مدينة الحسين
|
|
للسيد محمد حسن
الكليدار
|
١٧٦ ـ مدينة العلم
|
|
مجلة ( السنة
الاولى )
|
١٧٧ ـ مرآة الجنان
|
|
لليافعي
|
١٧٨ ـ مروج الذهب
|
|
للمسعودي
|
١٧٩ ـ المستطرف
|
|
للأبشيهي
|
١٨٠ ـ مسند الإمام الرضا
|
|
للعطاردي
|
١٨١ ـ مشاكلة الناس لزمانهم
|
|
لليعقوبي
|
١٨٢ ـ مصباح المتهجد
|
|
للكفعمي
|
١٨٣ ـ مطالب السئول
|
|
لمحمد بن طلحة
|
١٨٤ ـ معادن الحكمة
|
|
للكاشاني
|
١٨٥ ـ المعارف
|
|
لابن قتيبة
|
١٨٦ ـ معاني الاخبار
|
|
للصدوق
|
١٨٧ ـ معاهد التنصيص
|
|
لعبد الرحيم
العباسي
|
١٨٨ ـ مفاتيح الجنان
|
|
للشيخ عباس
القمي
|
١٨٩ ـ مقاتل الطالبيين
|
|
لأبي الفرج
الأصفهاني
|
١٩٠ ـ مقالات الاسلاميين
|
|
لأبي الحسن
الأشعري
|
١٩١ ـ مقتبس الأثر ومجدد ما دثر
|
|
للأعلمي
|
١٩٢ ـ مقدمة ابن خلدون
|
|
|
١٩٣ ـ مكاتيب الرسول
|
|
للأحمدي
|
١٩٤ ـ الملل والنحل
|
|
للشهرستاني
|
١٩٥ ـ مناقب آل أبي طالب
|
|
لابن شهر اشوب
|
١٩٦ ـ من تاريخ الأدب العربي
|
|
لطه حسين
|
١٩٧ ـ من تاريخ الزندقة والالحاد
|
|
لعلي الوردي
|
١٩٨ ـ منجد الاعلام
|
|
لفردينان توتل
|
١٩٩ ـ المهدية في الاسلام
|
|
لسعد محمد حسن
|
٢٠٠ ـ الموفقيات
|
|
للزبير بن بكار
|
٢٠١ ـ ميزان الاعتدال
|
|
للذهبي
|
ـ ن ـ
٢٠٢ ـ النجوم
الزاهرة
|
|
لابن تغري بردى
|
٢٠٣ ـ النزاع والتخاصم
|
|
للمقريزي
|
٢٠٤ ـ نزهة المجالس
|
|
للصفوري الشافعي
|
٢٠٥ ـ النصائح الكافية لمن يتولى معاوية
|
|
لمحمد بن عقيل
|
٢٠٦ ـ النص والاجتهاد
|
|
للسيد شرف الدين
|
٢٠٧ ـ نظرية الامامة لدى الشيعة
|
|
لاحمد محمود
صبحي
|
٢٠٨ ـ نهاية الارب
|
|
للنويري
|
٢٠٩ ـ نهج البلاغة
|
|
جمعه : الشريف
الرضي
|
٢١٠ ـ نور الابصار
|
|
للشبلنجيّ
|
٢١١ ـ نور القبس المختصر من المقتبس ( للمرزباني )
|
|
للحافظ اليغموري
|
ـ ه ـ
٢١٢ ـ الهادي
|
|
( مجلة )
|
٢١٣ ـ الهاشميات
|
|
للكميت
|
ـ وـ
٢١٤ ـ الوافي
|
|
للفيض
|
٢١٥ ـ الورقة
|
|
لابن الجراح
|
٢١٦ ـ الوزراء والكتاب
|
|
للجهشياري
|
٢١٧ ـ وسائل الشيعة
|
|
للحر العاملي
|
٢١٨ ـ وفيات الأعيان
|
|
لابن خلكان
|
٢١٩ ـ وقعة صفين
|
|
لنصر بن مزاحم
|
٢٢٠ ـ الولاة والقضاة
|
|
للكندي
|
٢٢١ ـ ولاية عهدي امام رضا
|
|
لعلي موحدي (
فارسي )
|
ـ ي ـ
٢٢٢ ـ يادبود
هشتمين امام ( فارسي )
|
|
لعلي غفورى
|
٢٢٣ ـ ينابيع المودة
|
|
للقندوزي الحنفي
|
وهناك مصادر عديدة
أخرى أهملنا ذكرها إيثارا للاختصار ؛ ولان اكثرها مشار إليه في هوامش الكتاب ..
