بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المؤلف

[رب أنعمت فزد (١)]

قال مولانا الداعي إلى الله ، أبو عبد الله «محمد بن عمر بن الحسين» الرازي ـ قدس الله روحه [ونور ضريحه (٢)] ـ :

الحمد لله المتعالي بكبريائه عن علائق [عقول (٣)] المخلوقات ، المتعظم بسناء صمديته عن مناسبة الكائنات والممكنات. مبدع المفردات والمركبات ، ومخترع الذوات والصفات ، وموجد الحيوان والنبات ، ومقدر الحركات والسكنات ، ومنشئ الباقيات والمتغيرات. داحى المدحوات ، وسامك المسموكات ، ومصلح أحوال الأحياء والأموات ، ومحصل الأرزاق والأقوات ، في جميع الأو قات. تقدست حياته عن السقم والألم والممات ، وتنزهت حكمته عن الشكوك والأوهام والشبهات. وتبرأت إرادته عن الميول والأمانى والشهوات ، وتعالت قدرته عن الاحتياج إلى الآلات والأدوات ، وتعظمت خلاقيته عن جر المنافع والخيرات ، ودفع المضار والآفات. يرزق الوحوش في الفلوات ، ويحفظ الحيتان في قعور البحار الزاخرات ، ويعلم ذرات الأمواج

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ل).

المتلاطمات ، ويخلص المتحيرين من معضلات البليات ، ويجيب المضطرين عند الإخلاص في الدعوات. فبوجوب وجوده تقطع سلسلة الحاجات ، وبجود جوده يتناهى تصاعد درجات الافتقارات والضرورات.

فسبحانه. هو الله الذي لا يعزب عن فضاء قضائه مثقال ذرة في الأرض [ولا (١)] في السموات.

أحمده. على ما أفاض علينا من الخيرات ، ودفع عنا من البليات.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبقى آثار أنوارها على كرور الدهور والشهور والساعات وتترقى آثار بيناتها إلى مصاعد الخيرات ، ومعارج البركات.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المؤيد بأظهر المعجزات ، وأبهر البراهين والبينات. وهو القرآن العظيم ، البالغ في كمال الفصاحة إلى أبلغ الغايات ، وأقصى النهايات ، وعلى آله وأصحابه ، صلاة توجب لهم مزيد الدرجات والكرامات. وسلم تسليما.

«أما بعد».

فهذا كتاب في غاية الجلالة والمرتبة ، ونهاية الشرف والمنقبة ، لاشتماله على جميع المباحث التي لا بد من عرفانها في مسألة الجبر والقدر ، ووصلت إليها غايات القدر. متوسلا به إلى رضوان الله العظيم ، وإحسانه العميم. وسألت الله سبحانه أن يعصمني من الغواية في الرواية ، ويسعدني بالإعانة على الإبانة. إنه خير موفق ومعين.

ومجموع (٢) الكتاب مشتمل على مسألة «خلق الأفعال» والكلام في هذه المسألة مرتب على مقدمة وأبواب.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) عبارة الأصل : ومجموع الكتاب مشتمل على ثلاث مسائل : أ ـ في خلق الأفعال. ب ـ في إرادة الكائنات. ج ـ في الحسن والقبح. وبالله التوفيق المسألة الأولى في خلق الأفعال. والكلام في هذه المسألة مرتب على مقدمة وأبواب ... الخ. وليس في الكتاب كله إلا المسألة الأولى.

خلق الأفعال

المقدمة

في

بيان تفاصيل مذاهب الناس في هذا الباب

أعلم : أنا نعلم بالضرورة : أن القادر على الفعل إذا دعاه الداعي إليه ، ولم يمنعه منه مانع. فإنه يحصل ذلك الفعل. وهذا القدر معلوم.

ثم اختلف العقلاء بعد ذلك على أقوال :

القول الأول : إن المؤثر في حصول هذا الفعل ، هو قدرة الله تعالى ، وليس لقدرة العبد في وجوده أثر. وهذا قول «أبي الحسن الأشعري (١) وأكثر

__________________

(١) رأى الأشعري المتوفى سنة ٣٢٤ : أن العبد منفذ لما كتبه الله عليه من قبل أن يولد من بطن أمه. ودليله على ذلك الحديث الذي رواه في كتاب الإبانة من أن الملك يكتب العمر والرزق والشقاوة أو السعادة للمرء من قبل ولادته. ثم إن الأشعري موه على رأيه هذا لئلا يتهمه الناس بالجبر ، بقوله بنظرية الكسب. ومعناها : أن قدرة الله (القديمة) تقترن بقدرة العبد (الحادثة) حال حصول الفعل. وللإنسان كسب ، لأنه وضع يده على الفعل. والحق : أن الكسب لا حقيقة له. لأنه إذا اقترنت قدرة الله مع قدرة الانسان ، فقدرة الله هي التي ستغلب. وإذا ظهر أن العبد لا قدرة له ، ظهر أن مذهب الأشعري هو مذهب الجبرية. وفي ذلك يقول الشاعر

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام :

الكسب ، عند الأشعري ، والحال

عند البيهشي ، وطفرة ، النظام

يقول الأشعري ـ نقلا عن الشهرستاني ـ : «إن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها : الفعل الحاصل ، إذا أراده العبد وتجرد له ، وسمى هذا الفعل كسبا فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا وكسبا من العبد مجعولا تحت قدرته».

أتباعه. كالقاضي «أبي بكر الباقلاني (١) و «ابن فورك» ثم حصل هاهنا بين «الأشعري» وبين «القاضي» اختلاف من وجه آخر. فقال الأشعري : قدرة العبد كما لم تؤثر في وجود الفعل البتة ، لم تؤثر أيضا في شيء من صفات ذلك الفعل وقال القاضي : «قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود ذلك الفعل ، إلا أنها أثرت في صفة من صفات ذلك الفعل ، وتلك الصفة هي المسماة بالكسب» قال : «وذلك لأن الحركة التي هي [طاعة والحركة التي هي (٢)] معصية قد اشتركا في كون كل منهما حركة ، وامتازت إحداهما عن الأخرى بكونها طاعة أو معصية. وما به المشاركة غير ما به الممايزة. فثبت : ان كونها حركة غير ، وكونها طاعة أو معصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله تعالى. أما كونها طاعة أو معصية فهو صفة واقعة بقدرة العبد».

هذا تلخيص مذهب «القاضي» على أحسن الوجوه.

القول الثاني : إن المؤثر في وجود ذلك الفعل هو قدرة الله تعالى ، مع قدرة العبد.

ثم هاهنا احتمالان :

أحدهما : أن يقال : إن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير [وقدرة العبد أيضا مستقلة بالتأثير (٣)] إلا أن اجتماع المؤثرين المستقلين على الأثر الواحد : جائز(٤).

__________________

(١) «والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا. فقال : «الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست تقصر صفات الفعل أو وجوده واعتباراته على جهة الحدوث فقط. بل هاهنا وجوه أخر ، وراء الحدوث من كون الجوهر متحيزا قابلا للعرض ، ومن كون العرض عرضا ولونا وسوادا وغير ذلك. وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال» قال : «فجهة كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها : نسبة خاصة ، يسمى ذلك كسبا. وذلك هو أثر القدرة الحادثة» قال : «فإذا جاز على أصل المعتزلة أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال هو الحدوث والوجود ، أو في وجه من وجوه الفعل. فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل ، وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة؟»

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) في كتاب «الإبانة عن أصول الديانة» استدل الأشعري بهذا الحديث :

والثاني : أن يقال : قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير ، وقدرة العبد غير مستقلة بالتأثير ، وإذا انضمت قدرة الله تعالى إلى قدرة العبد ، صارت قدرة العبد مستقلة بالتأثير بتوسط هذه الإعانة. ويقال إن هذا القول هو مذهب الأستاذ «أبي إسحاق» إلا أنه يحكى عنه أنه قال «قدرة العبد تؤثر بمعنى».

والقول الثالث : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة مع الداعي واجب. وذلك لأن القادر من حيث إنه قادر يمكنه الفعل بدلا عن الترك ، وبالعكس. ومع حصول هذا الاستواء ، يمتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر. فإذا انضاف إليها (١) حصول الداعي : حصل رجحان جانب الوجود. وعند ذلك يصير الفعل واجب الوقوع. وهذا القول هو المختار عندنا.

ثم القائلون بهذا القول. إما أن يقولوا : المؤثر في دخول الفعل في الوجود : مجموع القدرة مع الداعي ، وإما أن يقولوا : ليس المؤثر في دخول الفعل في الوجود هو مجموع القدرة والداعي. وهؤلاء أيضا فريقان :

فأما الذين زعموا : أن مدبر [هذا (٢)] العالم موجب بالذات. قالوا : إن عند حصول القدرة مع الداعي يحصل الاستعداد التام ، لدخول ذلك الفعل في الوجود إلا أن هذه القوى الجسمانية ليست لها صلاحية الإيجاد والتأثير فعند حصول الاستعداد التام يفيض الوجود من واهب الصور ، على تلك الماهيات وتصير موجودة. فحصول القدرة والداعي يفيد الاستعداد التام. وأما الوجود والحصول ، فذاك من واهب الصور. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة.

وأما الذين زعموا : أن مدبر هذا العالم فاعل مختار. قالوا : إن مجموع

__________________

ـ «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه : أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا ، ويؤمر بأربع كلمات ، ويقال له : اكتب عمله ورزقه وأجله وشقى أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح» والحديث صريح في إثبات مذهب الجبر ، والحديث أيضا صريح في إنكار «الكسب» الذي قال به الأشعري للتوفيق بين الحنابلة وبين المعتزلة. وصريح في إنكار «صورة الفعل» عند الباقلاني وصريح في إنكار «السبب والمسبب» عند الجويني وموافق لرأي الغزالي.

(١) أي القدرة.

(٢) سقط (ط ، ل).

القدرة والداعي يستلزم حصول الفعل ، إلا أن الملزوم واللازم إنما يحصلان بقدرة الله تعالى كما أن الجوهر والعرض متلازمان ، ومع ذلك فإنهما لا يوجدان إلا بقدرة الله تعالى.

والقول الرابع : إن المؤثر في حصول الفعل هو قدرة العبد على سبيل الاستقلال. وهذا هو قول المعتزلة (١) ثم هؤلاء اختلفوا في مواضع :

فالأول : إن تأثير القدرة في حصول الفعل. هل هو موقوف على حصول الداعي؟ أما «أبو الحسين» فقد اضطرب قوله فيه. فكلما تكلم مع الفلاسفة في قولهم : لم خصص الله إحداث العالم بالوقت المعين ، دون ما قبله أو ما بعده؟ قال : «الفعل لا يتوقف على الداعي» وكلما تكلم في سائر المسائل مع أصحابه. قال : «الفعل يتوقف على الداعي ، وأن الرجحان من غير المرجح : باطل في بدائه العقول».

وأما مشايخ المعتزلة فأكثرهم [لا يوقفون (٢)] حصول الفعل على الداعي. ثم إذا قلنا : إن الفعل يتوقف على الداعي. فهل يصير الفعل واجب الوقوع عند حصول الداعية الخالصة؟ فالأليق بكلام «أبي الحسين» أنه يسلم الوجوب. وقال صاحبه «محمود الخوارزمي» : «إن الفعل عند (٣) حصول الداعي يترقى من حد التساوي ، ولكن لا ينتهي إلى حد الوجوب ، بل يصير أولى بالوقوع».

والثاني : إن العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري (٤) أو نظري؟ فالجمهور من مشايخ المعتزلة اتفقوا على أنه علم نظري. وأما «أبو

__________________

(١) يقول القاضي عبد الجبار في المجموع : «إن الفعل إنما يقع من أحدنا ، لمكان الدواعي. ولولاها لم يقع. فيجب أن يكون القادر ، من يصح اختصاص الدواعي به» [ص ٢٦ المجموع في المحيط بالتكليف]

(٢) سقط (ل).

(٣) في (م).

(٤) نظري أو ضروري (ط).

الحسين» فانه يزعم : أنه علم ضروري. وهو الذي اختاره «محمود الخوارزمي».

والثالث : إن الأقوال الثلاثة الأول مشتركة في القول بالجبر. لأن بتقدير صحة كل واحد من [تلك (١)] الأقوال الثلاثة ، لا يكون العبد مستقلا بالإيجاد. فإن صدور الفعل عن العبد إذا كان (٢) موقوفا على إعانة الله ، أو كان موقوفا على حصول القدرة مع الداعي ، أو كان بحال متى حصلت القدرة مع الداعية وجب الفعل. ومتى لم يحصلا ، أو لم يحصل واحد منهما امتنع وقوع الفعل فكان الجبر لازما.

فهذا هو القول في تفصيل المذاهب الممكنة في هذه المسألة. واعلم (٣) : أن هاهنا أبحاثا غامضة في تعيين محل النزاع ، لا بد من التنبيه (٤) عليها. وهي من وجوه :

فالبحث الأول : إن [المعتزلى (٥)] إما أن [يقول (٦)] : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة والداعي : واجب. أو يقول : إنه غير واجب. فإن قال : إنه واجب. فقد بطل الاعتزال بالكلية. لأن تلك الدواعي لا يمكن أن يستند كل واحد منها إلى داعية أخرى ، لامتناع التسلسل والدور. بل لا بد من انتهائها إلى داعية تحصل بفعل الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فنقول : عند حصول القدرة والداعية ، لما كان الفعل واجبا ، وعند فقدانها أحدهما لما كان الفعل ممتنعا : فحينئذ يلزم الجبر ، ولم يحصل للعبد استقلال ، لا بالفعل ولا بالترك في شيء. وأما إن قال المعتزلي : إن حصول الفعل عند حصول القدرة مع الداعي : غير واجب. فنقول : فعلى هذا

__________________

(١) سقط (م ، ل).

(٢) كان نفسه موقوفا (م).

(٣) والرابع : الأصل.

(٤) البينة (ط).

(٥) المعتزلة (ل).

(٦) يقولوا (ل).

التقدير. عند حصول مجموع القدرة مع الداعي ، يمكن أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض أن القدرة مع الداعي كان حاصلا ، واستمرا. ثم تارة حصل الفعل ، وأخرى لم يحصل. فهذا الحصول ما كان من العبد البتة ، بل كان لمحض الاتفاق من غير سبب. لأن مجموع القدرة والداعي لما حصل بتمامه. عند عدم الفعل تارة. وعند حصوله أخرى ، ولم يتجدد أمر من الأمور عند حدوث الفعل ، حتى يقال : الفعل إنما حدث في ذلك الوقت لأجله. فعلى هذا التقدير يكون (١) حدوث الفعل في ذلك الوقت محض الاتفاق ، ولم يكن ذلك في وسعه ، ولا في اختياره. وهذا أيضا : محض الجبر. لأنه لا سبيل له البتة إلى إيقاع الفعل ، بل إن اتفق وقوعه مع ذلك القدر من القدرة والداعي ، فقد وقع. وإن لم يتفق وقوعه لم يقع. ولم يكن البتة رجحان أحد الطرفين على الآخر ، بأمر من جهة العبد [البتة (٢)].

فثبت : أن المعتزلي. إن قال : إن وقوع الفعل عقيب القدرة والداعي : واجب [البتة (٣)] فقد قال بالجبر ، من حيث لا يشعر به [وإن قال : إنه غير واجب. فقد قال أيضا بالجبر ، من حيث لا يشعر به (٤)] فيثبت : أنه لا يمكنه أن يعبر عن نفي الجبر بعبارة معلومة ، إلا وتلك العبارة مشتملة على الجبر. فإن قال قائل : إني أقول : إن عند حصول القدرة والداعي يقع الفعل ، ولا أقول : إن ذلك الوقوع واجب أو غير واجب. وهذا القدر يكفيني في التعبير (٥) عن مذهبي. فنقول : هب أنك لا تذكر إلا الوقوع. إلا أنا نقول : ذلك الوقوع. إما أن يكون مع الوجوب ، أو لا مع الوجوب. وعلى كل من التقديرين : فالجبر لازم. فكان الجبر لازما على كل التقديرات.

__________________

(١) يكون كل (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (ط).

(٥) التعيين (ط).

فهذا بحث شريف لا بد من الوقوف عليه في هذا الباب.

البحث الثاني : لقائل من المعتزلة أن يقول : الجبر لا يتأتى إلا مع القول بكون الباري موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. لأن حاصل كلام الجبرية هو : أن عند حصول القدرة والداعية الخالصة يجب الفعل ، وعند فقدان هذا المجموع يمتنع الفعل. وهذا هو القول بالجبر. إلا أن هذا الكلام بعينه وارد في فاعلية الله. لأن كل ما لا بد منه في فاعلية الله تعالى. إن كان حاصلا في الأزل ، وجب حصول العالم معه ، وإن لم يكن أزليا ، افتقر حدوثه إلى سبب آخر ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود هذا السؤال.

قالوا : فثبت : أن دليلكم في إثبات الجبر ، إن تم وكمل فهو ، يوجب القول بالجبر شاهدا أو غائبا. وذلك يوجب القول بقدم العالم ، وبكونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. كما هو قول الفلاسفة.

وأما إن قلنا : إن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعية ، وإن توقف عليها لكن صدور الفعل عند حصول الداعية غير واجب. فهذا قول المعتزلة. وبطل القول بالجبر في الشاهد [والغائب (١)] فثبت : أن الحق. إما القول بالجبر شاهدا وغائبا ، كما هو قول الفلاسفة. أو القول بنفيه شاهدا وغائبا ، كما هو قول المعتزلة. فأما القول بإثباته في الشاهد ، ونفيه في الغائب ، كما هو قولكم فكلام متناقض.

فهذا هو الكلام الأقوى من جانبهم.

واعلم : أن بتقدير أن يتوجه على القول بالجبر هذا الإلزام ، إلا أن القول بالقدر يتوجه عليه ، ما هو أقبح [منه (٢)] وأفحش. وذلك لأنا بينا : أن القول بالقدر لا يتم إلا إذا قيل : إن رجحان الفاعلية على التاركية ، يحصل لا لمرجح. وعند هذا القول. إما أن يكون [الإمكان محوجا إلى مؤثر ، أو لا

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ط).

يكون (١)] كذلك. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لزم احتياج كل ممكن إلى المرجح. وعلى هذا ، يكون رجحان الفاعلية على التاركية ، لا بد وأن يكون معللا بعلة موجبة. وحينئذ يلزم الجبر. وأما إن كان الإمكان غير محوج إلى المرجح ، فعند ذلك لا خفاء أن يستدل بالإمكان على المؤثر. وحينئذ [يلزم (٢)] نفي الصانع بالكلية. سواء كان موجبا أو مختارا. فثبت أن [القول (٣)] الحق : إما القول باحتياج جميع الممكنات إلى المؤثر ، وحينئذ يلزم الجبر. أو القول باستغناء جميع الممكنات عن المؤثر ، وحينئذ يلزم نفي المؤثرات أصلا. فأما القول بأن الإمكان محوج إلى المؤثر في موضع دون موضع ، كما هو قول المعتزلة : فهو قول متناقض باطل. فثبت : أنه إن لزم على القول بالجبر : إثبات أن مؤثر العالم موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزم (٤) على القول بالقدر أن يكون رجحانا وجود العالم على عدمه لا لمؤثر أصلا ـ والأول ـ وإن كان قبيحا ـ فلا شك أن هذا الأخير أقبح منه ، وأفحش بكثير على أنا سنذكر الفرق اليقيني بين الشاهد والغائب إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث : إن كثيرا من المحققين قالوا : إن مسألة الجبر والقدر ، ليست [مسألة (٥)] مستقلة بنفسها ، بل هي بعينها مسألة إثبات الصانع. وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع تعالى ، هو أن الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح. فنقول : إن صحت هذه القضية ، وجب الحكم بافتقار كل الممكنات إلى المؤثر والمرجح. وحينئذ نقول : القدرة على الفعل ، وإن لم تكن صالحة للترك ، فالجبر لازم. وإن كانت صالحة للترك ، وجب أن لا يحصل رجحان الفاعلية على التاركية ، إلّا لمرجح. وذلك أيضا يوجب الجبر. فيثبت : أنه (٦) لو صلح قولنا : الممكن لا بد له من مرجح ، فالقول بالجبر لازم. وإن فسدت

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) (م ، ط).

(٣) من (م).

(٤) ولزم (ط).

(٥) سقط (ل).

(٦) أنه إن صح (ط ، ل).

هذه المقدمة ، فحينئذ يتعذر علينا الاستدلال بإمكان الممكنات على إثبات الصانع. فثبت: إما القول بالجبر ، وإما القول بنفي الصانع.

فأما الحكم بأن الإمكان محوج في بعض الصور إلى المرجح ، وفي صور أخرى غير محوج إلى المؤثر ـ كما هو قول المعتزلة ـ فهو قول فاسد. ومثال هذه المسألة : سلسلة مركبة من خلق متشابهة في الخلقة ، والصورة ، والقوة ، والضعف. فإذا كان التقدير ما ذكرناه. وامتنع مع هذا التقدير أن يحكم على بعض تلك الخلق بالقوة ، وعلى بعضها بالضعف ، فكذا هاهنا : ما سوى الواحد الأحد ، الحق ، الواجب لذاته : لا بد وأن يكون ممكنا لذاته. وكل الممكنات مشاركة في طبيعة الإمكان. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات ، وإن لم يكن محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات. فأما الحكم على بعضها بالاستغناء مع الاشتراك الكل في ماهية الإمكان ، فإنه محض التحكم (١) الباطل. وبالله التوفيق.

فهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.

واعلم : أنه كان يجب [علينا (٢)] أن نبتدئ في الاستدلال (٣) بكتاب [الله تعالى (٤)] ثم بسنة رسوله ثم بالدلائل العقلية. تقديما للنص. إلا أنا لما تأملنا ، وجدنا الاستدلال بتلك النصوص لا يظهر كل الظهور ، إلا بعد الإحاطة بتلك العقليات. فلهذا السبب قدمنا الدلائل العقلية.

وبالله التوفيق

__________________

(١) التحكيم (م ، ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) بالاستدلال (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

الباب الأول

في

تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال

العباد كلها بتقدير الله ،

وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك

أعلم : أن الدلائل المذكورة في هذا الباب. إما عامة في جميع أنواع الأفعال ، وإما خاصة ببعض أنواع الأفعال.

أما العامة. ففيها : ما يدل على أن العبد لا يستقل بالفعل والترك ، من غير بيان : أن قدرته. هل تؤثر أم لا؟ وفيها : ما يدلا على أن قدرة العبد غير مؤثرة. ولهذا السبب : رتبنا هذا الباب على فصول ثلاثة.

الفصل الأول

في

الدلائل الدالة على أن العبد

غير مستقل بنفسه بالفعل والترك

ولنا في هذه المسألة براهين :

البرهان الأول

أن نقول :

القادر على الفعل المخصوص. إما أن يصح منه الترك ، وإما أن لا يصح. والقسم الثاني يقتضي أن تكون تلك القدرة مستلزمة لذلك الفعل. وعند حصول تلك القدرة يجب الفعل ، وعند فقدانها يمتنع الفعل. فكان القول بالجبر لازما (١)

__________________

(١) وأما أفعال الناس فهم فيها مختلفون.

مذهب أكثرهم جمهور الأشعرية ـ : أن عند تحريك هذا القلم. خلق الله أربعة أعراض ، ليس منها عرض سببا للآخر. بل هي متقارنة في الوجود لا غير. العرض الأول : إرادتي أن أحرك القلم. والعرض الثاني : قدرتي على تحريكه. والعرض الثالث : نفس الحركة الإنسانية ـ أعني حركة اليد ـ والعرض الرابع : تحرك القلم. لأنهم زعموا : أن الإنسان إذا أراد شيئا ففعله ـ بزعمه ـ فقد خلقت له الإرادة ، وخلقت له القدرة على فعل ما أراد ، وخلق له الفعل. لأنه يفعل بالقدرة المخلوقة فيه ، ولا أثر لها في الفعل.

أما المعتزلة : فقالوا إنه يفعل بالقدرة المخلوقة فيه. وبعض الأشعرية قال : «للقدرة المخلوقة في الفعل أثر ما ، ولها به تعلق» ولكن أكثرهم استشنعوا ذلك. وهذه الإرادة المخلوقة ـ على زعم ـ كلهم ـ والقدرة المخلوقة. وكذلك الفعل المخلوق عند بعضهم. كل ذلك أعراض لا بقاء ـ

وأما القسم الأول : فنقول : لما كانت تلك القدرة صالحة للفعل والترك ، كان رجحان أحد [الطرفين على الآخر. إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف.

والقسم الثاني : يقتضي رجحان أحد (١)] طرفي الممكن المتساوى على الآخر ، لا لمرجح. وذلك يلزم منه نفي الصانع. وأيضا : فعلى هذا التقدير يكون وقوع الفعل بدلا عن الترك : محض الاتفاق ، ولم يكن مستندا إلى العبد. فيكون الجبر لازما.

وأما القسم الأول : فنقول : ذلك المرجح. إما أن يكون من العبد ، أو من غيره ، أولا منه ولا من غيره. لا جائز أن يكون من العبد. وإلّا عاد التقسيم الأول فيه ، ويلزم إما التسلسل وإما الجبر.

والقسم الثالث : فنقول : أيضا : باطل. لأنه يقتضي جواز حدوث الشيء ، لا لمحدث ، ولا لمؤثر. ويلزم منه نفي الصانع. ويلزم منه أيضا : القول الجبر ـ على ما بيناه ـ ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن ذلك المرجح ، إنما حدث بإحداث الغير. فنقول : ذلك المرجح إنما يكون مرجحا ، إذا اقتضى رجحان جانب الفعل على جانب الترك ، وعند حصول هذا الرجحان يجب الفعل. وذلك لأن طرف الترك ، حال كونه مساويا لطرف الفعل ، كان ممتنع الرجحان. فحال حصوله مرجوحا ، أولى أن يصير ممتنع الرجحان. وإذا

__________________

ـ لها. وإنما الله يخلق في هذا القلم تحركا بعد تحرك. هكذا دائما طالما القلم متحركا. فإذا سكن. لم يسكن حتى خلق الله فيه أيضا سكونا ، ولا يبرح يخلق فيه سكونا بعد سكون ، طالما القلم ساكنا ففي كل آن من تلك الآنات ـ أعني الأزمنة المنفردة ـ يخلق الله عرضا في جميع أشخاص الموجودات. من ملك وفلك وغيرهما ، هكذا دائما في كل حين.

وقالوا : إن هذا هو الإيمان الحقيقي بإن الله فاعل. ومن لم يعتقد أن هكذا يفعل الله ، فقد جحد كون الله فاعلا ـ على رأيهم» [دلالة الحائرين ص ٢٠٨].

ذكر هذا النص «موسى بن ميمون» وعلق عليه بقوله «في مثل هذه الاعتقادات يقال عندي وعند كل ذي عقل : «أم أنتم تخدعونه ، كما يخدع إنسان»؟ [١٢ : ٩] إذ هذا هو عين الخدعة حقيقة»

(١) من (ط ، ل)

صار (١) المرجوح ممتنعا ، صار الراجح واجبا. ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فثبت : أن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على أن يفعل غيره فيه هذا المرجح.

واعلم : أنه متى فعل ذلك الغير فيه ذلك المرجح ، وجب صدور الفعل عنه. فثبت : أن مجموع القدرة مع الداعي ، يوجب الفعل ، وأنه تعالى ، إن خلقهما : وجب الفعل. وإن لم يخلق مجموعهما : امتنع الفعل. فثبت : أن العبد غير مستقل بنفسه في الفعل وفي الترك. وهو مطلوب.

فإن قيل : هذا الاستدلال في مقابلة البديهيات ، فيكون مردودا.

بيان أنه في مقابلة البديهيات : إن على هذا التقدير ، متى حصل مجموع القدرة مع الداعي ، كان الفعل واجب الوقوع ، ولم يكن للعبد مكانة واختيار في الفعل. فعلى هذا التقدير ، يكون حال العبد دائرا بين أن يجب (٢) صدور الفعل عنه ، وبين أن يمتنع صدور الفعل عنه. وعلى هذا التقدير : يلزم أن لا يكون للعبد مكنة واختيار في الفعل والترك. وذلك باطل في بدائه العقول. لأننا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا أنا إن شئنا الفعل فعلنا ، وإن شئنا الترك تركنا. فثبت : أن ما ذكرتموه من الدليل : واقع في مقابلة البديهيات. فوجب أن لا يستحق الجواب.

سلّمنا : أن ما ذكرتم من الدليل غير واقع في مقابلة البديهيات ؛ إلا أننا نقول : هذا الدليل الذي ذكرتم ، مطرد بعينه في الغائب. وذلك لأن كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في العالم. إما أن يقال : إنه كان حاصلا في الأزل ، أو ما كان حاصلا في الأزل. فإن كان الاول ، فحينئذ يلزم أن يقال : إن مجموع الأمور التي لأجلها كان الباري مرجحا لوجود العالم على عدمه ، كان حاصلا في الأزل. وأنتم زعمتم : أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى : موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. وإن كان الثاني : نقلنا الكلام في

__________________

(١) كان (م).

(٢) يوجب (ط)

حدوث تلك الامور ، ولا يتسلسل. بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود الإلزام المذكور ، وهو كونه تعالى موجبا بالذات. ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : القادر على الفعل وعلى الترك : يمكنه أن يرجح جانب الفعل ، على جانب الترك. وبالعكس من غير مرجح. ألا ترى : أن الهارب من السبع ، إذا ظهر له طريقان متساويان. فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح. والعطشان إذا خير بين قدحين متساويين [فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح (١)] والجائع إذا خير بين أكل رغيفين. فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، لا لمرجح. فثبت : أن القادر يمكنه ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح (٢).

سلمنا : أنه لا بد في الفعل من الداعي ، وأن حصول تلك الداعية بخلق الله تعالى. لكن لم قلتم : إن عند حصول تلك الداعية : يجب الفعل؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن عند حصول تلك الداعية ، يصير الفعل أولى بالوقوع ، مع أنه لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب؟

بيانه : وهو القادر لما كانت نسبة قادريته إلى الضدين على السوية ، امتنع صدور أحدهما بدلا عن الثاني. لأن الاستواء يناقض الرجحان. أما إذا دعاه الداعي إلى فعل أحد الضدين ، صار ذلك الضد أولى بالوقوع. لكن بشرط أن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب. فلأجل أنه حصل الرجحان ، بسبب حصول تلك الداعية ، لا يلزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. ولأجل أن تلك الأولوية ، لما انتهت إلى حد الوجوب ، لم يلزم الجبر. وحصل الامتياز بين المؤثر الموجب بالذات ، وبين الفاعل بالاختيار. أما قوله : «إنه حال الاستواء ، لما كان ممتنع الوقوع ، كان حال المرجوحية أولى بالامتناع [وإذا امتنع (٣)] المرجوح ، وجب الراجح. ضرورة : أنه لا خروج عن النقيضين».

__________________

(١) زيادة

(٢) يقول القاضي عبد الجبار بعدم المرجح في حالة الإلجاء يقول : «إذا ألجئ إلى الهرب من السبع ، وهناك طرق ينجو بكلها ، فإنه يقدر على سلوك كل واحد منها ، بدلا من الآخر» [ص ٤٩ المجموع].

(٣) من (ط ، ل)

فنقول : هذا مغالطة. وذلك لأن الفعل كان معدوما. وعدمه كان مستمرا من الأزل إلى الأبد. والعدم المستمر لا يحتاج إلى المقتضى. فنقول : عند حصول الداعية المرجحة لجانب الوجود. الأولى دخوله في الوجود. وإن كان لا يمتنع بقاؤه على ذلك العدم الأصلي المستمر. ولا نقول : إن هذه القدرة إنما تترجح بسبب الداعية المرجوحة ، وهي (١) داعية الترك. لأن بقاء المعدوم على عدمه الأصلي ، لا يحتاج إلى مرجح ، بل يكون استمراره على ما كان عليه ، لنفسه. وعلى هذا التقدير ، فقد زال المحال الذي ذكرتموه.

والجواب عن السؤال الأول : إننا نسلم : أنا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا الفعل : فعلنا. وإن شئنا الترك : تركنا. ولكنا لا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا [أن نشأ (٢)] الفعل : حصلت لنا مشيئة الفعل. وإن شئنا أن نشأ الترك : حصلت لنا مشيئة الترك. وإلا لعاد الكلام في تلك المشيئة. ويلزم افتقارها إلى مشيئة ثالثة. ويلزم التسلسل. بل نجد قطعا ويقينا من أنفسنا : أنه قد يحصل في قلبنا مشيئة الفعل ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها [وقد يحصل مرة أخرى مشيئة الترك ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها (٣)] ونجد أيضا : أنه إذا حصلت المشيئة الجازمة للفعل ، في (٤) قلوبنا ، فإنه يحصل الفعل لا محالة. وإذا حصلت المشيئة الجازمة للترك في قلوبنا (٥) حصل الترك. فإذا اعتبرنا هذه الامور ، علمنا : أنه ليس حصول المشيئة فينا : بنا. وليس ترتب الفعل [الحصول (٦)] مشيئة الفعل : بنا بل هذه أمور مترتب بعضها على البعض. والمبدأ (٧) من خلق الله. فيكون الكل من الله. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الاعتبار الذي نجده من أنفسنا : من أدل الدلائل على أن الكل من الله ، وأن الانسان مضطر في صورة مختار.

وأما السؤال الثاني : وهو طلب الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين

__________________

(١) وهذه (م).

(٥) قلبنا (ط ، ل)

(٢) من (ط)

(٦) من (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٧) ومبدأ [الأصل]

(٤) حصلت في قلوبنا (م)

المؤثرات الاختيارية. فنقول : هذا الفرق حاصل من وجهين :

الأول : إن المؤثرات الطبيعية ، دائمة مستمرة غير مغيرة. فالمؤثر في التسخين يبقى أبدا موصوفا بالوجه الذي لأجله [كان (١)] موجبا للتسخين ، ولا يتغير. وكذا القول فيما يؤثر بالتبريد. بخلاف الأفعال الاختيارية. فإن الموجب للحركة يمنة : هو مجموع القدرة مع حصول الداعي إلى الحركة (٢)] يسرة. وهذه الدواعي سريعة التبدل والتغير. فالقادر إذا حصلت في قلبه داعية الحركة يمنة ، صار ذلك المجموع موجبا للحركة يمنة. ثم إن تلك الداعية تزول سريعا وتتبدل [بحصول (٣)] الداعية إلى الحركة يسرة. فيصير الآن هذا المجموع موجبا للحركة يسرة.

والحاصل أن في الأمور الطبيعية ما لأجله صار الشيء موجبا للتسخين يبقى ولا يتغير. وأما في الأمور الاختيارية فتلك الاختيارات سريعة التبدل والتغير. فهذا [هو (٤)] أحد الفريقين (٥).

والوجه الثاني في الفرق : إن المؤثرات الطبيعية لا شعور لها (٦)] بآثارها ، ولا علم ، ولا إدراك [وأما المؤثرات الاختيارية فهي إنما تؤثر بواسطة العلم والشعور والإدراك (٧)] فإنه ما لم يحصل تصور كون ذلك الفعل مفضيا إلى حصول اللذيذ ، أو النافع لم يفعل. وما لم يحصل تصور كونه مفضيا إلى حصول المؤلم والضار لم يترك. ولهذا السبب : سمي هذا الفعل فعلا اختياريا ، وسمى هذا الفاعل مختارا. لأنه (٨) إنما يفعل إذا تصور خيرا. فلأجل [أن (٩)] هذا الفعل لا يحصل إلا عند تصور الخير ، سمي هذا الفعل اختياريا ، وسمي هذا الفاعل مختارا.

فظهر من هذين الوجهين : حصول الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين المؤثرات الاختيارية.

__________________

(١) سقط (م)

(٦) من (ط)

(٢) من (ط ، ل)

(٧) من (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٨) إلا أنه (ط)

(٤) من (ط ، ل)

(٩) زيادة

(٥) الفريقين (ط)

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن الذي ذكرتم يقتضي كونه تعالى ، موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار»

فجوابه : إنا قد دللنا على أن الفعل يتوقف على حصول الداعية والإرادة المرجحة. ثم لما تأملنا أن كل ما للعبد من الدواعي والإرادات فهو محدث. فلا جرم افتقرت دواعي العباد وإرادتهم إلى مرجح آخر. فأما إرادة الله تعالى فإنها قديمة أزلية ، فلا جرم استغنت عن إرادة أخرى. فظهر الفرق بين البابين.

فإن قالوا : هب أنه ظهر الفرق من الوجه الذي ذكرتم. إلا أنا نلزمكم هذا الإلزام من وجه آخر. فنقول : إرادة الله [تعالى (١)] تعلقت بإحداث العالم في الوقت المعين. فهل كان يمكن أن تتعلق بإحداث العالم في وقت آخر ، بدلا عن التعلق الأول ، أو يمكن؟ فإن كان الأول لزم افتقاره إلى مرجح ، وإن كان الثاني [لزم (٢)] أن يكون موجبا [لا (٣)] مختارا والجواب : إن هذا الإشكال الذي أوردتم علينا في الإرادة : وأورد عليكم في العلم. فإن لزم من هذا القدر كونه تعالى موجبا ، فهو أيضا وارد عليكم بسبب العلم.

وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «القادر يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» فنقول : هذا محال. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن نسبة القادر إلى الضدين. إما أن تكون على السوية ، أولا على السوية. فإن كان على السوية ، امتنع حصول الرجحان. وإلا فحينئذ يكون ذلك الرجحان حاصلا ، لا لمؤثر. لأن الاستواء لا يوجب الرجحان البتة. وحصول الرجحان قول بحدوث الأثر ، لا لمؤثر. وذلك يوجب نفي الصانع وهو محال. وإن كانت نسبة القادر إلى أحد الضدين راجحة ، فهذا اعتراف بإن الرجحان لا لمرجح محال. وهو المطلوب.

الثاني : إنه لو حصل الرجحان لا لمرجح ، لكان حصول [ذلك

__________________

(١) من (م ، ل)

(٢) من (ط ، ل)

(٣) من (ل)

الرجحان (١)] على سبيل الاتفاق المحض. وقد دللنا على أن ذلك يوجب الجبر.

الثالث : إنا لما اختبرنا (٢) أنفسنا ، علمنا : أن عند حصول تعارض الدواعي يتعذر الفعل. وذلك يدل على أن عند عدم الدواعي يمتنع صدور الفعل.

وأما السؤال الخامس : وهو الهارب من السبع ، إذا عنّ له طريقان.

فجوابه : من وجهين :

الأول : وهو أن الهارب من السبع ، ما لم يقصد الذهاب في أحد الطريقين ، فإنه لا يترجح ذهابه في أحد الطريقين ، على ذهابه في الآخر. وكذلك العطشان إذا خير بين شرب قدحين فإنه ما لم يقصد أخذ أحد القدحين فإنه لا تمتد يده إلى أحد القدحين دون الثاني [حتى (٣)] إنه لو لم يحصل في قلب الهارب من السبع ، قصد إلى سلوك أحد الطريقين بعينه ، فإنه يبقى هناك ولا يتحرك. وكذلك العطشان إذا لم يخص أحد القدحين بمد اليد وأخذه ، فإنه لا يتحرك ذلك القدح ، ولا يرتفع إلى فمه ، ولا ينصب بنفسه إلى حلقه. فثبت : أن القادر ما لم يخص أحد الطريقين بالقصد إليه ، وما لم يخص أحد القدحين بمد اليد إليه ، فإنه لا يترجح وهو على غيره. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يصير هذا الكلام حجة لنا في قولنا : «إن القادر لا يصدر عنه الفعل المعين ، إلا إذا دعاه الداعي إليه»

بقي أن يقال : فلم حصل في قلب هذا الهارب : القصد إلى هذا الطريق ، دون ذلك الطريق؟ ولم حصل في قلب هذا العطشان : إرادة أخذ القدح ، دون ذلك القدح ، إلا أن [نقول (٤)] هذا عين الدليل الذي تمسكنا به.

__________________

(١) من (ط ، ل)

(٢) جربنا (ط)

(٣) من (ط ، ل)

(٤) من (ط ، ل)

وذلك لأنا بينا : أن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعية المخصوصة في قلبه. وحصول تلك الداعية بعينها في قلبه ، ليس بداعية أخرى من قبل العبد وإلا لزم التسلسل. بل لا بد وأن يكون من الله ، وحينئذ يلزم أن [يكون (١)] العبد غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك. فهذا الذي أوردتموه علينا ليس اعتراضا على كلامنا بل هو تأكيد ، وتقوية ، وتقرير له فظهر أن هذا السؤال الذي ذكروه : سؤال ساقط ، لا يصدر إلا عن قلة الفهم.

والوجه الثاني في الجواب : إنكم إما أن تقولوا : إن القادر على الضدين ، يترجح صدور أحد الضدين عنه من غير مرجح البتة. أو تقولوا : القادر يرجح أحد مقدوريه على الثاني من غير مرجح. والأول باطل. لأنا نجد من أنفسنا بالضرورة : أن الذي يمشي في السوق إلى موضع ، إذا وقع في قلبه : أن الرجوع عن ذلك الجانب إلى جانب آخر : مصلحة من وجه. فإنه متى تعادلت الداعيتان في قلبه ، ولم يترجح أحدهما على الآخر البتة ، فإن ذلك الإنسان يبقى في ذلك الموضع ، ولا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ويبقى (٢) على تلك الحالة إلى أن يقع في قلبه : أن أحد الجانبين أكثر مصلحة. وعند ظهور هذا الرجحان يترجح الإذهاب إلى ذلك الجانب. فثبت : أن القول بأنه يصدر عنه أحد الضدين من غير أن يكون هو مرجحا لذلك [الضد (٣)] كلام تدفعه بديهة العقل. وأيضا : فهل يقبل العقل أن يقال : العطشان إذا خير بين شرب قدحين ، ثم أنه لا يمد يده إلى أحدهما ، ولا يخص أحدهما بالأخذ والرفع. بل لمجرد كونه قادرا يرتفع أحد القدحين إلى فمه ، وينصب ذلك الماء في حلقه؟ فهذا مما يعلم (٤) بطلانه ببديهة العقل.

