

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرّف العلماء ، وعظّم
الفضلاء ، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء ، فمن علم وعمل فقد ارتقى إلى منازل
السعداء ، ومن جهل أو علم ولم يعمل فقد هبط إلى درك الأشقياء.
ثمّ الصلاة والسلام على سيّد الأنبياء
وخير الأصفياء محمّد وآله مصابيح الهدى وأعلام الورى.
أمّا بعد ;
يعدّ علم الفقه من أهمّ المعارف وأسناها
حيث يتكفل بيان الحلال والحرام ، والمنجيات والمهلكات ، ثم يليه في الأهمية أُصول
الفقه ، كالنظرية إلى التطبيق.
وممن ساهم في هذا المضمار العلاّمة
الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي ( حفظه الله ) ، حيث حضر بحوثنا
الفقهية والأُصولية وانبرى لكتابتها ومذاكرتها ، وقد أودع جلَّ ما ألقيناه من دروس
ومحاضرات حول الحجج الشرعية في هذا الكتاب الّذي يزف الطبع الجزء الأوّل منه لطلاب
الفقه وبغاة الاجتهاد وهو بحمد الله بما أُوتي من مواهب وقابليات سبق أقرانه بسبق
غير منكور وسعي مشكور وعقدت عليه آمال الخير والسعادة في مستقبله المشرق.
نسأل الله أن يوفقه لصالح العلم وينير
أمامه درب الخير والصلاح.
|
جعفر السبحاني
قم. مؤسسة الإمام الصادق 7
٢٢ من شهر صفر المظفر ١٤٢٠
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على خاتم أنبيائه محمّد وآله الطاهرين.
أمّا بعد : فهذه درر وفوائد ، وغرر
وفرائد ، التقطتها من دروس شيخنا العلاّمة الحجّة ، الباحثِ الكبيرِ ، والمحقِّق
الخبير ، أُسوة المشتغلين ، وأُستاذ المتأخرين ، آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ـ
دامت أيّام إفاداته ـ ، في الحجج العقلية والأمارات الشرعية.
قمتُ بنشر ما أفاده في هذه الدورة ـ
الدورة الرابعة الأُصولية ـ لما رأيت أنّ بينها وبين ما تقدّمها من الدورات ،
اختلافاً في التقرير ، وتفاوتاً في العرض والاستنتاج ، وأرجو أن يكون الكتاب
مرجعاً لطلاّب الفضيلة وبغاة الاجتهاد بإذنه سبحانه.
ويأتي جميع ما حرّرته من بحوث شيخنا
الأُستاذ ـ مُدّ ظلّه ـ في المباحث العقلية في جزءين :
الأوّل
: في مباحث القطع والظن والبراءة والاشتغال.
الثاني
: في مباحث الاستصحاب والتعادل والترجيح والاجتهاد والتقليد.
فها أنا أقدم الجزء الأوّل للقرّاء بفضل
من اللّه سبحانه ، وأرجو أن يوفقني لنشر الجزء الثاني انّه قريب مجيب.
|
محمد حسين الحـاج العاملي
قم المشرقة ـ الجامعة
العلمية
١٠ شوال المكرّم / ١٤١٩ هـ
|
قال شيخنا الأُستاذ :
المقصد السادس
: في الحجج الشرعية
خصّص المحقّق الخراساني هذا المقصد
ببيان الحجج الشرعية ، وطرح فيها : حجّية ظواهر الكتاب ، وقول اللغوي ، والإجماع
المنقول ، والشهرة الفتوائية ، وخبر الواحد ، فانتهى إلى حجية أكثرها.
ولكنّه قدّم على البحث في هذه الأُمور ،
أُموراً ترتبط بالقطع وجعلها مقدمة للبحث عن الحجج الشرعية.
وبما انّ الحجّة في الفقه عند الشيعة
تنحصر بالكتاب والسنّة والعقل والإجماع كان الأولى عقد فصول أربعة لهذه الحجج كي
يقف المتعلّم على كلّ واحد من هذه الحجج وأدلّة حجّيتها. وما صنعه المحقّق
الخراساني ومن بعده من الأعلام تبعاً للشيخ الأنصاري صار سبباً لعدم وضوح معالم
الأدلّة الأربعة.
ومع ذلك كلّه ، ما فاتهم الإلماعُ إلى
هذه الحجج الأربع ، فأدخلوا البحث عن حجّية الكتاب في باب حجّية الظواهر على
الإطلاق ، كما أدخلوا البحث عن السنّة في البحث عن حجّية خبر الواحد ، والبحث عن
الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، والبحث عن العقل في
ثنايا البحث عن حجّية القطع.
ولولا انّ المخالفة لنهج الأعلام يوجب
صعوبة في دراسة المسائل الأُصولية للأذهان المألوفة بكتابي الفرائد والكفاية وما
أُلِّف بعدهما من التقريرات ، لتركت
السير على نهجهم ،
وعقدت فصولاً أربعة لكلّ واحد من هذه الحجج ، وبعد الفراغ منها ، استعرضت البحث
فيما لا نصّ فيه وطرحت فيه الأُصول العملية لعلّ اللّه سبحانه يوفقنا على استعراض
جديد لهذه المسائل.
في تقسيم حالات المكلّف أو
المجتهد
التقسيم الثلاثي في
كلام الأنصاري
قال الشيخ الأعظم : اعلم أنّ المكلّف
إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ ، فإن حصل له
الشكّ فالمرجع هي القواعد الشرعية ، الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى
بالأُصول العملية.
وقد نوقش كلامه بوجوه نذكر منها ما يلي
:
١. قد أُخذ المكلف موضوعاً لطروء
الحالات الثلاث مع أنّها من خصائص المجتهد دون مطلق المكلّف.
٢. أُطلق لفظ الحكم وهو يشمل الإنشائي
والفعلي ، مع أنّ الأحكام المترتّبة على القطع والظن والشكّ إنّما تترتّب على ما
إذا تعلّق القطع وغيره ، بالحكم الفعلي دون الإنشائي ، والمراد من الحكم الإنشائي
ما تمّ تشريعه ولم يبيّن أو لم يصل إلى يد الأُمّة بتاتاً لوجود موانع في طريق
إبلاغه وبيانه للناس.
فإن
قلت : المراد من الحكم الإنشائي هو الحكم
الفاقد للموضوع ، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى فاقد الاستطاعة ، فيقال وجوب الحج في
حقّه إنشائي ، ومعلوم انّ أحكام القطع وغيره مترتبة أيضاً على هذا النوع من الحكم
الإنشائي.
قلت
: إنّ في الحكم الإنشائي اصطلاحين : أحدهما ما ذكرت ، والثاني ما ذكره المورد كما
مرّ ، والإشكال مبنيّ على الاصطلاح الأوّل.
٣. وجود التداخل في تقسيمه الثلاثي ،
لأنّ الظنّ إذا قام الدليل على حجّيته ، يدخل تحت القطع بالحكم وإن كان ظاهريّاً ،
وكان الطريق ظنّياً ، وإلايدخل تحت الشكّ.
فالإشكال الأوّل متوجه إلى أخذ المكلّف
موضوعاً ، والثاني إلى إطلاق لفظ الحكم ، والثالث إلى التقسيم الثلاثي ، مع أنّه
ثنائي.
نعم من حاول أن يتحفظ بالتقسيم الثلاثي
ـ بأن لا يدخل القسم الثاني تحت القسم الأوّل ـ فعليه تبديل الظن بالدليل المعتبر
وتقريره بالنحو التالي : إمّا أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يقوم
عنده طريق معتبر أو لا.
ولا يذهب عليك انّ مجرّد جعل الدليل
المعتبر مكان الظن لا يكفي في رفع التداخل إلا إذا فسر الحكم في قوله : « إذا
التفت إلى حكم » بالحكم الواقعي ويقال : انّ الدليل المعتبر بما انّه لا يفيد
القطع بالحكم الواقعي لا يدخل تحت القطع ، وبما أنّه معتبر لا يدخل تحت الشك ،
فالصيانة على التثليث فرع تخصيص الحكم ، بالواقعي ، وإلايدخل الدليل المعتبر تحت
القطع ، وينتفي التثليث أيضاً.
التقسيم الثنائي في
كلام المحقّق الخراساني
ثمّ إنّه لما لم تكن أحكام القطع
وقسيميه مختصة بالحكم الواقعي بل يعمّه والظاهري ، عدل المحقّق الخراساني من
التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ودفع الإشكالات الثلاثة فقال : إنّ البالغ الذي وضع
عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه ، فإمّا
أن يحصل له القطع به أو لا.
وعلى الثاني لابدّمن انتهائه إلى ما
استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير
الحكومة وإلا فالرجوع إلى
__________________
الأُصول العقلية من
البراءة والاشتغال والتخيير.
إنّ كلامه 1
مركّب من شقين قد تخلص في أوّلهما عن الإشكال الأوّل ، باتخاذ المجتهد هو الموضوع
بقرينة قوله : « أو بمقلّديه » ، وفي الوقت نفسه لم يخص حجّية ما استنبطه لنفسه ،
بل عمّمه لنفسه ولغيره من مقلديه ، بل ربما يكون المورد ممّا لا يبتلي به المجتهد
كأحكام الحائض وغيرها. كما تخلص عن الثاني بتخصيص الحكم بالفعلي. وعن الثالث
بالتقسيم الثنائي.
وعلى ضوء تعريفه يدخل في القسم الأوّل
القطع بالحكم ، بقيام الأمارات وجريان الأُصول العملية الشرعية كالبراءة الشرعية
والتخيير الشرعي والاستصحاب ، لكون الجميع من قبيل القطع بالحكم الظاهري والمفروض
فيهاجعل المؤدّى وانّ للشارع فيها حكماً مماثلاً لما تؤدّيه الأمارة والأُصول
الشرعية ، هذا هو الشقّ الأوّل.
وأمّا الشقّ الثاني ، فأشار به إلى دور
المعذّرات العقلية التي ليس في موردها جعل حكم شرعي على الترتيب التالي :
١. الظن عند انسداد باب العلم ، إذا
قلنا بأنّ العقل يستقل عند انسداده بلزوم الإطاعة الظنية ، وتقديمها على الإطاعة
الشكية والوهمية من دون أن يكون للشارع أيُّ تدخّل في المقام ، فعندئذ لا يكون
المظنون حكماً شرعياً مجعولاً ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ العقل يستكشف في حال
الانسداد أنّ الشارع جعله حجّة في هذه الحالة ، فيكون للشرع في مورده حكم شرعي
مجعول.
٢. الأُصول العقلية من البراءة
والاشتغال والتخيير ، فانّ مبنى الأوّل قبح العقاب بلا بيان ، والثاني لزوم الخروج
عن عهدة التكليف على وجه القطع ، والثالث لزوم الخروج بالمقدار الممكن. وكلّها
أحكام عقلية للتخلص من المأزق.
القضاء بين العلمين
لا يخفى انّ التقسيم الثلاثي لا يخلو من
محسِّنات :
١. انّه تقسيم طبيعي في كلّ موضوع يقع
في أُفق الفكر من غير اختصاص بالحكم الشرعي.
٢. انّه كديباجة للمباحث الثلاثة التي
ألّف الشيخ حولها الرسائل الثلاث : القطع ، الظن ، والأُصول العملية. والمحقّق
الخراساني مع أنّه اختار التقسيم الثنائي ، لكنّه تبع الشيخ في مقام العمل فعقد
بحثاً للقطع ، وبحثاً آخر للأمارات والطرق ، وأدرج الأُصول العملية في المقصد
السابع فلاحظ.
٣. التثليث هو المناسب لحال المبتدئ ،
لأنّ إدخال الظن تحت القطع ، بحجّة انّ المضمون حكم قطعي ظاهري من شأن المنتهى.
وأمّا التقسيم الثنائي فإنّما يصحّ إذا
قلنا بأنّ المجعول في مورد الأمارات هو الحكم الشرعي وهو غير واضح ، وإنّما
المجعول فيها إمضاء لما في يد العقلاء وليس للأمارة عندهم في الأُمور المولوية دور
إلا أنّه إذا أصاب الواقع نجّز وإن أخطأ عذّر ، فليس لنا حكم باسم الحكم الشرعي
الظاهري ومثلها الأُصول العملية العامة إذ ليس فيها أيّ جعل للشارع كالبراءة
الشرعية والتخيير الشرعي والاستصحاب.
نعم لا يبعد في الأُصول العملية الخاصة
كقوله : « كلّ شيء طاهر » أو « كلّ شيء حلال » كون المجعول هو الحكم الظاهري
وسيوافيك بيانها.
هذا كلّه حول الإشكال الثالث المتوجّه
إلى الشيخ.
وأمّا الإشكال الأوّل فيمكن الذبّ عنه
بأنّ المراد من المكلّف هو المكلّف الفعلي الذي لا ينفك عن الالتفات الإجمالي ،
وقوله : « إذا التفت » إشارة إلى
الالتفات التفصيلي
الذي لا ينطبق إلا على المجتهد.
وأمّا الإشكال الثاني ، فلعلّ انصراف
الحكم إلى الفعلي ، أغناه عن تقييده به.
انحصار الأُصول
العملية في الأربعة ، استقرائيّ
المعروف انّ انحصار الأُصول العملية
العامة في الأربعة استقرائي لإمكان أن يكون هنا أصل عملي خامس ، وأمّا أصالة
الطهارة والحلية فانّ كلاً منهما وإن كان أصلاً عملياً لكنّهما تختصان بأبواب
معينة ، والمقصود من الأُصول العملية في المقام ، ما يجري في جميع الأبواب. نعم لو
قطع النظر عن الاستصحاب يمكن أن يقال انّ الحصر عقلي ، لأنّ الأصل إمّا لا يراعى
فيه التكليف المحتمل فهو البراءة ، أو يراعى بوجه وهو التخيير ، أو يراعى بكلّ وجه
وهو الاحتياط.
حصر مجاري الأُصول
في أربعة حصر عقلي
قد تعرفت على أنّ حصر الأُصول العملية
في الأربعة استقرائي لكن حصر مجاريها في الأربعة حصر عقلي دائر بين النفي والإثبات
، فقد ذكر مجاري الأُصول في رسالة القطع للشيخ الأعظم ببيانين ، وقد اختلفت طبعات
الفرائد ، فجاء في بعضها كلا التعبيرين في المتن كما عليه طبعة رحمة اللّه ، كما
جاء ـ في بعضها الآخر ـ أحدهما في المتن والآخر في الهامش ، وأردفه في رسالة
البراءة ببيان ثالث ، وإليك دراسة الجميع.
البيان الأوّل
انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة
السابقة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط ـ إمكان الموافقة القطعية ـ أو
لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في
التكليف أو في
المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى
البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
فقد جعل مجرى التخيير قسيماً لمجرى
الاحتياط والبراءة.
البيان الثاني
الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة
أو لا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو
لا ، والأوّل مجرى البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، والأوّل
مجرى قاعدة الاحتياط والثاني مجرى قاعدة التخيير.
فقد جعل مجرى التخيير قسماً من مجرى
الشكّ في المكلّف به ، فالشكّ في المكلّف به على قسمين : فإمّا لا يمكن الاحتياط
وإمّا يمكن. فالأوّل مجرى التخيير والثاني الاحتياط.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد من العلم بالتكليف أو
الشكّ فيه ـ كما صرّح به الشيخ هو العلم بنوع التكليف كخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة
، أو الشكّ فيه ، فلو علم النوع فهو من قبيل الشكّ في المكلّف به ، ولو جهل النوع
أو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في التكليف ، وهذا ما يستفاد من كلام الشيخ قال في
أوّل رسالة البراءة : « لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف وهو النوع الخاص من الإلزام
وإن علم جنسه كالتكليف المردّد بين الوجوب والحرمة ... ».
__________________
وعلى هذا يرد على التقريرين أمران :
الأمر
الأوّل : انّ الشكّ في التكليف ليس ملاكاً
للبراءة ، ولا الشكّ في المكلف به ملاكاً للاحتياط بل ربّ شك في التكليف يجب فيه
الاحتياط ، كما أنّ ربّ شك في المكلّف به لا يجب فيه الاحتياط.
أمّا الأوّل ، فكالشكّ قبل الفحص ، أو
كون الشكّ متعلقاً بالدماء والأعراض والأموال أو إذا دار الأمر بين وجوب شيء ،
وحرمة شيء آخر ، حيث إنّ المعلوم جنس التكليف لا نوعه ، فالجميع من قبيل الشكّ في
التكليف مع أنّه يجب فيه الاحتياط مثلاً يجب في الأخير فعل الأوّل وترك الثاني.
ويمكن دفع الأوّلين ، بأنّ الفحص من
شرائط جريان البراءة لا من شرائط العمل ، فلا موضوع لها قبله ، كما أنّ وجوب
الاحتياط لدليل ثانوي من الإجماع وغيره ولولاه لكانت البراءة جارية.
نعم يبقى المورد الثالث باقياً بحاله
والاحتيال بجعله من قبيل العلم بالنوع بأنّ مرجعه إلى الشكّ إلى العلم بوجوب فعل
هذا ، أو وجوب ترك ذاك ، تكلّف جدّاً.
وأمّا الثاني فكما إذا كان أطراف الشبهة
غير محصورة ، فلا يجب الاحتياط مع كون الشكّ من قبيل الشكّ في المكلّف به.
الأمر
الثاني : انّ نوع التكليف في مجرى التخيير ،
أعني : دوران الأمر بين المحذورين ، مجهول ، وعلى هذا فهو من قبيل الشكّ في
التكليف ، لكنّه جعله قسيماً لكلا الأمرين في البيان الأوّل ، وقسماً من الشكّ في
المكلّف به في البيان الثاني ، في غير محله.
هذا ما يرجع إلى البيانين الموجودين في
أوّل رسالة القطع.
البيان الثالث
وهناك بيان ثالث للشيخ ربما يكون أمتن
منهما ولا يرد عليه واحد من الإشكالين ، وقد جعل فيه ملاك البراءة والاشتغال عدم
نهوض دليل على ثبوت العقاب أو نهوضه من غير نظر إلى كون الشكّ في التكليف أو كون
الشكّ في المكلّف به ، نعم الغالب على الأوّل عدم نهوض الدليل على العقاب وعلى
الثاني نهوضه عليه ، وإليك نصّه :
إنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه
اليقين السابق عليه وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم
يلحظ ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أم لا
، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب
بمخالفة الواقع المجهول أو لا ، والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد البراءة.
وقد تبع المحقّق الخراساني كلام الشيخ
في تعليقته وقيد مجرى البراءة بما إذا لم يكن هناك حجّة ناهضة على التكليف في
البين عقلاً ونقلاً.
أمّا عدم ورود الإشكالين فواضح :
أمّا الأوّل : فلأنّ عدم جريان البراءة
في الموارد الثلاثة لنهوض الدليل على العقاب ، وأمّا الثاني : فلنهوض الدليل على
عدم العقاب من حيث استلزامه العسر والحرج المنفيين في الشرع.
وعلى هذا فيكون مجرى كلّ واحد مشخصاً من
دون أن يتداخل أحدهما في الأمر بالنحو التالي :
__________________
١. مجرى الاستصحاب : أن تكون الحالة
السابقة ملحوظة.
٢. مجرى التخيير أن لا تكون ملحوظة إمّا
لعدمها أو لعدم حجّيتها ولكن كان الاحتياط غير ممكن ، سواء كان الشكّ من سنخ الشك
في التكليف ، كما إذا تردد حكم شيء معين في وقت محدد بين الوجوب والحرمة ؛ أو كان
من قبيل الشكّ في المكلّف به ، كما لو علم بوجوب البيتوتة إمّا في هذا البلد أو في
بلد آخر ، فأصالة التخيير تجري في كلا الموردين بملاك عدم إمكان الاحتياط.
٣. مجرى البراءة بعد امتناع الاحتياط
عبارة عمّا إذا لم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل : كقبح العقاب بلا
بيان أو الشرع كحديث الرفع.
٤. مجرى الاشتغال بعد إمكان الاحتياط ،
إذا نهض دليل على العقاب لو خالف.
وهذا هو المختار ، وعليه لا يكون هناك
أيّ تداخل.
وأمّا المحقّق النائيني فقد تخلص عن
التداخل بوجه آخر حيث جعل مجرى البراءة ، هو الشكّ في التكليف وفسّـره بالجهل بنوع
التكليف وجنسه وجعل العلم بالجنس مع الجهل بالنوع من أقسام الشكّ في المكلّف به ،
غاية الأمر إذا لم يمكن الاحتياط ، يجري التخيير كدوران الأمر بين وجوب الشيء
وحرمته ، وإذا أمكن يكون مجرى للاحتياط كما إذا علم وجوب شيء ، أو حرمة شيء آخر
فالمعلوم هو الجنس لكن يختلفان بعدم امكان الاحتياط في الأوّل دون الثاني.
نعم يتوجه عليه النقض بما إذا جهل
بالتكليف نوعاً وجنساً فهو عنده من قبيل الشكّ في التكليف ومع ذلك إذا حاز
المحتمَل أهميّة خاصة دعت الشارع إلى جعل الاحتياط كالدماء والأعراض والأموال
فأمرها وإن كان دائراً بين الحلية والحرمة وكان جنس التكليف مجهولاً لكن يجب
الاحتياط. كما يتوجه إليه النقض
بعدم لزوم الاحتياط
في غير المحصورة مع أنّه من قبيل العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به.
إلا أن يقال انّه بصدد بيان حكم الشبهة
بما هي هي مع قطع النظر عن قيام الدليل الخارجي على حكمها.
الأمر الأوّل :
في أحكام القطع
ونذكر من أحكامها ما يلي :
١. في وجوب متابعة
القطع
قال الشيخ الأعظم : لا إشكال في وجوب
متابعة القطع والعمل عليه مادام موجوداً ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع.
وقال المحقّق الخراساني : لا شبهة في
وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً.
يلاحظ
عليه : أنّه إن أُريد من متابعة القطع ،
متابعة نفس القطع ، فهو فرع كونه ملتفتاً إليه مع أنّه أمر مغفول عنه ، لأنّ البحث
في القطع الطريقي الذي ليس فيه أيّ التفات إلى القطع ، وإن أُريد المقطوع كالوجوب
والحرمة وغيرهما من الأحكام الصادرة من المولى ، فالموضوع لوجوب الاتباع عند نظر
العقل هو نفس الأحكام بما هي هي حيث يستقل العقل بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه
، نعم ذات الأحكام بما هي هي وإن كانت موضوعة لوجوب الإطاعة لكن لا يمكن امتثالها
إلا إذا وقف عليه المكلّف بالحجّة العقلية أو الشرعية كالأمارات ، فالوقوف عليها
من شرائط تنجز الطاعة من غير اختصاص بالقطع.
٢. هل طريقية القطع أمر ذاتي
له؟
المعروف انّ طريقية القطع من ذاتياته أو
لوازمه فهي غنية عن الجعل.
توضيحه
: انّ الجعل إمّا بسيط وهو جعل الشيء ، أو مركب وهو جعل الشيء شيئاً ومفاد الأوّل
مفاد كان التامة ، ومفاد الثاني مفاد كان الناقصة ، ويسمّى جعلاً تأليفياً أيضاً.
ثمّ الجعل التأليفي ينقسم إلى : جعل
تأليفي حقيقي كجعل الجسم أبيض ، وجعل تأليفي مجازي كجعل الأربعة زوجاً.
ثمّ إنّ ذاتي الشيء أو لازمه غنيان عن
الجعل التركيبي الحقيقي ، وذلك لأنّ مناط الجعل الحقيقي هو الحاجة وعدم إغناء جعل
الموضوع عن جعل المحمول كما هو الحال في جعل الجسم فانّ إيجاده لا يغني عن إيجاد
البياض ، إذ ليس الجسم بما هو هو واجداً للبياض فيحتاج البياض إلى جعل أمر ، بخلاف
الأربعة بالنسبة إلى الزوجية فانّ جعلها تُغني عن تعلّق جعل مستقل بها ، فجعلها
جعل بالنسبة إلى لازمها ، وإذا كان هكذا حال اللازم ، فكيف بالذاتي كالحيوان
بالنسبة إلى الإنسان.
يلاحظ
عليه : أنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع وفي
الوقت نفسه لا تنالها يدُ الجعل.
أمّا الأوّل : فإن أُريد من الذاتي ،
ذاتي باب الايساغوجي ، فهو فرع كونها جنساً أو فصلاً أو نوعاً وليست كذلك ، لأنّ
حقيقة القطع ترجع إلى كونه من الحالات النفسانية كسائر الصفات ، نعم فيه اقتضاء
هداية الإنسان إلى الخارج في بعض الأوقات دون بعض.
أمّا الثاني : فلأنّـها لو كانت من
لوازم وجوده لزم عدم صحّة الانفكاك بينهما مع أنّا نرى أنّ الإنسان غارق في الجهل
المركّب وكم من قاطع ليس قطعه إلا ضلالة.
ومع الاعتراف بأنّ الطريقية ليست ذاتية
للقطع تُصافِقُ القولَ بأنّ الحجّية لا تنالها يد الجعل ، لكن لا بالملاك السابق ـ
أي كونها ذاتية أو من لوازمه ـ بل بملاك آخر ، وهو انّ المراد من الجعل هو الجعل
الاعتباري التشريعي ، وهو ما لايتعلق إلابالأُمور الاعتبارية ، وأمّا الطريقية
والكاشفية أو تتميم الكشف في الأمارات كلّها أُمور تكوينية لا تتحقق إلابيد
التكوين لا بالجعل الاعتباري الذي هو موضوع البحث في المقام ، وبذلك يعلم انّ ما
يظهر من المحقّق النائيني في غير واحد من المواضع من أنّ المجعول في الأمارات هو
الطريقية ليس بتام.
ومثله ما اختاره السيد الحجّة الكوهكمري
1 في درسه
الشريف ، فقد كان يقوِّي انّ عمل الشارع في الأمارات هو تتميم الكشف ، ومن المعلوم
انّ التتميم كأصله أمر تكويني لا تنالهما يد الجعل.
فتخلص من ذلك ان الطريقية ليست ذاتية
للقطع وفي الوقت نفسه لا تنالها يد الجعل ، وما ربما يقال من أنّ الطريقية ذاتية
له عند القاطع غير تام ، لأنّ الأُمور التكوينية غير خاضعة للنسبية ، لأنّ أمرها
دائر بين الوجود والعدم ، فالطريقية للقطع إمّا حاصلة أو لا؟ وكونها حاصلة له عند
القاطع دون غيره يرجع معناه إلى جهله بالواقع فيزعم غير الطريق طريقاً.
نعم إذا صادف الواقع يكون طريقاً فيكون
وصفاً مفارقاً لا دائماً.
٣. هل القطع حجّة
بالذات؟
قد تعرفت على حكم الطريقية وانّها غير
قابلة للجعل ، وإن كانت غير ذاتية له ، فيقع الكلام في حجّية القطع ، فاعلم أنّ
الحجّة على أقسام :
١. الحجّة اللغوية.
٢. الحجّة المنطقية.
٣. الحجّة الأُصولية.
ونبحث في الجميع واحداً تلو الآخر.
أمّا
الحجّة اللغوية أو العقلائية ، فهي عبارة
عمّا يحتجّ به المولى على العبد وبالعكس. وبعبارة أُخرى : ما يكون قاطعاً للعذر
إذا أصاب ، وعذراً إذا أخطأ.
فقد افترض المحقّق الخراساني الحجّية
بهذا المعنى من لوازم وجود القطع كالإحراق بالنسبة إلى النار ، ومن المعلوم امتناع
الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء ولازمه ، نعم يصحّ الجعل التأليفي العرضي ، بجعل
الموضوع وإيجاده بسيطاً ، فإن جعل النار ، جعل للإحراق تأليفاً مجازياً ، ثمّ رتب
عليه انّه لا يصحّ المنع من تأثيره أي كونه قاطعاً للعذر أو معذّراً ، لعدم تعقل
الانفكاك بين الشيء ولازمه بل يستلزم اجتماع الضدين في نظر القاطع مطلقاً وافق
الواقع أم خالف ، وفي نفس الأمر إذا وافق.
وربّما يستدل على امتناع جعل الحجّية له
باستلزامه التسلسل ، لأنّ الجاعل إمّا أن يكون القطع أو الظن أو الشكّ ، والأخيران
أنزل من أن يكون مبدأً لحجّية القطع فينحصر بالقطع ، فينقل الكلام إليه ، إمّا
يتسلسل أو يتوقف في مورد ، تكون
الحجّية له هناك
أمراً ذاتياً.
يلاحظ
عليه : أنّ القطع وإن كان في غنى عن جعل
الحجّية لها ، لكن لا لأجل كونها من لوازم وجوده وذاته ، كذاتي باب البرهان مثل
الإمكان بالنسبة إلى الماهية ، والزوجية إلى الأربعة ، بل لأجل أنّ صحة الاحتجاج
بالقطع من الأحكام القائمة بنفس العقل ، وليست الحجية من عوارض القطع أو لوازمه
حتى يستدل بعدم صحّة الجعل بما سمعت من امتناع الجعل التأليفي بين الشيء وذاتياته أو
لوازمه.
وهذا بخلاف الزوجية بالنسبة إلى الأربعة
فإنّ الزوجية من لوازم وجود الأربعة وهي قائمة بها قيام اللازم مع الملزوم.
ونظير الحجية بالنسبة إلى القطع حسن
العدل وقبح الظلم فربّما يتصور أنّ نسبتهما إلى العدل والظلم كنسبة الزوجية إلى
الأربعة بتصور أنّهما من لوازمهما أو من ذاتياتهما.
ولكن الحق أنّ الحسن والقبح من
الادراكات العقلية التي ينتقل إليها العقل من احساسه بالملائمة بين الفطرة والعدل
وبالمنافرة بينها وبين الظلم ، فيعبر عن الاحساسين بالحسن والقبح دون أن يكونا من
الأُمور القائمة بالعدل والظلم وقد أسهبنا البحث في ذلك في محله .
وهذا هو الوجه في عدم خضوع القطع لجعل
الحجّية له ، لا كونها ذاتيةً له ، أو استلزامه التسلسل ، لأنّ الدليل الأوّل باطل
والثاني تبعيد للمسافة.
__________________
٤. ليس القطع حجّة منطقية
إذا كان الحدّ الوسط في القياس المنطقي
علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له فيوصف بالحجّة المنطقية كالتغيّـر
الذي هو علّة لإثبات الحدوث للعالم ، وصورة القياس واضحة.
وبما انّ البحث في المقام في القطع
الطريقي الذي ليس له دور في ثبوت المقطوع به واقعاً وتحقّقه ، غير كونه كاشفاً عن
الواقع فلا يوصف بالحجّة المنطقية فلا يصحّ تنظيم قياس من القطع وجعله حدّالوسط
بأن يقال : هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام لكذب الكبرى
، إذ ليس الحرام إلا نفس الخمر ، تعلّق بها القطع أو لا ، لا خصوص مقطوع الخمريّة.
ومثله الظن والأمارة ، فليس الظن
والأمارة علّة لثبوت المقطوع به ، وإنّما هو كاشف ، من دون أن يكون له دور في
تحقّق متعلقه ، فلا يصحّ أن يقال هذا مظنون الخمرية وكلّ مظنون الخمرية يجب
الاجتناب عنه ، لكذب الكبرى ، لأنّ المحرم هو ذات الخمر ، لا كونه بوصف المقطوعية.
هذا كلّه في القطع الطريقي ، وأمّا
القطع الموضوعي خصوصاً إذا كان تمام الموضوع للحكم فبما انّ له دوراً في ثبوت
الحكم كما إذا رتّب الشارع الحرمة على مقطوع الخمرية ، يكون القطع واسطة لثبوت
الأكبر على الأصغر ، ويصحّ تأليف قياس منطقي منه ، فيقال هذا مقطوع الخمرية وكلّ
مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام والكبرى صادقة بخلاف ما إذا كان القطع طريقاً لا
دخيلاً في الموضوع.
والعجب من الشيخ الأعظم حيث فرّق بين
القطع والظن ، فقال بأنّه لا يحتج بالقطع على ثبوت الأكبر للأصغر ، بخلاف الظنّ أو
البيّنة أو فتوى المفتي فصحح قول القائل هذا الفعل ما أفتى بتحريمه المفتي ، أو
قامت البيّنة على كونه
محرماً ، وكلّما كان
كذلك فهو حرام مع
أنّ الجميع من باب واحد ، ولعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الحجّة المنطقية
والحجّة الأُصولية ، فانّ التفكيك إنّما يصحّ في الثانية دون الأُولى ، وإليك
بيانها.
٥. ليس القطع حجّة
أُصولية بخلاف الظن
الحجّة الأُصولية عبارة عمّا لا يحكم
العقل بالاحتجاج بها ولا يحكم بعدمه أيضاً غير أنّ العقلاء أو الشارع يرون
الاكتفاء بالقطع يوجب العسر والحرج ، أو فوتَ المصالح لقلة القطع واليقين ، فيعتبرون
الأمارة في الأحكام والبيّنة في الموضوعات حجّة لإثبات متعلقاتهما ، والحجّة بهذا
المعنى من خصائص الحجج العقلائية والشرعية ، وذلك لأنّ كاشفية الأمارة ليست تامة
فيحتاج في صحّة الاحتجاج بها إلى إضفاء الحجّية عليه ، من جانب العقلاء أو المولى.
وهذا بخلاف القطع فبما انّه كاشف تامّ
عند القاطع ، يستقل العقل بصحة الاحتجاج به يراه غنيّاً عن إفاضة الجعل عليه ،
مضافاً إلى ما عرفت من استلزامه التسلسل.
٦. لا يصحّ المنع عن العمل
بالقطع
إذا كان الحكم مترتباً على الواقع
كالحرمة على الخمر بما هو هو ، فلو قطع إنسان بكون المائع خمراً لا يصحّ النهي عن
العمل به لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع ، سواء أصاب أم
أخطأ ، إذ معنى النهي هو تعلّق إرادتين تشريعيتين مختلفتين بشيء واحد.
نعم إذا كانت للطريق مدخليّة في موضوع
الحكم ، فله أن يتصرّف في
__________________
الموضوع ويرتّب
الحرمة على الخمر الثابت بالقطع الحاصل من الحسّ دون الحدس ، أو على الخمر الثابت
بالبيّنة دون القطع ترجيحاً لها على قطع المكلّف لكثرة الخطأ في قطعه.
هذا كلّه في أحكام القطع.
بقي هنا شيء وهو ماذكره المحقّق الخراساني
:
٧. أحكام القطع مترتّبة على
القطع بالحكم الفعلي
قد مضى وسيوافيك انّ الحكم له مراتب
أربع :
١. مرتبة الاقتضاء كالمصالح والمفاسد
وتسميتها بالحكم بنوع من التوسّع والمجاز ، وإلافهما من مبادئه ومقدماته.
٢. مرتبة الإنشاء والتصويب قبل الإبلاغ
إلى المكلّف.
٣. مرتبة الفعليّة ، وجعل البعث والزجر
في مظان وجود التكليف.
٤. مرتبة التنجيز إذا وقف عليه المكلّف
، وإبلاغه إلى المكلّفين.
وما ذكر من الأحكام للقطع فإنّما هي في
مورد تعلقه بحكم فعلي ، يتنجّز بالقطع ، وأمّا ما لم يبلغ تلك المرتبة ، فلا يترتب
عليه حكم شرعي ، لأنّه ليس حكماً وإن كان يترتّب عليه الثواب إذا قام بالامتثال من
باب الانقياد.
ثمّ أشار إلى مشكلة الجمع بين الحكم
الواقعي الفعلي والظاهري ، وسيوافيك بيانه في مبحث الأمارات.
الأمر الثاني
في التجرّي
وقبل الورود في الموضوع نذكر أُموراً :
١. التجرّي لغةً :
التجرّي في اللغة مطلق إظهار الجرأة ،
فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقّق التجرّي بالإقدام على خلاف ما قطع
بوجوبه أو بحرمته بترك الأوّل وارتكاب الثاني دون فرق بين كون قطعه مصيباً للواقع
أو مخالفاً له ، ولكن المقصود من التجرّي هنا ليس المعنى اللغوي بل المعنى المصطلح
، وهو الإقدام على خلاف ما قطع به في مجال إطاعة المولى شريطة أن يكون قطعه خلافاً
للواقع. كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فترك الأوّل وارتكب الثاني فبان
خلافهما ، ويسمّى مخالفة القطع المصيب بالمعصية.
ومنه يظهر حال الانقياد فهو لغة الإقدام
على وفق ما قطع ، سواء كان في قطعه مصيباً أم لا ، لكن المراد هنا هو القسم الخاص
، أعني : ما إذا عمل على وفق قطعه ، لكن إذا تبيّن خطأ قطعه ، فيختصّ الإقدام على
وفق القطع المصيب بالطاعة.
ومنه يعلم أنّ التجري والانقياد بالمعنى
الاصطلاحي لا يختصان بالقطع بل يعمان الحجج الشرعية أيضاً من الأمارات والأُصول ،
فلو خالف البيّنة أو الأصل
العملي ثمّ ظهر عدم
إصابتها للواقع يسمى تجريّاً ، ومثله الانقياد فهو لا يختص بالقطع بل يعم الحجج
الشرعية أيضاً.
٢. التجرّي اصطلاحاً :
إنّ التجري بالمعنى الاصطلاحي إنّما يتصور
إذا كان القطع طريقياً محضاً بحيث ينصبّ الحكم على ذات الواقع سواء أقطع به أم لا
، وسواء أكانت هناك حجّة أم لا.
وأمّا إذا كان الحكم منصبّاً على القطع
بالشيء بحيث يكون القطع تمام الموضوع للحرمة سواء صادف الواقع أو لا ، فلا يتصور
التجري الاصطلاحي هنا بل يعدّ من قبيل المعصية.
٣. هل المسألة كلامية أو
أُصولية أو فقهية؟
قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : إنّ
النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة
الكلاميّة ، كما يمكن أن يقع النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أو
لا؟ فتكون المسألة من المسائل الأُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، ويمكن
أن يكون النزاع في كون هذا الفعل ، أعني : ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً
شرعاً أو لا ، فتكون من المسائل الفقهية.
أقول
: الظاهر انّ المسألة قاعدة فقهية ، ومصبّ البحث فيها كون نفس التجرّي حراماً أو
لا ، حتى يكون دليلاً على الحكم الشرعي في أبواب مختلفة من الفقه.
__________________
وأمّا البحث عن كونه قبيحاً أو لا؟
فإنّما هو من باب الاستدلال على الحرمة لكشف القبح عن الحرمة لو قلنا بصحّة الكشف
في هذه المقامات ، كما أنّ البحث عن استحقاقه للعقاب بحث عن نتيجة المسألة.
٤. أقسام التجرّي :
إنّ الشيخ قسّم التجرّي إلى أقسام ستة
نذكر منها ثلاثة :
أ. إذا نوى ارتكاب المحرم من دون ارتكاب
مقدّماته فضلاً عن ارتكاب نفس الحرام ثم ارتدع.
ب. إذا نوى وارتكب بعض المقدمات ثمّ
ارتدع.
ج. إذا ارتكب ما يراه محرماً ثمّ بان
كونه مباحاً.
ومحلّ البحث هو القسم الثالث للاتفاق
على عدم حرمة القسمين الأوّلين.
إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع
تارة في حكم نفس ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً وانّه هل هو حرام أو لا؟ وأُخرى في حكم
الفعل المتجرّى به الذي تحقّق التجرّي في ضمنه من حيث الحرمة وعدمها ، ولأجل ذلك
يقع الكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في
حكم نفس التجرّي
إذا ارتكب المكلّف ما يراه معصية أو ما
قامت الحجّة على كونه كذلك ، فهل ارتكب حراماً أو لا؟ ففيه أقوال ثلاثة :
١. الحرمة واستحقاق العقاب. وهو خيرة
المحقّق الخراساني.
٢. عدم الحرمة وعدم استحقاق العقاب. وهو
خيرة الشيخ الأنصاري
وإنّما يستحق اللوم
والذم.
وبعبارة أُخرى : ليس هناك قبح فعلي ،
ولو كان هناك قبح ، فإنّما يرجع إلى الفاعل.
٣. القول بهما إلا إذا اعتقد تحريم واجب
غير مشروط بقصد القربة فلا يبعد عدم استحقاق العقاب ومرجعه إلى القول الأوّل غاية
الأمر تتدارك الجهة القبيحة ، بالجهة المحسِّنة الواقعية. وهو خيرة صاحب الفصول.
واستدلّ القائل بالقبح أو الحرمة
بالإجماع تارة ، وبناء العقلاء أُخرى ، ودليل العقل ثالثاً.
أقول
: إنّ الإجماع على فرض ثبوته لا يحتجّ به في مثل تلك المسألة ممّا للعقل إليه سبيل
لاحتمال اعتماد المجمعين على حكم العقل ، فيكون الإجماع مدركيّاً لا يحتجّ إلا
بالمدرك لا بالإجماع.
على أنّ الإجماع مخدوش كما يظهر من
التذكرة في من أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت ثمّ بان بقاؤه ، فقال العلاّمة في
التذكرة بعدم العقاب ، وحكي عن المفاتيح أيضاً.
نعم أفتوا بحرمة سلوك طريق محظور ، لأجل
انّ الخوف هو موضوع الحرمة لا الخطر الواقعي.
وأمّا بناء العقلاء فلا يتجاوز عن ذم
المرتكب ولومه لا عقابه ، وبقي الدليل الثالث أي العقلي فنقول :
قرّر الدليل العقلي بوجوه :
الأوّل
: ما نقله الشيخ في فرائده ، وحاصله : إذا فرضنا انّ اثنين قصدا شرب الخمر ، فصادف
أحدهما الواقع دون الآخر ، فإمّا أن نقول بصحّة عقوبتهما معاً ، أو
عدم عقوبتهما كذلك ،
أو عقوبة المخطئ دون المصيب أو بالعكس; والأوّل هو المطلوب ، والثاني والثالث خلاف
المتفق عليه ، وأمّا الرابع فيلزم أن يكون العقاب والثواب منوطين بأمر خارج عن
الاختيار.
أقول
: نحن نختار الشقّ الرابع وهو عقاب المصيب دون المخطئ ، ولكن القبيح هو إناطة
العقاب بأمر خارج عن الاختيار ، وأمّا إناطة عدم العقاب بأمر خارج عن الاختيار
فليس بقبيح كما أوضحه الشيخ الأنصاري ، والحاصل نعاقب المصيب لأنّه شرب الخمر عن
اختيار ، كما شربها في حالة الانفراد ، ولا نعاقب المخطئ لأنّه لم يشرب وإن كان عن
لا اختيار. وبعبارة أُخرى : تحقّق سبب الاستحقاق في المصيب وهو مخالفته عن عمد ، وعدمه
في الثاني ولو بلا اختيار.
الثاني
: ما ذكره المحقّق الخراساني من شهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه
وهتك حرمة مولاه وخروجه عن رسم العبودية وكونه بصدد الطغيان والعزم على العصيان ،
كما يشهد الوجدان على صحّة مثوبته على قيامه بما هو قضية عبوديته من العزم على
موافقة القطع والبناء على طاعته.
أقول
: إنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية أو الشرعية لأجل غلبة الهوى على العقل
، والشقاء على السعادة وربّما مع استيلاء الخوف على المرتكب وعروض الارتعاش حينه ،
فهل يستحق العقاب أو لا؟
وأمّا ضمّ عناوين أُخر إلى ذلك من الهتك
والتمرّد ورفع علم الطغيان فكلّها أجنبيّة عن المقام ، ولا شكّ في استحقاق العقاب
لو كان عمله مصداقاً للهتك ورمزاً للطغيان وإظهار الجرأة ، إلى غير ذلك من
العناوين القبيحة.
والحاصل : انّ الإنسان ربما يرتكب ما
يقطع بحرمته لا لأجل الطغيان وإظهار الجرأة وهتك الستر ، بل لما ورد في دعاء أبي
حمزة الثمالي الذي علمه إيّاه الإمام السجاد 7
حيث قال في مقطع من مناجاته معلّماً للداعي :
« إلهي لم أعصك حين عصيتُك وأنا
بربوبيّتك جاحد ، ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن
خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي ، وأعانني عليها شقوتي ، وغرّني سترك
المرخى عليّ ».
أضف إلى ذلك انّه يستلزم تعدّد العقاب
عند الإصابة لموجبين : أحدهما : العصيان ، والثاني : العنوان المشترك ( كالتمرّد
والهتك و ... ) ؛ فقد اتفقوا على أنّ مجرّد مخالفة أمر المولى بلا عذر ( العصيان )
بأيّ داع كان مستلزم للعقوبة ، فإذا ضمّ إليه العنوان المشترك بينه وبين التجرّي
يلزم تعدّد العقاب.
ثمّ إنّ صاحب الفصول تفصّى عن الإشكال
بتداخل العقابين ، ومن المعلوم انّه لا يسمن ولا يغني من جوع ، لأنّه إن أراد من
التداخل وحدة العقاب فيكون ترجيحاً بلا مرجح ، وإن أراد كثرة العقاب فليس تداخلاً.
الثالث
: ما هو الملاك للعقاب في المعصية؟ فهناك احتمالات :
١. ذات المخالفة للأمر والنهي.
٢. تفويت غرض المولى.
٣. ارتكاب مبغوض المولى.
٤. كونه هتكاً لحرمة المولى وجرأة عليه
وإن شئت قلت : المخالفة الاعتقادية.
ولا تصلح الثلاثة الأُولى ملاكاً للعقاب
، لوجودها في الجاهل المعذور إذا خالف ، فتعيّن الرابع ، وهو مشترك بين المعصية
والتجرّي.
يلاحظ
عليه : أنّ الملاك للعقاب في المعصية أمر
خامس غير موجود لا في المخالفة عن جهل ، ولا في التجري وهو مخالفة أمر المولى
واقعاً عن عمد بلا عذر وهو مختص بالعصيان ، وأمّا غيرهما فالجزء الأوّل أي
المخالفة في التجرّي غير
__________________
موجود ، والمخالفة
للواقع وإن كانت موجودة في المعذور ، لكن القيد الثاني ( بلا عذر ) منتف.
الرابع
: ما نقله المحقّق النائيني في كلام مبسوط حاصله : انّ المناط في حكم العقل
باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثيّة صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضاً
للمولى من دون دخل للواقع ، فانّ الإرادة الواقعية ممّا لا أثر لها عند العقل إلا
بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى مشترك بين العاصي والمتجري.
وإن شئت قلت : إنّ المناط عند العقل في
استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد
ما كان العلم من باب الطاعة والمعصية موضوعاً عند العقل واضح.
يلاحظ عليه بأمرين :
١. بعد تسليم كون مناط العقاب هو البغض
الفاعلي ، انّ الملاك هو البغض الفاعلي المتولد من القبح الفعلي وهذا يختص
بالمعصية ، وأمّا التجرّي ، فالقبح الفاعلي هناك متولد من سوء السريرة وخبث الباطن
أو غلبة الهوى على العقل ، والشقاء على خلافه لا من القبح الفعلي.
٢. إنّ الهدف من إثبات قبح إرادة
المعصية ، هو إثبات حرمته ليترتب عليه العقاب ، ولكن المحاولة فاشلة ، لأنّه ليس
كلّ حسن ملازماً للحكم بالوجوب ، ولا كلّ قبيح ملازماً للحرمة ، إلا إذا تعلّق
بمبادئ الأحكام وعللها وموضوعاتها كردّ الأمانة أو الخيانة بها ، فيكشف كلّ من
الحسن والقبح عن وجوب الأوّل وحرمة الثاني ، وأمّا إذا تعلّق بمعاليل الأحكام
كالطاعة والمعصية ، فانّ حسن الأوّل وقبح الثاني لا يكشفان عن حكم شرعي ، وإلا
يلزم عدم انتهاء الأحكام إلى حدّ وتسلسل العقوبات ، وذلك لأنّ الطاعة والمعصية لا
يتحقّقان إلا إذا سبق عليهما
__________________
حكم شرعي ، حتى يقال
بحسن طاعته وقبح عصيانه ، فلو كشف الحكم بحسن طاعة ذلك الحكم ، وقبح عصيانه ، عن
حكم شرعي ثالث يستقل العقل بحسنه وطاعته لتسلسل الأحكام والعقوبات وهو خلاف
الوجدان والضرورة.
ومنه تظهر الحال في إرادة المعصية
والطاعة ، فلو افترضنا حسن الأُولى وقبح الثانية فلا يكشفان عن حكم شرعي حتى تترتب
عليه المخالفة والموافقة وبالتالي : المثوبة والعقوبة فالكلّ خارج عن حريم
الملازمة كما لا يخفى.
تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وإليك
الكلام في المقام الثاني.
المقام الثاني : في حكم
المتجرّى به
الفرق بين التجرّي ، والمتجرّى به واضح
، فانّ الأوّل فعل للعبد ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية والشرعية بخلاف
الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي تتحقق به مخالفة الحجّة.
ثمّ الكلام فيه تارة من حيث القبح ،
وأُخرى من وجه الحرمة الشرعية.
فقد استدل المحقّق الخراساني على عدم
قبحه بوجوه ثلاثة :
١. انّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون
من الوجوه والاعتبارات التي بها يصير الشيء حسناً وقبيحاً ولا ملاكاً للمحبوبية
والمبغوضية ، فقتل ابن المولى مبغوض وإن قتله بعنوان انّه عدوه ، وقتل عدوّه حسن
وإن قتله بعنوان انّه ابنه.
٢. انّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع
الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً ، فانّ القاطع لا يقصده إلا بما قطع انّه عليه
من العنوان الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الأوّلي بل يكون غالباً بهذا
العنوان ممّا لا يلتفت إليه.
__________________
٣. انّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل
إختياري أصلاً ، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده وما صدر منه
لم يقصده بل ولم يخطر بباله.
يلاحظ
على الأوّل : أنّ العنوان
المقبح في كلامهم ليس هو القطع بالقبح بل الجرأة والتمرد والطغيان أو الهتك والظلم
ولا شكّ انّـها من العناوين المقبحة ، ومنه يظهر حال الوجه الثاني فانّه مبني على
كون العنوان القبيح هو القطع ومضافاً إلى ما في إنكار كون القطع مورداً للالتفات
إجمالاً ، فانّ الالتفات إجمالاً إلى العلم ممّا لا ينكر.
ويلاحظ على الثالث انّه يكفي في صدور
الفعل الاختياري ، كون الجامع بين الخمر والماء مورداً للالتفات وهو شرب المائع ،
فكيف يقال انّه لم يصدر منه ، ولذلك يبطل صومه بشرب ما قطع كونه خمراً وهو ماء.
ومع ذلك كلّه ، فالحقّ مع المحقّق
الخراساني انّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه ، لأنّ العناوين المقبحة لا
تتجاوز عن خمسة : ثلاثة منها قائمة بالجنان ، كالجرأة ، والعزم على المعصية
والطغيان ، وقبحها لا يسري إلى الفعل لكونها من الأُمور القلبية والفعل كاشف عنها
؛ واثنان منها الظلم والهتك وإن كانا قائمين بالفعل لكنّهما يختصان بالمعصية
فالظلم على المولى بنقض قانونه ، والمفروض عدمه مثله والهتك بمعنى خرق الستر فانّه
من خصائص المعاصي.
في حرمة الفعل المتجرّى به
قد عرفت أنّ الفعل المتجرّى به باق على
ما كان عليه من الحسن والقبح إنّما الكلام في حرمته شرعاً لا باستكشاف حرمته من
قبحه ، لما عرفت من عدم قبحه بل بوجهين تاليين :
__________________
١. ادعاء شمول الخطابات
الأوّلية له ( حرمته بالعنوان الأوّلي )
يمكن أن يقال : انّ متعلّق الخطابات
الأوّلية ليس هو شرب الخمر الواقعي ، بل القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ،
ومخالفته له ، بأن يقال : انّ الحرام تحريك العضلات نحو شرب ما أحرز انّه خمر ،
فيكون المتجرّي عاصياً حقيقة.
والدليل عليه : انّ متعلّق التكليف يجب
أن يكون مقدوراً وليست المصادفة والمخالفة الواقعيتين تحت الاختيار حتى يتعلق
التكليف بالمصادف دون المخالف ، فيجب أن يكون متعلّقه إرادة ما أحرز انّه من
مصاديق الموضوع إذ هو الفعل الاختياري ، فتكون نسبته إلى المطابق والمخالف على حدّ
سواء.
يلاحظ
عليه : أنّ الأحكام تتعلّق بما تشمل على
المصالح والمفاسد ، ولا شكّ انّ المفسدة قائمة بشرب الخمر بما هو هو سواء كان
عالماً أو جاهلاً غير انّ الحكم الشرعي لا يتنجز إلا بالعلم ، فإذا كان كذلك ،
فالخطابات الأوّلية لا تعمّ إلا شرب الخمر الواقعي ، لا شرب ما أحرز انّه خمر ،
وإلا يلزم تعلّق الأحكام بالأوسع ممّا قام به الملاك.
وأمّا كون الإصابة وعدمها خارجتين عن
الاختيار ، فقد عرفت أنّ الأُولى داخلة تحته ، نعم الخطاء وعدم الإصابة خارج عنه ،
فلو قصد شخصان قتل إنسان فأطلقوا الرصاص فأصاب أحدهما دون الآخر ، يعاقب الأوّل
لأجل قيامه بالفعل الاختياري من قتل إنسان بريء.
هذا كلّه حول حرمته حسب العنوان
الأوّلي. بقي الكلام في حرمته بالعنوان الثانوي.
__________________
٢. حرمته بالعنوان الثانوي
قد عرفت أنّ ادّعاء شمول الإطلاقات
للفعل المتجرّى به في غاية الضعف ، ومثله القول بحرمته لأجل العناوين الثانوية
كالجرأة والطغيان والتمرّد ، والظلم والهتك ، فانّ الثلاثة من الأُمور النفسانية
غير القائمة بنفس الفعل ، كما مرّ سابقاً ، وأمّا الظلم على المولى فرع نقض
القانون وهو يختص بالعاصي ، وأمّا الهتك فهو فرع التظاهر بالعمل والمفروض في المقام
غيره ، بل البحث مركز على مخالفة الحجّة وإن كان في خفاء مع الخوف والوجل.
وبذلك يعلم حال الفعل المنقاد به ، فلا
يوصف بالحسن ، كما إذا جامع امرأة أجنبية بزعم انّها زوجته قضاء للواجب في كلّ
أربعة أشهر ، فالفعل باق على قبحه ، نعم يفارق الانقياد عن التجرّي بورود الدليل
على ترتب الثواب على الأوّل ، دون العقاب على التجرّي.
أسئلة ثلاثة
وأجوبتها
السؤال
الأوّل : حكم التجرّي في الآيات والروايات
إذا لم يكن في مورد التجرّي قبح فعلي
وبالتالي لم يكن أي عقاب ، فما معنى ما دلّ من الآيات والروايات على ثبوت العقاب
لنية العصيان بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.
الجواب : لا دلالة لما استدل به من
الأدلّة على المدّعى ، وإليك دراسة الآيات أوّلاً ، ثمّ الروايات ثانياً.
الف. قوله سبحانه : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ
فَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاء
).
والجواب
بوجهين : أوّلاً : انّ الآية كبرى كلية لما
مرّفي الآية المتقدمة ، أعني : قوله سبحانه : (
وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهادة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
). ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها وليست
نية المعصية من مصاديق هذه المقولة ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها.
وثانياً
: انّ القدر المتيقن من الآية ، الأُمور التي لها رسوخ في النفس كالإيمان والكفر ،
والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، ولا تعم الأُمور الآنيّة كنية العصيان التي تأتي
وتزول.
٢. قوله سبحانه : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسئُولاً
).
يلاحظ
على الاستدلال : أنّ ظاهرها انّ
لكلّ من السمع والبصر والفؤاد وظائف وأحكاماً يكون كلّ منها مسؤولاً عنها ، وهذه
الضابطة أمر مسلم ، انّما الكلام في الصغرى وهي هل الفؤاد مسؤول عن حرمة نيّة
المعصية إذا نواها وإن لم يرتكبها؟ فلم يدلّ دليل عليه.
والحاصل : انّ الكبرى لا تدل على الصغرى
أي كون الفؤاد مسؤولاً عنه لا يدل على أنّه يسأل حتّى عن نيّة المعصية ، نعم هو
مسؤول عن الإيمان والكفر والنفاق وغيرها ممّا دلّ الدليل القطعي على أنّها من
وظائفه ، نعم لو ثبت انّ الفؤاد مسؤول عن كلّ ما يرجع إليه ، يكون هذا دليلاً على
حرمة نيّة الجرأة.
٣. (
لا
يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما
كَسَبَتْ
__________________
قُلُوبُكُمْ
وَاللّهُ غَفُورٌ حَليمٌ ).
وكيفية الاستدلال واضحة :
والجواب انّ المراد من قوله : ( بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بقرينة مقابلته لقوله : ( باللّغو في أيمانِكُم
) هو اليمين
التي يحلف بها الإنسان عن عقد القلب وقصد منه ، وأين هو من المؤاخذة على كلّ عمل
قلبي. وحاصل الآية : انّ ما يحلف به الإنسان جرياً على عادته من قوله : « واللّه »
، « بلى واللّه » لا يؤخذ به ، بل يؤخذ على كلّ يمين كان للقلب والشعور تأثير فيه
وهو الأيمان الجدية.
٤. (
إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَة وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُون ).
ترى أنّه سبحانه أوعد بالعذاب على من
أحبّ شيوع الفاحشة في الّذين آمنوا وهو أمر قلبي.
يلاحظ
على الاستدلال : أنّ حبّ شيوع
الفاحشة من المعاصي الموبقة كما سيوافيك إن شاء اللّه عند البحث في الروايات ،
فانّ هناك أعمالاً قلبية محرمة كالرضا بمعصية الغير ، وأين هو من النية العارية
بالنسبة إلى فعل الناوي؟!
أضف إلى ذلك انّ الحب في الآية قد اقترن
بالعمل ، لأنّها نزلت في حقّ عبد اللّه بن أُبيّ الّذي قام بقذف الأبرياء بالفحشاء
والمنكر ، والمورد يصلح للقرينية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى لمن أحبّ شيوع
الفاحشة عارياً عن العمل.
٥. قوله سبحانه : ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقين ).
__________________
إنّ الاستدلال بالآية ضعيف ، لأنّها
وردت في شأن قارون وقد أراد علواً في الأرض وفساداً من وراء أعماله الموبقة.
وبعبارة أُخرى : انّ المراد من عدم
إرادة العلو ، هو عدم بغيه عملاً ، وعدم طلبه خارجاً فأطلقت الإرادة ، وأُريد منها
عدم تحقّق المراد.
هذا كلّه حول الآيات ، وأمّا الروايات
فهي على صنفين : صنف منها يدل بظاهره البدئي على ترتب العقاب على مجرد نيّة
العصيان ، وصنف آخر يدل على خلافه ، وإليك الكلام في كلا الصنفين :
الصنف الأوّل : ما يدل على
ترتّب العقاب
١. حشر الناس على نياتهم
عن أبي عبد اللّه 7 قال : « إنّ اللّه يحشر الناس على
نيّاتهم يوم القيامة ».
والحديث وإن كان بظاهره دليلاً على
المطلوب ، ولكنّه يفسّره حديث آخر عن رسول اللّه 6
قال : « في حديث انّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما
عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّوجلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى
عقالاً لم يكن له إلاما نوى ».
والحديث المفسِر ( بالكسر ) والمفسَر (
بالفتح ) وإن كانا ضعيفي السند ، لكن الثاني يرفع الستار عن وجه الأوّل ، وانّ
المراد من حشر الناس على نياتهم هو حشرهم على نيّاتهم الخالصة أو المشوبة بالرياء
، فأين هذا من المطلوب؟!
__________________
٢. جمع الناس بالرضا والسخط
ما روي عن أمير المؤمنين 7 ، انّه قال : « أيّها النّاس إنّما
يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنّما عَقَر ناقَة ثمود رجل واحد ، فعمّهم اللّه
بالعذاب لما عمّوه بالرضى ، فقال سبحانه : (
فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمين ) ».
ما روي عنه 7 : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم
، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به ».
يلاحظ على الاستدلال : أنّ الرضا بصدور
المعصية عن الغير من المعاصي الكبيرة وليست من التجرّي ، نظير ذلك حبّ شيوع
الفاحشة بين الناس كما جاءت في الآية المباركة : (
إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذابٌ أَليم ).
فإنّ نفس الحب معصية قلبية كالكفر
والنفاق وغير ذلك ، وهذه الروايات الأربع لا دلالة لها على مقصود المستدل.
٣. نيّة الكافر شرّ من عمله
روى السكوني عن أبي عبد اللّه 7 أنّه قال : « قال رسول اللّه 6 : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة
الكافر شرٌّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته ».
__________________
يلاحظ عليه بأمرين :
أ. انّ المضمون غريب ، إذ كيف تكون نية
المؤمن العارية عن العمل ، خير من عمله ، ومثله نيّة الكافر مع أنّ العمل أفضل من
النيّة العارية للمؤمن وعلى العكس في الكافر ، والغرابة في المضمون تعدّ من مضعفات
الاحتجاج بالرواية المذكورة.
ب. انّ الحديث وُجِّه في بعض الروايات
بوجهين :
فتارة : فسر « الخير » في الحديث
بالكثرة ، بمعنى انّ نية المؤمن أكثر وأوسع من عمله كما انّ نية الكافر أكثر وأوسع
من عمله ، فالمؤمن يبغي الخير الكثير ولا ينال إلا القليل كما انّ الكافر يبغي
الشر الكثير ولا ينال إلا القليل لضيق قدرته. وقد روى الحسن بن حسين الأنصاري ، عن
بعض رجاله ، عن أبي جعفر 7
أنّه كان يقول :
« نيّة المؤمن أفضل من عمله ذلك لأنّه
ينوي من الخير مالا يدركه ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشر
ويأمل من الشر مالا يدركه ».
وأُخرى : بأنّ نيّة المؤمن بعيدة عن
الرياء دون عمله ، فقد روى زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه 7 : إنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير
من عمله فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال : « لأنّ العمل ربما كان رياء
للمخلوقين والنية خالصةً لربِّ العالمين ، فيعطي عزّ وَجَلّ على النية مالا يعطي
على العمل ».
والتوجيه يختص بنيّة المؤمن ويبقى
الإشكال في نية الكافر على حاله.
__________________
وحاصل الكلام : انّ الحديث مشتمل على
مضمون غريب أوّلاً ، وانّ الخير والشر فُسِّرا بالكمية تارة ، أو بالابتعاد عن
الرياء أُخرى ، وأين هذا من كون النية المجردة حراماً؟!
٤. خلود أهل النار لأجل
النية
روى أبو هاشم المدني قال : قال أبو عبد
اللّه 7 : « انّما
خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن
يعصوا اللّه أبداً ؛ وإنّما خُلِّد أهل الجنة في الجنة ، لأنّ نيّاتهم كانت في
الدنيا ، أن لوبقوا فيها ، ان يطيعوا اللّه أبداً ؛ فبالنيات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء
، ثمّ تلا قوله تعالى : (
قُلْ كُلٌّ
يعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) قال
: على نيّته ».
ولا يخفى وجود الغرابة في مضمون الحديث
، إذ ليس كلّ مؤمن ولا كافر على النحو الذي وصف في الرواية ، على أنّ الحديث ضعيف
بالحسين بن أحمد المنقري ، وأحمد بن يونس ، فكيف يحتجّ بحديث غريب في المضمون محكي
بالضعاف؟!
وأمّا وجه خلودهم في الجنّة ، فقد
أوضحنا ذلك في كتاب الإلهيات.
٥. يكتب في حال المرض ما عمل
في حال الصحّة
روى جابر ، عن أبي جعفر قال : قال لي :
« يا جابر : يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصحيح ما كان يكتب في صحّته ، ويكتب
للكافر في سقمه من
__________________
العمل السيّئ ما كان
يكتب في صحّته ».
ثمّ قال : « يا جابر ما أشدّهذا من حديث
».
والحديث ضعيف جّداً لما اشتمل على
مجاهيل في السند. أضف إلى ذلك انّه يحتمل أن يكون الحديث ناظراً إلى الأعمال
الصالحة التي يقوم بها المؤمن كبناء المسجد فمادام المسجد باقياً ومأوى للمصلين
يصل ثوابه إلى المؤمن وإن كان طريح الفراش ، ومثله في الكافر إذا أسس سنة سيئة ،
والقرينة على هذا التفسير هي كلمة « العمل الصالح والعمل السيّئ » فقد ورد عن رسول
الله 6 أنّه قال :
« إذا مات الإنسان انقطع عمله إلامن ثلاث : علم ينتفع به ، أو صدقة تجرى له ، أو
ولد صالح يدعو له ».
وهذا الخبر وما تقدمه لا يحتج بهما
لغرابة متنهما أو ضعف سندهما مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في الدلالة.
الصنف الثاني : ما يدل على
عدم الحرمة
تضافرت الروايات على أنّ من ألطافه
سبحانه على عباده هو انّه يُجزي علينية العمل الصالح وإن لم يفعله المؤمن ، ولا
يُجزي على نية العمل السيّئ مالميرتكبه ، وإليك شيئاًمن تلك الروايات ، ونشير في
الهامش إلى محال مالم نذكره.
روى الكليني عن زرارة ، عن أحدهما 8 ، قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل
لآدم في ذريته انّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها
كتبت له عشراً ;و من همّ بسيئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت
__________________
عليه سيئة ».
وبما انّ هذا الصنف من الروايات أكثر
عدداً وأوضح دلالة يتعين الأخذ بها ، إنّما الكلام في الصنف الأوّل ، فهل هناك جمع
دلالي أو لا؟
يظهر الأوّل من الشيخ فقد جمع بينهما
بوجهين :
الوجه
الأوّل : حمل الطائفة الأُولى على من بقي على
قصده حتى عجز لا باختياره ، والطائفة الثانية على من ارتدع بنفسه واختياره.
واستشهد على هذا الجمع بالنبوي ، قال :
« إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة ، فالقاتل والمقتول في النار » ، قيل :
يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : « لأنّه أراد قتله ».
أقول
: إنّ في السند الحسين بن علوان وهو عامي لم يوثّق ، كما أنّ فيه عمرو ابن خالد
وهو زيدي بتري فالحديث لايحتج به.
أضف إلى ذلك انّ إرادة قتل المؤمن
بالنحو الذي ورد في الرواية من سل السيف على وجهه إلى أن عجز ، من المحرمات وليس
من التجرّي ، لأنّ فيه إخافة للمؤمن وهو حرام.
وإن
شئت قلت : ليس التعليل انّه أراد المعصية ، بل
أراد القتل على النحو الوارد في الرواية وإرادة القتل بالنحو الوارد فيها من
المعاصي.
وقد عقد صاحب الوسائل باباً في الحدود
تحت عنوان « من شهر السلاح لإخافة الناس ».
__________________
الوجه
الثاني : ما دلّ على العفو يحمل على ما إذا لم
يرتكب شيئاً من المقدمات وحمل ما دلّ على ترتّب العقوبة إذا اشتغل ببعض المقدمات.
أقول : إنّه جمع تبرعي وعلى خلاف إطلاق
روايات الصنف الثاني.
الوجه
الثالث : ما ذكره المحقّق الخوئي من حمل
الروايات الدالة على ترتّب العقاب على ما إذا قصد ارتكاب الحرام الواقعي وإن لم
يرتكبه فلا صلة لها بقصد الحرام الخيالي وما يعتقده المكلّف حراماً ، مع عدم كونه
حراماً في الواقع كما في التجرّي.
يلاحظ
عليه : أنّ معنى ذلك هو حمل الصنف الثاني
على خصوص التجري وحمل هذه الروايات الكثيرة عليه بعيد جداً.
أضف إلى ذلك انّ كلاً من العاصي
والمتجري قاصد للحرام الواقعي وإنّما الخطأ في التطبيق.
وبعبارة أُخرى تعلقت الإرادة بالحرام ،
فالمراد بالذات هو الحرام الواقعي ، وإنّما يختلفان في الحرام بالعرض.
السؤال
الثاني : في تفصيل صاحب الفصول
قد عرفت أنّ التجرّي بما هو مخالفة
للحجّة ليس بقبيح غير انّ صاحب الفصول ذهب إلى قبحه ، ولكن إذا تحقّق التجرّي في
ضمن الواجب غير المشروط بالقربة تقع المزاحمة بين قبح التجرّي وحسن المتجرّى به ،
كما إذا عثر على إنسان قطع انّه عدو المولى فلم يقتله فبان انّه ابنه.
أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا
وجه لهذه المزاحمة ، لأنّ المفروض عدم علمه به ولا يكاد أن يؤثر شيئاً بدونه حيث
لا يكون حينئذ بهذا الوجه اختيارياً
__________________
والحسن والقبح من
صفات الأفعال الاختيارية.
وحاصله : انّ الشيء إنّما يوصف بالحسن
الفعلي إذا التفت إليه الفاعل ومن المعلوم انّه ترك قتل الرجل ، بعنوان انّه عدو
المولى لا بعنوان انّه ابنه ، فكيف يكون هذا الفعل غير الملتفت إليه ملاكاً للحسن
وموجباً للمزاحمة بين حسنه وقبح التجرّي.
السؤال
الثالث : هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟
هل مزاولة التجرّي ومداومته تمنع عن
تحقّق العدالة بمعنى الملكة قبل تحقّقها ، وتَرفَعُها بعد تحقّقها كالمعصية بعينها
من غير تفاوت بينهما أصلاً؟
والظاهر انّ التجرّي بمعنى مخالفة
الحجّة وإن لم يكن قبيحاً مورثاً للعقاب ولكنّه كاشف عن انهيار ملكة العدالة إذا
تكرّر ذلك العمل منه كما يكون مانعاً عن تحقّقها.
وللمحقّق الخراساني تفصيل ذكره في
تعليقته على الفرائد فلاحظ.
__________________
الأمر الثالث
في تقسيم القطع إلى طريقي
وموضوعي
اشتهر تقسيم القطع من زمان الشيخ الأعظم
1 إلى أقسام
خمسة من كونه طريقياً محضاً ، أو مأخوذاً في الموضوع ثمّ الثاني على قسمين ، لأنّه
إمّا يؤخذ فيه بما انّه طريق ، أو يؤخذ بما انّه وصف نفساني; وعلى كلا التقديرين
إمّا أن يكون المأخوذ في الموضوع تمامه أو جزءه ، وإليك توضيح الأقسام :
١. الفرق بين
الطريقي والموضوعي
إذا كان الحكم مترتباً على نفس الواقع
بلا مدخلية للعلم والقطع فيه كحرمة الخمر والقمار وغير ذلك فالقطع عندئذ يكون
طريقيّاً ولا يكون للقطع هناك دور سوى التنجيز ، وإلا فالخمر والقمار ، حرام ،
سواء أكان هناك علم أو لا ، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب ، وهذا بخلاف
القطع الموضوعي فإنّ للقطع فيه مدخلية في الحكم بحيث لولاه ، لما كان هناك حكم
شرعي وأمثلته كثيرة ، نظير :
١. الحكم بالصحة فانّه مترتب على
الإحراز القطعي في الثنائية والثلاثية من الصلوات والأُوليين من الرباعية ، بحيث
لولاه لما كانت محكومة بها.
٢. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً
مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.
٣. الحكم بوجوب التيمم لمن أحرز كون
استعمال الماء مضراً بالقطع أو الظن.
٤. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن
أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.
فلو انكشف الخلاف وانّ الطريق لم يكن
مخطوراً ، ولا الماء مضراً ، ولا الوقت ضيّقاً لما ضرّ بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف
إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.
وبذلك يعلم أنّ القطع الموضوعي ، هو ما
يكون له مدخلية في ترتب الحكم ، لا خصوص ما إذا أخذ في لسان الموضوع بل هو أعمّ من
القطع المأخوذ في الموضوع كما هو الحال في قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبيَضُ مِنَ الْخَيْطِالأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ
) فانّ التبيّن وإن كان مأخوذاً في لسان
الدليل ، لكن ليس له مدخلية في وجوب الإمساك إلا كونه طريقاً إلى طلوع الفجر ،
ولأجل ذلك يجب الإمساك إذا علم بطلوع الفجر وإن لم يكن هناك تبين ، كما إذا كان
الهواء غيماً أو كان الإنسان محبوساً. فليس كلّ قطع أخذ في لسان الدليل ، قطعاً
موضوعياً كما في الآية فهو مع الأخذ ، فيها طريقي محض.
٢. تقسيم الموضوعي إلى طريقي
ووصفي
إنّ القطع من الأُمور الإضافية ، فله
إضافة إلى العالم وله إضافة إلى المعلوم ، فلو أخذ في الموضوع بما له إضافة إلى
العالم ، وانّه أمر قائم به كقيام سائر الصفات به ، فقد أخذ في الموضوع بما هو وصف
نفساني; ولو أخذ فيه بما له إضافة إلى المعلوم وكاشف عنه ، فقد أخذ فيه بما انّه
طريق ، فما في الكفاية من قوله : « لمّا كان
__________________
من الصفات الحقيقية
» إشارة إلى أخذه فيه بما هو وصف ، وقوله : « ذات الاضافة » إشارة إلى أخذه فيه
بما هو طريق.
وبالجملة : القطع من الأُمور النفسانية
فتارة يلاحظ بما انّه كاشف عن الواقع ، وأُخرى بما انّه أمر قائم بالنفس كالبخل
والحسد ، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق وكاشف ، يُوصَف بالقطع الموضوعي الطريقي
وإن أخذ بما انّه قائم بالنفس وعوارضها يوصف بالقطع الموضوعي الوصفي ، وإن شئت التمثيل
فقل : إنّ النظر إلى القطع كالنظر إلى المرآة ، فتارة يلاحظها الإنسان بوصف كونها
مرآة وأنّها كيف تُري ، وأُخرى بما انّه جسم صيقلي شفاف وانّها على شكل كذا وقطر
كذا ، فالموضوعي الطريقي أشبه بالأوّل ، والموضوعي الوصفي أشبه بالثاني.
٣. تقسيم الموضوعي إلى تمام
الموضوع وجزئه
ثمّ إنّ القطع الموضوعي على قسمين :
تارة يكون القطع تمام الموضوع للحكم من غير مدخلية للواقع ويكون الحكم دائراً
مداره ، وأُخرى يكون القطع جزء الموضوع والواقع هو الجزء الآخر.
أمّا الأوّل فقد مرت أمثلته ، وأمّا
الثاني ، كبطلان الصلاة في الثوب الذي قطع بنجاسته ، فلا تبطل الصلاة إلا إذا كان
نجساً في الواقع وتعلق به القطع ، وإلا فلو كان نجساً في الواقع وكان جاهلاً أو
كان طاهراً في الواقع وكان القطع جهلاً مركباً ، تصح صلاته مع تمشي قصد القربة في
الصورة الثانية.
وبذلك يظهر انّ الموضوعي على أقسام
أربعة ، لأنّ كلاً من المأخوذ في الموضوع طريقياً أو وصفياً ، إمّا يكون تمام
الموضوع أوجزءه ، فتكون الأقسام أربعة ، مضافاً إلى الطريقي المحض غير المأخوذ في
الموضوع.
نعم استشكل المحقّق النائيني في أخذ
القطع الطريقي تمام الموضوع ، وتبعه
تلميذه في مصباحه. وحاصل
كلامهما : أنّ أخذه تمام الموضوع آية انّه لا مدخلية للواقع في ترتّب الحكم ،
وأخذه بنحو الطريقية آية أنّ للواقع دخلاً فيه والجمع بينهما جمع بين المتناقضين.
يلاحظ
عليه : أنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي هو
أخذه في الموضوع بما انّ له وصف الطريقية والمرآتية ، لا انّ للواقع مدخلية في
الحكم حتى لا يصحّ أخذه طريقاً في الموضوع على وجه التمامية ، والخلط حصل في تفسير
القطع الموضوعي ، وقد أحسن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري 1 فقد فسره في درره على نحو ما ذكرناه
وقال : المقصود كونه ملحوظاً على أنّه طريق كسائر الطرق المعتبرة. وبعبارة أُخرى :
ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة.
٤. تقسيم آخر للقطع الموضوعي
ثمّ إنّ المأخوذ في الموضوع تارة يكون
القطع بالحكم مأخوذاً في موضوع حكم آخر لا يضاده ولا يماثله بل يخالفه ، كما إذا
قال : إن قطعت بنجاسة الثوب فلا تصل فيه. فمتعلق القطع حكم وضعي كالنجاسة أخذ في
موضوع حكم تكليفي بينهما من النسب هو التخالف إذ قد يكون الشيء نجساً ولكن يجوز
فيه الصلاة ، كالمعفو عنها ، وقد لا تجوز الصلاة ولا يكون نجساً ، كالمغصوب وقد
يجتمعان.
وقد مثل له المحقّق الخراساني بأنّه إذا
قطعت بوجوب شيء فتصدق ، والنسبة بين الحكمين هو التخالف لا التماثل ولا التضاد ،
وأُخرى يكون القطع بالموضوع أي الخمر موضوعاً للحكم الراجع إلى نفس الموضوع كما
إذا قال : إن قطعت بخمرية مائع فلا تشربه ، والشائع هو القسم الثاني في ألسن
الأُصوليين.
__________________
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بحث عن أقسام
القطع الموضوعي هنا إجمالاً وفي الأمر الرابع تفصيلاً وكان الأنسب البحث عنه في
مورد واحد.
٥. قيام الأمارات مكان القطع
إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع بما
هو هو وكان القطع طريقاً إلى ثبوته أوّلاً ، وترتّب أحكامه ثانياً ، تقوم مكانه
الطرق والأمارات بنفس دليل اعتبارهما ، فإذا قال : « البيّنة حجّة » يكون معناه
ثبوت ما أخبرت عنها من كون المائع خمراً ، والمال ملكاً لزيد ويترتّب عليه آثارهما
وإلايلزم لغو جعل الحجّية لها ، وبذلك يعلم وجه قيام الطرق مكان القطع الطريقي
بنفس دليلِ اعتبارها ، والمراد من القيام مكانه كونها حجّة مثله لا انّ القطع أصل
والأمارة فرع بل كلاهما طريقان إلى الواقع ، غير انّ الأوّل طريق بنفسه والثاني
طريق بإذن الشارع واقتناعه بها في مقام امتثال أوامره ونواهيه.
إنّما الكلام في قيامها مكانه في القسم
الموضوعي بنفس دليل اعتبارها ، فذهب الشيخ الأنصاري إلى قيامها مكانه بنفس دليل
اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الوصفي ، فلو أخذ في الموضوع بما هو
طريق تقوم البيّنة بنفس دليل اعتبارها مكانه ، دون ما أخذ فيه بما هو وصف.
وذهب المحقّق الخراساني إلى عدم القيام
مطلقاً ، فهنا قولان :
أمّا
الأوّل : فقد ذكره الشيخ في أوّل رسالة القطع
، ووجه التفصيل وجود الجامع بين الأمارات والطرق ، والقطع المأخوذ في الموضوع بما
هو طريق دون القسم الآخر ، وذلك لأنّ القطع وإن أُخِذَ في الموضوع بشخصه لكن أخذه
بما انّه كاشف ومرآة ومن المعلوم انّ هذه الجهة مشتركة بين القطع والأمارات والطرق
، بخلاف المأخوذ في الموضوع بما هو وصف نفساني ، فلا جهة مشتركة بينه وبين
الأمارات
حتى تقوم مكانه ،
هذا هو المستفاد من كلام الشيخ في رسالة القطع.
وأمّا
الثاني ، فهو خيرة المحقّق الخراساني ، وذهب
إلى عدم القيام إلافي القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت انّه لا معنى للقيام فيه.
أقول
: الكلام يقع تارة في مقام الثبوت أي إمكان القيام ، وتارة في مقام الإثبات ودلالة
الدليل.
وإليك الكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في إمكان
تنزيل الطريق منزلة القسمين
ذهب المحقّق الخراساني إلى الامتناع ،
واستدل بما هذا حاصله :
انّ للقطع في جميع الأقسام أثرين بارزين
:
١. حجّيته وطريقيته إلى الواقع ، وهذا
في القطع الطريقي المحض.
٢. مدخليته في الموضوع وتأثيره في ثبوت
الحكم كدخل القدرة والبلوغ ، وهذا في القطع الموضوعي بكلا قسميه.
فدليل الحجّية إنّما يتكفل التنزيل
الأوّل ، أي تنزيل الطريق مكان القطع في ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا
بما هو دخيل في الموضوع إلا إذا كان هناك تنزيل ثان وهو غير موجود.
فإن
قلت : إذا كان لدليل التنزيل إطلاق من كلتا
الجهتين فلا مانع من القيام مكانه ، كما إذا نزّل الأمارة منزلة القطع في الطريقية
والمدخلية في الموضوع.
قلت
: إنّ دليل التنزيل مثل قوله : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا عني فعنّي
يؤدّيان » ،
لا يكاد يفي إلا بأحد التنزيلين ، وذلك لأنّه لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل
الحجّية يكون النظر إلى القطع والأمارة نظراً آليّاً وإلى الواقع
__________________
والمؤدّى استقلالياً
، ولو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل المدخلية في الموضوع يكون النظر إلى
الواقع والمؤدّى نظراً آلياً ، وإليهما نظراً استقلالياً ، ولا يصحّ الجمع بين
اللحاظين المتضادين من الواحد.
نعم لو كانت بين التنزيلين جهة جامعة ،
وكان التنزيل لأجلها ، لتحقّق التنزيلان بتنزيل واحد ولكن المفروض عدمه ، فلا محيص
إلا عن تنزيل واحد ، إمّا لأجل كونه حجّة ، أو لأجل كونه دخيلاً في الموضوع.
ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك أن
يكون دليل التنزيل مجملاً غير دال على واحد من التنزيلين ، فأجاب بأنّ ظهوره في
أنّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ، هذا لبّ مراده في الكفاية.
يلاحظ
عليه : أنّ النظر إلى القطع والأمارة في كلا
التنزيلين استقلالي بشهادة انّ المولى ينزِّل الأمارة منزلة قطع المكلّف ،
ويلاحظهما على وجه الاستقلال سواء أكانت جهة التنزيل هي الحجية ، أو المدخلية في
الموضوع ، غاية الأمر يلاحظ القطع في التنزيل الأوّل بما هو طريق ومرآة ، وفي
التنزيل الثاني بما هو دخيل في الموضوع وانّه مؤثر في ترتّب الحكم وتحقّقه ، وليس
هذان اللحاظان غير قابلين للجمع كما إذا نظر عند شراء المرآة إلى كيفية حكايتها
وإراءتها وفي الوقت نفسه إلى شكلها وضخامة زجاجها وما حولها من الرخام.
وبعبارة أُخرى : انّ نظر القاطع إلى قطع
نفسه طريقي محض ولكنّه ليس هو المنزِّل ، بل المنزل هو الشارع فهو ينظر إلى قطع
المكلّف بنظر استقلالي من غير فرق بين ملاحظته من حيث إنّه مرآة وطريق ، أو من حيث
إنّه دخيل في الموضوع ، فلو كان لدليل التنزيل إطلاق لما منع اللحاظان عن الشمول
والاستيعاب ، وتنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي ، والقطع الموضوعي الطريقي.
وبالجملة منشأ الخلط ، هو تصور انّ القاطع هو المنزل ، مع أنّه غيره.
المقام الثاني : في مفاد
دليل التنزيل
قد عرفت أنّ الكلام يقع في مقامين :
أحدهما : في إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي ، والقطع الموضوعي الطريقي
بتنزيل واحد; ثانيهما : في استظهار مقدار دلالة الدليل ، وقد عرفت أنّ المحقّق
الخراساني ذهب إلى الامتناع العقلي في المقام الأوّل فلم يعقد بحثاً للمقام الثاني
، ولكنّك عرفت إمكانه. إنّما الكلام في مقدار دلالة الدليل.
والاستظهار من الدليل فرع أن يكون
للشارع دور في باب الأمارات وتنزيلها مكان القطع حتى يبحث في جهة التنزيل وانّه هل
هو لأجل الحجّية أو المدخلية في الموضوع ، لكن الحقّ انّه ليس للشارع في باب
الأمارات ، جعل ولا تنزيل سوى إمضاء ما بيد العقلاء ، وسيوافيك في محلّه انّ عامة
ما استدل به على حجّية الخبر الواحد راجع إلى بيان الصغرى وانّ فلاناً ثقة أو لا ،
دون الكبرى وكأنّها كانت عندهم محرزة وثابتة.
وعلى ضوء ذلك يظهر أمران :
١. انّ العمل في مورد القطع الطريقي
المحض بالأمارة ليس من باب تنزيله مكان القطع ، بل لكونه طريقاً كالقطع وحجّة مثله
، لا انّه منزل منزلته ولا يظهر من أدلّة الإمضاء سوى كونها حجّة ، لا نازلة
منزلته.
٢. قيامه مكان القطع الموضوعي يتوقف على
وجود جهة جامعة قريبة بينهما ، فإن أخذ في الموضوع بما هو كاشف تام يرفض كلّ
احتمال مخالف ، فلا يكفي دليل الإمضاء في قيام الأمارة مكان القطع لانتفاء الحيثية
التي لأجلها أخذ في الموضوع في الأمارة وإن أخذ بما انّه أحد الكواشف ، فيقوم
مكانه ، لأنّ نسبة القطع والأمارة إلى الحيثية المسوغة لأخذه في الموضوع ، سواسية.
وللمحقّق الخوئي 1 بيان آخر يقول : إنّ ترتيب آثار
المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيلها منزلة القطع فيكون ترتيب أثر نفس
القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.
يلاحظ
عليه : أنّ ترتيب أثر المقطوع على المؤدّى
إنّما هو لأجل وجود الحجّة الشرعية لا لأجل تنزيلها منزلة القطع ، فلا يكون ترتيب
ذلك الأثر دليلاً على تنزيل الأمارة منزلة القطع أيضاً.
وبعبارة أُخرى : العمل بالأمارة في مورد
القطع الطريقي المحض ليس لأجل تنزيل الأمارة مكان القطع ، بل لأجل وجود الحجّة
الشرعية ، فالتساوي بين المقطوع والمؤدّى لا يكشف عن تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع
حتى يستكشف منه تنزيل الأمارة منزلة القطع كما لا يخفى.
في قيام الأُصول العملية
مقام القطع
قسّم الأصل العملي إلى محرز وغير محرز.
والمقصود من الأوّل ما يكون المجعول فيه لزوم الأخذ بأحد طرفي الشكّ بناء على أنّه
الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ في فعل النفس ،
وأصالة الصحّة في فعل الغير ، وقاعدة عدم العبرة بشكِّ الإمام مع حفظ المأموم
وبالعكس. والمراد من الثاني هو الوظيفة المقررة للجاهل شرعاً وعقلاً ، كأصل
البراءة والاحتياط وقاعدتي الطهارة والحلية.
أمّا القسم الثاني فلا يقوم مكان القطع
مطلقاً ، وذلك لوجهين :
١. عدم وجود الجهة الجامعة بين القطع
الطريقي إلى الواقع والأُصول
__________________
المقررة للجاهل
بعنوان الوظيفة في مقام العمل ، فالقطع طريق إلى الواقع ، والأصل غير المحرز ،
وظيفة للجاهل إذا انقطعت حيلته ، وإلى هذا الوجه أشار المحقّق الخراساني بقوله : «
لوضوح انّ المراد من القيام ترتيب ما للقطع من الآثار والأحكام ( تنجّز التكليف
وغيره ) على الأصل ، مع أنّ شأنه ليس إلاوظيفة للجاهل في مقام العمل لا تنجيز
الواقع ».
٢. ولما كان هذا البيان غير جار في أصل
الاحتياط حيث إنّ شأنه تنجيز التكليف أشار في وجه عدم قيامه مقام القطع إلى دليل
آخر.
وحاصله : انّه يعتبر في التنزيل أُمور
ثلاثة :
١. المنزَّل ، ٢. المنزَّل عليه ، ٣.
جهة التنزيل. ولكن المنزل في المقام هو نفس جهة التنزيل ، وذلك لأنّ المنزل عبارة
عن حكم العقل تنجيز الواقع ( الاحتياط ) والمنزل عليه هو القطع ، وجهة التنزيل نفس
المنزّل وهو حكم العقل بتنجز الواقع والتكليف لو كان.
فإن
قلت : إنّوحدة المنزَّل ، وجهة التنزيل
إنّما هو في الاحتياط العقلي ، فالمنزل هو حكمه بالتنجّز والمنزل عليه هو القطع ،
وجهة التنزيل هو حكمه بالتنجز.
وأمّا الاحتياط الشرعي فالأضلاع الثلاثة
مختلفة جداً ، فالمنزَّل هو حكم الشارع بتنجز الواقع ، والمنزل عليه هو القطع ،
وجهة التنزيل هوحكم العقل تنجز الواقع.
قلت
: إنّ الاحتياط الشرعي في الشبهات البدوية غير واجب ، بل هي مجرى البراءة ، وفي أطراف
العلم الإجمالي وإن كان واجباً لكنّه بحكم العقل وبوجه سابق على حكم الشرع
بالاحتياط كما قال : في الإناءين المشتبهين : يهريقهما جميعاً
ويتيمّم.
هذا كلّه حول الأصل غير المحرز; وأمّا
الأصل المحرز ، فيقوم مكان القطع الطريقي المحض ، دون القطع الموضوعي ، سواء كان
موضوعياً طريقياً أو وصفياً ، وذلك بالبيان السابق في قيام الأمارات مكان القطع
الموضوعي. وذلك لأنّ التنزيل إمّا أن يكون بلحاظ اليقين ، أو بلحاظ المتيقن; فإن
كان بلحاظ تنزيل اليقين التعبدي مكان اليقين الحقيقي ، كان النظر إلى اليقين في
كلا الجانبين ، استقلالياً ، وإلى المؤدّى والمتيقّن آلياً ؛ وإن كان التنزيل
بلحاظ تنزيل المؤدّى مكان المتيقن ، كان النظر إليهما استقلالياً ، وإلى اليقين في
كلا الجانبين آلياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في آن واحد.
هذا توضيح مراده في الكفاية.
صحّة الجمع بين التنزيلين
بنحو الملازمة العرفية
قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني منع
إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل واحد ، كما منع بنفس هذا
الدليل تنزيل الاستصحاب منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل الاستصحاب لاستلزام
التنزيل المزبور الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في آن واحد.
ثمّ إنّه في تعليقته على الرسائل صحّح
دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين بالبيان التالي :
وهو انّ الأثر إمّا يترتّب على المقطوع
بما هو هو ، كما إذا قال : الخمر حرام شربه ، ففي مثل ذلك يقوم الاستصحاب مكان
القطع ، فكما أنّه يحرم شربه إذا أحرز بالقطع كذلك يحرم شربه إذا أحرز بالاستصحاب.
__________________
ولكن ربما يتعلّق الأثر لا بالمتعلّق
بما هو هو بل بما تعلّق به القطع ، كما إذا قال : إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق ، ففي
مثل ذلك لو كان التنزيلان في عرض واحد يلزم ما تصور من المحال ، وأمّا إذا كان
التنزيلان لا في عرض واحد بل كلّ في طول الآخر فلا مانع من دلالة الدليل الواحد
على كلا التنزيلين ، أي تنزيل القطع التعبدي ( الاستصحاب ) منزلة القطع الواقعي ،
وتنزيل الخمر التعبدي منزلة الخمر الواقعي ، ولكن لا في زمان واحد بل في زمانين ،
لأنّه إذا دلّ الدليل على أنّ الشارع نزّل الخمر التعبدي منزلة الخمر الحقيقي فهو
كاشف عن أنّه نزل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي من ذي قبل ، وإلايلزم أن يكون
التنزيل الأوّل لغواً ، إذ لا يترتب الأثر على إحراز أحد الجزءين والحكيم منزّه عن
اللغوية ، وحيث إنّ أحد التنزيلين في طول الآخر لا يلزم الجمع بين اللحاظين في آن
واحد.
هذا عصارة ما ذكره في الحاشية.
ثمّ إنّه أورد عليه في الكفاية بأنّه لا
يخلو عن التكليف أوّلاً والتعسف ثانياً.
أمّا التكلّف ، فلعدم الملازمة العرفيّة
بين تنزيل أحد الجزءين وتنزيل الجزء الآخر ، ولا ينتقل الإنسان من تنزيل أحدهما
إلى أنّه قام بالتنزيل بالنسبة إلى الجزء الآخر قبل ذلك.
وأمّا التعسف فلاستلزامه الدور لأنّ
التنزيل فعل شرعي اعتباري والعمل الاعتباري إنّما يصحّ إذا كان له أثر شرعي
والمفروض انّ الأثر غير مترتب على واحد من التنزيلين بل على كليهما معاً ، فعند
ذلك مهما أقدم الشارع على تنزيل
__________________
واحد من الجزءين دون
تنزيل الجزء الآخر يكون فعله عبثاً وفاقداً للأثر إلا أن يكون لهذا الجزء الآخر
تنزيل قبل ذلك ولكنه خلف لافتراض وحدة التنزيل من غير فرق بين أن يكون المتقدم هو
تنزيل مؤدّى الاستصحاب مكان المتيقّن أو تنزيل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي.
وإن
شئت قلت : انّ تنزيل المستصحب منزلة الواقع
يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع لترتب الأثر على الواقع والعلم
به ، والمفروض أنّ تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب
منزلة الواقع فيكون أحد التنزيلين متوقفاً على الآخر.
هذا لبّ مراده وتوضيح مرامه.
والإجابة عن كلامه بوجهين :
الأوّل
: ما ذكرناه سابقاً من حسم مادة الإشكال بأنّ الجمع بين اللحاظين إنّما يلزم لو
كان المنزِّل هو القاطع ، وأمّا إذا كان المنزِّل غير القاطع فلا يكون هناك أيّ
جمع بين اللحاظين أبداً.
وعلى ضوء ذلك لا حاجة لنا إلى ما تخلص
به المحقّق الخراساني في الحاشية حتى ترد عليه مشكلة الدور.
وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً ثلاثة :
أ. لزوم اجتماع اللحاظين المتضادين.
ب. التخلص عن هذا الاجتماع.
ج. الردّ على هذا التخلص.
فنقول : إنّ الأمر الأوّل وهو اجتماع
اللحاظين باطل من أساسه ، فلا حاجة إلى التخلّص بما في التعليقة فضلاً عن تحليل ما
ذكره نقداً عليها في الكفاية.
ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن مشكلة
الدور بأنّه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي ولا تتوقف صحّة التنزيل على الأثر
الفعلي ، فتنزيل أحد الجزءين دون تنزيل الجزء الآخر صحيح ، لأنّه لو انضم إليه
التنزيل الآخر صار موضوعاً للأثر وهذا يكفي في رفع الدور.
يلاحظ
عليه : بأنّه وإن رفع به مشكلة الدور إلا
أنّه أبطل البرهان ، فإنّ أساسه هو صيانة فعل الحكيم عن اللغوية ، فلو كان الأثر
التعليقي كافياً يصان به فعل الشارع عن اللغوية فلا يحتاج إلى استكشاف تنزيل الجزء
الآخر ، لأنّ الحاجة إلى الاستكشاف إنّما كانت لأجل عدم كفاية الأثر التعليقي
ولزوم الأثر الفعلي ، وإلافلو كفى الأثر التعليقي لصح أحد التنزيلين وإن لم ينضم إليه
التنزيل الآخر إلى يوم القيامة.
نظرنا في الموضوع
لا يصحّ الجزم بدلالة الدليل على قيام
الأصل المحرز مكان القطع الموضوعي الطريقي إلابملاحظة لسان الدليل ، فإن كان لسانه
هو التعبد ببقاء اليقين فلا شكّ انّه يقوم مكان القطع الموضوعي الطريقي ، فإذا قال
الشارع : إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق ، ثمّ قال : إذا كنت على يقين بالخمرية ثمّ
شككت فأنت ذو يقين وليس عليك أن تنقض اليقين بالشكّ ، فعند ذلك يكون دليل
الاستصحاب حاكماً على الدليل الأوّل ومفسّـراً له ودالاً على أنّ المراد من قوله :
« إذا قطعت بخمريّة شيء » هو الأعم من القطع الحقيقي والتعبدي.
وأمّا إذا كان لسان الدليل هو التعبد
بوجود المتيقن في السابق لا التعبد ببقاء اليقين فلا يقوم مقام القطع الموضوعي
الطريقي وإنّما يقوم مقام القطع الطريقي المحض ، ففي رواية حماد بن عثمان قال :
قلت لأبي عبد اللّه 7
: أشك
وأنا ساجد فلا أدري
ركعت أم لا فقال : « مضى ».
تجد انّه يركِّز على وجود ما مضى لا على
وجود اليقين ، ففي مثله لا يحكم إلابقيامه مقام القطع الطريقي المحض دونما كان
الأثر مترتباً على اليقين بالواقع ، إذ ليست العناية في هذا الأصل وما أشبهه (
كأصالة الصحّة ) وعدم العبرة بشكّ المأموم عند حفظ الإمام أو بالعكس ، على وجود
اليقين.
__________________
الأمر الرابع
في القطع والظن الموضوعيين
قد طرح المحقّق الخراساني في هذا الأمر
، القطعَ والظنَ الموضوعيّين وبيّن أقسامهما ، ولأجل إيضاح مقاصده نبحث في مقامين
:
الأوّل : في أقسام القطع
الموضوعي
اعلم أنّ القطع إمّا يتعلّق بالحكم أو
يتعلّق بموضوع ذي حكم ، أمّا الثاني فلم يذكره المحقّق الخراساني بل اكتفى ببيان
أقسام الأوّل ، ونحن نقتفيه ، فنقول : إنّ له أقساماً :
١. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع نفس
الحكم ، كما إذا قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بنفس هذا الوجوب
المقطوع به.
٢. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع مثل
ذلك الحكم ، كما إذا قال : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بوجوب آخر
مثله.
٣. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع
ضدّذلك الحكم ، كما إذا قال : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة.
٤. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع حكم
آخر يخالفه لا يضادّه ولا يماثله ، كما إذا قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك
التصدّق.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حكم بامتناع
الأقسام الثلاثة ولم يذكر من الرابع شيئاً لما سبق ذكره في الأمر الثالث ، وإليك
بيان أدلّة بطلان الأقسام الثلاثة :
أمّا
الأوّل : فلاستلزامه الدور ، لأنّ القطع
بالحكم فرع وجوده ، والمفروض انّ الحكم الواقعي متفرع على القطع بنفس الحكم فيلزم
أن يكون الحكم موقوفاً على نفسه.
وبعبارة أُخرى : تعلّق القطع بالحكم
يقتضي تقدّم الحكم على القطع هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ الحكم محمول على
القطع بالحكم ، فيقتضي تأخّر الحكم عن القطع ، تأخرَ المحمول عن موضوعه.
أقول
: إنّ القطع بالحكم لا يتوقف على وجود الحكم الواقعي بل يتوقف على الصورة الذهنية
منه ، فالتوقف من الجانب الأوّل غير صحيح ، نعم الحكم الواقعي يتوقف على القطع
بالصورة الذهنية من الحكم ، وعلى ضوء هذا فالحكم الموقوف عليه هي الصورة الذهنية
وهو غير الحكم الموقوف أي الواقعي.
والحقّ التفصيل بين كون القطع بالحكم
تمام الموضوع وبين كونه جزء الموضوع والجزء الآخر ، وجود الحكم الواقعي ، فلو صحّ
الدور فإنّما يصحّ في الصورة الثانية.
وذلك لأنّ الحكم الواقعي ـ حسب الفرض ـ
يتوقف على تحقّق الموضوع وهو القطع بالحكم الواقعي ، وبما انّ القطع جزء الموضوع
والجزء الآخر هو الحكم الواقعي ، فليس كلّ قطع مأخوذاً ، وإنّما المأخوذ خصوص
القطع الذي تعلّق بالحكم الواقعي ، فيكون القطع في مقام الموضوعيّة متوقفاً على
تحقّق الجزء الآخر ، حتى يتعلّق به وهو الحكم الواقعي والمفروض انّه يتوقف على
القطع بالحكم الواقعي.
وأمّا
الثاني : إذا كان القطع بالحكم موضوعاً لحكم
مماثل ، فقد أحاله المحقّق
الخراساني لأجل
اجتماع المثلين في شيء واحد هو الصلاة فتكون واجبة بوجوبين متماثلين.
يلاحظ
عليه بوجهين : أوّلاً : أنّ تعدّد موضوع
الوجوبين يرفع الاستحالة ، ضرورة انّ الوجوب الأوّل انصبّ على نفس الصلاة والوجوب
الثاني منصب على القطع بوجوبها. والمثلان لا يجتمعان في مكان واحد.
وثانياً
: أنّ الوجوب من الأُمور الاعتبارية واستحالة اجتماع المتماثلين مختص بالأُمور
التكوينية النفس الأمرية ، فالبياضان المتماثلان المتمايزان لا يجتمعان في نقطة
واحدة ، وأمّا الوجوبان الاعتباريان فلا مانع من اعتبار شيء واجباً بوجوبين غاية
الأمر يكون الثاني أمراً لغواً.
فإن
قلت : إنّ لازم اجتمـاع الوجوبين تعلّق
إرادتـين متماثلتـين بمراد واحد.
قلت
: إنّ الإرادتين متعلقتان بمرادين ، فالصلاة بما هي هي متعلق بإحدى الإرادتين
والقطع بوجوب الصلاة متعلّق بإرادة أُخرى.
والأولى أن يقال : إنّ اجتماع وجوبين
يوجب اللغوية إلا أن يحمل على التأكيد.
وأمّا
الثالث : فقد أحاله المحقّق الخراساني
لاستلزامه اجتماع الضدّين ، ويظهر ضعفه ممّا ذكرناه في الوجه الثاني ، نعم يصحّ أن
يقال : إنّ مآل هذا النوع من الأخذ إلى اللغوية وإلى امتناع امتثال الحكمين
المتضادين.
وأمّا
الرابع فقد عرفت إمكانه.
الاستثناء من عدم جواز الأخذ
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استثنى ممّا
عدّه مستحيلاً من الأُمور الثلاثة ما يجمعها أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع
مرتبة أُخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضدّه ، كما إذا قال :
١. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب
الصلاة بنفس ذلك الوجوب فعلاً.
٢. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب
بوجوب فعلي آخر.
٣. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً ، تحرم
عليك فعلاً.
وجه الجواز هو عدم لزوم الدور في الأوّل
لكون الحكم المتوقف ، غير المتوقف عليه ولعدم كون الوجوبين متماثلين أو متضادين ،
لأنّ أحدهما إنشائي والآخر فعلي.
والحاصل : انّه يجوز أن يكون القطع
بالحكم الإنشائي موضوعاً لفعلية ذلك الحكم أو أن يكون القطع بحكم إنشائي موضوعاً
لوجوب حكم فعلي آخر مثله أو ضدّه ، فبما انّ الحكمين ليسا من نوع واحد لا يكون
هناك أيُّ تماثل أو تضاد ، فالممكن هو الأربعة ، والممتنع هو الثلاثة فتذكّر.
وأمّا بيان مراتب الأحكام ، فنذكرها على
وجه الإيجاز :
١. مرتبة الاقتضاء ، وهي مرتبة ملاكات
الأحكام. وإن شئت قلت : المصالح والمفاسد الموجودة في الأحكام.
٢. مرتبة الإنشاء ، وهي إنشاء الحكم دون
أن يكون هناك بعث وزجر وتحريك بالفعل ، كتشريع الحكم قبل بيانه للمكلّف.
٣. مرتبة الفعلية ، وهي عبارة عن بلوغ
الحكم مرتبة البعث والزجر ببيانه وإبلاغه إلى المكلّفين.
٤. مرتبة التنجز والحتمية ، وهي فرع علم
المكلّف به فيكون مستحقاً للمثوبة والعقوبة لأجل الموافقة والمخالفة.
وربما ناقش بعضهم فيها وجعل للحكم
مرتبتين باخراج المرتبة الأُولى بحجّة انّها ليست حكماً وإخراج المرتبة الرابعة
بحجّة انّها حكم عقلي لا صلة له بالحكم المنشأ الشرعي ، وعلى كلّ تقدير ، يجوز أن
تكون مرتبة منه موضوعاً لمرتبة آخر كما أوضحناه.
في أقسام الظن المأخوذ في
الموضوع
الظن المأخوذ في الموضوع ، كالقطع
المأخوذ فيه له أقسام أربعة أصلية ، وأمّا حكمها فهل يتحدان حكماً أو يختلفان؟ ذهب
المحقّق الخراساني إلى الثاني. وتوضيح كلامه : انّ الظنّ تارة يؤخذ في موضوع نفس
الحكم ، وأُخرى في مثله ، وثالثة في ضدّه ، ورابعة في مخالفه.
وقد مرّ انّ الأقسام الثلاثة الأُول
محال في القطع دون الأخير ؛ وأمّا الظنّ فلا شكّ في امتناع الأوّل ، وجواز الرابع
، إنّما الكلام في القسمين المتوسطين ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جوازهما في
الظنّ دون القطع ، وجه الفرق انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الظن ، لأنّ المفروض
انّ الواقع غير منكشف مائة بالمائة والمكلّف بعدُ في غمار الجهل ، فلا مانع من أن
تكون الصلاة بما هي هي واجبة ، وبما هي هي مظنون الوجوب ، واجبة بوجوب مثله أو
محرمة.
والحاصل انّ هنا فرقاً بين انكشاف
الواقع على وجه القطع ، فلا موضوع لجعل حكم ثان مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع
باجتماع الضدين أو المثلين ،
بخلاف ما إذا كان
الواقع مغموراً في ستر الجهل فلا مانع من جعل حكمين متماثلين ، أو ضدّين.
فإن
قلت : لا فرق بين القطع والظن ، فكما أنّ
القطع باجتماعهما محال ، فهكذا الظن باجتماعها محال ، فإذا تعلّق الظن بحكم فعلي ،
فجعل حكم فعلي مثله أو ضدّه يستلزم الظن باجتماع المثلين أو الضدين وكلاهما محالان
، فالثلاثة الأُول محال في القطع والظن ، والأخير جائز فيهما.
قلت
: إنّ الحكم الفعلي على قسمين :
قسم منه ما يسمّى بالفعلي الحتمي ، أي
ما ليس له حالة انتظارية حيث تحقق فيه المقتضي ووجدت الشرائط وعدمت الموانع.
وقسم منه فعلي تعليقي بأن بلغ مرتبة
الفعلية ولكن لم يبلغ مرتبة الحتمية والتنجز لفقدان شرطه وهو القطع ، وإنّما يكون
منجزاً إذا تعلّق به القطع.
وعلى ضوء هذا فالفعلي من جميع الجهات أي
الحتمي منه ، إذا تعلّق به الظن ، لا يصلح أن يقع موضوعاً لحكم مثله أو ضده
لاستلزامه الظن باجتماعهما ، وأمّا إذا تعلّق بحكم فعلي غير حتمي ولا منجز ففي
مثله لا مانع من أن يقع الظن به ، موضوعاً لحكم حتمي مثله أو ضدّه ، لأنّ تضاد الأحكام
إنّما هو في مرحلة الفعلية الحتمية لا في مرحلة التعليقية ، وبذلك ظهر الفرق بين
القطع والظن ، ففي فرض تعلّق القطع يصير الحكم فعلياً حتمياً ، ولا يصلح القطع به
، موضوعاً لحكم آخر مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع باجتماع المثلين أو الضدين ،
وهذا بخلاف الظن فانّه لا يوجب انقلاب التعليقي إلى الحتمي ، فيبقى الحكم المتعلّق
به الظن في مرحلة التعليق ويتعلّق الحكم الثاني على وجه الحتمية ، ولا تماثل ولا
تضادّ بين هذين النوعين من الحكمين.
ثمّ إنّه 1
توفق بذلك الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، حيث جعل
الحكم الواقعي من
قبيل الفعليات غير المنجزة ، وأمّا مؤدّى الأمارة أو الأصل من قبيل الفعليات
الحتمية.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّه عدل عمّا
كان بصدده من إبداء الفرق الجوهري بين القطع والظن في الأقسام الأربعة الأصلية
بامتناع الثلاثة الأُوَل في القطع ، وامتناع خصوص القسم الأوّل في الظن وجواز
الثاني والثالث فيه ، وجعل وجه الفرق هو انحفاظ الحكم الواقعي في وجود الحكم
المماثل والمضاد في مورد الظن كما مرّ ولكنّه بالبيان الأخير ، جعل وجه الجواز
اختلاف الرتبة بين الحكم الذي تعلّق به الظن والحكم الذي ترتب على الظن بأنّ
الأوّل فعلي غير حتمي والثاني فعلي حتمي ، ومن المعلوم أنّه جائز حتى في نفس القطع
، وقد صرّح به فيما سبق عند البحث عن أقسام القطع ، وقال : نعم يصحّ أخذ القطع
بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضدّه ، وعلى هذا لم يبق فرق بين
القطع والظن.
وإن
شئت قلت : إنّ الكلام فيما إذا لم يكن تنجّز
الواقع مشروطاً بشيء سوى وصول المكلّف إليه بطريق من الطرق ، فيقع الكلام في جعل
الحكم المماثل أو المضاد ، وأمّا إذا كان تنجّز الحكم مشروطاً بخصوص القطع به يكون
جعل الحكم المضاد فضلاً عن المماثل جائزاً.
وثانياً
: أنّ الظنّ المعتبر كالقطع ، فكما أنّ الثاني ، يوجب حتمية الحكم وتنجزه فهكذا
الظن المعتبر ، فلو صحّ كلامه ، فيجب عليه أن يخص جواز الأخذ بالظنّ غير المعتبر ،
حتى لا يكون تعلّقه بالحكم سبباً لخروجه عن التعليق إلا أن تكون الحتمية معلقة على
خصوص القطع ، لا الحجّة المعتبرة.
الأمر الخامس
في وجوب الموافقة الالتزامية
لا شكّ انّ المطلوب في الأُصول الدينية
والأُمور الاعتقادية ، هو التسليم القلبي والاعتقاد بها جزماً.
إنّما الكلام في الأحكام الشرعية
الفرعية التي ثبتت وتنجّزت بالقطع ، فهل هنا تكليفان؟
أحدهما
: الالتزام بأنّه حكم اللّه قلباً وجناناً.
ثانيهما
: الامتثال عملاً وخارجاً.
ولكلّ امتثال وعصيان ، فلو التزم قلباً
ولكن خالف عملاً فقد عصى ويستحق العقوبة ، كما أنّه لو وافق عملاً ، وخالف جناناً
والتزاماً فقد ترك الفريضة القلبية ، فيؤخذ به.
أو أنّ هناك تكليفاً واحداً وهو لزوم
امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل وإن لم يلتزم بها قلباً وجناناً.
ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني
مستدلاً بشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك واستقلال العقل بعدم
استحقاق العبد الممتثل لأمره إلا المثوبة دون العقوبة ولو لم يكن مسلّماً وملتزماً
به ، نعم عدم الالتزام يوجب سقوط درجته.
هذا وانّ محلّ النزاع في غير الأحكام
التعبدية فانّ امتثالها رهن الإتيان بها للّه سبحانه أو لامتثال أمره وغير ذلك ،
ومثل ذلك لا ينفك عن الالتزام والتسليم بأنّه حكمه سبحانه وينحصر النزاع بالأحكام
التوصلية.
هذا هو محلّ تحرير النزاع وذاك أيضاً
مختار المحقّق الخراساني.
نعم أنكر سيّدنا الأُستاذ 1 أن يكون للنزاع مفهوم صحيح قائلاً بأنّ
التسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لأمر من الأمور لا يحصل
بالإرادة والاختيار من دون حصول مقدّماتها ومباديها ، ولو فرضنا حصول عللها
وأسبابها يمتنع تخلف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مبادئها ويمتنع الاعتقاد
بأضدادها ، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع كما أنّ حصولها بدونها ممتنع ، وعلى ذلك
فإذا قام الدليل القطعي على وجوب شيء فيمتنع عدم عقد القلب على وجوبه أو عقد القلب
على ضدّه.
وأمّا الجحد الوارد في قوله سبحانه : ( فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتنا مُبصرةً قالُوا هذا
سِحْرٌ مُبين * وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلماً وَعُلُوّاً
فَانْظُر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدين
). فلا يراد منه الجحد القلبي ، لامتناعه
بعد حصول مبادئه من البراهين القطعية على أنّ موسى مرسل من ربه ، بل المراد هو
الجحد اللفظي والإنكار اللساني.
ولمّا ذهب 1
إلى أنّ الالتزام القلبي وليد العلم بالواقع ، فهو يحصل في قرارة الإنسان شاء أم
لم يشأ ، ولا يمكن له عقد القلب على خلافه ، أنكر إمكان التشريع فضلاً عن حرمته ،
إذ كيف يمكن البناء والالتزام القلبي على كون حكم من اللّه مع علمه بأنّه ليس منه
أو يشك من كونه منه.
__________________
فخرج بنتيجتين :
١. عدم وجوب الموافقة الالتزامية في
الأحكام الفرعية المعلومة ، لأنّ الالتزام أمر قهري عند حصول العلم.
٢. عدم إمكان التشريع ، أي عقد القلب
على وجوب ما يعلم أنّه ليس بواجب أو يشك.
نعم البدعة حرام ، وهي غير التشريع وهو
الإفتاء بغير ما أنزل اللّه ودعوة الناس بالعمل به.
يلاحظ
على ما ذكره : أنّ النتيجة
الثانية وإن كانت تامة ولكن الأُولى غير تامة ، لعدم الملازمة بين القطع والإيمان
، والعلم والتسليم ، فربّ قاطع وعالم ، غير مؤمن ومسلِّم قلباً ، وقد أوضحه
المحقّق الإصفهاني بقوله : الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له
النصب ، لكنّه لا ينقاد له قلبه ولا يقرّ به باطناً ، وإن كان في مقام العمل يتحرك
بحركته خوفاً من سوطه وسطوته ، وهكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبيّنا ،
حيث إنّهم كانوا عالمين بحقيقته كما نطق به القرآن ، ومع ذلك لم يكونوا منقادين له
قلباً ولا مقرين باطناً ، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن
يكونوا له مؤمنين حقيقة.
والذي يدل على أنّ بين العلم والتسليم
مرحلة أو مراحل قوله سبحانه : (
فَلا
وَربِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرجاً مِمّا قضيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
). قيل : نزلت في الزبير ورجل من
__________________
الأنصار خاصمه إلى
النبي في شراج من
الحرة كانا يسقيان بها النخل كلاهما ، فقال النبي للزبير : « إسق ثمّ أرسل إلى
جارك » ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول اللّه لئن كان ابن عمتك ....
فانّ خطاب الأنصاري للنبي كشف عن عدم
تسليمه لقضائه وإن لم يخالف عملاً ، وبذلك يعلم أنّ المراد من الجحد هو الجحد
القلبي وعدم التسليم لمقتضى البرهان لا الجحد اللفظي ، فالفراعنة أمام البيّنات
التي أتى بها موسى كانوا :
١. عالمين بنبوة موسى وهارون.
٢. غير مسلِّمين قلباً ، مستكبرين
جناناً.
وممّا يؤيّد إمكان فصل الإيمان عن العلم
، هو انّ الإنسان العادي يخاف من الإنسان الميت ، ولكن الغسال يتعامل معه معاملة
الإنسان العادي ، فالإنسان العادي ، عالم بأنّ الميت لا يضر ولكنه ليس بمؤمن بخلاف
الغسال ، فظهر بذلك انّ للنزاع معنى معقول.
وأمّا حكمها فهناك احتمالات :
الف. التسليم القلبي والانقياد الجناني
لكلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة والشريعة ، فلا شكّ انّه محقّق الإيمان ومن
أركانه.
ب. الانقياد والتسليم القلبي في القربيات
والتعبديات عند الإتيان بها فهذا أيضاً لا غبار في وجوبه ، لعدم تمشي القربة ، مع
عدم الانقياد والالتزام بأنّه حكم اللّه سبحانه في الواقعة.
__________________
ج. عقد القلب على حكم الشيء في
التوصليات وانّه حكم الواقعة ، فلا دليل على وجوبه إذ المطلوب إنّما هو تطبيق
العمل عليه ، وليس وراء ذلك مطلوب ، نعم لا يجب الالتزام بأنّه حكم اللّه ، ولكن
يحرم الالتزام بخلافه والالتزام بعدمه.
ثمرة المسألة
ثمّ إنّ الخراساني أشار إلى ثمرة البحث
وانّ له ثمرتين ، فتارة تظهر الثمرة في الالتزام بالحكم الواقعي ، وأُخرى في
الالتزام بالحكم الظاهري. والأُولى ثمرة فقهية ، والأُخرى أُصولية.
أمّا الأُولى : فقد أشار إليها بقوله :
ثمّ لا يذهب عليك انّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، تجب فيما إذا كان
المكلّف متمكناً منها ....
وحاصل ما أفاده انّ هنا صوراً :
أ. أن يعلم تفصيلاً بالحكم الواقعي ،
كحرمة العصير قبل التثليث.
ب. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع
إمكان الموافقة العملية ، كما إذا علم بوجوب أحد الفعلين.
ج. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع
عدم إمكان الاحتياط ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته. فالمكلّف متمكن من
الموافقة الالتزامية في جميع الصور ، غاية الأمر إن علم بالحكم تفصيلاً يلتزم به
تفصيلاً كما في الصورة الأُولى ، وإن علم إجمالاً يلتزم به كذلك ويعتقد بما هو
الواقع والثابت وإن لم يعلم به بشخصه.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعترض على
نفسه بقوله : « وإن أبيت إلاعلى لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه » أي بأحدهما
مخيّراً.
وحاصل الاعتراض : انّ المراد من
الموافقة الالتزامية هو الالتزام بالحكم بشخصه وعنوانه ، ومثل هذا الالتزام غير
حاصل في الصورتين الأخيرتين ، لأنّه التزم فيهما بما هو الواقع دون تعيين.
ثمّ أجاب 1
عنه بوجوه ثلاثة :
١. لو كان المراد منها هو هذا المعنى
لما كانت الموافقة القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة.
٢. ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً
، فانّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به
بداهة.
وحاصل الجواب الأوّل : انّه لو فسرت
الموافقة الالتزامية بهذا المعنى لما كان المكلّف متمكناً من امتثاله ويختص وجوبها
حينئذ بالصورة الأُولى.
وحاصل الجواب الثاني : انّ الأخذ بأحد
الحكمين بشخصه لغاية حصول الموافقة الالتزامية مستلزم التشريع المحرم.
٣. انّ الموافقة الالتزامية لو قلنا بها
فإنّما نقول بها لأنّها من آثار نفس التكليف ، ولوكان كذلك فهو يقتضي الالتزام به
معيّناً ، وأين هو من القول بالأخذ بواحد من التكليفين مخيراً ، فانّ معناه انّ
كلّ تكليف يقتضي الالتزام به أو بضده وهو غير معقول ، فلا مناص عن القول بأنّ
الواجب هو الالتزام بالواقع على ما هو عليه لو قلنا بوجوبها.
الثمرة الأُصولية
قد ذكرنا انّ للبحث ثمرتين : فقهية
وأُصولية.
أمّا
الأُولى : فقد عرفت أنّ ثمرة البحث ترجع إلى
وجوب آخر وراء الالتزام العملي في الأحكام ، وقد عرفت أنّه غير واجب وإلالزم
عقابان عند الترك التزاماً
وقلباً وثوابان عند
القيام بهما.
وأمّا
الثانية : وهي جريان الأُصول في أطراف العلم
الإجمالي ، وانّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية هل يمنع عن القول بجريان الأُصول
في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟
ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ القول
بوجوب الموافقة الالتزامية على النحو الذي عرفت لا يمنع من جريان الأُصول في
أطرافه ، لأنّ الالتزام بالواقع لا ينافي القول بالبراءة أو الحلية في أطراف العلم
ظاهراً ، لأنّ أحد الحكمين واقعي والآخر ظاهري ، وإلى ما ذكرنا أشار بقوله : « ومن
هنا قد انقدح انّه لا يكون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول ... ».
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذهب أيضاً إلى أنّ
وجوب الموافقة الالتزامية ليس مانعاً عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي ،
لكن لا بالبيان الماضي من المحقّق الخراساني من عدم التنافي بين الالتزام بالواقع
، وإجراء البراءة ظاهراً ، بل ببيان آخر ، ذكره في رسالة القطع. وحاصله :
لو افترضنا وجود الدليل بالالتزام
بالحكم الواقعي لكن دليل الأصل يخرج المورد عن أدلّة الالتزام بالحكم الواقعي.
وهذا نص كلامه : لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعية إنّما يجب مقدمة للعمل وليست
كالأُصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات ولو فرض ثبوت
الدليل عقلاً أو نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع ، لأنّ
الأُصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فهي كالأُصول في الشبهة الموضوعية
مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني : وجوب الأخذ بحكم اللّه.
وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا
يدفع بها ( أي بالأُصول ) محذور عدم
__________________
الالتزام أو
الالتزام بخلافه ، إلابوجه دائر ، وذلك لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور
، أي محذور عدم الالتزام بالواقع أو الالتزام بخلافه ، والثاني موقوف على جريان
الأُصول.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول أن يرد
الدور الذي أورده على الشيخ بقوله : « اللّهمّ إلا أن يقال انّ استقلال العقل
بالمحذور الخ. وحاصله : العلم بالحكم إنّما يكون علّة لوجوب الالتزام إذا لم يكن
هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام كما في صورة العلم التفصيلي ، وأمّا إذا كان هناك
ترخيص كما هو ظاهر عموم أدلّة الأُصول فلا دور ، لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم
المحذور ، والثاني موقوف على عموم الدليل في جانب الأُصول وهو متحقّق.
ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني كلاماً في
عدم جريان الأُصول في أطراف العلم يتلخص في أُمور ثلاثة :
أ. يشترط في جريان الأُصول العملية وجود
الأثر العملي وهو معدوم لاتفاق العلماء على أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة
اليقينية فيجب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين ، كما يجب الإتيان بالظـهر والجمعة
، فإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في جريان استصحاب الطهارة والبراءة في الأمثلة
المذكورة.
والحقّ انّه إشكال تام.
ب. ما نقله عن الشيخ الأنصاري وقد ذكره 1 في خاتمة الاستصحاب لا في رسالة القطع ، وهو انّ القول
بجريان الأُصول كالاستصحاب يستلزم تناقض صدر الدليل مع ذيله ، فلو شمل قوله : « لا
تنقض اليقين بالشك » كلا الاناءين الطاهرين وقد علم بوقوع النجاسة في أحدهما يلزم
الحكم بطهارتهما ، ولكن بما انّ
__________________
المكلّف عالم بوجود
النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بنجاسة الإناء الواقعي الذي حلّت فيه النجاسة ،
فيلزم أن يكون الإناء الواقعي طاهراً بحكم الصدر ونجساً بحكم الذيل ـ أعني قوله :
ولكن انقضه بيقين آخر ـ.
ج. نعم تأمل المحقّق الخراساني في هذا
الإشكال قائلاً بأنّه مبنيّ على أنّ المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من
الإجمالي والتفصيلي مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو اليقين التفصيلي ، فعندئذيكون
الإناءان محكومين بالطهارة لا بالنجاسة ، لعدم حصول الغاية.
وفيما ذكره من التأمل ، تأمل واضح إذ لا
دليل لانصراف الذيل إلى خصوص العلم التفصيلي وعدم شموله الإجمالي.
الأمر السادس
قطع القطاع
يطلق القطاع ويراد منه تارة : من يحصل
له القطع كثيراً من الأسباب التي لو أُتيحت لغيره لحصل لهم أيضاً. وأُخرى : من
يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لا يحصل منها اليقين لغالب الناس.
والقطّاع بالمعنى الأوّل زين وآية
للذكاء ، وبالمعنى الثاني شين وآية التدهور العقلي ، ومحلّ البحث هو القسم الثاني
لا الأوّل.
ثمّ إنّ الوسواس في مورد النجاسات من
قبيل القطّاع حيث يحصل له القطع بها من أسباب غير عاديّة ، وفي مورد الخروج عن
عهدة التكاليف وسواس لا يحصل له اليقين بسهولة.
ومنه يظهر حال الظنّان ، فله أيضاً
إطلاقان مثل القطّاع حذوَ النعلِ بالنعلِ.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه حُكي عن
الشيخ الأكبر كاشف الغطاء عدم الاعتناء بقطع القطاع ، وتحقيق الحق يتوقف على البحث
في مقامين :
الأوّل
: ما إذا كان القطع طريقيّاً محضاً.
الثاني
: ما إذا كان القطع موضوعيّاً مأخوذاً في الموضوع.
أمّا
الأوّل : فالظاهر كون قطعه حجّة عليه ، ولا
يتصور نهيه عن العمل به
لاستلزامه وجود
حكمين متناقضين في الشريعة ، حيث يقول الدم نجس وفي الوقت نفسه ينهاه عن العمل
بقطعه بأنّ هذا دم.
نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة
العمل بعد انكشاف الخلاف ، كما إذا قطع بدخول الوقت وتبيّن عدم دخوله ، فيحكم عليه
بالبطلان ، كان له وجه ، ولكن لا فرق عندئذ بين القطّاع وغيره.
وأمّا
الثاني : أي القطع الموضوعي ، فبما انّ القطع
جزء الموضوع فللمقنن التصرف في موضوع حكمه ، فيصح جعل مطلق القطع جزءاً للموضوع
كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءاً له ـ أي ما يحصل من الأسباب المتعارفة ـ فللنهي عندئذ
له مجال ، فإذا قطع بأسباب غير عادية فللشارع النهي عن العمل به ، لأنّ المأخوذ في
الموضوع غيره.
ثمّ لو وقف الإنسان على خطأ القاطع ـ
قطاعاً كان أم غيره ـ في الأحكام ، والموضوعات ، فهل يجب على الغير إرشاده أو لا؟
فالظاهر وجوبه في مورد الجهل بالأحكام بالنظر إلى أدلّة إرشاد الجاهل من غير فرق
بين البسيط والمركب ، وأمّا الموضوعات فلا شكّ في عدم وجوب إرشاده إلا في مهام
الأُمور كالدماء والأعراض والأموال الطائلة.
هذا كلّه حول القطاع.
أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار
عنه من غير فرق بين كونه طريقاً محضاً إلى متعلقه ، أو مأخوذاً في الموضوع والفرق
بينه وبين القطع واضح ، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له وإنّما هو باعتبار الشارع ،
وجعله حجّة في مجال الطاعة والمعصية ، وعليه يصحّ النهي عن العمل به مطلقاً من غير
فرق بين كونه طريقيّاً محضاً أو موضوعيّاً.
ثمّ إنّ ظنّ الظنّان يكون محكوماً بحكم
الشك ، وإليك التوضيح بمثالين :
١. لو ظن بعد الخروج عن المحل انّه ترك
التشهد ، فلا يعود ، لكونه من قبيل الشك بعد المحل ، نعم لو كان ظاناً متعارفاً
كان عليه الرجوع لحجّية الظن في الركعات الأخيرة وأجزاء الصلاة فعلاً أو تركاً.
٢. لو ظن قبل الخروج عن المحل ،
بالإتيان فيعود ، لأنّ الشاك في المحل يعود فيحكم عليه بالرجوع والإتيان به مع
أنّه لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه عدم الرجوع.
وأمّا
الشكّاك ففيه التفصيل : ففي كلّ مورد لا يعتنى
بالشك العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى ، كالشكّ بعد المحل ؛ وأمّا المورد
الذي يعتنى فيه بالشكّ العادي ويكون موضوعاً للأثر ، فلا يعتنى بشكّ الشكّاك ، كما
في الشك في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث والأربع ، فالشاك المتعارف
يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر ، وأمّا الشكّاك ، فلا يعتنى بشكّه
ولا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » فلو اعتدّ به أيضاً لم
يبق فرق بين الشكّاك وغيره.
الأمر السابع
حجّية العقل
في مجالات خاصة
انّ الشيعة الإمامية ، أدخلت العقل في
دائرة كشف الحكم فيستكشف به الحكم كما يستكشف بسائر الادلّة من الكتاب والسنة
والإجماع.
وليس الاعتراف بحجّية العقل بمعنى انّه
يطلق سراحه في جميع المجالات وستغنى به عن الشرع بل للعقل مجالات خاصة لا يصلح له
القضاء إلا فيها وقبل تحديد نطاقه نقدّم أُموراً :
الاول
: قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت :
على حجّية العقل نذكر منها نصّين :
قال الصادق 7 : حجّة الله على العباد النبي والحجّة
على ما بين العباد دين الله القفل.
فهذا هو الإمام موسى بن جعفر 7 يخاطب هشام بن الحكم ويقول : يا هشام
انّ لله على الناس حجّتين : حجّة طاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل
والأنبياء والائمة وأما الاباطنة فالعقول.
ــــــــــــــــ
الثاني
: ان فقهاء الشيعة حضروا الأدلة في الأربعة ، الكتاب والسنة والإجماع والعقل ولم
يُعيروا أهمية للقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها ، ولنأت بنصّ من قدماء
الطائفة يعرف عن انحصار الأدلة عندهم في الأربعة.
يقول ابن إدريس الحلي ( ٥٤٣ ـ ٥٩٨ ) :
انّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : امّا كتاب الله سبحانه ، أو سنة رسول الله 9 المتوارتة المتفق عليها ، او الإجماع ،
أو دليل العقل ، فإذا فقد من الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين
الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسك بدليل العقل فيها ، فانّها مبقاة عليه وموكولة
إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى علم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل
الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها فمن تنكب عنها عصف وخبط خبط عشواء وفارق
قوله من المذهب.
الثالث
: الإدراك العقلي ينقسم إلى إدراك نضري وإدراك عملي ، فألاوّل إدراك ما ينبغي أن
يعلم كإدراك وجود الصانع وصفاتهوأفعاله وغير ذلك والثاني غدراك ما ينبغي أن يعمل
كإدراكه حسن العدل وقبع الظلم ووجوب ردّ الوديعة وترك الخيانة فيها ، والمقصم هو
الإدراك ، فهو ينقسم إلى نظري وعملي وربما يتوسع فيقسم العقل إلى قسمين :
ثمّ إن المتكلّم يعتمد على العقل في
المسائل النظرية التي نعبّر عنها بالعقائدية فاعقل هو الذي يعرف به العبد إلهه
سبحانه وصفاته وأفعال ، كما انّ الفقيه يعتمد على العقل في المسائل العلمية التي
نعبّر عنها بالأحكام الشرعية.
إذا عرفت هذا فلنذكر المجالات التي
يعتمد فيها الفقيه على العقل العملي.
ــــــــــــــــ
١. مجال التحسين والتقبيح
إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل
صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلا النظر إلى نفس
الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، نظير استقلال العقل بقبح العقاب
بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب نعم وذلك لانّ
الحكم المزبور من الأحكام البديهية للقعل العملي.
ونظير ذلك حسن العدل وقبح الظلم ، فإذا
عرض الإنسان ذينك الأمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً غلى العدل وتنفراً
عن الظلم وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين وهذا من الأحكام العقلية النابعة
عن صميم العقل من دون أن يكون متأثراً عن الجوانب اللاشعورية او الغرائز الحيوانية
أن العواطف الإنسانية ، يقول العلّامة الحلي :
انّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء
وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فانّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه
ويقبح الإساءة والظلم ويذمّ عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من
الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع.
ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من
الأفعل ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح
الكذب الضار ، فكل عاقل لا يشك في ذلك واليس جزمه بهذا الحكم بادون من الجزم
بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو
قبحه فيكشف الشرع عنه
ـــــــــــــــ
كالعبادات.
وقالت الاشاعرة : إنّ الحسن والقبح
شرعيان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع وما
حسّنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح.
ومن حسن الحظ ان الذكر الحكسم يشير إلى
موقف العقل من درك تحسين الاشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة
الإنسان على حسن بعض الافعال وفي الوقت نفسه يقبح بعضها على وجه يُسلِّم ان الفطرة
الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ،ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في
قضائه ويقول :
١. (
أم نجعل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار
).
٢. (
افنجعلُ
المسلمين كالمُجرمين ).
٣. (
هَل جزاءُ
الإحسانِ إلا الإحسان ).
ففي هذه الالطائفة من الآيات يوكّل
الذكرُ الحكيم القضاء إلى وجدان الإنسان وانه هل يصحّ التسوية بين المفسدين
والمتّقين ، والمسلمين والنجرمين ، كما يتخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
).
وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل
والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم غن
المخاطب ، يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع في التعرّف على الموضوع ، وكأن
الشرع يؤكد ما يجده
ــــــــــــــ
الإنسان بفطرته.
ويقوله سبحانه :
١. (
إن الله
يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم
لعلكم تذكرون ).
٢. (
قل إنما
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
).
٣. (
يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر ).
الآثار المترتبة على حجية
العقل في مجال الحسن والقبح
إن الفقيه يعتمد على فاعدة التحسين
والتقبيح العقليين ويستخرج مها القواعد التالية:
١. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا
بيان.
٢. الاشتغال بالتكليف عند العلم
الإجمالي وتردد المكلّف به بين أمرين لحكمه بان الاشتغال اليقيني يستدعي البراعة
اليقينية وحسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف عندئذٍ قطعاً.
٣. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة
والقضاء ، لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.
٤. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار
الأمر بيهما لقبح العكس.
٢. في مجال الملازمات
قد تقدّم ان العقل حجّة في مجالات خاصة
، منها : حكمه بالتحسين
ــــــــــــــ
والتقبيح على النحو
الذي ذكرنا ، ومن المجالات التي يؤخذ فيها بحكم العقل ويستكشف حكم الشرع ، هو مجال
الملازمات ، أعني بها :
١. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء
وجوب مقدّمته.
٢. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء
وحرمة مقدّمته.
٣. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه
، كوجوب المضيق وحرمة الموسع عند التزاحم.
٤. الملازمة بين النهي عن العبادة ،
وفسادها.
٥. الملازمة بين النهي عن المعاملة ،
وفسادها.
٦. الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود
الشرط والوصف و ...، والانتفاء لدى الانتفاء ( المفاهيم).
إلى غير ذلك من أبواب الملازمة الموصوفة
عندهم بالملازمات غير المستقلة ، فان الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق
الملازمة ، حكم شرعي نظير :
١. كوجوب مقدمة ، الواجب.
٢. حرمة مقدّمة الحرام.
٣. حرمة الضد الموسع المزاحم للمضيق
كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.
٤. فساد العبادة المهية ، كالصوم في
السفر.
٥. فساد المعاملات كبيع الخمر.
٦. أو ارتفاع الحكم عند ارتفاع القيد
كما في قوله في سائمة الغنم زكاة.
إلى غير ذلك من الموارد التي توصف بباب
الملازمات غير المستقلة. وفي الفقه الشيعي والأصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن
مثبت وناف ومفصل.
٣. في مجال تنقيح
المجال الثالث لإمكان حجّية حكم العقل
باب تنقيح مناطات الأحكام وملاكاتها بالسبر والتقسيم بأن يحصر الأوصاف التي توجد
في وواقعة الحكم وتصلح لأن تكون العلة واحدة منها ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء
الشروط الواجب ، وبواسطة هذا الاختبار تستبعد الأوصاف التي لا يصح أن تكون علة ويستبقى
ما يصح أن يكون علة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا
الوصف هو العلة ثم يتبعه التشريع ، وهذا ما يسمى في الفقه الشيعة الإمامي بتنقيح
المناط واستنباط العلة.
إلا أن هذا الشق من إدراك العقل إنما
يكون حجة إذا حصل اليقين بان ما أدركه مناطاً هو المناط في الواقع فعندئذ يدور
الحكم مداره ويستكشف حكم الشرع.
ولكن أني للعقل إدراك هذا الأمر ، وذلك
لانه لو افترضنا انه أصاب في كشف المناط اين علم انه تمام المناط ولعلها جزء العلة
وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل الفقيه إليه؟
ولاجل ذلك رفض أصحابنا حجية العقل في
مجال تنقيح المناط عن طريق السير والتقسيم.
ــــــــــــــ
٤. في مجال درك مصالح
الافعال ومفاسدها
إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة
في فعل إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء كوجود المقسدة في استعمال المخدرات
ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي دونما لا يكون كذلك ، كإدراك
فرد أو فردين وجوب المصلحة الملزمة أو المفسدة ، وذلك.
إذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو
المفسدة ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين يتساوى في
إدراكها جميع العقلاء فلا سبيل للعقل إلى الحكم بان ما أدركه علة ، هي العلة
التامة التي يدور الحكم مدارها ، إذا يحتمل أن يكون هناك مانع يمنع من حكم الشارع
على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشرع.
يقول المحقق الاصفهاني : إن مصالح
الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت
ظابطة ، ولا تجب أن تكون هي بعينها ، المصالح العمومي ، المبني عليها حفظ النظام
وإبقاء النوع وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها.
اللهم إلا إذا وصل الأمر إلى المصالح
والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من
الضروريات وهذا كتعاطي المخدرات التي أطبع العقلاء على ضررها ، ومثله التلقيح
الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري والحصبة وغيرهما فقد أصبحت من الأُمور
التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.
هذا موجز القول في حجية العقل واللتفصيل
مجال آخر.
ـــــــــ
عنوان المسألة بين
الأخباريين
هذا هو موقف الأُصوليين من حكم العقل ،
وأمّا موقف الأخباريين فهم يرفضون العقل في مجال الاستنباط بأحد الوجهين :
أ. منع الصغرى وانّه لا يحصل للعقل قطع
بالحكم بل كلّ ما يدركه لا يخرج عن تحت الظنون.
ب. منع الكبرى بعد تسليم الصغرى ، وانّ
القطع بالحكم وإن كان حاصلاً ، لكنّه ليس بحجّة لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
، وإليك دراسة هذين الوجهين :
أمّا
الوجه الأوّل : فهو الظاهر من
كلام المحدِّث الاسترابادي رائد الحركة الأخبارية حيث صرّح بأنّه لا يحصل اليقين
من التمسك بغير الوحي ، ويدل على ذلك كلامه في مواضع عديدة قال : كلّ مسلك غير
التمسك بكلامهم إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنَّ بحكم اللّه وقد أثبتنا سابقاً
انّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.
ج. قال في فهرست فصول كتابه : الأوّل :
في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفي أحكامه تعالى شأنه ووجوب التوقف عند
فقد القطع بحكم اللّه ، أو بحكم ورد عنهم :.
ولكنّه لم يذكر وجه عدم حصول اليقين
ونحن نشير إلى الوجوه التي يمكن أن يعتمد عليها الأخباري في ادّعائه فنقول :
الأوّل : احتمال سعة مناط
الحكم عند العقل
إنّ العقل وإن كان مدركاً للمصالح
والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة
إلا أنّه من الممكن
أن تكون لتلك الجهات ، موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل
إليها إذ ليس من شأن العقل ، الإحاطة بالواقع.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره خلاف المفروض ، لأنّ
الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على الموضوع بما هو هو كقبح الظلم والخيانة
في الأمانة ، أو كقبح ترجيح الأهم على المهم ولا يحتمل أن يكون للحكم مانع في
الواقع أو شرط عند الشارع ، فما ذكره خارج عن محط البحث.
نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم
يحكم بحكم باتّ.
الثاني : جواز خلو الواقعة
عن الحكم
يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه
العقل بالوجوب أو الحرمة ، حكم أصلاً لا موافقاً ولا مخالفاً بأن تخلو الواقعة عن
الحكم رأساً وعلى ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً.
يلاحظ
عليه : أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم
يضاد مع ما ورد عنهم:
: « ما من شيء إلاوفيه كتاب أو سنة ».
وفي حديث آخر : أكلّ شيء في كتاب اللّه
وسنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال : « بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه » أو «
في الكتاب والسنة ».
فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في
الموضوعات الخطيرة ، وقد قال 6
في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس ما من شيء يقربكم من الجنّة ويبعدكم من
النار ، إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم
__________________
من الجنة إلاوقد
نهيتكم عنه ».
ثمّ إنّ الأخباريين استدلوا بطوائف من
الروايات التي زعموا دلالتها على مدّعاهم ، وإليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل
للطالب الوقوف على ما لم نذكر من الروايات فانّ جميعها غير خارجة عن تلك العناوين.
الطائفة الأُولى : لزوم توسيط
الحجّة في بيان الحكم
قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط
الحجّة في تبليغه وبيانه ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة ، ويدلّ على
ذلك صحيح زرارة « فلو انّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ
جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ،
ما كان له على اللّه ثواب ولا كان من أهل الإيمان ».
قال رسول اللّه 6 : « من دان بغير سماع ألزمه اللّه
ألبتة إلى الفناء ».
قال أبو جعفر 7 : « كلما لم يخرج من هذا البيت فهو
باطل »
إلى غير ذلك من الروايات.
يلاحظ
عليه أوّلاً : انصراف الرواية
إلى المعرضين عن أئمّة أهل البيت :
والمستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم ، وأمّا من أناخ مطيّته
على عتبةِ أبوابهم في كلّ أمر كبير وصغير ومع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة
فالرواية منصرفة عنه جداً.
وبعبارة أُخرى : كما للآيات أسباب وشأن
نزول ، فهكذا الروايات ، فهي تعبّر
__________________
عن سيرة قضاة العامة
وفقهائهم كأبي حنيفة وابن شبرمة وأضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت : ولم يُنيخُوا مطيّتهم على أبواب أئمّة
أهل البيت : فيخاطبهم
الإمام بما في هذه الروايات.
وأمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ
واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسكوا بالثقلين فلا يعمهم ، والمورد وإن لم يكن
مخصِّصاً لكن يمكن إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل والمشابه لا المباين ،
وتمسك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.
وثانياً
: إذا كان العقل أحد الحجج ـ كما في صحيح هشام ـ فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل
إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.
روى هشام ، عن أبي عبد اللّه 7 : « يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين
: حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فالظاهرة الرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة
فالعقول ».
والقول بلزوم توسط الحجّة الظاهرة ،
يلزم طرح ما دلّ على كونه من الحجج.
الطائفة الثانية : ما تدل
على عدم حجّية القياس
هناك روايات متضافرة دلت على المنع عن
العمل بالقياس.
روى عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن
موسى 7 عن القياس
فقال : « ما لكم وللقياس انّ اللّه لا يسأل كيف أحل وكيف حرّم ».
يلاحظ
عليه : أنّ العمل بالقياس عمل بالدليل الظني
المنهيّ عنه ، وأين هو
__________________
من العمل بالحكم
القطعي الذي ربما لا يختلف فيه اثنان ، كما هو الحال في باب التحسين والتقبيح
العقليين ، فالاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّية العقل في مجالات خاصة استدلال
بالمباين على المباين.
الطائفة الثالثة : ما تدل
على عدم حجّية الرأي
وهناك طائفة أُخرى تدل على عدم حجّية
الرأي ، فقد روي عن الإمام علي 7
أنّه قال : « إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ».
وروى ابن مسكان ، قال : قال أبو عبد
اللّه 7 : « ما أحد
أحبَّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتى ، منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه
، وانّكم أخذتم بأمر له أصل ».
المهم في الباب هو تفسير الرأي ،
فالمستدل جعله مرادفاً للاستدلال بحكم العقل مع أنّ المقصود منه هو التفسير بما لا
يعلم ، قال أبو جعفر 7
: « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ».