هذا ..
ونود هنا أن نشير
إلى أننا قد اعتمدنا في بعض المصادر ، كالطبري ، وحياة الحيوان ، والعقد الفريد ،
والكامل في التاريخ ، ونور الأبصار ، وغير ذلك .. على طبعات مختلفة ، حسب ما تيسر
لنا في الاوقات المختلفة ..
والحمد لله وصلاته
على عباده الذين اصطفى ..
محتويات الكتاب اجمالاً
الاهداء...................................................................... ٧
تقديم
:...................................................................... ٩
تمهيد....................................................................... ١١
القسم الأوّل : ممهدات ............١٩
قيام
الدولة العباسية.......................................................... ٢١
مصدر
الخطر على العباسيين.................................................. ٦٤
سياسة
العباسيين ضد العلويين :............................................... ٧٤
سياسة
العباسيين مع الرعية.................................................. ١٠٧
فشل
سياسة العباسيين ضد العلويين.......................................... ١٢٩
القسم الثاني : ظروف البيعة وأسبابها ............١٣٧
شخصية
الامام الرضا 7................................................. ١٣٩
من
هو المأمون؟............................................................ ١٤٨
آمال
المأمون وآلامه........................................................ ١٥٥
ظروف
البيعة وأسبابها...................................................... ١٩٢
أسباب
البيعة لدى الآخرين :............................................... ٢٥٤
القسم الثّالث :
أضواء على الموقف ............٢٧٥
عرض
الخلافة ، ورفض الامام (ع).......................................... ٢٧٧
قبول
ولاية العهد بعد التهديد............................................... ٢٨٠
مدى
جدية عرض الخلافة :................................................. ٢٨٥
موقف
الامام (ع) :........................................................ ٢٩٩
خطة
الامام (ع)........................................................... ٣١٠
القسم الرّابع :
من خلال الأحداث ............٣٦١
مع
بعض خطط المأمون..................................................... ٣٦٣
كاد
المريب أن يقول : خذوني............................................... ٣٩٧
ما
يقال حول وفاة الامام (ع)............................................... ٤٠١
دعبل
والمأمون!! :......................................................... ٤٣٣
كلمة
ختامية :............................................................ ٤٣٦
وثائق هامة ............٤٤٣
رسالة
الفضل بن سهل الى الامام (ع)........................................ ٤٤٥
وثيقة
ولاية العهد.......................................................... ٤٤٨
رسالة
المأمون الى العباسيين.................................................. ٤٥٧
رسالة
عبد الله بن موسى الى المأمون.......................................... ٤٦٥
رسالة
سفيان الى هارون.................................................... ٤٦٩
قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني
............٤٧٣
فهارس الكتاب : ............٤٧٩
مصادر
الكتاب............................................................ ٤٨١
محتويات الكتاب اجمالاً..................................................... ٤٩٤
محتويات الكتاب بالتفصيل
الاهداء:..................................................................... ٧
تقديم
:...................................................................... ٩
تمهيد .............١١ ـ
١٨
صلة
الماضي بالحاضر والمستقبل :.............................................. ١١
لماذا
كان تدوين التاريخ :.................................................... ١٢
ونحن
.. هل نملك تاريخا؟!!.................................................. ١٣
ومن
تلك الأحداث ......................................................... ١٤
وبدافع
من الشعور بالواجب ................................................. ١٦
تقسيم
الكتاب .. باختصار .................................................. ١٧
ممهدات .............١٩
قيام الدولة العباسية
.............٢١ ـ
٦٣
العلويون
في الماضي البعيد .................................................... ٢١
العرش
الأموي في مهب الريح ................................................ ٢٢
وأما
في زمن مروان ......................................................... ٢٣
من
خلال الاحداث ......................................................... ٢٣
وكان
نجاح العباسيين طبيعيا ................................................. ٢٤
الخط
الأول :............................................................... ٢٥
الخط