وأما إن [قيل : إن (٥)] القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا

__________________

(١) من (م)

(٢) لم يبق (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٤) لا يعلم (م)

(٥) من (ط ، ل)

لمرجح. فنقول : هذا الكلام في نفسه متناقض. لأن هذا القائل سلم أن ذلك القادر ما لم يرجح أحد ذينك المقدورين على الآخر ، لم يحصل الرجحان وسلم أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادرا. فإذا كان لا يحصل الرجحان إلا عند حصول ذلك الترجيح ، وثبت أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادر ، فهذا اعتراف (١) بأن الرجحان لا يحصل إلا عند المرجح. فقوله : «القادر يرجح» مشعر بحصول المرجح الزائد. وقوله بعد ذلك : «إنه لا لمرجح» مشعر بنفى المرجح الزائد ، فكان قوله : «القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» جمع بين النقيضين. وهو كلام باطل.

وأما السؤال الخامس : وهو بقوله : «لا يجوز أن يقال : الفعل عند الداعي يصير أولى بالوقوع ، مع (٢) أنه لا ينتهي إلى الوقوف» فنقول : هذا باطل ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ما ذكرنا : أنه حال الاستواء كان [ممنوع (٣)] الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا كان طرف المرجوح ممتنعا ، كان الراجح واجبا. لأنه لا خروج عن التقصير. قوله : «إن بقاءه على العدم ، لا يكون لأجل حصول الداعي إلى الترك ، بل لأجل أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان» قلنا : هذا محال. لأن الممكن هو الذي يكون [دائرا (٤)] بين الوجود وبين العدم. فكما أن وجوده يتعلل بوجود ما يقتضي الوجود ، فعدمه (٥) معلل بعدم ذلك المؤثر. فإما أن يقال إنه يستمر (٦) عدمه لنفسه. فذلك محال. لأنه يقتضي ، إما انقلاب الممكن واجبا ، وإما استغناء الممكن عن المؤثر. وكلاهما [محال (٧)].

الحجة الثانية في بطلان هذه الأولوية : أن نقول : لا شك أن عند حصول القدرة مع الداعية المرجحة ، قد حصل قدر من الرجحان. فنقول : عند

__________________

(١) الاعتراف (م)

(٥) بعدمه (ط)

(٢) من : (م)

(٦) استمر (ط ، ل)

(٣) ممتنع (ل)

(٧) من (ط ، ل)

(٤) من (ل)

حصول ذلك القدر من الرجحان. إن امتنع ، العدم ، فقد حصل الوجود. وذلك هو المطلوب. وإن لم يمتنع العدم ، فلنفرض ذلك واقعا. فإن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. وعلى هذا التقدير يكون قد حصل عند حصول ذلك القدر من الرجحان : الوجود تارة ، والعدم أخرى ، بامتياز أحد الوقتين عن الآخر. بحصول الأثر في أحدهما ، وعدم حصوله في الثاني ، إن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فقد يرجح الممكن المتساوي لا عن مرجح. لأن نسبة ذلك القدر من الرجحان إلى الوقتين ، لما كان على السوية ، ولم يختص أحد الوقتين بمزية ، لأجله صار هو أولى بالوقوع ، فحينئذ يكون تمييز أحد الوقتين عن الثاني تمييزا لأحد طرفي الممكن [المتساوي (١)] عن الآخر ، لا لمرجح. وإما أن يتوقف على انضمام قيد إليه ، فحينئذ يكون المرجح هو المجموع الحاصل من الأمر الذي كان حاصلا ، مع انضمام هذا القيد إليه. فيلزم أن يقال : إن مجرد الأمر الذي كان حاصلا [قبل (٢)] ذلك ، ما كان تمام المرجح. مع أنا فرضناه تمام المرجح. هذا خلف. وأيضا : يتحقق بقيد التقسيم عند حصول ذلك المجموع. فنقول : إن كان الفعل [واجبا (٣)] فهو المقصود. وإن لم يكن واجبا ، عاد التقسيم فيه. ولزم التسلسل. وهو محال.

الحجة الثالثة : إن عند حصول الداعية المرجحة للوجود. إن امتنع العدم ، فقد حصل الوجوب وهو المقصود. وإن لم يمتنع العدم ، فليفرض العدم حاصلا مع حصول ذلك القدر من رجحان الوجود. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يكن من فرض وقوعه محال. لكن هذا الفرض محال ، لأن حال حصول رجحان الوجود. لو حصل العدم يحصل في تلك الحالة رجحان العدم لأن عند حصول العدم ، يكون العدم راجحا ، لا محالة. وهذا يوجب أن يقال : إن عند حصول رجحان الوجود ، حصل رجحان العدم. وذلك يقتضي كون وجوده راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على وجوده ، باعتبار واحد ، في حال واحد وإنه محال.

__________________

(١) من (ط ، ل)

(٢) من (ط ، ل)

(٣) من (م ، ل)

الحجة الرابعة : إنه إذا حصل ترجيح الوجود ، ثم فرضنا أن بقاء هذا الترجيح حصل العدم فحينئذ يكون ذلك العدم حاصلا ، لا بترجيحه ولا بإبقائه ، فإن كان ذلك الترجيح لمرجح آخر ، فيكون هذا اعترافا بأن ترجيح العبد لا أثر له في اقتضاء الرجحان ، وإنما المؤثر في الرجحان ترجيح غيره. فإن قلنا : بأن ذلك الترجيح وقع لا لمرجح أصلا ، كان هذا قولا بأن ذلك العدم إنما ترجح لمحض الاتفاق من غير مرجح أصلا. إلا أن القول بالاتفاق يوجب القول بالجبر على ما بيناه غير مرة ـ ويوجب نفي الصانع ، ونفي جميع الآثار والمؤثرات.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن العبد إذا رجح جانب الوجود فهذا الترجيح إن بقي بحيث لا يعارض ترجيح مرجح آخر ، وقع الفعل. وإن عارضه ترجيح مرجح آخر ، فحينئذ خرج عن مضاد (١) العقل؟ لأنا نقول : إذا بقي ذلك الترجيح ، خاليا عن العوارض. فإن وجب ترتب الأثر عليه ، فذاك هو المقصود. وإن لم يجب ترتب الأثر عليه ، فحينئذ أمكن أن يبقى ذلك القدر من الترجيح ، مع انه لا يقع الوجود بل يقع العدم.

فحينئذ يلزم أن يكون ترتب الوجود عليه تارة ، وترتب العدم عليه أخرى ، لمحض الاتفاق. وذلك يوجب نفي التأثير والمؤثر. ويوجب القول أيضا بالجبر.

الحجة الخامسة : الترك ترك. وهذا يفيد أن العلم الضروري حاصل ، بأن القادر إذا شاء الفعل ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بدّ وأن يفعل. وإذا شاء الترك ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بد وأن يترك. ولا نرى في الدنيا عاقلا يقول : إني إن شئت أن أفعل لم أفعل. وإن شئت أن لا أفعل فعلت. فثبت : أن هذا دليل قاطع على أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة: أن القادر متى أراد الفعل ، ولا مانع له عنه ، فإنه يفعله لا محالة. وإذا أراد الترك ، ولا مانع له عن الترك ، فإنه يترك. وثبت : أن القول بحصول الفعل عند إرادة الترك ،

__________________

(١) من امضاءات (م).

وبحصول الترك عند إرادة الفعل إذا كان لا مانع له عن المراد. أمر لا يجوزه عاقل أصلا.

فثبت بهذه الوجوه : أنه متى حصل الرجحان ، لزم القول بالوجوب. وذلك يبطل ما ذكروه من الاحتمال.

وبالله التوفيق

البرهان الثاني على ما ذكرناه

أن نقول :

لا شك أن كل موجود. فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو لا يكون. والقسم الأول هو الله ـ سبحانه ـ والقسم الثاني هو كل ما سواه. وهذا القسم تكون حقيقته [قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. أما كونها قابلة للعدم ، فلأن حقيقته (١)] إن لم تكن قابلة للعدم ، كان [واجب (٢)] الوجود لذاته. وكنا قد فرضنا : أنه ليس كذلك. هذا خلف.

وأما كونها قابلة للوجود. فلأنا فرضناها موجودة.

ولو لم تكن تلك الحقائق قابلة للوجود ، لما كانت موجودة. فثبت : أن كل ما سوى الله سبحانه ، فإن حقيقته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. وكل ما كان كذلك ، فهو مفتقر إلى المؤثر. فكل ممكن ، فهو مفتقر إلى المؤثر. والشيء الذي يفتقر إليه كل الممكنات لا يكون ممكنا. وإلا لكان ذلك الممكن مفتقرا إلى [نفسه (٣)] فثبت : أن جميع الممكنات مستندة في سلسلة الحاجة والافتقار إلى واجب الوجود.

[ولا شك أن أفعال العباد ، قسم من أقسام الممكنات ، فوجب القطع

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط ، ل).

بانتهائها في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود (١)] لذاته. وهو المطلوب.

فإن قيل : عندنا : أن فعل العبد. واقع بالقدرة القائمة بالعبد ، وبالداعية القائمة به. وتلك القدرة وتلك الداعية ، إنما حدثت بإيجاد واجب الوجود. فكان فعل العبد مستندا إلى واجب الوجود بهذا الطريق. إلا أن إسناده إلى واجب الوجود ، بهذا الطريق ، لا يمنع من وقوعه بقدرة العبد. فثبت : أن الدليل الذي ذكرتم لا يفيد مقصودكم من هذه المسألة.

الجواب : نحن ندعي أن [عند (٢)] فقدان القدرة والداعي ، يمتنع حصول الفعل. وعند حصولهما يجب الفعل. ومتى كان الأمر كذلك ، لم يكن العبد مستقلا بالفعل. أما (٣) أنه لا بد من القدرة ، فلأن العاجز عن الفعل ، لا يفعل. وأما أنه لا بد من الداعية ، فلما بينا في البرهان الأول : أن القادر إذا خلا عن الداعية ، امتنع صدور الفعل [عنه (٤)] وأما عند مجموع القدرة والداعي ، يجب الفعل. فلأن عند حصول هذا المجموع ، يحصل رجحان جانب الفعل. ومتى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. للدلائل الجمة التي قررناها في البرهان الأول.

فثبت : أن عند فقدان مجموع القدرة مع الداعي ، يمتنع الفعل. وثبت : أن عند حصولهما يجب الفعل. فإذا فعل الله ذلك المجموع ، وجب الفعل وإذا لم يفعل ذلك المجموع ، امتنع الفعل. فحينئذ لا يكون العبد مستقلا بالتكوين والإيجاد.

وبالله التوفيق

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) إلا (م).

(٤) من (ط ، ل).

البرهان الثالث

على أن أفعال العباد بتقدير الله تعالى

اعلم أنا قبل الخوض في تقرير هذا البرهان ، نفتقر إلى تقديم مقدمات :

فالمقدمة الأولى : إنا نرى الناس مختلفين في العقائد. والاختلاف لا بدّ في البحث عن أسبابه.

فنقول : أسباب هذا الاختلاف : قد تكون من داخل ذات الإنسان ، وقد تكون من خارج ذاته.

والقسم الأول على ثلاثة أقسام :

أحدها : اختلاف ماهيات النفوس الناطقة ، وبيان حقائقها. فإن منها ما تكون زكية بالذات والجوهر. ومنها ما تكون بليدة. ومنها ما تكون رحيمة بالذات والجوهر. ومنها ما تكون قاسية. ومنها ما تكون [ميالة بالطبع إلى تحصيل اللذات الجسمانية ، نافرة (١) عن طلب السعادة الروحانية. ومنها ما تكون (٢) بالعكس من ذلك. حتى أنه لو عرض الدنيا بحذافيرها [عليه (٣)] لم يكن فرحه بها ، مثل فرحه باكتساب شيء من العلوم اليقينية ، والأخلاق الفاضلة. ومما يدل على ذلك : أنك قد ترى إنسانا يشق الشعرة (٤) في التدقيق والتحقيق في مصالح الدنيا ، مع أنه يكون في غاية البلادة والبلاهة [في العلوم (٥)] وقد يكون بالعكس من ذلك. وقد ترى إنسانين أحدهما في غاية الذكاء في هذا العلم ، والبلادة في علم آخر. والإنسان الآخر بالضد منه. حتى أنه قد يكون في غاية الذكاء والمنطق ، ويكون ناقص القوة في الرياضيات.

__________________

(١) نفورا.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) الشعر (ط).

(٥) من (م ل).

وبالعكس. بل قد يكون قويا في الهندسة ، ضعيفا في الحساب ، مع قرب أحد العلمين من الآخر.

وإذا وقفت على ما ذكرناه ، أمكنك استقراء أحوال الخلق ، وتفاوت طبائعهم ، في كون كل واحد منهم مستعدا لصناعة ، وبعيدا عن صناعة أخرى. والاستقراء يدل أيضا : على أن ذلك التفاوت ذاتي غريزي جوهري ، لا يمكن زواله البتة. وإلى هذا المعنى أشار صلوات الله [وسلامه (١)] عليه بقوله : «الناس معادن. كمعادن الذهب والفضة» وقال أيضا : «الأرواح جنود مجندة».

[والخطباء (٢)] والشعراء يذمون ويمدحون بهذه المعاني فيقولون : فلان [له (٣)] نفس كريمة سخية. وفلان له نفس لئيمة نذلة ضعيفة. بل لو اعتبرنا وتأملنا ، لعلمنا أن تفاوت الخلق في هذه المعاني ، قد يكون الأكثر (٤) جبليا غريزيا. حتى أن النفس النذلة ، لو اجتمع العالمون في إزالة تلك النذالة عنها ، فإنها لا تزول. و[لا (٥) أعني بهذا : أفعال النذالة والخزية. فإن تلك الأفعال قد تتبدل بالتكلف. وإنما أعني به : الأخلاق النفسانية ، والملكات الغريزية.

والسبب الثاني من الاسباب الداخلية : اختلاف أحوال الأمزجة. فإن من كان حار المزاج. وخصوصا مزاج الدماغ. فإنه يكون شديد الغضب ، مشوش الفكر. ومن كان بارد الدماغ ، كان بليدا ، ناقص الفكر. ومن كان يابس الدماغ ، فإنه تضعف عليه الأفكار لأن دماغه بسبب ما فيه من اليبس ، لا يقبل الصور النفسانية ، قبولا سهلا. ومن كان رطب الدماغ ، فإنه لا يكمل فكره. لأن الصور الدماغية ، تصير منحجبة عن الدماغ ، زائلة عنه ، بسبب ما فيه من الرطوبة.

والسبب الثالث من [الأسباب (٦)] الداخلية : اختلاف أشكال

__________________

(١) من (ل) س

(٤) الأكبر (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٦) من (ط ، ل).

الأعضاء. فإن كبر مقدم الرأس ، يفيد قوة التخيل. وكبر مؤخر الرأس ، يفيد قوة الحفظ. وجودة شكل الرأس ، يفيد جودة الفكر ، وانتظام الأحوال السياسية. وهذه أمور ، من اعتبرها وتتبع أحوالها ، عرف أن الأمر كما ذكرناه. وكتب الأخلاق والفراسة والطب ، ناطقة بصحة ما ذكرناه. دالة على تفاصيل أحوالها ، وتعيين أسبابها. فثبت [أن (١)] اختلاف مراتب هذه الامور الثلاثة ، يوجب اختلاف [أحوال (٢)] القوى المدركة ، واختلاف أحوال القوى المحركة. أعني اختلاف الأحوال في السخاوة والبخل ، والفظاظة والرقة ، والبلادة والذكاء. وأشباهها.

وأما الأسباب الخارجية من ذات الإنسان. فهي أيضا أمور ثلاثة : [أولها (٣)] الألف والعادة وذلك لأن النفس الناطقة خلقت في مبدأ الفطرة ، خالية من (٤)] العقائد والأخلاق. واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في صدقه : يوجب أن يجعل الاعتقاد في حسن ذلك الشيء. ويكون الموجب : موجبا [أن يجعل الاعتقاد (٥)] متأكد الأثر.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الإنسان إذا سمع في أول عمره ، ومبدأ صباه : أن المذهب الفلاني : مذهب حق حسن صواب مرغوب فيه. وأن ضده باطل [غير مرغوب (٦)] فيه. فقد ثبت وجوب تلك التصورات في نفسه ، خالية عن التصورات المضادة لتلك التصورات التي ذكرناها. لأن نفوس الصبيان خالية عن جميع التصورات. وذلك الاستماع يوجب حصول ذلك الاعتقاد الفاعل. وإذا لقى العامل الخالي عن العائق ، حصل الأثر لا محالة.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الأمور الثلاثة هي : الإلف ـ والعادة ـ واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في في صدقه.

(٤) سقط (ط)

(٥) يوجب (م).

(٦) من (ل).

فإذا تكرر ذلك التحسين طول عمره ، فقد تكرر ذلك الموجب. [وتكرره (١)] يوجب أن يبلغ ذلك الاعتقاد في القوة ، إلى أقصى الغايات ، وأبلغ النهايات. فثبت : أن الإلف والعادة يوجبان تأكد العقائد والأخلاق.

السبب الثاني من الأسباب الخارجية : أن يكون تقرير ذلك المذهب مما يفيده رئاسة في الدنيا ، وتفوقا على الأقران. فهذا أيضا مما يوجب ميل قلبه إلى تلك العقائد والأخلاق. وذلك لأن النفوس مجبولة على حب الجاه والمال ، واللذة والسرور ، وعلى حب كل ما يكون وسيلة إلى حصول هذه الامور. فإذا كان تقرير مذهب من المذاهب يفيده ذلك [المطلوب (٢)] مال [قلبه (٣)] إلى تقرير ذلك المذهب. وقد عرفت : أن التكرير سبب للتأكيد. فثبت : أن هذا الذي ذكرناه من جملة الأسباب التي توجب تأكد الاعتقاد في المذهب المخصوص ، والفعل المخصوص.

السبب الثالث من الأسباب الخارجية : أن الإنسان إذا مارس صناعة النظر والاستدلال. فكل من كانت ممارسته لهذه الصناعة أكثر ، كان وقوفه على الحق أسهل. ثم [إن (٤)] التفاوت يقع في هذا الباب بحسب الكم. فإن بعضهم يكون أكثر استحضارا للمقدمات. وأما بحسب الكيف (٥) فأن يكون انفعال بعضهم من المقدمات الحاضرة ، إلى النتائج المستحضرة : أسهل. ولما كان التفاوت في هذين البابين ، مما يختلف بالأشد والأضعف ، والأقل والأكثر ، اختلافا غير مضبوط. لا جرم كان اختلاف الناس في الاستعداد لقبول المعارف اليقينية ، والأخلاق الفاضلة ، اختلافا غير مضبوط. واعلم : أن هذا السبب يوجب اختلاف الناس في العقائد من وجه آخر. وذلك لأن صاحب النظر والاستدلال ، قد ينتج فكره (٦) أن القول الفلاني حق صحيح. ولأجل أن ذلك

__________________

(١) زيادة. ويوجب : سقط (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) الكلم (ط ، ل).

(٦) ذكره (م ، ط).

كان [من (١)] مستنبطات خاطره ، ومن نتائج فكره (٢) عظم حبه لذلك. وقد يبلغ ذلك الحب إلى حيث يمنعه عن التأمل في صحته وفساده. وقد تبلغ قوة تلك المحبة إلى أنه لو سمع حجة دالة على فساد تلك الحالة ، فإنه لا يفهمها ، ولا يقف على كيفيتها. كما قيل : «حبك الشيء يعمي ويصم» ولما كان تفاوت الناس في مراتب هذه المحبة ، غير مضبوطة. لا جرم كان تفاوت الناس في العقائد والأخلاق ، بناء على هذا السبب : تفاوتا غير مضبوط.

فثبت بما ذكرنا : أن كل واحد من هذه الأسباب الستة : جنس تحته أنواع غير محصورة. وإن اختلافها يوجب اختلاف الناس في العقائد ، وفي الأفعال.

والمقدمة (٣) الثانية في بيان كيفية صدور الأفعال عن الحيوانات : اعلم أن كل حيوان يفعل فعلا. فهو إنما يفعل ذلك الفعل. إذا اعتقد أن فعله خير له من تركه. فإن لم يحصل هذا الاعتقاد ، امتنع إقدامه عليه. ولأجل هذا المعنى فإنه يسمى هذا المؤثر فاعلا. لأن المختار هو الذي يكون طالبا. ولا يكون خيرا إلا (٤) بحسب اعتقاده وتخيله.

والمقدمة الثالثة : إن المطلوب بالذات لكل حيوان ، هو اللذة والسرور. والمهروب عنه بالذات هو الألم والغم. وكل ما سوى هذين القسمين ، فهو مطلوب بالغرض ، لا بالذات فالفعل الصادر عن الإنسان. إن كان هو تحصيل اللذة ، أو إزالة الألم. فهذا الشيء مطلوب. فتكون غايته وغرضه هو عين ذاته. وإن كان الفعل الصادر عن الإنسان يكون وسيلة إلى أحد هذين الأمرين ، كان مطلوبا بالغرض والتبع. وكان غرضه وغايته ، أمرا مغايرا له. فثبت بهذا : أنه لا يجوز أن يقال في كل فعل : إنه إنما فعله بشيء آخر. وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور.

__________________

(١) زيادة.

(٢) ذكره (م).

(٣) أما المقدمة (ط).

(٤) لا يكون بخير بحسب [الأصل].

والمقدمة الرابعة : وهي أن البنية السليمة ، والمزاج الصحيح ، هو الذي ، لو انضمت إليه داعية الفعل ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه يحصل ذلك الفعل. ولو انضمت إليه داعية الترك ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه يحصل الترك ، فتكون الأعضاء سليمة.

وهذا (١) التفسير هو المراد من كون الحي قادرا على الفعل.

وإذا عرفت هذه المقدمات. فنقول : إنا إذا تصورنا أمرا. فإن كان ذلك التصور نفعا ، ترتب على ذلك التصور طلب تحصيله. وإن كان ضررا ، ترتب عليه هرب ونفرة. ثم إذا صار ذلك الشيء مطلوب الحصول ، ترتب [عليه (٢)] طلب جازم بإن المفضي إليه لا بد من تحصيله وهذا هو الإجماع [الجازم (٣)] والشوق [التام إلى تحصيل الفعل. ثم إذا حصل هذا الإجماع والشوق (٤)] تحركت الأعضاء.

فههنا مراتب أربعة أقربها إلى الفعل : هو القوة المحركة للأعضاء. وهي التي سميناها بسلامة المزاج ، واعتدال البنية. ويتقدمها : الإجماع الجازم على الفعل. ويتقدمه : الميل اللذيذ أو على الترتيب الذي ذكرناه ، حتى يصدر الفعل عن الحيوان.

أما المرتبة الأولى : وهي القدرة وسلامة الأعضاء. فلا بد منها في حصول الفعل الاختياري. فإن الحس يشهد بإن المريض ، والزمن العاجز ، لا يمكنه لا الفعل ولا الترك الاختياري.

وأما المرتبة الثانية : وهي الإجماع الجازم على حصول الفعل. فهذا أيضا لا بد منه بدليل : أن البنية السليمة ، والمزاج المعتدل ، إذا لم يمل طبعه ، لا إلى

__________________

(١) بهذا (ط).

(٢) من (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

الحركة إلى هذا الجانب ، ولا إلى الحركة إلى جانب آخر ، فإنه البتة لا يصدر عنه. لا الحركة إلى هذا الجانب ، ولا الحركة [إلى (١)] جانب آخر. بل يبقى متوقفا إلى أن يظهر في قلبه ميل خالي عن المعارض.

فإن قالوا : المريض قد يميل طبعه إلى أكل طعام مخصوص ، ومع ذلك يتركه. فعلمنا : أن حصول الفعل عقيب هذا العزم غير واجب. فنقول : هذا سوء فهم قررناه. وذلك لأن المريض إذا دعته شهوته إلى أكل الطعام. فهو إنما يمتنع من أكله ، إذا اعتقد أن له في أكله ضررا ، يزيد على اللذة الحاصلة من أكله. فلولا أن تلك الداعية ، صارت متعارضة بهذه الداعية الثانية ، وإلا لحصل ذلك الفعل لا محالة. إلا أنه لما حصل هذا التعارض. فعند ذلك لا تبقى الداعية الأولى جازمة خالية عن الفتور. فلا جرم لم يترتب عليه الفعل والأثر.

وأما المرتبة الثالثة : وهي أنه لا بد من حصول الميل إلى ما يعتقد فيه كونه نفعا ، وحصول النفرة عما يعتقد فيه كونه ضررا. فهذا أمر معلوم بالضرورة. فإنا نعلم بالضرورة : أن اللذة والسرور مطلوبان بالذات ، والألم والغم مهروب عنهما بالذات.

وأما المرتبة الرابعة : وهي التصور. وهذا أيضا أمر لا بد منه. فإذا إذا لم يصر ذلك الشيء متصورا ، امتنع العلم بكونه [نافعا ، وكونه (٢)] ضارا. وما لم يحصل هذا الإدراك ، لم يحصل الطلب والهرب. فثبت : أن هذه المقدمات [لازمة (٣)].

فلنرجع إلى تقرير البرهان على أن أفعال العباد واقعة على سبيل الاضطرار.

فنقول : قد بينا أنه إذا حصل التصور ، فإن كان التصور نافعا ، مال الطبع إليه. شاء الإنسان أم أبى. إلا أن يحصل هناك معارض. وهو أن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ط).

يتصور تصورا آخر يوجب ضد مقتضى التصور الأول. إلا أن على هذا التقدير لا يبقى التصور الأول [تصورا (١)] لكون ذلك الشيء نافعا. وأما إن كان ذلك التصور ضارا ، حصلت النفرة. شاء الإنسان ، أو أبى. إلا إذا حصل التعارض المذكور. وحينئذ لا يبقى اعتقاد كونه ضارا. وإن لم يحصل ، لا اعتقاد كونه نافعا ، ولا اعتقاد كونه ضارا. فحينئذ لا يحصل الطلب ولا الهرب.

ثم بينا : أنه إذا حصل الطلب الجازم ، والميل التام ، ترتب عليه إجماع جازم. على أن لا بد من إيجاده. وإذا حصلت النفرة التامة ، ترتب عليه إجماع جازم. على أنه لا بد من تركه. وإذا حصل هذا الإجماع التام الجازم ، حصل الفعل لا محالة. فثبت : أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله : ترتب ضروري.

وليس لأحد أن يقول : الواقع بقدرة العبد هو تحصيل التصور ، الذي هو المبدأ الأول. لأنا نقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنا سنقيم الدلالة على أنه لا يمكن أن يقع شيء من المعلوم والتصورات بقدرة العبد.

[الثاني (٢) :] إن ذلك التصور (٣) الذي حصل بفعل العبد ، حصل في تكوينه تلك المراتب الأربعة [المذكورة (٤)] فانتهت إلى تصور آخر. فإن كان ذلك أيضا بفعله ، لزم إما التسلسل وإما الدور. وهما باطلان. ولما بطل ذلك ، ثبت انتهاء هذه التصورات إلى تصور (٥) أول ، هو المبدأ للأفعال الاختيارية ، لذلك الحيوان. وثبت : أن حصول ذلك التصور ليس باختيار العبد ، بل هو حاصل في قلبه ، على سبيل الاضطرار. ثم إذا حصل ذلك

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) التصورات حصل ... الخ (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) إلى من تصور (ط).

التصور ، ترتبت تلك المراتب بعضها على بعض ، بالغة ما بلغت ، ترتبا واجبا لازما اضطراريا. وعند هذا يظهر أن الإنسان مضطر في اختياره ، وأن جميع أفعال العباد : إما أفعال الله تعالى ، أو موجبات أفعال الله تعالى. وعلى التقديرين (١) فالمطلوب حاصل.

واعلم : أن كل من رجع نفسه ، واعتبر أحوال أفعاله وأعماله : علم ـ قطعا ويقينا ـ : أن الأمر كما ذكرناه. وذلك لأنه إنما تحرك إلى جهة كذا ، لأنه أراد تلك الحركة وإنما أراد الحركة إلى تلك الجهة لأنه اعتقد أن له في تلك الحركة منفعة. وإنما حصل ذلك الاعتقاد ، لأنه رأى شيئا ، فصارت تلك الرؤية سببا لتذكره : أن له في ذلك الفعل منفعة. وهلم جرا إلى جميع المراتب.

وبالجملة : فأفعال الجوارح مترتبة على أفعال القلوب [وأفعال القلوب (٢)] يستند بعضها إلى بعض. والأخير (٣) يستند إلى أمور خارجية اتفاقية. مثل : إن وقع بصره على شيء ، فتذكر شيئا. أو سمع صوتا فتذكر شيئا مع العلم الضروري بأن تلك الاتفاقات الخارجية : خارجة عن وسعه وطاقته. ثم إنا قد ذكرنا تلك الأشياء الستة التي بسببها تختلف أحوال الإنسان في عقائده وفي أخلاقه. فإذا انضمت تلك الأسباب الخارجية الاتفاقية ، إلى هذه الأسباب الستة التي ذكرناها ، ظهر حينئذ أن القول بالجبر لازم. ومثاله : إذا اتفق أن نفس الإنسان وقعت في أصل خلقتها : نفسا شديدة الاستعداد للغضب. ثم اتفق ان كان مزاج بدنه : شديد الاستعداد للصفراء ثم اتفق أن كانت أعضاؤه : مواتية للقهر والاستعلاء. ثم اتفق أن كان قد نشأ فيما بين أقوام يستحسنون إمضاء الغضب ، ويستحقون ترك تلك الأعمال. ثم اتفق أن صار بقاء دولته ورئاسته : معلقا بإمضاء أعمال الغضب.

__________________

(١) التقدير (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) وبالآخر (م ، ط ، ل).

ثم [إن (١)] اتفق أن رأى شيئا ، لا يلائم طبعه. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام يعينونه على إمضاء الغضب. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام ، لو ترك إمضاء ذلك الغضب ، لكانوا يذمونه ويلومونه عليه. فعند اجتماع هذه الأمور بأسرها ، صار ذلك الإنسان بحيث لا يمكنه ترك تلك الأفعال الغضبية ، وأما إن اتفقت أسباب مضادة للأسباب التي ذكرناها ، فإنه يكون بحيث لا يمكنه الإتيان بالأفعال الغضبية (٢) وإن اختلط البعض بالبعض ، وتعارضت وتقاومت فالعبرة بالطرف الراجح فثبت بما ذكرنا : أن الجبر لازم على جميع التقديرات.

فإن قالوا : الإنسان مع حصول جميع الأمور التي ذكرتم ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية فعلمنا : أن صدور تلك [الأفعال (٣)] عنه على سبيل الاختيار ، لا على سبيل الاضطرار.

فنقول : هذا هو الغلط الأخير. وعند ظهور الجواب عنه ، لا يبقى البتة فيما ذكرناه إشكال. فنقول : ما الذي تعنى بقولك : «إن الإنسان مع هذه الأمور ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية؟» إن عنيت به أنه يمكن أن يعرض له في مقابلة تلك الخواطر : خاطر آخر. وهو أن الأولى ترك هذه الأفعال الغضبية. فنحن نسلم : أن (٤) عند ظهور هذا الخاطر ، قد يترك تلك الأفعال الغضبية. إلا أن على هذا التقدير ، صارت تلك الدواعي التي ذكرناها ، معارضة بهذه الداعية. فصارت لتلك الدواعي التي ذكرناها ، عند حصول هذا المعارض : فائدة غير جازمة. ونحن بينا : أن الفعل إنما يجب عند حصول الداعية الجازمة. فأما عند فتور الداعية ، فالفعل ممتنع. فثبت : أن ما ذكرتموه يقوي كلامنا ، ولا يوجب ضعفه. وإن أردتم أن تلك الدواعي حال بقائها على قوتها وسلامتها عن المعارض ، يمكن أن لا توجد الفعل. فهذا ممنوع. وكيف يمكن

__________________

(١) من (م).

(٢) الغيبة (م).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) ذلك (ط).

أن يقال : الإنسان حال اجتماع تلك الأسباب الموجبة للأفعال الغضبية ، وبراءتها عن الدواعي المعارضة لها ، فإنه يمكن أن لا يأتي بتلك الأفعال؟.

فالحاصل : أنكم إن أردتم أن سلامة أعضائه (١) حال انضمام دواعي الترك إليها ، بدلا عن دواعي الفعل. لأمكنه ذلك. فهذا مسلم. ولا يقدح في قولنا. وإن أردتم بأن سلامة أعضائه حال انضمام دواعي الفعل إليها ، وكانت تلك الدواعي خالية عن المعارض ، فإن مع التقدير يمكنه الترك. فهذا ممنوع. والعلم بامتناعه ضروري. ولما عرفت الكلام في هذا المثال ، أمكنك اعتبار أحوال جميع الأحوال والأفعال. ولا فائدة في التطويل.

ولنختم هذا البرهان القاطع ، بفصل منقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقوي ما ذكرناه.

روي أنه رضي الله عنه خطب (٢) فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه «فإن سنح له الرجاء ، أذله الطمع. وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف ... وإن عرض له الغضب ، اشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى [نسى (٣)] التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر ... وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ... وإن وجد مالا ، أطغاه الغنى. وإن عضته الفاقة ، شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، قعد به الضعف ... فكل

__________________

(١) الأصل : أعضائه محال لو انضمت إليها دواعي الترك بدلا ... الخ.

(٢) نص الخطبة من كتاب «نهج البلاغة» طبعة دار التعارف ببيروت سنة ١٤٠٢ ه‍ صفحة ٦٨١ : لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة ، هي أعجب ما فيه. وذلك القلب. وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها. فإن سنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف. وإن أعرض له الغضب ، أشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى ، نسى التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر. وإن اتسع له الأمن ، استلبته الغرة. وإن أفاد مالا ، أطغاه الغنى. وإن أصابته مصيبة ، فضحه رجوع. وإن عضته الفاقة شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، فعد به الضعف. وإن أفرط به الشبع ، كظته البطنة. فكل تقصير به : مضر ، وكل إفراط له : «مفسد» اه.

(٣) سقط (م).

تقصير به مضرّ ، وكل إفراط له مفسد».

قال المصنف : هذا الفصل تصريح منه ـ عليه الرحمة ـ بأن أفعال الجوارح مترتبة على أفعال القلوب [وأن أفعال القلوب (١)] مترتب بعضها على بعض ، ترتبا ضروريا. لا مجال للعبد في قطع بعضها عن بعض. وذلك يحقق ما قلنا.

وجاء في كتاب «الزبور» لداود عليه‌السلام. ما يقرب معناه من هذا وهو : إن الذي خلق أمزجة العباد ، علم أحوال قلوبهم [ومن علم أحوال قلوبهم (٢)] علم أفعالهم. ومن علم أفعالهم ، علم أحوال معادهم. وكل ذلك إشارة إلى ما ذكرناه ، من كون كل ما تأخر ، كالمعلول لما تقدم ، وإن تأدى ذلك المتقدم ، إلى ذلك المتأخر تأديا اضطراريا. ومتى كان الأمر كذلك ، كان من علم المتقدم ، فلا بد وأن يعلم المتأخر ، استدلالا بالعلة على المعلول.

وبالله التوفيق

البرهان الرابع

على أن العبد لا يمكنه أن يأتي إلا بما قدره الله تعالى.

وأن الذي ما قدره الله تعالى له ، فانه يمتنع صدوره عنه.

إن المعتزلة وافقونا على أنه تعالى : عالم بجميع الجزئيات التي ستقع وستوجد.

إذا عرفت هذا ، فنقول : تقريره من وجوه :

الأول : إنه تعالى لما علم [من الكافر (٣)] أنه لا يؤمن ، كان صدور

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط).

(٣) زيادة.

الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلا. وهذا محال. ومستلزم المحال محال. فيلزم : أن يكون صدور الإيمان عنه محالا.

الثاني : إن وجود الإيمان ، يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان. لأنه إنما يكون علما ، لو كان مطابقا للمعلوم. والعلم بعدم الإيمان ، إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان. فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان ، يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا. وهو محال. أنه تعالى لما علم منه عدم الإيمان [كان وجود الإيمان (١)] منه محالا. ولو علم منه وجود الإيمان ، كان عدم الإيمان منه محالا.

والثالث : إنه تعالى أخبر عن أقوام معينين : أنهم لا يؤمنون كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) (٢) وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم ، أنهم لا يؤمنون. لو آمنوا ، لانقلب خبر الله ، الصدق : كذبا ، وهذا محال [والمؤدي الى المحال محال. فوجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالا (٤)].

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) سورة البقرة ، آية : ٦. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن : «إن قال قائل : إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون ، وكانوا قادرين على الايمان ـ عندكم ـ فلم أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون؟ فالجواب : إنه لا يجب ذلك. كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان ، أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله. كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة ، أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة. والصحيح : أن نقول : إن العلم يتناول الشيء على ما هو به ، ولا يجعله على ما هو به ، فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه ، وإن كان غيره مقدورا» أه.

(٣) سورة يس ، آية : ٧ وفي مجمع البيان : «لقد حق القول» أن وجب الوعيد واستحقاق العقاب عليهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ويموتون على كفرهم ، وقد سبق ذلك في علم الله تعالى. وقيل : تقديره لقد سبق القول على أكثرهم أنهم لا يؤمنون. ذلك أنه ـ سبحانه ـ أخبر ملائكته أنهم لا يؤمنون ، فحق قوله عليهم».

(٤) من (ط).

الرابع : إنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة : بالإيمان ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنهم : أنهم لا يؤمنون قط. فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين. وذلك لا يوجد البتة ، ويمتنع وجوده. فثبت : أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل صدور الإيمان عنهم ، والذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل عدم الإيمان عنهم.

الخامس : إنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه. فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ. قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (١).

فثبت : أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم وقوعه : قصد إلى تبديل كلام الله. وذلك منهي عنه [فلما أخبر الله عنهم : أنهم لا يؤمنون ، كان القصد إلى تكوينه قصدا إلى تبديل كلامه. وذلك منهي عنه (٢)] وكان ذلك حاصلا ، سواء حاول تكوين الإيمان أو لم يحاول. فثبت : أن الذي علم الله أنه لا يقع ، وأخبر أنه لا يقع ، كان وقوعه ممتنع الحصول.

فإن قيل : علم الله لا يقلب الجائز ممتنعا. ويدل عليه وجوه عقلية ووجوه سمعية.

أما الوجوه العقلية فعشرة :

الأول : لو كان كذلك ، لوجب أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا. علم في لأنه تعالى إن الشيء أنه سيقع ، كان واجب الوقوع. وما كان واجب الوقوع لم يكن له في وقوعه حاجة إلى المؤثر ، فكان ينبغي أن يستغني وقوعه عن قدرة الله تعالى. فإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة

__________________

(١) سورة الفتح ، آية : ١٥ [أنظر مجمع البيان ، ولاحظ رأي الجبائي].

(٢) سقط (ط).

عليه. فثبت : أن العلم لو اقتضى انقلاب الجائز واجبا أو ممتنعا ، لزم نفي قدرة الله تعالى. وذلك محال.

الثاني : إن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه. فإن كان ممكنا ، علمه [ممكنا (١)] وإن كان واجبا ، علمه واجبا. ولا شك أن الإيمان والكفر ، بالنظر إلى ذاته من باب الممكنات. ولو صار واجب الوجود ، لصار العلم مؤثرا في المعلوم. وقد بينا أنه محال.

الثالث : لو كان العلم والخبر مانعا ، لما كان العبد قادرا على شيء أصلا. لأن الذي علم الله وقوعه كان واجب الوقوع. والواجب لا قدرة عليه ، والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة عليه. فوجب أن لا يكون العبد قادرا على شيء أصلا ، فكانت حركاته وسكناته ، جارية مجرى حركات الجمادات ، ومجرى الحركات الاضطرارية للحيوانات. لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك. فإن [من (٢)] رمى إنسانا بالآجرة حتى شجة ، فإنه يذم الرامي ، ولا تذم الآجرة ، ويدرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه ، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار. ولذلك فإن العقلاء ببدائه عقولهم ، يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ، ويقولون : لم فعلت؟ ولم تركت؟ فدل ذلك على أن العلم والخبر غير مانعين من الفعل.

الرابع : لو كان العلم بالعدم ، مانعا من الوجود. لكان أمر الله الكافر بالإيمان : أمرا له بإعدام علمه وبتجهيله وبتكذيبه. وكما أنه لا يليق بحكمته أن يأمر عباده بأن يعدموه ، فكذلك لا يليق بحكمته أن يأمرهم بأن يعدموا علمه. لأن إعدام ذات الله تعالى وصفاته ، ليس في طاقته. فكان الأمر سفها وعبثا. وهو على الحكيم محال. فدل هذا : على أن العلم بالعدم لا يكون مانعا من الوجود.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

الخامس : إن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات ، نظرا إلى ذاته وعينه. فوجب أن يعلمه الله من الممكنات الجائزات. إذ لو لم يكن كذلك ، لكان ذلك العلم جهلا ، وهو محال. وإذا [كان (١)] علم الله من الممكنات الجائزات ، التي لا يمتنع وجوده ولا عدمه ـ ولو صار بسبب العلم واجبا ـ لزم أن يجتمع على الشيء الواحد : كونه من الممكنات ، وكونه ليس من الممكنات. وهو محال.