وحصيلة الكلام حول تلك الروايات التي
استعرضناها وبسطها الشيخ الحرّ العاملي في أبواب متفرقة من أبواب صفات القاضي
إنّها وردت في تفنيد عمل فقهاء العامة وقضاتهم الذين لم يستندوا في الأُصول
والفروع إلى أئمّة أهل البيت :
وأخذوا يُفتون ويقضون بقول كلّ من هبّودبّ معتمدين على معايير وأُصول منهية أو لم
يدل عليها دليل ، فإسراء مفاد تلك الروايات إلى عمل أصحابنا الأُصوليين بحكم أنّهم
يستدلّون بواضح العقل وبداهة الفطرة على حكم شرعي يَقْضي عجباً.
إنّ أبا حنيفة بنى فقهاً كبيراً ،
والحال انّه لم يثبت عنده من الأحاديث النبوية
__________________
إلا سبعة عشر حديثاً
، فما حال
فقه هذا أساسه؟!ولذلك أخذ الإمام الصادق يذمّ أبا حنيفة وابن شبرمة ، يقول الأخير
: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد 8
فقال لأبي حنيفة : « اتّق اللّه ولا تقس في الدين برأيك ، فانّ أوّل من قاس إبليس
».
وقال أبو جعفر 7 لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : «
شرّقا وغرّبا فلا تجدان ، علماً صحيحاً إلا شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت
».
الطائفة الرابعة : ما تدل
على أنّ المرجع هو الكتاب والسنّة
هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في
الأحكام هو الكتاب والسنّة ، قال أمير المؤمنين 7
: « من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة
زالت الجبال ولم يزل ».
وقال 7
: « إنّما الناس رجلان : مُتَّبعُ شرعة ، ومبتدع بدعة ليس معه من اللّه برهان سنة
ولا ضياء حجّة ».
يلاحظ
عليها : أنّها بصدد ردّ عمل من يعمل بكلّ ما
اشتهر على ألسن الناس وإن لم يكن له دليل مقابل من يرجع إلى الكتاب والسنّة ، ولا
صلة له بالبحث أبداً.
__________________
الامر الثامن
العلم الإجمالي تنجيزاً
وامتثالاً
هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في
تنجيز الحكم الواقعي وكفاية الامتثال أو لا وقبل الشروع نطرح سؤالين :
الأوّل
: العلم من مقولة الكشف ، وهو لا يقبل التفصيل والإجمال ، بل أمره دائر بين الوجود
والعدم ، وكما هو لا يقبل ذاك التقسيم ، فهكذا لا يقبله ، متعلّقه ، لأنّ تشخّص
العلم بالمعلوم كتشخص الإرادة بالمراد ، فلو كان فيه إجمال لسرى إلى العلم أيضاً.
الجواب
: انّوصف العلم بالإجمال من باب وصف الشيء بوصف مصداق متعلقه ، لأنّه لا إجمال في
العلم ولا في متعلقه وإنّما الإجمال في مصداق المتعلّق ، فإذا تردّدت النجاسة بين
الإناءين ، فهنا علم تفصيلي تعلّق بمتعلق لا إجمال فيه ، أعني : النجاسة ، غير
أنّها مردّدة وجوداً ومصداقاً بين الإناءين ، فحقيقة العلم الإجمالي يرجع إلى علم
تفصيلي ، انضم إليه الجهل بمصداق المعلوم بالذات.
الثاني
: انّ الأُصوليين يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع أوّلاً ، وفي مبحث
الاشتغال ثانياً ، فما هو وجه التكرار؟!
الجواب
: يمكن أن يُبرّر التكرار بأحد الوجوه الآتية :
١. ما ذكره الشيخ الأنصاري ، وهو أنّ
لاعتبار العلم الإجمالي مرتبتين :
أحدهما : كونه
كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ، ثانيهما : كونه كالتفصيلي في وجوب الموافقة
القطعية. والمتكفّل للبحث في الأوّل هو مبحث القطع ، وللثاني هو مبحث الاشتغال.
٢. ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ
تعدّد البحث لأجل تعدّد الغرض : فالغاية للبحث عنه في مبحث القطع هو التعرّف على
أنّه علّة تامة للتنجز أو مقتض له ، فلو قلنا بالأوّل ، يترتب عليه بطلان جعل
الترخيص في بعض أطرافه ، وحينئذ لا يبقى مجال عنه في باب الاشتغال. وأمّا لو قلنا
انّه مقتض للتنجّز أي انّه قابل لجعل الترخيص ، يبقى مجال للبحث عن ورود الترخيص
لبعض الأطراف في الشرع وعدمه ، وهذا ما يبحث عنه في باب الاشتغال ويكون البحث
صغروياً.
٣. ما ذكره سيدنا الأُستاذ 1 هو انّ المراد من العلم الإجمالي في
مبحث القطع ، غيره في مبحث الاشتغال ، وذلك انّ المراد منه في المقام هو العلم
القطعي الذي لا يرضى المولى بتركه كالعلم بكون أحد الغريقين مسلماً ، بخلاف العلم
في مبحث الاشتغال ، فالمراد منه : قيام الحجّة على التكليف ، كما إذا قال : اجتنب
عن الدم ، وصار مقتضى إطلاق الدليل هو الاجتناب عنه مطلقاً ، كان معلوماً تفصيلاً
أو إجمالاً ، فالمورد الأوّل هو اللائق بمبحث القطع ، ولا شكّ انّ العلم الإجمالي
فيه علّة تامّة للتنجز ولا يصحّ معه جعل الترخيص ، والمورد الثاني هو اللائق بمبحث
الاشتغال ولا شكّ انّه بالنسبة إلى الأمرين مقتض وقابل لجعل الترخيص لأحد الطرفين
أو كليهما.
إذا عرفت ذلك فاعلم انّ البحث يقع في
مقامين :
الأوّل
: في كون العلم الإجمالي منجّزاً كالعلم التفصيلي أو لا.
الثاني
: كون الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي.
أمّا المقام الأوّل ففيه أقوال :
١. العلم الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة
ووجوب الموافقة القطعيتين ومعناه انّه يجوز جعل الترخيص وإن انتهى إلى المخالفة
القطعية ، وهو خيرة المحقّق الخراساني في المقام.
٢. كونه علّة تامة لكلا الأمرين وهو
خيرته في باب الاشتغال ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص مطلقاً.
٣. كونه علّة تامة لحرمة المخالفة
القطعية ، ومقتضياً للموافقة القطعية ، ومعناه عدم جواز جعل الترخيص في كلا
الطرفين وجوازه في واحد منهما.
استدل المحقّق الخراساني على مدعاه في
المقام بالبيان التالي :
وجود الفرق بين العلم التفصيلي
والإجمالي ، فانّ الأوّل بما انّه لا سترة فيه وانكشف الواقع بتمامه فلا موضوع (
الجهل والشك ) لجعل الحكم الظاهري بخلاف المقام ، فانّ وجود الجهل بمصداق المكلّف
به والشكّ في كلّ واحد من الطرفين ، يجعل المقام صالحاً لجعل الحكم الظاهري فيجوز
للشارع الإذن في المخالفة احتمالاً وقطعاً.
ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله :
كيف يجتمع العلم بالتكليف مع الإذن في المخالفة المحتملة أو القطعية؟ ثمّ أجاب
بوجهين :
١. انّه ليس إشكالاً جديداً ، بل نفس
الإشكال في الجمع بين الواقعي والحكم الظاهري في باب الشبهة غير المحصورة والشبهة
البدوية ، مع العلم بوجود التكليف في الصورة الأُولى واحتمال وجوده في الصورة
الثانية ، فإذاً لا فرق بينهما وبين المقام ، وما هو الجواب عنه فيهما هو الجواب
عنه في المقام.
٢. يمكن رفع المناقضة بافتراض انّ الحكم
الواقعي في الموارد الثلاثة فعلي معلّق ، بمعنى انّه يتنجّز التكليف الواقعي إذا
تعلّق به العلم التفصيلي ، والمفروض عدم حصول المعلق عليه ، فبذلك يرتفع التناقض ،
وسيأتي تفصيله عند البحث
عن الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري.
وعلى ضوء ذلك فالعلم الإجمالي يوجب
تنجّز التكليف لو لم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما في أطراف كثيرة غير محصورة ؛ أو
شرعاً ، كما إذا أذن الشارع في الاقتحام في المحصورة ـ بناء على شمول قوله : كلّ
شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه لأطراف العلم
الإجمالي ـ كلّ ذلك دليل على أنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجز لو لم يمنع عنه مانع.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا علم
التكليف عن طريق إطلاق الحجّة ، كما إذا قال : اجتنب عن الدم ، وكان مقتضى الإطلاق
لزوم الاجتناب عن الدم المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال ، ففي مثل ذلك يمكن دعوى أنّ
العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية ، بل هو مقتض بالنسبة إليهما ، وأمّا إذا كان هناك علم وجداني بالحكم بحيث
يعلم انّ المولى لا يرضى بتركه أبداً سواء كان معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال ،
فادّعاء كونه مقتضياً بالنسبة إليهما كما ترى.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استعرض نظرية
الشيخ ـ أعني : كون العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضياً
بالنسبة إلى الموافقة القطعية ـ فرد عليه بقوله : « فضعيف جداً » ضرورة انّ احتمال
ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها ،
موجباً لجواز الإذن في الاقتحام بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ
في القطعية أيضاً ».
توضيحه
: أنّ احتمال جعل المتناقضين محال كالقطع بجعل المتناقضين ، ففي مجال جعل الترخيص
بالنسبة إلى كلا الطرفين قطع بالتناقض ، وبالنسبة إلى
__________________
بعض الأطراف ،
احتمال له ، لاحتمال انّ الطرف المرخّص فيه حرامٌ في الواقع ، فيكون محكوماً
بحكمين متضادين وعلى ضوء ذلك فلا فرق بين الأمرين.
يلاحظ
عليه : أنّ كلام الشيخ ليس بناظر إلى عالم
الثبوت وإنّما هو ناظر إلى عالم الإثبات واستظهار الشمول من أدلّة الأُصول ،
وانّها هل تختص بالشبهة البدوية ، أو تعمها وأطراف العلم الإجمالي. ولعلّ الشيخ
ينظر في كلامه إلى البيان التالي : وهو انّ كلّواحد من أطراف الشبهة بشخصه بما
انّه مشكوك وغير معلوم ، فهو داخل في صدر قوله 7
: « كلّ شيء حلال » حتى تعلم انّه حرام. وأمّا المجموع فلأجل العلم بوجود الحرام
فيها فهو داخل في ذيل الحديث ، وينتج انّ جعل الترخيص في كلّ واحد بلا مانع أخذاً
بصدر الرواية ، وجعل الترخيص في كلا الطرفين ممنوع لدخوله في ذيل الحديث.
فتكون النتيجة حرمة المخالفة القطعية
وجواز المخالفة الاحتمالية.
إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ،
وحان حين البحث في المقام الثاني.
المقام الثاني : هل الامتثال
الإجمالي كالامتثال التفصيلي؟
الامتثال الإجمالي تارة يقع في مقابل
التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال ، وأُخرى في مقابل التمكن من الحجّة على
الامتثال التفصيلي كالاجتهاد والتقليد.
ويقع الكلام في أمرين :
الأمر الأوّل : الامتثال
الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي
إذا تمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي
القطعي ، فهل يجزي الامتثال الإجمالي ، كما إذا تمكن من تعيين جهة القبلة بالجهاز
الصناعي المفيد للعلم ومع ذلك ، يصلّي إلى أربع جهات؟ ثمّ إنّ للمسألة صوراً :
إنّ المورد إمّا أن يكون توصلياً أو
تعبدياً ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يستلزم التكرار أو لا.
أمّا التوصليات فيكفي الامتثال الإجمالي
مطلقاً استلزم التكرار كغسل الثوب النجس بماءين يعلم انّ أحدهما مطلق والآخر مضاف
طاهر أو لا ، كما إذا ترددت كيفية الغسل بين العصر بين الغسلتين وعدمه ، لأنّ
الفرض هو إنجاز العمل والمفروض انّه أُنجز بأحسن وجه.
وعلى هذا لو تردّدت صيغة النكاح بين لفظ
النكاح أو الزواج ، يجوز له إنشاؤه بكلا اللفظين مع إمكان تحصيل العلم بما يقع به
النكاح ، وأمّا ما أورد عليه الشيخ بأنّه قام الإجماع على بطلان العقد المعلق لأجل
منافاته الجزم المعتبر في الإنشاء فغير تام ، فانّ كلامه يرجع إلى أمرين :
١. بطلان العقد المعلّق.
٢. لزوم الجزم في الإنشاء.
أمّا الأوّل : فمع قطع النظر عن عدم التعلّق
في المقام إلافي الضمير بمعنى انّه لو صحّ النكاح بهذا اللفظ فقد أنشأتُ به ، انّه
لا دليل على بطلانه إلاما دلّ الدليل الخارجي على بطلانه في مورده كالطلاق ونظيره
وإلافالمعلّق كالمنجز عند العقلاء في صحّة الانشائية.
وأمّا الجزم في الإنشاء ، فإن أراد وجود
القصد الجدي لإنشاء النكاح فهو أمر متحقّق ولولاه لما جمع بين اللفظين وإن أراد
قصد الإنشاء الجدي بكلّ واحد من اللفظين فليس عليه دليل.
وأمّا التعبديات ، فيقع الكلام تارة
فيما لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل ، وأُخرى فيما يستلزمه ، ثمّ الأوّل على
قسمين ، لانّ التكليف المحتمل ، تارة يكون تكليفاً مستقلاً ، وأُخرى تكليفاً
ضمنياً ، وإليك الأقسام الثلاثة :
١. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان
التكليف المحتمل تكليفاً مستقلاً كما في غسل الجمعة المردّد بين كونه واجباً أو
مستحباً ، فالحقّ جواز الاحتياط وجواز ترك الاجتهاد والتقليد ، لأنّ اللازم هو
إتيان العمل للّه أو كون المحرك إلى العمل أمره سبحانه.
وعلى كلا التقديرين فالقربة حاصلة ،
والفعل مأتي به لأجله سبحانه ولأمره.
نعم الذي يفوت المحتاط هو قصد الوجه على
وجه الوصفية ، كما إذا قال : اغتسل غسل الجمعة الواجب ، أو الغاية ، كما إذا قال :
اغتسل غسل الجمعة لوجوبه ، ولكن الفائت وصفاً كان أو غاية ليس بلازم الاستيفاء ،
لأنّه لم يدل دليل عقلي أو شرعي على وجوب قصد الوجه وراء قصد القربة ، بل يمكن أن
يقال دلّ الدليل على خلافه.
وذلك لأنّا لو قلنا انّ قصد الوجه ممّا
يمكن أخذه في متعلّق الأمر فإطلاق الأوامر في الشريعة دالّ على عدم وجوبه.
وإن قلنا بعدم جواز أخذه ، فالإطلاق
اللفظي وإن كان مفقوداً لكن الإطلاق المقامي كاف في ردّ احتمال وجوبه ، والمراد
منه : أنّ الأُمور التي يغفل عنها جمهور الناس ولا يلتفت إليها ـ إلا الأوحدي منهم
ـ لو كانت واجبة لكان على الشارع بيانها ولو ببيان مستقل خارجاً عن متعلق الأوامر
والنواهي ، والمفروض عدم وجود مثل هذا الدليل.
٢. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار وكان
التكليف المحتمل تكليفاً ضمنياً ، كما إذا دار أمر السورة بين كونها مستحبة أو
واجبة وفي مثله لا يفوت قصد القربة ، بل يفوته قصد الوجه وتمييز المستحب عن الواجب
ولا دليل عليه.
نعم لو دار أمر الجزء بين كونه واجباً
أو مستحباً أو مباحاً ، فيمكن الإتيان
بالجميع بقصد الأمر
المتعلّق بالطبيعة ، وإن كان الأمر بالجزء مشكوكاً ، وذلك لأنّوجود المستحبات
والمباحات في ضمن الواجب ليس بمعنى مثل وجود المستحب أو المباح في ضمن الواجب
كأدعية شهر رمضان في نهاره ، بل معناه انّ تحقّق الطبيعة لا يتوقف على تلك الأجزاء
، ولكنّه لو أتاه في ضمنها لكانت جزءاً للمأمور به ومن مشخصاته ، فيتعلق بها
الوجوب بنفس تعلّقه بسائر الأجزاء.
٣. ما يستلزم الاحتياطُ التكرارَ سواء
كانت الشبهة موضوعية كالصلاة إلى الجهات الأربع ، أو حكمية كالجمعة بين صلاة الظهر
والجمعة ، وهذا هو محط البحث بين الأعلام ، وانّه هل يجوز مع التمكن من العلم
التفصيلي بالامتثال ، الامتثال الإجمالي أو لا؟
ذهبت جماعة إلى عدم الجواز مستدلين
بالوجوه التالية :
الوجه الأوّل : ادّعاء الإجماع على عدم
الجواز.
الوجه الثاني : استلزام الاحتياط عدم
قصد الوجه والتمييز.
الوجه الثالث : انّ التكرار استخفاف
بأمر المولى.
الوجه الرابع : عدم صدق الإطاعة التي هي
عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو
تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا غير متحقّق في الامتثال الإجمالي ،
فانّ الداعي إلى الإتيان لكلّ واحد من فردي الترديد ، ليس إلا احتمال تعلّق الأمر
به لا الأمر نفسه ، إذ لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص.
يلاحظ
عليه : المهمّ هو الوجه الرابع وسائر الوجوه
واضحة الدفع ، فنقول : إنّه إن أراد من كون الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى هو
الانبعاث عن
__________________
البعث الموجود في
البين ، فالانبعاث عن الأمر بهذا المعنى متحقّق في الامتثال الإجمالي فانّه لا
ينبعث ولا يتحمل العناء إلا لامتثال الأمر الموجود ، وإن أراد الانبعاث من تعلّق
الأمر بالفرد الذي هو بصدد إتيانه ، فليس شرطاً في صدق الإطاعة.
وبعبارة
أُخرى : المكلّف تارة ينبعث عن الميول
النفسية ، وأُخرى عن أمر المولى وبعثه. والمفروض في المقام هو الثاني ، لأنّه في
جميع الحالات منبعث من العلم بأمره الموجود في البين حتى أنّه إنّما يمتثل كلّ
واحد لأمره سبحانه أي لأجل احتمال تعلّقه به وهو يكفي في صدق الإطاعة.
فخرجنا بهذه النتيجة : انّ الامتثال
الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي في جميع المراحل إلا إذا كان الفعل في نظر
العقلاء أمراً عبثاً.
الأمر الثاني : في كفاية
الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي
وقد طرحه الفقهاء في مبحث التقليد ،
وانّه هل يجوز للمكلّف أن يحتاط مع إمكان الاجتهاد والتقليد؟ قال السيد الطباطبائي
في عروته : يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو
محتاطاً.
واعلم أنّ العمل بالاحتياط تارة في
مقابل الظن المعتبر بالخصوص ويسمى الظنّ الخاص كالخبر الواحد ، أو مقابل الظنّ
الانسدادي الذي ثبتت حجيته بترتيب مقدمات خمس.
أمّا الأوّل ، فالامتثال الظني التفصيلي
ليس بأفضل من الامتثال العلمي التفصيلي ، وقد عرفت عدم تقدّمه على الامتثال
الإجمالي فكيف يقدم عليه ما هو أدون منه رتبة؟! والظاهر انّ كلاً من الامتثالين في
عرض الآخر. نعم ذكر المحقّق
__________________
الخراساني احتمالاً
في حجّية الظن الخاص ، وهو انّه ليس بحجّة إلا فيما إذا لم يتمكن من الاحتياط ـ
فلو صحّ هذا الاحتمال ـ فالامتثال الإجمالي يكون مقدماً على الظن التفصيلي المعتبر
بالخصوص لفقدان شرط حجّيته.
وأمّا الثاني : فلو قلنا انّ من مقدماته
عدم وجوب الاحتياط ، يكون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال بالظن التفصيلي.
ولو قلنا بأنّ في مقدماته بطلان
الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام ، يكون الامتثال بالظن التفصيلي مقدماً على
الامتثال الإجمالي.
وينبغي التنبيه على أُمور :
الأوّل
: انّ اختلاف القوم في أنّ نتيجة دليل الانسداد ، هو الكشف أو الحكومة مبني على
تعيين ما هو المأخوذ في مقدمة دليل الانسداد ، فإن كان المأخوذ هو بطلان الاحتياط
، فالنتيجة هو الكشف ، وذلك لانحصار طريق الامتثال في الظن بعد بطلان الاحتياط
وعدم مساواة الوهم والشك بالظن ، وإلا يلزم نقض الغرض بخلاف ما إذا كان المأخوذ ،
عدم وجوبه وكفاية الامتثال به ، فبما انّ الطريق متعدّد : الظن والاحتياط ، فلو لم
يجعل الظن حجّة ، لما لزم نقض الغرض لاحتمال اكتفائه في مقام الامتثال بالاحتياط.
الثاني
: انّ في الفقه مسائل لا يمكن الاحتياط فيها كما في باب المواريث ، فهل الحبوة
للولد الأكبر أو لجميع الورثة؟ ومثله أبواب الحدود والقصاص ، فلا محيص من الرجوع
إلى الظن التفصيلي ، أي الاجتهاد والتقليد.
الثالث
: ربما يتصور انّ الاحتياط لأجل استلزامه العسر والحرج على الإنسان والعيال مرفوع
بقوله : ( وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
).
__________________
ولكنّه محجوج بما ذكره الشيخ في باب
الشبهة غير المحصورة عن أنّ المرفوع بالآية ونظائرها ما إذا كان نفس الحكم بما هو
هو مستلزماً للحرج ، كرفع المرارة عند المسح عن موضع الجرح ، لا ما إذا كان نفس
الحكم غير حرجي غير انّ تردّده بين أطراف كثيرة صار سبباً لحرجية امتثاله ، فمثله
غير مرفوع ولا أقلّ انّه مورد للشك. ومع ذلك فهو قابل للتأمّل ، لأنّ الحرج مستند
إلى إطلاق الحكم وشموله لما علم بين أفراد غير محصورة ، وعلى كلا التقديرين فالحرج
نابع إمّا من الحكم أو من إطلاقه.
في الحجج الشرعية
قد عرفت أنّ المقصد السادس انعقد لبيان
الحجج الشرعية ، وكان البحث عن القطع وأحكامه بحثاً تمهيدياً لدراستها ، وقبل
الدخول في صلب الموضوع نقدّم أمرين :
الأوّل
: لا شكّ انّ الظنّ ليس كالقطع ، لأنّ الثاني حجّة بالذات بخلاف الأوّل فحجّيته
رهن أحد أمرين :
١. جعل الحجّية وإفاضتها عليه بالجعل
الخاص من جانب الشارع كآية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة ، أو بالجعل العام كدليل
الانسداد بالنسبة إلى مطلق الظن بشرط تقرير مقدّمات الانسداد على نحو الكشف ، أي
كشف العقل عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة.
٢. استقلال العقل بالحجّية بعد ثبوت
مقدماته بطروء حالات موجبة لاستقلال العقل وحجّيتها في الظروف الخاصة بناء على
تقرير مقدمات دليل الانسداد بنحو الحكومة ، ومع استقلال العقل بالحجّية لا ملاك
لإفاضة الحجّية عليها من الشرع لكفاية استقلاله بالحجّية عن جعلها له من جانب
الشارع.
هذا من غير فرق بين ثبوت التكليف وسقوطه
، فالظن لا يثبت به التكليف كما لا يسقط به التكليف الثابت ، فما لم يحصل اليقين
بالفراغ عن العمل وإتيانه على ما هو عليه لا يكفي الظن بالفراغ ، وما ربما ينقل عن
المحقّق الخوانساري 1
من التفصيل بين ثبوت التكليف وسقوطه غير تام ، فكما لا يثبت به التكليف لا
يسقط به التكليف
القطعي ، وذلك لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة العقلية
والضرر المحتمل ( العقاب الأُخروي المحتمل ) غير مدفوع بالامتثال الظنّي وإنّما
يدفع إذا خرج عن العهدة باليقين.
الثاني : قد وقع الخلاف في إمكان التعبد
بالظن وعدمه ، فعن ابن قِبَة ادّعاء امتناع التعبد ، وعن غيره إمكان التعبد ، غير
انّ القائلين بالإمكان اختلفوا في ورود الأمر بالعمل من الشارع وعدمه ، فالمرتضى
وابن البراج والطبرسي على عدم الورود ـ بعد تسليم إمكانه ـ وغيرهم على ثبوت الورود
، فيقع الكلام في مقامين :
الأوّل
: إمكان التعبد بالظن وعدمه.
الثاني
: في ورود الأمر بالتعبد بالظن وعدمه.
المقام الأوّل : إمكان
التعبد بالظن وعدمه
ما هو المراد من الإمكان في كلام النافي
والمثبِتْ؟ فهناك احتمالات :
ألف. الإمكان الذاتي بمعنى مساواة نسبة
الحجّية وعدمها إلى الظن نظير نسبة الوجود والعدم إلى ماهية الإنسان.
ب. الإمكان الوقوعي بمعنى كون الشيء
ممكناً في ذاته ولا يترتب على وقوعه في الخارج أيّ فساد ، مثل إدخال المطيع في
النار فانّه وإن كان أمراً ممكناً بالذات ، لأنّه سبحانه كما هو قادر على الحسن
قادر على القبيح أيضاً لكن لا يصدر عنه لمخالفته عدله وحكمته ، فهو ممكن بالذات
غير ممكن وقوعاً.
ونظيره قول أصحاب الهيئة البطليموسية
بامتناع الخرق والالتئام في الأفلاك التسعة لا بمعنى عدم إمكانهما الذاتي بل بمعنى
ترتب مفاسد عليها في عالم النظام ، فالخرق والالتئام غير ممكن وقوعاً لا ذاتاً ،
وعلى ذلك رتبوا كون معراج النبي روحياً لا جسمانياً لاستلزام الثاني الخرق
والالتئام.
وبذلك يعلم انّ التمثيل بالامتناع
الوقوعي بتعدد الآلهة استلهاماً من قوله سبحانه : (
لَوْ كانَ
فِيهِما آلِهَةٌ إِلا اللّهُ لَفَسَدَتا
) غير تام ، لأنّ المراد منه ما يتمحّض
امتناعه في الوقوع ، وليس تعدد الآلهة كذلك فإنّ امتناعهما لا يتمحض في الوقوع بل
هو ممتنع ذاتاً قبل الحكم عليه بالامتناع وقوعاً. نعم الآية الكريمة كفيلة ببيان
امتناعه وقوعاً.
ج. الإمكان الاحتمالي ، ويراد منه عدم
الجزم بامتناع الشيء بمجرّد سماعه ، وهو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه ،
وقال :
كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في
بقعة الإمكان مالم يذدك عنه واضح البرهان.
والفرق بين المعاني الثلاثة واضح ،
فالإمكان الماهوي وصف للماهية بما هي هي ، كما أنّ الثاني وصف لها بما انّه لا
تترتب على وجودها مفسدة في مقابل ما يترتب على وجودها من مفسدة ، والمراد من
الثالث احتمال الإمكان والامتناع فالإمكان بالمعنى الثالث يجتمع مع الممكن
والممتنع بالذات والممتنع وقوعاً.
والإمكان بالمعنى الثالث لا يحتاج إلى
الدليل ، إذ ليس فيه قضاء ولا حكم بخلاف الإمكان بالمعنيين الأوّليين فبما انّهما
يحملان حكماً لا يصحّ الحكم بهما بلا دليل.
ما هو محل النزاع من معاني
الإمكان؟
الظاهر انّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج
عن محطّ النزاع ، إذ لا يشك أحد في إمكان التعبد بالخبر الواحد ذاتاً وماهية وانّ
نسبة التعبد وعدمها بالنسبة إليه
__________________
سيان ، ولو كان هناك
نزاع فإنّما هو في الإمكان الوقوعي ، وانّه هل يترتب على التعبد الفساد أو لا؟
فابن قبة على الأوّل ، والآخرون على الثاني ، وسيوافيك كلام ابن قبة وهو ظاهر في
أنّ هناك مانعاً خارجيّاً عن التعبد بالظن ويستشهد بأنّه يستلزم تحليل الحرام أو
تحريم الحلال بمعنى أنّ هذا التالي الفاسد يصدّنا عن القول بصدور التعبد عن
الشارع.
ومن هنا يعلم انّ الاستدلال على الإمكان
الوقوعي بالإمكان الاحتمالي غير تام ، لأنّ الإمكان الاحتمالي لا يتضمن دعوى ولا
حكماً بل هو بمعنى احتمال كلا الطرفين : الإمكان الذاتي والامتناع الذاتي ، وهذا
بخلاف الإمكان الوقوعي فانّه يتضمن الحكم بإمكانه بالذات وإمكانه وقوعاً ، فكيف
يستدل بالإمكان الاحتمالي على الوقوعي.
نعم يمكن أن يقال لا حاجة إلى إثبات
الإمكان الوقوعي بل يكفي الإمكان الاحتمالي إذا ثبت بالدليل القطعي وقوع التعبد
بالظن في الشريعة ، فانّ أدلّ دليل على إمكانه ، وقوعه.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني حمل الإمكان
الوارد في كلامهم على معنى رابع وهو الإمكان التشريعي قائلاً بأنّ النزاع في أنّه
هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في
المفسدة واجتماع الحكمين المتضادين أو لا؟وليس المراد من الإمكان ، الإمكان
التكويني بحيث يلزم عن التعبد بالظن محذور في عالم التكوين.
يلاحظ
عليه : أنّ الإمكان التشريعي بهذا المعنى قسم
من الإمكان التكويني وليس قسيماً له ، فانّ التوالي المتوهمة تعدّ أُموراً ممتنعة
في صفحة الوجود والتكوين ، وكون مورد الإمكان تشريع التعبد بالظن ، لا يوجب عدّه
قسماً مستقلاً.
إذا علمت هذا ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة
القول بالامتناع.
دليل القائل بامتناع التعبّد
بالظن
إنّ القائل بامتناع التعبد بالظن استدل
بوجهين :
أحدهما : لوجاز العمل بالخبر الواحد في
الفروع لجاز العمل به في الأُصول ، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبوله.
ولا يخفى وهن هذا الدليل ، لأنّ الأمر
في الفروع أسهل ، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبوله في الأُصول.
ثانيهما
: انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال.
هذا هو الدليل المهم في كلام ابن قبة ،
وذكره المحقّق الخراساني تحت عناوين ثلاثة :
الأوّل
: انّ التعبد بالظن يستلزم اجتماع أُمور مستحيلة :
أ. اجتماع المثلين فيما أصاب.
ب. اجتماع الضدين فيما أخطأ ، كأن يكون
الواقع واجباً وقامت الأمارة على تحريمه.
ج. اجتماع إرادة وكراهة وهما من مبادئ
الأحكام ، فالأُولى من مبادئ الإيجاب والثانية من مبادئ الحرمة.
د. اجتماع المصلحة والمفسدة ، وهما من
ملاكات الأحكام فيما إذا كان الواقع حراماً وقامت الأمارة على الوجوب ، أو بالعكس.
كلّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك كسر
وانكسار في الملاكات ، وإلافلو غلب ملاك الحكم الظاهري على ملاك الحكم الواقعي
يلزم التصويب وخلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي واختصاص الحكم بالظاهريّ.
الثاني
: طلب الضدين وهو
فيما إذا أخطأت الأمارة وأدّت إلى وجوب ضدّ الواجب ، كما إذا أمر المولى بالإزالة
واقعاً وهو واجب مضيّق وقامت الأمارة على وجوب الصلاة فيلزم طلب الضدين في ظرف لا
يكفي لأحدهما.
الثالث : تفويت المصلحة أو الإلقاء في
المفسدة ، وذلك فيما إذا أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام.
هذه هي التوالي الفاسدة الناشئة من
التعبد بالأمارة الظنية.
ثمّ إنّ المحقّقين أجابوا عن تلك
المحاذير بأجوبة مختلفة نتناول بعضها بالنقاش حسب ما يقتضيه الحال.
إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن تلك
الإشكالات بأجوبة ثلاثة ، وبهذا جمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
الجواب الأوّل
المجعول في باب الأمارات هو الحجّية
بمعنى انّه التنجيز لو أصاب والتعذير إذا أخطأ فقط لا جعل حكم مماثل لمؤدّى
الأمارة حتى تستتبع حجّية الأمارة حكماً مجعولاً على نحو ما تتضمنه ، بل حجّيتها
ليست إلا تنجيز الواقع إذا أصابت وتعذيره إذا أخطأت ، وليس في مخالفتها أو
موافقتها سوى التجري والانقياد ، وعلى ضوء ذلك ليس هنا حكم وراء الواقع حتى يلزم
اجتماع حكمين مثلين ـ إذا وافقت الواقع ـ أو ضدين ـ إذا خالفت الواقع ـ ولا طلب
الضدين ـ لعدم الضد الثاني حتى يطلبه ـ ولا اجتماع المصلحة والمفسدة ولا الكراهة
والإرادة ، لأنّ الجميع من فروع وجود حكم ثان والمفروض انتفاؤه.
وهو بهذا الجواب ردّ على جميع تلك
الإشكالات :
__________________
نعم بقي هنا إشكال ، وهو انّ جعل
الحجّية للأمارة إذا كانت مخالفة للواقع يوجب تفويت مصلحة الواقع إذا قامت على
إباحة الواجب أو الإلقاء في المفسدة إذا قامت على حلية الحرام واقعاً ، والفرق بين
هذا الإشكال والإشكالات المتقدمة هي انّ الإشكالات المتقدّمة مترتبة على فرض حكم
ثان وقد نفى بتاتاً ، وهذا الإشكال مترتب على ترخيص العمل بالأمارة بأيّ معنى كان
سواء كان هنا حكم ثان أو لا.
ثمّ أجاب عنه 1 بأنّه لا مانع من تفويت المصلحة أو
الإلقاء في المفسدة إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.
الجواب الثاني
إنّ للشارع حكماً ظاهرياً وراء الحكم
الواقعي بمعنى انّ جعل الحجّية للأمارة مستلزم لجعل حكم مماثل لمؤدّاه ، أو بأنّه
لا معنى لجعلها إلاجعل تلك الأحكام. فهناك حكمان مجعولان ، ومع ذلك كلّه لا يلزم
المحاذير المتقدمة وذلك لاختلاف الحكمين جوهراً.
أحدهما
: حكم واقعي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه وقد تعلّقت به إرادة نفسانية أو
كراهة كذلك.
ثانيهما
: حكم طريقي لغاية تنجيز الواقع إذا أصاب والتعذير إذا أخطأ من دون أن تكون مصلحة
أو مفسدة في المتعلّق ، أو تتعلّق الإرادة أو الكراهة به ، غاية الأمر وجود
المصلحة في نفس إنشاء الحكم موافقاً كان للواقع أو لا ، فعندئذ ترتفع المحاذير
السابقة لاختلاف الحكمين جوهراً فليس بمثلين عند الإصابة ، ولا ضدين عند المخالفة
، ولا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة ولا تتعلق الإرادة
__________________
والكراهة بشيء واحد
، لأنّ المفروض انّ الحكم الطريقي ليس في متعلقه مصلحة ولا مفسدة ولا هو متعلّق
إرادة ولا كراهة.
نعم لا ينفك الحكم الواقعي عن المصلحة
والمفسدة وعن تعلّق الإرادة والكراهة.
والحاصل انّه لا تضاد بين الإنشاءين
فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا ولا إرادة ولا كراهة
أصلاً إلا بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي.
نعم يرد على هذا الجواب نفس ما أورده
على الجواب الأوّل ، وهو انّ مشكلة تفويت المصلحة باق على حاله ، والجواب عنه نفس
الجواب عنه في السابق طابق النعل بالنعل.
الجواب الثالث
إنّ المحقّق الخراساني لاحظ انّ ما ذكره
ـ المجعول هو الحجّية أو الأحكام الطريقية ـ لا ينطبق على بعض الأُصول العملية
كأصالة الإباحة الشرعية ، فانّ الظاهر منه انّ هناك حكماً شرعياً مجعولاً على
المشكوك لا طريقاً إلى الواقع إذ الطريقية من أحكام الأمارات لا الأُصول ، ففي مثل
هذا المورد تخلص عنه بجواب ثالث ، وهو انّه التزم بعدم كون الأحكام الواقعية فعلية
مطلقة بل فعلية معلقة ( أو فعلية لكن غير منجّزة ) إلا إذا علم به أو أدت إليه
الأمارة ولا تعارض بين الفعلي المعلق الذي لم يحصل فيه الشرط ، والحكم الفعلي
المطلق فالأحكام الواقعية التي لم يتحقق شرطها أحكام فعلية معلقة بخلاف الأحكام
الظاهرية
__________________
فهي أحكام فعلية
منجزة.
وبذلك جعل للفعلية مرحلتين :
أ. الفعلية المعلّقة التي لا يكون بعدها
بعث ولا زجر.
ب. الفعلية المطلقة التي يكون بعدها بعث
وزجر. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة أو جواب واحد في مراحل
ثلاث :
يلاحظ
على الجواب الأوّل : أنّ القول بأنّ
المجعول في باب الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق فانّه ليس للشارع أيّ جعل في باب
الأمارات ، بل أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة ، بالسكوت أو بإخراج
الفاسق وإبقاء العادل بالروايات الإرجاعية وغيرها ، فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى
الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتى انّ ما ورد في التوقيع عن الناحية المقدسة
، أعني قوله : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم
حجّتي وأنا حجّة اللّه » ليس بصدد إنشاء الحجّية ، بل اخبار عن كونهم حجج اللّه
كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه.
ويلاحظ
على الجواب الثاني : أنّ القول بوجود
حكمين أحدهما نفسي والآخر طريقي قول بلا دليل ، فانّ المجعول هو الحكم الواقعي
النفسي ولا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الواقع ، بل أقصى ما هناك هو الأمر
بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلف إلى الواقع ، فإن أوصلته إليه فمؤدى الأمارة هو
حكم الواقع وإلافتكون اكذوبة نسبت إلى النبي 6
والإمام 7.
وبالجملة : حكم نقلة الأحاديث والروايات
عن اللّه سبحانه بواسطة أنبيائه وأئمته ، حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية عن جانب
الدولة ، فلو أصاب خبره
__________________
الواقع يكون المؤدّى
نفس الواقع ، وإن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسان الدولة.
نعم ما أفاده في الجواب الثالث مبني على
أنّ المجعول هو الحكم الشرعي حيث إنّ الظاهر من أدلّة الأُصول جعل الطهارة
والحليّة للمشكوك وأنّ الواقع ليس بفعلي منجز.
الرابع
: ما أفاده الشيخ الأعظم في المقام وأشار إليه المحقّق الخراساني بقوله : « فقد
انقدح بما ذكرنا انّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول
والأمارات فعلياً » وبما انّ ما نسب إليه المحقّق الخراساني لا يوافق كلام الشيخ
في الفرائد نأتي بخلاصة كلامه في هذا المقام :
انّ القائل بامتناع التعبد إمّا يقول به
في حال الانسداد أو في زمان الانفتاح. أمّا الأوّل فالمنع عن التعبد غير صحيح بعد
انحصار الطريق بالظن وإلا يلزم ترك العمل بالشريعة.
وأمّا الثاني فلأنّ الإشكال إنّما يتوجه
إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة ، بمصلحة في نفس التعبد بالظن
بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها
الفائتة منها أو الواردة من المفسدة ، وذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم
مفسدة العسر والحرج وبالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة
والأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي والفردي ، والمصلحة السلوكية
لا تمسّ كرامة الواقع ولا تغيره غير انّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس
الواقع
__________________
وإلا يكون كاذباً ،
ولكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذات مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو
ابتلى به من المفاسد.
ثمّ إنّه يعرف الحكم الواقعي بالبيان
التالي ويقول :
إنّ المراد بالحكم الواقعي هو الحكم
المتعين المتعلّق بالعباد الذي يحكى عنه الأمارة ، ويتعلّق به العلم والظن وأمر
السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه
إلا أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي انّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو
جاهلاً مقصراً ، والرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت
عنده أمارة معتبرة على خلافه.
وعلى ضوء ذلك فتندفع جميع المحاذير.
أمّا محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في
المفسدة ، فلما عرفت من تداركه بالمصلحة السلوكية.
وأمّا التدافع بين الملاكين ، مثلاً إذا
كان الواقع حراماً وقامت الأمارة على وجوبه ، فالمفسدة قائمة بمتعلّق الحكم
والمصلحة بنفس السلوك.
وأمّا المحذور الخطابي من اجتماع
المثلين أو الضدين فهو منتف بانتفاء الموضوع ، لأنّ الأمارة في خدمة الواقع ، فإن
وافق فهو ، وإلافلا يتضمن حكماً شرعياً وليس للشارع فيه دور سوى الإمضاء ، ففي ظرف
الموافقة والمخالفة لا حكم ثان حتى يتحقّق فيه مثلان أو ضدّان ، والدليل على أنّ
قيام الأمارة لا تحدث حكماً شرعياً وافق أم خالف هو تصريحه بأنّ معنى « إيجاب العمل
على الأمارة ، وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل على طبقها ».
__________________
وأمّا المحذور الراجع إلى المبادي
كالإرادة والكراهة ، فمثلاً لو فرضنا انّ الأمارة قامت على وجوب الحرام ، فالكراهة
متعلّقة بالمتعلّق كالعصير العنبي ، والإرادة متعلّقة بتطبيق العمل على الأمارة
ونفس السلوك ، وبهذا الجواب تندفع جميع المحاذير : الملاكية والخطابية والمبادئية.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا
الجواب إيرادين :
الأوّل
: لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً انشائية يلزم عدم وجوب امتثالها لو قامت
الأمارة عليها ، وذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لما كان إنشائياً ، فقيام الأمارة
لا يحدث شيئاً سوى انّه قام على حكم واقعي إنشائي غير لازم الامتثال.
الثاني
: كيف يمكن التوفيق بذلك مع احتمال وجود أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد
الطرق والأُصول العملية ، المتكفلة لأحكام فعلية ضرورة انّه كما لا يمكن القطع
بثبوت المتنافين كذلك لا يمكن احتماله ، فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون
الحكم الواقعي الذي يكون لولا الطرق إنشائياً ، غير فعلي.
يلاحظ
على الأوّل : أنّ الإشكال مبني
على كون الحكم الواقعي عند الشيخ إنشائياً ، وهو خلاف صريح كلامه ، فانّ صريح
كلامه انّه فعلي وله آثار أربعة :
أ. لا يعذر إذا كان عالماً.
ب. لا يعذر إذا كان جاهلاً مقصراً.
ج. يعذر إذا كان قاصراً عقلاً.
د. معذور شرعاً.
إنّ احتمال المتنافيين وإن كان كالقطع
بهما في الامتناع ، لكن إذا كان
الحكمان مختلفين
جوهراً كأن يكون أحدهما إنشائياً ـ حسب بعض كلماته ـ أو فعلياً حسب ما استظهرناه ،
والآخر فعلياً مطلقاً ، فالقطع بوجودهما ليس محالاً فضلاً عن احتمالهما.
الخامس
: ما نسب إلى المحقّق السيد محمد الفشاركي وقرّره المحقّق الخراساني بالنحو التالي
: انّ الحكمين ليس من مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن
الواقعي بمرتبتين. وقد أشار إلى هذا الجواب الشيخ الأنصاري في أوّل مبحث التعادل
والتراجيح وإن كان كلامه في رفع التعارض بين الأُصول وما يحصله المجتهد من الأدلّة
الاجتهادية ، ولكنّه عام لغير هذا المورد ، حيث قال : إنّ موضوع الحكم في الأُصول
، الشيء بنفس انّه مجهول الحكم فالحكم عليه بحلية العصـير ـ مثلاً ـ من حيث إنّه
مجهول الحكم ، وموضوع الحكم الواقعي ، الفعل من حيث هو هو ، فإذا لم يطلع عليه
المجتهد كان موضوع الحكم في الأُصول باقياً على حاله فيعمل على طبقه. الخ.
وقد أورد عليه في الكفاية ما مرّ نظيره
في تصوير الترتب ، وهو انّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلا انّه
يكون في مرتبته أيضاً وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.
إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة للمجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري التي أشار إليها في الكفاية ، وهناك جواب سادس يندفع به
جميع المحاذير المذكورة بالبيان التالي وربما يكون لبّه موجوداً ضمن الأجوبة
السابقة.
تحليل جديد للمحاذير
إنّ المحاذير المتصورة في المقام لا
تخلو إمّا أن تكون محاذير ملاكيّة ، أو
__________________
محاذير خطابية ، أو
محاذير مبادئية ، وإليك دراسة الكل.
أمّا
المحاذير الملاكية ، فإمّا أن تكون
بصورة تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة كما إذا كان الشيء واجباً أو حراماً
ودلّت الأمارة على حلّيته ، أو بصورة تدافع الملاكات كما إذا قامت الأمارة على
وجوب ما كان حراماً في نفس الأمر ، هذا إذا لم نقل بالكسر والانكسار وإلالا يكون
سوى مؤديات الأمارات أحكام.
والجواب عن الصورة الأُولى بأنّ في
العمل بالأمارة وإن كان فوت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد ، لكن
في إيجاب العمل بتحصيل العلم والاحتياط مفسدة كبرى وهي لزوم العسر والحرج الشديدين
الّذين ربما يُسبّبان رغبة الناس عن الدين وخروجهم عنه ، زرافات ووحدانا ، ففي هذا
المأزق ، يحكم العقل ، بتقديم الأوّل على الثاني ، لا أقول إنّ المصلحة الفائتة أو
المفسدة الواردة تتدارك ، بل أقول : إنّ الأمارات حجّة من باب الطريقية المحضة
وانّ قيام الأمارة ، لا يحدث مصلحة في المتعلّق ، وإذا دار الأمر بين الشرّ القليل
والشرّ الكثير يحكم العقل بتقديم الأوّل على الثاني.
وأمّا الصورة الثانية ، أعني : محذور
تدافع الملاكات فدفعه واضح ، لأنّه إنّما يلزم لو كانت الأمارة محدثة للمصلحة أو
المفسدة في المتعلّق ، فيلزم التدافع.
وبعبارة أُخرى : إذا كانت الأمارة تمس
كرامة الواقع وتحدث مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، وأمّا لو قلنا بالطريقية المحضة
كما هو الحقّ ، أو المصلحة السلوكية ، فلا ، لأنّ المصلحة السلوكية مصلحة نوعية
قائمة بنفس الأمر بالعمل بالأمارة لغاية إيجاد الرغبة في الدين فلا صلة لها بالمتعلق.
ومن هنا تبين انّه لا يكون في الأمر
بالعمل بالأمارة أيُّ محذور ملاكي ، وإليك دراسة المحذور الخطابيّ.
المحذور الخطابيّ
والمحذور الخطابيّ يتلخص في اجتماع
المثلين أو اجتماع الضدين ، فنقول : إنّ الجواب عنه بوجهين :
الأوّل
: التماثل من أقسام الوحدة والتضاد من أقسام التقابل ، وكلاهما من الأعراض
الخارجية التي تتصف بها الأُمور الحقيقية والأحكام أُمور اعتبارية لا تتصفان بهما
إلا مجازاً ، فانّ الوجوب والحرمة من الأُمور الاعتبارية يقومان في مقام الاعتبار
مقام البعث والزجر التكوينيين ، فانّ الإنسان إذا أراد بعث ولده إلى أمر ، أو زجره
عنه ، يبعثه بيده أو يمنعه عنه ، ولما كان هذا الأمر غير ممكن في كلّ الأحايين
خصوصاً فيما إذا أراد بعث جماعة غائبين أو زجرهم حاول العقلاء لأداء ذينك الغرضين
بوضع لفظ افعل أو لا تفعل للحكاية عنهما في عالم الاعتبار ، فكلّ من هذين اللفظين
مصداق تكويني للّفظ والصوت ، ومصداق اعتباري للبعث والزجر.
ولما كانت دلالة الألفاظ على المعاني
بالوضع والاعتبار ، كان البعث والزجر المفهومان من اللفظين أولى بأن يكون
اعتباريين فلا يتصفان بالتماثل أو التضاد.
الثاني
: انّ الإشكال مبني على أن يكون في مورد الأمارات والأُصول المحرزة حكم شرعي طبق
المؤدّى ، ويكون إمضاء الشارع للعمل بهما ، بمعنى جعل حكم مماثل لما تدل عليه
الأمارة والأصل ، وهو خلاف التحقيق ، لأنّ العمل بها لغاية درك الواقع والوصول
إليه ، فإن حصلت الغاية فنعم المراد ، وإلا تكون هنا صورة حكم لا حكم شرعي.
نعم لا يبعد أن يكون للشارع في مجاري
الأُصول غير المحرزة أحكاماً في ظرف الشكّ كالحلية فإنّ ظاهر قوله : كلّ شيء طاهر
حتى تعلم انّه قذر ، أو
كلّ شيء حلال حتى
يعلم انّه حرام بعينه فتدعه جعل الطهارة الشرعية أو الحلية للمشكوك ، وفي هذه
الصورة ينحصر دفع الإشكال الخطابي بالجواب الأوّل.
المحاذير المبادئيّة
تقرير انّ الإرادة القطعية قد تعلّقت
بالأحكام الواقعية ، فلو تعلّقت أيضاً بالأحكام الظاهرية سواء أوافقت أم خالفت لزم
ظهور الإرادتين المتماثلتين أو المتضادتين في آن واحد ومثلهما الحب والبغض حرفاً
بحرف.
الجواب
: أمّا في موارد الأمارات والأُصول المحرزة ، فليس هناك حكم ظاهري مجعول حتى
تتعلّق به الإرادة والكراهة ، ولو كانت هناك إرادة وكراهة فقد تعلّقا بالحكم
الواقعي ، وعلى ذلك فاجتماع الإرادتين ، أو الإرادة والكراهة أشبه بالسالبة
بانتفاء الموضوع.
نعم لا بأس بالإشكال في الأُصول غير
المحرزة فانّ الظاهر في أدلّتها جعل الطهارة والحلية للمشكوك وهو يكشف عن تعلّق
الإرادة بالحكم بالطهارة والحلية ، فلو كانت في نفس الأمر محرمة يلزم إجتماع
الإرادة والكراهة.
والجواب : انّه لا مانع من القول برفع
اليد عن الحكم الواقعي وذلك للمصلحة العليا التي وقفت عليها ولا يلزم منه التصويب
، إذ هو عبارة عن إنكار الحكم المشترك بين العالم والجاهل وهو غير لازم وإنّما
اللازم صيرورة الحكم المشترك إنشائيّاً أو فعليّاً معلّقاً وكون الفعلي المنجز هو
الحكم الظاهري.
وبهذا البيان الضافي اندفعت المحاذير
الثلاثة : الملاكية والخطابية والمبدئية.
المقام الثاني : في وقوع
التعبّد بالظن
قد تعرّفت على إمكان العمل بالظن ،
وانّه لا يترتب على التعبّد به شيء من الفساد ، وحان حين البحث عن وقوعه في
الشريعة ، ولنقدم البحث عن الضابطة الكلية في العمل بالظن ، وهل الأصل هو جواز
العمل به إلا ما دلّ الدليل على عدم جواز العمل به كالقياس ، أو أنّ الأصل هو عدم
الجواز إلاما دلّ الدليل على جواز العمل به.
وليس المراد من الأصل ، هو الأصل العملي
بل مقتضى الأدلّة الاجتهادية ، واتفقت كلمة المحقّقين على أنّ الأصل هو الثاني ، وانّ
مجرّد الشك في الحجّية كاف في استنتاج القطع بعدم الحجّية ، وهذا أمر عجيب حيث
يتولد من الشكّ فيها ، القطع بعدمها ، وقد قرر بالبيانين التاليين :
١. البيان الأوّل
قال الشيخ الأعظم ما هذا توضيحه :
إنّ حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه
في مقام العمل ، والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه وهذان الأثران لا
يترتبان في ظرف الشكّ في الحجّية ، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل
، وكذلك إسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة
، فإذا حرم الاستناد والاسناد وعلم ارتفاعهما في حالة الشك ، يعلم عدم حجّية الظن
، إذ لا معنى لوجود الموضوع مع عدم أثره.
وأورد عليه المحقّق الخراساني :
١. النسبة بين الحجّية والأثرين عموم
وخصوص مطلق ، فصحّة الاستناد
عملاً والاسناد
قولاً يلازم كون الشيء حجّة ، ولا عكس إذ ربما يكون الشيء حجّة كالظن على الحكومة
ولا يصحّ معه الاسناد إلى الشارع للفرق بين كون الظن حجّة في حال الانسداد من باب
الكشف ، وكونه حجّة من باب الحكومة فعلى الأوّل ، فالعقل بعد ثبوت بطلان الاحتياط
وانحصار الطريق بالظن ، يكشف عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة فيترتب عليه الأثران دون
القول بالحكومة فانّه مبني على القول بعدم بطلان الاحتياط وجوازه ، فعندئذ لا
يستقل بحجّية الظن لعدم انحصار الطريق بالظن ، غاية الأمر لما يجد العقل انّ العمل
بالاحتياط على السعة يوجب العسر والحرج عاد يضيق دائرة الاحتياط فيوجب العمل بالظن
حتى لا يلزم العسر والحرج ، فالعمل بالظن في الحقيقة عمل بالاحتياط لكن بعد تضييق
دائرته بإخراج المشكوك والموهوم وإبقاء المظنون ، فالظن حجّة في هذه الحالة ولا
يصحّ اسناد مضمونه إلى الشارع.
وأضاف تلميذه المحقّق العراقي مورداً
آخر ، وهو انّ الشكّ قبل الفحص حجّة مع أنّه لا يجوز الانتساب إليه تعالى.
٢. لو فرض ترتّب الأثرين ، ومع ذلك لم
يترتّب عليه سائر الآثار من المنجزية والمعذرية والانقياد والتجرّي لما كان يجدي
في الحجّية شيئاً ومع ترتبها لما كان يضرّ عدم صحّة الاستناد والاسناد.
ويمكن الذب عن النقض الأوّل بأنّ الكلام
في الحجج الشرعية اعتبرها الشارع تأسيساً أو إمضاء ، لا الحجج العقلية فانّ الظن
على الحكومة حجّة عقلية لا شرعية والحجّة الشرعية لا يفارق صحّة الاستناد والإسناد
، ومنه يظهر حال النقض الثاني ، مضافاً إلى أنّ الحجّة هو العلم الإجمالي بالأحكام
على نحو لو
__________________
تفحص عنه ، لعثر
عليه وهو الباعث إلى الفحص ، لا الشكّ.
٢. البيان الثاني
قال المحقّق الخراساني ما هذا توضيحه :
إنّ الأثر المترتب على الشيء قد يترتّب
على وجوده الواقعي كالحرمة المترتّبة على واقع الخمر ، وقد يترتّب على واقعه
ومشكوكه كالطهارة ، وثالثة يترتّب على العلم بالشيء فقط فيكون بوجوده العلمي
موضوعاً للأثر.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ المراد من
الحجّة في المقام هو ما يحتجّ به المولى على العبد ، والعبد على المولى ولها آثار
أربعة : التنجز ، والتعذير والتجري والانقياد ، وكلّها آثار لما علم كونه حجة
بالفعل ، وإلافلو كان حجّة في الواقع ولم يقف المكلّف على كونه كذلك لا يترتب عليه
شيء من هذه الآثار ، لحكومة العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وعند ذلك لو شككنا في
حجّية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجّية الفعلية ومعه لا يترتب عليه شيء من آثارها
الأربعة فيكون الأصل في الشكّ في الحجّية عدمها قطعاً ، أي عدم صحّة الاحتجاج
وترتّب الآثار.
ثمّ إنّهم تمسّكوا في إثبات حرمة العمل
بغير ما علمت حجّيته بآيات وروايات ، أمّا الآيات فأوضحها دلالة قوله سبحانه : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا
عَلَيْها آباءنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا
يَأْمُرُبِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون
). فذمّ سبحانه من يقول ما لا يعلم كونه من
اللّه سواء أكان مطابقاً للواقع أو لا.
والذي يمكن أن يقال انّ ما ورد من
الآيات في هذا المضمار إرشاد إلى حكم العقل القاضي بقبح القضاء بغير دليل ويؤيّد
ذلك انّه سبحانه يستشهد على
__________________
بطلان كلامهم ، بما
يقتضي به فطرتهم وعقولهم الساذجة ، وهو قبح الادّعاء بلا سلطان ولا برهان ، قال
سبحانه : ( وَقالُوا لَنْ يَدْخُل
الجَنَّة إِلاّمَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا
بُرهانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ).
وقوله سبحانه : ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطان بَيِّن )
وقوله عزّ اسمه : (
إِنْ
عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطان بِهذا أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون
).
__________________
حجّية الظواهر
قد علمت أنّ الضابطة الأُولى في الظنون
عدم الحجّية ، وهذا هو المحكَّم مالم يدل دليل على خلافه ، وقد ادّعى الأُصوليون
خروج بعض الظنون عن تحت ذلك الأصل أوّلها : ظواهر كلام المتكلّم.
فنقول : إنّ استنباط مراد المتكلّم
يتوقف على ثبوت أُمور :
أ. أصل الصدور ، أي ثبوت صدور الكلام عن
المتكلّم إمّا علماً كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن ، أو بالحجّة الشرعية ،
والمتكفل لبيان هذا الأمر هو أدلّة حجّية قول الثقة.
ب. جهة الصدور ، أي ثبوت انّ المتكلّم
لم يتكلّم لهواً أو تمريناً أو هازلاً أو تقية ، والمتكفل لإثبات هذا الأصل هي
الأُصول العقلائية ، لأنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم هو كونه بصدد بيان صميم مراده
، وامّا التكلّم لهواً أو هزلاً أو تقية على خلاف ما عليه العقلاء في محاضراتهم ،
ولا يُعرَّج على واحد منها إلابدليل خاص.
أضف إلى ذلك أنّ قسماً منها على خلاف
الحكمة.
ج. ثبوت ظهور مفرداته ، والمتكفل لبيان
هذا الأصل علائم الوضع ، أعني : التبادر ، وصحّة الحمل ، وعدم صحّة السلب ،
والاطراد ، وتنصيص أهل اللغة.
د. حجّية ظهور كلامه بعد انعقاده وكونه
منبئاً لكشف مراده ، وهذا هو
الذي انعقد له هذا
البحث ولكنّه لا يحتاج إلى بيان زائد لاتفاق العقلاء على اتباع الظواهر في حياتهم
وفي كتاباتهم وفي أقاريرهم ووصاياهم واتفاقياتهم التجارية والسياسية وغيرها.
أضف إلى ذلك أنّه لو لم تكن الظواهر
حجّة لزم نقض الغرض ، لأنّ الغاية من الوضع هي المفاهمة ولو اقتصرنا في ذلك المجال
على النصوص لقلت فائدة الوضع.
هذا ممّا لا إشكال فيه إنّما الكلام في
الأُمور التالية :
أوّلاً
: هل الظواهر معدودة من الظنون خرجت عن تحت الأصل ، أو انّها بالنسبة إلى إحضار
المراد الاستعمالي دليل قطعي؟
ثانياً
: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو مقيدة بإفادته الظن الشخصي بالمراد؟
ثالثاً
: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو تختص حجّيتها بمن قصد إفهامه؟
رابعاً
: هل ظواهر الكتاب حجّة أو ليست بحجّة إلابعد تفسير الإمام المعصوم.
فهذه الجهات جديرة بالبحث.
الجهة الأُولى : في أنّ
الظواهر من القطعيات
الظاهر انّ خروج الظواهر عن الأصل خروج
موضوعي لا حكمي يتبين بتقديم مقدّمة وهي :
انّ الفرق بين الظاهر والنص هو انّ كلا
الأمرين يحملان معنى واحداً ويتبادر منهما شيء فارد ، غير انّ الأوّل قابل للتأويل
فلو أوّل كلامه لعدّ عمله خلافاً للظاهر ولا يعدّ مناقضاً في القول ، كما إذا قال
: أكرم العلماء ، ثمّ أشار بدليل
خاص بأنّ المقصود هو
العلماء العدول.
وأمّا النصّ فهو لا يحتمل إلا معنى
واحداً ، ولا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً ، وهذا مثل قوله سبحانه : ( يُوصيكُمُ اللّهُ في أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ).
فانّ كون حظّ الذكر مثلي الأُنثى شيء
ليس قابلاً للتأويل ولذلك يعدّ نصاً ، ومن حاول تأويله لا يقبل منه ، ومثله قوله
سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ
أَحَد ).
إذا علمت ذلك ، فنقول : إنّ القضاء في
أنّ كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني يتوقّف على بيان الوظيفة
التي حملت على عاتق الظواهر ، وما هي رسالتها في إطار التفهيم والتفهّم ، فلو
تبيّن ذلك سهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.
فنقول : إنّ للمتكلّم إرادتين :
١. إرادة استعمالية ، وهي استعمال اللفظ
في معناه ، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً
أو مورّياً أو غير ذلك ، سواء كان المعنى حقيقياً أو مجازياً.
٢. إرادة جدية ، وهي انّ ما استعمل فيه
اللفظ مراد له جداً ، وما هذا إلا لأنّه ربما يفارق المراد الاستعمالي ، المراد
الجدي ، كما في الهازل والمورّي والمقنن الذي يُرتِّب الحكم على العام والمطلق مع
أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد ، ففي هذه الموارد تغاير الإرادة الجدية
الإرادة الاستعمالية ، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل والموري واللاغي ، أو
تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص ، أو المطلق الذي أُريد منه
المقيد بالإرادة الجدية.
__________________
وعلى ضوء ذلك فيجب علينا أن نحلل أمرين
:
الأوّل
: ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟
الثاني
: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟
أمّا
الأوّل : فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر
عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كانت المعاني حقائق أو مجازات ، فلو
قال : رأيت أسداً ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس ، وإذا قال :
رأيت أسداً في الحمام ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه ، فدلالة
الجملة في كلا الموردين على المراد الاستعمالي كشف قطعي وليس كشفاً ظنياً وقد أدى
اللفظ رسالته بأحسن وجه. وعلى ذلك لا يصحّ تسميته كشفاً ظنياً ، اللّهمّ إلا إذا
كان الكلام مجملاً أو متشابهاً ، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي
متشخصاً ، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث والكلام في الظواهر لا في المجملات
والمتشابهات.
وأمّا
الثاني : أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف
ظنياً ، فانّه يتلخص في الأُمور التالية :
١. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في
أيّ معنى.
٢. أو استعمل في المعنى المجازي ولم
ينصب قرينة.
٣. أو كان هازلاً في كلامه.
٤. أو مورّياً في خطابه.
٥. أو لاغياً فيما يلقيه.
٦. أو أطلق العام وأراد الخاص.
٧. أو أطلق المطلق وأراد المقيّد.
إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب
الاضطراب في كشف المراد
الاستعمالي عن
المراد الجدي على وجه القطع.
ولكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة
لها دور في المقام :
١. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من
وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي بالظنية ، وذلك لما عرفت من
أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلا شيء واحد وهو إحضار المعاني في ذهن المخاطب ،
وأمّا الاحتمالات المذكورة وكيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها
لأجلها بأنّه ظني.
٢. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في
النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً ، أو هازلاً ، أو مورّياً أو متّقياً أو غير
ذلك من الاحتمالات ، مع ذلك نرى أنّهم يعدونها من القطعيات.
٣. ثمّ إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات
بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها ، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة ، لا
الهزل ولا التمرين ، بدافع نفسي ، لا بدافع خارجي كالخوف وغيره.
ويدل على ما ذكرنا أيضاً انّ الحياة
الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر ، ففي مجال المفاهمة والتفاهم بين
الأُستاذ والتلميذ والبائع والمشتري والسائس والمسوس ، عليه تدور الجمل حول ما
يهمهما ويعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم دلالة قطعية لا ظنية ، إلا إذا كان
هناك إبهام أو إجمال. أو جريان عادة على فصل الخاص والقيد عن الكلام.
وبذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد
الاستعمالي ، بل المراد الجدي ، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة ، لا في مقام
التقنين كشف قطعي ولا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.
الجهة الثانية : في تقيّد
الحجّية بالظن
هل الظواهر متَّبعة مطلقاً سواء أفادت
الظن بالمراد ، أو هي حجّة بشرط عدم الظن بالخلاف ، أو حجّة بشرط الظن بالوفاق ،
أو يفصل بين الظواهر الدائرة بين الموالي والعبيد ، والتي تدور بين غيرهم فيشترط
في الثاني الاطمئنان بالمراد؟
والظاهر هو القول الأوّل ، لبناء
العقلاء على حجّيتها مطلقاً ، بلا قيد وشرط ، أمّا في ميدان الاحتجاج والتكليف ،
فيحتج المولى بظاهر كلامه ولا يقبل من العبد عدم حصول الظن بالوفاق ، أو حصول الظن
بالخلاف ، إلا إذا استند إلى قرينة منفصلة ، أو متصلة صالحة لصرف الظاهر عن ظاهره
، فيخرج عن محلّ البحث ، كما أنّ للعبد الاحتجاج على المولى بظاهر كلامه ، بل لا
ينقدح ـ كما عرفت ـ في أذهانهم احتمال إرادة خلاف الظاهر باحتمال انّه غفل عن نصب
القرينة ، أو غفل السامع عمّا نصبه ، فلأجل ذلك لا يرد من سماعها إلى أذهانهم إلا
معنى واحد.
الجهة الثالثة : حجّية
الظواهر لمن قصد إفهامه ومن لم يقصد
لا شكّ في حجّية ظاهر كلامه لمن قصد
إفهامه ومن لم يقصد ، والشاهد عليه الاحتجاج بالرسائل السرية بين الشخصين ، حيث
يُستدل بها على حسن نيّة الكاتب أو سوئها ، كما يستدلون بالوصايا التي يخاطب فيها
الموصي الوصيّ كالابن بالقيام بكذا وكذا ، إلى غير ذلك من الظواهر التي أُريد منها
تفهيم شخص خاص ، ولكنّها تتخذ حجّة مطلقاً.
وقد خالف المحقّق القمّي ، حيث فصّل بين
من قصد افهامه بالظواهر فهي حجّة له بالخصوص ، ومن لم يقصد ، فهي حجّة له من باب
الظن المطلق ، الذي
ثبتت حجّيته بدليل
الانسداد.
وحاصل هذا التفصيل انّ الظواهر حجّة من
باب الظن الخاص في موردين :
ألف.
إذ أُريد افهام شخص خاص كما في الخطابات الشفاهية فهي حجّة لمن قصد من هذا الباب.
ب.
إذ لم يرد إفهام شخص خاص ، بل إفهام كلِّ من رجع إليها ، وهذا كالكتب المصنّفة
والسجّلات والأقارير والوصايا ممّا يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون تعلّق غرض
بمخاطب خاص.
وأمّا في غير هذين الموردين فالظواهر
حجّة من باب الظن المطلق ، وله أيضاً موردان :
ألف.
الأسئلة والأجوبة الدائرة بين الرواي والإمام.
ب.
الكتاب العزيز بالنسبة إلى المشافهين ، بناء على اختصاص خطاباته بالمشافهين وعدم
كونه من باب تأليف المؤلفين ، فالظهور اللفظي ليس حجّة إلا من باب الظن المطلق.
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر وجهاً لهذا
التفصيل وحاصله :
إنّ المتكلّم لو كان بصدد إفهام شخص
معين ، أو إفهام كلِّ من رجع إلى كلامه كالكتب المصنفة ، يتحتم عليه إلقاء الكلام
على وجه لا يقع المخاطب الخاصُ أو العام في خلاف المراد ، بحيث لو فرض وقوعه في
خلاف المقصود كان إمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ،
أو لغفلة من المخاطب في الالتفات إلى ما اكتنِف به الكلام الملقى إليه ، وكلا
الاحتمالين مرجوح في نفسه مع اتفاق العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال
الغفلة في جميع أُمور
العقلاء وأفعالهم
وأقوالهم.
وأمّا إذا لم يكن الشخص مقصوداً
بالإفهام ، فلا ينحصر سبب وقوعه في خلاف المقصود بالأمرين ، بل هناك سبب ثالث وهو
انّه إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفاً عن ظاهره ، واحتملنا انّ المخاطب
قد فهم المراد بقرينة قد اختفت علينا فلا يكون هذا الاحتمال لغفلة من المتكلّم إذ
لا يجب على المتكلّم إلانصب القرينة لمن يقصد إفهامه ، كما أنّه ليس اختفاء
القرينة مسبّباً عن غفلة الآخر ، بل دواعي الاختفاء أمر خارج عن اختياره ، فعندئذ
لا يوجب الظنَّ بالمراد.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ جميع
الاحتمالات التي تصدّنا عن الأخذ بالظواهر مرجوحة عند العقلاء ، فكما أنّ غفلة
المتكلّم عن نصب القرينة ، أو غفلة المخاطب عن الالتفات إلى ما اكتُنف به الكلام
من القرينة ، أمر مرجوح ، فهكذا احتمال وجود قرينة سابقة على الكلام أو قرينة
حالية غير منقولة في الكلام ، أمر مرجوح لا ينقدح في ذهن العقلاء.
نعم لو جرت سيرة المتكلّم على فصل
القرائن عن الكلام ، كما هو الحال بين المقنّنين ، لزم على المخاطب الفحصُ عن
القرائن ، والعمل بالظواهر بعد اليأس عن الظفر بها.
وثانياً
: انّ الغرض من نقل الأسئلة والأجوبة هو إفادة الغير واستفادته ، فإذا كان الناقل
عارفاً بأسلوب الكلام فلا يخلّ بذكر القرائن المؤثرة في انعقاد الظهور ، فعدم ذكره
ناش إمّا من عدم عرفانه بأسلوب النقل ، أو كونه غير أمين ، والكلّ مندفع.
إن
قلت : إنّ الأخبار الصادرة عن الأئمّة لم
تصل إلينا إلا مقطعة بحيث كانت الأُصول الأوّلية التي اعتمد عليها أرباب الكتب
الأربعة ، على غير هذا
__________________
النحو ، فعملية
التبويب أوجبت التقطيع فمن المحتمل وجود قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور وقد اختفت
علينا بسبب التقطيع.
قلت
: إنّ التقطيع حصل بأيدي أبطال الحديث كالكليني والشيخ وغيرهما ، فلو كانت في
الكلام قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور ، لما تركوا نقلها.
وربّما يجاب عن الشبهة بأنّ الأجوبة
الصادرة عن الأئمّة ليست إلا كالكتب المؤلفة التي ذهب المحقّق القمي فيها إلى
الحجّية بالنسبة إلى المشافه وغير المشافه ، وذلك لأنّ الأحكام لمّا كانت مشتركة
بين الأُمّة يجري الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس الكلام من غير
دخل في إفهام مخاطب خاص.
يلاحظ
عليه : أنّ كون الحكم مشتركاً غير كون
الخطاب مشتركاً وعاماً ، وكون الحكم متوجهاً إلى الكلّ غير كون الخطاب متوجهاً
إليهم ، فإذا كانت الخطابات شخصية يأتي فيها ما احتمله المحقّق القمي من اعتماد
المتكلّم على القرائن المنفصلة والمتصلة غير المنقولة أو الحالية غير القابلة
للنقل.
وربما يجاب بجواب ثان وهو : انّه إذا
كان الراوي الأوّل مقصوداً بالخطاب للإمام يكون الراوي الثاني مقصوداً بالخطاب
للراوي الأوّل ، وهكذا إلى أن يصل إلى أصحاب الجوامع ، فالمقصود بالإفهام هو كلّ
من نظر فيها ، فلا يترتب على ذلك التفصيل ثمرة عملية.
والحاصل : انّ هذه التفاصيل من الشبهة
والأجوبة نتيجة جعل الظواهر من الظنون ، فلو كان مختار القوم ما ذكرنا لما كان
لهذه البحوث محل.
الجهة الرابعة : في حجّية
ظواهر الكتاب
قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم
حجّية ظواهر الكتاب ، وهذه الدعوى ممّا يندى لها الجبين إذ كيف تكون المعجزة
الكبرى للنبي 6
مسلوبة الحجّية؟!
وعلى أيّة حال انّ الاقتصار في
الاستنباط على السنّة دون الكتاب كانت بمثابة ردّ فعل لما رواه البخاري عن عمر بن
الخطاب انّه قال ـ عند ما طلب النبي 6
القلم والدواة ليكتب كتاباً ـ : حسبنا كتاب اللّه.
وكلا القولين على طرفي الإفراط
والتفريط.
وقبل الخوض في تحليل أدلّة الطرفين نحرر
محلّ النزاع ، فنقول :
المراد من حجّية ظواهر القرآن هو
الاستفادة من عموماته ومطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة
أو الحالية المنقولة بخبر الثقة ، خصوصاً الفحص عن مقيداته ومخصصاته في أحاديث
العترة الطاهرة ، فإذا تمّت هذه الأُمور يقع البحث في صحّة الاحتجاج بظواهر القرآن
أوّلاً ، وإلا فالاستدلال بظواهر القرآن مع قطع النظر عن جميع القرائن والروايات
أمر مرفوض بنفس الكتاب والسنّة قال سبحانه : (
وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُون ).
واللّه سبحانه عرّف النبي 6 بأنّه مبيّن للقرآن ، وأمر الناس
بالتفكّر فيه ، فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنّ لتفكر الناس سهماً آخر ،
فبهذين الجناحين يُحْلِّق الإنسان في سماء معارفه ويستفيد من حكمه وقوانينه.
__________________
هذا هو محلّ النزاع ، فالأُصولي ذهب إلى
وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه بظاهره ، والأخباري إلى المنع ، وأنّ
الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم ، فيصح الاحتجاج بتفسيره لا بنصِّ
القرآن.
إذا عرفت ذلك ، فيدل على قول الأُصوليين
أدلّة كثيرة.
الأوّل : دلالة القرآن على
صحّة الاحتجاج به
قد دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية
على أنّ القرآن نور ، والنور بذاته ظاهر ومظهر لغيره ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرهانٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً
) . وفي آية أُخرى : ( قَدْجاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِين )
فلو كان
قوله : ( وَكِتابٌ مُبين
) عطف تفسير
لما قبله ، فيكون المراد من النور هو القرآن.
انّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان
لكلّ شيء ، وحاشا أن يكون تبياناً له ولا يكون تبياناً لنفسه : قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً
لِكُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمين
) . وقال سبحانه : ( إِنَّ هذا القُرآن يَهْدِي لِلَّتي هِيَ
أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحات أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً كَبيراً ).
أفيمكن أن يَـهدِي من دون أن يكون
المهتدي مستفيداً من هدايته؟!
فإن
قلت : إنّ الاستدلال بظواهر القرآن على
حجّيتها دور واضح ، فانّ الأخباري لا يقول بتلك المقالة.
__________________
قلت
: إنّ الاحتجاج ـ في المقام ـ على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره ،
والأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.
الثاني : تحدّي النبي
بالقرآن
إنّ النبي 6
تحدّى الناس بالقرآن ، والتحدّي يتوقف على فهم الكتاب ودركه ثمّ مقايسته بالكتب
الأُخرى ثمّ القضاء بأنّه فوق كلام البشر ، ولا يخطو الإنسان هذه المراحل إلا إذا
كان القرآن كلاماً مفهوماً وحجّة على المخاطب ، فلو كان فهمُ القرآن منوطاً بتفسير
الرسول 6 لزم منه
الدور ، فانّ ثبوت رسالته متوقف على إعجاز القرآن ، وهو متوقف على فهمه ، وفهمه
متوقف على تفسيره ، وتفسيره متوقف على حجّية قوله ، وهو متوقف على ثبوت رسالته
التي هي متوقفة على إعجاز القرآن.
على ذلك فليس فهم القرآن رهن تفسيره ،
غاية الأمر بما أنّ مقتضى التشريع فصل المخصِّصات والمقيِّدات عن المطلقات
والعمومات فلا يحتج بها إلا بعد الرجوع إلى المقيّدات والمخصصات في السنَّة.
وقد فهم الوليد بصفاء ذهنه وصميم عربيته
انّ بلاغة القرآن خارجة عن طوق القدرة البشرية وقال ـ لماّ سمع آيات من سورة فصلت
من الرسول الأعظمـ : لقد سمعت من محمّد كلاماً لا يُشبه كلام الإنس ولا كلام الجنّ
، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وهو
يعلو ولا يعلى عليه.
فإن
قلت : إنّ النبي 6 كان يتحدّى بنصوص القرآن لا بظواهره.
قلت
: هذا إنّما يصحّ لو لم يتحدّ القرآن بكلّ الآيات ، قال سبحانه :
__________________
(
وَإِنْ
كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين
) . وعلى هذا فالنبي تحدّى بكلّ سورة من
سور القرآن دون فرق بين نصّه وظاهره.
فإن
قلت : يكفي في ثبوت رسالته سائر معاجزه ،
فإذا ثبتت نبوته بهذا ، يكون قوله حجّة في تفسير كتابه وصحيفته.
قلت
: إنّ معنى ذلك عدم صحّة التحدّي بالكتاب وهو مردود بنفس الكتاب العزيز.
والحاصل
: انّ تحدِّي النبي في صدر عصر الرسالة بنفس القرآن قبل أن تثبت رسالته وحجّية
قوله ، دليل على أنّ القرآن أمر مفهوم وحجّة على المخاطب في كشف مفاهيمه وحقائقه.
نعم لا يحيط بكلّ حقائق القرآن وشؤونه
سوى المعصوم ، ولكن الإحاطة به من جميع الجهات شيء ، ودرك ما يتوقف عليه التصديق
بإعجازه شيء آخر ، والأوّل يختص بالمعصوم دون الثاني.
ولك أن تستنتج من هذا البرهان الذي
أُقيم على حجّية الظواهر ، أمراً آخر ـ له مساس بالجهة الأُولى من الجهات الأربع ـ
وهو انّه لو كانت دلالة الظواهر ظنّية ، لزم أن يكون القرآن معجزة ظنية ، لأنّ
الإعجاز أمر قائم باللفظ والمعنى ، فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته ، مفهوماً
ظنياً ، يكون إعجازه مبنياً على أساس ظني ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدمات ،
والإعجاز الظني لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.
__________________
الثالث : حديث الثقلين
قد تضافرت بل تواترت الروايات عن النبي 6 على لزوم التمسّك بالثقلين وفسرهما
بالكتاب والعترة وقال 6
: « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا »
فجعل كلاً من الثقلين حجّة ، وانّ كلاً يؤيد الآخر.
الرابع : الروايات التعليمية
هناك قسم عظيم من الروايات تحكي عن أنّ
الأئمّة كانوا يحتجون بظواهر الكتاب على أصحابهم ، ويعلمون كيفية استفادة الأحكام
منها ويفسرونها لا تفسيراً تعبديّاً ، بل تفسيراً تعليمياً ، بمعنى انّ الإمام لا
يتكلّم بما هو إمام ، بل بما هو معلِّم يرشد إلى كيفية دلالة الآية على المقصود ،
بمعنى انّ الطرفين قد اتّفقا على كون الكتاب حجّة في حدّ ذاته ، ويتحاوران في ما
هو المقصود من الآية ، فلولا انّ الكتاب حجّة لما كان لهذا النحو من التمسّك وجه ،
وإليك نماذج :
ألف
: سأل زرارة أبا جعفر 7
وقال : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فقام الإمام بتفسير الآية
على وجه تعليمي إرشادي إلى ما تدل عليه بلفظها ، فقد استدل على كون المسح ببعض
الرأس بلفظة « الباء » وعلى لزوم مسح بعض الرجلين دون غسلهما بوصل الرجلين بالرأس
وكونه معطوفاً على الرأس.
ب
: سأل عبدالأعلى ـ مولى آل سام ـ أبا عبد اللّه 7
عمّن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة؟ فقال : « إنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب
اللّه : ( ما
__________________
جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
) ـ ثمّ قال : امسَح على المرارة » فأحال
الإمام حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة ، إلى الكتاب. وقد أوضح الشيخ الأعظم
كيفيه الاستفادة من الآية فلاحظ.
ج : سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ،
عن وجوب القصر على المسافر مع أنّه سبحانه يقول : (
وَإِذا
ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاة )
ولم يقل «
افعلوا » فأجاب : « إنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلاجُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما
) مع أنّ الطواف بهما واجب ». فأرشد الإمام تلميذيه إلى أنّ الآيتين
في مقام دفع توهم الحظر ، لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فانّه يطلب من
السنّة الشريفة.
د. روى عبد اللّه بن بكير ، عن أبي عبد
اللّه 7 انّه شرب
رجل الخمر على عهد أبي بكر ، وادّعى انّه حديث العهد بالإسلام ولو علم انّه حرام
اجتنبها ـ فانتهى الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين 7
ـ فقال : « ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، من كان تلا عليه
آية التحريم فليشهد عليه » ففعلوا ذلك به ، فلم يشهد عليه أحد انّه قرأ عليه آية
التحريم فخُلّـي سبيله.
هـ. سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر 7 ، عن رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد
أم لا؟ قال : « إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت أعاد أربعاً ، وإن
__________________
لم يكن قُرئت عليه
ولم يعلمها فلا إعادة عليه » والمراد
من التفسير هو انّ قوله سبحانه : (
لا جُناح
) لدفع توهم
الحظر وانّ الحكم يؤخذ من السنّة ، أو المراد انّ تقيّد التقصير بالخوف مورديّ
وحكم اللّه مطلق ، وتقييد حجّية الآية بهذا النوع من التفسير لا يخل بالمقصود ،
لما قلنا عند تحرير محلّ النزاع ، من أنّ المقصود هو التمسك بالقرآن بعد الرجوع
إلى السنّة.
إلى غير ذلك من الروايات التي استدل
فيها الإمام برهاناً أو جدلاً ، فلاحظ.
الخامس : عرض الروايات
المتعارضة على القرآن
قد تضافر عنهم : في مورد تعارض الروايات ، لزوم عرضها
على القرآن ، فما وافق كتاب اللّه يؤخذ به ، وما خالف يضرب به عرض الجدار ، فقال
أبو عبد اللّه 7
: قال رسول اللّه 6
: « إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما
خالف كتاب اللّه فدعوه ».
وسيوافيك في محلّه ، انّ موافقة الكتاب ، ليست من المرجحات ، بل من مميّزات الحجّة
عن اللاحجّة.
السادس : عرض الشروط على
كتاب اللّه
روى الكليني بسند صحيح ، عن عبد اللّه
بن سنان الثقة قال : سمعته يقول : « من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز
له ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ما وافق كتاب اللّه » وفي
رواية أُخرى : « المسلمون عند شروطهم إلا كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فلا
يجوز ».
__________________
السابع : القرآن في حديث
النبي الأعظم 6
يعرف الرسول الأعظم بأنّ القرآن هو
المرجع لدى التفاف الفتن بالأُمّة ، قال 6
: « إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع
مشفع ، وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى
النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل ، وبيان تحصيل ، وهو
الفصل ليس بالهزل ».
وعنه ـ صلوات اللّه عليه وآله ـ في ذلك
المضمار روايات نقلها الكليني في كتاب القرآن.
الثامن : القرآن في كلام
الوصي 7
قال الإمام علي 7 : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به
، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ».
وفي كلام آخر : « واعلموا انّه ليس على
أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ».
إلى غير ذلك من الروايات التي تدل بوضوح
على لزوم الرجوع إليه في فهم العقيدة والشريعة وانّه سبحانه ما أنزله للتلاوة فقط
، بل للتلاوة التي يستعقبها التدبّر والتفكّر ، ثمّ العبرة والاعتبار ، ثمّ العمل
والتطبيق على الحياة.
إلى هنا تجلّت الحقيقة بأعلى مظاهرها
ولم يبق إلادراسة أدلّة الأخباريين
__________________
الذين نسب إليهم عدم
حجّية ظواهر الكتاب إلا بعد تفسير الإمام ، وهي وجوه أشار إليها في الكفاية :
١. اختصاص فهم القرآن بأهله
يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة وقتادة
أنّ القرآن فوق فهمهما وانّه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به.
١. روى شبيب بن أنس ، عن بعض أصحاب أبي
عبد اللّه 7 ـ في حديث ـ
أنّ أبا عبد اللّه 7
قال لأبي حنيفة :
« أنت فقيه العراق؟ » قال : نعم ، قال :
« فبم تفتيهم؟ » قال : بكتاب اللّه وسنّة نبيّه. قال : « يا أبا حنيفة! تعرف كتاب
اللّه حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ » قال : نعم ، قال : « يا أبا حنيفة
لقد ادّعيت علماً ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم ، ويلك ،
ولا هو إلا عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد ، وما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً ».
والسند ضعيف ، لعدم توثيق شبيب بن أنس
الوارد فيه ، وللإرسال في آخره ، لكن ربّما يؤيد المضمون قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبير
) بناء على أنّ المراد من الكتاب هو
القرآن ، ومن المصطفين هو أئمّة أهل البيت :
ومن الوراثة هو فهمه ، والكلّ قابل للتأمل.
وعلى كلّ تقدير فالرواية تردّ على
المستبدين بالقرآن الذين يفسّرونه ويفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في
بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه ومنسوخه ،
__________________
عامّه ومخصصه ،
مطلقه ومقيده ، وأين هو من عمل أصحابنا؟! فإنّهم يحتجون به بعد الرجوع إليهم ثمّ
الأخذ بمجموع ما يدل عليه الثقلان.
٢. روى الكليني بسند يتصل إلى محمد بن
سنان ، عن زيد الشحام : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر فقال : « يا قتادة أنت
فقيه أهل البصرة؟ » فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر 7 : « بلغني انّك تفسّر القرآن؟ » فقال
له قتادة : نعم! فقال له أبو جعفر ـ بعد كلام ـ : « إن كنت إنّما فسرت القرآن من
تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته عن الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك
يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به ».
والسند ضعيف بمحمد بن سنان ، والحديث
ناظر إلى الاستبداد بالقرآن من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت ، في معرفة ناسخه
ومقيّده ومخصصه ، والمراد من المعرفة هو المعرفة التامّة التي تكون حجّة على
العارف.
٢. احتواء القرآن على مضامين
شامخة
القرآن مشتمل على مضامين شامخة ومطالب
غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم.
يلاحظ
عليه : أنّ احتواءه على تلك المضامين لا
يمنع من الاحتجاج بظواهر الآيات التي هي بصدد بيان تكاليف العباد ، وما أُشير إليه
من احتوائه على المضامين العالية يرجع إلى الآيات النازلة حول العقائد والقصص ، أو
يرجع إلى بطون الآيات ، روى جابر قال : قال أبو عبد اللّه 7 : « يا جابر! إنّ للقرآن بطناً ،
وللبطن ظهراً ، وليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ».
__________________
٣. الظواهر من المتشابهات
يقسم القرآن الكريم الآيات إلى محكم
ومتشابه ، يقول سبحانه : (
هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاب
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
ما تَشابَهَ مِنْه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ
... ).
فالآيات المتشابهة ممنوعة الاتباع ،
والظواهر أمّا من المتشابهات قطعاً أو احتمالاً فلا يصحّ التمسّك بها.
يلاحظ
عليه : انّ الظواهر من المحكمات ، والمحكمات
تنقسم إلى نصّ لا يقبل التأويل ويعدّ التأويل تناقضاً في الكلام ، وظاهر يقبله
ويعد التأويل عملاً على خلاف الظاهر ، وأمّا المتشابه فهو ما لم يستقر له الظهور
أصلاً ولم يتبين المراد منه ، ولأجل ذلك سمي متشابهاً لمتشابه المراد بغيره.
وقد اختلفت كلماتهم في تفسير المتشابهات
، فالمعروف انّ المتشابهات هي الآيات المشعرة بتجسيمه سبحانه ، أو كونه ذا جهة أو
الجبر وسلب الاختيار عن الإنسان وما يشبه ذلك ممّا ورد في المحكمات خلافها ، ففي
ظل القسم الثاني تحلّ عقده المتشابهات وترجع إليها ، وذلك بالإمعان في الآية
المتشابهة وما قبلها وما بعدها ، والإمعان في سائر الآيات الواردة في ذلك المجال
فيتجلّى المراد بالإمعان والدّقّة ، وهذا مثل قوله سبحانه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
) ولا تعلم حقيقته إلا بملاحظة الآيات
الواردة حول عرشه واستيلائه عليه ، وأين هذه الآيات من الظواهر التي استقر ظهورها
في المعنى ، مثلاً قوله سبحانه : (
وَأُولاتُ
الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
).
__________________
فانّ ظاهر الآية انّ صاحبات الحمل لا
يخرجن من العدة إلا بعد وضع أولادهن ، والآية وإن وردت في سورة الطلاق ولكن
إطلاقها يعمّ المعتدة بعدّة الوفاة فلو مضى من موت الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام
فلا تخرج من العدّة إلا إذا وضعت حملها ، فليست الآية متشابهة غير واضحة المراد
وإنّما الكلام في وجود الإطلاق وعدمه ، أي في سعة الآية وضيقها.
على أنّ هناك رأياً آخر في تفسير
المتشابه ، وهو : انّ المتشابه عبارة عن الآيات الراجعة إلى حقيقة البرزخ والمعاد
والجن والملك ممّا لا يمكن الإحاطة بكنهه إلا بعد الخروج عن دار التكليف ، مثلاً
انّ قوله سبحانه : (
إنّها
شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيم * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّياطِين
) من الآيات المتشابهة التي لا يقف
الإنسان على حقيقتها مادام في دار المجاز.
فلو كان المتشابه هو هذا فلا صلة له
بالآيات الواضحة الدلالة والمداليل كأكثر ما ورد في العبادات والمعاملات.
٤. العلم الإجمالي بالتخصيص
والتقييد
انّا نعلم انّ عمومات القرآن ومطلقاته
خصّصت وقيدت بمخصصات ومقيّدات ، ومع العلم الإجمالي بطروء التصرف في دلالاتها كيف
يمكن التمسّك بظواهرها؟
يلاحظ
عليه : أنّ العلم الإجمالي يبعث المجتهد إلى
الفحص عن المخصصات والمقيدات الواردة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ،
فإذا فحص عنها فحصاً كاملاً وعثر على عدّة منها واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال
على ما حصّله بالتفصيل ، لم يبق له علم إجمالي بوجود المخصصات والمقيدات
__________________
الصادرة من أئمّة
أهل البيت ، غاية الأمر يحتمل وجودها في الواقع غير واصلة إليه ، ومن المعلوم عدم
جواز رفع اليد عن الدليل باحتمال التخصيص.
والحاصل : انّ المستنبط بعد الفحص إمّا
يقطع بأنّ المعلوم بالإجمال هو المعلوم بالتفصيل من المخصِّصات والمقيّدات لا غير
، وإمّا يحتمل انطباقه على ما حصله ، وعلى كلتا الصورتين لا يبقى علم إجمالي بوجود
المخصص وراء ما وقف عليه ، غاية الأمر يحتمله.
٥. الأخبار الناهية عن تفسير
القرآن بالرأي
إنّ حمل الكلام الظاهر في معنى ، على
أنّ المتكلّم أراد هذا ، تفسير له بالرأي.
أقول
: روي عن النبي 6
أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ».
فالاستدلال بهذا الحديث المتضافر على
أنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه المراد ، من قبيل التفسير بالرأي ، استدلال غير
تام ، وذلك لأنّ « التفسير بالرأي » مركبة من لفظين :
١. التفسير.
٢. الرأي.
أمّا
الأوّل : فهو مأخوذ من « فسّر » المشتق
بالاشتقاق الكبير من « السفر » وهو الكشف والظهور ، يقال : أسفر الصبح : إذا ظهر ،
وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته.
__________________
وأمّا
الثاني : « الرأي » فهو بمعنى الميل إلى أحد
الجانبين وترجيحه اعتماداً على الظن الذي لم يدل عليه دليل ، يقول الراغب : الرأي
: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن ، ويؤيده إضافته إلى الشخص أي « برأيه
».
وقد ورد في بعض الروايات مكان الرأي «
بغير علم » : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ». ويوضحه قول
أبي جعفر 7 : « من أفتى
الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه
حيث أحلّ وحرم فيما لا يعلم ». وفي
رواية أُخرى عن علي 7
في كلام له : « انّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن آتاه عن ربّه فأخذ به ».
إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً ، ثمّ
الرأي ثانياً ، نقول : إنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه مراد المتكلّم ، ليس من
مقولة التفسير ، إذ ليس هنا أمر مستور كشف عنه ، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو
عمومه ، ليس تفسيراً ، ورافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه ،
والتفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية ، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في
قوله سبحانه : (
حافِظُوا
عَلى الصَّلواتِ والصَّلاة الوُسْطى
) فتفسيرها بواحدة منها ، تفسير ومثله
قوله : ( وَإِذا وَقَعَ
الْقَولُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أنّ
النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون
) فانّ الآية قد أحاطها الإبهام من وجوه
، ولعلّها أبهم آية وردت في القرآن الكريم ، ولم يتسنّ لأحد من المفسّرين كشف
قناعها وإن حاولوا لأن يقفوا على مغزاها ، إذ فيها إبهامات :
__________________
١. ما هو المراد من وقوع القول عليهم؟
فيفسر باستحقاقهم العذاب ، لما في الآية ٨٥ من هذه السورة من قوله سبحانه : ( وَوَقَعَ الْقَولُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا
فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) فهذا تفسير الآية بالآية ، وكشف الغطاء
عنها بالاستعانة بالقرآن ، فلو فسره من عند نفسه لا اعتماداً على آية ، ولا سنّة ،
ولا من حجّة أُخرى كان تفسيراً بالرأي ، والذي يؤيد ذاك التفسير وانّ المراد هو
استحقاقهم العقاب ذيل الآية ، أعني قوله سبحانه : (
انّ النّاس
كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون
) فالمعنى :
لأنّ الناس كانوا غير موقنين بآياتنا.
٢. ما هو المراد من قوله : ( أَخْرَجنا لَهُمْ دابّةً مِنَ الأَرضِ
تُكَلِّمُهُم )؟
ما هو المراد من الدابة؟ وما صفتها؟
وكيف تخرج؟ وماذا تتكلم به؟ فالآية يغمرها الإبهام فوق الإبهام ، فكشف القناع عن
وجه كلّواحد هو التفسير.
فإذا لم يكن حمل الظاهر في معنى على
أنّه المراد تفسيراً للآية ، يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر ( برأيه ) أشبه
بالسالبة بانتفاء الموضوع.
٦. دعوى العلم الإجمالي
بوقوع التحريف من الكتاب
هذا آخر الوجوه التي اعتمد عليها
الأخباري ، وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ـ بعد تسليم التحريف ـ :
١. التحريف لا يمنع عن حجّية ظواهره ،
لأنّ الإسقاط لا يلازم حدوث الخلل في آياته.
٢. ولو سلم ، فلا نعلم حدوثه في آيات
الأحكام التي هي مورد الابتلاء للفقيه.
٣. ودعوى العلم الإجمالي بوقوع الخلل
إمّا في آيات الأحكام ، أو في غيرها ، غير ضائر بحجّية آيات الأحكام ، لعدم منجزية
مثل ذاك العلم لعدم إحداثه
التكليف على كلّ
تقدير ، لأنّ الأثر الشرعي ( الحجّية ) لا يترتّب على سائر الآيات التي لا تحمل
حكماً شرعياً ، مع أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على
كلّ تقدير ، فالآيات الواردة في مجال القصص والعقائد والمعارف ليست بحجّة بمعنى ،
لا توصف بالتنجّز والتعذير.
أقول
: كان المتوخّى من مثل المحقّق الخراساني هو الوقوف في وجه هذه الفرية التي تمسّ
بكرامة القرآن والتشيّع ، وقفة لائقة بحالها حتى يكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ،
ويترك هذه الأجوبة.
ترى أنّه خصّ حجّية القرآن بآيات الأحكام
، مع أنّ جميع آياته من أقوى الحجج وأكبرها ، وتوهم انّ الحجّية بمعنى التنجيز
والتعذير من خصائص آيات الأحكام ، غير تام ، فانّها حجّة في باب الأعمال ، كما أنّ
ما نزل حول العقائد والمعارف حجّة في مجال الاعتقاد ، فما جاء في الكتاب العزيز هو
الحجّة في باب المعاد ، أصله ووصفه ، فمن لم يعتقد به أو بوصفه فقد خالف الحجّة
المنجزة.
وبما انّ أعداء الإسلام والتشيع ،
اتخذوا فرية التحريف أداة للهجوم على المسلمين أو الشيعة ؛ وقد كفانا في ذلك ، ما
حقّقه علماؤنا الأبرار عبر الزمان ، وفيما كتبه الشيخ البلاغي في « آلاء الرحمان »
والسيد ال
خوئي في « البيان » والعلاّمة
الطباطبائي في « الميزان » في سورة الحجر والمحقّق المعاصر محمد هادي معرفة في
كتاب « صيانة القرآن عن التحريف » غنى وكفاية ، وقد أفرد شيخنا في تفنيد هذه
التهمة رسالة طبعت في مقدمة موسوعة طبقات الفقهاء ، ولذلك طوينا الكلام من ذلك.
__________________
قول اللغوي
كان البحث السابق حول حجّية الظواهر ـ
بعد ثبوت الظهور ـ وقد تبين انّه من الأُمور المفيدة للقطع بالمراد الاستعمالي ـ
على المختار ـ أو من الظنون المعتبرة عند العقلاء.
وحان حين البحث عن حجّية الأدوات التي
تثبت الظهور عند الشكّ في أصله.
اعلم أنّ الشكّ في أصل الظهور يتصوّر
على وجوه :
١. احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا
أو سقطت من الكلام ، فهل المرجع هو أصالة عدم القرينة؟ أو أصالة الظهور؟ يظهر من
المحقّق الخراساني انّ المرجع هو الثاني ، لأنّ العقلاء يحملون اللفظ على المعنى
الذي كان اللفظ ظاهراً فيه لولا القرينة ، من دون استعانة بشيء لا أنّهم يبنون
عليها بعد الاستعانة بأصالة القرينة.
ولا يخفى خفاء المراد من قولهم : «
أصالة الظهور » فلو كان المراد هو لزوم الأخذ بالظاهر مالم يدل دليل على خلافه ،
فهو صحيح ، لكن لا صلة له بالمقام إذ الكلام في وجود الظهور وعدمه.
٢. احتمال قرينية الأمر الموجود ، كورود
الأمر بعد الحظر ، فهل هو للوجوب أو لرفع الحظر؟ والجمل المتعقب بالاستثناء فهل
يرجع إلى الأخير وحدها؟ أو إلى الجميع؟ أو فيه تفصيل؟ فإن قلنا انّ المرجع هو
أصالة الحقيقة أو عدم القرينة
وانّـهما أصلان
تعبديان فيحمل الأمر على الوجوب ، والجمل ـ غير الأخيرة ـ على العموم ، وأمّا لو
قلنا بأنّ المرجع هو أصالة الظهور ، أي حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه ، فيكون
الكلام مجملاً لعدم الظهور العرفي.
٣. وإن كان الشكّ في ظهور هيئات الجمل ،
كهيئة الجمل الاسمية والفعلية ، أوهيئة الجمل الشرطية ، أو الوصفية ، وهيئة الأمر
والنهي ، فالمرجع هو علم المعاني ، ولكنّ الأُصوليين أدخلوا قسماً من هذه البحوث
في علم الأُصول لمدخليتها في الغرض.
٤. وإن كان الشكّ في ظهور المفردات ،
فإن كان الشكّ في هيئتها كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم المبالغة ،
فالمرجع هو علم الصرف حيث يبحث عن وضع أسماء الفاعلين والمفعولين.
٥. ولو تعلّق بمادة المفردات ، فقد
تقدّم انّ المرجع هو التبادر ، وعدم صحّة السلب والاطراد.
وهل هنا مرجع آخر وهو قول اللغوي أو لا؟
فلو أفاد قوله « الظن » وقلنا بحجّيته بالخصوص يكون من قبيل الظن الخاص ، ذهب
الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني إلى عدم حجّيته ، وإن عدل الأوّل عن كلامه في
هامش الفرائد عدولاً نسبيّاً كما سيوافيك.
وعلى فرض كونه حجّة ، فهل هو حجة من باب
الشهادة ، أو من باب الخبرويّة؟ فلو قلنا بأنّ تشخيص المعاني الحقيقية من المجازية
من الأُمور الحسية ، التي لا يحتاج إلى إعمال النظر والفكر ، فتكون حجّية قوله من
باب الشهادة فيعتبر فيه ما هو المعتبر فيها من العدالة والتعدّد.
وإن قلنا بأنّها من الأُمور التي تتوقف
على إعمال النظر والرأي والاجتهاد ، فتكون حجّيته من باب حجّية قول أهل الخبرة ،
فلا يعتبر فيه واحد من الأمرين ،
نعم يعتبر فيه
الوثوق والاطمئنان على قول.
ذهب المحقّق الخوئي إلى القول الأوّل ،
وقال : بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر والرأي
فيها ، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده من الاستعمالات والمحاورات ، وليس له إعمال
النظر والرأي ، فيكون داخلاً في باب الشهادة فتعتبر فيه العدالة والتعدّد على قول
المشهور.
يلاحظ
عليه : أنّه 1
قصر النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين المرتزقين من المعاجم الأُمّ ، فليس لهم
شأن إلا ما ذكر فيها ، وأمّا أصحاب المعاجم الأوائل ، كالعين للخليل ، والجمهرة
لابن دريد ، والمقاييس لابن فارس ، والصحاح للجوهري ، وأساس اللغة للزمخشري ،
واللسان لابن منظور ، فعملهم مزيج بالحدس وإعمال النظر ، ويشهد لذلك ، استشهادهم
بالآيات والأحاديث النبوية وأشعار الشعراء حيث يُعيّنون موارد الاستعمال بفضل
الإمعان فيها.
إنّ تعيين مواضع استعمال الألفاظ فضلاً
عن تعيين معانيها وأوضاعها أمر عسير لا يحصل إلا بالدقة والإمعان ، ومن طالع
المقاييس لابن فارس أو أساس اللغة للزمخشري أو اللسان لابن منظور يقف على الجهود
التي بذلوها لتبيين مفاهيم الألفاظ وموارد استعمالها ، فالشكّ في أنّ أخبارهم
كأخبار أهل الخبرة في غير محله ، وأمّا انّـهم أهل خبرة في تعيين مواضع الاستعمال
أو الأوضاع فسيوافيك بيانه.
وبالجملة استخراج المعاني بفضل الآيات
والروايات وأشعار الشعراء وكلمات العرب يحتاج إلى لطف في القريحة ودقة في الكلام ،
وقد سئل الأصمعي عن معنى الألمعيّ فأنشد الشعر :
الألمعي الذي يظنُّ بــك
|
|
الظـنَّ كأن رأى وقد سمعا
|
__________________
فانّ الانتقال إلى معنى الألمعي من هذا
البيت ، لا ينفك عن الدقة حيث إنّ الموصول وصلته تفسير للمبتدأ وكثير من الناس
ربما يسمعون هذا البيت ولا ينتقلون إلى ما انتقل إليه ذلك الأديب.
أضف إلى ذلك انّ قسماً منهم قد قضى عمره
في البادية ليعرف مواضع الاستعمال عن كثب ، وانّ المتبادر هل هو مقرون بالقرينة أو
لا؟ كلّ ذلك لا ينفك عن الاجتهاد واعمال النظر ، وليس مثل رؤية الهلال التي لا
تتوقف على شيء سوى فتح العين والنظر إلى السماء.
فتعيّن انّه لو قلنا بحجّية قول اللغوي
فإنّما نقول به من باب أهل الخبرة.
فنقول : استدل على حجّية قوله ـ بعد كون
الأصل عدم حجّية قوله ـ بوجوه :
الوجه
الأوّل : إجماع العلماء على الرجوع إليهم في
تفسير القرآن والحديث ، فلا تجد فقيهاً أو محدثاً إلا ويستند إلى أقوال أهل اللغة.
يلاحظ
عليه : بما أورد عليه المحقّق الخراساني من
أنّه ليس كاشفاً عن دليل تعبّدي وصل إليهم لم يصل إلينا ، لاحتمال انّهم استندوا
في عملهم على بناء العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة ، وأهل اللغة منهم ، فيكون
الإجماع مدركياً.
الوجه
الثاني : سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل
الخبرة ، وهذا كما في الأروش والجنايات ، وغيرهما ، وأهل اللغة ، من خبراء تشخيص
المعاني الحقيقية والمجازية ، وهذا الدليل هو الدليل المهم.
وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
١. انّ المتيقن من الرجوع إلى رأي أهل
الخبرة هو كونه مفيداً للوثوق ، ولا يحصل وثوق بالأوضاع عن قول اللغوي.
٢. انّه ليس من أهل الخبرة ، لأنّ
المطلوب هو تشخيص المعاني الحقيقية عن
المجازية ليُحْمل
اللفظ ـ عند التجرّد عن القرينة ـ عليه ، ولكنّ همَّ اللغوي ينحصر في بيان موارد
الاستعمال لا تعيين الحقيقة والمجاز ، وليس ذكره أوّلاً دليلاً على كونه المعنى
الحقيقي.
يلاحظ
على الوجه الأوّل : أنّ الرجوع إلى أهل
الخبرة لأجل انسداد الطريق إلى الواقع ، فلا طريق إلى تعيين الأرش في باب المعيب ،
ومقدار الغبن في البيع الغبني ، وحدّالجناية ، إلاقول أهل الخبرة ، فقولهم حجّة
سواء أفاد الوثوق أو لا ، ونظيره الرجوع إلى قول الرجالي في تمييز الثقات عن غيرهم
، أو الرجوع إلى المجتهد في تعيين الوظائف ، فالكلّ من هذا الباب ، وربما لا يفيد
قولهم الظن فضلاً عن الوثوق.
والحاصل : انّ انسداد الطريق جرّ
العقلاء إلى إفاضة الحجّية على قول الخبير ، لقطع النزاع وتحصيل المقاصد ، وتقييد
الرجوع بإفادته الظن الشخصيّ فاقد للدليل.
ويلاحظ على الثاني بوجهين :
أوّلاً
: أنّ معاجم اللغة على قسمين قسم ألّف لبيان المعاني الأوّلية للألفاظ وإراءة
كيفية اشتقاق سائر المعاني من المعنى الأصلي ، بحيث تكون أكثر المعاني صوراً
مختلفة لمعنى أصلي ، وقد ألّف في هذا المضمار المقاييس لابن فارس ، وأساس اللغة
للزمخشري ، فالمراجع إلى الكتابين يقف على المعنى الأصلي والمعاني الفرعية المشتقة
من المعاني الأصلية ، ثمّ المعاني المجازية.
وثانياً
: أنّ الأُنس بمعاجم اللغة ، يخلق في الإنسان قوّة أدبية ، يميز بها المعنى
الحقيقي للّفظ عن المعنى المجازي ، والمراد في المقام عن غيره على وجه يثق بما
استخرجه ، ولكنّه رهن الأُنس بكتب اللغة ومطالعتها ، كمطالعة سائر الكتب والرجوع
إليها في مشكلات القرآن والحديث والأدب طول سنين.
فنقول
: فقول اللغوي ـ على هذا ـ وإن لم يكن حجّة ، لكن الرجوع إلى معاجم معدودة أُلّفت
بيد فطاحل اللغة ، يورث الوثوق بمعنى اللفظ عند التجرّد عن القرينة ، فلا محيص عن
الرجوع بتلك الغاية ، نعم على هذا لا يكون قول اللغوي حجّة ولكن يكون الرجوع إلى
المعاجم ذات أهمية كبيرة.
ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ أورد على
السيرة بعدم حجّيتها لعدم وجودها في زمن المعصومين :
، لأنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم.
يلاحظ عليه بأمرين :
أوّلاً
: أنّه إذا أطبق العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وكان الرجوع بمرأى ومسمع من
الشارع ، كفى ذلك في تصحيح الرجوع إلى أهل اللغة وإن لم يكن المصداق موجوداً في
عصرهم ، وإلا يلزم عدم حجّية رأيهم في المصاديق الجديدة في باب المعاملات
والجنايات وهو كما ترى.
ثانياً
: أنّ تاريخ الأدب العربي يكشف عن وجود السيرة في صدر الرسالة ، وقد كان ابن عباس
مرجعاً في تفسير غريب اللغة وقد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن مايربو على
مائة وسبعين مورداً ، فأجاب على الجميع مستشهداً بشعر العرب ، وقد نقل الجميع
السيوطي في إتقانه ، وكان يقول : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ،
فانّ الشعر ديوان العرب.
أضف إليه انّ الأجانب كانوا يتعلمون
معاني الألفاظ ومفاهيمها من أهل اللغة ، فحجّية رأي أهل اللسان في بيان معاني
الألفاظ ، يوجب حجّية قول اللغوي خصوصاً إذا كان من أهل اللسان.
الوجه
الثالث : ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من
انسداد باب العلم
__________________
بتفاصيل المعاني
بحيث يعلم بدخول المشكوك أو خروجه ـ وإن كان المعنى معلوماً في الجملة ـ وإلى ذلك
أشار الشيخ الأنصاري بقوله : والإنصاف انّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من
أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها وإن كان
المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة اللغوي كما في مثل ألفاظ الوطن والمفازة ،
والتمر ، والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا
تحصى ، وإن لم يكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً.
وقد أورد عليه المحقّق الخراساني ما هذا
حاصله : من أنّ الانسداد الصغير لا يثبت حجّية قول اللغوي ، وذلك لأنّ باب العلم
والعلمي للأحكام الشرعية ـ التي يهمّ المجتهد ـ إمّا مفتوح أو مسدود ، فعلى الأوّل
، لا وجه لحجّية الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن حصل منه الظن بالحكم الشرعي ،
لفرض انفتاح باب العلم بالأحكام ، وعلى الثاني ، يكون الظن على الإطلاق حجّة إذا
وقع في طريق الاستنباط ومنه الظن الحاصل من قول اللغوي ، وإن فرض انفتاح باب العلم
باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.
يلاحظ
على الشقّ الأوّل : بأنّ فرض انفتاح
باب العلم والعلمي في جميع الأحكام الشرعية ، يلازم حجّية قول اللغوي في الموارد
التي يتوقف استنباط الأحكام على فهم التفاصيل وإلا فيكون فرض الانفتاح في جميع
الأحكام فرضاً باطلاً ، لأنّ قسماً من الأحكام لا يعلم إلا من طريق قول اللغوي ،
فكيف يكون باب العلم والعلمي مفتوحاً في عامة الأحكام الشرعية ، مع عدم حجّية قول
اللغوي الذي يتوقف عليه استنباط بعض الأحكام؟!
الإجماع المنقول
بخبر الواحد
إنّ الأصل الأوّلي فيما يمكن الاحتجاج
به عدم الحجّية إلا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته ، وقد عرفت خروج الأمرين عن
تحت ذلك الأصل : أ. الظواهر ، ب. قول اللغوي على التفصيل الذي مضى.
وممّا قيل بخروجه عن تحت ذلك الأصل هو
إجماع العلماء على حكم شرعي إذا نقل بخبر الواحد ، وطبع البحث يقتضي ثبوت أمرين
قبل الخوض في هذه المسألة :
الأوّل : حجية الإجماع المحصل لنفس الناقل
حتى يُبحث عن حجّيته للغير إذا نقل إليه.
الثاني : حجّية خبر الواحد في نقل
الحجج.
لكن العلمين ـ الأنصاري والخراساني ـ
بحثوا عن الإجماع المحصل في خلال البحث عن الإجماع المنقول وأخّروا البحث عن حجّية
خبر الواحد ، ونحن نقتفيهما ولكن بتفاوت يسير ، وهو إنّا نعقد لكلّ من الإجماعين
بحثاً مستقلاً ، فنقول :
الإجماع لغة هو العزم ففي الحديث « من
لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ».
__________________
وفي الذكر الحكيم عند سرده لقصة يوسف : ( فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ
يَجْعَلُوهُ في غَيابَتِ الْجُبِّ
) وأمّا الاتفاق فإنّما يفهم من ذكر
المتعلّق ، يقال : أجمع القوم على كذا أي اتفقوا ، قال سبحانه : ( فَأَجْمعُوا أَمْرَكُمْ وَشُركاءَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ).
وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف بتعاريف ، وبما
انّ ملاك حجّيته عند السنّة غير ملاكها عند الشيعة ، نطرح كلاً بوجه مستقل ، فنقول
:
الإجماع المحصّل عند أهل
السنّة
عرّفه الغزالي بقوله : إنّه اتفاق أُمّة
محمّد 6 بعد وفاته
في عصر من العصور على حكم شرعي.
وعلى هذا التعريف لا يكفي اتّفاق أهل
الحلّ والعقد ولا المجتهدين بل يجب اتّفاق جميع المسلمين ، وهذا ما لا ينطبق إلا
على الضروريات وإن كان أكثر انطباقاً لما أقاموا من الدليل من عصمة الأُمّة ، ومع
ذلك أعرض عنه أكثر أهل السنّة ، فعرّفوه بالنحو التالي :
اتّفاق أهل الحلّ والعقد على حكم من
الأحكام ، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر ، إلى غير ذلك من
التعاريف.
والمهم في المقام هو الوقوف على وجه
حجّية الإجماع عند أهل السنة ، وهذا هو الذي نطرحه فيما يلي :
__________________
مكانة الإجماع في الفقه
السنّي
قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع ليس
من أدوات التشريع ومصادره ، وانّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب
على الناس قبل إجماع المجتهدين وبعده.
وأمّا على القول باختصاص الحكم الواقعي
المشترك بما ورد فيه النص عن النبي 6
، وترك التكليف فيما سواه إلى اجتهاد المجتهد ، فيصير الإجماع من مصادر التشريع ،
فيعادل الكتاب والسنّة في إضفاء المشروعية على الحكم المتفق عليه ، ويصير بالاتفاق
حكماً واقعياًً إلهياً.
ويوضحه الأُستاذ السوري « وهبة الزحيلي
» بقوله : ونوع المستند في رأي الأكثر ، إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة ،
فيكون الإجماع مؤيّداً ومعاضداً له ؛ وإمّا دليل ظني وهو خبر الواحد والقياس ،
فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين.
ومعنى ذلك انّه لابدّ أن يكون للإجماع
من دليل ظني ، فإذا اتّفق المجتهدون على الحكم ولو لأجل ذلك الدليل الظني يصبح
الحكم قطعيّاً ، ـ وما ذاك ـ إلا لأجل دوران الحكم مدار الاتفاق وعدمه.
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاّف : من حقّق
النظر في منشأ فكرة الإجماع في التشريع الإسلامي ، وفي كيفية الإجماع الذي انعقد
في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول ، وفي تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم
من الأحكام ، يتحقّق أنّ الإجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع وتستطيع به
الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من حوادث ، وما يحدث لها من وقائع ، وأن تساير
به الأزمان
__________________
ومختلف المصالح في
مختلف البيئات.
ثمّ قاس فكرة الإجماع بالشورى وقال :
ومنشأ فكرة الإجماع انّ الإسلام أساسه في تدبير شؤون المسلمين ، الشورى ، وأنْ
لايستبد أُولي الأمر منهم بتدبير شؤونهم سواء أكانت تشريعية ، أم سياسية ، أم
اقتصادية ، أم إدارية أم غيرها من الشؤون ، قال اللّه تعالى مخاطباً رسوله : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ
وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ،
ولم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر ... ليشعرهم أنّ الشورى من عمد دينهم
كإقامة الصلاة.
وعلى هذا الأساس كان الرسول 6 يستشير رؤوس صحابته في الأُمور التي لم
ينزل وحي من ربِّه ، وممّا كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن ـ إلى
أن قال : ـ فلمّا توفّي رسول اللّه وواجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن
ولم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن وهو الشورى ،
والذي سلكه الرسول فيما لم ينزل فيه قرآن وهو الشورى.
إلى أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا
نصّه : ومن هنا يتبيّن أنّ إجماع الصحابة ما كان إلا اتّفاق من أمكن اجتماعهم من
رؤوسهم وخيارهم على حكم واقعة لم يرد نص بحكمها ، وأنّ الذي دعاهم إلى اتّباع هذا
السبيل هو العمل بالشورى التي أوجبها اللّه وسار عليها الرسول ، وتنظيم اجتهاد
الأفراد فيما لا نصّ فيه ، فبدلاً من أن يستقل كلّ فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه
الوقائع اجتمعوا وتشاوروا وتبادلوا الآراء ، والخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا
عليه.
ولا يخفى ما في كلمات الأُستاذ من
الخلط.
أمّا
أوّلاً : فقد تضافرت الآيات القرآنية على أنّ
التشريع حقّ مختص باللّه
__________________
تبارك وتعالى ، وأنّ
كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء على اللّه وبدعة ، وليس على الناس إلا الحكم
بما أنزل اللّه ، ومن حكم بغيره فهو كافر وظالم وفاسق.
قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِين ).
ومع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطئ
غير الواقف على المصالح والمفاسد حقّ التشريع على الإنسان على وجه يكون نافذاً ،
إلى يوم البعث؟!
نفترض أنّ لفيفاً من الصحابة بذلوا
جهوداً فوصلوا إلى أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا ، أفهل يكون
إجماعهم على ذلك الحكم ـ دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة ـ حجّة على البشر
إلى يوم القيامة ، لو لم نقل انّ اتّفاقهم على الحكم عندئذ بدعة وافتراء على اللّه؟!
وثانياً
: أنّ عطف الإجماع على المشورة من الغرائب ، فإنّ النبي كان يستشير أصحابه في
الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي ، وإنّما ترك حكمها إلى الظروف
والملابسات وإلى الناس أنفسهم ، حتى نجد انّ أكثر مشاورات النبي 6 كانت تتم في كيفية القتال والذبّ عن
حياض الإسلام.
فهذا هو رسول اللّه يشاور المسلمين في
غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين ، وقال : أشيروا عليّ أيّها الناس ، وكأنّه 6 يريد أن يقف على رأي أصحابه في السير
إلى الأمام وقتال المشركين ، أو الرجوع إلى الوراء ، ولم يكن في المقام أيّ حكم
مجهول حاول النبي 6
أن يستكشفه عن طريق المشاورة ، وكم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية
والمشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي؟
__________________
وهذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد
حيث شاور أصحابه ، ليقف على كيفية مجابهة المشركين وأُسلوب الدفاع عن الإسلام
فأدلوا بآرائهم ، فمن طائفة تصرّ على أن لايخرج المسلمون من المدينة ويدافعوا عنها
متحصنين بها ، إلى أُخرى ترى ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة.
إلى غير ذلك من مشاوراته المنقولة في
كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأحزاب وغيرها.
ومن تتبع المشاورات التي أجراها النبي 6 مع أصحابه في التاريخ يقف على حقيقة ،
وهي : انّنا لا نكاد نعثر على وثيقة تاريخية تثبت أنّ النبي 6 شاورهم في أُمور الدين والفتيا ، بل
كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا ولما فيه صلاح أُمورهم.
أدلّة عدِّ الإجماع من مصادر
التشريع
ثمّ إنّك بعد الوقوف على ما ذكرنا ـ من
أنّ الإجماع ليس من مصادر التشريع ، وإنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع
وإصابته ، وهذا يختلف باختلاف مراتب الإجماع كما سبق ـ في غنى عن البرهنة على
حجّية الإجماع ، وإنّما يقوم به من رأى أنّ نفس الإجماع بما هو إجماع من مصادر
التشريع ، فاستدلوا بآيات :
الآية
الأُولى : قوله سبحانه : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُولِّهِ ما تَوَلّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
).
__________________
وهذه الآية هي التي تمسّك بها الشافعي
على حجّية الإجماع في رسالته أُصول الفقه.
ووجه
الاستدلال : هو انّ اللّه يعد اتّباع غير سبيل
المؤمنين نوعاً من مشاقّة اللّه ورسوله ، وجعلَ جزاءهما واحداً وهو الوعيد حيث قال
: ( نُوَلِّهِ ما تَوَلّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) فإذا كانت مشاقّة اللّه ورسوله حراماً
كان اتباعُ غير سبيل المؤمنين حراماً مثله ، ولو لم يكن حراماً لما اتحدا في
الجزاء ، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم فاتباع سبيلهم واجب ، إذ لا واسطة بينهما ،
ويلزم من وجوبِ اتباع سبيلهم كونُ الإجماع حجّة ، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من
القول أو الفعل أو الاعتقاد.
يلاحظ على الاستدلال بوجوه :
الأوّل
: انّ الامعانَ في الآية يُرشدنا إلى أنّ ثمة طائفتين :
الأُولى
: من يشاقق الرسول ويعانِدُه ويتّبع سبيل الكافرين فاللّه سبحانه يولّيه ما تولّى
ويصله جهنم.
الثانية
: من يحبُ الرسول ويتّبع سبيل المؤمنين فيعامل معه على خلاف الطائفة الأُولى.
ثمّ إنّ سبيل الكافرين عبارة عن عدم
الإيمان به ومعاندته ومحاربته ، وسبيل المؤمنين على ضدّ سبيلهم ، فهم يؤمنون به
ويحبّونه ، وينصرونه في سبيل أهدافه.
فاللّه سبحانه يذمُّ الطائفةَ الأُولى
ويمدح الطائفةَ الثانية ، وعندئذ أيُّ صلة للآية بحجّية اتفاق المجتهدين في مسألة
من المسائل الفرعية؟
وبعبارة أُخرى : يجب علينا إمعان النظر
في قوله سبحانه : (
وَيَتَّبِعْ
غير سَبيلِ المُؤْمِنين ) بُغية تبيين سبيل المؤمن والكافر ،
فسبيل الأوّل هو الإيمان باللّه
وإطاعة الرسول
ومناصرته ، وسبيل الآخر هو الكفر باللّه ومعاداة الرسول ومشاقته.
وهذا هو المستفاد من الآية وأمّا الزائد
على ذلك فالآية ساكتة عنه.
الثاني
: انّ الموضوع في الآية مركب من أمرين :
أ. معاداة الرسول.
ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.
فجعل للأمرين جزاءً واحداً وهو إصلاءه
النار ، وبما انّ معاداة الرسول وحدها كاف في الجزاء ، وهذا يكشف عن أنّ المعطوف
عبارة أُخرى عن المعطوف عليه ، والمراد من اتباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول
ومعاداته وليس أمراً ثانياً ؛ فما ذكره المستدل من أنّ سبيل الشخص ، هو ما يختاره
من القول والفعل ، وإن كان في نفسه صحيحاً ، لكنّه أجنبي عن مفاد الآية فانّ
المراد منه فيها ، مناصرة الرسول ومعاضدته.
الثالث
: انّ اضفاء الحجّية على اقتفاء سبيل المؤمنين في عصر الرسول لأجل انّ سبيلهم هو
سبيل الرسول 6 فلا يستفاد
منه حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.
الثانية : آية الوسط
قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
).
وجه الاستدلال : أنّ الوسطَ من كلّ شيء
خياره ، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة ، فإذا أقدموا على شيء من
المحظورات ، لما وُصِفُوا بالخيرية ،
__________________
فيكون قولهم حجّة.
يلاحظ
على الاستدلال : أوّلاً : انّ « الوسط »
بمعنى العدل ، فالآية تصف الأُمّة الإسلامية بالوسطيّة ، إمّا لأنّهم أُمّة متوسطة
بين اليهود المفرّطين في حقّ الأنبياء حيث قتلوا أنبياءهم ، والنصارى الغلاة في
حقّهم حتى اتّخذوا المسيح إلهاً ، أو انّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المكبَّة على
الدنيا ، والنصارى المعرضة عنها لأجل الرهبانية المبتدعة ، وأيّ صلة لهذا المعنى
بحجّية رأي الأُمّة في مسألة فقهية؟
ثانياً
: نفترض انّ الأُمّة الإسلامية خيار الأُمم وأفضلها لكنّه لا يدل على أنّـهم عدول
لا يعصون ، ولايدل على أنّهم معصومون لا يخطأون ، والمطلوب في المقام هو إثبات
عصمة الأُمّة ، كعصمة القرآن والنبي 6
حتى يكون ما أجمعوا عليه دليلاً قطعيّاً ، مثلَ ما ينطِقُ به الكتابُ والنبيّ
الأعظم 6 والآية لا
تدل على عصمتهم.
وكون خبر العادل حجّة ، غير كون الإجماع
حجّة ، فإنّ الحجّة في الأوّل بمعنى كونه منجِّزاً إنْ أصاب ، ومعذِّراً إنْ أخطأ
، لا كونه مصيباً للواقع على كلّ حال ، وهذا بخلاف كون الإجماع حجّة فإنّ معنـاه ـ
بحكم عصمـة الأُمّــة ـ انّه مصيب للواقع بل نفسه والحكم قطعي.
ثالثاً
: انّ وصف الأُمّة جميعاً ، بالخيار والعدل ، مجاز قطعاً ، فإنّ بين الأُمّة من
بلغ من الصلاح والرشاد إلى درجة يُستدرّ بهم الغمام ، ومن بلغ في الشقاء أعلى
درجته فخضّب الأرض بدماء الصالحين والمؤمنين ، ومع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا
استثناء خياراً وعدلاً ، وتكون بعامّة أفرادها شهداء على سائر الأُمم ، مع أنّ
كثيراً منهم لا تقبل شهادتُهم في الدنيا فكيف في الآخرة؟!
__________________
يقول الإمام الصادق7 في تفسير الآية : « فإن ظننت انّ اللّه
عنى بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادتُه في
الدنيا على صاع من تمر ، تُطلب شهادتُه يوم القيامة وتقبل منه بحضرة جميع الأُمم
الماضية؟! ».
وهذا دليل على أنّ الوسطيّة وصف لعدّة
منهم ، ولمّا كان الموصوفون بالوسطيّة جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم
، إلى الجميع نظير قوله سبحانه : (
وَإِذْ
قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلوكاً
) فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم
ملوكاً ، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.
وإذا كانت الوسطيّة لعدّة منهم دون
الجميع ، يكون هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة وإنّما نسب إلى الجميع
مجازاً.
إلى هنا تمّ تحليل أدلّة أهل السنّة على
حجّية الإجماع المحصّل.
حجّية الإجماع حسب أُصول
الإمامية
أمّا الشيعة فالمعروف عندهم من الطرق هو
أمران :
١. استكشاف قول المعصوم بالملازمة
العقلية ( قاعدة اللطف ).
٢. استكشاف قوله 7 بالملازمة العادية ( قاعدة الحدس ).
هذان الوجهان هما المعروفان ، وأمّا
استكشاف قوله عن طريق الدخول فهو يختص بعصر الحضور ، وإليك تحليل الوجهين :
__________________
١. استكشاف قوله 7
بقاعدة اللطف
وحاصل تقريره : أن يستكشف عقلاً رأي
الإمام 7 من اتّفاق
من عداه من العلماء على حكم ، وعدم ردّهم عنه ، نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها
وجب على اللّه نصب الحجّة المتصف بالعلم والعصمة ، فانّ من أعظم فوائده ، حفظ
الحقّ وتمييزه من الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ،
وتلقينهم طريقاً يتمكن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن
الباطل أوّلا ، أو ردهم عنه إذا أجمعوا عليه.
وممّن ذهب إلى اعتبار الإجماع من هذه
الجهة ، الشيخ الكراجكي قال : كثيراً ما يقول المخالفون : إذا كنتم قد وجدتم
السبيل إلى علم تحتاجونه من الفتاوى المحفوظة عن الأئمّة المتقدّمين ، فقد
استغنيتم بذلك عن إمام الزمان ، فأجاب إلى فائدة وجوده أيضاً بأنّه يكون من وراء
العلماء ، وشاهداً لأحوالهم عالماً بأخبارهم ، إن غلطوا هداهم ، أو نسوا ذكرهم.
وممّن أيّد هذه القاعدة المحقّق الداماد
، قال : ومن ضروب الانتفاعات أن يكون حافظاً لأحكامهم الدينية على وجه الأرض عند
تشعّب آرائهم ، واختلاف أهوائهم ، ومستنداً لحجّية إجماع أهل الحلّ والعقد ، فانّه
عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف لا يتفرّد بقول ، بل من الرحمة أن يكون من المجتهدين
من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره ، يطابق قوله قوله.
وقد نقل عن شريف العلماء انّه قال :
فانّ وجود الإمام في زمن الغيبة لطف قطعاً ، ومن ذلك حفظ الشريعة وردّ المجمعين
على الباطل وإرشادهم إلى
__________________
الحقّ.
هذا وقد نقل المحقّق التستري كلمات كثير
من العلماء القدامى والمتأخرين واستظهر من عباراتهم أنّها تنطبق على الاعتماد على
قاعدة اللطف ، ومع ذلك فهي غير تامّة لوجوه :
الأوّل
: انّ هنا أُموراً ثلاثة :
١. انّ وجود الإمام لطف إمّا لأنّه
العلّة الغائية للكون ، فانّ العالم خلق للإنسان الكامل ، والإمام من أظهر مصاديقه
، ولولا الغاية لساخت الأرض بأهلها ، وإمّا لأنّ اعتقاد المكلّفين بوجود امام
وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كلّ وقت سبب لردعهم عن الفساد وقربهم إلى الصلاح ،
وعاملاً لتوحيدحكمتهم واستعدادهم لنصرته لدى الظهور.
٢. تصرّفه لطف آخر لأنّه بتصرفه يحفظ
الشرائع ويصونها عن الزيادة والنقصان ، ويبعث الرعية إلى الصلاح ، ويصدّها عن
الفساد ، ويخلق اجواء وظروفاً ثقافية ، تكون الرعية فيها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن
المعصية إلى غير ذلك من فوائد لتصرفه.
فاللطف الأوّل لازم وجوده لا يعدم ،
بخلاف اللطف الثاني فهو رهن استعداد في الرعية ، واستعدادها لنصرته ، وقبول أوامره
وامتثال قوله.
٣. حرمان الأُمّة من اللطف الثاني مستند
إليهم ، لا إلى اللّه ولا إلى الإمام ، وذلك لأنّهم إذا لم يقوموا بوظيفتهم وأرادت
الأكثرية مخالفته أو اغتياله ، يختفي منهم ويكون حرمانهم من ألطافه وتصرفاته
مستنداً إلى شقائهم لا إلى اللّه ولا إلى الإمام.
__________________
وبعبارة أُخرى : إذا كانت الرعيّة هي
السبب لاختفائه فهي السبب لحرمانها من فيوضه وإرشاداته التي منها ، التعرّف
بالأحكام ومعرفة صحيحها عن سقيمها ، فليس خفاء بعض التكاليف ، بأهمّ من سائر
ألطافه ، فما هو المجوّز لحرمانهم منها ، هو المسوّغ له أيضاً ، وعلى هذا ،
المصالح التي اقتضت غيبة الإمام وأوجبت حرمان الناس من الفيوض المعنوية ، هي التي
اقتضت حرمان الناس عن معرفة الحكم الصحيح عن الباطل ، وليس هذا النوع من الحرمان
بأعلى من سائر أقسامه.
الثاني
: انّ المتمسكين باللطف يرون كفاية إظهار الخلاف ولو بلسان واحد من علماء العصر ،
ولكن لسائل أن يسأل ويقول : أيّة فائدة تترتب على هداية واحد من أفراد الأُمّة
وترك الجميع في التيه والضلالة ، ولو وجب اللطف لكان عليه هداية الجميع أو
الأكثرين ، لا الفرد الشاذ النادر ، نعم لا يتلقى الجيل الآتي ذلك الاتّفاق
إجماعاً لوجود المخالف وهذا ليس إلا لطفاً نسبياً ، لا مطلقاً؟
الثالث
: انّ حال الغيبة لا يفترق حال الحضور ، فكما يجوز كتمان بعض الحقائق لخوف أو
تقيّة أو غير ذلك من المصالح ، فهكذا يجوز حال الغيبة خصوصاً في المسائل التي لا
تمسّ الحاجة إليها إلا نادراً.
وقد صرّح المرتضى في كتاب الشافي بذلك
وقال : إنّ أمير المؤمنين 7
كان منذ قبض اللّه نبيّه في حال تقية ومداراة وانّه لما أفضى الأمر إليه لم تفارقه
التقية.
ومن هنا ظهر مدى صحّة كشف قول المعصوم
بالإجماع ، ففي الإجماع التشرفي ، المتحقّق هو ذات المكشوف وهو قول المعصوم ، دون
الكاشف ، وادعاء الإجماع غطاء عليه ، لئلا يكذب واستكشاف قوله 7 عن هذا الطريق يختص بالأوحدي من
العلماء.
__________________
وفي الإجماع الدخولي ، يوجد الكاشف
والمكشوف ، لكنّه يختص بزمان الحضور ، ولا يعمّ حال الغيبة.
واستكشاف قوله 7 عن طريق قاعدة اللطف غير تامّ من جهة
عدم الملازمة العقلية بين الاتفاق وقول الإمام. وإن شئت قلت : بين الكاشف والمنكشف
، إذ لا دليل على لزوم إظهار الحقّ وإيجاد الخلاف بين العلماء إذا كان الناس
بأنفسهم هم السبب لخفائه ، فقاعدة اللطف قاعدة تامة في الحدّ الذي أوعزنا إليه ،
لا في المقام.
٢. الإجماع الحدسي أو
الملازمة العادية
والمراد منه حدس قول المعصوم عن طريق
اتفاق المجمعين بادّعاء الملازمة العادية بين اتّفاقهم وقول المعصوم ، فخرج بقولنا
: « حدس قول المعصوم » الإجماع التشرّفي والدخوليّ ، لأنّ المدّعي يصل إليه فيهما
عن طريق الحس ، كما خرج بقوله : « الملازمة العادية » ، كشف قول المعصوم عن طريق
قاعدة اللطف ، فانّها لو تمّت في المقام لدلّت على وجود الملازمة العقلية بين سكوت
الإمام وموافقته لما اتّفقوا عليه.
ثمّ إنّه يقرر كشف قول المعصوم بالحدس
بوجوه :
١. تراكم الظنون مورث لليقين
إنّ فتوى كلّ فقيه ـ وإن كان يفيد الظن
ولو بأدنى مرتبته ـ إلا أنّه يتقوّى بفتوى فقيه ثان ، فثالث ، إلى أن يحصل للإنسان
اليقين من إفتاء جماعة بموافقة القطع بالصحة ، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى
فتوى جماعة كثيرين.
وهذا الوجه كان موجوداً في كلام القدماء
، حتى أنّ السيّد المرتضى أشكل
عليه بما سنذكره ،
وذكر هذا الوجه المحقّق التستري في كشف القناع تحت عنوان الوجه السادس ، ونقله
المحقّق النائيني وقال : قيل إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ
يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.
وأورد عليه المرتضى بما هذا حاصله : نحن
إذا جوزنا الخطأ على كلّ واحد فقد جوزنا الخطأ على مجموعهم.
يلاحظ
عليه : أنّ حكم المجموع غير حكم الآحاد ،
وهو أمر واضح ، فرجل واحد لا يستطيع أن يرفع الجسم الثقيل ، بخلاف المجموع من
الرجال.
والأولى أن يجاب عن الاستدلال بالنحو
التالي : وهو وجود الفرق بين الخبر المتواتر ، والمقام بوجهين :
الأوّل
: انّ كلّ واحد من المخبرين في الخبر المتواتر ، يدعي القطع بالرواية مثلاً ،
فتحصل من ادعاء كلّ فرد القطع بالرؤية ، مرتبة في الظن ، ويأتي حديث تراكم الظنون
المنتهي إلى القطع ، بخلاف المقام ، فإنّ كلّ فقيه لا يصدر عن القطع ، بل أكثرهم
يصدر عن الدليل الظني فكلّ يقول : أظن أنّ الحكم كذلك. ومن المعلوم انّه لا يحصل
من ادعاء الظن مهما تراكم ، القطع بالحكم إلا نادراً.
الثاني
: وجود الفرق بين الخبر المتواتر ، والإجماع المحصّل ، فإنّ كلّ مخبر في الأوّل
يخبر عن حس ، والاشتباه في الحس قليل ، واحتمال تعمّد الكذب مردود بالوثاقة
والعدالة ، بخلاف المقام فإنّ كلّ واحد من أصحاب الفتوى يخبر عن حدس ، والاشتباه
في المسائل العقلية ليس بقليل.
__________________
٢. كشفه عن وجود الدليل
المعتبر
إنّ اتّفاق العلماء يكشف عن وجود دليل
معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال :
يُستكشف قول المعصوم أو عن دليل معتبر ، باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم
الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان.
واعتمد عليه المحقّق النائيني وعدّه من
أحسن الوجوه.
وأورد عليه السيد المحقّق الخوئي : انّه
يحتمل أن يعتمدوا على قاعدة باطلة أو أصل مردود.
يلاحظ
عليه : أنّ دراسة تاريخ الفقه إلى عصر الشيخ
يعرب عن أنّ الفقهاء كانوا لا يصدرون إلا عن الروايات والنصوص لا على القواعد ،
وهذا ظاهر لمن راجعَ الفقه الرضوي ، وهو إمّا نفس كتاب التكليف للشلمغاني ، أو
رسالة علي بن بابويه إلى ابنه الصدوق ، أو راجعَ كتابي المقنع والهداية للصدوق ،
والمقنعة للشيخ المفيد ، والنهاية للطوسي ، وهذه الكتب كلّها فقه منصوص مقابل
الفقه المستنبط ، نعم لا يمكن الاعتماد على انتصار المرتضى وناصرياته ، ولا على
كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان المتوفّى عام ٢٦٠ هـ لاعتمادهما على الأُصول والقواعد
، ولا على كتاب المبسوط للشيخ الطوسي ، لأنّ أكثرها فقه مستنبط ، استخرجه الشيخ من
القواعد.
نعم يرد على هذا الوجه ما ذكره السيد
الأُستاذ : من أنّه من البعيد أن يقف الكليني والصدوق والمفيد والشيخ ومن بعدهما
على رواية متقنة دالّة على المقصود ، وأفتوا بمضمونه ، ومع ذلك لا يذكرونه في
جوامعهم.
__________________
وما أوردنا عليه في الدورة السابقة من
أنّ أصحاب الكتب الأربعة لم يحيطوا بجميع الأخبار ، بشهادة أنّ الشيخ الحرّ
العاملي استدرك عليهم بتأليف كتاب وسائل الشيعة ، ليس بتام ، إذ ليس الكلام في
الإحاطة وعدمها ، بل الكلام في أنّه من البعيد أن يقف أصحاب الجوامع على خبر ،
ويفتوا بمضمونه ، ولا ينقلوه ، وأين هذا من إحاطتهم بجميع الأخبار وعدمها؟
٢. كشفه عن شهرة الحكم عند
أصحاب الأئمّة
إنّ اتّفاق المرؤوسين المنقادين على شيء
يكشف عن رضا الرئيس ، فإذا رأينا اتّفاق موظفي دائرة على تكريم شخص خاص ، يستكشف ،
أنّ هذا بإشارة منه خصوصاً إذا تكرر التكريم.
وهذا أمر جميل إذا كانت الصلة بين
الرئيس والمرؤوس موجودة كما في عصر الحضور ، ولذلك كان أصحاب أئمّة أهل البيت
يتركون ما سمعوه من الإمام شفهياً ، ويأخذون بقول ما اتّفق عليه أصحابه ، وقد
استفتى عبد اللّه بن محرز أبا عبد اللّه عن رجل مات وترك ابنة وقال : إنّ لي عصبة
بالشام ، فأفتى الإمام بدفع نصفها إليها والنصف الآخر إلى العصبة ، فلمّـا قدم
الكوفة أخبر أصحاب الإمام فلمّا سمعوا قالوا : اتقاك والمال كلّه للابنة.
وعلى هذا فالشهرة الفتوائية عند قدماء
الأصحاب في عصر الغيبة يكشف عن كون الحكم مشهوراً بين الأصحاب في زمان الأئمّة ،
ويدل على ذلك أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة ، ولعلّ
قسماً من أحكام الفرائض من هذا القبيل ، كان السيد المحقّق البروجردي يقول : إنّ
في الفقه مئات
__________________
من المسائل ليس لها
دليل في الكتاب والسنّة ولكنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول ، وهذا يكشف عن ثبوت الحكم
في الشريعة المطهرة ومعروفيته لدى الأئمّة.
وهذا هو الذي اعتمد عليه السيد الإمام
الخميني ولعلّه الأظهر.
تمّ الكلام عن الإجماع المحصّل ، وحان
حين البحث عن الإجماع المنقول.
المقام الثاني : في حجّية الإجماع
المنقول
إذا نُقِل الإجماعُ بخبر الثقة فهل هو
حجّة للمنقول إليه أو لا؟ فيقع الكلام تارة في الثبوت ، أي مقدار دلالة لفظ الناقل
، وأُخرى في الإثبات أي حجّية نقله. وإليك الكلام فيهما :
الأوّل : في بيان مقدار
الدلالة
يختلف تعبير الناقل في مقام النقل وبذلك
يختلف مدلوله حسب نقل السبب أو المسبب أو كليهما ، وإليك صوره :
١. أن ينقل السبب والمسبب كليهما عن حس
، كما في الإجماع الدخولي.
٢. أن ينقل السبب عن حس ، والمسبب عن
حدس ، مثالهما : إذا قال أجمع جميع الأُمّة من المعصوم وغيره وأمّا كون المسبب
منقولاً بالحس أو بالحدس فإنّما يعلم من مسلك ناقل الإجماع ، والغالب هو الثاني.
٣. أن ينقل السبب عن حس مجرّداً عن
المسبب ، إمّا تصريحاً كما إذا قال : إجماعاً من غير المعصوم ، أو انصرافاً كما إذا
قال : أجمع عليه الأصحاب ، لكن يكون ملازماً مع المسبب عادة على المسالك الثلاثة (
تراكم الظنون ، أو الكشف عن الخبر ، أو عن اشتهار الحكم بين أصحاب الأئمّة ).
٤. إذا نقل السبب عن حس ، لكن لم يكن
ملازماً لقول المعصوم ، كما إذا
وقف على أقوال
محدودة فزعم اتّفاق الباقين معهم عن حدس.
٥. إذا كان نقل السبب فضلاً عن المسبب
عن حدس ، كما إذا استكشف رأيهم من اتّفاقهم على قاعدة ، يكون المورد من مصاديقه ،
وسيوافيك مثاله عند دراسة الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية ، هذه هي الصور
المتصورة في المقام ، ولا طريق إلى استكشاف واحدة منها إلا لفظ الناقل ، فتارة
يكون صريحاً فيها وأُخرى ظاهراً وثالثة مجملاً.
الموضع الثاني : في بيان ما
هو الحجّة منه
إذا عرفت اختلاف ألفاظ الناقلين للإجماع
في مقام الحكاية ، فقبل بيان أحكام الصور يجب التنبيه على أمر وهو : انّه لا إشكال
في حجّية القسم الأوّل ، كما سيأتي إنّما الكلام في حجّية القسم الثاني ، حيث ينقل
المسبب عن حدس ، فهل تشمله الأدلّة؟
إنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر
الواحد هو بناء العقلاء ، وهو مختص بما إذا كان المخبر به أمراً حسيّاً أو كانت
مقدماته القريبة أُموراً حسيّة ، كالاخبار عن العدالة النفسانية إذا شاهد منه
التورّع عن المعاصي ، أو الإخبار عن الشجاعة ، إذا شاهد قتاله مع الأبطال في ساحة
القتال ، وأمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسياً محضاً ولم تكن مقدماته قريبة من
الحس ، فليست هناك سيرة عقلائية بلزوم الأخذ بخبره ، إذا عرفت هذا ، فلنرجع إلى
بيان أحكامه.