الثاني :................................................................ ٢٦
الخط
الثالث :.............................................................. ٢٨
دولة
بني العباس في صحيفة ابن الحنفية :....................................... ٢٨
متى
بدأ العباسيون دعوتهم ، وكيف؟.......................................... ٢٩
مدى
سرية الدعوة :......................................................... ٣٢
لا
بد من ربط الثورة بأهل البيت ............................................. ٣٥
المراحل
التي مرت بها عملية الربط :........................................... ٣٧
المرحلة
الأولى :............................................................. ٣٧
المرحلة
الثانية ............................................................... ٤٠
المرحلة
الثالثة :.............................................................. ٤٢
ملاحظات
لا بد منها في المرحلة الثالثة :........................................ ٤٣
أ........................................................................ ٤٣
ب...................................................................... ٤٨
ج....................................................................... ٤٩
د....................................................................... ٥٠
المرحلة
الرابعة :............................................................. ٥١
دعوى
الأخذ بثارات العلويين :............................................... ٦٠
نهاية
المطاف ................................................................ ٦٢
مصدر الخطر على العباسيين
.............٦٤ ـ
٧٣
العلويون
هم مصدر الخطر :.................................................. ٦٤
تخوف
العباسيين من العلويين :................................................ ٦٥
خوف
المنصور من العلويين................................................... ٦٦
خوف
المهدي من العلويين :.................................................. ٦٩
خوف
الرشيد من العلويين :.................................................. ٧٠
وأما
في زمن المأمون.......................................................... ٧٢
عقدة
الحقارة لدى العباسيين :................................................ ٧٢
في
مواجهة الخطر :.......................................................... ٧٣
سياسة العباسيين ضد العلويين .............٧٤
مما
سبق :................................................................... ٧٤
تطوير
نظرية الارث :........................................................ ٧٤
تشجيع
الخلفاء لهذا الاتجاه :.................................................. ٧٩
الامام
علي في ميزان الاعتبار :................................................ ٨١
استغلال
لقب المهدي :...................................................... ٨٢
وكل
ذلك لم يكفهم :....................................................... ٨٤
موقف
كل خليفة منهم على حدة :............................................ ٨٦
أما
السفاح :................................................................ ٨٦
وأما
المنصور :.............................................................. ٨٧
وأما
المهدي :............................................................... ٨٩
وأما
الهادي :............................................................... ٩١
وأما
الرشيد :............................................................... ٩١
وأما
المأمون :............................................................... ٩٥
والشعراء
أيضا قد قالوا الحقيقة :.............................................. ٩٥
نصوص
اخرى :............................................................ ٩٨
و
المأمون أيضا يعترف :.................................................... ١٠٠
جانب
من رسالة الخوارزمي لأهل نيشابور :.................................. ١٠٠
سياسة العباسيين مع الرعية
.............١٠٧ ـ
١٢٨
نظرة
عامة :............................................................... ١٠٧
تفصيل
مواقف الخلفاء مع الرعية :........................................... ١١٠
أما
السفاح :.............................................................. ١١٠
وأما
المنصور :............................................................. ١١٢
بعض
ما يقال عن المنصور :................................................. ١١٦
وأما
المهدي............................................................... ١١٧
وأما
الهادي :.............................................................. ١١٨
وأما
الرشيد :............................................................. ١١٩
وأما
الأمين................................................................ ١٢١