السادس : إن الأمر بالمحال : عبث وسفه ، فلو جاز ورود الشرع به في بعض الصور ، لجاز وروده به في بقية الصور. فوجب أن لا يمتنع من الباري تعالى : أن يظهر المعجزات على أيدي الكاذبين ، وأن لا تمتنع أقوال الكتب المشتملة على الكذب والأضاليل. وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا بصحة القرآن. بل يجوز أن يكون كله كذبا. ولما بطل ذلك ، علمنا : أن العلم بعدم الإيمان ، والخبر عن عدم الإيمان ، لا يقتضي انقلاب الإيمان محالا.

السابع : لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة ، لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصحف ، وورود أمر الزّمن بالطيران في الهواء ، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه ، وألقى من شاهق جبل : لم لم يطر إلى الفوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول ، علمنا : أنه لا يجوز ورود الأمر بالمحال. ثم إنا أجمعنا على أن الله تعالى أمر من علم منه أنه لا يؤمن. فدل ذلك على أن العلم بالعدم ، لا يدل على الامتناع.

الثامن : لو جاز ورود الأمر بالمحال ، لجاز بعثة الأنبياء الى الجمادات ، وإنزال الكتب عليها ، وإنزال الملائكة عليها ، لتبليغ التكاليف إليها ، حالا بعد حال. ومعلوم أن ذلك سخرية ، وتلاعب بالدين.

التاسع : إن العلم بوجود الشيء ، لو اقتضى وجوبه ، لأغنى هذا العلم عن الإرادة والقدرة ، فوجب أن لا تدل حدوث الأفعال على كونه تعالى قادرا مريدا. وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب.

__________________

(١) من (م ، ل).

العاشر : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم توجد. قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ـ (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ـ (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٣) ـ (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) ولو كان العلم بالعدم ، مانعا من ذلك الفعل ، لكانت التكاليف بأسرها : تكليفا [بما لا يطاق (٥)] فثبت بمجموع هذه الوجوه العقلية : أن العلم بالعدم ، لا يمنع من الفعل.

وأما الوجوه السمعية فستة :

الأول : إن القرآن مملوء من الآيات [الدالة (٦)] على أنه لا مانع لأحد من الإيمان. قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٧)؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أنه لو كان علم الله بعدم الإيمان ، وإخباره عن عدم الإيمان : مانعا. لصار قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) : كذبا. وكذلك قوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (٨)؟ وقوله لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٩)؟ وقول موسى عليه‌السلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٨٦ وفي مجمع البيان : «أي لا يأمر ولا ينهي أحدا إلا ما هو له مستطيع». وقيل : إن معنى قوله (إِلَّا وُسْعَها) ألا يسرها دون عسرها ، ولم يكلفها طاقتها. ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها. عن سفيان بن عينية. وهذا قول حسن. وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لا يطيقه. لأن الوسع هو ما تتسع له قدرة الانسان ، وهو المجهود واستفراغ القدرة. وقال بعضهم : إن معناه : إلا ما يسعها ويحل لها. وهذا خطأ لأن نفس أمره إطلاق. فكأنه قال : لا أطلق لك ولا آمرك إلا بما أمرك.

(٢) سورة الحج ، آية : ٧٨.

(٣) سورة الأعراف ، آية : ١٥٧.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٨٥.

(٥) زيادة.

(٦) من (م ، ل).

(٧) سورة الإسراء ، آية : ٩٤.

(٨) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(٩) سورة ص ، آية : ٧٥.

ضَلُّوا) (١)؟ [وقوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢)]؟ ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٣)؟ ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٤)؟ ـ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥)؟ وهذا باب فيه إطناب. والقدر الذي ذكرناه : كافي.

الثاني : إنه تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ : حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٦) وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ. لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً. فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٧) بين تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا ، إلا وقد أزاله عنهم. ولو كان علمه بكفرهم ، وخبره عن كفرهم : بيانا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار ، وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم. ولما لم يكن كذلك ، علمنا : أن العلم بعدم الإيمان ، لا يمنع من الإيمان.

الثالث : إنه تعالى حكى عن الكفار في «حم» السجدة أنهم قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٨) وإنما ذكر تعالى هذه الحكاية عنهم ، ذما لهم على هذا القول. ولو كان العلم بعدم الإيمان ، مانعا من الإيمان. لكانوا صادقين في هذا القول. فلم ذمهم عليه؟

الرابع : إنه تعالى إنما أنزل قوله : (إِنَ) (٩) الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) : ذما لهم ، وزجرا لهم ، عن الكفر ، وتقبيحا لفعلهم. فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان ، غير قادرين عليه : ما استحقوا الذم البتة. بل كانوا معذورين فيه. كما يكون الأعمى معذورا في أن لا يرى ، والزّمن في أن لا يمشى.

الخامس : القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله على الكفار ، لا أن يكون حجة للكفار على الله وعلى رسوله. ولو كان العلم والخبر مانعين عن

__________________

(١) سورة طه ، آية : ٩٢.

(٢) سورة الانشقاق ، آية : ٢٠ والآية من (م).

(٣) سورة المدثر ، آية : ٢٩.

(٤) سورة التوبة ، آية : ٤٣.

(٥) سورة التحريم ، آية : ١.

(٦) سورة النساء ، آية : ١٦٥.

(٧) سورة طه ، آية : ٢.

(٨) سورة فصلت ، آية : ٥.

(٩) سورة البقرة ، آية : ٦.

الإيمان ، لكان لهم أن يقولوا : لما اعترفت (١) بأن الله علم الكفر منا ، وأخبر عن حصول الكفر فينا ـ وهذا من أعظم الموانع لنا عن الإيمان ـ فلم يطلب المحال منا؟ ولم يأمرنا بالمحال؟ ومعلوم : أن هذا مما لا جواب لله و[لا (٢)] لرسوله عنه ، لو (٣) ثبت : أن العلم والخبر يمنع عن الإيمان.

السادس : إنه تعالى قال : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤) ولو أنه أمر بالإيمان ، مع حصول المانع منه : لما كان (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بل كان بئس المولى وبئس النصير. ومعلوم : أن ذلك : كفر.

فثبت بهذه الوجوه : أن علم الله بعدم الإيمان ، وخبره عن عدم الإيمان : لا يدل على كون ذلك الإيمان ممتنع الحصول.

وأما الجواب على سبيل التفصيل :

فاعلم : أن للمعتزلة فيه طريقين :

الأول : طريقة «أبي علي» و «أبي هاشم» و «القاضي عبد الجبار بن أحمد» وهي أن قالوا : إن قول القائل : لو وقع خلاف معلوم الله ، لانقلب علم الله جهلا. قالوا : خطأ من يقول : إنه ينقلب علمه جهلا. لأن هذا تعليق للمحال بالممكن. فإن انقلاب علم الله جهلا محال. ووقوع علم الله أنه لا يقع ممكن. فقولنا : لو وقع ما علم الله أنه لا يقع تعليق المحال بالممكن. فكان خطأ. وخطأ أيضا : قول من يقول : إنه لا ينقلب جهلا. ولكن يجب الإمساك عن القولين.

الثاني : طريقة «الكعبي» واختيار «أبي الحسين البصري» وهو أن العلم تبع للمعلوم. فإذا فرضنا أن الصادر من العبد هو الإيمان ، كان الحاصل في أزل الله تعالى هو العلم بوجود الإيمان. وإذا فرضنا أن الواقع منه هو عدم

__________________

(١) اعترافنا (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) ولو (ط).

(٤) سورة الحج ، آية : ٧٨.

الإيمان ، كان الحاصل في الأزل هو العلم بعدم الإيمان.

فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا (١) أنه ينقلب جهلا.

فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد المعتزلة. والله أعلم.

والجواب : أما الوجوه التي استدلوا بها على أن علم الله بعدم الإيمان ، وإخباره عن عدم الإيمان : لا يمنع من وجود الإيمان.

فالجواب عنها من وجهين :

الأول : إن الدليل الذي ذكرناه في كونه مانعا منه وهو دليل تلك المقدمات : صحيح. أما التركيب فكيف يقدح ما ذكرتموه في صحته؟ وبيانه : وهو أنا قلنا : إن العلم بعدم الإيمان ، لا يحصل إلا عند عدم الإيمان. فهذه مقدمة بديهية. لأن شرط العلم : أن يكون مطابقا للمعلوم. فالعلم بعدم الإيمان ، لا يكون علما ، إلا إذا كان مطابقا. ولا (٢) يكون إلا إذا حصل عدم الإيمان. فثبت : أن العلم بعدم الإيمان ، لا يحصل إلا عند عدم الإيمان. ثم نقول : لو حصل وجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان ، لزم اجتماع النقيضين ، وهذا كلام ، لا مجال للعقل في أن يتشكك فيه. وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، لم تكن الوجوه التي ذكروها قادحة في صحة هذا الكلام البتة.

والوجه الثاني : أن نجيب عن كل واحد من تلك الوجوه ، على التفصيل :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «يلزم أن لا يقدر الله تعالى على شيء أصلا» قلنا : لا نسلم. وذلك لأن الله تعالى إنما يعلم وقوع ذلك الممكن ، لو كان هو في نفسه واقعا. لأن العلم يتبع المعلوم ، ووقوع ذلك الممكن. لا بد

__________________

(١) لأنه [الأصل].

(٢) وأن (م ، ل).

وأن يكون لأجل مؤثر يؤثر فيه ، وهو القدرة والإرادة. فالعلم إنما تعلق بوقوعه ، لأنه علم أنه واقع باتباع القدرة والإرادة. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يعقل أن يقال : إن هذا العلم يغنيه عن القدرة والإرادة؟ ومثاله : أن علمه (١) تعالى ، لما تعلق بأن الجسم إنما تحرك لقيام معنى ، به يوجب المتحركية ، لم يكن هذا مغنيا لتلك المتحركية عن علتها. فكذا [هاهنا (٢)].

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «العلم يتعلق به ، كما هو في نفسه. وهو في نفسه من الممكنات» فجوابه : إن هذا مسلم. فإن العلم يتعلق به : أنه من حيث هو هو من الممكنات ، وأنه صار واجب الوقوع. لأن قدرة الله وإرادته تعلقتا بإيقاعه في الوقت الفلاني. وكون الشيء ممكنا بذاته ، لا ينافي كونه واجبا بغيره [فالعلم تعلق بأنه ممكن لذاته ، واجب لغيره (٣)].

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «ولو كان ذلك المعلوم ، واجب الوقوع ، لوجب أن لا يبقى للعبد قدرة على الفعل أصلا».

فجوابه : ما تقدم في البرهان الأول : أن ذلك الفعل [ما (٤)] صار واجب الوقوع بسبب العلم بل لأن القادر المختار ، خلق في العبد ما يوجب حصول ذلك الفعل وهو مجموع القدرة مع الداعي. فالمؤثر في وجوب ذلك الفعل : هو هذا المعنى. أما تعلق علم الله فهو يكشف عن حصول هذا الوجوب. لا (٥) أنه هو الموجب.

وأما السؤال الرابع : [وهو (٦)] قوله : «ولو كان الأمر كما قلتم ، لكان أمر الكافر بالإيمان : أمرا بتجهيل الله تعالى وبتكذيبه» قلنا : إن عنيتم به : إن أمر الكافر بالإيمان ، لا يتأتى إلا مع تجهيل [الله (٧)] ومع تكذيبه. فهذا ممنوع. وإن عنيتم أن حصول المأمور به ، لا يمكن إلا مع تجهيل [الله (٨)]

__________________

(١) علم الله تعالى (ط ، ل).

(٥) إلا (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٦) من (ط ، ل).

(٣) من (ط).

(٧) من (ط ، ل).

(٤) سقط (ط).

(٨) من (ط ، ل).

وتكذيبه. فهذا هو الذي قلناه. وزعمنا : أن هذا الأمر في الحقيقة : أمر بالمحال ، الذي لا يمكن إيقاعه.

وأما السؤال الخامس : وهو قوله : «الإيمان في نفسه من الجائزات (١) فلو صار محالا بسبب العلم : يكون (٢) الشيء الواحد : ممكنا محالا» فجوابه : إنه لا امتناع في كون الشيء الواحد : جائزا لذاته ، ممتنعا لسبب منفصل. ألا ترى أن الممكن : ممكن لذاته ، واجب عند حضور علة وجوده ، ممتنع عند عدم سبب وجوده. فكذا هاهنا.

وأما بقية الوجوه : فهي شبهات (٣) يذكرونها في أن الأمر بالمحال ، لا يجوز. لكنا بينا : أن هذا المعنى واقع. لأنه يخلق الدواعي إلى الكفر في حق الكافر ، ثم يأمره بالإيمان. وما ذاك إلا تكليف ما لا يطاق.

وأما الوجوه السمعية التي عولوا عليها : فهي قابلة للتأويل. وما ذكرناه من الدلائل لا يقبل التأويل. فكان الترجيح من جانبنا.

قلنا : جوابهم الأول. وهو قولهم : «خطأ قول من يقول : إن وقوع ما علم الله أنه لا يقع : يدل على انقلاب علم الله جهلا ، وخطأ قول من يقول : إنه لا يدل» : فضعيف. وذلك لأنهم إن أرادوا أن كلا النقيضين باطل في نفس الأمر. فهذا لا يقوله عاقل. وإن أرادوا به أن أحدهما حق ، ولكن لا ينطقون به [ولا يتلفظون به (٤)] فهذا مسلم. إلا أن إلزامنا غير مبني على نطقهم ، ولا على لفظهم وعبارتهم. فإنا لما بينا أنه تعالى إذا علم أنه لا يؤمن. فلو آمن ذلك الشخص. فإن على هذا التقدير ، لم يكن علمه مطابقا للمعلوم. ولا معنى للجهل إلا هذا. فثبت منه : أنه يلزم انقلاب علم الله جهلا. ولما كان هذا محالا ، وجب أن يكون ذلك محالا لأن المؤدي إلى المحال محال

__________________

(١) الجائز (م).

(٢) كون (ط).

(٣) شهادة (م).

(٤) سقط (ط).

وأما جوابهم الثاني : فضعيف أيضا : لأن قولنا : لو كان الداخل في الوجود هو إيمان «زيد» لعلم الله في الأزل أنه يؤمن. ولو كان الداخل عدم إيمانه ، لعلم الله في الأزل أنه لا يؤمن. فهذا قضية شرطية. لأن قولنا : لو كان كذا ، لكان كذا : لا شك أنه قضية شرطية. لكنا نقول : إنه لا بد مع حصول هذه القضية الشرطية ، أنه تعالى [كان (١)] عالما في الأزل بأنه [يؤمن ، أو كان عالما بأنه (٢)] لا يؤمن.

فثبت : أن أحد هذين العلمين حاصل. وإذا كان ذلك حاصلا ، امتنع أن يقع نقيض ذلك المعلوم ، وإلا لزم أن يصير علمه جهلا وهذا محال. وأيضا : إن ذلك العلم ، لما كان علما في الأزل ثم قدرنا أن المعلوم لم يقع في الأزل ، فحينئذ ينقلب ذلك العلم جهلا في الأزل. وهذا مفضي إلى وقوع التبديل فيما حصل في الزمان الماضي ، وكل ذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن هذه الأجوبة في غاية الضعف ، وأن البرهان الذي عولنا عليه ، مما لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه.

وبالله التوفيق

البرهان الخامس

لو لم يكن الله تعالى موجدا لأفعال العباد ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها. إلا أن خصومنا يوافقونا على أنه عالم بها قبل وقوعها. فيلزم القطع بأنه تعالى موجدا لها ، أو موجدا لما يكون موجبا لها. وهو المطلوب.

أما بيان أنه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها : فقد ذكرنا أنه متفق عليه بيننا وبين خصومنا. إنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية. وهو قولنا : لو لم يكن موجدا لها ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

والذي يدل على صحة هذه المقدمة : إن ماهيات أفعال العباد قابلة للمعدوم ، وقابلة للموجود ، قبولا على التساوي ، من غير رجحان أصلا البتة (١). فلو فرضنا أنه لا يرجح أطراف وجود هذه الأفعال على طرف عدمها ، إلا قدرة العبد. ثم إن قدرة العبد غير موجبة لذلك ، بل هي صالحة للفعل والترك [ولم يكن (٢)] أيضا هذا الرجحان. لا ابتداء ولا بواسطة. لأن التقدير أنه لم يوجد في الأزل ما يوجب تلك الأفعال. لا ابتداء ولا بواسطة. وإلّا فالجبر لازم. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت أفعال العباد في أنفسها قابلة للعدم ، وقابلة للوجود على السوية. ولم يكن هناك البتة ما يقتضي رجحان وجودها على عدمها. فلو اعتقد معتقد فيها : كونها راجحة الوجود على العدم ، كان ذلك الاعتقاد : اعتقادا غير مطابق. فكان جهلا. والجهل على الله محال. فثبت : أنه تعالى لو لم تتعلق قدرته في الأزل بإيقاع تلك الأفعال في لا يزال ، ولم يتعلق أيضا بإيقاع ما يوجب وقوع تلك الأفعال في لا يزال ، كان اعتقاد أنها ستقع في لا يزال ، اعتقادا غير مطابق للمعتقد ، وإنه جهل. وهو على الله محال. وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إن قدرته تعالى في الأزل ، تعلقت بإيقاع هذه الأفعال في لا يزال ، أو بإيقاع ما يوجب هذه الأفعال في لا يزال ، حتى يكون علمه بأنها ستقع في لا يزال : علما ، ولا يكون جهلا.

فإنه قيل : إنه تعالى يعلم في الأزل أن فعل العبد سيترجح وجوده على عدمه ، في الوقت الفلاني ، وفي ذلك الوقت يكون المقتضى لترجح وجوده على عدمه حاصلا. فأما لمّا فرضنا أن المقتضى لذلك الترجح ، هو قدرة العبد. وفرضنا أن قدرة العبد حاصلة في ذلك الوقت. فعلى هذا التقدير ، كان المقتضى لترجحه حاصلا في ذلك الوقت.

والجواب : إن هذا سوء فهم ، لما ذكرناه. وذلك لأنه تعالى يعلم في الأزل أن وجود الفلاني سيترجح على عدمه في الوقت الفلاني في لا يزال.

__________________

(١) والبتة (م ، ط).

(٢) سقط (ط).

ووقوع الترجيح ، وإن كان لا يحصل إلا في ذلك الوقت ، إلا أن المفهوم من قولنا : سيترجح: كان حاصلا في الأزل. [فهذا المفهوم لما كان حاصلا في الأزل (١)] وجب أن يحصل له ما يقتضي حصوله. لكن المقتضي لحصوله ، ليس هو ذاته ، وإلا لكان واجب الحصول لذاته. ولا قدرة العبد ، ولا إرادته ، لأن كل ذلك معدوم. فوجب أن يكون المقتضي له : هو قدرة [الله (٢)] وإرادته. وذلك يقتضي أن يكون وقوع أفعال العباد بقدرة الله وإرادته. فإن لم تكن قدرة الله وإرادته ، يقتضيان ما هو المفهوم من قولنا : إن الفعل الفلاني سيترجح في الوقت الفلاني ، وليس له نقيض آخر. وجب أن لا يحصل هذا المفهوم. وإذا لم يحصل هذا المفهوم ، كان [اعتقاد (٣)] حصوله جهلا. فثبت : أن (٤) على هذا التقدير أنه تعالى لو لم يكن موجدا لأفعال [العباد (٥)] ولا لما يكون موجبا لأفعال العباد ، لامتنع كونه تعالى عالما بوقوعها في الأزل. ولما كان هذا باطلا ، ثبت أن الحق ما ذكرناه. واعلم : أن هذه النكتة إنما استنبطناها من مسألة حكمية. وهي : أن الجزم بوقوع الممكن ، لا يمكن إلا بواسطة العلم بعلته وموجبه.

وبالله التوفيق

البرهان السادس

اعلم : أن هذا البرهان لا يمكن تقريره ، إلا بعد تقديم مقدمة في حقيقة المتناقضين.

فنقول :

إنهما القضيتان اللتان يجب لذاتهما أن تكون إحداهما صادقة ، والأخرى

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) أن أحد التقدير (ط).

(٥) من (ط ، ل).

كاذبة. بعينه ، أو بغير عينه. وتقريره : إنا إذا عينا الموضوع أمرا واحدا في نفسه ، وعينا المحمول أمرا واحدا في نفسه ، وعينا الوقت [وقتا (١)] واحدا في نفسه. فإذا قلنا : ذلك المحمول ، ثبت لذلك الموضوع ، في ذلك الوقت. ثم قلنا : ذلك المحمول ، ما ثبت لذلك الموضوع ، في ذلك الوقت. والعقل قاطع بأنه لا بد في هذا الايجاب ، وهذا السلب ، أن يكون أحدهما صادقا ، والآخر كاذبا. ثم قالوا : الصادق والكاذب معنيان في الواجب وفي الممتنع وفي الممكن الماضي والحاضر. أما في الواجب فكل ما هو في جانب الثبوت ، فهو الصادق. وكل ما هو في جانب السلب ، فهو الكاذب. وأما في الممتنع ، فبالضد. وأما في الممكن الماضي والحاضر ، فالذي لم يقع هو الكذب في نفسه. والذي وقع في نفسه ، فهو الصادق. وأما الممكن المستقبل. فقال بعضهم : الصادق والكاذب غير متعينين ، بل أحدهما صادق ، والآخر كاذب على التعيين. وعندي : أنه يجب أن يكون الصادق متعينا ، والكاذب متعينا في نفس الأمر ، في الممكن المستقبل. والدليل عليه : أن الصدقية والكذبية صفتان حقيقيتان حاصلتان في نفس الأمر. فلا بد لكل واحد منهما من محل موجود في الخارج. وكل موجود في الخارج فهو في نفسه معين لأن (٢) كل ما كان موجودا في نفسه ، فهو معين في نفسه ، والإيهام لا يحصل [إلا (٣)] في الأذهان. بمعنى [أنه (٤)] لا يعلم أن الموصوف بالصدقية. أهو هذه القضية ، أم تلك الأخرى؟ فأما أن يكون الذي هو الموجود (٥) في الأعيان بينهما في نفسه غير معين بحسب وجوده (٦) فهو محال. ولما ثبت أن الصدقية والكذبية صفتان موجودتان ، وثبت أن الصفة الموجودة [ليست (٧)] محلا معينا في نفس الأمر ، يثبت أن

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) أن يكون هو موجود (م ، ل).

(٦) نفسه (ل).

(٧) تستدعى (ل).

إحدى هاتين القضيتين هي الموصوفة بالصدقية في نفس الأمر ، والأخرى هي الموصوفة بالكذبية في نفس الأمر بل نحن لا نعرف أن الموصوف بالصدقية أي الطرفين؟ والموصوف بالكذبية أيهما؟ فأما في نفس الأمر ، فإنه يجب أن يكون أحدهما بعينه موصوفا بالصدقية ، والأخرى بالكذبية. إذا ثبت هذا ، فنقول : إن هذا يقتضي أن تكون جميع الحوادث المستقبلة : مقدرة على وجه ، يمتنع تطرق الزيادة والنقصان والتغيير إليها. على ما هو مذهبنا في مسألة القضاء والقدر.

والدليل عليه : أن الجانب الذي صدق عليه أنه سيقع في الوقت الفلاني. إما أن يكون أن لا يقع في ذلك الوقت ، أو لا عكس. والأول باطل. لأن كل ما كان [ممكنا (١)] فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض غير واقع. وإذا لم يقع ، صار قولنا : إنه سيقع : كذبا من أول وقت دخول هذا الخبر في الوجود. وكنا قد فرضنا : أنه كان موصوفا بالصدقية. فإذا لم يحصل ذلك الفعل ، في ذلك الوقت ، لزم من عدم وقوعه في ذلك الوقت، ارتفاع الصدقية من ذلك الخبر ، من أول دخوله في الوجود. فيلزم أن يكون عدم وقوع ذلك الفعل في ذلك الوقت ، موجبا زوال صفة الصدقية عنه في الزمان الماضي ، فيفضي هذا إلى إيقاع التصرف في الزمان الماضي. وإنه محال. فثبت : أن عدم وقوع ذلك الفعل في ذلك الوقت ، يلزم منه محال. والممكن هو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال. فثبت : أن عدم وقوعه في ذلك الوقت محال. فكان وقوعه فيه واجبا وهو المطلوب.

فإن قيل : مدار كلامكم على أن كون الخبر صدقا وكذبا : صفة حقيقة. تستدعي موصوفا موجودا ، وكل موجود فهو في نفسه معين. فنقول : لا نسلم أن كون الخبر صدقا أو كذبا : صفة وجودية. ولم لا يجوز أن يكونا أمرين اعتباريين ، لا حصول لهما في الأعيان؟.

__________________

(١) من (ط ، ل).

والجواب من وجوه :

الأول : إن الصدقية والكذبية متقابلان بالسلب والإيجاب. لأن الصدق هو الخبر المطابق ، والكذب هو الخبر الذي لا يطابق. ولما كان هذان الوصفان متقابلين بالسلب والإيجاب ، كان أحدهما لا محالة صفة ثابتة موجودة. وإذا كان كذلك ، وجب أن يحصل له موصوف معين. وحينئذ يحصل المطلوب.

ولا ينافي مذهبنا أن الصدقية والكذبية وصفان سلبيان ، لأن الوصف السلبي لا بدّ له أيضا من محل معين. لأن هذا السلب عبارة عن عدم شيء [عن شيء (١)] من شأنه أن يكون حاصلا [له (٢)] فما لم يحصل إمكان حصول ذلك الوصف لذلك الموصوف ، امتنع أن يحكم الذهن بزواله عنه. فثبت : أنه وإن كان سلبيا إلا أنه لا بد له من محل معين.

[الثاني (٣)] : وهو إنه إذا كان هذا الطرف بعينه خاليا عن الصدقية والكذبية ، كان مجرد قولنا : «زيد غدا يمشي» : خاليا عن كونه كاذبا ، وخاليا عن كونه صادقا. فتكون هذه القضية بعينها خالية عن النقيضين معا. وذلك محال ، وكذا القول في الطرف الآخر. لا يقال : إنه وإن خلا عن الصدقية بعينها ، والكذبية بعينها ، لكنه ما خلا عن كونه. إما صدقا وإما كذبا. لأنا نقول : هذا الإيهام إنما يقع في الأذهان. أما في الأعيان. فالحاصل إما وصف الصدقية ، وإما وصف الكذبية. فإذا كانت القضية خالية عنهما معا ، لزم خلوهما عن النقيضين. وهو محال.

واعلم : أن هذا البرهان قد دل على أن جميع الحوادث المستقبلة ، مترتبة في أنفسها ترتبا ، يمتنع على المتقدم أن يصير متأخرا ، أو على المتأخر أن يصير متقدما. وذلك يبطل الاعتزال بالكلية. ثم إنا إذا أردنا أن نبين أن ذلك الوجوب إنما حصل بإيجاب الله تعالى وبتقديره. قلنا : إن ذلك الموجب يمتنع أن

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) الثالث (ل).

يكون بالذات. لما ثبت : أن الممكن لذاته ، لا يكون واجبا لذاته. بل لا بد وأن يكون واجبا بالغير. وذلك الغير ليس هو العبد. لأن هذا الوجوب حاصل قبل قصد العبد إلى إيجاده ، بل حاصل قبل وجود العبد. وكيف. وهذا الوجوب الذي قررناه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد. ولا بد وأن يكون [المقتضى (١)] لذلك الوجوب أمرا كان مستمرا من الأزل ، وما ذاك إلا الله سبحانه. فثبت : أن هذا الوجوب إنما حصل في هذه الحوادث المستقبلة ، بتقدير الله وبإيجاده (٢) إما ابتداء وإما بواسطة. وذلك هو المطلوب.

وهذا برهان شريف ، لا بد من التأمل فيه ، ليحصل الوقوف عليه ، كما ينبغي.

وبالله التوفيق

البرهان السابع

أفعال العباد معلومة الوقوع لله تعالى. أو معلومة اللاوقوع. وكل ما هو معلوم الوقوع ، كان واجب الوقوع. وكل ما هو معلوم اللاوقوع ، كان واجب اللاوقوع. وكل ذلك قد تقدم تقريره.

فنقول : ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الوجوب [إما (٣)] بسبب : أن الله رجح وجودها على عدمها [وإما (٤)] بسبب أن الله تعالى خلق ما يوجب وقوعها ، إما بواسطة ، أو بغير واسطة. وعلى كل هذه التقديرات ، فمقصودنا حاصل.

والذي يدل على [صحة (٥)] هذه المقدمة : أن فعل العبد لما كان واجب

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) وبإيجاده وإيجابه (ل).

(٣) زيادة.

(٤) زيادة.

(٥) سقط (ط).

الوقوع في ذلك الوقت المعين. فإما أن يكون وجوبه لذاته. وهو محال. لأن الممكن لذاته ، لا يكون واجبا لذاته. وإما أن يكون وجوبه لغيره وذلك الغير. إما العبد ، وإما الله. والأول باطل. لأن الفعل الذي علم الله ، وقوعه في الوقت الفلاني [محكوم عليه في الأزل بأنه واجب أن يقع في الوقت الفلاني (١)] في لا يزال. فالوجوب بهذا التفسير حاصل في الأزل ، بما لا يكون حاصلا في الأزل : محال. ولما بطل هذا ، ثبت : أن المؤثر في حصول الوجوب بالتفسير الذي ذكرناه : صفة من صفات الله تعالى.

وتلك الصفة. إما العلم ، وإما غيره. والأول باطل. لأن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، وهو يتبع المعلوم ولا يستتبعه. فيمتنع أن يكون المقتضي لهذا الوجوب هو علم الله. فثبت : أن المقتضي لهذا الوجوب : صفة من صفات الله ، باشرها في ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، وتلك الصفة ليست إلا القدرة أو الإرادة.

فثبت : أن المؤثر في وقوع أفعال العباد ، ليس إلا قدرة [الله (٢)] إما ابتداء أو بواسطة. وذلك هو المطلوب.

وهذا أيضا [برهان (٣)] شريف المطلوب. إلا أن البرهان المبني على اعتبار أحوال المتناقضين أشرف من هذا البرهان. وذلك لأنا في هذا البرهان نفتقر لإقامة الدلالة على كونه تعالى عالم بجميع المعلومات. حتى يثبت لنا عند ذلك : أنه تعالى كان عالما بأفعال العباد قبل وقوعها. وهذه المقدمة إن أخذناها على سبيل أن الخصم شاهد عليها ، كان هذا الكلام إلزاما برهانيا. فإن حاولنا إثباتها بالدليل ، تعذر ذلك علينا. لأن المعتمد في إثبات أنه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها : هو أنه تعالى مقدر لها وخالق لها. فوجب أن يكون عالما بها. فنحن إنما أثبتنا كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها ، لأنه ثبت كونه تعالى

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

خالقا لها. فلو أثبتنا كونه تعالى خالقا لها ، بناء على كونه عالما بها قبل وقوعها ، لزم الدور.

وأما البرهان المبني على اعتبار أحوال النقيضين في الصدق والكذب. فهو مبني على أن النقيضين المختلفين بالسلب والإيجاب ، فإنه يجب أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة. وهي مقدمة معلومة بالبديهة. فلا جرم كان هذا البرهان أقرب إلى التقرير ، وأبعد عن الشكوك والشبهات.

وبالله التوفيق

البرهان الثامن

لو حدث بقدرة العبد شيء ، لامتنع أن يقال : إنه إنما صدر عنه هذا الفعل ، لأنه صدر عنه فعل آخر. وإلا لزم التسلسل وهو محال. بل لا بد وأن تنتهي أفعال العبد (١) إلى فعل (٢) أول صدر عنه ذلك الفعل ، لا بواسطة فعل آخر منه ، فنقول : صدور ذلك الفعل عنه ، لا بد وأن يكون لأجل اتصاف ذاته بصفات حصلت بتخليق الله [تعالى (٣)] فنقول: [ذاته (٤)] مع مجموع تلك الأمور المعتبرة في كونه موجدا لذلك. إما أن يكون كافيا في صدور ذلك الأثر عنه ، أو لا يكون. فإن كان كافيا ، كان الفعل مع ذلك المجموع واجبا. إذ لو لم يجب ، لجاز أن يتخلف. ولو جاز أن يتخلف ، لكان صدور الأثر عن ذلك المجموع ممكنا ، لا واجبا. فكان يفتقر إلى زائد آخر. ولو كان كذلك ، لما كان الحاصل قبل ذلك كافيا في صدور الأثر عنه. وكنا قد فرضناه كذلك. هذا خلف. فثبت : أن حصول الأثر عند ذلك المجموع ، يكون واجبا. وهو الجبر.

وأيضا : إذا كان حصول الأثر عند حصول ذلك المجموع غير واجب.

__________________

(١) العباد (م).

(٢) أول فعل (ط ، ل).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

بل يجوز أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى ، ولم يكن تميز حصول الفعل (١) عن لا حصوله ، بأمر آخر يضمه العبد إلى المجموع ، الذي كان حاصلا. فحينئذ يكون حصول الفعل محض الاتفاق. وهذا أيضا محض الجبر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : ذات العبد [مع مجموع العبد (٢)] مع مجموع تلك الأمور : غير كاف في كونها مصدرا لذلك الفعل. فحينئذ لا بد من ضم شيء آخر إليه ، وذلك [الأمر (٣)] الآخر ، إن كان فعلا له ، فهو محال. وإلا لزم أن يحصل فعل ، قبل حصول أول الأفعال. وذلك محال. وإن لم يكن فعلا له ، بل كان فعلا لله تعالى ، فعند (٤) حصوله قد تم كل ما لا بد منه في كونه مصدرا لأفعاله. فإما أن يكون صدور أفعاله عنه واجبا ، أو لا يكون وحينئذ يعود التقسيم المذكور بعينه. فثبت : أن حصول الفعل عند حصول كل ما لا بد منه في المؤثرية : واجب. وثبت : أن عند فقدان كل تلك الأمور ، وعند فقدان بعضها ، يكون صدور الفعل عن العبد (٥) ممتنعا. وعلى هذا التقدير ، فإنه يكون القول بالجبر لازما.

وبالله التوفيق

البرهان التاسع

نقول للمعتزلة : إذا جوزتم كون العبد موجدا. فما الأمان من أن يكون محدث المعجزات واحدا من الشياطين والأبالسة. وعلى هذا التقدير فإنه يخرج المعجز من أن يدل على الصدق؟

__________________

(١) لا عن (م).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) قصد (ط).

(٥) الفعل (م).

قالوا : الدليل دل على أن غير الله لا يقدر على خلق الجسم والحياة. وتقرير ذلك الدليل ، أن نقول : لو قدر أحد من الخلق على ذلك ، لكان ذلك القدر. إما أن يكون قادرا لذاته ، وإما أن يكون قادرا بالقدرة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون أحد من الخلق قادرا على خلق الجسم ، وعلى خلق الحياة ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قادرا لذاته ، لأن ذلك القادر لا بد وأن يكون جسما ـ والأجسام متماثلة ـ فلو كان الجسم (١) قادرا لذاته ، لكان كل جسم كذلك. ضرورة أن حكم الشيء حكم مثله. ولما بطل هذا ، علمنا : أنه لا يجوز أن يكون قادرا لذاته.

وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قادرا بالقدرة. لأن القدرة لا تصلح بفعل الجسم. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن القدرة التي لنا ، لا تصلح لفعل الأجسام ، فهذا الامتناع حكم مشترك فيه بين القدرة التي لنا. والحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف مشترك فيه. وما ذاك إلا كونها قدرا. فثبت : أن كون القدرة قدرة : مانعة من صلاحية إيجاد الجسم. فوجب أن تكون كل قدرة كذلك.

الثاني : إن كل قدرة نفرضها. فهي إما أن تكون مثلا لهذه القدرة الحاصلة لنا ، أو مخالفا لها. فإن كانت مثلا لهذه القدرة ، وجب أن لا تكون صالحة للإيجاد. كما أن هذه القدرة غير صالحة للإيجاد. ضرورة أن حكم الشيء [حكم (٢)] مثله. وإن كانت مخالفة لهذه القدر ، لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. فلما كانت هذه القدر مع كون بعضها مخالفا للبعض ، لا يصلح للإيجاد. فكذلك تلك القدرة المفروضة ، وجب أن لا تصلح للإيجاد.

هذا حاصل ما لخصه القوم ، وعولوا عليه ، في أن فاعل المعجزات هو الله تعالى. وهو كلام في غاية الرخاوة والسقوط. فنقول : لم لا يجوز أن يكون

__________________

(١) في الأصل (جسم) والتصحيح ص (م).

(٢) زيادة.

ذلك الفاعل قادرا [لذاته (١)] لكان كل جسم كذلك. ضرورة أن الأجسام متماثلة» لكنا لا نسلم أن ذلك الفاعل يجب أن يكون جسما. وذلك لأن الفلاسفة يثبتون موجودات ليست متحيزة [ولا حالة في المتحيز (٢)] كالعقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة. فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا التقسيم ، لا ندرك الجزم بأن ذلك الفاعل ، يجب أن يكون جسما.

والمتكلمون ما ذكروا في ابطال هذا القسم كلاما يصلح أن يلتفت إليه بل نقول : [لم (٣)] لا يجوز أن تكون النفس الناطقة التي لهذا الشيء ، هي التي أحدثت هذا المعجز. وما كانت نفسه مخالفة لسائر النفوس في الماهية ، لم يلزم من قدرته على تلك الأفعال قدرة غيره عليها؟.

وبالجملة : فهذا الاحتمال لا يندفع إلا باقامة الدلالة على أن كل ما سوى الله تعالى ، فهو إما متحيز ، أو حال فيه.

سلمنا : أن ذلك الفاعل يجب أن يكون جسما. فلم قلتم : إن الأجسام كلها متماثلة؟ وما الدلالة على ذلك؟ وتقريره : إن المعلوم : هو أن الأجسام متساوية في وجوب الحصول في الحيز ، وفي كونها بحيث يمنع غيرها عن أن يحصل بحيث هو ، وفي كونها قابلة للأعراض. إلا أن ذلك إشارة إلى الأحكام واللوازم. وقد ثبت : أن الأشياء المختلفة في الماهيات ، لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد. فلم قلتم : إن جميع الأجسام [بأسرها (٤)] متساوية في ماهياتها. حتى يتم لكم ما ذكرتم؟ سلمنا : أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية. لكن لم قلتم : «إن الأفراد المتساوية في تمام الماهية ، يجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر؟» بيانه : وهو أن تلك الأفراد ، وإن كانت متساوية في الماهية ، لكنها مختلفة في التشخّص والتعين. وإلا لكان كل واحد عين الآخر. وحينئذ لا يبقى التعدد. وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ل).

ذلك التعين شرطا لحصول ذلك الحكم ، في أحد الطرفين ، أو مانعا منه في الطرف الآخر؟.

سلمنا : أن التعين ساقط الاعتبار ، لكن قولكم : «يصح على الشيء ما يصح على مثله» : منقوض بصور كثيرة :

الأول : إن أفراد النوع الأخير متساوية في تمام الماهية. مع (١) أن تعين هذا يمنع حصوله لذاك ، وتعين [ذاك (٢)] يمتنع حصوله لهذا. وإلا لصار هذا عين ذاك ، وذاك عين هذا. وكل ذلك محال [فمحال أن يكون (٣)] مقدور العبد مثل المقدور لله تعالى. ثم [لم (٤)] يلزم منه أن يكون مقدور العبد بحيث صح أن يكون مقدورا لله تعالى ـ على مذهب المعتزلة ـ لأن عندهم مقدور واحد بين قادرين : محال.

الثالث : إن مشايخ المعتزلة : مذهبهم : أن الذوات متساوية في كونها ذوات. وإنما يخالف بعضها بعضا لأجل اختصاص كل واحد منها بصفته الخاصة. فعلى هذا : ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات في الذاتية. ثم لم يلزم منه أن يصح على كل واحد من الذوات [كل (٥)] ما يصح على سائر الذوات. وإلا لزم أن يصح على ذات الله : الحدوث والإمكان ، والحاجة إلى المحل ، وأن يصح على ذوات المحدثات كونها قديمة ، واجبة الوجود. وكل ذلك محال.

الرابع : إن صفة الوجود ـ عندهم ـ صفة واحدة. فيكون الوجود الحاصل في السواد والبياض : مساويا للوجود الحاصل في ذات الله. ولم يلزم الاستواء في جميع الأحكام.

__________________

(١) ثم (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

الخامس : عندهم العرض القائم بمحل يمنع حلوله في المحل الثاني ، مع أن [مثل (١)] ذلك العرض ، قد يكون قائما بالمحل الثاني. فههنا المتماثلات في تمام الماهية ، قد اختلفت في اللوازم.

السادس : إن الإرادتين المعلقتين بالمراد الواحد ، على الوجه الواحد : مثلان. [ثم (٢)] إن إحداهما قد تكون في محل ، والأخرى لا في محل ، والإرادة التي حصلت في المحل يمتنع حصولها لا في محلّ وبالعكس.

السابع : العرض الذي لا يبقى : يختص حدوثه بوقت معين. بمعنى أنه يمتنع حدوثه إلا في الوقت الذي حدث فيه. ثم إن تلك الأعراض متماثلة. كما (٣) أن الأصوات متماثلة في تمام الماهية [فههنا المساواة في تمام الماهية (٤)] حاصلة ، ولم يلزم منه المساواة في كل الأحكام.

الثامن : عندهم العبد إذا فعل فعلا ، ثم فني. فإنه لا يقدر على إعادته بعد العدم ، وقد يقدر على إيجاد مثله. فههنا المتماثلات في تمام الماهية ، لم تكن متساوية في كل الأحكام.