أمّا
الصورة الأُولى : أي إذا نقل السبب
والمسبب عن حس ، فهو وإن كان يتضمن قول المعصوم ، لكنّه إنّما ينفع في عصر الحضور
لا في زمان الغيبة ، فانّ أساس هذا النوع من الادّعاء يرجع إلى الإجماع الدخولي
المختص بعصر الحضور.
أمّا
الصورة الثانية : إذا كان نقل السبب
عن حس ، لكن المسبب عن
حدس معتمداً على
القاعدة العقلية أعني قاعدة اللطف ، فلا شكّ أنّه ليس بحجّة للمنقول إليه ، لما
عرفت من اختصاص حجّية خبر الواحد بما إذا كان المخبر به أو مقدماته القريبة أمراً
حسيّاً ، وليس المقام كذلك ، لأنّ استكشاف قول المعصوم من الاتّفاق مبني على الحدس
والاستدلال.
أمّا
الصورة الثالثة : إذا كان نقل
السبب عن حس ، الملازم لقول المعصوم عند المنقول إليه ملازمة عادية أو إتّفاقية ،
فلا شكّ في كونه حجّة ، إذ لا فرق بين نقل قول المعصوم بالدلالة التضمنية ـ كما في
الصورتين الأُولتين ـ أو بالالتزامية ، كما في المقام ، إلا أنّ الكلام في وجود الصغرى
وانّ الناقل تتبع أقوال العلماء إلى حدّ يلازم قول المعصوم ، حتى يكون ملازماً
لقوله عادة ، وسيوافيك تساهل نقلة الإجماع في نقله.
أمّا
الصورة الرابعة : إذا نقل السبب عن
حس لا يكون ملازماً لقول المعصوم ، كما إذا وقف على أقوال عدّة من العلماء فأذعن
باتّفاق الكلّ عن حدس وادّعى الإجماع ، فليس بحجّة لعدم الملازمة. اللّهمّ إلا أن
يضيف المنقول إليه ، أقوال الآخرين حتى يحصل عنده السبب التامّ الكاشف عن قول
المعصوم.
أمّا
الصورة الخامسة : إذا نقل السبب
فضلاً عن المسبب عن حدس ، كما إذا حاول استكشاف أقوال العلماء من اتّفاقهم على
القاعدة ، فليس بحجّة عند الناقل فضلاً عن المنقول إليه.
فتلخص من هذا البحث ، عدم حجّية الإجماع
المنقول إلافي الصورة الأُولى ، واختصاصه بعصر الحضور ، والصورة الثالثة ، لكنّه
قليل الوجود ، لأنّ التساهل في نقل الإجماع قد خيّم على أكثر الإجماعات المنقولة
في الكتب الفقهية وقلّما يتّفق للفقيه أنْ يتبع كلمات الأوائل والأواخر حتى تجتمع
عنده أقوال الفقهاء إلى حدّ يلازم عادة قول المعصوم.
ولأجل إثبات وجود التساهل في نوع
الإجماعات المنقولة نذكر بعض ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام ـ وإنْ أهمله
المحقّق الخراساني ـ وما يرتبط بتعارض الإجماعات المنقولة وثبوت التواتر بالنقل
وذلك في ضمن أُمور.
الأوّل : تقييم الإجماعات
الواردة في كتب القدماء
قد عرفت أنّ ما هو المفيد من نقل السبب
ما يكون ملازماً عادياً لقول الإمام بأحد الوجوه الثلاثة ، إنّما الكلام في
انطباقه على الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة الذين ملأت كتبهم دعوى
الإجماع على المسائل المعنونة فيها كالمفيد ، والمرتضى ، والطوسي ، والحلبي صاحب
الغنية ، والحلّي صاحب السرائر ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ.
إنّ الامعان في كتبهم يثبت أنّ ادّعاءهم
الإجماع لم يكن على أساس تتبع الأقوال في كتب الأصحاب ، بل كانوا يعتمدون في
استنباط فتوى الكلّ من اتّفاقهم على العمل بالأُمور التالية :
١. وجود الأصل العملي في المسألة مع
افتراض عدم الدليل.
٢. عموم دليل في المسألة مع عدم وجدان
المخصص.
٣. وجود خبر معتبر في المسألة عند عدم
وجدان المعارض.
٤. اتّفاقهم على مسألة أُصولية ، يستلزم
القولُ بها ، الحكمَ في المسألة المفروضة.
وغير ذلك من الأُمور التي صارت سبباً
لنسبة الحكم إلى الأصحاب وادّعائهم الإجماع.
والشاهد على ذلك أُمور :
أ : وجود الإجماعات المتعارضة من شخص
واحد ، أو من معاصرين أو متقاربي العصر ، أو الرجوع عن الفتوى الذي ادّعى عليه
الإجماع.
ب : دعوى الإجماع في المسائل غير
المعنونة في كلام من تقدّم على المدّعي.
ج : دعوى الإجماع في المسائل التي اشتهر
خلافها في زمان المدّعي وبعده.
كلّ ذلك يشهد على أنّ الأساس لدعوى
الإجماع هو أحد الأُمور الآنفة الذكر.
وقد نبه بما ذكرنا جمع من الأصحاب.
١. الشهيد الأوّل ، فانّه أوّل من أوّل
الإجماعات الواردة في كلمات الأصحاب بوجوه مذكورة في المعالم ، منها إرادة الإجماع
على نقل الرواية وتدوينها في كتب الحديث.
٢. العلاّمة المجلسي في كتاب الصلاة من
البحار ، فانّه بعد ما ذكر معنى الإجماع ووجه حجّيته عند الأصحاب ورأى انّه لا
ينطبق على المسائل ، التي ادّي عليها الإجماع قال : إنّ الأصحاب لما رجعوا إلى
الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول ، فمصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في
الأُصول.
٣. الشيخ الأعظم الأنصاري ، فقد أثبت
أنّ الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة ، ليس على أساس التتبع في كلمات
الأصحاب ، بل على أساس الاتّفاق على دليل المسألة ، ولما وقف أنّ ذلك منهم يوهم
التدليس اعتذر بأنّه يندفع بأدنى تتبع في الفقه.
ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذا
النوع من ادّعاء الإجماع نأتي بما استشهد به الشيخ الأعظم حسب تسلسل التاريخ.
__________________
١. المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ )
سئل المفيد عن الدليل على أنّ المطلقة
ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال : الدلالة على ذلك كتاب اللّه عزّوجلّ ،
وسنّة نبيّه ، واستدل من الكتاب بقوله : (
الطلاق
مرّتان )
أي الطلاق الذي يجوز للزوج الرجوع مرّتان ، والمرتان لا تكون مرّة واحدة ، وفي
السنّة بقوله 6
: « وما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما لم يوافقه فاطرحوه » وأمّا إجماع الأُمّة فهم
منطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل.
٢. السيد المرتضى ( ٣٥٥ ـ
٤٣٦ هـ )
قال المرتضى من مذهبنا جواز إزالة
النجاسة بغير الماء من المائعات ، ونقل المحقق أنّه نسب ذلك إلى مذهبنا ، لأنّ من
أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء
من المائعات
، فقد تمسك بأصل البراءة وادّعى الإجماع ، مع أنّ المورد من موارد التمسّك
باستصحاب النجاسة بعد الغسل بالخلّ مثلاً.
٣. الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ )
ذكر الشيخ الطوسي انّه إذا بان فسق
الشاهدين بما يوجب القتل ـ بعد القتل ـ أنّه يسقط القود ، وتكون الدية في بيت
المال ، قال : دليلنا ، إجماع الفرقة ، فإنّهم رووا أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت
مال المسلمين ، فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.
__________________
٤. ابن زهرة ( ٥١١ ـ ٥٨٥ هـ
)
قد أكثر ابن زهرة من الاستدلال بالإجماع
في المسائل التي لا يساعد دعوى الإجماع ، وقد ذكر في أُصول الغنية ما يكون
مبـرِّراً لهذا النوع من دعوى الإجماع .
٥. ابن إدريس الحلي ( ٥٤٣ ـ
٥٩٨ هـ )
قال ابن إدريس في السرائر : كلّ صلاة
فريضة فاتت إمّا لنسيان أو غيره من الأسباب فيجب قضاؤها في حال الذكر من غير توان
في سائر الأوقات ـ ثمّ قال : ـ ولنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال على من منع
من صحة المضايقة بالاعتلال ، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات . وقد نقل انّه استدل على القول
بالمضايقة بالإجماع ، بحجّة أنّ الأصحاب ـ إلا نفراً يسيراً من الخراسانيين ـ
ذكروا أخبارها في كتبهم ، كابن بابويه والأشعريين ، والقميين ....
قال الحلي : تجب إخراج الفطرة سواء كنّ
نواشز أو لم يكنّ ... للإجماع ، والعموم ، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا.
ورده المحقّق بأنّ أحداً من علماء
الإسلام لم يذهب إلى ذلك قال : فانّ الظاهر أنّ الحلي إنّما اعتمد في استكشاف
أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة ، متخيّلاً أنّ
الحكم معلّق على الزوجية من حيث هي زوجته ، ولم يتفطن أنّ الحكم من حيث العيلولة
ووجوب الإنفاق.
هذه نماذج تثبت انّ ادّعاءهم الإجماع
كان على أساس الاتّفاق على الأصل أو القاعدة أو نقل الخبر ، ومع ذلك لا يمكن
الاعتماد على الإجماعات الواردة في كلامهم.
__________________
الثاني : تقييم الإجماعات
الواردة في سائر الكتب
هناك من يدعي الإجماع على أساس التتبع
في كلمات الفقهاء ومن هذه الطبقة :
١. المحقّق ( ٦٠٢ ـ ٦٧٦ هـ ) ،
والعلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) ، والشهيد الأوّل ( ٧٣٣ ـ ٧٨٦ هـ ) ، وابن فهد
الحلي ( ٧٥٧ ـ ٨٤٢ هـ ) ، والشهيد الثاني ( ٩١١ ـ ٩٦٦ هـ ) ، والأردبيلي (
المتوفّى ٩٩٣ هـ ).
وصاحب الحدائق ( المتوفّى ١١٨٦ هـ )
وصاحب مفتاح الكرامة ( المتوفّـى ١٢٢٨ هـ ) وصــاحـب الريـاض ( ١١٥٩ ـ ١٢٣١ هـ )
وصـاحب الجـواهـر ( ١٢٠٠ ـ ١٢٦٦ هـ ) فانّ كتبهم تدل بوضوح على استنادهم إلى
التتبع والوجدان في الكتب ، ومع ذلك ليس الجميع على درجة واحدة في التتبع والدّقة
، فلا يمكن الاعتماد على نقولهم إلابعد تبيين الأُمور التالية :
أ : ملاحظة المصادر التي رجع إليها في
زمان التأليف.
ب : ملاحظة الكتاب المنقول فيه الإجماع.
ج : ملاحظة لفظ الناقل.
د : ملاحظة نفس المسألة.
هـ : ملاحظة حال الناقل في زمان
التأليف.
أمّا
الأوّل : فانّ نَقَلة الإجماع مختلفة ، فربّ
ناقل يكتفي بالكتب الموجودة عند التأليف ، ومنهم من يتوسع في المصادر.
أمّا
الثاني : فربّ كتاب وضع على التتبع ، ككتاب
مفتاح الكرامة ، وربّ كتاب لم يوضع على ذلك.
وأمّا
الثالث : فربّما يدعي الإجماع والاتّفاق ،
وأُخرى يدّعي عدم وجدان الخلاف.
وأمّا
الرابع : فربّما يدّعي الإجماع في المسائل
المعنونة بين القدماء ، وأُخرى يدّعي الإجماع في الفروع التفريعية بين المتأخرين.
وأمّا
الخامس : فانّ حال الناقل في زمان تأليف الكتاب
مختلفة ، فربّ كتاب ألّفه الفقيه في أوان شبابه أو أواسط اشتغاله بالفقه ، وربّ
كتاب ألّفه في أُخريات عمره بعد ما غامر في بحار الفقه.
فلو كان المحصّل بعد رعاية هذه الأُمور
ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فهو ، وإلا فعليه تحصيل أمارات أُخرى ليحصل
بالمجموع القطع بقول الإمام.
بقيت أُمور ثلاثة
الثالث : حكم الإجماعات
المنقولة المتعارضة
إذا تعارضت الإجماعات المنقولة ، فهل
التعارض يرجع إلى السبب أي اتّفاق العلماء ، أو يرجع إلى المسبب؟!
الصحيح انّه يرجع إلى المسبب ، إذ لا
مانع من صدق كلا الادّعاءين بعد عدم ابتناء الإجماع على اتّفاق الجلّ فضلاً عن
الكلّ ، ولذلك لا يثبت المسبب.
وأمّا ثبوت السبب ، أي الاتّفاق الملازم
لقول المعصوم فلا يثبت بواحد منهما ، إلا إذا كان في أحد النقلين خصوصية موجبة
للقطع بالموافقة كأن ينقل أحدهما من القدماء الخبراء بفتوى الأئمّة ، ولا يمكن
الوقوف على الخصوصية إذا نقل بوجه الإجمال كما هو المفروض إلا إذا نقل أسماء
المفتين على وجه التفصيل.
فخرجنا بهذه النتيجة : أنّ الإجماعات
المنقولة المتعارضة غير مفيدة بالنسبة إلى المسبب ، للتعارض ، وأمّا بالنسبة إلى
السبب ، فهو وإن كان مفيداً في إثبات السبب ، أي فتوى جماعة ، لكنّها غير مؤثرة في
اقتناص قول الإمام لعدم الملازمة بين فتوى جماعة وقول المعصوم ، إلا إذا كان في
أحد النقلين خصوصية فهو لا يعلم إلا ذكر أسماء المفتين تفصيلاً.
الرابع : نقل التواتر بخبر
الواحد
الخبر المتواتر : عبارة عن إخبار جماعة
يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب ، ويؤمن من خطئهم.
فإذا نقل الشيخ الطوسي وقال : ثبت
بالتواتر « انّ المرأة لا ترث من العقار ». فيقع الكلام تارة في ثبوت المسبب ، أي
قول المعصوم ; وأُخرى في ثبوت صفة التواتر إذا ترتب عليه الأثر ، كما إذا نذر أن
يحفظ كلّ خبر متواتر أو يكتبه ، والثاني هو الذي أسماه المحقّق الخراساني بالسبب
فإليك البيان :
أمّا المسبب ، أي قول المعصوم ، فلا ،
إذ غاية ما ثبت بخبر الواحد أنّ جماعة أخبروا بكذا ، وليس قول المعصوم من لوازم
إخبار الجماعة الثابتة بخبر الواحد.
وإن شئت قلت : إنّ المخبر به من لوازم
التواتر الواقعي لا التواتر الثابت عند الناقل ، والثابت بالخبر الواحد هو الثاني
لا الأوّل.
نعم لو أخبر بالعدد ، على وجه يكون
ملازماً للمخبر به لو سمع منهم بلا واسطة كأن يقول : أخبر مائة شخص أنّ الإمام قال
: « لا ترث المرأة من العقار » كان اللازم من قبوله ، الحكمَ بوجود إخبار الجماعة
، فيثبت المسبب وهو قول الإمام ، وهذا هو المستفاد من كلام الشيخ ، وإليه يشير
المحقّق الخراساني بقوله : وانّه من حيث المسبب لابدّ في اعتباره من كون الإخبار
به إخباراً على الإجمال
بمقدار ( مائة شخص )
يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر لو علم به.
هذا كلّه حول المسبب.
وأمّا من حيث السبب ، أي ثبوت صفة
التواتر ، وترتيب أثره عليه كما إذا نذر حفظ كلّ خبر متواتر أو تدوينه ، فيختلف
حسب اختلاف الموضوع.
فلو كان الموضوع ما ثبت بالتواتر
إجمالاً ، ولو عند الناقل ، فيترتب عليه الأثر ، وإلا فلو كان الموضوع ما تواتر
عند المنقول إليه فلا يترتب عليه الأثر.
نعم أخبرنا بأسماء المخبرين على التفصيل
، وكان دون التواتر فلو ضَمَّ ما توصل المنقول إليه بالتتبّع وبلغ حدّ التواتر ،
كان عليه ترتّب أثر التواتر حتى ولو كان الموضوع هو التواتر عند المنقول إليه.
الخامس : صحّة القراءة في
الصلاة بالقراءات السبع
قد استفاض الحديث عن أئمّة أهل البيت بأنّ
القرآن واحد نزل من عند واحد ،
ولم يكن للنبي إلاقراءة واحدة وهي القراءة الدارجة ، التي رواها حفص عن عاصم عن
علي 7 ، لكن
العلاّمة والشهيد ادعيا تواتر القراءات السبع ، بل القراءات الثلاث الشاذّة ، وعلى
هذا فهل يجوز القراءة في الصلاة بغير القراءة المعروفة أو لا؟ يختلف الحكم جوازاً
ومنعاً حسب اختلاف الموضوع.
فلو كان الحكم منوطاً بالقرآن المتواتر
في الجملة ولو عند الناقل كالعلاّمة والشهيد ، يجوز القراءة بكلّ من القراءات ،
وإن كان الموضوع هو القرآن المتواتر والثابت لدى المصلي أو عند مجتهده فلا يُـجـدي
إخبار العلامة والشهيد بتواتر تلك القراءات إلا إذا ثبت تواتره عند المنقول إليه
أو مقلّده.
__________________
الشهرة الفتوائية
تنقسم الشهرة إلى روائية ، وعمليّة ،
وفتوائية.
الشهرة الروائية عبارة عن : اشتهار نقل
الرواية بين الرواة وأرباب الحديث ونقلها في الكتب ، سواء عمل بها الفقهاء أم لم
يعملوا.
والشهرة العملية عبارة عن : اشتهار
العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، كاستناد الفقهاء على النبوي : «
على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » أو قوله اللّه 6
: « الناس مسلّطون على أموالهم » وإن لم يكونا منقولين في جوامعنا الحديثية ، فكيف
برواية نقلها الرواة وأرباب الحديث واستند إليها الفقهاء في مقام الفتوى ،
وسيوافيك أنّ الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرواية ، كما أنّ الإعراض عنها كاسر
لصحّتها ، والنسبة بين الشهرتين عموم وخصوص من وجه كما هو واضح.
والشهرة الفتوائية عبارة عن : مجرّد
اشتهار الفتوى في مسألة ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت على خلاف الفتوى
، أو على وفقها ولكن لم يكن الإفتاء مستنداً إليها ، ولا تكون مثلها جابرة لضعف
سند الرواية إلا إذا علم الاستناد ، ولا كاسرة إلا إذا علم الإعراض.
فيقع الكلام في حجّية نفس الشهرة
الفتوائية من غير فرق بين الشهرة الفتوائية بين القدماء أو بين المتأخرين.
واستدل على الحجّية بوجوه ضعيفة ذكرها
الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني.
الأوّل : الاستدلال بالأَولوية
القطعية
إنّ المناط في حجّية خبر الواحد ، كونه
مفيداً للظن بالحكم ، وهو موجود في الشهرة الفتوائية بوجه أقوى. وأجاب عنه المحقّق
الخراساني بوجهين :
١. القطع بكون المناط هو إفادته الظن
غير حاصل ، غاية الأمر الظن بكون المناط هو إفادته الظن فتكون الأَولوية ظنية لا
قطعية.
٢. القطع بأنّه ليس بمناط ، لكونه حجّة
سواء أفاد الظن أم لا ، والشاهد عليه حجّيته وإن لم يفد الظن الشخصي.
فإن قلت : الخبر الواحد حجّة لإفادته
الظن النوعي والملاك هو هذا.
قلت : لو كان هذا هو المناط يهدم
الاستدلال ، لأنّ الشهرة الفتوائية لو كانت حجّة فإنّما هي حجّة من باب الظن
الشخصي فيكون المناطان متغايرين.
الثاني : تعليل آية النبأ
علل سبحانه المنع عن العمل بخبر الفاسق
أنّ الاعتماد على قوله : يعد جهالة بمعنى السفاهة ، والاعتماد على الشهرة ليست
كذلك.
يلاحظ
عليه : أنّ منطوق الآية هو عدم جواز العمل
بكلّ ما يعد سفاهة ، لا جواز العمل بكلّ ما لا يعد كما هو واضح ، وإلا يكون
التعليل حجّة لكلّ ظنّ لم يكن العمل به سفاهة.
الثالث : دلالة المقبولة
سأل عمر بن حنظلة أبا عبد اللّه 7 عن اختلاف القضاة؟ فقال : « الحكم ما
حكم به أعدلهما ، وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما
يحكم به الآخر ».
قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند
أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من
روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ،
ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه.
إنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل
يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله ».
هذه هي المقبولة التي تلقّاها الأصحاب
بالقبول ، ولكن المشايخ العظام لم يعطوا للرواية حقّها ، مثلاً انّ المحقّق
الخراساني ضعّف الاستدلال بالرواية بأنّ المراد من الموصول في قوله : « ينظر إلى
ما كان من روايتهم عنّا » هو الرواية فلا صلة لها بالشهرة الفتوائية ، والمحقّق
النائيني ، وإنْ ذكر وجه الاستدلال بوجه مطلوب ، لكن أورد عليه بما لا يرد عليه.
وبما انّ المورد من المباحث الهامّة في
الفقه ، نوضح مفاد الرواية ، وسيوافيك انّه يستفاد منها أُمور أربعة :
١. انّ الشهرة العملية ليست من
المرجّحات ، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.
٢. انّ الشهرة العملية جابرة لضعف
الرواية إذا علم الاستناد إليها في الفتوى.
٣. انّ الشهرة العملية على خلاف الرواية
كاسرة لصحّتها إذا أُحرز الإعراض.
__________________
٤. انّ الشهرة الفتوائية في الفقه
المنصوص بين القدماء حجّة في الفقه ، نعم ليس للشهرة الفتوائية قيمة في المسائل
التفريعية بين المتأخرين ، وإليك بيان الأُمور الأربعة.
إنّ استفادة الأُمور المذكورة تتوقف على
بيان أُمور ثلاثة :
١. انّ المراد من « المجمع عليه » ليس
ما اتّفق الكلّ على روايته ، بل المراد ما اشتهرتْ روايتُه بين الأصحاب ، في مقابل
الشاذّ الذي ليس كذلك ، ويدل على ذلك قول الإمام 7
: « يُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ».
٢. المراد من اشتهار الرواية بين
الأصحاب ، هو اشتهارها مع العمل بها والإفتاء بمضمونها ، إذ هو الذي يصلح لأن يكون
ممّا لا ريب فيه ، وإلا فلو رووها ولم يعملوا بمضمونها ، بل أفتوا على خلافه ، ففي
مثلها كلّ الريب.
وأمّا إفادة المحقّق الخراساني من أنّ
المراد من « ما » الموصولة هو الرواية ولا يعم الإفتاء وإن كان صحيحاً ، لكن
المراد الرواية التي عملوا بها وأفتوا بمضمونها ، وأمّا حجّية مجرّد الإفتاء
فسيوافيك.
٣. المراد كون المجمع عليه « ممّا لا
ريب » هو نفي الريب على وجه الإطلاق كقوله سبحانه : (
ذلِكَ
الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ ) ،
بشهادة أنّ النكرة وقعت في سياق النفي وهو يفيد العموم ، وإذا كانت الرواية
المشهورة المعمول بها ممّا لا ريب فيه ، تكون الرواية الشاذة المعرض عنها ، ممّا
لا ريب في بطلانها ، وذلك بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية ، فانّه إذا كان أحد
طرفي القضية ممّا لا ريب في صحّته وقطعَ الإنسان بصحّته يكون الطرف الآخر مقطوع
البطلان ، وإلا يلزم اجتماع اليقين بالصحّة ، مع الشكّ فيها ، مثلاً إذا كانت
عدالة زيد ممّا لا ريب فيها ، يكون مخالفها ـ فسقه ـ ممّا لا ريب في بطلانه.
__________________
ومن ذلك يعلم أنّ المشهور داخل في القسم
الأوّل من التثليث الوارد في الحديث أيْ بيّن الرشد ، والخبر الشاذ داخلاً في
القسم الثاني أيْ بيّن الغي ، لا في القسم الثالث أيْ مشكل يرد حكمه إلى اللّه
ورسوله.
إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فاعلم
أنّه يترتّب عليه أُمور أربعة :
١. الشهرة العملية من مميزات
الحجّة عن اللاحجّة
إنّ الأُصوليين يذكرون الشهرة العمليّة
من المرجّحات ، ومعنى ذلك أنّ المشهور المفتى به ، والشاذ المعرض عنه ، حجّتان لكن
تُرجّح إحداهما على الأُخرى بالشهرة ، غير أنّ كونها مرجّحة مبنيّة على افتراض
حجّية كلا الخبرين في حدّ نفسهما ، لولا التعارض ، ولكن المقام ليس كذلك ، لأنّ
الشاذ إذا كان ممّا لا ريب في بطلانه ، وكان داخلاً في بيّن الغي ، لا يكون حجّة
سواء كان هناك معارض أو لا ، وفي صورة المعارضة ، يكون الحجّة هو المجمع عليه ، المفتى
به ، دون الشاذ ، وعلى ذلك تكون الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجة ، لا
من مرجّحاتهما.
٢. الشهرة العملية جابرة
لضعف الرواية
إنّ مورد المقبولة فيما إذا كانت
الرواية المشهورة المفتى بها صحيحة سنداً ، وقد عرفت أنّها تقدّم على الشاذ المعرض
عنه ، وإن كان صحيح السند.
ولو افترضنا ، كون المشهورة ضعيفة السند
ـ سواء أكان له معارض شاذ أم لا ـ فهل عمل المشهور ، يجبر ضعف السند؟ الظاهر ذلك ،
لما سيوافيك من أنّ ما هو الحجّة في باب الروايات ، ليس قول الثقة ، بل الخبر
الموثوق بصدوره ، وحجّية قول الثقة لأجل كون وثاقته أمارة على صدوره من الإمام ،
ولا شكّ انّ عمل
الأكابر بالرواية في
عصر الحضور أو بعده في عصر الغيبة يورث الوثوق بصدورها.
وهذا المقدار كاف في شمول دليل حجّية
خبر الواحد له ، نعم المراد هو عمل القدماء بالرواية ، المورِث للوثوق بصدور
الرواية ، ولا عبرة بعمل المتأخرين ، إذ لا يتميزون علينا بشيء.
ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن لا يرى عمل
المشهور جابراً لضعف الرواية ، فخالف في المقام واعترض بأمرين : أحدهما يرجع إلى
الكبرى وهي كون العمل جابراً ، والآخر إلى الصغرى وهي استناد المشهور إلى الخبر.
أمّا
الأوّل : فقال ما هذا حاصله : إذا كان الخبر
الضعيف غير حجّة في نفسه على الفرض ، وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض ،
يكون المقام من قبيل انضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة فلا يوجب الحجّة ، فانّ
انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم.
يلاحظ
عليه : أنّ أساس منع الكبرى هو تصور انّ
الموضوع للحجّية هو قول الثقة فرتّب عليه انّ عمل المشهور لا يثبت وثاقة الراوي ،
ولكن الأساس ممنوع ، لأنّ ما هو الحجّة حسب سيرة العقلاء هو الخبر الموثوق بصدوره
، وحجّية قول الثقة لأجل أنّ وثاقته أمارة على صدق الخبر وصدوره من الإمام ، ومنه
يظهر ضعف ما أفاده ، من أنّ كلا من الخبر والشهرة الفتوائية ليس بحجّة ، فأشبه بضم
العدم إلى العدم ، وذلك لأنّ كلّ واحد وإن لم يكن مورِثاً للوثوق بالصدور ، لكن
بعد ضمِّ أحدهما إلى الآخر ، يحصل الوثوق المؤكّد كما لا يخفى.
أمّا
الثاني : أي إحراز استناد الفقهاء إلى الرواية
فقد قال : إنّه أشكل ، وذلك لأنّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم
استنادهم إلى الخبر الضعيف. والمتعرّض للاستدلال هو الشيخ الطوسي دون من تقدّمه.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ للقدماء لونين من التأليف :
أحدهما بصورة الفقه المنصوص ، والآخر بصورة الفقه المستنبط ، وكان أساس الأوّل هو
تجريد المتون عن الأسانيد والإفتاء بنفس الرواية أو بمضمون قريب منه ، وإذا تضافرت
فتاوى تلك الطبقة في مسألة على عبارة موجودة في الخبر الضعيف يستكشف اعتمادهم في مقام
الإفتاء على ذاك الحديث ، ومن هذا القسم ، كتاب الشرائع لعلي بن بابويه ( المتوفّى
عام ٣٢٩ هـ ) وكتاب المقنع والهداية لولده الصدوق ( المتوفّى عام ٣٨١ هـ ) ،
والمقنعة للمفيد ( المتوفّى ٤١٣ هـ ) والنهاية للشيخ الطوسي ( المتوفّـى ٤٦٠ هـ )
وكتاب التكليف للشلمغاني ( المتوفّـى ٣٢٣ هـ ) ولعلّ هو نفس كتاب فقه الرضا ، فإنّ
تضافر هؤلاء على الإفتاء بنص الحديث أو بمضمونه ، يورث الاطمئنان بوثوقهم بالحديث
من طرق مختلفة.
وأمّا اللون الآخر من التأليف فهو خارج
عن محطّ بحثنا ، ومنه كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان ، وكتب ابن جنيد ، والناصريات
والانتصار للسيد ، والمبسوط للشيخ.
هذا كلّه حول الأمر الثاني ـ كون الشهرة
الفتوائية جابراً لضعف الرواية ـ وإليك الكلام في الأمر الثالث.
٣. إعراض المشهور عن الرواية
كاسر لحجّيتها
إنّ إعراض المشهور عن الرواية مسقط لها
عن الحجّية ـ وإن كان السند صحيحاً ـ سواء كان في مقابله خبر معارض أو لا ، لكونه
مصداق الشاذ النادر الذي لا ريب في بطلانه ، ومورد المقبولة وإن كان هو صورة
التعارض ، ولكن المورد ليس بمخصص ، والموضوع هو الشذوذ وعدم اعتداد الأصحاب بها ،
من غير فرق بين وجود معارض له أو لا.
ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض عليه كما
اعترض على الأمر السابق وقال : إذا كان الخبر الصحيح أو الموثق مورداً لقيام
السيرة ومشمولاً لإطلاق الأدلّة اللفظية فلا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور
عنه.
يلاحظ
عليه : أنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر
الواحد هو السيرة العقلائية ، وأمّا غيرها فإمّا إرشاد إليها أو بيان للصغرى أي
أنّ الراوي ثقة ، ففي مثل المقام الذي تسالم الأكابر على الإفتاء على خلاف الحديث
مع كونه بمرأى ومسمع منهم يتوقف العقلاء من العمل به.
أضف إلى ذلك أنّ المستفاد من المقبولة
أنّ الخبر الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ، ومعه كيف يمكن الاعتماد عليه؟!
٤. الشهرة الفتوائية
المجرّدة عن الرواية حجّة
هذا هو بيت القصيد والغرض المهم الذي
عقدنا الباب لبيانه فنقول :
المسائل المشهورة بين الفقهاء على قسمين
:
١. المسائل التفريعية أو
الفقه المستنبط
وهي المسائل التي لم يرد فيها نصّ
وإنّما استنبط حكمها الفقهاء من القواعد والضوابط ، كالشهرة المتحققة في جواز
الصلاة في اللباس المشكوك ، فانّه من الفقه المستنبط ، والشهرة حصلت من عصر السيد
المجدد الشيرازي ، بعد ما كان عدم الجواز مشهوراً ، والشهرة وعدمها في هذه المسائل
سيّان ، وليس على الفقيه إلا ملاحظة نفس الدليل سواء أكانت هناك شهرة أم لا.
__________________
٢. المسائل المتلقاة عن
الأئمة
التي يعبّر عنها بالفقه المنصوص ، وأمّا
تمييز أحدهما عن الآخر ، فيحصل بالرجوع إلى كثير من الكتب التي أُلّفت في الغيبة الصغرى
، وأوائل الغيبة الكبرى حيث صار الدارج هو ، تجريد المتون عن الأسانيد والإفتاء
بلفظ النص ، أو قريب منها.
فإذا وقفنا من القدماء على فتوىً في
مسألة ، ولم نجد له دليلاً من السنّة ، كشف ذلك عن أحد الأمرين على وجه مانعة
الخلو :
أ : كون الحكم واصلاً إليهم يداً بيد من
عصر الأئمّة إلى زمانهم ، وكان الحكم المشهور بين أصحاب الأئمّة ومن بعدهم هو ما
ورد في الكتب المعدة للفقه المنصوص وإن لم نجد النصّ ، وهذا هو الذي اختاره سيدنا
الأُستاذ 1.
ب : أو كاشفاً عن وجود نصّ وصل إليهم
ولم يصل إلينا ، وعلى هذا الوجه تدخل الشهرة الفتوائية في عداد الشهرة العملية
لافتراض كشفها عن النص المعمول به عند القدماء.
والذي يؤيّد ما ذكرناه أمران :
١. انّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة
اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على حكم ليس له دليل من الكتاب والسنّة سوى تسالم
الأصحاب ، وكان السيد المحقّق البروجردي ينهيها إلى تسعين ، ولكنّه 1 لم يعيّن مواردها غير انّ المظنون أنّ
قسماً وافراً منها يرجع إلى باب المواريث والفرائض ، ولو حذفنا الشهرة ، لأصبحت
المسائل فتاوى فارغة عن الدليل.
٢. انّ الظاهر من بعض الروايات أنّ
أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بالشهرة الفتوائية ، بل كانوا يقدّمونها على ما سمعوه
من الإمام شفهياً ، وها نحن نذكر هنا نموذجين ليقف القارئ على مدى اعتمادهم عليها
:
أ : روى سلمة بن محرز قال : قلت لأبي
عبد اللّه 7 : إنّ رجلاً
مات وأوصى إلي بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : « إعطها النصف » ، قال :
فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتقاك ، إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعد ،
فقلت : أصلحك اللّه! إنّ أصحابنا زعموا انّك اتقيتني؟ فقال : « لا واللّه ما
اتّقيتك ، ولكنّي اتّقيت عليك أن تضمن ، فهل علم بذلك أحد؟ » قلت : لا ، قال : «
فاعطها ما بقي ».
ترى انّ الشهرة الفتوائية بلغت من حيث
القدر والمنزلة عند الراوي إلى درجة منعته عن العمل بنفس الكلام الذي سمعه من
الإمام فتوقف حتى رجع إلى الإمام ثانياً.
وربّما كانوا لا يتوقفون عن العمل
ويقدّمون المشهورة على المسموع من نفس الإمام شخصيّاً.
ب : روى عبد اللّه بن محرز بيّاع
القلانص قال : أوصى إلي رجل وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك ابنة ، وقال
: لي عصبة بالشام ، فسألت أبا عبد اللّه 7
عن ذلك ، فقال : « اعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر » ، فلما قدمت الكوفة
أخبرت أصحابنا فقالوا : اتقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر ، ثمّ حججت فلقيت أبا
عبد اللّه 7 فأخبرته بما
قال أصحابنا وأخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة ، فقال : « أحسنت ، إنّما
أفتيتك مخافة العصبة عليك ».
وعلى ضوء هذه الأحاديث تعرف مكانة
الشهرة الفتوائية ، عند أصحاب الأئمّة ، ومعه لا يصحّ لفقيه الإعراض عن الشهرة
للأصل أو الرواية الشاذة.
فتبين أنّ الشهرة الفتوائية في المسائل
المتلقاة ( وإن شئت سمّه الفقه المنصوص ) داخلة في مفاد المقبولة لو قلنا بكشفها
عن الخبر ( المعمول به ) أو
__________________
مناطها ( لو قلنا
بكشفها عن وجود الشهرة عند أصحابهم ) وأنّ سيرة أصحاب الأئمّة جرت على الاعتناء
بها ، فمثل هذه الشهرة إن لم تكن صالحة للإفتاء على طبقها ، لكنّها صالحة للاحتياط
وعدم الإفتاء بشيء أو الإفتاء بالاحتياط.
وهناك كلمة قيّمة لبطل الفقه الشيخ
المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ ) وهو يعرف لنا مكانة الشهرة ، يجب على من يفتى بكلّ خبر ،
ولا يراعى ضوابط حجّيته ، أن يطالعها ويتدبر فيها ونحن نأتي ببعضها :
قال : إنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة
الأسانيد ، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمّة :
فيه ، وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم ، كما تكثر رواية المعمول به ، بل لابدّ
من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته.
ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه
تقيّة ، ولا شيء دُلِّس فيه ووُضِع مخروصاً عليهم وكذّب في إضافته إليهم ، فإذا
وجدنا أحد الحديثين متّفقاً على العمل به دون الآخر ، علمنا أنّ الذي اتّفق على
العمل به هو الحقّ في ظاهره وباطنه ، وأنّ الآخر غير معمول به ، امّا للقول فيه
على وجه التقية ، أو لوقوع الكذب فيه.
وإذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب
الأئمّة : يخالفه حديث
آخر في لفظه ومعناه ، ولا يصحّ الجمع بينهما على حال ، رواه اثنان أو ثلاثة ،
قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة ، وحملنا
ما رواه القليل على وجه التقيّة أو توهّم ناقله.
__________________
في حجّية الخبر الواحد
قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم
أُموراً :
الأوّل
: البحث عن حجّية الخبر الواحد من أهمّ المسائل الأُصولية التي يدور عليها استنباط
أكثر الأحكام الشرعية ، لأنّ الخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة ، قليل جداً لا تفي
بمعظم الفقه ، ولو اقتصر عليهما ، فلابد من العمل بالظن المطلق لدليل الانسداد ،
ولأجل ذلك أخذت المسألة لنفسها أهمية خاصة بين الأُصوليين.
الثاني
: انّ الاحتجاج بالخبر الواحد يتوقّف على ثبوت أُمور أربعة :
أ : أصل الصدور.
ب : أصل الظهور.
ج : حجّية الظهور.
د : جهة الصدور.
أمّا الثاني : فيثبت بما تثبت به
الأوضاع اللغوية ـ كالتبادر وغيره ـ والقرائن العامّة.
وأمّا الثالث : فقد مرّت حجّية الظواهر
، عند العقلاء وإمضاء الشرع له.
وأمّا الرابع : فيثبت بالأصل العقلائي ،
وأنّ الأصل في إلقاء الكلام هو بيان
المراد الجدي ، وأنّ
حمل الكلام على غيره كالتقية وغيرها يحتاج إلى دليل.
بقي الكلام في الأمر الأوّل فهذا ما
يتكفله هذا الفصل من إقامة الدليل على حجّية الخبر الواحد.
الثالث
: اختلفت كلمتهم في أنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد ، بحث أُصولي ومن مسائل علم
الأُصول أوبحث استطرادي؟
ذهب المحقّق القمي إلى الثاني محتجّاً
بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، والمسألة عبارة
عمّا يبحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم ، وعليه البحث عن حجّية الخبر الواحد
وانّه هل هو دليل شرعي أو لا ، بحث عن وصف موضوع العلم أو جزئه.
ثمّ إنّ المتأخرين عنه ردّوا عليه
وقالوا : إنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد ، بحث عن عوارض الموضوع ، لكن بمحاولات
مختلفة مذكورة في الفرائد والكفاية وغيرهما ، وإليك بيانها :
أ
: ذهب صاحب الفصول إلى أنّ الموضوع
ليس الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، بل الموضوع ذات الأدلّة الأربعة بما هي هي ،
والبحث عن الدليلية ، من عوارض الموضوع ( السنّة ). وقد وصفه الشيخ بالتجشم
والتكلّف ، ولعلّه للملاحظة التالية.
يلاحظ
عليه : أنّ الأدلّة الأربعة عبارة عن الكتاب
والسنّة والعقل والإجماع ، فلو كان البحث عن حجّية المحكي أي السنة الشاملة لقول
المعصوم وفعله وتقريره يكون البحث عندئذ كلامياً لا أُصولياً ، وإن كان البحث عن
حجّية الحاكي فهو ليس من الأدلّة الأربعة.
ب
: ما ذهب إليه الشيخ من أنّ الموضوع هو
الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية ، لكن جهة البحث عبارة عن ثبوت السنّة أعني قول
الحجّة أو فعله أو تقريره ( المسلم وجودها ) بخبر الواحد وعدمه ، فيقال : هل
السنّة ( المحكية ) تثبت بخبر
الواحد أو لا تثبت
إلا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟
وقد أورد عليه المحقّق الخراساني في
المقدمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول وفي المقام ، إشكالين :
١. انّ البحث عن ثبوتها به وعدمه خلاف
عنوان المسألة في الكتب الأُصولية فانّ عنوانها هو حجّية الخبر الواحد ، لا ثبوت
السنة بخبر الواحد.
٢. انّ المراد من الثبوت في كلامه هو
الثبوت التعبّدي ، وهو من عوارض الخبر الحاكي ، لا المحكي الذي هو الموضوع ، بداهة
أنّ معناه هل للخبر الواحد هذا الشأن أو لا؟ فلو كان حجّة ، ثبت له هذا الشأن وإلا
فلا.
ج
: ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ مردّ
البحث عن حجّية الخبر الواحد إلى أنّ مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟
وإن شئت قلت : إنّ البحث إنّما هو عن
انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم الانطباق ، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود
السنة ، وعدمها.
يلاحظ
عليه : أنّه مجرّد تغيير في العبارة ، فانّ
مرجع البحث عن الانطباق وعدمه ، هو وجود السنّة في المقام أو لا ، وهو بحث عن أصل
الموضوع لا عن عوارضه ، وبتعبير آخر : هو عين البحث عن وجودها في ضمن هذا الفرد
وهويته أولا.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد تخلّص من
الإشكال بأنّ الميزان في المسألة الأُصولية ليس هو البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة
، بل تكفي صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن
الأدلّة الأربعة.
__________________
وقد مرّ ما هو الحقّ عندنا في مقدّمات
علم الأُصول ، فلاحظ.
الرابع
: الظاهر من غير واحد من قدماء الأصحاب عدم ورود الدليل على جواز العمل بخبر
الواحد وصرح به المرتضى في الذريعة ، وابن
إدريس في السرائر في مواضع كثيرة ، ونقل عن القاضي ابن البراج والطوسي. وأمّا
الشيخ الطوسي فقال بحجيته ، إجمالاً ، ولكن اختلفت كلماته في كتاب العدّة في
تحديدها إلى أقوال أربعة :
١. حجّية قول الثقة ، والمراد منها هو
العادل.
٢. حجّية غير المطعون من أصحابنا ، فيعم
الثقة والممدوح والمهمل.
٣. حجّية قول الفاسق أيضاً إذا كان
متحرزاً عن الكذب ، قائلاً بأنّ الفسق بالجوارح يمنع عن قبول الشهادة وليس بمانع
عن قبول خبره.
٤. حجّية ما يرويه المتهمون المضعَّفون
إذا كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحّتها وإلا وجب التوقف.
إلا أنّ المعروف بين المتأخرين هو
الحجّية ، ولعلّ النزاع بين المتقدمين والمتأخّرين أشبه باللفظي ، فالجميع يعملون
بما دوّن في الكتب الأربعة ، غير انّ المتقدّمين يرون أكثرها مقرونة بالقرائن
المفيدة للعلم فيعملون بها ، والمتأخرون يقولون بحجّية أخبار الاخبار فيعملون بها.
إذا عرفت هذه المقدّمات فلنذكر دليل
القائل بعدم الحجّية فقد استدلوا بوجوه.
__________________
أدلّة نفاة الحجّية
استدل النافي للحجّية بالأدلّة الثلاثة
:
الأوّل
: الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ أوّلاً
، وعن اقتفاء غير العلم ثانياً.
وذلك في ضمن آيات ثلاث :
الآية
الأُولى : (
إِنَّ
الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ليُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ
الأُنْثى * وَمالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَانَّ
الظِّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقّ شَيْئاً
) . والآية صريحة في عدم حجّية الظن في
القول والعمل.
الآية الثانية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظِّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا
يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).
وجه
الاستدلال : انّ النهي وإن كان عن كثير من الظنّ
لا عن الجميع ، وذلك بملاك انّ القليل منه على وفق الواقع ، ولكن بما انّ الموافق
والمخالف غير متميزين يلزم الاجتناب عن الجميع.
الآية
الثالثة : (
وَلا
تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَوَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ
أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسؤُولاً
) . والآية جزء من الحِكَم الغُرّ التي
أوحى اللّه بها إلى نبيّه وابتدأ بها بقوله : (
وَقَضى
رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ )
وختمها بقوله : (
ذلِكَ
مِمّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة
) . والعمل بخبر الثقة اقتفاء لما لا بعلم
، والآية تشمل الأُصول والفروع وقد استشهد بها الإمام على حرمة استماع الغناء
وغيره.
__________________
إجابة القائلين بالحجّية عن
الاستدلال بالآيات
أجاب القائلون بالحجّية عن الاستدلال
بها مثل الشيخ والمحقّق الخراساني بوجهين :
١. اختصاصها بالأُصول ولا يعمّ الفروع.
٢. على فرض تسليم عمومها ، تخصص بالأدلة
الآتية الدالّة على حجّية قول الثقة.
يلاحظ
عليه بوجهين : الأوّل : انّ الآية
الأُولى وإن وردت في الأُصول والعقائد ، والآية الثانية وردت في غير مورد الأحكام
، لكن الآية الثالثة مطلقة تشمل الفروع ، بشهادة أنّ الإمام استدل بها على حرمة
استماع الغناء عند التخلّي.
الثاني
: انّ مساق الآيات الثلاث مساقها الدعوة إلى الفطرة السليمة القاضية بعدم جواز
القضاء في شيء إلا بعد التبيّن ، وعليه لا يتم كلا الوجهين لأنّ مقتضى كونها
إرشاداً لحكمها هو عدم الفرق بين الأُصول والفروع أوّلاً ، وعدم قبولها للتخصيص
ثانياً ، فانّ الأحكام الفطرية لا تقبل التخصيص.
وبذلك ظهر عدم تمامية ما أفاده سيدنا
الأُستاذ 1 من التفصيل
بين الآيتين الأُوليين والثالثة بعدم عمومية الأُوليين ، دون الثالثة ، فهي عامّة
تعمّ الأُصول والفروع ، لما عرفت من أنّ الأحكام الفطرية كالعقلية غير قابلة
للتخصيص.
٣. وهناك جواب ثالث يظهر من الرازي في
تفسيره ، وهو : انّه لو دلّت الآيات على عدم جواز التمسّك بالظن لدلت على عدم جواز
التمسّك بنفسها فالقول بحجّيتها يقتضي نفيها ، وهو غير جائز . وإليه يشير سيدنا الأُستاذ 1 من أنّ دلالة الآية على الردع ، من غير
العلم ظنية لا قطعية فيلزم الأخذ بمدلولها ،
__________________
عدم جواز اتباعها
لكون دلالتها بالفرض ظنية.
يلاحظ
عليه : أنّ دلالة الظواهر على المعاني
الاستعمالية قطعية ، ولا يظهر في ذهن العقلاء أيّ تردد وشك ، وقد تقدّم تفصيله
وهناك جواب رابع ، وهو للمحقّق النائيني
وهو : انّ نسبة الأدلّة الدالّة على جواز العمل بخبر الواحد ليست نسبة التخصيص بل
نسبة الحكومة ، فانّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرِزاً
للواقع ، فيكون حاله حالَ العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمه الأدلّة الناهية
عن العمل بالظن.
يلاحظ
عليه : أنّ الدليل الواضح لحجّية الخبر
الواحد ، هو السيرة العقلائية وهي دليل لبي ليس له لسان ، والحكومة أمر قائم
باللسان.
أضف إلى ذلك أنّه ليس في الأدلّة
اللفظية ما يدل على إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع.
وأمّا قوله 7 : « العمري وابنه ثقتان ، ما أديّا
إليك عنّي ، فعنّي يؤديان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان » فإنّما سيق لبيان وثاقة الأب والابن ،
بقرينة ذيله : « الثقتان المأمونان » لا لأجل إلقاء احتمال الخلاف وتنزيل الظن
منزلة العلم.
والتحقيق أن يقال : إنّ الظن يطلق ويراد
منه معان مختلفة :
١. اليقين كقوله سبحانه : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ
وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّعَلى الْخاشِعين * الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ
مُلاقُوا رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُون
) والمراد منه بقرينة كونه وصفاً
للخاشعين هو اليقين.
__________________
٢. الاطمئنان كقوله سبحانه : ( وَعَلى الثَلاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى
إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَت وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ
وَظَنُّوا أن لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلا إِلَيْهِ
) أي اطمأنّوا انّه لا حيلة إلا الرجوع
إلى اللّه ، ولأجل ذلك رجع اللّه إليهم بالرحمة كما قال تعالى : ( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ
اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيم
).
٣. ترجيح أحد الطرفين استناداً إلى
الخرص والتخمين بلا دليل مثل قوله : (
وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إنْ
يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّيخْرُصُون
).
والمراد من الآيات الناهية عن اتباع
الظن إنّما هو هذا النوع من الترجيح غير المعتمد على أصل صحيح بل مبنيّاً على
الخرص والتخمين والخيال ، ولأجل ذلك سمّوا الملائكة تسمية الأُنثى.
ويوضح ذلك قوله في سورة الحجرات : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظِّنِ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا
يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً )
حيث إنّ الرجل يسيء الظن بشخص ، ثمّ يتصدى للتحقيق هل هو صحيح أو لا؟ فيتجسس ، ثمّ
يصل إلى ما ظن به فيغتابه.
وأين هذا النوع من الظن ، من العمل بقول
الثقة الذي لا يصدر عن الهوى ، ولا عن الخرص والتخمين بل يرويه عن حسّ أو ما يقرب
منه؟!
ولعمري انّ المشايخ ما أعطوا للآيات
حقّها من الإمعان.
__________________
الثاني : السنّة
استدل القائلون بعدم جواز العمل بخبر
الواحد ، بروايات اختلفت مضامينها وانقسمت إلى أصناف ، لكنّهم استظهروا من المجموع
دلالتها على عدم حجّيته ، وأنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً لكن القدر الجامع بين
الجميع متواتر معنىً ، وإليك رؤوس أصنافها :
الأوّل
: ما يدل على لزوم الاكتفاء بما يعلم ، وتدلُّ عليه رواية واحدة.
الثاني
: ما يدل على حجّية ما وافق الكتاب والسنّة ، وبهذا المضمون روايات خمس.
الثالث
: ما يدل على عدم حجّية مخالف الكتاب ، وبهذا المضمون رواية واحدة.
الرابع
: ما يجمع بين الأمرين ، يأمر بأخذ الموافق وطرح المخالف ، وبهذا المضمون روايتان.
وقد بث الشيخ الحرّ العاملي هذه
الروايات في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي ، وإليك دراسة هذه الأصناف.
أمّا
الصنف الأوّل : أعني ما يدل على
الاقتصار بما يعلم ، فقد رواه نضر الخثعمي قال : سمعت أبا عبد اللّه 7 يقول : « من عرف إنّا لا نقول إلا حقاً
فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم انّ ذلك دفاع منّا عنه
».
يلاحظ
عليه : أنّ الرواية بصدد توجيه الروايات
الواردة على وفق التقيّة ، وأنّ الإفتاء بها ، لأجل صيانة دماء الشيعة عن الإراقة
، فإذا سمع منه خلاف ذلك فليأخذ بما علم ، مثلاً : إنّ مسح الرجلين من ضروريات
الفقه الإمامي فإذا سمع
__________________
علي بن يقطين خلاف
ذلك فليعلم أنّ التجويز لأجل صيانة دمه ، وتفسره رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر 7 ، قال : قال لي : « يا زياد ما تقول لو
افتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التقية؟ » قال : قلت له : أنت أعلم جعلت فداك
قال : « إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً ».
وفي الرواية الأُولى احتمال آخر وهو
كونها راجعة إلى الذموم الصادرة عن الأئمّة بالنسبة إلى أخلص أصحابه كزرارة ، فما
صدر إلا لأجل صيانة دمه.
أمّا
الصنف الثاني ، أعني : ما يدل
على حجّية الموافق للكتاب والسنّة ، ويكفي في ذلك وجود شاهد من القرآن له فقط ،
فقد عرفت انّه ورد بهذا المضمون روايات خمس :
أ : ما رواه أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد
اللّه 7 قال : « ما
لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ».
ب : ما رواه أيّوب بن الحرّ قال : سمعت
أبا عبد اللّه 7
يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو
زخرف ».
ج : مرسلة ابن أبي بكير ، عن رجل ، عن
أبي جعفر ـ في حديث ـ قال : « إذا جاءكم عنّي حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين
من كتاب اللّه فخذوا به وإلا فقفوا عنده ».
د : خبر جابر ، عن أبي جعفر 7 ـ في حديث ـ « ... فإن وجدتموه للقرآن
__________________
موافقاً فخذوا به ،
وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه.
هـ : ما رواه سدير قال : قال أبو جعفر ،
وأبو عبد اللّه 8
: « لا يصدق علينا إلا ما وافق كتاب اللّه وسنّة نبيّه ».
يلاحظ على الاستدلال بهذه
الروايات بوجهين :
١. إذا كانت هذه الروايات بصدد المنع عن
العمل بخبر الواحد ، كان التصريح بأصل المطلوب أسهل من دون أن يشرط موافقة الكتاب
والسنّة ، فاشتراط الموافقة يكشف عن عدم كون العمل مصبَّ البحث ، ولو كان مصبُّه
العمل بالخبر الواحد ، كان اشتراط الموافقة لغواً ، إذ مع الدلالة القرآنية لا
حاجة إلى اخبار الأخبار ، وأمّا ما هو مصب البحث فسيوافيك بيانه.
٢. لا شكّ انّه صدر من أئمّة أهل البيت : روايات كثيرة ، في مختلف الأبواب في
المعارف والعلوم الكونية والأخلاق والأحكام مالا يوصف بالمخالفة ، وفي الوقت نفسه
لا يوصف بالموافقة بهما أيضاً لعدم ورودها فيهما ، فلابدّ أن يرجع شرطية الموافقة
إلى شرطية عدم المخالفة ، كما في الصنفين التاليين.
وأمّا
الصنف الثالث : أعني : ما يدل
على عدم حجّية المخالف ، وبهذا المضمون رواية واحدة وهي :
مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه قال
: سمعت أبا عبد اللّه 7
يقول : « من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد فقد كفر ».
يلاحظ
عليه : أنّه لا صلة له بخبر الواحد ، وانّه
يركز على من أفتى بخلاف الكتاب فقد كفر ، والبحث في المقام في الرواية لا في
الإفتاء.
__________________
وأمّا
الصنف الرابع : أعني : ما يجمع
بين العنوانين ، فيأمر بأخذ الموافق ، وطرح المخالف ، فقد ورد بهذا المضمون
روايتان :
أ : ما رواه السكوني ، عن أبي عبد اللّه
7 قال : « قال
رسول اللّه 6 : إنّ على
كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب
اللّه فدعوه ».
ب : ما رواه هشام بن الحكم ، عن أبي عبد
اللّه 7 قال : « خطب
النبي بمنى فقال : أيّها النّاس ما جاءكم يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم
يخالف كتاب اللّه فلم أقله ».
وبما انّك عرفت انّه لا يصح جعل
الموافقة ملاكاً للقبول ، فيكون المراد منه ، ما لا يخالف.
هذه أُصول الروايات ، وقد عرفت خروج
الصنف الأوّل عن مصب البحث ، وانّ مرجع اشتراط الموافقة في الصنف الثاني ـ بل
مطلقا ًـ إلى شرطية عدم المخالفة الواردة في الرابع.
وعلى ضوء هذا فقد تواترت الروايات معنىً
على عدم حجّية الرواية المخالفة للكتاب والسنّة ، ولكن المهم هو تبيين شأن ورود
هذه الروايات ، إذ كما أنّ للآيات شأن نزول هكذا للروايات أيضاً أسباب صدور
وببيانه يعلم عدم صلتها بعدم حجّية الخبر الواحد.
إنّ الروايات الناهية عن العمل بالرواية
المخالفة للقرآن والسنة ناظرة إلى أحد موردين :
__________________
الأول : المخالفة بالتباين
الكلي
الروايات النافية لحجية الخبر المخالف
للكتاب ناظرة إلى المخالفة معه تماماً وهذا ما يعبر عنه بالتبائن الكلي ، ومصبّها
مقامات الأئمة والأولياء حيث إن ظاهرة الغلو بدت في عصر الإمام أمير المؤمنين 7 فنمت إلى ان بلغت الذروة في عصر الصادق
والكاظم والرضا :
، فكان هناك أُناس يضعون الأحاديث في حق الأئمة إمّا تشويهاً لسمعتهم حتى ينفض
الناس من حولهم ، بحجّة أنهم يقولون خلاف القرآن والسنة النبويّة ، أو لغاية
الاستئكال بالأحاديث حيث كانوا يملكون قلوب عواب الشيعة والسُّذّج منهم ، بالغلو
في حقهم ، وقد احتفلت كتب الملل والنحل بهذه الفرق كالخطابية ، والنُّصيرية.
روى الكشي ، قال يحيى بنعبد الحميد
الجمالي ـ في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين 7 ـ : قلت لشريك : إنّ أقواماً يزعمون أن
جعفر بن محمد ضعيف الحديث ، فقال : أخبرك القصة ، كان جعفر بن محمد رجلاً حالحاً
مسلماً ورعاً ، فاكتنفه قوم جهّال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون : حدّثنا
جعفر بن محمد ، ويحدثون بأحاديث كلّها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلون الناس
بذلك ، ويأخذون منهم الدراهم ، كانوا ياتن من ذلك بكل منكر ، فسمعت العوام بذلك
منهم ، فمنهم من هلك ومنهم من أنكر.
وقد عالج الأئمة هذه الظاهرة الخبيثة ،
بأمر الشيعة بعرض الروايات على القرىن فما وافق أُصول التوحيد بمراتبها والعد ،
يؤخذ به ، وما خالف فلا يؤخذ به ، روى الكشي عن ابن سنان قال : قال أبو عبد الله 7 : « انّا أهل البيت صادقون
ــــــــــــــــــ
لا نخلو من كذّاب
يكذّب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ».
والذي نلفت إليه نظر القارئ أن علماءنا
الأبرار قد بذلو جهوداً جبارة في تهذيب ما روى عن أئمّة أهل البيت : عن الموضوعات ، ولذلك لا تجد رواية
مخالفة للكتاب والسنة على وجه التباين إلا النادر.
الثاني : حمل الروايات على
باب التعارض
ان الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر
المخالف ( الصنف الرابع ) وإن كان مطلقاً يعمّ المخالف المجرد عن المعارض لكنها
محمولة على صورة التعارض الذي يقدم غير المخالف على المخالف مطلقاً وإن كانت
المخالفةعلى نحو العموم والخصوص والذي يقودنا إلى هذا الحمل توإن كان بعيداً في
بدء النظر لعدم وجود الشاهد على ورودها مورد التعارض ـ هو حفظ وحدة اللسان في
روايات كلا المقامين:
حيث إن المخالف في الخبرين المتعارضين
يعم المخالفة على نحو العموم والخصوص كما يعم المخالفة على نحو التباين وهو غير
خفي على ما درس الروايات العلاجية المذكورة في بابها.
فلو حملنا روايات الصنف الرابع ، على
الخالفة على نحو التباين يلزم الاختلاف في تفسير روايات البابين حيث فسرت الروايات
العلاجية على النحو الأعم وخصصت روايات المقام بالتباين فلأجل حفظ وحدة اللسان يصب
الجميع في بوتقة والحدة فيحمل على باب التعارض سواء اكان صريحاً فيه ام لم يكن كما
في المقام.
ـــــــــــــــ
الدليل الثالث : الإجماع
ادّعى السيد المرتضى وغيره ـ من أعلام
القدماء ـ عدم جواز العمل بخبر الواحد ، وأنّه كالقياس من شعار الشيعة ، وأكثر من
ركز على ذلك ، هو السيد المرتضى وابن إدريس.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ ادّعاء إجماع
السيد ، يتعارض مع ادّعاء الشيخ الإجماع على العمل به ، يقول في العدّة : والذي
يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار
التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أُصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ،
حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم
على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا.
وثانياً
: أنّ عبارة السيد وإن كانت مطلقة ، لكنّها ناظرة إلى الأخبار التي رواها
المخالفون ، وبذلك أوّل الشيخ كلام أُستاذه. حيث قال : فإن قيل كيف تدّعون الإجماع
على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد والمعلوم من حالها انّه لا ترى العمل بخبر
الواحد ، كما أنّ المعلوم من حالها انّها لا ترى العمل بالقياس؟
فأجاب
: المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد ، الذي
يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه.
__________________
أدلّة القائلين بالحجّية
استدل القائلون بالحجّية ، بالأدلة
الأربعة.
فمن الكتاب :
الأُولى : آية النبأ
قال سبحانه : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين
).
ذكر الطبرسي سبب نزولها وقال : نزلت
الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول اللّه في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا
يتلقّونه فرحاً به ـ وكانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليـة ـ فظنّ أنّـهم همُّوا
بقتله ، فرجع إلى رسول اللّه وقال : إنّـهم مَنعُوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ،
فغضب النبي وهمَّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية.
لكن الجزء الأخير من القصة ، غير صحيح
فليس النبي من المتسرعين في القضاء ، ولو كان كذلك ، لتوجه الخطاب إليه ، مع أنّه
توجّه إلى المؤمنين.
وهناك سؤالان :
وهو أنّ الوليد من أغصان الشجرة الخبيثة
قد آمن ظاهراً عام الفتح كسائر الأمويين ، وكانت غزوة بني المصطلق في العام السادس
من الهجرة ، فكيف بعثه النبي لجباية الصدقات؟!
والجواب كون الغزوة في العام السادس
وإسلامهم فيه ، لا يلازم كون البعث
__________________
في تلك السنة ولعلّه
6 بعثه بعد
عام الفتح كما لا يخفى.
وقد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب :
ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت انّ قوله عزّوجلّ : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ
) نزلت في
الوليد .
وحكاه عنه ابن الأثير في أُسد الغابة .
ويؤيده نزول قوله سبحانه : (
أَفَمَنْ
كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوون
).
روى الطبرسي ، عن ابن أبي ليلى نزل قوله
: ( أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ
) في علي بن
أبي طالب ورجل من قريش ، وقال غيره نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة ،
فالمؤمن علي والفاسق الوليد ، وذلك انّه قال لعلي 7
: أنا أبسط منك لساناً ، وأحدُّ منك سناناً ، فقال علي 7 : ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة :
واللّه ما استووا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
روى الشارح المعتزلي أنّ حسان بن ثابت
شاعر عصر الرسالة قد نظم الواقعة في بيتين :
أنزل اللّه والكتاب عزيز
|
|
في عليّ وفي الوليــد قرآنا
|
فتبوّا الوليد إذ ذاك فسقا
|
|
وعليّ مبــوء إيمــانـاً
|
٢. كيف بعثه النبي إلى جبايتها ، مع أنّه فاسق؟
والجواب انّ المانع من البعث هو الفسق
الظاهري لا الخفي ، ولعلّه لم يظهر
منه إلى زمان البعث
أي فسق ، وكان فسقه مخفياً إلى أن أظهره القرآن الكريم.
وأمّا الاستدلال فتارة يستدل بمفهوم
الوصف ، وأُخرى بمفهوم الشرط ، وإليك بيانهما.
الأوّل : الاستدلال بمفهوم
الوصف بوجهين
١. إنّ قوله : فاسق ، وصف لموصوف محذوف
، أي مخبر فاسق ، فالمخبر الموصوف بالفسق يجب تبيّن خبره ، فيكون مفهومه انتفاؤه
عند انتفاء الوصف ، بمعنى كون المخبر عادلاً. وهذا سار في كلّ وصف لا ثالث له ،
كما في قوله : « في سائمة الغنم زكاة » فمعناه الغنم بقيد السائمة فيها زكاة ،
ويكون مفهومه ، الغنم عند عدم كونها سائمة ليس فيها زكاة.
يلاحظ
عليه : أنّ المستدلّ خلطَ بين كون القيد
احترازيّاً ، وكونه ذا مفهوم ، ومفاد الأوّل هو مدخليته في الحكم مقابل القيد غير
الاحترازي مثل (
في
حُجُوركُمْ ) في قوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ
) وأمّا كونه دخيلاً منحصراً لا يقوم
مقامه شيء آخر ، فلا يدل عليه.
فإن
قلت : القائم مقامه هو المعلوفة ، فلو كان
كذلك ، كان ذكر السائمة لغواً ، إذ يعرف هذا من أنّ الزكاة لجنس الغنم ، ولا
مدخلية لأحد الوصفين فيه.
قلت
: لا تلزم اللغوية ، لاحتمال أن تكون القضية جواباً لسؤال السائل عن المعلوفة فجاء
الجواب وفقاً للسؤال ، وإن كان الحكم عاماً.
٢. ما حقّقه الشيخ ، وقال : إنّ لخبر
الفاسق حيثيتين : إحداهما ذاتية وهي ما يكون وصفاً للخبر وهي كونه خبر الواحد ،
والأُخرى عرضية ، أي ما يكون وصفاً للمخبر ، ويوصف به الخبر أيضاً بالعناية ،
وتعليق التبين على العنوان العرضي دون
__________________
الذاتي المشترك بين
خبر العادل والفاسق ، يعرب عن كونه السبب للتبيّن دون مطلق الخبر ، وإلا كان
العدول عنه إلى العرضي غير بليغ.
يلاحظ
عليه : أنّ البيان متين لو لم يكن للعدول
وجه ، وهو التصريح بفسق المخبر ورفع الغشاء عن وجهه القبيح.
ومن هنا يعلم أنّ الآية ليست بصدد جواز
العمل بخبر العادل وعدمه ، بل هي بصدد المنع عن العمل بخبر الفاسق.
فإن
قلت : إنّ سيرة العقلاء على عدم العمل بقول
من لا يثقون بقوله ، والفاسق ممن يوثق بقوله ، فما السرّ في هذا النهي؟
قلت
: السرّ هو التصريح بفسق الوليد وبيان الصغرى ، وإن كانت الكبرى عندهم معلومة. هذا
كلّه حول الاستدلال بمفهوم الوصف.
وممّا ذكرنا يعلم أنّ التقرير الثاني
تقرير لمفهوم الوصف لا لمفهوم الشرط ، فما أفاده المحقّق النائيني من أنّه ينطبق
على مفهوم الشرط غير ظاهر.
الثاني : التمسك بمفهوم
الشرط
وقبل تقرير المفهوم ، نذكر نكتة وهي أنّ
حمل الجزاء على الموضوع على قسمين :
تارة يصحّ حمله عليه سواء أكان هناك شرط
أو لا ، كما إذا قال : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه. فإنّ حمل الجزاء صحيح سواء أسلم أم
لا ، غاية الأمر ، خصّ الآمر الإكرام بإحدى الصورتين ، وهو ما إذا سلّم.
وأُخرى لا يصحّ حمل الجزاء على الموضوع
إلا مع وجود الشرط ، بحيث لولاه لما صحّ حمله ، كما إذا قال : الولد ـ إن رُزِقتَ
به ـ فاختنه ، أو زيد ـ إن ركب ـ فخذ ركابه ، أو قال : الدرس ـ إذا قـرأتـه ـ
فاحفظه. ففي هذه الموارد ، يكون الشرط من
محققات الموضوع ،
بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.
والقضية الشرطية ذات المفهوم هو القسم
الأوّل ، الذي يصحّ حمل المشروط ( الجزاء ) على الموضوع سواء كان هناك شرط أو لا ،
لا القسم الثاني ، بل يكون سلب الجزاء عندئذ لأجل عدم الموضوع ، وهو ليس بمفهوم
اصطلاحاً ، وإلا يلزم أن تكون جميع القضايا الحملية ذات مفهوم ، إذا علمت هذا
فاعلم :
انّ مفهوم الشرط في الآية يقرر على
وجهين مبنيين على كون الموضوع ما هو؟ فهل الموضوع :
١. نبأ الفاسق ـ إذاجاء به ـ فيجب
تبيّنه؟
أو الموضوع.
٢. النبأ المفروض وجوده ـ إن جاء به
الفاسق ـ يجب تبيّنه؟
فقرّره المشهور على الوجه الأوّل ،
وقرّر المحقّق الخراساني على الوجه الثاني.
وإليك كلا التقريرين :
مفهوم الشرط على تقرير
المشهور
إنّ تقرير المشهور مبنيّ على جعل
الموضوع : نبأ الفاسق ، والشرط : هو المجيئ ، والجزاء : هو التبيّن والتثبت ؛
فكأنّه قال : نبأ الفاسق ، إن جاء به الفاسق ، فتبيّنه ويكون مفهومه :
نبأ الفاسق ـ إن لم يجئ به ـ فلا
تتبيّنه ، لكنّ للشرط ـ عدم مجيئ الفاسق ـ مصداقين :
__________________
١. عدم مجيئ الفاسق والعادل به فيكون من
قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.
٢. مجيئ العادل به فيكون عدم التبيّن من
قبيل السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّ النبأ موجود ، والمنفي هو المحمول ، أعني :
التثبيت.
يلاحظ
عليه : أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن
الموضوع الوارد في القضية ، لا عن موضوع آخر لم يرد فيها ، فالموضوع في الآية حسب
الفرض ، هو : نبأ الفاسق ، فالتثبّت عند المجيئ به وعدم التثبّت عند عدم المجيئ به
، يجب أن يتوارد عليه لا على موضوع آخر كنبأ العادل الذي ليس منه ذكر في الآية ،
وعلى ذلك ينحصر مفهوم الآية بالصورة الأُولى ، وهو عدم مجيئ الفاسق ، من دون نظر
إلى نبأ العادل ، ومن المعلوم أنّ عدم التثبّت عند عدم مجيئه به ، لأجل عدم
الموضوع للتثبت.
وبعبارة أُخرى : انّ الإثبات والنفي لدى
وجود الشرط وعدمه ، يتواردان على الموضوع المذكور وهو « نبأ الفاسق » لا انّ
الإثبـات ـ التبيّـن ـ يتـوارد على نبـأ الفاسق ، والنفي ـ عدم التبينّ ـ يتوارد
على موضوع آخر ، وهو نبأ العادل.
مفهوم الشرط على تقرير
الخراساني
لمّا وقف المحقّق الخراساني على الإشكال
الوارد على تقرير المشهور ، عدل عنه إلى تقرير آخر قال ما هذا نصّه : انّ تعليق
الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيئ به ـ على كون الجائي به الفاسق ـ يقتضي
انتفاءه عند انتفائه.
توضيحه
: انّ الموضوع هو النبأ المحقّق وجوده عبر الزمان ، والشرط هو مجيئ الفاسق ،
والجزاء هو وجوب التبين ، وعلى ذلك فليس مجيئ الفاسق به من محقّقات الموضوع ، بل
من حالاته ، لافتراض أخذ النبأ على نحو القضية الحقيقية ، فله حالتان :
١. مجيئ الفاسق به ٢. عدم مجيئ الفاسق ،
ولكنّه يلازم مجيئ العادل به لافتراض أنّ الخبر محقّق الوجود ، والجائي به إمّا
فاسق أو عادل ، فإذا لم يجئ به الفاسق ، يكون الجائي به عادلاً قطعاً لعدم الشق
الثاني.
يلاحظ
عليه : أنّ الآية ليست بصدد بيان أحكام
النبأ المطلق سواء أكان الجائي به الفاسق أو العادل فيختص التثبت بالأوّل دون
الثاني ، بل بصدد بيان حكم نبأ الفاسق بشهادة قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ
) أي فاسق يحمل نبأ فالنفي والإثبات يجب أن يتواردا على موضوع واحد وهو نبأ
الفاسق.
تقرير ثالث لمفهوم الشرط في
الآية
إنّ هنا تقريراً ثالثاً يقرب ممّا ذكره
المحقّق الخراساني ، وحاصله :
أنّ الشرط تارة يكون بسيطاً ويكون
الجزاء في نفسه متوقفاً على الشرط ، كما في قولك : إنْ رزقت ولداً فاختنه.
وأُخرى يكون مركّباً ، ويكون الجزاء
متوقفاً عقلاً على كليهما ، كما إذا قال : إن رزقت ولداً وكان ذكراً فاختنه.
وثالثة يكون متوقفاً على أحدهما دون
الآخر ، كما إذا قال : إن ركب الأمير ـ وكان يوم الجمعة ـ فخذ ركابه ، فإنّ أخذ
الركاب متوقف على الركوب عقلاً ولا يتوقف على كون ركوبه يوم الجمعة.
ومثله المقام فانّ التبيّن يتوقف على
النبأ ، ولا يتوقف عقلاً على الجزء الآخر أعني كون الآتي به فاسقاً ، ومفاده عدم
التبين عن النبأ عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره تحليل عقلي صحيح في عالم
الثبوت ، ولكنّه على خلاف ظاهر الآية ، لأنّها ليست بصدد بيان أحكام النبأ على وجه
الإطلاق ليعلم بالمنطوق والمفهوم حكم كلا القسمين ، بل هي بصدد بيان حكم موضوع
واحد ، وهو « نبأ الفاسق » ، فالتبين عند المجيئ وعدمه عند عدم المجيئ ، يتواردان
على موضوع واحد ، وهو قول الفاسق.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سلّم أنّ
الموضوع هو « نبأ الفاسق » لا مطلق النبأ ، لكن حاول استفادة حكم نبأ العادل من
طريق آخر ، وهو : أنّ ظاهر الآية انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به
الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، ثمّ أمر
بالتدبّر.
ولعلّ وجه ما ذكره من ظهورها في انحصار
وجوب التبيّن في نبأ الفاسق ، هو ما أشار إليه تلميذه المحقّق العراقي : انّ وجوب
التبيّن يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرّزه عن المعاصي ، التي منها تعمّد كذبه ،
فوجب التبيّن عن حال خبره لئلا يقع المكلّف في خلاف الواقع ، فتحصل له الندامة ،
وهذا بخلاف خبر العادل فانّه من جهة تورّعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمّد
بالكذب ، فاحتمال تعمّد كذبه منفي بعدالته.
ثمّ إنّ الإشكال المزبور راجع إلى نفي
الاقتضاء وانّه لا مفهوم للقضية الشرطية في الآية ، وهناك إشكالات ترجع إلى إيجاد
موانع بعد تسليم اقتضائه ، ولم يذكر منها المحقّق الخراساني إلا إشكالاً واحداً ،
بخلاف الشيخ الأعظم فانّه أشار إلى إشكالات عديدة منها ونحن نقتفيه.
__________________
الإشكال الأوّل : عموم
التعليل مانع عن تمامية دلالة الآية
هذا الإشكال هو الذي نقله الشيخ الأعظم
عن الشيخ الطوسي في عدّته بقوله : لا يمتنع ترك الخطاب ( مفهوم المخالفة ) لدليل
والتعليل دليل.
وحاصله : انّه لو سلمنا دلالة مفهوم
الآية على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن مقتضى عموم التعليل هو وجوب
التبيّن في كلّ خبر لا يُؤمن من الوقوع في الندم من العمل ، وإن كان المخبر عادلاً
، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل.
وبتقرير آخر : انّ التعليل بإصابة القوم
بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق قرينة على أنّ الآية فاقدة للمفهوم ، والفرق بين التقريرين واضح ، فالأوّل
يركز على احتمال الندامة المشترك بين خبري العادل والفاسق ، والثاني على صدق الجهالة
بمعنى عدم العلم على الموردين.
وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه :
الوجه الأوّل :
ما أفاده الشيخ : من أنّ المراد من
التبيّن ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو في مقابل الجهالة
والاطمئنان منتف في خبر الفاسق دون العادل.
يلاحظ عليه بوجهين :
أوّلاً
: أنّ تفسير التبين بالظهور العرفي لا يصدقه القرآن الكريم ، فانّه
__________________
استعمل فيه في
الظهور الحقيقي :
١. كقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ
في سَبيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنِ أَلْقى إِلَيْكُمُ
السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمناً يَبتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا
) ومورد الآية إراقة الدماء ، ولا يكتفى
فيه بالوثوق والاطمئنان ، بل لابدّ من العلم أو البيّنة.
٢. وقال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنّهُ الحَقّ
) أي يتبين أنّ القرآن حقّ بأجلى مظاهره.
٣. وقوله سبحانه : ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد مِنَ الْفَجْر
).
ثانياً
: لو صحّ ما ذكره لدلّ منطوق التعليل على حجّية الخبر العادل ، من دون حاجة إلى
المفهوم ، لأنّ الظهور العرفي بمعنى الاطمئنان موجود في خبر العادل قطعاً.
الوجه الثاني :
ما أجاب به المحقّق الخراساني : من أنّ
الإشكال مبنيّ على أنّ الجهالة بمعنى عدم العلم ، ولكنّه بمعنى السفاهة وفعل ما لا
ينبغي صدوره من العاقل ، وهو غير موجود في خبر العدل.
فإن
قلت : لو كان العمل بقول الفاسق عملاً
سفهيّاً لما أقدم عليه أصحاب النبي وهم عقلاء.
__________________
قلت
: إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه ، ولولا الغفلة لما ركنوا إلى
قوله.
أقول
: لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة ، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى
، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.
أمّا الأوّل : فقد استعملت في قوله
سبحانه : ( أَنّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ
رَحِيم )
وقال سبحانه
: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ تابُوا مِنْ بعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيم
) وقال سبحانه : ( إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلى اللّهِ لِلَّذينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَريب
) .
قال الراغب في المفردات : إنّ الجهل على
ثلاثة أضرب : ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.
وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر انّ
الجهالة في الآية في مقابل التبيّن ، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه ،
أو الاطمئنان ، ويكون المراد من مقابله أعني الجهالة ، ضدّهما ، لا مقابل الحكمة.
الوجه
الثالث : ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ
المفهوم حاكم على التعليل ، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما
وراء العلم ، والمفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر العادل محرِزاً
للواقع وعلماً في مقابل التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، لأنّ المحكوم
لا يعارض الحكم ولو كان ظهوره أقوى.
__________________
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ الحكومة عبارة عن نظارة
أحد الدليلين إلى الدليل الآخر ، وتكون نتيجتها تارة رفع حكم الدليل المحكوم بلسان
رفع موضوعه ، كما إذا قال : إذا شككت فابن على الأكثر ، ثمّ قال : لا شكّ للإمام
مع حفظ المأموم ، أو بالعكس ، فهو بلسانه ناظر إلى الدليل المحكوم ، ويدل على أنّ
شكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر خارج عن تحت الدليل الأوّل ، لكن لا بنحو
الإخراج عن الحكم ابتداء حتى يكون تخصيصاً ، بل بنحو رفع الموضوع تعبداً لغاية رفع
الحكم. وأُخرى بالتعرض لحالات الحكم المحكوم ، كما إذا قال صاحب الشريعة : ( ماجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
) ، فهو بلسانه متعرض لأحوال الأحكام
الواردة في الشريعة ، ويدل على أنّ الحكم إذا كان حرجياً فإطلاقه غير مجعول. وعلى
كلّ تقدير الحكومة قائمة بلسان الدليل ، والمفروض في المقام أنّ المفهوم فاقد
للّسان ، فكيف يكون حاكماً؟!
ثانياً
: أنّ مفاد المفهوم على القول به ، هو عدم وجوب التبيّن ، وأين هو من إلغاء احتمال
الخلاف ، وكونه محرزاً للواقع وعلماً في مقام التشريع؟!
ثالثاً
: أنّ ما ذكره يستلزم الدور ، لأنّ انعقاد المفهوم وظهور القضية في المفهوم ، فرع
حاكميته على التعليل المزاحم لانعقاد المفهوم ، وكون القضية ذات مفهوم وكونه
حاكماً ، فرع وجوده واشتمال القضية على المفهوم.
الوجه
الرابع : انّ التعليل يختص بما إذا كان العمل
بالخبر في معرض الندامة ، وهو يلازم خبر الفاسق دون خبر العادل ، والعادل وإن كان
يخطأ ، كالعلم القطعي لكنّهما ليسا في معرض الندامة ، ولعلّ هذا الجواب أظهر.
__________________
الإشكال الثاني : خروج
المورد عن المفهوم
ما أشار إليه الشيخ أيضاً ، وهو انّ
مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية وهو إخبار
الوليد بارتداد طائفة ، ومن المعلوم انّه لا يكفي فيه خبر العادل فلا أقلّ من
اعتبار العدلين ، فلابدّ من طرح المفهوم لعدم جواز إخراج المورد.
وقد أجاب عنه الشيخ بانّه لا يلزم إخراج
المورد ، غاية الأمر يقيّد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات بضمّ عادل آخر إليه ،
فقول العادل حجّة مطلقاً ، غاية الأمر إذا كان المخبَر به حكماً شرعياً يؤخذ بقوله
، وإذا كان موضوعاً خارجياً ، فليلتمس ضمُّ عادل إليه.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره ليس جواباً عن الإشكال ،
بل هو تقرير له ، وهو خروج المورد عن مفهوم الآية ، وما ذكره ليس إلا تغييراً في
التعبير ، فانّ معنى قوله : « يقيد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات » عبارة أُخرى
عن عدم حجّية المفهوم في مورد الآية وانّه لو كان المخبر أيضاً عادلاً لا يعمل به
بل لابدّ من البيّنة.
وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال
بوجه آخر ، ولم يرتضه السيد الأُستاذ والجواب والإشكال مذكور في التهذيب ، فلاحظ.
الإشكال الثالث : اختصاصه
بالموضوعات الخطيرة
والذي عندي في تفسير الآية من أوّلها
إلى آخرها أمر وراء ما ذكره الأعاظم ، وحاصله : أنّ الآية غير ناظرة إلى الخبر بما
هو خبر ، حتى نبحث عن المنطوق والمفهوم ونناقش ما يزاحم أصل المفهوم أو يعارضه ،
بل الموضوع في الآية هو النبأ
لا الخبر ، وهو ليس
مطلق الخبر ، بل الأمر العظيم الذي يوجب على الإنسان الحزم والاحتياط وتحصيل
التبين واليقين ، وترك الإقدام مع الجهل ، من غير فرق بين خبر الفاسق والعادل ،
ويخصص الفاسق بالذكر لأجل التصريح بفسق الوليد.
توضيح
ذلك : أنّه فرق في لغة العرب بين الخبر
والنبأ ، ولا يطلق الثاني إلا على الخبر الخطير ، ولا يطلق النبيّ على مطلق المخبِر
، بل الذي يُخبر عن خبر خطير وينقل أخبار السماء إلى الأرض.
وقد استعمل القرآن لفظ النبأ في خمسة
عشر مورداً وأُريد من الكل الأمر الخطير ، قال سبحانه :
١. (
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْقَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ
مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر
).
٢. (
وَلَقْد
جاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلين
).
٣. (
وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَأ بِنَبأ يَقين ).
٤. (
عَمَّ
يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَبَأِ الْعَظِيم
) ، وتوضيحه بالعظم لغاية المبالغة.
ومحط البحث في الآية هو الموضوعات
الخطيرة ، فلا يستخدم فيها إلا العلم والتبيّن القطعي ولا يكتفى بغيره ، من غير
فرق بين خبر العادل والفاسق ، وقد مرّ أنّ التبيّن في الآية ليس هو الاطمئنان بل
التبيّن العلمي في مقابل الجهل.
فالآية تركِّز على أنّه لا يصلح في تلك
المواقف الخطيرة سوى التبيّن والعلم ،
__________________
وأمّا في غيرها من
سائر الأُمور غير المهمة فالآية ساكتة عنها منطوقاً ومفهوماً ، ولا يستعمل لفظ
النبأ إلا في الموضوعات ولا يعمّ الأحكام ، ويختص بالموضوعات التي لها خطر وشأن ،
لا مطلقه.
هذا حول الإشكالات المختصة بالآية ،
وهناك إشكالات لاتختص بها بل تعم جمع أدلّة حجّية الخبر الواحد.
الإشكالات غير المختصة بآية
النبأ
هناك إشكالات لا تختص بالآية بل تعم
جميع ما استدل به على حجّية الخبر الواحد ، وكان على الشيخ التفكيك بين النوعين :
الأوّل : التعارض بين
المفهوم والآيات الناهية
وقد أشار إليه الشيخ وحاصله : معارضة
المفهوم بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم والنسبة عموم من وجه ، فيفترق
المفهوم عنها في خبر العادل المفيد للعلم ، كما تفترق الآيات عن المفهوم في خبر
الفاسق ويجتمعان في خبر العادل المفيد للظن ، فالمرجع هو عموم الآيات لأقوائيتها.
والحقّ أن يقال : إنّ النسبة بين
المفهوم والآيات الماضية هي التباين ، لأنّ المراد من الظن كما مرّ هو الخرص
والتخمين والحدس ، غير المبنيّ على دليل ، وأين هذا من خبر العادل الحاكي عن حس؟
الثاني : المفهوم يعمّ قول
السيد
لو كان خبر العادل حجّة ، فقول السيد
أيضاً خبر الواحد ، داخل تحت الآية فلو كان حجّة لزم عدم حجّية الخبر الواحد
بتاتاً.
وأُجيب بوجوه كثيرة :
١. انّ السيد لا يخبر عن قول المعصوم
إلاعن حدس ، والحجّة هو الإخبار عن حس.
٢. انّ ادعاءه معارض بادّعاء الشيخ عن
إجماع الطائفة على حجّية الخبر الواحد.
٣. انّ الأمر دائر بين دخوله وخروج غيره
، أو بالعكس ، فالثاني هو المتعيّن ، لاستلزامه التخصيص المستهجن.
٤. لو شمله إطلاق المفهوم ، يكون مآلها
التعبير عن عدم حجّية الخبر الواحد بنقيضه ، وذلك بإدخال قول السيد ، وهذا خلاف
البلاغة.
٥. انّ قول السيّد ، ليس من مصاديقه ،
بل يناقض المفهوم ، لأنّه يدل على حجّية خبر الواحد ، وهو ينفيه ، فلا يعدّ مثله
من مصاديقه.
٦. لو كان قول السيّد من مصاديق الآية
لزم من حجّيته عدمه ، لأنّ إخباره عن عدم حجّية خبر الواحد ، يشمل قول نفسه ـ
بتنقيح المناط ـ وما يلزم من وجوده ، عدمه ، باطل.
وهنا كلام للمحقّق الخراساني وحاصله :
من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة في زمان نزول الآية إلى زمان صدور هذا الخبر من
السيّد ، وعند ذاك يدخل قول السيد تحت الآية ، ودخوله منتهى أمد الحكم الأوّل أعني
الحجّية.
يلاحظ
عليه : أنّه لا يمكن إدخال قول السيد في
مفهوم الآية لا من عصر الرسالة ولا من عصر صدوره من السيّد ، إذ على الأوّل يعود
محذور تخصيص الأكثر المستهجن ، وصيرورة الكلام أشبه باللغز وغيرها من الإشكالات ،
وعلى الثاني يلزم حدوث النسخ في الأحكام بعد رحيل النبي ، وهو ممنوع إجماعاً.
__________________
الثالث : عدم شمولها للاخبار
مع الواسطة
هذا الإشكال يتوجه على أخبار الآحاد
المنقولة بوسائط ، دون المنقول بواسطة واحدة ، وفي الحقيقة إشكال واحد ويقرر بوجوه
مختلفة ، وقد جاء في الكفاية وجهان منها.
أشار إلى الأوّل بقوله : « ربّما أشكل
شمول مثلها ».
وإلى الثاني بقوله : « ولا يخفى أنّه لا
مجال بعد اندفاع الإشكال ».
وأمّا الشيخ فقد اختلفت نسخ الفرائد ،
فبعضها تشتمل على ثلاثة ، والبعض الآخر على أربعة ، أو خمسة ، وممّن بينها بوجه
واضح المحقّق النائيني في فوائده.
ونحن نذكر في المقام أكثر الوجوه مع
إيضاح ما في الكفاية.
١. انصراف الأدلة عن الاخبار
بوسائط
إنّ القدر المتيقن من أدلّة حجّية الخبر
الواحد ، هو الإخبار بلا واسطة ، لا الاخبار بواسطتين أو بوسائط.
٢. انصرافه عن الخبر التعبدي
الدليل منصرف عن الخبر التعبّدي ولا
يعمّ سوى الخبر الوجداني ، فمن وقع في مبدأ السند فكلامه خبر وجداني ، دون من
يحكيه هو عنهم فانّها أخبار تعبّدية لا دليل على حجّية قولها.
يلاحظ
عليه : أنّه لا فرق بين الاخبار بلا واسطة
أو معها عند العقلاء ، كما لا فرق عندهم بين الوجداني وغيره ، واقتصارهم على
الوجداني يوجب العسر
والحرج في الحياة ،
ولو ثبت ذلك فمعناه إلغاء التاريخ عن قاموس العلم فانّه يقوم على العنعنة ، مع
اهتمامهم بها. نعم لو كثرت الواسطة على نحو لا تسكن النفس بمثله كان لما ذكر وجه ،
وأمّا الاخبار المنقولة في الكتب الأربعة وغيرها فليست الوسائط على حدّ تسقط كثرة
الوسائط لها عن الاعتبار.
٣. لزوم كون المخبر به ذا
أثر شرعي
إنّ التعبّد بتصديق العادل لابدّ أن
يكون لأجل ترتيب أثر شرعي على قوله ، وإلا فلو كان المخبَر به فاقداً للأثر ، فلا
يجب تصديقه ، فلو أخبر عن مقدار ارتفاع المنارة أو عن عمق البئر ، فلا يجب تصديقه
لعدم ترتّب أثر شرعي عليه ، وعلى هذا فلو أخبر الراوي عن الإمام يجب تصديقه ،
لترتّب الأثر على تصديقه ، فالمخبِر كالصفار إذا أخبر عن الإمام العسكري اشتمل على
الحكم الشرعي ، وأمّا إذا أخبر عن إخبار المخبر ، كالصدوق أخبر عن إخبار الكليني ،
وهو عن إخبار الصفار ، وهو عن الإمام العسكري 7
، فلا يترتب على تصديق الصدوق ولا الكليني أيّ أثر ، لأنّ المخبَر به ليس كلام
الإمام ، بل إخبار الراوي الفاقد للأثر.
يلاحظ
عليه : أنّه يكفي في صحّة التعبّد أن يكون
جزء الموضوع للأثر لا تمام الموضوع ، فيصحّ الأمر بتصديق الصدوق والكليني ، لغاية
إثبات قول الصفار الذي يحمل قول الإمام والحكم الشرعي.
وبعبارة أُخرى : يكفي وقوعه في طريق
ثبوت موضوع ذي أثر شرعي.
٤. اتحاد الحكم مع جزء الموضوع
إنّ قول القائل « صدّق العادل » في كلّ
خبر ذي أثر شرعي مركّب من أُمور ثلاثة :
أ. الحكم وهو : صدِّق.
ب. الموضوع : كلّ خبر.
ج. قيده : ذو أثر شرعي.
فإذا أخبر زرارة عن الإمام الصادق 7 عن طهارة العصير بعد التثليث أو نجاسته
قبله ، فالأُمور الثلاثة متحققة بالشكل التالي ، فالحكم هو : وجوب التصديق ،
والموضوع : خبره أعني « طهارة الشيء » أو نجاسته ، وأثره هو : وجوب الاجتناب عنه ،
وعدم وجوبه.
فالأُمور الثلاثة متحققة كما هو واضح.
وأمّا إذا أخبر الصدوق عن الكليني ، وهو
عن الصفار ، وهو عن الإمام العسكري 7
فوجوب تصديق الصدوق يتوقف على تحقّق أُمور ثلاثة :
الأوّل : الحكم وهو : وجوب التصديق.
الثاني : الموضوع : إخباره عن الكليني.
الثالث : الأثر : وليس الأثر هناك إلا
نفس الحكم ، إذ لا يترتب على إخبار الكليني للصدوق أيّ أثر شرعي سوى وجوب التصديق
، فيلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع ، وهو غير صحيح ، لأنّ الحكم متأخر رتبة
، والموضوع بعامّة أجزائه متقدّم.
وبعبارة أُخرى : لا يمكن التعبّد
بالتصديق إلا أن يكون للموضوع ( إخبار الكليني للصدوق ) أثر شرعي قبل التعبّد ،
والمفروض أنّ الأثر جاء من جانب الحكم ، وترتّب عليه في ناحيته وهذا نفس الدور.
نعم لو كان هناك إنشاءان لوجوب التصديق
بحيث يكون أحدهما جزء الموضوع ، والآخر الحكم المترتب عليه ، لارتفع الإشكال.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا
الإشكال بوجوه ثلاثة :
١. انّ قوله : « صدّق العادل في كلّ خبر
ذي أثر » لو كان قضيّة حقيقية ناظرة إلى كلّ فرد فرد من الآثار التي يدل عليها
لفظة « ذي أثر » لصحّ الإشكال ، إذ عندئذ يكون من الآثار هو وجوب التصديق الجائي
من ناحية الحكم ، مع أنّه يلزم أن يكون الموضوع ذا أثر قبل الحكم ، فكيف تكون بعض
الآثار نفس الحكم؟!
وأمّا إذا كانت القضية طبيعيّة والحكم
فيها بلحاظ طبيعة الأثر ، فعندئذ لا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، لأنّه حكم بترتيب
طبيعة الأثر من غير نظر إلى أفراده ، غير أنّ ذلك الأثر في قول زرارة غير الحكم ،
وفي اخبار الصدوق نفس الحكم ، وهذا أمر غير مخل.
٢. انّ قوله : صدّق العادل في كلّ خبر
ذي أثر ، وإن لم يدل بالدلالة اللفظية على ترتيب تصديق العادل للمحذور السابق أعني
وحدة الحكم مع جزء الموضوع ، ولكن بما أنّه لا فرق بين ذلك الأثر ( وجوب التصديق )
وسائر الآثار كالاجتناب وعدمه يترتب على خبر العادل جميع الآثار حتى وجوب التصديق.
٣. عدم القول بالفصل بين هذا الأثر وبين
سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق.
هذا توضيح ما في الكفاية إشكالاً
وجواباً.
يلاحظ
على الجواب الأوّل : بأنّ الإجمال في
مقام الثبوت غير صحيح ، فإذا قال : صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر ، فإمّا يراد
منه أثر غير وجوب التصديق أو الأعمّ منه ومن غيره.
فعلى الأوّل لا يصحّ التعبّد بإخبار
الصدوق ، لعدم الأثر فيما أخبر به ، أعني : إخبار الكليني له ، مع أنّ تصديقه فرع
وجود الأثر في خبره.
وعلى الثاني يعود الإشكال ويلزم أن يكون
الحكم مأخوذاً في الموضوع. والأولى أن يقال : إنّ تصديق الصدوق لا يتوقف على كونه
ذا أثر شرعي وراء كونه جزءاً لثبوت الأثر الشرعي أعني قول العسكري.
وبالجملة : انّ وجوب التصديق فرع عدم
لغوية التعبد بتصديق العادل ، ويكفي في مصونيته عنها ثبوت قول العسكري بهذه
التصديقات المتكررة.
٥. إثبات الحكم لموضوعه
وهذا هو الإشكال الثاني في الكفاية
والإشكال الخامس حسب تقريرنا ، وحاصله :
انّه لو عمّت الدليل للاخبار مع الواسطة
لزم إثبات الموضوع بالحكم ، مع أنّه يتوقف عليه.
توضيحه
: لا شكّ أنّ كلاً من إخبار الشيخ ، والمفيد ، والصدوق ، والكليني ، والصفار ،
موضوعات لقوله : « صدّق العادل » والمحرز لنا بالوجدان هو أوّل السند ، وهو خبر
الشيخ ، وأمّا الباقي فإنّما يثبت ببركة تصديق الشيخ فيما يحكي ، فيلزم أن يكون
الحكم ( صدّق العادل ) مثبتاً للموضوع ، أي قول المفيد بأنّ الصدوق أخبره وهكذا.
وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه ثلاثة :
١. إذا كان خبر له أثر شرعي حقيقة بحكم
الآية ، وجب ترتيب أثره عليه عند اخبار العدل به كسائر ذوات الآثار من الموضوعات ،
لما عرفت من شمول مثل الآية ، للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية.
٢. أو لشمول الحكم فيها له مناطاً إن لم
يشمله لفظاً.
٣. أو لعدم القول بالفصل.
وحاصل الجواب الأوّل : انّ الموضوع
المحرز قبل الحكم وإن كان هو خبر الشيخ عن المفيد فقط ، ولكن لما كانت القضية (
صدّق العادل ) قضية طبيعية لا حقيقية ، يسري الحكم إلى جميع الأفراد المحرزة قبل
الحكم ( خبر الشيخ ) والمحرزة بعده كإخبار المفيد عن الصدوق ، وليست حكمها حكم
القضية الخارجية ، التي يتوقف صدور الحكم على تحقّق الموضوع قبله ، وعلى ذلك
فالموضوعات المحرزة بعد تصديق الشيخ ، تقع تحت الحكم وإن كان الموضوع متأخراً عن
الحكم إحرازاً وثباتاً.
نظير ذلك قول القائل : « كلّ خبري صادق
» فلو أخبر قبله بعشرة أخبار ، فهو كما يعم العشرة هكذا يعم حتى نفسه ، لأنّ
الموضوع هو طبيعة الخبر حتى وإن صار خبراً بهذا الإخبار.
يلاحظ
عليه : أنّ الجواب مبني على أنّ هنا « وجوب
تصديق واحد » فتوصل بهذا الجواب ، وأمّا لو قلنا : إنّ قول القائل : « صدّق العادل
» ينحل حسب تعدد الاخبار إلى قضايا كثيرة ، غير أنّ الموضوع الأوّل لما كان محرزاً
يشمله الحكم بلا تأخير ، ولكن يثبت بفضل تصديق الشيخ موضوع ثان ، وهو خبر المفيد
عن الصدوق ، له وجوب تصديق خاص غير التصديق المتعلق بخبر الشيخ حسب القول
بالانحلال ، فيصدَّق المفيد فيثبت خبر عدل ثالث وهو خبر الصدوق عن الكليني ،
فيشمله وجوب تصديق ثالث متولد من انحلال قوله : « صدّق العادل » وهكذا يثبت
الموضوع اللاحق ببركة ثبوت الموضوع السابق.
وهذا نظير الإقرار بالإقرار ، فيشمله
قوله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فلأنّ الإقرار الثاني يثبت بفضل الإقرار
الأوّل ، ومثله إقامة البيّنة على البيّنة كما لا يخفى.
وفي الختام أعطف نظر القارئ إلى أنّ هذه
الإشكالات نابعة من الدقة
العقلية ، فلا تلتفت
إليها أذهان العامة الذين هم المخاطبون بالخطابات فلا تصير مانعة عن شمول العمومات
، ولو افترضنا أنّ الإشكالات بقيت بحالها ، ولم نتوفق لحلها ، لما كانت مانعة عن
شمول العمومات.
الآية الثانية : آية النفر
قال اللّه تبارك وتعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً
فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون
).
والاستدلال بالآية يتوقف على الكلام في
أُمور :
١. تفسير الآية ، ٢. كيفية الاستدلال ،
٣. ما أشكل على الاستدلال.
الكلام في تفسير الآية
لا شكّ أنّ الآية وردت في سياق آيات
الجهاد ، فانّ الآية المتقدمة عليها والمتأخرة عنها راجعتان إلى الجهاد قال سبحانه
: ( وَلا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ
لِيَجْزيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُون
).
وقال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا
أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقين
).
ومع هذا الارتباط الوثيق بين الآية
وسائر الآيات الحافّة بها فالاستدلال بها على حجّية الخبر الواحد يحتاج إلى فصلها
عن سائر الآيات ، ولنذكر الوجوه
__________________
المحتملة في الآية
حيث فسّرت بوجوه :
الأوّل
: انّ الخطاب متوجه للمؤمنين في المدينة ومَن حولها ، ويخاطبهم بأنّ نفر الجميع
إلى الجهاد أمر غير ممكن لاستلزامه تعطيل أمر الحياة واختلاله ، فأمر بنفر طائفة
من كلّ فرقة لغاية التفقه في ميادين الحرب ، ثمّ إنذار قومهم المتخلفين في المدينة
وما حولها ، عند الرجوع إليهم ، والمراد من التفقّه ما ذكره الطبرسي « ليتبصّروا
ويتيّقنوا بما يُريهم اللّه من الظهور على المشركين ونصرة الدين ، وأمّا الإنذار
عند الرجوع إليهم باخبارهم بنصر اللّه النبي والمؤمنين لعلّهم يحذرون أن يقاتلوا
النبي فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفّار ».
ومزية هذا الوجه أمران :
١. حفظ السياق وصلة الآية بما قبلها من
سائر الآيات.
٢. عدم التفكيك في ضمائرها ، حيث إنّ
الضمائر المتصلة الثلاثة : (
ليتفَقَّهُوا
) و ( ليُنذِروا
) و ( إِذا رَجَعُوا
) ترجع إلى
النافرين.
ولكن الذي يبعده أمور ثلاثة :
أ : انّ الظاهر من التفقّه هو فهم معارف
الدين وتعلّم أحكامه ، وأمّا رؤية النصر في الحروب فهو يوجب مزيّة الثقة بأنّ
اللّه ينصر رسوله والمؤمنين ، كما قال سبحانه : (
إِنّا
لَنَنْصُرُرُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الأَشْهاد )
، وهذا ليس
تفقهاً في الدين ، بل مزيد إيمان باللّه وبما وعد.
ب : انّ النصر لم يكن حليف المسلمين
دائماً ، بل ربما كانوا يرجعون مع النكسة والهزيمة ، كما هو الحال في غزوة أُحد
وحنين ، فلا يمكن أن يكون مثل هذا غاية النفر ، التي يجب أن لا تنفك عنه.
ج : لازم ذلك أن يكون النافرون أفقه من
الذين بقوا في المدينة وتعلموا من النبي كلّ آية نزلت وحديث صدر.
د : القول بأنّ المراد من ( ولينذروا
) هو إنذار
قومهم الكافرين كي لا يقاتلوا النبي ، خلاف الفرض ، لأنّ المفروض ، انّ الخطاب
للمؤمنين من أهل المدينة ومن حولها ولم يكن يوم نزول الآية أيّ كافر فيها ، لأنّها
نزلت في العام التاسع من الهجرة ، وقد أسلمت القبائل في الجزيرة العربية إلا
قليلاً في جانب شمالها قرب الشامات ، إلا أن يفسر الإنذار بتشجيعهم بالتمسّك
بأهداب الإيمان والإسلام.
الثاني
: الخطاب للقاطنين في المدينة والمقيمين فيها والمراد انقسامهم إلى طائفتين ،
طائفة نافرة وطائفة قاعدة ، فغاية النفر ، هو الجهاد ، وغاية القعود ، هو التفقه
في الدين لغاية إنذار النافرين عند الرجوع عن الجهاد ، روى الطبري في تفسيره عن
أبي زيد : انّ معنى الآية (
فَلَولا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين
) أي ليتفقّه المتخلفون
في الدين ، ولينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون.
وعلى هذا الوجه فالصلة بين الآيات
محفوظة مثل السابق ، لكن ويفضل عليه ، بخلوّه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى
الأوّل.
لكن يرد عليه استلزامه التفكيك في مراجع
الضمائر المتصلة ، وعليه فالضمير في (
ليتفقّهوا
) و ( لينذروا
) راجعان إلى
القاعدين ، والضمير في (
إِذا
رَجَعُوا )
إلى النافرين وهو خلاف الظاهر. وهذان الوجهان يشتركان في أنّ الخطاب للمقيمين في
المدينة ، وهناك وجه ثالث وهو يفارق الوجهين بتوجيه الخطاب إلى غيرهم ، وإليك
البيان :
__________________
الثالث
: انّ الخطاب لمؤمني سائر البلاد ، والمراد من النفر ، النفر إلى المدينة للتعلّم
والتفقه ، وعليه يجب أن ينفر من كلّ قبيلة ، طائفة للتفقّه في حضرة النبي لغاية
إنذار قومهم عند الرجوع.
ومزية هذا الوجه ، التحفظ على وحدة
مراجع الضمائر المتصلة وخلوه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الوجه الأوّل ،
غير انّ لازمه الاختزال وقطع الصلة الآيات ، وهو ليس بأمر سهل.
نعم تؤيده روايات كثيرة مذكورة في
التفاسير الروائية.
١. روى الصدوق في عيون الأخبار عن الرضا
7 ـ عند بيان
علل الحج ـ : انّ منها التفقّه ونقل أخبار الأئمة :
إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال اللّه عزّوجلّ : (
فَلَولا
نَفَرَمِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَة
... ).
٢. وروى عنهم : في تفسير قول النبي 6 : « اختلاف أُمّتي رحمة » : انّ المراد
اختلافهم إلى البلدان ، وأنّ الرسول أراد من قوله : « اختلاف أُمّتي رحمة » ، قول
اللّه عزّوجلّ : (
فَلَولا
نَفَرَمِنْ كُلِّ فِرْقَة ... ).
وهذا الوجه أتقن الوجوه ، وهو دليل على
لزوم تأسيس الحوزات العلمية في البلدان لينتقل إليها طلاب العلم وبغاة الفضيلة حتى
يتفقّهوا فيها ويرجعوا إلى بلدانهم للإنذار.
ولكن
يرد عليه : أنّه على خلاف سياق الآية ، فالآية
واردة في ضمن آيات الجهاد ، فكيف يمكن أن تكون مشيرة إلى هذا المعنى؟
نعم يمكن الذبّ عن هذا الإشكال : إمّا
بالالتزام بنزول هذه الآية مرتين : مرة في ثنايا آيات الجهاد ، ومرّة أُخرى مستقلة
ومنفصلة عن آياته ، وليس ذلك
__________________
بعزيز ، فقد نزلت
بعض الآيات مرّتين ، مثل قوله سبحانه : (
وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ).
كما يمكن الذبّ عنه بوجه آخر وهو : انّ
للآية بعدين يتعلّق واحد منهما بأمر الجهاد والآخر بتحصيل العلم والتفقّه ،
والأوّل منهما معلوم من سياق الكلام ، والآخر بعد مجهول يعلم من تفسير الأئمّة
وتبيينهم ، ولا مانع من أن يكون لبعض الآيات بعدان أحدهما معلوم والآخر مجهول
يحتاج إلى التنبيه.
ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي فسّر الآية
بوجه يتّحد مع هذا الوجه ، ولكن لا ترد عليه مشكلة عدم انطباقه على سياق الآيات ،
وإليك بيانه وإن شئت فاجعله رابع الوجوه.
الرابع
: انّ الآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول ، أن ينفروا إلى الجهاد كافة
، بل يحضهم على أن تنفر طائفة منهم إلى النبي 6
للتفقّه في الدين ، وينفر غيرهم إلى الجهاد ، ومعنى الآية انّه لا يجوز لمؤمني
البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً ، فهلاّ نفر وخرج إلى النبي 6 طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين
يتعلموا الفقه ويفهموا الدين فيعملوا به ، ولينذروا ـ بنشر معارف الدين ـ قومهم
إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون.
وعلى ذلك ، فتنفر طائفة للتفقّه ، في
الوقت الذي تنفر طائفة أُخرى للجهاد ، فعندما قضيا حاجتهما يتلاقيان في موطنهما
للإنذار والحذر. فتكون للآية صلة بالجهاد ، وصلة بالتفقّه.
ولا يخفى انّ سياق الآية انّ هنا نفراً
واحداً تقوم به طائفة واحدة لغاية واحدة ، لا نفرين تقوم بهما طائفتان لغايتين
مختلفتين ، كما هو صريح كلامه ،
__________________
أضف إليه : أنّ ظاهر
كلامه أنّ الضمير في (
إذا
رَجَعُوا )
يعود إلى النافرين للجهاد وهو مستلزم للتفكيك في الضمائر ، حيث إنّ الضميرين
السابقين يرجعان إلى النافرين للتفقّه.
المقام الثاني : الاستدلال
بالآية
الاستدلال بها يتم على تفسيرها بالوجه
الثاني أو الثالث دون الوجه الأوّل ، وقد قرره الشيخ الأعظم في الفرائد بوجوه
ثلاثة ، وتبعه المحقّق الخراساني ، ويشكل الحجر الأساس لجميع الوجوه هو : إثبات
وجوب الحذر للمقيمين أو المتخلفين ، وإليك تقريرها بوجوه ثلاثة.
التقرير الأوّل : محبوبية
الحذر يلازم وجوبه
١. انّ أدوات الاستفهام والتمنّي
والترجّي تستعمل في كلام الواجب وغيره في معنى واحد ، وهو إنشاء هذه المفاهيم ،
وإنّما يختلفان في المبادئ فالمبدأ للترجي في كلامه سبحانه إظهار محبوبية الحذر عن
العقوبة ، وفي غـيره ، هو الجهل بالوقوع.
٢. انّ حسن حذر المنذَر عند إنذار
المنذِر ، في مورد الآية يدل على وجود المقتضي فيه ، وهو قيام الحجّة على أمر
يستلزم فعله أو تركه العقوبة ، وإلا فلا يحسن الحذر ، لقبح العقاب بلا بيان ، وليس
الحجّة إلا قول المنذِر وخبره الذي تعلّمه ورجع وأدّى رسالته.
وبعبارة أُخرى : من قال برجحان الحذر
قال بوجوبه لا باستحبابه ، لأنّ الأُمّة في مورد حجّية الخبر الواحد على قولين :
١. خبر الواحد حجّة ، وهو عبارة أُخرى
عن وجوب الحذر.
٢. عدم كونه حجّة ، وهو عبارة أُخرى عن
عدم وجوبه لا القول باستحبابه ، فالقول به إحداث قول ثالث.
التقرير الثاني : لزوم
اللغوية لولا وجوب الحذر
إنّ الإنذار واجب بحكم كونه غاية للنفر
الواجب بحكم « لولا » التحضيضية ، فإذا وجب الإنذار ، وجب التحذّر أيضاً ، وإلا
لغى إيجاب الإنذار ، والفرق بين التقريرين واضح.
فالتقرير الأوّل ، يتطرّق إلى إثبات
وجوب الحذر ، من حسنه الملازم لوجوبه ، والمراد من الحذر هناك هو الحذر النفساني ،
وهذا التقرير يتطرّق إلى وجوبه من أنّه لولا وجوب الحذر لغى الإنذار الواجب.
ونظيره في الفقه ، قولهم بأنّه يحرم على النساء كتمان ما في أرحامهنّ ، الملازم
لحجّية قولهن ، وإلا لغى التحريم ، قال سبحانه : (
وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ في أَرْحامِهِنَّ
).
التقرير الثالث : غاية
الواجب واجب
إنّ الحذر غاية للإنذار والنفر الواجبين
، وغاية الواجب واجب ، لأنّ وجوبهما لأجل تلك الغاية ، فلا يعقل أن تكون المقدمة
واجبة دون ذيها ، والمراد من الحذر في هذا التقرير هو الحذر العملي أي الأخذ بقول
المنذِر ، وهو عبارة أُخرى عن كونه حجّة.
المقام الثالث : إشكالات
الاستدلال
إذا عرفت وجوه الاستدلال بالآية فاعلم
أنّه قد أُشكل على كلّ تقرير
__________________
بإشكال ، فقد أورد على التقرير الأوّل ،
ما يلي :
١. حسن الحذر لا يلازم حجّية
قول المنذر
إنّ لحسنِ الحذر موردين :
الأوّل
: فيما إذا قامت الحجّة على التكليف الواجب ، أو الحرام فيحسن الحذر ، وبالتالي
يجب الخوف من العقاب لقيام الحجّة وهو قول المخبر ، وعلى هذا يكون خبر الواحد
حجّة.
الثاني
: فيما إذا أخبر المخبر بوجوب الشيء أو بحرمته فهو عند ذلك يخبر عن وجود المصلحة
أو المفسدة في الترك أو الفعل ، فيحسن الحذر ـ وإن لم يكن قوله حجّة ـ وذلك لأنّه
وإن لم يكن حجّة لكنّه محتمل الصدق ، وهو يلازم خوف فوت المصلحة ، والوقوع في
المفسدة ، وإن لم يلازم احتمال العقاب لافتراض عدم ثبوت حجّية قوله ، ومن المعلوم
انّ المصالح والمفاسد من الأُمور الوضعية التي تترتب على الترك والفعل سواء كان
الفاعل عالماً أو جاهلاً.
وبالجملة احتمال صدق المخبر ـ وإن لم
يكن قوله حجّة ـ كاف في حسن الحذر لئلاّ تفوت المصلحة الدنيوية المحتملة أو لا يقع
في المفسدة كذلك.
وعلى ذلك فالحذر مستحب لا واجب ، وما
قيل من أنّه إحداث قول ثالث غير مخل إذ فرق بين عدم وجود القول الثالث وبين
الاتّفاق على عدم إحداث قول ثالث ، فالمورد من قبيل القسم الأوّل لا الثاني.
٢. عدم القبول لا يلازم
اللغوية
أورد المحقّق الخراساني على التقرير
الثاني إشكالاً بأنّه لا تنحصر فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً.
توضيحه
: أنّ الغاية ليست منحصرة في القبول ، بل هنا فائدة أُخرى وهي انّ إخباره يكون
مقدمة لحصول التواتر ، كما هو الحال في من رأى الهلال فيخبر وإن لم يكن حجّة لكنّه
إذا ضمّ إليه مخبر آخر يكون حجّة.
إلى هنا تمّ الوجهان :
ثمّ إنّ المحّقق الخراساني أورد على
التقرير الثالث إشكالاً بما يلي :
٣. عدم الإطلاق في وجوب
الحذر
وحاصل هذا الإشكال : انّه لو سلّمنا
وجوب الإنذار ووجوب الحذر ، فالآية إنّما تدل على وجوب الإنذار والحذر على وجه الإجمال
لا على التفصيل ، فلعلّه يكون هناك شرط آخر للإنذار أو لوجوب الحذر لم تتطرق إليها
الآية لعدم كونها في مقام البيان ، يقول المحقّق الخراساني : « وبعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ضرورة
انّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غائية التحذر ولعلّ وجوبه كان مشروطاً
بما أفاده العلم ».
أقول
: هذا هو الإشكال المهم في المقام وهو وارد على جميع التقارير لا على التقرير
الثالث فقط كما هو ظاهر الكفاية ، ولو قرر هذا الإشكال بوجه واضح لاتّضح عدم دلالة
الآية على حجّية خبر الواحد ، وإليك البيان :
تطرح الآية أُموراً ثلاثة وهي :
أ. تقسيم العمل ، ب. وجوب الإنذار ، ج.
وجوب الحذر.
أمّا الأمر الأوّل ، فالآية بالنسبة
إليه في مقام البيان وتصرّح بأنّ مسألة التعليم والتعلم كسائر المسائل الاجتماعية
لابدّ فيها من تقسيم العمل وأن يقوم
__________________
بها طائفة من
المؤمنين ، كما هو الحال في سائر الأُمور الاجتماعية.
وأمّا الأمر الثاني : أي كيفية الإنذار
وهكذا الثالث : أي وجوب الحذر ، فهما من الأُمور الجانبية الواردة في الآية ،
فليست الآية في مقام بيان كيفيتهما وانّه يجب الإنذار على النافر سواء أفاد العلم
أم لم يفد ، أو يجب الحذر على المقيم أو المتخلّف سواء حصل له العلم أو لا.
والاستدلال مبني على وجود الإطلاق في
ذينك الجانبين مع أنّ ورودهما في الآية ورود استطرادي لا اصالي.
ويدل على ذلك أمران :
١. الإتيان بلفظ كافة في الآية الأُولى
، أعني : ( وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّة
) فانّه يعرب
عن أنّ الآية تركّز البحث على تقسيم العمل لا على كيفية الإنذار أو الحذر.
٢. لو كانت الآية بصدد بيان كيفية
الإنذار كان عليه ذكر الشرط اللازم للحذر ، وهو كون المنذِر ثقة.
نعم ، أتعب السيد المحقّق الخوئي 1 نفسه الشريفة ، فحاول أن يثبت انّ
الآية في مقام البيان وانّها نظيرة : (
يا
أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيديَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَين ).
ولكن هذا قياس مع الفارق فانّ صدر الآية
الثانية يشهد بأنّها في مقام بيان حدود الوضوء وشروطه وجزئياته ، فلو شكّ في جزئية
شيء أو شرطيته صحّ التمسك بالإطلاق في نفي المشكوك ، وهذا بخلاف المقام فالآية
تركّز على الأمر
__________________
الخاص وهو تقسيم
العمل وقيام عدّة بهذه الوظيفة المهمة ، وأمّا سائر الجوانب فقد طرحت جانبياً.
٤. وجوب الحذر إذاكان
الإنذار بالأمر الواقعي
إنّ التفقّه الواجب ليس إلا معرفة
الأُمور الواقعية من الدين ، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأُمور المتفقه
فيها ، فالحذر لا يجب إلا عقيب الإنذار بها ، فإذا لم يعرف المخاطب ان الإنذار هل
وقع بالأُمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمداً لم يجب الحذر ، فانحصر
وجوب الحذر إذا علم المتحذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية.
يلاحظ
عليه : أنّه لا وجه لهذا الإشكال بعد تسليم
الإطلاق في جانبي الإنذار والحذر ، فلو قلنا بأنّ الآية تدل بإطلاقها على أنّه يجب
على المنذر الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد ، ويجب على المقيم الحذر مطلقاً
كذلك كشف ذلك عن أنّ الشارع أمر بتلقّي إنذاره إنذاراً بالأمر الواقعي ، فيجب
الحذر على السامع لكونه إنذاراً به.
نعم لو أنكرنا الإطلاق ، كان لهذا
الإشكال وجه
، والظاهر انّ الإشكال بعد تسليم الإطلاق وأمّا مع إنكاره فلا مجال له.
٥. الإبلاغ مع التخويف غير
نقل القول
وهذا هو الإشكال الخامس الذي طرحه الشيخ
، وحاصله : انّ المطلوب في المقام هو إثبات انّ حكاية الراوي قول الإمام حجّة
للمجتهد ، دون فهمه منه ،
__________________
وربما يكون بينهما
اختلاف في فهم المراد مع الاتفاق على اللفظ ، وهذا هو المطلوب في المقام. والآية
لا تفي بذلك ، لأنّها تركّز على الإنذار ، وهو الإبلاغ مع التخويف ، بحيث يكون
نقله وفهمه منها حجّة على المنقول إليه ، وهذا لا ينطبق إلا على المجتهد بالنسبة
إلى مقلِّده ، فالآية تركز على أنّ الراوي إذا تفقّه في الدين وفهمه ثمّ بلغه مع
الإنذار ، يجب على السامع ، الحذر والقبول وأين هذا ، من حجّية مجرّد حكاية قول
الإمام للطرف ، بلا قيمة لفهمه من الدين ودركه من الرواية وإنذاره حسب ما فهم؟
والظاهر انّ الإشكال وجيه خصوصاً
بالنسبة إلى لفظة (
ليتفقّهوا
في الدين )
فانّه عبارة عن فهم الدين حقيقة ، فالآية تنص على أنّه يجب على طائفة التفقه في
الدين ، ثمّ إبلاغ رسالات اللّه إليهم بالتخويف والإنذار ، وهذا لا يقع إلامن
شخصين :
١. كون المنذر واعظاً ينذر الناس بما
يعلمه الناس من الحلال والحرام ، فيكون دوره هو التذكير ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنين ).
٢. كون المنذر فقيهاً فهيماً للدين
مبلِّغاً لأحكام اللّه سبحانه مع التخويف.
وأين هذا من حجّية حكاية الراوي قول
الإمام بما هو حاك وناقل ، من دون أن يكون له شأن الإنذار وللسامع شأن الحذر؟
وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال
بأنّ الإنذار وإن كان هو الإخبار الشامل على التخويف ، إلا أنّه أعمّ من الصراحة
والضمنية فانّه يصدق الإنذار على الاخبار المتضمن للتخويف ضمناً وإن لم يصرّح به
المنذر.
__________________
يلاحظ
عليه : بأنّ الآية ظاهرة في من يتصدّى لأمر
الإنذار ، بعد التفقّه ، ولا يصدق ذلك على من لا شأن له سوى نقل الرواية وحكاية
الألفاظ ، من دون أن يتصدى لمقام الإنذار.
نعم يمكن أن يقال انّ العرف يساعد على
إلغاء الخصوصية ، فإذا كان نقله كلام الإمام مع التخويف حجّة ، فيكون نقله المجرد
أيضاً حجّة وإن لم يكن فهمه وتخويفه حجّة للمنقول إليه.
والحاصل : انّ المنذر يعتمد على أمرين :
السنّة ، وتحليلها للمنقول إليه ، فإذا كان المنقول إليه عامياً يأخذ كلا الأمرين
، وأمّا إذا كان مجتهداً مثل المنذِر ، أو إذا كان الناقل عامياً فاقداً للتخويف ،
يأخذ كلام الإمام ويستقل في فهمه.
فقد خرجنا بالنتيجة التالية :
١. انّ الآية فاقدة للإطلاق في كيفية
الإنذار والحذر.
٢. انّ الآية ، تركز على من يتصدّى بعد
التفقّه ، منصب الإنذار والإبلاغ التخويف ، ولا يدل على حجّية نقل العامي كلام
المعصوم مجرداً عن التفقّه والإنذار والحذر إلا إذا قلنا بإلغاء الخصوصية.
الآية الثالثة : آية الكتمان
قال عزّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا
مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ
أُولئِكَ يَلْعَنهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنهُمُ اللاّعِنُون
).
تقرير الاستدلال : انّه سبحانه يذمُّ
أهل الكتاب لكتمانهم البشارات الواردة في كتبهم بظهور النبي القرشي الهاشمي العربي
مع أنّهم كانوا يعرفونه كما يعرفون
__________________
أبناءهم قال سبحانه
: ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُم
) . وقال سبحانه : ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
) . فالآية تدل على تحريم كتمان البيّنات
وبالتالي تدل على وجوب القبول وإلا لغت حرمة الكتمان.
يلاحظ
عليه : أنّ إيجاب البيان بلا قبول أصلاً
يستلزم كونه لغواً وأمّا إذا كان القبول مشروطاً بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو
العلم القطعي فلا تلزم اللغوية نظير تحريم كتمان الشهادة ، قال سبحانه : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ).
ومع أنّ إظهار الشهادة واجب ولكن قبولها
مشروط بالتعدّد ، وأمّا قياس المورد بحرمة الكتمان على النساء كما ورد في قوله
سبحانه : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ في أَرْحامِهِنَّ
) فقياس مع الفارق ، إذ ليس في موردها من
تضم شهادته إلى شهادتها ، فلا محيص من قبولها ، وهذا بخلاف شهادة الشاهد وأخبار
الراوي فانّ لها صوراً مختلفة كما أوضحناه.
أضف إلى ذلك انّ الآية بصدد بيان تحريم
الكتمان على العلماء ، نظير قوله 6
: « إذا ظهرت البدع ، فعلى العالم أن يُظهر علمَه » وأمّا ما هو شرط القبول فهو
موكول إلى الأدلّة الأُخرى.
الآية الرابعة : آية السؤال
قال سبحانه : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجالاً
نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ
__________________
الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ).
وقال عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلا رِجالاً نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَسأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون * وما
جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الْطَّعامَ وَما كانُوا خالِدين ).
ويقع الكلام في أُمور ثلاثة :
١. تفسير الآية.
٢. الاستدلال بالآية.
٣. تحليل الإشكالات حول الاستدلال.
وإليك الكلام في الأمر
الأوّل :
إنّ ذيل الآية الثانية يحكي عن سبب
نزولهما وهو أنّ مشركي مكة كانوا يُنكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبيّن سبحانه
بأنّ حكمته اقتضت أن يبعث الرسل من البشر ليشاهدوه ويخاطبوه ، ولم يكن الرسل
المبعثون إلى الأُمم الماضية ملائكة (
جسداً لا
يأكلون الطّعام ) بل كانوا بشراً يأكلون كما يأكل سائر
الناس وماتوا كما مات الآخرون وما كانوا خالدين ، ولأجل رفع جهلهم أمر بالرجوع إلى
أهل الذكر والعلم ، يعني السيرة المستمرة بين العقلاء من الرجوع إلى أهل العلم
فيما لا يعلمون.
هذا هو مفاد الآية التي نزلت في سورتين
باختلاف يسير بينهما ، حيث اشتملت الآية الأُولى على لفظة حرف الجر « من » قبلك ،
دون الآية الأُخرى ، وما هو الوجه في ذاك الاختلاف فعلى عاتق الأدب.
__________________
وأمّا
الأمر الثاني : أعني كيفية
الاستدلال فقد استدل به صاحب الفصول ، وقال : إنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول
الجواب ، وإلا لغى وجوب السؤال ، فإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّما يصح أن يسأل
عنه ويقع جواباً له واحتمال خصوصية المسبوقية بالسؤال ، منتف جداً.
وأمّا
الأمر الثالث : فقد أورد على
الاستدلال بوجوه :
١. المراد من أهل الذكر أهل
الكتاب أو الأئمّة :
إنّ المراد من أهل الذكر ، حسب سياق
الآيات هو علماء أهل الكتاب ، حيث إنّ المشركين كانوا ينكرون بعث البشر رسولاً ،
فأحالهم سبحانه إلى علماء أهل الكتاب العارفين بأحوال الأُمم حتى يسألونهم عمّن
بعث اللّه رسولاً ، فهل كانوا بشراً أو كانوا ملائكة لا يأكلون ولا يشربون؟
كما أنّ المراد منهم ـ حسب الروايات ـ
هم الأئمّة المعصومون :
، فقد عقد الكليني في أُصول الكافي باباً لذلك ، وأخرج فيه روايات بين صحيحة وحسنة
وضعيفة ، وعلى كلّ تقدير لا يشمل غير الطائفتين.
يلاحظ
عليه : أنّ الآية تذكّر المشركين بقاعدة
سائدة بين العقلاء وهو رجوع الجاهل إلى العالم ، ويختلف مصداقه حسب اختلاف الموارد
، وفي مورد رفع شبهة المشركين فالمرجع الصالح المقبول عندهم ، هو علماء أهل الكتاب
، وفي مورد فهم معالم الإسلام ودرك حقائق الكتاب والسنّة فالمرجع هم العترة حسب
حديث الثقلين ، كما أنّ المرجع للعامي في عرفان الوظيفة هو المفتي وهكذا ، فلا
السياق آب عن الاستدلال ولا الروايات ، بعد كون الجملة حاملة لمعنى عقلائي له
مصاديق مختلفة حسب اختلاف الموضوعات ، عبر الزمان.
٢. السؤال لغاية تحصيل العلم
إنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم
العلم وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبداً ، كما يقال في
العرف : سل إن كنت جاهلاً ، ويؤيّده أنّ الآية واردة في أُصول الدين وعلامات النبي
التي يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعاً.
يلاحظ
عليه : تختلف الغاية من السؤال حسبَ اختلاف
واقع السؤال ، فإن كان ممّا يجب أن يُعْلَم ، فالسؤال لغاية العلم به ، وإن كان
ممّا يجب أن يعمل به كالأحكام فالسؤال لتلك الغاية سواء أفاد العلم أو لا ، لا
أقول باختصاص الآية لوجوب السؤال للعمل بالجواب ـ كما ذكره الشيخ ثمّ اعترض عليه ـ
بل يجب السؤال للغاية الخاصة به ، فهي تعمّ السؤال للعلم والاعتقاد أو السؤال
للعمل.
على أنّ العامي إذا رجع إلى من قوله
حجّة ، يحصل له العلم بالوظيفة وإن لم يحصل له العلم بالواقع.
٣. المراد من أهل الذكر هو
أهل العلم لا ناقل الحديث
إنّ الذكر في الآية بمعنى العلم ،
والآية تدل على حجّية قولهم بما هم أهل العلم والفكر ، لا بما هم نَقَلَة الحديث
وحملته عن طريق البصر والسمع ، كما إذا رأى فعل الإمام وسمع كلامه ونقل فلا يقال
له إنّه من أهل الذكر والعلم.
وبعبارة أُخرى : أهل الذكر هم الذين
يَضمُّون فكرهم وفهمهم إلى كلام الإمام ، ويستخرجون مراده بفكرهم الثاقب ، وذهنهم
الصائب ، وليس هذا إلا المجتهد بالنسبة إلى مقلده.
__________________
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما
أشار إليه الشيخ أيضاً في ذيل كلامه وحاصله : أنّ أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وأبان
بن تغلب كانوا من أهل الذكر والعلم ، أي كانوا يضمُّون فهمهم إلى كلام الإمام
وقوله ، وإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول
روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين
المبتداء والمسبوق ، ولابين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكونون من أهل الذكر وإنّما
يروي ما سمعه أو رآه.
يلاحظ
عليه : أنّ الرجوع إلى زرارة والسؤال عمّا
استحصله من الآراء والنظريات من القرآن والسنة فهو سؤال أهل الذكر ، وأمّا سؤاله
عن مسموعاته ومبصراته ليس سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر ، فالآية لا تشمل مثل
هذا في المقيس عليه ( زرارة ) فكيف المقيس؟! فلا تشمل الآية سؤال من رأى الفعل
وسمع القول بلا إعمال نظر وفكر ، فالآية أصلح للاحتجاج على جواز التقليد.
والأولى أن يجاب ـ بما ذكرنا في آية
النفر ـ : من أنّه إذا كان نقل رواية زرارة كلام الإمام مع إعمال النظر والفكر
حجّة ، فالعرف يساعد على إلغاء الخصوصية بحجّية مجرّد روايته ، إذ الأساس هو كلام
المعصوم ، وفهمه طريق إلى فهم مقاصد الإمام ، فإذا استغنى المنقول إليه عن الحجّة
الثانية لكونه مجتهداً ، غير مقلد ، فلا وجه لعدم حجّية مجرّد نقله فعل الإمام
وقوله.
٤. وجوب السؤال لا يلازم
وجوب القبول
إنّ المستدل تطرّق إلى حجّية جواب
المجيب بأنّه لو وجب السؤال ولم يجب القبول يكون السؤال لغواً ، مع أنّه ليس كذلك
لما عرفت في آية الكتمان من أنّ وجوب إظهار الشهادة لا يلازم وجوب القبول ، كما لا
يلزم من عدم قبولها
اللغوية ، وفي
المقام نقول : يجب عليه السؤال إلى أن يحصل له العلم ، فكلّ سؤال يشكل شيئاً من
الظن حتى ينتهي السائل إلى العلم.
٥. الآية ليست بصدد البيان
الآية بصدد بيان قاعدة كلية ربما يكون
أمراً فطرياً ، وهو أنّه يجب على الجاهل أن يرجع إلى العالم ، وأمّا ما هو شرط
قبول قوله فهل يكفي الواحد ، أو يشترط التعدد ، أو إفادته العلم؟ فليس بصدد بيانه
، والشاهد على ذلك أنّه لم يذكر شرط الوثاقة في المجيب الذي هو من أوضح شرائط
القبول.
الآية الخامسة : آية الإذن
(
وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيم
).
يقع الكلام في تفسير الآية أوّلاً ،
وكيفية الاستدلال ثانياً ، والإشكالات المتوجهة إليها ثالثاً ، وإليك البيان :
١. تفسير الآية :
أ. انّ الضمير في قوله : ( وَمِنْهُمْ
) يرجع إلى
المنافقين ، وسبقته ضمائر أُخرى كلّها ترجع إلى المنافقين نظير :
(
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
).
__________________
(
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا
).
(
وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُن
).
ب. الأُذن جارحة السمع المعروفة ، وقد
أطلقوا عليه الأُذن وسمّوه بها كناية عن أنّه يصغي لكلّ ما قيل له ويستمع إلى كلّ
ما يذكر له فهو اذن.
ج. قوله : (
أُذنُ خَير
لَكُم )
: ربما يفسّر بأنّه سمّاع يسمع ما فيه خيركم ، أي الوحي ، وعلى هذا فالمسموع خير ،
لكن يبعده انّه لو كان هذا هو المراد لما كانت حاجة إلى قوله : ( لكم
) لأنّ الوحي
خير لعامّة الناس فلا يكون للتخصيص وجه.
والأولى أن يفسّر ويقال انّه من قبيل
إضافة الموصوف إلى الصفة أي أُذن خير وانّ نفس استماعه لعامة الاخبار خير لكم ،
فربّ مخبر ، يخبر عن اقتراف الكبائر وآخر يكذبها والنبيُّ يستمع الجميع ولا يكذب
أحداً لئلاّ يهتك سترهم وهذا النوع من الأُذن فيه خير المجتمع.
د. قوله : (
يُؤْمِنُ بِاللّهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤُمِنين ) ، الباء في الأوّل للتعدية كقوله
سبحانه : ( كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ
وَاليْومِ الآخِر )
، ويحتمل في الثاني أن يكون كذلك مثل قوله : (
فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ وَقالَ )
وقوله : ( فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ
) لكن الظاهر أنّها ليست للتعدية ، وإلا
لما كان وجه للعدول من الباء إلى اللام; بل للانتفاع ، أي يصدقهم لكون التصديق
لصالحهم.
__________________
والمراد من المؤمنين في قوله : ( لِلْمُؤْمِنين
) المجتمع
المنسوب للإيمان سواء كانوا مؤمنين حقيقيين أو لا ، بقرينة قوله بعده : ( وَرَحْمَةٌ لِلَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
) فانّ المراد
منه ، هو المؤمنون حقّاً.
هـ. ثمّ إنّ التصديق الذي يكون لصالح
جميع المجتمع المنسوب إلى الإيمان هو التصديق المخبرِيّ دون التصديق الخبري ، أي
فرض المخبر صادقاً لا كاذباً بمعنى انّه معتقد بصدق خبره وإن كان كاذباً لا يطابق
الواقع ، لا إعطاء الصدق للخبر وانّه يطابق الواقع ، إذ عندئذ يكون لصالح طائفة من
المجتمع دون الجمع.
والحاصل : انّه يحترم الجميع ويصدقهم
بما انّهم مخبرون ، لا انّه يصدق أخبارهم ويفرضها عين الواقع ، لأنّ ذلك لا يكون
إلا لصالح جماعة دون أُخرى.
هذا هو تفسير الآية ، وعليه وردت روايات
كلّها تعرب عن أنّ المنافقين كانوا يتهمون النبي بأنّه إنسان ساذج يصدِّق كلّ خبر
يصل إليه. روي أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقاً ، كان يقعد لرسول اللّه فيسمع
كلامه وينقله ، ولما أطْلَع اللّه النبي على عمله دعاه رسول اللّه فأخبره ، فحلف
انّه لم يفعل ، فقال رسول اللّه : قد قبلت منك فلا تفعل ، فرجع إلى أصحابه فقال :
إنّ محمداً أُذن أخبره اللّه انّي أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبله ، وأخبرته انّي
لم أقل ولم أفعل فقبله ؛ فنزلت الآية.
هذا هو تفسير الآية.
٢. في كيفيّة الاستدلال
فقد نقله الشيخ بأنّه سبحانه مدح رسوله
بتصديقه للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق باللّه جلّ ذكره ، فإذا كان التصديق حسناً
يكون واجباً.
ويزيد في
__________________
تقريب الاستدلال
وضوحاً ما رواه في الكافي : انّه كان لإسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير وأراد رجل
من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال له أبو عبد اللّه : « يا بُنيّ أمابلغك انّه
يشرب الخمر؟ » قال : سمعت الناس يقولون. فقال : « يا بني انّ اللّه عزّوجلّ يقـول
: ( يُؤْمـنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنين ) يقول يصدق اللّه ويصدق للمؤمنين
، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ولا تأمن من شارب الخمر ».
٣. ما أورد على الاستدلال من
الإشكال
١. إنّ المراد من الأُذن السريع التصديق
، والاعتقاد بكلّ ما يسمع ، فمدحه بحسن ظنه بالمؤمنين وعدم اتهامهم ، فالعمل
بقولهم لاعتقاده بصدقه. وأين هو من العمل دون الاعتقاد؟!
يلاحظ
عليه : أنّ تفسير الأُذن بسريع الاعتقاد ليس
من المحاسن ، لأنّه أشبه بالقطّاع ، أضف إلى ذلك أنّه ربّما لا يمكن الاعتقاد بكلّ
ما سمع إذا استلزم الخبران الاعتقاد بالمتضادين.
٢. انّ المراد من التصديق في الآية في
مرحلة الكلام من دون تجاوز عنه إلى القلب ، فضلاً عن العمل ، وإلى هذا يرجع ما
قلنا :
من أنّ المراد من التصديق ، التصديق
المخبرِي ، لا التصديق الخبري ، ويشهد له كلام الإمام لولده إسماعيل ، حيث أمره
بتصديق الناس ، وليس المراد تصديق الناس في مورد القرشي جداً على نحو لو تمكن
الإمام أجرى عليه الحدّ ، بل الحذر منه والعمل على وفق الاحتياط وعدم دفع المال
إليه.
والحاصل
: انّ التصديق على قسمين : أخلاقي ، وعملي. والمقصود هنا هو
__________________
الأوّل فلا يكذب
المخبر بخلاف الثاني ، ففيه يترتب الأثر الشرعي كما هو الحال في إجراء أصالة
الصحّة في فعل الغير ، فالاستدلال ناش من الخلط بين التصديقين.
تمّ الكلام عن الآيات التي استدل بها
على حجّية الخبر الواحد ، وقد عرفت عدم دلالة واحدة منها على الحجيّة.
الاحتجاج على حجّية الخبر
الواحد بالسنّة
قد يحتج على حجّية السنّة المحكية
بالخبر الواحد بالسنّة ، وصحّة الاحتجاج رهن كون ما يحتج به خبراً متواتراً ليكون
دليلاً قطعياً على حجّية الخبر الواحد المفيد للظن ، ولا يكفي الآحاد منها سواء
كانت مستفيضة أو غيرها.
وقد جمع الشيخ الحرّ العاملي ما ورد في
هذا المجال في كتاب القضاء خصوصاً في الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر من أبواب
صفات القاضي ، وهي على طوائف خمس حسبما قسّمها الشيخ الأنصاري في الفرائد.
ونحن نذكر مقداراً من كلّ طائفة ولكن
نخالفه في كيفية السرد ، وعلى كلّ تقدير يقع الكلام في مقامات :
الأوّل
: عرض الروايات.
الثاني
: كيفية الاستدلال.
الثالث
: تحليل الإشكالات.
__________________
الطائفة الأُولى : الروايات
الإرجاعية إلى الرواة بذكر سماتهم وأوصافهم :
١. مقبولة عمر بن حنظلة قال : « ينظران
من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ،
فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ». فانّها وإن وردت في القضاء لكن حجّية
قضائه لأجل كون روايته مقبولة ، والمتبادر من الجمل الثلاث كونه ذا نظر ، وذلك
لأجل نصبه على الحكم والقضاء ، كما قال : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً » وإلا لم
يكن لذكره وجه.
٢. التوقيع المعروف : « وأمّا الحوادث
الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة اللّه
». فقد أخذ
مطلق راوي أحاديث أهل البيت موضوعاً للحجّية.
٣. التوقيع الشريف : الذي ورد على
القاسم بن العلا ، وفيه : « فانّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه
عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بانّا نفاوضهم سرنا ونحملهم إيّاه إليهم ». وقد أخذ الوثاقة موضوعاً للحكم وراء
كونه راوياً.
٤. رواية علي بن سويد السائي قال : كتب
إليّ أبو الحسن 7
وهو في السجن : « وأمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذن معالم
دينك عن غير شيعتنا ».
فاكتفى في جواز الأخذ كون الراوي شيعياً.
٥. رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد
اللّه 7 : « اعرفوا
منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا ».
__________________
٦. رواية أحمد بن ماهويه قال : كتبت إلى
أبي الحسن الثالث 7
أسأله عمّن آخذ معالم ديني ، وكتب أخوه أيضاً بذلك ، فكتب إليهما : « فهمتُ ما
ذكرتما ، فاصمِدا في دينكُما على كلّ مسن في حبنا وكلّ كثير القدم في أمرنا ». فالموضوع للقبول من عمّر في حبّ أهل
البيت وكثير القدم في أمرهم.
إلى غير ذلك من الروايات الإرجاعية إلى
لفيف من شيعتهم بذكر صفاتهم وسماتهم لا بذكر أسمائهم.
الطائفة الثانية : الإرجاع
إلى آحاد الرواة بذكر أسمائهم
ونذكر من الطائفة ما يلي :
٧. رواية أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن 7 قال : سألته وقلت : مَن أُعامل وعمّن
آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال : « العمريّ ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ،
وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع وأطع فانّه الثقة ، المأمون ».
٨. رواية أبان بن عثمان ، عن أبي عبد
اللّه 7 قال له : «
إنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي روايات كثيرة ، فما رواه لك عنّي فاروه عنّي ».
٩. رواية يونس بن عمار أنّ أبا عبد
اللّه 7 قال له في
حديث : « أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر ، فلا يجوز لك أن تردّه ».
١٠. رواية المفضل بن عمر ، عن أبي عبد
اللّه 7 قال للفيض
بن المختار في حديث : « فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس » وأومأ إلى رجل من
أصحابه فسألت أصحابنا عنه؟ فقالوا : زرارة بن أعين.
١١. روى الحسن بن علي بن يقطين ، عن
الرضا 7 قال : قلت :
لا أكاد
__________________
أصل إليك ، أسألك عن
كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج
إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم ».
١٢. رواية أبي بصير قال : إنّ أبا عبد
اللّه 7 قال له في
حديث : « لولا زرارة ونظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب ».
١٣. رواية شعيب العقرقوفي ، قال : قلت
لأبي عبد اللّه 7
: ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال : « عليك بالأسديّ » يعني أبا
بصير.
١٤. رواية جميل بن دُرّاج قال : سمعت
أبا عبد اللّه 7
يقول : « بشر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية البجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري
المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أُمناء اللّه على حلاله وحرامه ،
لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست ».
إلى غير ذلك من الروايات التي تُرجِعُ
الشيعة إلى أشخاص معيّنين ، ويوصفهم بالوثاقة والأمانة معرِباً عن كون الوثوق
بالقول هو مناط الأخذ.
الطائفة الثالثة : الأخبار
العلاجية
إنّ الأخبار العلاجية ، على قسمين : قسم
يأمر بالأخذ بذي المزية من الخبرين ، وقسم يأمر بالتخيير. وسيوافيك الجميع في باب
التعادل والترجيح.
أمّا القسم الأوّل فمنه ما يلي :
١٥. ما يأمر بأخذ خبر أعدل الراويين
وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما.
__________________
١٦. ما يأمر بالأخذ بموافق الكتاب :
كرواية عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه قال : قال الصادق 7 : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان
فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه
».
١٧. ما يأمر بأخذ ما خالف العامّة :
كرواية عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه المصري ، قال : قال الصادق 7 : « فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه
فأعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه
».
وأمّا القسم الثاني الذي يأمر بالتخيير
فمنه ما يلي :
١٨. رواية الحسن بن الجهم ، عن الرضا 7 قال : قلت له : ... يجيئنا الرجلان
وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : « فإذا لم تعلم فموسّع
عليك بأيّـهما أخذت ».
١٩. رواية الحارث بن المغيرة ، عن أبي
عبد اللّه 7 قال : « إذا
سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد إليه ». إلى غير ذلك من الروايات الآمرة
بالتخيير.
الطائفة الرابعة : الواردة
في الحث على نقل الحديث وكتابته ونشره
قد جمع صاحب الوسائل الشيء الكثير ممّا
يدل على بثِّ الحديث وكتابته في الباب الثامن من أبواب صفات القاضي ، ومن أراد
فليرجع إليه. لكن نذكر في المقام بعض الكتب التي عرضت على الأئمة فصدقوها.