وأما
المأمون :............................................................. ١٢٢
وصية
ابراهيم الإمام :...................................................... ١٢٢
أبو
مسلم ينفذ الوصية :.................................................... ١٢٣
ولا
مجال ثمة للشك :....................................................... ١٢٦
وبعد
فلا بد لنا من كلمة اخرى :........................................... ١٢٦
العباسيون
في حياتهم الخاصة :............................................... ١٢٧
وفي
نهاية المطاف :......................................................... ١٢٨
فشل سياسة العباسيين ضد العلويين
.............١٢٩ ـ ١٣٦
سؤال
لا بد منه :.......................................................... ١٢٩
أما
الجواب :.............................................................. ١٣٠
ولعل
الأهم من ذلك كله :................................................. ١٣١
التشيع
للعلويين :.......................................................... ١٣٢
الخطر
الحقيقي :........................................................... ١٣٤
ويبقى
هنا سؤال :......................................................... ١٣٥
ونتيجة
كل ذلك :......................................................... ١٣٦
ظروف البيعة وأسبابها .............١٣٧
شخصية الامام الرضا 7
.............١٣٩ ـ
١٤٧
لمحات
:................................................................... ١٣٩
فأما
علمه ، وورعه وتقواه :................................................ ١٤١
وأما
مركزه وشخصيته (ع) :............................................... ١٤٢
وأما
ما جرى في نيسابور :.................................................. ١٤٤
وها
نحن أمام نصوص اخرى :.............................................. ١٤٦
وفي
نهاية المطاف :......................................................... ١٤٧
من هو المأمون؟
.............١٤٨ ـ
١٥٤
لمحات
:................................................................... ١٤٨
ميزات
وخصائص :........................................................ ١٤٩
ما
يقال عن المأمون :....................................................... ١٥٠
شهادة
ذات أهمية :........................................................ ١٥٢
آمال المأمون وآلامه
.............١٥٥ ـ
١٩١
العباسيون
لا يرضون بالمأمون!!.............................................. ١٥٥
سؤال
قد تصعب الاجابة عليه :............................................. ١٥٦
الجواب
عن السؤال :....................................................... ١٥٦
مركز
الأمين هو الأقوى :.................................................. ١٥٩
محاولات
الرشيد لصالح المأمون :............................................ ١٦٢
مركز
المأمون ظل في خطر :................................................ ١٦٣
والمأمون
وحزبه كانوا يدركون ذلك :....................................... ١٦٤
والرشيد
أيضا كان في قلق :................................................ ١٦٥
على
من يعتمد المأمون؟..................................................... ١٦٦
موقف
العلويين من المأمون :................................................ ١٦٧
موقف
العرب من المأمون ، ونظام حكمه :................................... ١٦٧
لا
بد من اختيار خراسان :.................................................. ١٧٠
تشيع
الايرانيين :.......................................................... ١٧١
ما
هو سرّ تشيّع الايرانيين؟................................................. ١٧٢
عود
على بدء :............................................................ ١٧٤
كيف
يثق العرب بالمأمون؟!................................................. ١٧٥
قتل
الأمين وخيبة الأمل :................................................... ١٧٦
المأمون
في الحكم :......................................................... ١٧٨
أما
سياسته مع العرب :.................................................... ١٧٨
والايرانيون
أيضا لم يكونوا أحسن حالا :..................................... ١٧٩
المأمون
مع الرعية عموما :.................................................. ١٨٠
وما
ذا بعد الوصول إلى الحكم :............................................. ١٨١
الموقف
الصعب :.......................................................... ١٨٢
ثورات
العلويين .. وغيرهم :................................................ ١٨٣
الزعيم
العباسي الأول يعترف :.............................................. ١٨٥
دلالة
هامة :.............................................................. ١٨٦
عود
على بدء :............................................................ ١٨٧