التاسع : الوجود صفة واحدة عندهم. وأيضا : فعندهم تأثير القادر ليس إلا في تحصيل الوجود. فإن الماهيات ـ عند مشايخهم ـ ثابتة في العدم ، فيمتنع أن يكون للقادر فيها تأثير. ثم مع هذا ، العبد يقدر على تحصيل الوجود لبعض الماهيات دون البعض.

العاشر : الجوهر حال حدوثه مفتقر إلى الفاعل ، وحال بقائه يمتنع إسناده إلى الفاعل. والتفاوت بين الذات الواحدة : بحسب وقتين من التفاوت ، بين ذاتين متفاوتين. فإذا جاز أن يختلف في الشخص (٥) الواحد بحسب وقتين ، في

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) فإن الأصوات (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) يختلف جاز الشخص (ط).

الأحكام اللازمة ، فلم لا يجوز مثله في الذاتين المتفاوتين؟.

والحاصل : إن دليلهم على أن غير الله ، يمتنع أن يكون قادرا لذاته : مبني على ثلاث مقدمات :

أولها : إن ذلك المغاير يجب أن يكون جسما.

وثانيها : إن الأجسام متماثلة.

وثالثها : إن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب تساويها في جميع اللوازم.

وقد ظهر : أن تنافي هذه المقدمات ، لم يتقرر البتة.

المقام الثاني : لم لا يجوز أن يكون قادرا بالقدرة؟

أما قوله : «القدرة الحاصلة ، عند ما لا يصلح شيء منها ، لإيجاد الجسم. فهذا الامتناع حكم مشترك ، فلا بد من علة مشتركة (١) ولا مشترك إلا كونها قدرا» قلنا : هذا الكلام أيضا مبني على أربع مقدمات :

أولها : قوله : «هذا الامتناع لا بد له من علة» وهذا باطل لأن الامتناع عدم محض ، والعدم لا علة له.

وثانيها : قوله : «الحكم المشترك لا بدّ له من علة مشتركة» وهذا أيضا باطل. بدليل : أن القبح عند المعتزلة ، وصف مشترك فيه بين الظلم والجهل ، والكذب والعبث. ثم إن قبح الظلم عندهم معلل بخصوص كونه ظلما ، وقبح الجهل معلل بخصوص كونه جهلا. فهذا حكم مشترك فيه. وهو غير معلل بعلة مشترك فيها.

وثالثها : قوله : «لا شركة إلا كونها قدرا» وهذا أيضا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال القدر على قسمين : قسم لا يصلح لخلق الجسم ، وقسم يصلح لذلك. والقسم الذي لا يصلح لخلق الجسم : مشترك في وصف واحد ، ولأجل ذلك الوصف يتعذر فعل الجسم بها. وذلك الوصف غير حاصل في القسم الثاني؟ وأقصى ما في الباب : أنا لا نعرف ذلك. لكن عدم العلم

__________________

(١) اشتراكه (م ، ل).

بالشيء ، لا يدل على العلم بعدم الشيء.

ورابعها : إن كون القدرة قدرة ، لما كانت على هذا الحكم ، وجب أن تكون كل قدرة مانعة من هذا الحكم. وهذا بناء على أن حكم الشيء حكم مثله. وقد بينا ما في هذه المقدمة.

وأما قوله ثانيا : «تلك القدرة إذا كانت مخالفة لهذه القدر ، لم تكن مخالفتها لهذه القدر التي عندنا أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. وإذا كانت هذه القدر ، مع مخالفة بعضها لبعض ، لا تصلح لخلق الجسم ، فكذلك تلك القدرة وجب أن لا تصلح لخلق الجسم».

فنقول : هذا أيضا في غاية السقوط. وبيانه من وجوه :

الأول : لا نسلم أن مخالفة تلك القدرة المفروضة ، لهذه القدر ، ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض. فإن من الجائز أن يقال : إن هذه القدر ـ وإن كان بعضها يخالف بعضها ـ إلا أنها متشاركة في أنها لا تصلح لخلق الجسم ، أما تلك القدرة المفروضة فهي مخالفة لجملة هذه القدر. من حيث إن تلك القدرة صالحة لخلق الجسم ، وجملة هذه القدر ، لا تصلح لخلق الجسم. وكانت مخالفة هذه القدرة لجملة هذه القدر ، أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. فإن ادعيتم أن الأمر ليس كذلك ، فهو عين محل النزاع.

الثاني : [سلمنا (١)] أن مخالفة تلك القدرة لهذه القدر ، ليست أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. إلا أن هذه القدر ، لها ماهيات مخصوصة ، ولها أيضا : أن بعضها مخالف لبعض. فعلى هذا : الامتناع ليس [هو (٢)] كون بعضها مخالفا للبعض ، حتى يطرد هذا الحكم في جميع القدر ، التي يخالف بعضها بعضا. بل علة هذا الامتناع : تلك الماهية المخصوصة. ولما كانت تلك الماهية المخصوصة ، غير حاصلة في سائر القدر : سقط ما ذكرتم.

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط).

الثالث : إن هذا الكلام يلزم عليه أن يصح على ذات الله تعالى ، كل ما يصح على كل الحوادث. فإنه يقال : ذات الله تعالى. إما أن تكون مساوية لهذه الذوات ، أو تكون مخالفة لها. فإن كان الأول ، وجب أن يصح عليه تعالى كل ما يصح على هذه الحوادث. وإن كان الثاني لم تكن مخالفة ذاته لهذه الذوات ، إلا كمخالفة بعض هذه الحوادث. وإن كان الثاني لم تكن مخالفة ذاته لهذه الذوات ، إلا كمخالفة بعض هذه الذوات لبعض. فكما أن هذه الذوات مع مخالفة بعضها لبعض ، متشاركة في الحدوث والإمكان والتغير ، وجب أن تصح كل هذه الأمور على ذات الله تعالى. ولما كان هذا الكلام باطلا ، فكذا ما ذكرتم.

وبالله التوفيق

فهذا حكاية عمدة المعتزلة. في أن غير الله ، لا يقدر على فعل الجسم ، وعلى فعل الحياة. وقد ظهر ضعفه وسقوطه. فثبت : أنهم [لما (١)] جوزوا كون العبد موجدا لبعض الحوادث ، لزمهم تجويز كونه موجدا لكلها ، ومتى جوزوا ذلك [خرج (٢)] المعجز عن كونه دليلا على الصدق.

وبالله التوفيق

البرهان العاشر

إن (٣) كل فاعلين ، يكون فعل أحدهما أشرف من فعل الثاني ، كان فاعل الأشرف [أشرف (٤)] من فاعل الفعل الأخس.

ودليل صحة هذه المقدمة : الاستقراء التام في جميع الأفعال ، وجميع

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) العاشر : سقط (م).

(٤) من (ط).

الفاعلين. ولا شك أن أشرف المخلوقات الإيمان بالله تعالى. ولو كان هذا واقعا بتخليق العبد، لزم أن يكون مخلوق العبد أشرف من جميع مخلوقات الله تعالى. وذلك يقتضي أن يكون العبد أشرف من الله. ولما كان باطلا بالإجماع ، علمنا : أن إيمان العبد ليس خلق للعبد ، بل هو خلق لله تعالى. وهو المطلوب.

وبالله التوفيق

الفصل الثاني

في

تقرير الدلائل الدالة

على أن قدرة العبد غير مؤثرة

في خروج شيء من العدم الى الوجود

البرهان الأول

فعل العبد : ممكن. وكل ممكن فهو واقع بقدرة الله تعالى. ينتج : أن فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى.

أما أن فعل العبد ممكن : فلا نزاع فيه. وأما أن كل ممكن فإنه لا يقع إلا بقدرة الله تعالى. فالدليل عليه :

أن الإمكان من حيث إنه هو إمكان : مفهوم واحد في كل الممكنات. والإمكان محوج إلى السبب. فإما أن يحوج إلى سبب بعينه ، أو إلى سبب لا بعينه. بل يحوج إلى سبب ما مبهم ، أيّ سبب [كان (١)]. وهذا الثاني باطل. لأن المبهم في نفسه لا وجود له البتة في الأعيان. لأن كل ما له حصول وثبوت في الأعيان ، فله في نفسه تعين وتميز ، يمتاز به عما سواه. فثبت : أن كل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو في نفسه معين. فما لا يكون في نفسه معينا ، امتنع كونه موجودا في الأعيان ، وما لا يكون موجودا في الأعيان ، امتنع أن يكون سببا لوجود غيره في الأعيان. فثبت : أن الإمكان سبب للاحتياج إلى سبب ، وثبت : أنه يستحيل أن يكون سببا للاحتياج إلى سبب مبهم ، فوجب

__________________

(١) من (ط).

أن يكون سببا للاحتياج إلى سبب معين. فإذا كان الإمكان أمرا واحدا في جميع الممكنات ، لزم القطع بافتقار جميع الممكنات إلى ذلك الشيء الواحد بعينه ، وما احتاج إليه كل الممكنات ، لم يكن من الممكنات ، وإلا لزم افتقار الشيء إلى نفسه. فوجب أن يكون واجبا لذاته. فثبت : أن جميع الممكنات لا يوجد شيء منها إلا بإيجاد الواجب لذاته. وذلك هو المطلوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان سبب للحاجة إلى السبب ، من حيث هو سبب. ولا شك أن السبب من حيث إنه سبب : أمر متعين في نفسه وذاته.

والجواب : إن كونه تعالى موجبا أو مؤثرا (١) إما أن يكون هو نفس ذاته المخصوصة ، وإما أن يكون [أمرا (٢)] زائدا عليها. فإن كان الأول فقد حصل المقصود. لأنه لما كان ذاته المخصوصة ، وكون [تلك (٣)] الذات المخصوصة سببا ومؤثرا في الغير : أمرا واحدا ، والإمكان علة للانتساب إليه ، من حيث إنه مؤثر. فوجب أن يكون الامكان علة للانتساب إلى ذاته المخصوصة. فوجب أن لا يقع شيء من الممكنات ، إلا بتلك الذات المخصوصة. وذلك هو المطلوب.

وإن كان الثاني. لزم أن تكون المؤثرية والسببية : وصفا زائدا على الذات المخصوصة ، والوصف مفتقر إلى الموصوف. فهذه السببية مفتقرة لذاتها ولعينها إلى موصوف. فإما أن يفتقر إلى موصوف [مبهم (٤)] أو إلى موصوف معين. وحينئذ يعود التقسيم المذكور هاهنا. ويلزم التسلسل. ولما كان ذلك باطلا ،

__________________

(١) تعيين وقتين ويمتاز عما سواه (م).

(٢) مؤثرا له (ط).

(٣) زيادة.

(٤) من (ل).

ثبت : أنه لا مؤثر إلّا الواحد [الأحد (١)] الحق.

البرهان الثاني

مقدور العبد مقدور لله تعالى. ومقدور الله تعالى لا يحصل إلا بقدرة الله تعالى. ينتج : أن مقدور العبد لا يحصل إلا بقدرة الله تعالى. وهو المطلوب.

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إن مقدور العبد مقدور لله تعالى. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن مقدور العبد شيء ، وكل شيء فإنه مقدور لله. لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) ينتج : أن مقدور العبد مقدور لله تعالى.

الثاني : إن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون مقدور العبد مقدور الله تعالى. أما الأول. فلأن العبد إذا حرك إصبعه. فمعناه : أنه حصل ذلك الجسم في ذلك الحيز. ولا شك أنه تعالى قادر على تحصيل ذلك الجسم في ذلك الحيز. فثبت : أن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى. وأما الثاني : فلأن المثلين متشاركان في تمام الماهية ، والمتشاركان في تمام الماهية يجب اشتراكهما في جميع اللوازم. لأن تلك اللوازم لما كانت صفات لا تستقل بأنفسها وجب كونها مفتقرة. والمؤثر فيها إما الماهية وإما (٣) أمرا وراء الماهية. فإن كان الموجب هو الماهية ، لزم حصول تلك الماهية بتمامها في كل تلك الأفراد ، وحصول ما هو الموجب التام لذلك الحكم (٤) فيجب حصول ذلك الحكم. وإن كان الموجب أمرا وراء الماهية. فالذي [هو (٥)] وراء الماهية ، هو التعين. لكن التعين قيد عدمي. إذ لو كان ثابتا ،

__________________

(١) سقط من (ط).

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

(٣) وإما مرور الماهية (م ، ط ، ل).

(٤) لذلك التام (م).

(٥) سقط (م).

لافتقر إلى معين آخر. ولزم التسلسل ، وهو محال. والقيد العدمي لا دخل له في التأثير. ولما سقط التعين ، لم يبق إلا أصل الماهية. وحينئذ يحصل التقريب.

وأما النقوض العشرة التي أوردناها في هذه المقدمة على المعتزلة فهي لازمة على مذاهبهم. وأما نحن إذ كنا لا نقول بتلك المذاهب ، لم يلزم علينا تلك النقوض. فثبت : أن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى ، وثبت : أن ما صح على الشيء ، صح على مثله ، فوجب القطع بأن مقدور العبد ، يصح أن يكون [مقدورا (١)] لله تعالى وإذا حصلت هذه الصلاحية ، وجب تعلق قدرة الله تعالى به. إذ لو لم تتعلق قدرة الله تعالى به ، مع أنه يصح [تعلق (٢)] قدرته به ، لكان تعلق قدرته ببعض المقدورات دون البعض : ترجيحا لأحد طرفي الجانب على الآخر. وذلك لا يحصل إلا لمخصص قادر. فيلزم : أن لا يصير الله تعالى قادرا على مقدوراته ، إلا لأجل أن شيئا آخر قدر عليه. ولما كان ذلك في حق الله تعالى محالا ، علمنا : أنه قادر على جميع المقدورات ، فوجب القطع بكونه تعالى قادرا على مقدور العبد.

الحجة الثالثة على أنه تعالى قادر على مقدورات العباد : وهي : إنه لا شك أن الله تعالى قادر على بعض الممكنات. فكون ذلك البعض ، بحيث يصح أن يكون مقدورا لله تعالى ، وجب أن يكون معللا بإمكانه. لأنا لو رفعنا الإمكان ، بقي. إما الامتناع ، وإما الوجوب. وهما يحيلان المقدورية. وما كان مانعا من الشيء ، لا يكون علة لحصوله. ولما خرج الوجوب والامتناع عن أن يكونا علة لصحة المقدورية ، بقي الإمكان مانعا لهذه العلية. فثبت : أن الذي لأجله يصح في بعض الممكنات أن يكون مقدورا لله تعالى ، حاصل في جميع الممكنات ، فوجب القطع بأن جميع الممكنات يصح عليها أن تكون مقدورة لله تعالى. ولما ثبت عموم هذه الصحة فلو تعلقت قدرة الله ببعضها دون

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

بعض (١) لزم الافتقار إلى المخصص ، وهو محال. فثبت : أنه تعالى قادر على جميع الممكنات.

الحجة الرابعة : لا شك أنه تعالى قادر على نقل ذلك الجسم ، من ذلك الحيز إلى الحيز الثاني. وأيضا (٢) : العبد قادر عليه. فلو لم يكن مقدور العبد مقدورا لله تعالى ، لكان ذلك الانتقال ، الذي حصل بقدرة العبد : مميزا عن ذلك الانتقال الذي حصل بفعل الله تعالى ، قبل دخولهما في الوجود. لأنه قبل دخولهما في الوجود ، صدق على أحدهما أنه يجب أن يكون مقدورا لله تعالى ، ويمتنع أن يكون مقدورا للعبد ، وصدق على الثاني أنه يجب أن يكون مقدورا للعبد ، ويمتنع أن يكون مقدورا لله تعالى. والتباين باللوازم والصفات ، موقوف على التباين بالحقائق والماهيات. فثبت : أنه لو لم يكن مقدور العبد ، مقدورا لله تعالى ، لوجب أن يكون الانتقال الذي هو مقدور للعبد ، مميزا عن الانتقال الذي هو مقدور لله تعالى ، قبل الدخول في الوجود. إلا أن هذا محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم منه كون المعدوم شيئا ، وهو محال.

والثاني : حصول الجسم في الحيز لا حقيقة له ، ولا ماهية [له (٣)] إلا هذا الحصول ، وتحقق هذا الحصول حال كون الجسم معدوما : محال. إلا أن يقال : الجسم حال عدمه حاصل في الحيز ، ومنتقل من حيز إلى حيز آخر. إلا أن هذا لا يقوله عاقل. ولو جاز ذلك ، فكيف الأمان (٤) من كون هذه المتحركات والساكنات معدومة؟ ومعلوم أن من جوز ذلك ، فهو [قد (٥)] فارق العقل بالكلية.

الحجة الخامسة : إن الحركة التي هي مقدورة للعبد ، والحركة التي هي

__________________

(١) البعض (م ، ل).

(٢) والعبد أيضا (ط).

(٣) زيادة.

(٤) الآن ما من كون (ط ، ل).

(٥) من (م ، ل).

مقدورة لله تعالى. إما أن يكون لهما تحقق وتعين قبل الدخول في الوجود ، أو لا يكون. والأول محال. لأنه لا معنى للمقدور إلا الذي يكون تحققه وتكونه يقع بتأثير القادر. وما كان كذلك ، كان تحققه متأخرا عن تأثير قدرة القادر ، والمتأخر عن تأثير القادر ممتنع أن يكون هو بعينه مقدما على تأثير القادر. فثبت : أن الذي هو مقدور للعبد ، والذي هو مقدور لله تعالى : لا تحقق له ، ولا تعين له ، قبل الدخول في الوجود. وما كان كذلك ، امتنع أن يقع فيه [الامتياز ، وكل ما لا امتياز فيه (١)] امتنع أن يقال : إن شيئا منه مقدور للعبد ولا لله ، وشيء آخر منه مقدور لله ولا للعبد. فثبت : أن القول بأن مقدور العبد غير مقدور الله : يفضي إلى هذين القسمين الباطلين ، فيكون باطلا بهذا الطريق.

ومعنى قول من يقول : «إن تلك المقدورات أشياء وأمور حاصلة في العدم» أنا نقول : إن بتقدير أن يتحقق في العدم [شيء (٢)] أمور متميزة. إلا أن على هذا التقدير ، يمتنع كونها مقدورة. لأن المقدور هو الذي يكون تحققه ووقوعه ، لأجل تأثير القادر [فيه(٣)] وما كان متحققا في العدم ، يمتنع أن يقال : إن تحققه وتعينه لأجل تأثير القادر فيه. فثبت : أن ما كان مقدورا ، يمتنع كونه متحققا في العدم. وهذا كلام معتقد متين في تقرير هذا المطلوب.

الحجة السادسة : إنه تعالى هو الذي أقدر العبد على الفعل. ومن أقدر غيره على شيء ، وجب أن يكون هو قادرا عليه. لأن العاجز عن الشيء ، يمتنع أن يجعل غيره قادرا عليه ، كما أن الجاهل بالشيء يمتنع أن يجعل غيره عالما بذلك الشيء.

ولما توافقنا على أن الله تعالى هو الذي أقدر العبد على الفعل (٤) وثبت : أن من أقدر غيره على فعل ، وجب أن يكون قادرا عليه : لزم القطع بكون الله تعالى قادرا على مقدور العبد.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) العبد (م ، ط).

الحجة السابعة : قادرية [الله (١)] تعالى ، أكمل من قادرية العبد ، فإذا لم يمتنع [تعلق قادرية العبد بذلك المقدور ، مع كون تلك القادرية ناقصة ، فبأن لا يمتنع (٢)] ذلك في قادرية الله تعالى ، مع كونها كاملة ، كان أولى.

الحجة الثامنة : لو لم يكن مقدور العبد ، مقدورا لله تعالى. لزم تناهي مقدورات الله تعالى. لأن جملة مقدورات الله تعالى ، بدون مقدورات العباد : أقل من مجموع مقدورات الله تعالى مع مقدورات العباد. وكل ما كان أقل من غيره كان متناهيا. فلو لم تكن مقدورات العباد ، مقدورة لله تعالى. لزم أن يقال : مقدورات الله تعالى متناهية. ولما كان اللازم باطلا ، كان الملزوم أيضا باطلا.

وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها إيجاب.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن كل ما كان مقدورا لله تعالى ، فعند وقوعه يجب أن يكون وقوعه بقدرة الله تعالى.

وتقريره من وجهين :

الأول : إن العبد إذا قصد إلى إيجاد مقدوره ، والله تعالى أيضا قصد إلى إيجاده في ذلك الوقت. فإما أن يقع ذلك الفعل أو لا يقع. والقسمان باطلان ، فما أدى إليه يكون باطلا. إنما قلنا : إنه يمتنع وقوعه. لأنه لو وقع. لوقع إما بإحدى القدرتين ، وإما بكل واحدة منهما. لا يجوز أن يقع بإحدى القدرتين ، لأن كل واحدة من هاتين القدرتين ، لما فرضنا كونها مستقلة بالإيجاد ، لم يكن وقوع هذا الفعل بإحدى هاتين القدرتين أولى من وقوعه بالثانية. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن قدرة الله تعالى ، أقوى من قدرة العبد. فكان وقوع ذلك المقدور بقدرة الله تعالى أولى؟ لأنا نقول : حصول الجوهر الواحد ، في الحيز الواحد ، في الزمان الواحد ، لا يقبل الأشد

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

والأضعف ، والأقل والأكثر. وإذا لم يكن ذلك الفعل قابلا للتفاوت ، امتنع أن يكون التأثير في إيجاده قابلا للتفاوت. وإذا كان التأثير فيه غير قابل للتفاوت ، امتنع أن يقال : إن قدرة الله أولى بالتأثير من قدرة العبد. نعم قدرة العبد لا تتعلق إلا بهذا المقدور ، وقدرة الله تعالى متعلقة بها وبسائر المقدورات. إلا أن التفاوت بين قدرة الله وبين قدرة العبد ، إذا ظهر بالنسبة إلى هذا المقدور الواحد. فإنه لا يقبل التفاوت. فثبت بما ذكرنا : أنه يمتنع أن يقال : إن ذلك المقدور يقع بإحدى القدرتين دون الثانية. وأما القول بأن ذلك المقدور يحصل بكل واحدة من هاتين القدرتين. فهذا أيضا محال. لأن الأثر مع المؤثر المستقل التام ، يكون واجب الحصول ، وكونه واجب الحصول ، يمنعه من الاستناد إلى الغير [والافتقار إلى الغير (١)] فلو اجتمع على هذا المقدور الواحد : قادران مستقلان بالتأثير ، كان ذلك المقدور لكونه مع هذا القادر : واجب الحصول. ووجوب حصوله به ، يمنعه من الاستناد إلى القادر الثاني ، وكونه مع القادر الثاني ، يمنعه من الانتساب إلى القادر الأول. لعين ما ذكرناه. وعلى هذا التقدير : يلزم أن يستغني بكل واحد من هذين القادرين ، لكل واحد منهما ، فيلزم كونه منتسبا إليهما ، حال كونه منقطعا عنهما. وذلك محال.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن ذلك المقدور لا يقع بواحد من هذين القادرين. فنقول : هذا أيضا محال. لأن كونه قادرا مستقلا بالإيجاد يقتضي حصول الأثر ، وعند تمام المقتضى لا يتعذر الأثر ، إلا لقيام المانع من وقوع الفعل ، بقدرة هذا القادر ـ ليس نفس قدرة القادر الثاني ـ بل المانع من ذلك هو وقوعه بقدرة القادر الثاني ، وعند قيام المقتضى ما لم يحصل المانع ، لا يتحقق الامتناع. فعلى هذا ، لا يمتنع وقوع الفعل بقدرة هذا القادر ، إلا إذا وقع ذلك الفعل بقدرة القادر الثاني. ولا يمتنع وقوعه بقدرة القادر الثاني ، إلا إذا وقع ذلك الفعل بقدرة القادر الأول. فيلزم : أن يقال : إنه لا يمنع وقوع الفعل ، وقوع ذلك الفعل بهما معا ، إلا إذا كان ذلك الفعل واقعا بهما.

__________________

(١) من (ط ، ل).

فيلزم : أن يجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد. وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أن وقوع مقدور الله بقدرة غير الله : يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون القول به باطلا.

الوجه الثاني : وهو أن مقدور الله تعالى لو وقع بقدرة العبد ، فعند وقوعه بقدرة العبد لا يبقى لله تعالى قدرة على إيقاعه ، لأن إيجاد الموجود محال. فيلزم أن يقال : إن العبد منع الله من الفعل وأعجزه عنه ، بعد أن كان [الله (١)] قادرا عليه. ومعلوم : أن ذلك محال. لا يقال : إنه تعالى إذا علق مقدور نفسه. فبعد دخول ذلك المقدور في الوجود ، لا يبقى الله تعالى على إيجاده قادرا. فيلزمكم أن تقولوا : إنه تعالى أعجز نفسه. لأنا نقول : هذا غير وارد. لأن معنى كونه (٢) تعالى قادرا على ذلك الفعل : انه (٣) يمكنه إيجاده وتكوينه. فإذا [وقع (٤)] هذا المعنى لم يكن ذلك قادحا في كونه تعالى قادرا على الفعل. بل يكون ذلك مقدورا لهذا المعنى. أما إذا قاومه غيره ، ودفعه عنه ، ومنعه منه ، بعد أن كان قادرا عليه ، كان هذا تعجيزا. فظهر الفرق.

وبالله التوفيق

البرهان الثالث

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكنا إذا فرضنا أنه إذا حاول تحريك جسم ، وفرضنا : أن الله تعالى حاول تسكينه. فإما أن يقع المرادان ، أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بأن العبد موجد باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع حصول المرادين ، لأنه يلزم أن يصير الجسم الواحد ، في الوقت الواحد ، متحركا وساكنا معا. وهو محال.

__________________

(١) من (ط).

(٢) لكونه (ط).

(٣) إلا أنه (ط).

(٤) سقط (م).

وإنما قلنا : إنه يقع (١) المرادان معا. وذلك لأن قدرة كل واحد من القادرين صالحة للإيجاد. فعند حصول المقتضى ، لا يصير الأثر مقيدا ، إلا لقيام المانع. والمانع لكل منهما : غير مراد. وهو حصول مراد الثاني. فلو امتنع المرادان معا ، لوجب أن يحصلا معا ، حتى يصير حصول مراد كل واحد منهما ، مانعا للآخر عن حصول مراده. فثبت : أنه لو امتنع المرادان معا ، فيعود هذا القسم إلى القسم الأول ، وإنه باطل. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول أحد المرادين دون الثاني ، لأن كل واحد من هذين القادرين مستقل بالإيجاد. وقد دللنا على أنه يمكن أن يقال : إن إحدى القدرتين أقوى من الأخرى. لأنا بينا : أن ذلك المقدور شيء واحد ، لا يقبل التّجزؤ والتبعض. ولا يقبل الأشد والأضعف. وإذا كان المقدور غير قابل للتفاوت ، امتنع أن يكون الاقتدار عليه قابلا للتفاوت. فثبت : أن كل واحدة من هاتين القدرتين ، مساوية للأخرى في القوة والشدة. وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان مقدور إحدى القدرتين أولى بالوقوع ، لكان هذا رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح. وهو محال. فثبت : أن القول بإثبات موجد (٢) ما سوى الله تعالى ، يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فكان القول به باطلا.

واعلم : أن هذا الدليل ، هو الدليل المشهور ، المذكور في إثبات أن إله العالم واحد.

وبالله التوفيق

البرهان الرابع

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعال نفسه. وهو غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لأفعال نفسه. فنفتقر هاهنا إلى إثبات مقدمتين :

__________________

(١) يقدر [الأصل].

(٢) موجد سوى (م ، ل).

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل نفسه [وهو غير عالم بتفاصيل نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لأفعال نفسه (١)] فيدل عليه القرآن والبرهان.

أما القرآن : فهو قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٢)؟ استكبر أن يكون الخالق للشيء ، غير عالم به.

وأما البرهان : فهو إن العبد يمكنه أن يأتى بالأزيد مما أتى به ، وبالأنقص عما أتى به ، وبفعل آخر مغاير لما أتى به. فلما كان قادرا على الكل ، كان رجحان بعض هذه الممكنات على البعض ، لا بد أن يكون لأجل أن القادر المختار : خصص ذلك النوع ، وذلك المقدار بالوقوع. دون المغاير ، ودون الأزيد والأنقص. لكن القصد إلى إيقاع الشيء بقدر خاض ، وكيفية خاص ، مشروط بالعلم بذلك القدر. لأن القصد إلى الشيء ، بدون الشعور بماهيته : محال. فثبت : أن خالق الشيء لا بد وأن يكون قاصدا إليه ، وثبت : أن القاصد إلى الشيء عالم بماهية ذلك الشيء ، الذي قصد إليه. وذلك يدل : على أن خالق الشيء ، لا بد وأن يكون عالما به.

وأما القدمة الثانية : وهي قولنا : إن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن النائم والساهي قد يصدر عنهم كثير من الأفعال الاختيارية ، مع أنه لا شعور لهم بتفاصيل تلك الأفعال [لا (٣)] بكميتها ولا بكيفيتها.

الثاني : إن الإنسان إذا حرك بدنه وجثته ، فلا شك أن (٤) بدنه مؤلف

__________________

(١) من (ط).

(٢) سورة الملك ، آية : ١٤. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن : «قيل في معناه وجوه : أحدها : ألا يعلم ما في الصدور : من خلق الصدور؟ وثانيها : ألا يعلم سر العبد من خلقه؟. أي من خلق العبد ـ فعلى الوجهين يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى الخالق. وثالثها : أن يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى المخلوق. والمعنى : ألا يعلم الله مخلوقه؟».

(٣) من (ط ، ل).

(٤) أنه مؤلف (ط).

من أجزاء كثيرة موجودة بالفعل.

أما عند من يثبت الجوهر الفرد ، فلا شك فيه. وأما عند من ينكره ، فلا شك أنه معترف بأن مجموع البدن ، مؤلف من الأعضاء البسيطة ـ أعني العظام والغضاريف والأعصاب والعضلات والرباطات ، إلى [غير (١)] ذلك من الأعضاء البسيطة ـ فإذا حرك الانسان بدنه ، فلا معنى لهذا التحريك إلا أنه حرك مجموع تلك الأجزاء ، لكنا نعلم بالضرورة [أنه (٢)] البتة غير عالم بأعداد تلك الأعضاء. وأيضا : فلا شك أنه لما حرك بدنه ، فقد نقل تلك الجثة من حيز إلى حيز ، ومر بما بين الطرفين ، مع أنه غير عالم بأعداد تلك الأحياز فلا يمكنه [أن يعلم (٣)] ما بين مبدأ تلك الحركة إلى منتهاها. وأيضا : فلا شك أن تلك الحركة وقعت في مقدار معين من الزمان ، وذلك القدر المعين من الزمان ، مركب من آنات متتالية متعاقبة. وهو البتة لا يعلم مقدار الزمان ، ولا عدد الآنات ، التي منها تركب [ذلك (٤)] الزمان. فثبت بما ذكرنا : أن من انتقل من مكان إلى مكان ، فهو لم [يعلم (٥)] أن الأجزاء التي حركها. كم هي؟ والأحياز التي منها تألفت تلك المسافة التي فيها وقعت الحركة. كم هي؟ والآنات التي منها تألف الزمان ، الذي هو طرف لتلك الحركة. كم هي؟ فثبت : أن العبد غير عالم بتفاصيل أفعاله البتة.

الثالث : إن الإنسان إذا تحرك. فلا شك أن حركته أبطأ من حركة الفلك. وللناس في هذا البطء مذهبان :

أحدهما : مذهب المتكلمين : وهو أن الحركة البطيئة [نشأت (٦)] عن كونه متحركا في بعض الأحياز ، وساكنا في بعضها ، فامتزجت تلك الحركات ،

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) زيادة.

(٤) (ط ، ل).

(٥) من (م ، ل).

(٦) زيادة.

بتلك السكنات ، فشاهد تلك الحركات المخلوطة ، بتلك السكنات : حركة بطيئة. إذا ثبت هذا ، فنقول : إذا كانت هذه الحركة فعلا اختياريا ، وجب القطع بأن الإنسان باختياره يتحرك في بعض الأحياز ، وباختياره يسكن في بعضها. لكن تخصيص بعض الأحياز بالحركة ، والبعض بالسكون ، تخصيصا بالقصد ، لا يمكن إلا بعد الشعور والعلم. لكنا نعلم بالضرورة : أن الإنسان إذا تحرك فإنه لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحياز ، ويسكن في بعضها. وكيف يقال : إنه باختياره فعل في بعض الأحياز حركة ، وفي بعضها سكونا؟.

والمذهب الثاني : مذهب الفلاسفة : وهو أن الحركة البطيئة : حركة من أول المسافة إلى آخرها ، ولم يختلط بها شيء من السكونات. والبطء : كيفية قائمة بالحركة.

وعلى [هذا (١)] المذهب ، فالإشكال لازم [من (٢)] وجه آخر. وذلك أن مراتب البطء والسرعة في الحركات كثيرة متفاوتة. فإنه لا بطء ، إلا ويوجد ما هو أبطأ منه ، أو ما هو أسرع منه. فوقوع هذه المرتبة المعينة من البطء والسرعة ، دون سائر المراتب ، لا بد وأن يكون بالقصد. لأن القصد إلى إيقاع هذه المرتبة دون سائر المراتب : مشروط بالعلم بامتياز (٣) هذه المرتبة عن سائر المراتب. ومعلوم : أن النملة إذا تحركت ، فإنه لم يخطر ببالها امتياز تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص عنها ، فقدر تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص منها قدر قليل لا يحس الإنسان به. فإن الذي لا يقدر الإنسان على الإحساس به ، كيف تقدر النملة والدودة على الإحساس به؟

وأيضا : فعلى هذا المذهب لا بد وأن يكون البطء عرضا قائما بتلك الحركة. ففاعل تلك الحركة البطيئة فاعل لنوعين من الفعل.

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م ، ل).

(٣) بالامتياز (م).

أحدهما : أصل الحركة. والثاني : البطء الذي [هو (١)] يوجده في تلك الحركة. ومعلوم : أن هذا المعنى لا يخطر ببال أكثر العلماء ، فضلا عن العوام ، والصبيان ، والمجانين. فضلا عن البهائم والحشرات.

الرابع : إن مذهب مشايخ المعتزلة : أن قدرة العبد لا يكون لها تأثير في حصول الجسم في الحيز. وإنما تأثيرها في المعنى الذي يقتضي حصول الجسم في الحيز.

إذا ثبت هذا فنقول : إن البهائم والنائمين والغافلين حين ما يتحركون ويسكنون ، لا يخطر ببالهم إلا نفس حصول الجسم في الحيز. فأما إثبات معنى يقتضي حصول الجسم (٢) في الحيز. فذلك [مما (٣)] لا يخطر ببال أفضل الفقهاء والنحاة ، فضلا عن العوام ، فضلا عن الصبيان والمجانين ، فضلا عن البهائم والحشرات. وعلى هذا فنقول : الذي تصوره العقلاء وعرفوه ـ وهو حصول الجسم في الحيز ـ قد أخرجوه عن كونه مقدورا للعبد. والذي جعلوه مقدورا للعبد ، فهو شيء لا يتصوره أحد ، ولا يدركه البتة ، لا بالقليل ولا بالكثير. ومتى كان الأمر كذلك ، فكيف يعقل أن يقال : إن الفاعل المختار أبدا ، يقصد إيجاده وتكوينه.

واعلم : أن هذا الإلزام إنما يتوجه على المشايخ. أما على «أبي الحسين» فلا. لأنه لا يثبت هذا المعنى.

الخامس : إن الصبي إذا تكلم. فلا شك أنه يعقل هذه الحروف المخصوصة. وذلك لأن الكلام عبارة عن الحروف المتوالية المتعاقبة. فلو لم يكن قادرا على الإتيان بالحروف ، لم يكن قادرا على الإتيان بالكلام. لكن الإتيان بكل واحد من هذه الحروف المخصوصة ، إنما يكون بآلة مخصوصة ، على كيفية مخصوصة ، ووضع تلك الآلات على وجه مخصوص ، وهي : الحلق

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) معنى (م ، ل).

(٣) من (م ، ل).

واللسان والشفتان [والأسنان (١)] وتركيب [بعض (٢)] هذه الأعضاء مع بعض. وجعل كل واحد منهما على شكل خاص ، وهيئة خاصة ، حتى يقدر الإنسان بواسطتها على الإتيان بهذه الحروف المخصوصة. لكنا نعلم أن جمهور الخلائق يتكلمون بهذه الحروف المخصوصة ، مع أنه لا يخطر ببالهم كيفية أحوال هذه الأعضاء ، اللواتي هي الآلات في إيجاد الحروف المخصوصة ، ولا يخطر ببالهم كيفية تلك الأوضاع التي باعتبارها يتمكنون من التلفظ بهذه الحروف [فثبت (٣)] بمجموع ما تقدم : أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل تلك الأفعال ، وثبت أنه غير عالم بتلك التفاصيل ، فوجب أن لا يكون موجدا لها.

وبالله التوفيق

البرهان الخامس

اعلم : أنا نبين أن العبد غافل عن أحوال فعل نفسه ، وعن أحوال فاعليته لها ، من وجوه كثيرة. ثم نبين : أنه متى كان الأمر كذلك ، امتنع كونه موجدا لتلك الأفعال. وهذا البرهان [هو عين (٤)] ما تقدم. إلا أن الوجوه المذكورة (٥) هاهنا ، مغايرة للوجوه المذكورة في تقرير البرهان المتقدم.

فنقول : الذي يدل على كون العبد غافلا عن أحوال فعله ، وعن أحوال فاعليته ، وجوه :

الأول : إن الناس تحيروا في أن القادر على الإيجاد ، أيقدر عليه حال وجود الأثر ، أو قبله؟ فقال بعضهم : إنما يقدر عليه حال وجوده. لأنه قبل

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) الكثيرة (م ، ل).

وجوده مستمر على عدمه الأصلي ، فلم يكن لقدرته فيه أثر ، فيمتنع كونه قادرا عليه. لأنه لما كان في إحدى الحالتين قادرا عليه ، وفي الحالة الثانية لا قدرة له عليه ، والتخيير بين الحال التي فيها يقدر على الفعل ، وبين الحال التي لا يقدر فيها على الفعل ، يجب أن يكون مدركا. لأن التمييز بين حال الاقتدار ، وبين حال عدم الاقتدار : تمييز معلوم بالضرورة. فكان يجب أن لا يحصل هذا الالتباس. وحيث حصل : علمنا. أن العبد لا قدرة له على الايجاد.

وثانيها : إن الناس تحيروا في أن من أوجد شيئا. فتأثير إيجاده. أيحصل في نفس الماهية ، أو في الوجود ، أو فيهما؟ ولو كان هذا الإيجاد واقعا به ، لعلم بالضرورة : أن الذي أوجده وأوقعه : ما ذا؟.

وثالثها : إن الناس تحيروا في أن المؤثرية. هل هي نفس الأثر؟ منهم من قال : غيرها. لأن المؤثر موصوف بالمؤثرية ، وغير موصوف بالأثر. فأحدهما مغاير للآخر. ومنهم من قال : بل المؤثرية نفس الأثر. إذا لو كان مغايرا له ، لكان (١) اقتضاء ذات المؤثر لتلك [المؤثرية (٢)] زائدا عليه. ولزم التسلسل.

ورابعها : إن الناس تحيروا في أن محل العلم. أهو القلب ، أو الدماغ ، أو شيء آخر سواهما ـ هو النفس الناطقة؟ ـ وبتقدير أن كون محل العلم هو القلب أو الدماغ. فهو جميع أجزائها ، أو بعض أجزائها. ولو كان موجد العلم هو العبد ، لوجب أن يعلم أنه في أي موضع أوجده؟ وفي أي محل أحدثه؟ ولو كان الأمر كذلك ، لما بقي ذلك الاشتباه. وحيث بقي ، علمنا : أن حصول هذه العلوم ليس بإيجاده. فظهر : أن اختلاف الناس في هذه المطالب ، يدل على أن عقول أكثر الخلق قاصرة عن حضور ماهية الإيجاد والتكوين. وإذا كان كذلك ، فكيف يدعى أن جميع الحيوانات ، حتى البهائم والحشرات تقصد إلى الإيجاد والتكوين [والإنشاء (٣)] مع أن حقيقة الإيجاد والتكوين غير متصورة

__________________

(١) لكان تلك اقتضاء (ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) (م ، ل).

البتة عندهم ، فإن من المعلوم بالضرورة : أن القصد إلى تحصيل الشيء ، لا يمكن إلا عند حصول تصوره في الذهن.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن حقيقة الإيجاد والتكوين متصورة من بعض الوجوه ، عند البهائم والحشرات. وإن كان كمال تصور هذه الماهية غير حاصل عندهم. وإذا كان كذلك ، كفى ذلك القدر من التصور ، في إمكان قصد هذه الحيوانات ، إلى الإيجاد والتكوين؟.

والجواب : إن ماهية الإيجاد والتكوين غير متصورة عند الأكثرين من البشر ، والأكثرين من البهائم والحشرات. وإذا كانت هذه الماهية غير متصورة عندها ، استحال منها أن تقصد إليها وإلى تحصيلها. لأن القصد إلى تحصيل الشيء مشروط بتصوره وحصول (١) الشعور بماهيته.

وبالله التوفيق

البرهان السادس

أن نقول : العبد لو صح منه إيجاد بعض الممكنات ، لصح منه إيجاد كلها. واللازم محال ، فالملزوم محال.

وبيان الملازمة من وجوه :

الأول : إن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لكان [كون (٢)] ذلك البعض مقدورا. إنما كان : لكونه ممكن الوجود. فإنا لو رفعنا الإمكان ، بقي إما الوجوب ، وإما الامتناع. وهما يحيلان المقدورية ، وما يحيل المقدورية لم يفد صحة المقدورية. ولما ثبت أنه لا مدخل لهما في هذا الباب ، لم يبق إلا الإمكان. والإمكان قضية مشتركة بين كل الممكنات ، فلزم من هذا كون جميع الممكنات مقدورة للعبد.