__________________
٢٠. روي عن أبي عمرو المتطبب انّه قال :
عرضته على أبي عبد اللّه 7
، يعني كتاب ظريف في الديات.
٢١. روى يونس بن عبد الرحمان في حديث
قال : أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر 7
ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه 7
متوافرين فسمعت واحداً واحداً ، وأخذت كتبهم فعرضتها بعدُ على الرضا ، فأنكر منها
أحاديث.
٢٢. روى أحمد بن أبي حنف قال : كنت
مريضاً فدخل عليّ أبو جعفر 7
يعودني عند مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى
عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : « رحم اللّه يونس ، رحم اللّه يونس ، رحم
اللّه يونس ».
٢٣. روى داود بن القاسم الجعفري قال :
أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمان على أبي الحسن العسكري 7 ، فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : «
هذا ديني ودين آبائي كلّه ، وهو الحقّ كلّه ».
٢٤. روى بورق البوشجاني قال : خرجت إلى
سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمد 7 وأريته ذلك الكتاب وقلت له : إن رأيتَ
أن تنظر فيه وتصفّحه ورقة ورقة فقال : « هذا صحيح ينبغي أن تعمل به ».
٢٥. روى حامد بن محمد انّه دخل على أبي
محمد 7 ، فلما أراد
أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء ، فتناوله أبو محمد 7 ونظر فيه ، وكان الكتاب من تصنيف الفضل
، فترحّم عليه وذكر أنّه قال : « أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان وكونه بين
أظهرهم ».
__________________
٢٦. روى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ
الحسين بن روح ، عن الحسين بن روح ، عن أبي محمد الحسن بن علي 8 انّه سئل عن كتب بني فضّال فقال : «
خذوا ما رووا ، وذروا ما رأوا ».
٢٧. ذكر النجاشي أنّ كتاب عبيد اللّه بن
علي الحلبي عرض على الصادق 7
فصححه واستحسنه.
إلى غير ذلك من الكتب المعروضة.
الطائفة الخامسة : ما ورد في
ذمّ الكذّابين ووضّاع الحديث
٢٨. قال النبي 6 : « أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة
فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ».
٢٩. قال الصادق 7 : لعن اللّه المغيرة بن سعيد انّه كان
يكذب على أبي فأذاقه اللّه حر الحديد.
٣٠. وقال الصادق 7 : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من
كذاب يكذب علينا ، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ».
٣١. وقال 7
: « إنّ الناس أولعوا بالكذب علينا ، كأنّ اللّه افترض عليهم ولا يريد منهم غيره
».
__________________
روى الكشي في ترجمة « المغيرة بن سعيد
وأبي الخطاب » شيئاً كثيراً من تقول الكذابين على أئمّة أهل البيت :.
٢. كيفية الاستدلال
لا يخفى انّ من لاحظ تلك الروايات
الهائلة يستكشف أنّ حجّية الخبر الواحد عندهم كان أمراً مسلماً على وجه لولاها لم
يكن لصدور هذه الروايات وجه.
فإذا كانت الحجّة هو الخبر المتواتر ،
فما معنى الإرجاع إلى رواة الأحاديث ، أو الإرجاع إلى آحادهم بأسمائهم؟ كما أنّ
السؤال عن علاج المتعارضين من الخبرين ، آية تسليم كون كلّ منهما حجّة لولا
المعارض.
ومثله الحثّ على كتابة الحديث ، ونقله
وبثّه ، كما أنّ عرضَ الكتب آية كونه حجّة ، وقد عرضوها للتأكد من صحتها.
ولو كان بناء المسلمين على الاقتصار على
المتواترات لم يكن لوضع الحديث وجه ، لأنّ الغاية هي قبول الناس والمفروض انّ
بناءهم كان على عدم قبول الآحاد ، فالمجموع يكشف عن جريان السيرة على قبول الآحاد
بشرائطها الخاصة.
نعم ولكن لا تجد فيها رواية هي بصدد جعل
الحجية للخبر الواحد ، بل تدور الروايات بين الفحص عن الصغرى وانّ الراوي ثقة أو
لا ، أو انّ كتابه مصون من الدس أو لا ، أو الإرشاد إلى السيرة المألوفة بين
العقلاء وانّه لا عذر لموالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا وفي الوقت نفسه النهي
عن الأخذ عن غير الموالين.
__________________
٣. الإشكال على الاستدلال
هذا هو المقام الثالث قد أورد على
الاستدلال بها إشكالات نذكر أهمها :
أ. الأخبار ليست بمتواترة
إنّ هذه الأخبار ليست بمتواترة لأنّها
تنتهي إلى الكتب الأربعة ، ولفيف منسائر الكتب ، وشرط التواتر بلوغ الخبر من كلّ
طبقة من الطبقات حدّ التواتر ، وليس الأمر كذلك ، فانّها في نهاية المطاف تنتهي
إلى ثلاثة ، أو أربعة أشخاص.
والجواب : انّ المراد من التواتر في
المقام ليس التواتر اللفظي ، بل التواتر الإجمالي.
أمّا الأوّل ، فالمراد منه إذا إتحدت
ألفاظ المخبرين في خبرهم عن موضوع واحد كقوله 6
: « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه » أو قوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » وفي
مثله لا يحصل العلم إلا ببلوغ الخبر في كلّ طبقة حدّ التواتر.
وأمّا الثاني ، والمراد منه هو العلم
الإجمالي بصدور بعض من الأحاديث المختلفة وتسميته بالتواتر ، مسامحي والمراد العلم
الإجمالي بصدور البعض.
ب. انّ هذه الأخبار مختلفة
المضمون
إنّ هذه الأخبار مختلفة المضمون واللسان
، وإليك عناوينها :
١. كونه شيعياً
الظاهر من بعضها كفاية كون الراوي
شيعياً ، مثل قوله 7
: « رواة
حديثنا » . وقوله 7
: « من غير شيعتنا » .
أو قوله 7 : « كلّ
مسنّ في حبنا ، كثير القدم في أمرنا ».
٢. كونه ثقة
إنّ الظاهر من البعض الآخر ، كونه ثقة ،
مثل قوله 7 : « التشكيك
فيما يرويه ثقاتنا » .
أو قوله 7 : « العمري
ثقتي » .
أو قوله 7 : « فيونس
بن عبد الرحمان ثقة » .
وقوله 7 : « كلاهما
أو كلّهم ثقة » .
٣. كونه مجتهداً
الظاهر من بعضها لزوم كونه مجتهداً لا
ناقلاً مثل قوله 7
: « روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا » ويقرب منه ما دلّ على حجّية
قول مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير ويونس بن عبد الرحمان وغيرهم من فضلاء
أصحاب الصادق ، والرضا 8
، وعلى هذا يلزم الأخذ بأخص المضامين ، وهو أن يكون الراوي جامعاً لجميع هذه
الصفات ، وهو غير القول بحجّية قول مطلق الثقة.
الجواب
: لو وجدنا بين هذه الروايات ما يكون جامعاً لهذه الصفات ، ويكون مفاده حجّية مطلق
الثقة يتعدى منه إلى المطلوب وإلى هذا يشير المحقّق الخراساني بقوله : وقضيته وإن
كان حجّية خبر دل على حجّية أخصها مضموناً إلا انّه يتعدى منه فيما إذا كان بينهما
ما كان بهذه الخصوصية وقد دلّ على حجّية ما كان أعم.
__________________
ولعلّ صحيح أحمد بن إسحاق بين تلك
الأخبار جامعة لجميع هذه الخصوصيات من حيث السند ، وقد دلّ مضمونه على حجّية قول
الثقة.
روى الكليني بسند عال رواته كلّهم مشايخ
ثقات عدول قد زكّاهم جمع من العدول ، فروى : عن محمد بن عبد اللّه الحميري ومحمد
بن يحيى العطار القمي ، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق ، أنّه
سأل أبا الحسن ( الهادي 7
) وقال له : من أُعامل ، وعمّن آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال : « العمري ثقتي ، فما روى
إليك عنّي ، فعني يؤدّي ، وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فانّه الثقة
المأمون ».
وسئل أبومحمد 7 عن مثل ذلك فقال : « العمري وابنه
ثقتان ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان ، ... فإنّهما الثقتان المأمونان ».
وعامة من ورد في السند ، من المشايخ ،
فقال النجاشي في حقّ الأوّل ( محمد بن عبد اللّه الحميري ) : ثقة وجه. وفي حقّ
الثاني ( محمّد بن يحيى العطار ) : أبو جعفر القمي ثقة. وفي حقّ الثالث ( عبد
اللّه بن جعفر الحميري ) : أبو العباس ثقة. وأمّا الرابع ( أحمد بن إسحاق ) : فهو
مردّد بين الرازي والأشعري ، وكلاهما ثقة ، ويحتمل اتحادهما. ونظيره رواية الحسن
بن علي بن يقطين.
وأمّا المضمون ، فقد علّل حجّية قول
العمري بأنّه الثقة المأمون ، وعليه فرواية كلّ ثقة مأمون ، حجّة ، سواء كان من
المشايخ والفقهاء أو لا ، والمراد من الثقة هو العدل ، ونظيره رواية الحسن بن علي
بن يقطين.
ومنه يظهر انّه ليس للشارع في باب حجّية
الخبر الواحد أي جعل ولا تصرف ، فما اشتهر في ألسن المشايخ من جعل الحجّية أو
الطريقية ، أو تتميم
__________________
الكشف ، ليس لها أيّ
دليل في الروايات والمتبادر منها ، هو إمضاء ما جرى عليه العقلاء في حياتهم
العملية من الاعتماد على قول الثقة المأمون فالحجّية إمضائية لا تأسيسية.
الاستدلال على حجّية الخبر
الواحد بالإجماع
وقد استدلّوا على حجّية الخبر الواحد
بالإجماع القولي تارة ، والإجماع العملي أُخرى.
١. الاحتجاج بالإجماع القولي
إنّ الاحتجاج بالإجماع القولي على حجّية
الخبر الواحد يتحقّق بأحد وجهين : إمّا بتتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من
زماننا إلى زمان الشيخ حتى يكون إجماعاً محصَّلاً ـ فيكشف رضاء الإمام بذلك ـ على
القول بقاعدة اللطف ؛ أو يقطع من باب الحدس ، أو بتتبع الإجماعات المنقولة على
الحجّية.
وأورد المحقّق الخراساني على التقرير
الأوّل باختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات ومعه لا يكشف عن رضاه من
تتبعها ، وعلى التقرير الثاني ، باختلاف معاقد الإجماعات فيها ، إلا أن يقال :
الاختلاف في الخصوصيات لا يضرّ الإجماع على الحجّية إجمالاً.
يلاحظ على الاستدلال أيضاً بأنّ الإجماع
حجّة إذا جهل مصدره ومدركه ، وأمّا مع العلم به فيكون المتّبع هو الدليل لا
الإجماع.
٢. الاحتجاج بالإجماع العملي
وقد يحتج بدعوى اتّفاق العلماء عملاً بل
كافة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشرعية ، فبما يظهر من أخذ
فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.
وأورد عليه المحقّق الخراساني : انّه لم
يحرز اتّفاقهم على العمل بما هم مسلمون ، لأنّهم لا يزالون يعملون بها في غير
الأُمور العادية به ، فيرجع هذا الاستدلال إلى الاستدلال الآتي ، أعني : الاستدلال
بسيرة العقلاء.
٣. الاحتجاج بالسيرة
العقلائية
إنّك إذا تصفّحت حال العقلاء في حياتهم
الدنيوية ، تقف على أنّهم مطبقون على العمل بقول الثقة في جميع الأزمان والأدوار
وفي تمام الأقطار والأمصار ، ويتضح ذلك بملاحظة أمرين :
الأوّل
: أنّ تحصيل العلم القطعي عن طريق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن أمر صعب ،
خصوصاً بالنسبة إلى من يسكن البوادي والقرى مع قلة المواصلات والوسائل الإعلامية.
الثاني
: انّ القلب يسكن إلى قول الثقة ويطمئن به ويخرج عن التزلزل ، ولأجل ذلك يُعدّ عند
العرف علماً لا ظناً ، خصوصاً إذا كان عدلاً ، ذا ملكة رادعة عن الاقتحام في
الكذب.
ولو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع
، كان عليه الردع عن ذلك كما ردع عن العمل بقول الفاسق.
مع أنّك إذا سبرت حياة الأُمم في العصور
السابقة ، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل بخبر الواحد ، خصوصاً بين أهل القرى
والبوادي التي لا يتوفر
فيها الأخبار
المتواترة ولا المحفوفة بالقرائن ، وأنّ عمل المسلمين بخبر الثقة لم يكن إلا
استلهاماً من السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.
والحاصل : أنّه لو كان العمل بأخبار
الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً عند الشرع ، لكان هناك الردع القارع والطرد الصارم
حتى ينتبه الغافل ويفهم الجاهل.
ولأجل ذلك نرى أنّه وردت الأخبار
المتضافرة حول ردّ القياس ، والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من الجائر لما
جرت عليه سيرة العامة من العمل به والرجوع إلى قضاة الجور ، وتقبل الولاية من
الجائرين ، وهي أقلّ ابتلاء ـ بمراتب ـ عن العمل بخبر الواحد ، وعلى ضوء هذا ،
فهذه السيرة العقلائية حجّة ما لم يردع عنها.
السيرة والآيات الناهية عن
الظن
لا شكّ انّ الاحتجاج بالسيرة فرع عدم
الردع عنها شأن كلّ سيرة يستدل بها على حكم شرعي وربما يتصور انّ الآيات الماضية
والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم رادعة عنها وناهيك قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
) ، وقوله تعالى : ( وَإِنّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئاً )
.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عنه
بوجوه ثلاثة :
١. انّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية
الظن في أُصول الدين.
٢. المتيقن منها ، ما لم يقم على
اعتباره حجّة.
٣. كونها رادعة ، مستلزمة للدور وذلك :
__________________
انّ الرادعية تتوقف على عدم كون السيرة
مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية ، وإلافلا تكون رادعة ، وعدم كونها مخصصة أو غير
مقيدة فرع كونها بعمومها أو إطلاقها رادعة للسيرة فيلزم توقف كونها رادعة ، على
نفسها.
ثمّ إنّه 1
أورد على نفسه بورود نفس الدور على اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً.
ولكن الظاهر انّ ما ذكره من الأجوبة
الثلاثة تبعيد للمسافة ولا حاجة إليها بل النسبة بين الآيات والسيرة تباين ، فانّ
المراد من الظن في الآيات هو الوهم والخيال والخرص والتخمين ، كتسمية الملائكة
أُنثى ، وأين هذا من العمل بقول الثقة المخبر عن حس ، المتحرّز عن الكذب؟! فهو وإن
كان ظنياً عقلاً ، لكنّه ليس داخلاً في الظن المنهى عنه في الآية ، كما أنّه وإن
كان غير علمي في نظر المنطقيين ، لكنّه في نظر العرف اطمئنان وسكون قلب ، فهو لا
يقصر عن العلم عندهم.
بقي هنا سؤال وهو انّ المحقّق الخراساني
جعل رادعية الآيات للسيرة العملية في مورد خبر الواحد مستلزماً للدور ، مع أنّه
صحح رادعية الآيات للسيرة المستمرة بين العقلاء بالعمل بالاستصحاب. قال : يكفي في
الردع عن مثله بما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم عن مثله
من الكتاب والسنّة على النهي عن اتباع غير العلم.
فيتوجه السؤال انّه ما الفرق بين
المقامين؟
أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً وهو انّه إذا
فسر الظن في الآيات بما ذكرناه لا تصلح أن تكون رادعة للسيرة ، لأنّ الظنّ المنهي
عنه غير الظن الحاصل من السيرة ، فهو في الأُولى بمعنى الخيال وفي الثانية بعض
الاطمئنان.
__________________
وأمّا إذا قلنا بوحدة معنى الظن في مورد
الآيات والسيرة كما تلقّاه المحقّق الخراساني ، فالجواب الذي ذكره من استلزام
الرادعية الدور ليس بصحيح ، بل الآيات الناهية على هذا الفرض رادعة للسيرة من دون
دور ، وذلك ببيانين :
الأوّل
: انّ العام حجّة قطعية ، والسيرة في مورد خبر الثقة هو حجّية مشكوكة ، فكيف تعارض
الحجّة القطعية؟ أمّا انّ الآيات فلحجية ظهور العام في تمام أفراده ما لم يدل دليل
قطعي على التخصيص ، وأمّا كون السيرة حجّة مشكوكة لأنّها لا يحتج بها إلا إذا ثبت
الإمضاء ولو بالسكوت ، والمفروض عدم إحرازه لاحتمال كون الآيات الناهية رادعة
وحجّة في قبالها ، فيكون مرجع الكلام إلى الشكّ في تخصيص الآيات بالسيرة ، ومن
المعلوم انّ المرجع عندئذ هو العام حتى يثبت الخلاف.
الثاني
: انّ رادعية الآيات وإن شئت قلت : الاحتجاج بالآيات موقوف على عدم ثبوت تخصيصها
بالسيرة ، وهو أمر متحقّق بالفعل ، إذ لم يثبت بعد كون السيرة مخصِّصة ، فيكفي
بالاحتجاج بعدم الثبوت.
نعم لو قلنا بأنّ الاحتجاج بالآيات
متوقف على عدم كون السيرة في الواقع مخصِّصاً ، وهو بعدُ غير حاصل ولا متحقّق
ويتوقف عدم كونها مخصصاً على صحّة الاحتجاج لزم الدور.
فمنشأ الخلط توهم توقف صحّة الاحتجاج
بالآيات على ثبوت عدم كونها مخصصةً في الواقع ، والحال انّه متوقف على عدم الثبوت
وعدم العلم بالتخصيص وهو أمر حاصل.
ما هو الموضوع للحجّية أهو
خبر الثقة ، أو الموثوق بصدوره؟
هل عمل العقلاء بخبر الثقة ، بما هو ثقة
وإن لم يفد الوثوق بصدور الرواية ،
أو العمل به لأجل
انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم؟ والظاهر هو الثاني ، لأنّ معنى الأوّل
كون العمل بخبر الثقة من باب التعبد ، وهو بعيد جداً ، بل العمل به لأجل كونه
طريقاً إلى الوثوق بصدور الرواية ، ولأجل ذلك لو لم يُفِدْ ذلك لما عملوا به إلا
في صورة الاضطرار.
فإذا كان الأمر كذلك يكون الموضوع
للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيعم الأقسام الأربعة ، أعني :
١. الصحيح : ما اتصل سنده إلى المعصوم
بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات.
٢. الموثق ما اتصل سنده إلى المعصوم
بنقل الثقة ( العدل ) مع دخول غير الإمامي في سنده كالواقفي والفطحي.
٣. الحسن : ما اتصل سنده إلى المعصوم
بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير تنصيص على عدالته في جميع مراتبه السند
أو بعضه مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح بشرط الوثوق بصدوره.
٤. الضعيف ما لا تجتمع فيه أحد الثلاثة
وهو على أقسام :
أ. أن يكون مهملاً : أي يكون في السند
من هو معنون في الرجال ، ولكن لم يذكر في حقّه شيء من المدح أو الذم ، فأُهمل من
جانب التوثيق والتضعيف.
ب. أن يكون مجهولاً ، أي غير معروف بين
الرجاليين ، وحكموا عليه بالجهالة.
ج. ما حكم عليه بالضعف في العقيدة أو
بالخلط والدس والوضع.
فالقسمان الأوّلان من الضعيف إذا اقترنا
بما يورث الوثوق بصدوره يحكم عليه بالحجّية.
فإن قلت : فعلى هذا يكون الدليل هو
القرائن لا الخبر.
قلت
: إنّ للخبر دوراً في إفادة الاطمئنان ، ولذلك اعتبرنا من الضعيف ، القسمين
الأوّلين.
وهذا هو المختار في باب حجّية الخبر
الواحد ، وهو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد ، قال : والإنصاف انّ الدال منها لم
يدل إلا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسر الصحيح
في مصطلح القدماء.
والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته
للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به ( الاحتمال ) العقلاء ولا يكون غيرهم موجباً
للتحيّـر والتردّد.
الخامس
: الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالعقل
وقد استدل على حجّية الخبر الواحد
بتقارير ثلاثة :
الأوّل : إجراء الانسداد
الصغير في مورد الأخبار
انّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من
الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ولا سبيل إلى منع العلم بذلك ، ونحن
مكلّفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر لا يجب الاحتياط في الأخذ
بجميعها الأعم من المظنون والمشكوك والموهوم لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز
الرجوع إلى الأُصول العملية لمنافاته للعلم الإجمالي بالتكاليف الموجودة فيها ،
فيجب الأخذ بمظنون الصدور فقط ، لأنّ الأخذ بمشكوكه أو موهومه ترجيح للمرجوح على
الراجح.
__________________
وأورد الشيخ على هذا التقرير إشكالات
ثلاثة ، لم يتعرض المحقّق الخراساني لثانيها ، وردّ الإشكال الأوّل في مقام تقرير
الدليل ، وقَبِلَ الإشكال الثالث ، وصار الدليل لأجل الإشكال الثالث ، عقيماً.
تقرير
الإشكال : انّ العمل بالخبر المظنون الصدور
لأجل كونه موصلاً إلى الظن بصدور الحكم الشرعي ، فيجب العمل بكلّ أمارة لها هذا
الوصف ، أي كلّ أمارة تفيد الظن بصدور الحكم ، فعندئذ يكون الخبر والشهرة
الفتوائية والإجماع المنقول سواسية.
وهذا الإشكال هو الذي أجاب عنه المحقّق
الخراساني في ضمن تقرير الدليل من دون أن يشير إلى الإشكال والجواب.
وحاصل ما دفع به الإشكال في ضمن التقرير
: انّ العلم الإجمالي بالتكاليف بين مطلق الأمارات ينحلّ بالعلم بها تفصيلاً عن
طريق الاخبار ، وعندئذ ينحل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر
الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة
تفصيلاً والشكّ البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائـر الأمارات غير المعتبرة ـ
كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ـ.
توضيحه
: انّ هنا علماً إجمالياً كبيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأمارات على وجه
الإطلاق ; وعلماً إجمالياً صغيراً ، وهو العلم بالتكاليف في ضمن الأخبار التي
بأيدينا بأقسامها الثلاثة : المظنونة ، المشكوكة ، أو الموهومة. والشيخ يدّعي انّه
لا ينحل العلم الإجمالي الكبير بعزل الأخبار عنه ، بل يبقى العلم الإجمالي بحاله
لوجود العلم بالتكليف في ضمن سائر الأمارات فيجب الاحتياط في الجمع ، ولكن المحقّق
الخراساني يدّعي انحلال الكبير بعزل الأخبار منها بل بعزل قسم عظيم منه كالتسعين
بالمائة من الأخبار فلا يجب الاحتياط في الاخبار.
وحينئذ يقع الكلام في بيان ما هو
الميزان للانحلال وعدمه.
أقول
: الميزان في الانحلال وعدمه هو انّه لو كان عدد التكاليف الموجودة في دائرة العلم
الإجمالي الكبير مساوياً مع العدد المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير ،
ينحلُّ قطعاً ، ويكفي في الانحلال احتمال الانطباق ولا يلزم العلم بالانطباق بخلاف
ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ من العدد المعلوم في الأُولى.
مثلاً لو علمنا بأنّ في قطيع الغنم التي
فيها البيض والسود ، عشر شياه محرمة ، ثمّ علمنا انّ في خصوص السود منها عشر شياه
محرمة واحتملنا أن يكون المحرّمة في الثانية نفس الشياه المحرمة في الأُولى ،
فبعزل الشياه السود ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل وإن كانت دائرته أوسع ، إذ مع
العزل لا يبقى علم إجمالي أبداً ، بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ
، كما إذا علم وراء العلم الإجمالي في القطيع ، بوجود خمسة شياه محرمة في السود
منها ، إذ عندئذ لا ينحل وإن عزل عن القطيع.
هذه هي الضابطة ، وأمّا انّ المقام من
قبيل أي من القسمين فهو أمر وجداني لا برهاني ، فلو قلنا : إنّ عدد التكاليف المعلومة
في دائرة العلم الإجمالي الكبير لا يزيد على العدد المعلوم في دائرة الإجمالي
الصغير ، فبعزل الاخبار بل بعزل قسم عظيم منها ، ينحل العلم الإجمالي الكبير ، فلا
يجب الاحتياط في سائر الأمارات كالشهرات والإجماعات المنقولة ؛ وأمّا لو كان العدد
المعلوم في الدائرة الأُولى أكثر يبقى العلم الإجمالي الكبير بحاله ـ وإن عزلت
الأخبار ـ فلا يختص الاحتياط بخصوص الأخبار ، بل يجب فيها وفي سائر الأمارات.
ولعلّ الحقّ مع الشيخ بالنظر إلى ما
نقلناه عن سيد مشايخنا البروجردي من أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل
سوى الشهرة الفتوائية ، وهذا
يؤيد انّ العلم
بالتكاليف أوسع بما ورد في الأخبار.
وأمّا الإشكال الثاني فقد تركه المحقّق الخراساني ونحن نقتفيه
، وإنّما المهم هو الإشكال الثالث.
حاصله : انّ المطلوب هو إثبات حجّية
الخبر الواحد ، وهذا الدليل يثبت العمل بالأخبار في باب الاحتياط ، وتظهر الثمرة
في الأُمور التالية :
١. لو كان الخبر الواحد حجّة تكون أمارة
، والأمارة حجّة في لوازمه العقلية والعادية وبالتالي يترتب عليها أحكامها الشرعية
، بخلاف ما لو كان الأخذ بها من باب الاحتياط فيكون أصلاً ومثبتات الأُصول ليست
بحجّة.
٢. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يصحّ
نسبة مضمونه إلى الشارع لقوله : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » ولا يكون تشريعاً
، بخلاف ما لو كان أصلاً فلا تصحّ نسبة مضمونه إليه.
٣. لو كان الخبر الواحد حجّة يكون
مقدماً على الأُصول اللفظية كالعموم والإطلاق فيخصص العموم ويقيد الإطلاق به ،
بخلاف ما لو كان الأخذ به من باب الاحتياط فلا يقدّم الأصل العملي على الأصل
اللفظي.
٤. لو كان الخبر الواحد حجّة ، يقدم على
الأُصول العملية مطلقاً نافية كانت أو مثبتة ، بخلاف ما لو كان أصلاً فيقدم على
الأصل النافي للتكليف لكونه على خلاف الاحتياط ولا يقدم على الأصل المثبت للتكليف
، فإذا كان مفاد الأصل مثبتاً للتكليف والخبر نافياً له ، لأنّ الأخذ بالثاني من
باب الاحتياط والمفروض كونه على خلاف الاحتياط.
__________________
التقرير الثاني : إجراء دليل
الانسداد في خصوص الأجزاء والشرائط
استدل الفاضل التوني على حجّية الخبر
الموجود في الكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، وقال : إنّا نقطع ببقاء
التكليف في العبادات والمعاملات ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما
تثبت بالخبر الواحد بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند
ترك العمل بخبر الواحد.
وأورد عليه الشيخ بوجهين :
الأوّل
: ما أورده أيضاً على التقرير الأوّل ـ مع تفاوت يسير ـ وقال : إنّ العلم الإجمالي
حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره
؛ فاللازم إمّا الاحتياط إن لم يستلزم الحرج ، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئية شيء
أو شرطيته.
واستشهد على ذلك بأنّه لو عزلنا أخبار
العدول من الكتب الأربعة ثمّ ضممنا الباقي منها إلى سائر الأخبار الواردة في غيرها
لبقى العلم الإجمالي بحاله.
وأورد عليه المحقّق الخراساني بما أورده
على التقرير الأوّل وقال : إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار ،
إلا أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم :
بقدر الكفاية بين تلك الطائفة أو
العلم باعتبار تلك الطائفة كذلك بينها ، يوجب انحلال ذاك العلم وصيرورة غيره
خارجاً عن طرف العلم.
وحاصله : انّه إذا ضُمّت الروايات
المعلومة الصدور إلى معلومة الاعتبار
__________________
يبلغ إلى حدّ قد
ينحل معه العلم الإجمالي بالأجزاء والشرائط بين مطلق الأخبار فليس لازم هذا
التقريب الاحتياط المطلق بين جميع الأخبار حتى يترتب عليه ما ترتب ، ثمّ إنّه رحمه
اللّه احتمل عدم الانحلال ثمّ أمر بالتأمّل.
الثاني
: انّ المطلوب في المقام هو صيرورة الخبر الواحد من باب كونه أمارة ودليلاً
اجتهادياً حتى تترتب عليه الآثار الأربعة.
أ : حجّية مثبتاته وإثبات لوازمه ليترتب
على اللازم ما له من الآثار الشرعية.
ب : صحّة نسبة مضمونه إلى اللّه سبحانه
أخذاً بقوله 7 : « ما
أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان ».
ج : كونه وارداً على الأُصول العملية
ورافعاً لموضوعها مثلاً لو كان مقتضى سائر الأُصول هو الاحتياط في الجزء والشرط
كاستصحاب وجوبهما في حال النسيان والجهل ، وكان مقتضى الخبر النفي ، فلا يقدم
الخبر عليه ، لأنّه على خلاف الاحتياط فليس في مثل هذا الخبر ملاك الأخذ به في
مقابل الأصل فإذا نسي السورة ، فمقتضى استصحاب وجوبها في حال النسيان هو إعادة
الصلاة ولكن مقتضى قوله : « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » عدمه لأنّه ليس من
الأُمور الخمسة.
د : كونه مقدّماً على الأُصول اللفظية
من إطلاق وعموم.
والدليل الذي أقامه صاحب الوافية لا
يثبت إلا كونه حجّة من باب الاحتياط فيكون أصلاً من الأُصول لا يترتب عليه تلك
الآثار.
التقرير الثالث :
ما ذكره المحقّق الشيخ محمد تقي
الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم باسم هداية المسترشدين وقد لخّصه الشيخ الأنصاري
على وجه لا يخلو عن اختصار مخل ، وكلامه 1
في هداية المسترشدين أيضاً لا يخلو عن إطناب مخل ،
وتتضح حقيقة مراده
إذا رجعنا إلى التنبيه الأوّل من تنبيهات دليل الانسداد ، فقد فرعوا على المقدمات
الخمس انّ قضيتها على تقدير سلامتها هل هو حجّية الظن بالواقع ، أو حجّية الظن
بالطريق ، أو بهما؟ وقد اختار صاحب الحاشية انّ الحجّة هو الظن بالطريق كالظن بأنّ
القرعة حجّة ، والخبر الواحد حجّة ، ولا يكفي الظن بالواقع إذا لم يكن هناك ظن
بالحجّية كالظن بالحكم الواقعي عن طريق القياس والاستحسان.
فهو 1
قد أقام ثمانية أدلة على اعتبار الظن بالطريق ، وقد نقل الشيخ الأنصاري الوجه
السادس ، ونحن نذكر نصّ كلامه.
قال : السادس : إنّه قد دلّت الأخبار
القطعية والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة بل ذلك
ممّا اتّفقت عليه الأُمّة.
وحينئذ إن أمكن حصول العلم بالحكم
الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب ، تعيّن الرجوع على الوجه المذكور ، وإن لم
يحصل ذلك وكان هناك طريق في كيفية الرجوع إليهما ( كالخبر الصحيح والموثق مثلاً )
تعين الأخذ به وكان بمنزلة الوجه الأوّل وإن انسد سبيل العلم ، وكان هناك طريق ظني
( كالخبر الحسن والضعيف ) في كيفية الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ
بمقتضاه وحيث لا ترجيح لبعض الظنون المتعلقة بذلك على بعض يكون مطلق الظن المتعلق
بهما حجّة.
فإن
قلت : كيف يكون هذا التقرير دليلاً على
حجّية الخبر الواحد ، مع أنّ نتيجته هو حجّية مطلق الظن؟
__________________
قلت
: لأنّ الضرورة قامت على لزوم الرجوع إلى السنّة والأخذ بخبر الواحد أخذ بالسنّة
دون سائر الأمارات كالإجماع المنقول والشهرة.
أضف إلى ذلك : انّه ربما يحصل الظن
بالحكم ولكن لا يظن بصدوره عن الحجّة ، إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم وبقى
مخزوناً عندهم لمصلحة من المصالح ، فلا يكون مطلق الظنّ مجرداً عن الظن بالطريق
حجّة.
هذا توضيح لمرامه.
وأورد عليه الشيخ بالنحو التالي :
إن أراد من السنّة هو قول المعصوم وفعله
وتقريره ، فيرد عليه انّ الرجوع إلى السنّة ليس إلا الوقوف على ما فيها من الأحكام
، وليس الوقوف على لفظها أمراً مطلوباً للفقيه ، فإذا كان الملاك للرجوع هو الوقوف
على التكاليف ، فيشاركه ـ سائر الأمارات في الدلالة على المطلوب ، كالإجماع
المنقول والشهرة ولا تختص الحجّية بالخبر الواحد.
وبعبارة أُخرى : إذا لم يتمكن من تحصيل
العلم بمدلول السنّة يتعيّن الرجوع باعتراف المستدل إلى ما ظن كونه مدلولاً
لأحدهما ، وعندئذ لا فرق بين خبر الواحد ومؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول
فإنّ مؤدّى الجميع مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره.
وتوهم احتمال عدم ورود مؤدّى الشهرة
والإجماع المنقول في الكتاب والسنّة نادر جدّاً ، لأنّ المسائل التي انعقدت الشهرة
عليها أو حكي الإجماع بها من المسائل التي تعمّ بها البلوى بحيث نعلم صدور حكمها
عنهم ـ صلوات اللّه عليهم ـ.
وإن أراد من السنّة ، الحواكي ، أي
الأخبار والأحاديث ، والمراد انّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكية عنهم فإن تمكن
من الرجوع إليها على وجه يفيد العلم
ـ بالحكم ـ فهو ،
وإلا وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه الحكم.
فقد أورد عليه الشيخ ـ بعد إشكالات
جانبية ـ بأنّه لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات غير العلمية
لأجل لزوم خروج عن الدين لو طرحت بالكلية ، يرد عليه انّه إن أراد لزوم الخروج عن
الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع
اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ( وعلى حدّ تعبير الكفاية دعوى العلم الإجمالي
بتكاليف واقعية فيها ) فهذا يرجع إلى دليل الانسداد.
وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم
الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى لا يثبت بها حجّية غير الخبر الظني من الظنون
ليصير دليلاً عقليّاً على حجّية الخبر ، فهذا يرجع إلى الوجه الأوّل.
والحاصل : انّ الرجوع إليها ، إمّا لأجل
العلم بمطابقة أكثرها للواقع ، أو للعلم بصدور أكثرها الكاشف عن الواقع. فالأوّل
تقرير لدليل الانسداد ، والثاني تقرير لدليل الفاضل التوني.
وقد أورد المحقّق الخراساني على الشيخ
في الكفاية بأنّ إشكاله على تقدير إرادة السنّة بالمعنى الثاني إنّما يتم لو كان
الرجوع إلى الأخبار من باب الطريقية إلى الواقع والإنسان غير معذور من قبل
الواقعيات فيجب العمل بها ، إمّا لقضية المطابقة ، أو صدور الأكثر ؛ وأمّا لو قلنا
بأنّ الرجوع إليها من باب النفسية والموضوعية وانّه لا فعلية للواقعيات ، بل الفعل
هو مؤديات الأخبار ، فلا يرجع إلى أحدهما.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار انّ
مراده هو الوجه الثاني ، وأورد عليه بأنّ لازم ما أفاده هو التدرّج في الأخذ
بالأخبار ، فإن وفى المتيقن الاعتبار لاستنباط
__________________
الأحكام فهو ،
وإلافيرجع إلى المتيقن اعتباره بالإضافة وإلا فالاحتياط لا الرجوع إلى ما ظن
اعتباره ، لأنّ الرجوع إلى ما علم اعتباره تفصيلاً أو إجمالاً ( كالرجوع إلى الجمع
احتياطاً ) يمنع عن الرجوع إلى ما ظن اعتباره.
تمّ الكلام في الأدلة العقلية القائمة
على حجّية الخبر الواحد كما تمّ البحث في الظنون الخاصة ، وحان حين البحث في الظن
المطلق ، ولكن هنا ظناً خاصاً دلّ الدليل على اعتباره ولم يتعرض إليه القوم وهو
حجّية العرف والسيرة ، وإليك البيان.
العرف والسيرة
إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط
أوّلاً ، وفصل الخصومات ثانياً ، حتى قيل في حقّه العادة شريعة محكمة ، أو الثابت
بالعرف كالثابت بالنص. ولابدّ
للفقيه من تحديد دوره وتبيين مكانته حتى يتبين مدى صدق القولين.
أقول
: العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه ، من فعل شاع بينهم ، أو قول
تعارفوا عليه ، ولا شكّ انّ العرف هو المرجع في منطقة الفراغ ، أي إذا لم يكن هناك
نصّ من الشارع على شيء على تفصيل سيوافيك ، وإلا فالعرف سواء أوافقها أم خالفها
ساقط عن الاعتبار.
استكشاف الجواز تكليفاً
ووضعاً
يستكشف جواز الفعل تكليفاً ، ووضعاً
بالسيرة بشرط أمرين :
١. أن لا يصادم التنصيص :
قد يطلق العرف ويراد به ما يتعارف بين
المسلمين من دون أن يدعمه دليل من الكتاب والسنّة ، وهذا ما نلاحظه في الأمثلة
التالية :
١. العقود المعاطاتية من البيع والإجارة
والرهن وغيرها.
٢. وقف الأشجار والأبنية من دون وقف
العقار.
__________________
٣. دخول الحمام من دون تقدير مدّة المكث
فيه ومقدار المياه التي يصرفها.
٤. استقلال الحافلة بأُجرة معينة من دون
أن يعين حدّ المسافة. إلى غير ذلك من السير المستمرة بين المسلمين ولو اجتمع فيه
الشرطان ، فالسيرة تضفي عليها الجواز تكليفاً لا وضعاً.
فإن
قلت : دلّ الدليل على بطلان الإجارة
المجهولة ، فالقول بالصحّة في الأخير يصادم النص.
قلت
: المراد منه هو الدليل في خصوص المورد على وجه التنصيص.
وأمّا الموجود في المقام فلا يتجاوز
الإطلاق القابل للتقييد.
والكلام الخامس في السيرة ، هي انّها
على قسمين :
تارة تصادم الكتاب والسنّة وتعارضهما ،
كاختلاط النساء بالرجال في الأفراح والأعراس وشرب المسكرات فيها والمعاملات
الربوية ، فلا شكّ انّ هذه السيرة باطلة لا يرتضيها الإسلام ولا يحتج بها إلا
الجاهل.
وكاشتراط المرتهن الانتفاع من العين
المرهونة ، أو اشتراط ربّ المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة ،
فهذا النوع من السيرة لا يحتج بها لمخالفتها للنص الصريح.
وأُخرى لا تصادم الدليل الشرعي وفي
الوقت نفسه لا يدعمها الدليل ، فهذا النوع من السيرة إن اتصلت بزمان المعصوم وكانت
بمرأى ومسمع منه ومع ذلك سكت عنها تكون حجّة على الأجيال الآتية.
وبذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين
المسلمين ـ بعد رحيل المعصوم ـ لا يصحّ الاحتجاج بها وإن راجت بينهم كالأمثلة
التالية :
١. عقد التأمين : وهو عقد رائج بين
العقلاء ، عليه يدور رحى الحياة
العصرية ، فموافقة
العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها ، بل يجب التماس دليل آخر عليها.
٢. عقد حقّ الامتياز : قد شاع بين الناس
شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك التي تعد من متطلبات
الحياة العصرية ، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند
الاستفادة والانتفاع بها ، وحيث إنّ هذه السيرة استحدثت ولم تكن من قبل ، فلا تكون
موافقة العرف لها دليلاً على جوازها ، فلابد من طلب دليل آخر.
٣. بيع السرقفلية : قد شاع بين الناس
انّ المستأجر إذا استأجر مكاناً وسكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية وربما يأخذ
في مقابله شيئاً باسم « السرقفلية » حين التخلية.
٤. عقود الشركات التجارية الرائجة في
عصرنا هذا ، ولكلّ منها تعريف يخصها ، ولم يكن لها أثر في عصر الوحي ، فتصويب كلّ
هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف ، فإن دلّ عليه دليل شرعي يؤخذ بها
وإلا فلا يحتج بالعرف.
٢. الرجوع إلى العرف في
تبيين المفاهيم
١. إذا وقع البيع والإجارة وما شابههما
موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعاً ،
فالصدق العرفي دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.
إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه
العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره وكمال اهتمامه ببيان الجزئيات من
المندوبات والمكروهات إذ يكون تركه إغراء بالجهل وهو لا يجوز.
يقول الشيخ الأنصاري في نهاية تعريف
البيع : إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع ، فإذا شككنا في
صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو
الصحيح عند العرف ، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع
إلا ما خرج بالدليل.
٢. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن
أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلى العرف.
قال المحقّق الأردبيلي : قد تقرر في
الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة
من ردّالناس إلى عرفهم.
٣. لو افترضنا الإجمال في حدّالغناء ،
فالمرجع هو العرف ، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام وإن لم يشتمل على
الترجيع ولا على الطرب.
يقول صاحب مفتاح الكرامة : المستفاد من
قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم ، فما علم حاله في عرفهم جرى
الحكم بذلك عليه ، وما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بين في الأُصول.
يقول الإمام الخميني ; : أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص
الموضوع والعنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد
الإجماع.
__________________
٣. الرجوع إلى العرف في
تشخيص المصاديق
قد اتخذ الشرع مفاهيم كثيرة وجعلها
موضوعاً لأحكام ، ولكن ربما يعرض الإجمال على مصاديقها ويتردد بين كون الشيء
مصداقاً له أو لا.
وهذا كالوطن والصعيد والمفازة والمعدن
والحرز في السرقة والأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في
مصاديقها ، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.
يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال
المودع : وكذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة ، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة
في الشرع يرجع فيها إلى العادة والعرف ، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها
على ما يقتضي العرف حفظه ، مثل الوديعة ، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق وكذا الثياب
والدابة في الاصطبل ونحو ذلك ، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأملاً ، إذ الدراهم لا
تحفظ دائماً في الصندوق ، ولا الثياب وهو ظاهر.
٤. الأعراف الخاصة
إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافاً خاصة بهم
يتعاملون في إطارها ويتفقون على ضوئها في كافّة العقود والإيقاعات ، فهذه الأعراف
تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الإجماعات المتوهمة في أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدم
نماذج منها :
١. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه ،
فالمرجع ليس هو اللغة بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين وهو الفرس.
٢. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه
، فالمرجع هو المتبادر في عرف
__________________
المتبايعين وهو
اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.
٣. إذا وصّى بشيء لولده ، فالمرجع في
تفسير الولد هو العرف ، ولا يطلق فيه إلاعلى الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه
والكتاب العزيز قال سبحانه : (
لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ).
٤. إذا اختلفت البلدان في بيع شيء
بالكيل أو الوزن أو بالعد ، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.
قال المحقّق الأردبيلي : كلّما لم يثبت
فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهده 6
فحكمه حكم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح ، وإن اختلفا ففي بلد الكيل أو
الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل ، والظاهر
انّ الحكم للبلد لا لأهله وإن كان في بلد غيره.
٥. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر ،
فالمرجع هو العرف الخاص ، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف
ولكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه ، وادّعى الزوج دفعه إليها ، فللحاكم أن
يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.
وقد روي عن الإمام الصادق 7 فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة
الزوج الآخر ، انّه جعل متاع البيت للمرأة وقال للسائل : « أرأيت إن أقامت بيّنة
إلى كم كانت تحتاج؟ » فقلت : شاهدين ، فقال : « لو سألت من بين لابتيها ـ يعني
الجبلين ونحن يومئذ بمكة ـ لأخبروك انّ الجهاز والمتاع يهدى علانية ، من بيت
المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به وهذا المدّعي ، فإن زعم أنّه أحدث فيه
__________________
شيئاً فليأت عليه
البيّنة ».
٦. إذا اختلف البائع والمشتري في دخول
توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرحا به ، كما إذا اختلفا في دخول اللجام
والسرج في المبيع ، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع وإن لم يذكر يكون قرينة
على أنّ المبيع هو المتبوع والتابع ، ولذلك قالوا : إنّ ما يتعارفه الناس في قول
أو فعل عليه يسير نظام حياتهم وحاجاتهم ، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى
المتعارف لهم ، وإذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه واعتادوه ، وإذا
سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم ، ولهذا قال الفقهاء :
المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
إمضاء النبي 6
لبعض الأعراف
إنّ النبي 6
أمضى بعض الأعراف الموجودة بين العرب كما أمضى ما سنّه عبد المطلب من السنن ، ولكن
كان الجميع بإذن منه سبحانه ، فلو وضع الدية على العاقلة ، أو جعل دية الإنسان
مائة من الإبل وغير ذلك ، فقد كان بأمر من اللّه سبحانه ، كيف وقد أُوحي إليه قوله
سبحانه :
(
وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ * ... فأُولئكَ
هُمُ الظّالِمُون * ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون
).
تفسير خاطئ
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف : إنّ
الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم وعلى بيع العرايا وأصبح
هذان النوعان من البيوع التي لا
__________________
يستغني عنهما
المتعاملون أباحهما ، فرخّص في السلم ورخص في العرايا مع أنّ كلاًّ منهما حسب
الأحكام الشرعية عقد غير صحيح ، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال
فهو عقد على معدوم ، وقد نهى 6
عن بيع المعدوم.
والعرايا : عبارة عن بيع الرطب على
النخل بالتمر الجاف ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين ، وقد نهى 6 عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ، ولكن
ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل وجرى عرفهم به فراعى الرسول ضرورتهم
وعرفهم ورخّص فيه.
أقول
: من أين وقف الأُستاذ على أنّ النبي 6
نهى عن بيع المعدوم مع أنّ الوارد هو قوله 6
: « ولا بيع ما ليس عندك »؟
وقوله 6
ناظر إلى بيع العين الشخصية التي ليست في ملك البائع وإنّما يبيعها ليشتريها من
غيره ثمّ يدفعها إليه ومثله لا يشمل بيع السلم.
نعم أطبق العقلاء على عدم اعتبار بيع
المعدوم إلا إذا كان للبائع ذمّة معتبرة تجلب اعتماد الغير وكان بيع السلف أمراً
رائجاً بين العقلاء إلى يومنا هذا غير انّ الشارع جعلها في إطار خاص
قال ابن عباس : قدم النبي المدينة وهم
يسلفون في الثمار السنة والسنتين ، فقال : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم
ووزن معلوم إلى أجل معلوم ».
وأمّا بيع العرايا فلا مانع من أن يكون
تخصيصاً لما نهى عن بيع الرطب بالجاف
وقد قيل : ما عام إلا وقد خصّ.
__________________
ولو افترضنا انّ النبي 6 رخص هذه البيوع من باب الضرورة يجب
الاختصار على وجودها.
نعم لمّا كان النبي واقفاً على مصالح
الأحكام ومفاسدها وملاكاتها ومناطاتها ، وكانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في
متعلّقاتها ، كان للنبي 6
أن ينص على أحكامه عن طريق الوقوف على عللها وملاكاتها ولا يكون الاهتداء إلى
أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف على مناطاتها بأقصر من الطرق الأُخرى التي يقف بها
النبي على حلاله وحرامه.
في حجّية مطلق الظن
وقد استدل على حجّية مطلق الظن بوجوه
أربعة رابعها دليل الانسداد ، وإليك الإشارة إليها واحداً تلو الآخر.
الدليل الأوّل : ما استدل به
القدماء من الأُصوليين
ذكره الشيخ في العدّة عند البحث في
حجّية الخبر الواحد فقال : « إنّ في العقل وجوب التحرز من المضارّ ، وإذا لم نأمن
عند خبر الواحد أن يكون الأمر على ما تضمّنه الخبر ، يجب علينا التحرّز منه ،
والعمل بموجبه. كما أنّه يجب علينا إذا أردنا سلوكَ طريق أو تجارة وغير ذلك
فخُبِّرنا بخبر انّ في الطريق سبعاً أو لصّاً ، أو خُبِّرنا بالخسران الظاهر ، وجب
علينا أن نتوقف عليه ونمتنع من السلوك فيه.
وقرره المحقّق الخراساني بالشكل التالي
:
__________________
إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من
الحكم الوجوبي والتحريمي لمظنة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
أمّا الصغرى فقد فسر الضرر بأحد الأمرين
:
١. بالعقوبة تارة ، والمفسدة أُخرى.
فقيل : إنّ الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة
فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
وأمّا الكبرى ـ دفع الضرر المظنون لازم
ـ فقد استدلّ عليها بوجهين :
١. إمّا أن نقول بالتحسين والتقبيح
العقليين فواضح ، فالعقل يُقبِّح ارتكاب ما فيه الضرر المظنون.
٢. أو لا نقول بهما ومع ذلك يستقل العقل
بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل لا بملاك استقلاله بهما ، بل يحكم بذلك وإن لم
يستقل بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولذلك أطبق العقلاء على ذلك وإن اختلفوا
فيهما.
ثمّ إنّ القدماء ناقشوا الكبرى وقد نقل
شيخنا الأنصاري منهم أجوبة ثلاثة كلّها يرجع إلى رفض الكبرى وقال :
أ : منع الحاجبيّ الكبرى ، وقال : دفع
الضرر المظنون احتياط مستحب.
ب : نقل الشيخ في العدّة انّ الحكم في
الكبرى راجع إلى المضار الدنيوية لا الأُخروية وهو منه عجيب.
ج : ونقل عن ثالث جواباً نقضياً ، وهو
النهي عن الأمارات ، كخبر الفاسق والقياس مع كونهما مفيدين للظن بالضرر.
ولكن الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني
ركّزا على منع الصغرى ، وانّ الظن بالوجوب والحرمة لا يلازمان الظنّ بالضرر بكلا
المعنيين : العقوبة والمفسدة ،
وإليك توضيح كلا
الأمرين.
أمّا الأُولى : فيعلم ببيان مورد
القاعدتين :
الأُولى : قبح العقاب بلا بيان.
الثانية : لزوم دفع الضرر ( العقاب )
المحتمل.
فلو وقفنا على حدود القاعدتين لظهر منع
الصغرى في المقام ، وإليك البيان :
أمّا القاعدة الأُولى : فالعقل يستقل
بقبح العقاب بلا بيان واصل ، ولا يرى الملازمة بين الوجوب والتحريم الواقعيين ،
والعقوبة ، وإنّما يرى الملازمة بين الحكم الواصل إلى المكلّف ، والعقوبة وليس
المراد إلا العلم أو ما دل الدليل القطعي على حجّيته.
وبما انّ المفروض في المقام عدم ثبوت
حجّية الظن بالحكم في المقام ، فلا يلازم الظنُ بالحكم ، الظن بالعقوبة أبداً
ويكون المحكّم هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن كان في الواقع واجباً أو حراماً.
فالقاعدة تنفي أي موضوع للقاعدة الثانية ، فالثانية بالنسبة إلى مورد الأُولى ،
كبرى بلا صغرى.
وأمّا القاعدة الثانية ، أعني : وجوب
دفع الضرر ( العقاب ) فتختص بما إذا أُحرزت العقوبة على وجه القطع في ظل البيان
الواصل ومع ذلك ربما تتجلّى بصور ثلاث :
أ : القطع بالعقاب ، كما إذا علم انّ
المائع مسكر.
ب : الظن بالعقاب ، كما إذا علم انّ أحد
الإناءين مسكر ، ففي شرب الواحد منهما مظنة العقاب كما انّ في شرب كليهما القطع
به.
ج : احتمال العقاب ، كما إذا كانت الأطراف
متعددة على وجه لا تخرج عن
حدّ المحصورة
واحتمال العقاب في واحد لا ينافي القطع بالعقاب في الجميع ، ففي هذه الصور الصغرى
والكبرى محرزتان ، ففي ظل البيان الواصل يكون العقاب ، مقطوعه أو مظنونه أو محتمله
واجب الدفع.
والعجب من المحقّق الخراساني حيث احتمل فيما
إذا لم يكن في المورد بيان واصل ومع ذلك ظن بالحكم ، أن لا يحكم العقل بأحد
الطرفين لا باستحقاق العقاب ولا بعدم استحقاقه ، ولأجل عدم حكمه بحسن واحد منهما ،
يكون العقاب محتملاً ويستقل العقل بلزوم دفع العقاب مقطوعه ومظنونه ومشكوكه .
يلاحظ
عليه : بأنّ ما ذكره غير تام لوجهين :
أ : انّ العقل لا يتوقف في الحكم إذا
كان الموضوع ممّا له به صلة.
ب : انّ في تجويز توقف العقل عن إصدار
الحكم في الموضوع الذي هو المرجع فيه ، إبطالاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وكيف
يحتمل العقاب مع عدم كون الظن حجّة والبيان غير واصل.
هذا كلّه إذا أُريد من الضرر في الصغرى
العقوبة الأُخروية.
وأمّا إذا أُريد من الضرر ، المفاسد ،
فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :
الأوّل
: انّ الظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة أو المفسدة ، لأنّهما من الأُمور
التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل فيهما ، ولكن ليس كلّ مفسدة واجبَ الدفع. وذلك
لأنّه ليس المراد منهما المصالح والمفاسد الشخصية ، بل المصالح والمفاسد النوعية ،
والذي يستقل العقل بدفعه هو الضرر المظنون الشخصي ، لا النوعي ، ومثله المصلحة
النوعية فليس في تفويتها أيّ ضرر شخصي ، بل ربما يكون في استيفائها مفسدة كما في
الإنفاق بالمال.
__________________
الثاني
: ليس الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور والمنهي عنها وإنّما هي تابعة
لمصالح في نفس الأحكام.
وعلى ذلك فالصغرى أي الظن بالضرر الشخصي
منتف ، ومعه كيف يُسْتَدلُّ بالكبرى؟!
فإن
قلت : إنّ الضرر الشخصي وإن كان منتفياً
عند الظن بالحكم ، لكن الظن بالمفسدة النوعية أو احتمالها ـ حسب ما ذكر ـ ليس
منتفياً ، والعقل مستقل بقبح مظنون المفسدة النوعية أو محتملها أو مظنون المصلحة
أو محتملها.
قلت
: قد أشار إلى هذا السؤال والجواب عنه بقوله : « ولا استقلال للعقل بقبح ما فيه
احتمال المفسدة ، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة ... ».
وحاصل الجواب : انّ العقل إنّما يستقل
في مجال المصالح والمفاسد النوعية في صورة العلم بهما دون الظن والاحتمال.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من
تبعية الأحكام للمصالح النوعية ومفاسدها دون الشخصية ، ليس بتام ، إذ لا مانع من
أن يكون في الحكم كلا الملاكين ، كما في شرب المسكر والقمار وأكل الميتة والدم
وغير ذلك.
وثانياً
: أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام تابعة لهما في نفس الإنشاء دون المتعلّق ، غير تام
أيضاً ، ولو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في الأوامر الامتحانية دون غيرها ، ولو صحّ
ما ذكره في عامة الأحكام لما وجب امتثالها ، بعد حصول الملاكات ، بالإنشاء.
وثالثاً
: التفريق بين الضرر الشخصي المظنون والمحتمل والضرر النوعي كذلك بإيجاب دفع
الأوّل دون الثاني عجيب جدّاً ، ولا يحكم بذلك إلا العقل المادي الذي يقدم نفسه
ونفعه على كلّ شيء ، دون العقل الإلهي الذي يرى الناس سواسية ، فلو وجب دفع الضرر
الشخصي في مجالي الظن والاحتمال ، يجب دفع الضرر النوعي أيضاً كذلك ، فالأولى
الإجابة بأحد الوجهين على نحو المانعة
الخلو :
١. الالتزام بالاحتياط فيما إذا كان
الضرر خطيراً وإن كان من حيث الاحتمال ضعيفاً ، كما إذا احتمل انّ المائع ممزوج
بالسم المهلك ، أو انّ شرب التتن يوجب احتراق المعمل المتعلّق بالشعب ، فالعقلاء
قاطبة على لزوم الاجتناب دون ما إذا كان الضرر طفيفاً وإن كان من حيث الاحتمال قويّاً
، هذا من غير فرق بين الضرر الشخصي أو النوعي في كلتا الصورتين.
٢. ما ذكره الشيخ من أنّ حكم الشارع
بالبراءة في الشبهات يكشف إمّا عن عدم الأهمية ، أو لوجود المصلحة الغالبة على
المفسدة الحاصلة ، كما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري قال : إنّ الضرر وإن كان مظنوناً
، إلا أنّ حكم الشارع قطعاً أو ظناً بالرجوع في مورد الظن إلى البراءة والاستصحاب
وترخيصه لترك مراعاة الظن ، أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون.
الدليل الثاني على حجّية
الظن المطلق
إذا ظن بوجوب السورة في الصلاة ، فالأمر
دائر بين الأخذ به والأخذ بمقابله ، أعني : عدم الوجوب الذي يعدّ بالنسبة إلى
مقابله وَهْماً ، فلو لم يُؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.
وقد أجاب عنه الشيخ بوجهين ، تارة
بالنقض بكثير من الظنون التي حَرُمَ العمل بها إجماعاً كالقياس والاستحسان ،
وأُخرى بالحلّ واقتصر المحقّق الخراساني بالثاني ، وإليك توضيحه :
إنّ المستدل قد أخذ لزوم الأخذ بأحد
الطرفين ( الظن أو الوهم ) أمراً مسلماً ، فاستنتج انّه لو لم يؤخذ بالظن ، لزم
الأخذ بالوهم ، وهو ترجيح المرجوح على
__________________
الراجح.
ولسائل أن يقول : لزوم الأخذ إمّا في
مقام الإفتاء ، أو في مقام العمل.
أمّا الأوّل فإنّما يدور الأمر بينهما
إذا وجب عليه الإفتاء ، ولكن لقائل أن يقول يحرم عليه الإفتاء والحال هذه ، لأنّه
إفتاء بما لا يعلم صحّته سواء كان جانب الظن أو جانب الوهم.
وأمّا الثاني فلأنّ الأمر لا يدور
بينهما إلا إذا ثبتت قبله مقدمات ثلاث :
١. العلم الإجمالي بالتكاليف.
٢. انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام
بمقدار يكفي في انحلاله.
٣. بطلان الاحتياط لاستلزامه العسر
والحرج وعدم جواز الرجوع إلى البراءة لاستلزامه الخروج عن الدين وعدم جواز التقليد.
فعندئذ ينحصر الطريق بالعمل بواحد من
الطرفين ، ولكنّه يرجع إلى دليل الانسداد ، ولا يكون دليلاً مستقلاً.
الدليل الثالث على حجّية
الظن المطلق
ما حكاه الشيخ الأنصاري ، عن أُستاذه
شريف العلماء ، وهو عن أُستاذه السيد محمد المجاهد صاحب المناهل ( المتوفّى سنة ١٢٤٢
هـ ) ، ابن السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ وحاصله :
انّه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات
كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك ، الاحتياط التام حتى في الموهومات ، وبما انّ
الاحتياط التام مستلزم للحرج ، فمقتضى الجمع بين القاعدتين هو الاحتياط في
المظنونات دون المشكوكات ، لأنّ عكسه باطل بالإجماع.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره بعض مقدمات دليل
الانسداد وقد أهمل ذكر بعضها الآخر ، وهو انسداد باب العلم والعلمي أوّلاً ، وعدم
إهمال الوقائع المشتبهة ثانياً.
الدليل الرابع على حجّية
الظن المطلق : دليل الانسداد
وهو مؤلَّف من مقدّمات يستقل العقل من
تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنية ، حكومة أو كشفاً ، وهي خمس وجعلها الشيخ أربع بحذف
المقدمة الأُولى ، وإليك بيانها :
الأُولى : العلم الإجمالي بوجود تكاليف
كثيرة فعلية.
الثانية : انسداد باب العلم والعلمي.
الثالثة : لا يجوز لنا إهمالها وعدم
التعرض لها.
الرابعة : لا يجوز أو لا يجب الاحتياط
لعدم وجوبه بقوله سبحانه : (
وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
) أو للإجماع كما لا يجوز الرجوع إلى
الأُصول من استصحاب وبراءة ، لعدم جواز الرجوع إلى الأُصول عند العلم الإجمالي ولا
تقليد لحرمته على المجتهد.
الخامسة : لا بدّفي مقام الإطاعة إمّا
من الاكتفاء بالإطاعة الوهمية أو الشكية أو الظنية ، فعلى الأوّلين يلزم ترجيح
المرجوح على الراجح فيتعين الثالث ، أعني : الاكتفاء بالإطاعة الظنية.
هذا هو لبّ دليل الانسداد ، وتسميته
بالدليل العقلي مع كون بعض مقدماته شرعية ، أعني : عدم وجوب الاحتياط لقيام
الإجماع عليه ، أو لدلالة قوله تعالى : (
وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجْ
) لأجل انّ الدليل بصورة قياس
__________________
استثنائي مركب من
قضية منفصلة حقيقة ذات أطراف كثيرة ، وهي : إمّا أن يكون علم إجمالي بالتكاليف ،
أو لا يكون ، وعلى الأوّل إمّا أن ينسد باب العلم والعلمي إلى كثير منها أو لا.
وعلى الأوّل إمّا أن يجوز الإهمال أو لا ، وعلى الثاني فالتعرض إمّا بالاحتياط أو
بالأُصول العملية أو بالرجوع إلى القرعة أو بالإطاعة الوهمية والشكية أو الظنية.
والكلّ باطل غير الأخير ، فتعين الأخير.
وإليك دراسة المقدّمات واحدة تلو
الأُخرى.
المقدمة الأُولى
العلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية
في الشريعة.
وهذه المقدمة أسقطها الشيخ من مقدمات
دليل الانسداد والحقّ معه ، لأنّها إمّا أمر بديهي إذ أريد منه العلم بثبوت
الشريعة وعدم نسخ أحكامها ، أو راجعة إلى المقدمة الثالثة إذا أريد منها العلم
الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الوقائع المشتبهة التي لم يتبين حكمها ولذلك لا
يجوز إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.
ولكن الظاهر من المحقّق الخراساني هو
اختيار الوجه الأوّل ، وبذلك تكون مقدمة بديهية لكن العلم الإجمالي بتكاليف فعلية
في الشريعة ليس باقياً بحال إجماله بل كلّ ينحلّ بالترتيب التالي.
توضيحه : انّ لنا علوماً ثلاثة :
أ : علم إجمالي كبير ، وهو العلم بوجود
التكاليف في الواقع وانّ الشرع لم يترك الإنسان سدى.
ب : علم إجمالي صغير ، وهو العلم بوجود
عامة التكاليف بين الأمارات والأخبار الموجودة فيما بأيدينا.
ج : علم إجمالي أصغر ووجود عامة
التكاليف المعلومة إجمالاً في خصوص الأخبار المودوعة في الكتب المعتبرة وغير المعتبرة
التي يربو عددها على خمسين ألف حديث.
فلازم ذلك العلم ، الاحتياط في خصوص
الأخبار الأعم من المعتبرة وغيرها ولا يورث مثل هذا الاحتياط ، عسراً ولم يقم
إجماع على عدم وجوبه في مورد الأخبار وإن قام الإجماع على عدم وجوبه في أطراف
العلمين الأوّلين.
على أنّه سيوافيك إمكان انحلال ثالث
العلوم برابعها أيضاً.
المقدمة الثانية
انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه
وعليها تدور رحى دليل الانسداد ، وقد اقتصر بها صاحبا المعالم والوافية وإنّما
أضاف إليها سائر المقدّمات المتأخرون عنهما ، ولكن انسداد باب العلم بالنسبة إلى
معظم الفقه صحيح لقلّة الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة لكن ادّعاء انسداد باب
العلمي ، أي ما دلّ الدليل القطعي على حجّيته بالنسبة إلى معظم الفقه ، غير صحيح
لما عرفت من الدليل القطعي على حجّية الخبر الموثوق بصدوره سواء حصل الوثوق
بالصدور من وثاقة الراوي أو قرائن أُخر وهو بحمد اللّه متوفر وواف بمعظم الفقه على
وجه لا يلزم الرجوع في غير مورد الخبر إلى الأُصول العملية محذور الخروج من الدين
، أو مخالفة العلم الإجمالي ، لعدم العلم بالتكاليف في غير موارد الاخبار.
نعم لو قلنا بحجّية خصوص الصحيح
الأعلائي الذي يكون جميع من ورد في السند إمامياً معدلاً بعدلين من أهل الخبرة ،
كان لما ادّعاه مجال ، ولكن الاقتصار ه على خلاف ما دلّت عليه الأدلّة.
__________________
أو قلنا بمقالة المحقّق القمي من أنّ
الظهورات حجّة لمن قصد إفهامه من الكلام ، فيدخل العمل بها لغير المشافهين تحت
العمل بالظن المطلق ، وقد عرفت عدم صحّة ما ذكر.
المقدمة الثالثة
لا يجوز إهمال الوقائع المشتبهة على
كثرتها وترك التعرض لامتثالها بإجراء البراءة في جميعها ، ومع أنّ المقدمة قطعية
كما قالها المحقّق الخراساني ، لكن الشيخ الأنصاري استدل عليها بوجوه ثلاثة :
أ : الإجماع القطعي على أن ليس المرجع
على تقدير انسداد باب العلم وعدم ثبوت الدليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ، هو
البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم ، بل لابدّ من إمتثال الأحكام المجهولة
بوجه ما ، وهذا الحكم وإن لم يصرح أحد به من القدماء بل المتأخرين في هذا المقام ،
إلا أنّه معلوم للمتتبع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طراً.
ب : انّ الرجوع في جميع تلك الوقائع
المشتبهة حكمها إلى نفي الحكم ، مستلزم للمخالفة القطعية المعبر عنها في لسان جمع
من مشايخنا بالخروج عن الدين بمعنى انّ المقتصر على التدين بالمعلومات التارك
للأحكام المجهولة ، جاعلاً لها كالمعدومة يكاد يعد خارجاً عن الدين لقلّة
المعلومات وكثرة المجهولات.
ج : لا يجوز الرجوع إلى البراءة من جهة
العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ، فانّ أدلّة البراءة مختصة بغير هذه
الصورة.
والفرق بين الوجهين الأخيرين واضح ، وهو
انّ أوّل الوجهين مبني على عدم جواز المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج
عن الدين ، وهو محذور
مستقل ؛ بخلاف
ثانيهما ، فهو مبني على عدم جواز مطلق المخالفة القطعية وإن لم تكن كثيرة.
وبعبارة أُخرى : أساس الثاني هو العلم
الإجمالي المنجز ومعه لا تجوز المخالفة مطلقاً قلت أو كثرت ، بخلاف الأوّل فانّ
أساسه هو لزوم الخروج من الدين ولا يتحقق إلا بالمخالفة القطعية الكثيرة.
وقد اعتمد المحقّق الخراساني على الوجه
الثاني وقال :
أمّا المقدمة الثالثة فهي قطعية ولو لم
نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض
أطرافه ، كما في المقام حسب ما يأتي ، وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب
كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً وممّا يلزم تركه إجماعاً.
ثمّ إنّه 1
أشار إلى إشكال في المقام وقال ان قلت :
إذا لم يكن العلم بها منجزاً للزوم
الاقتحام في بعض الأطراف كما أشير إليه ، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر
الأطراف حينئذ على تقدير المصادفة ، إلا عقاباً بلا بيان ، والمؤاخذة عليها إلا
مؤاخذة بلا برهان.
لكن يمكن الإجابة عنه بوجوه :
الأوّل
: ما أفاده 1 بتوضيح منّا
انّ إيجاب الاحتياط في غير ما يرتفع به العسر ، ليس أثر العلم الإجمالي حتى يقال
انّه غير منجز ، بل أثر علمنا باهتمام الشارع بمراعاة تكاليف بحيث لا ينافيه عدم
إيجابه الاحتياط ( فيما يرتفع به العسر ) ولو بالالتزام ببعض المحتملات ، وأمّا
مصدر علمنا باهتمامه فهو إمّا الإجماع أو كونه مستلزماً للخروج عن الدين ( الوجهان
الأوّلان ).
الثاني
: انّ الاضطرار إلى بعض الأطراف إنّما ينافي تنجيز العلم الإجمالي إذا
كان الاضطرار إلى طرف
معين لا إلى واحد لا بعينه كما سيوافيك ، والاضطرار في المقام إنّما هو للبعض غير
المعين لا المعين ، لأنّ الاضطرار يرتفع بارتكاب بعض الأطراف لا بعينه.
الثالث
: الفرق بين الاضطرار المقدّم على العلم الإجمالي ، حيث يوجب عدم انعقاد العلم
الإجمالي مؤثراً ، لأنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير
، وهذا إنّما يتصور إذا لم يتقدّم الاضطرار على العلم إذ عندئذ ( فرض التقدم )
يكون مؤثراً على فرض وغير مؤثر على فرض. ومثل هذا ينافي العلم بتنجز التكليف على
كلّ تقدير ، وبين الاضطرار الحادث بعد العلم ، فهو وإن كان رافعاً للعلم ، لكنّه
ليس برافع أثره ، لأنّ العقل يحكم بوجوب الاجتناب لأجل العلم السابق المرتفع فعلاً
، وانّ الضروريات تتقدر بقدرها ، وهو الطرف الرافع للاضطرار ، لا غيره. وسوف
يوافيك تفصيله.
المقدمة
الرابعة : في بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق
المقررة للجاهل.
إنّ الطرق المقررة للجاهل أحد أُمور
ثلاثة :
١. الاحتياط في المشتبهات مطلقاً.
٢. الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه
الأصل في تلك المسألة ، ففي الشكّ في التكليف يرجع إلى البراءة ، وفي الشكّ في
المكلّف به إلى الاحتياط إلا إذا لم يمكن فيرجع إلى التخيير ، وفي الشكّ في حكم
سابق يحتمل بقاؤه يرجع إلى الاستصحاب.
٣. تقليد الغير ، ورجوع المجتهد الذي
يعتقد بانسداد باب العلم إلى المجتهد القائل بالانفتاح وكلّ هذه الطرق باطلة ، فلم
يبق إلا العمل بالظن.
فيجب البحث في محاور ثلاثة :
١. الرجوع إلى الاحتياط
أمّا الرجوع إلى الاحتياط ، فوجه بطلانه
أحد أمرين على وجه القضية المانعة الخلو :
أ : الإجماع القطعي على عدم وجوبه في
المقام ، بمعنى العلم بسيرة العلماء في الفقه ، وهو انّ المرجع في الشريعة على
تقدير انسداد باب العلم ، ليس هو الاحتياط في الدين ، والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل
وجوبه ولو موهوماً وترك ما يحتمل حرمته كذلك.
ب : لزوم العسر الشديد ، والحرج الأكيد
لكثرة ما يحتمل خصوصاً في أبواب الطهارة والصلاة ، مع عدم إمكان الاحتياط في بعض
الموارد ، كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ إلى صرفه عليه أو كما في المرافعات
وعلى ذلك فلا مناص من العمل بالظن.
ثمّ إنّ الشيخ أورد إشكالاً على التمسك
بأدلّة الحرج وقال : إنّ الأدلة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب
أصل الشرع أوّلاً وبالذات فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع ـ إلى أن
قال : ـ ولا ريب في انّوجوب الاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما
يحتمل الحرمة إنّما هو من جهة اختفاء أحكام الشريعة وليس مستنداً إلى نفس الحكم.
ثمّ أجاب عنه بأنّ الحرج وصف للحكم
والمرفوع هو الحكم الحرجي ولا فرق فيه بين ما يكون بسبب يسند عرفاً إلى الشارع وهو
الذي أريد بقولهم : دع ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالنذر ، وبين ما يكون
مسنداً إلى غيره ، فانّ وجوب صوم الدهر على ناذره إذا بان فيه مشقة لا يحتمل عادة
، ممنوع ، وكذا أمثالها من المشي إلى بيت اللّه جلّ ذكره وإحياء الليالي وغيرهما.
توضيحه : أنّ دليل نفي الحرج ينفي كلّ
حكم حرجي سواء كان حرجياً حدوثاً ، كما في إيجاب المسح على البشرة على من وضع
المرارة عليها ؛ أو بقاءً ، كما في المقام فانّ امتثال الأحكام في هذه الظروف التي
يتوقف امتثال واجب على الإتيان بعشرة أُمور ، وترك المحرم على ترك أُمور كثيرة ناش
من حفظ الحكم في المقام فيكون مدلولها نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج ولو
باعتبار بقائه في حال الاشتباه .
وأمّا المحقّق الخراساني فقد وافق
المستدل إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام لا ما إذا استلزم الحرج ، إذ لا حكومة
لأدلته على إيجاب الاحتياط في المقام.
وتوضيح كلامه مبني على بيان أمرين :
١. انّ المرفوع هو نفس الحرج ، لا الحكم
، والحرج والضرر من أوصاف أفعال المكلّفين التي هي متعلقات الأحكام ، فلا يستدل
بأدلّتهما إلا إذا كان نفس الفعل ومتعلّق التكليف حرجياً. ولذلك يصحّ الاستدلال
على عدم وجوب مسح البشرة لمن عثر وسقط ظفره ، لأنّ نفس الفعل ومتعلّق الحكم حرجي
ولا يصحّ الاستدلال بها على عدم لزوم العقد الغبنيّ ، لأنّ الفعل ، أعني : نفس
البيع ليس بحرجي وإنّما الحرج ناش من إيجاب العقد ، وهو غير مرفوع.
٢. انّ الغرض من رفع الفعل الحرجي إنّما
هو رفع حكمه الشرعي ، كما هو الحال في : لا شك لكثير الشك ، ولا ربا بين الوالد
والولد ، وهذا الشرط ـ أعني : كون المتعلّق حرجياً وإن كان حاصلاً في المقام ،
لأنّ متعلّقه عبارة عن الإتيان بالمشتبهات الكثيرة ، لكن حكمه ، أعني : إيجاب
الاحتياط ـ ليس شرعياً ، بل هو حكم عقلي من باب حكمه بتحصيل الموافقة القطعية عند
الاشتغال اليقيني.
__________________
فعدم شمول أدلّة الحرج لأجل انتفاء
الشرط الأخير ، أي عدم كون حكم المرفوع حكماً شرعياً.
يلاحظ على ما ذكره بوجهين :
أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكره
فإنّما يصحّ في قوله : « لا ضرر » بناء على أنّ الضرر صفة الفعل ، وانّ المرفوع
خصوص الفعل الضرري ـ لا الحكم الضرري ـ لكن لغاية رفع حكمه ، وأمّا القاعدة
الأُخرى ، فالدليل الواضح فيها قوله سبحانه : (
وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
) فهو ظاهر في
نفي الحكم الحرجي بقرينة قوله : (
وما جَعَلَ
) فانّ الجعل
التشريعي يتعلّق بالحكم لا بالموضوع ، والمقصود كما هو الظاهر من رواية « عبد
الأعلى مولى آل سام » أعني قوله : « إنّ هذا وأشباهه يعرف من كتاب اللّه » هو
الاخبار عن عدم جعل وجوب المسح على البشرة برفع ما عليها ، فكيف يقاس هذا بهذا؟!
وأمّا
ثانياً : فلأنّ ما ذكره غير تام حتى في نفس «
لا ضرر » ، لأنّه إذا كان المراد نفي الفعل الضرري بلحاظ نفي حكمه ، يلزم ارتفاع
حرمة الفعل الضرري وجواز الإضرار بالغير وهو خلاف المقصود قطعاً ، إذ لو كان وزان
« لا ضرر » هو وزان « لا ربا بين الولد والوالد » يكون المقصود ارتفاع حرمة الضرر
، كارتفاع حرمة الربا بينهما ، وهو غير صحيح بالضرورة. فتعين انّ المقصود إمّا ما
اختاره الشيخ ، أو ما ذهب إليه شيخ الشريعة من كون النفي بمعنى النهي ، مثل قوله
سبحانه : ( فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجّ
) ، أو ما اختاره سيّدنا الأُستاذ من كون
النهي حكماً سلطانياً وحكومياً ، لا حكماً شرعياً وفرعياً. وسيوافيك تحقّيق الحال
في محلّه فانتظر.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى
إشكال آخر ، وهو انّه لا يصحّ الاحتجاج
__________________
بالعلم الإجمالي على
لزوم الاحتياط للزوم رفع اليد عن بعض الأطراف لأجل رفع الاضطرار ، بل لابدّ من
الاستدلال على وجوبه بالدليل الشرعي وهو الوجهان الأوّلان الماضيان في المقدمة
الثالثة.
وقد عرفت الإشكال في كلامه عند البحث
فيها بوجوه ثلاثة فلا يفيد.
الرجوع إلى الأصل في كلّ
مورد
من الطرق المقررة للجاهل بالحكم الواقعي
، الرجوع إلى الأصل في كلّ مسألة ، فيرجع في الشك في التكليف إلى البراءة ، وفي
المكلّف به إلى الاحتياط إذا أمكن ، وإلى التخيير إذا لم يمكن ، وإلى الاستصحاب
إذا كان للحكم سابق; ولكن العمل بهذا الطريق غير صحيح لما أفاده الشيخ بقوله :
فالعمل بالأُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة ،
وبالأُصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج ، وهذا لكثرة
المشتبهات في المقامين.
وأمّا المحقّق الخراساني فلم يوافق هذا
الجزء من إجزاء الاستدلال ، وحاصل ما أفاد : أنّ المانع عند الشيخ الأنصاري عن
جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي ، هو لزوم التناقض في مدلول الدليل الدال
عليها ، أعني قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر » مثلاً إجراء
أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين باعتبار كونهما مسبوقي الطهارة يوجب دخولهما
في صدر الحديث وكونهما محكومين بالطهارة ، لكن مقتضى العلم بوجود النجاسة في البين
هو نقضهما والحكم بوجوب الاجتناب ودخولها في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » وهذا
ممّا يصد الفقيه عن القول بدخول أطراف العلم الإجمالي تحت أدلّة الأُصول.
__________________
لكن المانع عن جريان الأُصول عند
المحقّق الخراساني ، هو وجود المخالفة القطعية ، وذلك لأنّ الحكم بطهارة الاناءين
المشتبهين ينتهي إلى شربهما معاً فيلزم المخالفة القطعية.
إذا علمت هذه المقدمة ، فاعلم أنّ لكلام
المحقّق الخراساني في المقام مقاطع ثلاثة :
١. لا مانع من جريان الأُصول في عامة
الموارد المشتبهة ولا يلزم محذور التناقض في المقام ، فلأنّ استصحاب عدم التكليف
مثلاً بمقتضى قوله : لا تنقض اليقين بالشك في مورد ، إنّما يستلزم التناقض إذا كان
الشك في جميع الأطراف فعلياً بحيث لا يجري الأصل في مورد جزئي إلا ويجري في جميع
الموارد المشتبهة ، فالحكم بالبراءة في تلك الموارد ، ينافي العلم بانتقاض الحالة
السابقة في كثير منها ، فاستصحاب عدم التكليف في هذه الموارد ، تمسكاً بالصدور
يناقضه العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها فيصدق قوله : ولكن تنقضه بيقين
آخر.
وأمّا إذا لم يكن الشكّ فعلياً إلافي
مورد جزئي ولم يكن سائر الأطراف مورداً للالتفات ، فلا يلزم التناقض لعدم العلم
بانتقاض الحالة السابقة في هذا المورد الذي جرى فيه استصحاب عدم التكليف والبراءة
منه.
٢. لا مانع من جريان الأُصول إذا قلنا
بأنّ المانع عن جريانها هو لزوم المخالفة القطعية ، فإنّ إجراء أصل الطهارة في كلا
الإناءين واستعمالها فيما يشترط فيه الطهارة يستلزم المخالفة القطعية ، لكن ذلك
الملاك غير موجود في المقام ، وذلك :
لأنّ العلم الإجمالي الكبير ، بالتكاليف
في المظنونات والمشكوكات والموهومات منحل ببركة أمرين :
أ : ما علم تفصيلاً أو نهض عليه دليل
علمي.
ب : الأُصول المثبتة للتكاليف.
فبعد هذا لا يبقى علم بالتكليف بل يكون
المقدار منطبقاً على المعلوم بالتفصيل.
ولو افترضنا عدم انحلاله وبقاء العلم
الإجمالي بالتكليف لكنّه ليس على وجه يستكشف معه الاحتياط بالوجهين السابقين في
المقدمة الثالثة ، أعني : الإجماع والخروج عن الدين.
وعند ذلك فلا يبقى وجه للاحتياط وتكون
الأُصول ـ نافيها ومثبتها ـ جارية بلا إشكال.
٣. على فرض عدم الانحلال ، يلزم القول
بالتبعيض في الاحتياط ، أي الاحتياط في مظنونات التكاليف ومشكوكاتها وموهوماتها.
لا مطلق محتملات التكليف حتى يجب الاحتياط في موارد دلّ الدليل على التكليف ، أعني
: الدليل العلمي والأُصول المثبتة ، ولو افترضنا لزوم العسر والحرج في الموارد
الثلاثة فيقصر بموارد الظن بالتكليف.
وأمّا الجزء الثالث من أجزاء الاستدلال
فواضح لا يحتاج إلى البحث ضرورة انّ التقليد لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي
يخطئ رأي القائل بالانفتاح.
هذا تمام الكلام في نقد المقدمة الرابعة
، أضف إليه انّ المطلوب غير حاصل منها على فرض صحّتها ، لأنّ المقصود إثبات حجّية
الظن على وجه يقع في عداد الكتاب والسنة القطعية على وجه يخصص به عموم الكتاب
والسنة وإطلاقهما حتى ولو كان مفاده على خلاف الاحتياط ولكن الحاصل منها هو حجّية
الظن من باب الاحتياط. فيقتصر في العمل به بالموارد التي يكون العمل بها موافقاً
للاحتياط ... وهو غير المطلوب في المقام.
المقدمة الخامسة
إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام
المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرة كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة وثبت عدم وجوب
الامتثال على وجه الاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى الأُصول الشرعية إمّا لاستلزام
جريانها طروء التناقض ، أو المخالفة القطعية كما هو مقتضى المقدمة الرابعة ، تعين
التعرض لأمثال الأحكام المشتبهة على وجه الظن بالواقع ، إذ ليس بعد الامتثال
العلمي ، والامتثال الظني بالظن الخاص ، امتثال مقدّم على الامتثال الظني.
توضيح ذلك : انّ للامتثال مراتب أربع :
١. الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو أن
يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به وفي معناه إذا ثبت كونه المكلف به بالظن
الخاص ، فالعمل بالخبر الواحد والأُصول التي تثبت حجّتها بالدليل من مصاديق هذه
المرتبة.
٢. الامتثال العلمي الإجمالي ، وهو
العمل بالاحتياط في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي.
٣. الامتثال الظني ، أي أن يأتي بما يظن
المكلف به ولم يقم دليل بالخصوص على حجّيته.
٤. الامتثال الاحتمالي ، كالتعبد ببعض
محتملات المكلّف به.
وهذه المراتب لا يجوز عند العقل العدول
عن سابقتها إلى لاحقتها إلا مع تعذّرها ، فإذا تعذرت الأُولتان بتعين الامتثال
بصورة الظن بالمكلّف به لقبح الامتثال الشكي أو الوهمي ، مع إمكان الامتثال الظني
وعلى هذا يصبح الظن حجّة.
وأمّا انّ نتيجة دليل الانسداد إجمالاً
هي حجّية مطلق الظن أو حجّيته في
الجملة فهو كلام آخر
يبحث عنه في تنبيهات الدليل هذا.
ولكن القياس إنّما ينتج إذا كانت
المقدمات سليمة عن النقد ، وقد عرفت أنّ أكثر المقدّمات غير خالية عن الإشكال.
أمّا الأُولى ، فقد عرفت أنّ العلم
الإجمالي الكبير ينحل بالصغير وهو بالأصغر ، فغاية الأمر يلزم الاحتياط بما في ردّ
الأخبار من الأحكام ولا يلزم منه العسر والحرج ، وهذا غير كون الظن حجّة.
أمّا الثانية ، فلما عرفت من أنّ باب
العلم وإن كان مسدوداً ، ولكن باب العلمي ليس بمسدود.
أمّا الثالثة ، فهي لا غبار عليها إذ لا
يجوز الإهمال لوجوه ثلاثة ، وإن أشكل المحقّق الخراساني على الوجه الثالث بعدم
تنجيز العلم الإجمالي في المقام لجواز ارتكاب بعض الأطراف ، وقد تقدّم دفع إشكاله
بوجهين من أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف ، أوّلاً ، وعروضه بعد العلم ثانياً لا
يخلّ بتنجيز العلم الإجمالي.
وأمّا المقدمة الرابعة ، فقد أورد عليها
المحقّق الخراساني إشكالات :
١. أمّا الرجوع إلى الاحتياط فهو إن كان
حرجياً لكن أدلّته لا تشمل المقام لاختصاصها بالفعل الحرجي المحكوم بحكم شرعي
والاحتياط وإن كان حرجياً لكنّه محكوم بحكم عقلي لا شرعي.
والرجوع إلى الأُصول مثبتة للتكليف أو
نافية خال عن الإشكال ، لعدم لزوم المتناقض أوّلاً ، كما هو مسلك الشيخ في عدم
جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون جمع الأطراف محلاً للابتلاء.
ولا المخالفة العملية ثانياً كما هو
مبنى المحقّق الخراساني ، لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف ينحل ببركة أُمور ثلاثة :
العلم بالتكليف ، قيام الدليل العلمي
به ، والأُصول
المثبتة له.
٣. ولو قيل بعدم الانحلال ، فلا مانع من
الاحتياط في الصور الثلاث ، أي مظنون التكليف ، محتمله وموهومه ، لا كلّ المحتملات
حتى في موارد الأُصول المثبتة للتكليف ، بل يكتفي فيها بنفس الأُصول ، ولا يجب
الاحتياط.
وبذلك يثبت انّ القياس عقيم ولا ينتج
حجّية الظن المطلق أصلاً ، فإذا بطل الدليل ، فالبحث عن نتائجه على فرض الصحّة أمر
غريب فتح بابه الشيخ الأنصاري وتبعه المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني ـ قدّس
اللّه أسرارهم ـ.
ولكن أرى ترك التعرض لها في هذه الأعصار
أولى.
غير انّ المحقّق الخراساني ذيل
التنبيهات بخاتمة ذكر فيها أمرين قابلين للبحث والدراسة.
خاتمة
وفيها أمران :
الأمر الأوّل : هل الظن حجّة
في العقائد أو لا؟
قد ثبت بفضل البحوث السابقة انّ الظن
الخاص حجّة في الفروع وانّ الظن المطلق ليس بحجّة أصلاً ، بقي الكلام في حجّية
الظن خاصها ومطلقها في الأُصول والعقائد ، وإشباع البحث يتوقف على الكلام في
محاور.
١. ما هي الأقوال في المسألة؟
قد اختلفت كلماتهم في اعتبار الظن في
الأُصول على أقوال :
الأوّل : اعتبار العلم الحاصل من النظر
والاستدلال ، وهو المعروف بين العلماء وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر
إجماع العلماء.
الثانــي : اعتبار العلم واليقين وإن
حصل من التقليد أو من قول الفرد أو الجماعة.
الثالــث : كفاية الظن مطلقاً.
الرابـــع : كفاية الظن المستفاد من
النظر.
الخامس : كفاية الظن المستفاد من الخبر.
السادس : كفاية الجزم بل الظن من
التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً ، ولكنّه معفو عنه.
هذه هي الأقوال التي ذكرها الشيخ
الأنصاري في المقام.
__________________
٢. هل يجوز العمل بالظن
الانسدادي في العقائد؟
لا يجوز العمل بالظن الانسدادي ولا
بالظن الخاص في القسم الثاني ، أعني : ما يجب فيه عقد القلب إن حصل العلم ، أمّا
الانسدادي فلعدم جريان مقدماته الخمس في هذا القسم ، لأنّ الواجب في هذا القسم هو
التديّن بالواقع على تقدير حصول العلم وهو غير حاصل. هذا من جانب ومن جانب آخر
الاحتياط في المقام ممكن بلا محذور ، وهذا بخلاف الفروع العملية ، فانّ الاحتياط
فيها لا يخلو عن أحد المحاذير.
أضف إلى ذلك من لزوم التشريع من التعبد
بالظن الانسدادي ، لأنّ المطلوب في الأُمور الجوانحية هو التديّن ، والعمل بالظن
الانسدادي فيها مخالفة قطعية ، بالنسبة إلى حرمة التشريع وموافقة احتمالية بالنسبة
إلى وجوب التديّن بالعقيدة الحقّة ، والعقل لا يجوّز المخالفة القطعية لأجل
الموافقة الاحتمالية ، وهذا بخلاف الفروع فانّ المطلوب فيها هو العمل دون التديّن.
٣. هل يجوز العمل بالظن
الخاص؟
هل يجوز العمل بالخبر الواحد في الأُصول
الاعتقادية؟ يظهر من الشيخ جوازه حيث قال : فلا مانع من وجوبه في مورد الخبر
الواحد ، بناء على أنّ هذا نوع عمل بالخبر الواحد ، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق
العادل لا يأبى عن ذلك.
ويظهر أيضاً من صاحب مصباح الأُصول حيث
قال : إنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه وعقد القلب عليه ، لأنّه ثابت بالتعبد
الشرعي.
__________________
ولكن الاعتماد على خبر الواحد في أُصول
الفقه ، فضلاً عن أُصول العقائد ، فرع وجود إطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد التي
عمدتها أو وحيدها هو السيرة العقلائية ، والقدر المتيقن منها هو ما يرجع إلى غير
هذا القسم ، على أنّه لم يعهد من أعاظم الأصحاب كالمفيد والمحقّق العمل بأخبار
الآحاد في الأُصول ، فالتوقف في هذا القسم وعقد القلب بما هو الواقع هو الأولى.
٤. ما يجب فيه تحصيل العلم
إذا ثبت عدم جواز العمل بالظن في
الأُصول الاعتقادية يجب تحديد دائرة ما يلزم تحصيل العلم به ، فيظهر من العلاّمة
في الباب الحادي عشر لزوم تحصيل العلم بتفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد
مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحق للعذاب الدائم.
ولكنّه غير تام ، فانّ معرفة الصانع
ببعض صفاته الثبوتية ، مثل كونه عالماً ، قادراً ، حيّاً ، سميعاً ، بصيراً ،
وصفاته السلبية ، مثل كونه غير جسم ، ولا مرئي ، ولا في مكان وزمان خاص ، أو معرفة
نبيّه ، وإمامه ، ويوم ميعاده ، ممّا يمكن ادّعاء لزوم معرفته عقلاً ، وانّه يجب
تحصيل العلم فيها ، لأنّ الآثار المتوخاة من التدين بها ليست حاصلة إلا بعد
المعرفة ، ولا يكفي فيها عقد القلب بالواقع ، وإن لم يعرفه مشخصاً ، وأمّا ما وراء
ذلك فلزوم تحصيل العلم به وعدم كفاية عقد القلب ممّا يحتاج إلى الدليل السمعي.
وقد ادّعى الشيخ الأنصاري وجود بعض
الإطلاقات في الأدلة الشرعية الحاكمة بلزوم تحصيل العلم في الأُمور الاعتقادية.
١. مثل قوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ
لِيَعْبُدُون ) أي
__________________
ليعرفون.
٢. قوله 6
: « ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس » ، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب مثل
الصلاة تستلزم الوجوب.
٣. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل
للمعارف بقرينة استشهاد
الإمام 7 بها بوجوب
النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.
٤. عمومات طلب العلم.
فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما
جاء به النبي 6
على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم
بشيء من هذه التفاصيل اعتقد ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل.
ولا يخفى انّ ما ذكره من الإطلاقات غير
تام ، لعدم ورودها في بيان ما يجب التدين والاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.
أمّا الأوّل : فالظاهر انّ المراد منه
هو معرفة اللّه سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل انّ اللام
للغاية ، والنون للوقاية والمعنى : أي بعبادتي وعرفاني لا مطلق مايجب معرفته.
وأمّا الثاني : فالحديث في مقام بيان
أهمية الصلوات الخمس ، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد
المعرفة.
__________________
وأمّا الثالث : فبمثل ما أجبنا عن
الثاني ، فالآية في مقام الحث على النفر ، وكيفيته ، لا في مقام بيان ما يجب أن
يتفقّه فيه ، وقد تمسك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم
لزوم معرفته.
وأمّا الرابع : فهو في مقام بيان لزوم
تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلمه.
هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً ،
وقد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلاّمة لزوم معرفتها ، إلا معرفة
الصانع وتوحيده ، وبعض صفاته ومعرفة نبيّه 6
وإمامه ويوم ميعاده.
نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون
حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه.
حدّ ما يجب تحصيل العلم في
الروايات
قد عرفت أنّ ما يدّعيه العلاّمة من وجوب
تحصيل العلم بتفاصيل الأُصول الخمسة لا يمكن موافقته ، إذ لم يدلّ دليل على هذا
اللزوم لا من الكتاب ولا من السنّة ولا من العقل ولا من الإجماع.
ويظهر من غير واحد من الروايات انّ ما
يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة : التوحيد ، والرسالة ـ وهما دعامتا
الإسلام ـ والولاية وهي دعامة الإيمان ـ ولم يذكر المعاد ؛ لأنّ معرفة النبوة
تلازم الاعتقاد بالمعاد ، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد
بالمعاد.
روى سماعة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه 7 : أخبرني عن الإسلام والإيمان ، أهما
مختلفان؟ فقال : « إنّ الإيمان يُشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان » فقلت
: فصفهما لي ، فقال : « الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه والتصديق برسول اللّه ،
به حقنت الدماء ،
وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ».
وفي رواية سفيان بن السمط ، عن أبي عبد
اللّه 7 : « الإسلام
هو الظاهر الذي عليه الناس وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان
، فهذا الإسلام ، وقال : الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا ».
وبهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل
السنّة روى البخاري ، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً « صرخ » ( عندما بعثه النبي
لمقاتلة أهل خيبر ) : يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل؟ قال : « قاتلهم حتى يشهدوا
أن لا إله إلا اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك
دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه ».
كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من
المعرفة وانّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام والولاية في تحقّق
الإيمان.
هذه هي الضابطة ولو دلّ دليل على وجوب
معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً وخامساً.
في الجاهل القاصر
قد عرفت انّه يجب تحصيل العلم فيما تجب
معرفته ولا يكفي الظن لعدم الدليل على كفايته.
فعلى ذلك فالمتمكن من المعرفة جاهل مقصر
معاقب ، إنّما الكلام في الجاهل القاصر ، فيقع الكلام فيه من وجوه :
__________________
٥. في وجود الجاهل القاصر
وعدمه
لا شكّ في وجود الجاهل القاصر ، إمّا
لقلة الاستعداد وغموض المطلب أو وجود الغفلة وعدم احتمال خلل في معتقده ، كما هو
المشاهد في كثير من النساء والرجال ، وعلى ذلك فالجاهل القاصر معذور لقصوره أو
غفلته.
نعم إنّما يكون معذوراً وغير معاقب على
عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له لو عرفه.
وربما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في
العقائد لوجوه قاصرة :
١. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد
غير معذور ، وصحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر ، وإلا لبطل مع كون القاصر
معذوراً.
يلاحظ
عليه : أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن
، فلا يدل إطلاقه على عدم وجود القاصر.
٢. انّ المعرفة غاية الخلقة ، فلو قلنا
بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه.
قال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس
إِلاّليَعْبُدُون ).
يلاحظ
عليه : أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد
لبداهة وجود المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.
٣. قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الُْمحْسِنِين
) حيث جعل الملازمة بين المجاهدة
والهداية التي هي المعرفة ، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية
الجاهل القاصر لعدم جهاده.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين
المتمكن من الجهاد والهداية والملازمة بينهما مسلمة ، وأمّا غير المتمكن كالقاصر
فهو خارج عن الآية كخروج المجانين والأطفال الذين يتوفون في صباهم.
وربما يجاب عن الاستدلال بالآية بأنّ
المراد هو مجاهدة النفس ، والمراد هو الجهاد النفسي لا الجهاد في سبيل معرفة الرب
وشتان ما بينهما ، ولكنّه غير خال عن التأمل ، لأنّ هذه الآية وما قبلها تقسم
الناس إلى أصناف ثلاثة :
الصنف الأوّل : المفتري على اللّه.
الصنف الثاني : المجاهد في سبيله.
الصنف الثالث : المحسن.
أمّا الأوّل : فوصفهم سبحانه بقوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ
كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرين ) وهذه
الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا تُرجى هدايتهم ووصولهم إلى الحقّ ، بل كلّما
ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً وجهلاً.
والثاني : يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله
سبحانه : ( لنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلنا )
فمن أخطأ فلتقصير منه ، إمّا لعدم إخلاصه في السعي ، أو لتقصيره فيه.
والثالث : وصلوا إلى قمّة الكمال في
حقلي الإيمان والعمل وصاروا مع اللّه سبحانه لقوله : (
وانّ اللّه
لَمَعَ الُْمحْسِنين ).
ومع ذلك فكيف قُصِّر مفاد الآية بالجهاد
مع النفس مع ظهور إطلاقها؟!
٤. قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ
اللّه الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاس لا يَعْلَمُون
) فانّ
__________________
قوله ( فِطَرت اللّه
) عطف بيان أو
بدل من الدين ، نصب بفعل مقدر ، مثل أعني أو أخص ، وإلا لكان الواجب أن يكون
مجروراً بحكم البدلية ، ولازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً وخلقياً ،
لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.
والظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب ،
وهي تدل على عدم وجود القاصر في معرفة الرب ، وانّ للعالم خالقاً وصانعاً ، وانّه
واحد لا شريك له في ذاته ، وهو أمر لا يقبل القصور إلا إذا عاند الإنسان فطرته
وأنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية ، ولأجل ذلك لا يبعد ادّعاء
عدم وجود القاصر في باب التوحيد.
إنّما الكلام في غيره كباب النبوة
والإمامة والمعاد ، والآية لا تدل على عدم وجود القصور فيها بشهادة انّ قوله : ( حَنيفاً
) تدل على أنّ
التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.
نعم ، أكثر الكبريات الواردة في مجال
الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج وإكرام الوالدين ورد الأمانة وحرمة الخيانة
لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.
٥. دلّت العمومات على حصر الناس في
المؤمن والكافر.
ودلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم
في النار.
ودلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل
القاصر.
فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات
المتقدمة ينتج عدم وجود القاصر في المجتمع الإنساني ، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن
وكافر وكلّ كافر محكوم بالعذاب ولا تصدق الكبرى إلا مع عدم وجود الكافر الجاهل
القاصر فيهم ، وإلا لخص بغير القاصر وهو خلاف الظاهر.
يلاحظ
عليه : أنّ حصر الخلق في المؤمن والكافر غير
حاصر لوجود الواسطة
بينهم ، أعني :
القُصّر ، كالسفيه والصغير والمجنون.
وأمّا الكبرى الثانية فناظرة إلى
المتمكن من المعرفة ، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار ،
فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن ، لا كلّ إنسان وإلا تمنع
كليّتها.
٦. هل الجاهل القاصر كافر؟
لا شكّ انّ الجاهل القاصر ليس بمؤمن ولا
مسلم ، إنّما الكلام في أنّه هو كافر ، والمعروف بين المتكلّمين انّه لا واسطة بين
الإيمان والكفر إلا المعتزلة حيث ذهبوا إلى وجود الواسطة بينهما وجعلوا مرتكب
الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر والكتاب العزيز يوافق الحصر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير
) ولكن قولهم كالآية ناظر إلى عالم الثبوت
، فالناس بالنظر إليه غير خارجين عن الصنفين إنّما الكلام في الإطلاق والتسمية ،
فهل يصحّ إطلاقه على القاصر لفقدان الاستعداد ، أو لوجود الغفلة أو المانع أو لا؟
يظهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر والإيمان قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفينَ فِي
الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فتُهاجِرُوا فِيها
فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً * إِلاّ المُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا
يَهْتَدُونَ سَبيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ
اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ).
فقد استثنى سبحانه المستضعفين الذين ليس
لهم قدرة الخروج ولا عرفان
__________________
الطريق فما آيسهم
سبحانه من عفوه ، ويظهر من غير واحد من الروايات انّهم غير محكومين لا بالكفر ولا
بالإيمان.
روى العياشي عن زرارة قال : قلت لأبي
عبد اللّه 7 : أتزوج
المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال : لا عليك بالبله من النساء قال زرارة : ما
هو إلا مؤمنة أو كافرة ، فقال أبو عبد اللّه 7
: « أين استثناء اللّه. قول اللّه أصد ق من قولك : (
إِلاّ
المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجال وَالنِساء ) ».
روى حمران بن أعين في تفسير قوله سبحانه
: ( وَآخَرُونَ مُرجَوْنَ
لأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيهِمْ واللّهُ عَلِيمٌ
حَكِيم ).
عن أبي عبد
اللّه 7 قال : «
إنّهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين ، وهم المرجون لأمر اللّه ». والمرجون ، جمع المُرجى من أرجى ، يرجي
، يقال : أرجى الأمر : أخّره ، واسم المفعول منه : مرجى ، والجمع : مرجون ، وهم
المشركون ، لكن يؤخّر أُمورهم رجاء شمول رحمته سبحانه لهم.
إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها
العلاّمة المجلسي في بحاره ، فلاحظ.
٧. الجاهل القاصر والحكم
الوضعي
هل الجاهل القاصر ، محكوم بالأحكام
الوضعية الثابتة للكافر ، كنجاسته ، وحرمة ذبيحته وتزويجه أو لا؟ التصديق الفقهي
يتوقف على معرفة لسان الأدلة في هذه الروايات ، فهل الموضوع ، هو الكافر ، أو غير
المسلم أو غير المؤمن باللّه ورسوله؟ فعلى الأوّل لا يحكم بشيء من هذه الأحكام ،
بخلاف الثاني ، والحكم القطعي يتوقف على دراسة المسألة في الفقه.
__________________
٨. هل الجاهل القاصر معاقب؟
قد تبيّن ممّا ذكرنا حكم العقاب وانّه
فرع التمكن والقدرة والمفروض عدمهما ، وما يظهر من المحقّق الخراساني في هامش
كفايته من صحّة العقوبة ، فهو مرفوض بالعقل والنقل ، واحتمال انّه من لوازم
الأعمال ، أمر غير ثابت ، لاحتمال كون العقاب من لوازم اعمال المتمكن لا القاصر.
هذا كلّه ، حول الجاهل القاصر المعبّر
عنه بالمستضعف الديني ، وأمّا الكلام في المستضعف السياسي أو الاقتصادي فخارج عن
هدف الكتاب.
الأمر الثاني : في كون الظن
جابراً وموهناً ومرجحاً
هل الظن غير المعتبر ، يكون جابراً ، أو
موهناً ، أو مرجّحاً ، أو لا من غير فرق بين تعلّق النهي بالعمل به ، وعدمه؟
والأقسام المتصورة تناهز اثني عشر قسماً ، لأنّ كلاً من الجبر والوهن والترجيح
تارة يتعلق بالسند وأُخرى بالدلالة ، فيضرب الاثنان في الثلاثة المذكورة ، ثمّ
تضرب النتيجة في الاثنين ، لأنّ الظن تارة يكون منهياً عنه وأُخرى لا يكون كذلك ،
فيناهز اثني عشر.
أمّا الستة الأُولى من أقسام الظن
المنهي عنه فلا تصلح لا للجبر ، ولا للوهن ، ولا الترجيح ، لا في السند ولا في
الدلالة ، لأنّ فرض كونه جابراً أو موهناً أو مرجحاً نحو إعمال له والمفروض النهي
عنه على وجه الإطلاق ، فبذلك تخرج الأقسام الستة عن صلاحية الدراسة.
وأمّا الظن غير المعتبر وغير المنهى عنه
فافتراض كونه مرجحاً لتقديم سند إحدى الروايتين على الأُخرى أو دلالتها كذلك ،
مبني على ما يأتي في مبحث التعادل والترجيح من لزوم الاقتصار على المرجحات
المنصوصة أو جواز التعدي
عنها إلى غير
المنصوص منها ، ذهب الشيخ إلى الأوّل وغيره إلى الثاني ، وهو المختار عندنا ، لأنّ
المحكم في باب تعارض الدليلين ، هو روايات التخيير ، فالخروج عنه يتوقف على الدليل
وهو منفي في غير المنصوص كما سيوافيك.
فيبقى الكلام في الأقسام الأربعة :
الجبر والوهن بقسميهما :
١. كون الظن جابراً للسند
هل الظن غير المعتبر يكون جابراً لضعف
السند ، كالشهرة على القول بكونها غير حجّة بأن يكون عمل الأصحاب جابراً لضعف
السند ، كما إذا ورد في السند من لم يوثق لكن عمل الأصحاب بها؟ فلو قلنا بأنّ
الحجّة هو خبر الثقة ، فلا يكون جابراً ، لأنّ عملهم بالخبر ليس دليلاً على كونه
ثقة ، ولو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره سواء كان الراوي ثقة أو لا ،
أو الموثوق بصحّة مضمونه فيصلح لأن يكون جابراً ، لأنّ عمل الأصحاب يورث الوثوقَ بصدور
الرواية أو الوثوق بصحّة المضمون.
٢. كون الظن جابراً لضعف
الدلالة
إذا كانت دلالة الرواية على الحكم
المطلوب غير واضحة ولا محكمة ولكن حملها المشهور على معنى خاص ، كالكراهة المشتركة
بين الحرمة والكراهة المصطلحة ، فهل يكون الظن جابراً لضعفها؟ الظاهر لا ، لأنّ
الأمارة الخارجية لاتثبت ظهورَ اللفظ ، والمفروض انّ الحجّة هو ظاهر اللفظ وما هو
المتبادر منه عرفاً بما هو هو لا بمعونة قرينة خارجيّة لم تثبت حجّيته ، اللّهمّ
إلا إذا حصل الاطمئنان باحتفاف الكلام ببعض القرائن الحالية المورثة في ظهور اللفظ
في المطلوب ، وإن كان اللفظ خالياً عنها.
٣ ، ٤. كون الظن موهناً
للسند أو الدلالة
إذا كانت الرواية تامة من حيث السند
والدلالة ، لكن تعلّق الظن الخارجي بعدم صدورها أو عدم دلالتها ، فالظاهر عدم
نهوضه بذلك إلا إذا حصل الاطمئنان بأحدهما ، لإطلاق حجّية الخبر سنداً ودلالة وشموله
لما كان الظن على خلافه.
هذا كلّه حسب تقرير القوم ، لكن للشهرة
عندنا حساباً آخر ، وقد عرفت أنّها حجّة بنفسها عند عدم التعارض ، ومميّزة للحجّة
عن غيره عنده ، ولأجل ذلك تكون الشهرة جابرةً لضعف السند وضعف دلالة الرواية ،
وموهنة لهما إذا كانت على خلاف الرواية ، نعم ما ذكروه صحيح في غيرها.
المقصد السابع : في الأُصول
العملية
الأصل الأوّل :
أصل البراءة
وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً.
الأوّل
: قد مرّ في تعريف أُصول الفقه : انّها عبارة عن القواعد التي تستنبط بها الأحكام
الشرعية ، أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل. وقد كان البحث في
المقاصد الستة الماضية مركّزاً على تبيين الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ،
كما أنّ البحث في هذا المقصد ، مركّز على بيان ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن
الدليل ، ويعبّر عنه بالمباحث العقلية أو الأُصول العملية.
ثمّ إنّه يُسمّى الحكمُ المستنبط
بالدليل حكماً واقعيّاً ، لأنّ الدليل يكشف عنه إمّا كشفاً تاماً كما في صورة
العلم أو كشفاً غير تام ولكن جعله الشارع حجّة على الواقع ، كما في الأمارات
المعتبرة من خبر الثقة وغيره ؛ كما يسمى الحكم المستفاد ، ممّا ينتهي إليه المجتهد
عند الشك ، حكماً ظاهرياً ، لعدم كشفه عن الواقع ، بل عن الوظيفة الفعلية فهو
محكوم بمفاده ظاهراً إلى أن يرتفع العذر ، وما في بعض كلمات الشيخ وغيره من تسمية
الأحكام المستنبطة بالأمارات المعتبرة ، حكماً ظاهرياً مبني على التسامح ، كما
يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي دليلاً اجتهادياً ، والثاني دليلاً فقاهياً
، وأمّا وجه التسمية ، فقد ذكره المحقّق البهبهاني في تعريف الفقه والاجتهاد ،
فلاحظ.
الثاني
: قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية ، هو الشكّ في
الحكم الواقعي ،
الكلي والجزئي لا مطلق الشكّ ، فخرج الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع للبناء
على الأكثر ، فالحكم المبني عليه ليس حكماً ظاهرياً ، بل هو حكم واقعي.
ثمّ الشكّ في الحكم تارة يتعلق بالكلي
كالشكّ في حرمة التدخين ، وأُخرى بالجزئي كالشكّ في كون مائع خاص حراماً لاحتمال
انّه خمر ، أو حلالاً لاحتمال كونه خلاً ، فيسمى الأوّل بالشبهات الحكمية ،
والثاني بالشبهات الموضوعية ، وبما انّ الفرض بيان ما هو الوظيفة عند الشكّ في
الحكم الكلي ، يكون البحث عن بيان حكم الشكّ في الأمر الجزمي استطرادياً.
الثالث
: الأُصول المقررة لوظيفة الجاهل على قسمين :
قسم يختص لبيان وظيفة الجاهل بالموضوعات
الخارجية ، كما هو الحال في الأُصول التالية :
١. أصالة الصحّة في فعل الغير ، ٢.
أصالة الصحّة في فعل النفس المعبّر عنها بقاعدة الفراغ والتجاوز ، ٣. الإقراع عند
التخاصم.
وأُخرى ما يعمّ الشبهات الحكمية ،
وعمدتها الأُصول الأربعة : الاستصحاب ، والتخيير ، والبراءة ، والاشتغال ؛ وأمّا
ما عدا تلك الأُصول ، كأصالة الطهارة فهي وإن كانت جارية في مورد الشبهتين لكن علل
المحقّق الخراساني خروجها عن المسائل الأُصولية باختصاصها بباب الشكّ في الطهارة
ولا تعم سائر الأبواب ، ولذلك لم تعد من الأُصول العملية العامة السيالة في جميع
أبواب الفقه.
يلاحظ
عليه : أنّه لو كان سبب الخروج عن الأُصول
العملية هو عدم كونها سيالة يلزم خروجُ قسم من المسائل عن علم الأُصول كالبحث عن
دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات.
والظاهر انّ وجه الخروج كونها قاعدة
فقهية كقاعدة كلّ شيء حلال ، لما ذكرنا في الأمر الأوّل من مقدمة الكتاب من
الميزان لكون المسألة فقهية أو أُصولية ، فلاحظ.
الرابع : بيان مجاري الأُصول
إنّ للشيخ الأنصاري في بيان مجاري
الأُصول تعابير مختلفة ذكرناها في مبحث القطع ، وقد سبق هناك انّ ما ذكره في مبحث
البراءة أتقن ، قال ما هذا توضيحه :
ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في
الأُصول الأربعة عقلي ، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق
عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم يلحظ.
والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا
أن يكون الاحتياط ( خصوص الموافقة القطعية ) فيه ممكناً أو لا ، والثاني مورد
التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع
المجهول وإمّا أن لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.
يظهر حال التقسيم بذكر أُمور :
١. بما انّ الشيخ يشترط في الاستصحاب أن
يكون من قبيل الشكّ في الرافع دون المقتضي لم يقتصر في بيان مجرى الاستصحاب على
وجود الحالة السابقة بل أضاف لحاظها أيضاً حتى لا يتداخل الأُصول في الشكّ في
المقتضي ، إذا اقتصر على مجرّد الحالة السابقة ، إذ عندئذ يكون مجرى للاستصحاب
لوجود الحالة
__________________
السابقة ولغيره لعدم
اعتبارها.
٢. انّ مجرى التخيير عبارة عمّـا إذا لم
يمكن الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فهو على هذا
التقسيم ليس من أقسام الشكّ في التكليف ولا الشكّ في المكلّف به ، بل له مجرى خاص
وله أصل خاص.
٣. اشترط في مورد الاشتغال وجود دليل
عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ولم يقل أن يكون الشكّ في
المكلّف به ، وذلك لأنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به ، كما في الشكّ
في التكليف قبل الفحص حيث يجب الاحتياط وإن لم يكن من قبيل الشكّ في المكلّف به ،
فيكفي في الاحتياط وجود دليل عقلي أو نقلي ، وهذا يشمل الأقسام الثلاثة :
أ : الشكّ في التكليف قبل الفحص.
ب : العلم بنوع التكليف مع تردّد
المكلّف به ، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين.
ج : العلم بجنس التكليف مع إمكان
الاحتياط ، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، فالعلم بالإلزام أي الجنس
الجامع بين الوجوب والحرمة متحقّق فيلزم التكليف لإمكان الاحتياط.
وبذلك علم أمران :
١. انّ دوران الأمر بين المحذورين الذي
هو مجرى التخيير ، أمر مستقل ليس بداخل في الشكّ في التكليف ولا في الشكّ في
المكلّف به ، لاختصاصهما بما إذا أمكن الاحتياط دون مالا يمكن.
٢. انّ الشكّ في المكلّف به لا يختص بما
إذا علم النوع ،
كما إذا تردّد
__________________
الواجب بين الظهر
والجمعة ، بل يعمّ ما إذا علم الجنس ودار الأمر بين الوجوب والحرمة لكن على وجه
يمكن الاحتياط كما مثلنا ، أعني : إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ،
فانّ المعلوم في المقام هو الجنس ، أي مطلق الإلزام لا النوع ، أعني : الوجوب أو
الحرمة ، ومع ذلك يجب فيه الاحتياط : الإتيان بمحتمل الوجوب ، وترك محتمل الحرمة.
نعم ليس كلّ مورد علم فيه جنس التكليف
داخلاً في الشكّ في المكلّف به كما إذا أمر الشيء بين الوجوب والحرمة وذلك لعدم
إمكان الاحتياط فيه ، ولذلك قلنا بكفاية العلم بالجنس إذا أمكن الاحتياط ، فلاحظ.
والحاصل : انّه إذا دار أمر شيء واحد
بين الوجوب والحرمة ، فهو المسمّى بدوران الأمر بين المحذورين ، وبما انّه لا يمكن
الاحتياط تكون الوظيفة هي التخيير ، وأمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء
آخر ، فلا يعدّ من دوران الأمر بين المحذورين ، ويكون العلم بالإلزام لأجل إمكان
الاحتياط ملزماً للاحتياط ، فالعلم بالجنس إذا لم يمكن الاحتياط داخل في مجرى
التخيير ، كما أنّ العلم به إذا أمكن داخل في مجرى الاحتياط.
ثمّ إنّ للمحقّق النائيني في تقرير
مجاري الأُصول بياناً آخر ، قال : إمّا أن تلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا ;
وعلى الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله ، أو نوعه ، أو جنسه ، أو لا ؛
وعلى الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط ، أو لا ؛ والأوّل مجرى الاستصحاب ،
والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.
والفرق بين التعبيرين هو انّه جعل مجرى
التخيير من أقسام الشكّ في المكلّف به ، غاية الأمر انّ الشكّ في المكلّف به على
قسمين : قسم يمكن فيه
__________________
الاحتياط ، كما إذا
دار الواجب بين الظهر والجمعة ، أو دار المكلّف به بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ؛
وآخر لا يمكن فيه الاحتياط ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولكن الشيخ
جعله أمراً مستقلاً في مقابل الشكّ في المكلّف به.
يلاحظ
عليه : أنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في
المكلّف به كما في الشكّ قبل الفحص ، ولأجل ذلك قلنا : إنّ تقسيم الشيخ أوفق
بالأقسام.
الخامس
: جعل الشيخ الأعظم الشكَّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثنتي عشرة مسألة
باعتبار أنّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أومشتبهة بينهما ، فهذه مطالب
ثلاثة ، وكلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل ، وذلك لأنّ منشأ الشك في الجميع ، إمّا
فقدان النص ، أو إجماله ، أو تعارض النص ، أو خلط الأُمور الخارجية ، وعلى ذلك فما أفاده صاحب مصباح
الأُصول من أنّ الشيخ قسّم الشكّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على أقسام
ثمانية
مخالف لتصريح الشيخ ، فلاحظ.
وأمّا على ما سلكناه تبعاً له في تقسيمه
أوّل البراءة فمسائله لا تتجاوز عن ثمان ، ذلك لما عرفت من أنّ مورد دوران الأمر
بين المحذورين خارج عن مجرى البراءة وداخل تحت أصل التخيير ، وكان على الشيخ أن
يجعلها ثمانية حيث إنّه عند تحرير مجاري الأُصول جعل صورة الدوران خارجة عن مجرى
البراءة والاشتغال حيث قال : إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا
أن لا يكون ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً
أو لا ، والثاني مورد التخيير ؛ والأوّل إمّا أن يكون دليل عقلي أو نقلي على ثبوت
العقاب بمخالفة الواقع المجهول ، أو لا يدلّ ؛ والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد
__________________
البراءة.
ثمّ إنّ الوجه لعنوان كلّ مطلب على حدة
أمران :
١. اختصاص النزاع بين الأُصولي
والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية منها ، ودون
دوران الأمر بين الأمرين.
٢. اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة
التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية ، مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه
نهي ».
نعم أدخل المحقّق الخراساني جميع
المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة « وهو من لم يقم عنده حجّة على
واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو
تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية » ولكلّ من السلوكين وجه.
السادس
: أخرج المحقّق الخراساني صورة تعارض النص عن مجرى البراءة ، وذلك لقيام الحجّة
على لزوم تقديم ذات الترجيح على غيره ، والتخيير عند عدمه فلا مجال لأصالة البراءة
وغيرها لمكان النصّين فيهما.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان
التعارض بين الدليلين الظنيّين ، أمّا إذا كان بين القطعيين ، أو بين الظنيين ولكن
كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً من وجه ، فلا يرجع فيه إلى المرجحات.
أمّا الأوّل كقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيّةً لأَزواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ
إِخْراج )
. وقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً
) ، حيث دلّت الآية
الأُولى على مقدار
التربّص وهو تربّص الحول ، والأُخرى على أربعة أشهر وعشراً ، وبما أنّه لا موضوع
للترجيح ، فيدخل الزائد على المقدار المتيقن فيما لا حجّة فيه ، فيرجع إلى أصل
البراءة.
أمّا
الثاني : ففيما إذا كانت النسبة بين الخبرين
عموماً وخصوصاً من وجه ، كما في قوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، حيث
يتعارضان في مجمع العنوانين ، فلا يرجع في مثله إلى الأخبار العلاجية ولا إلى
أخبار التخيير ، بل يدخل فيما ليس فيه حجّة ، فإن كان هناك عام فوقهما يرجع إليه
وإلا فإلى الأصل.
السابع
: الظاهر انّ النزاع بين الأُصولي والأخباري في المقام صغروي ، فهما متّفقان على
أنّ العقاب فرع البيان ، لكن الأخباري يدّعي ورود البيان عن طريق أخبار الاحتياط
والأُصولي ينكره ، وبذلك يعلم انّ الكبرى غنية عن البحث والإطناب.
الثامن
: انّ في الكتب الأُصولية للقدماء مسألة باسم هل الأصل في الأشياء ، الحظر أو
الإباحة؟ وقد
حلّ محلها في كتب المتأخرين مسألة البراءة والاشتغال فهل هما مسألتان أو مسألة
واحدة؟
والجواب : انّهما مسألتان لاختلاف
موضوعهما مثل اختلاف جهة البحث فيهما ، فالموضوع في المسألة الأُولى ، هو الأشياء
بما هي هي ، هل الأصل فيه الحرمة والتصرف يحتاج إلى الإذن أو بالعكس بشهادة انّهم
يقسمون الأفعال إلى ما يستقل العقل بقبحه ، أو بحسنه ، وإلى ما يتوقف العقل في
تحسينها أو تقبيحها ، فيختلفون في القسم الثالث إلى أقوال ثلاثة : الحظر ،
والإباحة ، والوقف.
فعلى الأوّل تنحصر وظيفة الأنبياء في
بيان المحلّلات ، وعلى الثاني على بيان المحرّمات ، فعند عدم النص على واحد من
الطرفين يحكم عليه بالحرمة الواقعية
__________________
على الأوّل وبالحلية
الواقعية على الثاني ، ويتوقف عن الحكم على الثالث.
والشاهد على ما ذكرنا من أنّ مصبّ البحث
هو حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية استدلال القائل بالحظر بقوله : « إنّ هذه
الأشياء لها مالك ولا يجوز لنا التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ».
وأمّا المسألة الثانية ، فالبحث فيها عن
حكم الأشياء عند الشكّ في الأحكام الواقعية
المترتبة عليها بما هي هي ، فللقائل
بالحظر في المسألة الأُولى أن يقول بالبراءة في المسألة الثانية ، كما أنّ للقائل
بالإباحة فيها أن يقول بالاحتياط فيها لاختلاف موضوعهما ، إذ لكل دليلهما.
ثمّ إنّ البحث عن نسبة الأمارات إلى
الأُصول ، وهل هي الورود ، أو الحكومة موكول إلى باب التعادل والترجيح ، وإن طرحه
المحقّق الأنصاري وتبعه النائيني وسيّدنا الأُستاذ 1
في المقام. لكن نرجئ البحث عنها إلى المقصد الثامن بإذن اللّه.
إذا علمت ذلك ، فلنقدّم أدلّة القائلين
بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف ، فنقول : استدلوا بآيات أربع.
الأُية الأُولى : التعذيب
فرع البيان
إنّ هنا آيات تدل على أنّ التعذيب فرع
تقدّم البيان نذكر منها آيتين :
قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَما
كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً
).
وقال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى
يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا
__________________
عَلَيْهِمْ
آياتنا وَما كُنّا مِهْلِكي القُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُون
). ويدل على المقصود آيات أُخرى بهذا
المضمون ، لاحظها.
وأمّا الاستدلال بهما على البراءة فمبني
على أمرين :
الأوّل : انّ صيغة ( وَما كُنّا
) أو ( ما كان
) تستعمل في
إحدى معنيين إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى : (
وَما كانَ
اللّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤوفٌ رَحِيم
). أو نفي الإمكان كقوله تعالى : ( وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ
اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً ).
الثاني : انّ بعث الرسول 6 كناية عن إتمام الحجّة على الناس ،
وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلا يصحّ
العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة ؛ وعلى ضوء ذلك ، فلو
لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان
البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ،
لقبح التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجّة.
والمكلّف الشاك في الشبهات التحريمية من
مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان
الثانوي كإيجاب التوقف ينطبق عليه قوله سبحانه (
وَما كُنّا
مُعذّبين حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً
) أي نبيّن
الحكم والوظيفة.
ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك
القرية على وجود المنذر ويقول :
__________________
(
وَما
أَهْلَكْنا مِنْ قَرَية إِلاّ لَها مُنذِرُون
).
نعم دلالة الآية على البراءة فرع عدم
ورود الحذر بالنسبة إلى مشتبه الحكم لا بالعنوان الأوّلي هو مسلم بيننا وبين الخصم
، ولا بالعنوان الثانوي الذي لا يسلِّمه الخصم ويقول : بورود الحذر عن المشتبه
بعنوان إيجاب الاحتياط والتوقف ، فدلالة الآية معلّقة على إبطال دليل الأخبار.
وبما انّ المشايخ كالشيخ الأنصاري
والمحقّق الخراساني والميرزا النائيني لم يدرسوا تفسير الآية على وجه يليق بشأنها
، أوردوا على الاستدلال بها بأُمور غير تامة ، وإليك بيانها :
١. انّ ظاهرها الأخبار بوقوع التعذيب
سابقاً بعد البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأُمم السابقة.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ الآية بصدد
بيان سنن اللّه سبحانه في تعذيب الأُمم العصاة ومثلها آبية عن الاختصاص بالأُمم
السابقة ولذلك تكون الأفعال في مثل ذلك منسلخة عن الزمان.
ثانياً
: انّ العذاب الدنيوي إذا كان متوقفاً على البيان والحجة ، فالعذاب الأُخروي الذي
سجّره الجبار أولى بذلك.
٢. انّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل
إتمام الحجّة كما هو الحال في الأُمم السابقة ، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم
حيث هو مشتبه الحكم ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ الآية بصدد بيان تعليق أي عذاب
بالبيان ، فإذا كان هذا مفادها ، فلا يفرق بين حكم الشيء بما هو هو أو حكمه بما هو
مشتبه الحكم ، فكما أنّ التعذيب على الخمر فرع البيان فهكذا التعذيب على مشتبه
الحكم مثله كشرب الدخان.
٣. انّ مفاد الآيتين نفي الفعلية وعدم
الوقوع في الخارج لا نفي الاستحقاق ، والمطلوب للأُصولي هو نفي الاستحقاق ليطابق
حكم الفعل.
وأجاب عنه الشيخ الأنصاري 1 بأنّه يكفي عدم الفعلية في هذا المقام
، لأنّ الخصم يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ، فيكفي في عدم
الاستحقاق نفي الفعلية في منهج الخصم.
وأرد عليه المحقّق الخراساني بوجهين :
الأوّل : انّ الاستدلال عندئذ يُصبح
جدلاً ، وهو عبارة عن الأخذ بمسلمات الخصم والرد بها عليه مع أنّنا في مقام
البرهنة على عدم الاستحقاق والمفروض انّ الآية قاصرة الدلالة.
الثاني : منعُ اعتراف الخصم بالملازمة
بين نفي الفعلية والاستحقاق ، بشهادة انّه ليس في معلوم الحرمة إلا استحقاق العقاب
لا فعليّته ، لاحتمال شمول غفرانه سبحانه لمرتكبي الحرام ـ مع عدم التوبة أيضاً ـ
قال سبحانه : (
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرة لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
العِقاب ).
ففي مثله ،
الاستحقاق دون الفعلية فإذا كان معلوم الحرمة محكوماً باستحقاق العقاب لا بالفعلية
، فليكن مشتبه الحرام كذلك فيكون محكوماً باستحقاقه دون فعليته ، فلا يكون عدمها ،
دليلاً على عدم الاستحقاق.
__________________
والأولى أن يجاب عن أصل الإشكال بوجهين
آخرين :
الأوّل
: انّ الهدف من الاستدلال بالآية ليس إثبات عدم الاستحقاق ليكون موافقاً لما يحكم
به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، بل الهدف تحصيل المؤمِّن لمرتكب الشبهة سواء
أكان مستحقاً للعقاب لكنّه صار معفوّاً أو لم يكن ، وظاهر الآية كفيل بإثبات مثل
هذا.
والحاصل : انّ البحث في المقام ليس
كلامياً دائراً مدار الاستحقاق وعدمه ، بل أُصولي يدور حول المؤمّن للعذاب
والمسوّغ للارتكاب وعدمهما ، والآية وافية بإثباتهما.
وبذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق
النائيني من أنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ
مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه ، لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في
استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه لا في فعلية العقاب.
أقول
: إنّ ما يهمّ الفقيه هو تحصيل المسوّغ لارتكاب مشتبه الحرمة ، وتحصيل المؤمّن من
العذاب ، ويصلح لإثباته ، ما دلّ على نفي الفعليّة وإن لم يدل على نفي الاستحقاق.
الثاني
: انّ الآية ظاهرة في نفي الاستحقاق خصوصاً إذا فسر قوله : ( وما كُنّا
) بمعنى نفي
الإمكان ، وما هذا إلا لأجل عدم استحقاقه العذاب مالم يصل إليه البيان.
٤. النقض بالمستقلات العقلية كقبح الظلم
نظير النفس والخيانة بالأمانة حيث يصحّ العذاب وإن لم يكن هناك بلاغ سماوي.
__________________
والإجابة عنه واضحة ، لأنّ الآية ناظرة
فيما يحتاج إلى البيان ، على وجه لولاه لما وقف عليه الإنسان ولما كان واضحاً له.
وأين هذا من المستقلات العقلية؟! أضف إليه انّه مبيّن بالرسول الباطني وإن لم يكن
مبيّناً بالرسول الظاهري.
وربما ذكرنا علم انّ الآية وافية لما
يرومه الأُصولي في المقام ، نعم إنّما يتم الاعتماد عليها إذا لم يرد بيان على
لزوم الاجتناب ، ولو بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط والتوقف.
الآية الثانية : التكليف فرع
الإيتاء
قال سبحانه : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَة مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ
نَفساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعَدَ عُسْر يُسْراً
).
والاستدلال مبني على كون المراد من
الموصول : التكليف ، ومن الإيتاء هو الإعلام والتعريف ، فيكون معنى الآية لا يكلّف
اللّه نفساً إلا تكليفاً أعلمها إيّاه.
أقول
: إنّ الموصول في قوله : (
إلا ما
آتاها )
يحتمل أحد الأُمور الثلاثة :
١. المال.
٢. العمل ، أي موضوع التكليف.
٣. التكليف.
فعلى الأوّل يكون المراد من الإيتاء هو
الإعطاء ، وكأنّه قال : « لا يكلّف اللّه نفساً إلا بقدر المال الذي أعطاها ».
وعلى الثاني يكون المراد من الإيتاء هو
الإقدار والتمكين ، فيكون المراد لا يكلّف اللّه نفساً إلا الفعل الذي أقدرها
عليه.
وعلى الثالث يكون المراد من الإيتاء هو
الإعلام والتعريف.
__________________
ولكن سياق الآية يؤيد الوجهين الأوّلين
لأنّها وردت في سورة الطلاق التي تعرضت لحقوق النساء ، ففي الآية المتقدمة عليها
أمر الأزواج بالقيام بالوظائف التالية :
١. (
أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
).
٢. (
وَلا
تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ
).
٣. (
وَإِنْ
كُنَّ أُولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
).
٤. (
فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
).
٥. (
وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوف ).
فهذه الجمل التي تحكي عن الحقوق المالية
للزوجة على الزوج تكون قرينة على أنّ المراد أحد المعنيين الأوّلين وإن كان الثاني
أظهر لكونه عاماً شاملاً للأوّل وغيره.
وحاصل الآية : انّ ما سبق من الأحكام
والحقوق يقوم به كلّ إنسان حسب وسعه ، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلّف نفساً إلا ما
أتاها من المقدرة والإمكان ، ولا يكلّف فوقه ، وعلى ذلك لا صلة للآية بباب انّ
التكليف فرع البيان.
فإن
قلت : إنّ الإمام استشهد بالآية في باب
المعرفة ، ففي رواية عبد الأعلى ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : قلت له : هل كلّفوا ( الناس ) المعرفة؟ قال : « لا ، على اللّه البيان ، ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها
) و (
لا
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما أَتاها
) ».
__________________
قلت
: إذا كان المراد من المعرفة الأُمور الغيبية الخارجة عن حدود علم الإنسان العادي
، فالتكليف به مع عدم البيان داخل في التكليف بغير المقدور ، وعلى ذلك فيكون
الإيتاء أيضاً بمعنى الإقدار والتمكين ، لا الإعلام ، فتكون الآية ردّاً لمن يجوز
التكليف بما لا يطاق.
حتى لو قلنا أيضاً بأنّ إيتاء كلّ شيء
بحسبه وانّ إيتاء المال إنّما يتحقّق بالإعطاء وإيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما
يكون بإقدار اللّه تعالى عليه ، وإيتاءالتكليف ، بالوصول والإعلام ، فلا يصلح
للاستدلال إلا في التكاليف التي يكون التكليف بها ـ بلا إعلام ـ تكليفاً بغير
المقدور كأحوال الحشر والنشر ومعرفة الأنبياء والمعارف الغيبيّة التي لولا لحوق
البيان بها يلزم التكليف بغير المقدور ، إذ لا طريق لمعرفتها ، وأين هذا من ترك
مشتبه الحرام الذي أمر مقدور بالنسبة إلى المكلّف الملتفِت ، المحتمِل للحرمة.
الآية الثالثة : الإضلال فرع
البيان
قال سبحانه : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذ
هَدَاهُم حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم
).
وجه
الاستدلال : أنّ التعذيب من آثار الضلالة ،
والضلالة معلّقة على البيان في الآية ، فيكون التعذيب معلّقاً عليه ، فيُنتج أنّه
سبحانه لا يُعاقب إلا بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.
فإن
قلت : ما هو المراد من إضلاله سبحانه ،
فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه؟!
قلت
: إنّ الإضلال يقابل الهداية وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً
__________________
مثلها.
توضيحه
: انّ للّه سبحانه هدايتين : هداية عامة تعمُّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان
دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة
العلماء إلى بيان الحقائق مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي
تسوق الإنسان إلى فعل الخير.
وأمّا الهداية الخاصة ، فهي تختصُّ بمن
استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفيّة التي نعبّر
عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.
قال سبحانه : ( وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُم ).
وقال تعالى : ( وَالّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا ).
وأمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى
، فلا يكون مستحقّاً للاستفادة من الهداية الثانية ، فيضل بسبب سوء عمله ، فإضلاله
سبحانه ، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض عن الاستضاءة بالهداية
الأُولى.
قال سبحانه : ( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ
وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الفَاسِقِين
).
فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغه
وانحرافه وكبره وتولّيه عن الحق.
وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي
تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه ، فالمراد هو انقباض الفيض لأجل تقصيره ، فيصدق
انّه أضله سبحانه وإن كان
__________________
عن تقصير ، قال
سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّاب )
أي يضلّه
لأنّه مسرف كذّاب ، وفي آية أُخرى : (
كَذلِكَ
يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتَاب )
فإضلاله نفس عدم هدايته وقبض فيضه لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه
وكذبه وارتيابه.
الآية الرابعة : الهلاك
والحياة بعد إقامة البيّنة
قال سبحانه : ( إِذْ أَنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ
بِالعُدْوَة القُصوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَو تَواعَدْتُّمْ
لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلكِنْ لِيَقضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وَإِنَّ
اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم ).
والاستدلال بالآية فرع توضيح مفرداتها
ومقاطعها :
١. (
العدوة
) بمعنى
الناحية من كلّ شيء ، والمراد منها في الآية ناحية الوادي ، فكان النبي والمسلمون
في الناحية المنخفضة من الوادي ، ولذلك وصفها سبحانه بقوله : ( بِالعُدْوَة الدُّنيا
) وهي الأدنى
، كما كانت قريش في الناحية العليا منه ، لأنّ الوافد من مكة إلى المدينة إذا وصل
إلى قريب من وادي بدر تنخفض الأرض لأجل قربها من ساحل البحر.
٢. (
الركب
) جمع الراكب
، والمراد منه العير ، وهي قافلة قريش التجارية التي كان يسوقها أبو سفيان فكانت
على ساحل البحر الذي هو أسفل من مقام الطائفتين الأُولتين.
٣. (
وَلَو
تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) ، فهو يشير إلى أنّ اجتماع
الطائفتين في تلك
المنطقة كان بتقدير من اللّه لا بإرادة من الجماعة ولو تواعدوا على اللقاء
لاختلفوا ، إذ كان بين صفوف المسلمين من يخوِّفهم من سطوة قريش وكثرة عدّتهم.
٤. (
ليقضي
اللّه أمراً كان مفعولاً ) أي جمع سبحانه الطائفتين في ذلك المكان
لأمر قضاه وأوجبه ، وهو ظهور معاجز الإسلام على المشركين التي منها غلبة الفئة
القليلة التي لم يكن لهم عدَّة وعُدّة أمام المشركين ، ولكنّهم غلبوا الفئة
الكثيرة وقتلوا عدّة منهم وأسروا آخرين.
٥. فَعلَ ذلك ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحيى
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) فلو كان المراد من الهلاك والحياة
الهلاك والحياة الأُخرويين ، فيدل انّ العذاب فرع إتمام الحجّة وإقامة الدليل على
صدق دعوة النبي 6.
نعم لو كان المراد من الهلاك والحياة ،
هو الموت والبقاء ، فيدل على أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه بأنّ الكافر سواء قتل أو
بقى ، أن يكون على بصيرة من الأمر وهو غير المطلوب. وليست الآية ظاهرة في المعنى
الأوّل لو لم نقل بظهورها في المعنى الثاني.
إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات ، وإليك
الاستدلال بالسنّة.
الاستدلال بالسنّة
١. حديث الرفع
روى الصدوق في التوحيد والخصال عن أحمد
بن محمد بن يحيى ، عن سعد ابن عبد اللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ،
عن حريز بن عبد اللّه ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : قال رسول اللّه 6
: « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء : الخطأ ،
والنسيان ، وما
أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ،
والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ».
ورواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن
أبي عبد اللّه 7
: « وضع عن أُمّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ،
وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ،
والحسد مالم يظهر بلسان أو يد ».
ورواة الحديث الأوّل كلّهم ثقات ،
والرواية صحيحة.
وأمّا أحمد بن محمد بن يحيى ، فهو وإن
لم يوثّق ظاهراً ، ولكن المشايخ أرفع من التوثيق ، فهو من مشايخ الصدوق ، فهو ثقة
قطعاً.
نعم الرواية الثانية مرفوعة ، مضافاً
إلى أنّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه ، كما ذكر النجاشي في حاله.
وتوضيح الاستدلال بالحديث يتوقف على
بيان أُمور :
الأوّل : الفرق بين الرفع
والدفع
الرفع
: عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه ، ولكن الدفع هو المنع عن تقرر الشيء
وتحقّقه عند وجود مقتضيه ، هذا هو المعروف ، ويؤيده اللغة وموارد الاستعمال.
قال في القاموس : رفعه ضد وضعه ، فإذا
كان الوضع هو وجود الشيء في مكان ، فيكون الرفع إزالة وجوده ، بعد وضعه.
قال سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا
لَهُ سُجَّداً ).
__________________
وقال : (
اللّهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّماوات بِغَيْر عَمَد تَرَوْنَها
).
فكانت السماء والأرض ملتصقتين ، ففصل
السماء عن الأرض ، فأزالها عن مكانها.
وأمّا الدفع ، فقال في المصباح المنير :
دفعته دفعاً أي نحيته فاندفع ، يقول سبحانه : (
انَّ
اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا
) أي يحفظهم أن يصل إليهم شرّالأعداء ،
وقال سبحانه : (
إِنَّ
عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دَافِع
) أي ماله من شيء يمنع عن وقوعه وتحقّقه
بعد تعلّق إرادته على الوقوع.
فإن
قلت : إذا كان الرفع ممّا لا يتعلّق
إلابالأمر الموجود ، فما هو الأمر الموجود الذي تعلّق هو به؟
قلت
: الأمر الموجود عبارة عن نفس هذه الأُمور التسعة ، فلا شكّ أنّها أُمور متحقّقة
في صفحة الوجود ، فالرفع تعلّق بها باعتبار كونها أُمور وجودية. وبالجملة المصحح
لاستعمال الرفع في الحديث هو تعلّقه بالأُمور التسعة الوجودية من دون حاجة إلى
تقدير مقدَّر في هذا الباب.
وعلى ضوء ما ذكرنا ، فالرفع استعمل في
معناه الحقيقي ، أي رفع التسعة بعد وجودها ، نعم رفعها ليس بالحقيقة بل بالادّعاء
كما سيوافيك.
هذا كلّه حسب الإرادة الاستعمالية ،
وأمّا حسب الإرادة الجدية فلا شكّ من لزوم تقدير مقدّر ليصحّ رفعه حقيقة لا ادّعاء
مصححاً لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ، وهذا ما سيأتي في الأمر الثالث.
__________________
ثمّ إنّ الرفع إن استعمل مجرّداً عن حرف
الجرّ ، فالمراد رفعه مع الاعتداد به دون فرق بين كونه حسيّاً أو معنوياً ، قال
سبحانه : ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللّهُ وَرَفََعَ بَعضَهُمْ دَرَجات
).
وأمّا إذا استعمل معها كما في المقام ،
فيراد منه عدم الاعتداد بالمرفوع كما يقال : رفعت عنه الضريبة.
إذا عرفت ذلك يقع الكلام فيما هو المصحح
لنسبة الرفع إلى المكرَه والمضطرّ والخاطئ ، والناسي والجاهل مع وجودها في الحياة
، وهذا هو الذي نطرحه في الأمر الثاني.
الثاني : في تصحيح نسبة
الرفع إلى التسعة مع وجودها
إذا كان الرفع بمعنى إزالة وجود الشيء ،
فكيف نسب إلى هذه الأُمور مع أنّها متوفرة في صفحة الوجود؟
والجواب : انّ الرفع وإن تعلّق برفع نفس
الأُمور ، لكن الكذب إنّما يلزم إذا كان اخباراً عن عالم التكوين ، وأمّا إذا كان
إخباراً عن عالم التشريع بمعنى رفع هذه الأُمور بلحاظ عدم آثارها فلا يلزم الكذب
نظير قوله : لا ضرر ولا ضرار ، ولا بيع إلا في ملك ، ولا طلاق إلا على طهر ، ولا
يمين للولد مع والده ، ولا يمين للمملوك مع مولاه ، وللمرأة مع زوجها ، ولا رضاع
بعد فطام ، ولا نذر في معصية اللّه ، ولا يمين للمكره ، ولا رهبانية في الإسلام.
فهذه الأُمور المرفوعة موجودة في الحياة
ولكن لما كان إخباراً عن صفحة التشريع ، وكانت هذه الأُمور مسلوبة الأثر فيها ،
يصحّ الإخبار عن عدمها ، باعتبار عدم آثارها.
__________________
ثمّ إنّ المحقّق النائيني صحح نسبة
الرفع إلى الأُمور التسعة بأنّ الرفع تشريعي لا بالملاك الذي ذكرناه ـ من أنّ
رفعها بملاك رفع آثارها ـ بل بملاك آخر وهو انّه ليس إخباراً عن أمر واقع ، بل
إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله 6 : « لا ضرر ولا ضرار » ، وكقوله : « لا
شكّ لكثير الشكّ » ونحو ذلك ممّا يكون متلوُّ النفي أمراً ثابتاً في الخارج.
يلاحظ
عليه مضافاً إلى ما ذكره السيد الأُستاذ ـ
من أنّ النبي ليس بمشرع ، فلو استعمل النفي لغاية التشريع يلزم كونه مشرعاً ـ : أنّ ما ذكره خلاف المتبادر من
أمثالها ، بل ربما يكون الحكم المنشأ غير واضح لدى العرف في مثل « لا رضاع بعد
فطام » أو لا يمين للزوجة مع زوجها ، فالحقّ انّ الجملة خبرية والمصحح لنسبة الرفع
كونها ناظرة إلى عالم التشريع والغاية من رفعها ، هو الإخبار عن رفع آثارها.
الثالث : ما هو المرفوع
ثبوتاً
قد عرفت أنّ الرفع يتعلّق بالشيء
الموجود المتحقّق ، وليس هو إلا نفس هذه الأُمور الوجودية فهي مرفوعة ادّعاء ، لكن
الرفع الادّعائي رهنُ وجود رفع أمر حقيقة ليكون مسوِّغاً للرفع الادّعائي المجازي
، وهذا ما نعبر عنه بما هو المرفوع ثبوتاً.