الناس
لم يبايعوا المأمون كلهم بعد :.......................................... ١٨٨
المأمون
يدرك حراجة الموقف :............................................... ١٩٠
ما
ذا يمكن للمأمون أن يفعل :.............................................. ١٩٠
ظروف البيعة وأسبابها
.............١٩٢
إنقاذ
الموقف!!. كيف؟!.................................................... ١٩٢
لا
بد من الاعتماد على النفس :............................................. ١٩٣
أي
الاساليب أنجع :....................................................... ١٩٥
خطة
المأمون :............................................................. ١٩٦
وأيضا
.. لا بد من خطوة أخرى............................................ ٢٠٢
لم
يبق إلا خيار واحد :..................................................... ٢٠٢
مع
رسالة الفضل بن سهل للامام :.......................................... ٢٠٣
ملاحظات
لا بد منها :..................................................... ٢٠٤
ملاحظات
هامة :.......................................................... ٢٠٥
أ...................................................................... ٢٠٥
ب.................................................................... ٢٠٦
ج..................................................................... ٢٠٧
د...................................................................... ٢٠٧
هـ................................................................... ٢٠٨
و...................................................................... ٢١١
أهداف
المأمون من البيعة :.................................................. ٢١٢
الهدف
الأول :............................................................ ٢١٢
الهدف
الثاني :............................................................. ٢١٣
الهدف
الثالث :............................................................ ٢١٤
الهدف
الرابع :............................................................ ٢١٦
إشارة
هامة لا بد منها :.................................................... ٢١٩
الهدف
الخامس :........................................................... ٢٢١
الهدف
السادس :.......................................................... ٢٢٢
الهدف
السابع :............................................................ ٢٢٢
ملاحظة
هامة :............................................................ ٢٢٥
الهدف
الثامن :............................................................ ٢٢٦
أ...................................................................... ٢٢٦
ب.................................................................... ٢٢٧
ج..................................................................... ٢٢٧
د...................................................................... ٢٢٩
فذلكة
لا بد منها :........................................................ ٢٣٥
هـ................................................................... ٢٣٦
الهدف
التاسع :............................................................ ٢٣٨
الهدف
العاشر :............................................................ ٢٤٠
الهدف
الحادي عشر :...................................................... ٢٤١
ملاحظة
لا بد منها :....................................................... ٢٤٢
سؤال
وجوابه :............................................................ ٢٤٤
رأي
الناس فيمن يتصدى للحكم :.......................................... ٢٤٥
العلويون
يدركون نوايا المأمون :............................................. ٢٤٧
موقف
الامام في مواجهة مؤامرات المأمون :................................... ٢٤٩
المأمون
في قفص الاتهام :................................................... ٢٥٠
مع
المأمون في وثيقة العهد :................................................. ٢٥١
كلمة
أخيرة :............................................................. ٢٥٣
أسباب البيعة لدى الآخرين .............٢٥٤
أحمد
أمين المصري ، وأسباب البيعة :........................................ ٢٥٤
آراء
أحمد أمين في الميزان :.................................................. ٢٥٥
رأي
غريب آخر في البيعة :................................................. ٢٥٩
وفريق
آخر يرى :......................................................... ٢٦٠
ولكنه
رأي لا تمكن المساعدة عليه :......................................... ٢٦١
الفضل
في قفص الاتهام :................................................... ٢٦٢
الفضل
بريء من كل ما نسب إليه :......................................... ٢٦٣