__________________

(١) وعند حصول (م).

(٢) من (ط).

الثاني : إنه لو قدر العبد على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير ، إلا في إعطاء الوجود. لأنا بينا في سائر كتبنا بالدلائل الكثيرة : أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها. ولا يمكن أن يكون تأثير القادر في تكوين الماهيات. فإن الشيء ما لم يكن ممكن الوجود ، لم يتصور أن يكون للقادر فيه تأثير. فتأثير القادر فيه ، مسبوق بكونه في نفسه ممكن الوجود ، وكونه في نفسه ممكن الوجود (١) يقرر ماهيته المخصوصة. لأن إمكانه صفة له ، وصفة الشيء متأخرة بالرتبة عن الموصوف. فثبت : أن تأثير القادر فيه : متأخر عن تقرر ماهيته بمرتبتين. ولو كان تأثير القادر في ماهيته ، لكان تقرر ماهيته متأخرا عن تأثير القادر فيه ، وحينئذ يلزم أن يكون المتقدم على الشيء بمرتبتين ، متأخرا عنه. وذلك محال. فثبت بهذا الوجه : أن تأثير القادر ، تبين في جعل الماهية ماهية ، بل ذلك التأثير في جعلها موجودة. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على الإيجاد ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود.

واعلم : أن هذا كلام حسن قوي. إلا أنه يشم منه رائحة : أن المعدوم شيء. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود. فنقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقدر على كل الممكنات. وذلك لأنه [لما (٢)] كان لا تأثير للموجد ، إلا في إعطاء الوجود ، وثبت : أن الوجود قضية واحدة في جميع الممكنات ، ولا تفاوت بينهما البتة في هذا المفهوم : لزم أن يكون القادر على إيجاد (٣) بعض الممكنات ، قادر على إيجاد كلها. ضرورة أن القادر على الشيء قادر على مثله.

الوجه الثالث في بيان أن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لقدر على إيجاد كلها : أن نقول : مذهب مشايخ المعتزلة : أن المعدوم شيء ، وأن القادر لا تأثير له إلا في إعطاء الوجود. وثبت : أن الوجود مفهوم داخل في الكل ، وثبت : أن القادر على الشيء قادر على مثله : لزم أن يكون القادر على

__________________

(١) لا وجود (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الإيجاد (ط).

إيجاد بعض الممكنات [قادرا (١)] على إيجاد كلها.

وأما بيان أنه يمتنع كون العبد قادرا على إيجاد كل الممكنات. فمن وجوه :

الأول : إن الخصم مساعد عليه.

والثاني : وهو إنا نعلم بالضرورة : أنا الآن عاجزون عن خلق الأجسام. فلو قدرنا على إيجاد بعض الممكنات لوجب أن نقدر على إيجاد الأجسام. لأن القدرة على الشيء ، مع العجز عن إيجاد مثله : محال.

والثالث : وهو أنه يلزم أن نقدر على خلق القدرة والحياة لأنفسنا. وذلك محال. لأن الخلق لا يصدر إلا عن الحي القادر. ولما كان حيا ، كان قادرا ، فامتنع خلق الحياة والقدرة فيه مرة أخرى ، لامتناع اجتماع المثلين. فثبت بما ذكرنا : أن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لقدر على إيجاد كلها ، وثبت : أنه لا يقدر على إيجاد كلها. فثبت : أنه لا يقدر على إيجاد شيء منها.

وهو المطلوب

البرهان السابع

الخصوم وافقونا على أن العبد لا يقدر على إيجاد أفعاله بعد عدمها. فنقول : لو كان قادرا على الإيجاد ، لكان قادرا على الإعادة. لأن الحاصل عند الإعادة : عين ما كان حاصلا عند الابتداء. وماهية الشيء لا تختلف باختلاف الأوقات. فلو كانت قدرة العبد صالحة لتكوين ذلك الشيء وقت الابتداء ، لكانت صالحة لتكوينه في وقت الإعادة. لكنا توافقنا على أن قدرة العبد غير صالحة للإعادة ، فوجب أن لا تكون صالحة للابتداء.

فإن قيل : لا نسلم أن إعادة المعدوم جائزة في الجملة. سواء كان ذلك

__________________

(١) من (ط ، ل).

في حق الله تعالى ، أو في حق العبد. وبيانه : أن الذي عدم فقد فني ولم يبق منه لا ذاته ولا حكم من أحكامه. فإذا حصل بعد ذلك شيء آخر ، فهو مغاير للأول ، وامتنع أن يكون عين ذلك الذي عدم. سلمنا : أن الإعادة في الجملة جائزة. لكن لم قلتم : إن القادر على الابتداء ، يجب أن يكون قادرا على الإعادة؟ وتقريره : إن الابتداء يمتاز عن الإعادة بأمر من الأمور. فلم لا يجوز أن يقال : إن ما به حصل الامتياز يكون شرطا في أحد الطرفين أو مانعا في الطرف الآخر؟ ثم نقول : الفرق بين الإعادة وبين الابتداء. هو أنه لو صحت الإعادة من العبد ، لكان إما أن يقدر على إعادته بتلك القدرة ، التي بها أوجد ذلك الفعل في الابتداء ، أو بغير تلك القدرة. والقسمان باطلان. أما أنه يمتنع [إعادة (١)] ذلك الفعل بعين القدرة التي بها أوجده في الابتداء. فذلك لأن القدرة لا بد وأن تتعلق في كل وقت بإيجاد فرد من أفراد ذلك النوع. فلو تعلقت أيضا في وقت من الأوقات بإعادة ما عدم ، لكان قد تعلقت في الوقت الواحد ، في المحل الواحد [من الجنس الواحد (٢)] بأكثر من مقدور واحد. ولو جاز [ذلك (٣)] لما كان عدد أولى من عدد. فيلزم جواز (٤) تعلقها بما لا نهاية له. وذلك محال. لأنه يلزم أن لا يبقى التفاوت بين القادر وبين الأقدر. فثبت : أن إعادة الفعل بعين القدرة التي حصل بها الإيجاد في الابتداء : محال. وأما أنه لا يمكن إعادته بقدرة أخرى. لأنه لو جاز أن تتعلق قدرتان بإيجاد مقدور واحد ، لجاز قيام كل واحد منهما بقادر آخر. وذلك يفضي إلى حصول مقدور ، بين قادرين. وهو محال. فثبت : أن العبد لو قدر على إعادة فعل نفسه ، لقدر عليه. إما بعين تلك القدرة وإما بقدرة أخرى وثبت أن كل واحد منهما محال فلزم القول : بأن العبد لا يقدر على الاعادة. وهذا العذر غير موجود في القدرة على إيجاد الفعل ابتداء. فثبت : أنه لا يلزم من قدرة العبد على الإيجاد ابتداء ، قدرته على إعادة ذلك الفعل. فهذا هو تقرير هذا الفرق.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) وجوازه (س).

[ثم نقول : هذا الذي ذكرتم قياس فاسد. لأن الفرق الذي ذكرناه. إن صح ، فقد بطل الجمع. وإن فسد ، منعنا الحكم في الأصل ، وقلنا : العبد يقدر على الإعادة. فهذا القياس دائر بين ظهور الفارق بين الأصل والفرع. وبين منع الحكم في الأصل (١)] ثم نقول : إنكم بنيتم هذه الحجة على أنا سلمنا أن العبد لا يقدر على إعادة فعل نفسه. ولو منعنا ذلك ، وحكمنا بأنه يجوز منه إعادة فعله ، فحينئذ لا يبقى دليلكم البتة.

والجواب : أما بيان أن الإعادة جائزة فهو أن جواز الوجود من لوازم الماهية ، فلما ثبت جواز إيجاده في بعض الأحوال ، وجب أن يدوم ذلك [في (٢)] كل الأحوال. قوله : «إنه نفي محض ، فكيف يمكن الحكم عليه بهذا الحكم المخصوص»؟ قلنا : قولكم : بأنه لا يصح الحكم عليه : حكم عليه بامتناع الحكم عليه. ولما كان عدمه غير مانع من هذا الحكم ، فلم لا يجوز أن لا يمنع أيضا من الحكم الذي ذكرناه؟ قوله : «الإعادة ممتازة عن الابتداء ، بأمر ما فلم لا يجوز أن يكون ما به الامتياز ، شرطا في أحد الطرفين ، وإلا لكان ذلك الوصف أيضا مبتدأ ، ويلزم التسلسل. وإذا كان ذلك الوصف عدما محضا ، امتنع دخوله في المقتضى.

وأما الفرق الذي ذكروه فهو بناء على أصولهم الفاسدة في أنه يمتنع حصول مقدور واحد ، بين قادرين. وفي أن القدرة الواحدة في الوقت الواحد ، في المحل الواحد ، من الجنس الواحد ، لا تتعلق إلا بمقدور واحد. وكل هذه الأصول عندنا فاسدة. قوله : «لو ثبت فساد هذا الفرق ، منعنا الحكم ، وقلنا : العبد يقدر على الإعادة» قلنا : هذا لا سبيل إليه لأن الأمة مجمعة على أن العبد لا يقدر على إعادة فعل نفسه ، فالقول بأنه يقدر على هذه الإعادة يكون خرقا للإجماع.

وبالله التوفيق

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (م).

البرهان الثامن

لو كان العبد موجدا لفعله. لكان إما أن يقصد إيجاده فقط ، أو يقصد إيجاده في الوقت المعين. والأول باطل. لأنه لو قصد مطلق الإيجاد من غير أن يقيد ذلك الإيجاد بوقت معين ، لم يكن وقوع ذلك الفعل في بعض الأوقات ، أولى من وقوعه في الوقت الآخر. فيفضي إلى أن يحصل حدوثه في كل الأوقات ، أو إلى أن لا يقع حدوثه في شيء من الأوقات. والكل محال.

وأما الثاني : وهو أن يقال : إنه قصد [إلى (١)] إيقاع الفعل في الوقت المعين. فهذا أيضا باطل. لأن الحركة من أول المسافة إلى آخرها ، عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة. وكل واحد من تلك الحصولات غير منقسم. فإذا كان لا ماهية للحركة إلا حصولات غير منقسمة ، متوالية في أحياز متلاصقة ، غير منقسمة ، كان القصد إلى إيجاد تلك الحركة : قصدا إلى إيجاد تلك الحصولات الغير منقسمة في تلك الأحياز الغير منقسمة. والقصد إلى الشيء بدون العلم بماهية [المقصود (٢)] إليه : محال. فوجب أن يكون القاصد (٣) إلى تكوين الحركة عالما بالضرورة بأنه يحدث ويدخل في الوجود حصولات متعاقبة غير منقسمة [في أحياز متلاصقة غير منقسمة (٤)] ومعلوم أن هذا العلم : مقصود في حق الأكثرين.

فثبت : أن موجد الحركة ومكونها ، ليس هو العبد.

وذلك هو المطلوب

البرهان التاسع

لو أثرت قدرة العبد في حدوث الفعل. لكان أثرها في حدوث ذلك الفعل ، إما أن يكون بتركه من محل تلك القدرة ، أو لا بتركه من محلها.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الفاصل (ط).

(٤) من (ط).

والقسمان باطلان ، فالقول بأن قدرة العبد مؤثرة في حدوث الفعل : محال. إنما قلنا ؛ إنه ممتنع أن يحصل ذلك التأثير بتركه من ذلك المحل [لأن ذلك المحل (١)] ليس له إلا كونه قابلا للصفات.

أعني : أنه لا يمتنع حصول هذه الصفات فيه ، ولا يمتنع لا حصولها أيضا فيه. فلو جعلنا المحل جزءا من المؤثر ، لكنا قد جعلنا القابل جزءا من الموجد. وذلك محال. لأن هذه القابلية طبيعتها طبيعة الإمكان الخاص. والموجدية طبيعتها طبيعة الوجوب. والإمكان الخاص ينافي الوجوب. وكون المنافي جزء من المنافي الآخر محال في العقول. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون تأثير القدرة في حدوث ذلك الفعل ، لا شركة من ذلك المحل. وذلك لأن وجود الشيء جزء من كونه موجدا لغيره فلو كانت هذه القدرة غنية في مؤثريتها عن ذلك المحل ، لكانت غنية أيضا في وجودها عن ذلك المحل. لأنه متى كان المركب غنيا عن شيء ، كان كل واحد من بسيطه [أيضا (٢)] غنيا عنه. فثبت : أن هذه القدرة لو كانت في مؤثريتها في الفعل غنية عن ذلك المحل ، لكانت في وجودها أيضا غنية عن ذلك المحل. وذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن القدرة لو كانت مؤثرة في وجود الفعل ، لكان ذلك التأثير إما أن يكون بشركة من ذلك المحل ، أو لا بشركة من ذلك المحل ، وثبت كون كل واحد من هذين القسمين باطلا. فثبت : أن القدرة غير مؤثرة في حدوث الفعل.

وهذا هو دليل الحكماء على أن القوى الجسمانية غير مؤثرة في الوجود أصلا.

وبالله التوفيق

البرهان العاشر

لو كان فعل العبد يحدث بإيجاد العبد ، لوجب أن لا يجد إلا ما أراده العبد. واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

__________________

(١) من (م ، ل)

(٢) من (ط).

بيان الشرطية : أن العبد لما كان قادرا على الأفعال المختلفة ، كان رجحان البعض على الباقي لا يكون إلا بقصده ، فوجب أن لا يقع ، وان لا يحدث إلا ما قصده وأراده. وبيان أنه ليس كذلك : أن العبد يقصد تحصيل العلم الحق ، والاعتقاد الصواب ، فلا يحصل له ذلك ، بل يحصل له الجهل والباطل. ويقصد الإيمان ، فيحصل له الكفر. بل نقول : الإنسان إذا كتب سطرا ، فلو أتى بجميع حيل الدنيا ، حتى يكتب سطرا آخر ، يشابه الأول ، في جميع الكيفيات المحسوسة. لعجز عن ذلك. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان فعله بإيجاده ، لما وقع إلا ما قصد إيقاعه. وثبت : أنه ليس كذلك ، فوجب أن لا يكون فعله بإيجاده. وهذه الدلالة أخذتها من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «عرفت ربي بنقص العزائم ، وفسخ الهمم».

فإن قيل : إنه إنما حصل له هذا الاعتقاد المخصوص ، لأنه ظن أن هذا الاعتقاد علم وحق وصواب. فلهذا السب اختاره وحصله ورضي به.

فالحاصل : أنه إن علم كونه جهلا ، لما رضي به ، ولكنه لما اعتقد فيه أنه هو العلم. لا جرم رضي به واختاره.

والجواب : إن هذا باطل من وجهين :

الأول : إنه إنما قصد تحصيل هذا الاعتقاد. لأنه كان قد اعتقد أن هذا الاعتقاد : علم. فلولا تقدم ذلك الجهل ، وإلا لما رضي بهذا الجهل الثاني. فنقول : ذلك الجهل الأول ، كيف حصل؟ فإن كان [ذلك (١)] لتقدم جهل آخر ، لزم التسلسل. وإن [كان (٢)] ذلك لأنه اختار الجهل وارتضاه لنفسه ابتداء. فهذا محال. فلم يبق إلا أن يقال : الجهالات تترقى إلى جهل أول ، خلقه الله تعالى في العبد ابتداء. وذلك هو المطلوب.

الوجه الثاني : أن من أنصف : علم أنه لا اختيار للعبد البتة في حصول

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

الجهل [له (١)] وذلك لأنه ما لم يترتب في ذهنه مقدمات موجبة لهذا الجهل ، لم يحصل في قلبه هذا الجهل. ثم الكلام في تلك المقدمات كما في هذه النتيجة. فتلك الجهالات لا بد أن تترقى إلى جهل أول وقع في قلبه. لا بسعي منه ، ولا بطلب لحصول ذلك الجهل الأول في قلبه ، وتأدى ذلك الجهل إلى سائر الجهالات اللازمة منه : ليس أيضا بسعيه ولا باختياره. فثبت : أن جميع الجهالات إنما تحصل في العبد على سبيل الاضطرار ، ولا على سبيل الاختيار.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (ط ، ل).

الفصل الثالث

في

الدلائل الدالة

على أن حصول الايمان والكفر في قلوب

العباد لا يمكن أن يكون إلا بتخليق الله تعالى

البرهان الأول

إنه لا يمكن أن يكون كل علم مكتسبا من علم آخر قبله وإلا لزم [إما (١)] التسلسل ، وإما الدور. بل لا بد وأن تنتهي هذه المكتسبات إلى علوم حاصلة في العقل ، لا على سبيل الاكتساب ، وهي البديهيات.

إذا عرفت هذا فنقول : كل ما لا بد منه في كون تلك البديهيات مستلزمة لهذه الكسبيات. إما أن يكون حاصلا ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب كون هذه المكتسبات حاصلة عند حصول تلك البديهيات. لأن المؤثر ، إذا كان مستجمعا لجميع الجهات المعتبرة في المؤثرية ، فإنه يمتنع تخلف الأثر (عنه (٢)) فإذا كانت تلك البديهيات غير مقدورة البتة ، وكان استلزامها لهذه النظريات استلزاما ضروريا ، غير داخل تحت الاختيار. وجب القطع بأن هذه النتائج غير داخلة تحت القدرة والاختيار. وأما إن قلنا : إن تلك البديهيات غير مستجمعة لجميع الجهات المعتبرة في استلزام هذه النظريات ، فحينئذ لا بد من ضم أمور أخرى إليها. وتلك الأمور. إما أن تكون من العلوم البديهية ، أو

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

من العلوم الكسبية. والأول باطل لأنا فرضنا حصول جميع العلوم البديهية. والثاني أيضا باطل. لأن كلامنا في كفية استلزام البديهيات لأول المكتسبات. وعلى هذا التقدير ، يلزم أن يحصل قبل أول المكتسبات : مكتسب آخر. وذلك محال. لأن الذي يكون موصوفا بأنه أول المكتسبات ، يمتنع أن يحصل قبله مكتسب آخر. فثبت بما ذكرنا : أن البديهيات غير داخلة تحت (١) القدرة. وثبت : أن استلزامها للمكتسب الأول غير داخل تحت الوسع. واستلزام المكتسب الأول للمكتسب الثاني ، غير داخل أيضا تحت القدرة. وهلم جرا. في جميع المراتب. بالغة ما بلغت. فثبت : أن شيئا من العلوم والمعارف غير واقع بقدرة [العبد (٢)] واختياره.

وهو المطلوب

البرهان الثاني على هذا المطلوب

إن العلم إما تصور ، وإما تصديق.

وذلك لأنا إذا أدركنا أمرا من الأمور ، فإما أن نحكم عليه بحكم [وإما أن لا نحكم عليه بحكم (٣)] فإن لم نحكم عليه بحكم ، فذاك هو التصور ، وإن حكمنا عليه بحكم ، فذاك هو التصديق. إذا عرفت هذا الحصر. فنقول : إنه لا يمكن اكتساب شيء من التصورات. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا إذا حاولنا اكتساب شيء [آخر (٤)] من التصورات فحال ما نحاول ذلك الاكتساب. إما أن يكون لنا شعور بماهية ذلك المطلوب ، أو لا يكون لنا ، به شعور [فإن كان لنا به شعور (٥)] فحينئذ يكون تصوره حاضرا

__________________

(١) في (م).

(٢) سقط (م).

(٣) زيادة.

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ل).

عندنا. والحاصل لا يمكن تحصيله. وإن لم يكن لنا به شعور ، كان الذهن غافلا عنه. والغافل عن الشيء يمتنع [أن يكون (١)] طالبا له.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون ذلك الأمر ، مشعورا به من وجه دون وجه ، فلأجل أنه مشعور به من بعض الوجوه ، يمكن طلبه. ومن حيث إنه غير مشعور به من سائر الوجوه ، فإن العقل يحاول تكميل ذلك الشعور وإتمامه ، فلا جرم صح طلبه؟.

والجواب : إن أحد الوجهين لما كان محكوما عليه بأنه مشعور به ، والوجه الثاني محكوم عليه بأنه غير مشعور به. كان أحد الوجهين مغايرا للآخر ، وإلا يصدق على الشيء الواحد ، أنه مشعور به ، غير مشعور به. وذلك محال. وإذا ثبت هذا فنقول : الوجه الذي هو مشعور به يمتنع [كونه (٢)] مطلوبا. لأنه يقتضي تحصيل الحاصل. والوجه الذي هو غير مشعور به ، يمتنع طلبه. لأن ما كان الذهن غافلا [عنه (٣)] يمتنع طلبه. والحاصل : أن التقسيم الذي ذكرناه أولا ، يفيد في هذين الوجهين.

الثاني : إنا إذا حاولنا تعرف ماهيته. فإما أن نتعرفها من نفسها ، أو من الأمور الخارجة عنها ، أو مما يتركب من هذه الأقسام. والكل باطل ، فبطل القول بإمكان تعرف شيء من الماهيات. إنما قلنا : إنه لا يمكن تعرفها من نفسها ، لأن الوسيلة معلومة قبل المتوسل إليه. فلو كانت الوسيلة والمتوسل إليه واحدا ، لكان الشيء الواحد معلوما قبل كونه معلوما. وهو محال. وإنما قلنا : إنه لا يمكن تعرفها من الأمور الداخلة [فيها (٤)] لأنا إما أن نتعرفها من بعض أجزائها ، أو من مجموع أجزائها. والأول باطل. لأن العلم ببعض أجزاء الشيء ، لا يكون علما بتمام ذلك الشيء. إلا إذا قيل : إن العلم بهذا الجزء

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

[بوجه (١)] يوجب العلم بالجزء الثاني ، ثم العلم بمجموع الأجزاء ، يفيد العلم بتمام تلك الماهية. إلا أن هذا محال من وجهين :

الأول : (٢) إن على هذا التقدير ، يكون العلم بأحد الجزءين ، موجبا للعلم بالجزء الثاني. وهذا إنما يتم إذا كان العلم بالشيء يستفاد من المعلوم بالأمر الخارج عنه. وهذا هو القسم الثالث. فيكون الدليل الدال على إبطال هذا القسم ، يوجب فساد هذا الاحتمال.

والثاني : إن هذا الكلام إنما يتم إذا قلنا : إن العلم بمجموع الأجزاء ، يوجب العلم بتمام الماهية. إلا أن الدليل [الدال (٣)] على فساد هذا القسم ، يوجب فساد هذا الاحتمال. وأما إذا قلنا : إنا نتعرف العلم بتلك الماهية من العلم بمجموع أجزائها. فهذا أيضا : محال. لأن مجموع أجزائها ، هو تمام ماهية تلك الماهية. فالقول بأنا نتعرف مجموع تلك الماهية ، من معرفة مجموع أجزائها : يعود إلى القسم الأول. وهو تعريف الشيء [بنفسه (٤)] وهو محال.

وأما القسم الثالث : وهو أنا نتعرف تصور تلك الماهية من أمور خارجة عنها. فنقول : إن صريح العقل لا يستبعد حصول ذلك الوصف في غير تلك الماهية. لما ثبت : أن الماهيات المختلفة يجوز اشتراكها في لازم واحد. فعلى هذا التقدير ما لم يعرف أن ذلك الوصف مختص بتلك الماهية ، وغير حاصل في غيرها ، فإنه لا يمكننا أن نتوسل بمعرفة ذلك الوصف إلى معرفة تلك الماهية [لكن (٥)] علمنا بأن ذلك الوصف مختص بتلك الماهية ، مسبوق بتصور تلك الماهية. لأن العلم بالنسبة ، مسبوق بالعلم بكل الماهية الفلانية هي التي يلزمها اللازم الفلاني. فهذا لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية. فإن بهذا القدر لا نعرف أن تلك الماهية أمرا ما ، مجهول الحقيقة. إلا أنه عرف منها ، أنه يلزمها

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

اللازم الفلاني. ومن راجع نفسه ، علم أن الأمر كما ذكرناه.

وأما القسم الرابع : وهو أنا نتعرف الماهية لمجموع هذه الأقسام. فهذا أيضا باطل. لأنا لما بينا أنه يمتنع أن يكون الواحد من هذه الأقسام داخل في التأثير ، امتنع أن يكون المجموع المركب منها في هذا الباب. فهذان البرهانان قاطعان في أنه لا يمكن اكتساب شيء من التصورات ، بل إن حصل شيء منها في الذهن ، فقد حصل ، وإلا فلا سبيل إلى اكتسابه.

الوجه الثالث في بيان أن الأمر كما ذكرناه : هو أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا أنه لا يمكننا أن نتصور أمرا من الأمور ، إلا التصورات ، التي أدركناها بأحد الحواس الخمس ، أو التصورات التي وجدناها من أنفسنا. كعلمنا بالألم واللذة ، والفرح والغم ، وأشباها. أو ما يركبه العقل أو الخيال من أحد هذه الأمور. فأما أن نتصور أمرا وراء هذه الأقسام. فلا سبيل لنا البتة إليه. وهذا المعنى معلوم بالبديهة عند اعتبار أحوال النفس.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن شيئا من التصورات غير مكتسب.

وأما أن شيئا من التصديقات غير مكتسب. فيدل عليه أيضا وجوه :

الأول : إن كل تصديق ، فلا بد فيه من تصورين.

أحدهما : تصور الموضوع. والآخر : تصور المحمول. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن يكون مجرد حضور هذين التصورين في الذهن ، مستقلا بإيجاب أن يحكم الذهن بذلك التصديق ، أو لا يكون. والأول : هو البديهيات. والثاني : هو النظريات. مثال الأول : إنا إذا [تصورنا (١)] أن الواحد ما هو؟ وتصورنا أن نصف الاثنين ما هو؟ فمجرد حضور هذين التصورين في الذهن ، يوجب جزم الذهن بأن الواحد نصف الاثنين. فهذا هو البديهي. ومثال [الثاني (٢)] إنا إذا تصورنا : أن العالم ما هو؟ وأن الحادث ما هو؟ لم يكن مجرد

__________________

(١) نظرنا (ل).

(٢) من (ط).

حضور هذين التصورين ، موجبا جزم الذهن بأن العالم حادث ، أو ليس بحادث.

إذا عرفت هذا فنقول : أما التصديقات البديهية ، فشيء منها غير مكتسب. لأن ذينك التصورين. إن حضرا ، كانا موجبين لذلك التصديق ـ والإنسان لا قدرة له في تحصيل (١) ذينك التصورين ـ وعند حضورهما فلا قدرة له في استلزامهما (٢) لذلك التصديق. بل إن حضرا لكان عند [حضور (٣)] ذلك التصديق واجبا. وإن لم يحضر (٤) إلا واحدا منهما ، كان حضور ذلك التصديق ممتنعا. فثبت : أن الإنسان لا قدرة له البتة على التصديقات البديهية. وأما التصديقات النظرية. فلا قدرة له أيضا على شيء منها. لأن تلك البديهيات ، إن كانت مستجمعة للأمور المعتبرة في استلزام تلك النظريات ، كان حصول تلك النظريات عقيب تلك البديهيات واجبا. فلم يكن للإنسان قدرة عليها. وإن لم تكن مستجمعة للأمور المعتبرة في ذلك الاستلزام ، امتنع كونها مستلزمة لتلك النظريات. والممتنع لا قدرة عليه.

وتمام تقرير هذا الكلام هو الذي سبق ذكره في البرهان الأول. إلا أن هذا الوجه في الحقيقة غير مختص بالتصديقات النظرية ، بل هو عام في كيفية المكتسبات. علم من علم يتقدمه ، سواء كان ذلك العلم ، علما تصوريا [أو تصديقيا (٥)].

والوجه الثاني في بيان أن شيئا من التصديقات غير مكتسب : هو أن نقول : لا شك أن تلك التصديقات الكسبية ، لا يمكن إيقاعها إلا في تصورات حاضرة في الذهن. فنقول : عند حضور تلك التصورات ، إما أن يكون ذلك التصديق ضروريا ، أو لازما ، أو لا يكون كذلك. فإن كان حصول ذلك

__________________

(١) تخيل (م).

(٢) استلزامها لذانيك التصديقين [الأصل].

(٣) من (ط ، ل).

(٤) لم يحضر بواحد منهما [الأصل].

(٥) من (ط ، ل).

التصديق عند حضور تلك التصورات لازما أو ضروريا ، لم يكن للعبد قدرة عليه ، ولا اختيار له فيه. لأن تلك التصورات لا قدرة للعبد عليها البتة. وعند حضورها تكون مستلزمة لذلك التصديق استلزاما لا قدرة للعبد عليه. فعلى هذا التقدير ، امتنع أن يكون ذلك التصديق واقعا بكسب العبد وباختياره. وأما إن كان حصول التصديق عند حصول (١) تلك التصورات غير ضروري ولا لازم ، فحينئذ لم يكن ذلك التصديق علما ولا يقينا ، بل هو اعتقاد تقليدي، أتى به الإنسان من غير موجب. وهو أيضا محال. ومتى حاول الإنسان تشكيك نفسه فيه ، أمكن ذلك وقبل هذا لا يكون علما ولا يقينا. فثبت بما ذكرنا : أن العلوم إما تصورات وإما تصديقات. وثبت : أن كل واحد منهما خارج عن قدرة العبد وعن وسعه. فثبت : أن المعارف والعلوم خارجة عن قدرة البشر ، وأن حصولها ليس إلا بخلق الله سبحانه.

البرهان الثالث

على أن العبد لا يقدر على خلق العلوم

هو : أن العبد إذا حاول إحداث العلم ، إما ابتداء وإما بواسطة شيء آخر. فإما أن يحاول إحداث مطلق العلم ، وإما أن يحاول إحداث العلم بكذا على التعيين. فإن حاول إحداث مطلق العلم ، لم يكن بأن يحصل هذا العلم ، أولى بأن يحصل ذلك العلم. لأن ماهية العلم جنس تحته أنواع كثيرة. وهي العلم بهذا المعلوم ، والعلم بهذا المعلوم الآخر. والطبيعة الجنسية بالنسبة إلى جميع الأنواع على السوية. فلم تكن الطبيعة الجنسية [ناقصة (٢)] باقتضاء بعض الأنواع ، أولى من اقتضاء النوع الآخر. فلو كان القصد إلى جنس حصول النوع ، كان ذلك رجحانا للممكن من غير مرجح. وهو محال.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إنه يحاول إحداث العلم بكذا على

__________________

(١) حضور (ط).

(٢) من (ط).

التعيين. فنقول : هذا أيضا محال. وذلك لأن اعتقاد أن الشيء كذا ، قد يكون علما ـ إذا كان مطابقا لذلك المعتقد ـ وقد يكون جهلا ، وهو إذا كان غير مطابق. فالعلم إنما يتميز عن الجهل ، إذا عرف كونه مطابقا لذلك المعتقد [وقد يكون جهلا ، وهو إذا كان غير مطابق (١)] فعلى هذا لا يمكن أن يقصد إلى العلم دون الجهل ، إلا إذا ميز بين العلم وبين الجهل ، ولا يمكنه أن يعرف هذا الامتياز إلا إذا عرف أن هذا الاعتقاد مطابق للمعتقد ، ولا يمكنه أن يعرف هذه المطابقة ، إلا إذا عرف أو لا حال ذلك المعتقد في نفسه. فثبت : أنه لا يمكن أن يجعل نفسه عالما بذلك الشيء ، إلا إذا كان قد عرف أولا حال ذلك الشيء. وذلك يقتضي كون الشيء مشروطا بنفسه. وهو محال. فثبت : أن إقدار الانسان على جعل نفسه ، عالما بشيء : أمر محال. وبهذا البرهان يظهر أيضا : أن الإنسان لا يمكنه أن يجعل نفسه جاهلا بشيء. لأن الجهل إنما يتميز عن العلم ، بكونه غير مطابق للمعتقد. ولا يمكنه أن يعرف كونه غير مطابق للمعتقد ، إلا إذا عرف قبل ذلك ، حال ذلك المعتقد في نفسه. فثبت : أنه لا يمكنه تحصيل الجهل لنفسه ، إلا إذا كان عالما بذلك الشيء. وهذا يقتضي كون أحد الضدين مشروطا بالآخر ، وإنه محال.

فثبت بهذه البراهين القاطعة : أن كل ما حصل في قلوب الخلق وعقولهم من العلوم والجهالات ، فالكل من الله [وبإيجاد الله (٢)].

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه وإن كان لا يمكنه إحداث العلوم والجهالات في نفسه ابتداء ، إلا أنه يمكنه إحداثها بواسطة علوم متقدمة عليها ، أو جهالات متقدمة عليها؟

قلنا : الجواب من وجهين :

الأول : إن تلك الجهالات لا تتسلسل ، بل تنتهي إلى جهل أول. فيكون خالقه هو الله سبحانه.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، ل).

والثاني : إن استلزام تلك العلوم المتقدمة لتلك العلوم التي هي النتائج ، يجب أن تكون ضرورية. وكذلك استلزام تلك الجهالات المتقدمة لتلك الجهالات التي هي النتائج ، يجب أن تكون ضرورية. وعلى هذا التقدير يكون الكل من الله تعالى.

وهو المطلوب

البرهان الرابع

إن الانسان لا يقصد إلا تحصيل العلم. فلما حصل الجهل ، كان حصوله على خلاف قصده واختياره. فوجب أن يكون من غيره.

فإن قالوا : ذلك لأنه اشتبه عليه هذا الجهل بالعلم. فنقول : فهو إنما اختار ذلك الجهل ، لتقدم جهل آخر. ولا بد وأن تنتهي تلك الجهالات إلى الجهل الأول ، الواقع بخلق الله.

وهو المطلوب

البرهان الخامس

إن الناس تحيروا في ماهية العلم وفي موضوعه. أما حيرتهم في ماهية العلم. فلأن بعضهم يقول : العلم ليس إلا مجرد هذه النسبة المسماة بالتعلق. وبعضهم يقول : أنه صفه حقيقة مستلزمة لهذه النسبة والإضافة. وبعضهم يقول : إنه عبارة عن صورة مساوية لماهية المعلوم ، حاصلة في ذات العالم. ولو كان حصول هذا العالم بإيجادي وخلقي ، لكنت عالما بأني لما ذا خلقت؟ لأن القصد إلى ما لا يكون متصورا : محال. ولو كنت أعلم أني لما ذا خلقت؟ لما بقي هذا الاشتباه.

وأما حيرتهم في موضع العلم. فلأن بعضهم قال : موضعه هو القلب [وبعضهم قال : إن موضعه هو الدماغ (١)] وبعضهم قال : موضعه هو

__________________

(١) من (ط ، ل).

النفس الناطقة. ولو كنت أنا الخالق لهذه العلوم ، لكنت عالما بأني في أي موضع خلقتها؟ وفي أي محل أوجدتها وأحدثتها؟ ولما كان الكل مشتبها غير معلوم. علمنا : أن خالق هذه المعارف والعلوم : هو الله سبحانه.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في الدلائل العقلية في مسألة خلق الأعمال.

وبالله التوفيق

الباب الثاني

في

تقرير الدلائل القرآنيّة على

أن خالق أعمال العباد هو الله تعالى

الفصل الأول

في

أن التمسك بالدلائل السمعية.

هل يجوز في هذه المسألة ، أم لا؟ (١)

وهاهنا أبحاث ثلاثة :

أحدها : أن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين. وهذه المسألة يقينية. فوجب أن لا يجوز التمسك فيها بالدلائل السمعية.

والثاني : إنا سلمنا أن التمسك بالدلائل اللفظية : جائز في المسائل اليقينية. إلا أن التمسك بها في هذه المسألة لا يجوز.

الثالث : إن القرآن. هل يصير مطعونا فيه ، بسبب تعارض ما فيه من دلائل الجبر والقدر؟.

البحث الأول

أما البحث الأول : فتقريره : إن التمسك بالدلائل اللفظية ، موقوف على أمور عشرة. وكل واحد منها ظني ، والموقوف على الظني : ظني. ينتج : أن

__________________

(١) نص المخطوطات : الباب الثاني في تقرير الدلائل القرآنية على أن خالق الدلائل القرآنية أعمال العباد هو الله تعالى. والكلام في هذا الباب مرتب على فصول. الفصل الأول في أن التمسك بالدلائل السمعية هل يجوز في هذه المسألة أم لا؟ وهاهنا أبحاث ثلاثة : أحدها : أن الدلائل اللفظية ... الخ وفي مخطوطة (ل) يقول الناسخ: «الفصول غير موجودة في النسخ» والفصول موجودة في مخطوطة أسعد أفندي فقط

التمسك بالدلائل اللفظية ، لا يفيد إلا الظن.

ولنبين تلك الأمور العشرة :

فالأول : [أن التمسك (١)] بالدلائل اللفظية ، يتوقف على نقل مفردات اللغة ، ونقل النحو والتصريف. لكن رواية هذه الأشياء ، تنتهي إلى أشخاص قليلين. لا يمتنع في العرف إقدامهم على الكذب. ومثل هذه الرواية لا تفيد إلا الظن.

الثاني : إن التمسك بالدلائل اللفظية ، يتوقف على عدم الاشتراك. لأن بتقدير حصول الاشتراك ، يحتمل أن يكون المراد من كل واحد من تلك الألفاظ المفردة أمرا ، آخر غير ما تصورناه. وعلى ذلك التقدير يكون المراد من المركب ، أمرا آخر ، غير ما فهمناه. لكن عدم الاشتراك مظنون.

الثالث : ويتوقف أيضا على أن الأصل في الكلام : الحقيقة لأنه كما يستعمل اللفظ في حقيقته ، فقد يستعمل في مجازه. فلو لم نقل : الأصل في الكلام الحقيقة. فربما كان المراد بعض مجازاته. وحينئذ يتغير المعنى لكن عدم المجاز مظنون.

الرابع : ويتوقف على عدم الإضمار وعدم الحذف. بدليل : أن الإضمار والحذف [واردان في كتاب الله. أما الحذف (٢)] فكثير منه قوله تعالى : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٣)

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سورة الأنعام ، آية : ١٥١ ، واعلم. أن على القول بأن «أن» في (أَلَّا تُشْرِكُوا) تكون مفسرة ، لا تكون «لا» زائدة. والمعنى : أنه أي الحال والشأن : «لا تشركوا» يقول الزمخشري رحمه‌الله في الكشاف «وأن» في (ألا تشركوا) مفسرة ، ولا للنهي. ويقول الزجاج رحمه‌الله ـ نقلا عن مجمع البيان ـ :

ما حرم ربكم في موضع نصب بقوله اتل. المعنى اتل الذي حرمه ربكم عليكم فتكون ما موصولة ، وجائز أن يكون في موضع نصب بحرم ، لأن التلاوة بمنزلة القول فكأنه قال أقول أي شيء حرم ربكم عليكم. أهذا أم هذا؟ فجائز أن يكون الذي تلاه عليهم قوله : «إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا» ويكون ألا تشركوا به منصوبة بمعنى طرح اللام أي أبين لكم ـ

وكلمة «لا» هاهنا محذوفة. لأنه تعالى لم يحرم علينا أن لا نشرك به. وإنما حرم علينا أن نشرك به. ومنها قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) وكلمة «لا» محذوفة. والتقدير : أقسم بيوم القيامة. ومنها قوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها : أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٢) وكلمة «لا» هاهنا محذوفة ، وإلا لكان يجب رجوعهم إلى الدنيا. وهو باطل بالإجماع. فكان التقدير : وحرام على قرية أهلكناها : إنهم يرجعون. وأما الإضمار فكثير منها : قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ : أَكِنَّةً ، أَنْ يَفْقَهُوهُ) (٣) والتقدير : لئلا يفقهوه. لأن تأثير الأكنة في أن لا يفقه ، لا في أن يفقهه. ومنها قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤) قال بعضهم : التقدير يبين الله لكم لئلا تضلوا.

وبالجملة : فالقرآن مملوء من الحذف والإضمار ، بحيث ينقلب النفي

__________________

ـ الحرام : لا تشركوا. لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله سبحانه ، فصاروا بذلك مشركين. ويجوز أن يكون أن لا تشركوا به شيئا محمولا على المعنى فيكون المعنى : أتل عليكم ألا تشركوا ، أي أتل عليكم تحريم الشرك ، ويجوز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا به شيئا لأن قوله (وبالوالدين إحسانا) محمول على معنى أوصيكم بالوالدين إحسانا.

(١) أول القيامة. و «لا» ليست زائدة. فإن الآية مثل آية (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) يقول الإمام الزمخشري رحمه‌الله : «والوجه : أن يقال : هي للنفي. والمعنى في ذلك : إنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه : قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به ، كلا إعظام ، يعني : أنه يستأهل فوق ذلك.

(٢) سورة الأنبياء ، آية : ٩٥ و «لا» ليست زائدة. فإنه قبل الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) والمعنى : أنه ممتنع في الوجود. رجوع الكفار إلى الدنيا للعمل الصالح بعد موتهم. وفي مجمع البيان : «وحرام إن شئت رفعته بالابتداء لاختصاصه بما جاء بعده من الكلام ، وخبره محذوف وتقديره : «وحرام على قرية أهلكناها بأنهم لا يرجعون» مقتضى أو ثابت أو محكوم عليه. وإن شئت جعلت «لا» زائدة. والمعنى : حرام على قرية أهلكناها رجوعهم ، كما قال : «فلا يستطيعون توصية ، ولا إلى أهلهم يرجعون» وإن شئت جعلته خبر مبتدأ وأضمرت مبتدأ ـ كما ذكرت ـ ويكون المعنى : حرام على قرية أهلكناها بالاستئصال رجوعهم ، لأنهم لا يرجعون. وتكون «لا» غير زائدة. والمعنى : حرام عليهم أنهم ممنوعون من ذلك».

(٣) سورة الكهف ، آية : ٥٧.

(٤) سورة النساء ، آية : ١٧٦.