وبالجملة تارة يقع الكلام في تعيين ما
هو المرفوع إثباتاً ، وأُخرى ما هو المرفوع ثبوتاً الذي هو المصحح للرفع الإثباتي؟
فنقول :
أمّا إثباتاً ، فلا شكّ انّ مقتضى
البلاغة ، هو تعلّق الرفع بنفس هذه الأُمور
__________________
الوجودية المتحقّقة
، وتقدير أيّة كلمة بعد الرفع ، يوجب سقوط الكلام عن ذروة البلاغة كتقدير لفظ «
الأهل » قبل القرية في قوله سبحانه : (
واسْأَلِ
الْقَريةَ الّتي كُنّا فِيها ) ،
أو قبل « البطحاء » في شعر الفرزدق ، أعني قوله :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
|
|
والبيـتُ يعـرفـه والحـلّ والحـرم
|
فانّ القائل يدّعي أنّ الأمر
بلغ من الوضوح إلى درجة حتى أنّ القرية واقفة بما نقول ، أو أنّ سيد الساجدين بلغ
من المعروفية إلى درجة حتى أنّ البطحاء تعرفه ، فتقدير أيّة كلمة في تلك المواضع
يوجب سقوط الكلام. وقد عرفت انّ المصحح لاستعمال كلمة الرفع هو كون هذه الأُمور
التسعة أُموراً وجودية.
ومع الاعتراف بذلك وانّ متعلّق الرفع هو
نفس هذه الأُمور ، لكن لما كان نسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازيّاً وادّعائياً
تتوقف نسبة الرفع إلى هذه الأُمور ، إلى مسوِّغ بمعنى رفع أمر حقيقة لا ادّعاء
ليكون مصححاً لنسبته إلى هذه الأُمور التسعة ادّعاءً ، وما هو إلاكون هذه الأُمور
مسلوبة الأثر في عالم التشريع ، وعندئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر الذي صار
سلبه ، مسوِّغاً لنسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازاً وادّعاء؟ فقد اختلفت كلمتهم
في تعيينه.
فمن قائل بأنّ المرفوع ثبوتاً هو
المؤاخذة ؛ إلى آخر ، بأنّ المرفوع هو الأثر المناسب كالضرر في الطيرة والكفر في
الوسوسة ، والمؤاخذة في الباقي; إلى ثالث ، بأنّ المرفوع جميع الآثار. وإليك دراسة
الاحتمالات :
١. المرفوع المؤاخذة
إنّ رفع هذه الأُمور كناية عن رفع
المؤاخذة ، فمن ترك الواجب أو ارتكب الحرام عن جهل ونسيان لم يؤاخذ ، وأورد عليه
بوجوه :
__________________
١. المؤاخذة أمر تكويني ، لا يناسب
وضعُها ولا رفعُها ، مقام التشريع ، فانّ ما يعود إلى الشارع في ذلك المقام رفع الحكم
الشرعي ووضعه ، لا رفع الأمر التكويني أو وضعه.
يلاحظ
عليه : أنّ المؤاخذة لما كانت من توابع
الحكم استحقاقاً ، أو جعلاً صحّ للشارع حتى في مقام التشريع وضعها ورفعها.
وبعبارة أُخرى : كان للشارع حفظ إطلاق
الحكم ، وفعليته في حقّ الجاهل الشاك بإيجاب الاحتياط عليه ، المستلزم للعقوبة لدى
المخالفة ، فالدليل على رفع الحكم الواقعي بمعنى عدم فعليته ، دليل على عدم إيجاب
الاحتياط المستلزم لعدم العقوبة ، فالعقوبة وعدمها ممّا يترتبان على الحكم الواقعي
بتوسط إيجاب الاحتياط وعدمه ، وهذا المقدار من الترتب يصحح رفعها ووضعها من جانب
الشارع.
وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني «
انّها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلا أنّها ممّا يترتب عليه بتوسيط ما هو
أثره ـ إيجاب الاحتياط ـ فالدليل على رفع الحكم ، دليل على رفع إيجاب الاحتياط
المستتبع عدم استحقاق العقوبة لدى المخالفة.
٢. انّ المؤاخذة من آثار الحكم المنجّز
، والمفروض عدم تنجّزه فكيف يصح الإخبار عن رفعها؟
يلاحظ
عليه : أنّه يكفي في استحقاق العقاب قابلية
المورد لجعل الحكم الفعليّ منجزاً وإن لم يكن منجّزاً ، وذلك لصحّة تكليف الجاهل
بالحكم ، الملتفت إليه ، بالاحتياط ، والمكره ، بتحمل الضرر ، والمضطرّ بقبول
المشقة ، فقابلية الحكم الفعلي للتنجّز ، كاشف عن وجود المقتضي للعقاب ، وهو كاف
في صدق الرفع.
٣. انّه على خلاف إطلاق الحديث ، ولعلّه
أتقن الإشكالات المتوجهة إلى هذا الوجه ، وسيوافيك دعمه.
٢. المرفوع هو الأثر المناسب
إنّ المتبادر من الوضع والرفع في محيط
التشريع هو ما يعدُّ أثراً مناسباً للشيء فمع وجود الخصيصة الظاهرة للشيء يُحسن
الاخبار عن وضعها ، ومع عدمها يحسن الاخبار عن عدمها ، ولأجل ذلك صحّ للشاعر أن
يقول :
« أسد عليّ وفي الحروب نعامة ».
كما صحّ للإمام أمير المؤمنين 7 أن يصف المتقاعدين عن الجهاد بقوله :
« يا أشباه الرجال ولا رجال ».
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره إنّما يصحّ إذا كان
الأثر المناسب للشيء ، أمراً واحداً يدور عليه رحى الوضع والرفع ، كما هو الحال في
الأسد ، وأمّا إذا كانت للشيء آثار متعددة وكلّها بالنسبة إلى الشيء على حدّ سواء
فلا معنى لجعل واحد منها ملاكاً للرفع ، دون بعض كما في المقام.
٣. المرفوع هو عموم الآثار
إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة
التشريع ، إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل بأنّه مرفوع
، وإلا فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً ، من غير فرق
بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر ووجوب جلده ، أو الوضعية كالجزئية والشرطية
عند الجهل بحكم الجزء والشرط أو نسيانهما وكالصحّة في العقد المكره.
ويؤيّد ذلك ، إطلاق الحديث أوّلاً ،
وكونه حديث المنّة ، ومقتضاها رفع تمام الآثار ثانياً ، ومقتضى صحيحة البزنطي
ثالثاً.
__________________
روى البرقي ، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن
محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً ، عن أبي الحسن 7
في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال
: « لا ، قال رسول اللّه 6
: وضع عن أُمّتي : ما أكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطأوا ».
وقد تمسك الإمام بالحديث على بطلان
الطلاق وعدم ترتّب الصحّة التي هي حكم وضعي ، فيكشف عن أنّ المرفوع أعمّ من
المؤاخذة والحكم التكليفي والوضعي.
فإن
قلت : إنّ الحلف بالطلاق وقرينيه باطل
اختياراً فضلاً عن الاضطرار ، لأنّه قد تقرر في محلّه ، انّ الطلاق وأضرابه لا
يتحقق إلا بصيغة خاصة ، ولا يقع بقولنا : أنت خلية أو برية أو بالحلف به ، وعلى
ذلك فلا حاجة في الحكم بالبطلان إلى حديث الرفع ، وهذا يكشف عن أنّ التمسك به كان
من باب الجدل وإقناع الخصم بما هو معتقد به ، ولا يستفاد منه ، أنّ أصل التمسك به
صحيح على مذهب الحقّ.
قلت
: المتبادر من الرواية هو كون حديث الرفع صالحاً لرفع كلّ أثر تكليفي أو وضعي وكان
هذا أمراً مسلّماً بين الإمام والمخاطب ، نعم كان تطبيق الكبرى على الصغرى من باب
الجدل. والدليل على ذلك انّ الاعتقاد بعمومية المرفوع لم يكن أمراً معنوناً في فقه
العامة في ذاك الأعصار حتى يكون ذاك من مذهبهم ومعتقدهم ، بل كان التمسك به من باب
كونه هو المتبادر عند الافهام ، لا من باب كونه مقبولاً عندهم.
__________________
الرابع : عموم الموصول للحكم
والموضوع المجهولين
قد عرفت أنّ المجوّز لنسبة الرفع إلى
الأُمور التسعة ادّعاءً ، هو رفع جميع الآثار الشرعية حقيقة بلا ادّعاء ، من غير
فرق بين كون الحكم الشرعي كلياً ، كما في الشبهات الحكمية ؛ أو جزئياً ، كما في
الشبهات الموضوعية ، ولكن ربما يتصور اختصاصه بالأمر الثاني وعدم عمومه بالأوّل ،
وهذا ما ندرسه في هذا الأمر ، وعلى ثبوت هذا الأمر تدور دلالة الصحيحة على البراءة
في الشبهة الحكمية وعدمها.
وقد استدل الشيخ الأعظم بها على المقام بالنحو التالي : إنّ
حرمة شرب التتن مثلاً ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها كرفع الخطأ
والنسيان ، رفع آثاره أو خصوص المؤاخذة فهو كقوله 7
: « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ». وقال المحقّق الخراساني :
الإلزام المجهول ممّا لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً.
ثمّ إنّ هنا محاولات لتخصيص الحديث
بالموضوع وإخراج الجهل بالحكم عنها ، وإليك بيانها واحدةً تلو الأُخرى.
١. وحدة السياق
إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد
من الموصول « فيما لا يعلمون » هو الموضوع المجهول كالمائع المردّد بين الخمر
والخل ، بشهادة أنّه المراد من الموصول في الفقرات المعطوفة ، أعني : « وما لا
يطيقون » و « ما اضطروا إليه » ، فانّ ما لا يطاق ، أو ما يضطرّ إليه الإنسان ،
عبارة عن الفعل كالصوم للشيخ والشيخة
__________________
وشرب الخمر للتداوي.
وقد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال
بقوله : إنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع
في « غير ما لا يعلمون » إلى الأفعال الخارجية ، إنّما هو لأجل انّ الإكراه والاضطرار
ونحو ذلك إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما
أنّ المرفوع في « مالا يعلمون » أيضاً هو الحكم الشرعي وهو المراد من « الموصول »
والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره من أنّ المرفوع هو الأحكام
مطلقاً حكمية كانت أو موضوعية صحيح حسب الإرادة الجدية ، ولكن مصبَّ الإشكال هو
الإرادة الاستعمالية بأنّ الرفع حسب هذه الإرادة اسند إلى الموضوع في سائر الفقرات
، فليكن كذلك في الفقرة الأُولى ، أعني : « فيما لا يعلمون » ، والقول بأنّ
المرفوع جداً هو الحكم الشرعي في الجميع ، لا يدفع الإشكال.
والأولى أن يجاب بما أجاب به شيخ
مشايخنا العلاّمة الحائري 1
، وحاصل ما أفاد بتوضيح منّا : أنّ الإشكال مبنيّ على استعمال الموصول في المصاديق
الخارجية ، فبما انّ المستعمل فيه في الفقرتين ، منحصرة في الموضوعات ، فليكن قرينة
على اختصاصها في الأوّل بها ، ولكنّه أمر غير تام ، بل المبهمات مستعملة في
المفاهيم المبهمة وإنّما تعلم سعته أو ضيقه من صلته ، وبما انّ العلم والجهل
يعرضان الحكم والموضوع ، فتكون الفقرة الأُولى شاملة لهما ، ولكن الاضطرار
والإكراه لا يعرضان إلا الموضوعات الخارجية فتختصان بهما فاختصاص مصاديق الصلة
بالموضوعات ، لا يكون دليلاً على تخصص صلة الأوّل بها.
__________________
٢. عدم صحّة نسبة المؤاخذة
إلى الحكم
إذا اخترنا في الأمر السابق بأنّ
المرفوع جداً هو المؤاخذة ، فالظاهر انّ المراد المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ،
وعلى هذا لو أُريد من الموصول في قوله : « ما لا يعلمون » الفعل المجهول الحقيقة
تصح نسبة المؤاخذة إليه ، وإن أُريد الحكم المجهول ، لا تصح نسبتها إليه ، إذ لا معنى
للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.
يلاحظ
عليه أوّلاً : عدم صحّة المبنى
، وإنّ المقدّر ليس المؤاخذة بل عموم الآثار.
وثانياً
: لو سلمنا تقدير المؤاخذة ، فإن أُريد من صحّة النسبة ، هي الصحّة بالدقة العقلية
، فالحقّ انّه لا تصح نسبة المؤاخذة لا على الحكم ولا على الموضوع.
أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فانّه
لا معنى للمؤاخذة على الخمر وإنّما تصحّ المؤاخذة على شربها واستعمالها ، وإن
أُريد منها ، الصحّة بالمسامحة العرفية ، فتصح النسبة إليهما عرفاً.
٣. المرفوع هو الأمر الثقيل
إنّ الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً
ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع ، والأمر الثقيل هو فعل الواجب أو ترك الحرام ، وأمّا
الحكم فهو أمر صادر من المولى فلا ثقل فيه.
يلاحظ
عليه : الأحكام من مصاديق التكليف ، وهو من
الكلفة ، فلو لم يكن فيها ثقل فكيف يطلق عليها التكليف؟ والشاهد على ذلك وصف
الأحكام بالحرج قال سبحانه : (
وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
) ، أي لم يجعل حكماً حرجياً.
__________________
٤. ما هو الموضوع هو المرفوع
وهناك محاولة رابعة لتخصيص الحديث
بالشبهة الموضوعية ، وحاصله : انّ المرفوع في الحديث عبارة عمّا هو الموضوع في
سائر الأدلّة ، وبما انّه فيها عبارة عن نفس الفعل ـ لا الحكم ـ فيكون المرفوع
أيضاً هو نفسه. والدليل على أنّ الموضوع هو الفعل قوله سبحانه : ( وَعَلَى المَوْلُود لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف )
، فالموضوع
هو فعل الرزق وفعل الكسوة ، وقوله سبحانه : (
وَعَلى
الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِديَةٌ طعامُ مِسْكِين )
، فالموضوع هو الفدية ، وقوله : (
كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيام ) ، أو قوله : ( وَللّهِ عَلَى النّاس حِجُّ البَيْت
) ، فالموضوع هو الصيام والحجّ.
يلاحظ
عليه أولاً : أنّ الرفع كما يتعلّق بالفعل
كذلك يتعلّق بالتكليف أيضاً ، كما في قوله 6
: « رفع القلم عن ثلاثة »
، فانّ المراد رفع قلم التكليف ، والمراد انّه لم يكتب عليه شيء من التكاليف ،
ولذلك عدّ الفقهاء العقل والبلوغ من شرائط التكليف.
وثانياً
: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ في غير النسيان ، لأنّه يرتكب في غيره عملاً ، له حكم
خاص فيكون نفس الفعل مرفوعاً ، وأمّا فيه فانّه ربما يكون مبدأ لترك الفعل ،
كنسيان الصلاة في الوقت ، أو نسيان أجزاء الواجب فلم يصدر من المكلّف أمر
__________________
ثقيل حتى يكون هو
المرفوع بل لم يصدر منه شيء.
وثالثاً
: أنّ الظهور المتبع عبارة عن الظهور العرفي الذي يستظهره غالب أهل اللسان ، لا
الظهور المبني على هذا النوع من الدقائق ، وعلى هذا فإنكار إطلاق الحديث بالنسبة
إلى الجهل بالحكم أو نسيانه ، أمر لا يقبله الذوق السليم.
الخامس : اختصاص الحديث
بالرفع الامتناني
قد عرفت في الأمر الثالث انّ المسوغ
لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ، إنّما هو رفع آثارها ، لكن لما كان الحديثُ
حديثَ امتنان بقرينة قوله : « عن أُمّتي » يختص الرفع بما يكون في رفعه منَّة
عليهم ، لا ضرراً وحرجاً وضيقاً ، وإلا فلا يعمه. وعلى هذا ، يجوز إكراه القاضي
المدينَ المتمكن من أداء الدين ، ولا يحرم ، وبالتالي يتملّك الدائن ما أخذه ، كما
يجوز إكراه المحتكر في عام المجاعة على البيع فيجوز تكليفاً ويصحّ بيعه الطعام
ثانياً ، كما لا يرتفع بالإكراه ضمان العين التالفة عن جهل ونسيان ، إذ ليس في
رفعه امتنان عليهم ، ولا يرتفع صحّة بيع المضطر إذ ليس في رفعه أيّ امتنان على
الأُمّة ، بل الامتنان في صحّة المعاملة.
ولكن القدر المتيقن من الحديث هو إذا
كان ترتيب الأثر على خلاف الامتنان ، وعدمه على وفاقه. وعلى ضوء هذا ففيما إذا
اضطر إلى أكل الميتة لأجل حفظ الحياة ، فالوضع أي كونه محرّماً وموجباً للعقاب على
خلاف الامتنان ورفعه ، وعدم كونه كذلك على وفاقه ، وأمّا إذا اضطر لمعالجة ولده
إلى بيع داره ، فالوضع أي ترتيب الأثر على بيعه يكون على وفاق الامتنان ورفعه على
خلافه ، إذ على الرفع يكون بيع الدار باطلاً والتصرّف في الثمن حراماً فلا يتمكن
من الوصول إلى مقصوده وهو معالجة ولده.
ومثله « ما أكره عليه » لو أكره على بيع
داره ، فالوضع أي الحكم بصحة البيع
وتملّك المكرِه
المبيع على خلاف الامتنان ورفعه وكونه باطلاً لعدم طيب نفسه على وفاقه.
وأمّا إذا أُكره على الحكم التكليفي ،
كما إذا أُكره على الزنا أو شرب الخمر وإلا فيهان ، أو يجبر بدفع مال غير مهم بالنسبة
إليه ، فلا يكون الوضع ، أي حفظ حرمة الفعل على خلاف الامتنان بعد كون ما توعد به
أمراً قابلاً للتحمّل ، ولذا قالوا ليس كلّ إكراه مسوّغاً لمخالفة الحكم التكليفي
، بخلاف الإكراه في مورد المعاملات فإنّ الأقل منه الملازم لعدم طيب النفس ملازم
للبطلان.
نعم لو كان ما توعد به أمراً مهماً لا
يُتحمل عادة ، فهو مرفوع ، بدليل الإكراه أوّلاً ودليل « لا حرج » ثانياً كما لا
يخفى.
السادس : المرفوع آثار
المعنون لا آثار العناوين
اعلم أنّ الآثار الشرعية على قسمين :
قسم يترتب على نفس الفعل بما هو هو من
دون تعنونه بعنوان خاص كالأحكام الواردة في الآيات التالية :
١. (
وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلاً
).
٢. (
وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَليّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً
).
٣. (
وأَوفُوا
بالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤولاً
).
٤. (
وَالسّارِقُ
وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا
).
__________________
٥. (
الزَّانِيَةُ
وَالزّاني فَاجْلِدُوا كُلّ واحِد مِنْهُما مائَةَ جَلْدَة ).
فالحكم المجعول في هذه الموارد على فعل
المكلف بما هو هو عالماً كان أو جاهلاً ، مختاراً كان أو مكرهاً ، مضطراً أو غير
مضطر.
وقسم يترتب الحكم على الفعل بما هو
معنون بعنوان خاص ، كترتب الدية على القتل الخطأ ، كما في قوله سبحانه : ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ
). وكالإتيان بسجدتي السهو إذا تكلم
ناسياً ، كقوله 7
عن الرجل يتكلّم ناسياً في الصلاة؟ فأجاب : « يسجد سجدتين » . فالحكمان مترتبان على الفعل الصادر عن
خطأ ونسيان.
إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ المرفوع هو
القسم الأوّل من الآثار لا الثاني ، وذلك لوجهين :
الأوّل
: انّ المتبادر من أخذ العناوين التالية : الإكراه والاضطرار والنسيان في حديث
الرفع ، هو أخذها طريقاً إلى متعلّقاتها ، فأطلق رفعها وأُريد رفع متعلّقاتها ،
أعني : الأفعال المكره والمضطر إليها والمنسية ورفعها كناية عن رفع آثار
متعلّقاتها التي رتبت في الأدلّة على مطلق الفعل من غير تقييد بعنوان خاص ، مثلاً
حكم في الآيات السابقة على الزنا والسرقة بالحرمة ، وبالقتل بجواز الاقتصاص ،
وبالعهد بلزوم الوفاء من غيرتقييد بعنوان مثل العمد والاختيار والذكْر ، ومقتضى
إطلاق الدليل ثبوتها في جميع الحالات ، فإذا ضمّ إليها حديث الرفع ، يكون مقتضى
الجمع بين الدليلين هو رفع تلك الآثار إذا كان الفاعل مكرهاً أو مضطرّاً ، أو
ناسياً أو جاهلاً.
__________________
وهذا بخلاف الحسد والطيرة والوسوسة ،
فالظاهر انّها عناوين موضوعية ، فالمرفوع آثار نفسها.
وعلى هذا ، فلو رتب أثر شرعي على خصوص
الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، فلا يكون مرفوعاً بحديث الرفع ، لأنّ الخطأ
وأمثاله فيه أخذا موضوعاً لا طريقاً إلى المتعلّق.
الثاني
: إذا كان حديث الرفع حاكماً على مثل القسم الثاني يلزم التناقض بين الأدلّة
الدالة على ثبوت هذه الأحكام في هذه الأحوال ، وحديث الرفع النافي لها فيها ولا
محيص عن صرفه عن مثل هذه الأحكام.
السابع : عدم اختصاصه
بالأُمور الوجودية
إذا كان المرفوع جدّاً هو عموم الآثار ،
كما مرّ; تكون النتيجة ، عدم اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية ، بل يعمّ الأُمور
العدمية. مثلاً لو نذر أن لا يدَّخِنَ ، لكن دخّن عن إكراه أو نسيان ، فالفعل مرفوع
برفع آثاره. ولو نذر ، أن يشرب من ماء زمزم فنسي أو أُكره على الترك ، فلا يعدّ
حنثاً ولا تجب الكفارة.
لكن ذهب المحقّق النائيني 1 إلى اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية ،
وقال : وإن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ففي شمول حديث الرفع
لذلك إشكال مثلاً لو نذر أن يشرب ماء دجلة فأُكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي
أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصة بصورة
تعمد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة واختيار ، لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة
المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود
إنّما يكون وضعاً لا رفعاً والمفروض انّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه ونسيان ،
فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال
مرفوعاً وجعله كالشرب حتى يقال انّه لم تتحقق
مخالفة النذر فلا
حنث ولا كفارة.
يلاحظ
عليه : أنّ كلامه إمّا في عالم الإثبات
والاستعمال أو عالم الثبوت والجد ، فإن كان في المقام الأوّل فقد مرّ انّ مصحح
الرفع إثباتاً عبارة عن تعلّقه بهذه العناوين الوجودية ، من غير فرق بين تعلّقها
بأُمور وجودية أو أُمور عدمية ، وما ذكره 1
نظير ما ذكره الشيخ الأعظم في بيان وجه اختصاص أخبار الاستصحاب بالشكّ في الرافع
دون الشكّ في المقتضي ، وذلك لأنّ النقص لا يناسب إلا المعنى الأوّل الذي أحرز فيه
اقتضاء البقاء وإنّما شكّ في رافعه دون الثاني الذي لم يحرز فيه اقتضاء البقاء.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ
المصحح لاستعمال النقض في كلا الموردين هو تعلّقه باليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم
ـ وليس مثل الظن ـ سواء تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي وشكّ في رافعه أو بما
شكّ في وجود الاقتضاء فيه.
ونظيره المقام ، فانّ المصحّح في مقام
الإثبات ، كون متعلّق الرفع عبارة عن الأُمور التسعة التي هي أمر وجودي ، فهي في
عالم التشريع مرفوعة ، من غير نظر إلى تعلّقها بأمر وجودي أو أمر عدمي.
وإن كان كلامه في المقام الثاني ،
فالمرفوع هو الأحكام الوجودية المترتبة على الموضوعات الشرعية من غير فرق بين
ترتبه على أمر وجودي أو أمر عدمي ، فالحنث والكفارة في مثاله الذي ذكره مترتب على
ترك الشرب ، فالحديث يرفع وجوب الكفارة الذي هو أمر وجودي.
وعلى ذلك لو أكره على ترك السورة في
الصلاة أو نسيها ، فيجري فيه حديث الرفع ، وسيوافيك تفصيله في أحد الأُمور الآتية.
__________________
الأمر الثامن : المرفوع هو
المترتب على فعل المكلّف
إنّ المرفوع هو الأثر المترتب على فعل
المكلّف ، لأنّ هذه العناوين ممّا لا تعرض إلا على فعله ، فلو ترتب أثر على فعله
فهو مرفوع ، وأمّا إذا كان الأثر مترتباً على وجود الشيء كالنجاسة بواسطة ملاقاة ،
جسم لجسم ، فلا يرتفع به ، فلو أُكره على شرب الخمر ترتفع الحرمة دون نجاسة ملاقيه
من اليد والفم ، أو أكره على الزنا ، فالأثر المترتب على فعله من حرمة التزويج إذا
كانت محصنة مرتفعة بشرط أن يكون كلّ مكرهاً عليه ، وبذلك يعلم انّه لو أكره على
ترك الفريضة أو اضطر إلى الترك ، لا يسقط القضاء ، لأنّه مترتب على الفوت بما هو
هو لا بما هو فعل المكلّف ، فلو نام عن فريضة فعليه القضاء مضافاً إلى وجود
الملاك. ولا ينافيه قوله : « رفع القلم عن ثلاثة ... النائم حتى يستيقظ ».
هذه هي الأُمور الكلية التي تسلط الضوء
على المقصد إذا عرفتها ، فنقول يقع الكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في عنواني «
ما لا يعلمون » و « النسيان »
قد عرفت أنّ المرفوع جدّاً هو عموم
الآثار الشرعية ، وعلى ذلك كما يكون الحكم التكليفي مرفوعاً بالجهل والنسيان ،
كذلك يكون الحكم الوضعي ، كالجزئية والشرطية مرفوعاً بهما أيضاً.
فلو جهل بحرمة الشيء ـ بعد الفحص عن
مظانّه أو نسي الحكم الشرعي ـ فارتكبه فلا يترتب عليه شيء; فلو نذر أن يصلّي
الغفيلة فنسيها ، ولم يصل لا يترتب عليه الحنث. وأمّا لزوم القضاء ، فالبحث عن
لزومه وعدمه يطلب لنفسه مجالاً آخر.
إنّما الكلام في رفع الحكم الوضعي
كالجزئية والشرطية ، فلنركز الكلام على النسيان ومنه يعلم حال الجهل به.
أقول
: إنّ النسيان قد يتعلّق بالجزئية ، والشرطية ، فهو يكون مساوقاً لنسيان الحكم
الكلي ، وقد يتعلّق بنسيان الجزء والشرط مع العلم بحكمهما ؛ وعلى كلّ تقدير ، فلا
مانع من عمومية الحديث لكلا القسمين تحت عنوان واحد ، ورفع المنسي باعتبار رفع
النسيان سواء كان المنسيّ ، الحكم الكلي ، أو الجزئي بماله من الأثر الشرعي (
الوجوب ). وعلى ضوء ذلك ، يكون الواجب في حقّ الناسي الأجزاء الباقية ، وتكون الصلاة
صحيحة ، والتفصيل بين نسيان الحكم ، ونسيان الجزئية والشرطية تحكم بعد تعلّق الرفع
برفع النسيان ورفع ما نسي ، وهو أعم من الحكم والجزئية والشرطية.
نعم استشكل على التمسك بالحديث بأُمور
ذكر بعضها المحقّق الخراساني في باب الشكّ في المكلّف به عند الجهل بالجزئية
والشرطية ،
وبعضها الآخر المحقّق النائيني في المقام ، ونحن نشير إلى الجميع بصورة موجزة.
١. الجزئية أمر انتزاعي وليس حكماً
شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، فكيف يتعلّق به الرفع التشريعي؟
يجاب : يكفي في جواز الرفع كونها
منتزعاً من أمر مجعول ، وهو وجوب السورة ، وهذا المقدار كاف في صحّة الرفع.
٢. انّ رفع الجزئية ، يلازم رفع وجوب
السورة ، وأمّا كون الواجب هو الباقي وتعلّق الأمر به فهو لا يستفاد من حديث
الرفع.
يجاب
: بأنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء والشرائط ، هو نسبة
__________________
الاستثناء ، فكما
أنّ استثناء شيء من العموم ، يلازم اختصاص الحكم الباقي ، فهكذا استثناء جزئية
السورة في حال النسيان ، يلازم انحصار الأمر بالباقي ، وبذلك يكون حديث الرفع من
أدلّة الأجزاء.
بعبارة أُخرى : تحديد دائرة المأمور به
، ليس على عاتق حديث الرفع بل على عاتق أدلّة الأجزاء ، فإذا اختص وجوب السورة
بغير حال النسيان ، يكون الواجب في حقّ الناسي هو الصلاة بغير السورة ، وينطبق
عنوان المأمور به على الباقي انطباقاً قهرياً ، ويكون سقوط الأمر والأجزاء مثله.
٣. ما ذكره المحقّق النائيني من أنّه لا
يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط ، لنسيان أو إكراه ونحو ذلك
بحديث الرفع ، فانّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسيّة في الصلاة مثلاً
لخلو صفحة الوجود عنها.
يجاب عنه بما عرفت من أنّ الرفع تعلّق
في عامة الموارد بأُمور وجودية ، وهو العناوين الواردة في الحديث ، وقد تقدّم
أنّها أخذت فيه بعنوان الطريقية فيكون المرفوع هو المنسي.
٤. ما ذكره هو أيضاً 1 لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع
أثر الإجزاء والصحّة ، فانّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة وينتج عكس
المقصود.
يلاحظ
عليه : ليس المرفوع هو الإجزاء والصحّة ، بل
المرفوع هو الجزئية والوجوب الذي لها ، وهذا ينتج نفس المقصود.
٥. إنّما تصحّ عبادة الناسي ويكون
المركب الفاقد تمام المأمور به في حقّه إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب ، وأمّا مع
عدم إمكانه لأجل كون الخطاب بقيد انّه ناس ، لوجب انقلاب الموضوع إلى الذاكر فلا
يمكن تصحيح عبادته.
__________________
يجاب
: انّ تصحيح عبادته لا تتوقف على تخصيصه بالتكليف ، بل الأمر المتعلّق بالصلاة في
الكتاب والسنّة كاف في التصحيح ، فانّ الذاكر والناسي يقصدان امتثال قوله سبحانه :
( أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيل )
والصلاة أمر
مقول بالتشكيك ، تصدق على الفرد الواجد للسورة ، والفاقد لها وكلاهما ـ بما هما
فردان للطبيعة ، غير انّ الواجب على الذاكر إيجادها في ضمن الفرد الكامل ، وعلى
الناسي إيجادها في ضمن الفرد الناقص ـ إيجاد لنفس الطبيعة وامتثال للأمر الوارد في
الكتاب والسنّة بلا حاجة إلى تخصيص الناسي بالتكليف.
وعلى ذلك فلو ذكر الناسي بعد أداء
الصلاة انّه ترك السورة فصلاته صحيحة ، مجزئة لانطباق عنوان المأمور به على ما أتى
، وقد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد.
٦. انّ هذا التقريب يوجب سقوط الأمر
الظاهري ، وأمّا الأمر الواقعي المتعلّق بالصلاة بعامة أجزائها وشرائطها فهو باق.
يجاب : انّك قد عرفت في باب الإجزاء
انّه ليس لنا إلا أمر واحد ، وهو بوحدته يبعث الذاكر والناسي والمصحّ والمريض والحاضر
والمسافر ، ولأجل ذلك يعبر سبحانه عن صلاة المسافر ، بالتقصير ويقول : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة
) فالواجب في حقّ المسافر ، هو نفس
الواجب في حقّ الذاكر ، غير أنّ له أن يقصّـرها ويقلِّلها من ركعاتها.
نعم يمكن امتثال هذا الأمر الواحد بصور
مختلفة حسب اختلاف أحوال المصلي ، من الذكر والنسيان والصحّة والمرض.
__________________
تعلّق النسيان بالسبب
ما ذكرناه في نسيان الجزء والشرط
والمانع يأتي بعينه في نسيان السبب لكن بالتفصيل الآتي.
وهو انّه إن تعلّق النسيان بأصل السبب
أو بشرط يعد عند العقلاء من مقومات العقد ، كما إذا تقاولا على الزوجية ، ودخل
بالمرأة بلا عقد عن نسيان أو عقد هازلاً ، فلا ريب في بطلان مثل هذا الزواج ، إذ
لم يصدر من المكلّف أيُّ عمل حتى يوصف بالصحّة ، وهذا بخلاف ما إذا تعلّق النسيان
بشروط السبب وموانعه ، كما إذا عقد فارسياً ـ على القول بشرطية العربية ـ ، فيحكم
بالصحّة لرفع شرطيتها في حال النسيان فيكون العقد الفارسي قائماً مكان السبب التام
، وليس المرفوع إلا شرطية العربية.
وبما ذكرنا يظهر ، عدم تمامية ما أفاده
المحقّق النائيني حيث قال ببطلان العقد الفارسي إذا صدر عن نسيان قائلاً : بأنّ
رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي.
لما عرفت من أنّ المرفوع هو شرطية
العربية في العقد ، وهو كاف في الصحّة ، لا العقد الفارسي.
المقام الثاني : في الاضطرار
والإكراه
قد استقصينا البحث في الفقرتين
الماضيتين : مالا يعلمون ، والنسيان ; فلنعطف عنان الكلام إلى الفقرتين الأخيرتين
: الاضطرار والإكراه.
فيقع الكلام تارة في الحكم التكليفي ،
وأُخرى في الحكم الوضعي.
__________________
تعلّق الإكراه بالحكم
التكليفي
إذا تعلّق الإكراه بارتكاب المحرم ، فلا
يرتفع بمجرّد عدم طيب النفس إلا إذا كان المتوعد به أمراً حرجياً ، غير قابل
للتحمل عادة ، وهذا يختلف حسب اختلاف الأشخاص والأحوال. وقد فصّل الشيخ في الموضوع
في المكاسب المحرمة فليرجع إليها.
وأمّا ما رواه المفضل بن عمر ، عن أبي
عبد اللّه 7 في رجل أتى
امرأته وهو صائم وهي صائمة فقال : « إن كان استكرهها فعليه كفارتان ، وإن كان
طاوعته فعليه كفارة ... ». فضعيف
السند جدّاً ، لأنّ الكليني يرويه بسند لم نجد أيّ توثيق في حقّ واحد منهم ، وعلى
فرض الثبوت يحمل على المرحلة التي ربما تسلب الطاقة عرفاً عن الزوجة.
إذا علمت انّه ليس كلّ إكراه مسوِّغاً
لارتكاب المحرم بل مرتبة خاصة منه ، فاعلم انّه إذا بلغ الإكراه إلى الدرجة
المسوِّغة ، وأُكره على ارتكاب محرم فعليه الاقتصار به دون تجاوز إلى الفرد الآخر ،
كما أنّه إذا أكره على ترك فرد من الواجب كالصلاة في المسجد فليس له ترك الصلاة في
البيت.
تعلّق الإكراه بالحكم الوضعي
هذا كلّه حسب الحكم التكليفي وأمّا
الوضعي ، فتارة يتعلّق بالسبب ، وأُخرى بالمسبب. أمّا الأوّل فكما لو أُكره على
ترك السبب أو ترك ما يعد من مقوماته كالتزويج بلا عقد ، أو هازلاً ، فلا شكّ في
بطلان التزويج غاية الأمر يعدّ معذوراً من جانب المخالفة التكليفية ، كالنظر
واللمس إذا استمر الإكراه.
__________________
أمّا إذا تعلّق الإكراه بترك الجزء
والشرط أو إيجاد المانع ، فالظاهر صحّة العبادة على غرار ما ذكرناه في نسيان الجزء
والشرط وإيجاد المانع إذا كان العذر مستوعباً ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فالإجزاء
وعدمه رهن جواز البدار مع احتمال ارتفاع العذر أو لا. فعلى الأوّل يجزي لوحدة
الأمر وقد امتثله وانطبق عليه عنوان الواجب دون ما إذا قلنا بعدم الاجزاء ومثله
إذا أكره على المانع كما إذا أكره على الصلاة في الثوب النجس.
فتلخص من ذلك أنّ مطلق الإكراه لا
يسوِّغ مخالفة الحكم التكليفي إلا إذا بلغ درجة غير قابلة للتحمل عادة ، ومعه يجب
الاقتصار على مورده.
وأمّا الإكراه على الحكم الوضعي ، فلو
أُكره على ترك السبب من رأس أو ما يعد مقوماً فلا يجدي في صحّة السبب لعدم السبب.
وأمّا إذا أُكره على ترك الشرط والجزء
والمانع في المعاملة والعبادة ، فالظاهر رفع الجزئية والشرطية والمانع ، وبالتالي
التكاليف الوضعية والحكم بصحّة العمل عبادياً كان أو معاملياً.
نعم فصّل سيدنا الأُستاذ 1 في باب الإكراه بين تعلّقه بالمانع
وتعلّقه بترك الجزء والشرط ، بجريان حديث الرفع في الأوّل وصحّة العمل ، دون
الأخير ، وذلك لأنّ الإكراه في الأوّل تعلّق بشيء ذي أثر وهو المانع كالصلاة في
الثوب النجس ، دون الأخيرين إذ الإكراه تعلّق بترك الجزء والشرط ، وهما ليسا
متعلّقين بالحكم الشرعي.
هذا بخلاف ما إذا نسي الجزء والشرط بأنّ
متعلّق النسيان ذو أثر شرعي ، وعلى ضوء ما ذكر يجزي حديث الرفع في مورد النسيان في
جميع الموارد الثلاثة ، دون الإكراه فهو يجري في إيجاد المانع ، دون ترك الجزء
والشرط.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّه يكفي في جريان الحديث أحد
الأمرين إمّا كون متعلّق العنوان ذا أثر شرعي كنسيان الجزء ، أو كون متعلّقه
ملازماً عرفاً للحكم الشرعي ، فانّ ترك الجزء في نظر العرف ملازم لبقاء الأمر
بالمركب فإذا تعلّق الإكراه بترك الجزء وصار المكلّف معذوراً في تركه يكون نظر
العرف ملازماً لعدم بقاء الأمر بالمركب وسقوط الأمر النفسي ، وهذا المقدار من
الملازمة العرفية كاف في التمسك به ، هذا كلّه حول الإكراه على السبب.
الإكراه على المسبب
وأمّا إذا أكره على المسبب ، فإن كان من
الأُمور الاعتبارية المترتبة على فعل المكلّف كالزوجية والملكية إذا أمكن الاكراه
عليه ، فهو مرفوع ، وأمّا إذا كان من الأُمور المترتبة على وجود السبب بما هو هو
لا بما هو فعل اختياري للمكلّف فلا يرتفع بالإكراه كالغسل لمن أكره بالجنابة ،
وتطهير الثوب والبدن للصلاة لمن أكره على الجنابة.
حكم الاضطرار
الاضطرار إمّا أن يتعلّق بالأمر المشروع
كبيع الدار لمعالجة الولد ، فلا شكّ انّه غير مؤثر في رفع الأثر ، لأنّه على خلاف
الامتنان ، وأمّا إذا تعلّق بأمر محرم فهو رافع له بعامة مراتبه خلافاً للإكراه ،
وقد عرفت أنّه لا يرتفع به الأثر إلا إذا كان ما توعد به أمراً غير قابل للعمل.
وأمّا إذا تعلّق بإيجاد المانع أو ترك
الجزء والشرط فهو كالإكراه ، مختاراً وإشكالاً وجواباً.
إكمال
لا يخفى انّ مفاد ما مرّ من الآيات السابقة
، مفاد البراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان فلو تم دليل الأخباري على لزوم
الاحتياط يكون وارداً على أدلّة الأُصولي ، إنّما الكلام في مفاد حديث الرفع ، فهل
مفاده نفس مفاد البراءة العقلية ، أو انّ مفاده رفع الواقع المجهول سواء أكان
حكماً أم موضوعاً ومعنى ذلك أنّ المكلّف في سعة من جانبه وليس له أيّ حرج من جانبه
، فلو دل دليل على لزوم الاحتياط وانّ المكلّف مأخوذ من جانب الحكم المجهول يقع
التعارض بينهما.
وعلى ضوء هذا ، يجب إمعان النظر في مفاد
كلّ دليل يقام على البراءة ، فهل يتحد مفاده مع مفاد البراءة العقلية أو لا؟
٢. حديث الحجب
روى الكليني ، عن محمد بن يحيى ، عن
أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن
يحيى ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : « ما حجب اللّه عن العباد ، فهو موضوع عنهم ».
ومحمد بن يحيى شيخ الكليني ثقة ، يروي عن
شيخه أحمد بن محمد بن عيسى ، وهو ثقة جليل ؛ يروي عن ابن فضال ، وهو الحسن بن علي
بن فضال من أصحاب الإمام الهادي والعسكري 8
، كوفي ثقة ، وهو شيخ أبي النضر محمد بن مسعود العياشي قال التلميذ : فما لقيتُ
بالعراق وناحية خراسان أفقه ولا أفضل من الحسن بن علي بالكوفة ؛ وهو يروي عن داود بن فرقد الثقة ؛
وهو يروي عن زكريا بن يحيى هو الواسطي ، قال النجاشي : إنّه ثقة. والحديث لا غبار
عليه ، لكن
__________________
لوقوع ابن فضال
الفطحي في السند ، يوصف بالموثق ، وقد مات عام ٢٢١ أو ٢٢٤ هـ ويمكن وصفه بالصحّة
لأنّ ابن فضال كان خصيصاً بالرضا 7
وهو يدل على توفّيه على الحقّ وإلا لما كان خصيصاً به واللّه العالم.
وأمّا الدلالة ، فتقرر بأنّ حرمة شرب
التتن ـ على فرض حرمتها ـ ممّا حجب اللّه علمه عن العباد ، فهي مرفوعة عنهم ، فليس
من ناحيتها أيّ حرج ، فيكون على فرض تمامية الدلالة معارضاً لأدلّة الأخباري
الدالة على وجود المسؤولية للعباد فيما جهلوا من الأحكام ولو بالاحتياط.
إنّما الكلام في تمامية الدلالة ، وذلك
لأنّ في الموصول احتمالات :
١. المعارف والأُمور الغيبيّة التي لم
يكلف العباد بالتعرف عليها ككيفية البرزخ والميزان والصراط والشجرة الخارجة من أصل
الجحيم ،
فانّ ذلك كلّه من الأُمور الغيبية التي لا تصل إلى دركها أفهام العباد في هذه
النشأة ، ويؤيد ذلك المعنى عدّة من الروايات.
٢. الأحكام التي لم يُبيّنها الشارع
أصلاً ، لأجل التسهيل ، ويؤيده ما عن أمير المؤمنين 7
: « إنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ،
ونهاكم عن أشياء فلا تنتهِكُوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا
تتكلّفوها ».
٣. المعنى العام الشامل للمعارف
والأحكام لكن بجامع انّه ممّا لم يبيّنه أصلاً.
__________________
٤. ذلك المعنى لكن الأعم ممّا لم
يبيّنها ، أو بيّنها لكن أخفاها الظالمون ، أو خفي لأجل حوادث مرّة من التقية
وغيرها.
والاستدلال مبني على كون المراد من
الموصول هو الأعم من المعارف والأحكام ، كما أنّه مبنيّ أيضاً على أنّ المراد من
الحجب هو الأعم من حجبه سبحانه مباشرة ، أو حجب عباده الذي يصحّ اسناده إلى اللّه
أيضاً كإسناد سائر أفعال العباد إليه إسناداً بالمباشرة.
فإن
قلت : إنّ ظاهر الحجب هو الحجب المباشري
فيختص بما لم يُبيّن.
قلت
: إنّ ظاهره معارض بظهور لفظ الوضع الذي هو بمعنى الرفع لمكان لفظة « عن » والرفع
فرع وجود الحكم وتشريعه ولولاه لما صحّ رفعه ، فيكون الحديث محتمل الوجهين ، فيسقط
عن الدلالة ، بل يمكن ترجيح الأوّل بادّعاء كفاية وجود المقتضي للوضع لكنّه سبحانه
لم يضعه تسهيلاً للعباد ، كما يمكن ترجيح الثاني بادّعاء انّ الحجب الناشئ من
ناحية العباد منسوب إلى اللّه سبحانه كنسبة سائر الأفعال إليه. يقول سبحانه : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ
رَمى )
، على أنّه
ربّما يكون الحجب معلولاً للحوادث المرّة كجريان السيل ، ووقوع الزلزال الّذين
يسببان زوال الكتب فتصحُّ نسبته إلى اللّه سبحانه.
٣. حديث السعة
استدل الشيخ الأنصاري والمحقّق
الخراساني بقوله 7
: « الناس في سعة ما لا يعلمون ».
وجه الاستدلال : انّ « ما » في قوله «
ما لا يعلمون » يحتمل أحد وجهين :
١. انّها موصولة : و « لا يعلمون » صلة
والضمير العائد إلى الموصول محذوف ،
__________________
والمعنى : الناس في
سعة من جانب شيء لا يعلمونه ، فالحرمة المجهولة في شرب التتن شيء بما انّها غير
معلومة للناس فهم من ناحيتها في سعة ، أي ليس عليهم حرج وضيق ، من إيجاب الاحتياط والتحفّظ
، أو ثبوت العقاب والعذاب على فرض كونه حراماً ، ويكون مضمونه موافقاً لحديث الرفع
، ولو تمّ دليل الأخباري يكون معارضاً معه ، لأنّه يدل على عدم السعة وانّه لو كان
حراماً ليُؤخذ به الإنسان ولذلك يوجب الاحتياط.
٢. مصدرية زمانية مثل قوله تعالى : ( وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ
حَيّاً )
أي مدة
حياتي ، والمعنى الناس في سعة في زمان عدم علمهم.
فإن
قلت : إنّما تتم دلالته ويكون معارضاً
لدليل الأخباري إذا افترضنا أنّها موصولة ، دونما إذا كانت ظرفية ، فيكون معناه :
الناس في سعة ما دام لم يعلموا ، فيكون الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان
وتكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليه.
قلت
: هذا ما ذكره المحقّق النائيني حسب ما نقله المحقّق الخوئي في تقريراته ، وقد أشار إليه المحقّق الخراساني
بقوله : لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط ، ثمّ أجاب عنه بما هذا توضيحه :
انّ المراد من العلم فيه ، هو العلم
بالواقع من غير فرق بين العلم بالحكم الشرعي أو العلم بهوية المشتبه في الشبهة
الموضوعية والعلم بالاحتياط ليس علماً به وإنّما علم بحكم وقائي لئلا يخالف الواقع
، نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسياً ، لا يكون بعد العلم به سعة ، ولكنّه غير تام ،
فانّ وجوب الاحتياط لحفظ
__________________
الواقع ، ولذا لو
خالفه ولم يكن في الواقع حراماً ، لما استحق العقاب.
فظهر انّه لو تمّ دليل الأخباري لوقع
التعارض بينهما ، فهذا يدل على السعة ما لم يعلم الواقع بما هو هو ، وذاك يدل على
لزوم الاحتياط وإن جهل الواقع.
نعم الظاهر كون « ما » موصولة ، لأنّ
المصدرية تدخل على الماضي الحقيقي ، أو ما بحكمه وهما منتفيان. ولكن ما نقله الشيخ
وغيره من النصّ غير وارد في الأُصول الحديثية ، وإنّما الوارد أحد التعبيرين :
أ : هم في سعة حتى يعلموا.
ب : الناس في سعة ما لم يعلموا.
أمّا
الأول فإليك نصه : انّ أمير المؤمنين 7 سُئل عن سفرة وجدت في الطريق ، كثير
لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين 7 : « يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه
يفسد وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها ، غرموا له الثمن » قيل : يا أمير المؤمنين لا
ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال : « هم في سعة حتى يعلموا ».
والحديث مروي عن طريق النوفلي عن
السكوني ، والأصحاب عملوا برواياتهما ـ كما ذكره الشيخ في العدة ـ ولكن مورده هو
الشبهة الموضوعية ، لأنّ الشكّ في حلية اللحوم الموجودة فيها لاحتمال كونها
للمجوسي الذي لا تحل ذبيحته والإمام حكم بالحلية ، والمقصود هو إثبات الجواز في
الشبهة الحكمية.
أضف إلى ذلك ، انّ تطبيق الكبرى على
موردها مشكل ، لأنّ الأصل في
__________________
اللحوم هو عدم
التذكية ، فكيف حكم عليها بالحلية؟ ولو كان الحكم لأجل كون الأرض للمسلمين والغالب
عليها هو الإسلام ، تكون مستندة إلى قاعدة أُخرى لا إلى أصالة الحلية.
أمّا
الثاني : فهو المروي مرسلاً عن النبي 6 : « الناس في سعة ما لم يعلموا »
والظاهر انّ « ما » ظرفية ، دخلت على ما هو بحكم الماضي ، دلالته جيدة يعم
الشبهتين الموضوعية والحكمية ، لكن السند غير تام.
فخرجنا بالنتيجة التالية :
الحديث الأوّل : من مراسيل الكتب
الأُصولية.
الحديث الثاني : السند قابل للاعتماد
لكن الدلالة غير تامّة.
الحديث الثالث : تام دلالة غير تام
سنداً.
٤. حديث الحل الأوّل
روى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن
هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه 7 قال : سمعته يقول : « كلّ شيء هو لك
حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد
اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خُدِع فبيع قهراً ،
أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير
ذلك أو تقوم به البيّنة ».
والرواية من ثلاثيات الكليني حيث يروي
عن المعصوم بثلاث وسائط ، ومن ثنائيات القمي حيث يروي عن المعصوم بواسطتين.
__________________
أمّا السند ، فلا غبار عليه إلا في آخره
، فانّ القمي من المشايخ الإثبات.
وهارون بن مسلم أنباري ، سكن سامراً ،
يكنّى أبا القاسم ، ثقة ، وجه ، وكان له مذهب في الجبر والتشبيه ، لقي أبا محمّد
وأبا الحسن 8.
والتعبير بلفظ : « كان » حاك عن عدوله
عنه ، وإلا كيف يكون معه ثقة؟!
وأمّا مسعدة بن صدقة العبدي; فقد وصفه
الشيخ في رجاله بأنّه عامي
، وعدّه الكشي من البترية
، ولولا تصريح النجاشي برواية هارون بن مسلم عن مسعدة لكان لاحتمال سقوط الواسطة
بينهما مجال.
والسند وإن كان غير نقي ، لكن تلوح على
المضمون علائم الصدق.
وعلى كلّ تقدير ، فليس في المقام إلا
رواية واحدة ورد فيها قوله : « كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه فتدعه ».
ويظهر من الشيخ الأعظم انّ هنا رواية
مستقلة وراء رواية مسعدة غير مشتملة على لفظة « بعينه ». ولم نقف على ما ذكره.
ونقلها المحقّق الخراساني مشتملة على
لفظة « بعينه » ، من دون أن يذكر مصدر الرواية.
وعلى كلّ تقدير فالرواية مختصة بالشبهة
الموضوعية ، وذلك لوجوه :
١. لفظة « بعينه » فانّه تأكيد للضمير
في قوله : « انّه حرام » ، والمعنى حتى تعرف انّه بشخصه حرام ، ويتميّز عن غيره ؛
ولا يتصور ذلك إلا في الشبهة الموضوعية ، فإذا اختلط الخمر بالخل وعرف الخمر ، فهناك
حرام غير مشخص ،
__________________
فإذا عرفه يقال :
عرف الحرام بعينه ؛ وأمّا الشبهة الحكمية ، فليس عند الشك ، حرام لا بعينه ، حتى
إذا زال الشكّ يكون الحرام معلوماً بعينه.
ويؤيد انّه بمعنى بشخصه رواية أبي عبيدة
عن أبي جعفر 7 قال : سألته
عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة ، وغنم الصدقة وهو يعلم انّهم
يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم؟ قال : فقال : « ما الإبل إلا مثل
الحنطة والشعير وغير ذلك ، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ».
واحتمل سيدنا الأُستاذ 1 كونه تأكيداً لقوله : حتى تعرف ، وهو
كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفاً علمياً لا يأتيه ريب.
٢. الأمثلة التي وردت فيها بعد ضرب
القاعدة كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية ، فتصلح لأن تكون قرينة للمراد ، أو مانعة
عن انعقاد الإطلاق.
٣. قوله : « والأشياء كلّها على هذا حتى
يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » ويعني من البيّنة : شهادة العدلين ، والتي
يتوقف عليها ثبوت الموضوعات لا الأحكام ، لأنّه يكفي في ثبوتها خبر العدل ، وحمل
البيّنة على مطلق ما يتبين به خلاف المتبادر منها في عصر الرسول فضلاً عن عصر
الأئمّة قال رسول اللّه 6
: « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان »
مضافاً إلى تفسيرها بالشاهدين في رواية عبد اللّه بن سلمان حيث روى عن أبي عبد
اللّه 7 في الجبن
قال : « كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان على أنّ فيه ميتة ».
__________________
٥. حديث الحل الثاني
هناك حديث حل ثان يفترق عمّا سبق
باشتماله على جملة : « فيه حلال وحرام » ، وقد وردت في روايات ثلاث ، ولعلّ
الرواية الثالثة نفس الثانية كما نستظهره.
١. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال : قال
أبو عبد اللّه 7
: « كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه
».
٢. ما رواه عبد اللّه بن سنان ، عن عبد
اللّه بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عن الجبن فقال لي : « لقد سألتني عن طعام
يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا
بالغذاء فتغذّينا معه ـ إلى أن قال : ـ « سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال
وحرام ، فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ».
والأُولى مروية عن أبي عبد اللّه 7 ، والثانية عن أبي جعفر 7 ، فتكونان روايتين ، غير انّ الأُولى
مشتملة على لفظة « منه » دون الثانية.
٣. ما رواه معاوية بن عمار عن رجل من
أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر 7
، فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر 7
: « إنّه لطعام يعجبني ، وسأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام ،
فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ».
ولعلّ السائل الذي عبر عنه « فسأله رجل
» هو « عبد اللّه بن سليمان » الوارد في الحديث الثاني ، كما يحتمل انّه المراد في
رواية أُخرى لعبد اللّه بن سنان قال :
__________________
سأل رجل أبا عبد
اللّه عن الجبن ، فقال : إنّي آكله ليعجبني ، ثمّ دعا به فأكل. وعلى ذلك فقد سأل عبد اللّه بن سليمان
كلاً من الإمامين أبي جعفر وأبي عبداللّه 8.
والرواية الأُولى صحيحة رواتها كلّهم
ثقات ، بخلاف الثانية فانّ عبد اللّه ابن سليمان لم يوثّق ، والثالثة مرسلة لوجود
« رجل » في السند ، وعلى كلّ تقدير فالمضمون يلوح عليه علائم الصدق.
الاستدلال بالرواية على الشبهة الحكمية
مبني على أمرين :
أ : المراد من الشيء في قوله : « كلّ
شيء » ، هو الأمر الكلي ، كشرب التتن أو لحم الأرنب.
ب : المراد من قوله : « فيه حلال وحرام
» بمعنى فيه احتمال الحلال والحرام.
وعندئذ يقال : إنّ شرب التتن ولحم
الأرنب فيهما احتمال الحلية والحرمة ، فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.
يلاحظ عليه بأُمور :
١. أنّ الظاهر من قوله : « فيه حلال
وحرام » هو فعليتهما لا احتمالهما كما في قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم
الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرام
).
٢. لو أُريد هذا المعنى ، لكان الأنسب
أن يقول : حتى تعلم ، بدل « حتى تعرف » ، فانّ العرفان يستعمل في الأُمور الجزئية
، لا الكلية ، يقال : عرفت اللّه لا علمت اللّه ، بخلاف العلم.
__________________
٣. لو أُريد ذلك لزمت لغوية قوله : «
بعينه » لأنّ الإنسان إذا وقف على حرمة شرب التتن أو لحم الأرنب وقف على حرمة ذلك
الشيء لا حرمة شيء آخر ، حتى يؤكد بقوله بعينه.
وربما يصحّح الاستدلال به على الشبهة
الحكمية ، بأنّ المراد من الشيء هو الجنس البعيد كالشرب بالنسبة إلى الماء والخمر
، واللحم بالنسبة إلى الغنم والخنزير ففيه حلال وحرام بالفعل ، ولكن نشك في الجبن
والأرنب فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.
وقد رد عليه الشيخ بوجهين :
١. انّ اللام في قوله : « حتى تعرف
الحرام » للعهد الذكري إشارة إلى الحرام المتقدّم ، مع أنّه إذا عرفت حرمة شرب
التتن ، فقد عرفت حرمة مستقلة لا الحرمة المتقدمة المحمولة على الخمر ، ولو قلنا
بعموم الحديث للشبهة الحكمية يكون معنى الحديث هكذا : انّ من الشرب حلالاً كالماء
، وحراماً كالخمر ، فشرب التتن لك حتى تعرف الحرمة المتقدمة.
٢. ظاهر الرواية انّ التقسيم سبب للشك
في حرمة شرب التتن ، مع أنّه ليس كذلك فليس حلية شرب الماء ، وحرمة شرب الخمر
سبباً للشكّ في حرمة التتن.
والظاهر انّ المراد من الشيء ، هو الكلي
المنتشر في الخارج المتكثر فيه ، بمعنى انّ قسماً منه حلال وقسماً آخر حرام ،
وقسماً منه مشتبه كالجبن. فالمشكوك محكوم بالحلية ، حتى تعرف انّه في قسم الحرام
الذي جعل فيه الميتة ، فيكون منطبقاً على الشبهة غير المحصورة.
ويؤيد ذلك ، حديث أبي الجارود قال :
سألت أبا جعفر 7
عن الجبن ،
__________________
فقلت له : أخبرني من
رأى انّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في
جميع الأرضين ، إذا علمت انّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ».
وهناك احتمال ثالث :
وهو أن يراد من الشيء ، الجزئي الخارجي
كالمال المختلط بالربا ، وكالصدقات المشتراة من السلطان وجوائزه المختلط بالحرام ،
فقد تضافرت الروايات على حليّتها مالم يعرف الحرام بعينه ، وهذان الموردان ممّا
أخذ العلم التفصيلي موضوعاً للحرمة.
ولكن جعل الضابطة لأجل ذينك الموردين لا
يخلو من بعد.
٦. حديث إطلاق الأشياء
روى الصدوق مرسلاً عن الصادق 7 قال : وقال الصادق : « كلّ شيء مطلق
حتى يرد فيه نهي ».
والاستدلال يتوقف على تماميته سنداً ودلالة.
أمّا الأوّل ، فهو مرسل وهو لايصلح
للاحتجاج به.
لكن المشايخ يفرّقون بين قولي الصدوق ،
أعني قوله : « روى عن الصادق 7
» وقوله : « وقال الصادق 7
» ، حيث إنّ النسبة إليه تحكي عن جزم الصدوق بصدور الرواية عن المعصوم. وقال بحر
العلوم : إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية والاعتبار.
وقد ذكرنا كلمات القوم في
__________________
كتابنا « كليات في
علم الرجال ».
أقول
: إنّ ظاهره هو جزمه بصدورها عن الإمام ، ولكنّه كما يكون مستنداً إلى إعتقاده
بعدالة رواته يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المفيدة للعلم بالصحة. وعلى كلا الوجهين
لا يصحّ الاستناد ، أمّا على الثاني فواضح ، لعدم حجّية علم المجتهد على مجتهد آخر
؛ وأمّا الأوّل ، فلأنّ غايته توثيقه لمن ورد في السند ، وتوثيقه إنّما يكون حجّة
إذا لم يكن له معارض ، وهو فرع الوقوف على أسمائهم والمفروض انّه ترك ذكر السند
أصلاً ، ومع ذلك لا يمكن ترك هذا النوع من المراسيل.
أمّا الدلالة فهي مبنية على ثبوت أُمور
ثلاثة :
١. المراد من الشيء ، هو الموضوع
المجهول الحكم لا بمعنى انّه استعمل في المعنى المركّب ، بل القيد مفهوم من الغاية
أعني : « حتى يرد ».
٢. المراد من المطلق ، هو الإباحة الظاهرية.
٣. المراد من الورود ، هو الوصول إلى
المكلّف.
وقد حمل الشيخ الرواية على هذا المعنى
وجعلها من أدلّة البراءة التامة ، وانّها تصلح أن تكون معارضةً لدليل الأخباري على
فرض تماميته ، وذلك لأنّ الضمير في قوله : « يرد فيه » يرجع إلى ذات الشيء المجهول
الحكم ، وانّه ما لم يرد ذاك النهي الكذائي فالمكلّف من ناحيته في سعة وإطلاق
وانّه محكوم بالإباحة ظاهراً ، وعلى ضوء هذا يكون معارضاً لدليل الأخباري الدالّ
على كفاية ورود النهي بالعنوان الثانوي.
وقد فسر المحقّق الخراساني الأُمور
الثلاثة بغير هذا النحو.
__________________
ففسر الشيء ، بما هو هو ، من دون وصفه
بمجهول الحكم ، والإطلاق بالإباحة الواقعية والورود بالصدور من قلم التشريع لا
الوصول إلى يد المكلف.
فعلى نظرية الشيخ ، فالرواية ناظرة إلى
بيان حكم مشتبه الحرمة والحلية ، وعلى نظر المحقّق الخراساني ناظرة إلى بيان حكم
الأشياء قبل تشريع الشرائع أو الشريعة المحمدية.
وإليك تحليل النظريتين في الموارد
الثلاثة :
أمّا الأوّل : فلا يمكن اختيار واحد من
القولين إلا بلحاظ الأمرين الأخيرين.
أمّا الثاني : فنظر الشيخ هو الأقرب ،
لأنّ الإمام بصدد الإفتاء ورفع حاجة المكلّفين في حياتهم ، ولا يتم ذلك إلا بتفسير
الإطلاق بالإباحة الظاهرية ، وذلك لأنّ تفسيره بالإباحة الواقعية للأشياء قبل
الشرائع أو قبل مجيئ الرسول الأعظم ، يوجب كون الإمام بصدد بيان مسألة كلامية ، لا
مسألة فقهية مفيدة لحال المتكلّم إلا بضمّ الأصل وبقاء الإباحة قبل الشرع ، وهو
كما ترى.
وأمّا الثالث : فالقرائن تشهد على أنّ
المراد ، هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من قلم التشريع ولو لم يصل. وذلك أوّلاً
: أنّه استعمل الورد في القرآن في الوصول قال سبحانه : ( وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ
) أي وصل إلى الموضع الذي فيه ماء باسم «
ماء مدين ».
وثانياً : أنّ اللغة يفسره بمعنى الحضور
والإشراف حتى أنّ الورود في مصطلح البلاد العربية شيء يقابل الصدور يستعملون
الاستيراد مقابلاً للتصدير ؛ فجلب الأمتعة من خارج البلد إلى داخل البلد ، هو
الاستيراد ، وعكسه هو التصدير.
__________________
وثالثاً : أنّ تفسير الحديث على النحو
الآخر يوجب اختصاص الرواية بعصر الرسول ، وانّ الأشياء محكومة بالإباحة والإطلاق
حتى يصدر من الشارع نهي ، وتكون الرواية إخباراً عن حكم زمان حياة الرسول ، وهو
خلاف ظاهرها ، فانّ ظاهرها إنشاء حكم بلا تقييد بزمان ، وانّ هذا الإطلاق سائر في
جميع الأزمنة.
ويؤيد التعبير بلفظ : ( حتّى يرد
) الدال على
المعنى الاستقبالي ، ومفاده انّ هذا الحكم سائد في عصر الصادق وبعده إلى أن تتحقق
الغاية ، ومن المعلوم ان لو كان المراد من الورد الصدور من قلم التشريع ، فالغاية
تمت وتحققت قبيل رحيل الرسول ، ولم يبق أي ترقّب إليها بعد.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني وجّه إلى
مختاره إشكالات ثلاثة ، وأجاب عنها غير انّ في جوابه عن الإشكال الثالث إبهاماً ،
فليلاحظ.
٧. حديث الجهالة
روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمان
بن الحجّاج عن أبي إبراهيم 7
:
١. قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في
عدّتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال :
« لا أمّا إذا كان بجهالة فليزوجها بعد
ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ».
٢. فقلت : بأي الجهالتين يعذر ، بجهالته
انّ ذلك محرم عليه أم بجهالته انّها في عدّة؟ فقال : « إحدى الجهالتين أهون من
الأُخرى : الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه ، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط
معها ».
٣. فقلت : وهو من الأُخرى معذور؟ قال :
« نعم إذا انقضت عدتها ، فهو معذور في أن يتزوجها ».
٤. فقلت : فإن كان أحدهما متعمداً
والآخر بجهل؟ فقال : « الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً ».
ومجموع الأسئلة والأجوبة لا تتجاوز عن
أربعة ، ومحل الشاهد في الثاني منهما ، حيث عدّ الجاهل بحرمة تزويج المعتدة
معذوراً وله أن يتزوج بعدما عرف بطلان عقده ، والرواية محمولة على مجرّد العقد بلا
دخول وإلا فتحرم مطلقاً جاهلاً كان أو عالماً.
وأمّا فقه الحديث فهنا سؤال ، فهل
السؤال عن الجاهل الملتفت الشاك أو عن غير الملتفت؟
فعلى الأوّل ، فكلا الرجلين متمكنان من
الاحتياط بأن لا يعقد حتى يسألا فكيف حكم الإمام على أحدهما بالتمكن منه دون الآخر؟
وعلى الثاني ، فكلاهما غير متمكنين ،
وحمل الأوّل على غير الملتفت والثاني على غيره تفكيك بين الجهالتين.
وأمّا الاستدلال فيرد عليه : انّ الظاهر
من المعذورية هو المعذورية في الحكم الوضعي وانّه لا يحرم عليه ، ويدل على ذلك انّ
الإمام أجاب في الجواب عن السؤال الرابع بعدم جواز رجوعه إلى صاحبه أبداً ، وكلام
السائل وجواب الإمام كلّه يدور حول المعذورية وعدمها ، أي يكون الجهل عذراً لئلا
تحرم الزوجة عليه أبداً ، لا المعذورية في أمر العقاب اللّهمّ إلا أن تدّعي
الملازمة.
وما ذكرنا من الأحاديث السبعة ، هو
المهم من السنّة التي استدل بها على البراءة ، وهناك روايات أُخرى يمكن الاحتجاج
بها عليها ، وقد ذكر بعضها الشيخ الأعظم ، فليرجع إلى الفرائد وغيرها.
__________________
الثالث : الاستدلال بالإجماع
إنّ دعوى الإجماع على البراءة على وجوه
:
الأوّل
: ادّعاء إجماع العلماء من المجتهدين والأخباريين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه
نهي لا بعنوان أوّلي ولا بعنوان ثانوي ، أي كونه مجهول الحكم ، هو البراءة.
وهذا النوع من الادّعاء صحيح كبرى وباطل
صغرى ، لأنّ الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوان ثانوي.
الثاني
: تحصيل الإجماع المحصل على البراءة في مشتبه الحرمة من تتبّع الفتاوى في موارد
الفقه من عصر ثقة الإسلام الكليني إلى زماننا هذا ، وقد نقل الشيخ شيئاً من
كلماتهم.
الثالث
: الإجماعات المنقولة في كلمات الصدوق والحلّي كما نقلها الشيخ.
الرابع
: الإجماع العملي وسيرة المسلمين على الارتكاب حتى يدل دليل على الحرمة ، وأمر غير
بعيد ويظهر من غير واحد من الآيات .
انّ شأن النبي هو التنصيص على المحرمات دون المحللات وعلى ذلك درج المسلمون بعد
رحيله ، فلا يتوقفون في الارتكاب عند الشكّ إلا بعد العلم بالحرمة إلى أن ظهر
الأمين الاسترابادي فطرح هذه المشتبهات.
ويرد على الجميع : انّ الاعتماد على
الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل ، لاحتمال استناد المجمعين على الأدلة النقلية
والعقلية ، فيكون الإجماع مدركياً غير مفيد لشيء ، كما هو في الإجماع المنقول.
__________________
الرابع : الاستدلال بحكم
العقل
استدل القائل بالبراءة بالحكم القطعي
للعقل من قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته
من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه ، وانّ وجود التكليف مع عدم
وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب. وانّ وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر
، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين ، أمّا إذا لم يكن هناك
بيان أصلاً ، فمعلوم ، وأمّا إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى
العبد ، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إليه إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد ، في
كلّ ما يحتمل وجود التكليف ومع تركه ، يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى حيث
اقتصر في بيان المراد ، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي ، ولو كان مريداً
للتكليف حتى في ظرف الشك وعدم الظفر بعد الفحص ، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب
التحفظ ، ومع عدمه ، يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح ويشكّل قياساً بالشكل
التالي :
العقاب على محتمل التكليف ـ بعد الفحص
التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ـ
عقاب بلا بيان.
والعقاب بلا بيان ـ بالنحو المذكور ـ
أمر قبيح.
فينتج : العقاب على محتمل التكليف ـ
بالنحو المذكور ـ أمر قبيح.
ثمّ إنّ في المقام إشكالين أحدهما متوجه
إلى الكبرى والآخر إلى الصغرى.
أمّا
الأوّل : فربما يقال : انّ العقاب بلا بيان
ليس أمراً قبيحاً إذا كان المكلّف شاكاً فانّ قيمة أغراض المولى ليست بأقلَّ من
قيمة أغراض العبد ، فكما أنّه يهتم العبد بأغراضه حتى المحتملات والمشكوكات فيسلك
سبيل الاحتياط ، كذلك
يجب عليه الاحتياط
في سبيل تحصل أغراض المولى المحتمل ، ففي صورة الشكّ يحكم العقل بوجوب الاحتياط.
نعم هنا قاعدة عقلائية جرت عليها سيرتهم
وهي عدم عقاب العبد العرفي إلا بعد بيان المولى ولولا بناء العقلاء على عدم العقاب
بلا بيان وعدم إمضاء الشارع له ، لم يقبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا بيان ،
فوقع الخلط بين الأحكام العقلائية والأحكام العقلية المبنية على الحسن والقبح.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ مرجع إنكار
القاعدة ، إلى أنّ احتمال التكليف منجّز للواقع عند العقل ، وإن لم يستوف المولى
البيان الممكن ، والاعتماد في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا إنّما يصحّ إذا كان
من الأحكام العقلية الواضحة. ومن المعلوم خلافها ، إذ لوكان حكماً واضحاً لما
أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي والأخباري ، وسيوافيك انّ النزاع بين
الأخباري والأُصولي إنّما هو في الصغرى أي ورود البيان وعدمه لا في الكبرى.
وثانياً
: إنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا
قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ
العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو
كما ترى.
وثالثاً
: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدل بها الوحي
على الناس ويقول : (
وَما كُنّا
مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً )
، ويذكر في
آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل ، حجّة الكفار والعصاة حيث قال : ( وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذاب مِنْ
قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى
).
__________________
فتبيّن بذلك انّ الكبرى من الأحكام
الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على ما ذكرناها :
أمّا الأوّل أي الإشكال على الصغرى ،
فهو الإشكال المعروف الذي ذكره الشيخ والمحقّق الخراساني ومن جاء بعدهما من أنّه
يكفي في مقام البيان ، حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الموجود في مورد الشبهة
التحريمية الحكمية. ويكون شكل القياس بالنحو التالي : الشبهة البدوية التحريمية
فيها ضرر محتمل ، وكلّ ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه فينتج : الشبهة التحريمية ما
يجب تركها.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد
الأُمور الثلاثة :
١. العقاب. ٢. الضرر الدنيوي ( الشخصي
). ٣. المصالح والمفاسد الاجتماعية.
أمّا
الأوّل : فهو بين قطعي الإحراز ، كما في مورد
العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه فينطبق الكبرى على الصغرى ، ولذلك أطبق
العلماء على وجوب الموافقة القطعية ، وقطعي الانتفاء كما في المقام ، فانّ الضرر
بمعنى العقاب قطعي بحكم قبح العقاب بلا بيان ومع العلم بعدمها ، فلا يصحّ الاحتجاج
بالكبرى.
والحاصل انّ لاحتمال الضرر بمعنى العقاب
مناشئ كلّها محكومة بالانتفاء ، وهذه عبارة عن الأُمور التالية :
١. تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه من
مظانّها.
٢. كون المولى غير حكيم أو غير عادل.
٣. وجود البيان بأحد العنوانين.
والمفروض انّ الكلّ منتف ، فليس هنا
منشأ لاحتمال العقاب ، بل العقل
قاطع بعدم الضرر (
العقاب ) ومع انتفائها ، لا يحتج بمجرّد الكبرى ، ما لم تنضمّ إليها الصغرى وهو
احتمال العقاب.
وبذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين
وانّ لكلّ موضعاً خاصاً ، فمورد قبح العقاب هو الشبهة البدوية كما أنّ موضع وجوب
دفع الضرر إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.
وهذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود
القاعدة الأُولى على القاعدة الثانية أمر غير صحيح ، فإنّ الورود فرع التعارض ولا
معارضة بينهما ، بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه.
فمورد قاعدة القبح ، هو إذا لم يكن من
المولى بيان كما أنّ مورد القاعدة الثانية ، هو إذا تم البيان ، وإن كان المتعلّق
مجهولاً بين الأمرين.
هذا كلّه إذا أُريد من الضرر العقوبة
المقرّرة للعصاة في الآخرة.
فإن
قلت : إنّ الآثار الأُخروية القهرية للعمل
أي ارتكاب المحرم الواقعي ممّا لا ينفك عنه فلا تدور وجوداً وعدماً على وجود
البيان وعدمه ، فيجب الاجتناب دفعاً لهذا النوع من العقاب الأُخروي.
قلت
: إنّ ما ذكر من الآثار ، من تبعات الإطاعة والعصيان لا مطلق الارتكاب فإذا مارس
العبد الإطاعة والعصيان يكتسب ملكة خاصة ، فإذا فارقت الجسد تخلق الملكة صوراً
متناسبة لما اكتسبتها من الملكات ، وليس كلّ فعل مؤثراً في حصول الملكة وإنّما
المؤثر الفعل المعنون بعنوان الطاعة والمعصية ، والمفروض عدمهما.
هذا كلّه إذا أُريد منه الضرر الأُخروي
بقسميه.
وأما
الثاني : أي الضرر الدنيوي فالإجابة عنه واضحة
، لأنّ الأحكام الشرعية
لا تدور مدار الضرر
، أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ، ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على
الجسم والروح ، بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية ، وربما تكمن المصلحة
النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا ، والظلم على الناس ، نعم ربما يجتمع
الضرر الشخصي مع المفسدة الاجتماعية كشرب المسكر ، ولكنّه ليس أمراً كلياً.
ومع التسليم فليس دفع الضرر الدنيوي
أمراً واجباً عقلاً إذا كان في ارتكابه غايات ، والغاية في المقام دفع عسر
الاحتياط.
وأمّا
الثالث : أي الضرر بمعنى المصالح والمفاسد ،
فقد أجاب عنه الشيخ عند البحث في الدليل الأوّل على حجّية مطلق الظن وحاصله : انّ
حكم الشارع بالبراءة يكشف إمّا عن عدم الأهمية ، أو لوجود المصلحة الغالبة على
المفسدة الحاصلة.
__________________
أدلّة الأخباري على وجوب
الاحتياط
في الشبهات التحريمية
استدلّ الأخباريّ على وجوب الاحتياط في
الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلّة الثلاثة : الكتاب والسنّة والعقل دون الإجماع
لعدم كونه من الحجج عنده ، وإليك دراستها ، أمّا الكتاب فبعدّة من الآيات ، تجمعها
العناوين التالية :
الأوّل : الحكم بالبراءة قول
بغير علم
إنّ الحكم بجواز الارتكاب قول بغير علم
لافتراض أنّ الواقع غير معلوم ، ومعه كيف يُحْكَم على الموضوع بجواز ارتكابه ، مع
أنّه سبحانه قال : (
وَلا
تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم )
والإجابة عن الاستدلال واضحة : لأنّ
الجهل بالواقع ، يستلزم عدم الحكم عليه بالحلية الواقعية ، ولكنّه لا يلازم عدم
الحكم عليه في الظاهر إذا قام الدليل على سعة المكلّف فيه ، كما أنّ الحكم بالضيق
في الظاهر ليس قولاً بغير علم استناداً على ما توهمه الأخباري من دلالة الأدلّة
عليه.
__________________
الثاني : الآيات الآمرة
بالتقوى
دلّت الآيات على لزوم التقوى بقدر الوسع
والطاقة والاستطاعة قال سبحانه : (
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلاتَمُوتُنَّ إِلاّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ) .
وقال تعالى : (
فَاتَّقُوا
اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيراً
لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون
).
وجه
الدلالة : انّ الاجتناب عن محتمل الحرمة من
التقوى ، وكلّ ما كان كذلك واجب بحكم الأمر بها فينتج : الاجتناب عن محتمل الحرمة
واجب.
يلاحظ
عليه : منع كلّية الكبرى ، أي كلّ ما كان من
مصاديق التقوى هو واجب ، لأنّ التقوى يستعمل تارة في مقابل الفجور ، وبما انّ
الثاني حرام يكون الأوّل واجباً ، قال سبحانه : (
أَمْ
نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار
) ، (
فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها ) .
وأُخرى في كلّ مرغوب سواء كان واجباً أم مستحباً ، قال سبحانه : ( وَتَزوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التَّقْوى
) والإتيان
بالمستحبات وترك المكروهات كلّها من مراتب التقوى ، مع انّهما غير واجبين. وممّا
يدل على انّ التقوى ليس خصوص الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بل الأعم
منهما قوله سبحانه : (
وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ
) فقد كانت الهداية الأُولى غير منفكة عن
التقوى ومع ذلك ، يقول سبحانه : (
وَآتاهُمْ
تَقْواهُمْ ) بعد زيادة الهداية.
__________________
الثالث : النهي عن الوقوع في
التهلكة
نهى سبحانه عن إيقاع النفس في التهلكة قال
سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللّهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنين ) وفي
ارتكاب الشبهة مظنة الوقوع في التهلكة وهي واجبة الاجتناب.
يلاحظ
عليه : أنّ الآية واقعة في سياق آيات الجهاد
:
قال سبحانه : ( وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الَّذينَ
يُقاتِلُونَكُمْ ).
قال سبحانه : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقفْتُمُوهُمْ
).
قال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتنَة
).
قال سبحانه : ( وَأَنْفِقُوا في سَبيلِ اللّه وَلا تُلْقُوا
).
وعلى ذلك يكون المراد من التهلكة هو ما
يترتب على ترك الجهاد والإنفاق في سبيله من تسلط الأعداء على الأُمّة الإسلامية ،
وأين هو من ارتكاب الشبهة التحريمية؟!
ولو قلنا بأنّ الآية لا صلة لها بالجهاد
وانّها ضابطة كلية يعمّ ما فيه الهلاك الأُخروي ، فالإجابة واضحة ، لأنّ الاستدلال
بالكبرى فرع إحراز الصغرى أي الهلاك الأُخروي ، وهو في مورد العلم التفصيلي قطعي
الوجود ، وفي أحد طرفي الشبهة المحصورة محتملة ، وفي الشبهة البدوية قطعي العدم
فكيف يستدل بالكبرى مع القطع بعدم الصغرى.
__________________
الاستدلال بالسنّة
استدلّ الأخباري من السنّة بطوائف ، وقد
قسمها الشيخ إلى أربع طوائف ، وتبعه المحقّق الخراساني ، ويظهر من المحقّق
المشكيني انّها خمس. فالطائفتان الأوّلتان ، واضحتا الإجابة ، إنّما المهم الطوائف
الثلاث أي :
١. أخبار التوقّف.
٢. أخبار الاحتياط.
٣. أخبار التثليث.
وإليك الكلام في الطائفتين الأُولتين.
الأُولى : حرمة الإفتاء بغير
علم
تضافرت الروايات على حرمة القول
والإفتاء بغير علم ، مثل صحيحة هشام ابن سالم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه 7 : ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال : « أن
يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد أدّوا إلى
اللّه حقّه ».
ويظهر جوابها بما ذكرناه جواباً عن
الاستدلال بالآيات الناهية عن الإفتاء بغير العلم فلا نعيد.
الثانية : وجوب الردّ إلى
اللّه ورسوله
دلّت الروايات المتضافرة على وجوب الردّ
إلى اللّه ورسوله في مشاكل الأُمور ، ففي مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه 7 : « أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن
__________________
غيه فيجتنب ، وأمر
مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله ».
إنّ مرجع هذه الروايات التي جمعها الشيخ
الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي ، إلى النهي عن الاستقلال
بالفتوى بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان من القياس والاستحسان والمصالح
المرسلة ، دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت :
ويوضحه قول الرضا 7
حسب رواية الميثمي في اختلاف الحديث عنهم :
: « وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا
تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى
يأتيكم البيان من عندنا » .
الثالثة : وجوب التوقف
الروايات الآمرة بالتوقف على قسمين :
تارة تأمر بالتوقّف بلا تعليل ، وأُخرى تأمر به معللة بأنّ الوقوف عند الشبهات خير
من الاقتحام في الهلكات.
أمّا القسم الأوّل فظاهر في الاستحباب
نذكر منه ما يلي :
١. ما كتبه الإمام أمير المؤمنين 7 في وصيته لولده الحسن 8 : « لا ورع كالوقوف عند الشبهة ».
٢. مرفوعة شعيب رفعه إلى أبي عبد اللّه 7 : قال : « أورع الناس من وقف عند
الشبهة ».
٣. ما ورد في رسالة الإمام أمير
المؤمنين 7 إلى عامله
في البصرة « عثمان بن حنيف » : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه
عليك علمه فالفظه ،
__________________
وما أيقنت بطيب
وجوهه فنل منه ». والقضم
كسر الشيء بالأسنان. والمورد شبهة موضوعية يكون النهي فيه للتنزيه.
٤. وما في عهد الإمام 7 لمالك الأشتر : « اختر للحكم ...
وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ».
والأوّلان ظاهران في الاستحباب ، ومورد
الثالث ـ كما عرفت ـ شبهة موضوعية ، والرابع وارد في شرائط القاضي المستحبة. فيدل
الجميع على حسن الاجتناب لا على لزومه.
وأمّا القسم الثاني ، أي ما جاء الأمر
بالتوقف معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ، فتارة ورد في مورد يكون
الاجتناب فيه مستحباً باتّفاق الكلّ ، وأُخرى فيما يكون الاجتناب واجباً كذلك ،
ومن النوع الأوّل الحديثان التاليان :
٥. ما رواه أبو سعيد الزهري ، عن أبي
جعفر 7 قال : «
الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه ، خير من
روايتك حديثاً لم تحصه ».
٦. ما رواه مسعدة بن زياد ، عن أبي جعفر
7 ، عن آبائه
، عن النبي 6 أنّه قال :
« لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت
من لبنها وانّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام
في الهلكة ».
ومن المعلوم أنّ ترك الحديث الذي لم
يُرو بطريق صحيح ليس واجباً ، كترك تزويج من اتّهم بالرضاع ، لأنّ الشبهة موضوعية
والمراد من الهلكة ، هو التعب
__________________
المترتب على النكاح
إذا ثبت وجود الرضاع بين الزوجين.
ومن النوع الثاني ، أي طُبِّقت القاعدة
على مورد يكون الاجتناب واجباً ، إليك بيانه.
٧. روى جميل بن درّاج ، عن أبي عبد
اللّه 7 قال : «
الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، انّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ
صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ».
٨. روى عمر بن حنظلة في الخبرين
المتساويين من أجل المرجحات عن أبي عبد اللّه 7
: « إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فانّ الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات ».
ومورد الأوّل هو الخبر المخالف للكتاب ،
ومورد الثاني هو إمكان الفحص عن الدليل والتوقف في كلا الموردين واجب.
وإذا كانت القاعدة منطبقة تارة على مورد
يكون التوقف مستحباً ، وأُخرى على مورد يكون واجباً لا يمكن الاستدلال به على
المورد لعدم العلم بأنّه من أيّ القسمين أوّلاً. ويكون الدليل ، حكماً إرشادياً
تابعاً لمورده ثانياً ، ففي المورد العلم الإجمالي ، والشبهة قبل الفحص يكون الحكم
منجّزاً ويكون الاجتناب واجباً ، وفي غير ذلك المورد يكون الوقوف مستحباً.
والحاصل : انّ وزان قوله : « الوقوف عند
الشبهات خير ... » وزان قوله : « أطيعوا اللّه » فوجوب الإطاعة واستحبابها تابع
لكون المورد ممّا تجب فيه الطاعة ، وقد عرفت في المقام انّه يجب في الموردين دون
المورد الآخر.
إلى هنا تمّ الكلام في الطوائف الثلاث
بقي الكلام في الطائفتين المهمتين :
__________________
الأُولى
: أخبار الاحتياط.
الثانية
: أخبار التثليث.
وإليك الكلام في الأُولى.
الرابعة : الأخبار الآمرة
بالاحتياط في الشبهة
إنّ هناك ست روايات تأمر بالاحتياط في
الشبهات ، وقد أجاب الشيخ والمحقّق الخراساني عنها على وجه الإجمال من دون أن يدرس
الأخير كلّ واحدة على حدة ، فلنذكر كلامهما ، ثمّ ندرس الروايات واحدة تلو
الأُخرى.
قال الشيخ في جواب سؤال وجّهه إلى نفسه
ما هذا لفظه : إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم
لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، وإن كان حكماً ظاهريّاً نفسياً ،
فالهلكة الأُخروية مترتبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة
العقوبة على الواقع على تقدير الحرمة.
وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ وجوب
الاحتياط لا مقدّمي ولا نفسي بل طريقي يصحّ أن يحتج المولى بالواقع على العبد عند
المخالفة كما هو الحال في مهام الأُمور التي يجب الاحتياط فيها كالدماء والأعراض
والأموال ، فما هو الفرق بين هذه الموارد ، والاحتياط في الموارد الأُخرى؟
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب بوجوه
ثلاثة :
١. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه صريح
في معناه ودليل الاحتياط ظاهر في الوجوب فيتصرف فيه بالنص.
__________________
٢. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخص
ممّا دلّ على وجوب الاحتياط فيقدّم الأخص على الأعم.
٣. انّه للإرشاد ولا يعلم وجوبه أو
استحبابه إلا بتنجز الحكم الواقعي عليه وعدمه قبل تطبيق أخبار الاحتياط عليه ،
فالحكم الواقعي مع العلم الإجمالي منجز فيكون الاحتياط في أطرافه واجباً ، بخلاف
الشبهة البدوية فبما انّ الحكم غير منجز يكون الاحتياط حكماً استحبابيّاً.
٤. انّ روايات الاحتياط تحكي عن ثبوت
العقوبة المنجزة قبل إيجاب الاحتياط ، مع أنّ العقوبة على الحكم الواقعي غير
المنكشف يكون عقاباً بلا بيان ، فتحمل على مورد العلم الإجمالي.
ثمّ ذكر إشكالاً وأجاب عنه بما يتبادر
في بدء النظر انّه عود إلى كلام الشيخ الذي نقده ورده أوّلاً. لكنّه غيره يعلم
بالتأمل ، والأولى دراسة الروايات واحدة تلو الأُخرى ، فنقول :
إنّ روايات الاحتياط على أقسام :
أ : ما هو ظاهر في الاستحباب
إنّ في روايات الاحتياط ما هو ظاهر في
كونه أمراً مستحباً ، نظير :
١. كلام الإمام علي 7 لكميل بن زياد : « أخوك دينك ، فاحتط لدينك
بما شئت ». فانّ
لفظ « بما شئت » دليل على الاستحباب إذ الواجب لا يكون معلّقاً بالمشيئة.
٢. مرسلة الشهيد : « ليس بناكب عن
الصراط من سلك سبيل
__________________
الاحتياط ». واللسان : لسان النصح.
وهاتان الروايتان ظاهرتان في الاستحباب.
ب : ما هو ظاهر في النهي عن
الإفتاء بالرأي
إنّ فيها ما هو ظاهر في النهي عن
الإفتاء بالرأي ، والمراد منه هو الإفتاء بالمعايير الاختراعية التي ما أنزل اللّه
بها من سلطان ، نظير ما وجد بخط الشهيد عن جعفر بن محمد يقول : « سل العلماء ما
جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ
بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ».
إنّ مدرسة أهل الرأي ، تقابل مدرسة أهل
الحديث ، والطائفة الثانية لا يصدرون إلاعن دليل نقلي بخلاف الطائفة الأُولى ،
فأُولئك يصدرون عن المقاييس والاستحسانات ، وأين هذا من عمل فقهائنا الذين لا
يصدرون إلاعن الأدلّة الأربعة وقد شطبوا على هذه الظنون بقلم عريض؟! والمراد من
نهيه 7 من الفتوى ،
هو الفتوى بتلك المعايير ، لا الإفتاء عن دليل شرعي. ولذا أمر الإمام أبو جعفر
أباناً أن يجلس في مسجد النبي ويفتي الناس وقال : « إنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي
مثلك ».
ج : ما هو ظاهر في الاحتياط
قبل الفحص
قد ورد الأمر بالاحتياط لإمكان الفحص ،
والمراد من الاحتياط هو عدم
__________________
الإفتاء بشيء حتى
يسأل الإمام فيرجع لبها إلى الطائفة الثانية ؛ روى عبد الرحمان ابن الحجاج ، قال :
سألت أبا الحسن 7
عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟
قال : « لا ، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد ». قلت : إنّ بعض أصحابنا
سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه؟ فقال : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم
بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا ».
إنّ المشار إليه في قوله : « هذا » هو
مطلق الشبهة الحكمية غير المختصة بموردها الذي هو من قبيل الشبهة الحكمية الوجوبية
، فوجوب الاحتياط لأجل إمكان الفحص من الدليل بسؤال المعصوم عنها.
د : اتخاذ الاحتياط ذريعة
لبيان الحكم الشرعي
روى عبد اللّه بن وضاح أنّه كتب إلى
العبد الصالح 7
يسأله عن وقت المغرب والإفطار؟ فكتب إليه : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة
وتأخذ بالحائطة لدينك ».
الظاهر من كلام السائل ( ما هو وقت
المغرب والإفطار ) انّ الشبهة عنده كانت شبهة حكمية بمعنى انّه كان متردّداً في
أنّ وقت صلاة المغرب ، هل هو استتار القرص أو زوال الحمرة المشرقية؟ فالعامة على
الأوّل ، والمشهور عند الشيعة هو الثاني ، ولمّا كانت الظروف غير مساعدة لبيان
الحكم الشرعي والتصريح بأنّ وقتهما هو زوال الحمرة ، توصل الإمام في بيان الحكم
الشرعي بالاحتياط ، وقال : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك
» ، والعبارة تتحمل معنىً ظاهرياً أي الانتظار لأجل حصول القطع باستتار القرص ،
ومعنىً واقعياً
__________________
وهو الانتظار لذهاب
الحمرة وراء استتار القرص ، لأنّه الوقت رهن زوالها. فمثل هذه الرواية لا تكون
دليلاً على لزوم الاحتياط.
الخامس : التثليث الوارد في
المقبولة
قد عدّه الشيخ الأنصاري من أهمّ أدلّة
الأخباريين. وحاصل الاستدلال :
إنّ الراوي سأل الإمام عن اختلاف القضاة
، فأجاب :
« ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في
ذلك الذي حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذُ
الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمعَ عليه لا ريب فيه. وإنّما الأُمور ثلاثة
: أمر بيّن رشده فيُتبع ، وأمر بيّن غيُّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه
، قال رسول اللّه 6
: حلال بيّن ، وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن
أخذ بالشبهات وقع في المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم ».
وجه الاستدلال
إنّ الفقرات الثلاث ترمي إلى أمر واحد.
أ : يترك الشاذ الذي ليس بمشهور.
ب : أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه.
ج : وشبهات بين ذلك.
فبما انّ طرح الشاذ وردّ المشكل إلى
اللّه واجبان ، يكون الاجتناب عن المشتبه أيضاً مثلهما. ولو كان الاجتناب عن
المشتبه مستحباً لا واجباً دون الخبر الشاذ
والأمر المشكل يكون
الاستشهاد بكلام الرسول أمراً غير صحيح لعدم انطباقه عليهما.
يلاحظ عليه أوّلاً :
أنّ طرح الشاذ واجب لا لدخوله فيما فيه
الريب كما زعمه الشيخ ولا لكونه من مصاديق الأمر المشكل ولا لدخوله في الشبهات ،
بل لكونه ممّا لا ريب في بطلانه ضرورة انّه إذا كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته
يكون نقيضُه ممّا لا ريب في بطلانه ، وإلا يلزم جواز اجتماع النقيضين.
ثانياً
: افترضنا أنّ الشاذّ من أقسام ما فيه الريب ومعادِلاً للأمر الثالث في كلام
الوصيّ والنبيّ ، لكن يكفي في الاستشهاد أن يكون الأوّل ( طرح الشاذ ) والثاني (
ردّ المشكل إلى اللّه ) واجبين ، والاجتناب عن الشبهات أمراً مرغوباً لاشتراكهما
في أمر وهو انّ في الاجتناب عن الشبهات تخلّصاً من الوقوع في مفسدة الحرام ، كما
أنّ في طرح الخبر الشاذ ، تخلّصاً من الوقوع فيما فيه الريب.
وثالثاً
: ما عرفت عند البحث في أخبار التوقف من أنّ هذه الفقرة ، طُبِّقت على ما يجب فيه
الاجتناب وعلى ما لا يجب باعتراف الأخباريين فيكون قرينة على أنّه حكم إرشادي لا
يستفاد منه الوجوب ولا الحرمة بل يتبع في ذلك المرشَد إليه أي حكم العقل في
المورد.
ورابعاً
: انّ هنا روايات تفسّر الذيل :
١. روى النعمان بن بشير قال : سمعت رسول
اللّه 6 يقول : «
لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى اللّه حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك ، كما لو انّ
راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبُت غنَمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات ».
__________________
٢. روى الصدوق انّ أمير المؤمنين 7 خطب الناس فقال : « حلال بيّن ، وحرام
بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ،
والمعاصي حمى اللّه ومن يرتع حولها يوشك أن يدخلها ».
٣. رواية فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه
7 قال : قلت
له : مَن الورع من الناس؟ قال : « الذي يتورّع من محارم اللّه ويجتنب هؤلاء ، فإذا
لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه ».
وعلى ضوء هذه الأحاديث يكون وجه النهي
عن الشبهات ، هو الوجه في النهي عن المكروهات ، والجامع بينهما هو انّ ارتكاب
القسمين يُسهِّل للنفس ارتكاب الحرام ، كما أنّ اجتنابهما يورث ملكة في النفس يسهل
للإنسان اجتناب المحارم.
الثالث : الاستدلال بالعقل
قد عرفت أنّ الأخباريين استدلّوا بوجوه
ثلاثة : الكتاب ، والسنّة ، والعقل. وقد مضت دراسة الأوّلين ، فلندرس ثالث أدلّتهم
، أعني : العقل.
استدل الأخباريّ على وجوب الاحتياط في
الشبهات التحريمية بوجوه :
الأوّل : العلم الإجمالي
بالمحرّمات
إنّا نعلم إجمالاً بمحرمات كثيرة يجب
الخروج عنها قطعاً بمقتضى قوله سبحانه : (
وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَـانْتهوا )
، وبعد مراجعة الأدلّة لانقطع بالخروج عن
__________________
جميع تلك المحرّمات
الواقعية فيلزم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن دليل شرعي.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني تبعاً
للشيخ الأعظم وغيره. وحاصله : انّ هنا علمين :
١. العلم الإجمالي بوجود المحرمات في
الشريعة الغرّاء.
٢. العلم التفصيلي بوجود محرّمات في
الطرق والأُصول بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد.
فإذا أخذنا ما فيهما من المحرّمات
وعزلناها عن موارد العلم الأوّل ، لم يبق فيما سواها ، علم بالتكليف بل غايته
احتمال التكليف وهو مجرى البراءة.
وهذا نظير ما إذا علمنا بوجود خمس شياه
مغصوبة في قطيع غنم ، ثمّ علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في الغنم السود منها ،
ونحتمل انطباق المعلوم بالإجمال أوّلاً على المعلوم بالتفصيل أو الإجمال في العلم
الثاني على وجه لو عزلنا الغنم السود عن القطيع لم يبق علم إجمالي بالمحرم فيها بل
يكون احتماله.
ثمّ إنّ هنا إشكالين تعرض لهما المحقّق
الخراساني ، والأولى بالدراسة هو الإشكال الأوّل ، وحاصله : انّ العلم الثاني بما
انّه علم حادث ، وإن كان يوجب الانحلال ، لكنّه لا يزيل أثر العلم الإجمالي السابق
، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما معيّناً لأجل
وقوع قطرة من الدم فيه ، ففي مثله يلزم الاجتناب عن الآخر أيضاً ، لأنّ العلم
الإجمالي السابق وإن كان منحلاً ، لعدم التردد بعد العلم بنجاسة أحدهما بعينه ،
لكنّ أثر العلم الإجمالي وهو وجوب الاجتناب عن الآخر باق ووجوب الاجتناب عن الإناء
الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق ، لا الموجود فعلاً حتى يقال قد انحلّ بالعلم
التفصيلي ، ولذلك لو أهرق أحدهما ، كان لزوم الاجتناب عن الآخر باقياً بحاله.
الجواب
: انّ العلم الحادث على قسمين :
تارة يكون العلم والمعلوم حادثين
ومتأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل كما في المثال ، ففي مثله لا يكون العلم الثاني
مؤثراً في رفع التنجز عن الإناء المشكوك وإن كان مؤثراً في انحلال العلم الإجمالي
، وأُخرى يكون العلم متأخراً لكن المعلوم سابقاً على العلم الإجمالي الأوّل أو
مقارناً معه : فمثل هذا العلم ، يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي الأوّل
علماً منجّزاً وإن كان حامل العلم الأوّل قبل الوقوف على العلم الثاني يتصوره
علماً منجزاً لوجوب الاجتناب.
مثلاً إذا علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم
في أحد الإناءين عند طلوع الشمس ، ثمّ وقف على أنّ أحد الإناءين معيّناً كان نجساً
عند طلوع الفجر ، فمثل هذا العلم التفصيلي وإن كان متأخراً عن العلم الأوّل لكن
معلومه ومكشوفه متقدّم على الأوّل ويكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي منجزاً ،
مثل ما إذا كان التفصيلي متقدماً علماً ومعلوماً كما إذا علم انّ أحد الإناءين
معيّناً نجس في أوّل الليل ، ثمّ حدث علم إجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحدهما
فالمؤثر في سلب التنجيز عن العلم الإجمالي إنّما هو سبق معلوم العلم الثاني عليه
سواء كان العلم أيضاً سابقاً كالمثال الثاني أو لا كالمثال الأوّل.
وجهه : انّ من شرائط تنجيز العلم
الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير وهذا الشرط غير موجود في الموردين
لسبق وجوب الاجتناب عن الإناء المعيّن قبل طروء العلم الإجمالي ، فلا يكون العلم
الإجمالي عندئذمؤثراً ويكون الإناء الثاني مشكوك الاجتناب.
والمقام من قبيل هذه الصورة لأنّ العلم
بقيام أمارات وطرق ، على الأحكام الشرعية وإن كان متأخراً لكن معلومه ، وهو تنجز
مواردها متقدم على العلم الإجمالي ومثله يمنع عن انعقاد العلم الإجمالي منجّزاً
حيث إنّ التكليف كان في
مواردها منجّزاً قبل
حدوث العلم الإجمالي وإن كان غير عالم به ، وفي مثله لا ينعقد العلم الإجمالي
منجزاً ومؤثراً ، لأنّه وجب الاجتناب قبله عن أحد الطرفين معيناً ، فيكون الطرف
الآخر مشكوك الاجتناب.
هذا ما ذكره الأعلام.
أقول
: الحقّ التفصيل بين العلم الوجداني بوجود تكاليف في البين بحيث لا يرضى المولى
بتركه وبين العلم بتكاليف اكتفى الشارع في امتثالها بقيام الأمارة على ثبوتها
ونفيها. فعلى الأوّل ، لا محيص عن الاحتياط ولا يجوز الترخيص في محتمل الحرمة
أبداً حتى ولو قام الدليل على عدمها ، بل يلزم الاحتياط وترك التعبد بالأمارة
القائمة على عدمها.
وعلى الثاني : أعني العلم بتكاليف على
وجه يقتصر المولى في كيفية الامتثال بقيام الأمارة على وجودها أو نفيها ، ففي مثله
يكون العلم الثاني بوجود محرمات في مورد الطرق والأُصول ، موجباً لانحلال العلم
الإجمالي الأوّل ، انحلالاً حقيقياً ، لا انحلالاً حكمياً ، كما يظهر من المحقّق
الخراساني ، وذلك ببيانين :
١. انّ قوام العلم الإجمالي بالترديد ،
على وجه يكون كلّ من الطرفين محتملَ الحرمة أو محتمل وجوب الاجتناب ، فإذا صار أحد
الطرفين واجب الاجتناب بعينه ، وزال التردد فكيف يكون العلم الإجمالي باقياً.
٢. انّ مرجعَ العلم الإجمالي إلى قضية
منفصلة يتقوم بلفظة « إمّا » أو لفظة « أو » كما يقول العدد إمّا زوج أو فرد ، فلا
يكون الحكم في واحد من الطرفين قطعياً ، ومادام الحكم كذلك يكون العلم الإجمالي
باقياً بحاله ، وأمّا إذا انقلب بفضل العلم الثاني ، إلى قضية بتيّة وإلى قضية
مشكوكة يكون العلم الإجمالي منقلباً إلى علم تفصيلي وشك بدوي وذلك فيما إذا لم
يعلم بانطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال وإلا تنحل إلى قضيتين بتيّتين
فيقال : هذا طاهر ، وهذا نجس.
وفي المقام علمان إجماليان ، أحدهما
واسع الأطراف يعم مورد قيام الأمارات والطرق وغيره ، وثانيهما ضيقها لا يعم إلا
مواردهما. وبعبارة أُخرى : في المقام علم إجمالي بالمحرمات واسع الأطراف وهو العلم
الإجمالي الأوّل وعلم إجمالي بها مع ضيق أطرافها فمع قطع النظر عن العلم الثاني ،
كان التردّد والانفصال قائمين ، وأمّامع لحاظه وإخراج مورده عن تحت العلم الإجمالي
الأوّل ، ينقلب التردّد إلى قضية بتّية وهو الحكم بحرمة ما قام الدليل على حرمته ،
وقضية مشكوكة وهي الموارد التي لم يقم الدليل على حرمتها ، وهذا هو المراد من
انحلال العلم الإجمالي.
أقسام الانحلال
إذا عرفت ما ذكرنا اعلم أنّ الانحلال
على أقسام :
١. أن يعلم بالانطباق وهو انّ ما علم
إجمالاً ، هو نفس ما علمه تفصيلاً.
٢. أن يظن بالانطباق ، كما في موارد
الطرق والأمارات.
٣. أن يحتمل الانطباق ، كما إذا علم
بنجاسة أحد الاناءين ثمّ قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين معيناً على وجه
نحتمل أن يكون ذاك النجس هو نفس ما علم إجمالاً بنجاسته كما يحتمل أن يكون غيره.
ففي جميع الموارد ، الانحلال حقيقي ،
وذلك لما عرفت من أنّ قوام العلم الإجمالي بالترديد ، ( على ما قرر في الوجه
الأوّل ) أو تكون القضية بصورة المنفصلة ، وعلى كلّ تقدير فإذا حصل العلم بوجوب
الاجتناب عن أحد الطرفين على الوجه البتّ ، يرتفع الترديد ، وتنقلب القضية
المنفصلة إلى حملية ، قطعية ومشكوكة.
نعم الانحلال مشروط بعدم تأخر العلم
الثاني عن الأوّل ، معلوماً ، سواء
أكان معلومه متقدماً
على معلوم العلم الإجمالي ، أم مقارناً مع معلومه ، نعم لا يشترط تقدّم العلم.
وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقّق
الخراساني من كون الانحلال حكمياً لا حقيقياً وقد ذكره في جواب الإشكال الذي أورده
على نفسه ، وإليك الإشكال والجواب.
أمّا الأوّل : انّ الانحلال يتم على
القول بالسببية وأنّ قيام الأمارة موجب لثبوت التكليف ـ وهو تصويب ـ ، وأمّا على
القول بالطريقية وأنّ مفاد أدلّة حجّية الخبر الواحد ، هو التنجّز إذا أصاب والعذر
عندما أخطأ فلا انحلال لما علم إجمالاً.
وأمّا الثاني فلانّه يكفي في الانحلال
نهوضُ الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف وانّه يكون عقلاً
بحكم الانحلال. ولولا ذلك ، لما يجدي القول باعتبار الأمارات من باب السببية ضرورة
انّ كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية ، إنّما تكون كذلك بسبب حادث وهو كونها
مؤديات الأمارات الشرعية.
يلاحظ
عليه : بأنّه وإن كان متيناً ، لكن وصفه
الانحلالَ بالحكمي ليس بتام ، لما عرفت من بقاء العلم الإجمالي فرع أحد الأمرين
إمّا الترديد أو بقاء القضية بصورة المنفصلة ، والمفروض ارتفاعهما ، مطلقاً سواء
كان المعلوم بالتفصيل ، معلومَ الانطباق على المعلوم إجمالاً أو مظنونه أو محتمله
، كما لا يخفى.
نعم لو كان الميزان في الانحلال هو
العلم بالواقع وانّ الحرام في ذاك الطرف دون الآخر كان للقول بالانحلال الحكمي
مجال ، وذلك لعدم العلم بأنّ الواقع
__________________
في أيّ طرف من
الأطراف ، وأمّا إذا كان الميزان هو تنجز الحكم في أحد الطرفين ، فالانحلال حقيقي
لتنجز الحكم في أحد الطرفين ، دون الآخر فيكون الانحلال حقيقياً.
الثاني : استقلال العقل
بالحظر في الأفعال غير الضرورية
واعلم أنّ في كتب الأُصوليين القدماء
مسألة باسم : « هل الأصل في الأشياء هو الحظر أو الإباحة؟ » والفرق بينها وبين
مسألتنا من وجوه :
١. انّ الحظر والإباحة في المسألة
الأُولى ينسبان إلى ما قبل مجيئ الشرع بخلاف المقام ، فانّ البراءة والاحتياط
يلاحظان بالنسبة إلى حكم الشارع بعد مجيئه.
٢. انّ الحكم بأحدهما هناك واقعي مترتّب
على الشيء بما هو هو ، بخلاف المقام ، فانّ الحكم بأحدهما ظاهري لأخذ الشكّ في
موضوعه.
٣. انّ التحريم أو الترخيص هناك مالكيان
معتمدان على مالكيته سبحانه ، بخلاف البراءة أو الاحتياط في المقام فإنّهما شرعيان
معتمدان على تشريع الشارع أحدهما ، وكم فرق بين الإباحة المالكية كإذن الإنسان
لشخص التصرف في ماله ، والإباحة الشرعية كإذن الشارع الشرب والتوضّؤ من الأنهار
التي لها مالك معيّن.
إذا عرفت ذلك ، فإليك محصل استدلال
الأخباري بهذا الوجه : انّ الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف ، وما
دلّ على أنّ الأصل فيها بعد مجيئ الشرع هو الإباحة معارض بما دلّ على أنّ الأصل الاحتياط
أو التوقف ، فإذا تعارضا يرجع إلى الأصل المذكور.
وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه
ثلاثة :
١. كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هو
الحظر أو التوقف أحد الأقوال
ويقابله القول
بالإباحة ، وهو المشهور بين القدماء ، فلا يستدل بما هو محلّ الخلاف على المقام.
٢. سلمنا ذلك ، لكن الدليل بعد مجيئ
الشرع دلّ على الإباحة ، وما ذكره من وجود التعارض بين الأدلّة بعد الشرع قد عرفت
خلافه وعدم تمامية أدلّة القائلين بالاحتياط.
٣. لا ملازمة بين القول بالتوقف في تلك
المسألة ، والاحتياط في مسألتنا ، وذلك لأنّ كون الحظر هو المحكّم قبل مجيئ الشرع
، لا يكون دليلاً على أنّه المحكم بعد مجيئ الرسل وإنزال الكتب ، فإذا لم نجد
دليلاً على الحرمة يكون المحكّم هو العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان ، لا
القاعدة المختصة بما قبل الشرع ، وهذا هو الوجه لعدم الملازمة. ولكن ذكر المشكيني
وجهاً آخر له وهو اختلاف المسألتين في الموضوع ، فانّ الموضوع في الأوّل هو فعل
المكلِّف والأفعال الصادرة عن المكلّفين بخلافه في الثانية ، فانّه عبارة عن فعل
المكلّف ، وانّه هل يجوز العقاب على الحكم المجهول أو لا.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ دليل الأخباري
مركّب من صغرى وهو كون العالم ملكاً للّه سبحانه ، وكبرى وهو انّ التصرف في ملك
الغير بلا إذنه قبيح.
أمّا الصغرى فالحقّ فيها التفصيل ، فإن
أُريد منها ، المالكية التكوينية النابعة من خالقيته سبحانه فهو موضع اتّفاق قال
سبحانه : ( وَللّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ
شَيْء قَدِير ).
وقوله : « يخلق » كأنّه بمنزلة التعليل لقوله (
ملك
السّماوات ).
وإن أُريد المالكية الاعتبارية
العقلائية فغير صحيح ، لأنّه إنّما يتم في حقّ
__________________
من يعيش في ظل
التقنين لا في حقّ من يكون فوقه ، وبالجملة المالكية الاعتبارية ، إنّما تقوم
باعتبارها العقلاء ، لغايات عقلائية وأمّا الموجود ، الخارج عن محيطهم فلا معنى ،
لاعتبارها في حقّه.
وبعبارة أُخرى : من كان مالكاً تكويناً
بالذات ، فهو في غنى عن اعتبار المالكية له اعتباراً والاستدلال عليها بقوله
سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربى
) ، غير تام ، لأنّ إضافة الخمس إليه
سبحانه من باب المشاكلة في التعبير ، مثل قولهم : (
وَآتُوهُمْ
مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي اتاكُمْ
).
وأمّا الكبرى : أعني قبح التصرف في ملك
الغير بلا إذن ، فهي مردودة بوجهين :
الأوّل
: فبالمنع من استقلال العقل بالقبح في المقام بالفرق بين المالكين ، فانّ المالك
في أحدهما غنيّ بالذات لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً ، والآخر فقير
بالذات حريص على ما في يده ، والتصرف في الأوّل لا يُزاحم سلطانه بخلاف التصرف في
الثاني فانّه يزاحم سلطانه ، فكيف يقاس هذا بهذا.
الثاني
: صدور الإذن من المالك بالنسبة إلى العبد ، حيث دَلَّت الآيات على أنّ الغاية من
وضع الأرض ، وما فيها ، انتفاع الإنسان منها ، قال سبحانه : ( وَالأَرْض وَضَعَها للأنام
) و (
َهُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْض جَميعاً
).
__________________
الثالث : في ارتكاب الشبهة
احتمال المضرّة
هذا هو الدليل الثالث للأخباريين وحاصله
: انّ دفع الضرر المحتمل واجب.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين
:
١. التفريق بين محتمل المفسدة ،
وقطعيّها ، فالواجب دفعها هو الثاني دون الأوّل.
٢. انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد
النوعية ، دون النفع والضرر الشخصيين ، ولو استقل العقل بدفع الضرر المحتمل ، لا
يستقل بدفع المفسدة المحتملة ، لأنّ الأوّل على فرض وجوده شخصي والثاني نوعي.
وقد استوفينا البحث في هذا الدليل عند
البحث في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فليرجع إليه.
بقيت هنا تنبيهات جاءت في كلام الأعلام
ونحن نقتفيهم :
التنبيه الأوّل : في حكومة
الأصل الموضوعي على الحلية
إنّ أصالة البراءة أو الحلية وغيرهما من
الأُصول الحكمية إنّما تجريان إذا لم يكن في المورد أصل موضوعي ينقح حال الموضوع
وتكون نسبتهما إليه نسبة الأصل المسببي إلى السببي ، وإلا يكون الأصل الموضوعي
مقدماً على الحكمي تقدَّم الأصل السببي على المسببي ، وعلى ذلك فتقدّم الأصل
الموضوعي على أصالتي البراءة والحلية ، من فروع قاعدة كلية وهي تقدّم الأصل
الموضوعي على الأصل الحكمي مطلقاً ، سواء كان الأصل الحكمي هو البراءة أو الحلية
أو غيره.
مثلاً إذا غاب الزوج وترك زوجته وشككنا
في حياته ، فهنا أصلان وإن كانا متوافقي المضمون : أحدهما : استصحاب حياته وهو أصل
موضوعي جار في
ناحية الموضوع (
حياة الزوج ). ثانيهما : استصحاب وجوب الإنفاق من ماله وهو أصل كلي جار في ناحية
الحكم ، فالأوّل مقدّم على الثاني لكون الشكّ في الثاني نابع من الشكّ في الأوّل
ومع جريانه في الأوّل وإلزام الشارع بالتعبد به ، لا يبقى مجال لجريانه في جانب
الآخر.
ثمّ إنّ المثال الدارج في مورد تقدّم
الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة والحلية هو تقدّم أصالة عدم التذكية على أصالتي
الطهارة والحلية وقد قسم المحقّق الخراساني الشبهة في المقام إلى حكمية وموضوعية ،
وذكر لكلّ صوراً ثلاث مع أنّ صور الكلّ أربع ، وإليك بيان الصور الأربع إذا كانت
الشبهة حكمية.
صور الشبهة الحكمية الأربع
١. إذا شكّ في الطهارة والحلية ، لأجل
الشكّ في كون الحيوان واجداً للخصوصية والقابلية التي تكون مؤثرة في الطهارة
والحلية كالحيوان المتولد ، من حيوانين أحدهما يقبل التذكية والآخر يقبلها ، وفي
الوقت نفسه لا يشبههما.
٢. إذا شكّ في الحلية دون الطهارة للعلم
بكونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الطهارة والشكّ في كونه واجداً للخصوصية المؤثرة
في الحلية كما في مورد الثعلب.
٣. إذا شكّ فيهما ، لأجل الشكّ في
اعتبار كون آلة الذبح حديداً وراء ما يعتبر من فري الأوداج الأربعة والتسمية
والاستقبال وكون الذابح مسلماً.
٤. إذا شكّ فيهما لاحتمال مانعية شيء في
المورد ، كما إذا كان الحيوان جلاّلاً أو موطوءاً وشككنا في مانعيتهما.
الصورة
الأُولى : إذا شكّ في وجود خصوصية مؤثرة في
الطهارة والحلية.
إذا ذبح الحيوان ، مع جميع الخصوصيات
المعتبرة في التذكية ، لكن شكّ في
وجود الخصوصية في
الحيوان المؤثرة في الطهارة والحلية ، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم
التذكية حيث إنّه عندما كان حيّاً كان غير مذكى فبعد الذبح يشكّ في ارتفاعه فالأصل
بقاءه على ما كان عليه.
وقد أشكل على هذا القول
بوجهين :
الإشكال
الأوّل : انّ الغرض من استصحاب عدم التذكية هو
إثبات انّ المذبوح ميتة ، ومن المعلوم انّ إثبات عنوان الميتة بأصالة عدم التذكية
من قبيل نفي أحد الضدين وإثبات الضدّ الآخر وهو من الأُصول المثبتة كإثبات كون
الجسم متحركاً بنفي كونه ساكناً.
وإن شئت قلت : الميتة أمر وجودي وهو ما
مات حتف أنفه ، وإثبات ذلك الأمر الوجودي بأصالة عدم التذكية لا يجوز إلا على
القول بحجّية الأصل المثبت.
وقد أُجيب عن الإشكالين بوجهين :
١. ما أجاب به الشيخ بأنّ الميتة عبارة
عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط
من شروط التذكية فهو ميتة.
يلاحظ
عليه : أنّ الميتة أمر وجودي بمعنى ما مات
حتف أنفه ، ولا يعم المذبوح الفاقد للشرائط الشرعية بدليل انّها جعلت في الكتاب في
مقابل ما أهلّ لغير اللّه به ـ قال سبحانه : (
قُلْ لا
أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ
يَكُون مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ
أَوْ فِسقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ
) وقال أيضاً : ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما
__________________
أُهِلَّ
لِغَيْرِاللّهِ بهِ )
والإهلال رفع
الصوت بالشيء والمراد ذكر اسم الأصنام.
ويشهد لما ذكر ما ذكره الأعشى في قصيدته
التي أنشأها وجاء بها مكة المكرمة لكن حالت قريش بينه وبين إسلامه ، وقال.
وإياك والميتـــات لا تقربنّهـــا
|
|
ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا
|
ولم تكن الميتة في العهد الجاهلي سوى ما
مات حتف أنفه ، ولم يكن من الميتة الشرعية عندهم أثر.
٢. ما أجاب المحقّق الخراساني ويوجد في
بعض كلمات الشيخ وحاصله :
إنّ النجاسة والحرمة كما تعلّقتا
بالميتة فهكذا تعلّقنا ، بغير المذكى ، ولا يحتاج في ترتّب النجاسة والحرمة على
الحيوان بإثبات كونه ميتة بالمعنى اللغوي بل يكفي كونه غير مذكى في ترتيب الأثرين
، وذلك بشهادة قوله سبحانه : (
حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزير
) إلى أن قال
: ـ ( وما أَكَلَ السَّبُعُ
إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ).
فإذا كانت التذكية موضوعاً للحلية ،
يكون رفعها موضوعاً لرفعها وهو الحرمة وقوله تعالى : (
وَما
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ
) وقوله سبحانه : ( لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسمُ اللّهِ
عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْق )
، وقوله تعالى : (
فَكُلُوا
مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنين
) ، وقوله من موثقة ابن بكير : لا إذا
كان ذكياً وذكاه الذابح إلى غير ذلك من الأخبار.
__________________
ولا منافاة في ترتيب النجاسة والحرمة
على موضوعين ، أحدهما : خاص ، أي الميتة ؛ والآخر : عام ( غير المذكى ) وإن كان
العام يغني عن الآخر ، وذلك لأنّ الاحناف قبل الإسلام كانوا يجتنبون الميتة ، كما
ورد في شعر الأعشى ، ولمّا كان الموضوع أعم أُضيف إلى الميتة عنوان آخر وهو غير
المذكّى بطريق شرعي.
وعلى ضوء ما ذكرنا يكفي استصحاب عنوان
غير المذكّى في ترتّب الحرمة فقط ، لأنّها المترتبةُ على غير المذكّى في الآيات
والرواية دون النجاسة ولذا قلنا في محله بأنّ المذبوح على غير الوجه الشرعي ، حرام
لكونه غير مذكّى وليس بنجس.
الإشكال الثاني : اختلاف
القضية المتيقنة مع المشكوكة
ويمكن تقريره بوجوه مختلفة :
أ : انّ موضوع القضية الأُولى هو الحي ،
وموضوع القضية الثانية الميت ، ولا يصحّ أن تعد الحياة والموت من حالات الموضوع ،
ولا وحدة بين الحيوان والجماد.
ب : انّ الاستصحاب في المقام من قبيل
استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، كاستصحاب الإنسانية فيما إذا كان
في الدار زيد ، ثمّ علمنا بخروجه واحتملنا قيام فرد آخر مكانه عند الخروج ومثله
المقام فإنّ عدم التذكية كان قائماً بالحي ، وقد ارتفع واحتملنا حلول فرد آخر
مكانه عند زهوق الروح لأجل احتمال اختلال بعض الشروط ( القابلية ) فيستصحب الكلي.
وحجّية مثل هذا النوع من الاستصحاب محلّ
تأمل ، لأنّ الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الأوّل غير الكلي المتحقّق في ضمن الفرد
الثاني.
ج : انّ القضية المتيقنة من قبيل القضية
الموجبة ، لكن سالبة المحمول وهي عبارة عن جعل القضية السالبة المحصلة ، نعتاً
للموضوع ، كما إذا قيل زيد هو ليس بقائم وفي المقام : « الحيوان ، الذي لم تزهق
روحه بالكيفيّة المخصوصة » كان محكوماً بعدم التذكية ، لكن القضية المشكوكة ،
عبارة عن القضية المعدولة ، أعني :
الحيوان الذي ، زهق
روحه بغير الشرائط المطلوبة ، واستصحاب القضية الأُولى وإثبات القضية الثانية من
الأُصول المثبتة.
وإن شئت قلت : إنّ ماله حالة سابقة
عبارة عن الحيوان الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة وهو قطعي الارتفاع للعلم بزهوق روحه
، وما هو مشكوك الارتفاع ، أعني : الحيوان الذي زهقت روحه ، بغير الكيفية الشرعية
، فاقد للحالة السابقة ، لأنّ الشكّ في حدوثه وتحقّقه.
هذه صور مختلفة لإشكال واحد وهو عدم
وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.
استصحاب عدم القابلية
ثمّ إنّ المعروف في المقام استصحاب عدم
التذكية لكن نقل سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري ـ قدّس سرّهما ـ انّه
كان يتمسك في المقام بأصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة عدم التذكية حكومة
الأصل السببي على الأصل المسببي ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها ، نابع عن الشكّ
في قابلية الحيوان للتذكية.
وحاصل ما إفاده : انّ العوارض على قسمين
، عارض الماهية سواء كان لازماً كالزوجية للأربعة ، أو مفارقاً كالوجود بالنسبة
إلى الماهية ، وعارض للوجود ، سواء كان لازماً كالنور بالنسبة إلى الوجود ،
ومفارقا كالبياض والسواد بالنسبة إلى الجسم.
ثمّ إنّ القابلية من عوارض وجود الحيوان
، ولكن تعرض للماهية بواسطة الوجود ، ويقال ماهية الغنم الموجود قابلة للتذكية ،
وماهية الكلب الموجود غير قابلة ، وإذا شككنا في قابلية حيوان للتذكية أشرنا إلى
ماهيته ، ونقول انّها قبل أن
توجد لم تكن قابلة
للتذكية ولو لأجل عدم الوجود ، ولكن انتقض العدم في جانب الوجود وعلمنا انّه صار
موجوداً ولكن نشكُّ في انتقاض عدم القابلية إلى القابلية والأصل بقاؤه بحاله.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : قد ثبت في الفن
الأعلى بأنّ ما لا وجود له لا ماهية له ، والماهية حدّ الوجود تنتزع من الشيء بعد
تحقّقه ، وعلى ضوء هذا ، كيف يصحّ لنا الإشارة إلى ماهية الشيء المعدوم؟
وثانياً
: أنّ الأثر مترتب على التذكية وعدمها ، القابلية وعدمها ، غاية الأمر انّ
القابلية جزء من أجزاء التذكية ، فحينئذ استصحاب نفي الجزء ، يلازم عقلاً ، نفي
الكل ، ولا يلازمه شرعاً ويكون أشبه بالأصل المثبت.
وثالثاً
: أنّ الإشكال الثاني باق بحاله بصوره الثلاث ، لأنّ القضية المتيقنة ، قضية أشبه
بالسالبة المحصلة فماهية هذا الحيوان لم تكن قابلة للتذكية لعدم وجودها والغرض
إثبات استمرار العدم ، حتى بعد وجودها واستصحاب النفي التام لغاية إثبات النفي
الناقص من الأُصول المثبتة.
تفصيل للمحقق النائيني
ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل في جريان
أصالة عدم التذكية بين النظريتين :
الأُولى
: أن تكون التذكية أمراً وجودياً بسيطاً مسبَّباً عن الذبح بشرائطه نظير الطهارة
المسببة عن الوضوء أو الغسل ، والملكية الحاصلة من العقد والإيجاب.
فعلى هذه النظرية تجري أصالة عدم
التذكية عند الشكّ ، لأنّه أمر بسيط مسبوق بالعدم والأصل بقاؤه على ما هو عليه.
__________________
الثانية
: أن تكون التذكية أمراً مركباً من أُمور ستة ، سادسها قابلية الحيوان للطهارة
والحلية ، فعلى ذلك لا تجري أصالة عدم التذكية ، لأنّ الشكّ لو كان من ناحية
الأُمور الخمسة فقد تحققت قطعاً ، وإن كان من جهة القابلية فليست لها حالة سابقة
وجوداً وعدماً ، إلا باعتبار استصحاب العدم الأزلي.
يلاحظ على ذلك التفصيل : أنّ الظاهر
جريان الأصل مطلقاً سواء كانت التذكية أمراً بسيطاً أو أمراً مركباً من أُمور ستة
، أو كانت هي الفري مشروطاً بالأُمور الباقية ، وذلك لأنّ الموضوع للطهارة والحلية
ليس هو الأُمور الكثيرة بكثرتها وتفرقها ، بل الموضوع هو الأمر الموحّد من اجتماع
الأُمور الستة ، أو الفري المشروط بالأُمور الخمسة والأمر الواحد بما هو واحد كان
مسبوقاً بالعدم فيستصحب عدمه ، وما ذكره من التفصيل مبني على عدم اعتبار الوحدة في
جانب الموضوع ولو بصورة الوحدة الحرفية التي ليس لها شأن إلا جمع المتفرقات وجعلها
في إطار واحد ، مع أنّها أمر لا مناص عنها ، لأنّ الحكم الواحد يطلب لنفسه الموضوع
الواحد لا المتفرق الذي لا ارتباط بين أجزائها.
وبذلك ظهر جريان أصالة عدم التذكية على
جميع التقادير مع غض النظر من الإشكال المتقدم.
هذا كلّه حول الصورة الأُولى ، وإليك
الكلام في الصورة الثانية.
الصورة الثانية
إذا شكّ في وجود القابلية للحلية ، بعد
إحراز وجودها للطهارة ، فقد منع المحقّق الخراساني عن جريان أصالة عدم التذكية ـ
بخلاف الصورة الأُولى ـ وقال بجريان أصالة الحلّ للشكّ في هذا الحيوان المذكّى
حلال أو حرام ولا أصل فيه ، إلا أصالة الإباحة.
أمّا جريان الأصل : فلعدم اعتبار
الخصوصية الموجبة للحل مأخوذة في التذكية فلا تجري أصالة التذكية للعلم بوجودها ،
وأمّا الثاني فلأنّه مشكوك الحلية والحرمة.
يلاحظ
على الأمر الأوّل : عدم وضوح الفرق
بين الصورتين ، فلأنّ الظاهر من تقسيم الشارع الحيوان إلى طاهر ونجس ، وحلال وحرام
، انّ للتذكية مراتب ، فمرتبة منها مؤثرة في الطهارة ومرتبة أُخرى مؤثرة في الحلية
، فمع الشكّ في تحقّق القابلية للحلية ، تجري أصالة عدم التذكية بالمعنى الثاني.
نعم يرد على جريانه في هذه الصورة ما
أوردنا على الصورة الأُولى.
ويلاحظ
على الأمر الثاني : أنّ أصالة الحلّ
إنّما تجري فيما إذا كان الموضوع محكوماً حسب طبيعته بالحلية وشكّ في حرمته لعروض
طوارئ خارجية ، ومثله الطهارة ، وأمّا إذا كان الموضوع حسب طبيعته محكوماً بالحرمة
وكانت الحلية أمراً عارضاً عليه فلا تجري في مثله ولذلك ذهب الشيخ الأعظم وغيره إلى
عدم جريان أصالة الإباحة في الدماء والأعراض والأموال وإن كانت الشبهة بدوية وذلك
لأنّ الأصل فيها ، هو الحرمة وإنّما تعرض الحلية لها بأسباب خاصة فلا يجوز قتل
إنسان باحتمال انّه مرتدّ ، أو النظر إلى المرأة باحتمال انّها من المحارم ، أو
التصرف في مال لاحتمال انّه ماله.
والفقيه إذا تتبع في الفقه وقف على تلك
الضابطة ولذلك ذهب المشهور إلى عدم جريان أصالة الصحة في تصرّف غير الولي في مال
اليتيم ، أو بيع الوقف لاحتمال عروض مسوّغ له وما ذلك إلا لأنّ الأصل في هذه
الأُمور ، هو الحرمة.
ومن هنا يعلم عدم جريان أصالة الحلية في
كلتا الصورتين ، مع جريان أصالة الطهارة فيهما ، لأنّ الأصل في اللحوم هو الحرمة
وإنّما يحكم عليها بالحلية لدليل خاص.
فتلخص من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا
تجري أصالة التذكية في كلتا الصورتين لاختلاف القضيتين المتيقنة والمشكوكة ،
وعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول الحكمية فلا تجري أصالة الحلية ، لأنّ الأصل في
اللحوم الحرمة ، وتجري أصالة الطهارة لأنّ الأصل في الأشياء الطهارة الذاتية
فتتبعها الطهارة الشرعية.
الصورة الثالثة والرابعة
إذا شكّ في شرطية شيء في التذكية ككون
آلة الذبح حديداً ، أو شكّ في مانعية لها كالجلل مع ورود الذبح على الحيوان بعامة
ما ثبت اعتباره ، فيقع الكلام في مقامين :
١. ما هو مقتضى الدليل الاجتهادي؟
٢. ما هو مقتضى الأُصول العملية إذا لم
يكن هناك دليل اجتهادي؟
أمّا
الأوّل : فالظاهر صحّة التمسّك بالإطلاق في
نفي الشرطية والمانعية ، لأنّ الحلية تعلّقت بالمذكّى في الآية والرواية ، قال
سبحانه : ( وَما أَكَلَ السَّبُعُ
إِلاّما ذَكَّيْتُمْ ) وقوله
: « إلا ما يكون ذكياً ذكّاه الذابح »
، وليست التذكية في اللغة إلا الفري مع قابلية في الحيوان ، والمفروض صدق الأمرين
وتحقّقهما ، فإذا شكّ في شرطية زائد أو مانعيته فالأصل عدمهما.
نعم من قال بأنّ التذكية أمر بسيط حاصل
من الأُمور الستة ، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في المحصِّل ، نظير ما إذا قلنا بأنّ
الطهور عبارة عن الطهارة النفسانية ، وتكون الغسلات والمسحات مع سائر الشرائط من
قبيل المحصِّلات ، فيكون المرجع هو الاشتغال في كلّ ما شكّ في شرطيته أو مانعيته.
__________________
لكن لا دليل على أنّه كذلك ، وقد مرّ
انّ التذكية عبارة عن الفري مع أجزاء وشروط خاصة ، وقد ثبت شرطية ما ثبت ، ويكون
المرجع في غيره ، هو البراءة.
ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ذهب إلى عدم
صحّة الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي المشكوك قائلاً بأنّها ليست أمراً عرفياً
كي ينزل الدليل عليه ويُدفع احتمال التقييد بالإطلاق ، كما كان الأمر كذلك في مثل
قوله تعالى : (
أحلَّ اللّهُ
البَيْع )
.
يلاحظ
عليه : بعدم وضوح الفرق بين الأمرين بعد
شيوعهما في العرف ، فكما أنّ تقييد البيع بشروط لا يخرجه من كونه أمراً عرفياً
فهكذا تقييد التذكية ببعض الأُمور كذلك ، ولعلّ منشأ الخلط بين التذكية بالذال
المعجمة ، والتزكية بالزاء أُخت الراء ، فالأُولى بمعنى الفري والذبح ، والثانية
بمعنى الطهارة والتنزيه ، قال سبحانه : (
وَنَفْس
وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّيها
) . فهي بالمعنى الثاني ليس أمراً عرفياً
، بخلاف التذكية في المقام فهو أمر عرفي غاية الأمر أضاف الشارع إليها شروطاً كنفس
البيع.
أمّا
الثاني : أي مقتضى الأصل ، فالأصل البراءة
لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيرفع شرطية الأمر المشكوك أو
مانعيته بالأصل.
فإن
قلت : لماذا لا يجري الأصل في ناحية
التذكية ، فيتمسك بأصالة عدم التذكية؟
قلت
: لا شكّ في تحقّق التذكية إنّما الكلام في اشتراطها بوجود شيء أو عدمه الذي هو
عبارة أُخرى عن مانعية الشيء الموجود.
__________________
وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في تحقّق
التذكية الشرعية وعدمها نابع عن شرطية شيء أو مانعيته ، فإذا جرى الأصل في جانب
الأصل السببي ، ارتفع الشكّ عن جانب الأصل المسببي كما لا يخفى.
صور الشبهة الموضوعية
قد وقفت على أقسام الصور الأربع من
الشبهة الحكمية ، وإليك الكلام في الشبهة الموضوعية ، وصورها أيضاً كالحكمية أربع.
الصورة الأُولى : في اللحم
المردّد بين الغنم والكلب
إذا دار أمر اللحم بين كونه لحمَ غنم أو
كلب ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حسب ما قرّره في
الصورة الأُولى من الشبهة الحكمية فيكون محكوماً بالنجاسة والحرمة.
وقد عرفت الإشكال في جريان الأصل وانّ
الحقّ عدم جريانها ، وعندئذ تصل النوبة إلى الأصل الحكمي ، وهو أصالة الطهارة دون
الحلية لما عرفت في المقام الأوّل ، وسنشير إليه في القسم الثاني.
فإن
قلت : لماذا لا نتمسك بعموم العام ، وهو
انّ كلّ حيوان قابل للتذكية بمعنى الطهارة إلا الكلب والخنزير؟
قلت
: وجه عدم التمسك واضح ، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام مع كون الشبهة مصداقاً
للمخصص لدوران اللحم المذكور بين كونه داخلاً تحت العام أو داخلاً تحت المخصص. فلا
مناص من التمسك بأصالة الطهارة ويكون الحكم بطهارته حكماً ظاهرياً.
الصورة الثانية : في اللحم
المردّد بين الغنم والأرنب
إذا دار أمر اللحم بين كونه لحم غنم أو
لحم أرنب مع العلم بفري أوداجه بشرائطه الخاصة ، فقد عرفت عدم جريان أصالة عدم
التذكية ، فينتهي الأمر إلى الأُصول الحكمية.
أمّا طهارته فلا شكّ فيها لفرض انّ
الحيوان على كلّ تقدير واجد للقابلية التي تؤثر في الطهارة إنّما الكلام في حلّيته
، وبما انّ الأصل الأوّلي في اللحوم هو الحرمة ، فلا تجري أصالة الحلية ، وقد عرفت
تفصيلها في الصورة الثانية من الشبهة الحكمية.
وأمّا التمسّك بأصالة الصحّة في فعل
المسلم فهو يثبت الطهارة لا الحلية ، إذ لا منافاة بين صحّة فعل المسلم وحرمة لحمه
، لأنّ للتذكية مراتب مختلفة ، ولها آثار فيكفي في صيانة فعل المسلم من اللغوية
ترتّب الأثر عليه وهو صحّة التذكية المؤثرة في الطهارة.
الصورة الثالثة : فيما إذا
شكّ في وجود الشرط
إذا علمنا بورود التذكية على الحيوان
القابل للطهارة والحلية لكن شكّ في تحقّق الشرط وعدمه فالحقّ فيه التفصيل.
فلو شكّ في كون الذابح مسلماً فلا تجري
أصالة الصحّة في فعله.
وأمّا إذا كان الذابح مسلماً وشككنا في
رعايته سائر الشرائط ، فالأصل الصحّة ويترتب عليه الطهارة والحلية.
الصورة الرابعة : فيما إذا
شكّ في وجود المانع
إذا علمنا بورود التذكية على حيوان قابل
للطهارة والحلية ولكن شككنا في اقتران الحيوان بالمانع كعروض الجلل وغيره ، فالأصل
العدم فيقال : إنّ هذا الحيوان لم يكن جلاّلاً ، فالأصل بقاؤه على ما هو عليه.
فقد خرجنا بهذه النتيجة : إنّ اللحم
المطروح طاهر في الصورة الأُولى والثانية فحسب ، وطاهر وحلال في الصورتين
الأخيرتين على غرار ما ذكرناه في المقام الأوّل.
التنبيه الثاني : في حسن
الاحتياط حين التردد بين الوجوب وغير الاستحباب
اتّفقت كلّمتهم على الأُمور التالية :
١. يحسن الاحتياط في الأُمور التوصلية ،
كدفن الميت المردّد بين كونه مسلماً أو كافراً.
٢. يترتب الثواب على الاحتياط مهما
تحقّق ، ولعلّه لاستقلال العقل على ترتّب الثواب على الانقياد وإن لم يستقل
بالعقاب في التجري المجرّد عن الهتك ، وذلك لأنّ الإنسان المحتاط بصدد تعظيم
المولى وتكريمه ، وخضوعه له حتى فيما لم يعلم انّه واجب أو حرام فيستحق الثواب
أكثر ممن لا يُحركه إلا العلم بالوجوب ، بخلاف الثاني فانّه مجرد عن أيّ هتك
وإطاحة بالمولى غاية الأمر شرب الماء بتصور انّه خمر ، مع عدم كونه بصدد هتكه.
وإلا خرج عن باب التجري.
٣. إمكان الاحتياط في العمل العبادي
المردد بين الوجوب والاستحباب لإحراز الأمر وإن كانت الخصوصية مجهولة.
٤. اختلفت أنظارهم في إمكان الاحتياط في
العمل العبادي عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب باعتبار أنَّ مقوم
العبادة هو قصد القربة ، بامتثال أمر المولى والمفروض عدم إحرازه فلا يمكن
الاحتياط ، قال الشيخ : وفي جريان الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب وغير
الاستحباب وجهان ، أقواهما العدم ، لأنّ العبادة لابدّ فيها من نيّة التقرب
المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً وإجمالاً. فالكلام في هذا التنبيه في تصحيح الاحتياط
في هذا النوع من العمل وقد ذكروا في وجه تصحيحه وجوهاً ندرسها واحداً تلو الآخر :
١. كشف الأمر عن حسن
الاحتياط
يكفي في تصحيح العمل ، حسن الاحتياط
عقلاً وهو يكشف عن تعلّق الأمر به شرعاً ، فيقصد المكلّف ذاك الأمر المستكشف.
أورد عليه بأمرين :
١. ما أورده الشيخ وتبعه المحقّق
الخراساني بأنّ الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي
والإطاعة الواقعية في معلوم التكليف إرشاديّ محض لا يترتب على موافقته ومخالفته
أزيد ممّا يترتب على نفس المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشادية فلا
طاعة لهذا الأمر الإرشادي ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، إذ لا إطاعة له حتى يقصد
إطاعته.
٢. ما ذكره المحقّق الخراساني من
استلزام هذا التصحيح الدور ، وذلك لأنّ حسن الاحتياط متوقف على نفس الاحتياط توقفَ
العارض على معروضه
__________________
وإمكان الاحتياط في
المورد موقوف على وجود الأمر ، المتوقف على الحسن ، لأنّ المفروض استكشاف الأمر
بالحسن ، وإلى ذلك يشير بقوله : بداهة توقف الحسن على الاحتياط توقفَ العارض على
معروضه ، فكيف يعقل أن يكون الحسن من مبادئ ثبوت الاحتياط؟!
٢. استكشاف الأمر عن ترتّب
الثواب
وهذا هو الجواب الثاني الذي أشار إليه
المحقّق الخراساني من استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب على الاحتياط ، الكاشف عن
وجود الأمر ، والفرق بينه وبين كشفه بحسن الاحتياط ، انّ الكشف في المقام إنّي ،
لأنّ الثواب من آثار الأمر ، وهناك لمّي ، لأنّ حسن الاحتياط صار سبباً للأمر به ،
ويرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل من عدم كونه أمراً مولوياً فلا إطاعة له حتى
يقصد إطاعته ، أضف إليه انّ ترتّب الثواب أوّل الكلام فانّه فرع إمكانه والمفروض
وجود الشكّ في إمكانه.
٣. الاحتياط مجرّد الفعل عدا
نيّة القربة
وهذا هو الجواب الثالث الذي أشار إليه
الشيخ أيضاً بقوله : إنّ المراد من الاحتياط هو مجرّد الإتيان بجميع ما يعتبر فيها
ما عدا قصد القربة.
يلاحظ
عليه : أنّ البحث هو الاحتياط في محتمل
العبادة ، فلو أتى بالعمل مجرّداً عنها ، فلا يكون احتياطاً كاملاً بل احتياطاً
نسبياً غير مقيد ، لأنّه لو كان عبادة لا يفيد إلا إذا صدر عن المكلّف عن نيّة
القربة.
__________________
٤. كفاية الإتيان باحتمال
الأمر
وهذا هو الجواب الرابع ، وقد أشار إليه
الشيخ في ضمن كلماته وقال : والتحقيق انّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في
صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية ولو إجمالاً.
وحاصله : انّه يكفي في تصحيح العبادة ،
الإتيان بها رجاء وباحتمال تعلّق الأمر به ، وذلك لأنّ الكلام في العبادة المحتملة
ويكفي فيها احتمال الأمر.
وبعبارة أُخرى : انّ قصد الأمر من
القيود التي يستقل بها العقل وليس من القيود التي يمكن أخذها في المتعلق لما عرفت
وجهه تفصيلاً في الجزء الأوّل والعقل مستقل بكفاية قصد الأمر الاحتمالي في العبادة
المحتملة.
٥. وهنا جواب خامس ، وهو انّه لا يعتبر
في صحّة العبادة قصد الأمر ، بل يكفي الإتيان بها للّه سبحانه ، وهذا هو الذي
اعتمدنا عليه في باب العبادات ، فلو كان ما ذكرنا كافياً في العبادات القطعية
ومغنياً عن قصد الأمر القطعي فليكن كافياً في العبادات المحتملة.
وهناك جواب سادس ، وهو قصد الأمر
الاستحبابي المستنتج من أخبار « من بلغ » على القول بدلالتها على استحباب نفس
العمل ، إذ أتى به الإنسان رجاء درك الثواب وحيث إنّ هذه الأخبار وقعت مورداً
للنقاش من هذا الجانب نفرّدها بالبحث.
__________________
التنبيه الثالث : التسامح في
أدلّة السنن
ولنقدم أُموراً :
١. في السير التاريخي
للمسألة
اشتهرت بين الأصحاب مسألة : « التسامح
في أدلّة السنن » ويراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها والعمل بها ، ما يشترط في
ثبوت غيرها كالواجبات والمحرمات من كون الراوي ثقة ضابطاً ، بل يكفي وروده ولو عن
طريق ضعيف والمسألة معنونة في كلمات الفريقين ، غير انّهم يعبِّرون عن المسألة
بقولهم : « العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال » وقد ألمع إليها الشهيد ( ٧٣٤ ـ
٧٨٦ هـ ) في الذكرى ، وابن فهد الحلي ( المتوفّى ٨٤١ هـ ) في عدة الداعي ، والشهيد
الثاني ( المتوفّى ٩٦٦ هـ ) في درايته ، وبهاء الدين العاملي ( المتوفّى ١٠٣٠ هـ )
في أربعينه ، إلى أن وصلت النوبة للشيخ الأنصاري ، فألّف رسالة مستقلة فيها طبعت
في آخر كتاب المتاجر له. وأدرجها تلميذه الشيخ موسى التبريزي في حاشيته على الفرائد
، باسم « أوثق الوسائل » فلاحظ.
٢. وجود ملاكات مختلفة في
المسألة
وهل المسألة أُصولية أو فقهية ، أو
كلامية لكلّ وجه ولا يترتب ثمرة لذلك ، فلو كان الكلام مركزاً على عدم اعتبار
شرائط الحجية في العمل بالسنن المروية ، بل يكفي مجرّد ورود الخبر ، فالمسألة أُصولية
، ولو كان الكلام دائراً حول ثبوت الاستحباب بمجرّد الورود ، وإن لم يكن مطابقاً
للواقع بتصور عروض مصلحة غير إلزامية على الفعل عند ذاك ويكشف عنها ترتّب الثواب
على الفعل ، تكون المسألة فقهية ، وأمّا إذا كان الكلام حول ثبوت الثواب وعدمه
تكون المسألة كلامية.