موقف
الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له :................................ ٢٦٦
والمأمون
نفسه يستنكر ذلك :............................................... ٢٦٧
أما
حصيلة هذه الجولة :.................................................... ٢٦٨
ولعل
الفضل كان مخدوعا!.................................................. ٢٦٩
الفضل
يقع في الشرك :..................................................... ٢٧٠
لماذا
الاصرار على اتهام الفضل :............................................. ٢٧١
احتمال
وجيه جدا :........................................................ ٢٧٣
أضواء على الموقف .............٢٧٥
عرض الخلافة ، ورفض الامام (ع)
.............٢٧٧ ـ
١٧٩
نصوص
تاريخية............................................................ ٢٧٧
قبول ولاية العهد بعد التهديد
.............٢٨٠ ـ
٢٨٤
مع
محاولات المأمون لاقناع الإمام............................................ ٢٨٠
بعض
ما يدل على عدم رضا الإمام (ع)...................................... ٢٨١
أما
الباحثون وغيرهم فيقولون :............................................. ٢٨٣
مدى جدية عرض الخلافة .............٢٨٥
عرض
الخلافة ليس جديّا................................................... ٢٨٥
الاجابة
على السؤال الأول.................................................. ٢٨٦
المأمون
يرتبك في تبريراته للبعة............................................... ٢٨٨
مع
تبريرات المأمون تلك.................................................... ٢٨٩
الامام
يدرك أهداف المأمون من عرض الخلافة :............................... ٢٩١
ويبقى
هنا سؤال........................................................... ٢٩٢
والجواب
الأول............................................................ ٢٩٢
وفي
النهاية :.............................................................. ٢٩٨
موقف الامام .............٢٩٩ ـ
٣٠٩
سؤال
يطرح نفسه :....................................................... ٢٩٩
لا
يرضى الإمام (ع) ، ولا يقتنع المأمون :.................................... ٣٠١
هي
قضية مصير :......................................................... ٣٠٢
مبررات
قبول الإمام لولاية العهد :........................................... ٣٠٤
هل
الإمام راغب في هذا الأمر :............................................. ٣٠٦
فالسلبية
اذن هي الموقف الصحيح :.......................................... ٣٠٨
لا
بد من خطة لمواجهة الموقف :............................................. ٣٠٩
خطة الامام (ع)
.............٣١٠ ـ
٣٦٠
انحراف
الحكام :........................................................... ٣١٠
العلماء
المزيفون وعقيدة الجبر :.............................................. ٣١٠
عقيدة
الخروج على سلاطين الجور :......................................... ٣١١
والذي
زاد الطين بلة :..................................................... ٣١٢
الأئمة
في مواجهة مسئولياتهم :.............................................. ٣١٣
وأما
عن الامام الرضا بالذات :.............................................. ٣١٣
الخطة
الحكيمة :........................................................... ٣١٤
مواقف
لم يكن يتوقعها المأمون :............................................. ٣١٤
الموقف
الأول :............................................................ ٣١٤
الموقف
الثاني :............................................................. ٣١٥
شكوك
لها مبرراتها :........................................................ ٣١٥
الموقف
الثالث :........................................................... ٣١٦
الموقف
الرابع :............................................................ ٣١٦
مدى
ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد :.................................. ٣١٧
الإمام
ولي الأمر من قبل الله ، لا من قبل المأمون :............................. ٣١٩
الإمام
يبلغ عقيدته لجميع الفئات :........................................... ٣٢٠
تعقيب
هام وضروري :.................................................... ٣٢٢
الموقف
الخامس :.......................................................... ٣٢٤
الموقف
السادس :.......................................................... ٣٢٥
الموقف
السابع :........................................................... ٣٢٦
أما
ما يتعلق بصحة خلافة المأمون :.......................................... ٣٢٦
وأما
أن الخلافة حق للامام (ع) دون غيره :.................................. ٣٢٧
المأمون
يعترف بأحقية آل علي بالأمر :....................................... ٣٢٨
الاكذوبة