إثباتا ، والإثبات نفيا. كما أوردناه في الأمثلة. وإذا كان الأمر كذلك ، كان عدم الحذف وعدم الإضمار : مظنونا لا معلوما.

الخامس : ويتوقف أيضا على عدم التقديم والتأخير. لأن بسببهما يتغير المعنى. لكن عدمهما مظنون.

السادس : ويتوقف على عدم المخصص. فإن أكثر عمومات القرآن والسنة ، مخصوص بعدم كون العام مخصوصا مظنونا ، لا معلوما. ومثاله : قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فهذا إنما يدل على أنه تعالى خالق لأعمال العباد [لو علمنا أن هذا العموم ، غير مخصوص في أفعال العباد (٢)] لأن بتقدير أن يكون قد وجد ما يدل على كونه مخصوصا ، لم يكن التمسك به. إلا أن عدم المخصص : مظنون لا معلوم.

السابع : ويتوقف على عدم المعارض النقلي. لأن الدلائل اللفظية (٣) قد يقع فيها التعارض ، ويصار فيها إلى الترجيحات التي لا تفيد إلا الظن.

الثامن : ويتوقف على سلامتها عن المعارض العقلي. وإن آيات التشبيه كثيرة. لكنها لما كانت معارضة بالدلائل العقلية [القطعية (٤)] لا جرم أوجبنا صرفها عن ظواهرها. فكذا هاهنا. وأيضا : فعند حصول التعارض بين ظواهر النقل وقواطع العقل ، لا يمكن تصديقهما معا. وإلا لزم تصديق النقيضين [ولا تكذيبهما ، وإلا لزم رفع النقيضين (٥)] ولا ترجيح النقل على القواطع العقلية ، لأن النقل لا يمكن التصديق به إلا بالدلائل العقلية. فترجيح النقل على العقل يقتضي الطعن في العقل (٦) ولما كان العقل أصلا للنقل ، كان الطعن في العقل موجبا للطعن في العقل والنقل معا. وأنه محال. فلم يبق إلا القسم الرابع وهو

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٠٢.

(٢) من (ط).

(٣) القطعية (م).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط).

(٦) العقل (م ، ل).

القطع بمقتضيات الدلائل العقلية القطعية ، وحمل الظواهر النقلية على التأويل. فثبت بهذا : أن الدلائل النقلية يتوقف الحكم بمقتضياتها على عدم المعارض العقلي. إلا أن ذلك مظنون لا معلوم.

التاسع : وهو أن الدليل النقلي. إما أن يكون قاطعا في متنه ودلالته ، أو لا يكون كذلك.

أما القاطع في المتن. فهو الذي علم بالتواتر اليقيني صحته ، وأما القاطع في دلالته فهو الذي حصل اليقين بأنه لا يحتمل معنى آخر سوى هذا الواحد. فنقول : لو حصل دليل لفظي بهذه الشرائط ، لوجب أن يعلم كل العقلاء صحة القول بذلك المذهب.

مثاله : إذا استدللنا بآية أو بخبر على أن الله تعالى خالق لأعمال العباد. فهذا إنما يتم لو كانت تلك الآية ، وذلك الخبر مرويا بطريق التواتر القاطع ، وأن تكون (١) دلالة تلك الآية وذلك الخبر على هذا المظنون غير محتمل البتة ، لوجه آخر. احتمالا راجحا أو مرجوحا. وإلا لصارت تلك الدلالة ظنية. ولو حصل دليل سمعي لهذا الشرط ، لوجب أن يعرف كل المسلمين صحة ذلك المطلوب بالضرورة ، من دين محمد عليه الصلاة والسلام. ولو كان الأمر كذلك ، لما اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة ، مع إطباقهم على أن القرآن حجة. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن شيئا من هذه الآيات ، لا يدل على هذا المطلوب ، دلالة قطعية يقينية. بل كل آية يتمسك بها أحد الخصمين ، فإنه لا بد وأن يكون محتملا لسائر التأويلات ، ولا يمكننا دفع تلك التأويلات إلا بالترجيحات [الظنية (٢)] والمدافعات الإقناعية. ومعلوم أن كل ذلك يفيد الظن.

العاشر : إن دلالة ألفاظ القرآن على هذا المطلوب. إما أن تكون دلالة مانعة من النقيض أو غير مانعة منه. والأول باطل. أما أولا فلأن الدلائل

__________________

(١) لا تكون (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

اللفظية : وضعية والوضعيات لا تكون مانعة من النقيض. وأما ثانيا : فلأن هذه الدلائل ، لو كانت مانعة من النقيض. لكان الصحابة والتابعون أولى الناس بالوقوف عليها والإحاطة بمعانيها ، لأنهم كانوا أرباب تلك اللغة. ولو كان الأمر كذلك ، لكانوا عالمين بالضرورة بأن القول بصحة هذا المطلوب : من دين محمد عليه الصلاة والسلام. ولو كان الأمر كذلك ، لما وقع الاختلاف في هذه المسألة قديما وحديثا ، بين أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فثبت: أن دلالة هذه الألفاظ على هذه المطالب ، ليست دلائل قاطعة مانعة عن النقيض ، بل هي محتملة للنقيض. ومتى كان الأمر كذلك ، كانت دلالة الدلائل اللفظية ، ليست إلا ظنية.

فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الظن. وظاهر أن هذه المسألة يقينية ، والتمسك بالدليل الظني في المطلوب اليقيني : باطل قطعا (١).

فهذا تقرير البحث عن قولنا : التمسك بالدلائل اللفظية في المطالب اليقينية لا يجوز.

وبالله التوفيق

__________________

(١) اعلم : أن المؤلف قد جانبة الصواب في هذا الحكم. فإنه بقوله إن القرآن يفيد الظن ، ولذلك يجب الاعتماد على الأدلة العقلية ، بقوله هذا يهدم أصول الدين بالكلية. لأن المقدم في الاستدلال هو دليل القرآن. وأما العقل فإنه يبين للراسخين في العلم أن هذا محكم ، وهذا متشابه. لا أن العقل يفيد اليقين رأسا. فقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ. وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) يدل على أن العلم مترتب على التقوى في نظر إنسان ، وفي نظر إنسان آخر يقف عند قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ويكون المعنى عنده : أن الله بين أحكام الدين وأحكام البيع ، ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في الأحكام التي ذكرها من قبل. ثم يفهم أن قوله (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) استئناف كلام جديد ، يفيد المنة والتفضل من الله على عباده. ومن هذا المثال يتبين أن النص مقدم في الاستدلال ، وأن العقل هو الذي يشرح النص ويوضحه. وللعوام بحسب عقولهم فهم ، وللراسخين فهم. واعلم : أن العقل الذي يقول به الإمام فخر الدين ، هو الذي أفاد الظن في دلالة الألفاظ. وهو أيضا يفيد الظن في كل الأمور ، بدليل اختلاف الفلاسفة ، والملل والأديان ، ونشوء المذاهب والفرق. فإذا وضح أن دلالة القرآن ظنية مطلقا ، وهو قد وضح من قبل : أن العقل لا يوثق به عند أقوام من الناس. فمعنى ذلك : الطعن في الدين بالكلية.

البحث الثاني

في

بيان أن بتقدير أن يكون التمسك بالدلائل اللفظية في أمثال هذه المطالب جائز. إلا أنا نقول : التمسك بالدلائل السمعية في إثبات أن العبد غير موجد لأفعال نفسه : غير جائز.

واعلم : أن المعتزلة قد أطنبوا في تقرير هذا المقام. وأنا أنقل حاصل ما ذكروه ، وأضم إليه من عندي : وجوها أخرى. أقوى وأكمل مما ذكروه ، ليكون البحث موصلا إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات.

قالوا : إن كل من نفى كون (١) العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه إثبات الصانع ، ويتعذر عليه إثبات النبوة ، ويتعذر عليه القول (٢) بأن القرآن حجة.

وإذا كان الأمر كذلك ، ثبت : أن كل من نفى كون العبد موجدا لأفعال نفسه فإنه يتعذر عليه الاستدلال بالدلائل السمعية ، على تصحيح المطلوب.

أما بيان أن كل من نفى كون العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه القول بإثبات الصانع. فتقريره من وجوه ثلاثة.

الأول : وهو الذي ذكره المعتزلة. قالوا : إن طريقنا إلى إثبات الصانع. هو أن نقول : أفعالنا إنما افتقرت إلينا ، بسبب حدوثها. فإذا كان العالم محدثا ، وجب افتقاره إلى الفاعل. ومعلوم أن بناء هذا الدليل : على افتقار أفعالنا إلينا. فإذا لم نعتقد هذا الأصل ، فقد انسد علينا طريق إثبات الصانع. هذا حاصل كلامهم.

وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : إنا لا نسلم أن هذا الذي ذكرتم : دليل صحيح في إثبات

__________________

(١) نفي كل كون (م).

(٢) القول بأن القول حجة (م).

الصانع. وذلك لأن افتقار الحادث إلى المؤثر. إما أن يكون معلوما ، أو لا يكون. فإن كان معلوما ، لزم من العلم بكون العالم محدثا : العلم بافتقاره إلى المؤثر ، من غير حاجة إلى نفيه ، على افتقارنا إلينا. وإن كان غير معلوم ، لم يلزم من مشاهدة وقوع أفعالنا ، عقيب تصورنا ودواعينا : وقوعها. لاحتمال أن تلك الأفعال وقعت عندها ، لا بها ، ولا بشيء آخر. بل حدثت على سبيل الاتفاق. فثبت : أن ما ذكرتموه ليس دليلا صحيحا.

الثاني : هب أن ما ذكرتم دليل صحيح. إلا أنه لا يلزم من بطلان دليل واحد ، بطلان القول بالمدلول. لاحتمال أن يثبت ذلك المدلول بدليل آخر.

الوجه الثاني : إن مذهب الجبرية : أن حصول الفعل عند مجموع القدرة والداعي : واجب. وحصوله عند فقدان هذا المجموع : ممتنع. وهذا يقتضي كونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار.

الوجه الثالث : إن مذهب الجبرية : أنه لا مؤثر في حدوث الممكنات إلا الله ، وإذا كان كذلك ، كان تخصيص بعض الناس بخلق الكفر والمعصية فيه ، والبعض الآخر بخلق الإيمان والطاعة. تخصيصا لا لمخصص.

وأيضا : مذهب الجبرية : أنه لا حسن ولا قبح في العقول. وعلى هذا التقدير تخصيص بعض الأفعال بالإيجاب ، والبعض بالندب ، والبعض بالتحريم : تخصيصا لا لمخصص أصلا. ومجوز هذا ، يلزمه أن يحكم باستغناء الممكن عن المرجح. وذلك يقتضي نفي الصانع.

وهذان الوجهان ، نحن لخصناهما للقوم. وما رأينا أحدا منهم دار حولهما.

واعلم : أن الجواب المعتمد عن الوجه الثاني : إنا بينا فيما تقدم : أنه إن لزم على مذهب [الجبرية (١)] القول بأن الصانع موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزمهم على مذهبهم : نفي المؤثر بالكلية ، وتجويز أن يترجح أحد

__________________

(١) من (م ، ل).

طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. ولا شك أن هذا أقبح وأقطع مما ألزموه علينا.

وأما الوجه الثالث من الوجوه التي نسبناها إليهم :

فجوابه : إن مذهبهم : أن حصول الفعل لا يتوقف على الداعي. وحينئذ يلزمهم على هذا المذهب ، عين ما ألزموه علينا.

وبالله التوفيق

وأما بيان أن كل من نفى كون العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه الاعتراف بالنبوة (١) فبيانه من ثلاثة وجوه :

__________________

(١) في التوراة ، وفي الإنجيل : نبوءات واضحة الدلالة على نبي الإسلام ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. نذكر منها :

أولا : البشارة بنبي الإسلام في التوراة

أولا : جاء في سفر التكوين : أن الله تعالى وعد إبراهيم عليه‌السلام بأن يطرح البركة في ولديه أ ـ إسماعيل ب ـ وإسحاق. وقد فسر علماء اليهود البركة بأنها تعني أ ـ الملك ب ـ والنبوة. أي يكون من نسل إسحاق : نبي وملوك على الشعوب. ويقولون إن بركة إسحاق عليه‌السلام قد تحققت. فإنه أنجب يعقوب ، ومن سلالة يعقوب جاء النبي موسى عليه‌السلام بالتوراة. وقد انتشر اليهود في الأرض أمما ، وحكموا وعلّموا. كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة ، آية ٢٠] والتوراة نصت على ١ ـ بركة إبراهيم ٢ ـ وعلى بركة لإسحاق ٢ ـ وعلى بركة لإسماعيل. كما نص القرآن في قوله تعالى : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [سورة هود ، آية : ٧٣] وفي قوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ ، وَعَلى إِسْحاقَ) [سورة الصافات ، آية : ١١٣] أي على إسماعيل الذبيح ، وإسحاق أخيه. وهذا هو نص التوراة في البركة :

١ ـ «بذاتي أقسمت يقول الرب : إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ، ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة ... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنك سمعت لقولي» [تكوين ٢٢ : ١٦ ـ ١٨] ٢ ـ «وقال الله لإبراهيم : ساراى امرأتك لا تدعوا اسمها ساراى ، بل اسمها سارة ، وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا. أباركها فتكون أمما. وملوك شعوب منها يكونون» [تكوين ١٧ : ١٥ ـ ١٦] ٣ ـ «وقال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك؟ فقال الله : وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه. وأثمره. وأكثّره كثيرا جدا. أثنى عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة» [تكوين ١٧ : ١٨ ـ ٢٠].

__________________

من هذه النصوص يتبين لنا : أن البركة الموعود بها إبراهيم وهي على تفسير اليهود. تعني الملك والنبوة. هي لإسماعيل كما هي لإسحاق. وحيث تحققت مع بني إسحاق في شخص نبي ، بدأت البركة من ظهوره لأنه صاحب شريعة. لا بد وأن تتحقق مع بني إسماعيل في شخص نبي ، تبدأ بركة إسماعيل من ظهوره. والتاريخ يشهد : أن صاحب الشريعة في نسل إسحاق هو موسى. ويشهد أن صاحب الشريعة في نسل إسماعيل هو محمد. ولذلك جاء في القرآن الكريم أن محمدا مماثل لموسى في قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) [المزمل ١٥].

ثانيا : جاء في الاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية هذا النص : «يقيم لك الرب إلهك : نبيا من وسطك. من إخوتك. مثلي. له تسمعون ... أقيم لهم : نبيا من وسط إخوتهم. مثلك. وأجعل كلامي في فمه. فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي. أنا أطالبه وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى. فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك : كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ، ولم يحدث ولم يصر ، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب. بل بطغيان تكلم به النبي. فلا تخف منه» [التثنية ١٨ : ١٥ ـ ٢٢].

ومن هذا النص يتبين مجيء نبي بعد موسى عليه‌السلام. وهذا النبي لا بد وأن يكون من نسل إسماعيل. لأن لإسماعيل بركة. وهذا النص يوضح أوصاف النبي الآتي بتسعة أوصاف : ١ ـ نبي ٢ ـ من بني إسماعيل لقوله من وسط إخوتهم ولقوله في سفر التكوين إن لإسماعيل بركة ٣ ـ مثل موسى في المعجزات والانتصار على الأعداء في الحروب. وقد نصت التوراة في آخر سفر التثنية بأنه لن يأتي نبي في المستقبل من بني إسرائيل مثل موسى. وحيث أن لإسماعيل بركة ، ولن يأتي مماثل لموسى من اليهود ، ونص النبوءة بقول عن النبي المنتظر : إنه مثل موسى. يكون النبي المنتظر هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ٤ ـ أمي. لا يقرأ ولا يكتب «واجعل كلامي في فمه» ٥ ـ ينسخ شريعة موسى «له تسمعون» ٦ ـ أمين على الوحي الإلهي «فيكلمهم بكل ما أوصيه به» ٧ ـ يقضي على ملك بني إسرائيل في العالم «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي : أنا أطالبه» وفي بعض التراجم : أنا أنتقم منه وأهلكه ٨ ـ لا يقتل : «وأما النبي الذي يطغى ... الخ» ٩ ـ يتحدث عن غيب ويقع في مستقبل الأيام «وإن قلت في قلبك ... الخ» والأوصاف كلها تنطبق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثالثا : في الأصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين قول يعقوب لبنيه : «لا يزول قضيب من يهودا ومشترع من بين رجليه ، حتى يأتي شيلون. وله يكون خضوع شعوب» [تكوين ٤٩ : ١٠] أي لا يزول الملك من بني إسرائيل ، ولا تنسخ شريعتهم ، شريعة التوراة ، حتى يأتي نبي الأمان. ولا بد وأن يكون شيلون من غير بني إسرائيل. لأن النص يوضح زوال الملك منهم إذا ظهر شيلون. ولو كان هو منهم لاستمر الملك ولم يزل. والمراد منه: نبي الاسلام لثبوت بركة في نسل إسماعيل عليه‌السلام.

رابعا : قال موسى في نهاية التوراة : «وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني ـ

__________________

ـ إسرائيل قبل موته. فقال : «جاء الرب من سيناء. وأشرق لهم من سعير. وتلألأ من جبال فاران. وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم. فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك. وهم جالسون عند قدمك ، يتقبلون من أقوالك» [تثنية ٣٣ : ١ ـ ٣] وفي هذا النص نجد الكاتب يخبر عن تقسيم البركة الموعود بها إبراهيم عليه‌السلام حسب ما جاء عن موسى عليه‌السلام فقال : إن الله جاء من سيناء ، أي ظهرت شريعته على يد موسى في طور سيناء. ويعني بالإشراق من ساعير : أن علماء بني إسرائيل كانوا يفسرون التوراة في أرض فلسطين والأردن. ويعني بالتلألؤ من جبال فاران : ظهور شريعة واضحة من فاران. والدليل على أن فاران جبال مكة ، وعلى أن فاران موطن بني إسماعيل ما جاء في التوراة أن ملاك الله قابل هاجر وقال لها : «قومي احملي الغلام وشدي يدك به. لأني سأجعله أمة عظيمة ... وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران» [تكوين ٢١] وفي بعض التراجم ـ وهي اليونانية ـ وأتى مع ربوات جيش المقدسين ... الخ أي أن أصحاب النبي محمد سيأتون إلى فلسطين لإنهاء الشريعة اليهودية منتها إلى غير رجعة. ومن يعمل بها بعد ظهوره لا يقبل عمله لدى الله. لأن الله نسخها على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثانيا : البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل

تمهيد :

الأناجيل المقدسة عند النصارى هي : إنجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا وفي هذه الأناجيل صفة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي إنجيل اسمه المبارك أحمد. ولقد ظهر في القرن التاسع عشر إنجيل يسمى بإنجيل برنابا وفيه اسم محمد وأوصافه. ويطول بنا الحديث إذا ذكرنا نصوص النبوءات كلها. من الأناجيل. ولذلك سنختار النص الذي يشير إلى اسم أحمد في إنجيل يوحنا.

النص :

في الأصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا وما بعده. قال المسيح لتلاميذه : «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر. ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق. الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه ، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم» ـ «وأما المعزّي ـ الروح القدس ـ الذي سيرسله الأب باسمي ـ فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قتله لكم» ـ «وقلت لكم الآن قبل أن يكون ، حتى متى كان تؤمنون» ـ لكني أقول لكم الحق : إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكّت العالم عن خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلاني ذاهب إلى أبي ولا ترونني ، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم. ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به. ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني ، لأنه يأخذ لي مما لي ويخبركم» [يو ١٤ ، ١٥ ، ١٦] ـ

الأول : إن العجز إنما يدل على صدق المدعى ، إذا اعتقدنا أنه لا يجوز ظهوره عقيب دعوى الكذاب. فمن اعتقد أنه لا خالق لجميع أنواع الكفر والفواحش إلا الله تعالى. فكيف يمكنه أن يقول : إنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز عقيب دعوى الكذاب؟ بل نقول : إنه لا يفسده في إظهار المعجز عقيب دعوى الكذب ، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الجهل والتلبيس.

فمن قال : إنه تعالى هو الخالق لكل كفر ، وكل جهل ابتداء. فكيف

__________________

ـ ووجه الدليل في هذا النص.

١ ـ كلمة «المعزّي» ٢ ـ والأوصاف التي وردت في النص عن «المعزّي» ـ بضم الميم وفتح العين وتشديد الزاي مكسورة ـ أما كلمة «المعزّي» فهي في التراجم الحديثة ، وموضوع بدلها في التراجم القديمة كلمة «باركيت» أو فارقليط في بعض التراجم معناها : النائب عن المسيح الذي سيأتي ليعزي بني إسرائيل في فقدهم الملك والنبوة. فمن هو المعزي؟

أ ـ يقول النصارى إنه الإله الثالث في الثالوث المقدس. ويقولون : إنه قد أتى بعد رفع المسيح إلى السماء بخمسين يوما.

ب ـ ويقول المسلمون : إنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويستدلون على قولهم بما يلي :

١ ـ إن النصارى وعلماء اللغات يقولون إن كلمة «بيركليت» كلمة عبرانية ومعناها : أحمد. وتترجم في اليونانية «بيركليتوس» وحيث أن اللغة العبرانية لم يكن فيها حروف مدّ قبل القرن الخامس الميلادي. فإذن يكون المسيح قد نطق «بيركليت» ولم ينطق «باركليت» ويؤكد هذا أن وجهة نظر النصارى في «المعزّي» وجهة باطلة. لأن التوراة نصت على أن الله واحد وكذلك نص الإنجيل. وعلى ذلك فالقول بالتثليث قول باطل.

٢ ـ إن الأوصاف الواردة في النص تدل على شخص بشري. ومن الأوصاف : أنه يبكت العالم ويخبر بكل شيء ويعلم كل شيء ويمجد المسيح ويرشد إلى جميع الحق.

٣ ـ أن اليهود كانوا ينتظرون «النبي» الذي نصت التوراة على مجيئه في زمان المسيح عليه‌السلام. ولم يخبر المسيح أنه هو ، وقد أخبر يوحنا المعمدان ـ الذي هو يحيى عليه‌السلام ـ بأنه سيأتي من بعده ، بقوله : «يأتي بعدي من هو أقوى مني ، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه» [متى ٣] والذي يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون هذا النبي زمان المسيح : ما جاء في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا : أن اليهود من أورشليم أرسلوا وفدا من العلماء ليسألوا يحيى : هل أنت النبي؟ هل أنت المسيح؟ هل أنت إيلياء؟ وأجاب يحيى لست المسيح ولست إيلياء ولست النبي. ثم نطق بقوله : «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» ونطق بقوله : «يأتي بعدي من هو أقوى مني ... الخ» ولقد نطق المسيح بمثل قوله فقد بدأ دعوته كما هو مبين في الأصحاح الثالث والرابع من إنجيل متى بقوله لبني إسرائيل : «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» مما يدل على تشابههما في الهدف من الدعوة ، وأنهما معا يبشران بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يمكنه أن يقول : إنه تعالى لا يجوز منه أن يفعل [ما قد يؤدي (١)] إلى الجهل والتلبيس؟ لا يقال : الدليل على أنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكذاب : أنه تعالى قادر على أن يعرفنا صدق الأنبياء عليهم‌السلام على سبيل الضرورة. فوجب أيضا أن يقدر [على (٢)] أن يعرفنا صدقهم بالدليل ، وإلا لزم المعجز. ثم إنه ثبت أنه لا دليل سوى المعجز ، فلو جوزنا من الله تعالى أن يظهر المعجز على يد الكاذب ، فحينئذ لزم أن لا يقدر الله تعالى على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاستدلال. وذلك يفضي إلى تعجيز الله تعالى ، وأنه محال.

لأنا نقول : هذا الكلام ضعيف من وجوه :

الأول : لا نسلم أنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاضطرار ، وجب أن يقدر على أن يعرفنا من صدقهم على سبيل الاستقلال. وما الجامع بينهما؟

ثم إن القول (٣) بأن الله تعالى هو الخالق للكفر والفواحش ، يمتنع أن ينفي المعجز وجه دلالته على الصدق. والقادر إنما يكون قادرا على ما يكون في نفسه جائزا صحيحا ، لا على ما يكون في نفسه ممتنعا. وليس كذلك تعريف صدقهم على سبيل الضرورة. لأن ذلك غير ممتنع في نفسه ، فصح كونه قادرا عليه. وظهر الفرق.

الثاني : سلمنا أنه تعالى لما قدر على تعريف صدق الأنبياء اضطرارا ، وجب أن يقدر على تعريف صدقهم بالاكتساب. إلا أن مذهبكم يفضي إلى أن لا يقدر الله تعالى على ذلك ، فكان مذهبكم مفضيا إلى المحال ، فوجب أن يكون محالا. وأنتم ما زدتم على هذا ، إلّا السعي في إبطال مذهبكم.

الثالث : إنكم قلتم : إنه لا يصح من الله تعالى إظهار المعجز على يد

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) إن الفرق القول (م).

الكاذب ، وإلا لزم تعجيزه (١) على أن يعرفنا صدق الأنبياء بالاكتساب. ونحن نقول : وجب أن لا يصح من الله تعريفنا صدق الأنبياء بالاكتساب ، وإلا لزم تعجيزه عن خلق المعجزات ، عقيب دعوى الكذاب. ولما كان ممتنعا في نفسه ، لم يكن عدم القدرة عليه عجزا. قلنا : ولم ينفصلون عمن يقول : دلالة المعجز على الصدق ، لما كانت ممتنعة لنفسها ، لم يكن عدم القدرة على خلق هذا الدليل : عجزا؟.

وبالجملة : فلا فرق بين الجانبين.

الرابع : وهو أن قولكم : إنه تعالى لا يصح منه خلق المعجز عقيب دعوى الكاذب : كلام باطل. لأن فلق القمر ، عقيب تكلم (٢) إنسان بكلام كذب ، ممكن في نفسه. والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فيمتنع حصول هذا الامتناع ، نظرا إلى القدرة ، ويمتنع أيضا حصوله نظرا إلى الداعي. لأن قبح القبائح ، لا تأثير لها عندكم في هذا الباب.

ولما ثبت أنه لا يمكن القول بحصول هذا الامتناع. لا نظرا إلى القدرة ، ولا نظرا إلى الإرادة والداعي. كان القول بثبوت هذا الامتناع : باطلا قطعا.

الوجه الثاني في بيان أن القول بأن الله تعالى خالق لأعمال العباد ، يمنع من القول بإثبات النبوات : وذلك لأن المقصود من بعثة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إلى الخلق : دعوتهم إلى الطاعات ، ومنعهم عن القبائح والمنكرات. لكن دعوة الخلق إلى هذه الأشياء إنما تعقل عند كونهم قادرين على الأفعال. لأن قبح تكليف العاجز ، معلوم في بدائه العقول. فإذا لم يكن العبد مستقلا بالفعل والترك ، كان تكليفه تكليفا للعاجز. فثبت : أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بالنبوة.

الوجه الثالث : إن الكتب الإلهية بأسرها ناطقة بأن العباد قادرون على

__________________

(١) تعجزة (م).

(٢) تكله (م).

الخيرات والشرور متمكنون فيهما (١) غير ممنوعين عنهما (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن) وثبت بالمتواتر المقطوع [به (٣)] أنهم كانوا يمدحون من آمن وأطاع ، ويذمون من كفر وعصى.

فلو قلنا : العبد غير مستقل بالفعل ، كان ذلك تصريحا بكونهم ممنوعين من الأفعال ، غير قادرين عليها. وذلك تصريح بتكذيب الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في عين تلك الأشياء ، التي (٤) ادعوا كونهم رسل الله فيها. والتصريح بمثل هذا التكذيب ، ينافي الاعتراف بكونهم صادقين. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بالنبوة.

واعلم : أن المعتمد في الجواب عن هذا المقام ، أن نقول : هذا الذي ألزمتموه علينا ، لازم عليكم من وجوه :

الأول : إنكم لما اعترفتم بأن قدرة العبد صالحة للإيجاد. لم (٥) يمكنكم القطع بأن فاعل هذه المعجزات هو الله تعالى. ونحن قد حكينا في باب دلائلنا العقلية : دليل المعتزلة على أن غير الله تعالى ، لا يصح منه خلق الجسم والحياة. وبينا ضعفه وسقوطه.

وأما نحن [فلما (٦)] قلنا : إن قدرة العبد لا تصلح للإيجاد ، لم يتوجه هذا السؤال علينا البتة. فثبت : أن دلالة المعجز على صدق المدعي ، إنما تتم على مذهبنا ، لا على مذهبكم.

الثاني : إن المعتزلة. إما أن يحكموا بأن الفعل يتوقف على الداعي ، أو لا يحكموا بذلك. فإن كان الأول لزمهم الجبر. وذلك لأن عند عدم الداعي ،

__________________

(١) فيها (م).

(٢) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

(٣) زيادة.

(٤) التي هم ادعوهم كونهم (م).

(٥) ولم (م).

(٦) من (م ، ل).

يمتنع صدور الفعل عنه ، وعند وجوده يجب (١) صدور الفعل عنه. وتكون أفعال العباد معلولات أفعال الله تعالى. وحينئذ يلزمهم ما ألزموه علينا. وإن كان الثاني. وهو أن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعي ، فعلى هذا التقدير يخرج المعجز عن كونه دليلا على الصدق. لاحتمال : أنه تعالى خلق ذلك المعجز. لا لداعية ولا لغرض أصلا. وعلى هذا التقدير ، فإنه يخرج المعجز عن كونه دليلا على صدق المدعي.

الثالث : وهو أن إظهار المعجز على هذا الكاذب ، إنما يقبح إذا كان غرض الله منه: تصديق ذلك الكاذب. أما لو خلق الله المعجز عقيب دعوى الكاذب. لا لغرض التصديق ، بل لغرض آخر. لم يقبح البتة.

ومن المعلوم : أن أغراض الله تعالى في خلق المخلوقات كثيرة ، غير مضبوطة. ولما ثبت أنه يجوز أن يخلق الله تعالى ذلك المعجز عقيب دعوى الكاذب ، لغرض آخر سوى التصديق، وثبت أن على هذا التقدير لا يقبح [خلقه (٢)] علمنا : أنه لا يقبح من الله تعالى خلق المعجز ، عقيب دعوى الكاذب.

ولا يقال : إنه يقبح من الله تعالى خلق المعجز عقيب دعوى الكاذب مطلقا. وذلك لأنه تعالى [إن (٣)] خلقه لغرض تصديقه ، فهو قبيح. وإن خلقه لغرض آخر فهو أيضا قبيح. لأنه يوهم كونه واقعا لغرض التصديق. وكما أن فعل القبيح قبيح ، فكذا فعل ما يوهم القبيح قبيح أيضا. لأنا نقول : لا نسلم أن فعل ما يوهم القبيح : قبيح. ألا ترى أن إنزال المتشابهات قبح (٤) تقصيرا من المكلف. حيث قطع لا في موضع القطع. فكذا هاهنا. لما ثبت أن خلق المعجز ، عقيب دعوى الكاذب ، يحتمل وجها آخر ، سوى التصديق.

__________________

(١) تحت (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) القبيحة [الأصل].

فلو جزم المكلف بحمله على التصديق ، كان التقصير من المكلف. حيث قطع لا في موضع القطع.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن الإشكال الذي ألزموه علينا ، فهو أيضا لازم على أصولهم ، من هذه الوجوه الثلاثة.

وبالله التوفيق

وأما بيان أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بكون القرآن (١) حجة : فبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : إنه لما لم يقبح منه تعالى ، خلق الضلالات والفواحش. فكيف يقبح منه أن يكذب؟ ومع هذا التجويز لا يبقى القرآن حجة. لا يقال كلام [الله (٢)] صفة قديمة ، والصفة القديمة يمتنع أن تكون كذبا. لأنا نقول : إن هذا الكلام : باطل من وجوه :

الأول : إنا لا نسلم أن كلام الله صفة قديمة. فإن ذلك مما عظم الخلاف فيه ، بيننا وبينكم.

ثم نقول : لو كان كلام الله قديما ، لكان كذبا. والدليل عليه : أنه مشتمل على الإخبار عن الأمور الماضية. كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٣) ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (٤) والإخبار عن الأمور الماضية لا يكون صدقا إلا إذا كان المخبر عنه سابقا على الخبر. وكون الأدنى مسبوقا بغيره : محال.

فثبت بهذا : أن كلام الله تعالى ، لو كان قديما ، لكان كذبا. وأنتم ادعيتم أن كونه قديما ، ينافي كونه كاذبا. فوجب أن يقال : إن كونه قديما ،

__________________

(١) بكون إلا القرآن (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) أول القدر.

(٤) أول نوح.

ينافي كونه كذبا. قالوا : الدليل عليه : هو أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وكل من كان عالما بشيء ، لم يمتنع أن يخبر في نفسه ، عن ذلك الشيء بخبر صدق. فلو كان [صدقه (١)] تعالى كذبا ، لكان ذلك الكذب قديما ، والقديم يمتنع زواله. وإذا امتنع زوال الكذب ، امتنع حصول الصدق. لأن اجتماع الضدين : محال. فثبت : أنه تعالى ، لو كان كاذبا ، لامتنع عليه أن يخبر عما علمه بخبر صدق ، وقلنا : إن هذا الامتناع باطل ، فثبت : أن كلام الله صدق.

واعلم : أن هذا الكلام ضعيف. لأنا نقول : كما أن العالم بالشيء يمكنه أن يخبر في نفسه عما علمه بخبر صدق ، فكذلك يمكنه أيضا أن يخبر [عنه بخبر (٢)] كذب ، وكون الكلام القديم صدقا ، يمنع من إمكان هذا الكذب. فإن منعوا هذا الإمكان في جانب الكذب ، منعناه أيضا في جانب الصدق. ثم لئن سلمنا : أن الكلام القديم يجب كونه صدقا ، إلا أنكم لما تمسكتم بآيات القرآن على أنه تعالى هو الموجد لأعمال العباد ، فأنتم ما تمسكتم بذلك الكلام ، القديم الأزلي المنزه عن أن يكون حرفا أو صوتا. وإنما تمسكتم بهذه الألفاظ المركبة المحدثة المسموعة. فهب أن ذلك الكلام القديم : صدق ، إلا أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : [إن (٤)] هذه الألفاظ التي نسمعها ، ونستدل بها في هذه المسألة ، تكون كلها أكاذيب وأضاليل وأباطيل؟ فثبت : أنه وإن كان الكلام القديم صدقا ، إلا أن ذلك لا ينفع في القطع بصحة مدلولات هذه الألفاظ التي نسمعها. وإن خلط أحد البابين بالآخر، إما جهل أو تجاهل.

الوجه الثاني في بيان أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، يمنع من الاعتراف بأن القرآن حجة. لو أن مدار التمسك بالقرآن ، وبسائر الدلائل اللفظية على أصل واحد ، وهو أن [الأصل (٣)] في الكلام : الحقيقة.

لا دليل لنا على صحة هذه المقدمة ، إلا أن نقول : لو أراد المتكلم من

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط)

(٤) سقط (م).

(٣) من (ط ، ل).

كلامه غير حقيقته ، مع أنه لم يدل على مراده ولم يبينه ، لزم كونه جاهلا ساعيا في إيقاع التلبيس والتدليس أو نقول : يلزم منه تكليف ما لا يطاق. إلا أنا نقول : من اعتقد أنه لا جهل ولا تلبيس [ولا تدليس (١)] إلا وهو واقع بإيقاع الله ، وبإرادته. فمع هذا المذهب كيف يمكنه تقرير هذه المقدمة؟ وأما قوله : «يلزم منه تكليف ما لا يطاق» فهذا أيضا وارد على مذهب الجبرية. لأنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يأمره بالإيمان. فكذا هاهنا. فثبت : أنه لا سبيل إلى إثبات هذه المقدمة على مذهب الجبرية. ومتى تقيد (٢) إثباتها ، فقد تعذر الاستدلال بالقرآن والأخبار.

الوجه الثالث في تقرير هذا المطلوب : إن مذهب الجبرية : أنه تعالى هو الذي يخلق الكفر في الكافر ويريده ، وكل من أراد شيئا ، فإنه أيضا يريد كل ما أفضى إليه. ومعلوم : أن التلبيس والتدليس وإطلاق اللفظ لإرادة غير معناه مما يفضي إلى حصول الجهل والضلال. وذلك يقتضي على مذهب [الجبرية (٣)] أنه تعالى أراد بهذه الألفاظ غير ظواهرها ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن التمسك بالقرآن؟

واعلم : أن للمعتقد في الجواب أن يقول : هذه الإلزامات أيضا واردة عليكم [وذلك (٤)] وإن نفينا الكذب في حق الله تعالى. إلا أن الوجوه العشرة التي ذكرناها قائمة. ومع تلك الوجوه العشرة لا يبقى شيء من الدلائل اللفظية : يقينية. فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.

واعلم : أن جوابنا عن مجموع هذه السؤالات أن نقول : رأينا المعتزلة ملئوا كتبهم من الاستدلال بالآيات والأخبار ، على أن العبد موجد لأفعال نفسه. فنقول : جواز التمسك بالدلائل السمعية. إما أن يكون موقوفا على العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه ، أو لا يكون موقوفا عليه. فإن كان

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) يفيد (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

الأول كان إثبات كون العبد موجدا بالدلائل السمعية ، إثباتا للأصل بالفرع وإنه يوجب الدور. وإن كان الثاني ، فحينئذ لا يلزم من القدح في كون العبد موجدا ، تعذر الاستدلال بالآيات والأحاديث. فإن قالوا : مقصودنا من ذكر الآيات والأحاديث في بيان كون العبد موجدا : ليس هو إثبات ذلك في نفس الأمر ، بل مقصودنا : إلزام الخصم. وذلك لأن المجبرة لما كانوا معترفين بأن القرآن حجة. فإذا ثبت أن القرآن يدل على كون العبد موجدا لأفعال نفسه ، فقد حصل الإلزام. فنقول : فاقبلوا منّا مثله. فإن المعتزلة لما سلّموا أن القرآن حجة ، ثم دل القرآن على أن موجد أفعال العباد هو الله تعالى. فحينئذ يحصل الإلزام والإفحام. فثبت : أن ما ألزموه علينا ، لازم عليهم.

وبالله التوفيق

البحث الثالث

في

أن القرآن هل يصير مطعونا فيه بسبب ما فيه من الآيات

الدالة تارة على الجبر ، وأخرى على القدر؟

قالوا : إن الجبرية تمسكوا بآيات كثيرة ، قوية الدلالة على الجبر. والقدرية أيضا تمسكوا بآيات كثيرة ، قوية الدلالة على القدر. فترى كل واحد من هذين الخصمين ، إذا حاول الجواب عن دلائل خصمه ، فإنه يحتاج إلى تأويلات مستكرهة ، ووجوه متعسفة. ولا يليق بالحكيم أن يتكلم بكلام ، ويريد به تلك المعاني. فعلمنا منهم أن القرآن مشتمل على التناقض. ثم الذاكرون لهذا السؤال فريقان. منهم من ينكر نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيستدل بهذه الشبهة على قوله ، ومنهم من يقر بنبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام.

وحينئذ يستدل بهذه الآيات المتعارضة على أن القرآن قد دخله التغيير والتحريف ، وأنه ما بقي كما أنزله الله. فإن من المحال أن يقول الحكيم كتابا يشتمل على هذا الحد من التناقض.

واعلم. أن هذه الشبهة أيضا : باطلة (١) [لأن (٢) الحكيم كما يتكلم بالحقيقة ، فقد يتكلم بالمجاز ، واذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من حمل يعض الآیات علي مجازاتها : محذور.

فهذه جملة ما يتعلق بهذه المقدمة.

وبالله التوفيق

__________________

(١) واعلم : أن هذه الشبهة باطلة. ويدل على بطلانها : معرفة المحكم والمتشابه. فالمحكم قوله تعالى : (اعْمَلُواما شِئْتُمْ) [فصلت ٤٠] والمتشابه قوله تعالى : (... وَاللهُ خَلَقَكُمْ؟ وَما تَعْمَلُونَ)؟ [الصافات ٩٥ ـ ٩٦] فالمحكم بين أن العبد مستقل بإيجاد الفعل. والمتشابه يحتمل معنيين. الأول : والله خلقكم وخلق عملكم. والثاني : أن الآيات في معرض الاستهزاء والتهكم بقوم إبراهيم عليه‌السلام. (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) من هذه الحجارة؟ والحال: أن الخالق لكم هو الله تعالى. ثم وبخهم بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ)؟ أي أي شيء تعملونه؟ إن نحتكم الأصنام من الحجارة عمل باطل. والمتفق مع المتشابه : هو المعنى الثاني ، فيكون هو المراد لله عزوجل. وعلى هذه الطريقة لا يكون في القرآن موهم للتعارض ولا موهم للتناقض. ولو أن القرآن كله على نسق واحد من الفهم ، لما تميز العالم عن الجاهل. والله يريد أن يتميز العالم عن الجاهل. ومثل هذا كثير في التوراة. فإن في سفر أشعياء أن الله تعالى «مبدع النور ، وخالق الظلمة ، ومجري السلام ، وخالق الشر» [أشعياء ٤٣ : ٧] ومنه نعلم أن الله خالق الشر. وإن في سفر التكوين : «ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدا» [التكوين ١ : ٣١] ومنه نعلم : أن الله ليس خالقا للشر. لأن الشر ليس حسنا جدا. وعلى ذلك فعبارة أشعياء معناها : أن خالق الدنيا على ما هي عليه هو الله تعالى. وخلقها على ما هو عليه حسن جدا. فإن الله خلق الإنسان وسخر له ما في السموات وما في الأرض. ولكن قد يسيء الإنسان استعمال النعمة فيحولها إلى نقمة. فمثلا خلق العنب نعمة وهو حسن والله مبدعه وخالقه. وإذا جعله الإنسان خمرا وسكر وبالكسر أضاع عقله وفقد عرضه وماله. نقول حينئذ إنه قد صار شرا في العالم. وأصل الشر من الله ، لأن العنب الذي هو أصل الشر من إبداع الله وخلقه. والإنسان الذي أساء هو أيضا من إبداع الله وخلقه. فقول أشعياء «خالق الشر» هو على هذا المعنى ، بحسب إيجاد أصل الأنواع وقد عبر بأن الله خالق الشر ، لئلا يتوهم متوهم أن الشرور في العالم تأتى من إله آخر. كما كان يعتقد المجوس. في إلهين اثنين. واحد يأتي بالخير وواحد يأتي بالشر. فلكي يمنع أشعياء من هذا الاعتقاد ، قال بأن الخير والشر من إله واحد.