٣. الاستدلال عليها بطرق
مختلفة
ثمّ إنّه ربما يستدل على القاعدة
بالإجماع وحكم العقل والأولى الاستدلال عليها بالروايات ، لأنّ الإجماع على فرض
ثبوته ، مدركيّ مستند إلى نفس الروايات ، وأمّا العقل فلا يستقل إلا بالرجحان ،
وترتّب الثواب بما هو مصداق للانقياد ، ولا يستقل على خصوص الثواب الوارد في
الرواية ، كما لا يستقل باستحباب نفس العمل فالأولى ذكر الروايات ، والتكلّم في
حدود دلالتها. وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في مقدمات وسائل الشيعة.
أ : رواية هشام بن سالم
إنّ لهشام بن سالم رواية واحدة عن أبي
عبد اللّه 7 يرويها تارة
بلا واسطة ، وأُخرى بواسطة صفوان ، والأقرب انّها رواية واحدة ، وانّ التعدّد
أيضاً محتمل.
١. روى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي
عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء ، فصنعه ، كان له وإن لم يكن على ما بلغه
».
روى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم
، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : « من بلغه عن النبي 6
شيء من الثواب ، فعمله كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول اللّه لم يقله ». وعلي بن الحكم الكوفي من أصحاب
الإمامين : الرضا والجواد 8
، وهو ثقة كما في الفهرست وهو متحد مع علي بن الحكم الأنباري ، وابن الزبير ،
بشهادة انّ الصدوق ذكر طريقه إليه ولم يصفه بأحد الأوصاف الثلاثة : الكوفي ،
الأنباري أو ابن الزبير ، وهذا يكشف عن الاتحاد ، وهناك قرائن أُخرى للاتحاد لاحظ
المصادر.
والروايتان متحدتان لوحدة المرويّ
__________________
عنه ، أعني : هشاماً
، غاية الأمر يرويها عنه تارة ابن عمير وأُخرى علي بن الحكم إنّما الكلام في اتحاد
الثالثة معهما.
٢. ما رواه هشام ، عن صفوان ، عن أبي
عبد اللّه 7 قال : « من
بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه
لم يقله ».
وفي السند علي بن موسى ، وهو علي بن
موسى الكمنداني أحد « عدّة الكافي » إلى أحمد بن محمد بن عيسى حيث يكرر قوله : عن
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى فهو أحد العدة ، وبذلك يعلم انّ المراد
من أحمد بن محمد في سند الرواية ، هو ابن عيسى : ولم يوثق علي بن موسى ، وفي معجم
البلدان انّ كمندان اسم قم في أيّام الفرس ، فلما فتحها المسلمون اختصر اسمها.
وبما انّ الإمام المروي عنه واحد ،
يحتمل تعدد الروايتين وانّ هشاماً تارة سمع الحديث من الإمام مباشرة ، وأُخرى من
الراوي عنه أعني صفوان ، ولم يكن هشام حاضراً عندما كان الإمام يحدث صفوان.
ب : روايتا محمد بن مروان
وهنا روايتان لمحمد بن مروان يرويهما عن
إمامين.
٣. روى البرقي عن أبيه ، عن أحمد بن
النضر ، عن محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : « من بلغه عن النبي شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب
وإن كان النبي لم يقله ».
والرواية صحيحة وأحمد بن
__________________
النضر ، كمحمد بن
مروان ثقة.
٤. روى الكليني بسنده عن محمد بن سنان ،
عن عمران الزعفراني ، عن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر 7 يقول : « من بلغه ثواب من اللّه على
عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه ». والسند لا يخلو من ضعف.
وبما انّ الإمام المروي عنه مختلف ،
فيحكم عليهما بالتعدّد. إلى هنا وقفنا على روايات أربع ، وأمّا سائر الروايات فهي
إمّا راجعة إليها ، أو لا صلة لها بالمقام.
أمّا الأوّل ، مثل ما رواه أحمد بن فهد
( المتوفّى ٨٤١ هـ ) في عدّة الداعي عن الصدوق بطرقه إلى الأئمّة. أو ما رواه ابن طاووس ( المتوفّى ٦٦٤
هـ ) في كتاب الإقبال عن الصادق 7
، فانّ هذه
المراسيل ليست شيئاً مستقلاً بل متخذات من المسانيد السابقة.
وأمّا الثاني ، أي ما لا صلة له بالمقام
مثل ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن حمدان بن سليمان في تفسير قول اللّه
عزّوجلّ : ( فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ
) ، فجاء فيه « يشرح صدره للتسليم للّه
والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه » ، وأين هو ممّا نحن فيه؟! ومثله مرسلة
علي بن محمد القاساني ففيها : من وعده اللّه على عمل فهو منجزه ، ومن أوعده على
عمل عقاباً فهو فيه بالخيار.
وجه عدم الصلة في رواية « حمدان » فانّ
السكون إلى ما وعد اللّه ، التي ثبت
__________________
بالدليل الصحيح من
علائم الإيمان كما أنّ المراد من الحديث الثاني هو التفريق بين الوعد والوعيد ،
فانّ الأوّل لازم الوفاء دون الثاني فهو ناظر إلى مسألة كلامية فالمعتزلة على لزوم
الوفاء بالوعيد مثل الوعد ، والإمامية على خلافهم.
نعم روى ابن فهد في عدّة الداعي عن غير
طرقنا مرفوعاً إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه 6 : « من بلغه من اللّه فضيلة فأخذ بها
إيماناً باللّه ، ورجاء ثوابه أعطاه اللّه ذلك وإن لم يكن كذلك ».
هذا ما وقفنا عليه من الروايات وإنّما
المهم دراسة دلالتها ، وتحقيق مضامينها ، وقد اختلفت كلمتهم في تفسيرها إلى وجوه
واحتمالات لا يساعد أكثرها الفهم العرفي ، فنذكر المهم.
١. نظرية الشيخ الأنصاري
وحاصل نظريته : انّ هذه الأخبار لا تدل
إلا على ثبوت الأجر للعامل ، ولا يدل على استحباب العمل ، وبالتالي لا يمكن تصحيح العمل
العبادي المردّد بين الاستحباب وغير الوجوب بهذه الأخبار.
ثمّ إنّه 1
أخذ في توضيح مقصوده وقال : إنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعاً على
البلوغ ، وكونه الداعي على العمل ، ويؤيّده تقييده في غير واحد من تلك الأخبار
بطلب قول النبي والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم انّ العقل مستقل باستحقاق
هذا العامل ، المدحَ والثواب وحينئذ إن كان الثابت في تلك الأخبار ، هو أصل الثواب
كانت مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق ـ إلى أن قال : ـ وإن كان الثابت بهذه الأخبار
خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو وإن كان مغائراً لحكم العقل باستحقاق
أصل الثواب على هذا العمل ، إلا
__________________
أنّ مدلول هذه
الأخبار أخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وعلى كلّ تقدير
فلا يدل على صيرورة العمل مستحباً.
ويؤيّد كلام الشيخ أمران :
الأوّل
: هو انّ مورد الرواية ليس مختصاً بالمستحبات ، بل يعمّ الثواب الموعود على الواجب
كما هو أعمّ من أن يرد بدليل واجد لشرائط الحجّية أو لا ، فتخصيص مورد الروايات
بالمستحبات أوّلاً ، وكون الوارد غير حائز لشرائطها ثانياً ، أمر لا دليل عليه.
والحاصل : انّ الرواية إمّا مؤكّدة لحكم
العقل إذا كان المقصود أصل الثواب أو أخبار عن تفصيله إذا كان المقصود ، هو الثواب
الموعود.
الثاني
: انّ الظاهر من الروايات أنّ ترتب الثواب ، لأجل هذه العناوين : « من بلغه شيء من
الثواب ، أو بلغه عن النبي شيء من الثواب ، أو سمع شيئاً من الثواب » : ( كما في
روايات هشام بن سالم ) ففعل ذلك طلب قول النبي ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب
» ( كما في روايتي محمد بن مروان ) ، وهذا دليل على ترتّب الثواب ، لأجل انقياده
لا على نفس العمل ، فلا يكشف ترتّب الثواب على الانقياد عن استحباب نفس الفعل.
٢. نظرية صاحبي العناوين
والكفاية
إنّ المحقّق السيّد فتاح المراغي صاحب
العناوين ، ذهب إلى أنّ مفادها هو انّه لا يشترط في الخبر الوارد في المستحبات ،
ما يشترط فيما دلّ على الحكم الإلزامي ، واستدل على ذلك بأنّ أغلب المندوبات
والمكروهات ليس لها دليل قويّ مع أنّ الفقهاء يُفتون بالندب والكراهة ، فيعتمدون
على الخبر الضعيف وفتوى
__________________
الفقيه الواحد
والشهرة المجردة.
وحاصل النظرية : انّ هذه الأخبار بصدد
إعطاء الحجّية للخبر الضعيف في مجال خاص ، ويكون الفعل مستحباً بالذات.
يلاحظ
عليه : أنّ لسان الحجّية هو إلغاء احتمال
الخلاف والبناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع كما في قوله : « ما أدّيا عنّي
فعني يؤدّيان » لا احتمال عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما يحكي عنه قوله : وإن كان
رسول اللّه لم يقله ، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجّية ولا يصلح لها.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار تلك
النظرية ، وكلامه مؤلف من أمرين :
١. الردّ على استدلال الشيخ.
٢. استظهاره مختاره من صحيحة هشام بن
سالم.
أمّا الأوّل ، فقال في بيانه : إنّ كون
العمل متفرعاً على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب
إنّما يكون مترتباً عليه فيما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به وبعنوان الاحتياط ،
بداهة انّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذلك الوجه.
وحاصله : انّ الإتيان لغاية طلب قول
النبي أو الثواب الموعود فيه قيد تعليلي لا تقييدي ، فليس المأتي مقيداً به ، حتى
يكون الثواب على الفعل المقيد به.
يلاحظ
عليه : أنّ الجهات التعليلية في الأحكام
جهات تقييدية لبّاً فلو قال : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » يكون الموضوع لبّاً هو
الخمر المسكر ، ولو قال : « أكرم زيداً لعلمه » ، يكون الموضوع لبّاً هو زيد
العالم ، ولو فرضنا ظهور الروايات في ترتّب الثواب على العمل لأجل كون الداعي
التماس قول النبي أو إدراك الثواب
__________________
الموعود به ، يكون
الموضوع مركّباً من نفس الفعل والغاية وهو عبارة أُخرى عن كون الثواب مترتّباً على
الانقياد ، لا على نفس العمل مجرّداً عنها.
وأمّا الثاني ، أي كيفية استظهاره من
صحيحة هشام فحاصله : انّ الثواب في صحيحة هشام رتب على نفس العمل حيث قال : كان
أجر ذلك ، فالمشار إليه بلفظة « ذلك » ، هو نفس العمل ، وبما انّ الاستحباب لا
ينفكّ عن المصلحة ، فيكشف عن حدوث مصلحة فيه عند طروء عنوان البلوغ أو السماع
فيصير مستحباً ويترتّب عليه آثاره ويصير نظير قوله : « من سرّح لحيته فله كذا ».
يلاحظ عليه بأمرين :
١. ليس المراد من أجر العمل في الرواية
هو الأجر الواقعي المكتوب على العمل بما هو هو ، وذلك لأنّه كما يحتمل صدقه ،
يحتمل كذبه ، فليس الأجر الواقعي أمراً محرزاً ، بل المراد الأجر الوارد في الخبر
الأعمّ من أن يكون موافقاً للواقع أو لا ، وهذا النوع من الأجر لم يثبت للعمل بما
هو هو ، بل ثبت للعمل في الظرف الذي يأتي به المكلف بنيّة درك الثواب الموعود ،
ومن المعلوم انّ ثبوت هذا النوع من الأجر لا يكشف عن استحباب العمل بما هو هو
وإنّما يكشف إذا ترتّب عليه الثواب في عامّة الظروف لا في ظرف خاص ، وهو خلاف ظاهر
الرواية ، وأقصى ما يستفاد منه هو عدم حرمان العامل من الأجر تفضّلاً منه سبحانه.
٢. ما استظهره إنّما يصحّ لو كان الدليل
منحصراً برواية هشام ، ولكن هناك روايتان عن طريق محمد بن مروان صريحتان في الثواب
لغاية طلب قول النبي ، أو التماس ذلك الثواب ومعه لا يمكن الاعتماد بالظهور
البدائي في صحيحة هشام.
وبذلك يتضح الفرق بين المقام وما ورد من
قوله : من سرح لحيته فله عشر حسنات ، أو من صام نصف شعبان فله كذا. فانّ الثواب في
الموردين ترتّب على نفس العمل ، بخلاف المقام فانّه مترتب على الطاعة الحكمية أي
احتمال الأمر ، وفي مثله لا يكشف الثواب عن وجود الأجر القطعي.
٣. نظرية المحقّق النائيني
إنّ هذه النظرية مبنية على كون الجملة
الخبرية بمعنى الإنشاء ومعنى قوله : « فعمله أو فعله » : هو الأمر بالفعل والعمل
كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، وعلى هذا يصحّ أن
يقال أنّ أخبار من بلغ مسوقة لبيان انّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون
مستحباً فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها أو قبحها
والمقتضية لتفسير أحكامها ، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين
الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله 7
: « أو بلغه شيء من الثواب فعمله » بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية ، هو
انّه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه ، كما يجب العمل عند نذره ، ثمّ استقرب هذا
الوجه قائلاً : إنّ ما عليه المشهور حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة
السنن.
والفرق بين النظريتين الثانية والثالثة
واضح ، حيث إنّ العمل على الأوّل يصير مستحباً ذاتياً ، بخلافه على هذا القول ،
يكون مستحباً عرضيّاً لعروض عنوان البلوغ ، وقد أوضحه بقوله : إنّ الوجه الأوّل
مبني على أن يكون مفاد أخبار من بلغ حجّية قول المبلغ ، وأنّ ما أخبر به هو الواقع
، فيترتب عليه كلّ ما يترتب على الخبر الواحد للشرائط ، ويكون العمل بما هو هو
مستحباً ، وأمّا على هذه النظرية فانّ مفاده مجرّد إعطاء قاعدة كلية وهي : استحباب
العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب ، فيكون مفاد أخبار من بلغ قاعدة فقهية كقاعدة «
لا ضرر » و « لا حرج ».
__________________
وبعبارة أُخرى يكون المستحب هو العمل
بعنوانه الثانوي الطارئ عليه.
وإن شئت قلت : إنّ البلوغ في الأوّل جهة
تعليلية لعروض حكم الاستحباب على العمل دون نظريته ، فهو جهة تقييدية ، وتظهر ثمرة
هذا الاختلاف في الآثار التي تترتب على المستحباب الذاتية دون المستحبات العرضية.
يلاحظ
عليه : أنّ حمل الجمل الاخبارية على الإنشاء
إنّما يصحّ في الواجبات والمستحبات المؤكدة حيث تكون شدّة العلاقة بالمطلوب سبباً
عن الإخبار عن وجوده في الخارج فيخبر عنه ، مكان الانشاء ، وأمّا المقام فليس كلّ
مستحب يبلغ هذه المكانة من الأهمية حتى يصحّ الاخبار عنه.
ثمرات المسألة
تظهر الثمرة في موارد :
١. ترتّب الآثار المترتبة على المستحبات
الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به.
فعندئذ لو ورد خبر غير معتبر بالأمر
بالوضوء في ظرف خاص كدخول المسجد فعلى القول الأوّل ، لا يترتّب عليه إلا الثواب ،
خلافاً للنظريتين الأخيرتين ، فيعامل معه معاملة المستحب فيكون رافعاً للحدث
واقعاً.
يلاحظ
عليه ـ مضافاً إلى أنّ الاستحباب لا يلازم
رفع الحدث كاستحباب الوضوء للحائض عند أوقات الصلاة ـ : أنّه إنّما يتم لو لم يكن
الوضوء مستحباً نفسياً ، كما هو ظاهر عدّة من الروايات ؛ روى المفضل بن عمر ، عن
أبي عبد اللّه 7
قال : « من جدّد وضوءه لغير حدث ، جدّد اللّه توبته من غير استغفار »
__________________
فاستحباب الوضوء
ثابت مطلقاً ، سواء كان هنا إخبار « من بلغ » أو لم يكن ، كان مضمونها ما اختاره
الشيخ أو غيرهما.
٢. لو ورد الأمر باستحباب غسل المسترسل
من اللحية في الوضوء ، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّ يده
، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.
يلاحظ
عليه : أنّ ثبوت استحباب غسل اللحية
المسترسل ، لا يلازم جواز المسح من بلّتها ، لاحتمال اختصاص الأخذ بالأجزاء
الأصلية.
٣. تظهر الثمرة بين نظرية المحقّق
الخراساني ، والمحقّق النائيني فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب شيء ، وورد خبر
ثقة على نفيه ، فعلى القول بأنّ هذين الخبرين بصدد جعل الحجّية للخبر الضعيف يقع
التعارض بين الخبرين ويقع التعارض بين الحجّتين ، وأمّا إذا قلنا بأنّهما بصدد
إثبات استحباب واقعي على الفعل بما أنّه ينطبق عليه عنوان البلوغ فلا تعارض بين
الخبرين ، لأنّ الثاني ، ينفي كون العمل مستحبّاً بذاته ونفسه ، والخبر الضعيف لا ينافيه
وإنّما يثبت الاستحباب عليه لأجل انطباق عنوان ثانوي عليه.
وبما انّك عرفت انّ النظرية الأُولى هي
الحقّ ، فلا يصحّ أن يعامل معه معاملة المستحب ، بنحو من الأنحاء لا ذاتياً ولا
عرضياً وبذلك يعلم انّ التعبير بالتسامح في أدلّة السنن ، ليس تعبيراً واقعياً في
مضمون الروايات ، بل الحقّ هو الإخبار عن تفضّله سبحانه بالثواب على العمل بخبر
ورد فيه الثواب سواء أكان واجباً أم مستحباً ، جامعاً للشرائط أو لا.
التنبيه الرابع : في جريان
البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية
قد عرفت أنّ الشبهة الحكمية التحريمية
مجرى للبراءة إنّما الكلام في جريانها في الموضوعية منها ، كما إذا شكّ في كون
مائع خمراً ، فهل يستقل العقل والنقل على البراءة أو لا؟
منشأ الشبهة ما ذكره الشيخ في المسألة
الرابعة من مسائل الشبهة التحريمية حيث قال : وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا
بيان هنا نظراً إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً ، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما
يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية بالعقل ولا يقبح العقاب خصوصاً على تقدير
مصادفة الحرام. ثمّ
أجاب عنه 1 وسيوافيك
توضيحه.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع في
مقامين :
الأوّل : جريان البراءة
العقلية في الشبهات الموضوعية التحريمية
ربما يقال بعدم جريانها فيها ، لأنّ وظيفة الشارع
هو بيان الكبرى والمفروض انّه بيّنها وقال : الخمر حرام ، وليس بيان الصغريات من
وظائفه ، حتى يقال انّ العقاب على الفرد المشكوك من الخمر غير مبيّن فيكون العقاب
عليه قبيحاً ، لما عرفت من أنّ وظيفته هو بيان الأحكام الكلية لا بيان الصغريات ،
وعندئذ يأتي ما ذكره الشيخ من لزوم الاجتناب من باب المقدمة العلمية.
يلاحظ
عليه : أنّ البحث ليس مركّزاً على لفظ
البيان حتى يقال انّ بيان الموضوع ليس من وظائفه بل هو مركّز على العقاب بلا حجّة
، وهي تتشكل من
__________________
صغرى وكبرى ، ولا
يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجرّدة ما لم ينضمّ إليها العلم بالصغرى والمفروض انّها
غير معلومة.
وعلى ضوء ما ذكر فتجري البراءة العقلية
بشرط تقريرها على النحو الذي عرفت.
الثاني : في جريان البراءة
الشرعية
أمّا البراءة الشرعية ، فقد فصّل
المحقّق الخراساني ، بين كون النهي عن الشيء ، بصورة العام الأفرادي ، وكونه بصورة
العام المجموعيّ ، فتجري البراءة في الأُولى دون الثانية ، والمراد من الأوّل أن
يكون كلّ عدم من اعدام الطبيعة مطلوباً مستقلاً بحيث يكون لكلّ عصيان وامتثال ،
فمرجع الشكّ في فردية الشيء للطبيعة ، إلى الشكّ في تعلّق حكم تحريمي بهذا الفرد
وعدمه ، فيكون من قبيل الشبهة البدوية فتجري فيه البراءة ، بخلاف الثاني ، فانّ
هناك حكماً واحداً متعلّقاً بمجموع الاعدام والترك ، بحيث يكون ترك كلّ فرد جزء من
المطلوب على نحو التركيب.
يلاحظ
عليه : أنّه تجري البراءة حتى على النحو
الثاني ، لأنّ مرجع الشكّ فيه إلى الأقل والأكثر الارتباطيّين حيث يتردّد الجزء
المأخوذ في ناحية متعلّق النهي بين الأقل ـ لو لم يكن هذا الفرد خمراً ـ والأكثر ـ
إذا كان خمراً ـ وفي مثله يكون المرجع إلى البراءة ، حيث إنّ مرجع الشك في كونه
مصداقاً أولا ، إلى انبساط النهي إليه وعدمه.
وعلى ما ذكرنا تجري البراءة في كلتا
الصورتين.
نعم لا تجري في الصورتين التاليتين :
١. إذا كان المطلوب عدماً بسيطاً
متحصلاً من تلك الاعدام بحيث يكون
الأوّل المحصَّل (
بالفتح ) مغائراً مع الثاني تحقّقاً ، لا مفهوماً فقط ، نظير الطهارة النفسانية
الحاصلة من الغسلات والمسحات ، وهذا ما يسمّى بالشكّ في المحصِّل ، فلو صحّت
الشبهة التي نقلناها في أوّل التنبيه فإنّما تصحّ في هذه الصورة.
٢. أن يتعلّق النهي بالشيء على وجه يكون
ناعتاً ، فيكون الواجب كون الإنسان موصوفاً بأنّه « لا شارب الخمر » ففي هذه
الصورة « يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك ليحرز كونه لا شارب الخمر ».
وبذلك يعلم ضعف الشبهة التي ذكرنا في
أوّل التنبيه من حيث المقدمة العلمية ، فانّها لو صحّت فإنّما تصحّ في هاتين
الصورتين الأخيرتين ، لا الأُوليين فانّ الواجب في الأخيرتين ، أمر بسيط وترك
الفرد مقدمة له ، فلا يعلم بحصول الواجب إلا بترك الفرد المشكوك مقدمة ، وأمّا في
الأُوليين فليس هناك مقدمة وذوها ، بل المكلّف به عبارة عن العام الأفرادي أو
العام ذي الأجزاء ، وبما انّ التكليف ينحلُّ إلى الأفراد والأجزاء ، فالشكّ في
الفرد ، شكّ في تعلّق الحكم المستقل به ، في العام الافرادي ، أو في انبساط الحكم
المتعلّق بسائر التروك ، إلى ترك هذا الفرد أيضاً كما في العام المجموعي.
وأمّا ما إفاده الشيخ 1 من أنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة
الأفراد المعلومة تفصيلاً أو إجمالاً. وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم
إجمالي فلم يظهر من النهي تحريمه وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم بحسن العقاب
عليه وإن كان
صحيحاً لكنّه ليس بقالع للشبهة لأنّ القائل بالاحتياط لا يقول بأنّ الاجتناب عن
المشكوك مقدمة للاجتناب عن الفرد المحرّم القطعي ، بل يقول : إنّ الاجتناب عنه
مقدمة للاجتناب عن امتثال الحكم الكلي القطعي أعني لا تشرب
__________________
الخمر الذي لا يحصل
العلم بامتثاله ، إلا باجتناب الفرد.
والأولى الإجابة ، بما ذكرنا من حديث
الانحلال.
ومع ذلك كلّه فلا نقول بجريان البراءة
في مطلق الشبهة الموضوعية ، بل في كلّ مورد يسهل العلم بالواقع ، فالحقّ عندئذ
وجوب الفحص والتوقف عن إجراء البراءة كالمائع المردّد بين الخمر والخل الذي يسهل
تحصيل العلم بالشم والرؤية ، ولذلك أفتى المشهور بوجوب الفحص في موارد من الشبهة
الموضوعية ، كبلوغ المال الزكوي حدَّ النصاب أو لا ، أو حصول الاستطاعة للكاسب أو
لا.
التنبيه الخامس : في تحديد
رجحان الاحتياط
قد تقدم من المحقّق الخراساني في
التنبيه الثاني حسن الاحتياط عقلاً وشرعاً ، والكلام في المقام في تحديد حسنه ،
وفي المقام أمران :
١. حسن الاحتياط مطلقاً
أ : كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو
الحرمة أو أمارة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام ، أو لم يكن.
ب : كان من الأُمور المهمة كالدماء أو
لا.
ج : كان احتمال التكليف قوياً أو
ضعيفاً.
الاحتياط في هذه الموارد المتقدمة حسن
بلا إشكال.
٢. في تحديد حسن الاحتياط
قد حدّد الشيخ حسن الاحتياط بأن لا
ينتهي إلى إخلال النظام ، ويحصل هذا بترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً
على بعض :
أمّا
الأوّل : كتقديم الاحتياط في الظن على الحرمة
في مورد ، على الاحتياط في
الشكّ في الحرمة في
مورد آخر.
أمّا
الثاني : كتقديم الأهم محتملاً وإن كان أضعف
احتمالاً على غير الأهم محتملاً ، كما في الموارد الثلاثة من الأموال والأعراض
والدماء ، فيقدم الاحتياط فيها على غيرها وإن كان الغير أقوى احتمالاً منهما.
يلاحظ
عليه : أنّ الاحتياط محدد بالأقل من الإخلال
بالنظام إذ يكفي أن ينتهي إلى العسر والحرج خصوصاً على القول بحرمة العمل الحرجي ،
أو أن ينتهي إلى ترك الأهم ، كالاحتياط المستلزم ترك التحصيل أو تشويه سمعة الدين
، أو نفرة الناس عنه إلى غير ذلك من العناوين الثانوية كما لا يخفى.
وربما يستدل على عدم حسن الاحتياط
برواية أبي الجارود حيث سأل أبا جعفر 7
عن الجبن وقال له : أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة فقال 7 : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة
حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل
».
ولكن الاستدلال غير تام إذ الأمر بالأكل
لا يدل على حرمة تركه ، لأنّ الأمر ورد في مقام توهم الحظر بشهادة قوله : « أمن
أجل مكان واحد ، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ ». فلا يدل على وجوب ترك
الاحتياط كما لا يخفى.
__________________
الأصل الثاني :
أصالة التخيير
قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
١. هذا الفصل منعقد لبيان مجرى أصالة
التخيير التي هي من الأُصول الأربعة العامة ولم يخصها الشيخ الأنصاري بفصل خاص ،
مع أنّ الأنسب تخصيص فصل لها مثل أصالة البراءة والاشتغال ، ولعلّ قلّة موارده
دعته إلى ترك عقد الفصل المستقل.
٢. انّ الشيخ بحث في كلّ من البراءة
والاشتغال ، في مطالب ثلاثة ، وجعل منشأ الشكّ في كلّ مطلب أحد أُمور أربعة :
فقدان النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النص ، أو خلط الأُمور الخارجية.
فالمطالب الثلاثة في الشكّ في التكليف
عبارة عن : التحريم المشتبه بغير الوجوب ، أو وجوب مشتبه بغير التحريم ، أو تحريم
مشتبه بالوجوب. فسمّي الأخير بدوران الأمر بين المحذورين.
كما أنّ المطالب الثلاثة في الشكّ في
المكلّف به عبارة عن : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ودورانه بين الواجب
وغير الحرام ، ودورانه بين الواجب والحرام. فسمّي الأخير أيضاً بدوران الأمر بين
المحذورين.
فهنا سؤال يطرح نفسه وهو انّه ما الفرق
بين المطلب الثالث في التكليف ، والمطلب الثالث في الشكّ في المكلّف به؟
والجواب
: إذا كان التكليف واحداً مردداً بين المحذورين ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار
، أو تردد الرجل بين كونه مؤمناً أو محارباً ـ يجب قتله ـ يكون من قبيل دوران
الأمر بين المحذورين من قسم الشكّ في التكليف ; بخلاف ما إذا كان التكليف متعدداً
واشتبه موضوعهما ، كما إذا علم انّ واحدة من الصلاتين واجبة والأُخرى محرمة وتردد
أمرهما بين الظهر والجمعة.
وإن
شئت قلت : إنّ نوع التكليف مجهول في الأوّل دون
الآخر ، فالنوع معلوم وهو انّ هنا واجباً ومحرماً غير انّ الموضوع مردّد بين الجمعة
والظهر ، يجمعها ، عدم إمكان الموافقة القطعية.
٣. إذا كان نوع التكليف مجهولاً ؛ فتارة
يكون المورد من قبيل التوصليات ، كتردد الإنسان بين كونه محقون الدم أو واجب القتل
؛ وأُخرى يكون من قبيل التعبديات ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار ، فلو كانت
حائضاً فالعبادة محرمة توصلية ، وأمّا إذا كانت طاهراً من الحيض ، فالعبادة واجبة
تعبدياً ، فأحد الحكمين على فرض ثبوته تعبدي.
٤. الميزان في جريان أصالة التخيير ـ
كما سيوافيك ـ امتناع الموافقة القطعية سواء كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة
كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وكانت الواقعة واحدة ، كشرب مائع مردّد بين
الحلف على فعله أو تركه في ليلة معينة ؛ أو كانت ممكنة ، كتردده بينهما مع تعدد
الواقعة كلّ ليلة جمعة إلى شهر.
٥. التقسيم الصحيح في بيان مجاري
الأُصول هو ما ذكرنا سابقاً ، من أنّ الشكّ أن يكون فيه اليقين السابق ملحوظاً أو
لا.
والأوّل مورد الاستصحاب. والثاني إمّا
أن يكون الاحتياط بمعنى الموافقة القطعية ممكنة أو لا ؛ والثاني مجرى التخيير ،
والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا يدل
، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني
مورد البراءة.
إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام يقع في
مقامات ثلاثة :
أ : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ
في نوع التكليف التوصلي.
ب : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ
في نوع التكليف التعبدي.
ج : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ
في المكلّف به.
وإليك الكلام في واحد بعد آخر.
المقام الأوّل : إذا كان نوع
التكليف مجهولاً مع كون الحكم توصلياً
إذا دار أمر التكليف بين المحذورين ،
كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان ، أو حرمته. ومنشأ التردد كونه مجهول الهوية
، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً. فعلى الأوّل يحرم قتله ، وعلى الثاني يجب
، لأنّ أمر الحد دائر بين الحرمة والوجوب ولكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب
والحرمة على فرض ثبوته ، توصلّي.
لا شكّ انّ المخالفة والموافقة
القطعيتين غير ممكنة لكن يقع الكلام في كون المقام محكوماً بحكم ظاهريّ أو لا ،
فقد ذكر المحقّق الخراساني وجوهاً خمسة :
١. جريان الأُصول النافية كالبراءة
العقلية والنقلية دون المثبتة كأصالة الإباحة.
٢. وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً وهو
الحرمة.
٣. وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً.
٤. ليس المورد محكوماً بحكم ظاهريّ من
النافي والمثبت ويكفي كون
__________________
الإنسان مخيراً
تكويناً وهو خيرة المحقّق النائيني.
٥. الحكم بالتخيير عقلاً ، مع جريان
الأُصول المثبتة كالإباحة دون النافية على خلاف القول الأوّل وهو مختار المحقّق
الخراساني.
٦. جريان جميع الأُصول النافية دون
المثبتة كأصالة الإباحة وهو المختار ، فلنأخذ كلّ واحد من الأقوال بالبحث.
الأوّل : جريان البراءة
العقلية والشرعية
ذهب هذا القائل إلى أنّ الحكم الظاهري
الذي يجب التعبد به هو البراءة العقلية أوّلاً ، والشرعية ثانياً.
أمّا الأوّل : فلأنّ كلاً من الوجوب
والحرمة مجهولان ، فيقبح المؤاخذة عليهما.
وأمّا الثاني : فلعموم قوله : « رفع عن
أُمّتي ما لا يعلمون » وشموله للمقام.
وقد أورد المحقّق الخراساني على القول
بجريان البراءة العقلية ، بأنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فانّه لا
قصور فيه هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية
كمخالفتها.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد من البيان ، هو ما يكون
باعثاً أو زاجراً ويخرج المكلّف من الحيرة فيجنح إلى الفعل ، أو إلى الترك والخطاب
المردد بين « افعل » و « لا تفعل » فاقد لهذه الخصوصية.
كما أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ
مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان وفي باب دوران الأمر بين المحذورين
يقطع بعدم العقاب ، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجز والتأثير ،
فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم بالنسبة إلى
الحكم الواقعي ، لأنّ العلم الإجمالي في المقام لا يكون منجّزاً له. ولكن هنا
احتمالاً آخر ، وهو احتمال لزوم التعبّد في الظاهر بأحد الحكمين تعييناً أو
تخييراً ، كما اختاره بعضهم ، فالغاية من البراءة العقلية هو رفع هذا الاحتمال ،
ببيان انّ لزوم الأخذ به احتمال لم يقم عليه دليل ، فالعقاب عليه ، عقاب بلا بيان
، وبذلك بان عدم الإشكال في جريان البراءة العقلية.
وقد أورد 1
أيضاً على القول بجريان البراءة الشرعية بأنّ مدركها هو قوله 6 : « رفع عن أُمّتي مالا يعلمون »
والرفع فرع الوضع ، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب
والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ـ لاستلزامه التكليـف بغير المقـدور ـ ولا
على سبيـل التخيير ـ لكونـه تحصيلاً للحاصل ـ ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع
، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعم المقام.
يلاحظ
عليه : أنّ الممتنع هو وضع كلّ في عرض الآخر
، وأمّا وضع كلّ واحد مستقلاً وحده ، بلا نظر إلى وضع الآخر وعدمه ، فأمر ممكن لا
مانع من وضعه كما لا مانع من رفعه ، فيشير المكلّف إلى الوجوب وحده ، ويقول : إنّه
مشكوك وغير معلوم ، فهو مرفوع ومثله الحرمة.
وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف ينظر إلى
الوجوب ويحتمل أن يكون هو الحكم الظاهري الذي يجب الأخذ به ، معيناً أو مخيراً ،
فيرفع ذلك الاحتمال ، فيكون أثر الأصل العقلي أو الشرعي رفع لزوم التعبد بأحد
الحكمين في الظاهر ، فلا قصور في شمول الدليل ، وأمّا مخالفة النتيجة للعلم
الإجمالي بالإلزام ، فسنرجع إليه في المستقبل.
__________________
الثاني : الأخذ بأحدهما
تعييناً
المراد من الأخذ هو الأخذ بجانب الحرمة
قائلاً بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
يلاحظ عليه بأمرين :
١. انّ الضابطة ليست بتامة ، بل ربما
يكون جلب المنفعة أولى من دفع المفسدة ، كنجاة النفس المحترمة إذا استلزمت التصرف
في مال الغير.
٢. انّ القاعدة فيما إذا علم المكلّف
بوجود الملاك في كلا الموردين لا في مثل المقام الذي لم يثبت إلا ملاك واحد في أحد
الطرفين.
وتصور لزوم الأخذ بأحدهما لأجل الموافقة
الالتزامية ، مدفوع بأنّ المراد منها هو لزوم الاعتقاد بما جاء به النبي إجمالاً
أو تفصيلاً ـ إذا علم ـ لا الأخذ بمحتمل التكليف بجد وحماس ، فانّه أشبه بالتشريع.
القول الثالث : الأخذ
بأحدهما تخييراً
وحاصل هذا القول : إنّ الحكم الظاهري
عبارة عن الحكم بالتخيير الشرعي بين الفعل والترك والفرق بين القول الثاني والثالث
واضح بعد اشتراكها في لزوم التعبد بحكم من الحكمين ، غير انّ الأوّل يُلْزم التعبد
بأحدهما معيّناً كالقول بأنّ الفعل حرام مثلاً ، وهذا يلزم التعبد بالتخييري
الشرعي ، وليس له دليل صالح سوى قياس وجود الاحتمالين بالخبرين المتعارضين ، فانّ
المجتهد مخيّر بينهما إمّا من أوّل الأمر ، أو بعد عدم الترجيح المنصوص في أحدهما.
يلاحظ
عليه : أنّه قياس ، لأنّ الحكم بالتخيير
فيما إذا كانت هناك حجّتان متعارضتان لا يكون سبباً للحكم به فيما إذا كان هناك
احتمالان ، ولعلّ لوجود
الخبر تأثيراً في
الحكم بالتخيير وليس في مقام الاحتمال.
ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالاً على
هذا القول ، هذا حاصله :
إنّ التخيير إمّا شرعي واقعي كخصال
الكفارات ، أو شرعي ظاهريّ كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات ، وإمّا عقلي
كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم. والكلّ في المقام منتف.
أمّا الشرعي بكلا قسميه ، فانّ الهدف من
جعل التخيير هو سوق المكلّف إلى المجعول ، ولكنّه في المقام حاصل تكويناً بلا حاجة
إلى جعل التخيير.
وأمّا العقلي فإنّما يجري فيما إذا كان
في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ولم يتمكن المكلّف من الجمع بين الطرفين كما
في موارد التزاحم ، وليس الأمر في المقام كذلك ، لعدم ثبوت الملاك إلا في أحدهما.
فخرج بهذه النتيجة : انّ التخيير في
المقام ، ليس بشرعي ولا عقلي بل تكويني ، حيث إنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك ،
فأصالة التخيير في المقام ساقطة.
يلاحظ
عليه أوّلا : أنّ التخيير
التكويني راجع إلى التخيير في المسألة الفرعية ، فهو مخيّـر بين الفعل والترك
تكويناً ، وأمّا التخيير في المقام فهو تخيير شرعي ظاهري ، غايته ، دعوة المجتهد إلى
الإفتاء بأحد الوجهين.
ومن ذلك يعلم أنّ ما أفاده من أنّ
الغاية من التخيير الشرعي الظاهري هو سوق المكلّف إلى المجعول وهو في المقام حاصل
، ليس بتام بل الغاية منه ، هو دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الخبرين ، كما في
باب التعارض ، أو أحد الاحتمالين كما في المقام وهو غير التخيير التكويني المجرّد
عن الإفتاء بأحد الأمرين.
وبالجملة التخيير التكويني ، تخيير في
المسألة الفرعية ، والتخيير الشرعي
الظاهري ، تخيير في
المسألة الأُصولية.
وثانياً
: أنّ التخيير العقلي ، لا يختص بما إذا كان الملاك موجوداً في كلا الطرفين ، بل
يكفي العلم بوجوده في أحدهما أيضاً كما في الواقف بين الطريقين ، ولا يعلم أنّ
أيّاً منهما موصل إلى المقصد ، فالعقل يحكم بانتخاب واحد منهما ، إذ فيه احتمال
الوصول بنسبة الخمسين بالمائة بخلاف التوقف فانّه غير موصل.
القول الرابع : التخيير
التكويني من دون الالتزام بحكم ظاهري
قد منع المحقّق النائيني من جريان
الأُصول لكن لا بملاك واحد ، بل بملاكات مختلفة فقد عرفت وجه عدم جريان البراءة
العقلية ، والشرعية وأصالة التخيير الشرعية.
لكن بقي الكلام في منعه جريان أصالة
الإباحة ، والاستصحاب. أمّا الأُولى فسيوافيك وجه المنع عند بيان القول الخامس ،
وأمّا الثاني فقد أفاد في وجه منعه انّ الاستصحاب من الأُصول المتكفلة للتنزيل ،
فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي ، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل ،
وعدم حرمته واقعاً كما هو مفاد الاستصحابين ، لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل
أوحرمته سواء لزمت منه المخالفة العملية أو لا.
يلاحظ
عليه : بمثل ما ذكرناه في جريان أصالة
البراءة وحاصله : أنّ كلّ استصحاب بشخصه ، لا يخالف العلم الإجمالي ، وكون نتيجة
الاستصحابين مخالفة مع العلم الإجمالي لا يكون سبباً لعدم إجراء كلّ واحد في
محلّه.
نعم يلزم من جريان الأصلين ، المخالفة
الالتزامية ، وسوف يوافيك الكلام فيه.
القول الخامس : التخيير
العقلي مع جريان أصالة الإباحة
والمدّعى مركّب من جزءين ، واستدل على
الجزء الأوّل بقوله : « لعدم الترجيح بين الفعل والترك فيستقل العقل بينهما » ، وعلى
الثاني بقوله : وشمول مثل قوله : كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، ولا مانع عنه
عقلاً ونقلاً.
وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أصالة
الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفاد أصالة الإباحة ،
الرخصة في الفعل والترك وذلك يُناقِضُ العلم بالإلزام وهو لا يجتمع مع جعل الإباحة
ولو ظاهراً .
الحقّ انّ الإشكال وارد وأمّا الفرق بين
البراءة العقلية والشرعية حيث قلنا بجريانهما وأصالة الإباحة حيث منعنا عن جريانها
فواضح ، ذلك لأنّ كلّ واحد من البراءتين ، لا يخالف العلم الإجمالي بالإلزام
وإنّما المخالف نتيجتهما وهي ليست من مداليل دليل الأصل ، وأمّا أصالة الإباحة فهو
بمضمونها المطابقيّة تضاد الإلزام على وجه الإطلاق فالأصل يدعي عدم الخروج عن حدّ
الاستواء مع انّا نعلم أنّه خرج عنه وحكم عليه بالإلزام.
ومن هنا تبين قوة القول السادس ، وهو
جريان الأُصول الأربعة : البراءتين والتخيير والاستصحاب ، وعدم جريان أصالة
الإباحة.
بقيت هنا أُمور :
١. ما فائدة جريان الأُصول وجعل الحكم
الظاهري مع أنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك.
الجواب : انّ الرجوع إلى الأصل لغاية
احتمال لزوم التعبد بأحدهما المعيّن أو
__________________
أحدهما المخيّر فلا
رافع لهذا الاحتمال إلا الأصل.
٢. انّ الرجوع إلى الأصل في كلا
الجانبين يخالف وجوب الموافقة الالتزامية.
الجواب : انّ الموافقة الالتزامية ترجع
في المقام إلى أحد الأُمور التالية :
أ : الالتزام بما جاء به النبي في مجالي
العقيدة والشريعة ، من فرائض ومندوبات ومحظورات ، ومكروهات ومباحات على ما هو عليه
، وهذا أمر لاسترة في وجوبه ويُعدّ من شرائط الإيمان ، لقوله سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى
يحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
).
ب : لزوم الالتزام بخصوص أحدهما تعييناً
أو تخييراً ، وهذا أمر لا دليل عليه بل يستلزم التشريع المحرم وإدخال ما لم يعلم
من الدين فيه.
ج : الالتزام بالإلزام الجامع بين الفعل
والترك ، فيجب أن يكون مفاد الأصل غير مخالف له. لكن الالتزام أمر محقّق ، ولأجل
ذلك منعنا عن جريان أصالة الإباحة لكونها بالمفهوم المطابقي تضادّ العلم بالإلزام
، وأمّا غيره كأصل البراءة بكلا قسميه أو الاستصحاب ، فكلّ أصل في حدّ نفسه لا
يخالفه.
ولعلّ نظر القائل بمنع جريان البراءة
إلى أنّ كلّ واحد من الأصلين وإن كان مجتمعاً مع الإلزام ، لكن نتيجة الأصلين تضاد
العلم بالإلزام.
والجواب
: ارتفاع التضاد ، باختلاف مرتبة الحكمين ، فانّ مفاد الأصلين هو انّه لم يقم دليل
على واحد من الوجوب والحرمة في الظاهر ، وهو لا يهدف إلى أنّه ليس هنا إلزام في
الواقع ، بل يعترف به ويُضيف بأنّه ليس هنا دليل على تحقق الإلزام في ضمن هذا
الفرد أو ذاك ولا مانع عن كون الفعل محكوماً بالإلزام واقعاً. ولا يكون محكوماً
بأحد الإلزامين ظاهراً.
__________________
٣. هل التخيير بدئي أو
استمراري
قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه إذا دار الأمر
بين المحذورين فالإنسان مخيّر بين الفعل والترك ، مع جريان البراءة من الحكمين
ظاهراً ، فلو كانت الواقعة واحدة فلا موضوع للبحث عن كون التخيير بدئياً أو
استمرارياً ، إنّما الكلام إذا تعدّدت الواقعة ، كما إذا تردد شرب مائع في ليالي
الجمعة إلى شهر بين كونه محلوف الفعل أو الترك ، فعلى القول بأنّه بدئي ، ليس له
في الواقعة الثانية اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأُولى ، بخلاف ما لو كان
استمراريّاً. ذهب المحقّق النائيني إلى الثاني واستدل بما هذا حاصله :
إنّ أمره في كلّ ليلة الجمعة دائر بين
المحذورين ، فكون الواقعة ممّا يتكرر لا يوجب خروج المورد عن دوران الأمر بين
المحذورين ، ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضاً إلى بعض ، لأنّ الليالي بقيد الانضمام
لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، فلابدّ من ملاحظتها مستقلة ، ففي كلّ ليلة يدور
الأمر بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري.
يلاحظ
عليه : أنّ المسألة ليست مبنيّة على ضمّ
الليالي بعضها إلى بعض حتى يقال : إنّ كلّ ليلة موضوع بحيالها ، وليس الموضوع
المجموع منها ، بل مبنيّة على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات مثل الدفعيات ،
فلو تردد وجوب شيء في وقت وحرمته في وقت آخر ، تجب عليه الحركة على وفق العلم
الإجمالي ، فلو ترك الفعل في الأوّل وأتى به في الثاني فقد ارتكب المبغوض القطعي
للمولى ، ومثله المقام ، فلو اختار في الواقعة الثانية خلاف الأُولى علم انّه
ارتكب المبغوض إمّا في الواقعة الأُولى أو الثانية ، والعقل كما يستقل بقبح ارتكاب
المبغوض دفعة كذلك يحكم بقبحه تدريجاً.
__________________
٤. في تقديم محتمل الأهمية
إذا قلنا بالتخيير فهل يستقل العقل به
مطلقاً ، سواء كان أحدهما أقوى احتمالاً ، كما إذا كان الوجوب أقوى احتمالاً من
الحرمة ، أو أقوى محتملاً ، كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية على فرض كونه
مطابقاً للواقع من متعلّق الحرمة كما إذا دار أمر شخص بين كونه محقون الدم أو
مهدوره أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني ، واستدل عليه بوجهين :
الأوّل
: انّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه هو التعيين
، لأنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على
التعيين ومع إجماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.
وأورد عليه سيّدنا الأُستاذ 1 : بأنّه إذا جرت البراءة في أصل
التكليف ، فخصوصيته أولى بأن يكون مجرىً لها.
يلاحظ
عليه : أنّ البحث على أساس أن يكون الحكم
الظاهري هو التخيير لا البراءة ، وعليه لا يستقل به عند إجمال المزية احتمالاً أو
محتملاً.
الثاني
: قياس المقام بالمتزاحمين ، فكما لا يستقل العقل بالتخيير إذا احتمل في أحد
المتزاحمين الأهمية كاحتمال كونه إماماً فهكذا في المقام.
وأورد عليه صاحب المصباح بالفرق بين
المقامين ، بأنّ الأهمية المحتملة في المقام تقديريّة إذ لم يثبت أحد الحكمين
بخصوصه ، إنّما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة ، غاية الأمر أنّه لو كان الإلزام
في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهميته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت
الحكم في كلا الطرفين ، وإنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز وعدم قدرة
المكلّف على الجمع بينهما.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره لا يتجاوز عن بيان الفرق
بين المسألتين وهو غير منكر ، وأمّا انّه يجب مراعاة احتمال المزية في المتزاحمين
دون المقام فلم يُبيِّن وجهه ، والحقّ انّ العقل لا يستقل بالتساوي إذا كان أحد
الطرفين أقوى احتمالاً أو محتملاً.
وإن شئت قلت : كما لا يحكم العقل بتساوي
المرجوح القطعي مع الراجح القطعي كذلك لا يحكم بتساوي المرجوح احتمالاً مع الراجح
احتمالاً ، من غير فرق بين أن يكون الحكم ثابتاً والأهمية محتملة ، أو يكون كلاهما
محتملين ، غاية الأمر على فرض ثبوت الحكم فأهميته محتملة.
المقام الثاني : في دوارن
الأمر بين المحذورين في التعبديات
كان الكلام في المقام الأوّل في دوران
الأمر بين المحذورين مع كون الحكمين توصليين ، وقد عرفت الأقوال وجريان الأُصول
سوى الإباحة ، وأمّا إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديين كصلاة المرأة في أيام
الاستظهار ، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة ، حرمة توصلية وأمّا إذا كانت طاهراً
وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً ، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ محل الأقوال السابقة ما لو
كان كلّ من الوجوب والحرمة توصليين بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، وأمّا لو كانا
تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف وكان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال
في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة لأنّه مستلزم للمخالفة القطعية.
توضيح
ذلك : كان الكلام فيما سبق منصبّاً فيما لو
كانت الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ممتنعة ، وأمّا المقام فالموافقة القطعية
وإن كانت ممتنعة ، لكن المخالفة القطعية ممكنة ، فلو صلّت بلا نيّة القربة فقد أتت
المبغوض ، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة ، ولو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام
بناء على أنّ صورة
العبادة محرمة عليها
أيضاً.
أقول
: ما ذكره إنّما يمنع عن جريان الأُصول ، ولكن لا يمنع من جريان أصل التخيير فهو
كالصورة السابقة مخير بين الأمرين إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها
أصلاً ، والميزان في جريانها هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة
القطعية أو لا.
المقام الثالث : أصالة
التخيير في الشكّ في المكلّف به
إنّ أصالة التخيير لا تختص بصورة الشكّ
في التكليف ، بل تعمه والشكّ في المكلّف به ، لأنّ الملاك هو دوران الأمر بين
المحذورين وعدم إمكان الموافقة القطعية ، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما مرّ في
المقام الثاني أو لم يمكن ، وبذلك تقف على أنّ أصل التخيير كما يجري في الشكّ في
التكليف ، كما إذا كان نوع التكليف مجهولاً ، كذلك يجري في الشكّ في المكلّف به ،
كما فيما إذا كان نوع التكليف معلوماً لكن كانت الموافقة القطعية غير ممكنة ،
وإليك بعض الأمثلة :
١. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر
حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين فعل أحدهما وترك الآخر ،
لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما ، إذ تلزم
فيه المخالفة القطعية.
٢. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في
زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما ، كما إذا حلف بالإفطار في
يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم ،
والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.
٣. نعم لا يجري أصل التخيير فيما إذا
دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ الموافقة القطعية
بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير
ممكنة لكنّها ممكنة
بإقامة صلاتين في إحداهما.
وقد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة
التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا المورد.
تمّ الكلام في أصالة التخيير
الأصل الثالث :
أصالة الاحتياط
وقبل الدخول في المقصود نذكر أُموراً :
الأمر
الأوّل : انّ حصر الأُصول العملية العامّة في
الأربعة ، استقرائي ، وحصر مجاريها في الأربعة عقلي ، لكن اختلفت كلمة الشيخ في
بيان المجاري ، فقرّره في أوّل رسالة القطع بوجهين مختلفين ، كما قرره في أوّل
رسالة البراءة بوجه ثالث ، فلأجل دراسة الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في
المكلّف به ، نأتي بالبيانين الواردين في أوّل رسالة القطع ثمّ نذكر فيها البيان
الثالث قال 1 :
انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة
السابقة أو لا ، وعلى الثاني ، إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن
يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى
التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط.
ففي هذا التعريف عدّ مجرى التخيير
قسيماً لمجرى الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، فمورده ، دوران الأمر بين
المحذورين الذي تمتنع فيه الموافقة القطعية ، فهو ليس من قبيل الشكّ في التكليف
ولا في الشكّ في المكلّف به.
بخلاف التعريف الثاني ، فانّه جعل مجرى
الاحتياط من أقسام مجرى الشكّ في المكلّف به ، وقسمه إلى ما لا يمكن الاحتياط فيه
، وما يمكن ، والأوّل مجرى
التخيير ، والثاني
مجرى الاحتياط ، قال :
وبعبارة أُخرى : الشكّ إمّا أن تلاحظ
فيه الحالة السابقة أو لا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الشكّ
في التكليف أو لا ، فالأوّل مجرى البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ،
والأوّل مجرى الاحتياط والثاني التخيير.
الأمر
الثاني : المراد من التكليف أحد التكاليف
الخمسة المعروفة من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ، والإباحة بالمعنى الأخص
، أي ما فيه اقتضاء التساوي.
وعلى ذلك فكون المورد من قبيل الشكّ في
التكليف عبارة عن كون النوع مجهولاً ، سواء كان الجنس أيضاً مجهولاً ، كشرب التتن
حيث إنّ النوع والجنس ( الجواز والمنع ) مجهولان ، أو كان الجنس معلوماً والنوع
مجهولاً كما في دوران الأمر بين المحذورين والعلم إجمالاً بكون الشيء إمّا حراماً
أو واجباً.
كما أنّ المراد من الشكّ في المكلّف به
هو كون التكليف بنوعه معلوماً ، وإنّما الشكّ في المتعلّق ، كتردد الواجب بين
الطهر والحرام ، والخمر بين الإناءين.
إذا علمت ذلك فاعلم انّه يرد على
البيانين الماضيين إشكالان :
الإشكال الأوّل
انّ حصيلة كلا التعريفين : انّ الشكّ في
التكليف مجرى للبراءة مع أنّه ربّما يكون المورد من قبيل الشك في التكليف ولكن
تكون الوظيفة الاحتياط كما في الموارد الثلاثة التالية :
١. الشبهة التكليفية قبل الفحص.
٢. الشبهة البدوية ولكن كان للمحتمل
أهمية بالغة ، كما في الدماء والأعراض والأموال.
٣. إذا دار الأمر بين وجوب فعل ، وترك
فعل آخر ، فانّه من نوع الشكّ في التكليف لعدم العلم بنوع التكليف لكن يجب
الاحتياط.
ويمكن الذبُّ عن الأوّل : بأنّ الفحص
ليس من شرائط العمل بالأصل ، بل من شرائط جريانه ، فلا يجري الأصل قبل الفحص.
وعن الثاني : بأنّ مقتضى القاعدة هو
البراءة ، ولكن دلّ الدليل الثانوي على الاحتياط ، من الإجماع ، أو ما ذكرناه
سابقاً من أنّه إذا كان الحرمة أو الفساد هو مقتضى طبع الموضوع ، فلا تجري فيه
البراءة ولا أصالة الصحة.
نعم النقض الثالث باق بحاله حيث يجب
الاحتياط مع كونه من قبيل الشكّ في التكليف على تفسير الشيخ ، وإرجاعه إلى الشكّ
في المكلّف به بأنّه عالم إمّا بوجوب فعل هذا أو ترك ذاك ، تكلّف واضح.
الإشكال الثاني
إذا كان الملاك في الشكّ في التكليف هو
عدم العلم بالنوع ، وفي الشكّ في المكلّف به هو العلم به ، يلزم أن يكون مجرى
التخيير داخلاً في الشكّ في التكليف ، مع أنّه جعله قسيماً لمجرى البراءة في
التعريف الأوّل ، وقسماً من الشكّ في المكلّف به في التعريف الثاني ، وهذا إشكال
لا يمكن الذبّ عنه.
البيان الثالث
جعل الشيخ ملاك البراءة والاحتياط كون
الشكّ في التكليف ، والشكّ في المكلّف به ، وفسر التكليف بالعلم بالنوع توجه إليه
هذان الإشكالان ، ولكنّه 1
أتى ببيان آخر في أوّل أصالة البراءة هو أتقن من ذينك البيانين إذ لم يعتمد فيه لا
على عنوان الشكّ في التكليف ولا على الشكّ في المكلّف به ، بل بقيام الدليل على
العقاب وعدمه ، وقال : إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو
لا سواء لم يكن يقين
سابق أو كان ولم يكن ملحوظاً ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون
الاحتياط ممكناً أو لا ، والثاني مجرى التخيير. والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو
نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع ، وإمّا أن لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ،
والثاني مورد البراءة.
وهذا البيان يشارك البيان الأوّل في
بيان مجرى الأصلين : الاستصحاب والتخيير ، لكن يفارقه في بيان الأصلين في الأخيرين
، البراءة والاشتغال ، فالملاك على هذا البيان هو قيام الدليل على العقاب وعدمه ،
من غير فرق بين الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، فإن قام الدليل على العقاب لزم الاحتياط.
وإن كان الشكّ في التكليف كما في الموارد الثلاثة التي أوردناها نقضاً على
البيانين ، وإن لم يدل جرت البراءة وإن كان الشكّ في المكلّف به كما في موارد
الشبهة غير المحصورة.
وبذلك ظهر أمران :
١. انّ لأصل التخيير مجرى مستقلاً.
٢. انّ الميزان في الاشتغال والبراءة
قيام الدليل على العقاب وعدمه.
الأمر الثالث : انّ المطالب المبحوث
عنها في الشكّ في المكلّف به ، كالشكّ في التكليف ثلاثة ، والفرق ، انّ الاشتباه
كان هناك في الحكم وهنا في المكلّف به وهي عبارة :
١. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله
الأربع.
٢. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله
الأربع.
٣. اشتباه الواجب بالحرام بمسائله
الأربع.
وأمّا المطلب الثالث فقد عرفت انّه مجرى
التخيير ، فينحصر البحث في الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية.
الكلام في الشبهة التحريمية
من الشكّ في المكلّف به
إذا اشتبه الحرام بغير الواجب ومسائلها
أربع ، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، أو خلط
الأُمور الخارجية ، ولما لم يكن للمسائل الثلاث الأُولى ، تطبيقات كثيرة في الفقه
، انصبّ البحث في هذا المطلب على الشبهة الموضوعية ، كما إذا دار أمر المائع النجس
بين إناءين مشتبهين ، وهو ينقسم إلى محصورة ، وغير محصورة ، فلنتاول الأُولى
بالبحث.
حكم الشبهة التحريمية
المحصورة
اختلفت أنظارهم في حكم الشبهة التحريمية
المحصورة إلى أقوال :
١. حرمة المخالفة القطعية ، ووجوب
الموافقة القطعية ، وهذا هو المشهور بين الأُصوليين.
٢. التفصيل بين المخالفة القطعية
والموافقة القطعية ، فتحرم الأُولى دون الثانية ، وهو المنسوب إلى المحقّق القمي 1.
٣. جواز المخالفة القطعية ، فضلاً عن
الاحتمالية ، وهو المنسوب إلى العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه.
ومنشأ الأقوال الثلاثة هو اختلاف
أنظارهم في مدى تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأمرين.
فمن قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى
المخالفة القطعية والاحتمالية ، ولذلك اختار القول الأوّل.
إلى آخر قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة
إلى المخالفة القطعية فلا تجوز ، ومقتض بالنسبة إلى المخالفة الاحتمالية فلا تجوز
الأُولى دون الثانية ، وللشارع جعل حكم ظاهري مؤد إلى المخالفة الاحتمالية.
إلى ثالث بأنّه مقتض بالنسبة إلى كلتا
المخالفتين ، فيجوز للشارع جعل حكم ظاهري مؤدّ إلى كلتيهما. وعلى هذه المباني تدور
الأقوال الثلاثة.
وعلى كلّ تقدير يقع الكلام في مقامين.
المقام الأوّل : إمكان جعل
الترخيص ثبوتاً
إنّ المحقّق الخراساني قد قسّم متعلّق
العلم إلى قسمين ، لا يجوز في أحدهما جعل الترخيص عقلاً بخلاف الآخر ، فقال ما هذا
حاصله :
إنّ التكليف المعلوم إجمالاً على قسمين
:
١. ما كان التكليف فعلياً من جميع
الأبواب بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامة للبعث أو الترك الفعليّين مع ما هو
من الإجمال والتردّد كقتل المؤمن وإراقة دمه بلا وجه ، فلا محيص عن تنجزه وصحّة
العقوبة على مخالفته ، وحينئذ لا تشمل أدلّة الأُصول أطراف مثل هذا العلم ،
لاستلزامه التناقض بين التشريعين.
٢. ما كان فعليّاً من سائر الجهات ، ولا
يكون فعليّاً مطلقاً إلا إذا تعلّقبهالعلم التفصيلي ، بحيث لو علم تفصيلاً لوجب
امتثاله وصحّ العقابعلى مخالفته ، ففي هذه الصورة لم يكن هناك مانع عقلاً ولا
شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعية للأطراف ، نظير الأموال المخلوطة بالرباء ،
أو إبل
__________________
الصدقة المخلوطة بالحرام ، فلا يحرم شيء من تلك
إلا إذا علم تفصيلاً انّه ربا أو انّه مال الغير ، كما وردت في الروايات.
يلاحظ
عليه : أنّ الصورة الأُولى خارجة عن محطّ
البحث ، بشهادة أنّ الاحتمال فيه أيضاً منجّز فضلاً عن العلمين التفصيلي أو
الإجمالي ، وينحصر الكلام في الصورة الثانية.
بيانه انّه إذا دلّ دليل قطعي على أصل
الحكم ، دون حكم صوره ، وإنّما دلّ على حكمها إطلاق الدليل الشامل للمعلوم تفصيلاً
والمعلوم إجمالاً والمشكوك وجوداً ، مثل قوله : « اجتنب عن الخمر » فانّ أصل الحكم
ثابت بالدليل القطعي ، لكن حرمته في عامة الصور إنّما يثبت بإطلاق الدليل ، فلا
شكّ في إمكان تقييد الدليل ، بصورة العلم التفصيلي ، وإخراج صورة العلم الإجمالي
بالموضوع عن تحته ، كإخراج صورة الشكّ عنه في وجود الموضوع ، فهذا أمر ممكن فيجوز
تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال ، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر
بصورة العلم التفصيلي.
ويمكن استظهار كون الأحكام من قبيل
القسم الثاني ، من كونها محدّدة بعدم طروء عناوين ثانوية ، كالضرر ، والعسر ،
والحرج ، والاضطرار ، والإكراه والتقية ، وعدم الابتلاء بالأهم ، إلى غير ذلك من
العناوين الثانوية ، التي تكون مانعة عن تنجز الأحكام الواقعية ، فلو كانت الأحكام
منجزة على كلّ تقدير فما معنى تحديدها بهذه الحدود.
نعم انّ هنا أُموراً ربّما يتخيل أنّها
من جعل الترخيص حتى في القسم الثاني من الأحكام ، وقد أشار إليها الشيخ الأنصاري ،
ونحن نأتي بها على وجه التفصيل حتى يتبين عدم كونها مانعاً عقلياً من إمكان
الترخيص.
__________________
أ. جعل الترخيص ، ترخيص في
المعصية
إنّ جعل الترخيص في بعض الأطراف أو
جميعها ، ترخيص في المعصية الاحتمالية أو القطعية.
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكر إنّما يجري في الحكم
المنجّز على كلّ حال ، دون المنجز بشرط تعلّق العلم التفصيلي. وبعبارة أُخرى :
إنّما يتوجه إلى الحكم المعلوم بالوجدان ، لا المعلوم بالإطلاق ، فالترخيص في صورة
العلم الإجمالي كالترخيص في صورة الشك ، كاشف عن رفع اليد عن الحكم الواقعي على
فرض وجوده ، نظير ارتفاعه في مورد الحرج والضرر وسائر العناوين الثانوية.
ب. جعل الترخيص ، تصويب
إنّ جعل الترخيص لبعض الأطراف أو كلّها
، يرجع إلى تحليل الخمر في حقّ العالم به إجمالاً ، وهو يساوي مع نفي وجود حكم
مشترك بين المكلّفين.
يلاحظ
عليه : بما مرّ في الجمع بين الأحكام
الواقعية ، وما قامت عليه الأمارات والأُصول التي ربما تتخلف عن الواقع ، فانّ
الأمر بالعمل بها ، يلازم رفع اليد عن الواقع فعلاً ، مع التحفظ عليه إنشاء.
ج. جعل الترخيص إلقاء في
المفسدة
إنّ جعل الترخيص ، إلقاء في المفسدة
القطعية أو المفسدة الاحتمالية ، وكلاهما قبيح.
يلاحظ
عليه : بما ذكر من باب الجمع بين الأحكام
الواقعية والظاهرية ، وقلنا ربما يكون في الترخيص مصلحة غالبة على مفسدة الواقع.
المقام الثاني : في وقوع
الترخيص
قد عرفت إمكان جعل الترخيص في أطراف
العلم الإجمالي وعدم وجود مانع عقلي ، إنّما الكلام في وقوعه. وقبل الخوض في بيان
مقدار دلالة الأُصول نبيّن ما هو مقتضى الأدلة الاجتهادية حتى يكون هو المتبع عند
عدم الدليل على الخلاف.
لا شكّ انّ مقتضى إطلاق الدليل عدم
الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي. لأنّ إطلاق قوله : « اجتنب عن الخمر »
يشمل الأفراد الثلاثة : المعلوم تفصيلاً ، وإجمالاً ، والمصداق الواقعي المشكوك في
الظاهر ، لكن دلّ الدليل على وجوب الاجتناب في الصورة الثالثة ، بقي القسمان تحته
، وإلى ذلك يشير شيخنا الأعظم بقوله : بوجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنه ،
فقال :
أمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم
ذلك العنوان المشتبه ، فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » يشمل الخمر الموجود
المعلوم المشتبه بين الإناءين ، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً ، وأمّا
عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان
الحرام المشتبه في أمرين أو أُمور.
إذا عرفت مقتضى الدليل الاجتهادي فلنبحث
في وقوع الترخيص في أحد الطرفين أو كليهما في الشرع.
١. الترخيص بالاستصحاب
ذهب الشيخ الأعظم إلى عدم شمول أدلّة
الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي ، وإلا تلزم مناقضة صدرها مع ذيلها ، وقال في
توضيحه ما هذا لفظه : إنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجها عن مدلول
لا تنقض ، لأنّ
قوله : « لا تنقض
اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله » ، يدل على حرمة النقض بالشك ، ووجوب النقض
باليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت
عموم حرمة النقض بالشك ، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد من اليقين في الجملة
الثانية هو اليقين التفصيلي دون الأعم منه ومن الإجمالي ، وذلك لأنّ المتبادر من
حرمة نقض اليقين إلا بيقين آخر مثله
، هو كون اليقين الثاني ناقضاً للأوّل ورافعاً له من رأس واليقين الإجمالي بورود
النجس في أحد الإناءين ليس كذلك ، أي ليس ناقضاً لليقين السابق من رأس ، وذلك لأنّ
اليقين السابق عبارة عن اليقين بطهارة كلّ من الإناءين ، ولا ينقض إلابيقين مثله ،
وهو اليقين بنجاسة كلا الطرفين ، لا اليقين بنجاسة واحد لا بعينه.
وإن شئت قلت : المراد هو رفع اليقين
السابق من أصله ، ولا يرفع اليقينُ الإجمالي ، اليقينَ السابق ، غاية الأمر يحدده
بأحد الإناءين ويضيقه. وهو غير مفاد الذيل.
نعم يمكن أن يقال بانصراف أدلّة
الاستصحاب عن أطراف العلم الإجمالي ، والترخيص ثبوتاً وإن كان ممكناً ، لكن ليس
كلّ ممكن واقعاً ، ومدلولاً للرواية ، بل ترخيص الأطراف بعضاً أو كلاّ ً يحتاج إلى
دليل صريح كما في الحلال المختلط كالربا ، والزكاة المختلطة بالحرام.
وبعبارة أُخرى : أنّ الترخيص في أطرافه
يتلقاه العرف ، ترخيصاً في المعصية وإن لم يكن في الواقع كذلك ولذلك لا تسكن نفسه
إلا بدليل صريح كما سيوافيك.
__________________
٢. الترخيص بالبراءة العقلية
وهل يجوز التمسّك بالبراءة العقلية
والترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي؟ الظاهر لا ، لأنّها مركّبة من صغرى
وكبرى ، فيقال : هذا المورد لم يرد فيه بيان ، وكلّ مورد لم يرد فيه بيان فالعقاب
قبيح ، فينتج هذا المورد العقاب فيه قبيح ، ولكن الصغرى منتفية ، للعلم الوجداني
أو قيام البيّنة على وجود الخمر في البين ، ومع عدم الصغرى كيف يستدل بالكبرى
المجرّدة عنها؟
٣. الترخيص بالبراءة الشرعية
إنّ ما يستدل به على البراءة الشرعية
على قسمين ، قسم منه ظاهر في الشبهة البدئية ولا يتبادر منه العموم. وقسم منه ربما
يستظهر منه العموم والشمول لأطراف العلم الإجمالي.
أمّا الأوّل فهي عبارة عن الأحاديث
التالية :
١. حديث الرفع : « رفع عن أُمّتي تسعة
... وما لا يعلمون ».
٢. حديث الحجب : « ما حجب اللّه علمه عن
العباد فهو موضوع عنهم ».
٣. حديث السعة : « الناس في سعة مالا
يعلمون ».
٤. حديث التعريف : « انّ اللّه يحتج على
العباد بما آتاهم وعرفهم ».
٥. حديث الإطلاق : « كلّ شيء مطلق حتى
يرد فيه نهي ».
أمّا عدم اختصاصها بالعلم التفصيلي ،
فلأنّ المراد من العلم ، وهكذا البيان ، والتعريف في الحديث الرابع ، هو الحجّة ،
وهي موجودة بصغراها وكبراها في مورد العلم الإجمالي.
وأمّا الرواية الخامسة ، فالغاية حصلت
حيث علم المكلّف بورود النهي ، وإن كان متعلّقه مردّداً بين المصداقين ; ولا دليل
على تفسيره بالورود على الموضوع المشخص.
ثمّ إنّ هنا نكتة : وهي إنّا وإن أثبتنا
إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بتقسيم الأحكام إلى قسمين ، لكن العرف
يتلقى الترخيص فيه ، ترخيصاً في المعصية ، ولا يقتنع بتلك الإطلاقات ـ لو ثبت
إطلاقها ـ بل يراها منصرفة عن مورده ، إلا أن يرد نصّ في المورد كما ورد في باب
الربا ، وغيره.
وأمّا القسم الثاني الذي ربما يستظهر
منه العموم والشمول لأطراف العلم الإجمالي فليس إلاحديثان :
١. « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه
حرام بعينه ».
وجه الاستدلال : انّ في قوله : « بعينه
» احتمالين :
أ. انّه تأكيد للفعل وقوله : « بعينه »
بمعنى جزماً لا تخميناً ، فيكون معناه « أي حتى تعلم جزماً ، لا ظناً انّه حرام ».
والغاية بهذا المعنى حاصلة في مورد العلم الإجماليّ.
ب. انّه تأكيد للضمير المنصوب في « انّه
» وقوله : « بعينه » بمعنى « بشخصه » فيكون المعنى « أي حتى تعلم انّه بشخصه ،
حرام في مقابل المردد ».
والأوّل خيرة السيد الأُستاذ 1. والظاهر هو الثاني ، ويؤيده ما ورد في
اشتراء إبل الصدقة المخلوطة مع الحرام ، روى أبو عبيدة ، عن أبي جعفر 7 قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من
السلطان إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي
يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل إلا
__________________
مثل الحنطة والشعير
وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ». ومثله
غيره.
وعلى ضوء ما ذكرنا تصلح الرواية في بادئ
الأمر للاستدلال في المقام.
يلاحظ عليه بوجهين :
أوّلاً
: أنّه ليس حديثاً مستقلاً وإنّما هو جزء من رواية مسعدة بن صدقة وإن كان الظاهر
من المحقّق الخراساني 1
انّه رواية مستقلة ، والأمثلة الواردة فيها كلّها من قبيل الشبهة البدئية ،
والإمام 7 طبَّقَ
الضابطة عليها فقط وهذا دليل على اختصاصها بها.
وثانياً
: أنّ الحلية في الأمثلة الواردة فيها ليست مستندة إلى الضابطة ، بل إلى قواعد
أُخرى ، قال : « وهذا مثل الثوب يكون عليك وقد اشتريته وهو سرقة. والمملوك عندك
لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خُدِعَ فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو
رضيعتك »
فالحلية في الثوب والعبد المشترى مستندة إلى قاعدة اليد ، وفي المعقودة ، إلى
أصالة الصحّة في العقد ، أو استصحاب عدم تحقّق النسب والرضاع بينهما ؛ وهذا يورث
الضعف في الاستدلال بالرواية ، إلا أن يكون الغرض هو الاستئناس.
ب. روى عبد اللّه بن سنان ، قال : قال
أبو عبد اللّه 7
: « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».
وقد رواها المشايخ الثلاثة بسندهم إلى
عبد اللّه بن سنان والسند صحيح.
وقد ذكرناها عند البحث عن أدلّة البراءة
، وذكرنا الاحتمالات الموجودة فيها ،
__________________
لكن الذي يمكن أن يقال إنّ إجمال الحديث يرتفع
بالرواية الثانية وهي ....
ج. ما رواه عبد اللّه بن سنان ، عن عبد
اللّه بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر 7
عن الجبن ، فقال لي : « لقد سألتني عن طعام يعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهماً ،
فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ثمّ دعا بالغذاء فتغذينا معه فأتى بالجبن فأكل
وأكلنا ، فلما فرغنا من الغذاء ، قلت : ما تقول في الجبن؟ ـ إلى أن قال : ـ «
سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام
بعينه فتدعه ».
والفرق بين الروايتين هو انّ عبد اللّه
بن سنان يروي الأُولى عن الإمام الصادق 7
بلا واسطة ، ولكنّه يروي الثانية بواسطة عبد اللّه بن سليمان ، عن الإمام الباقر 7 فتعدّان روايتين لتعدد الإمام المروي
عنه.
د. نعم ثمة رواية ثالثة رواها معاوية بن
عمار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر 7
فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر 7
: « إنّه لطعام يعجبني ، وسأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو
لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ».
والرواية الثالثة تتحد مع الرواية
الثانية ، والظاهر انّ المراد من قوله فسأله رجل هو عبد اللّه بن سليمان.
هـ. ويظهر من روايـة رابعـة انّ عبد
اللّه بن سنان كان في مجلس الإمام الصادق 7
وسأله رجل عن الجبن ، وهل هو عبد اللّه بن سليمان لروايته عنه أيضاً سواء أكان
المراد هو الصيرفي أو العامري فكأنّه سأل الإمامين عن الجبن ، أو غيرهما وهو أقرب
إذ لا وجه لسؤال شخص واحد الإمامين عن موضوع واحد.
__________________
روى البرقي في المحاسن عن عبد اللّه بن
سنان : سأل رجل أبا عبد اللّه 7
عن الجبن : فقال : « إنّ أكله ليعجبني » ثمّ دعا به فأكله.
فالمجموع من حيث المجموع يرفع الإبهام
عن الرواية الأُولى ، وهي أنّ صناعة الجبن من الميتة أوجد مشكلة في عصر الإمامين
الباقر والصادق 8
، وقد حاولا إزالة الشكوك عن أذهان شيعتهم بجواز الانتفاع مالم يعرف الحرام بعينه.
وعلى ضوء ذلك يكون مورد الضابطة ،
الشبهة المحصورة ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو الجارود ، قال : سألت أبا جعفر 7 عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى
أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع
الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، واللّه
إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يُسمُّون
هذه البربر وهذه السودان ».
وعلى ما ذكرنا يكون المراد من « شيء »
في قوله : « كل شيء » هو الشيء المنتشر في الخارج ، المتكثّر أفراده ومصاديقه ،
فمثله حلال إلى أن يعرف الحرام منه بشخصه.
وبهذا ثبت انّه لم يثبت أيّ ترخيص في
أطراف العلم الإجمالي من الشبهة التحريمية. بقي هنا أمران :
الأوّل
: انّ البحث في جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو إذا كان لدليل
التحريم إطلاق يعمّ الصورتين التفصيلية والإجمالية وأمّا إذا لم يك للدليل إطلاق
فلا موضوع للبحث ، فيجري الأصل بلا معارض ، وعندئذ يطرح في مورد البحث السؤال
التالي :
__________________
إذا ثبت للدليل إطلاق فكيف يمكن تقييد
الدليل الاجتهادي بالأصل العملي؟ وهل هذا عمل بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي؟
يلاحظ
عليه : أنّ التقييد بدليل الأصل لا بنفسه
ومايدلّ على الأصل دليل اجتهادي مثل ما دلّ على حرمة الخمر في كلتا الصورتين ،
فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » دليل اجتهادي ثبتت به حجية الأصل ، فلو ثبت
ترخيص في ناحية المعلوم بالإجمال فإنّما يثبت بدليل اجتهادي لا بالأصل العملي.
الثاني
: انّ العلم الإجمالي في التدريجيات كالعلم الإجمالي في الدفعيات ، فلا فرق عند
العقل بين العلم بربوية أحد البيعين الحاضرين أو بربوية البيع الحاضر أو البيع
الآخر في المستقبل. ولا تضرّاستقبالية الفعل مع كون الحكم فعليّاً لا إنشائياً.
هذا كلّه حول الشبهة المحصورة من
التحريمية. وأمّا حكم الشبهة التحريمية غير المحصورة فيأتي الكلام عنه في ضمن
التنبيهات.
تنبيهات
التنبيه الأوّل : في
الاضطرار إلى أحد الأطراف
إذا طرأ الاضطرار إلى ارتكاب أحد
الأطراف ، فهل يجب الاجتناب عن الطرف الآخر أو الأطراف الأُخر ، أو لا؟ فيه أقوال
: وصور المسألة ست : لأنّ طروء الاضطرار إمّا قبل حدوث العلم الإجمالي ، أو معه ،
أو بعده ، وعلى كلّ تقدير ، فالاضطرار إمّا إلى الطرف المعيّن ، أوإلى واحد لا
بعينه.
أمّا الأقوال فنشير إلى الأقوال
المعروفة وهي ثلاثة :
١. إنّ الاضطرار مانع عن فعلية التكليف
، سواء طرأ قبل العلم أو معه أو بعده ، وكان المضطر إليه واحداً معيناً أو واحداً
لا بعينه ؛ وهذه خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية.
٢. الفرق بين الاضطرار إلى واحد لابعينه
، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر ، وواحد معيّن فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر ،
وهو خيرته في هامش الكفاية.
٣. القول بالاجتناب إذا اضطر إلى واحد
منها لا بعينه مطلقاً ، سواء كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو معه أو بعده ،
وأمّا الاضطرار إلى المعيّن ففيه التفصيل بين طروئه قبل العلم أو معه فلا يجب
الاجتناب عن الآخر ، وطروئه بعده فيجب الاجتناب ، وهو خِيرة الشيخ الأعظم في
الفرائد ، وإليك توضيح الأقوال وبيان مداركها.
أ : عدم وجوب الاجتناب
مطلقاً
ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاضطرار
إلى أحد الأطراف مطلقاً يوجب عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ، وذلك لأنّه كما
يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن ، كذلك يكون مانعاً
لو كان إلى غير معيّن ، ضرورة أنّه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف لو تركه
تعييناً أو تخييراً ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو وجوبه بينها.
ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، وحاصله :
انّ ما ذكرت إنّما يصحّ إذا كان
الاضطرار سابقاً على حدوث العلم أو مقارناً ، فإنّه يمنع عن تعلّق العلم بتكليف
فعلي بأحد الطرفين ، وأمّا إذا كان لاحقاً للعلم المتقدّم فلا ، لأنّ مقتضى وجود
العلم الإجمالي السابق المتعلّق بتكليف فعلي ، هو الاجتناب عن الباقي ، لأنّ
المفروض عند تعلّق العلم الإجمالي بتكليف فعلي للامتثال ، عدم الاضطرار إلى ارتكاب
أحد من الطرفين ، وهو كاف في لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه ، فالاجتناب
من الطرف الآخر من آثار العلم السابق على الاضطرار.
وأجاب
عنه : بأنّ الاضطرار من حدود التكليف ،
والتكليف من أوّل الأمر محدّد بعدم عروض الحرج والضرر ، فعروضه كاشف عن عدم وجود
تكليف فعليّ لازم للامتثال ، وانّ ذاك العلم لم ينعقد منجّزاً ، وإن زعم صاحبه
أنّه منجزٌ لاحتمال أن يكون مورد التكليف هو المضطر إليه ، فيما إذا اضطر إلى
المعيّن ، أو يكون هو المختار إذا اضطر إلى واحد لا بعينه.
ثمّ أورد إشكالاً آخر : بأنّه أيّ فرق
بين عروض الاضطرار ـ بعد العلم بالتكليف ـ إلى أحد الأطراف معيّناً أو غير معين ،
وبين إراقة أحد الأطراف بعد تعلّق العلم الإجمالي؟ إذ يجب الاجتناب عن الطرف
الباقي ، وما هذا إلا
لأنّ الاجتناب عنه
من آثار العلم الإجمالي السابق ، وإن لم يكن موجوداً بالفعل.
ثمّ إنّه أجاب عنه : بوجود الفرق بين
الاضطرار وفقدان الموضوع ، بأنّ الاضطرار من حدود التكليف ، فالتكاليف محدّدة إلى
حدّ الاضطرار ، فإذا طرأ الاضطرار ارتفع التكليف ، وهذا بخلاف وجود الموضوع ، فليس
التكليف محدّداً ومقيّداً به.
هذا توضيح ما ذكره في الكفاية.
يلاحظ عليه :
بأنّ الاضطرار يُطلق ويراد منه : تارة
الاضطرار العقلي الملازم لعجز المكلّف عن القيام بتكليفه ، فهذا ليس من حدود
التكليف ، بل هو من مسوغات التكليف ، إذ لا يصحّ التكليف إلا بعد وجود الأُمور
العامة التي منها القدرة العقلية.
وأُخرى الاضطرار العرفي الملازم للحرج
والتعب ، فهو من حدود التكليف جمعاً بين إطلاق قوله : « إجتنب عن النجس » وقوله :
« رُفع عن أُمّتي ما اضطرّوا إليه » ، لكن التفريقَ بينه وبين فقد المكلّف به ،
بلا وجه ، لأنّه كالاضطرار من حدود التكليف إذ لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى من دون
ضمِّ الصغرى ، ولذلك ، لو فقد بعض الأطراف قبل حدوث العلم الإجمالي ثمّ علم
إجمالاً بأنّ النجس إمّا الإناء المفقود ، أو الإناء الموجود ، لا يؤثر العلم
الإجمالي أبداً.
ب : التفصيل بين الاضطرار
إلى المعيّن والاضطرار إلى واحد لا بعينه.
وقد عدل المحقّق الخراساني في هامش
الكفاية عمّا ذكره فيها ، إلى التفصيل بين الاضطرار إلى إناء معيّن من الإناءين ،
والاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، ففي الأوّل يكون العلم الإجمالي منجزاً بالنسبة
إلى الطرف الآخر دون الثاني فلا يكون منجزاً ، وقد أفاد في وجه التفصيل ما هذا
توضيحه :
لو اضطر إلى أحدهما المعيّن يجب
الاجتناب عن الطرف الآخر ، وذلك لأنّ التكليف فيه محدود بحدّ الاضطرار ، فلو كان
هو المحرّم يكون التكليف فيه محدوداً بحدّ الاضطرار ، لافتراض حصول الاضطرار
بالنسبة إليه ، بخلاف ما إذا كان المحرّم هو الطرف الآخر ، فالتكليف لا يكون فيه
محدوداً بحدّالاضطرار ، بل يبقى التكليف فيه على إطلاقه ، لافتراض عدم الاضطرار
إليه ، والعلم الإجمالي المردّد بين التكليف المحدود الساقط ، والمطلق غير المحدود
الباقي ، يكون منجّزاً ، ويكون أشبه بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ،
فلو علم بوجوب قراءة آية مردّدة بين القصير كقوله سبحانه : ( مدهامتان
) أو الطويلة
كآية الدين ، يكون العلم الإجمالي فيه منجزاً.
وأمّا إذا كان الاضطرار إلى واحد لا
بعينه ، فلا يلزم الاجتناب عن غير المختار أيضاً ، لأنّ الاضطرار يمنع عن فعلية
التكليف في البين ، لما مرّ من أنّ الاضطرار حدّ التكليف ، من غير فرق بين كونه
مضطراً إلى واحد بعينه ، أو إلى أحدهما ، والمفروض صلاحية كلّ إناء ، لرفع
الاضطرار.
يلاحظ
عليه : أنّ الضابطة في تنجّز العلم الإجمالي
هو أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، حتى يحصل العلم بالتكليف القطعي ، وإلا
فلو كان موجباً له على فرض دون فرض ، فلا يكون هناك علم به ، مثلاً إذا دار سقوط
قطرة من الدم بين الماء الكر والقليل ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم
بإحداث التكليف ، وعلى ضوء ذلك ، يجب عليه القول بعدم وجوب الاجتناب إذا اضطر إلى
ارتكاب المعيّن من الإناءين ، والاجتناب إذا اضطر إلى الواحد غير المعيّن ، على
خلاف ما اختاره ، وذلك لأنّه لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن من الإناءين فالعلم
الاجمالي يحدث التكليف على وجه ( إذا كان الحرام في غير الإناء المضطر إليه ) ولا
يحدث على وجه ( إذا كان الحرام في الإناء المعيّـن ) بخلاف ما
إذا كان الاضطرار
إلى واحد منهما ، فيحدث على كلّ تقدير ثبوتاً ، لإمكان معالجة الاضطرار بغير
الحرام.
وبعبارة
أُخرى : إنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي
أن يتعلّق العلم الإجمالي بشيء لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز عليه التكليف
الموجود في البين على كلّ تقدير ، وهذا غير صادق عند الاضطرار إلى واحد معيّن ،
فإنّه لا ينجز إذا كان الحرام في الإناء المعين ، وينجز إذا كان في غيره ، وهذا
بخلاف ما إذا كان الاضطرار إلى واحد لا بعينه ، فالتكليف الموجود في البين منجزاً
ولا يجوز له شرب النجس بحجّة الاضطرار على كلّ تقدير ، إذ في سعة المكلّف معالجة
الاضطرار ، بغير الحرام.
ج : وجوب الاجتناب عند
الاضطرار إلى غير المعيّن ، والتفصيل في المعيّن
ذهب الشيخ الأعظم في الفرائد إلى
التفصيل بين الاضطرار إلى واحد منهما لا بعينه فيجب الاجتناب عن الآخر سواء كان
الاضطرار قبل العلم بالتكليف ، أو معه ، أو بعده ، والاضطرار إلى واحد معيّن ،
ففيه التفصيل بين طروء الاضطرار قبل العلم ، أو معه ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ،
وطروئه بعد العلم فيجب الاجتناب عن الآخر.
فهنا دعويان :
الأُولى
: لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً عند الاضطرار إلى واحد لا بعينه.
الثانية
: التفصيل عند الاضطرار إلى واحد بعينه ، بين عروض الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو
معه ، وبين عروضه بعده ، فلا يجب في الأوّلين دون الثالث.
أمّا الدعوى الأُولى فقال في توضيحها :
إذا كان الاضطرار إلى فرد غير معيّن ،
وجب الاجتناب عن
الباقي ، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه أو بعده ، لأنّ العلم حاصل
بحرمة واحد من الأُمور ، لو علم حرمته تفصيلاً ، وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها
على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.
حاصله
: أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي ، هو أن يتعلّق بشيء لو تعلّق به العلم
التفصيلي لتنجّز عليه التكليف ، ولا يكون الاضطرار مانعاً عن تنجّزه ، وهذا متحقّق
في الاضطرار إلى الواحد لا بعينه ، فهو لا يزاحم تنجّز العلم التفصيلي ، إذ في
وسعه رفع الاضطرار بغيره ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد كاف في منع الاضطرار. هذا
كلّه حول الدعوى الأُولى.
وأمّا الدعوى الثانية فقال في توضيحها :
وأمّا الدعوى الثانية : وهي انّه إذا
اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات معيّناً ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إذا
كان الاضطرار قبل العلم أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن
الحرام الواقعي لاحتمال كون المحرّم هو المضطر إليه.
نعم لو كان الاضطرار بعد العلم فالظاهر
وجوب الاجتناب عن الآخر لأنّ الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب
الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف
بالاجتناب عن بعض الشبهات.
هذه عبارات الشيخ وتوضيحها ، ونزيد
توضيحاً بطرح القواعد الثلاث التي يتميّز بها العلم الإجمالي المنجّز عن غيره ،
وهي قواعد ثلاث ، روحها واحدة وصورها متعدّدة.
الأُولى
: يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ
تقدير ، وإلا فلو
أحدث على تقدير دون تقدير لا يكون منجزاً ، إذ لا يتولد منه علم بالتكليف وإن كان
هناك علم بالموضوع ، فلو دار أمر وقوع الدم بين ماء الكر والماء القليل ، لا يكون
هناك علم بالتكليف وإن كان هناك علم بوجود الموضوع ، ولذلك نقول يجب أن يكون
محدثاً على كلّ تقدير ليتولّد منه العلم التفصيلي بأصل التكليف ، وإن كان المتعلّق
مجملاً.
الثانية
: انّ المنجز من العلم الإجمالي هو الذي لو انقلب إلى العلم التفصيلي لكان منجّزاً
، وأمّا إذا كان التفصيلي منه غير منجّز ومحدث للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي
منجزاً.
الثالثة
: العلم الإجمالي إنما ينجز إذا أحرز عدم التنافي ثبوتاً بين الحكم الواقعي للنجس
وحكم الاضطرار المسوّغ للارتكاب ، فعند ذلك يكون العلم الإجمالي منجزاً لإحراز عدم
التنافي.
وأمّا إذا لم يحرز عدم التنافي فلا
يتولّد من ذلك العلم الإجمالي خطاب صالح للاحتجاج وعندئذ لا يكون منجزاً.
إذا وقفت على تلك القواعد فهلم معي
نطبقه على الصورتين :
الصورة
الأُولى : إذا كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن
، فالقواعد الثلاث منطبقة عليه ، لأنّه يحدث التكليف على كلّ تقدير ثبوتاً ، إذ لو
كان النجس في أيّ طرف يجب عليه الاجتناب عنه ثبوتاً ، ولا يزاحمه الاضطرار لإمكان
رفعه بالماء الآخر.
ولأنّه لو تبدّل العلم الإجمالي إلى
التفصيلي ووقف بأنّ الإناء الواقعي في جانب يمينه هو النجس لكان منجزاً ولا يزاحمه
الاضطرار إذ في وسعه رفعه بالإناء الآخر.
كما لا مزاحمة بين الخطاب بـ « اجتنب عن
النجس » ورفع الاضطرار ثبوتاً ، فالقواعد الثلاث. متفقة على لزوم الاجتناب عن
الطرف غير المضطر إليه.
ربّما يقال : إنّ رفع الاضطرار بالإناء
الطاهر واقعاً يتوقف على العلم بالنجس الواقعي بعينه ، وأمّا إذا كان مجهولاً فلا
يمكن الجمع بين قوله : « اجتنب عن النجس » وقوله : « رفع ما اضطروا إليه » لاحتمال
انطباق ما يختاره على النجس الواقعي ، وحينئذ لا يكون لنا علم بالتكليف على كلّ
تقدير إذا كان الاضطرار متقدّماً على العلم.
يلاحظ
عليه : بأنّ مجرّد الاضطرار إلى الارتكاب ،
ليس سبباً لرفع التكليف مالم ينته إلى العمل ، ولذلك لو ارتفع الاضطرار صدفة بعامل
آخر ، لأثر العلم الإجمالي الحادث بعد الاضطرار.
وعندئذ يكون لنا حكمان فعليّان ، يحكم
العقل بامتثالهما ، وحيث إنّ الامتثال القطعي غير ممكن يحكم بالامتثال الظني ،
والاقتضاء بأحد الإناءين وترك الإناء الآخر.
وأمّا الصورة الثانية ففيما إذا كان
الاضطرار مقدّماً على العلم أو مقارناً معه ، ففيه لا يجب الاجتناب عن الآخر ،
لعدم دخول المورد تحت القواعد الثلاث ، وذلك لأنّه لا يحدث مثل هذا العلم التكليف
على كلّ تقدير ، إذ لو كان النجس في الجانب المعيّن لما وجب عليه الاجتناب ، ومعه
لا يحصل هناك علم بالتكليف مائة بالمائة.
كما أنّه لو انقلب العلم الإجمالي إلى
التفصيلي لا يكون منجزاً مطلقاً ، إذ لو كان النجس في الإناء غير المعيّن يكون
منجزاً ، وأمّا إذا كان في الإناء المعيّـن فمع العلم التفصيلي بأنّه نجس يجوز
ارتكابه للاضطرار.
كما أنّ عدم التنافي غير محرز بين
الحكمين ، إذ لو كان النجس في جانب
الخل فعدم التنافي
محرز ، وأمّا إذا كان في جانب الماء فالتنافي محقق ، ومع الاحتمال لا يكون عدم
التنافي محرزاً.
نعم يستثنى من هذه الصورة ما إذا تقدّم
العلم الإجمالي على الاضطرار وكان الاضطرار طارئاً وحادثاً فلو عالج الاضطرار
بارتكاب الإناء المعيّن يجب عليه الاجتناب عن الإناء الآخر ، وذلك لأنّ التكليف
بالاجتناب عن النجس بعد طروء الاضطرار وإن كان مشكوكاً لكن العلم الإجمالي لما
انعقد مؤثراً ، وحكم العقل قبل الاضطرار بوجوب الاجتناب عن الطرفين تحصيلاً لليقين
، فإذا طرأ الاضطرار لا ترفع اليد عن التنجيز السابق إلا بقدر الضرورة ، فوجوب
الاجتناب ليس من آثار وجود العلم الإجمالي الفعلي بالتكليف بعد الاضطرار ، بل من
آثار وجود العلم الإجمالي السابق للتكليف ، ولذلك لو أهرق أحد الإناءين وجب
الاجتناب عن الإناء الآخر.
التنبيه الثاني : في خروج
بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء
يشترط في صحّة الأمر والنهي كون
المتعلّق أمراً مقدوراً عقلاً ، ويشترط في صحّة النهي كون المنهي عنه مورداً
للابتلاء وواقعاً في متناول المكلّف ، والشرط الأوّل اعتبره الجميع ، وأمّا الشرط
الثاني فقد اشترطه الشيخ الأنصاري وتبعه المحقّقون.
فقالوا : بعدم صحّة النهي التفصيلي فيما
إذا كان المنهي عنه خارجاً عن الابتلاء عادة ، فالإناء النجس إذا كان في البلاد
النائية وكانت الدواعي مصروفة عنه يقبح النهي عن ارتكابه.
فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم
الإجمالي مثله بطريق أولى ، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين ، وكان أحدهما خارجاً عن
محلّ ابتلائه يكون الخطاب
بالاجتناب عمّـا هو
خارج عن محلّ الابتلاء ـ إذا كان نجساً واقعاً ـ قبيحاً ، ويعود الإناء الآخر
مشكوك الحكم من حيث الحرمة فيرجع إلى أصل البراءة.
هذا ما اختاره شيخنا الأنصاري في بداية
البحث.
وأشكل عليه بعض العلماء.
منهم : المحقّق الاصفهاني ، فقال في
تعليقته : إنّ حقيقة التكليف الصادر من المولى المتعلّق بالفعل الاختياري لا يعقل
أن يكون إلا جعل الداعي بالإمكان فيجتمع مع الامتناع بالغير بسبب حصول العلّة
فعلاً أو تركاً من قبل نفس المكلّف.
يلاحظ
عليه : أنّ الإمكان العقلي لا يدفع
الاستهجان العرفي فلو افترضنا صحّة صدور المعصية من العبد ، ولكن دلّت القرائن على
أنّه لا يقع في متناول يده ، فالخطاب بالاجتناب وإن لم يكن قبيحاً عقلاً لكنّه
مستهجن عرفاً.
ومنهم المحقّق الخوئي على ما في مصباح
الأُصول ـ وحاصله ـ : انّ الغرض من الأوامر والنواهي ليس مجرّد تحقّق الفعل والترك
خارجاً ، بل الغرض صدور الفعل استناداً إلى أمر المولى ، وكون الترك مستنداً إلى
نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفساني كما أُشير إليه بقوله تعالى : ( وَما أُمروا
إِلاّ ليعبُدوا اللّه ) ولا فرق في هذه الجهة بين التعبّدي والتوصلي ، لأنّ الغرض
منها هو الاستناد في الأفعال والتروك إلى أمر المولى ونهيه ، بحيث يكون العبد
متحركاً تكويناً بتحريكه التشريعي وساكناً كذلك بتوقيفه التشريعي.
وبعبارة أُخرى : الغرض هو الفعل المستند
إلى أمر المولى ، والترك المستند إلى نهيه لا مجرّد الفعل والترك فلا قبح في الأمر
بشيء حاصل عادة ، ولافي النهي عن
__________________
شيء متروك بنفسه ،
وليس الغرض مجرّد الفعل والترك حتى يكون الأمر والنهي لغواً وطلباً للحاصل.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ الغرض المفروض إنّما
يحصل إذا لم يكن هناك عامل طبيعي يصدُّ الإنسان عن الفعل أو يدفعه إليه ، فعند ذلك
يكون الفعل والترك مستندين إلى العامل الداخلي لا إلى العامل التشريعي ، والإنسان
مهما حرص لا يصحّ أن ينسب ترك الخبائث والإنفاق على ولده ، وفلذة كبده إلى نهيه
وأمره سبحانه ، بل هو بطبيعة ذاته يترك الأوّل ويندفع نحو الثاني ، فلا يحصل الغرض
المطلوب في هذين الموردين.
وثانياً
: أنّ هذا الغرض إمّا أن يكون لازم الرعاية في حصول الطاعة وتحقّق الامتثال أو لا
، فعلى الأوّل تكون الأوامر والنوهي كلّها تعبدية ، ويختل التقسيم إلى توصلي
وتعبدي.
أو لا يكون لازم الرعاية ، وعند ذلك لا
يصحّ أن تقع غرضاً وعلّة غائية لجميع الأوامر والنواهي ، لعدم تحقّقه إلا في قسم
خاص.
وثالثاً
: أنّه لا صلة لقوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه ) بما ذكره من أنّ
الغاية من جميع الأوامر هي العبادة ، ورتّب على ذلك أنّه يجب أن تكون جميع حركات
الإنسان وسكناته تابعة لأمر المولى ونهيه ، مع أنّ الآية المباركة مع اختلاف صغير
تهدف إلى أمر آخر ، وذلك لأنّه ورد في آيتين لكلّ هدف خاص يغاير ما جعله تفسيراً
للآية.
أمّا قوله : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاّ
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ
) فهو
__________________
ناظر إلى ردّ شرك
اليهود والنصارى وانّهم أمروا بعبادة اللّه سبحانه ولم يؤمروا بعبادة الأحبار
والرهبان والمسيح.
وأين هذا المعنى ممّا ذكره من أنّ الغرض
من الأوامر والنواهي هو الاستناد في الأفعال والتروك إلى أمر المولى ونهيه؟!
وأمّا الآية الثانية : أعني قوله سبحانه
: ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاة َوَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة ) فهي ناظرة إلى المشركين حيث عبدوا مكان
عبادة اللّه الأوثان والأصنام وأطاعوا مكان طاعة اللّه ، الطاغوت ولم يُخلِصُوا له
الدِّينَ أي الطاعة بل نحتوا له شريكاً في الطاعة ، فأين مفاد الآيتين ممّا يرومه
المحقّق الخوئي 1؟!
الخطابات القانونية
والخطابات الشخصية
ومنهم الإمام السيد الخميني 1 حيث نقد مقالة الشيخ ومن تبعه وقال :
بأنّ شرطية الابتلاء مبنيّ على كون خطابات الشرع ، خطابات شخصية فيأتي حديث
الاستهجان ، وأمّا على القول بأنّها خطابات قانونية فلا يشترط الابتلاء إلا لجمع من
الناس ، وعندئذ يصحّ خطاب الكلّ بالاجتناب بملاك ابتلاء نوعهم ، وإليك التوضيح.
يشترط في الخطاب الشخصي ، أمور ثلاثة ،
القدرة على الامتثال ، وكون مورد التكليف مورد الابتلاء للشخص وأن تكون مورداً
للرغبة ولا تكون الدواعي عنه مصروفة كالنهي عن عضِّ رأس الشجرة أو المنارة ، وذلك
لأنّ المقصود من التكليف ـ كالنهي في المقام ـ هو إيجاد الداعي في ذهن المكلّف
للاجتناب عنه ، فإذا لم يكن المكلّف قادراً عقلاً على الفعل ، أو كان قادراً ولكن
كان غير متمكن
__________________
عادة ، أو كان
الداعي مصروفاً عن الارتكاب ، كان التكليف عبثاً ، هذا كلّه في الخطابات الشخصية
التي يتلقى المكلّف من المكلّف خطاباً مختصّاً به.
وأمّا الخطابات القانونية من غير فرق
بين الوضعية ( العرفية ) أو الشرعية فهناك خطاب واحد ، متعلّق بعنوان عام ، وهو
حجّة على جميع المكلّفين ، ويشترط فيها وجود هذه الأُمور في أغلب الأفراد ، لا في
كلّ واحد منهم ، فلو كان عدّة لا يستهان بهم قادرين على شرب الخمر ، ومتمكنين منه
، وكانت فيهم رغبة طبيعية إلى شربه ، كفى في توجيه الخطاب إلى عامّة الناس أو
المؤمنين وإن كان فقد بعضهم بعض تلك الشرائط.
وذلك لأنّ الخطابات التشريعيّة ، ليست
خطابات كثيرة ، بحيث يستقلّ كلّ بخطاب خاص ، بل هناك إرادة واحدة متعلّقة بإنشاء
واحد ، وخطاب فارد ، متعلّق بعنوان عام ، حجّة على الجميع بحجّة أنّ عنوان الناس
والمؤمن منطبق عليه ، وهذا معنى الحكم المشترك بين الناس ففي المقام خطاب واحد
متعلّق بعنوان عام وهو في وحدته حجّة على الجميع ففي مثل قوله سبحانه : ( لا تَقْرَبُوا الزِّنا
) الخطاب واحد
، والزنا ، هو المتعلّق التام ، والناس تمام الموضوع للخطاب ، وهذا الخطاب الواحد
حجّة على عامّة المكلّفين من غير حاجة إلى إنشاء تكاليف أو توجيه خطابات.
فإن
قلت : إنّ الخطاب الواحد ، المتعلّق بالزنا
، المتوجه إلى عنوان الناس ، ينحلّ إلى أحكام وخطابات حسب تعدد أفراد المكلّفين ،
فيكون حكم الخطابات القانونية حكمَ الخطابات الشخصية.
قلت
: إن أُريد من الانحلال ، قيام الحجّة على كلّ واحد من أفراد المكلّفين ، فهو صحيح
، لكن لا يستلزم تعدد الخطاب ، وإن أُريد وجود إرادات كثيرة ، وخطابات متوفرة ،
حسب عدد الأفراد ، فهو ممنوع ، بداهة أنّه ليس في ذهن المولى
إلا إرادة واحدة
تشريعية متعلقة بالخطاب الواحد ، المتعلق بعامة المكلّفين ، وعلى ذلك يختلف ملاك
الاستهجان فيها مع الخطابات الشخصية فلو كانت الأغلبية الساحقة واجدة للشرائط
العامة يكفي في توجيهه إلى عامّة المكلّفين ، وإن كان بعضهم عاجزاً ، أو جاهلاً ،
أو فاقداً الداعي إلى الفعل ، أو لم يكن في متناوله فالخطاب العام شامل له ، لأنّه
غير مقيّد بقيد ، والمصحِّح هو وجودها في غالب الأفراد ، غير أنّ الفاقدين للشرائط
معذورون عند اللّه سبحانه ، لا أنّهم غير مكلّفين.
ثمّ إنّه 1
استدل على وحدة الخطاب العام ، بوجوه سيأتي التعرض إليها ، وهذا كلامه وهو من
المتانة بمكان ومن له أدنى إلمام بالقوانين الوضعية ( العرفية ) يقف على أنّ ما
ذكره 1 هو الحقّ
القراح ، مثلاً انّوكلاء الشعب ونوّابهم ، إذا صوّبوا قانوناً ، فليس فيما صوبوا
إلا إنشاء واحد وخطاب واحد ، حجّة على الكلّ لا أنّ فيها خطابات انحلالية حسب تعدد
الأفراد.
ثمّ إنّه أورد عليه بما يلي :
ماذا يراد من توجيه الخطاب إلى العنوان؟
فهل أُريد منه العنوان الذهني بما هو هو فهو واضح البطلان ، وإن أُريد العنوان
الذهني بما هو مرآة إلى الأفراد الخارجية ، فعندئذ يكون المخاطب هو المصاديق لا
العنوان ، وهذا عين القول بالانحلال ، وعندئذ يتعدد التكليف بتعدد المكلّفين وإن
كان إنشاءً واحداً.
يلاحظ
عليه : أنّ العناوين المأخوذة موضوعاً للحكم
على قسمين ، تارة يكون عنواناً مشيراً ، مثل قوله : يجب على هؤلاء الأمر بالمعروف
، فعندئذ يكون العنوان مغفولاً عنه ، والأفراد مورداً للالتفات ، ويكون الحكم
موضوعاً على الأفراد جداً ، لا على العنوان ، ويصحّ ادعاء انحلال الخطاب ، وأُخرى
يكون عنواناً انتزاعياً صادقاً على الكثير ، منطبقاً عليه ، ففي مثله يكون الحكم
مجعولاً على
العنوان باقياً عليه
، غير منحدر عنه إلى الأفراد الخارجية ، لكنّه على وجه كلّ من وقف عليه يتخذه حجّة
على نفسه ، وفي مثله لا يصحّ الانحلال ، لعدم كون العنوان ، مشيراً مغفولاً عنه.
ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ كان في درسه
الشريف يدعم ما اختاره ، بالوجدان حيث إنّه لا يجد المقنن في نفسه إرادات كثيرة
حسب تعدد المكلّفين ، ولا خطابات كثيرة بل يجد في نفسه إرادة متعلقة بعنوان ،
وخطاباً متوجّهاً إليه ، قابلاً لأن يكون حجّة على الجميع. هذا تقرير كلامه مع ذب
ما أورد عليه.
ثمّ إنّه 1
ذكر أنّ للقول بالانحلال ، مضاعفات سلبية لا يلتزم الفقيه بها لكنّها بين واضح
وغير واضح.
أمّا
الأوّل : فأمران :
١. يلزم على القول بالانحلال عدم صحّة
خطاب العصاة والكفار ، فإنّ خطاب من لا ينبعث قبيح ، أو غير ممكن ، لأنّ الإرادة
الجزئية لا تنقدح في لوح النفس إلا بعد حصول مبادئ ، ومنها احتمال الانبعاث ،
والمفروض عدمه.
قد أورد عليه : بأنّ الغاية من التكليف
أحد الأمرين إمّا الانبعاث أو إتمام الحجّة ، وخطاب الطائفتين من قبيل الأخير.
يلاحظ
عليه : إذا كانت الغاية من التكليف هي إتمام
الحجّة مع القطع بعدم انبعاثه من بعثه يكون التكليف عندئذ صوريّاً فاقداً للإرادة
الجدّية ، والطاعة من لوازم الإرادة الجدية ، كما أنّ العقاب أيضاً من آثارها.
٢. يلزم اختصاص الأحكام الوضعية بمحل
الابتلاء ، فالخمر نجس لمن يبتلي به دون غيره ، وهو على خلاف ضرورة الفقه من غير
فرق بين القول بكونها تابعة للأحكام التكليفية ومنتزعة عنها ، كما هو واضح ـ لأنّ
المتبوع إذا كان مختصّاً بالمبتلي فالتابع مثله ـ أو كونها مستقلة بالجعل فانّه
إنّما هو بلحاظ الآثار ، ومع
الخروج عن محل الابتلاء
لا يترتب عليها آثار ، فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّية والأُمور النسبية
بلحاظ المكلّفين.
وربّما يقال بأنّ الإشكال يرد على القول
بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية.
وأمّا على القول بأنّها مستقلة بالجعل
فهي تنحلّ حسب عدد موضوعاتها لا حسب عدد المكلّفين ، فإذا قال : الخمر نجس فهو حكم
على نجاسة كلّ خمر في سطح الأرض ، ويكفي في عدم لزوم اللغوية ابتلاء بعض المكلّفين
بكلّ واحد منها.
أقول
: إنّ الحكم الوضعي مثل التكليف أمر إضافي له إضافة بالنسبة إلى الجاعل وهو الحقّ
سبحانه ، وإلى متعلّقه وهو الخمر ، وإلى من جُعل له الحكم ، أعني : المكلّف ،
فالقول بالانحلال في الثاني دون الأوّل تفكيك بلا جهة.
وأمّا القسم الثاني فوجهان :
١. لوقلنا بالانحلال في القضايا لزم أن
يحكم على القائل بأنّ النار باردة ، بأنّه كذب حسب أفراد النار.
يلاحظ
عليه : أنّ الصدق والكذب من آثار القضايا
الملفوظة أو المكتوبة ، والمفروض أنّها واحدة لا كثيرة.
٢. لو قلنا بتخصص كلّ واحد بالخطاب ،
لزم عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة الفعلية ، لأنّ الشكّ في القدرة شكّ في
وجوب الخطاب ، ومورده البراءة.
يلاحظ
عليـه : بما نبّه هـو 1 عليه ـ غير مرّة ـ بعدم جريان البراءة
في الشبهات الموضوعية التي يسهل للمكلف الاطلاع على واقعها. ولذلك يجب الفحص عن
الاستطاعة العقلية والشرعية وبلوغ الغلة حد النصاب ، ومقدار
الدين المكتوب في
المذكرات ، وذلك لانصراف أدلة البراءة عن مثل هذا الجاهل الذي يسهل رفع الجهل عن
وجه الحقيقة.
ثمّ إنّ الشيخ استدلّ على اعتبار
الابتلاء بصحيح علي
بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر 7
قال : سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطَعاً صغاراً فأصاب إناءه هل
يصحّ له الوضوء منه؟ قال : « إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان
شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه ».
ظاهر الرواية أنّ الدم أصاب الماء
الموجود في الإناء ، والإمام فصّل بين المستبان وغيره فأمر بعدم التوضئ في الأوّل
دون الثاني ، وعندئذ تكون الرواية دليلاً على عدم انفعال الماء القليل بالدم الذي
لا يُدرك بطرف العين ، وتكون عندئذ مُعرضاً عنها ، لكن عمل بها الشيخ فأفتى بالعفو
عمّا لا يدركه الطرف من الدم.
ولما كان مضمون الرواية مخالفاً لما ذهب
إليه المشهور من انفعال الماء القليل مطلقاً بإصابة الدم مُدرَكاً كان أو لا ،
حملها الشيخ الأنصاري على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء ، فهو عالم
بإصابة الدم على الإناء إمّا نفسه أو باطنه الحاوي للماء ، ثمّ جعله دليلاً على
مدّعاه في المقام حيث إنّ عدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لأجل خروج بعض
الأطراف ـ أعني : الإناء ـ عن محلّ الابتلاء ، وإن كان الطرف الآخر محلاً له.
يلاحظ
عليه : أنّ هذا التفسير مخالف لظاهر الرواية
، فإنّ إصابة الإناء كناية عن إصابة الماء الموجود فيه ، وعندئذ ينطبق على مختار
الشيخ الطوسي.
__________________
أضف إلى ذلك كيف يكون الماء مورداً
للابتلاء دون الإناء؟ ولم يكن الإناء يومذاك يستخدم مرّة واحدة بل مرّات عديدة ،
وأغلب الأواني التي كانت تستخدم في حيازة الماء كانت من قبيل الخابية أو الكوز
والإبريق المصنوع من الخزف ولم تكن خارجة عن محلّ الابتلاء.
مسائل ثلاث
إنّ هنا مسائل ثلاث أشار إليها الشيخ
الأعظم بعبارة وجيزة وقال :
١. نعم يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن
التكليف التنجزي عرفاً بالاجتناب ، وعدم حسنه إلا معلّقاً ، الأصل البراءة من
التكليف المنجّز ، كما هو المقرر في كلّ ما شكّ فيه ، في كون التكليف منجَّزاً أو
معلقاً على أمر محقق العدم.
٢. أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في
تحقّقه.
٣. أو كون المتحقّق من أفراده.
وإليك الكلام في الجميع :
الأُولى : إذا شكّ في شرطية
الابتلاء وعدمها
إذا شكّ في اعتبار الابتلاء في صحة
الخطاب وعدمه ، فهل المرجع الاشتغال ولزوم الاجتناب عن الطرف الآخر ، أو البراءة
وعدم لزومه؟ ذهب الشيخ والمحقّق النائيني وتلميذه الجليل إلى الأوّل ، والمحقّق
الخراساني إلى الثاني.
__________________
وليس للشيخ دليل صالح سوى التمسّك
بالإطلاق الشامل لمورد الابتلاء وعدمه.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني : بعدم
صحّة التمسّك به ، إذ هو فيما إذا تحقّق الخطاب ، وشكّ في التقييد بشيء ، لا في ما
إذا شكّ في تحقّق ما يُعتبر في صحّة الخطاب.
وأورد عليه المحقّق الخوئي : بأنّ بناء
العقلاء على حجّية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية على إرادة
خلافها ، ومجرّد احتمال الاستحالة لا يعدُّ قرينة على ذلك فانّه من ترك العمل
بظاهر خطاب المولى لاحتمال استحالة التكليف ، ومثله لا يعدّ معذوراً عند العقلاء.
ثمّ مثل مثالاً : إذا أمر المولى بالعمل
بخبر العادل واحتملنا استحالة العمل به لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، لا
يكون مثل ذلك عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى ، والمقام من هذا القبيل ، فلا
مانع من التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة
التكليف.
يلاحظ
عليه ، بوجود الفرق بين المثال والممثَّل ،
فانّ كلامه في المثال وارد في خصوص مورد الشكّ ، فهو نص في بيان حكمه ، وهذا بخلاف
المقام ، فانّ كلامه ليس وارداً في مورد الشك ( الخارج عن الابتلاء ) غاية الأمر
احتمال وجود إطلاق يعم الموردين لعدم شرطية الابتلاء ، أو عدمه ، لشرطيته فلا يرجع
إلى الإطلاق ومع الشكّ في الموضوع كيف يُتمسّك به.
الثانية : إذا شكّ في
الابتلاء مصداقاً
إذا شكّ في كون أطراف الشبهة مورداً
للابتلاء أو لا ، لأجل تردّد طرف
__________________
العلم الإجمالي بين
كونه داخلاً فيه قطعاً ، وخارجاً قطعاً فيشك في كون أطراف العلم الواقعية مورداً
له كما إذا تردّد الإناء الآخر ، بين كونه في البلد الذي يعيش فيه أو البلد الواقع
في أقصى نقاط الهند ، فهل يصحّ التمسّك بالعام وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن
الإناء الموجود أمامه أو لا؟
مقتضى القاعدة عدمه ، لما بيّن في محلّه
من أنّ المخصص المتّصل ، يتصرّف في موضوع العام ويجعله مركباً من أمرين كقولك :
أكرم العالم العادل ، وأمّا المخصص المنفصل سواء كان لفظيّاً أو لُبيّاً فهو لا
يتصرف في عنوان العام ظاهراً ، لكنّه يجعله حجّة في غير عنوان الخاص لبّاً كما إذا
قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفساق من العلماء ، فالموضوع للعام بما
هو حجّة هو العالم غير الفاسق ، فإذا شككنا في عدالة عالم وعدمها ، لا يصحّ
التمسّك بالعام لأنّه وإن كان مصداقاً للعام أعني العالم ، لكنّه ليس مصداقاً له
بما هو حجّة فيه أعني العالم غير الفاسق.
ومثله المقام فانّ الموضوع للاجتناب وإن
كان هو النجس ظاهراً ، لكنّ الموضوع لبّاً هو النجس المبتلى به عادة والشكّ في
الابتلاء مصداقاً شكّ في وجود جزء الموضوع وعدمه فلا يصحّ التمسّك به فيرجع في
الإناء الموجود إلى البراءة للشكّ في التكليف.
الثالثة : إذا شكّ في
الابتلاء مفهوماً
إذا شكّ في صدق عنوان الابتلاء على أحد
طرفي العلم الإجمالي لأجل عدم وضوح مفهومه ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم إمّا
في الإناء أو الأرض التي يمكن أن يسجد عليها أو يتيمّمه في المستقبل ، فهل المرجع
هو إطلاق الخطاب أو أصل البراءة والمقام من مصاديق دوران أمر المخصص أو المقيّد
بين الأقل
والأكثر مصداقاً
فالابتلاء له مصداق قطعي ، كما إذا دار أمر الماء بين الإناءين الّذين يريد
استعمال مائهما ومصداق مشكوك لأجل إجمال مفهوم الابتلاء ، كما في المثال المزبور ،
نظير عنوان الفاسق إذا خُصِّص به عموم أكرم العلماء فمرتكب الكبيرة فاسق قطعاً ،
ومرتكب الصغيرة مشكوك جدّاً ، فهل المرجع في الثاني إطلاق العام أو أصل البراءة؟
ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المرجع
إطلاقات الخطابات ، وقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة ،
والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق
بالابتلاء. وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز ، فيرجع إلى الإطلاقات ، فالأصل في
المسألة وجوب الاجتناب إلا ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير
العلم ( التفصيلي ) بكونه الحرام.
أقول
: إنّ الخارج عن تحت العام ليس خصوص ما علم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق
بالابتلاء ، بل خصوص ما كان الخطاب فيه قبيحاً في نظر العقلاء في الواقع سواء
علمنا قُبْحَه أو لا.
وعند ذلك فإذا تردد الأمر بين كون
الخطاب مستهجناً فيه أو غير مستهجن فيدور أمره بين بقائه تحت العام وخروجه عنه ،
ومعه كيف يصحّ التمسك بالخطاب؟ والعجب أنّ الشيخ قد سلك في المقام خلاف ما سلكه في
المواقع الأُخرى.
فإذا شكّ في سعة مفهوم العام المخصص وضيقه
مثل قولك : أكرم العالم غير الفاسق ، حيث دار أمره بين مرتكب خصوص الكبيرة أو
الأعمّ منه ومن الصغيرة ، وبالتالي شكّ في خروج زيد ـ المفروض انّه مرتكب للصغيرة
ـ عن تحت
__________________
العام إذا كان
شاملاً لكلا القسمين ، وعدمه إذا كان مختصّاً بالكبيرة فقط فلا يصحّ أن يتمسّك
بالعام ، بحجّة أنّ الخارج هو معلوم الفسق وهو مرتكب الكبيرة ، دون مشكوكه وهو
مرتكب الصغيرة.
والحاصل
: أنّ الملاك في عدم التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وبه في الشبهة المفهومية
للمخصص الدائر أمره بين الأقل والأكثر ، واحد ، وهو الشكّ في انطباق العام بما هو
حجّة فيه على المورد.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني أوضح مقالة
الشيخ وقال : إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر وشموله لكلتا
صورتي الابتلاء وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد هو إذا كان الخمر خارجاً عن مورد
الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شكّ في استهجان النهي
فالمرجع هو إطلاق الدليل لما تبين في مبحث العام والخاص من أنّ التخصيص بالمجمل
مفهوماً ، المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك.
ثمّ إنّه 1
أورد على نفسه وقال ما هذا حاصله :
فإن
قلت : المخصص المجمل المتصل يسري إجماله
إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان
المخصص لفظيّاً أو لبيّاً ضروريّاً لا نظريّاً ، والمقام من قبيل الثاني فيجعل
العام حجّة فيما عدا عنوان المخصص سواء كان صدقه على مورد قطعياً أو احتمالياً.
قلت
: إنّ إجمال المخصص المتصل سواء كان لفظياً أو عقلياً إنّما يسري إذا كان الخارج
عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقل
__________________
والأكثر ، كما في
تردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ، وأمّا إذا كان الخارج عن
العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض أفراده وشكّ في خروج بعض آخر ،
فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأنّ
الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم
التخصيص به.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ التفريق بين
الفسق والابتلاء وجعل الثاني من أقسام ذات المراتب دون الأوّل غير تام ، لأنّ
الأوّل مثل الثاني ، لأنّ الفسق كالكفر ذو مراتب فالمسلم القاتل فاسق والمسلم
الكاذب أيضاً فاسق وأين هذا من ذاك؟!
وثانياً
: أنّما أفاده من أنّ المخصص إذا كان ذا مراتب فعلمنا بخروج مرتبة ، وشككنا في
خروج مرتبة أُخرى فإجمال المخصص لا يسري إلى العام ، لأنّ مرجع الشكّ إلى التخصيص
الزائد ، غير تام. لأنّه إنّما يتم لو خرجت كلّ مرتبة بوجه على حدة ، وأمّا إذا
كان الكلّ خارجاً بعنوان واحد يعمّ جميع المراتب فإنّ كثرة الخارج وعدمها ، لا
توجب كون التخصيص أزيد من واحد كما لا يخفى.
تأييد آخر للعلاّمة الحائري
إنّ لشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري
مقالاً في تأييد الشيخ.
وحاصله : انّه لا يصحّ التمسّك بالخطاب
، لأنّ المفروض الشكّ في أنّ خطاب الشرع في هذا المورد حسن أو لا؟ فلابدّ من
الرجوع إلى القاعدة ، ولكن القاعدة في المقام هي الاحتياط والاشتغال ـ لا البراءة
ـ لأنّ البيان المصحح للعقاب عند العقل هو العلم بوجود مبغوض من المولى بين أُمور
، حاصل ؛ وإن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه ، وهذا
المقدار
__________________
يكفي حجّة عليه ،
نظير ما إذا شكّ في قدرته على الإتيان بالمأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل
موافقاً لغرض المولى ومطلوباً له ذاتاً ، وليس له أن لا يُقْدم على الفعل بمجرّد
الشكّ في الخطاب الناشئ من الشكّ في قدرته. والحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب
الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال.
وأظن انّ الجواب للسيد المحقّق الفشاركي
ـ أُستاذ المحقّق الحائري ـ بشهادة وجود ما يقرب من هذا الجواب في تقريرات المحقّق
النائيني ، وقد تتلمذا على السيـد الفشاركي ـ قدس اللّه أسرارهم ـ ، فقد جاء في
تقريرات الثاني : انّ القدرة العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في
ثبوت الملاكات النفس الأوّلية ، بل هي من شرائط حسن الخطاب ، لقبح التكليف عند
عدمها ، ولكن الملاك محفوظ في كلتا الصورتين : وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل
بلزوم رعاية الملاك وعدم لغويته مهما أمكن ، ومع الشكّ في القدرة تلزم رعاية
الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في المستقلات العقلية
، فلو صار المشكوك فيه طرفاً للعلم الإجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم
الإجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في
الطرف الذي هو داخل في محلّ الابتلاء.
يلاحظ
عليه : أوّلاً : أنّ لازم هذا
البيان الاجتناب عن الطرف المشكوك حتى في ما إذا علم خروج الطرف الآخر عن محلّ
الابتلاء قطعاً ، للتحفظ على الملاك بقدر ما أمكن ، وهؤلاء لا يقولون به.
وثانياً
: انّ العلم بالملاك مع الشكّ في حسن الخطاب ، يحتاج إلى دليل ، لأنّ
__________________
الملاك إنّما يستكشف
من خطاب المولى ، ومع عدمه ، كما في الخروج القطعي عن محلّ الابتلاء ، ومع الشكّ
فيه ، كما في المقام ، لا علم لنا بوجود ملاك قطعي لازم الإحراز ، فلعلّ للقدرة
العادية تأثيراً في تمامية الملاك كما هو الحال في القدرة الشرعية كما في
الاستطاعة.
التنبيه الثالث : في الشبهة
غير المحصورة
خصّص المحقّق الخراساني التنبيه الثالث
لبيان حال الشبهة غير المحصورة ، وكان الأولى عليه أن يخصصه بملاقي بعض أطراف
الشبهة المحصورة ، ثمّ يخوض بعد إنهاء البحث عن المحصورة في بيان حكم غير
المحصورة.
وإنّما جعل ذلك لنكتة ، وهو انّ كون
الأطراف محصورة أو غير محصورة لا يؤثر في نظر المحقّق الخراساني بل الملاك عندئذ
فعلية التكليف وعدمها ، فعلى الأوّل يتنجّز الحكم الواقعي من غير فرق بين المحصورة
وغيرها.
ثمّ أفاد : إنّ كثرة الأطراف ربّما تكون
سبباً لعسر الموافقة القطعية في المحرّمات والواجبات ، أو طروء ضرر ، أو خروج بعض
الأطراف عن محلّ الابتلاء كما هو الحال في قلّة الأطراف المعبّر عنها بالمحصورة.
وعلى كلّ تقدير فليس الميزان كثرة الأطراف أو قلّتها ، بل فعلية التكليف وعدمها ،
لأجل طروء العناوين الثلاثة ولو شكّ في عروض واحد منها ، فالمتبع هو إطلاق الدليل.
هذا ما أفاده ، ولذلك لم يولِ لغير
المحصورة من الشبهة عناية وافرة خلافاً للآخرين.
ولكن تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في
مقامين :
١. ما هو المعيار لكون الشبهة غير
محصورة ، وما هو حدّها؟
٢. ما هو حكمه من التنجّز وعدمه ، على
فرض صدق الحد؟
المقام الأوّل : ما هو
المعيار لكون الشبهة غير محصورة؟
قد ذكروا لتمييز المحصورة عن غيرها
معايير مختلفة :
١. ما نقله الشيخ عن المحقّق والشهيد
الثانيين والميسي وصاحب المدارك من أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه ،
لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعد.
وأُورد عليه بأنّ الألف معدود من
الشبهات غير المحصورة مع أنّ عدّه غير متعسّر.
٢. نفس التعريف لكن بإضافة قيد ، وهو
تعسّر العد في زمان قصير ، لئلاّ يخرج الألف عن تحت التعريف.
٣. المرجع في تمييز المحصورة عن غيرها
هو العرف ، ولعلّ مرجعه إلى الأوّل ، لأنّ المراد من الأوّل ما يعسر عدّه عرفاً
وما لا يعسر عدّه كذلك.
٤. ما ذكره الشيخ الأنصاري : إنّ غير
المحصورة ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم
الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى انّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل
مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً وإن صادف الواقع
، وقد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ، ما لا يؤثّر مع
الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد وهو تارة مردّد بين
اثنين وثلاثة ، وأُخرى بين أهل بلدة ونحوها.
وما ذكره الشيخ هو خيرة المحقّق العراقي
حيث قال : إنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب
ضعف الاحتمال في
__________________
كلّ واحد من الأطراف
بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال ، بل ربّما يحصل
الاطمئنان بالعدم.
ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله :
انّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية ، فكيف يجتمع العلم بوجود الحرام
والمبغوض في الأطراف ، مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلي؟
وأجاب ما هذا توضيحه : انّ الأفراد إذا
لوحظت دفعة واحدة ، فليس فيها إلا العلم بالحرام ولا خبر عن الظن فضلاً عن
الاطمئنان بعدمه ، فهذه الصورة هي معقد العلم لا معقد الظن بالعدم.
وأمّا إذا لوحظت الأفراد واحدة بعد
واحدة ، ففي كلّ واحد ظن أو اطمئنان بعدمه ، والموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة
الكلية ، أعني : ما إذا لوحظت الأفراد دفعة واحدة ، لكنّها تجتمع مع السالبة
الجزئية ، أعني : ما إذا لوحظ كلّ فرد بلحاظ مستقل منقطع عن لحاظ آخر.
ثمّ إنّ المحقّق الخوئي نقل عن شيخه
النائيني أنّه أورد على التعريف المختار عند الشيخ بوجهين :
الأوّل
: أنّه احالة إلى أمر مجهول ، فإنّ للوهم مراتب كثيرة ، فأيّة مرتبة منه تكون
ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.
الثاني
: انّ موهومية التكليف لا تمنع عن تنجّز التكليف ، ولذا يتنجّز التكليف المردّد
بين طرفين ولو كان احتماله في أحدهما ظنياً وفي الآخر موهوماً.
يلاحظ
على الأوّل : المعيار هو كون
التكليف موهوماً في كلّ واحد من
__________________
الأطراف من دون
التزام بمرتبة خاصة من الوهم ، فما دام وجود الحرام في كلّ واحد ـ إذا لوحظ وحده ـ
موهوماً ، لا يعتني به العقلاء ولا يترتب على العلم بالتكليف في المجموع أثر.
ويلاحظ
على الثاني : أنّ السبب لعدم
تنجيز التكليف ليس مجرّد الموهومية بل الموهومية المستندة إلى كثرة الأطراف ، التي
تُسبّب قلّة اهتمام العقلاء بالنسبة إلى ذلك الاحتمال ، فيكون الحجّة في الواقع هو
بناء العقلاء في هذا القسم على موهومية التكليف ، لا مطلق الموهومية وإن كان
مسبباً عن أمر آخر كما في مثاله.
٥. ما ذكره المحقّق النائيني بأنّ إذا
بلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال في أكل أو شرب أو لبس أو
نحو ذلك ، ثمّ قال : وليس عدم التمكن من الاستعمال عادة هو الملاك ، إذ ربما لا
يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما إذا كان بعض الأطراف في
أقصى بلاد المغرب ، بل لابدّ من اجتماع الأمرين ، كثرة العدد ، وعدم التمكن من
جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة المحصورة عن غير المحصورة.
وبالإمعان في كلامه يظهر انّ ما أورد
عليه تلميذه الجليل غير وارد حيث قال : إنّ عدم التمكّن من ارتكاب الجميع لا يلازم
كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقّق ذلك مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما
إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين فانّ المكلّف لا يتمكن
من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت ، وكذلك لو تردّد الحرام بين
الضدين في وقت معين.
وجه عدم الورود : انّ الإشكال إنّما يرد
لو كان الميزان عدم التمكّن العادي
__________________
من المخالفة القطعية
وهو 1 صرّح بأنّه
وحده ليس هو الميزان وإلا ربما تكون الشبهة محصورة ولا يتمكن المكلّف عادة من
المخالفة ، كما في الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل عدم التمكن المستند إلى كثرة
الأطراف ومورد النقض ليس كذلك.
نعم أورد عليه سيدنا الأُستاذ 1 بأنّه إن أراد من عدم التمكن ،
الاستعمال دفعة ، فيلزم أن تكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة ، وإن أُريد
الأعم منه وهو التدريج فيلزم أن يكون أكثر الشبهات غير المحصورة ، محصورة ، إذ
قلّما يتفق أن لا يمكن الجمع بين الأطراف ولو في ظرف سنين.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد الأعم من الدفعي
والتدريجي ، لكن المقصود من الإمكان هو العادي لا الفعلي ، والأوّل غير موجود في
الشبهة غير المحصورة حتى في أزمنة مختلفة إلا ما شذّ وندر.
إلى هنا تبيّن انّ التعريف الحقّ هو ما
عرف به الشيخ الأعظم وتبعه الشيخان : الحائري والعراقي ، ولا بأس بتعريف المحقّق
النائيني.
المقام الثاني : ما هو الدليل
على عدم تنجّز العلم بالتكليف في غير المحصورة؟
وربما يقال : لم يرد عنوان المحصورة
وغيرها في النصوص فما هو الوجه لتحديدهما؟
والجواب : انّ العنوانين أُخذا مشيرين
إلى القسمين من العلم الإجمالي ، أي ما تكون قلّة الأطراف وكثرتها مؤثرتين في
اعتناء العقلاء بالعلم وعدمه ، أو كون التكليف موهوماً في كلّ طرف وعدمه.
__________________
المقام الثالث : ما هو
الدليل على سقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة؟
قد استدل على سقوطه بوجوه مذكورة في
الفرائد :
الأوّل
: الإجماعات المنقولة المستفيضة ، وقد حكاه الشيخ عن المحقّق الثاني في جامع
المقاصد ، وروض الجنان للشهيد الثاني ، والمحقّق البهبهاني في فوائده ، لكنّه غير
مفيد ، لاحتمال أن يكون اتّفاقهم ، مستنداً إلى الروايات التي وردت في مختلف
الأبواب ، فيكون الاتّفاق مدركياً غير كاشف عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا.
الثاني
: ما استدل به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب ، وحمله الشيخ على لزومه في أغلب
أفراد هذا النوع من الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله أدلّة نفي العسر والحرج
، حتى بالنسبة إلى غير الأغلب.
يلاحظ
عليه : أنّ العسر والحرج موجب لسقوط العلم
الإجمالي في المحصورة أيضاً ، فلا وجه لعنوان غير المحصورة بخصوصها ، مضافاً إلى
أنّ الميزان في باب العسر والحرج هو الضيق الشخصي لا النوعي ، فلو كان ضيقاً على
الأكثر وسهلاً للأقل فلا وجه لعطف الأقل على الأكثر.
وجهه انّ حديث العسر حديث امتنان ، ولا
امتنان لتفويت المصلحة على من له إمكان القيام بالتكليف بسهولة.
الثالث
: انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلا ببعض معين من محتملات الشبهة غير المحصورة
ويكون الباقي خارجاً عن محلّ الابتلاء.
يلاحظ
عليه : أنّ الخروج من الابتلاء يوجب سقوط العلم
الإجمالي مطلقاً في المحصورة وغيرها ، فما هو الوجه لعنوان المحصورة برأسها فلابدّ
أن يستدل بدليل يختص به؟
الرابع
: ما أفاده المحقّق النائيني استنتاجاً من الضابطة التي قرّرها لتميز غير المحصورة
عنها ، وحاصله : انّه إذا كانت المخالفة القطعية غير محرمة ، لعدم التمكن العادي
من استعمالها ، فإذا لم تحرم المخالفة ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض بين
الأُصول ، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية وتجوز المخالفة الاحتمالية.
يلاحظ
عليه : أنّ عدم حرمة المخالفة القطعية لو
كان مستنداً مباشرة إلى ترخيص الشارع ، فهو يلازم عدم وجوب الموافقة القطعية ، أو
جواز المخالفة الاحتمالية ، وأمّا إذا كان مستنداً إلى عجز المكلّف فلا يلازم عدم
حرمتها ، عدمَ وجوبها ، وجواز مخالفتها احتمالاً.
ألا ترى أنّه لو كان له عدّة زوجات
منقطعات يعلم حرمة مسّ واحدة منهن لأجل الحيض ، فمع أنّه غير قادر على مسّهن في
ليلة واحدة ومع ذلك لا تجوز المخالفة الاحتمالية بمسّ واحدة منهنّ.
وأمّا جريان الأُصول الشرعية في الأطراف
لأجل عدم حرمة المخالفة فلا يكون مجوزاً ، لجواز المخالفة الاحتمالية ، لما عرفت
من أنّه إذا كان السبب الحقيقي لجريان الأُصول هو العجز عن المخالفة ، لا ينتج
جواز المخالفة الاحتمالية.
إذا عرفت أنّ هذه الوجوه غير كافية ،
فاعلم أنّ الصالح للاستدلال هو الوجهان الآتيان.
الخامس
: بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم النابع من كثرة الأطراف كما
أوضحناه ، وقد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه.
السادس
: الروايات الواردة في أبواب أربعة :
١. ما ورد حول الجبن.
__________________
٢. ما ورد حول شراء الطعام والأنعام من
العامل الظالم.
٣. روايات قبول جائزة الظالم.
٤. روايات المال الحلال المختلط بالربا.
وإليك دراسة هذه الروايات :
روايات الجبن
قد ورد عن أبي جعفر 7 في الجبن روايات بظاهرها ثلاث ،
ولكنّها في الواقع اثنتان :
١. ما رواه عبد اللّه بن سليمان ، قال :
سألت أبا جعفر 7
عن الجبن؟ فقال لي : « سألتني عن طعام يُعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهماً ، فقال :
« يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل
وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن؟ قال : « أو لم ترني آكله
» قلت : بلى ، ولكن أُحبّ أن أسمعه منك فقال : « سأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما
كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».
والسند نقيّ غير عبد اللّه بن سليمان
فإنّه لم يوثَّق ، ولكن روايات الجبن متضافرة كما ستظهر ، مضافاً إلى نقل المشايخ
عنه كأبان ، وصفوان ، وابن أبي عمير ، وهذا يلحقه بالحسان.
ثمّ إنّ قوله : « فيه حلال وحرام » ليس
بمعنى احتمال الحلال والحرام ، حتى ينطبق على الشبهة البدئية بل فعلية القسمين ،
فينطبق على المحصورة وغير المحصورة ، والمورد قرينة على الثانية ، مضافاً إلى أنّ
الترخيص في المحصورة يحتاج إلى التنصيص القاطع للاحتمال لأنّ الترخيص فيه بنظر
العرف ، ترخيص في
__________________
المعصية ، فلا يصار
إليه إلا بالدليل الحاسم.
٢. صحيحة معاوية بن عمّار عن رجل من
أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر 7 : « إنّه لطعام يُعجبني وسأُخبرك عن
الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه
بعينه ». ومن
المحتمل انّ الرجل السائل هو عبد اللّه بن سليمان ، ويشهد بذلك تقارب ألفاظهما ،
وقد عرفت مفاد الضابطة.
٣.ما رواه محمد بن سنان ، عن أبي
الجارود قال : سألت أبا جعفر 7
عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى انّه يجعلُ فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل
مكان واحد ، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله
، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكُلْ ، واللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم
والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان ».
والسند مخدوش بأبي الجارود ، كالراوي
عنه ، أعني : محمد بن سنان ، لكن عرفت أنّ روايات الجبن متضافرة. نعم أورد الشيخ
الأعظم على دلالته بوجهين :
الأوّل
: أنّه ظاهر في الشبهة البدئيّة ببيان انّ المراد : انّ جعل الميتة في الجبن في
مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن
كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان.
يلاحظ
عليه : أنّ مجموع الروايات الواردة في الجبن
حاكية عن ابتلاء الناس بظاهرة جعل الميتة في الجبن وعقد اللبن بها ، أعني :
الانفحة المأخوذة عن المعز الميّت ، وانّها كانت متفشية فيها ، فكان مردّداً بين
كونه من الميتة وعدمه ، ففي ذلك المورد حكم الإمام بالجواز ، ومثله لا ينطبق إلا
على الشبهة غير المحصورة.
الثاني
: انّ الحلية لأخذه من سوق المسلم بناء على أنّ السوق أمارة شرعية
__________________
لحلّ الجبن المأخوذ
منه ولو من يد مجهول الإسلام.
يلاحظ
عليه : ان لو كانت الحلية مستندة إلى سوق
المسلم وأمارة لها ، فما معنى : « واللّه ما أظن كلّهم يُسمّون هذه البربر وهذه
السودان »؟ فانّها على طرف النقيض من كون مثل هذا السوق أمارة للحلّية ، فانّه
بصدد تضعيف كونه أمارة ، فلا وجه للحلية إلا كون الشبهة غير محصورة.
إلى هنا تمّ ما روي عن أبي جعفر 7 وقد عرفت أنّه لا يتجاوز عن كونه
حديثين ، وأمّا ما روي عن أبي عبد اللّه 7
حول الجبن فهي خمسة ويحتمل وحدة الخامس مع الرابع ، وإليك نقلها :
٤. روى عبد اللّه بن سليمان ، عن أبي
عبد اللّه 7 في الجبن ،
قال : « كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة ».
٥. روى عبد اللّه بن سنان : قال سأل رجل
أبا عبد اللّه 7
عن الجبن ، فقال : « إنّ أكله ليعجبني » ثمّ دعا به فأكله. ويحتمل اتحاده مع سابقه ، وقد نقلا
بالمعنى والاختصار بأن يكون المراد من قوله : « رجل » هو عبد اللّه بن سليمان ،
كما يحتمل تغايرهما.
٦. ما رواه بكر بن حبيب ، قال : سئل أبو
عبد اللّه عن الجبن وانّه توضع فيه الأنفحة من الميتة ، قال : « لا يصلح » ثمّ
أرسل بدرهم ، فقال : « اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء ».
والمسبب للحلّية هو كون المورد من قبيل
الشبهة غير المحصورة ، وأمره بالشراء من مسلم ، لأجل رفع غبار الشكّ عن قلب السائل
ليتّخذه دليلاً على كونه مذكّى وإن كان الدليل واقعاً غيره ، ولذلك قال : « ولا
تسأله عن شيء ».
__________________
٧. صحيح حماد بن عيسى ، قال : سمعت أبا
عبد اللّه 7 يقول : «
كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جبناً ويسمّي ويأكل ولا يسأل عنه ».
٨. خبر عمر بن أبي شبيل ، قال : سألت
أبا عبد اللّه عن الجبن؟ قال : « كان أبي ذكر له منه شيء فكرهه ثمّ أكله ، فإذا
اشتريته فاقطع واذكر اسم اللّه عليه وكل ».
فمجمل القول في هذه الروايات أنّ فيها
احتمالات :
١. راجعة إلى الشبهة غير المحصورة.
٢. راجعة إلى الشبهة المحصورة وغيرها
خرجت الأُولى بالدليل وبقيت الثانية.
٣. راجعة إلى الشبهة البدئية كما
احتملها الشيخ في خبر أبي الجارود.
٤. انّ الحلّية مستندة إلى سوق المسلم
ويده.
والترجيح مع الأوّل خصوصاً مع ملاحظة
المجموع من حيث المجموع مع ملاحظة تفشّي ظاهرة جعل الميتة في الجبن.
نعم هنا إشكال آخر.
إنّ كلّ شيء من الميتة حرام إلا الانفحة
خلافاً لأهل السنّة ، ومع كونها حلالاً ، فما هذا الاضطراب في أكل الجبن؟ وتصور
انّ الطهارة مختصة بالرضيع لا ما إذا كان معلوفاً فانّها نجسة ، مدفوع بانّ عقد
اللبن بها يختص بما إذا كان رضيعاً وإلا فلا يعقد به.
ولعلّ الظروف لم تكن مساعدة لبيان الحكم
الواقعي للسائلين ، فحاولوا أن يبيّنوا وجه الحلية من طريق آخر.
__________________
٢. جواز شراء الطعام
والأنعام من العامل الظالم
هناك لفيف من الروايات يدل على جواز
شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم ، والمبيع إمّا زكاة وصدقة أخذه من
الفلاّحين ، وإمّا خراج الأراضي المفتوحة عنوة ، المسمّى باسم المقاسمة ومن
المعلوم انّ أموالهم كانت غير نقية من الحرام ، ومع ذلك سوّغ الإمام المعاملة معه.
وإليك بعض الروايات :
١. صحيح عبد الرحمان بن الحجّاج قال :
قال لي أبو الحسن موسى 7
: « مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيقاً » قال : قلت : نعم ،
فإن شئت وسعت عليّ ، قال : « اشتره ».
ولعلّ المراد من « عليّ » هو علي بن
يقطين كما ذكره المجلسي في ملاذ الأخيار.
وقوله : « فإن شئت وسعت » ليس دليلاً
على أنّ الحلّية من باب الولاية ، لأنّه واقع في كلام الراوي.
٢. مرسل محمد بن أبي حمزة ، عن رجل ،
قال : قلت لأبي عبد اللّه 7
أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم ويقول ظلمني ، فقال : « اشتره ».