المفضوحة :...................................................... ٣٣٠
الموقف
الثامن :............................................................ ٣٣٦
وإذا
كان لا بد من كلمة :................................................. ٣٤٥
ملاحظات
هامة :.......................................................... ٣٤٥
حقا
.. إنها للعبقرية السياسية :.............................................. ٣٤٦
الموقف
التاسع :........................................................... ٣٤٧
السلبية
تعني الاتهام :....................................................... ٣٤٨
رفض
الاعتراف بشرعية ذلك النظام :....................................... ٣٤٨
النظام
القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم :................................... ٣٤٨
لا
مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته :........................................ ٣٥٠
الإمام
.. لا ينفذ ارادات الحكم :............................................ ٣٥١
لا
زهد أكثر من هذا :..................................................... ٣٥٢
الموقف
العاشر :........................................................... ٣٥٣
١
ـ الأثر العاطفي ، والقاعدة الشعبية :..................................... ٣٥٦
٢
ـ لماذا يجازف المأمون بارجاعه (ع) :..................................... ٣٥٦
الموقف
الحادي عشر :...................................................... ٣٥٧
الحكم
ليس امتيازا وإنما هو مسئولية :........................................ ٣٥٨
وفي
نهاية المطاف نقول :.................................................... ٣٦٠
من خلال الأحداث
.............٣٦١
مع بعض خطط المأمون
.............٣٦٣ ـ
٣٩٦
التوجيهات
الراضية غير مقبولة :............................................. ٣٦٣
المأمون
يفضح نفسه :...................................................... ٣٦٤
والذي
يعنينا الحديث عنه هنا :.............................................. ٣٦٥
لماذا
على البصرة فالأهواز :................................................. ٣٦٦
الإمام
يرفض كل مشاركة تعرض عليه :..................................... ٣٧٠
الاختبار
لشعبية الإمام (ع) :................................................ ٣٧١
سؤال
.. وجوابه :......................................................... ٣٧١
وأما
كتمه لفضائل الإمام (ع) :............................................. ٣٧٢
الشائعات
الكاذبة!!........................................................ ٣٧٣
التركيز
على افحام الامام (ع) :............................................. ٣٧٥
وحتى
مع الامام الجواد قد حاول ذلك :...................................... ٣٧٨
ملاحظة
لا بد منها :....................................................... ٣٧٩
الإمام
يقول : المأمون سوف يندم :.......................................... ٣٨٠
الاقتراح
العجيب :........................................................ ٣٨١
موقف
بغداد من المأمون والبيعة للرضا (ع) :................................. ٣٨١
وأما
نصب ابن شكلة :..................................................... ٣٨٣
المأمون
.. هو الذي ينقل لنا اقتراحه العجيب :................................ ٣٨٤
ولماذا
هذا العرض :........................................................ ٣٨٥
المأمون
يتحرك نحو بغداد بنفسه :............................................ ٣٨٦
لكن
المأمون لم يكن يثق بالعباسيين :......................................... ٣٨٧
ولا
كان واثقا من سكوت الامام (ع) :...................................... ٣٨٧
كيف
يخرج المأمون من المأزق إذن؟!......................................... ٣٨٨
تصفية
الإمام (ع) جسديا :................................................. ٣٨٩
قضية
حمام سرخس :...................................................... ٣٩٠
مقتل
الفضل بن سهل :..................................................... ٣٩٠
ظاهرة
قتل الوزراء :....................................................... ٣٩٣
لا
بد من العودة الى سنة معاوية :............................................ ٣٩٣
نبوءة
الإمام (ع) قد تحققت :............................................... ٣٩٥
الحقد
الدفين :............................................................. ٣٩٦
كاد المريب أن يقول : خذوني
.............٣٩٧ ـ
٤٠٠
ومع
غض النظر عن كل ما تقدم :........................................... ٣٩٧
والذي
نريده هنا :......................................................... ٣٩٨
الأسئلة
التي لن تجد جوابا :................................................. ٣٩٨
كاد
المريب أن يقول : خذوني :............................................. ٤٠٠
ما يقال حول وفاة الامام (ع)
.............٤٠١ ـ