والشرور على أنواع ثلاثة : ١ ـ ما يصيب الإنسان من جهة طبيعة الكون والفساد ٢ ـ ما يصيب الناس من بعضهم لبعض ٣ ـ ما يصيب الإنسان بسبب فعله هو. وتبين التوراة أن الله قال لبني اسرائيل : «هذا قد كان من أيديكم» [ملاخي ١ : ٩] وفي سفر الأمثال : «إنما يعمل هذا مهلك نفسه» [أمثال ٦ : ٣٢] ونفس المعنى في القرآن الكريم ، يقول تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ٣٠](وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ـ

__________________

ـ ١٩٥] وعلماء بني إسرائيل يفهمون القضية على أنها محكم ومتشابه ففي الفصل التاسع من «براشيت ربه» ما نصه : «لا يوجد شر نازلا من فوق». وهم بهذا قد أولوا نص أشعياء بإرجاعه إلى المحكم. ولموسى بن ميمون المتوفى سنة ٦٠٢ ه‍ تعليل وجيه لبعض أنواع الشرور. والغاية من تعليله : أنها من الناس وليست من الله. يقول ابن ميمون :

«أما الضروريات كلها فمحصورة متناهية. أما التطاول فغير متناه. إن تعلق شوقك : أن تكون أوانيك فضة ، وكونها ذهبا أجمل ـ وآخرون اتخذوها بلورا ـ ولعلك أيضا تتخذ من الزمرد والياقوت كل ما يمكن وجوده. فلا يزال كل جاهل فاسد الفكرة : في نكد وحزن ، على كونه لا يصل أن يعقل ما فعله فلان من التطاولات. وفي الأكثر يعرض نفسه لأخطار عظيمة ، كركوبه البحر وخدمة الملوك. وغاية ذلك : أن ينال تلك التطاولات الغير ضرورية. فإذا أصابته المصائب في طرقه تلك التي سلكها ، تشكي من قضائه وقدره ، وأخذ يذم الزمان ، ويتعجب من قلة إنصافه ، كيف لم يساعده على تحصيل مال جزيل يجد به خمرا كثيرا ، يسكر بها دائما ، وجوارى عدة ، محليات بأنواع الذهب والأحجار ، حتى يحركنه للجماع بأكثر مما في الطاقة ، ليلتذ؟ كأن الغاية الوجودية إنما هي لذة هذا الخسيس فقط. وإلى هنا انتهى غلط الجمهور ، حتى عجّزوا البارئ ، في هذا الوجود الذي أوجده بهذه الطبيعة الموجبة لهذه الشرور العظيمة بحسب خيالهم ، لكون تلك الطبيعة لا تساعد كل ذي رذيلة على نيل رذيلته ، حتى يوصل نفسه السيئة غاية سؤلها ، الذي لا نهاية له» [دلالة الحائرين ص ٥٠٥]

(٢) مخطوطة أسعد فيها زيادات غير موجودة في (م ، ط) والنسخ المشابهة لهما. ومن هنا تبدأ الزيادة إلى قوله ووجه الاستدلال بهذا الخبر الذي بعده الحجة الثامنة عشر التي فيها خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي. في الفصل الثاني من الباب الثالث.

الفصل الثاني

في

التمسك بالآيات المشتملة على لفظ «الخلق»

الكلام في تقرير هذا المطلوب ، يستدعي تقديم مقدمة في لفظ «الخلق» فنقول : لفظ الخلق ، جاء بمعنى الإحداث تارة ، وبمعنى التقدير أخرى.

أما الأول : فيدل عليه أمور :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) ولو كان الخلق

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٩ ...

ويقول الدكتور علاء الدين أمير محمد مهدي. القزويني :

«أما ما يتعلق بأفعال الإنسان. فيمكن القول أن الله تعالى قضى بها عليه. على معنى : حكم بها عليه ، وألزمه إياها وأوجبها ، وهذا الإلزام : هو أمره له وليس على سبيل الإلجاء والإجبار. كما يمكن أيضا القول أن الله قدر أفعال الإنسان على معنى أنه بين مقاديرها وأوضح تفاصيلها واختلاف أحوالها ، من حسنها وقبحها ، وفرضها وحلالها ، وحرامها ومندوبها. وأما أنه قضاها بمعنى خلقها في الإنسان فباطل لا يجوز ، لأنه إن أريد أنه خلقها فيه ، لقال سبحانه : وقضى في خلقه بالعصيان ولا يقول قضى عليهم ، لأن الخلق إنما يكون في الإنسان لا عليه ، مع أنه تعالى قد أبطل هذا القول بقوله :» (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة ٧] فهو صريح في عدم وجود القبيح في خلقه ، وأن كل فعله حسن ، والمعاصي قبائح باتفاق المسلمين ، فوجب نفيها عنه سبحانه. وإن أريد أنه قضى عليه بالمعاصي بمعنى أمره بها فقد أبطل هذا القول أيضا ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ. أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) [الأراف ٢٨] فهذا صريح في عدم إرادة هذا المعنى. وإن أريد أن الله قضى على الإنسان بالمعاصي بمعنى أعلمه بها ، فغير صحيح أيضا. لأن الإنسان لا يعلم في المستقبل بأنه يطيع أو يعصي. ولا يستطيع أن يحيط علما بما يكون فيه على التفصيل. ولأنه لو خلق الطاعة والمعصية في عباده ، ليسقط اللوم ـ

هو التقدير ، لصار معنى الكلام : إنا قدرنا كل شيء. أن الخلق هاهنا ليس هو التقدير ، فوجب أن يكون هو الإحداث ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

الثاني : قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١) والاستدلال كما تقدم.

الثالث : قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) (٢) وهذا التركيب يفيد الحصر. والخلق بمعنى التقدير غير منحصر ، فوجب أن يكون المدلول عليه بهذا الحصر ، هو الخلق. بمعنى الإحداث.

الرابع : قول سلف الأمة : لا خالق إلا الله. وهذا الحصر لا يصح إلا إذا كان الخلق بمعنى التكوين والإحداث.

وأما مجيء لفظ الخلق بمعنى التقدير. فيدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ، كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) (٣) ولا شك أن قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) استعارة عن الإحداث والإيجاد. ثم إنه تعالى نصّ على أن هذا الإحداث والإيجاد متأخر عن الخلق ، فوجب أن يكون المراد من لفظ الخلق هاهنا : شيئا مغايرا للإحداث والإيجاد. فيكون هو التقدير. لأنه لا قائل بالفرق.

الثاني : قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤) وهذا التركيب يدل على كون غيره خالقا. وقد دل الدليل على أنه لا موجد إلا الله ، فلا بد وأن يكون المراد من الخلق في هذه الآية : شيئا سوى الإحداث. فيكون هو التقدير. لأنه لا قائل بالفرق.

__________________

ـ عن العاصي بمقتضى العدل ، ولم يستحق الطائع ثوابا على عمله بمقتضى العقل» [ص ٩١ ـ ٩٢ كتاب الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية ـ رسالة دكتوراه في كلية التربية ـ جامعة عين شمس للدكتور علاء الدين أمير محمد مهدي القزويني]

(١) سورة الفرقان ، آية : ٢.

(٢) آخر الحشر.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ٥٩.

(٤) سورة المؤمنون ، آية : ١٤.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١) والاستدلال كما تقدم.

الرابع : إن الكذب يسمى خلقا واختلاقا. قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٢) وقال : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٣) وقال : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٤) وما ذاك إلا لأن الكاذب يقدر المعدوم موجودا في ذهنه أولا ، ثم يعبر عنه بلفظه.

الخامس : إن أهل اللغة يقولون : خلقت من الأديم خفا ، ومن الشقة قميصا. قال الشاعر :

ولا ييط بأيدي الخالقين ، ولا

أيدي الخوالق إلا جيد الآدم

وقال :

ولأنت تفري ما خلقت ، وبع

ض القوم ، يخلق ، ثم لا يفري

وقال الحجاج في خطبته : «أي لا أهم إلا أمضيته ، ولا أخلق إلا فريت» إذا عرفت هذا فنقول : أما الخلق بمعنى الإحداث والإيجاد. فعندنا : أنه ـ سبحانه ـ منفرد به. وأما بمعنى التقدير ، فهو أيضا على ضربين : أحدهما : إحداث الشيء على مقدار مخصوص. والخلق بهذا التفسير يرجع حاصله إلى كيفية مخصوصة في الاحداث. فإذا لم يصح الإحداث إلا من الله تعالى ، فكذلك التقدير بهذا التفسير ، وجب أيضا أن لا يصح إلا من الله تعالى. والثاني : إن حكم الحاكم بأن ذلك الشيء وقع على ذلك المقدار يسمى تقديرا أيضا. يقال : السلطان قدر لفلان من الرزق كذا ، ومن المملكة كذا. والتقدير بهذا التفسير يصح صدوره عن العبد.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١١٠.

(٢) الشعراء ١٣٧ وقراءة حفص بضم الخاء واللام وقرأ الكسائي وغيره خلق بفتح الخاء.

(٣) سورة ص ٧.

(٤) سورة العنكبوت ، آية : ١٧.

ولما لخصنا هذه المقدمة ، فلنرجع إلى تقرير الدلائل والبينات :

الحجة الأولى في بيان أن الله تعالى خالق لأعمال العباد : نقول : عمل العبد شيء ، وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى. لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ينتج : أن عمل العبد مخلوق لله تعالى. واعلم : أنا قبل الخوض في تعديد السؤالات والجوابات نقدم أمرين لا بد منهما.

أما الأول : فهو أن نقول : إن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته أو ممكنا لذاته ، والممكن لذاته. لا يترجح عدمه على وجوده ، ووجوده على عدمه ، إلا بترجيح الواجب لذاته. وقد قررنا هذه النكتة في باب الدلائل العقلية. فيثبت : أنه تعالى هو الخالق والموجد والمقدر لجميع الممكنات. ولما كان فعل العبد من جملة الممكنات ، وجب دخوله في هذه القضية. فثبت : أن ظاهر قوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) قد تأكد بهذا البرهان العقلي القاطع.

وأما الثاني : فهو أنه تعالى ذكر هذه الآية في مواضع من كتابه : إحداها : قوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. خَلَقُوا كَخَلْقِهِ. فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ. قُلِ : اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢) وثانيها : قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَاعْبُدُوهُ) (٣) وثالثها : قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٤) ورابعها : قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٥).

فإن قيل : دليلكم ينتج أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. ونحن نقول بموجبه. وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير. وعندنا : أن أفعال العباد واقعة بتقدير الله تعالى ، وإن كانت حاصلة بإيجاد العبد وإحداثه.

لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ١٦.

(٢) سورة الرعد ، آية : ١٦.

(٣) سورة الأنعام ، آية : ١٠٢.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ١٠١.

(٥) سورة الفرقان ، آية : ٢٥.

الأول : إن التقدير عبارة عن الفكرة والروية والظن والحسبان. وذلك في حق الله تعالى ممتنع. ولما امتنع حمل كونه خالقا لأفعال العباد ، على معنى التقدير ، وجب حمله على معنى الإحداث.

الثاني : هب أن كونه تعالى خالقا لأفعال العباد ، عبارة عن كونه تعالى مقدرا لها إلا أن التقدير عبارة عن إيقاع ذلك الفعل في زمان مخصوص ، ومحل مخصوص ، على وجه مخصوص. وهذا المعنى لا يتأتى إلا ممن كان محدثا للفعل. فلما ثبت بهذا النص : أنه تعالى مقدر لأفعال العباد ، وثبت بالعقل : أن مقدر الأفعال يجب أن يكون موجدا لها ، لزم من مجموع الأمرين كونه تعالى موجدا لأفعال العباد. لأنا نقول :

أما الأول. فجوابه : إن التقدير عبارة عن إيقاع الفعل على قدر مخصوص. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالعلم أو الظن. ثم إن كان العلم حاصلا ، كما في حق الله تعالى ، فلا حاجة إلى الفكرة ، وإن لم يكن حاصلا كما في حق العبد. فهناك يحتاج إلى الفكرة لتحصيل ذلك العلم ، أو ذلك الظن.

وأما السؤال الثاني : فجوابه : أن نقول : إنه تعالى مقدر لأفعال العباد. بمعنى أنه تعالى حاكم بوقوعها على تلك المقادير ، كما يقال : فلان يكفر فلانا ، أو يضلله. إذا حكم بكفره وضلاله. سلمنا : أن الخلق هو الإحداث. لكن لم قلتم : إن الآية تتناول أفعال العباد؟ ولا نسلم أن لفظة «كل» تفيد الاستغراق. وبيانه : إن لفظة «كل» كما تستعمل في الاستغراق ، فقد تستعمل أيضا في الأكثر الأغلب. يقال : أكلت كل هذه الرمانة ، وإن كان ربما تساقط منها حبة أو حبتان. ويقال : كل هذا الثور أبيض ، وإن كان ربما حصلت شعور قليلة غير بيض في جلده. ولا ننكر أن أفعال العباد ، بالنسبة إلى جميع مخلوقات الله تعالى ، كالقليل بالنسبة إلى الكثير ، فلم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : ما سوى أفعال العباد؟.

لا يقال : لفظ الكل حقيقة في الاستغراق. لأنا نقول : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : لا نسلم أن لفظ «كل» مجاز في الأغلب. فما الدليل عليه؟ الثاني : سلمنا أنه كذلك ، إلا أنه مجاز متعارف مشهور. فالقول بأنه لا يجوز حمل هذا اللفظ على مثل هذا المجاز ، لا يفيد إلا الظن. وهذه المسألة قطعية. والدليل الظني لا يجوز التمسك به في المسألة القطعية. وعلى هذا الحرف تعويل أهل السنة والجماعة ، في الجواب عن استدلال المعتزلة بالعمومات في مسألة الوعيد.

سلمنا : أن لفظ «كل» يفيد العموم. إلا أن هذه الآية عام ، دخله التخصيص ، فوجب أن لا يكون حجة. إنما قلنا : إنه عام. دخله التخصيص ، لأنه تعالى شيء. ويمتنع أن يكون خالقا لنفسه. لا يقال : لا نسلم أن هذه الآية قد دخلها التخصيص. وبيانه من وجهين :

الأول : لا نسلم أن اسم الشيء يقع على الله تعالى. ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) والكاف معناه : المثل. فصار تقدير الآية : ليس مثل مثل الله شيء. ومثل مثل الشيء : عين ذلك الشيء. فكانت هذه الآية دالة على أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء. وقولهم : الكاف زائدة : ضعيف. لأن الأصل : صون كلام الله عن اللغو.

الثاني : لو كان تعالى بالشيء ، لزم دخول التخصيص ، في قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بالنسبة إلى الله تعالى. إلا أن مثل هذا التخصيص لا يجوز. وذلك لأن التخصيص إنما يجوز في الشيء الحقير ، الذي لا يؤبه به ، كما ضربنا من المثال في قولنا : كل هذا الثور أبيض. وإن كان قد حصلت شعيرات سود في جلده. فأما إذا كان الخارج عن صيغة العموم، هو الأعظم الأشرف ، فإنه لا يجوز. ومعلوم أن اسم الشيء لو وقع على الله ، لكان أشرف الأشياء هو الله. بل كان سائر الأشياء بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ كالعدم. وعلى هذا التقدير يكون الخارج عن هذا العموم ، هو الأكمل الأشرف ، والباقي فيه ، هو الأخس الأقل. ومثل هذا يكون كذبا.

__________________

(١) سورة الشورى ، آية : ١١.

فثبت : أنه تعالى لو كان مسمى بالشيء ، لكانت هذه الآية كذبا. ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى غير مسمى بهذا الاسم.

الثالث : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١) دل هذا النص : على أنه يجب أن يدعى الله بالأسماء الحسنة. ولو كان لفظ «الشيء» واقعا على الله ، لجاز أن يدعى الله بهذا الاسم. لكن هذا الاسم ليس من الأسماء الحسنى. فإنه كونه شيئا ، لا يدل على صفة من صفات الكمال والجلال. فجواز دعوة الله بهذا الاسم ينافي ما دل عليه قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أنه تعالى لا يطلق عليه اسم الشيء ، فلم يلزم كون هذه الآية مخصوصة.

قالوا : وليس لكم أن تقولوا : الدليل على أنه تعالى مسمى بالشيء. قوله تعالى : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ : أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (٢) وأيضا : قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) استثنى وجهه عن الشيء. والمستثنى يجب أن يكون داخلا تحت المستثنى منه. قالوا : لأن قوله تعالى : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ : أَكْبَرُ شَهادَةً؟) سؤال وجوابه : ما جاء في قوله : (قُلِ : اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنها جملة تامة مستقلة بنفسها ، لا تعلق لها بما قبلها. فلم تدل هذه الآية على أنه تعالى مسمى بالشيء. أما قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فظاهر هذه الآية يقتضي أن يصير كل شيء هالكا إلا وجه الله. وذلك محال. لأن الوجه هو العضو المخصوص ، وذلك على الله محال. ولأن بتقدير أن يكون جسما ، فظاهر الآية يقتضي أنه بقي ، ولا يبقى منه إلا الوجه. وذلك محال.

فثبت : أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، فلا بد من تأويلها ،

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ١٨٠.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٩.

(٣) آخر القصص.

وذلك التأويل ما نقل عن ابن عباس أنه قال : (إِلَّا وَجْهَهُ) معناه : «إلا العمل الذي يؤتي به لمرضاة الله تعالى» وعلى هذا التقدير ، فيكون المراد بوجه الله : تلك الأعمال. وحينئذ لا تدل الآية على وقوع اسم الشيء على الله تعالى.

المقام الثاني : لو سلمنا أنه تعالى مسمى باسم الشيء ، إلا أنه تعالى لما حكم بكونه خالقا لكل شيء. كان هذا تصريحا بأن المراد : كونه خالقا ، لكل ما عداه ، من الأشياء ، لما ثبت أن المخاطب ، لا يندرج تحت الخطاب في أمثال هذه الألفاظ.

فهذا مجموع ما قيل في بيان أن هذا العموم غير مخصوص. لأنا نقول : أما بيان أن الله تعالى مسمى باسم الشيء. فلإجماع العلماء المتأخرين عليه. ولا عبرة بمخالفة «جهم» فإنه ليس ممن يعتبر قوله في الإجماع.

وأما أن هذا التعميم مخصوص فلأن قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ) يتناول ذات الله. وإنما أخرجناه لما ذكرتم من القرينة. فكان هذا تخصيصا للعموم. ثم نقول : إن هذا العموم مخصوص ، فوجب أن لا يبقى حجة ، لأنه لما دخله التخصيص ، لم يبق ظاهره مرادا. فوجب صرفه إلى بعض المجازات ، وليس بعضها أولى من بعض ، فيصير مجملا. وهذا هو تقرير قول من يقول : إلا أنا نقول : لا شك أن تخصيص عموم القرآن بالدليل : جائز. وهاهنا قد وجدت دلائل متصلة بهذا النص ، ودلائل منفصلة عنه تقتضي تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى أفعال العباد.

أما الدلائل المتصلة : فمن وجوه :

الأول : إن قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مذكور في معرض المدح والثناء. لأنه تعالى قال في سورة الأنعام : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَاعْبُدُوهُ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (١) فأول هذه الآية مدح ، وآخرها مدح ، فوجب أيضا : أن يكون

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٠٢ ـ ١٠٣.

المتوسط مدحا ، وإلّا لصار الكلام : ركيكا. فثبت : أن قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : مذكور في معرض المدح والثناء على الله تعالى. وكونه فاعلا للجهل والكفر والقبائح والفواحش ، يوجب الذم العظيم. بل نقول : إن على مذهب المجبرة ، لا مذموم إلا وفاعله هو الله تعالى ، فوجب أن لا يستحق الذم أحد إلا الله. وأيضا : لو كان تعالى موجدا لأفعال العباد ، ثم يأمرهم بالطاعة والإيمان ، صار كأنه يقول لعبيده : يا من لا يمكن أن يفعل : افعل. وكأنه يضرب الزمن ، ويقول له : طرفي الهواء ، ويضرب الأعمى ، ويأمره بنقط المصاحف ، ويقيد يدي عبده ورجليه ويرميه من شاهق جبل ، ثم يضربه فيما بين الهواء ، ويقول له : قف. ومعلوم : أن مثل هذا الشخص لا يوجد في الدنيا ، أشد استحقاقا للذم منه.

فثبت بما ذكرنا : أن قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مذكور في معرض المدح والثناء، وثبت أن كونه خالقا لأفعال العباد ، يوجب الذم العظيم ، فصارت هذه القرينة : قرينة دالة على أن عموم قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : مخصوص ، بما سوى أفعال العباد.

والوجه الثاني في بيان الدلائل المتصلة بهذه الآية ، الدالة على كونها مخصوصة بما سوى أفعال العباد : أنه تعالى لما قال : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أردفه بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) وهذا يدل على أن العبادة ليست فعلا لله تعالى. وبيانه من وجوه :

الأول : إنه تعالى أمرهم بها ، وكيف يعقل أن يأمرهم بما لا يكون فعلا لهم.

الثاني : إنه تعالى جعل كونه خالقا للأشياء ، علة لكونه مستحقا للعبادة. بدليل : أنه تعالى ، لما ذكر كونه خالقا للأشياء ، أتبعه بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) فلو كانت عبادتهم له ، داخلة في قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لصار الشرط عين الجزاء. وهذا باطل. لأنه يصير في التقدير كأنه يقول :

يا عبدي ، فعلت أنا عبادتك ، فافعلها أنت بعينها أيضا. ومعلوم أن هذا الكلام باطل.

الثالث : إن قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يدل على أن خلق تلك الأشياء ، قد حصل ودخل في الوجود ، وصار مفروغا منه ، كما إذا قال قائل : فلان قاتل زيدا : فهم منه : أن ذلك القتل قد حصل ، ودخل في الوجود ، وفرغ منه. وأما قوله : (فَاعْبُدُوهُ) فهو أمر ، والأمر إنما يتعلق بما يكون حاصلا في الحال. لكنه مما سيحصل.

قلت : إن كل ما دخل تحت قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فقد حصل في الحال ، ولا داخل في الوجود. وهذا يفيد القطع بأن الداخل تحت قوله : (فَاعْبُدُوهُ) غير داخل تحت قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).

والوجه الثالث في بيان الدلائل المتصلة بهذه الآية الدالة على كونها مخصوصة ، بما سوى أفعال العباد : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (١) وهذا تصريح بأن العبد مستقل بأفعال نفسه ، وأن زمام الاختيار إليه ، وأنه البتة غير مجبور على شيء من أفعاله.

فهذه الوجوه الثلاثة : دلائل متصلة بهذه الآية دالة على كونها مخصوصة ، بما سوى أفعال العباد.

وأما الدلائل المخصصة المنفصلة فهي ثلاثة : بديهية العقل ، ودليل العقل ، ودليل السمع.

أما الأول وهو بديهة العقل. فتقريره : أن أصحاب «أبي الحسين» قالوا : حسن المدح والذم والمؤاخذة والمطالبة : معلوم بالضرورة ، ونعلم أيضا بالضرورة : أن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لما حسنت هذه الأشياء ، فلما كان العلم بحسن المدح والذم ضروريا ، وكان العلم بكون العبد موجدا

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٠٤.

لأفعال نفسه أصلا لذلك العلم ، وثبت أن ما كان أصلا للعلم الضروري ، أولى أن يكون ضروريا ؛ ثبت : أن العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه ، علم ضروري ، ولما جاز تخصيص عموم القرآن بدليل العقل ، فلأن يجوز تخصيصه ببديهة العقل ، كان أولى.

وأما الثاني والثالث وهو بيان الدلائل العقلية والسمعية ، الدالة على أن الموجد لأفعال العبد ، هو العبد. فسيأتي تقريرها إن شاء الله تعالى.

سلمنا : أنا لا نعرف لعموم قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخصصا. إلا أن عدم العلم بالشيء ، لا يدل على العلم بعدم الشيء ، فلا يمكننا القطع بعدم المخصص ، وحينئذ تصير هذه الدلائل ظنية. لا يقال : إنا نقيم الدلالة العقلية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد ، ونجعل تلك الدلالة العقلية مؤكدة ، لظاهر هذا النص ، ونعلم أن الدليل العقلي لا يعارضه معارض. فبهذا الطريق نعلم أن ظاهر هذا العموم سليم عن المعارض. لأنا نقول : فعلى هذا التقدير ما لم يعرفوا تلك الدلالة العقلية الدالة على أن موجد فعل العبد هو الله ، لا يمكنكم التمسك بهذا العموم. لكنكم إذا عرفتم ذلك الدليل ، فقد استغنيتم عن التمسك بهذا العموم.

سلمنا : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى خالق لأعمال العباد ، وموجد لها. لكن لم قلتم : إن ذلك ينافي كون العبد موجدا لها؟ فإن هذا إنما يتم إذا أقمتم الدلالة على امتناع وقوع مخلوق بين خالقين. والذي يقوي هذا السؤال : هو أن عندكم فعل العبد ، فعل الله تعالى ، فإذا لم يمتنع حصول فعل لفاعلين ، فكيف يمتنع مخلوق لخالقين؟ والله أعلم.

والجواب :

قوله : «لم لا يجوز أن يكون الله خالقا لأعمال العباد ، بمعنى : أنه مقدر لها ، وهذا التقدير مفسر بالحكم والإخبار؟» قلنا : هذا باطل. لأن المخبر عن هذا المعنى لا يسمى خالقا ، وإلا لكان العبد ، إذا أخبر أن الإله قديم

أزلي ، عالم قادر. أن يقال : إنه خالق للإله ولقدمه وقدرته. ومعلوم أنه باطل.

قوله : «لا نسلم أن لفظة «كل» تفيد الاستغراق» قلنا : والدليل عليه : أن السيد إذا قال : كل عبيدي أحرار : عتق الكل.

قوله : «دلالة لفظ «كل» على الاستغراق ، دلالة ظنية» قلنا : عندنا : أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الظن.

قوله : «هذا عام ، دخله التخصيص ، فلا يكون حجة» قلنا : لا نسلم أنه دخله التخصيص ، ولا نسلم وقوع لفظ الشيء على الله سبحانه. وقد سبق تقريره. سلمنا : أنه عام دخله التخصيص ، لكن لا نسلم أنه لا يبقى حجة. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن العام هو الذي تناول صورتين ، فصاعدا من غير حصر. ودلالته على هذه الصورة ، وعلى تلك الصورة ، إما أن تتوقف كل واحدة منهما على الأخرى ، فيلزم الدور ، أو تتوقف إحداهما على الأخرى ، ولا تتوقف الأخرى على الأولى ، فيلزم الترجيح لا لمرجح ، أو لا تتوقف واحدة منهما على الأخرى. وحينئذ لا يلزم من زوال إحداهما ، زوال الأخرى. وهو المطلوب.

الثاني : إن المقتضى لثبوت الحكم قائم في غير محل التخصيص. لأن الصيغة العامة متناولة له ، وتلك الصيغة مقتضية لذلك الحكم ، والعارض الموجود ، وهو التخصيص لا يصلح معارضا لهذا المقتضى. لأن انتفاء الحكم في إحدى الصورتين ، لا ينافي ثبوته في الصور الأخرى ، فوجب الحكم بانتفاء دلالة العام المخصوص على الحكم في غير محل التخصيص.

قوله : «الدلائل المخصصة المتصلة موجودة» قلنا : لا نسلم.

قوله : «هذه الآية مذكورة في معرض المدح والثناء ، وكونه تعالى خالقا لأعمال العباد ، يوجب الذم» قلنا : لا نسلم أن كونه تعالى ، خالقا لأعمال العباد ، يوجب الذم. وسيأتي الاستقصاء في هذا المقام عند الجواب عن الشبه العقلية.

أما قوله : «إن قوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) يقتضي خروج معناه عن عموم قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) قلنا : التعارض خلاف الأصل. والوجوه التي عولوا عليها في تقرير هذا المقام ، هي إشارة إلى أنه لا يجوز من الله تعالى أن يأمر عبده بالفعل ، لا إذا كان الفعل واقعا ، بقدرة العبد. وسيأتي الجواب عنه ، عند الجواب عن شبههم العقلية.

وأما الدلائل العقلية التي ذكروها وزعموا : أنها مخصصة لهذا العموم ، فسيأتي الجواب عنها.

قوله : «لم قلتم : إن كونه تعالى موجدا لأعمال العباد ، ينفي كون العبد موجدا لها»؟ قلنا : حصل الاتفاق بيننا وبين خصومنا على أن حصول مخلوق واحد لخالقين : محال. إلا أن هذا الجواب لا يتم على قول «أبي الحسين» فإن عنده يجوز حصول مخلوق واحد بين خالقين. وأيضا : فالفعل الواقع بقدرة الله تعالى ، لو وقع هو بعينه بقدرة العبد ، كان ذلك تحصيلا للحاصل. وهو محال. والله أعلم.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) (١) وجه الاستدلال : إن هذا استفهام بمعنى الإنكار ، فكان مقتضاه أنه لم يوجد خالق خلق كخلق الله ، ولو كان العبد خالقا لأفعاله ، لكان خلقه كخلق الله. لما ثبت أن الذي يخلقه العبد ، فالله تعالى يخلق مثل ذلك الشيء. وأيضا : فخلق الله تعالى ، لما كان إخراجا من العدم إلى الوجود ، وفعل العبد أيضا كذلك ، كان كل واحد من الفعلين شبيه الآخر ، فكان خلق العبد كخلق الله تعالى. وقد بينا : أن النص يدل على أن ذلك باطل.

فإن قيل : لا نسلم أن العبد لو كان خالقا ، لكان خلقه ، كخلق الله. وبيانه من وجوه :

الأول : إن فعل العبد. إما أن يكون طاعة ، أو معصية ، أو عبثا وفعل الله ليس كذلك.

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ١٦.

الثاني : إن الخلق عبارة عن التقدير ـ على ما تقدم ذكره ـ والتقدير عبارة عن إيقاع الفعل على مقدار مخصوص مطابق للغرض والمصلحة. وهذا إنما يتأتى في حق العالم ، الذي لا يجهل شيئا ، والقادر الذي لا يعجز عن شيء. أما العبد فإنه في الأكثر يقدر شيئا ، ويجيء فعله بخلاف ما قدره. وحينئذ لا يكون خلق العبد ، مثلا لخلق الله.

الثالث : إن قوله تعالى : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) إنما يتناول من كان خلقه ، مساويا لكل ما كان خلقا لله تعالى. لأن قوله : (كَخَلْقِهِ) يتناول جميع مخلوقات الله تعالى. ومعلوم أن العبد ليس كذلك ، فوجب أن لا يندرج تحت النص.

وبقية الأسئلة على هذه الحجة ، كما تقدم على الحجة الأولى. والله أعلم.

والجواب عن السؤال الأول : إن الحركة عبارة عن حصول الجوهر في حيز ، بعد أن كان في حيز آخر. هذا هو المعقول من ماهية الحركة وحقيقتها. فإذا فعل العبد مثل هذا الشيء ، ثم إنه تعالى أيضا فعله مثله ، فحينئذ يكون خلق العبد مثلا لخلق الله تعالى ، على هذا التقدير.

وأما السؤال الثاني. فجوابه : إن أفعال العباد ، وإن كانت لا توجد على وفق تقديرهم على الدوام ، إلا أنها قد توجد على وفق تقديرهم في بعض الأوقات. وحينئذ يكون ذلك الخلق في تلك المرة ، مثلا لخلق الله.

وأما السؤال الثالث. فجوابه : إن قوله : (كَخَلْقِهِ) لا يوجب العموم. لأنه إشارة إلى المصور ، فيكفي في العمل به ، ثبوته في صورة واحدة. فإذا كان خلق العبد مثلا لخلق الله تعالى مرة واحدة ، وقد صدق عليه في تلك المرة أنه خلق مثل خلق الله تعالى ، فحينئذ يندرج تحت النص. والله أعلم.

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ، أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. إِنَّهُ عَلِيمٌ

بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟) (١) والاستدلال به من وجهين:

الأول : لا نزاع في أن المراد (بِذاتِ الصُّدُورِ) : أفعال القلوب. وهي الدواعي والصوارف والعقائد والخواطر. ثم إنه تعالى أفتى بكونه عالما بها ، بأسرها. واحتج على صحة هذه الفتوى بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟) وهذا الاحتجاج لا يصح ، إلا إذا قلنا : إنه تعالى خالق لأعمال القلوب. وكل من كان خالقا لأعمال القلوب ، كان عالما بها ، فتصير هذه الآية بهذا الطريق دالة على صحة تلك الفتوى. وعلى هذا الوجه تكون الآية دالة على كبرى هذا القياس ، وتكون الصغرى محذوفة. فلو لم نضمر هذه الصغرى ، لم يكن قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟) مناسبا لتقرير ذلك المطلوب ، وحينئذ يفسد نظم كلام الله تعالى. وذلك محال.

فثبت : أنه لا بد من إضمار تلك الصغرى. وهي قولنا : إنه تعالى خالق لأعمال القلوب ، ثم نضم إليها قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟) ومتى أضمرنا تلك الصغرى ، كان ذلك تصريحا بأنه تعالى خالق لأفعال القلوب.

والوجه الثاني في الاستدلال بالآية : إن قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟) استفهام على سبيل الإنكار. وذلك يدل على أن كل من خلق شيئا ، فإنه يجب أن يكون عالما به. والعقل أيضا يدل على صحة هذه المقدمة. وذلك لأن وقوع ذلك المخلوق على ذلك العدد الخاص ، والمحل الخاص ، والوقت الخاص ، مع جواز وقوعه. على خلاف تلك الوجوه ، لا يكون إلا لأجل أن مخصصا خصصه به. والقصد إلى التخصيص مشروط بالعلم به. فثبت : أن الخالق للشيء يجب كونه عالما به ، لكن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه ـ على ما قررناه في باب الدلائل العقلية ، فوجب أن لا يكون العبد خالقا لأفعال نفسه.

فإن قيل : أمّا الكلام على الوجه الأول. فهو أن نقول : إن قوله : (أَلا يَعْلَمُ؟) : فعل. وقوله : (مَنْ خَلَقَ) : يحتمل أن يكون فاعلا

__________________

(١) سورة الملك ، آية : ١٣ ـ ١٤.

لذلك الفعل. وحينئذ يجب أن يضمر المفعول. ويحتمل أن يكون مفعولا. وحينئذ يجب أن يضمر الفاعل. فعلى التقدير الأول يكون معنى الكلام : ألا يعلم من خلق مخلوقه؟ وعلى التقدير الثاني يكون معنى الكلام : ألا يعلم الله من خلق ذات الصدور؟ فلم قلتم : إن التقدير الأول : أولى؟ لأن على التقدير الثاني تكون الآية أيضا في أن خالق ذات الصدور : غير الله.

والجواب : النحويون بينوا أن تعلق الفعل بالفاعل كالشيء الضروري ، وتعلقه بالمفعول ليس كذلك. ولذلك فإن الفعل بدون الفاعل لا يوجد ، وبدون المفعول قد يوجد. وعلى التقدير الذي ذكرناه : يكون المذكور هو الضروري ، ويكون المتروك غير الضروري. وعلى التقدير الذي ذكرتم : يكون الأمر بالعكس. ولا شك أن الأول أولى. وأيضا : فقد بينا أن الاستدلال حاصل بالآية من وجهين : وعلى التقدير الذي ذكرتم يصح الوجه الثاني من الاستدلال بالآية ، وعلى التقدير الذي ذكرنا يتقرر كل واحد من الوجهين. فكان ما ذكرناه : أولى.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) وفيه قراءتان متواترتان. إحداها : بنصب كلمة (كُلَّ) والأخرى برفعها. أما القراءة بالنصب فهي دالة على قولنا. لأن تقدير الكلام : إنا خلقنا كل شيء بقدر. وهذا تنصيص منه تعالى على كونه خالقا لكل الأشياء ، وأنه إنما خلقها بتقديره وقصده.

واعلم : أنه لا يمكنهم أن يقولوا هاهنا : المراد من قوله : إنا خلقنا : التقدير. وإلّا لصار معنى الكلام : إنا قدرنا كل شيء بقدر. وأما القراءة الثانية. وهي بالرفع. ففيها سؤال. وهو أن يقال : لم لا يجوز أن يكون قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) مبتدأ و (خَلَقْناهُ) صفة. وقوله: (بِقَدَرٍ) يكون خبرا لذلك المبتدأ الموصوف ، والتقدير : إن كل شيء مخلوق لنا ، فهو واقع بقدر. على هذا الوجه لا يلزم كونه تعالى خالقا لكل الأشياء.

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٩.

والجواب : إنا إذا جعلنا قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) : مبتدأ ، وجعلنا قوله : (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) : خبرا عنه. فحينئذ يحصل مقصودنا. فنقول : هذا الاحتمال أولى من الاحتمال الذي ذكرتم. ويدل عليه وجهان.

الأول : إنا بينا أن القراءة بالنصب تفيد المعنى الذي ذكرناه ، فوجب حمل القراءة بالرفع على هذا المعنى أيضا. حتى تصير القراءتان متوافقتين في فائدة واحدة.

الثاني : إن على التقدير الذي ذكرتم لا يتم الكلام إلا بإضمار أمر زائد على المذكور. وذلك لأن قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) مبتدأ ، وقوله : (خَلَقْناهُ) صفة لذلك المبتدأ. فيبقى قوله (بِقَدَرٍ) تمام الخبر. إلا أن هذه الباء ، لا بد وأن تكون متعلقة بفعل مقدر ، فيصير المعنى : إنا كل شيء خلقناه. فإنما خلقناه بقدر ، أو فعل آخر يجري هذا المجرى. فثبت : أن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار. أما إذا قلنا : إن قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) مبتدأ ، وقوله: (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) خبر له. لم يحتج إلى الإضمار. ومعلوم أن الأصل عدم الإضمار ، فكان هذا التقدير أولى. وبقية الأسئلة على التمسك بهذه الآية ، هي التي تقدم ذكرها في الحجة الأولى. والله أعلم.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) (١) وجه الاستدلال : أن هذا التركيب يفيد حصر الخبر والمبتدأ ، كما يقال : زيد هو السلطان في هذا البلد. أي : لا سلطان إلا هو. فكذا قولنا : هو الله الخالق. معناه : أنه لا خالق إلا هو.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : (هُوَ) : مبتدأ. و (اللهُ الْخالِقُ) خبره. وهذا يقتضي أن لا يكون في الوجود إله خالق سوى الله ، ولا يقتضي أن لا يكون في الوجود خالق سوى الله. كما إذا قلنا : هو الواجب في موجوديته. فإنه لا يقتضي أنه لا موجود سواه، بل يقتضي أنه لا موجود واجب الوجود سواه.

__________________

(١) آخر الحشر.

سلمنا : أن هذه الآية تفيد أنه لا خالق إلا الله. إلا أنا نقول : العبد محدث لأفعال نفسه وموجد لها. ولا نقول : إنه خالق لها. لأن الخلق عمارة عن التقدير. فالخالق هو الذي يقع فعله مقدرا بالتقدير الذي يقدره به ، على الوجه الذي يوقعه عليه. وهذا لا يصح إلا من الله تعالى. فأما العبد فإنه في أكثر الأمر يقدر شيئا ، ويقع بخلافه. فلا جرم لم يجز إطلاق اسم الخالق عليه. والله أعلم.

والجواب : إنا قد دللنا في كتاب «لوامع البينات. في تفسير الأسماء والصفات» : إن الله اسم علم. وثبت أن اسم العلم لا يفيد فائدة سوى دلالته على الذات المخصوصة. ولهذا السبب قالوا : إن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات. إذا ثبت هذا فنقول : لا يمكن أن يكون الحصر عائدا إلى مفهوم قولنا «الله» هو تلك الذات المخصوصة ، فلو عاد الحصر إليه ، لصار معنى الكلام : إن ذلك المعين ليس إلا ذلك المعين ، ومعلوم : أن هذا الكلام عبث ، لأن كل شيء معين ، فذاك ليس إلا ذاك فلا يبقى لتخصيص ذات الله بهذا الحصر فائدة.

فثبت : أن هذا الحصر لا يمكن عوده إلى مفهوم قولنا «الله» فوجب أن يكون هذا الحصر عائدا إلى المفهوم من لفظ الخالق. وحينئذ يصير تقدير الآية : هو الخالق. وذلك يقتضي حصر الخالقية فيه.

وأما السؤال الثاني. فجوابه : إن الخالق بمعنى المقرر هو الذي يوقع الشيء على مقدار مخصوص. فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان العبد موجدا لها على مقاديرها المخصوصة في العدد والزمان والمكان. فكان مقدرا لها ، فوجب كونه خالقا لها ، وحينئذ يبطل الحصر الذي دلت الآية عليه.

أقصى ما في الباب : أن أفعال العباد قد تقع في بعض الأوقات ، بخلاف تقديراتهم. إلا أن كون الاسم حقيقة في جانب الثبوت ، يكفي في حصوله حصول ذلك المسمى في بعض الصور ، ولا يتوقف على حصول ذلك المسمى في كل الصور. وبالله التوفيق.