٣. صحيح أبي عبيدة ( الحذّاء ) عن أبي
جعفر قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو
يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل
إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ».
واحتمال انّ التسويغ من باب الولاية
يردّه صحيح الحذَّاء حيث ضرب القاعدة وهو جواز الشراء ما لم يعلم بعينه.
٤. صحيح معاوية بن وهب ( البجلي الثقة )
قال : قلت لأبي عبد اللّه 7
:
__________________
أشتري من العامل
الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال : « اشتر منه ».
٥. ما رواه إسحاق بن عمّار مضمراً.
٦. ما رواه عبد الرحمان بن أبي عبد
اللّه البصري مضمراً.
ولفظ العامل قرينة على أنّ المبيع كان
زكاة وصدقة ، أو خراجاً ومقاسمة ، فقد جوز الشراء إلا إذا علم الحرام مشخصاً ، ومن
المعلوم كون الحرام بالنسبة إلى الحلال كان قليلاً ، أشبه بالشبهة غير المحصورة.
٣. ما يدل على أخذ جوائز
العامل للظالم
وهناك روايات تدل على جواز أخذ جوائز
العامل للظالم وأكل طعامه ، نذكر منها ما يلي :
١. صحيحة أبي ولاّد ، قال : قلت لأبي
عبد اللّه 7 : ما ترى في
رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيُضيّفني
ويُحسن إليّ وربّما أمر لي بالدرهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك ، فقال لي : « كل
وخذ منه فلك المهنّا وعليه الوزر ».
٢. صحيحة أبي المغراء قال : سأل رجل أبا
عبد اللّه 7 وأنا عنده
فقال : أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال : « نعم » ، قلت :
وأحجُّ بها؟ قال : « نعم ».
٤. التصرف في مال مختلط
بالربا
وردت روايات في باب الربا من أنّ من ورث
مالاً فيه ربا ، لا يحرم عليه إلا
__________________
إذا عرفه بعينه
نقتصر بروايتين صحيحتين :
الأُولى
: صحيحة أبي المغراء قال : قال أبو عبد اللّه 7
: « ... لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أنّ في ذلك المال رباً ، ولكن قد
اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالاً طيّباً فليأكله ، وإن عرف منه شيئاً أنّه
رباً فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا ».
الثانية
: صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : أتى رجل أبي 7
فقال : إنّي ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد عرف
أنّ فيه رباً واستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله ، لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء
أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحل أكله ، فقال أبو جعفر 7 : « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً
معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطاً فكله
هنيئاً ، فإنّ المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه : قد وضعَ
ما مضى من الربا وحَرّمَ عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف
تحريمه ، حرم عليه ».
والروايتان ظاهرتان في الشبهة المحصورة ،
فإذا جاز التصرف فيها ففي غيرها أولى. نعم ليس لها شمول لغير مورد الربا ، ولعلّ
التسويغ لأجل التسهيل ، وقدكان السيد الأُستاذ يحمل ما دلّ على الحلّية ما لم يعلم
بعينه على خصوص الشبهة المحصورة من باب الربا وقد نوّهنا بذلك عند تفسير روايات
باب البراءة.
ولعلّ هذه الروايات ، مع بناء العقلاء
والسيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له
إطلاقاً لصورة انتشار الحرام بين الكثير.
__________________
بقي هنا أُمور :
الأوّل : جواز ارتكاب الكلّ
وعدمه
هل يجوز ارتكاب عامة المشتبهات في غير
المحصورة ، أو يجب إبقاء مقدار الحرام ، أو يفصّل بين ما قصد نفس الحرام من ارتكاب
الجميع فارتكب الكلّ مقدمة له ، أو قصد الجميع من أوّل الأمر ، وبين ما إذا انجر
الأمر إليه ، فلا مجوز في الصورتين الأُولتين دون الثالثة ، مستدلاً على ذلك
بأنّهما تستلزمان طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي ،
والتكليف لايسقط من المكلَّف مع العلم غاية ما ثبت في المقام ، الاكتفاء في امتثاله
بترك بعض المحتملات فيكون البعض المتروك بدلاً عن الحرام وإلا فإخراج الخمر
الموجود يقيناً بين المشتبهات عن عموم قوله : « اجتنب عن الخمر » اعتراف بعدم
حرمته واقعاً وهو معلوم البطلان.
الظاهر انّه لا يختلف الحكم باختلاف
المباني.
فلو كان المستند ما اختاره الشيخ من كون
التكليف موهوماً بكثرة الأطراف ، فيكون مفاده الجواز مطلقاً لأنّ كلّ واحد من
الأطراف موهوم التكليف فيجوز اجتنابه ، وإن كان ينجر الأمر عند الانتهاء إلى
مخالفة التكليف غير انّ الترخيص في كلّ واحد يكون دليلاً على رفع الشارع اليد عن
التكليف الواقعي وصيرورته إنشائيّاً في تلك المرحلة.
وما ربما يقال : من « انّ الجائز من
أوّل الأمر ، هو ارتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً وأمّا الأزيد
فلا » ، غير تام إذ ليس الموضوع
__________________
للجواز ، الكميّة
الخاصة التي يكون التكليف فيه موهوماً ليتوقف الجواز إذا انتهى إلى مقدار لا يكون
كذلك ، بل الموضوع للجواز هو كلّواحد واحد ، لأجل كون التكليف فيه موهوماً ، وهذا
صادق عند ارتكاب كلّ واحد إلى نهايته.
كما أنّه لو كان الدليل هو الروايات
المتقدمة ، فالظاهر جواز الارتكاب حتى يعلم الحرام بعينه.
إنّما الكلام على مبنى المحقّق النائيني
، فالظاهر جواز ارتكاب الجميع أيضاً ، لأنّه جعل عدم المتمكن العادي موضوعاً لعدم
حرمة المخالفة القطعية ، وسقوط العلم عن التأثير فعند ذلك يجوز ارتكاب الجميع ،
لأنّ التمكّن الشخصي لا ينافي عدم التمكّن العادي ، والمسقط للعلم عن الحجية هو
الثاني سواء كان هناك تمكّن شخصي أو لا. لأنّه إنّما قال بعدم حرمة المخالفة
القطعية لأجل عدم التمكن العادي من المخالفة وفرع عليه جواز المخالفة الاحتمالية.
الثاني : حكم الكثير في
الكثير
إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة
أفراداً كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأُمور المحسوسة ، كما
إذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن ألف شاة فانّ نسبة المائة إلى الألف ، نسبة
الواحد إلى العشرة ، وهذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير ، فهل العلم منجّز في
هذه الصورة أو لا؟
الظاهر انّه يختلف الحكم حسب اختلاف
المباني.
فعلى مبنى الشيخ من موهومية التكليف
فالعلم منجّز ، لأنّ التكليف في كلّ واحد من الشياه ليس بموهوم وذلك ينجّز العلم
الإجمالي ولا ينافي ما قلنا بأنّ الميزان عامة مراتب الوهم فإنّ المراد من الوهم
ما لا يعتد به العقلاء ومع فرض مراتب له لكن الجميع محكوم عندهم بعدم الاعتداد ،
وهذا بخلاف المقام
فالعقلاء يعتدون
بواحد في مقابل العشرة.
وأمّا على مبنى المحقّق النائيني وهو
عدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن من المخالفة القطعية ، فالظاهر عدم
تنجيز العلم الإجمالي لكون المقام ممّا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية عادة
، فهو جعل عدم التمكن العادي دليلاً على جواز المخالفة القطعية ، فلو كانت
المخالفة القطعية غير ممكنة عادة كما هو المفروض ، فيجوز الارتكاب.
الثالث : في كون الساقط هو
العلم أو هو مع الشكّ
لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام
في الأطراف ينتج الشكّ في كل واحد منها ، فالشكّ نابع من العلم ومن نتائجه.
وعلى ذلك فلو قلنا بسقوط العلم ، فهل
الساقط هو نفس العلم فقط على وجه لو كان للشكّ أثر شرعي من الاشتغال يجب ترتيب
أثره عليه لكون المفروض انحصار السقوط بالعلم دون الشكّ ، أو الساقط هو العلم
والشكّ معاً؟
وتظهر الثمرة في ما إذا علم بماء مضاف
بين الأواني الكثيرة غير المحصورة ، فالعلم بوجود الماء المضاف يوجب وجود الشكّ في
كلّ واحد من الأواني ، فلو قلنا بسقوط العلم والشكّ معاً يجوز التوضّؤ بواحد منها
والاقتصار عليه ، لكون الشكّ ساقطاً عن الاعتبار فيصبح كلّ واحد من الأواني
محكوماً بالإطلاق.
وأمّا لو قلنا بأنّ الساقط هو العلم دون
الشكّ فيكون الشكّ هنا موضوعاً للاشتغال مثل ما إذا شكّ في إطلاق ماء على نحو
الشبهة البدوية ، فلو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يجوز له الاقتصار بالتوضّي
بهذا الماء ، ويكون المقام مثله إذا قلنا بسقوط العلم دون الشكّ.
والتحقيق انّه على مبنى الشيخ يسقط
العلم والشكّ معاً ، لأنّ إلغاء العلم
وجعله كالمعدوم
إلغاء لأثره الناتج منه ، أعني : الشك ، فليس هنا شك تعبّداً حتى يكون موضوعاً
للاشتغال.
وبعبارة
أُخرى : انّ الحكم بموهومية التكليف عند
العقلاء يلازم وجود أمارة على كون الماء مطلقاً لا مضافاً ومعه لا موضوع للاشتغال.
وأمّا على مبنى المحقّق النائيني ، فقد
ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ الساقط هو العلم دون الشكّ ، وقال : إنّ الملاك في عدم
التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية ، لعدم القدرة عليها ، وانّ وجوب الموافقة
القطعية متفرّع عليها ، فالعلم بالتكليف المردّد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه.
وأمّا الشكّ في كلّ واحد من الأطراف فهو
باق على حاله ، وهو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ يعتبر في صحّة الوضوء إحراز
كون ما يتوضّأ به ماء مطلقاً ، فنفس احتمال كونه مضافاً كاف في الحكم بعدم صحّة
الوضوء به ، ولو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف ، فلابدّ حينئذ من تكرار
الوضوء بمقدار يعلم منه وقوع الوضوء بماء مطلق.
ولكن المحقّق الكاظمي نقل في تقريره
لدروس أُستاذه أنّه كان يميل إلى سقوط حكم الشكّ ، وهو الظاهر طبقاً لمبناه ، وذلك
لأنّه قال : لا تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن العادي عليها ، وبما انّ المانع
من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم
تجري الأُصول بلا معارض ، فاستصحاب الإطلاق في الماء الذي يريد التوضّؤ به محرز
للموضوع ولا يعارضه أصل آخر ، ومعه يكون الشكّ فاقد الأثر لوجود الأصل المحرز.
وأمّا ما ذكره المحقّق الخوئي من وجود
الشكّ في قرار ذهنه ، فيرد عليه أنّ الموضوع ليس مطلق الشكّ بل الشكّ الذي لم يحكم
عليه بحكم ، وهذا نظير :
__________________
« لا شكّ لكثير
الشكّ » ، أو « لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام » ، فمثل هذا الشكّ المحكوم بحكم ،
خارج عن أدلّة الشكوك ، أعني قوله : إذا شككت فابن على الأكثر ، ومثله المقام فإنّ
الشارع بما أنّه لم يُحرِّم المخالفة القطعية وحكم بجريان الأُصول في كلّ آنية ،
صارت النتيجة كون الماء مطلقاً ، ومعه لا شكّ تعبداً حتى يحكم بالاشتغال.
الرابع : لزوم كون العلم
الإجمالي محدثاً للتكليف على كلّ تقدير؟
يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون
مبدأ لحكم فعلي يطلبه الشارع على كلّ حال ، فهذا الحكم الفعلي النابع من العلم
الإجمالي فرع أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، وإلا فلو أحدث التكليف
إذا كان المعلوم في هذا الطرف ولم يكن محدثاً له إذا كان المعلوم في الطرف الآخر
لا يكون هناك علم فعلي بالحكم أوّلاً ، ولا تتعارض الأُصول في الطرفين ثانياً ، إذ
لا يجري فيمالم يحدث تكليفاً ويبقى جارياً فيما نحتمل إحداث التكليف فيه.
وعلى ذلك فلو علم بنجاسة أحد الثوبين
وفي الوقت نفسه علم بغصبية الثوب المعيّن منهما ، فليس لمثل هذا العلم تأثير على
كلّ تقدير ، لأنّ النجاسة لو كانت في غير الثوب المغصوب يحدث تكليفاً ويمنع عن
استعماله في الصلاة. وأمّا لو كان في الثوب المغصوب فالعلم بنجاسته لا يحدث
تكليفاً لأنّه ممنوع الاستعمال سواء كان طاهراً أم نجساً ، ولذلك لا تجري أصالة الطهارة في الثوب
المغصوب إذ لا أثر للطهارة فيه لما عرفت من أنّه ممنوع الاستعمال في كلتا الصورتين
وعندئذ تجري أصالة الطهارة في جانب الثوب الآخر بلا معارض.
__________________
وإن
شئت قلت : ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي
بلزوم الاجتناب عن الثوب المغصوب قطعاً ، إمّا لكونه مغصوباً فقط ، أو لكونه
مغصوباً ونجساً ؛ وإلى شكّ بدوي في ناحية الثوب الآخر.
الخامس : كفاية اندراج
الطرفين تحت عنوانين
لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي
اندراج الطرفين تحت عنوان واحد كالنجاسة ، بل يكفي اندراجهما تحت أحد عنوانين
محدثين للتكليف ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو غصبية الآخر لما عرفت من أنّ
الميزان كون العلم الإجمالي محدِثاً للتكليف الفعلي على كلّ حال.
وعلى ضوء ذلك ، فلو كان ذلك الثوب نجساً
فهو يحدث التكليف ، كما أنّه لو كان الآخر غصباً فكذلك ، فالعلم بتحقّق أحد
العنوانين في أحد الطرفين يُنتج حكماً فعلياً قطعياً باسم الاجتناب عن المغصوب
للشارع ولا يحصل إلا باجتنابهما ويتعارض الأصلان.
وعلى ضوء ذلك ، فإذا علمنا بخروج بلل
مردّد بين البول والمني يكفي في التنجيز في بعض الظروف فلو كان متطهراً من الحدث
الأصغر والأكبر فعلم بوجود ناقض للطهارة على كلّ تقدير ، فمثلاً لو كان البلل
بولاً في الواقع فقد نقض طهارته على وجه يوجب التوضّؤ ، ولو كان منيّاً تنقض
طهارته أيضاً على وجه يورث الغسل.
وبالتالي وقف على حكم فعلي مردّد بين
التوضّؤ والغسل ، فيجب الامتثال على وجه تحصل الموافقة القطعية.
نعم لو كان محدثاً بالحدث الأصغر فخرج
مثل ذلك البلل ، فهو يحدث التكليف على فرض ، أعني : إذا كان منيّاً دون ما إذا كان
بولاً ، لأنّ المفروض أنّه
محدث بالحدث الأصغر
، وعلى ذلك لا ينتج العلم الإجمالي حكماً فعلياً قطعياً يجب امتثاله بل ذلك العلم
مؤثر على وجه وغير مؤثر على وجه آخر ، ففي مثله ينحل العلم الإجمالي إلى علم
تفصيلي وهو وجوب الوضوء على كلّ حال وشكّ بدوي وهو وجوب الغسل.
وإن شئت قلت : ينحل إلى علم تفصيلي
بوجوب رفع الحدث الأصغر ، وإلى شكّ في وجود الحدث الأكبر. ومع الشكّ تجري البراءة
في الناحية الثانية.
لا يقال انّ الأثر مترتب أيضاً على فرض
كون الخارج بولاً ، للزوم غسل المخرج ، لأنّا نقول إنّ العلم بوجوب الغَسْل نتيجة
علم تفصيلي بنجاسة المخرج لخروج النجس منه سواء أكان منياً أم بولاً ، لا على خصوص
كون الخارج بولاً.
التنبيه الرابع : في حكم
ملاقي الشبهة المحصورة
وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
الأوّل
: انّ محل البحث في لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة وعدمه ، إنّما هو فيما
إذا لاقى الشيء أحد الطرفين مثلاً ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الطرفين من السجادة
، ثمّ لاقى شيء رطب أحد الطرفين ; وأمّا إذا لاقى كليهما مع الرطوبة فهو يعد ملاق
للنجاسة ، وليس ملاقياً للمشتبه.
ومثله ما إذا لاقى شيء رطب أحد الطرفين
وشيء آخر ، الطرف الآخر ، فيحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على
العلم الإجمالي المتعلّق بنفس الشيئين.
الثاني
: انّ الكلام في ما إذا لاقى أحد الطرفين ، وأمّا إذا انقسم أحد الطرفين بالملاقاة
قسمين فهو خارج عن محط البحث ، كما إذا غمس إحدى يديه في الإناء وأخرجها منه وكانت
القطرات عالقة عليها ، فمادام الحال كذلك ، فهي تعد من
أطراف العلم حيث
يعلم بنجاسة هذا الإناء أو ذاك مع ملاقيه ، لأنّه أشبه بما إذا قسم ماء أحد
الإناءين إلى إناءين فيتوسع طرف العلم ، فيدور العلم بين نجاسة ذاك الإناء أو هذين
الإناءين.
والحاصل انّ الكلام فيما إذا كان هناك
مجرّد الملاقاة ، من دون أن ينتقل شيء من الملاقى إلى الملاقي كما في المقام.
ومن هنا يعلم حكم ما إذا علم بغصبية
إحدى الشجرتين ثمّ أثمرت إحداهما دون الأُخرى ، فربّما يقال بجواز التصرف في
الثمرة تكليفاً ولعدم ضمانها وضعاً ، باعتبار انّ الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء
المغصوب وهو مشكوك فيه ـ والأصل عدمه ـ كما أنّ موضوع الضمان وضع اليد على مال
الغير وهو أيضاً مشكوك والأصل عدمه.
يلاحظ
عليه : بأنّ الثمرة ، عصارة الشجرة وجزء
منها ، فهي أشبه بما إذا كبرت الشجرة وأورقت وارتفعت أغصانها ، فتكون الشجرة مع
ثمارها وأوراقها طرفاً للعلم ، نظيره ما إذا علم بغصبية إحدى الشاتين فانتجت
إحداهما ، فلا يعد الولد خارجاً عن طرف العلم.
وأمّا الأصل الذي أُشير إليه فهو غير
تام ، لأنّه من قبيل الأصل الأزلي الذي لا نقول به ، ولا عبرة عند العقلاء ولا يعد
عدم الاعتداد به عند العقلاء ، نقضاً لليقين السابق.
الثالث
: لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم من الأحكام والآثار ، على كلّ واحد من
الطرفين من باب المقدمة العلمية ، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين فبما انّه لا يجوز
التوضّؤ بالنجس ، ولا بيعه لا يجوز التوضّؤ بأحدهما ولا بيع أحد منهما ، فما
للمعلوم من الآثار يترتّب على كلّ واحد لتحصيل البراءة القطعية إنّما الكلام في
ترتّب أثر المعلوم بالإجمال على ملاقي الطرفين كوجوب
الاجتناب المترتب
على الملاقي ، فهل يترتب على ملاقي أحد الأطراف أو لا؟ واستنباط حكمه رهن الوقوف
على حكم ملاقي النجس الواقعي ، فهل الاجتناب عنه من جهة انّه من شؤون الاجتناب عن
النجس وليس هنا تعبد وراء التعبد بلزوم الاجتناب عن النجس ، أو انّه موضوع مستقل
له حكم خاص وامتثال وعصيان مستقل ، نسب الأوّل إلى ابن زهرة والثاني إلى المشهور؟
وقد استدل للقول الأوّل
بوجهين
الأوّل
: قوله سبحانه : (
يا
أَيُّهَا المُدَّثِر * قُمْ فَانْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّر * وَثِيابَكَ فَطَهِّر
* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ).
قال ابن زهرة قوله : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
) وقوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة
) يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط
للنجاسة مطلقاً.
ترى أنّه استدل على تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة ، بما دلّ على لزوم هجرها
، فالآية تدل على هجر نفس العين النجسة ، لكنّه جعلها دليلاً على هجر مخالطها
أيضاً.
أقول
: إنّ الرِّجْز ـ بكسر الراء ـ ورد في القرآن الكريم تسع مرّات ، أُريد منه في
ثمانية موارد ، العذاب ; وفي مورد واحد ، القذارة ، وهي أثر الاحتلام الذي ابتلى
به بعض الحاضرين في وقعة بدر ، قال سبحانه :
(
إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطان
).
__________________
وأمّا الرُّجز ، فقد ورد مرة واحدة ،
وفسّر بالعذاب تارة والمراد الابتعاد من أسبابه ، والوثن أُخرى ، والقذارة ثالثة.
فعلى التفسيرين الأوّلين لا صلة للآية بالمقام ويكون خطاب الآية للنبي ، بمنزلة
قولهم : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وقوله سبحانه : (
لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَن مِنَ الْخاسِرين
).
وعلى المعنى الثالث يمكن أن يراد
القذارة المعنوية كالحسد والبخل ويكون مساقها مساق المعنيين السابقين ، كما أنّه
يمكن أن يراد منه القذارة الظاهرية ، وقد ورد في تفسيره انّ رجلاً بإيعاز من أبي
جهل ألقى شيئاً قذراً على النبي ّ ، فلو أُريد منه نجس العين فلا صلة لها بالمقام
، ولو أُريد منه الأعم منه ومن المتنجس فيصحّ الاستدلال ، لأنّه سبحانه أمر بهجرهما
بكلمة واحدة وأمراً واحداً ، وهذا يدل على أنّ هجر المتنجس من شؤون هجر النجس
موضوعاً مستقلاً.
يلاحظ
عليه : بعد تسليم المقدّمات ، لا مانع من أن
يكون كلّ من النجس والمتنجس مهجوراً بأمر مستقل ، ومع ذلك يصحّ الأمر بهجرهما
بمفهوم جامع بينهما وذلك مثل ما إذا كان شخصان محرّمي الإكرام كلّ بملاك خاص ، ومع
ذلك صحّ أن يقعا موضوعاً لحكم واحد ، كما إذا قال : لا تكرم العاصيين أو لا تكرم
الجالسَين.
الثاني
: ما رواه الشيخ ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ( الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر
الحكمة المتوفّى حوالي ٢٩٠ هـ ) عن محمد بن عيسى اليقطيني ( المعروف بالعبيدي
الثقة عند الجميع إلا عند أُستاذ الصدوق ابن الوليد ) عن النضر بن سويد ( الذي
وثّقه النجاشي ) عن عمرو بن شمر بن يزيد ( الذي ضعّفه النجاشي ، ولم يوثّقه أحد من
القدماء وإن سعى العلاّمة المجلسي والبهبهاني في إثبات وثاقته ) عن جابر ( بن يزيد
الجعفي من أصحاب الباقر الثقة
__________________
على الأقوى ) عن أبي
جعفر 7 قال : أتاه
رجل ، فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟
قال : فقال له أبو جعفر 7 : « لا تأكله » ، فقال له الرجل :
الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي من أجلها.
قال : فقال له أبو جعفر 7 : « إنّك لم تستخف بالفأرة ، وإنّما
استخففت بدينك انّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء ».
ويمكن تقريب الاستدلال بوجهين :
١. انّه فسر أكل الطعام الذي وقعت فيه
فأرة استخفافاً بالدين وفسّـره بتحريم الميتة ، فلو كانت نجاسة الملاقي للميتة
فرداً آخر وراء التعبد بنجاسة الميتة ، لم يكن أكل السمن أو الزيت استخفافاً
بالدين المفسّر بتحريم الميتة بل كان استخفافاً بالدين المفسّـر بوجوب الاجتناب عن
الملاقي.
٢. انّ الإمام 7 فسّر الاجتناب عن السمن أو الزيت بأنّ
اللّه حرم الميتة من كلّ شيء ، ولولا كون الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) من شؤون
الاجتناب عن الملاقى فقط لما كان لهذا التفسير وجه ، بل كان عليه أن يقول : إنّ
اللّه حرم كلّ شيء لاقى النجس.
وبالجملة نجد انّ الإمام يجعل الفأرة
والميتة موضوعاً للحكم من الاستخفاف والتحريم مع أنّ المطروح للراوي هو الزيت
والسمن الّذين وقعت فيهما الفأرة.
كلّ ذلك دليل على أنّ حكم السمن والزيت
مندك في حكم الميتة والفأرة ، ولذلك جعل أكل السمن استخفافاً بالدين وردّاً لتحريم
الميتة.
__________________
يلاحظ
عليه : مضافاً إلى أنّ الرواية ضعيفة السند
وإن كان يلوح عليها أثر الصدق بأنّ وجه التركيز على الفأرة والميتة مكان التركيز
على السمن والزيت لأجل تفسّخ الميتة في السمن والزيت وانحلالها فيه ، فكان أكلها
ملازماً لأكله.
أضف إلى ذلك انّ دلالة الرواية لا تخرج
عن حدّ الإشعار ، ولعلّ التركيز على الأمرين مكان السمن والزيت لأجل الحفاظ على
الانسجام بين كلام الراوي والإمام 7
حيث إنّ الراوي لمّا قال : الفأرة أهون علي ، فركّز الإمام على الفأرة وأجاب :
بأنّ عدم الاعتناء بها ليس استخفافاً بها وإنّما هو استخفاف بالدين ، ثمّ قال :
كيف تقول الفأرة أهون مع أنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء.
على أنّ التدقيق في الرواية يرشدنا إلى
أنّها بصدد أمر آخر ، وهو انّ الراوي تعجب من أن تكون الفأرة الصغيرة سبباً لحرمة
زيت أو سمن الخابية ، فأجاب الإمام 7
بأنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء من غير فرق بين الصغير والكبير ، وأمّا كون
نجاسة الملاقي من شؤون الملاقى أو فرد آخر فليس بصدد بيانه.
إلى هنا تمّ دراسة قول ابن زهرة ، وإليك
دراسة دليل المشهور ، فيدل على قولهم أُمور :
١. قوله 7
في الخبر المستفيض : « وإذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء » فإنّ مفهومه انّه إذا لم يبلغ الماء قدر
كرّ ينجسه شيء ، وظاهره هو العلّية وصيرورة الملاقي موضوعاً لأحكام النجاسة لا انّ
نجاسة الملاقي نفس نجاسة ذلك الشيء ومن توابعها وشؤونها وأطوارها.
٢. انّ الظاهر من مطهرية الماء والأرض
والشمس هو كون مسألة الطهارة والنجاسة داخل تحت عنوان السببية والعلّية ،
فالمطهرات علّة لزوال النجاسة ، كما أنّ النجاسات سبب لعروضها على شيء.
__________________
٣. اختلاف الملاقي في كثير من الأحكام
عن الملاقى ، فلو ولغ كلب في إناء يجب تعفيره ، ولو لاقاه شيء لا يجب إلا الغَسْل
، ومثله وجوب غسل ما لاقى البول مرتين ، دون ما إذا لاقى الماء الملاقي له ، فيجب
مرّة واحدة ، وعلى ذلك جرى مذاق المشهور في أبواب الطهارات والنجاسات ، كلّ ذلك
يؤيد نظرية المشهور.
الرابع
: إذا كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم شرعي يترتب أثر المعلوم بالإجمال
على كلّ من الطرفين ، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين ، فلا يجوز بيعهما ، ولا
بيع أحدهما ولا التوضّؤ بواحد منهما ، وذلك لأنّ الخمر وحده موضوع لحرمة البيع
والتوضّؤ فيترتب حكم المعلوم على كلّ من الطرفين من باب المقدمة العلمية.
الخامس
: إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للحكم الشرعي فلا يترتب الحكم عليه ، كما
إذا شرب أحد المائعين المردّدين بين الخمر والماء ، فلا يحكم على الشارب بالحدّ ،
لأنّ الموضوع للحدّ هو شرب الخمر ، والمعلوم بالإجمال هو نفس الخمر فلا يترتب أثره
على شرب أحد الطرفين ، ومثله ما إذا علم وجداناً بكون أحد الجسدين ميِّتَ إنسان
والآخر جسد حيوان مذكّى مأكول اللحم ، فلا يجوز بيعهما ولا واحد منهما ، لعدم
ترتّب منفعة محللة مع العلم الإجمالي ، ولكن لو مسّ واحداً من الجسدين لا يجب عليه
غسل المس ، لأنّ المحرز هو مسُّ أحد الجسدين المردّد بين ما يجب على من مسّه الغسل
، وعدمه ، والأثر مترتّب على مس ميت الإنسان ، والمعلوم بالإجمال هو وجود الميت
بين الجسدين.
هذه هي المقدّمات الخمس المؤثرة في
استنباط حكم الملاقي والأقوال فيه ثلاثة :
١. كونه محكوماً بحكم الملاقى في لزوم
الاجتناب والاشتغال.
٢. إجراء البراءة والحكم بطهارة
الملاقي.
٣. التفصيل الظاهر من المحقّق الخراساني
في الكفاية.
دليل القائل بلزوم الاجتناب
إنّ محط البحث فيما إذا حصل الملاقاة
بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين ، فعندئذ يحصل بعد الملاقاة علوم ثلاثة :
١. العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف
الآخر.
٢. العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف
الآخر.
٣. العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو
ذاك الطرف ، وذلك لاتحاد حكمها ، فيجب الاجتناب عن الجميع بغية الاجتناب عن النجس
في البين.
يلاحظ
عليه بما مرّ في الأمر الأخير
: من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي ، كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير ،
حتى يحصل منه علم بتكليف فعليّ ، وإلا فلو أحدث على فرض دون فرض ، لا يحصل منه
العلم به قطعاً ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً في الفروع التالية :
١. لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في أحد
الإناءين الّذين كان أحدهما محكوماً بالنجاسة ووجوب الاجتناب بدليل شرعي ، وبما
أنّ العلم الإجمالي لا يُحدِث تكليفاً في الإناء المحكوم بالنجاسة ، لأنّه محكوم
بها وإن لم يكن هناك علم إجمالي ، فلا يجري فيه الأصل ، للعلم بنجاسته ووجوب
الاجتناب عنه ، ويجري في الإناء الآخر بلا معارض.
٢. لو علم إجمالاً انّه فات منه إحدى
الصلاتين : صلاة العصر مع انقضاء وقته ، وصلاة العشاء مع بقاء وقته ، وبما انّ
العلم الإجمالي بفوت إحداهما لا يُحدث تكليفاً في جانب صلاة العشاء ، لأنّ صرف
الشكّ في الوقت ، وإن لم يكن هناك علم إجمالي كاف في لزوم الإتيان بها ، فلا يجري
فيها الأصل ، وإنّما تجري أصالة البراءة أو قاعدة التجاوز في جانب صلاة العصر بلا
معارض.
٣. لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين
، ثمّ علم إجمالاً بوقوع نجاسة إما في أحدهما أو في الإناء الثالث ، وبما انّ
العلم الإجمالي لا يؤثر في جانب الإناءين ، لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عنهما ولو
لم يكن هناك علم إجمالي ، فلا يجري الأصل في جانبهما ، ويجري الأصل في جانب الإناء
الثالث بلا معارض.
هذه الأمثلة وماضاهاها داخلة تحت
الضابطة السابقة من أنّه يشترط في تنجّز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على
كلّ تقدير وإلا فلا يحصل علم فعلي لازم الامتثال على كلّ تقدير ، كما لا يجري
الأصل في جانب الموضوع المحكوم سابقاً ويجري في جانب الطرف الآخر المشكوك.
وعلى ضوء هذا ، يعلم جواب الاستدلال ،
لأنّ مورد البحث فيما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الملاقاة ، وفي مثله يكون
العلم الإجمالي الأوّل منجِّزاً ، والثاني غير منجِّز ، والثالث ليس علماً جديداً
بل تلفيقاً من الأوّلين الّذين اتضح حكمهما.
أمّا منجِّزية العلم الأوّل فواضح ،
وأمّا عدم منجِّزية العلم الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الاجتناب
عن الطرف الآخر ، أو الملاقى ، ليس محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير لافتراض انّ
الطرف الآخر كان واجب الاجتناب ببركة العلم الأوّل ، وإن لم يكن هناك علم إجمالي
ثان ، فلا يكون الثاني مؤثراً فيه ، كما لا تجري فيه أصالة الطهارة لكونه محكوماً
بوجوب الاجتناب بالعلم الأوّل ، ويكون الشك في الملاقي من قبيل الشكّ في الشبهة
البدوية ويجري فيه الأصل.
وأمّا العلم الثاني فهو ليس علماً
جديداً ، بل هو تلفيق من العلمين الّذين تبيّن حكمهما.
هذا هو الحقّ القراح في الجواب ، وإليك دراسة
إجابة الشيخ الأنصاري 1.
تحليل إجابة الشيخ الأنصاري
ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن
الاستدلال بقوله : قلت : إنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن
معارضة أصالة الطهارة في المشتبه الآخر ، وحلّيته ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في
الملاقى ( بالفتح ) فانّ جريان الأصلين فيه يعارض جريانهما في المشتبه الآخر ،
والسرّ في ذلك انّ الشكّ في الملاقي ( بالكسر ) ناش عن الشبهة المتقوّمة
بالمشتبهين ، فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي ، والأصل فيه أصل في الشكّ المسببي
، وقد تقرّر في محلّه انّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ، ومع جريان الأصل
في الملاقى لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي ( بالكسر ) والمفروض انّ
الأصل في الملاقى سقط لأجل التعارض مع أصل الطرف الآخر ، فتصل النوبة إلى جريان
الأصل في الملاقي بلا معارض.
يلاحظ
عليه : أنّه مبنيّ على أنّ الرتب العقلية
موضوعة للأحكام الشرعية ، فعندئذ يقدم الأصل المتقدّم رتبة على الأصل المتأخر كذلك
، فإذا سقط الأصل في الرتبة المتقدمة بالتعارض ، تصل النوبة إلى الأصل في الرتبة
المتأخرة بلا معارض.
ولكنّه أمر غير صحيح ، وذلك لأنّ
المخاطب بقوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » هو العرف لا الفيلسوف العارف
بدقائق المسائل العقلية ، وعلى ذلك فالخطابات ناظرة إلى المصاديق الخارجية للشك ،
والمفروض انّ كلّ واحد من الطرف الآخر والملاقى والملاقي ، مشكوك الطهارة معاً ،
فيجري فيهما الأصل في عرض واحد ، لأنّ المكلّف عندما يشكّ في طهارة الملاقي (
بالكسر ) يشكّ في طهارة العدلين الآخرين ، فلا وجه لجريان الأصل فيهما قبل جريانه
في الملاقى.
__________________
وبذلك يعلم عدم صحّة الشبهة الحيدرية
التي حاولت إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي ، ببيان جديد ، وحاصلها : انّ كلاً من
الطرف والملاقى والملاقي ( بالكسر ) صالح لجريان أصلين في كلّ واحد منها :
١. أصالة الطهارة ٢. أصالة الحلية.
ومنشأ الشكّ في الحلّية ، هو الشكّ في
طهارته ، فلو ثبتت طهارته ، ثبتت حليته ، كما لو ثبتت نجاسته ، ثبتت حرمته.
وعلى ذلك فأصالة الطهارة في الطرف
والملاقى ( بالفتح ) في رتبة واحدة.
ولكن أصالة الطهارة في الملاقي في مرتبة
ثانية.
كما أنّ أصالة الحلية في الطرف الآخر هي
أيضاً في رتبة متأخرة.
وعندئذ فأصالة الطهارة في الملاقي (
بالكسر ) وإن كان لا يعارض أصالة الطهارة في الملاقى لما عرفت من أنّ الأصل يجري
في الملاقى في رتبة متقدمة على الأصل الجاري في الملاقي ، لكن أصالة الحل في جانب
الطرف الآخر مع أصالة الطهارة في الملاقي في درجة واحدة فيتعارضان ويتساقطان ،
وتكون النتيجة انّ الطرف الآخر يكون محكوماً بالحرمة ، كما يكون الملاقي محكوماً
بالنجاسة.
وجه عدم الصحّة : انّ التعارض مبني على
حفظ الرُّتَبِ في جريان الأُصول وانّ أصالة الطهارة تجري في الملاقى وطرفه قبل
جريانها في الملاقي ، ثمّ في مرتبة متأخّرة تجري فيه أصالة الطهارة التي تعارضها
أصالة الحلية في الطرف الآخر بما أنّـها أيضاً في درجة ثانية ، لأنّـها مسببة من
أصالة الطهارة فيه.
وقد عرفت أنّ الموضوع لقوله : « كلّ شيء
طاهر ، كلّ مشكوك » في زمان واحد والمفروض انّ الملاقى مشكوك الطهارة والحلية في
عرض الشكّ في الطرفين.
والجواب ما ذكرناه فلاحظ.
القول بالتفصيل للمحقّق
الخراساني
إلى هنا عرفت دليل القولين ، أعني :
وجوب الاجتناب وعدمه ، وإليك دليل القائل بالتفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني
في كفايته وحاصل كلامه : إنّ هنا صوراً ثلاث :
الأُولى
: ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف والملاقى دون الملاقي ، وذلك فيما إذا كان العلم
الإجمالي متقدماً على الملاقاة والعلم بها ، وهذا هو الذي فرغنا من البحث فيه
ووجهه واضح كما تقدّم بالبيانين السابقين.
أ : انّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي
أو الظرف الآخر غير منجِّز لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير ، لأنّ الطرف
الآخر كان واجب الاجتناب فلا يجري فيه الأصل ويجري في الملاقي بلا معارض.
ب : ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري من
تقدّم جريان الأصل في السببي أي الملاقى على المسببي أي الملاقي فإذا تعارض
الأصلان في ناحية السببي تصل النوبة حينها إلى المسببي فتجري بلا معارض.
الثانية
: مايجب فيه
الاجتناب عن جميع الأطراف : الملاقى والملاقي والطرف الآخر. وذلك إذا علم
بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر فعندئذ يحدث
العلم الإجمالي متعلّقاً بالجميع وتكون الثلاثة معاً طرفاً للعلم.
الثالثة
: ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر دون الملاقى.
وقد مثّل لذلك مثالين :
__________________
الأوّل
: لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي ونجاسة
شيء آخر ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى وذاك الشيء أيضاً ، فانّ
حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال الملاقي في الصورة السابقة في عدم كونه
طرفاً للعلم الإجمالي وانّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة
أصلاً لا إجمالاً ولا تفصيلاً.
مثلاً علم نجاسة يده أو نجاسة الجانب
الأيسر من السجادة ثمّ علم بملاقاة اليد للجانب الأيمن منها على وجه يكون العلم
متأخراً والمعلوم ( الملاقاة ) متقدماً ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها ، فالعلم
الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين غير منجّز ولا مؤثر ، وذلك لأنّ
الجانب الأيسر قد وجب الاجتناب عنه بحكم العلم الإجمالي الأوّل ، فلا يجري فيه
الأصل ويجري في طرفه أي الجانب الأيمن بلا معارض.
فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد
والجانب الأيسر ، بحكم العلم الإجمالي الأوّل وعدم وجوب الاجتناب عن الجانب الأيمن
لعدم منجّزية العلم الثاني ، وهذا هو الذي قال فيه المحقّق الخراساني : يجب
الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر دون الملاقى.
الثاني
: لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ
الابتلاء في حال حدوث العلم الإجمالي وقد وقع محلاً للابتلاء بعد حدوث العلم ،
مثلاً ، لو لاقت يده إحدى السجادتين ثمّ علم إجمالاً بنجاسة هذه السجادة أو
السجادة الأُخرى ولكن كانت السجادة الأُولى حين حدوث العلم الإجمالي خارجة عن محل
الابتلاء بأن سرقها سارق وأخرجها من البلد ، ثمّ عثر
__________________
عليها وصارت محلاً
للابتلاء.
وبما انّ الملاقى عند حدوث العلم كان
خارجاً عن محلّ الابتلاء لم يكن العلم الإجمالي محدثاً للتكليف بالنسبة إليها ،
وعندئذ يقوم الملاقي بحكم وحدة حكمهما في الواقع مكانه ويكون طرفاً للعلم الإجمالي
وتُصبح النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد والسجادة الثانية ويكون العلم الإجمالي
منجِّزاً.
ولكن عودة السجادة الأُولى إلى محل
الابتلاء لا يجعلها طرفاً للعلم الإجمالي لخروجها عند حدوث العلم الإجمالي.
هذا توضيح ما في الكفاية.
ولنا معه نقاش في كلا الموردين من
الصورة الثالثة.
أمّا النقاش في المورد الأوّل فنقول :
إنّ هنا تصويرين :
التصوير
الأوّل : أن يكون العلم الإجمالي الأوّل
ثابتاً غير زائل عند حدوث العلم الثاني ، مثلاً إذاعلم نجاسة يده أو الجانب الأيسر
من السجادة ثمّ علم بالملاقاة على وجه يكون العلم والمعلوم ( الملاقاة ) متأخرين
عن العلم الإجمالي الأوّل ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها من دون أن تكون نجاسة
اليد مستندة إلى الملاقاة ، ففي مثل هذه الصورة يصحّ ما ذكره من وجوب الاجتناب عن
الملاقي دون الملاقى ، لأنّ العلم الإجمالي نجّز وجوب الاجتناب عن الجانب الأيسر
مع اليد ، فلا يكون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين محدثاً
للتكليف في الأيسر لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب من قبل ، ولأجل ذلك لا يجري فيه
الأصل ، وبالتالي يجري في الجانب الأيمن بلا معارض.
ومن المعلوم انّ هذه الصورة خارجة عن
محطّ البحث ، لأنّه فيما إذا كان للملاقاة أثر في وجوب الاجتناب وتأثير في نجاسة
الملاقي أمّا في هذه الصورة فليس للملاقاة أي أثر ، فلا معنى لطرحه في البحث ،
وليس هذا أيضاً مقصوده ،
ويشهد بذلك انّه فرض
كون الملاقاة متقدمة وجوداً ومتأخّرة علماً وليس لهذا الفرض ( تقدّم الملاقاة
وجوداً ) وجه سوى كونه أساساً للعلم الإجمالي الأوّل وإلا يكون وزانه وزان ما علم
بنجاسة أحد الإناءين الأصغر والأكبر ثمّ علم إجمالاً أيضاً بنجاسة الإناء الأكبر
أو الإناء الثالث ، ومن المعلوم انّ هذا النوع من العلم الإجمالي لا يؤثر ، لأنّ
الإناء الأكبر صار محكوماً بوجوب الاجتناب بتنجز العلم الإجمالي الأوّل ، فلا يكون
للعلم الإجمالي الثاني تأثير بالنسبة إلى الإناء الأكبر ويكون الإناء الثالث مجرى
للأصل بلا معارض.
التصوير
الثاني : تلك الصورة ولكن كان للملاقاة تأثير
وانّه لو كان الملاقي نجساً فإنّما هي لأجل ملاقاته للجانب الأيمن من السجادة ،
ففي مثل هذه الصورة ينهار العلم الإجمالي الأوّل ويظهر خطؤه ، لأنّ نجاسة الملاقي
على فرضها ناجمة من نجاسة الملاقى وانحصار سبب نجاسة الملاقى بالملاقاة وإن لم
يصرّح به في متن الكفاية إلا أنّه صرّح به في حاشيتها ووجه الحاجة إلى القيد واضح.
وعندئذ ينقلب العلم الإجمالي الأوّل
الدائر بين نجاسة اليد والجانب الأيمن إلى علم إجمالي آخر وهو نجاسة أحد الجانبين
من السجادة ، فلو كانت اليد نجسة فإنّما هو لملاقاتها فيزول العلم الإجمالي الأوّل
، ويبقى العلم الإجمالي الثاني وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الجانبين على خلاف
ما ذكره المحقّق الخراساني.
وأمّا الملاقي فبما انّ العلم بالملاقاة
كان متحقّقاً قبل العلم الإجمالي الثاني الذي هو العلم الحقيقي فينضم الملاقي إلى
الملاقى ويكونان معاً طرفاً للعلم الإجمالي والطرف الآخر هو الجانب الأيسر ويشبه
هذا المورد الصورة الثانية في كلامنا أو الصورة الثالثة في كلام المحقّق
الخراساني. وتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف الآخر ، وإليك
الكلام في المورد الثاني.
__________________
تحليل
المورد الثاني : أعني ما إذا علم
بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر قبل الملاقاة لكن
كان الملاقى حين حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء ، فحينئذ يقع الملاقي طرفاً
للعلم ويحلّ محلَ الملاقى وبالتالي : لا وجه للاجتناب عن الملاقى ولو دخل محل
الابتلاء ثانياً.
يلاحظ
عليه : أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما
يكون مانعاً عن جريان الأصل إذا لم يترتب عليه أثر ، دونما إذا كان له أثر حتى في
هذه الحالة أيضاً ، والأثر المترتب على الأصل الجاري في الملاقى الخارج عن محلّ
الابتلاء هو طهارة ملاقيه ، وعند ذلك ، يجري الأصل في الملاقى وإن كان خارجاً عن
محلّ الابتلاء ويتعارض مع جريانه في الطرف الآخر ، ويتساقطان ، وعلى ذلك لو عاد
الملاقى إلى محلّ الابتلاء وجب الاجتناب عنه ، لأنّه ـ لأجل ترتّب الأثر عليه ـ لم
يخرج عن كونه طرفاً للعلم.
وأمّا الملاقي ، فالظاهر وجوب الاجتناب
عنه ، لأنّه لمّا كانت الملاقاة متقدمة على العلم الإجمالي وجوداً وعلماً فقد حدث
العلم الإجمالي والمكلّف عالم بملاقاة اليد بإحدى السجادتين ، فيتعلق العلم
الإجمالي بالثلاثة مرّة واحدة غاية الأمر يشكِّل مجموع الملاقى والملاقي طرفاً
والشيء الآخر طرفاً آخر.
هذا هو حال التفصيل للمحقّق الخراساني
والنتيجة هي الموافقة معه في الصورة الأُولى والثانية ، وأمّا الثالثة ، فحكمها هو
الاجتناب عن جميع الأطراف حتى الملاقى على ما عرفت.
ثمّ إنّه ينبغي طرح ضابطة يعلم بها حكم
الموارد التي لا يجب الاجتناب عن الملاقي عمّا يجب ، وسيوافيك قريباً.
بقيت هنا أُمور :
الأوّل : ما هي الضابطة
لتميز موارد الاجتناب عن غيرها
إنّ الضابطة لتمييز موارد الاجتناب عن
غيرها عبارة عن وقوع الملاقي طرفاً للعلم حين حدوثه سواء كانت الطرفية محرزة حين
حدوث العلم أو صارت مكشوفةً بالعلم الثاني ، ولأجل إيضاح القاعدة نأتي بأمثلة :
١. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد
الطرفين متقدماً على الملاقاة والعلم بها ، فلا شكّ انّه يجب الاجتناب عن الملاقي
دون الملاقى لما عرفت من البيانين :
أ : انّ العلم الإجمالي الأوّل منجز دون
العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة الملاقي والطرف الآخر.
ب : تقدّم الأصل السببي على المسببي
فيتعارض الأصل في السببي ( الملاقى ) مع طرف الآخر
ويجري في المسببي ( الملاقي ) بلا
تعارض.
٢. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد
الطرفين متقارناً مع العلم بالملاقاة ، فلا شكّ أنّ الملاقي طرف للعلم ضرورة حدوث
العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى والملاقي والطرفِ الآخر.
وعلى ذلك فكلّما كانت الملاقاة وجوداً
وعلماً بها متأخرة لا يجب الاجتناب عن الملاقي لانعقاد العلم الإجمالي مؤثراً قبل
الملاقاة ، فلا يكون الملاقي طرفاً للعلم ، بخلاف ما إذا حصل العلم الإجمالي
والملاقاة والعلم بها دفعة واحدة فيقع الملاقي باعتبار وحدة الزمان طرفاً للعلم لا
خارجاً عنه.
٣. لو كان العلم الإجمالي متأخّراً عن
الملاقاة علماً لا معلوماً ( وجوداً ) كما إذا
وقعت قطرة من الدم
بين الإناءين يوم الخميس ولم يقف عليه ، ثمّ علم بملاقاة الثوب لأحد الإناءين يوم
الجمعة ، ثمّ علم يوم السبت بوقوع قطرة بين الإناءين يوم الخميس على وجه يكون
المعلوم ( وقوع القطرة ) متقدماً ، والعلم بها متأخراً ، فهل يجب الاجتناب عن
الملاقي أو لا؟ الظاهر نعم ، إذ لا أثر لتقدم المعلوم ( وقوع القطرة في أحد
الإناءين يوم الخميس ) ولذلك لم يتنجّز الحكم بالاجتناب عن الإناءين لعدم العلم
والتنجز من آثار العلم لا من آثار المعلوم ، والمفروض انّ العلم بالملاقاة كان
متقدّماً على العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين ، فإذا طرأ العلم الإجمالي يكون
الملاقي طرفاً للعلم ويشبه الصورة الثانية التي قلنا بوجوب الاجتناب عن الجميع.
٤. إذا تقدّم حدوث النجاسة وجوداً
وتحقّقت الملاقاة وجوداً كذلك بلا علم بهما ، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة أحد
الإناءين والملاقاة مترتباً.
وفي المقام تحقّقت الملاقاة قبل العلم
الإجمالي ولكن حصل العلم بها بعده ، فالعلم الإجمالي بنجاسة المشتبهين متوسط بين
وقوع الملاقاة ، والعلم بها.
فهل يلحق بالصورة الأُولى بحجّة انّ
العلم بالملاقاة متأخّر أو يلحق بثانية الصور وثالثتها؟
الظاهر هو الثاني ، لأنّ العلم بالملاقاة
وإن كان متأخّراً عن العلم الإجمالي لكنّه كشف عن وجود الملاقاة واقعاً قبل العلم
الإجمالي ، والعلم الإجمالي وإن تعلق بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر لكن بعد العلم
بالملاقاة وتحقّقها قبل العلم الإجمالي ينقلب متعلّق العلم ويصير أحد طرفيه مركباً
والآخر بسيطاً وانّ العلم كان ناقصاً من حيث بيان الطرف فيجب الاجتناب عن الجميع.
وبذلك اتّضحت الضابطة الكلية في حكم
الملاقى وانّ المقياس هو كون الملاقي طرفاً واقعياً للعلم حين حدوثه أو علم
طرفيّته بعد حدوثه.
الثاني : في شرطية العزم على
الإتيان بالجميع في صدق الامتثال
ذهب الشيخ في الشبهات البدئية إلى أنّه
يكفي في تحقّق الامتثال مجرد قصد الأمر المحتمل ولكنّه اشترط في الشبهة المقرونة
بالعلم الإجمالي لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، ولازمه
أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين ، قاصداً للإتيان بالآخر ، ولولا ذلك
لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، قال : إنّ النيّة في
كلّ من الصلوات المتعدّدة بالنحو التالي : ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً
لإحراز الواجب الواقعي المردّد بينها وبين صاحبها تقرباً إلى اللّه على أن يكون
القرب علّة للإحراز الذي جعل غاية للفعل ، ويترتّب على هذا انّه لابدّ من أن يكون
حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر إذ النيّة المذكورة لا تتحقق بدون ذلك ، لأنّ
من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي ، على كلّ
تقدير بل هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً.
يلاحظ
عليه : أنّ اللازم في امتثال الأُمور
العبادية هو الإتيان بها لأجله سبحانه ، إمّا لأجل أمره قطعياً كان أو احتمالياً
ولأجل ذلك يصح الاغتسال للجنابة وإن لم يعلم بها ، وهذا الملاك متحقّق في الأمرين
الّذين يعلم بوجوب أحدهما ، وما ذكره من « أنّه يجب أن يأتي لإحراز الواجب الواقعي
تقرباً إلى اللّه وهو لا يتحقّق عند الاقتصار بأحد الفعلين » غير تامّ ، لأنّ
لإحراز الواجب مرتبتين ، تارة تكون الغاية من الإتيان ، هو الإحراز على كلّ تقدير
، وأُخرى الإحراز على بعض التقادير ، وعلى كلّ تقدير فهو بصدد إحراز الواجب لأجله
سبحانه غير انّ الإحراز تارة يكون قطعياً وأُخرى ظنّياً والإحراز الظنّي قسم منه.
__________________
الثالث : في تقدّم الامتثال
القطعي على التعليقي
إذا كان الواجب المشتبه ، أمرين مترتبين
شرعاً كالظهر والعصر المردّد بين القصر والإتمام أو المردّد بين الجهات الأربع ،
فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق ، الفراغ اليقيني من الأوّل
بإتيان جميع محتملاته كما صرح به في الموجز وشرحه ، والمسالك ، والروض والمقاصد العلية
أو يكفي فعل بعض محتملات الأول بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الإتيان بمجموع
محتملات المشتبهين كما عن نهاية الأحكام والمدارك فيأتي بظهر وعصر قصراً ، ثمّ
يأتي بهما تماماً ، وقد ذكر الشيخ لكلّ من الاحتمالين وجهاً. وقوّى القول الثاني بقوله : إنّ أصالة
عدم الأمر بالنسبة إلى الإتيان بـ « محتملات العصر » إنّما تقتضي عدم مشروعية
الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعاً كما إذا
صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر.
وأمّا ما لا يحتمله إلا على تقديره وجود
الأمر ، كما إذا صلّى العصر إلى الجهة التي صلّى إليها الظهر ، فلا يقتضي الأصل
المنع عنه.
ولكن ذهب المحقّق النائيني إلى عدم
الجواز قائلاً : إنّ الامتثال التفصيلي مقدّم على الامتثال الإجمالي ، فإنّ إحراز
القبلة على وجه التفصيل وإن كان غير ممكن إلا أنّ إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر
عند الشروع في العصر وانّ العصر واقع بعده أمر ممكن فيجب تحصيله.
يلاحظ عليه بوجهين :
١. انّه مبني على تقدم الامتثال
التفصيلي على الإجمالي ، وهو ممنوع ، لما عرفت
__________________
من جواز العمل
بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد.
٢. انّ ما يتوخّاه المستدل ( إحراز فراغ
ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع بالعصر وانّ العصر واقع بعده ) حاصل في كلتا
الصورتين ، لأنّ ما بيده من محتملات العصر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن يكون
إلى القبلة ، فعندئذ يعلم أنّ ذمته فرغت عن صلاة الظهر ويكون ما بيده واقعاً بعد
الظهر حتماً ويكون كلا الأمرين حاصلين ، غاية الأمر بصورة تعليقية ؛ أو لا يكون
إلى القبلة ، فتكون الصلاتان ، أشبه بالحركات الفارغة أو الصلوات التمرينية التي لا
يترتب عليها أثر حتى يحتاج إلى إحراز شرطه وهو فراغ ذمّته عن الظهر أوّلاً ، وكون
العصر واقعاً بعده إذ المفروض انّه ليس بصلاة بل صورتها.
والحاصل انّ الشرط إمّا حاصل تفصيلاً
ولكن تعليقاً ، وإمّا لا حاجة إلى إحراز الشرط.
الرابع : في حكم الخنثى
المشكل
العلم الإجمالي بالتكليف تارة يكون
ناجماً من الترديد في المكلَّف به ، كدوران الواجب بين الظهر والجمعة ، والحرام
بين أحد الإناءين ، وأُخرى من الترديد في نفس المكلَّف ، وأنّه هل هو رجل أو امرأة
، كما هو الحال في الخنثى المشكل ، بناء على انّه ليس طبيعة ثالثة ، بل هو إمّا
رجل أو امرأة.
لا شكّ أنّ هناك أحكاماً مشتركة بين
الجنسين كالصلاة والصوم والخمس والزكاة فيجب عليه امتثالها سواء أكان رجلاً أم
امرأة ، لكنّ هناك أحكاماً مختصة بكلّ جنس ، فهو يعلم أنّه مخاطب بحكم أحد الجنسين
كالأحكام التالية :
أ : حرمة لبس أحد لباسي الرجل أو المرأة
المختصين بهما.
ب : حرمة النظر إمّا إلى الرجل أو
المرأة.
ج : حرمة التكلّم مع الرجل أو المرأة ـ
بناء على حرمته ـ إلا في الأُمور الضرورية.
د : حرمة استماع كلام الرجل ، أو المرأة
على القول به.
هـ. حرمة كشف أحد قبليه ، وأمّا الدبر
فهو محرّم الكشف مطلقاً.
و : حرمة التزويج أو التزوج لوجوب إحراز
الرجولية في الزوج أو الانوثية في الزوجة.
ولكن يجوز لكلّ من الرجل والمرأة النظر
إليه ، والتكلّم معه واستماع صوته لكون المورد بالنسبة إليهما من قبيل الشبهة
الموضوعية.
نعم مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط ،
والجمع بين التكليفين ، ولكنّه يتوقف على ثبوت أمرين :
الأوّل
: انّ الخنثى هو الذي له ذكر وفرج امرأة ، وينقسم إلى مشكل وغير مشكل ، فما فيه
علامات الذكورية أو الأُنوثية يحكم عليه حسب العلامات ، وإنّما الكلام في القسم
المشكل الذي حاول الفقهاء أن يبيّنوا الحكم الشرعي في حقّه.
واعلم أنّ المحاولة في المقام لحلّ
مشكلة الخنثى على أساس أنّه ليست طبيعة ثالثة ، وانّه إنّما هو ذكر أو أُنثى ،
ويمكن استظهاره من قوله سبحانه : (
أَيَحْسَبُ
الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيّ يُمْنى * ثُمَّ
كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالأُنْثى ) فالآية
تبيّن أنّ الإنسان إمّا ذكر أو أُنثى ، حيث جعل المقسم ، الإنسان ، والخنثى داخل
في المقسم فيكون داخلاً في أحد القسمين ، فكان قوله سبحانه : ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
) بمعنى صيّره
وقسّمه إلى قسمين : الذكر والأُنثى :
__________________
ويؤيده أيضاً قوله سبحانه : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشاءُ الذُّكُور ) ،
والآية ظاهرة في حصر الولد في أحد الأمرين ولو كان طبيعة ثالثة يبطل الحصر وتؤيده
الروايات حيث ورّثوه حسب الاختبارات المذكورة في كتاب الإرث.
ففي صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد
اللّه 7 : سئل عن
مولود ولد ، له قبل وذكر ، كيف يُورث؟ قال : « إن كان يبول من ذكره فله ميراث
الذكر ، وإن كان يبول من القبل فله ميراث الأُنثى ».
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في
اختباره.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ الإسلام يعامله أحد
الجنسين لا جنساً ثالثاً.
وأخيراً قد أصبح معرفة الخنثى وأنّه هل
هو ذكر أو أُنثى من السهولة بمكان ، وذلك بفضل التقدم العلمي الهائل في مجال الطب
، حتى أصبح بالإمكان إجراء عملية جراحية بغية التعرّف على أنّه من أيّ واحد من
الجنسين.
الثاني
: انّ مقتضى القاعدة الأوّلية في حقّه هو الاحتياط فلا يتزوج أبداً ، ولا ينظر إلا
إلى المحارم ، ولا يُري بدنه إلا لهم ويتجنب عن مختصات الجنسين ، لكنّها إنّما تتم
إذا لم يوجب حرجاً وإلا فله الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقاً أو بقيد القرعة ويستمرّ
، عليه إذ التخيير بدويّ لا استمراريّ.
__________________
المقام الثاني : في دوران
الأمر بين الأقل والأكثر
وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :
١. قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به
ينقسم إلى شبهة تحريمية وشبهة وجوبية ، ومنشأ الشكّ في كلّ ، تارة فقدان النص ،
وأُخرى إجمال النص ، وثالثة تعارض النصين ، ورابعة اختلاط الأُمور الخارجية.
وبما أنّ تقسيم الشبهة التحريمية إلى
المسائل الأربع ، تصوير ذهني ليس لها واقع خارجي ، سوى الشبهة الموضوعية ركّزنا
البحث في الشبهة التحريمية عليها وقسمناها إلى محصورة وغير محصورة.
وأمّا الشبهة الوجوبية فلها وراء
المسائل الأربع تقسيم آخر ، وهو أنّ الواجب يدور تارة بين المتبائنين وأُخرى بين
الأقل والأكثر ، وبما انّ حكم المتبائنين واضح وهو وجوب الاحتياط بين المشتبهين
ركزنا البحث على الأقل والأكثر.
٢. انّ الأقل والأكثر ينقسمان إلى
الاستقلاليين والارتباطيين ، والفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر
الاستقلالي ـ على فرض وجوبه ـ حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ،
كالفائتة المرددة بين الواحد والكثير ، والدّين المردّد بين الدرهم والدرهمين ،
بخلاف الأقلّ الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر ، متّحد معه حكماً ووجوباً ،
ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، ولا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة ،
كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة وعدمها.
وبما ذكرنا يعلم أنّ ما هو المقصود من
الشبهة التحريمية ـ أعني : الشبهة الموضوعية ـ ليس له إلا قسم واحد ، وهو الأقل
والأكثر الاستقلاليين ، ولا يتصوّر له إلا قسم واحد ، بخلاف الشبهة الوجوبية فبما
انّ البحث فيها لا ينحصر بالموضوعية بل يعمّ المسائل الثلاث ، ينقسم إلى الأقلّ
والأكثر الاستقلاليين أو الارتباطيين ، وقد أشار الشيخ إلى ما ذكرنا في الفرائد ،
قال : إنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به صورة دوران الأمر
بين الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشكّ في أصل
التكليف ، لأنّ الأقلّ حينئذ معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأكثر.
٣. انّ المشكوك من الشبهة الوجوبية ، تارة يكون
الجزء الخارجي كالسورة والقنوت ، وجلسة الاستراحة بعد السجدتين ، وأُخرى الخصوصية
الموجودة في العبادة ، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات
والمسحات بنية التقرب ، وثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به كما إذا دار أمر
الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة ، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من
الخصال ، أو المردّد بين الأُمور الثلاثة.
وسيوافيك انّ التقسيم الأخير ، لا تأثير
له في الحكم ، ولكن المحقّق الخراساني طرح أمر الجزء في المقام وأحال البحث عن
الأمرين إلى التنبيهات ، ولكن الشيخ قد بحث في كلّ قسم مستقلاً. ونحن إثر الشيخ 1 ونبحث في مقامين نقدّم البحث في الجزء
على البحث في الشرط والقيد المشكوك :
٤. انّ الأقوال في الأقل والأكثر
الارتباطيين ، لا تتجاوز عن ثلاثة :
أ : جريان البراءة العقلية والشرعية.
ب : القول بالاحتياط وعدم جريانهما.
ج : التفصيل بين العقلية والشرعية تجري
الأُولى دون الثانية.
__________________
المقام الأوّل : في الجزء
المشكوك
إذ اعرفت ذلك ، فاعلم أن القائلين
بجريان البراءتين في الجزء المشكوك استدلوا بوجوه :
الأوّل : الأقل واجب إمّا
نفسيّاً أو غيرياً
قال الشيخ الأعظم : إنّ العلم الإجمالي
بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل مطلقاً وجب الأقل أو
الأكثر ، وشك بدويّ في وجوب الأكثر ، فتجري البراءة في المشكوك دون المعلوم ، أمّا
كون الأقل واجباً على كلّ تقدير ، لأنّه لو كان الواجب هو الأقل ، يكون واجباً
نفسياً ولو كان الواجب هو الأكثر يكون الأقل واجباً غيرياً ، فإلزام المولى في
مورده مقطوع وفي غيره مشكوك.
يلاحظ عليه بأُمور :
١. أنّه مبني على وجوب مقدّمة الواجب ،
وقد فرغنا من عدم وجوبها بل لغوية وجوبها ، ولأنّ الهدف من إيجابها هو إيجاد
الداعي ، فلو كان الأمر بذي المقدمة كافياً في الدعوة إلى ذيها ، لكفى في الدعوة
إلى المقدّمة وإلا لما كان الأمر المقدمي داعياً إلى المقدمة.
٢. إذا قلنا بوجوب المقدّمة فإنّما نقول
بوجوبها في المقدمات الخارجية ، أعني : فيما إذا كانت هناك اثنينية بين المقدمة
وذيها ، دون ما إذا كانت المقدّمة نفس ذي المقدمة وكانت المغايرة بينهما اعتبارية.
٣. انّ غايته هو العلم بالوجوب الجامع
بين النفسي والمقدّمي ، ومثل هذاوجوب انتزاعي يدركه العقل ، ومثل هذا لا يكون
سبباً للانحلال ، لأنّ المراد من الانحلال هو العلم لوجوب الأقل شرعاً وجوباً
مجعولاً لا وجوباً منتزعاً.
__________________
الثاني : الأقل واجب إمّا
استقلالي أو ضمني
إنّ الكل واجب بوجوب استقلالي ،
والأجزاء واجبة بوجوب ضمني ، وعلى هذا لو كان الواجب هو الأقل يكون وجوبه
استقلالياً ولو كان الواجب هو الأكثر يكون وجوبه ضمنياً واجباً في ضمن الأكثر ،
وعلى كلّ تقدير يكون التكليف بالأقل معلوماً ، والعقاب على تركه عقاباً مع البيان.
والحاصل انّ هنا أمراً واحداً متعلّقاً
بالمركب بما هو هو ، غير انّ انبساط الأمر عليه يوجب وجوب كلّ جزء جزء بوجوب ضمني
، والأمر الضمني هو مقتضى انبساط الأمر على الأجزاء ، ولذلك يكون الآتي بكلّ جزء
موجباً لسقوط الأمر الضمني المتعلّق ، دون الأمر المتعلّق بالمركب ، على ذلك يكون
العقاب على ترك المركب لأجل ترك الأجزاء المعلومة ( الأقل ) عقاباً مع البيان لكن
العقاب على تركه بترك الجزء المشكوك ، عقاباً بلا بيان.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ لازم أو صريح
ذلك التقريب وجود أمرين في كلّ مركب أحدهما استقلالي والآخر ضمني ، ويتعدّد الضمني
حسب تعدّد الأجزاء لكنّه غير تام ، وذلك لأنّ الإتيان بالأجزاء بنفس دعوة الأمر
المتعلّق بالكلّ لا بأمر ضمني كما في التقرير الثاني ولا بأمر غيري كما في التقرير
الأوّل ، بل بنفس الأمر المتعلّق بالمركب.
فإذا قال المولى : ابن مسجداً ،
فالإتيان بالمواد الأوّلية ووضعها في مكانها إنّما هو بدعوة الأمر ببناء المسجد
ويعد امتثالاً لذلك الأمر المتعلّق بالعنوان ، لكن امتثالاً تدريجياً وليس لبنائه
حقيقة وراء الامتثال التدريجي.
__________________
وثانياً
: أنّ الجمع بين الأوامر الضمنية الحقيقية والأمر الاستقلالي جمع بين المخالفين ،
فانّ الأمر الاستقلالي المتعلّق بالعنوان الوحداني يتوقف على ملاحظة الأجزاء فانية
في العنوان ولا تتوجه النفس إلا إلى العنوان ، ولكن تعلّق الأمر الضمني بكلّ جزء
يلازم لحاظ كلّ واحد من الأجزاء مستقلاً غير فان في العنوان وهما لا يجتمعان.
والحاصل : أنّ الأمر الضمني في هذا
التقرير ليس أمراً وهميّاً بل أمر واقعي ، والجمع بينه وبين الأمر الاستقلالي جمع
بين لحاظين مختلفين ، فتعلّق الأمر الاستقلالي رهن فناء الأجزاء في العنوان وعدم
لحاظها إلا فانية فيها ، لكن تعلّق الأمر الضمني رهن لحاظ الأجزاء مستقلة كلّ
واحدة تلو الأُخرى.
وهذا التقرير سمعناه من سيد مشايخنا
المحقّق البروجردي في بحث الصلاة والفرق بينه وبين التقرير السابق واضح. وهناك
تقرير ثالث للقول بالبراءة العقلية أبدعه سيدنا الأُستاذ بترتيب مقدّمات مختلفة ،
ونأتي به في ضمن أمرين.
الثالث : الأقل واجب نفسيّاً
وهذا الوجه ممّا أبدعه سيدنا الأُستاذ ،
وتوضيحه مبني على مقدّمات نأتي بملخّصها :
المقدّمة
الأُولى : انّ المركب إمّا حقيقي أو صناعي أو
اعتباري ، ففي الأوّل تتفاعل الأجزاء بعضها مع بعض وتخرج الأجزاء عن الاستقلال
والفعلية ويحصل من التفاعل صورة وحدانية تفنى فيها الأجزاء ولا يبقى لها فعلية.
وهذا كالمحاليل الكيمياوية والمعاجين
فانّ أجزاءها تفقد فعليّتها ويؤثّر كلّ في الآخر بنفي صورته ويحصل من ذلك التفاعل
، صورة ثالثة تعرف بها ، كالماء المركب من جزءين هما الاوكسجين والهيدروجين ،
وكالملح المركب من
الصوديوم والكلور ،
إلى غير ذلك من الأمثلة.
وفي الثاني تبقى الأجزاء محتفظة
بفعليتها التكوينيّة ، غير انّها لا تلحظ بهذا الوصف عند ملاحظتها تحت عنوان واحد
، وهذ نظير البناء فانّ كلّ جزء فيه باق على فعليته لكنّه غير ملحوظ بشخصه عند
ملاحظته تحت عنوان واحد كعنوان البناء.
ويقرب من الثاني مثل الفوج والعشرة
والصلاة ، فانّ كلّ جزء باق على فعليته ، غير فان في الكلّ ، ولكنّه غير ملحوظ
بحياله واستقلاله عند لحاظ جميع الأجزاء تحت عنوان واحد كالفوج وغيره.
وبعبارة
أُخرى : انّ المركب الاعتباري الذي هو موضوع
البحث له صورة اعتبارية تنحلّ فيها الأجزاء في مقام الاعتبار تحليلاً اعتبارياً
حقيقياً ، وفي الوقت نفسه تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها.
المقدمة
الثانية : انّ وحدة الإرادة تابعة لوحدة المراد
، فإذا كان المراد واحداً حقيقة أو متكثراً ولكن ملحوظاً تحت عنوان واحد ، تتعلّق
به إرادة واحدة ، وهذا بخلاف ما إذا كان متكثراً حقيقة فلا يعقل تعلّق إرادة واحدة
به.
وبصياغة فنية انّ تشخص الإرادة بتشخص
المراد فيتبع في وحدتها وكثرتها ، وحدته وكثرته.
ومنه يعلم حال الأمر فانّ وحدة الأمر
وتعدّده تابع لوحدة المتعلّق وكثرته ، فلو كان المتعلق كثيراً بالذات فلا يمكن أن
يتعلّق به أمر واحد.
اللّهمّ إلا إذا لوحظت الكثرات في ثوب
الوحدة ويتخذ لنفسه عنواناً واحداً ، فعندئذ يتعلّق به أمر واحد.
المقدّمة
الثالثة : انّ الصور في المركبات الاعتبارية
ليست أمراً مغايراً للأجزاء بالأسر بل هو عينها حقيقة ، إذ ليس المراد من الصورة
إلا الأجزاء في لحاظ
الوحدة ، كما أنّ
الأجزاء عبارة عن الأُمور المختلفة في لحاظ الكثرة ، وهذا لا يوجب أن يكون وجود
الصورة غير وجود الأجزاء.
وبتعبير آخر : انّ الصورة هي نفس
الأجزاء بلحاظ الوحدة كما أنّ الأجزاء نفس الصورة لكن بلحاظ الكثرة ، فالأجزاء
تفصيل الصورة البسيطة كما أنّ الصورة إجمال الأجزاء المفصّلة المختلفة.
ومن هنا يعلم أنّ المقام يختلف عن باب
المحصِّل ( بالكسر ) والمحصَّل ( بالفتح ) الذي اتّفق المشهور على جريان الاشتغال
فيه ، حيث إنّ الأجزاء باسم الأجزاء المحصّلة ( بالكسر ) غير الواجب المحصّل (
بالفتح ) ، مثلاً :
لو قلنا بأنّ الوضوء اسم للطهارة
النفسانية ، والغسلات والمسحات محقِّقة لها ومحصّلة إيّاها ، وعندئذ لو شككنا في
وجوب شيء خامس كالمضمضة أو الاستنشاق وراء الغسلتين والمسحتين يجب الاحتياط ، لأنّ
ما تعلّق به الأمر ليس فيه قلّة ولا كثرة ، حتى ينحل العلم الإجمالي وتجري فيه
البراءة ، وما فيه القلة والكثرة ، ليس متعلّقاً للأمر وإنّما هو محصِّل للواجب
والعقل ـ عندئـذ ـ يحكم بأنّ الاشتغال اليقيني بأمر معلوم الجزء المشكوك يحصل
اليقين بحصول الحالة النفسانية.
وهذا بخلاف المقام فإنّ الأجزاء عين
الصورة لكن في لحاظ الكثرة كما أنّ الصورة عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة ، فليس
بينهما فرق إلا بالإجمال والتفصيل ، كما هو الحال في العشرة ، فهي نفس الأفراد لكن
بصورة الجمع في التعبير ، والأفراد نفس العشرة لكن بصورة التفصيل في البيان ، فليس
هناك اثنينية وتعدّد حتى يكون أحدهما محصِّلاً والآخر محصَّلاً ، فيدور أمر الواجب
بين القليل والكثير.
المقدّمة الرابعة
إنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنّما
هو بعين دعوتها إلى الطبيعة لا بدعوة مستقلة ولا بدعوة ضمنية ولا بأمر انحلاليّ
ولا بحكم العقل الحاكم بأنّ الإتيان بالكل لا يحصل إلا بالإتيان بالأجزاء ، وذلك
لأنّ الطبيعة تنحل إلى الأجزاء انحلال المجمل إلى مفصَّله ، المفروض انّها عين
الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة ، لا شيئاً آخر ، فالدعوة إلى المركب الاعتباري عين
الدعوة إلى الأجزاء ، مثلاً الأمر بصيام عشرة أيام نفس الأمر بصوم هذا اليوم وذاك
اليوم ، كما أنّ الدعوة إلى رفع الجدار بنفس الدعوة إلى بناء البيت لا بدعوة ثانية
، والأمر كما هو حجّة على إيجاد الكلّ فهو بنفسه حجّة على إيجاد الجزء ، كما أنّ
القيام بكلّ جزء جزء تدريجياً امتثال لنفس الأمر بالكل ، وليس امتثالاً للأمر
الضمني المتعلّق به كما قيل والامتثال كما يكون فورياً ، يكون تدريجيّاً أيضاً.
المقدّمة الخامسة
إنّ مصب الوجوب إنّما هو نفس العنوان لا
ذات الأجزاء المردّدة بين الأقل والأكثر بنعت الكثرة وإن كان العنوان عين الأجزاء
في لحاظ الوحدة ، ومع ذلك فمتعلّق الأمر إنّما هو العنوان.
نعم التعبير بأنّ الواجب دائر بين الأقل
والأكثر يومي إلى تعلّق الحكم بالأجزاء رأساً وانّ الواجب بذاته مردّد بينهما ،
وهو خلاف التحقيق ، بل الحكم تعلّق بعنوان غير مردّد في نفسه بين القليل والكثير ،
وإن كان ما ينحل إليه العنوان مردّداً بينهما.
إذا عرفت هذه المقدّمات يتضح لك جريان
البراءة العقلية.
وذلك لأنّ الحجّة قامت على وجوب العنوان
نحو قوله : ( أَقم الصلاة
) ،
وقيام الحجّة عليه
نفس قيامها على الأجزاء ، لما عرفت من نسبتها إليه ليس من قبيل نسبة المحصَّل إلى
المحصِّل ، بل نسبة المفصَّل إلى المجمل ، لكن الاحتجاج بالأوّل على وجوب الأجزاء
إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء وجزء حتى يكون داعياً إليه ، وأمّا مع
الشكّ من كونه جزءاً لا يكون الأمر به حجّة عليها وداعياً إليها ضرورة انّ قوام
الاحتجاج بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر بالمركب ، إنّما يكون حجّة على الأجزاء
التي علم بتركب المركب إليها دونما ما لا يكون.
وإن شئت نزّل المقام على ما إذا تعلّق
الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان ، فكما أنّه لا يحتج إلا على الأجزاء المعلومة دون
المشكوكة ، فهكذا المقام فإنّ الأمر وإن تعلّق بالعنوان مباشرة دونها ، لكن عرفت
أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل ، فالأجزاء في مرآة الإجمال عنوان
، وفي مرآة التفصيل أجزاء.
والحاصل أنّ العبد إذا بذل جهده للعثور
على الأجزاء ، التي ينحلّ العنوان إليها ، فلم يقف إلا على التسعة منها دون الجزء
العاشر المحتمل ، يستقل العقل بأنّه ممتثل حسب قيام الحجّة ويعدّ العقاب على ترك
الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.
فإن
قلت : إنّ الحجّة قد قامت على العنوان
الإجمالي فلابدّ من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بالإتيان لما قامت الحجّة عليه
، وبالجملة إذا قام الدليل على وجوب عنوان ، مجمل يجب علينا العلم بالبراءة
العقلية وهي رهن الإتيان بالأكثر.
قلت
: الإشكال مبني على الخلط بين المقام والشك في المحصِّل ، فانّ ما ذكرته صحيح في
الثاني حيث إنّ المحصِّل كالغسلات والمسحات ، غير المحصَّل كالطهارة النفسانية ،
ولو شككنا في اعتبار شيء في المحصِّل بنحو لولاه ، لما حصل المحصَّل ، يحكم العقل
بالاشتغال إلا إذا أتى بالمشكوك ، وهذا بخلاف المقام فانّ
العنوان بالنسبة إلى
الأجزاء من قبيل الجمع في التعبير مثلاً تارة يقول : زيد ، عمرو ، بكر ، سعد ،
خالد ; وأُخرى يقول : خمسة أشخاص ، فلا فرق بين التعبيرين سوى بالإجمال والتفصيل ،
وقد قامت الحجّة على المقدار المعلوم انحلاله إليه ، دون المشكوك انحلاله إليه ،
فيكون العقاب بالنسبة إليه من قبيل العقاب بلا بيان.
أدلّة القائلين بالاشتغال
عقلاً
إلى هنا تمّ ما يمكن أن يقال لتصحيح
جريان البراءة العقلية ، بقي الكلام في أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً ، وهي عشرة
، نأتي بالمهم منها :
التقريب الأوّل لمنع البراءة
:
ما أفاده المحقّق الخراساني من استلزام
جريان البراءة العقلية أمرين :
١. يلزم من فرض تنجز الأقل ، عدم تنجزه.
٢. يلزم من فرض الانحلال عدمه.
وبيان الأمرين ـ وإن كان لباً واحداً
وهو الخلف ـ يحتاج إلى مقدمة ، وهي انّ كلّ علم تفصيلي إذا كان متولّداً من علم
إجمالي فلا يكون سبباً لانحلاله وإلا يلزم أن يكون المعلول هادماً لعلّته وباقياً
بعد فنائها ، لأنّ المفروض انّه نابع من ذاك العلم الإجمالي ، فكيف يمكن أن يكون
باقياً بعد إفنائه؟ فالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، نتيجة العلم الإجمالي بأنّه
واجب نفسي أو غيري ، فلو صار ذاك العلم سبباً لنفي أحد العِدْلين ، وهو كونه
واجباً للغير ، يلزم كون المعلول هادماً لعليّته وباقياً بعد انتفائها.
فلو شككنا في وجوب نصب السلم ، ودار
الأمر بين كونه واجباً لنفسه أو لغيره ، أي للصعود إلى السطح ، فالعلم التفصيلي
حاصل بوجوب نصب السلم ، ولكن الاحتفاظ به فرع حفظ علّته ، وهو العلم الإجمالي
لوجوبه إمّا نفسياً أو لغيره ،
ولا يمكن أن يكون
محفوظاً مع رفض كونه واجباً للغير والاكتفاء بوجوبه النفسي.
إذا علم ذلك ، فنقول :
يلزم من القول لوجوب الأقل وعدم وجوب
الأكثر إشكالان وانّ روحهما واحداً :
يلزم من تنجّز الأقل عدم تنجّزه.
يلزم من الانحلال عدم الانحلال.
وكلاهما خلف.
أمّا الأوّل ، فبيانه أنّه يلزم من فرض
تنجّز التكليف بالأقل فعلاً عدم تنجّزه كذلك ، لأنّ فرض تنجّزه فعلاً إمّا لنفسه
أو لغيره فرع تنجّز التكليف بالأكثر أيضاً ، حتى يصحّ أن يقال : انّه واجب إمّا
نفسياً أو غيرياً ، فلو كان وجوبه كذلك ، سبباً لوجوبه ، دون وجوب الأكثر ، يلزم
عدم تنجز الأقل أيضاً كذلك ، أي على كلّ حال إمّا لنفسه أو لغيره لذهاب المعلول
بذهاب علّته.
وأمّا لزوم عدم الانحلال من الانحلال ،
فلأنّ الانحلال يستلزم عدم تنجّز التكليف المتعلّق بالأكثر على فرض وجوبه ، وهو
يستلزم عدم العلم بوجوب الأقلّ مطلقاً ، وهو يستلزم عدم الانحلال ، فيلزم من فرض
وجوده عدمه ، وهذا هو المقصود من الدور هنا أي مفسدته ، أي عدم الشيء من فرض
وجوده.
يلاحظ
عليه : أنّ الخلف بكلا الوجهين نابع من كون
وجوب الأقلّ مقدميّاً أو ضمنياً ناشئاً من وجوب الأكثر ، وعندئذ يلزم من القول
بتنجّز الأقل مطلقاً عدم تنجّزه كذلك شأن كلّ علم تفصيلي ناجم من العلم الإجمالي ،
إذا صار الأوّل سبباً لانهدام الثاني ، وأمّا إذا كان وجوب الأقل نابعاً من الوجوب
المتعلّق بالعنوان ، المحرز بالوجدان ، فلا يلزم الخلف لأنّه من قبيل علم تفصيلي
نابع من علم تفصيلي آخر ، ثابت غير متزلزل ، والشكّ إنّما هو في مقدار ما ينحلّ
إليه العنوان الواجب ، فهل ينحلّ إلى الأقل فقط أو الأكثر أيضاً.
وإن
شئت قلت : إذا كان وجوب الأجزاء بعين وجوب الكل
وكان امتثال كلّ جزء امتثالاً تدريجياً له ، فوجوب الأقل على كلّ تقدير لا يتوقف
على إحراز وجوب الأكثر وحفظ العلم الإجمالي ، بل يتوقف على العلم بوجوب العنوان أو
المركب والمفروض انّ العلم بوجوبهما أمر محرز ثابت ، لقوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى
غَسَقِ اللَّيْل ).
وعلى ضوء ذلك فهو يأتي بالأجزاء
المعلومة بنية الأمر بالكلّ من أوّلها إلى آخرها فلا إشكال ، سواء أكان الواجب هو
الأقلّ أم كان هو الأكثر ، لأنّ العنوان على وجه ينطبق على كليهما.
فظهر انّ العلم بوجوب الأقل مطلقاً
يتوقف على العلم بوجوب العنوان المحرز ، لا على وجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً ، أو
نفسياً أو ضمنياً حتى لزم المحذور.
ومنه يعلم اندفاع المحذور الثاني إذ لو
كان الانحلال مبنياً على وجوب الأقل مطلقاً إمّا نفسياً أو غيرياً لزم المحذور ،
لأنّ الانحلال يستلزم عدم وجوب الأكثر ، المستلزم لعدم وجوب الأقل مطلقاً ،
المستلزم لعدم الانحلال ، لا ما إذا كان الانحلال نابعاً من العلم بوجوبه النفسي
سواء أكان الأكثر واجباً أم لا ، وذلك لأنّ الانحلال يلازم عدم وجوب الأكثر ، لكن
عدم وجوبه لا يلازم عدم وجوب الأقل حتى يلزم عدم الانحلال ، لما عرفت من أنّ وجوب
الأقل ليس نابعاً من العلم الإجمالي حتى يتوقف بقاؤه على حفظ العلم الإجمالي ، بل
وجوبه يتوقف على وجود العلم بوجوب العنوان ، الصادق على الأقل والأكثر ، فوجوب
الأقل يتوقف على صدق العنوان ، ووجوبه لا يتوقف على شيء ، لأنّه محرز بالوجدان ،
لكن لا يحتج به على وجوب الجزء المشكوك بل يحتج على المتيقن منه.
والعجب انّ عصارة الجواب موجودة في كلام
المحقّق النائيني قال :
__________________
إنّ وجوب الأقل لا
يكون إلا نفسياً على كلّ تقدير سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر ،
فإنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكل ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من
الوجوب النفسي والغيري.
ولو أنّ المحقّق النائيني سار على هذا
الجواب لاستغنى عن كثير ممّا ذكره نقضاً وإبراماً.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الخلف
بوجه آخر ، قال : إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجز الأكثر ( لأنّ وجوب الأقل
على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر ) إنّما يتوقف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا
على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم
يبلغ مرتبة التنجّز.
وكذا تنجّز التكليف بالأقل ، لا يتوقّف
على تنجز التكليف بالأكثر بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه ، فانّ تنجّز كلّ تكليف
إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف ، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك.
وحاصله : أنّ وجوب الأقل مقدّمة تابع
لوجوب الأكثر واقعاً ، والبراءة رافعة لتنجّز التكليف بالأكثر لا واقع وجوبه وإن
كان غير منجز والانحلال وإجراء أصل البراءة إنّما ينافي تنجّز التكليف بالأكثر ،
لا وجوبه الواقعي ، وما هو العلّة لوجوب الأقل مطلقاً هو وجوب الأكثر واقعاً وهو
باق ، وإن كان تنجّز الأكثر مرفوعاً بالبراءة.
وأمّا وجوب الأقل نفسياً فهو يتوقف على
العلم بوجوبه ، وهو حاصل من دون توقّف على تنجز التكليف بالأكثر.
يلاحظ
عليه : أنّ الشق الأوّل غير تام ، لأنّ
المقصود إثبات التنجّز بالأقل
__________________
على كلّ تقدير وهو
فرع حفظ تنجّز الأكثر ، وأمّا حفظ الوجوب الواقعي له الأعم من الإنشائي أو الفعلي
غير المنجز فلا يكون منتجاً لتنجّز الأقل مطلقاً ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ
المقدّمتين ، وعندئذ لا يحصل منه العلم بتنجّز الأقل مطلقاً بل أمره دائر بين كونه
واجباً غير منجز ، وواجباً منجزاً.
إلى هنا تمّ تحليل ما ذكره المحقّق
الخراساني ، وهناك تقريبات أُخرى لمنع جريان البراءة العقلية وقد ذكر المحقّق
النائيني تقريبين نأتي بهما.
التقريب الثاني لمنع البراءة
العقلية
لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم كفاية
الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة انّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضي
التكليف الاحتمالي ، وأمّا التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لأنّ العلم
باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ فانّه يتنجز
التكليف بالعلم به ولوإجمالاً ويتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحّة العقاب
عليه ، فلو كان التكليف في الطرف الآخر غير المأتي به ، لا يكون العقاب على تركه
بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير
مخالفة التكليف.
ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على
الأقلّ عقلاً ، لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين
ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.
ثمّ إنّه 1
أتى في كلامه بشيء آخر ، وهو تقريب مستقل لا صلة له بما ذكر بل هو مأخوذ من تقريب
المحقّق صاحب الحاشية الذي نقله عنه قبل هذا التقريب.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّ ما ذكره من الضابطة ممّا لا غبار
عليها ، لكن يجب الخروج عمّا اشتغلت الذمّة قطعاً ، لا ما اشتغلت به الذمّة احتمالاً
، والأقل ممّا اشتغلت به الذمّة قطعاً فيجب الإتيان به ، دون الأكثر لعدم العلم
بالاشتغال فيه.
فكما إذا تعلّق الأمر بنفس الأجزاء ودار
الأمر بين وجوب الأقل والأكثر تجري البراءة في الأكثر ، فهكذا إذا تعلّق الأمر به
بواسطة عنوان ، إذ لا فرق بينهما سوى انّ الأمر بالاجزاء على الأوّل في حال الكثرة
، وفي الثاني في حال الوحدة.
وأمّا ما أفاده من أنّ العلم باشتغال
الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً ولا يكفي احتمال الفراغ ، فانّه قد تنجّز
التكليف بالعلم به ولو إجمالاً ، كلام تام ، لكن إذا كان العلم الإجمالي قائماً بحاله
، بأن يكون الترديد موجوداً في النفس ويُشكّ في أنّ الواجب هل هذا أو ذاك وهذا
إنّما يصحّ في المتبائنين لا في مثل المقام فانّ العلم بوجوب الأقلّ حاصل وجوباً ،
سواء أوجب الآخر أم لا؟ وإنّما الشكّ في وجوب الأكثر والاحتمال المجرّد ، لا يكون
منجِّزاً باعثاً للمكلّف نحو الامتثال.
التقريب الثالث
وهذا التقريب أيضاً للمحقّق النائيني ،
وحاصله :
الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية
الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط ، وإن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز ، واستحقاق
العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلّق التكليف به ، فالعقاب على ترك
الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أنّ هناك جهة أُخرى تقتضي التنجّز واستحقاق العقاب
على ترك الخصوصية ، على تقدير تعلّق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطيّة وقيديّة
الزائد للأقل ، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق
العقاب عقلاً ، فانّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو
رفعها ، بل ذلك من
وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة فيبقى حكمه بلزوم الخروج من عهدة
التكليف المعلوم ، والقطع بامتثاله على حاله فلابدّ من ضمّ الخصوصية.
يلاحظ
عليه : أنّه صرّح في صدر كلامه بأنّ الشكّ
في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته
، وإذا كان الأمر كذلك فأيّ فرق بين كون الخصوصية وجوب الجزء وكونها احتمالَ
الارتباطيّة ، مع اشتراك الأمرين في أنّ العقاب عليهما من قبيل العقاب بلا بيان.
وما ذكره في ذيل كلامه من أنّه ليست
وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها بل ذلك من وظيفة الشارع وإن كان صحيحاً ، لكن
الهدف من إجراء البراءة العقلية ليس وضعها أو رفعها ، بل شأن العقل نفي العقاب
المحتمل من ترك القيد المحتمل سواء أكان ذلك القيد ، هو وجوب الجزء ، أو الارتباط
بين الأقل والأكثر. وأمّا الرفع أو الوضع فيأتي الكلام فيهما عند البحث في البراءة
الشرعية.
وبالجملة فالغرض من إجراء البراءة
العقلية تحصيل الأمن من العقاب من ترك الأكثر ، لا رفع القيد وإنّما هو من شؤون
البراءة الشرعية كما سيوافيك.
فإن
قلت : لو كان الأقل في نفس الأمر مرتبطاً
بالأكثر حيث جعل الشارع الجميع بنعت الوحدة موضوعاً للحكم ، فلا يفيد الإتيان
بالأقل.
قلت
: إحراز كون الأقل مفيداً في نفس الأمر أو غير مفيد ليس من وظائف العبد ، بل ذمته
رهينة لما ثبت تعلّق الأمر به والمفروض انّ الثابت هو الأقل لا الأكثر.
__________________
التقريب الرابع :
ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم بصورة
الإشكال وقال :
إن
قلت : إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا
القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به فالمصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور
به ، أو من قبيل الغرض ، وبتقرير آخر المشهور بين العدلية : أنّ الواجبات الشرعية
، إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية ، فاللطف هو المأمور به حقيقة ،
أو غرض للأمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل إلا بإتيان كلّ ما شكّ في
مدخليّته.
وقرّره في الكفاية معتمداً عليه وقال :
إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر بناء على ما ذهب إليه
المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به
والمنهيّ عنها. وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً من إطاعة الأمر وسقوطه ،
فلابدّ من إحرازه في إحرازها.
ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن
الاستدلال بوجهين :
الأوّل
: انّ جريان البراءة وعدمه في المقام ليس مبنيّاً على مذهب العدلية القائلين
بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، بل يجري على القول بعدم التبعية كما عليه
الأشاعرة.
الثاني
: انّ الإتيان بالأكثر ليس محصِّلاً للغرض على وجه اليقين ، لاحتمال دخل قصد الوجه
في حصوله ، مع عدم التمكّن منه لاستلزامه التشريع ، وعلى ذلك لا قطع بحصول الغرض
على كلا التقديرين.
__________________
وأنت خبير بعدم إتقان الجوابين ، أمّا
الأوّل فلأنّ الاستدلال ـ عندئذ ـ يكون جدليّاً ، لا برهانياً ، لأنّ المستدل
والمجيب قائلان بالتبعية ، فكيف يكون المجيب في مقام الإجابة أشعرياً.
وأمّا الثاني فللاتفاق على عدم وجوب قصد
الوجه وإلا لامتنع الاحتياط ، ومن قال بوجوبه فإنّما قال عند التمكّن ، لا في مثل
المقام.
ولذلك نرى أنّ المحقّق الخراساني نقد
كلام الشيخ الأنصاري بوجه مبسّط لم يعرف منه ـ ذلك التبسيط ـ في مقام آخر.
والأولى في مقام الجواب أن يقال : إذا
كان الغرض ، متعلقاً للأمر كما إذا أمر المولى بصنع معجون يقوّي الأعصاب ، فشك
العبد في الأجزاء المحصلة لهذا الغرض هل هي تسعة أو عشرة فلا شكّ في وجوب الاحتياط
، لأنّ المأمور به أمر بسيط ، غير دائر أمره بين الأقل والأكثر ، وما يدور أمره
بينهما غير مأمور به.
وأمّا إذا تعلّق الأمر بمركب ذي أجزاء
أمر المولى به لأجل غرض له ، وشكّ في أنّ الغرض المحصِّل له هو الأجزاء التسعة أو
العشرة ، ففي مثل ذلك لا يجب الاحتياط ، لأنّ الواجب على العبد في مجال الإطاعة ،
الإتيان بما تعلّق به الأمر كاملاً ، سواء أكان محصلاً للغرض أم لا ، وذلك انّه لو
لم تكن الأجزاء المعلومة محصلة لغرضه كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي ، كأن
يبيّن الجزء المشكوك ويكون البيان واصلاً ، أو بالعنوان الثاني ، كأن يقول : إذا
شككت في جزئية شيء للمأمور به فعليك بالاحتياط.
وعلى ضوء ذلك فالزائد على الأقل لم تقم
الحجّة عليه لا تكليفاً ولا غرضاً.
أضف إلى ذلك انّه لو كان مانعاً من
جريان البراءة العقلية ، يجب أن يكون مانعاً من جريان البراءة الشرعية ، مع أنّ
المحقّق الخراساني الذي اعتمد على هذا الدليل ، قد ذهب إلى جريان البراءة النقلية
كما سيوافيك.
التقريب الخامس
إنّ الأمر المتعلّق بالأقل دائر بين
كونه صالحاً للتقرّب إذا كان نفسياً وغير صالح له إذا كان مقدمياً توصلياً وأمّا
الأكثر فأمره صالح للتقرّب ، لأنّه إمّا هو الواجب ، أو كونه مشتملاً عليه ويقصد
التقرّب بما هو المقرّب في الواقع.
يلاحظ
عليه : أنّ الأمر المتعلّق بالأقل نفسي
لكونه مصداقاً للصلاة إنّما الشكّ في انحلال العنوان الجامع للكثرات ، إلى الجزء
المشكوك وغيره ، وعلى كلّ تقدير فسواء أثبت الانحلال أم لم يثبت فهو يأتي الاجزاء
بالأمر المتعلّق بالعنوان ، لا بالأمر المتعلّق بالأجزاء قليلة كانت أم كثيرة ،
فالأمر المقصود على كلتا الصورتين ، أمر نفسي ، والشكّ في مقدار انحلال المتعلّق ،
لا يجعل الأمر متعدّداً.
التقريب السادس
إنّ نفي العقاب من جانب ترك الأكثر ، لا
يُثبت تعلّق الأمر بالأقل والغاية إثبات تعلّقه به.
أقول
: هذا الإشكال مشترك بين البراءتين : العقلية والشرعية ، فنحيل الجواب إلى البحث
التالي :
أدلّة القائلين بجريان
البراءة الشرعية
ذهب الأُصوليون إلى جريان البراءة
الشرعية ، حتى أنّ من منع جريان البراءة العقلية قال بجريان البراءة الشرعية ، وفي
مقدّمهم المحقّق الخراساني فقد أفاد ما هذا توضيحه :
إنّ جزئية السورة مجهولة ومحجوبة ،
فترفع بفضل حديثي الرفع والحجب.
فإن
قلت : يشترط في الرفع التشريعي كون المرفوع
أثراً مجعولاً شرعياً كالوجوب ، أو موضوعاً ذا أثر شرعي كنجاسة الثوب فانّ أثر
نجاسته عدم جواز الصلاة فيه ، والجزئية في المقام ليس من أحد القسمين ، وأمّا لزوم
الإعادة فهو أثر عقلي لجزئية السورة ، أو هو من آثار بقاء الأمر بعد التذكر ،
فالعقل عندئذ يستقل بلزوم الإعادة.
قلت
: إنّ الجزئية أمر انتزاعي ينتزع من تعلّق الوجوب الشرعي بالسورة وهذا كاف في
تعلّق الرفع بها.
فإن
قلت : إنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع ،
فما الدليل على تعلّق الأمر بالعبادة الخالية عن الجزء؟
قلت
: هذا هو الإشكال الذي مضى عند الكلام في جريان البراءة العقلية أيضاً ، وقد تكرّر
هذا الإشكال في كلمات المحقّق النائيني من أنّ حديث الرفع ، حديث رفع لا وضع فلا
دليل على تعلّق الأمر بالخالي.
فأجاب المحقّق الخراساني بقوله : إنّ
نسبة حديث الرفع إلى الأدلّة الدالة على بيان الأجزاء إليها ، نسبة الاستثناء
وعندئذ يكون المجموع دالاًّ على جزئيتها إلا مع الجهل بها.
توضيحه
: انّ الواقع لا يكون خالياً من أحد أمرين إمّا أن لا تكون السورة جزء الواجب ، أو
تكون ; فعلى الأوّل ، فالأمر متعلّق بالخالي واقعاً وإن لم يكن المكلَّف واقفاً
عليه.
وعلى
الثاني : يكون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء
كأنّه يقول : أقم الصلاة بجميع أجزائها إلا السورة في حالة الجهل ، فالأمر تعلّق
بحكم الاستثناء بالطبيعة الخالية عن الجزء.
وعلى ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره ،
لما قلنا من أنّ تعلّق الأمر بالعنوان عين تعلقه بالأقل ، إنّما الكلام في انحلاله
إلى الجزء المشكوك وعدمه فتعلّقه بالأقل محرز. ولعلّ ما ذكره 1 يرجع إلى ما ذكرنا.
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم حسب عادته طرح
الشكّ في جزئية الشيء ضمن مسائل أربع.
أنّ الشكّ في الجزئية تارة يكون ناشئاً
من عدم النصّ ، وأُخرى من إجمال النصّ ، وثالثة من تعارض النّصين ، ورابعة من خلط
الأُمور الخارجية والذي يسمّى بالشبهة الموضوعية ، وبما أنّ الدليل واحد في الجميع
نقتصر بهذا المقدار تبعاً لصاحب الكفاية ، ولا نعقد لكلّ مسألة عنواناً مستقلاً.
نعم سيأتي الكلام في الشبهة الموضوعية
بمناسبة البحث في الشكّ في المحصِّل.
المقام الثاني : في الشكّ في
الأجزاء التحليلية
قد عرفت في صدر البحث في الأقل والأكثر
أنّ الشك في الجزء على قسمين : تارة يكون للجزء المشكوك وجوبه ، وجود خارجي مستقلّ
تحتمل مدخليته في الواجب ، وهذا هو الذي مرّ البحث فيه في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني : فهو عبارة عمّـا
إذا لم يكن للجزء المشكوك وجوبه ، وجود مستقل ، وإن كان في بعض المواضع له منشأ
انتزاع مستقل ، ولكن الجميع داخل تحت عنوان الجزء التحليلي أي ما يحتمل دخله في
الواجب وليس له وجود مستقل ، وله أقسام.
الأوّل
: ما يكون الجزء التحليلي منتزعاً من أمر خارجي كالتستر من إلقاء الستر على الرأس
، والطهور من الغسلات والمسحات ، فالشرط أمر تحليلي باسم
التقيّد ، وإن كان
المنشأ أو القيد ذا وجود مستقل.
الثاني
: ما يكون الجزء التحليلي قائماً بالموضوع دون أن يكون مقوّماً له نظير الإيمان
بالنسبة إلى الرقبة.
وقد أشار المحقّق الخراساني إلى القسمين
الأُوليين بقوله : « إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه »
وإلى القسم الثالث بقوله : « وبين الخاص وعامه كما في الحيوان ».
ثمّ إنّه 1
منع من جريان البراءة العقلية في الأقسام الثلاثة بوجهين تطرّق إليهما الشيخ
أيضاً.
الأوّل
: انّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب من باب المقدمة ، وقد أشار الشيخ إلى هذا
الدليل أيضاً حيث قال : إنّ ما كان متّحداً في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة
المؤمنة لا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ، ولو مقدمة ، فلا يندرج
فيما حجب اللّه عن العباد » فلا
يصحّ أن يقال : إنّ وجوب الإيمان في الرقبة لم يرد فيه بيان فالعقاب عليه عقاب بلا
بيان.
وقد فسّرنا كلام الشيخ في المحصول بوجه آخر فلاحظ ، وما ذكرنا هنا هو
الأوفق لظاهر كلامه.
الثاني
: انّ وجود الطبيعي في ضمن الواجد للمشكوك ، مباين لوجوده في ضمن الفاقد له وعليه
فلا يكون هناك قدر متيقن في البين لينحلّ به العلم الإجمالي وتجري أصالة البراءة.
وقد أشار الشيخ إلى هذا الدليل بقوله :
إنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله ،
وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم
__________________
يأت من الخارج ما هو
معلوم تفصيلاً حتى يكون معذوراً من الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور رأساً ،
وبالجملة فالمطلق والمقيّد من قبيل المتبائنين.
وحاصل الدليل الأوّل : انّه ليس هنا
وجوب ليقع مصبّاً للبراءة ، لأنّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب ، كما أنّ
حاصل الدليل الثاني ، انّوجود المطلق والمقيّد في الخارج لما كانا متبائنين ، فلو
كان الواجب هو المقيّد ، لم يكن الآتي بالمطلق آتياً بالأقل وتاركاً للأكثر ، بل
لم يأت منه شيء.
وقبل دراسة هذين الدليلين نقدّم أمراً
يعلم به ملاك جريان البراءة العقلية وهو :
انّ ملاك جريانها عبارة عن حاجة المورد
إلى البيان الزائد ، فكلّ مشكوك كان الوقوف عليه رهن بيانه فهو مجرى للبراءة
العقلية.
ويقال : إنّ وجوب هذا الشيء لم يرد فيه
بيان وكلّ ما كان كذلك وكان واجباً في الواقع لكن تركه المكلّف يكون العقاب عليه
عقاباً بلا بيان ، هذا ، من غير فرق بين أن يتعلّق الوجوب بعنوان كالصلاة وشكّ في
انحلاله إلى الشرط المشكوك كالطهارة والتستر أو يتعلّق الحكم بالمطلق ونشك في
تقيّده بالقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، أو يتعلّق الأمر بالعام ونشك في دخل
الخاص المقوّم فيه كما إذا تردد الواجب بين كونه ذبح حيوان أو غنم ، أو تردد وجوب
التيمم على الشيء بين الأرض والتراب ، فالملاك في الجميع هو حاجة الشيء المشكوك
إلى البيان الزائد ، فلو لم يرد وكان واجباً لكن لم يصل إلى المكلّف يكون العقاب
على تركه عقاباً بلا بيان.
إذا علمت ذلك فلندرس الدليل الأوّل في
الموارد الثلاثة :
__________________
أ : المطلق والمشروط.
ب : المطلق والمقيد.
ج : العام والخاص.
أمّا
الأوّل : فلأنّ مصب الشكّ ليس وجوبهما
الغيريين بل المصب هو الوجوب النفسي لهما مثل سائر الأجزاء ، حيث إنّ واقع الشكّ
يتعلّق بانحلال الصلاة إليهما وعدم انحلاله ، فلو كانا دخيلين في الموضوع له فهي
تنحل إليهما وإلا فلا.
ومن المعلوم أنّ الأمر بالعنوان إنّما
يكون حجّة فيما علم انحلاله إليه لا ما شك.
أمّا
الثاني : فلأنّ القيد وإن لم يكن داخلاً في
مفهوم المقيّد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، لكن لو كان الواجب هو الرقبة المؤمنة
فالإيمان يكون واجباً وجوباً نفسياً كوجوب الرقبة ، والشك في مثل هذا الوجوب يكون
مصححاً لجريان البراءة.
وأمّا
الثالث : فلأنّه لو كان الواجب وراء الحيوان
شيء آخر ، وهو كونه غنماً ، وجب بنفس وجوب الحيوان ، والشكّ في مثل هذا الوجوب
مجرى للبراءة ، نعم الاستدلال يتمُّ لو قلنا بوجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب
المقدمي وقد سبق اختصاصه على فرض صحّته بالأجزاء الخارجية لا التحليلية العقلية.
وأمّا الوجوب النفسي فهو يعمّ الشرط
والقيد والخاص بلا فرق بينها.
هذا كلّه حول الدليل الأوّل.
وأمّا
الدليل الثاني : فلأنّ ما ذكره
مبني على تعلّق الأوامر بالموضوع الخارجي فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ الصلاة مع
الخصوصية غير الصلاة بدونها ،
لأنّ الفاقد لا
يتحقّق إلا مع خصوصية أُخرى لامتناع تحقّق الجامع بلا فصل وخصوصية.
ومثله الأرض فإذا شككنا في لزوم كون
التيمم على التراب ، أو مطلق الأرض ، نجد أنّ الثاني لا يتحقّق إلا في ضمن فصل آخر
ككون الأرض حجراً أو رملاً ، ومن المعلوم أنّ الحجر والتراب متباينان.
ولكنّ الأوامر لا تتعلّق إلا بالطبائع
الكلية ، والمفاهيم المجرّدة ، وعندئذ يكون الموضوع من قبيل الأقل والأكثر ، حيث
يشكّ في أنّ المأمور به هو مطلق الصلاة ، أو الصلاة المشروطة بشيء ، وعندئذ يكون
من قبيل الأقل والأكثر ، ويقع الثاني مجرى للبراءة ، وبعبارة أُخرى يشك في انحلال
الموضوع إلى الطهور والتستر أولا.
وخلاصة
القول : إنّ الدليل مبني على وجوب الأجزاء
التحليلية بالوجوب الغيري ، وقد عرفت خلافه ، كما أنّ الدليل الثاني مبني على
تعلّق الوجوب بالخارج ، وقد عرفت أنّه متعلّق بالأُمور الكلية.
إلى هنا تمت دراسة الموارد الثلاثة
وأنّها تقع مصبّاً للبراءة العقلية ، وأنّ المكلّف لو تركها كان العقاب عليه
عقاباً بلا بيان.
في جريان البراءة النقلية
هذا كلّه حول البراءة العقلية ، وأمّا
البراءة النقلية ، فقد فصّل المحقّق الخراساني بين المشروط وشرطه ، والمطلق وقيده
، وبين العام والخاص ، فقال بجريانها في الأوّلين وعدمه في الثالث.
أمّا جريانها فيهما فلدلالة مثل حديث
الرفع على عدم شرطية وقيديّة ما شُكّ في شرطيّته ، أو قيديّته ، وليس كذلك خصوصية
الخاص.
والفرق بينهما أنّ الشرط والقيد من
الأُمور الزائدة على الطبيعة المأمور بها ، فيدخل المورد تحت الأقل والأكثر دون
خصوصيّة الخاص ، فانّها أمر منتزع من نفس الخاص ـ على وجه لولاه لما كان للعام
تحقّق ـ فلا يدور الأمر بين الأقل والأكثر ، بل بين المتبائنين ، لأنّ الخاص نفس
العام تحقّقاً ، وليس شيئاً زائداً عليه.
توضيح
مراده : انّ العام في كلّ مورد يتحقّق بفصله
، ولا تحقق للعام بدون الخاص ، كما قال السبزواري :
إبهامَ جنس حسب الكون خذا
|
|
إذ هــو الــدائـر بـين ذا وذا
|
وعلى ذلك فكما أنّ الأكثر
يتحقق في ضمن خاص أعني الغنم ، وهكذا الأقل أعني الحيوان لا يتحقّق مجرّداً عن
الفصل ، بل لابدّ في تحقّقه من فصل ، ويتحصل العام في ضمن الإبل والبقر والمعز ،
والنسبة بينها وبين الغنم هو التباين فيدخل المورد تحت دوران الأمر بين
المتبائنين.
يلاحظ
عليه : أنّه من باب خلط المسائل الفلسفية
بالأُمور الاعتبارية ، فانّ ما ذكره صحيح حسب الأُصول الفلسفية في المقام ، وذلك
لأنّ مدار كون المورد من قبيل الأقل والأكثر ، هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، هو
مطلق الحيوان ، أو الحيوان الخاص ، أعني : الغنم ، فبما أنّ الخصوصية مجهولة تقع
مجرى للبراءة ، ويكون مرفوعاً حسب حديثي الرفع والحجب.
وإن شئت قلت : إنّ المعيار وجود الكلفة
الزائدة في أحد الطرفين دون الآخر ، ولا شكّ في الالتزام بكون المذبوح غنماً كلفة
زائدة ليست في الطرف الآخر ، لأنّه في الخيار بذبح أيّ حيوان.
ثمّ إنّه كان على الشيخ الأنصاري أن
يبحث في هذا القسم عن مسائل أربع ، لأنّ الشكّ في الجزء التحليلي يكون نابعاً تارة
عن فقدان النص ، وأُخرى عن
إجمال النص ، وثالثة
عن تعارض النصين ، ورابعة عن خلط الأُمور الخارجية ، لكنّه 1 اعتماداً على ما سبق ، طوى الكلام عنها
واختصر على أصل البحث.
الشكّ في المحصل
ثمّ إنّه كثيراً ما يدور في لسان
الأُصوليين مصطلح الشكّ في المحصل ، أو الشكّ في السقوط ، ولم يذكره المحقّق
الخراساني في الكفاية ، وذكره الشيخ في المسألة الرابعة من الشكّ في الأقل والأكثر
، فزعم أنّ الشكّ في المحصِّل عبارة عن الشكّ في الأقل والأكثر من باب خلط الأُمور
الخارجية. فقال : إذا شكّ في جزئية شيء المأمور به من جهة الشكّ في الموضوع
الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبين ، مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما
إذا وجب صوم هلالي ، وهو ما بين الهلاليين فشكّ في أنّه ثلاثون ، أو ناقص ، ومثل
ما لو أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني : الفعل الرافع للحدث أو المبيح لها ، فشكّ
في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين ( أو المبيحين ) ، واللازم في المقام
الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشكّ
في تحققّه بالأقل ، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم
الإتيان بالأكثر ....
يلاحظ
عليه : أنّ هنا مسألتين :
إحداهما
: ما هو الموسوم بالشكّ في المحصّل ، أو الشكّ في السقوط؟
ثانيهما
: ما هو الموسوم بالشكّ في الشبهة الموضوعية من قسم الأقل والأكثر؟
والفرق بين المسألتين كالتالي :
إذا كان متعلّق الأمر واضح المفهوم
مبيّن المعنى لا تردّد ولا قلّة ولا كثرة وإنّما الإجمال والتردد في محقِّقه وسببه
، وهذا كما في الأمر بالطهور إذا فسر بالحالة
__________________
النفسانية الحاصلة
للمتوضئ بعد الوضوء ، فلا إجمال ولا إبهام في المأمور ، وإنّما الإبهام في أمر
خارج عن المأمور به ، وهو أنّه هل تتحقّق تلك الحالة بنفس الغسلات والمسحات ، أو
يتوقف ـ وراءها ـ على غسل الاذن أيضاً؟ فالأقل والأكثر في ناحية السبب ، لا
المسبب.
وأمّا إذا كان متعلّق الأمر والنهي
مردّداً بين الأقل والأكثر كما في الشبهة الحكمية كإجمال جزئية السورة في الأُولى
، أو كان مصداق المتعلّق مردّداً بينهما فاحتمال كون زيد عالماً وراء سائر الأفراد
المعلومة ، فهو من قبيل الشكّ في الأقل والأكثر حكمياً أو موضوعياً.
ومنه يظهر أنّ ما مثل به الشيخ من قبيل
القسم الأوّل كالطهور أو صوم ما بين الهلالين ليس بصحيح ، لأنّ الشكّ في المثالين
ليس في متن المأمور به ، وإنّما الشكّ في محقّقه ، وانّه هل يتحقّق بنفس الغسلات
والمسحات ، أو بتسعة وعشرين يوماً ، أو لا؟
إذا عرفت ذلك فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.
الكلام في الشكّ في المحصِّل
الشكّ في المحصِّل بالمعنى الذي عرفته
من خصائص الشبهة الحكمية ، فإذا أمر المولى بمسبب توليدي ، ودار الأمر في سببه
المولّد بين جزئية شيء أو شرطيته ، فالحقّ ـ وفاقاً لأهله ـ لزوم الاحتياط ، وقد
أوضح ذلك الشيخ في كلامه السابق بقوله : إنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم بيّن
معلوم تفصيلاً ، إنّما الشكّ في تحقّقه بالفعل ، فمقتضى أصالة الاشتغال عدم
الاكتفاء ولزوم الإتيان بالأكثر.
فما هو المأمور به ، ليس فيه قلّة ولا
كثرة حتى تجري فيه البراءة ، وما فيه القلّة والكثرة ليس بمأمور به.
فإن
قلت : هذا إذا كان السبب عقليّاً ، أو
عاديّاً ، كما إذا أمر المولى بقتل المرتد ، ودار السبب بين ورود ضربة عليه أو
ضربتين ، أو أمر بتنظيف البيت ، ودار أمره بين كنسه فقط ، أو كنسه ورشّه ، ففي تلك
الموارد يجب الاحتياط ، إذ ليس بيان السبب من وظائف الشارع ، وأمّا إذا كان السبب
شرعيّاً ، كالوضوء بالنسبة إلى الطهور فتجري فيه البراءة وتحكم بعدم دخله في
السبب.
قلت
: إنّ أصالة البراءة وإن كان يعالج
الشكّ في ناحية السبب فيحكم بعدم دخله في السببية ، لكن لا يعالج الشكّ في ناحية
المسبب ، فالشكّ فيه باق بحاله فالعقل يحكم بأنّ ذمة المكلّف مشغولة بالمفهوم
المبيّن ، ولا يحصل الفراغ إلا بضم المشكوك إلى المتيقن.
فإن
قلت : إنّ الشكّ في تحقّق الظهور وعدمه ناجم
من شرطية غسل الاذن في المسبب وعدمها ، فإذا جرى الأصل في ناحية السبب ، وقلنا
بأنّ شرطية غسل الاذن مجهولة مرفوعة بحديث الرفع لا يبقى شكّ في ناحية المسبب
وانّه حاصل قطعاً.
قلت
: إنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك دليل
اجتهادي يتخذ نتيجة الأصل السببي صغرى لنفسه فيتركب الدليل من صغرى وكبرى ويكون
الكبرى حاكماً على الأصل المسببي ، وهذا كما في المثال المعروف : إذا غسل النجس ،
بماء مستصحب الطهارة ، فانّ استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ،
وذلك لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة وعدمه نابع عن طهارة الماء ، فإذا كان الماء
محكوماً بالطهارة ، والثوب النجس مغسولاً به ، يكون مفاد الأصل السببي صغرى لكبرى
اجتهادية ، ويقال هذا الثوب النجس غسل بماء طاهر ( بحكم الاستصحاب ) وكلّ نجس غسل
بماء طاهر فهو طاهر وهذا هو الكبرى ، فينتج هذا الثوب المغسول بماء طاهر طاهر ،
وليس المقام كذلك
فانّ استصحاب عدم وجوب غسل الاذن لا يحقق موضوعاً لكبرى شرعية ، وهي كلّما لم يكن
غسل الاذن واجباً يكون الوضوء متحققاً بالغسلتين والمسحتين.
وإن شئت قلت : إنّ الأصل في المقام مثبت
، لأنّ رفع وجوب غسل الاذن يلازم عقلاً انحصار الواجب في الأجزاء المتبقية ، وهو
يلازم تحقق الوضوء المسببي بحكم العقل بأنّه كلّما تحققت العلّة يتحقق المعلول
أيضاً ، والكلّ من الأُصول المثبتة.
الشبهة الموضوعية في الأقل
والأكثر الارتباطيين
قد عرفت أنّ الشكّ في الأقلّ والأكثر من
جهة المصداق ، غير الشكّ في المحصّل ، وإن خلط الشيخ الأعظم 1 بينهما ، وقد مرّ حكم الشكّ في
المحصِّل وبيانه ، ولنأخذ الشكّ في المصداق بالبحث فنقول :
إنّ العناوين الواقعة تحت دائرة الطلب
تتصوّر على وجوه :
١. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام
الاستغراقي.
٢. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام
المجموعي.
٣. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو صرف
الوجود ، ونقض العدم.
والفرق بين الأوّلين واضح.
إذ على الأوّل : فيه أحكام ، وبالتالي
امتثالات وعصيانات لكلّ فرد.
بخلاف الثاني ففيه حكم واحد ، وبالتالي
امتثال وعصيان واحد ، فلو قال : أكرم مجموع العلماء ، وكان عددهم مائة فأكرم تسعة
وتسعين عالماً ، وترك إكرام واحد منهم لما امتثل أصلاً ، لكون المجموع موضوعاً
واحداً.
ثمّ الحكم المتعلّق بالعنوان تارة يكون
الوجوب ، وأُخرى الحرمة ، وعلى
التقديرين فالوجوب
أو الحرمة تارة نفسيان وأُخرى غيريان فيقع الكلام في مقامات أربعة :
١. حكم الشبهة المصداقية في
الواجب النفسي
إذا شككنا في مصداقية فرد لعنوان تعلّق
به الوجوب النفسي ، فإن كان العنوان مأخوذاً بنحو الاستغراقي فالمرجع هو البراءة ،
للشكّ في أصل التكليف في حقّ الفرد المشكوك ، ويكون العام من قبيل الأقل والأكثر
الارتباطيين.
وأمّا إذا كان مأخوذاً بنحو العام
المجموعي ، كما إذا قال : أكرم مجموع علماء البلد ، فشكّ في كون فرد عالماً أو لا
، فذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المرجع ، البراءة ، والسيد الأُستاذ 1 إلى الاشتغال ، ولعلّ الحقّ التفصيل
بين مورد ومورد.
أمّا
الأوّل : فلأنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض ،
إلى الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّه ليس هنا إلا تكليف واحد تعلّق
بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء
لإكرام العلماء كجزئية السورة للصلاة ، فيرجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر
الارتباطيين.
وأمّا
الثاني : فبوضوح الفرق بين المقامين ، فانّ
الأمر في الأقل والأكثر الارتباطيين تعلّق بالاجزاء بلحاظ الوحدة وليست الصلاة
عنواناً متحصّلاً منها بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء والشرط ، فالشكّ في
الجزئية يرجع إلى الشكّ في انبساط الأمر بالنسبة إليها. بخلاف المقام فانّه تعلّق
بعنوان خاص أعني المجموع بما هو هو ، وقد قامت الحجّة بما هو هو ، ومرجع الشكّ إلى
انطباق المأتي به على المأمور به ، فالشكّ في المقام ، شكّ في تحقّق العنوان
المأمور به ، بخلاف الآخر
__________________
فإنّه شكّ في تقيد
الصلاة بشيء.
ويمكن أن يقال : إنّه إذا أخذ العنوان
موضوعاً بما هو هو فالمرجع هو الاشتغال ، لأنّ الذمة مشغولة بإيجاده فإذا شكّ في
عالمية فرد ، يجب إكرامه إذ مع ترك إكرامه يشكّ في حصول العنوان ، وفراغ الذمة ،
فلا تجري البراءة في مشكوكها ، بخلاف ما إذا كان العنوان مأخوذاً بنحو المرآتية
إلى الخارج فيكون الشكّ راجعاً إلى قلّة الاجزاء وكثرتها فتجري البراءة.
وأمّا إذا كان تعلّق الحكم بنحو صرف
الوجود وناقض العدم وإيجاد الطبيعة فقط ، فإذا شكّ في كون فرد عالماً أو لا ، لا
يجوز الاكتفاء بإكرام المشكوك بل يجب إكرام من يعلم أو مصداقه.
٢. حكم الشبهة المصداقية في
الواجب الغيري
هذا كلّه إذا كان الشكّ في الشبهة
الموضوعية في الواجب النفسي ، وأمّا إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية من
الواجبات الغيرية ـ بناء على القول بالوجوب الغيري ـ ككون الشيء مصداقاً للجزء أو
الشرط أو لا ، فالأقسام الثلاثة الماضية وإن كانت متصوّرة في المقام ، لكن الواقع
هو القسم الثالث ، أعني : صرف الوجود وناقض العدم إذ لم يعهد في الشريعة ، اعتبار
شيء جزءاً أو شرطاً بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي.
فإذا دار أمر شيء مصداقاً للجزء أو
الشرط أو لا ، كما إذا شككنا في سورة الانشراح هل هي سورة كاملة ـ بناء على وجوب
قراءة السورة الكاملة في الصلاة ـ أو لا ، أو في كون مائع خارجي أنّه ماء أو خل ،
فلا يجوز الاكتفاء بالمشكوك ، بل يجب إحراز كونها سورة كاملة ، أو ماء مطلقاً.
هذا كلّه حول الحكم الوجوبي النفسي
والغيري.
٣. حكم الشبهة المصداقية في
التحريم النفسي
إنّ حكم الشبهة المصداقية في التحريم
النفسي ، مطلقاً هو البراءة ، سواء أُخذ العنوان بنحو العام الاستغراقي أو بنحو
العام المجموعي ، أو ترك الطبيعة.
أمّا الأوّل : فكما إذا قال : لا تكرم
الفسّاق ، فشكَّ في كون زيد فاسقاً أو لا ، فرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحل به
، وهوأشبه بالأقل والأكثر الاستقلاليين.
وأمّا الثاني : فكما إذا قال : لا تكرم
مجموع الفساق من العلماء ، فيجوز إكرام من علم فسقه فضلاً عن إكرام المشكوك ،
ويكفي في صدق الامتثال ترك واحد ممن علم فسقه ، حتى يصدق أنّه : لم يكرم المجموع
من حيث المجموع.
وأمّا الثالث : فكما إذا قال : لا تشرب
الخمر ، فصرف الترك ، وإن كان يتحقق ، بترك فرد من الطبيعة عقلاً ، لكن العرف لا
يساعده بل يرى صرف الترك ، بترك عامّة أفراده ، لكن الكبرى حجّة في معلوم الفردية
دون مشكوكها ، فيجوز شرب مشكوكه.
٤. حكم الشبهة المصداقية في
التحريم الغيري
يتصوّر الحكم التحريمي الغيري فيما إذا
كان الشيء مانعاً أو قاطعاً ، والمراد من الأوّل ، ما يكون وجوده مضاداً للمأمور
به كنجاسة الثوب أو بدنه ، ومن الثاني ما يكون وجوده قاطعاً للهيئة الاتصالية
للفرد المتحقق من الطبيعية كالأكل والشرب والضحك.
إنّ العنوان المأخوذ في التحريم الغيري
وإن كان يمكن أن يؤخذ بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي أو صرف الوجود ، لكن
الموجود منه في الشريعة هو القسم الأوّل فتكون البراءة هي المحكم للشكّ في تعلّق
النهي الانحلالي بذاك الفرد.
وعلى ذلك يترتّب جواز الصلاة في اللباس
المشكوك لاحتمال كونه مصنوعاً من وبر أو شعر ما لايؤكل لحمه ، لأنّ المأخوذ في
لسان الدليل هو أخذه مانعاً بنحو العام الاستغراقي ، فكلّ ما صدق عليه أنّه ممّا
لا يؤكل فهو مانع ، لا المشكوك كونه ، وذلك لأنّ الشكّ في كونه منه أو من غيره
راجع إلى انحلال النهي التحريمي الغيري إلى ذاك الفرد أو لا ، وقد عرفت أنّه لا
يحتج بالكبرى بدون إحراز الصغرى ، ومثله الشكّ في كون شيء ـ كحمل الطفل حال الصلاة
ـ قاطعاً أو لا فالبراءة هي المحكم.
هذا من غير فرق بين تفسير المانعيّة
بكون وجوده ضداً للفرد المتحقّق منه ، أو أخذ عدم المانع شرطاً ، لأنّ مرجع الشكّ
في كونه ممّا لا يؤكل لحمه على الثاني أيضاً إلى أخذ عدم هذا الفرد ، في الصلاة أو
لا فتجري البراءة.
ثم لإكمال البحث نعقد تنبيهات :
التنبيه الأوّل : في النقيصة
السهوية
وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :
الأوّل
: هذا التنبيه منعقد لبيان حكم النقيصة السهوية ، كما أنّ التنبيه الآتي منعقد
لبيان الزيادة العمدية والسهوية ، وأمّا النقيصة العمدية فلا حاجة إلى البحث فيها
لأنّ البطلان لازم الجزئية.
ثمّ إنّ الشيخ عنون التنبيه بقوله : «
إذا ثبتت جزئية شيء وشكّ في ركنيته ، فهل الأصل كونه ركناً أو لا؟ وبما انّ هذا
التنبيه مختص لبيان حكم النقيصة السهوية فيلزم أن يفسر الركن بالمعنى اللغوي ، أي
ما يكون نقصه مخلاً.
وأمّا تفسير الركن بما يخلّ نقيصه
وزيادته ، فهو اصطلاح خاص للفقهاء ولا بأس به إذا جعلنا التنبيهين تنبيهاً واحداً.
الثاني
: أنّ لسان دليل الجزء على أقسام :
١. ما يكون لسانه ، لسان الحكم الوضعي
كقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » الظاهر في الجزئية المطلقة.
٢. ما يكون بلسان الحكم التكليفي ، لكن
إرشاداً إلى الجزئية ، كقوله سبحانه : (
يا أَيُّها
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
) وهذا أيضاً مثل السابق ظاهر في الجزئية
أو الشرطية المطلقة.
٣. ما إذا ثبتت جزئية الشيء بدليل لبي ،
كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة ، فإنّ عمدة دليله هو الإجماع ، ولا إطلاق له
، بل القدر المتيقن منه حال الذكر دون النسيان والغفلة.
الثالث
: انّ صور المسألة أربع :
١. إمّا أن يكون لدليل المركب عند نسيان
الجزء إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي ، ولدليل الجزء والشرط والقاطع والمانع
إطلاق ، يطلبه الشارع في عامة الحالات ولا ترفع عنه اليد.
٢. أن يكون لدليل الجزء المنسي إطلاق ،
دون دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.
٣. أن يكون الأمر بالعكس.
٤. أن لا يكون إطلاق لا في دليل الجزء ،
ولا في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع
تارة في مقتضى الدليل الاجتهادي ، وأُخرى في مقتضى الأصل العملي.
والبحث في حكم الصور الثلاث الأُول بحث
في مقتضى الدليل
__________________
الاجتهادي ، كما أنّ
البحث عن حكم الصورة الرابعة بحث عن مقتضى الأصل العملي.
وليعلم أنّ البحث في المقام مركّز على
تبيين مقتضى القواعد الأُصولية العامة من غير فرق بين باب دون باب أو كتاب دون
كتاب.
وأمّا التصديق الفقهي في كلّ مسألة
فموكول ـ وراء ذلك ـ إلى ملاحظة سائر ما ورد في المورد من الروايات المرخِّصة أو
المانعة. وعلى ذلك فلو قلنا ببطلان الصلاة مثلاً في بعض الصور ، فإنّما هو حسَب
مقتضى القواعد ، وفي الوقت نفسه يمكن تصحيحه بقواعد أُخرى مختصة بباب خاص كقاعدة «
لا تعاد الصلاة إلا من خمس » أو غيرها.
إذا علمت ذلك فلنتناول مقتضى القواعد
الاجتهادية بالبحث وله صور ثلاث :
الصورة
الأُولى : إذا كان لكلا الدليلين ، أعني دليل
جزئية الجزء ، أو شرطية الشرط ، أو مانعية المانع ، أو قاطعية القاطع ، إطلاق
كالإطلاق الموجود في دليل المركّب بالنسبة إلى ماعدا المنسي.
ثمّ إنّ معنى الإطلاق في دليل الجزء هو
كونه مطلوباً في حالتي الذكر والنسيان ، وأنّ المولى لم ترفع اليد عنه ، فهو مقوّم
للطبيعة ، فيكون مقتضاه بطلان الصلاة عند نسيانه.
كما أنّ معنى إطلاق دليل المركب بالنسبة
إلى ماعدا المنسي ، هو كون الباقي مطلوباً في حالة النسيان وإن لم يكن معه الجزء
المنسي.
وبعبارة أُخرى : الباقي مطلوب مع الجزء
في حال الذكر ، وأمّا في حال النسيان فهو مطلوب أيضاً وإن لم يكن معه الجزء
المنسي.
وعلى ذلك فالإطلاقان يتعارضان ، فمقتضى
الإطلاق الأوّل بطلان الصلاة عند نسيان الجزء ومقتضى الإطلاق الثاني صحّته ، لكن
يقدّم إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب لأنّه أخصّ منه ، فتكون النتيجة هي
البطلان.
مثلاً إذا ورد : لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب .
أو ورد : لا صلاة لمن لم يقم صلبه
، الظاهر في مطلوبية الفاتحة ، أو إقامة الصلب في كلتا الحالتين. وورد أيضاً : لا
تترك الصلاة بحال ، المنطبقة على الأجزاء الباقية فيقدّم دليل إطلاق الجزء على
الثاني.
اللّهم إلا أن يقال : إنّ قوله : «
الصلاة لا تترك بحال » حاكم على أدلّة القيود ، لأنّه تعرض لما لم يتعرض له تلك
الأدلة وهو مقام الترك المتأخر عن اعتبارهما وهذا أيضاً نحو من الحكومة.
نعم سيوافيك تصحيح الصلاة من طريق آخر
فانتظر.
الصورة
الثانية : إذا كان لدليل الجزء وغيره إطلاق دون
المركب ، كما هو الحال في قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » بالنسبة إلى قوله
: ( أَقِمِ الصَّلاة
لِدُلُوكِ الشَّمس ) فيدل إطلاقه على كونه مطلوباً للمولى
في حالتي الذكر والنسيان ، فمقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الاكتفاء بالمأتي به.
فإن
قلت : إنّ الجزئية ، والشرطية ، أو
القاطعية ، والمانعية من الأحكام الوضعية المنتزعة من الأحكام التكليفية ، وهو فرع
صحّة خطاب الناسي بالمنسي ، ومن
__________________
المعلوم عدم صحّته ،
فكيف يصحّ انتزاع الجزئية في حقّ الناسي مع عدم وجود منشأ الانتزاع؟
قلت
: ما ذكر من الإشكال مبني على كونها منتزعة من الأحكام التكليفية ، وأمّا على
القول باستقلالها بالجعل فلا ، كما هو مفاد قوله : « لا صلاة إلابطهور » وغيره ،
فإنّ لسانها جعل الجزئية في كلتا الحالتين ، فتكون النتيجة بطلان الصلاة كالصورة
الأُولى.
أضف إلى ذلك : أنّ ما ورد بلسان التكليف
كقوله : « كبّر » ، « اسجد » ، « تشهّد » أيضاً إرشاد إلى الجزئية ، فيعم الدليل
كلتا الحالتين.
فإن
قلت : يمكن التمسك بحديث « ما لا يعلمون »
لرفع جزئية الجزء في حال النسيان أو لا؟
قلت
: الأصل دليلٌ حيث لا دليل ، والمفروض وجود الدليل الاجتهادي على الجزئية في حال النسيان
، وخطابه وإن كان ممتنعاً بالنسبة إلى المنسي ولكن أثر الجزئية إنّما هو بطلان
الصلاة ولزوم قضائها بعد رحيله.
تصحيح الصلاة في الصورتين من
طريق آخر
يمكن تصحيح الصلاة في هاتين الصورتين من
طريق آخر وهو : أنّ نسبة الرفع إلى « ما لا يعلمون » وإن كان رفعاً ظاهرياً
مشروطاً بفقد الدليل الاجتهادي ، والمفروض وجوده ، ولكن نسبة الرفع إلى النسيان
والاضطرار والإكراه رفع واقعي ، وليس الرفع مقيّداً بعدم وجود الدليل الاجتهادي ،
بل مشروط بوجوده حتى يكون حاكماً عليه كسائر العناوين الثانوية من الضرر والحرج ،
فيتمسك بها مع وجود الدليل الاجتهادي على خلافها ، فيقدّم حكم العنوان الثانوي على
حكم العنوان الأوّلي.
وعلى ضوء ذلك نقول : جزئية السورة
المنسية مرفوع بالنسيان ، كما أنّه مرفوع بالاضطرار والإكراه ، نظير رفع وجوب
الوضوء الضرري والحرجي بقاعدتي لا ضرر ولا حرج.
الصورة
الثالثة : إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة
إلى ما عدا المنسي ، كما هو الظاهر من قوله : « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » :
الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ولم يكن لدليل الجزء إطلاق مثله ، كما هو
الحال في الاستقرار في حال الصلاة الذي ليس له دليل سوى الإجماع ، والمتيقن منه
حال الذكر ، فلو نسي وصلّـى بلا استقرار يصحّ الإتيان بما عدا المنسي لافتراض وجود
الإطلاق بالنسبة إليه.
وأمّا احتمال جزئية الجزء أو الشرط
فيجري فيهما البراءة لفرض عدم الدليل الاجتهادي الدال على وجوبه.
فقد خرجنا بتلك النتيجة : أنّ مقتضى
القواعد في الصورتين ـ مع قطع النظر عن حديث الرفع بالنسبة إلى الفقرات الباقية ـ
هو بطلان الصلاة في الصورتين الأُولتين ، ولكن بالنظر إلى نسبة حديث الرفع إلى
النسيان والاضطرار والإكراه هو الصحّة فيهما.
وأمّا الصورة الثالثة : فالصلاة صحيحة
لجريان البراءة في احتمال جزئية الجزء وشرطية الشرط ، فالصحّة في الأُوليين برفع
النسيان ، وفي الثالثة برفع ما لايعلمون.
إلى هنا تمّ الكلام في مقتضى الدليل
الاجتهادي.
وإليك الكلام في المقام الثاني.
الكلام في مقتضى الأُصول
العملية
الكلام في مقتضى الأُصول العملية يختص
بما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي ، وليس هو من هذه الصور إلا الصورة الرابعة
: أعني إذا لم يكن لدليل المركب ولا لدليل الجزء إطلاق فأتى بالواجب ما عدا المنسي
، ثمّ ذكر بعد الفراغ من العمل ، والمورد مجرى للبراءة لعدم الدليل الاجتهادي ، في
كلا الطرفين إذ الواقع لا يخلو عن أحد أمرين : إمّا أن تكون الجزئيّة مطلقة فتلزم
إعادتها ، أو مختصة بحال الذكر ، فيكفي ما أتى به ، فيكون مرجع التردد بين الأمرين
إلى الشكّ في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان وعدمه ، ومعه يكون
المرجع هو البراءة.
إلى هنا علم أنّ حكم الصورتين الأُولتين
هو البطلان ولزوم الإعـادة ـ لولا حديث رفع النسيان ـ كما أنّ حكم الصورتين
الأخيرتين هو الصحّة لجريان البراءة عن جزئية الجزء وشرطية الشرط.
الصحّة رهن التكليف بما عدا
المنسيّ
ثمّ إنّ هنا إشكالاً ، أشار إليه الشيخ
، وغيره في كلماتهم. وهو : أنّ رفع الجزئية والشرطية ، أو رفع وجوب الجزء والشرط
برفع النسيان ، أو رفع ما لا يعلمون ، لا يضفي على العمل الناقص الصحة ، فمادام لم
يتعلّق الأمر بما عدا المنسي فالصحّة رهن تعلّقه به وهو أمر غير ممكن ، لأنّ تكليف
الناسي به ، وإيجاب العبادة الخالية عن ذلك ، أمر غير ممكن ، لأنّه لابدّأن يكون
الخطاب به بعنوان الناسي ، فإن التفت إليه ينقلب إلى الذاكر ، فلا يكون الحكم
الثابت بعنوانه فعليّاً في حقّه ، وإن لم يلتفت فلا يعقل انبعاثه ، ويكون الجعل
لغواً.
نعم ما يمكن أن يقال : إنّه لا حاجة إلى
إحراز الأمر بماعدا المنسي ، إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة إلى الأجزاء
الباقية ، ولم يكن لدليل الجزء إطلاق كما هو الحال في الصورة الثالثة إذ معنى
إطلاق دليل المركب أنّ سقوط وجوب المنسي وعدم الإتيان به في حالة النسيان لا يُخلّ
بمطلوبية الأجزاء الباقية فانّها مطلوبة مطلقاً كان المنسي معه أو لا ، وهذا يلازم
وجود الأمر ، فالحاجة إلى إحراز الأمر بما عداه إنّما هو في الصورالثلاث ، أعني
الأُولى والثانية والرابعة بحالها.
فإن
قلت : فعلى هذا يكون الحكم بصحّة العمل
المركب المنسي بعضُ أجزائه ، أمراً غير ممكن ، مع أنّ حديث « لا تعاد الصلاة إلا
من خمس » دل على صحّة الصلاة المنسي بعض أجزائها غير الخمسة.
قلت
: إنّ القائل بامتناع خطاب الناسي يصحح العمل من جانب آخر وهو : إحراز وفاء المأتي
به بالملاك الملزَم وسقوط الأمر باستيفاء ملاكه ، وإن كان إحرازه أمراً مشكلاً.
ثمّ المحقّق الخراساني حاول أن يصحح
تعلّق الأمر بما عدا المنسي بوجهين :
الأوّل
: أن يكون الواجب في حقّ الذاكر والناسي ماعدا المنسي ، ويختص الذاكر بخطاب يخصّه
بالجزء المنسي ، والمحذور في تخصيص الناسي بالخطاب ، لا تخصيص الذاكر ، به. وهذا
كما إذا كان الواجب في حقّ الذاكر والناسي ما يتقوم به العمل ، أعني : الأركان
الخمسة ، ثمّ يكلّف خصوص الذاكر ببقية الأجزاء والشرائط ، وهذا بالنظر إلى « حديث
لا تعاد الصلاة إلا من خمس » الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، غير بعيد.
وإن كان الإذعان به يتوقف على دليل
قاطع.
وقد أشار المحقّق الخراساني إلى هذا
الجواب بقوله : كما إذا وجّه الخطاب ـ على نحو يعم الذاكر والناسي ـ بالخالي عمّا
شكّ في دخله مطلقاً ، وقد دلّ دليل
آخر على دخله في حقّ
الذاكر.
فإن
قلت : إنّ المحاولة وإن صححت إمكان تعلّق
الأمر بما عدا المنسي ثبوتاً ، لكنّها لا تجدي في مقام الإثبات ، وذلك لأنّ الناسي
، قصد الأمر المتوجه إلى الذاكر المتعلّق بالمنسي وغيره ، مع أنّ الأمر المتوجه
إليه ، هو الأمر المتعلّق بما عدا المنسي ، فما قصده ليس أمر الناسي ، وما هو أمره
لم يقصده.
قلت
: إنّ الناسي قصد أوّلاً وبالذات الأمر الفعلي المتوجه إليه ، لكنّه تخيّل أنّ
الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إلى الذاكر ، غفلة عن حقيقة الحال ، ومثل هذا
لا يضرّ ، لأنّه من قبيل الخطأ في التطبيق ، وهذا نظير من اقتدى بالإمام الحاضر
جداً ، لكن زعم أنّه زيد فبان أنّه عمرو ، فصلاته محكومة بالصحّة ، لأنّ المقصود
الواقعي هو الاقتداء بالإمام الحاضر زيداً كان أو عمراً ، والتطبيق ناش عن الغفلة
والجهل بالواقع.
الثاني
: انّ الخطاب يتوجه إلى الناسي لا بعنوانه ، بل بعنوان عام ملازم ، كما إذا قال :
أيّها البارد مزاجاً صلّ كذا ؛ أو خاص ، كما إذا قال : يا زيد صلّ كذا ، أي يذكر
الأجزاء دون السورة ، وإليه أشار المحقّق الخراساني بقوله : أو وجّه إلى الناسي
بخطاب يحضه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسي لكي يلزم
استحالة إيجاد ذلك عليه بهذا العنوان لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة.
يلاحظ
على هذا الجواب : أنّه مجرّد زعم
وخيال لا واقع له لعدم وجود خطاب شخصي في الشريعة ، وأمّا العنوان العام أعني
البارد مزاجاً فليس يلازم الناسي ، بل النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.
ثمّ إنّ المطلوب في المقام ، إثبات
تعلّق الأمر بما عدا الناسي حتى يحكم بصحّة صلاة الناسي ، وعدم لزوم الإعادة عليه
بعد رفع النسيان وما أُفيد من
الجوابين ، لا
يتكفلان ذلك ، وأقصى ما يُثبتان إمكان التعلّق وعدم استحالته ، وأين هو من إثبات
الوقوع في الشريعة ، حتى تترتب عليه صحّة الصلاة.
فلا محيص عن محاولة ثالثة تتكفل إثبات
الوقوع ، وهذا ما سنذكره في الجواب الثالث الذي أخذنا لُبَّه عن العلمين الجليلين
السيد البروجردي في درسه الشريف والسيد الإمام الخميني ـ قدّس سرّهما ـ وإليك
البيان وحاصل كلامهما بتوضيح منّا :
تصحيح تعلّق الأمر بخطاب
واحد
إنّ الناسي لا يحتاج إلى خطاب خاص يبعثه
إلى الخالي عن المنسي ، بل الذاكر والناسي ، مثل الحاضر والمسافر والصحيح والمريض
، محكوم بنفس الخطاب الموجّه إلى الذاكر ، كما أنّ المسافر والمريض محكومان بنفس
الخطاب الموجّه إلى الحاضر والصحيح ، فالكلّ محكوم بالإرادة الاستعمالية بالصلاة
الجامعة للأجزاء
والشرائط ، وأمّا حسب الإرادة الجدّية فالمسافر والمريض والناسي محكوم بأقلّ ممّا
حكم على مقابليهم ، وهذا على طرف النقيض من الجواب الأوّل ، حيث إنّه على أساس أنّ
الجميع في المرحلة الأُولى محكومون بالأركان الخمسة ، ثمّ يختص الذاكر ، بأُمور
زائدة عليها بالأمر الثاني.
وأمّا على هذا الجواب فليس هنا إلا أمر
واحد وهو متعلّق بالعنوان الجامع للأجزاء والشرائط المجردة عن الموانع والقواطع
حسب الإرادة الاستعمالية ، لكن الإرادة الجدّية تعلق في حقّ المسافر والمريض
والناسي بأقل من ذلك ، كاستثناء الركعتين في مورد المسافر حيث قال : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ
__________________
جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة
) فلفظة (
أَنْ
تَقْصُروا مِنَ الصَّلاة ) دالّ على أنّ المسافر محكوم بنفس الأمر
المتوجه إلى الحاضر ، لكن يجوز له قصرها ، ونظيره المريض والناسي ، الذي يجمعهما
المعذور فقد دلّ الدليل على رفع الجزء الحرجي والمنسي عنهما ، ومرجع رفعه في
حقّهما إلى استثنائهما من دون أن يمس الاستثناء ، كرامة الأمر ، أو يحوج الآمر ،
إلى أمر آخر بالخالي عنه.