٤٣٢
ما
ذا ترى بعض الفرق في الحكام :.......................................... ٤٠١
انعكاسات
هذه العقيدة على التراث :........................................ ٤٠٢
إخفاء
كل الحقائق عن الأئمة : :........................................ ٤٠٢
ويبقى
هنا سؤال :......................................................... ٤٠٥
سرّ
اهتمام الخلفاء بأهل العلم :.............................................. ٤٠٥
ويتفرع
على ما سبق :..................................................... ٤٠٧
عود
على بدء :............................................................ ٤٠٨
ما
عشت أراك الدهر عجبا :............................................... ٤٠٩
قول
فريق آخر من المؤرخين :............................................... ٤١١
رأي
فريق ثالث في ذلك :.................................................. ٤١١
ورأي
آخر يقول :......................................................... ٤١٢
ورأي
فريق خامس يقول :.................................................. ٤١٣
ملخص
ما سبق :.......................................................... ٤١٥
آفة
ذلك : هل هو الجهل ، أم التعصب :..................................... ٤١٥
نحن
.. وما يقوله هؤلاء :................................................... ٤١٦
وبعد
.. فعلى المكابر : أن يجيب على السؤال التالي :.......................... ٤٢١
رأي
الفريق السادس : الرأي الحق :......................................... ٤٢٢
صدى
قتل الرضا في نفس زمن المأمون :...................................... ٤٢٥
وفي
الشعر أيضا نجد ما يدل على ذلك :..................................... ٤٢٩
الإمام
وآباؤه : يخبرون بشهادته :........................................ ٤٣٠
وحتى
الزيارة تؤكد على استشهاده (ع) :.................................... ٤٣١
القمة
الشامخة الخالدة :..................................................... ٤٣٢
دعبل والمأمون .............٤٣٣ ـ
٤٣٥
الموقف
الجريء............................................................ ٤٣٣
كلمة ختامية :
.............٤٣٦ ـ ٤٣٨
وفي
الختام :............................................................... ٤٣٦
الإكثار
من النصوص التاريخية في الكتاب :................................... ٤٣٦
رجاء
واعتذار :............................................................ ٤٣٧
شكر
وتقدير :............................................................ ٤٣٧
رسالة
نقد ، وجوابها....................................................... ٤٣٩
وثائق هامة
.............٤٤٣
رسالة الفضل بن سهل الى الامام (ع)
.............٤٤٥ ـ
٤٤٦
هذه
الرسالة :............................................................. ٤٤٥
نص
الرسالة :............................................................. ٤٤٦
وثيقة ولاية العهد
.............٤٤٨ ـ
٤٥٦
مصادر
الوثيقة :........................................................... ٤٤٨
نص
الوثيقة :............................................................. ٤٤٩
صورة
ما كتبه الإمام على ظهر الوثيقة........................................ ٤٥٣
الشهود
على الجانب الأيمن :................................................ ٤٥٥
الشهود
على الجانب الأيسر :............................................... ٤٥٥
رسالة المأمون الى العباسيين
.............٤٥٧ ـ
٤٦٤
مصادر
الكتاب :.......................................................... ٤٥٧
نص
الكتاب :............................................................. ٤٥٧
رسالة عبد الله بن موسى الى المأمون
.............٤٦٥ ـ
٤٦٧
النص
الأول للرسالة :...................................................... ٤٦٥
وثمة
نص آخر :........................................................... ٤٦٧
رسالة سفيان الى هارون
.............٤٦٩ ـ
٤٧٢
مصادر
الرسالة :.......................................................... ٤٦٩
مناقشة
لا بد منها :........................................................ ٤٦٩
نص
الرسالة :............................................................. ٤٧٠
قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني
.............٤٧٣
نقاط
رئيسية :............................................................ ٤٧٣
ولاء
.. وشجاعة :........................................................ ٤٧٣
والقصيدة
هي :........................................................... ٤٧٤
فهرس الکتاب
.............٤٧٩
مصادر
الکتاب............................................................ ٤٨١
محتويات الكتاب اجمالاً..................................................... ٤٩٤
محتويات الكتاب بالتفصيل.................................................. ٤٩٧
|