ويؤيد ذلك ما سبق من أنّ الأمر المتعلّق
بالمركب يدعو جميع الأصناف إلى العنوان الذي تعلّق به الأمر لكن بالإرادة
الاستعمالية ، ولما دلّ الدليل الخارجي على عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع
الإرادة الجدّية في بعض الأجزاء لطروء عنوان مانع عن الامتثال كالمرض والنسيان ،
تسقط دعوة الأمر بالنسبة إليه بحكم العقل ، ومع ذلك تبقى دعوة الأمر إلى الأجزاء
الباقية ، لأنّه يدعوه إلى العنوان ، وهو أمر مقول بالتشكيك يصدق على الجامع للجزء
المنسي والخالي عنه ، وليست دعوة الأمر إلى الباقية مشروطة بدعوته إلى الأجزاء
المنسية لما علمت من وجود المرونة في صدق العنوان على كلا الفردين من الصلاة ،
وليس صدق عنوان الصلاة على الصلاة المقصورة أولى من صدقها على الصلاة الرباعية
المنسية سورتها.
هذا هو الحقّ القراح في المسألة الذي
عليه ، سيد مشايخنا المحقّق البروجردي ، والسيد الإمام الخميني ـ قدّس اللّه
سرّهما ـ.
فإن
قلت : ما هو السرّ في الإصرار على إحراز
الأمر بما عدا المنسي ، مع كفاية الملاك في صحّة العبادة؟
قلت
: إنّ إحراز الملاك أشكل من إحراز تعلّق الأمر بما عدا المنسيّ ، للشك في وفاء ما
أتاه الناسي بغرض المولى ، فلا مناص عندئذ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، وقضاء
الواجب بعد رفع النسيان.
ثمّ إنّه ما قررناه ، يعلم أنّ الاشكال
الذي أثاره المحقّق النائيني وتبعه تلميذه
__________________
الجليل ليس بمهمّ ،
وإليك كلامهما :
قال الأُستاذ 1 : إذا كان لدليل المنسي إطلاق يشمل
صورة النسيان ، فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الأجزاء ، فإنّه ليس في البين
إلا تكليف واحد تعلّق بجملة الأجزاء ومنها الجزء المنسي ، وهذا التكليف الواحد سقط
بنسيان بعضها فلابدّ من سقوط التكليف المتعلّق بجملة العمل ، فلو ثبت التكليف
ببقية الأجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلّقاً بجملة الأجزاء ،
ولابدَّ من قيام دليل بالخصوص على ذلك فالتكليف بما عدا المنسي يحتاج إلى دليل غير
الأدلّة المتكفلة لبيان الأجزاء.
يلاحظ
عليه : أنّ الاشكال مبني على أنّ متعلّق
الأمر هو الأجزاء مباشرة ، فكأنّ بأمر المولى ، بالتكبير ، والقراءة ، والحمد
والسورة ، ـ كما إذا نسي الحمد ـ سقط التكليف المتعلّق بهذه الأجزاء فتعلّقه بغير
المنسي يحتاج إلى دليل.
ولكنّك عرفت أنّ متعلّق التكليف هو
العنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء ، والأجزاء وجود تفصيلي له ، فمتعلق الأمر هو
العنوان ، لا الأجزاء بلا واسطة ، وقد عرفت أنّ الإرادة الاستعمالية تعلّقت
بالعنوان الذي هو عبارة إجمالية عن الأجزاء والشرائط بأجمعها ، لكن المولى أشار
بدليل آخر إلى سقوط الإرادة الجدّية في حقّ المنسي ، وإخراجها عن تحت الأمر ، لكن
إخراجها ، لا يوجب سقوط الأمر عن العنوان ، لما عرفت من صدق العنوان على الواجد
والخالي ، فالأمر باق على العنوان وله دعوة إلى الأجزاء إلا ما خرج بالدليل.
بذلك تقف على عدم تمامية ما أفاده
تلميذه الجليل حيث قال : إنّ نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلا برفع منشأ
انتزاعهما من الأمر بالمركب أو المقيّد ، ولا يترتب عليه ثبوت الأمر بالمنسي كما
هو المدعى وقد علم ممّا ذكرنا عدم تماميته فلاحظ.
__________________
التنبيه الثاني : في حكم
الزيادة عمداً أو سهواً
وتحقيق المقام يتوقف على البحث في أُمور
:
الأوّل
: في تصوير الزيادة في الجزء والشرط مع أنّه إن أخذ « لا بشرط » لا تتحقق الزيادة
ويكون الزائد من مصاديق المأمور به ، وإن أُخذ « بشرط لا » يكون تكراره موجباً
لنقص الشرط.
الثاني
: هل يعتبر في تحقّقها أن يكون المزيد من سنخ المزيد عليه أو لا؟ وبعبارة أُخرى :
هل يعتبر كون المزيد من سنخ أجزاء الواجب قولاً وفعلاً ، أو لا؟
الثالث
: هل يعتبر قصد الزيادة إذا كان المزيد من سنخ أجزاء الصلاة أو لا ، بل يكفي مطلق
الإتيان به وإن لم يكن عن قصد؟
الرابع
: حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية.
الخامس
: حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية.
وإليك دراسة الكل واحداً بعد الآخر.
الأوّل : تصوير زيادة الجزء
والشرط
فصّل المحقّق الخراساني في تصوير
الزيادة ثبوتاً ، بين أخذ الجزء في الواجب لا بشرط ، واعتبار عدم الزيادة في أصل
المركّب لا في جزئية الجزء وشرطيّة الشرط ، وبين أخذهما بشرط لا ، فعلى الأوّل
تكون الزيادة من قبيل زيادة الجزء ، وعلى الثاني فهو يكون من قبيل نقص الجزء أو
الشرط لعدم الإتيان به بوصفه ، أعني بشرط كونه وحده.
يلاحظ
عليه : أنّ المحاولة غير ناجحة في كلا
الوجهين :
أمّا
الأوّل : فلأنّه إذا كان الجزء مأخوذاً لا
بشرط ، ولم تكن الزيادة قيداً في
جزئيته ، وإنّما
تكون قيداً مأخوذاً في المركب ، لا يكون الفرد الثاني زيادة في الجزء ، لأنّ
المفروض أخذ طبيعي الجزء ، جزءاً للصلاة ، وهو يجتمع مع الواحد والكثير ، فالفرد
الثاني لا تنطبق عليه زيادة الجزء ، ولو كان مخلاً فإنّما هو لاعتبار أخذ عدم
الزيادة جزءاً أو شرطاً في المركّب ، فيكون الفرد الثاني موجباً لفقدان الشرط أو
الشطر.
وأمّا
الثاني : فانّ الجزء فيه مركّب من جزئين ، ذات
الجزء وقيد الوحدة ، والفرد الثاني بالنسبة إلى ذات الجزء زيادة ، وبالنسبة إلى
قيد الوحدة منشأ للنقيصة ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد منشأ للزيادة والنقصان.
وأجاب المحقّق الخوئي بوجه آخر وهو : أن
يكون مأخوذاً بنحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ففي مثل ذلك وإن كان
انضمام الوجود الثاني وعدمه على حدّسواء في عدم الدخل في جزئية الوجود الأوّل ،
إلا أنّه لا يقتضي أن يكون مصداقاً للمأمور به وحينئذ تتحقق الزيادة.
يلاحظ
عليه : أنّ أخذه على نحو صرف الوجود لا يخلو
من حالتين ، إمّا أن يكون مأخوذاً « لا بشرط » فلا يكون زيادة في الجزء ، لأنّ
المأخوذ هو ذات الجزء من غير تقييده بوحدة ولا كثرة فيكون الفرد الثاني ، كأذكار
الركوع والسجود كلما زادت يكون الزائد ، جزءاً لا زيادة ، وإن كان مأخوذاً بشرط لا
فيكون من قبيل النقيصة.
والأولى أن يجاب : بأنّ الموضوع في
المقام وفي الروايات عرفي ، والزيادة تصدق على الفرد الثاني من غير نظر إلى هذه
الدقة العقلية وقوله : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » ناظر إلى الاستعمالات
العرفية حتى لو أُخذ الجزء بنحو بشرط لا ، ويرشدك إلى هذا أنّ الركعة الثالثة
زيادة في صلاة الفجر ، والركعة الرابعة زيادة في صلاة المغرب ، ومثله الركوع
والسجود الثاني ، مع أنّ الجميع أخذ بشرط لا.
__________________
نعم لا تتصور الزيادة فيما إذا كان
الجزء طبيعي الجزء ، بلا تحديد في جانب القلّة والكثرة ، كما ذهب إليه بعضهم في
أذكار الركوع والسجود ، فما أُتي فهو من مصاديق الجزء.
الثاني : في شرطية كون
المزيد من سنخ المزيد فيه وعدمها
هل يشترط في صدق الزيادة كون المزيد من
سنخ المزيد فيه ، أو لا؟ أو يفرّق بين الإتيان ، بقصد الجزئية فتصدق الزيادة أو لا
معه ، فلا تصدق؟
لا شكّ انّ الزيادة في التكوين رهن كونه
مسانخاً للمزيد فيه ، فلو أضاف عموداً ، جنب عمود آخر ، أو زاد في كمية جزء لمعجون
، يطلق انّه زاد فيه ، دون ما إذا لم يكن مسانخاً ، كما إذا أدخل في الدواء
المحدّد أجزاؤه ، شيئاً لا يمتّ له بصلة كطحين الحنطة.
وأمّا الأُمور الاعتبارية فلو كانت
الزيادة مسانخة للمزيد فيه فسيأتي الكلام فيه في الأمر الثالث ، إنّما الكلام في
صدقها فيما إذا لم يكن مسانخاً كحركة اليد في الصلاة ، والتأمين والتكتّف ،
فالظاهر الفرق بين الإتيان به بقصد الجزئية فتصدق الزيادة دونما إذا لم يقصد ،
ولذلك لا تصدق الزيادة على الأُولى دون الأخيرين حيث إنّ أهل الخلاف يأتون بهما
بنية الجزئية.
الثالث : في شرطية قصد
الجزئية في الجزء المسانخ وعدمها
هل يشترط في صدق الزيادة الإتيان بالجزء
المسانخ بقصد الجزئية أو لا يشترط ، أو يفصل بين الأقوال والأفعال؟
والأخير مختار المحقّق النائيني 1 ، كما أنّ الأوّل مختار المحقّق الخوئي
، ولعلّ الأظهر هو الوجه الثاني ، وإليك بيان الوجهين ثمّ المختار.
قال المحقّق النائيني : ما كان من سنخ
الأقوال كالقراءة والتسبيح فيعتبر في صدق الزيادة قصد الجزئية وإلا كان من الذكر
والقرآن غير المبطل ، وأمّا ما كان من سنخ الأقوال كالقيام والركوع فلا يعتبر في
صدقها قصد الجزئية فانّ السجود الثالث زيادة في العدد ، المعتبر من السجود في
الصلاة في كلّ ركعة وإن لم يقصد بالسجود الثالث ، الجزئية.
يلاحظ
على الشق الأوّل : أنّ عدم الصدق
عند عدم قصد الجزئية لورود الدليل على أنّ ذكر اللّه حسن في كلّ حال ، أو قراءة
القرآن جائز في تمام الأحوال ، وإلا لصدق الزيادة سواء قصد الجزئية أو لا.
وقال المحقّق الخوئي في لزوم قصد
الجزئية : إنّ المركّب الاعتباري كالصلاة مثلاً مركّب من أُمور متباينة مختلفة
وجوداً وماهية ، والوحدة بينهما متقومة بالقصد والاعتبار ، فلو أتى بشيء بقصد ذلك
المركب كان جزءاً له وإلا فلا ، وما ورد من أنّ الإتيان بسجدة التلاوة في أثناء
الصلاة زيادة فيها ، تعبّد شرعي وإن لم يكن من الزيادة حقيقة.
والأولى
أن يقال : انّ المركب الاعتباري وإن كان
مؤتلفاً من أُمور مختلفة وجوداً وماهية ولكن تكبيرة الافتتاح يعدّ دخولاً في عمل
واحد مستمر عرفاً إلى أن يأتي بما جعله الشارع خروجاً عنه ، والهيئة الاتصالية
المستمرة هي التي تبلع تلك المواد المختلفة ، وتضفي عليها صورة وحدانية ، وعند ذلك
لوكان الزائد من غير جنس المزيد لا يعد زيادة في الفريضة لعدم التسانخ بين المزيد
والمزيد عليه كحركة اليد أو وضع اليد اليمنى على اليسرى بل يعدّ أمراً أجنبياً ،
اللّهمّ إلا إذا قصد الجزئية ، وأمّا إذا كان المزيد من جنس المزيد فيه ، فالعرف
لا يتوقف في وصفه بكونه زيادة في الفريضة وإن ادّعى المصلّي أنّه ما أتى به ،
بعنوان انّه جزء من
__________________
الصلاة ، بل يرى
المماثلة العرفية كافية.
ويشهد بذلك ما رواه زرارة عن أحدهما 8 قال : « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من
العزائم ، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة ». وحمل
ذلك على التعبد والمجاز ، غريب مع ورودها في غير واحد من الروايات.
الرابع : ما هو مقتضى
القواعد الأوّلية في الزيادة؟
المراد من القواعد الأوّلية في المقام ،
ما يكون مرجعاً عند فقد الدليل الاجتهادي الدال على الصحّة أو البطلان وليس هو إلا
الأُصول العقلية والشرعية كما أنّ البحث ليس مركزاً على الزيادة السهوية بل يعمّ
العمدية منها ذلك لأنّها تفارق النقيصة ، حيث إنّ العمدية من النقيصة مبطلة قطعاً
، لأنّ البطلان من لوازم الجزئية عند ترك الجزء عمداً وليست كذلك الزيادة العمدية.
إذا عرفت ذلك : فاعلم أنّه لا شكّ في
بطلان العمل بالزيادة في القسمين التاليين :
١. إذا أخذ الجزء لا بشرط واعتبر عدم
الزيادة قيداً للمركب لا للجزء.
٢. إذا أخذ الجزء بشرط لا.
لأنّ الزيادة توجب عدم مطابقة المأتي به
للمأمور به فلا كلام في بطلان المركّب في هذين القسمين وخروجهما عن محطّ البحث.
إنّما الكلام في القسم الثالث ، هو انّه
لم تُحْرز كيفية اعتبار الجزء ودار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم
الثالث وهو أخذ الجزء لا بشرط في جانب الزيادة على نحو لو أتى بها يكون من مصاديق
المأمور به لا أمراً زائداً عليه.
__________________
فمرجع الشكّ عندئذ إلى أخذ العدم قيداً
للمركب أو لجزئية الجزء ، أو أخذ الزائد مانعاً أو قاطعاً والأصل في الجميع هو
العدم.
فإن
قلت : إذا دار الأمر بين أخذ الجزء « لا
بشرط » وأخذه « بشرط لا » ، فقد دار الواجب بين المتبائنين ، لأنّهما قسمان من
أقسام اللا بشرط المقسمي والحكم فيهما هو الاحتياط ، أي ترك الزيادة ، والإعادة
معها.
قلت
: الميزان في كون المورد مجرى للبراءة أو لا ، كون أحد الطرفين أقلّ مؤنة من الطرف
الآخر ، ووجود السعة فيه دون الآخر ، والحكم في المقام كذلك ، لأنّ في أخذ العدم
قيداً للمركب أو لجزئية الجزء ضيقاً ليس في جانب الآخر أي أخذ الجزء لا بشرط. نظير
ذلك ، دوران الأمر بين كون الخصال ترتيبيّاً أو تخييراً إذ لا شكّ انّ في الثاني
سعة دون الأوّل وعلى
ذلك يصحّ العمل مع الزيادة العمدية أو السهوية لعدم الدليل على أنّ عدمها مأخوذ في
الصلاة في جانب الجزء أو المركب.
لكن الحكم بالصحّة فيما إذا كان قاصداً
للامتثال مطلقاً سواء كان الزائد دخيلاً أو لا ، كما إذا كان قاصداً لامتثال الأمر
الفعلي المتوجه إليه لكنّه يتصوّر انّ الواجب هو المشتمل على الزائد ، فيأتي به ،
فيكون المقام من قبيل الخطأ في التطبيق.
أمّا لو لم يكن قاصداً إلافي صورة خاصة
وهي ما إذا كان الزائد دخيلاً في العبادة على نحو لو لم يكن جزءاً للواجب لما قصد
الامتثال ، فهو محكوم بالبطلان لعدم قصد امتثال الأمر الواقعي وإن كان ذلك نادر
الوجود.
وربما يتمسك ـ مكان البراءة ـ
بالاستصحاب لإثبات الصحّة قد قُرر بوجوه مختلفة نذكر ما هو الصحيح عندنا.
__________________
الأوّل : استصحاب الهيئة
الاتصالية
اعلم أنّ الموجود ينقسم إلى : قار الذات
، وغير قارها. والمراد من الأوّل ما يتحقّق عامة أجزائه في زمان واحد ، كالأنواع
الجوهرية ، والمراد من الثاني خلافه ، أي لا تجتمع أجزاؤه دفعة واحدة في زمان واحد
على الرغم من كونه موجوداً وجدانيّاً لا كثرة فيه ، وذلك لأنّ لوجوده سيلاناً عبر
الزمان ، فكما أنّ الزمان موجود غير قار الذات فهو أيضاً يسايره وذلك كنفس الحركة
وسيلان الماء إلى غير ذلك من الموجودات المتدرّجة الذات.
والصلاة من المقولة الثانية فرغم انّ
لها وجوداً وحدانياً لكنّها توجد متدرجة بأوّل جزئها ، أعني : التكبيرة ، وتنتهي
بآخر جزء منها بلا تخلّل عدم بينهما ، غير انّ الاتصال في الصلاة اعتباري وفي
غيرها كسيلان الماء والحركة حقيقي.
ثمّ إنّ الصلاة عبارة عن الأقوال
والأفعال وأمّا السكنات المتخلّلة فخارجة عنها ، غير انّ الهيئة الاتصالية لهذا
الموجود الاعتباري تجعل السكنات داخلة فيها ، فليس المصلي حال كونه ساكناً غير
قارئ ولا فاعل ، خارجاً عن الصلاة بل هو فيها ، فكأنّ الهيئة الاتصالية كخيط يضم
شتات الأجزاء ويوصل بعضها ببعض فالآتي بالمركب داخل فيه من أوّله إلى آخره حتى في
السكونات المتخلّلة.
والذي يدل على أنّ الشارع اعتبر الهيئة
الاتصالية فيها هو انّه يعبر عن كثير من المفسدات بالقواطع إذ لولاها لما كان لاستعماله وجه.
مضافاً إلى ذلك انّ ارتكاز المتشرعة يدل
على تلك الهيئة.
__________________
إذا عرفت ذلك ، فلو أتى المصلّي بشيء
يشك في قاطعيته كالتجشّؤ فيستصحب بقاء الهيئة الاتصالية وهذا يكفي في صحّة الصلاة.
الثاني : استصحاب عدم وقوع
القاطع والمانع في الصلاة
توضيحه
: أنّ مشكوك المانعية والقاطعية ، إمّا أن يكون مقروناً مع الصلاة من افتتاحها ،
ففي مثله ، لا يجري ذاك الاستصحاب لعدم حالة سابقة مقطوعة ؛ وأمّا إذا لم يكن كذلك
وكانت الصلاة في افتتاحها مجردة عنه ففي مثله يجري الاستصحاب المذكور ، كما إذا
حمل اللباس المشكوك في أثنائها ، أو أتى بجزء زائد فشك في وقوع القاطع وعروض
المانع على الصلاة وعدمهما ، فيقال لم تكن الصلاة في مفتتحها مشتملة عليه والأصل
بقاؤها على ما هي عليها ، وتكون النتيجة كون الصلاة بلا مانع والهيئة الاتصالية
بلا قاطع. ولو كان التقرير الأوّل مختصاً بالشكّ في عروض القاطع ، لكن هذا التقرير
يعمّ الشكّ في حدوث المانع.
ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ 1 أورد على هذا الاستصحاب بأنّه مثبت ،
وحاصل ما أفاد : إنّ الأثر ربما يترتب على كون الشيء موصوفاً بعنوان كما إذا قال :
صلّ خلف الرجل العادل ، وأُخرى على الموضوع المقيد بالشيء كما إذا نذر التصدّق إذا
قامت البيّنة على عدالة زيد ، ولكلّ أثر خاص ، فلو أراد أن يأتم بزيد فشك في كونه
عادلاً وقت الائتمام أو لا ، فله أن يستصحب الموضوع الموصوف ويقول : كان زيد
عادلاً والأصل كونه كذلك ، ولا يصحّ له استصحاب القيد بأن يقول : عدالة زيد كانت
ثابتة والأصل بقاؤها ، وذلك لأنّ استصحاب القيد لا يثبت كون زيد عادلاً إلا على
القول بالملازمة العقلية بين بقاء عدالته وكونه عادلاً.
وعلى ذلك فجريان الاستصحاب في نفس القيد
، أي القول بعدم تحقّق القاطع لا يثبت كون الصلاة غير مقرونة بالمانع والقاطع.
يلاحظ
عليه : أنّ عدّ مثل هذا من المثبتات يوجب
إدخال كثير من الاستصحابات في الأصل المثبت ، مثلاً ، استصحاب بقاء الوقت لا يثبت
كون
الصلاة واقعة في
الوقت وأداءً ، أو استصحاب الطهارة لا يثبت كون المصلي متطهراً مع أنّ الإمام
اكتفى به وقال : لأنّه كان على يقين من طهارته ولم يقل انّه كان متطهراً.
والحاصل انّ استصحاب الوصف المرتبط
بالموصوف نفس كون الموضوع موصوفاً به عرفاً.
وإن شئت قلت : إنّ الواسطة ضعيفة.
عدم الحاجة إلى الاستصحاب
ما ذكرنا من الصورتين هو الصحيح من
التمسّك بالاستصحاب في المقام ، ومع ذلك لا حاجة إليه في إثبات صحّة الصلاة ، وذلك
لأنّ البراءة تكفي من دون حاجة إلى الاستصحاب ، والبراءة متقدمة عليه إذا كان
الأصلان متوافقي المضمون ، وذلك لأنّ صرف الشكّ في كون الشيء قاطعاً كاف في الحكم
بعدم كونه قاطعاً ، وعندئذ يستغنى عن الاستصحاب الذي هو مركّب من شيئين صرف الشكّ
ولحاظ الحالة السابقة ، ومن المعلوم تقدّم البسيط على المركّب.
فإن
قلت : قد تكرّر منّا انّ الاستصحاب مقدّم
على أصل البراءة لكونه أصلاً محرزاً ، فكيف تقدّم البراءة عليه في هذا المقام؟
قلت
: هذا إذا كانا متخالفي المضمون وكان الاستصحاب على خلاف مضمون البراءة دون المقام
الذي كلا الأصلين يتّحدان في النتيجة.
الخامس : حكم الزيادة حسب
القواعد الثانوية
هذا كلّه حول القواعد الأوّلية ، وإليك
الكلام في القواعد الثانوية ، فقد ورد حول الزيادة روايات بين كونها عامة أو خاصة
والذي يهمنا هو القسم الأوّل.
الأوّل : قاعدة من زاد في
صلاته
١. ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة
وبكير بن أعين ، عن أبي جعفر 7
قال : « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته
استقبالاً ، إذا كان استيقن يقيناً ».
٢. ما رواه الشيخ بسنده إلى علي بن
مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الثقة ، عن أبان بن عثمان ( الذي هو ممّن أجمعت العصابة
على تصحيح ما يصحّ عنه ) عن أبي بصير قال : قال أبو عبد اللّه 7 : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة ».
٣. ما رواه الشيخ عن زرارة ، عن أبي
جعفر 7 قال : « لا
تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود ، ثمّ
قال : القراءة سنّة ، والتشهد سنّة فلا تنقض السنّة الفريضة ».
وسند الشيخ إلى زرارة في التهذيبين غير
صحيح ، لكن رواه الكليني بسند صحيح رواه شيخنا الحرّ العاملي في أبواب القبلة
باللفظ التالي : عن زرارة ، سألت أبا جعفر 7
في الفرض في الصلاة ، فقال : « الوقت ، والطهور ، والقبلة ، والتوجه ، والركوع
والسجود ، والدعاء » قلت : ما سوى ذلك؟ فقال : سنة في فريضة.
ثمّ إنّ البحث فيما أوردنا من الروايات
يتم في ضمن أُمور :
١. شمول الرواية الأُولى
لمطلق الزيادة
لا شكّ انّ الرواية تصدق على الموردين :
١. إذا أتى بغير المسانخ بنية الجزئية
كالتأمين ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى.
__________________
٢. إذا كان الزائد على وجه بحيث يطلق
عليه الصلاة ، كالركعة.
إنّما الكلام في صدقه على أجزاء الصلاة
وإن لم تصدق انّه صلاة بالحمل الشائع ، كالسورة والتشهد ، نظير ما إذا أمر المولى
بصنع معجون مركب من أجزاء معينة كماً وكيفاً فخالف العبد أمر المولى في كمية بعض
الأجزاء فزاد في المعجون ، وعلى ذلك يكون معنى قوله : « من زاد في صلاته شيئاً
فعليه الإعادة ».
لكن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري خصّ
مفاد الحديث بما إذا كان الزائد مصداقاً للصلاة كالركعة والركعتين ، فاستدل على
ذلك بما هذا حاصله :
إنّ الظاهر أنّ متعلّق الزيادة في
المقام من قبيل الزيادة في العمر في قولك : زاد اللّه عمرك ، فيكون القدر الذي
جعلت الصلاة ظرفاً له ، هو الصلاة ، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقداراً
يطلق عليه الصلاة مستقلاً كالركعة والركعتين ، مضافاً إلى أنّه القدر المتيقن في
بطلان الصلاة بالزيادة أضف إليه أنّ رواية زرارة وبكير تشمل على لفظ الركعة.
يلاحظ
عليه : أنّ العمر أمر بسيط لا تتصور فيه
الزيادة إلا من جنسه ، فلو زيد عليه يكون الزائد شيئاً يصدق عليه أنّه عمر ، وهذا
بخلاف الصلاة المركبة من أُمور شتى مختلفة وجوداً وماهية فيكفي في صدقها كون
الزائد مسانخاً لجزء من أجزائها أو غير مسانخ لكنّه أتى به بنيّة كونه جزءاً لها ،
وأمّا حديث زرارة فسيوافيك الكلام فيه.
الثاني : في قاعدة لا تعاد
القاعدة
الثانية : هي قاعدة لا تعاد الصلاة إلا من خمسة
كما عرفت.
ويقع الكلام فيها من جهات :
__________________
الجهة الأُولى : في سند
القاعدة
روى الصدوق في الفقيه ، والشيخ
باسنادهما عن زرارة ، عن أبي جعفر 7
أنّه قال :
« لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور
، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » ، ثمّ قال : « القراءة سنّة ، والتشهد
سنّة ، فلا تنقض السنّة الفريضة ».
وسند الصدوق في مشيخة الفقيه إلى زرارة
صحيح ، بخلاف سند الشيخ في مشيخة التهذيب إليه فليس بصحيح ، وهذا المقدار يكفي في
الاعتماد عليها ، مضافاً إلى اشتهارها بين الأصحاب ، وإلى رواية الصدوق لها في
الخصال بالسند التالي الذي هو في غاية الصحة ، قال : حدثنا أبي ( رض ) قال : حدثنا
سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن
عيسى ، عن حريز ، عن زرارة عن أبي عبد اللّه 7
والسند صحيح ورواته ثقات عدول.
الجهة الثانية : في سعة
موضوعها وضيقه
ينقسم المكلف حسب الحالات إلى « عامد »
و « شاك » و « جاهل مركب » و « ناس » فهل القاعدة تشمل الجميع أو لا؟ فلنتناول
الأقسام الأربعة بالدراسة.
أمّا
العامد : فلا ريب في خروجه عن حريم القاعدة ،
إذ معنى شمولها له جعل الترخيص للعامد أن يتلاعب بالصلاة بالزيادة والنقيصة في غير
الخمسة ، وهذا باطل بالضرورة ، وقد مرّ أنّ مفاد الجزئية هو البطلان بترك الجزء
عامداً.
وأمّا
الشاك ، الذي يعبّر عنه بالجاهل الملتفت
: فتارة يشك في جزئية شيء أو مانعية الزيادة وقاطعيته قبل الشروع في الصلاة ،
وأُخرى بعدها. أمّا الأوّل : فالرواية
__________________
منصرفة عنه ، لأنّ
موضوعها من دخل في العبادة عن يقين وقطع بالصحة ثمّ عرض له الشك بعد الفراغ عن
العمل من جهة احتمال الإخلال بالصلاة من جانب النقيصة والزيادة ، فيقال له أعد ،
أو لا تعيد ، فلا يصدق على الشاك قبل الإتيان بالعمل.
وأمّا الشاك بعد الصلاة ، فوظيفته
التعلّم ورفع الشكّ ، وإلا فيرجع إلى القواعد المقررة للشاك لا التحفظ بالشك
مطلقاً والعمل بالقاعدة.
والحاصل أنّ الشاك ـ أعني : الجاهل
الملتفت ـ خارج عن مصب الرواية ، أمّا قبل الدخول في العمل فلاختصاص القاعدة بنحو
لا يمكن معه تدارك المتروك ، كمن نسي القراءة ولم يذكر حتى ركع ، فلا تكون القاعدة
مستندة لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ ، بل هي مستندة لمن دخل في الصلاة وقصد
امتثال الأمر الواقعي ثمّ تبين الخلل في شيء من الأجزاء أو الشرائط.
وأمّا بعد الدخول فلا تهدف القاعدة إلى
تثبيت الجاهل على جهله والاكتفاء بالقاعدة ، بل وظيفته التعلّم ورفع الجهل وإلا
فالرجوع إلى الأُصول العملية.
فعلى كلّ تقدير فالجاهل الملتفت خارج عن
مصب الرواية قبل الدخول أو بعده.
بقي الكلام في الجاهل بالموضوع أو الحكم
، وكذا الناسي.
فالظاهر أنّ القاعدة تشملهما بكلا
قسميهما دون فرق بين تعلّقهما بالموضوع أو بالحكم ، فالأوّل كما لو جهل أنّ ثوبه
نجس ، والثاني كما لو جهل بحكم عدم جواز الصلاة فيها ، ومثله النسيان بكلا قسميه ،
فالظاهر أنّ القاعدة تشمل كلا القسمين سواء كان المتعلّق موضوعاً أو حكماً. غير
أنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري منع عن شمول القاعدة في الجهل بالحكم ونسيانه.
وبنى مختاره على أمرين :
أ : انّ ظاهر قوله : « لا تعاد » هو
الصحّة الواقعية ، وكون الناقص مصداقاً واقعياً لامتثال أمر الصلاة.
ب : انّ القول بشمول القاعدة لما إذا
اعتقد عدم وجوب شيء أو عدم شرطية شيء ، أو كان ناسياً لحكم شيء من الجزئية
والشرطية يستلزم التصويب الممتنع لما ظهر من المقدمة الأُولى أنّ ظاهر الصحيح
الحكم بصحة العمل واقعاً ، ومقتضاه عدم كون المتروك جزءاً أو شرطاً ، ولا يعقل أن
يقيد الجزئية والشرطية بالعلم بهما ، بحيث لو صار عالماً بعدمهما بالجهل المركب
لما كان الجزء جزءاً ولا الشرط شرطاً.
نعم يمكن على نحو التصويب الذي ادّعى
الإجماع على خلافه.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ ظاهر الحديث
هو الاكتفاء بالفرائض عند ترك السنن عن عذر ، لا الصحة الواقعية ، بشهادة قوله في
ذيل الحديث : « ولا تنقض السنّة الفريضة » أي لا يجعل الفريضة كأن لم تكن فيكون
معذوراً في ترك السنن.
ثانياً
: لا يلزم من سعة الحديث للجاهل بالحكم وناسيه ، التصويب الممتنع ولا التصويب الذي
ادّعي الإجماع على خلافه ، وذلك لأنّ التصويب الممتنع عبارة عن خلو الواقعة عن
الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، والذاكر والناسي ، وهو غير لازم إذا قلنا
بعموم عدم الإعادة في الجهل بالحكم ونسيانه ، لأنّ الحكم الإنشائي مشترك بينهما ،
وإنّما يختص الفعلي بالعالم والذاكر ، وعلى ما قلنا من أنّ الحكم الفعلي عبارة عن
إعلان الحكم وإبلاغه وإن لم يصل إلى المكلّف فهما مشتركان في الإنشائي والفعلي ،
وإنّما يفترقان في التنجّز ، فالحكم منجّز في حقّهما
__________________
دون الجاهل والناسي.
فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ القاعدة
تعم الجاهل والناسي بكلا قسميه ، وانّه إذا انكشف الخلاف برفع الجهل وعود الذكر ،
يحكم على الصلاة بالقبول من دون إعادة إلا في الأُمور الخمسة.
الجهة الثالثة : في سعة
دلالتها من حيث المتعلّق
الظاهر انّ الرواية بصدد ضرب القاعدة
لمن وقف بعد الصلاة على خلل في صلاته بعد ما دخل فيها عن مجوز شرعي ، فعلم أنّه
نقص جزءاً أو زاد شيئاً.
فعلى ضوء هذا تكون القاعدة صدرها وذيلها
عامةً لكلا القسمين ، فلا يعاد في غير الخمسة لأجل طروء أيّ خلل عليها سواء كان
الخلل مستنداً إلى الزيادة أو النقيصة ، كما أنّه يعاد في مورد الخمسة لأي خلل
فيها من النقيصة والزيادة.
نعم ربما يخصّص ذيل القاعدة بالنقيصة
وذلك بوجهين.
إنّ المستثنى لا يشمل سوى النقيصة أي
ترك الأركان الخمسة وأمّا زيادتها فليست داخلة في المستثنى.
وجه ذلك : أنّه لو قلنا إنّ زيادة
الركوع مبطلة ، فهذا لأجل أخذ عدمها في جزئية الجزء أو في ضمن المركب ، فلو زاد
ركوعاً أو سجوداً فهو زيادة في الظاهر ، لكن مرجعها إلى النقيصة أي الإخلال بوصف
الركوع والسجود ، أعني ( كونها بشرط لا ). فظهر من هذا البيان أنّ القول ببطلان
الصلاة لأجل زيادة الأركان يرجع في الواقع إلى الإخلال بالنقيصة أي إخلال وصف
الجزء. هذا من جانب ومن جانب آخر انّ الإخلال بالنقيصة منحصر في موارد خمسة ، أعني
ترك نفس الأركان من رأس كترك الطهور وعدم إقامة الصلاة في الوقت ....
فلو قلنا بأنّ زيادة الركوع موجبة
للإعادة ـ وقد عرفت أنّ مرجع الزيادة إلى
النقيصة ـ يكون
الإخلال بالنقيصة غير منحصر بالخمسة بل يتجاوز عنها إلى سادس وهو الإخلال بوصف
الركوع ( بشرط لا ) وسابع وهو الإخلال بوصف السجود ( بشرط لا ) مع أنّ الرواية تنص
على أنّ الإخلال بالنقيصة منحصر في خمسة.
يلاحظ
عليه : أنّ مرجع زيادة الجزء المأخوذ بشرط
لا ، وإن كان إلى النقيصة وفقدان الوصف أي ( بشرط لا ) ، لكنّه خلط بين حكم العرف
والعقل ، والعرف يعدّ الركوع المكرّر زيادة في الجزء لا نقيصة في الوصف وإن كان
الأمر في نظر العقل كذلك.
وعلى ضوء ذلك فلو قلنا بعمومية المستثنى
للزيادة والنقيصة ، يدخل الركوع المكرّر في المستثنى لأجل كونه زيادة لا نقيصة حتى
يتجاوز عدد الموجب للإعادة في النقيصة عن الخمسة ، ونكون عندئذ في غنى من إضافة
أمر سادس في جانب النقيصة.
واستدل المحقّق النائيني باختصاص الذيل
بالنقيصة بأنّ بعض ما جاء فيه مختص بها ولا يتصوّر فيه الزيادة كالوقت والقبلة
والطهور.
يلاحظ عليه : أنّ عدم تحقّق الزيادة في
البعض لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة بعد قابلية الركوع والسجود للزيادة
والنقيصة.
الجهة الرابعة : في نسبة صدر
القاعدة مع الحديث
إنّ صدر القاعدة يتضمّن حكماً سلبياً ،
وذيلها حكماً إيجابياً.
أمّا السلبي ، فهو عبارة عن الحكم بعدم
الإعادة في غير الأركان الخمسة فقوله : « لا تعاد الصلاة » بمنزلة القول : لاتعاد
الصلاة عند ورود الإخلال بغير الأركان بالنقص والزيادة.
وأمّا الإيجابي فهو عبارة عن الاستثناء
عن الحكم السلبي الذي يكون إيجابياً فقوله : « إلا الخمسة » بمنزلة القول : تعاد
الصلاة عند ورود الإخلال بأركانها بالنقص والزيادة.
والغرض في المقام بيان النسبة بين مفاد
الصدر ، وحديث أبي بصير ، أعني قوله : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » لا بين
ذيل القاعدة والحديث.
وبعبارة أُخرى : بيان النسبة بين الحكم
السلبي الوارد في صدر القاعدة ، والحكم الإيجابي في الحديث ، فذكر مفاد الذيل عند
بيان النسبة خروج عن محط البحث ، فنقول : بما انّ المشهور لما فهموا من القاعدة
عمومها للزيادة كشمولها للنقيصة ، صارت النسبة بينهما عندهم عموماً وخصوصاً من وجه
، ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في بيان وجه أخصية القاعدة فذكروا وجهين :
الوجه الأوّل : اختصاص
القاعدة بغير الأركان
ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري 1 إلى أنّ وجه الأخصية هو اختصاص القاعدة
للزيادة غير الركنية قال 1
: فالنسبة بينها وبين ما دلّ على أنّ من تيقن أنّه زاد في صلاته فعليه الإعادة
عموم من وجه ، لافتراق الدليلين في النقيصة ، والزيادة الركنية ، واجتماعهما في
الزيادة غير الركنية.
توضيحه
: أنّا نعبر عن مفاد القاعدة بالصحة ، وعن مفاد الحديث بالبطلان ، فنقول : القاعدة
عامة لأنّها تحكم بصحّة الصلاة في صورتي الزيادة والنقيصة ، وخاصة لأنّها تحكم
بالصحة في صورة الإخلال بغير الأركان.
والحديث عام لأنّه يحكم بالبطلان
بالزيادة في الركن وغيره ، وخاص لأنّه يحكم بالبطلان في صورة الزيادة فقط.
__________________
وبما أنّ مصبّ النسبة بين القاعدة
والحديث ، هو صدر القاعدة أعني : « لا تعاد » الذي عبّرنا عنه بالصحّة لا ذيل
القاعدة ، أعني : « إلا في خمسة » الذي مفاده بطلانها في الإخلال بتلك الأُمور.
ومنها يظهر وجه أخصية القاعدة وهو : انّ
الصحّة فيها مختصة بغير الأركان ، نعم هي عامة من جهة شمولها للإخلال بالنقيصة
والزيادة.
وبذلك يظهر التسامح في تقرير وجه
الأخصية في كلام المحقّق الخوئي حيث جعل وجهها اختصاص الحكم بالبطلان بالأركان
وقال : إنّ حديث « لا تعاد » وإن كان خاصاً من جهة انّ الحكم بالبطلان فيه مختص
بالأركان إلا أنّه عام من حيث الزيادة والنقصان.
وأنت خبير انّ مصب لحاظ النسبة هو
الحكمان المختلفان ، أعني : « لا تعاد » في القاعدة و « عليه الإعادة » في الحديث
، ومخالفة الثاني للأوّل إنّما هو في المستثنى منه ، أعني : غير الأركان ، حيث
تحكم القاعدة بالصحة والثاني بالفساد ، لا في المستثنى ، أعني : الأركان ، فإنّهما
متوافقان في الحكم بالفساد والبطلان فيها والصحيح في وجه الأخصية ما قرّرناه من
اختصاص الصحّة بغير الأركان.
الوجه الثاني : اختصاص
القاعدة بصورة السهو
يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري انّ وجه
الأخصية اختصاص القاعدة ، بصورة السهو
وعمومية الحديث للعمد والسهو ، قال : « مقتضى لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » هو عدم
قدح النقص سهواً والزيادة سهواً ، ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة ، قدح
الزيادة عمداً وسهواً وبينهما تعارض العموم من وجه في
__________________
الزيادة السهوية [
غير الركنية ] بناء على اختصاص لا تعاد بالسهو.
وحاصله : انّ القاعدة أخصّ لاختصاصها
بالسهو ، وأعم لعمومها للزيادة والنقيصة ، والحديث أخص لاختصاصه بالزيادة وأعمّ
لعمومه العمد والسهو ، فيقع التعارض في الزيادة السهوية غير الركنية ، فلا تعاد على
القاعدة ، وتعاد على الحديث.
وجه تقديم القاعدة على
الحديث
ثمّ إنّ الظاهر هو اتّفاقهم على تقديم
القاعدة على الحديث ، وذكر الشيخ انّ وجه التقديم هو حكومة القاعدة على الحديث قال
: « والظاهر حكومة قوله : « لا تعاد » على أخبار الزيادة ، لأنّها كأدلّة سائر ما
يُخلُّ فعله وتركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ، وقوله : « لا تعاد »
يفيد انّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به ، إذا وقع سهواً لا يوجب
الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها ».
ثمّ إنّ المحقّق النائيني وتلميذه
الجليل تبعا الشيخ في وجه التقديم.
قال المحقّق الخوئي في توضيحه : إنّ
حديث « لا تعاد » حاكم على أدلّة الزيادة بل على جميع أدلّة الأجزاء والشرائط
والموانع كلّها ، لكونه ناظراً إليها وشارحاً لها ، إذ ليس مفاده انحصار الجزئية
والشرطية في هذه الخمسة ، بل مفاده انّ الاخلال سهواً بالأجزاء والشرائط التي ثبت
جزئيتها أو شرطيتها لا يوجب البطلان إلا الإخلال بهذه فلسانه لسان الشرح والحكومة فيقدّم على
أدلّة
__________________
الأجزاء والشرائط
بلا لحاظ النسبة بينه وبينها.
أقول
: إنّ ما ذكره من حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء والشرائط أمر لا غبار عليه
إنّما الكلام في حكومتها على قوله : « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » وذلك لأنّه
ليس في عداد أدلّة الأجزاء والشرائط بل هو والقاعدة على مستوى واحد ناظران إلى
أدلّتهما. وليس مفاد الحديث « الزيادة مبطلة » حتى يكون في عدادهما وتكون القاعدة
حاكمة عليه ، بل الكلّ شارح لأحوال الأجزاء والشرائط في الإبطال وعدمه.
والحاصل أنّ في مورد الاجتماع دليلين :
أحدهما
: مع الزيادة السهوية غير الركنية لا تعاد الصلاة.
ثانيهما
: مع الزيادة السهوية غير الركنية تعاد الصلاة.
فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.
ومع ذلك فالقاعدة مقدمة على الحديث
بوجوه :
الأوّل
: قوّة الدلالة ، لاعتمادها على العدد ، وهذا كاشف عن كون المتكلّم بصدد بيان ما
هو الموضوع للإعادة وعدمها لوجه دقيق غني عن التخصيص والتقييد.
الثاني
: وجود التعليل في القاعدة دون الحديث حيث تعلّل عدمها بأنّ السنّة لا تنقض
الفريضة ، ومقتضاه عدم لزوم الإعادة فيما إذا زاد شيئاً مع عدم الإخلال بالأركان.
الثالث
: لسان الامتنان في القاعدة دون الحديث الموجب ، لتقديم ما هو ظاهر في المرونة
والسهولة على غيره.
فإن
قلت : لو كان الحاكم في مورد الاجتماع هو
القاعدة ، يلزم تخصيص مورد
الحديث بالأركان مع
أنّ طروء الخلل فيها قليل ، لأنّ الوقت والقبلة لا تتصوّر فيها الزيادة ، والزيادة
في الطهور بمعنى الطهارة النفسانية لا تقبل الزيادة وبمعنى تجديد أسبابها غير مخل
قطعاً ، فتأسيس قاعدتين لموردين غريب جداً.
قلت
: إنّ مورد الحديث أوسع من ذلك ، لأنّه يعم الزيادة العمدية والسهوية ركناً كان أو
غير ركن.
فإن
قلت : إنّ الزيادة العمدية قليلة جداً ، إذ
من البعيد أن يقوم المصلّي المريد لإفراغ ذمّته بالزيادة العمدية ، منه فينحصر
مصداقه في زيادة الركنين السهوية ، وهي أيضاً قليلة ، فيلزم تخصيص الأكثر وتأسيس
قاعدة كلية لأجل زيادة الركوع والسجود.
قلت
: هنا طريقان للتخلّص من هذا المأزق :
أحدهما
: القول بعدم شمول القاعدة لصورة الزيادة مطلقاً واختصاصها بصورة النقيصة.
ثانيهما
: اختصاص الحديث بزيادة الركن والأركان.
أمّا الأوّل فهو مخالف لفهم الأصحاب
أولا ، لأنّهم تلقّوها ضابطة لمعالجة أي خلل طرأ على الصلاة من غير فرق بين
النقيصة والزيادة ، فلا محيص ، عن اختيار الثاني وانّ المراد من قوله : « من زاد »
هو زيادة الركن أو الركعة كما لا يخفى.
الجهة الخامسة : في بيان
نسبة القاعدة مع حديث زرارة
روى الكليني في « باب من سها في الأربع
والخمس ولم يدر زاد أو نقص » عن زرارة ، عن أبي جعفر أنّه قال : « إذا استيقن أنّه
قد زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن
يقيناً ».
__________________
وروى أيضاً في باب « السهو عن الركوع »
بإضافة قوله : « ركعة » بعد قوله : « المكتوبة » وعنوان الباب حاك عن وجود لفظ « ركعة »
، وانّه فهم من قوله : « ركعة » ، الركوع. بخلاف الباب السابق فلم يرد فيه لفظ «
ركعة ».
وأخرجه صاحب الوسائل عن الكليني في
موضعين ، مع الزيادة ولم يشر إلى عدم لفظة « ركعة » : في موضع من الكافي ، ولعلّ
نسخته في كلا البابين كانت مشتملة عليها ، أو أنّه رجع إلى باب « السهو عن الركوع
» دون الآخر.
وأمّا الشيخ فقد أخرجه في التهذيب في
باب « أحكام السهو في الصلاة » عن الكليني بلا هذه الزيادة.
وأمّا المجلسي فقد تبع الكليني في كلّ
مورد فنقله في باب « من سها في الأربع والخمس » بلا زيادة ، وفي باب السهو عن
الركوع معها.
هذا حال المتن ، وأمّا وجه الجمع بين
القاعدة والحديث فملخّص الكلام : انّه لو قلنا بوجود لفظ : « الركعة » في الحديث
كما هو الموافق للقاعدة ، لأنّ الأمر إذا دار بين النقص السهوي والزيادة السهوية
فالأوّل هو المتعيّن ، لأنّه أمر عادي دون الزيادة وعندئذ تصبح النسبة بينهما هو
العموم والخصوص المطلق ويكون الإخلال بالركعة ملازماً للإخلال بالركوع الوارد في
المستثنى.
وأمّا لو قلنا بعدم ثبوت الزيادة فيكون
حالها حال حديث أبي بصير في النقض والإبرام والنتيجة فلا نطيل الكلام.
__________________
التنبيه الثالث : في
الاضطرار إلى ترك الجزء والشرط
لو تعذر أحد قيود المأمور به ، ففي سقوط
التكليف عن المركب قولان مبنيّان على ثبوت التقييد مطلقاً فيسقط التكليف عن الباقي
، أو في حال التمكّن فيبقى الأمر على المركب.
وأمّا صور المسألة فهي أربع كالجزء
المنسي ، غير أنّ الشكّ هناك يتعلّق بوجوب الإعادة بعد الذكر وعدمه ، وفي المقام
بلزوم الإتيان بالباقي عند تعذّر بعض القيود وأمّا الصور فهي :
١. ما يكون لكلّ من دليل المركب والجزء
إطلاق.
٢. ما يكون لدليل الجزء إطلاق دون دليل
المركب.
٣. ما يكون على العكس ، بأن يكون لدليل
المركّب إطلاق دون دليل الجزء.
٤. ما لا يكون لواحد منهما إطلاق.
ومعنى الإطلاق في المقام هو المطلوبية في
حالتي التعذر وعدمه ، وتكون نتيجة الإطلاق في جانب الجزء هو سقوط الأمر بالمركب ،
وفي جانب المركّب ، هو لزوم الإتيان بالباقي عند التعذر.
والمناسب للمقام هو الصورة الرابعة ،
أعني ما إذا لم يكن في المقام إطلاق من الجانبين حتى يكون البحث ممحّضاً للأُصول
العملية ، وأمّا إذا كان في البين إطلاق فهو خارج عن محطِّ البحث لوجود الدليل
الاجتهادي الذي لا تصل معه النوبة إلى الأصل ، ولأجل ذلك نبحث في المقامين.
١. مقتضى الدليل الاجتهادي
الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي في
المقام هو نفس الكلام في الجزء
المنسي ، غير أنّ
الشكّ في الثاني بعد العمل ، وفي المقام قبله كما تقدم ، وقد عرفت أنّه لو كان
لكلا الدليلين إطلاق ، أو كان لدليل الجزء إطلاق ، يحكم بتقديم إطلاق الجزء ، إمّا
لأخصيته كما في الصورة الأُولى ، أو لعدم الإطلاق في دليل المركب كما في الصورة
الثانية ، فيحكم بسقوط وجوب المركّب أخذاً بإطلاق الجزء الذي هو بمعنى عدم رفع
اليد عنه في تلك الحالة.
ومع ذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق دليل
الجزء بحديث الرفع ، لما عرفت من أنّ تعلّق الرفع بما لا يعلمون تعلّق ظاهري ،
وبما اضطروا واستكرهوا ، تعلّق واقعي ، فيكفي في رفع وجوب الجزء ، تعلّق الاضطرار
بتركه.
نعم إنّما يثبت وجوب الباقي ، إذا كان
لدليل المركّب إطلاق دون الصورة الثانية. بل يكون حكمها حكم الصورة الرابعة كما
ستوافيك.
وأمّا الصورة الثالثة ، أعني : ما إذا
كان لدليل المركب إطلاق دون دليل الجزء ، فيحكم بوجوب الباقي ، وقد مرّت الأمثلة
عند البحث في حكم الجزء المنسي.
إلى هنا تمّ بيان حكم الدليل الاجتهادي.
٢. مقتضى الأُصول العملية
إذا لم يكن لواحد من الدليلين إطلاق ،
تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية أوّلاً ،
ثمّ في مقتضى الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص المورد ثانياً.
لا شكّ انّوجوب الجزء المضطر إليه سقط
بالاضطرار ، وإنّما الكلام في تعلّق الوجوب بالباقي والأصل البراءة ، وصدق العنوان
على الباقي لا يلازم تعلّق الأمر به بعد كون المقيد مغائراً للمجرّد عنه ، هذا من
غير فرق بين طروء التعذّر
قبل تعلّق الوجوب
كما إذا بلغ غير عارف بالقراءة ، أو بعده ، كما إذا عجز عن القراءة بعد دخول
الوقت.
نعم لو كان لدليل المركب إطلاق ، لما
كان للبراءة مجال.
لا يقال : إنّ مقتضى حديث الرفع عدم
الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكّن منه ، وعندئذ يبقى الحكم على الأجزاء الباقية.
لأنّا نقول : الحكم بعدم وجوب الباقي
ليس مستنداً إلى حديث الرفع حتى يقال : إنّ مقتضاه عدم الجزئية والشرطية إلا في
حال التمكّن ، بل إلى فقد المقتضي ، وهو عدم وجود الإطلاق في دليل المركب.
وبذلك تقف على أنّه لاحاجة للجواب عن
الإشكال المزبور بما في الكفاية من أنّ حديث الرفع ورد في مقام الامتنان فيختص بما
يوجب نفي التكليف لا إثباته وذلك
لأنّ عدم الوجوب مستند إلى فقد الدليل على الوجوب ، لا إلى حديث الرفع حتى يقال :
بأنّه رافع للتكليف لا مثبت ، فلاحظ.
ثمّ إنّه ربما يستظهر وجوب الباقي
بالاستصحاب الحاكم على أصل البراءة ويقرّر بوجوه :
١. استصحاب الوجوب الجامع
بين الضمني والاستقلالي
لا شكّ انّ هنا وجوبين : أحدهما :
الوجوب الاستقلالي بالكل وقد ارتفع ، والآخر : الوجوب الضمني لكلّ جزء وهو أيضاً
قد ارتفع بارتفاع الأوّل ، ومع ذلك كلّه فنحن نحتمل أن يتعلّق وجوب استقلالي ثان
بالأجزاء الباقية ، فنفس هذا الاحتمال يكفي في احتمال بقاء الوجوب الجامع بين
الوجوبين : الاستقلالي والضمني ، فإنّهما وإن ارتفعا قطعاً ، لكن الجامع بينهما
محتمل البقاء ، لاحتمال
__________________
حدوث وجوب استقلالي
ثان متعلّق بالأجزاء الباقية فيُستصحب.
يلاحظ
عليه أوّلاً : أنّ خطاب لا تنقض
متوجه إلى العرف العام الدقيق ولا يشمل إلا الأفراد التي يلتفت إليها ذلك المخاطب
بما انّه عرف عام ، ومن المعلوم أنّ هذا الفرد من المستصحب فرد عقلي لا يتوجه إليه
إلا الأوحدي ، فشمول أدلّة الاستصحاب لهذا النوع من المصداق مورد تأمّل.
وثانياً
: أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والجامع
بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً وإنّما هو حكم منتزع عن الحكمين ، والمنتزع فعل
العقل وليس مجعولاً للشرع.
٢. استصحاب الوجوب
الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة
بيانه أن يقال قبل تعذر الأجزاء كان
هناك وجوب استقلالي ونشك في بقائه فيستصحب البقاء.
يلاحظ
عليه : أنّ المطلوب هو وجوب الأجزاء الباقية
لا بقاء أصل الوجوب واستصحاب الأخير لإثبات وجوب الأجزاء الباقية ، من الأُصول
المثبتة ، وذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ الوجوب الباقي عرض ، والعرض لا يقوم إلا
بالموضوع ، وليس هو إلا الأجزاء الباقية ، فهو الموضوع للوجوب.
٣. استصحاب الوجوب
الاستقلالي بنحو مفادكان الناقصة
بيانه : انّ الأجزاء الباقية كانت واجبة
بالوجوب النفسي غاية الأمر مقيّداً بالجزء المتعذر ، فإذا كان الجزء المتعذر
مقوّماً للموضوع ، وموجباً لانعدامه فلا يجري الاستصحاب ، وأمّا إذا كان معدوداً
من حالات الموضوع وعوارضه عند العرف ، فيجري الاستصحاب بحكم بقاء الموضوع عرفاً.
وبعبارة أُخرى : نشك في أنّ هذا الجزء
المتعذّر لو كان دخيلاً في الحكم حدوثاً وبقاءً لا يجري الاستصحاب ولو كان دخيلاً
حدوثاً لا بقاءً يجري الاستصحاب ، ونفس هذا الشكّ مصحّح لجريان الاستصحاب بعد بقاء
الموضوع ونسبة الواجد للجزء المتعذر ، بالنسبة إلى الفاقد له كنسبة موضوع طرأ عليه
التغيير في بعض أحواله.
يلاحظ
عليه : أنّ الوجوب السابق كان على عشرة
أجزاء ، والمقصود الآن إبقاء ذلك الوجوب على التسعة ، ومن المعلوم انّ إسراء حكم
من عنوان إلى عنوان آخر هو نفس القياس المنكر في مذهبنا ، وأيّ عرف يتسامح ويقول
إنّ العشرة هو نفس التسعة.
وإن
شئت قلت : إنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة ،
فكلّ عنوان في عالم المفاهيم يضاد العنوان الآخر ، وعلى ذلك لو ثبت الحكم على
عنوان لا يمكن إسراؤه إلى عنوان آخر ، وذلك لأنّه نفس القول بالقياس.
فإذن الحكم المتعلّق بالعشرة كيف يستصحب
ويتعلّق بالتسعة؟!
فإن
قلت : على هذا ينسد باب جريان الاستصحاب في
الأحكام الشرعية الكلية ويختص بالموضوعات الخارجية ، مثلاً الماء المتغيّـر إذا
زال تغيّـره بنفسه يحكم عليه ببقاء النجاسة مع أنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع (
الماء المتغير ) إلى موضوع آخر ( الماء الذي زال تغيره ).
ومثله استصحاب الحرمة لعصير الزبيب ،
فإنّ الحكم ثبت على العصير العنبي إذا غلى ، فإسراء ذلك الحكم إلى العصير الزبيبي
عند الغليان أشبه بالقياس ، فلو ثبت ما ذكرنا من الإشكال لانسدَّ باب الاستصحاب في
الأحكام الكلية.
قلت
: ليس الهدف من الاستصحاب في المثالين المذكورين إسراء حكم من عنوان ( الماء
المتغيّر ) إلى عنوان آخر ( الماء غير المتغيّر ) حتى يكون من باب القياس ، كما
أنّه ليس الهدف إسراء حكم الحرمة من العصير العنبي إلى العصير الزبيبي ، فانّ ذلك
أشبه بالقياس ولا نقول به.
بل الهدف تسرية الحكم بعد انطباقه على
الخارج من موضوع واجد لبعض الخصوصيات إلى موضوع فاقد لها ، بشرط أن تكون الخصوصية
عند العرف بالنسبة إلى الموضوع الخارجي معدودة من الحالات لا من المقوّمات ، وذلك
بالبيان التالي :
إنّ الحكم الشرعي ، أعني : الماء
المتغير نجس ، غير قابل للاستصحاب إلى موضوع آخر ، أعني : الماء إذا زال تغيره ،
لأنّ الموضوعين متغايران والمفاهيم مثار الكثرة ، ولكن بعدما انطبق الدليل الكلي
على ماء خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو المصداق الخارجي وهو هذا الماء لا
العنوان الكلي ، وعندئذ يتخذ الفقيه المصداق الخارجي موضوعاً للحكم ، فلو كان
التبدّل معدوداً من عوارض الموضوع وحالاته يشير إلى ذلك الموضوع ( لا إلى العنوان
الكلي ) ويقول : كان هذا محكوماً بالنجاسة والأصل بقاؤه.
وبذلك يظهر صحّة الاستصحاب في العصير
العنبي ، فليس الهدف إسراء حكم العنب إلى الزبيب ، فإنّه قياس واضح.
نعم لمّا انطبق الدليل الأوّل على مصداق
خارجي وعنب معين ، يتخذه الفقيه موضوعاً ويشير إليه بهذا ويقول : كان هذا في بعض
الحالات ( عندما كان رطباً ) إذا غلى يحرم ، والأصل بقاء حكمه عند ارتفاع تلك
الحالات ، والمستشكل خلط بين الأمرين إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر ، وبين
إسراء حكم موضوع خارجي انطبق عليه الدليل في بعض الحالات ، إلى الحالة التي فقدها
ولم تكن الحالة من مقوّماته فالأوّل قياس والثاني ليس من قبيله بل يعد استصحاباً.
وبما أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم
الكلّي المتعلّق بعنوان العشرة فلا يمكن تسريته إلى عنوان التسعة.
الرابع : استصحاب الحكم
المتعلّق بالعنوان
هناك بيان آخر يختلف مع ما مرّ ، وذلك
لأنّ التقرير السابق كان مبنياً على تعلّق الحكم بالأجزاء مباشرة ، وعندئذ يتوجّه
إشكال مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقّنة. وانّ العشرة ، تغاير التسعة ، وأمّا
لو قلنا ـ كما مرّ في المركب المنسي بعض أجزائه ـ بأنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الذي
هو وجود إجمالي للأجزاء ، وهي وجود تفصيلي له ، وله مع وحدة مفهومه عرض عريض ،
يصدق على الواجد والفاقد ، بقرينة صدقه على صلاة الحاضر والمسافر ، والقادر
والعاجز ، فإذا تعذّر بعض الأجزاء وشككنا في كيفية دخله في الموضوع ، فهل هو مطلوب
مطلقاً ، أو عند التمكن يصحّ لنا ، استصحاب الوجوب المتعلّق به إلى أن يعلم
ارتفاعه ، لوحدة القضيتين ، لصدق العنوان على الفاقد والواجد وهذا المقدار من
الوحدة يكفي في جريان الاستصحاب.
وعلى ضوء ذلك يكون المحكّم هو الاستصحاب
لا البراءة.
حكم القواعد الثانوية
هذا حكم القواعد الأوّلية ودونك الكلام
في حكم الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص هذا الموضوع.
الحديث النبوي
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال
: خطبنا رسول اللّه 6
فقال :
أيّها الناس قد فرض
عليكم الحجّ فحجّوا ، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً
قال : لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم ، ثمّ قال : ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما
استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ».
ورواه النسائي في كتاب الحجّ باب وجوبه
بالنحو التالي :
« فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم
، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ».
ورواه البيهقي في سننه بلفظ قريب ممّا نقله مسلم.
هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فلم
يروه أصحاب الكتب الأربعة ولا غيرها ، إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي
اللآلي وهو من علماء القرن التاسع الهجري.
قال : روي أنّه 6 قال : « إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ
» قال فقام الأقرع بن الحابس فقال : في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت ، ثمّ قال : «
لو قلت نعم لوجب ، ثمّ لا تسعون ولا تطيعون ، ولكنّه حجّة واحدة ».
واستدلّ به السيد عميد الدين على ما
حكاه الشهيد في الذكرى في مسألة صلاة العاري ، حيث كان يقوِّي صلاته جالساً ليومئ
للسجود عارياً استناداً إلى أنّه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله :
فأتوا به ما استطعتم.
__________________
وعلى أيّ حال فالرواية عندنا مرسلة وعند
غيرنا مسندة ينتهي سندها إلى أبي هريرة الذي لا يركن إلى رواياته ، ولكن إتقان
المضمون يشهد على صدقه ولذلك يعلوه سمو النبوة ونورها.
وأمّا الدلالة فالظاهر أنّها غير صالحة
للاستدلال به للمقام بوجهين :
١. موردها الحجّ على ما عرفت ، فيكون
دليلاً على لزوم الإتيان في ذوي الأفراد ، لا في ذوي الأجزاء خصوصاً انّ النسائي
رواه : « فخذوا به » مكان « فأتوا منه » ، والأوّل صريح في ذوي الأفراد ، هذا لو
فسرنا الرواية بملاحظة الصدر أمّا مع الغض عنه فنقول : قوله : « فأتوا به ما
استطعتم » فيه احتمالات :
فإنّ لفظة « ما » إمّا مصدرية ، أو
موصولة.
وعلى الأُولى إمّامصدرية غير زمانية ،
أو مصدرية زمانية ، و « من » للتعدية بمعنى « الباء » وعلى الثانية فلفظة « من »
إمّا بيانية أو تبعيضية.
فتلك احتمالات أربعة :
١. أن تكون مصدرية غير زمانية والجار
بمعنى الباء للتعدية : نظير قوله سبحانه : (
فَاتَّقُوا
اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
). أي فأتوا به قدر الاستطاعة ، وتكون
النتيجة محبوبية تكرار العمل الواجب أو المستحب بقدر الوسع ، ولا صلة لهذا المعنى
بالمقام.
٢. أن تكون مصدرية زمانية فالجار أيضاً
بمعنى الباء للتعدية مثل الأُولى ، ويكون المعنى فأتوا به زمان الاستطاعة ، وهذا
خيرة السيد الأُستاذ والمحقّق الخوئي ، وعندئذ يكون إرشاداً لحكم العقل ولا يفيد
معنى جديداً.
٣. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله
: « فأتوا » والجار بيانيّة والمعنى فأتوا
__________________
الذي استطعتم من
إفراد ذلك الشيء ويتحد مع المعنى الأوّل.
٤. أن تكون « ما » موصولة مفعولاً لقوله
« فأتوا » والباء تبعيضية.
والمعنى : فأتوا الذي استطعتم من بعض
ذلك الشيء وهذه المحتملات الأربعة ولا صلة لها بالمقام إلا المعنى الرابع.
والحقّ انّ المعنيين الأخيرين بعيدان
لاستلزامهما تقدّم عائد الموصول ( منه ) على الموصول أعني : « ما » وهو غير جائز
إلا عند الضرورة.
والظاهر أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل
، وهو منطبق على المورد ( الحج ).
العلويان
روى صاحب غوالي اللآلي : وقال 7 : « لا يُترك الميسور بالمعسور ». وقال
7 : « ما لا
يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه ».
وقد استدلّ به الوحيد البهبهاني في كتاب
« مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع » في باب الوضوء عند قول المصنف : « وترك
الاستعانة » فقال ما هذا لفظه : نعم مع الاضطرار يجوز ان يولّي طهارته غيره ،
واستدلّ بالعلويين.
وقال بحر العلوم في منظومته :
وفي اضطرار يسقط المعســور
|
|
في الكلّ فالفــرض هو الميسور
|
وليس في كتب القدماء من
الحديثين عين ولا أثر ، وعلى ذلك فالاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي مشكل.
وأمّا دلالة الأوّل على لزوم الإتيان
بالأجزاء الباقية فمبني على أنّ المراد : الميسور من أجزاء المركب لا يسقط
بالمعسور من أجزائه.
وقد أُورد على الاستدلال بالحديث وجوه :
١. ما أشار إليه المحقّق الخراساني في
عدم ظهور الرواية في ذي الأجزاء من الواجب ، لاحتمال كون المراد هو ذي الافراد
كالحج.
يلاحظ
عليه : أنّ الأولى بالذكر هو الأوّل ، لأنّ
توهم السقوط في المركبات ذات الأجزاء المتلاحمة أقوى من توهم السقوط في الأفراد
المتبائنة ، فاحتمال سقوط الجلّ لأجل سقوط الكلّ أكثر من احتمال سقوط بعض الأفراد
لسقوط البعض الآخر ، فالأوّل أولى بالذكر.
ويمكن أن يقال : انّ إطلاق لفظة «
الميسور » يعم ميسور كلّ شيء ، سواء كان ذا أفراد أو ذا أجزاء.
٢. انّ الرواية تعمّ الواجبات
والمستحبات ، ومعه يحمل قوله : « لا يسقط » على مطلق المحبوبية ، ولا يتم
الاستدلال على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية في الواجب.
يلاحظ
عليه : بما أشار إليه المحقّق الخراساني من
أنّ المراد هو ما لا يسقط بما له من الحكم إن كان واجباً فيبقى الوجوب ، وإن كان
مستحباً فيبقى الاستحباب.
٣. ما أشارإليه المحقّق الخوئي انّ
السقوط فرع الثبوت ، فالرواية مختصة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار انّ غير
المتعذّر منها كان وجوداً ثابتاً قبل طروء التعذّر فيصدق انّه لا يسقط بتعذّر غيره
، بخلاف بعض أجزاء المركب فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من
حيث المجموع ، فلو ثبت وجود بعد ذلك فهو وجوب استقلالي حادث ، فلا معنى للإخبار عن
عدم سقوطه بتعذر غيره.
__________________
يلاحظ
عليه : أنّه إنّما يتم لو قلنا بوجوب
الأجزاء الباقية بوجوب ثان ، ولكن عرفت أنّ كلّ جزء ، واجب بنفس الوجوب المتعلّق
بالكلّ ، ولمّا سقطت دعوة الأمر إلى الكلّ ، بقيت دعوته إلى الأجزاء الباقية
بحالها ، والحديث كشف عن بقاء الدعوة.
أضف إلى ذلك انّا نفترض أنّ الأجزاء
الباقية وجبت بوجوب ثان ولكن لما كانت النتيجة واحدة يصحّ أن يقال عرفاً انّ
الوجوب لم يسقط.
٤. انّ التمسك بهذا الحديث وإثبات
مطلوبية الباقي مستلزم الدور ، لأنّ كون الأجزاء الباقية ميسوراً للمكلّف فرع
كونها واجدة للملاك وإثبات الملاك فرع تعلّق الأمر بالباقي ، وتعلّق الأمر فرع
إحراز كونه ميسوراً للسابق ومطلوباً ثانوياً له.
يلاحظ
عليه : أنّ المراد من الميسور ما يعد
ميسوراً في العرف للعمل المتعذر ، ويكفي في صدقه عدّه منزلة نازلة للمعسور ، من
دون نظر إلى كونه ذا ملاك حتى يتوقف صدق الميسور على إحرازه ، وإحراز الملاك ، على
إحراز الأمر المتوقّف على صدق الميسور.
وبالجملة ليس المراد من المماثلة هو
المماثلة في الملاك الذي هو أمر غيبي ، بل المماثلة في الشؤون الظاهرية بحيث يعد
الباقي عرفاً انّه ميسور ذلك ، كالتسعة بالنسبة إلى العشرة ، لا الاثنين بالنسبة
إليها.
ذكر سيدنا الأُستاذ انّ في الحديث
احتمالات أربعة :
١. أن يراد من الميسور والمعسور ، معسور
الطبيعة وميسورها.
٢. أن يراد منهما ، معسور الأجزاء ، من
الطبيعة وميسورها.
٣. أن يراد من الأوّل ، معسور الطبيعة
ومن الثاني ميسور الأجزاء.
٤. عكس الاحتمال الثالث.
أقول
: لا سبيل إلى الأخيرين بحكم وحدة السياق ، فالأوضح هو الاحتمال الأوّل لولم نقل
انّ هنا احتمالاً خامساً وهو إرادة الجامع بين معسور الطبيعة ومعسور الأجزاء أخذاً
بإطلاق لفظ الميسور.
الحديث الثاني
العلوي الثاني عبارة عن قوله 7 : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه »
وفيه احتمالات تستخرج من كون المراد من لفظ « كل » في كلا الموردين ، العامّ
الاستغراقي أو العام المجموعي.
وإليك الاحتمالات المفروضة في هذا
المجال :
١. أن يراد من لفظة « كل » في كلتا
الجملتين العام الاستغراقي.
٢. أن يراد منهما العامُ المجموعي.
٣. أن يراد من الصدر العام الاستغراقي
ومن الذيل العام المجموعي.
٤. عكس الاحتمال الثالث.
لا شكّ انّ المعنى الأوّل ، أعني :
إرادة العام الاستغراقي من كلتا الفقرتين ، أمر غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من
الإتيان بكلّ فرد وجزء من الواجب ، فكيف يؤمر بأن لا يترك كلّ فرد وجزء منه ، وهل
هذا إلا كون الذيل مناقضاً للصدر؟
أمّا
الثاني : أي إذا أُريد من كلتا الجملتين ،
العامُّ المجموعي ، فهو أمر معقول بشرط أن يُفسَّر الذيل بعدم ترك المجموع لا
بالإتيان بالمجموع ، ومعنى الحديث : إذا لم يمكن الإتيان بمجموع الأفراد أو
الأجزاء فلا يترك المجموع بمعنى سلب
العموم ، ويحصل الامتثال
بالإتيان ببعض الأفراد أو الأجزاء ، لأنّه يصدق انّه لم يترك المجموع.
نعم لو فسّرنا النهي عن ترك المجموع
بالإتيان بالمجموع كما عليه السيد الأُستاذ في تهذيبه والسيد الخوئي في مصباح
الأُصول كان مفاده غير معقول لأنّه
إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع كيف يؤمر بالإتيان به؟
وأنت خبير بأنّ النهي تعلّق بترك
المجموع ، أي لا تترك المجموع ، وعدم تركه يحصل بالإتيان بالبعض ; وأمّا تفسير
النهي عن ترك المجموع بالإتيان به ، فلا يدل عليه اللفظ بالدلالة العرفية.
وأمّا
الثالث : أعني إذا أُريد من الصدر : العامُّ
الاستغراقي ، ومن الذيل : العام المجموعي ، فهو معنى معقول ، أي إذا لم يمكن
الإتيان بكلّ فرد أو جزء ، فلا يترك مجموع الأفراد والأجزاء.
وأمّا
الرابع : أعني ما إذا أُريد من الأوّل العام
المجموعي ومن الآخر الاستغراقي ، فهو أيضاً غير معقول ، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان
بالمجموع فكيف يتمكن من عدم ترك كلّ واحد أو جزء؟
وليعلم أنّ ملاك الامتناع جعل لفظة « كل
» في الذيل لعموم الاستغراق ، وعلى ذلك فالصورتان : الأُولى والرابعة ، باطلتان ;
والثانية والثالثة ، مقبولتان. ولعلّ المتبادر هو المعنى الثالث ، وهو صادق على ذي
الأفراد وذي الأجزاء ، بل ظهوره في ذي الأجزاء أوضح من ظهوره في ذي الأفراد ، وذلك
لأجل لفظة « كل » ، بما انّه مقابل للجزء.
__________________
الإشكالات الواردة على
الاستدلال بالحديث
ثمّ إنّه استشكل على الاستدلال بالحديث
بوجهين :
١. عموم القاعدة للواجب
والمستحب
إنّ عموم الموصول يقتضي شموله للواجب
والمستحب ، وعلى ذلك لابدّ من حمل النهي في قوله : « لا يترك » على مطلق المحبوبية
، فلا يدل على وجوب الإتيان بالباقي ، بل يدل على رجحان عدم الترك.
يلاحظ
عليه : بما ذكرنا في مبحث الأوامر من أنّ
الوجوب والحرمة خارجان من مداليل الأمر والنهي ، فالأمر يدل على البعث ، والنهي
على الزجر ، وأمّا كون البعث إلزاميّاً أو كون الزجر كذلك ، أو غير إلزامي ،
فإنّما يستفاد من دليل خارج ، فالعقل يدل على أنّ بعث المولى لا يترك بلا جواب
فيحكم بلزوم الامتثال بالفعل في الأمر والترك في النهي إلى أن يدل دليل على الرخصة
فيهما.
وعلى ذلك فحمل النهي على رجحان عدم
الترك لا يكون منافياً لوجوب الأجزاء الباقية أو الأفراد الممكنة ، فلأنّه على كلّ
تقدير مستعمل في مطلق البعث أو الزجر الشامل للواجب والمستحب.
وإن شئت قلت : إنّ الحديث ظاهر في أنّ
ما يمكن من الأفراد والأجزاء لا يترك بما له من الحكم ، كما مرّذكره في تفسير قوله
: « لا يسقط ».
٢. ورود التخصيص الكثير
عليها
إنّ الأصحاب لم يعملوا بها في غير باب
الصلاة ، فلا تكون سنداً إلا إذا عمل بها الأصحاب.
يلاحظ أنّ الأصحاب عملوا بها في كتاب
الطهارة ، والصلاة في مختلف أبوابها ، وأمّا عدم العمل به في باب الصوم فلأنّه عمل
بسيط يدور أمره بين الوجود والعدم ومثله لا يعد تخصيصاً في القاعدة.
ما هو الشرط لجريان القاعدة؟
ثمّ إنّه يشترط في جريان القاعدة ، عدّ
الميسور ، ميسوراً للطبيعية ، فتعد الجبيرة في بعض الأجزاء ميسوراً للوضوء ولا تعد
الجبيرة في معظمها ميسوراً من غير فرق بين الموضوعات العرفية والشرعية.
وأمّا دلالة العلويين على هذا ، فلو
قلنا بأنّ المراد هو ميسور الطبيعية ومعسورها ، فمعناه انّ للطبيعة فردين ،
ميسوراً ومعسوراً ، وكلاهما من مصاديقها.
وأمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني ، أي
أجزاء المعسورة من الطبيعة وميسورها منها ، فلا وجه لاشتراط صدق الطبيعة على
الميسور بل يكفي عدّ الميسور جزء من المعسور ، لا مصداقاً له ، ولكن بما أنّ
القاعدة إرشاد إلى ما عند العقلاء منالإتيانبميسور المطلوب عند معسوره لا محيص عن
شرطية صدق ميسور الطبيعة.
وأمّا العلوي الثاني فدلالته غير واضحة
، لأنّ المراد من الموصول هو الشيء ، والضميران في لفظة « كلّه » في الموضعين يرجع
إليه ، والمعنى ما لا يدرك كلّ أجزاء الشيء فلا يترك كلّها ، واللازم كون المأتي
به ، من أجزاء المعسور ، أمّا لزوم صدق الشيء عليه فلا. ويجري فيه ما ذكرناه في
العلوي الأوّل من كونها إرشاداً إلى بناء العقلاء ، فيحمل على ما إذا عدّ فرداً
نازلاً للطبيعة.
وعلى ذلك فلو دلّ الدليل الخارجي على
لزوم الإتيان وإن لم يصدق عليه ميسور الشيء المعسور كما في المسح على المرارة في
رواية عبد الأعلى مولى
آل سام ، أو دلّ على السقوط وإن عُدَّ ميسوراً
عرفاً نأخذ به وإلا فلا يصحّ التمسّك بإطلاق القاعدة إلا فيما إذا صدق على المورد
عرفاً انّه ميسوره ، ومثلاً لا ينتقل إلى الصلاة قاعداً مادام متمكناً من القيام ،
فلو دار الأمر بين القيام معتمداً على شيء ، أو القيام غير مستقر ، وبين القعود
بلا اعتماد أو مع الاستقرار ، يقدّم الأوّلان لأنّهما ميسورا القيام ، والمرجع هو
العرف.
التنبيه الرابع : في دوران
الأمر بين الجزئيّة والمانعيّة ...
إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته
، وبين مانعيته أو قاطعيته ، بمعنى انّا علمنا اعتبار شيء في المأمور به ، ودار
الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة ، أو كون وجوده مانعاً عنها ، وقد تقدّم
الفرق بين المانعية والقاطعية وقلنا إنّ الاعتبار الصحيح فيهما كون وجودهما مزاحمين
لا اعتبار عدمهما.
وهذا كالجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم
الجمعة لمن لم يصلّ الجمعة فدار أمر الجهر في الحمد بين كونه شرطاً للصحّة أو
مانعاً عنها ، ونظيره تدارك الحمد لمن نسيه بعد ما أتمّ السورة أو دخل فيها ، حيث
إنّ التدارك يدور أمره بين كونه شرطاً في الصحّة أو مانعاً عنها ، فهل المقام من
مجاري التخيير أي من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيأتي فيه كلّ ما قلناه في
ذلك المقام من إجراء البراءة عن جميع المحتملات من الجزئية والشرطية والمانعية
والقاطعية ، كما عليه الشيخ الأنصاري؟
أو من مجاري الاحتياط ، أي من قبيل
دوران الأمر بين المتباينين كدوران الواجب بين الظهر أو الجمعة ، فيجري فيه
الاحتياط كما عليه المحقّق الخراساني؟
ولنذكر دليل الشيخ فقد استدل بوجهين :
الأوّل
: انّ العلم الإجمالي غير منجّز في المقام ، لأنّ آية منجِّزيته لزوم المخالفة
__________________
القطعية عند جريان
الأصل ، والمقام خارج عن تحت تلك القاعدة لعدم لزومها مع جريان أصل البراءة من
جميع المحتملات ، لأنّ الإنسان في صلاة واحدة لا يخلو من فعل وترك والمخالفة
القطعية غير ممكنة.
يلاحظ
عليه : أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي
إمكان الاحتياط لا لزوم المخالفة القطعيّة ، وهو أمر ممكن بتكرار الصلاة كما
سيوافيك بيانه ، وقد مرّ في بيان مجاري الأُصول أنّ الموضوع للتخيير هو عدم إمكان
الاحتياط ، لا عدم إمكان المخالفة ، وقلنا هناك إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة أو
لا ، وعلى الثاني إمّا أن لا يمكن الاحتياط أو يمكن ، وعلى الثاني إمّا أن يكون في
التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ،
والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط فلاحظ.
الثاني
: انّ المسألة مبنية على ما هو المختار في الأقل والأكثر ، فلو قلنا بالبراءة هناك
، تجري البراءة في المقام ، وإن قلنا بالاحتياط هناك فيكون المقام مثله وتعيّن
الجمع بالاحتياط. قال 1
ما هذا لفظه : التحقيق أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية
والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية ، فالأقوى التخيير
هنا وإلا تعيّن الجمع بتكرار العبادة.
يلاحظ
عليه : وجود الفرق بين المقامين إذ ليس هناك
علم يأخذ شيء في المأمور به ، وإنّما الموجود هو الشك ، وهذا بخلاف المقام لوجود
العلم بأخذ شيء فيه ، إمّا بما أنّ وجوده مؤثر ، أو بما أنّ وجوده مانع.
أمّا القول الثاني : فهو خيرة المحقّق
الخراساني ، ووجهه وجود العلم الإجمالي وإمكان الاحتياط بتكرار الصلاة ولكن
بالتفصيل الآتي :
__________________
١. إذا كان الواجب واحداً شخصياً ولم
يكن له إلا فرد واحد ، كما إذا ضاق الوقت وانحصر الثوب في النجس منه ، فدار الأمر
بين الصلاة عارياً ـ إذا كان الستر المذكور مانعاً في هذه الحالة ـ أو مع الثوب ،
إذا كان شرطاً ، فالمرجع هو التخيير ، لعدم إمكان الموافقة القطعية ، والمخالفة
القطعية بترك الصلاة غير جائزة ، فلم يبق إلا الموافقة الاحتمالية وهي تحصل لكلّ
واحد من الفردين.
٢. إذا كانت الوقائع متعددة ولكن لم يكن
لكلّ واقعة إلا فرد واحد ، كما إذا دار أمر الجهر في صلاة الجمعة بين كونه شرطاً
أو مانعاً. فالمرجع هو التخيير لكن تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً ، لانتهاء
التخيير الاستمراري إلى المخالفة القطعية وقد تقدّم حكمه.
٣. إذا كانت الوقائع متعددة وللواجب
أفراد طولية ، كدوران الأمر بين التمام والقصر للشكّ في كون الركعتين الأخيرتين
شرطاً أو لا ، للشكّ في جزئيتهما ومانعيتهما ، فالمرجع هو الاحتياط بتكرار الصلاة.
خاتمة في شرائط جريان
الأُصول
وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تفسير
العنوان ، وهو انّ الشرط في مورد الأُصول على قسمين : تارة يكون شرطاً لجريان
الأصل بحيث لولاه لما يكون المورد مجرى له ، وهذا كالفحص عن البيان الشرعي الذي
لولاه لما تجري البراءة العقلية والنقلية ، إذ لا يصدق الموضوع أي العقاب بلا بيان
، بلا مخصص.
وأُخرى يكون شرطاً للعمل بالأصل ، وهذا
كعدم التعارض في العمل بالأصل ، فالعمل بالأصل المسببي مشروط بعدم وجود أصل سببي
آخر.
وما عن المحقّق المشكيني من جعل الفحص
عن البيان شرطاً للجريان في البراءة العقلية وشرطاً للعمل في البراءة الشرعية ،
غير تام ، لأنّ الدليل المهم للثانية هو حديث الرفع ، أعني قوله : « ما لا يعلمون
» ولا يصدق قوله إلا لغير المتمكن من تحصيل العلم ، أعني : الحجة الشرعية لا
المتمكن فانّ العالم بالقوة بحيث إذا رجع علم ، لا يعدّ غير عالم.
إذا علمت ذلك فتارة نبحث عن شرائط جريان
الاحتياط ، وأُخرى عن شرائط سائر الأُصول.
أمّا الاحتياط فلا شكّ انّه حسن ،
لكونها مجاهدة في طريق درك الحقّ والعمل به والعقل حكم بحسنه في العبادات
والمعاملات لكن بشرطين :
١. عدم استلزامه اختلال النظام وإلا
يصبح أمراً مبغوضاً لا حسناً.
٢. عدم مخالفته لاحتياط آخر ، وإلا
لايصدق عليه عنوان الاحتياط.
وأمّا موارده فتحصر في المواضع التالية
:
١. الاحتياط المطلق في الشبهات وإن لم
يكن في المورد علم إجمالي ولا حجّة شرعية.
٢. الاحتياط فيما إذا كان في المورد علم
إجمالي.
٣. الاحتياط فيما إذا كان في المورد
حجّة شرعية.
ثمّ إنّه لا فرق في الاحتياط في
العبادات بين ما يتوقف على التكرار وعدمه ، لما عرفت من أنّ الاحتياط بنفسه أمر
حسن ، لأنّ الهدف إحراز الواقع على ما هو عليه ما لم يستلزم الاختلال في النظام ،
بل لم يستلزم العسر والحرج ولم يكن مخالفاً للاحتياط الآخر ، وعلى ذلك فللعامي أن
يترك التقليد والاجتهاد ويعمل بالاحتياط في العبادات والمعاملات.
وربما يمنع عن الاحتياط مطلقاً لأنّه
مفوِّت لقصد الوجه والتمييز من غير فرق بين كونه مستلزماً للتكرار وعدمه.
يلاحظ
عليه : أنّ الواجب في العبادات هو قصد الأمر
، بل إتيان الفعل للّه سبحانه ، وكلاهما حاصلان في العمل بالاحتياط في العبادات ،
لأنّه يأتي مثلاً بالتسبيحة الثانية أو الثالثة في الركعتين الأخيرتين للّه سبحانه
أو لأمره المحتمل. وهكذا يأتي بالصلاة الثانية إذ دار الأمر بين القصر والإتمام
لذلك الغرض ، وإنّما الفائت هو الإتيان بالفعل بوصف وجوبه أو لغايته وهو أمر ليس
بواجب.
في شروط جريان البراءة
يقع الكلام في تحقيق شروط جريان البراءة
العقلية في مواضع ثلاثة :
الأوّل
: في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل التمسّك بها.
الثاني
: في استحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه.
الثالث
: في صحّة عمل تارك الفحص إذا وافق الواقع.
الموضع الأوّل : في لزوم
الفحص عن الدليل الاجتهادي
اتّفقت كلمتهم على لزوم الفحص في جريان
البراءة العقلية والنقلية ، أمّا البراءة العقلية فقد استدل على لزوم الفحص بوجوه
نذكر منها وجهين :
الوجه
الأوّل : عدم استقلال العقل بقبح العقاب بلا
بيان إلا بعد الفحص واليأس من الظفر بالحجّة.
توضيحه
: أنّ البيان الرافع لقبح العقاب بلا بيان ليس هو وجود البيان عند اللّه سبحانه أو
عند حججه : ، بل المراد
هو البيان الواصل إلى المكلّف هذا من جانب ، ومن جانب آخر ليس المراد من الوصول هو
وصوله إلى كلّ واحد شخصاً ، بل المراد وجوده في مظان البيان بحيث لو رجع إليها
لعثر عليه ، كما هو حال السيد بالنسبة إلى عبده والحكومات بالنسبة إلى شعوبها في
الوقوف على تكاليفهم ووظائفهم أمام السيد والدولة ، وعند ذلك يكفي وجود البيان عند
الرواة
وحملة العلم أو
الكتب والجوامع الحديثية التي حفظت بيان الشارع ( أوامره ونواهيه ).
وإن شئت قلت : إنّ تنجّز التكليف رهن
أحد أمرين :
١. العلم بالتكليف ٢. احتمال العثور على
التكليف في مظانّه ، وعلى ضوء ذلك فلا يكون الجهل عذراً إلا إذا رجع إليها ولم
يعثر على البيان ، قال سبحانه : (
لِئَلاّ
يَكونَ للنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُل ). فقبل
الفحص عن الحجّة ، فالمولى هو صاحب الحجّة على عبيده ، وبعد الفحص وعدم العثور
عليه ينقلب الأمر ويحتج العبد على مولاه.
وإن
شئت فعبّر بعبارة ثالثة : انّ المراد من
البيان هو البيان الصالح لقطع العذر في وجه العبد لمخالفته للتكليف ، وليس هو إلا
وجود البيان على نحو لو تفحّص عنه لعثر عليه ، وهذا النوع من البيان قاطع لعذر
المكلّف في مخالفة التكليف. ولا يعلم وجود العذر وعدمه إلا بالفحص عن مظانّه.
الوجه
الثاني : ما استدل به المحقّق الاصفهاني وقال
: إنّ الاقتحام في المشتبه مع أنّ أمر المولى ونهيه لا يعلم عادة بالفحص خروج عن
رسم العبودية وزي الرقية.
والفرق بين البيانين واضح ، لأنّ الباعث
إلى الفحص ، في البيان الأوّل هو نفس التكليف الواقعي إذا احتمل انّه يعثر عليه
إذا فحص ، وعلى الثاني الباعث هو انّ الاقتحام في المشتبه قبل الفحص ظلم وتعد على
حقّ المولى فيجب الانتهاء عنه.
ثمّ لو خالف الواقع فالعقاب على البيان
الأوّل عقاب التكليف ، وعلى
__________________
البيان الثاني
العقاب على نفس التجرّي وتحقّق عنوان الظلم.
يلاحظ
عليه : أنّ الحكم الواقعي في صورة احتمال
وجوده إمّا منجّز أو لا ، فعلى الأوّل فالباعث هو احتمال التكليف وصحّة العقاب
عليه لا على كون الاقتحام بلا فحص ظلماً ، للإجماع على أنّ المعصية الواحدة ليست
لها إلاعقاب واحد ، وعلى الثاني لا وجه لانطباق الظلم عليه إذ لا تكون مخالفة
الحكم الواقعي الشأني ظلماً حتى يعاقب عليه.
هذا كلّه في الشبهات الحكمية ، وأمّا
الموضوعية ، فالمشهور انّ التمسّك بها ليس رهناً للتفحص ، فلو دار أمر المائع بين
كون خلاً أو خمراً يجوز ارتكابه بلا فحص وإن انتهى إلى شرب الخمر.
واحتجّوا عليه بأنّ الاحتجاج فرع ثبوت
الصغرى والكبرى ، والثانية وإن كانت متحقّقة أي تعلم انّ كلّ خمر حرام ولكن الصغرى
غير محرزة فلا يحتج بالكبرى المجرّدة عن الصغرى.
يلاحظ
عليه : أنّ الاحتجاج وإن كان فرع إحراز
الصغرى ، لكنّه لو كان إحرازه أمراً سهلاً غير موجب للعسر والحرج يصحّ الاحتجاج
بالصغرى التي لو تفحص عنها لعثر عليها.
ولذلك أفتى الأصحاب بلزوم الفحص في بعض
الشبهات الموضوعية حتى أنّ الشيخ استثنى الموارد الثلاثة : الدماء والأعراض
والأموال ، كما أنّ الفقهاء أفتوا بوجوب الفحص في الموارد التالية :
١. إذا شكّ في مقدار المسافة هل هي
مسافة شرعية أو لا؟
٢. إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية إلى
حدّ النصاب.
__________________
٣. إذا شكّ في زيادة الربح على المؤونة
حتى يخمس.
٤. إذا شكّ في حصول الاستطاعة إلى
الحجّ.
٥. إذا شكّ في مقدار الدين مع العلم
بضبطه في السجل إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه ، فالأولى
لزوم الفحص في التمسّك بالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية والموضوعية معاً إلى
حدّ لا ينتهي إلى العسر والحرج أو المشقة وربما يظهر من بعض الروايات انّ الأمر في
باب الطهارة والنجاسة سهل.
في شرط جريان البراءة
النقلية
اتّفقت كلمتهم على أنّه لا مجال للبراءة
النقلية موضوعاً قبل الفحص وإن اختلفوا في كيفية إقامة الدليل ، ونحن نقدّم ما هو
الأمتن من الأدلّة :
الأوّل : ترك الفحص ولغوية
بعث الرسل
إنّ العقل مستقل بلزوم بعث الرسل وإنزال
الكتب ، إذ لولا البعث ، لبقي الإنسان في تيه الضلال ولم يتحقق غرض الخلقة ، فلو
وجب على اللّه سبحانه بعث الرسل من باب اللطف ، وجب على الناس سماع كلامهم ـ بعد
ثبوت نبوّتهم بالطرق المألوفة ـ ، ولو جاز الإعراض عنهم ، لكان البعث لغواً ،
وعادت الخلقة سدىً ، تعالى عنه سبحانه قال : (
أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً
) وقال سبحانه : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ
وَمُنْذِرين )
وقال تعالى : (
رُسُلاً
مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُل ). وعلى ذلك فقد أتم سبحانه
__________________
ببعث الرسل الحجّة
على العباد ، فلا عذر لهم في ترك ما أمروا به ، وفعل ما نهوا عنه ، فهو سبحانه
يحتج عليهم بما بلّغه أنبياءهم ورسلهم ، فليس لهم الصفح عن تلك الحجج بترك التعلم
والفحص عن الحكم الشرعي والتمسك بإطلاق قوله 6
: « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » أو : « انّ الناس في سعة ما لا يعلمون » من غير
فرق بين مَنْ لم يتعلم شيئاً ، أو تعلم أشياء وشكّ في مورد خاص ، فلا محيص عن
إنكار الإطلاق أو انصرافه إلى ما بعد الفحص ، وإلا يلزم الأمر بأمرين متنافيين فمن
جانب يأمر الرسل ، بالتبشير والإنذار ، ومن جانب يرخّص في ترك التعلم ويعدُّ جهل
العباد عذراً لهم ولا محيص في مقام الجمع عن حمل الحديثين وما أشبهها ، على ما إذا
تفحّص ولم يعثر على شيء ، فبما أنّه أدّى الوظيفة ، فلو كان هناك بيان فهو معذور
في تركه ، لأنّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما لا يعلمون ، ولم يلزمهم بالاحتياط.
وإن شئت قلت : إنّ حديث الرفع وأمثاله ،
حديث امتنان ، فأيّ امتنان للجاهل بالإذن له في البقاء على الجهل؟ أليست الأحكام
تابعة للمصالح والمفاسد ، وإقرار الجاهل على جهله ، مفوّت للمصلحة أو موقع له في
المفسدة؟ ولأجل ذلك لا مناص من القول بانصراف أدلّة الأُصول كلّها عن مثل المتمكن
من التعلم.
الثاني : المورد قبل الفحص
شبهة مصداقية
إنّ المراد من « عدم العلم » المأخوذ
موضوعاً في لسان أدلّة البراءة ليس العلم المنطقي ، أعني : الاعتقاد الجازم ، بل
المراد الحجّة ، كما هو الحال في لفظ « اليقين » ، الوارد في أدلّة الاستصحاب
فالمعنى رفع عن أُمّتي ما لم تقم الحجّة عليه ، ومن المعلوم أنّ الحجّة هو الكتاب
والسنّة ، فإذا لم يرجع إليهما مع التمكن ، يكون المورد شبهة مصداقية لأدلّة
البراءة ، لأنّه يشك في كونه ممّا قامت به الحجّة أم لم تقم ، ومنه
يظهر حال سائر
الأدلّة ، أعني قوله : « إنّما يحتج على العباد ما آتاهم وعرفهم » ، وقال : « كلّ
شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ، فإذا احتمل وجود التعريف في الكتاب وورد النهي في
السنّة ، يكون التمسك بأدلّة البراءة من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة
المصداقية.
ولعلّ في هذين الدليلين غنى وكفاية عن
سائر الأدلّة ، وإن شئت التوسّع فاستمع لما يلي.
الثالث : ما دلّ على وجوب
السؤال فيما لا يعلم
دل الذكر الحكيم على لزوم السؤال عند
عدم العلم ، لا الصفح عنه قال سبحانه : (
فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
) والآية ضابطة كلية جارية في حقلي
العقائد والأحكام ، وما روي في شأن نزولها ليس بمخصص لها ككون المورد ، علائم
النبي الخاتم ، كما أنّ ما ورد في تفسير أهل الذكر من أنّ المراد أئمّة أهل البيت : لا ينافي الاستدلال بها على المقام ،
لأنّ تفسيرها بهم من باب الجري والتطبيق ، لا الحصر ، والحاصل أنّ وظيفة الجاهل هي
السؤال لا الثبات على الجهل ، والرجوع إلى العالم ، لا إلى البراءة ، والفحص عن الدليل
الاجتهادي ، داخل في الآية ، لأنّه سؤال عن أهل الذكر والحجج.
الرابع : ما دلّ على وجوب
التعلم في الروايات
هناك قسم وافر من الروايات يدل على لزوم
التعلم ، والمقام لا يسع بنقل جميعها ، فلنقتصر على بعضها :
١. روى الفضلاء من أصحاب الإمام الصادق
عن أبي عبد اللّه 7
، أنّه
__________________
قال لحمران بن أعين
في شيء سأله : « إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون ».
٢. روى ابن أبي عمير عن محمد بن سكين
وغيره ، عن أبي عبد اللّه 7
قال : قيل له : إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلوه فمات ، فقال : « قتلوه
، ألا سألوا ألا يمّموه ، فانّ شفاء العي السؤال ».
٣. ما ورد في تفسير قوله سبحانه : ( وَللّهِ الحُجَّةُ الْبالِغَة
) عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن
محمد 8 يقول : إنّ
اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي كنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال له :
أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمت حتى تعمل فيخصمه ،
فتلك الحجّة البالغة.
الخامس : ما دلّ على أنّ
الواجب هو السؤال في خصوص الشبهة الحكمية
يظهر من الروايات الواردة حول الشبهة
الحكمية أنّ وجوب السؤال كان أمراً مفروغاً عنه عند أهل البيت ، وقد ذكرنا قسماً
منها عند البحث في أدلّة الأخباريين ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب
الثاني عشر من أبواب صفات القاضي.
منها : ما رواه عبد الرحمان بن الحجاج
قال : سألت أبا الحسن عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على
كلّ واحد منهما جزاء ـ إلى أن قال : ـ « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم
بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا ».
وفيما ذكر من الأدلة غنى وكفاية وبعد
هذا ، لا حاجة إلى الاستدلال
__________________
بالإجمـاع ـ مـع
احتمال أنّ مصدر المجمعين هو ما ذكرنا من الأدلّة ، ولا إلى الاستدلال بالعلم
الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية ، ومعه لا يجوز الرجوع إليها ، وقد أورد عليه بأنّه
أخصّ من المدعى ، لأنّه لا يثبت وجوب الفحص بعد انحلاله مع أنّ المدّعى هو الفحص
في مورد الشبهة البدئية حتى بعد انحلال العلم الإجمالي.
وبعبارة أُخرى : أنّ مورد ما ذكر من
الدليل ، هو العلم الإجمالي بأصل التكليف ومعه لا يجري البراءة ، إلى أن ينحل
العلم الإجمالي ، ومعه لا يكون له أيّ أثر ، لانعدامه ، والمدّعى هو الفحص الثاني
في الشبهات الحكمية الطارئة بعد انحلاله ، ولزومه يحتاج إلى دليل آخر.
وجوب الفحص في الأصلين :
التخيير والاستصحاب
لا شك أنّ التخيير أصل عقلي للمتحيّر
الذي لا حيلة له ، ومن له حيلة لرفع التحيّر فلا يستقل العقل فيه بالتخيير.
وأمّا الاستصحاب فهو أصل مجعول في حقّ
الشاك وأدلّته منصرفة إلى الشكّ المستقر لا الزائل بالمراجعة والفحص ، وعليه
استقرت سيرة العلماء.
مضافاً إلى ما ذكر من الأدلّة على لزوم
السؤال والتعلّم فانّها تعمّ موارد الأصلين.
مقدار الفحص
وهل يجب الفحص إلى أن يحصل اليقين لعدم
الدليل أو يكفي الاطمئنان أو يكفي الظن؟ لا سبيل إلى الأخير ، لأنّه لا يُغني من
الحقّ شيئاً ، والأوّل مستلزم للعسر والحرج ، فتعيّن الثاني.
ثمّ إنّ الفحص صار في الأزمنة الأخيرة
أمراً سهلاً بعد جمع الروايات
وتبويبها على وجه
يسهل للمستنبط الوقوف على الدليل الاجتهادي بعد الرجوع إلى مظانّه في الكتب
الحديثية ، وإذا ضمّ إلى هذا تتبع المجتهدين بعد تأليف الكتب الأربعة وغيرها واعترافهم
بعدم العثور على الدليل لحصل الاطمئنان بعدمه في مظانه.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما فرغ
من لزوم الفحص عن الدليل ، قال ما هذا لفظه : « ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض
بالعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام ومراده انّه بقي هنا بحثان وهما :
١. إذا ترك الفحص فهل يعاقب أو لا؟
٢. صحّة عمل الجاهل التارك للفحص.
وهذان البحثان هما الموضع الثاني
والثالث الّذين أشرنا إليهما في صدر المقام ، وإليك الكلام فيهما.
الموضع الثاني : في عقوبة
تارك الفحص
إذا ترك الجاهل الفحص فهل يعاقب مطلقاً
أو لا يعاقب ، أو يفصل بين مخالفة الواقع المنجّز وعدمه؟ فلنذكر صور المسألة :
الأُولى
: إذا ترك الفحص واقتحم الشبهة ولم يكن مؤدِّياً إلى مخالفة الواقع.
الثانية
: لو ترك الفحص واقتحم الشبهة وأدّى إلى مخالفة الواقع ، وكان في المورد دليل لو
تفحص عنه لعثر عليه.
الثالثة
: تلك الصورة ، ولكن لو تفحّص عنه لم يقف عليه.
الرابعة
: نفس الصورة أيضاً لكن لو تفحّص لوقف على ما يضادّ الواقع.
الخامسة
: تلك الصورة ، لكن إذا تفحص عن دليل المورد لم يقف عليه ، لكن
وقف على دليل مسألة
أُخرى. كما إذا ترك الشاك في حكم التدخين وشربه ، ولكنّه لو تفحص عنه لوصل إلى
دليل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال الذي كان مغفولاً عنه في هذه الحالة.
وإليك بيان أحكام الصور :
أمّا
الصورة الأُولى : فخارجة عن موضوع
البحث ، لأنّ الكلام فيما إذا ترك الجاهل الفحص وأدّى إلى مخالفة الواقع ،
والمفروض في هذه الصورة عدمها.
نعم يكون عمله تجرّياً ، ولو قلنا بعقاب
المتجري يكون معاقباً وإلا فلا.
أمّا
الصورة الثانية : فلا شكّ أنّه
يصحّ العقاب ، لأنّه خالف الواقع بلا عذر ، بل خالفه مع وجود الحجّة من جانب
المولى على العبد لتمامية البيان الواصل عنه ، وإنّما قصر العبد في الوصول إليه ،
ويكفي هذا في تصحيح العقاب ، وكونه جاهلاً بالمخالفة عند العمل لا يعدّ معذوراً.
وإن شئت قلت : إنّ الواقع كما يتنجز
بالعلم كذلك يتنجز بالاحتمال قبل الفحص ، وليس التنجز من خصائص العلم ، بل يكفي في
ذلك احتمال العثور على الدليل إذا تفحص عنه ، فما في الأفواه من أنّ التنجّز من
شؤون العلم فمحمول على الغالب أو على ما بعد الفحص.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني طرح سؤالاً
وهو كون المخالفة مغفولة حين العمل؟ فأجاب عنه بأنّها منتهية إلى الاختيار وهو كاف
في صحّة العقوبة.
يلاحظ
عليه : أنّ البحث في الجاهل الملتفت ، التارك
للفحص ، فكيف تكون المخالفة مغفولة؟ نعم المخالفة ليست قطعية وإنّما هي محتملة ،
ويكفي في كونه منجزاً قبل الفحص ، فالإشكال غير وارد حتى يحتاج إلى الجواب.
وأمّا
الصورة الثالثة ، والرابعة :
فالظاهر عدم العقاب على نفس مخالفة الواقع لأنّ المفروض أنّه لو تفحص لم يقف على
الدليل ، أو وقف على ما يؤدي إلى خلاف
الواقع.
وقد عرفت أنّ العقاب فرع البيان الواصل
، والمفروض أنّه لم يكن كذلك.
فإن
قلت : إنّه ترك الواقعة بلا عذر ولا حجّة ،
وكون المقام خالياً عنالدليل ، أووجود الدليل المخالف للواقع لا يعد عذراً ما لم
يستند إليه المكلّف.
قلت
: ليس العقاب مترتباً على مطلق ترك الواقع بلا عذر ، بل هو مترتب على ترك الواقع
المنجز ، وهو رهن وجود البيان الواصل ، والمفروض عدمه ، وبالجملة كونه معذوراً في
نفس الأمر لأجل عدم البيان الواصل يكفي في معذوريته عند العقلاء.
نعم كان سيدنا الأُستاذ غير جازم بكون
العذر الواقعي المغفول عنه ، غير الملتفت إليه رافعاً للعقاب ، ولكن الرائج بين
العقلاء هو المعذورية ، وقد ذكر الشيخ في مبحث التجري ما يفيد المقام ، حيث قال :
إنّ عدم العقاب لأجل أمر غير اختياري ليس بقبيح وإنّما القبيح هو العقاب لأمر اختياري.
وأمّا عدم التفاته إلى ذلك ، أو عدم
استناده إليه فإنّما يحقِّق عنوان التجري ، وهو خارج عن موضوع بحثنا.
وأمّا
الصورة الخامسة : فالحقّ صحّة
العقوبة لتمامية البيان في المورد الذي خالفه وقد كان بيان المولى فيه تاماً ،
أعني : وجوب الدعاء عند رؤيته لأنّه خالف الواقع عن اختياره لافتراض أنّه لو فحص
لوصل إلى ذلك البيان.
نعم لا يصحّ العقاب بالنسبة إلى التدخين
الذي لم يكن هناك بيان واصل.
__________________
في المقدمات المفوِّتة
ثمّ إنّ هنا إشكالاً معروفاً وهو : انّ
التكاليف المشروطة والموقتة إنّما تتنجز بعد تحقّق الشرط وحصول الوقت ، ولا تكون
المقدمة العلمية ـ أعني الفحص ـ واجباً إلا بعد حصول الشرط ، فلو افترضنا أنّ
المكلّف لم يتعلم قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة ، ولم يتمكن عنه بعد وجوبه فيلزم
عدم صحّة العقاب مع أنّه على خلاف ما اتّفقوا عليه ، نظير ذلك أحكام الشكوك حيث لم
يقم دليل على تعلّم أحكامها قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وأمّا
بعد دخوله ووجوب ذيها فربما لا يتمكن خصوصاً إذا دخل الصلاة.
وأمّا الجواب فبوجوه :
الوجه
الأوّل : نختار انّ التعلم ـ لو قلنا بوجوب
المقدمة ـ واجب قبل حصول الشرط ، وذلك لأنّ كون وجوب المقدمة تابعاً لوجوب ذيها
ليس بمعنى ترشح وجوبها عن وجوبه ، أو ترشح تعلّق الإرادة بها عن إرادته ، بل لكلّ
من الوجوبين والإرادتين مباد ومقدمات بها يتكون وجوبهما وإرادتهما ، وعلى ذلك فلو
وجدت المبادئ في مورد المقدمة قبل الوقت يحكم بوجوبها سواء وجب ذوها أم لا ،
والمقام من هذا القبيل ، فانّ المولى لما وقف على توقف امتثال الواجب المشروط على
الفحص قبل حصول الشرط ، وأنّ ترك التعلم يوجب سلب القدرة عنه حال تحقّق الشرط ،
تنقدح في نفسه إرادتها وإيجابها ، وإن لم تكن تلك المبادئ موجودة في ذيها. ولا
يراد من الملازمة تحقّق الإرادتين أو الوجوبين في زمان واحد مثل الزوجية والأربعة
، بل المقصود عدم جواز التفكيك بينهما في مجال الطلب والإرادة فلو تقدم طلب أحدهما
على طلب الآخر لا تنثلم به الملازمة.
الوجه
الثاني : حكم العقل بوجوب التعلم ـ وإن لم يتعلق
به الوجوب شرعاً ـ
لاستقلال العقل بذلك
، فلو ترك أو تساهل في التعلم وانتهى إلى ترك الواجب يعدُّ مقصراً في مجال
المولوية والعبودية ، ولأجل ذلك أفتى الفقهاء بوجوب تعلّم أحكام الشكوك المتعارفة
التي تعم بها البلوى.
وبالجملة المقدمات المفوِّتة لغرض المولى
يحكم العقل بوجوب تحصيلها وإن لم تكن واجبة شرعاً ، لأنّ حفظ غرض المولى ليس بأقل
من حفظ غرض العبد فكما هو يقدم على المقدمات المفوتة في محلها فكذلك في أغراض
المولى.
ولذلك يجب على الجنب ، الغسل قبل الفجر
لأجل عدم إمكان درك الفجر بالطهارة إلا بالإتيان به قبل وجوب ذيه ، كما أنّه يجب
السير إلى الحج قبل الموسم لأجل عدم إمكان امتثال أمر المولى إلا بالسير قبله ،
ففي جميع تلك الموارد يحكم العقل بلزوم تحصيل المقدمة المفوتة.
هذان الجوابان موافقان للتحقيق غير أنّ
الجواب الأوّل مبني على وجوب المقدمة ، دون الثاني فأنّه يمشي وإن لم تكن المقدمة
واجبة.
الوجه الثالث : إرجاع الواجب
المشروط إلى المعلّق
وحاصل هذا الوجه ، هو إرجاع الواجب
المشروط إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً.
وعلى ذلك فوجوب صلاة الظهر قبل دلوك
الشمس فعلي وإن كان الواجب استقبالياً ، كما التزم بعضهم به في الحجّ وأنّ الوجوب
قبل موسم الحجّ فعلي وإن كان الواجب استقبالياً ، وعلى ذلك يجب تحصيل المقدمات
لكون الوجوب فعلياً.
فإن
قلت : إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب
المعلق ، يوجب لزوم تحصيل عامة المقدمات قبل الوقت ، سواء كانت المقدمة علمية
كالتعلم ، أو وجودية
كالستر والطهارة
الخبثية والحدثية ، إلى غير ذلك من المقدمات الوجودية.
قلت
: إنّ الواجب المعلق عبارة عن كون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً ، ولزوم
تحصيل المقدمات قبل الوقت ، تابع لكيفية دخلها في الملاك ، فتارة تكون دخيلاً فيه
بنحو التحصيل ، وأُخرى بنحو الحصول ، ففي الأوّل يجب التحصل دون الثاني ، ولذلك
يجب التعلّم ولا يجب سائر المقدمات.
وإلى ما ذكرنا من الإشكال والجواب يشير
المحقّق الخراساني بعبارته التالية : ولكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته
الوجودية عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت ، غير التعلم فيكون الإيجاب حالياً وإن
كان الواجب استقبالياً قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ( كالاستطاعة )
ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.
يلاحظ
على هذا الجواب : انّه على خلاف
ظاهر الأدلّة فقوله سبحانه : (
أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً
) فالمتبادر دخول تعلّق الوجوب بدلوك
الشمس ، وانّه لا وجوب قبل الدلوك كما هو المتبادر من آية الصوم : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْط الأَبْيَض مِنَ الْخَيْطِ الأَسْود مِنَ الْفَجْر
).
الوجه الرابع
ذهب المحقّق الأردبيلي وتلميذه إلى أنّ
وجوب التعلم واجب نفسي تهيئي ، وبهذا تخلص عن الإشكال في الواجب المشروط ، فوجوب
التعلّم ليس وجوباً
__________________
مقدّمياً حتى يتبع
حدوثاً وبقاءً حدوث وجود ذيها ، بل واجب نفسي ، غاية الأمر المطلوب تهيّؤ المكلّف
للعمل بالأحكام ، وعلى ذلك فالعقاب على ترك التعلم فانّ المستتبع للعقاب إنّما هو
ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي وعندئذ يرتفع الإشكال.
يلاحظ عليه بوجوه :
١. انّ القول بأنّ التعلّم واجب نفسي
تهيؤي جمع بين الضدين ، إذ لو كان الملاك قائماً به فلماذا وصف بأنّه تهيؤي للغير؟
وإن لم يكن الملاك قائماً به ، فلماذا يكون واجباً نفسياً؟
فإن
قلت : إنّ صلاة الظهر واجب نفسي وفي الوقت
نفسه مقدمة لصحّة صلاة العصر.
قلت
: إنّ صلاة الظهر بما هي هي واجب نفسي فقط ، نعم تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر
مقدمة لصحّة الصلاة الثانية ، فما هو الموضوع للوجوب النفسي ، غير الموضوع للوجوب
المقدّمي بخلاف المقام فانّ التعلم بما هو هو واجب نفسي ، وفي الوقت نفسه تهيؤي.
٢. لو ترك الفحص وخالف الواقع مع وجود
البيان الواصل فالقول بأنّ العقاب لترك السؤال والتعلم دون مخالفة الواقع ، بعيد
جداً ، والقول بالعقابين أبعد ، فلا محيص عن كون العقاب على ترك الواقع ومخالفته
المنجز بمجرّد احتمال وجود البيان الواصل.
٣. انّ ما ذكراه مخالف لظهور الأدلّة
وقد مضى قوله 7
في تفسير قوله تعالى : (
فَلِلّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَة ) انّه يقال للعبد هل علمت؟ فإن قال :
نعم. يقال : فهلاّعملت؟ وإن قال : لا. قيل هلا تعلّمت حتى تعمل؟ إلى غير ذلك من
الروايات التي مرّ ذكرها ، التي تنادى بوضوح كون العلم مقدمة للعمل نعم معرفة
اللّه وصفاته
وأفعاله ، خارجة عن الموضوع فانّها واجبة عقلاً والمطلوب فيها هو العقيدة.
الموضع الثالث : في صحّة عمل
تارك الفحص
عنوان البحث يعرب عن اختصاصه بالمجتهد
الذي عمل بالأصل قبل الفحص ، فهل يحكم على عمله بالصحة أو لا ، أو فيه تفصيل؟
ولكنّ ملاكه يعمّ المقلِّد الذي عمل بلا تقليد ولا احتياط. وقد طرح السيد
الطباطبائي كلا العنوانين في كتابه العروة الوثقى في أحكام التقليد في المسألة
السابعة ، غير أنّه خصّها بما إذا لم ينكشف الخلاف ، كما خصّ المسألة السادسة عشرة
بما إذا انكشف الخلاف ، والمقصود في المقام هو ما إذا انكشف الواقع ، لأنّ حكم
الموضوع قبل الانكشاف واضح ، وهو أنّه لا يصحّ له أن يقتصر بما عمل بحكم العقل ،
لعدم المُؤمِّن من العقاب ، وهذا هو المراد من حكم السيد الطباطبائي على عمله
بالبطلان.
ثمّ الصور المتصورة فيما إذا انكشف
الخلاف أربع :
الصورة الأُولى
إذا انكشف أنّ العمل كان مخالفاً لفتوى
من يجب الرجوع إليه حين العمل وفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً ، فيحكم بالبطلان
لعدم الدليل على الصحّة ، فيجب تحصيل المؤمِّن من العقاب ، ولا يحصل إلا بتطبيق
العمل على الحجّة الفعلية.
الصورة الثانية
إذا كان العمل موافقاً لفتوى من كان
عليه الرجوع حين العمل ، وفتوى من
يجب عليه الرجوع
فعلاً وذلك لموت الأوّل وتعيّن الرجوع إلى المجتهد الحي فيحكم بالصحة ، كما في
المعاملات مطلقاً ، وفي العبادات إذا تمشّت منه القربة ، لأنّ الصحّة في الأُولى
رهن المطابقة ، وفي الثانية كذلك بشرط حصول قصد القربة.
الصورة الثالثة
أن يكون العمل موافقاً لفتوى من كان
الرجوع إليه واجباً حين العمل ، ومخالفاً لفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً ، ففيه
وجهان :
الأوّل
: الصحّة ، لكونه موافقاً لرأي من كان الرجوع إليه واجباً ، لأنّها تدور على
موافقة العمل للواقع والكاشف عنها رأي المجتهد آنذاك.
الثاني
: البطلان ، وذلك لأنّ الحكم بالصحة فرع الاستناد إلى الحجّة الشرعية حين العمل
حتى يدخل في معقد الإجماع على صحّة عمل العامي المستند لرأي المفتي فلا يضرّه تبدل
رأيه أو موته ورجوعه إلى من يخالفه في الرأي ، لوجود الإجماع على الإجزاء والمفروض
أنّه لم يستند إليه ، حتى يدخل في معقد الإجماع ، وانحصر الطريق إلى كشف الموافقة
والمخالفة في رأي المجتهد الحيّ ، أعني : من يجب عليه الرجوع ، والمفروض أنّ العمل
حسب نظره باطل ، فلابدّ من تطبيق العمل على وفق رأيه.
وبذلك يعلم حكم ما إذا فاتت فريضة
الإنسان وأراد القضاء ، فانّه يجب عليه تطبيق العمل على رأي من يجب الرجوع إليه
حين القضاء ، لا على رأي من كان عليه الرجوع حين الفوت ، وذلك لأنّ الفائت وإن كان
هو الواجب الواقعي إلا أنّ الطريق إليه هو رأي المجتهد الحي ، لا رأي من مضى
وتُوفِّي فانّه ليس بحجّة.
الصورة الرابعة
عكس الثالثة ، فيحكم على العمل بالصحة
لقيام الطريق على كون العمل مطابقاً للواقع.
وبذلك يعلم حكم المجتهد ، فإذا كان عمله
مطابقاً لما استنبطه من الحكم بعد العمل فيحكم بالصحة دون ما إذا كان مخالفاً له.
وما ذكرنا هو الضابطة في الحكم بالصحة
والبطلان لكن اتّفق الأصحاب على صحّة عمل الجاهل في موضعين إذا خالف الواقع وعدم
جواز الإعادة مع الحكم بالعقاب.
١. الإتمام موضع القصر دون العكس.
٢. الجهر في موضع المخافتة وبالعكس.
فوقع الكلام في كيفية الجمع بين الصحّة
واستحقاق العقاب ، فانّ الحكم بالصحّة ، آية القبول ولا معنى معه للعقاب.
وبعبارة أُخرى ، انّ الجمع بين عدم
الإعادة والقضاء ، واستحقاق العقاب ، جمع بين المتناقضين ، لأنّ الحكم بالأوّل
دليل على أنّ العمل واف بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع ، ولذلك حكم
عليه بعدم الإعادة والقضاء ، كما أنّ الحكم بالعقاب دليل على عدم وفاء العمل
المأتي به ، بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع. ومع ذلك فكيف يجمع بين
الأمرين.
وقد حاول المحقّقون من عصر الشيخ الكبير
كاشف الغطاء ، إلى عصرنا ، أن يجمعوا بين الصحّة والعقاب بوجوه ، نذكر ما ذكره
الشيخ الأنصاري ، ثمّ نردفه ببعض الكلمات.
قد أجاب الشيخ عن الإشكال باحتمالات
ثلاثة :
أ : منع تعلّق التكليف فعلاً بالواقع
المتروك ، وأنّ المأتي به هو المأمور به.
ب : منع تعلّقه بالمأتي به ، وانّ
الواجب هو الواقع المتروك.
ج : منع التنافي بينهما ، بالأمر
بالواقع المتروك أوّلاً ، والمأتي به ثانياً عند عصيان الأمر الأوّل ، وهذا هو
المسمّى بالترتب.
وردّ
الأوّل : بأنّه خلاف ظاهر المشهور ، حيث إنّهم
يقولون ببقاء التكليف المجهول بالنسبة إلى الجاهل.
وردّ
الثاني : بأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المأتي
به هو المأمور به ، حيث ورد في من جهر محل المخافتة أو بالعكس ، « وقد تمّت صلاته
».
والثالث
: مبني على صحّة الترتّب أوّلاً ، وليس المقام من موارده ثانياً.
وقد اختار المحقّق الخراساني الوجه
الثاني من هذه الوجوه ـ أي انّ الواجب هو الواقع المتروك ـ وأوضحه بقوله : إنّما
حكم بالصحة لأجل اشتمال غير المأمور به على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها
، مهمة في حدّ ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها ،
لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل الأتم.
وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع
التمكّن من الإعادة فلأنّها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال
لاستيفاء المصلحة التي كانت في
__________________
المأموربه.
وهو 1
دفع الإشكال بحذافيره.
أمّا الصحّة فلأجل عدم توقفها على الأمر
، بل يكفي فيها الملاك وهو اشتمال العمل على مصلحة تامة ولازمة الاستيفاء ، وإن
كانت دون الأُخرى ، وأمّا عدم الإعادة فللتدافع بين الملاكين ، كما إذا أمر المولى
عبده بإطعام الضيف باللحم المشويّ فأطعمه بالخبز والجبن ، فلا يبقى مجال لإعادة
الإطعام ، وأمّا العقاب فلأنّه ترك المأمور به المشتمل على المصلحة الكاملة عن تقصير.
وأمّا ما استظهره الشيخ من أنّ ظاهر
الأوّل هو كونه مأموراً به ، فلا ظهور لقوله : « تمّت صلاته » سوى في الصحّة
والقبول ، لا في كونه مأموراً به ، ويؤيده ما ورد في نفس الرواية وفي رواية أُخرى
قوله : « إذا فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه » فهو ظاهر في قبول المأتي به
مكان الواقع إرفاقاً ومنّة.
وهذا الجواب أوضح الوجوه الثلاثة.
ما هو المختار عندنا في حلّ
الإشكال
الظاهر أنّ الأجوبة الثلاثة نابعة من
عدم الرجوع إلى الروايات ، إذ معه يظهر ما هو الحقّ في الجواب فنقول :
إنّ الجواب الماضي كان مبنيّاً على أنّ
الرباعية أقلُّ مصلحة من الثنائية ، ولكن الظاهر من الروايات تساويهما في المصلحة
، وإنّما أمر المسافر بالثنائية لغاية التخفيف ، روى الصدوق بسند معتبر عن الفضل
بن شاذان في حديث العلل التي سمعها من الرضا 7
قال : إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً هي عشر ركعات ،
والسبع إنّما زيدت فيها فخفّف اللّه عزّوجلّ عن
__________________
العبد تلك الزيادة
لموضع سفره وتعبه ونصبه ، واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته ، لئلاّ يشتغل عمّا
لابدّ منه من معيشته ، رحمة من اللّه عزّوجلّ وتعطفاً عليه ....
وعلى هذا لما لم تكن الرباعية بأقلّ
مصلحة من الثنائية وكان الأمر بالإعادة يناقض غرض الشارع ، قَبِلَ الرباعية مكانها
فيختلف هذا الجواب عن السابق بأمرين :
١. تساوي الصلاتين في المصلحة.
٢. عدم الأمر بالإعادة لأجل كونها
مخالفة لغرضه الذي هو التسهيل وتنافيه الإعادة.
وأمّا العقاب ، مع إمكان الإعادة في
الوقت ، فلم يرد فيه دليل صالح ، وإن ادعي الإجماع وليس في الروايات منه عين ولا
أثر ، والأصل في ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر 7 رجل صلى في السفر أربعاً أيعد أم لا؟ ،
قال : « إن كان قرئت عليه آية التقصير ، وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن
قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ».
فإن
قلت : لو كانت المصلحة متساوية ، فلماذا لا
يجوز الإتمام للعالم بالحكم مع وجود الملاك به؟
قلت
: إنّ العقل يحكم بحفظ أغراض الشارع ، وقد عرفت ما هو الغرض له في الأمر بالقصر ،
وكون الغرض عائداً إلى صالح العبد لا يسوِّغ المخالفة ، وفي بعض الروايات ما يشير
إلى أنّ العالم المتم رادّ لهدية الشارع وهو قبيح.
هذا وكان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي
1 يقول حول
أجوبة الشيخ
__________________
الأنصاري في هذا
المقام : بأنّ تذليل العقبات الصعاب في مباحث البراءة والاشتغال عاقه عن إعطاء
النظر الدقيق للبحث. ثمّ أشار إلى الأجوبة الثلاثة الماضية.
شرطان آخران للبراءة
ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين
آخرين :
الأوّل
: أن لا يكون إعمال الأصل موجباً لثبوت حكم شرعي آخر من جهة أُخرى مثل أن يقال : «
في أحد الإناءين المشتبهين ، الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه يوجب الحكم
بوجوب الاجتناب عن الآخر ، أو فيما علم بحدوث الكرية وملاقاة الماء بالنجاسة وشكّ
في تقدّم أحدهما على الآخر ، فانّ إعمال الأُصول في عدم تقدّم الكرية على الملاقاة
يوجب الاجتناب عن الملاقي.
إنّ ما ذكره ممنوع صغرى وكبرى.
أمّا
الأوّل : فلأنّ الأصل الجاري في هذه الأمثلة
هو الاستصحاب لا البراءة ومع غض النظر عن هذا ، فانّ الأُصول لا تجري في أطراف
العلم الإجمالي إمّا لعدم شمول أدلّة الأُصول لأطرافه ، أو شمولها ولكنها تسقط لأجل
التعارض ، أو لاستلزامه المخالفة العملية.
وأمّا
الثاني : فقد أورد عليه المحقّق الخراساني
بأنّ الإباحة الظاهرية ، أو رفع التكليف ، إذا كان موضوعاً أو ملازماً لثبوت حكم
آخر فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه كما لو نذر أن يعطي للفقير المال الحلال
ظاهراً فوجد مالاً تحت يده يحتمل أنّه لغيره نعم لو كان مترتباً على نفي التكليف
واقعاً له ، لا يترتب عليه ، وذلك لعدم الموضوع لا للاشتراط ، كما إذا نذر أن يعطي
للفقير الحلال الواقعي ، فلا يجب إذا ثبتت حليته بالأصل.
__________________
أقول
: ترتّب حكم على حكم على أقسام :
١. إذا لم يكن بين الحكمين ترتّب شرعي
كما في الأمثلة التي ذكرها الفاضل التوني ، فانّ الترتب هناك عقلي ، فانّ إجراء
الطهارة في أحد الإناءين يلازم عقلاً ـ بحكم العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ـ
نجاسـة الإناء الآخر ، أو نفي تقدّم أحد الحادثين يستلزم تقدّم الآخر للعلم بتقدّم
أحدهما.
٢. إذا كان بين الحكمين ترتّب شرعي ،
لكن كان الحكم الثاني مترتباً على الوجود الواقعي منه ، كما إذا نذر أنّه لو صلى
بماء طاهر واقعاً فعليه أن يطعم الفقير فتوضّأ بماء مشكوك محكوم بالطهارة ظاهراً.
٣. أن يكون الحكم مترتّباً على الأعم من
الطهارة الواقعية والظاهرية كوجوب الوضوء للصلاة المترتّب على الماء الطاهر واقعاً
أو ظاهراً.
٤. وربّما يتصوّر وجود قسم رابع وهو أن
يكون الحكم الواقعي مترتّباً على الحليّة الواقعية ، والظاهري على الحلية الظاهرية
، كوجوب الحجّ المترتّب على إباحة المال الذي يكون به مستطيعاً فلو حكم على إباحة
المال ظاهراً حكم بوجوب الحجّ ظاهراً ولو انكشف الخلاف ينكشف عدم وجوب الحجّ عليه
واقعاً ، وهذا بخلاف وجوب التوضّؤ فأنّه مترتّب على الإباحة الأعم.
يلاحظ
عليه : بعدم وجود إلزامين في المقام ، إلزام
ظاهري ، وإلزام واقعي ، بل إلزام واحد مترتّب على الاستطاعة الواقعية ، فإذا كشف
الخلاف ، كشف عن عدم الاستطاعة واقعاً ، نعم يحكم العقل بلزوم الحجّ عند ثبوت
إباحة المال ظاهراً لأجل تحصيل المؤمن وليس هو حكماً شرعياً.
الشرط الثاني لأصل البراءة
ذكر الفاضل التوني شرطاً ثانياً لأصل
البراءة ، وهو أن لا يضرّ بإجرائها
شخص آخر ، ومثّل
بالأُمور التالية :
١. فتح قفص طائر ، فطار.
٢. حبس شاة فمات ولدها.
٣. أمسك رجلاً ، فهربت دابته.
فانّ إعمال البراءة فيها موجب لتضرر
المالك فيندرج تحت قاعدة الإتلاف أو قوله : « لا ضرر ولا ضرار ».
يلاحظ عليه بأمرين :
الأوّل
: انّه لا موضوع للأصل مع وجود الدليل الاجتهادي ، لحكومة قاعدة « من أتلف مال
الغير فهو له ضامن » أو قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » على أصل البراءة أو ورودهما
عليها.
الثاني
: انّ حديث الرفع الذي هو من أهم أدلّة البراءة النقلية ، حديث امتنان فلا موضوع
له إذا كان على خلافه ، وأيّ امتنان بالحكم بعدم الضمان على فاتح القفص ، أو حابس
الشاة ، وممسك الرجل.
ثمّ إنّ القوم تبعاً للشيخ الأنصاري
ذيّلوا المقام ، بالبحث عن قاعدة « لا ضرر » سنداً ومفاداً وتفريعاً ، فبما أنّ
البحث فيها طويل الذيل أفردناها بالتأليف وأفرزناها عن سائر المباحث.
تمّ الكتاب ـ بحمد اللّه
تبارك وتعالى ـ في ثامن شهر شوّال المكرّم
من شهور عام ١٤١٩ من الهجرة
النبوية
والحمد للّه أوّلاً وآخراً
وظاهراً وباطناً
قم المشرفة ـ محمد الحسين
الحاج العاملي ـ عُفي عنه ـ
فهرس المواضيع
كلمة شيخنا المحاضر ـ مدّ ظلّه ـ........................................ ٥
كلمة المقرّر................................................................ ٧
المقصد السادس : في الحجج الشرعية ...........٩
في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد......................................... ١٠
التقسيم الثُنائي في كلام المحقّق الخراساني..................................... ١١
القضاء بين الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني............................... ١٣
انحصار الأُصول العملية في الأربعة ، استقرائيّ................................ ١٤
حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي.................................. ١٤
الأمر
الأوّل : في أحكام القطع............................................... ٢٠
في وجوب متابعة القطع................................................. ٢٠
القطع حجّة لغوية لا
منطقية ولا أُصولية.................................. ٢٣
عدم جواز المنع عن
العمل بالقطع ، والأحكام الأربعة للقطع................. ٢٦
الأمر
الثاني : في التجرّي..................................................... ٢٨
التجرّي لغةً
واصطلاحاً وهل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟............ ٢٨
الأوّل : حكم نفس
التجري وحكم المتجرّى به............................ ٣٠
أسئلة ثلاثة وأجوبتها................................................... ٣٨
السؤال الأوّل : حكم
التجرّي في الآيات والروايات..................... ٣٨
السؤال الثاني : في
تفصيل صاحب الفصول............................. ٤٧
السؤال الثالث : هل
ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟...................... ٤٨
الأمر
الثالث : في أقسام القطع............................................... ٤٩
تقسيمه إلى طريقي
وموضوعي........................................... ٤٩
تقسيمه إلى طريقي
ووصفي............................................. ٤٩
تقسيمه إلى تمام
الموضوع وجزئه......................................... ٥١
قيام الأمارات مكان
القطع.............................................. ٥٣
في إمكان التنزيل ،
ووقوعه.............................................. ٥٤
في قيام الأُصول
العملية مقام القطع....................................... ٥٧
صحّة الجمع بين
التنزيلين بنحو الملازمة العرفية............................. ٥٩
الأمر
الرابع : في القطع والظن الموضوعيين.................................... ٦٤
في أقسام القطع
الموضوعي............................................... ٦٤
في أقسام الظن المأخوذ
في الموضوع....................................... ٦٨
الأمر
الخامس : في وجوب الموافقة الالتزامية.................................. ٧١
تحرير محلّ النزاع
ووجوب الموافقة الالتزامية............................... ٧٢
ثمرات المسألة أُصولية
وفقهية............................................ ٧٦
الأمر
السادس : حكم قطع القطاع........................................... ٨٠
الأمر
السابع : حجّية العقل في مجالات خاصة................................. ٨٣
مقدمات تمهيدية للدخول
في صلب الموضوع............................... ٨٤
المقام الأوّل :
استكشاف حكم الشرع في المستقلات العقلية................. ٨٦
المقام الثاني :
استكشاف الحكم الشرعي من طريق درك مناطات الأحكام..... ٨٨
تطبيقات.............................................................. ٨٩
ما استدل به على عدم
حجيّة العقل ونقده................................. ٩١
الأمر
الثامن : العلم الإجمالي تنجيزاً وامتثالاً................................... ٩٧
حكم الامتثال الإجمالي
في مقابل الظن التفصيلي.......................... ١٠٥
الحجج والأمارات الشرعية
المقام
الأوّل : إمكان التعبّد بالظن وما هو المراد من الإمكان.................. ١١٠
دليل القائل بامتناع
التعبّد بالظن........................................ ١١٢
الجواب عن أدلة
القائلين بامتناع التعبد.................................. ١١٣
محاذير التعبد بالظن
مبدأً وملاكاً وخطاباً................................ ١١٩
تحليل جديد للمحاذير................................................. ١٢٠
المقام
الثاني : في وقوع التعبّد بالظن......................................... ١٢٤
١. حجّية الظواهر
حجّية الظواهر وفيها جهات : ........................................... ١٢٨
الجهة الأُولى : في
أنّ الظواهر من القطعيات.............................. ١٢٩
الجهة الثانية : في
تقيّد الحجّية بالظن.................................... ١٣٣
الجهة الثالثة : حجّية
الظواهر لمن قصد إفهامه ومن لم يقصد............... ١٣٣
الجهة الرابعة : في
حجّية ظواهر الكتاب................................. ١٣٧
الأدلة الثمانية على حجّية ظواهر الكتاب.................................. ١٣٨
أدلة الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب............................. ١٤٥
٢. حجّية قول اللغوي
ما هو المراد من أصالة الظهور؟........................................... ١٥٣
انعقاد السيرة على الرجوع إلى قول اللغوي................................. ١٥٦
تقسيم المعاجم اللغوية إلى قسمين.......................................... ١٥٧
الاستدلال بالانسداد الصغير وجوابه....................................... ١٥٩
٣. الإجماع المنقول بخبر الواحد
المقام
الأوّل : الإجماع المحصّل عند أهل السنّة............................... ١٦١
مكانة الإجماع في
الفقه السنّي.......................................... ١٦٢
الإجماعل عند السنة من
مصادر التشريع وأدلته.......................... ١٦٥
حجّية الإجماع حسب
أُصول الإمامية................................... ١٦٩
استكشاف قوله 7 بقاعدة اللطف................................... ١٧٠
استكشاف قول المعصوم
من طرق أُخرى................................ ١٧٣
كشف الإجماع عن وجود
الدليل المعتبر................................. ١٧٥
كشف الإجماع عن شهرة
الحكم عند أصحاب الأئمّة.................... ١٧٦
المقام
الثاني : في حجّية الإجماع المنقول...................................... ١٧٧
أقسام الإجماع المنقول................................................. ١٧٨
تقييم الإجماعات
الواردة في كتب القدماء............................... ١٨٠
حكم الإجماع المنقولة
المتعارضة........................................ ١٨٥
٤. الشهرة الفتوائية
أقسام
الشهرة : روائية وعملية وفتوائية..................................... ١٨٨
الاستدلال على حجّية
الشهرة الفتوائية.................................. ١٨٩
الشهرة العملية من
مميزات الحجّة عن اللا حجّة.......................... ١٩٢
الشهرة العملية جابرة
لضعف الرواية.................................... ١٩٢
إعراض المشهور عن
الرواية كاسر لحجّيتها.............................. ١٩٤
الشهرة الفتوائية
المجرّدة عن الرواية حجّة................................. ١٩٥
٥. في حجّية الخبر الواحد
الاحتجاج يقوم على أُسس أربعة.......................................... ١٩٩
أدلّة نفاة الحجّية الخبر الواحد من الكتاب والسنة والإجماع
والإجابة عنها...... ٢٠٣
١. الاستدلال على
حجّية خبر الواحد من الكتاب........................ ٢١٥
الآية الأُولى :
الاستدلال بآية النبأ وصفاً وشرطاً....................... ٢١٦
إشكالات مثارة حول
الاستدلال بآية النبأ............................ ٢٢٢
الآية الثانية : آية
النفر وكيفية الاستدلال بها.......................... ٢٣٧
الآية الثالثة : آية
الكتمان........................................... ٢٤٨
الآية الرابعة : آية
السؤال........................................... ٢٤٩
الآية الخامسة : آية
الأُذن........................................... ٢٥٤
٢. الاستدلال على
حجّية خبر الواحد من السنة......................... ٢٥٨
ذكر طوائف خمس من
الروايات الدالة على حجّية خبر الواحد............. ٢٥٩
كيفية الاستدلال بها.................................................. ٢٦٥
٣. الاستدلال على
حجّية الخبر الواحد من الإجماع....................... ٢٦٩
الاحتجاج بالسيرة
العقلائية............................................ ٢٧٠
٤. الاستدلال على
حجّية الخبر الواحد من العقل......................... ٢٧٥
إجراء الانسداد الصغير
في مورد الأخبار................................. ٢٧٥
إجراء دليل الانسداد
في خصوص الأجزاء............................... ٢٧٩
٦. العرف والسيرة
شرط الاستدلال بالسيرة على الحكم الشرعي.............................. ٢٨٥
العرف مرجع في تبيين المفاهيم وتشخيص المصاديق.......................... ٢٨٧
الأعراف الخاصة حجة................................................... ٢٨٩
إمضاء النبي 6 لبعض الأعراف...................................... ٢٩١
تفسير خاطئ للشيخ عبد الوهاب خلاف.................................. ٢٩١
حجّية مطلق الظن وعدمها................................................ ٢٩٣
١. تقرير دليل القدماء
على حجّية مطلق الظن ونقده..................... ٢٩٣
٢. تقرير دليل
المتأخرين على حجّية مطلق الظن ونقده.................... ٢٩٨
٣. تقرير شريف العلماء
على حجّية مطلق الظن......................... ٢٩٩
٤. دليل الانسداد على
حجّية مطلق الظن............................... ٣٠٠
تقرير مقدماته الخمس وتحليلها ........................................... ٣٠١
عدم حجّية الظن في العقائد............................................... ٣١٥
حكم الجاهل القاصر في تحصيل العلم...................................... ٣٢٠
هل الجاهل القاصر كافر؟................................................ ٣٢٤
الجاهل القاصر والحكم الوضعي........................................... ٣٢٥
هل الظن جابر وموهن ومرجح؟.......................................... ٣٢٦
المقصد السابع : في الأُصول العملية
بيان مجاري الأُصول..................................................... ٣٣١
الأصل الأوّل : أصل البراءة .........٣٣٥
الاستدلال على البراءة بآية التعذيب....................................... ٣٣٧
الاستدلال على البراءة بآية الإيتاء......................................... ٣٤٢
الاستدلال على البراءة بآية الاضلال فرع البيان............................. ٣٤٤
الاستدلال على البراءة بآية الهلاك بعد البيّنة................................ ٣٤٦
الاستدلال على البراءة بالسنّة............................................. ٣٤٧
١. حديث الرفع..................................................... ٣٤٧
الفرق بين الرفع
والدفع............................................. ٣٤٨
تصحيح نسبة الرفع إلى
التسعة مع وجودها........................... ٣٥٠
ما هو المرفوع ثبوتاً................................................. ٣٥١
المرفوع هو عموم
الآثار............................................. ٣٥٤
عموم الموصول للحكم
والموضوع المجهولين............................ ٣٥٦
اختصاص الحديث بالرفع
الامتناني................................... ٣٦٠
المرفوع آثار المعنون
لا آثار العناوين.................................. ٣٦١
عدم اختصاصه بالأُمور
الوجودية.................................... ٣٦٣
الكلام في النسيان.................................................. ٣٦٥
الكلام في الاضطرار
والإكراه....................................... ٣٦٩
٢. حديث الحجب................................................... ٣٧٣
٣. حديث السعة..................................................... ٣٧٥
٤. حديث الحل الأوّل................................................ ٣٧٨
٥. حديث الحل الثاني................................................. ٣٨١
٦. حديث إطلاق الأشياء............................................. ٣٨٤
٧. حديث الجهالة.................................................... ٣٨٧
الاستدلال بالإجماع..................................................... ٣٨٩
الاستدلال بحكم العقل................................................... ٣٩٠
أدلّة الأخباري على
وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية............... ٣٩٥
الاستدلال بطوائف من الآيات............................................ ٣٩٦
الاستدلال بالسنّة على وجوب الاحتياط................................... ٣٩٨
الاستدلال بالعقل والعلم الإجمالي.......................................... ٤٠٨
انحلال العلم الإجمالي
وأقسامه.......................................... ٤١٢
استقلال العقل بالحظر
في الأفعال....................................... ٤١٤
احتمال المضرة في
ارتكاب الشبهة...................................... ٤١٧
تنبيهات
التنبيه
الأوّل : حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي................ ٤١٧
استصحاب عدم التذكية
بصوره المختلفة في الشبهة الحكمية............... ٤١٩
استصحاب عدم القابلية............................................... ٤٢٢
استصحاب عدم التذكية
في الشبهة الموضوعية............................ ٤٢٨
التنبيه
الثاني : في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب وغير الاستحباب... ٤٣٠
التنبيه
الثالث : التسامح في أدلّة السنن...................................... ٤٣٤
دراسة مدلول روايات
التسامح......................................... ٤٣٥
نقل نظريات الشيخ حول
القاعدة....................................... ٤٣٨
ثمرات المسألة........................................................ ٤٤٣
التنبيه
الرابع : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية............. ٤٤٥
التنبيه
الخامس : في تحديد رجحان الاحتياط................................. ٤٤٨
الأصل الثاني : أصالة التخيير
المقام
الأوّل : دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات...................... ٤٥٢
الأقوال المختلفة حول
دوران الأمر بين المحذورين......................... ٤٥٣
هل التخيير بدئي أو
استمراري......................................... ٤٦٠
في تقديم محتمل
الأهمية................................................ ٤٦١
المقام
الثاني : في دوارن الأمر بين المحذورين في التعبديات..................... ٤٦٢
أصالة التخيير في الشكّ
في المكلّف به................................... ٤٦٣
الأصل الثالث : أصالة الاحتياط .........٤٦٥
تبيين مجرى أصالة الاحتياط.............................................. ٤٦٦
الشبهة التحريمية المحصورة من الشكّ في المكلّف به.......................... ٤٦٩
المقام
الأوّل : إمكان جعل الترخيص ثبوتاً................................... ٤٧٠
المقام
الثاني : في وقوع الترخيص........................................... ٤٧٣
تنبيهات .........٤٨١
التنبيه
الأوّل : في الاضطرار إلى أحد الأطراف.............................. ٤٨١
التنبيه
الثاني : في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء..................... ٤٨٩
التنبيه
الثالث : في الشبهة غير المحصورة..................................... ٥٠٥
التنبيه
الرابع : في حكم ملاقي الشبهة المحصورة.............................. ٥٢٥
دوران الأمر بين الأقل
والأكثر......................................... ٥٤٨
جريان البراءة العقلية.................................................. ٥٤٩
أدلّة القائلين
بالاشتغال................................................ ٥٥٧
أدلّة القائلين بجريان
البراءة الشرعية..................................... ٥٦٦
الشكّ في الأجزاء
التحليلية............................................. ٥٦٨
الكلام في الشكّ في
المحصِّل............................................ ٥٧٥
الشبهة الموضوعية في
الأقل والأكثر الارتباطيين........................... ٥٧٧
تنبيهات .........٥٨١
التنبيه
الأوّل : في النقيصة السهوية......................................... ٥٨١
التنبيه
الثاني : في حكم الزيادة عمداً أو سهواً............................... ٥٩٣
التنبيه
الثالث : في الاضطرار إلى ترك الجزء والشرط......................... ٦١٥
الاستدلال على قاعدة
الميسور كتاباً وسنة............................... ٦٢١
خاتمة في شرائط جريان
الأُصول........................................ ٦٣٤
الشرط الأوّل : لزوم
الفحص عن الدليل الاجتهادي...................... ٦٣٦
شرطان
آخران للبراءة..................................................... ٦٥٧
|