الحجة السادسة : قوله تعالى في أول سورة الفرقان : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١) وجه الاستدلال بهذه الآية : من وجهين :

الأول : إنه تعالى قال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وأفعال العباد : أشياء. فوجب كونه خالقا لها. ولا يمكن أن يكون المراد من هذا الخلق : التقدير. وإلا لصار الكلام هكذا : وقدر كل شيء فقدره تقديرا.

الثاني : إنه تعالى ذكر أولا قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فكأنه قيل : هب أنه لا شريك له في ملك السموات والأرض. ولكن لم لا يجوز أن يقال : العبيد يخلقون بعض الأشياء ، وهي أفعال أنفسهم؟ فذكر تعالى ما يزيل هذا الخيال. فقال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ولو لم يكن المراد ما ذكرناه ، لكان قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) مغنيا عن قوله : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).

الحجة السابعة : قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ، يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) (٢) فإن قيل : هذا يدل على أنه لا خالق غير الله يرزقنا من السماء ، ولا يدل على أنه لا خالق غير الله. سلمنا : أن هذه الآية تنافي إثبات خالق غير الله ، لكن العبد نسميه بالموجد والمحدث ، ولا نسميه بالخالق ، لأن الخلق عبارة عن التقدير العاري عن وجوه الخلل. وذلك في حق العبد محال.

والجواب عن الأول : إنه لو وجد خالق غير الله ، لوجد خالق غير الله يرزقنا من السماء ، لأنه يقال : رزق السلطان فلانا ، إذا أمكنه من التّصرف فيما جعله رزقا له. فكذا هاهنا ، الملائكة الذين هم سكان السموات ، إذا سعوا في إنزال الأمطار ، فقد مكنوا أهل الأرض من الانتفاع بها. إذا ثبت هذا فنقول : على مذهب الخصم : الملائكة يخلقون أفعال أنفسهم. وهم أيضا يرزقون أهل الأرض على التفسير الذي ذكرناه ، وحينئذ يلزم القطع بأنه وجد خالق غير الله

__________________

(١) الفرقان ، آية : ٢.

(٢) سورة فاطر ، آية : ٣.

يرزقنا من السماء ، فثبت : أنه لو كان العبد خالقا لأفعال نفسه ، لكان المحذور لازما.

والجواب عن الثاني : إن الخالق هو الموجد المقدر ، وكما أن الله تعالى يقدر بعلمه التام ، فكذلك العبد يقدر بحسب ظنه وخياله.

الحجة الثامنة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً. وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (١) ومعلوم : أنه قد دعى من دونه : المسيح ، والملائكة ، وفرعون ، ونمرود. وهذا النص يقتضي أن واحدا من هؤلاء لم يخلق شيئا. لأن قوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) : نكرة في النفي ، فيفيد العموم. كما إذا قال الرجل : ما رأيت شيئا ، وما سمعت خبرا ، وما أكلت لقمة ، فإنه يفيد العموم. وأيضا : قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يفيد العموم في الكل. لأنا بينا في أصول الفقه : أن هذه الصفة تفيد العموم ، والمعتزلة يسلمون ذلك ، وعليه بنوا مذاهبهم في مسألة الوعيد.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ. فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٢) والمراد من هذه الرؤية : العلم. لأن سياق الآية يدل على أن المراد منه : تميز ذات الله تعالى عن سائر الذوات بصفة الخالقية. وهذا التميز لا يحصل إلا إذا حملنا هذه الرؤية على العلم. وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الحيوان خالقا لفعل نفسه ، لوجب أن يقول الكفار عند سماع هذه الآيات : إنا قد خلقنا الإرادات والكراهات والخواطر والحركات والسكنات ، فلما لم يقل أحد من الكفار ذلك ، علمنا أنه لا خالق إلا الله.

فإن قالوا : العبد ليس خالقا لفعل نفسه ، وإن كان موجدا لها. فالجواب : ما سبق. وبالله التوفيق.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ. وَما تَعْمَلُونَ) (٣) وجه

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٢٠.

(٢) سورة لقمان ، آية : ١١.

(٣) سورة الصافات ، آية : ٩٦.

الاستدلال : أن النحويين قالوا : لفظ «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. فقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) معناه : وعملكم. وعلى هذا التقدير ، صار معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.

فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم من وجوه :

الأول : إنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام ، لأنه تعالى بيّن أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته ـ سبحانه ـ مع أنه خالقهم. ثم عبدوا الأصنام ، لا جرم أنه ـ سبحانه ـ وبّخهم على هذا الخطأ العظيم. فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (١). وَاللهُ خَلَقَكُمْ؟ وَما تَعْمَلُونَ)؟ ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم وموجدين لها ، لما جاز توبيخهم عليها.

سلمنا : أن هذه الآية ليست حجة عليكم. لكن لا نسلم أنها حجة لكم.

أما قوله : «إن كلمة «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر» قلنا : هذا ممنوع. وبيانه : أن «سيبويه» و «الأخفش» اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال : أعجبني ما قمت. أي قيامك؟ فجوزه «سيبويه» ومنعه «الأخفش» وزعم : أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي. وذلك يدل على أن «ما» مع ما بعده في تقدير المفعول عند «الأخفش».

سلمنا : أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر ، لكنه أيضا قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) والمراد بقوله : (ما تَنْحِتُونَ) المنحوت. لا النحت ، لأنهم ما عبدوا النحت ، وإنما عبدوا الأصنام المنحوتة.

الثاني : قوله : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٢) وليس المراد بها أنها

__________________

(١) سورة الصافات ، آية : ٩٥.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١١٧.

تلقفت نفس الإفك. بل أراد العصى والحبال التي كانت أسبابا لترويج ذلك الإفك.

الثالث : إن العرب يسمون محل العمل عملا. يقال في الثياب والخاتم. هذا عمل فلان. والمراد : محل عمله.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن «ما» مع ما بعده ، كما يجيء بمعنى المصدر فقد يجيء بمعنى المفعول. فلم يكن حمله هاهنا على المصدر ، أولى من حمله على المفعول. بل نقول : حمله هاهنا على المفعول أولى. وذلك لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام ، لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم. لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام ، لا مسألة خلق الأعمال.

والجواب :

أما قوله : «إضافة العبادة ، والنحت إلى العباد ، يدل على كون العبد محدثا» فجوابه : سيجيء عند الجواب عن شبههم العقلية.

وقوله : «لا نسلم أن هذه الكلمة في تقدير المصدر» قلنا : هذا مذهب «سيبويه» وقوله حجة. وأما الآيات التي أوردوها ، فنحملها على المجاز. وقد بينا في أصول الفقه : أن المجاز خير من الاشتراك ، وقولهم يقتضي كون هذا اللفظ مشتركا بين المصدر وبين المفعول. والله أعلم.

الحجة الحادية عشر : قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١) فقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) يفيد أنه لا خلق إلا لله. وغاية ما في الباب : أنا خالفناه هذا الظاهر ، في قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ) لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى هذا الحصر معتبرا في جانب الخلق.

الحجة الثانية عشر : قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢)

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ٥٤.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٩.

وأفعال العباد موجودة في ذواتهم ، وذواتهم موجودة في الأرض. والموجود في الموجود في الشيء ، موجود في الشيء. فصح أن أفعال العباد موجودة في الأرض. فقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) يدل على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد.

فإن قيل : أهل اللغة نصوا على أن كلمة «في» للظرفية. وإنما يدخل في هذه الآية : ما يكون حاصلا في الأرض ، حصول المظروف في الظرف. وهي الأشياء المودعة في الأرض. كالحيوانات والجمادات. أما أفعال العباد ، فهي أعراض ، ولا حصول لها في الأرض ، على وفق حصول المظروف في الظرف ، بل على وفق حصول العرض في المحل.

سلمنا : أن كلمة «في» تتناول ما يحصل في الشيء ، حصول الدرّة في الحقّة. وما يحصل في الشيء حصول العرض في المحل. إلا أن هذين المعنيين معنيان مختلفان بالماهية ، فكان لفظ «في» بالنسبة إلى هذين المفهومين ، لفظا مشتركا. وحمل اللفظ المشترك على كل مفهوميه غير جائز. فلم كان حمله على ما ذكرتم أولى من حمله على ما ذكرنا؟ وعليكم الترجيح. بل ما ذكرناه أولى. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن اللام في قوله «لكم» لعود المنفعة. وهذا لا يطرد في الكفر والفسوق والعصيان ، لأنها غير نافعة للعباد ، بل ضارة لهم.

الثاني : إن قوله : (خَلَقَ لَكُمْ) يقتضي أن تلك الأشياء صارت مخلوقة ، وحصل الفراغ منها ، وأفعال العباد ليست كذلك.

الثالث : إن قوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) يقتضي كون كل واحد من هذه المخلوقات مخلوقا لكل أحد. وأفعال العباد ليست كذلك. لأنه لا انتفاء بكل واحد منها إلا لفاعله فقط. والله أعلم.

والجواب :

إن كلمة «في» مستعملة في قولنا : الماء في الكوز ، وفي قولنا : العرض

في المحل. والأصل عدم الاشتراك. والمجاز يوجب كون هذا اللفظ موضوعا بإزاء القدر المشترك بينهما. وذلك القدر المشترك هو أن يكون المظروف حاصلا في داخل الظرف ، سواء كان ساريا فيه ، كما في العرض والمحل ، أو موضوعا في جوفه ، كما في الماء والكوز. وإذا جعلنا لفظ «في» بإزاء هذا المعنى المشترك ، وجب أن يدخل تحته جميع أنواعه ، رعاية لعموم قوله: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

قوله : «اللام لعود المنفعة» قلنا : هذا يشكل بقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) والله أعلم.

الحجة الثالثة عشر : قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما : باطِلاً) (٢). هذا النص يقتضي أنه تعالى خالق لكل ما بين السماء والأرض ، بشرط أن يكون خالقا لها. لا لغرض باطل. وأفعال العباد موجودة بين السماء والأرض ، فوجب كونها مخلوقة لله تعالى.

فإن قيل : الشيء لا يوصف بأنه بين السماء والأرض ، إلا إذا كان جسما. وأفعال العباد لا تدخل تحت هذا النص. وأيضا : فهذه الآية حجة عليكم من وجوه :

الأول : إنها صريحة في أنه تعالى ما خلق باطلا أصلا. وذلك يقتضي أن خالق الكفر والمعاصي ليس هو الله تعالى.

الثاني : إنه تعالى قال بعده : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣) أضاف الظن إليهم ، وأضاف الكفر إليهم ، وتوعدهم على ذلك الكفر. وكيف يعقل أن يتوعد الله عباده على ما خلقه فيهم؟

الثالث : إنه قال بعده : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٠.

(٢) سورة ص ، آية : ٢٧.

(٣) سورة ص ، آية : ٢٧.

كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (١)؟ وهذا الفرق إنما يبقى معتبرا ، لو كان الصلاح والفساد من قبل العبد.

والجواب :

قوله : «الشيء لا يوصف بأنه بين السماء والأرض ، إلا إذا كان جسما» فجوابه: ما تقدم في بيان أفعال العباد : أنه يصدق عليها أنها في الأرض.

قوله : «النص دل على أنه تعالى ما خلق الباطل» قلنا : النص دل على أنه تعالى ما خلق شيئا لغرض باطل. لأن قوله : «باطلا» مفعول له. وعندنا : أن الأمر كذلك. لأن عندنا أنه تعالى لا يخلق شيئا لغرض أصلا. وإذا لم يكن له غرض ، لم يكن له غرض باطل. بل عندنا أنه تعالى يخلق الأشياء بحكم الإلهية والمالكية. فإنه ليس لأحد عليه أمر ولا نهي.

وبالجملة : ففرق بين قولنا : لا يخلق الباطل ، وبين قولنا : لا يخلق شيئا لغرض باطل. والمذكور في النص هو الثاني ، لا الأول. وذلك لا ينفعهم ولا يضرنا. وأما بقية أسئلتهم فهي إشارة إلى أن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لامتنع أمره ونهيه ومدحه وذمه. وهذا هو شبهتهم الكبرى ، وسيجيء الجواب عنها ، إن شاء الله تعالى.

الحجة الرابعة عشر : قوله تعالى حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) (٢) والمراد من قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) هو أنه خلق كل شيء.

واعلم : أن هذا النص يجب أن يكون من المحكمات ، لا من المتشابهات. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن فرعون سأل موسى ـ عليه‌السلام ـ عن هذه المسألة.

__________________

(١) ص ٢٨.

(٢) سورة طه ، آية : ٥٠.

وموسى ـ عليه‌السلام ـ ذكر هذا الكلام في معرض البيان. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولو كانت هذه الآية من المتشابهات ، لكان هذا تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وتمكينا للخصم من الطعن في كلامه ، وإظهار فساده. وانه لا يجوز.

الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية ، وجميع الآيات التي تمسكنا بها من المحكمات : هو أن الموجود. إما واجب لذاته ، وهو الله سبحانه ، وإما ممكن لذاته ، وهو كل ما سواه. وكل ممكن فإنه مفتقر إلى الواجب. فكل ما سوى الله ، فهو مفتقر إلى الله ، وموجود بإيجاد الله. وهذا هو تفسير قوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ. ثُمَّ هَدى) فلما دلت هذه النصوص على أن كل ما سوى الله ـ سبحانه ـ فإنما حصل بإيجاد الله. ودل هذا البرهان القاطع القاهر ، على صحة هذا المعنى ، لم يبق للخاطر فيه مجال. وثبت : أن كل تأويل يذكره الخصم فهو باطل ، وأن الحق إجراء هذه النصوص على ظواهرها في هذا الباب. وبالله التوفيق.

الفصل الثالث

في

التمسك بالآيات المشتملة

على لفظ «الجعل» وما يجري مجراه

اعلم : أن صيغة جعل ، قد تجيء متعدية إلى مفعول واحد ، ويكون معناها : الإحداث والتكوين. قال تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) وقد تجيء متعدية إلى مفعولين ويكون معناها : جعل الذات موصوفة بصفة. قال تعالى : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٢) (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (٣).

إذا عرفت هذه المقدمة ، فلنذكر الدلائل :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (٤) وهذا تصريح بأن العبد لا يصير مسلما ، إلا بأن يجعله الله مسلما. وذلك يدل على أن الإسلام يحصل بخلق الله.

فإن قيل : كما أن الجعل يرد بمعنى التصيير ، فكذلك يرد لوجوه أخرى :

أولها : وصف الشيء بالشيء. قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٥) وقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ : الْجِنَ) (٦).

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١.

(٢) سورة مريم ، آية : ٣٠.

(٣) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٥) سورة الزخرف ، آية : ١٩.

(٦) سورة الأنعام ، آية : ١٠٠.

وثانيها : تنزيل الشيء منزلة غيره. قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟) (١) والتقدير : هل ننزل المصلحين منزلة المفسدين؟ وكقول القائل إذا نزله منزلة العدو : إنك جعلتني عدوا لنفسك.

وثالثها : الإقدار على الشيء ، والتمكين منه. يقال : جعل فلان أميرا وقاضيا. إذا نصب لذلك. قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٢) وقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) (٣) والمراد منه : النصب لذلك الأمر ، والتعيين له.

إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : أحد هذه الوجوه؟ أما الحكم والتسمية فظاهر.

ولا يقال : هذا باطل من وجهين : الأول : إن كل مسلم فإنه يستحق أن يسمى مسلما. فأي فائدة في طلب ذلك من الله تعالى؟ الثاني : إن المسلمين يصفون المسلمين بالإسلام. وعلى هذا التقدير لا يبقى بين الجعل الصادر من الله تعالى ، وبين الجعل الصادر من كل أحد من آحاد المسلمين فرق.

لأنا نجيب عن الأول : بأن الإسلام أعظم الخصال الحميدة ، فإذا وصف الله عبدا بذلك ، كان ذلك أشرف المناصب وأعلاها. فلا جرم يحسن طلبه من الله تعالى. ونظيره : ما حكى الله في قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٤).

وعن الثاني : إن الله تعالى إذا وصف عبدا بخصلة شريفة ، كان ذلك يوجب من التعظيم والتقديم ما لا يوجبه وصف كل الخلق له بتلك الخصلة. ألا ترى أن الملك العظيم إذا وصف إنسانا ببعض صفات المدح

__________________

(١) ص ٢٨.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٢٤.

(٣) سورة الأنبياء ، آية : ٧٣.

(٤) سورة الشعراء ، آية : ٨٤.

والثناء ، كان ذلك أبلغ في التعظيم مما إذا وصفه بعض الأراذل بذلك. فكذا هاهنا. ثم نقول: وأيضا : يمكن حمل قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) على أن يكون المطلوب تنزيلهما منزلة المسلمين في المدح والتعظيم ، أو في تكثير الألطاف في الدنيا ، أو في تكثير الثواب في الآخرة. والمسلم إن كان يستحق كل ذلك على الله تعالى ، إلا أنه لا يبعد أن يقال : إنه متى سأل الله تعالى ذلك ، فإنه لأجل ذلك السؤال يستحق مزيدا في هذه الأمور.

ثم نقول : أيضا : لا يبعد حمله على التمكين من الإسلام في الزمان المستقبل ، ولا يبعد أن يتوقف حسن تمكينها في المستقبل على إقدامها على ذلك السؤال. فثبت بما ذكرنا : أن قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة ، فكان الجرم بحمله على الإيجاد والتكوين تحكما محضا.

سلمنا : أن المراد من الجعل : التكوين والتصيير. لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه : خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام؟ لأن من فعل الله تعالى به ذلك ، فقد جعله مسلما ألا ترى أن من أدّب ولده حتى صار أديبا ، فإنه يجوز أن يقول له : إني صيرتك أديبا وجعلتك عالما. وفي ضد ذلك يقال : إنه جعل ولده لصا محتالا.

ثم نقول : هذه الآية متروكة الظاهر. لأنهما وقت هذا السؤال ، كانا مسلمين. فقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) يقتضي طلب تحصيل الحاصل. وهو باطل.

ثم نقول : هب أن ظاهر هذه الآية يقتضي كونه تعالى خالقا للإسلام ، لكنه على خلاف الدلائل العقلية. لأنه لو كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى ، لما استوجب العبد به مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا. وبالله التوفيق.

والجواب عن السؤال الأول من وجهين :

الأول : إن الجعل المتعدي إلى مفعولين ، هو أن يصير موصوفا بصفة. فقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي صيرنا موصوفين بصفة الإسلام

ولا معنى للتصيير إلا إيجاد الصفة فيه. وأما الوجوه التي ذكروها. فقد اتفق أهل اللغة على أنها مجازات. والأصل في الكلام هو الحقيقة. ثم نقول : أما حمل الجعل على الحكم والتسمية فباطل من وجوه :

الأول : لو كان كذلك ، لكان من أخبر أن الله : موجود ، حي ، عالم ، قادر. لزم جواز أن يقال : إنه جعل الله موجودا عالما قادرا. ومعلوم أنه باطل.

الثاني : لا نزاع أن الجعل حقيقة في التصيير ، فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره ، دفعا للاشتراك.

الثالث : إن بتقدير أن يكون المراد منه هو الحكم والتسمية. لكن الجبر على هذا التقدير أيضا لازم ، لما ثبت في باب العقليات : أن ما أخبر الله عنه ، فإن خلافه يفضي إلى الكذب في كلام الله. وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان خلافه محالا ، فكان حصوله واجبا ، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين. فثبت : أن هذا الوجه الذي ذكروه ، فإنه مع غاية ضعفه ، لو صح ؛ فإن يقوى مذهبنا ويؤكده.

قوله : «لما لا يجوز حمله على طلب الألطاف؟» قلنا : هذا أيضا مدفوع لوجوه :

الأول : إن لفظ الجعل مضاف إلى الاسلام ، فصرفه إلى غيره مخالفة للظاهر.

الثاني : إن عندكم كل ما أمكن فعله من الألطاف ، فقد فعله الله. فحمل هذا السؤال على طلب الألطاف يكون طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال.

الثالث : إن تلك الألطاف. إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا يكون. فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح ، كان أمرا أجنبيا عن الإيمان ، جاريا مجرى نعيق الغراب ، وصرير الباب. وأما إن كان

لتلك الألطاف أثر في الترجيح. فنقول : متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح. إما أن يجب الفعل أو يمتنع ، أو لا يجب ولا يمتنع. فإن وجب فهو المطلوب. وإن امتنع فهو مانع لا مرجح. وإن لم يجب ولم يمتنع ، فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ، ولا وقوعه أخرى.

فاختصاص أحد الوقتين بالوقوع والوقت الآخر باللاوقوع. إن كان لانضمام أمر آخر إليه كان اللطف المؤثر في الترجيح هو المجموع الحاصل مما حصل أولا. ومن هذه الضمانة فلا يكون الذي فرضناه حاصلا ، مؤثرا البتة في شيء من الترجيح ، وكنا فرضناه كذلك. هذا خلف. وإن لم يكن لانضمام قيد آخر إليه ، لزم الرجحان من غير مرجح. وهو محال. فثبت: أن عند حصول ذلك اللطف يجب حصول الفعل ، وعند عدمه يمتنع. وذلك يعود إلى ما ذكرناه من أن حصول الفعل عند مجموع القدرة والداعي واجب. وذلك هو عين مذهبنا.

أما قوله : «لما كانا مسلمين ، كان إقدامها على طلب الإسلام طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال» فنقول : الجواب عنه من وجوه :

الأول : إن الإسلام عرض قائم بالقلب ، والعرض لا يبقى. فقوله : (اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) معناه : طلب أن يخلق الله ذلك العرض في قلبه في الزمان المستقبل. ومعلوم أن طلب تحصيله في الزمان المستقبل ، لا ينافي كونه حاصلا في الحال.

الثاني : أن يكون المراد منه : الزيادة في الإسلام ، كقوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (١) وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٢) وقال ابراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٣).

__________________

(١) سورة الفتح ، آية : ٤.

(٢) سورة محمد ، آية : ١٧.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢٦٠.

الثالث : إن لفظ الاسلام إذا ذكر خاليا عن الصلات ، أفاد الإيمان ، أما إذا قرن بحرف اللام ، كقوله : (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) فالمراد الاستسلام والانقياد والرضا ، بكل ما قضاه الله. فيحتمل : أن يكون المراد بقوله : (اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : ما ذكرناه. والله أعلم.

وقوله : «الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع الفعل بخلق الله تعالى ، وهي في فصل المدح والذم» قلنا : دلائلنا العقلية أقوى وأجلى ـ على ما سبق تقريره.

الحجة الثانية : قوله تعالى في آخر هذه الآية : (وَتُبْ عَلَيْنا. إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١) ولو كانت التوبة بخلق العبد ، لكان طلبها من الله جاريا مجرى أن يقول العبد : يا إلهي أفعل ما أنا فاعله.

فإن قيل : هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا. فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٢) ولو كانت التوبة فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا. ولما ثبت التعارض ، وجب التوفيق بينهما. فنحمل قوله تعالى : (وَتُبْ عَلَيْنا) على التوفيق ، وفعل الألطاف ، أو على أن الله تعالى يقبل التوبة من العبد.

والجواب : الترجيح معنا. لأن دليل العقل يقوي قولنا : إن التوبة لا تحصل إلا بخلق الله تعالى. وبيانه من وجهين :

الأول : إنا أقمنا الدلائل القاهرة على أن القادر يمتنع أن يصدر عنه الفعل إلا عند حصول الداعي ، وأقمنا الدلائل القاهرة على أن عند حصول الداعي المرجح يجب الفعل. إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى عند ما لم يخلق للعبد داعية إلى التوبة ، امتنع صدور التوبة عنه ، ولما خلق فيه تلك الداعية ، وجب صدور التوبة عنه. وعلى هذا التقدير تكون التوبة إنما حصلت بتحصيل الله تعالى. إما بواسطة ، أو بغير واسطة.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٢) سورة التحريم ، آية : ٨.

الوجه الثاني في بيان أن التوبة يمتنع حصولها إلا بتخليق الله تعالى : أن نقول : التوبة عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مترتبة بعضها على البعض. وتلك الثلاثة هي : العلم ، والحال ، والعمل. فالعلم أول ، والحال ثاني ـ وهو معلول العلم ـ والعمل ثالث ـ وهو معلول الحال.

أما العلم فهو معرفة ما في الذنوب من المضار ، ثم يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة ، ونزول المضرة. ثم يتولد من ذلك الألم أحوال عملية ، لها تعلق بالحال والماضي والمستقبل. وأما تأثيره في الحال. فبأن يترك ذلك الذنب ، الذي كان ملابسا له. وأما تعلقه بالماضي. فبأن يتلافى ما فات بالقضاء ، إن كان قابلا للقضاء. وأما تعلقه بالمستقبل. فبالعزم على ترك ذلك العمل إلى آخر العمر.

فالعلم هو الأول. وهو مطلع هذه الخيرات. وأعني بهذا العلم : اشتمال الذنوب على المضار العظيمة ، ويجب أن يكون هذا الإيمان يقينيا متأكدا ، خاليا عن الشكوك والشبهات، وإلا لم يكن علما ، بل يكون ظنا. غير أن ذلك اليقين إذا استولى على القلب ، أوجب تألم القلب. وذلك العلم يوجب الأمور الثلاثة ، بحسب الأزمنة الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول : الاعتقاد الجازم في كون الذنب ، سببا لحصول المضار العظيمة يوجب النفرة عن الذنوب. وهذه النفرة توجب الترك في الحال ، والعزم على الترك في المستقبل. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ، ترتب ضروري واجب بالذات ، فلا يمكن للعبد فيه مكنة واختيار.

بقي أن يقال : الداخل تحت التكليف هو تحصيل ذلك العلم. لكنا بينا بالبراهين القاهرة : أن تحصيل العلم ليس مقدورا للعبد. فثبت بما ذكرنا : أن حصول التوبة ليس إلا من الله تعالى. ولما ثبت أن مذهبنا تقوى بالدلائل العقلية ، كان مذهبنا أولى من مذهبكم. وبالله التوفيق.

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (١)

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٣٧.

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (١) ووجه الاستدلال : أنه أظهر الرغبة إلى الله تعالى في أن يجعل هوى الناس إلى «مكة».

والعقل أيضا يدل عليه. لأن تحصيل الإرادة في القلب ، إن كان من العبد ، لافتقر فيه إلى إرادة أخرى ، ولزم التسلسل. وإن كان من الله تعالى فهو المطلوب. وكل ذلك تصريح بأن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٢) فإن قيل : عليه الأسئلة التي (٣) تقدم ذكرها في الحجة الأولى. فالذي نزيده هاهنا أن نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد كونه رضيا في الخلقة والصورة. وهو كونه تام الخلقة ، صحيح الحواس ، كامل العقل ، شديد القوة ، طلق الوجه ، حسن الصورة ، موصوفا بالأخلاق الحميدة ، محبوبا بين الناس؟ وكل ذلك من أفعال الله تعالى.

والجواب : إن مقدمة الآية هي قوله : (يَرِثُنِي ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٤) : وهذه الوراثة هي وراثة الدين والنبوة ، لا وراثة المال. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن جمهور المفسرين قالوا بذلك.

والثاني : إن عمل مبالغة الرسول المعصوم وهو زكريا عليه‌السلام على حفظ مصالح الدين ، أولى من عمله على حفظ مصالح الدنيا ، فثبت : أن المراد من قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وراثة الدين والنبوة. ثم إنه تعالى قال بعده : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) فوجب أن يكون مراده منه : كونه رضيا في الدين. لأن حمل اللفظ المجمل على المذكور السابق ، أولى من حمله على الشيء الأجنبي.

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٤٠.

(٢) سورة مريم ، آية : ٦.

(٣) فإن قيل الأسئلة ما تقدم ـ والذي ... الخ [الأصل]

(٤) سورة مريم ، آية : ٦.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ : رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (١) ويقرب منه : قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٢) ولا شك أن تلك المودة والرحمة من الطاعات العظيمة. فدل ذلك : على أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ : عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (٣) ونظيره قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ : عَدُوًّا. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٤).

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : الحكم بكون أولئك المجرمين ، أعداء لذلك النبي؟ فنقول : المراد : أنه تعالى لما خصص الرسل بالكرامات الفائقة ، والفضائل العظيمة ، التي بسببها يحسدهم الكفار ، ويعادونهم ، صار كأنه تعالى هو الذي جعلهم أعداء لأولئك الأنبياء ، وإليه أشار المتنبي بقوله :

أزل حسد الحساد عنّي بكبتهم

فأنت الذي صيرتهم لي حسدا

ثم الذي يدل على أنه لا بد من المصير إلى هذه التأويلات : جميع الآيات الدالة على أنه تعالى ينصر الأنبياء والرسل. قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ : بِالْهُدى ، وَدِينِ الْحَقِّ ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٥) وقال : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٦) فكيف يليق بمثل هذا الإعزاز ، أن يلقى عداوته في قلوب الناس؟

والجواب : أما تفسير لفظ الجعل بالحكم والتسمية. فقد ذكرنا أنه خلاف الظاهر. وأيضا : لو سلمنا ذلك. إلا أن الله تعالى لما كان قد حكم به

__________________

(١) سورة الحديد ، آية : ٢٧.

(٢) سورة الروم ، آية : ٢١.

(٣) سورة الفرقان ، آية : ٣١.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ١١٢.

(٥) سورة الصف ، آية : ٩.

(٦) سورة الفتح ، آية : ٣.

في اللوح المحفوظ ، كان حصوله واجبا ، وتركه ممتنعا. لما بينا أن تركه يقتضي انقلاب خبر الله، الصدق : كذبا. وإنه محال. وأما الذي ذكروه في الوجه الثاني فضعيف جدا. وذلك لأن تخصيص الرسل بتلك الكرامات وتلك الفضائل لا يوجب حصول العداوة. ألا ترى أن تلك الفضائل هي التي صارت أسبابا قوية لحصول المحبة الشديدة في قلوب الأولياء. ولو كان حصول تلك الفضائل ، موجبا لحصول العداوة ، لكان السبب الواحد موجبا حصول ضدين. وهو محال. بل الحق : أن ذلك لا يوجب ، لا حصول المحبة ، ولا حصول العداوة. وأن الموجب لحصول المحبة : إلقاء دواعي المحبة في القلوب ، والموجب لحصول العداوة : إلقاء دواعي العداوة في القلوب. وعلى هذا التقدير يكون الكل من الله. وعند استحضار مسألة الداعي على الوجه الذي لخصناه ، يظهر أن ظاهر قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) متأكدا بهذا البرهان العقلي القاطع ، الذي لا يقدر أحد على التشكيك فيه بوجه من الوجوه. وبالله التوفيق.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (١) والكلام سؤالا وجوابا : عين ما تقدم.

الحجة الثامنة : قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) (٢) فإن قيل : ظاهر هذا النص حجة عليكم. لأنه تعالى أضاف الإلقاء إلى الشيطان. ثم نقول : هذا النص يدل على أنه تعالى يجعل ما يلقيه الشيطان فتنة. والمراد من الفتنة : العلامة المميزة للذين في قلوبهم مرض ، عن الذين ما كانوا كذلك. يقال : فتنة. إذا امتحنته. ولا يلزم من قولنا : جعل ما يلقيه الشيطان علامة لبعض الأمور. قولنا : إنه تعالى هو الذي خلق تلك الوساوس الباطلة التي يلقيها الشيطان في القلوب.

والجواب : قوله : إنه تعالى أضاف الإلقاء إلى الشيطان ، إضافة الفعل

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١٣.

(٢) سورة الحج ، آية : ٥٣.

إلى الفاعل» قلنا : سيجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى. قوله : «المراد من الفتنة : الامتحان» قلنا : هذه الفتنة المفسرة بالامتحان. إما أن تكون نسبتها إلى الهداية والضلالة على السوية ، أو لا تكون. فإن كان الثاني كان كسائر الأمور ، التي لا تعلق لها بهذا الباب ، فلم تكن فتنة وامتحانا. وإن كان الأول ، كان له مزيد اقتضاء للجهل والضلال. وقد دللنا على أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (١) وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٢) وجعل الشيء : شيئا آخر ، عبارة : عن تحصيل تلك الصفة فيه. يقال : فلان جعل هذا الثوب أسود ، أو أبيض. أي حصل فيه صفة السواد وصفة البياض. فكذا هاهنا. المراد من جعلهم أئمة الهدى ، وأئمة النار : خلق صفة الهدى وصفة الضلال فيهم.

فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، لأنه لو كان خالق الإيمان والكفر هو الله تعالى ، لم يكن لجعل هذا إماما في الهدى ، وجعل ذاك إماما في الضلال : معنى. لأن إمام الهدى ، إن دعى المؤمن إلى الهدى. فهو عبث. لأن الله تعالى ، لما خلق الهدى في المؤمن ، كانت دعوته الى الهدى عبثا. وإن دعي الكافر إلى الهدى فهو محال. لأن من خلق الله الكفر فيه ، امتنع صيرورته مؤمنا. وكذا القول في الإمام الداعي إلى النار. فإنه لا يخلو من هذين الوجهين.

فثبت : أن على مذهب الجبر لا يبقى في جعل الشخص إماما في الهدى ، وإماما في الضلال فائدة. وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد لهذا الجعل من تأويل. وهو أحد أمرين : أحدهما : الحكم والتسمية. والثاني : أن يحمل ذلك على أحوال القيامة. وذلك لأنهم في الآخرة يدعون أصحابهم إلى النار. كما قال في حق فرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (٣) ومما يقوي ذلك :

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٧٣.

(٢) سورة القصص ، آية : ٤١.

(٣) سورة هود ، آية : ٩٨.

أن هذه الآية التي تمسكتم بها ، ذكرها الله عقيب خبر آل فرعون.

والجواب عن السؤال الأول : إنا إذا قلنا : الفعل معلول مجموع القدرة مع الداعي. فهذا السؤال زائل. وذلك لأن أئمة الضلال إذا دعوا إنسانا إلى الضلال وزينوه في قلبه. فدعوتهم هي التي أثرت في ترسخ تلك الداعية في قلب ذلك الإنسان. فلا جرم جاز وصفه بكونه إماما فيه. وأما تفسير الجعل بالحكم والتسمية. فقد تقدم جوابه.

وأما حمله على أحوال القيامة : فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن قوله : (وَجَعَلْناهُمْ) لفظ للماضي ، فحمله على المستقبل خلاف الظاهر.

والثاني : هب أن الأمر كما قالوه : إلا أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم يكونون كذلك في القيامة ، استحال أن لا يكونوا كذلك. وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الذي يجب أن يكون صدقا : كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال محال. وتمام تقريره ، قد تقدم. وبالله التوفيق.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ ، مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (١) وهذا تصريح بأنه تعالى جعلهم عبدة الطاغوت. ولا يمكن تفسير هذا الجعل بالحكم والتسمية. لأنه تعالى ذكر صيغة جعل ، ثم أسند هذه الصيغة إلى القردة ، ثم إلى الخنازير ، ثم إلى عبدة الطاغوت. ولا شك أن المراد من جعل ، عند إسنادها إلى القردة والخنازير ، هي التصيير ، والقلب من صفة إلى صفة. فوجب أن يكون المراد بإسنادها إلى عبدة الطاغوت هذا المعنى أيضا ، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد دفعة في حقيقته ومجازه معا. وإن ذلك محال.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٠.

فإن قيل : النص دل على أنه تعالى جعل من عبد الطاغوت. فصيغة جعل هاهنا متعدية إلى مفعول واحد ، فكانت بمعنى الإحداث. فيكون المعنى : أنه تعالى خلق من عبد الطاغوت. ولا نزاع فيه. وليس في الآية دلالة على أنه تعالى خلق عبادة الطاغوت فيهم.

والجواب عنه من وجهين :

الأول : إنه تعالى قال : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) وجعل الشيء من شيء آخر. معناه : إزالة الصفة الأولى ، وإحداث الصفة الثانية. وإذا كان كذلك ، لم يكن هذا الجعل بمعنى الإحداث ، بل بمعنى تصيير الشيء شيئا آخر. وإذا كان من الجعل المذكور في هذه الآية هذا المعنى ، وجب أيضا أن يكون هو المراد في قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وإلا لزم استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه معا. وإنه لا يجوز. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون معنى الآية : إنه تعالى جعلهم (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) وعند هذا يحصل المطلوب.

الثاني : إنه تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم. ولو كان المقصود منه أنه تعالى خلق ذواتهم ، لما كان فيه مذمة لهم البتة. لأن المذمة في أن يقال : إنه تعالى جعلهم موصوفين بعبادة الطاغوت. وحينئذ يحصل المقصود.

وبالله التوفيق.

الفصل الرابع

في

سائر الدلائل المأخوذة من سائر الآيات

الحجة الأولى : الإيمان نعمة. وكل نعمة فهي من الله تعالى. ينتج : أن الإيمان من الله تعالى. إنما قلنا : إن الإيمان نعمة. لإطباق الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان. وإنما قلنا : إن كل نعمة فهي من الله تعالى. لقوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١).

فإن قيل : لا نسلم أن الإيمان نعمة. والإجماع الذي ادعيتم : ادعيتم : ممنوع. سلمنا : أنه نعمة ، وأن كل نعمة فمن الله ، حتى ينتج : أن الإيمان من الله. إلا أنا نقول : إن كل شيء كما يضاف إلى فاعله ، لأجل أنه فعله ، فكذلك قد يضاف إلى الآمر به ، والمعين عليه. لأجل أنه أمر به ، وأعان عليه. ألا ترى أن الأب إذا علم ولده الأدب ، وأعانه عليه ، صح أن يقال : هذا العلم إنما حصل له من ذلك الأب ومن وجهته ، وإن كان لا يقال : إنه فعله.

ونظيره : قول موسى صلوات الله عليه ، لما قتل القبطي : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) وما أراد أن الشيطان قتله ، لكن أراد أنه وسوس إليه ، حتى حدث ما حدث. فكذا هاهنا.

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٥٣.

(٢) سورة القصص ، آية : ١٥.

والجواب : الدليل على أن الإيمان نعمة : الإجماع الذي نقلناه ، وإنكاره مكابرة. فإن أصروا على المنع. قلنا : الدليل على أن الإيمان نعمة : أن لفظ النعمة مستعمل في صور كثيرة. ولا بد من جعلها حقيقة في القدر المشترك بينها ، دفعا للاشتراك والمجاز. وكونه أمرا منتفعا به خاليا عن كل جهات المضرة ، قدر مشترك. فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه. ولأنا إذا قلنا : إن الله تعالى أعطى فلانا نعمة ، لم يفهم إلا ما ذكرناه. فثبت : أن لفظ النعمة اسم لكل أمر منتفع به ، خالي عن جميع جهات المضرة. والإيمان كذلك ، فوجب أن يكون نعمة.

قوله : «لم لا يجوز أن يكون الإيمان من الله ، بمعنى أنه حصل بأمره وبإعانته»؟

قلنا : لأن كلمة «من» لابتداء الغاية. وإنما يصدق القول بأن هذه النعمة من الله تعالى ، إذا كان ابتداء حدوثها من الله. فلو كان إحداثها وإيجادها من العبد ، لم يصدق عليها أنها من الله. وأقصى ما في الباب : أنه قد يطلق هذا اللفظ على سبيل المجاز في بعض المواضع. إلا أن المجاز خلاف الأصل. والله أعلم.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وهذه الآية هي التي يظن المعتزلة أنها في غاية القوة من جانبهم. وتقريره : أن نقول : فعل العبد موقوف على مشيئة العبد ، ومشيئة العبد موقوفة على مشيئة الله تعالى. ينتج : أن فعل العبد موقوف على مشيئة الله تعالى. وإنما قلنا : إن فعل العبد موقوف على مشيئة ، للقرآن والعقل. أما القرآن. فقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) دلت هذه الآية : على أن مشيئة الإيمان مستعقبة للإيمان ، ومشيئة الكفر مستعقبة للكفر. وظاهر أيضا : أن عند عدم هذه المشيئة لا يصدر الفعل عن القادر. وأما العقل. فهو أن القادر ، قادر على الضدين. أعني : الكفر والإيمان والمعصية والطاعة. فيمتنع أن

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

يترجح أحدهما على الآخر ، إلا بواسطة القصد والمشيئة.

وإنما قلنا : إن مشيئة العبد موقوفة على مشيئة الله تعالى للقرآن والعقل. أما القرآن. فقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) ومفعول هذه المشيئة : محذوف. فإما أن يكون التقدير : وما تشاءون إلا إن شاء الله ذلك الشيء ، أو يكون التقدير : وما تشاءون شيئا ، إلا إن شاء الله مشيئتكم لذلك الشيء.

والأول محال. لأن «زيدا» إذا شاء حركة جسم ، وشاء «عمرو» سكونه. فيلزم أن يقال : إن الله شاء حركته وسكونه معا. وذلك محال. ولما بطل هذا تعين حمل الآية على الوجه الثاني. فيكون التقدير : وما تشاءون شيئا إلا وشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. وأيضا : فالمشيئة مذكورة صريحا ، ومفعول المشيئة غير مذكور صريحا. فإذا حملنا هذه الآية على أن المراد : وما تشاءون شيئا إلا ويشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. كنا قد أضمرنا ما لم يسبق ذكره. ولا شك وأن الأول : أولى. فثبت : أن تقدير الآية : وما تشاءون إلا أن يشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. وهذا يدل على أن حصول المشيئة لنا موقوف على مشيئة الله تعالى.

وأما المعقول : فهو أنه يمكن أن يحصل للعبد مشيئة الإيمان ، وأن يحصل له مشيئة الكفر بدلا عن مشيئة الإيمان. فحصول إحدى المشيئتين بدلا عن الأخرى ، لا بد وأن يكون لترجيح مرجح. فإن كان ذلك للعبد ، عاد الطلب فيه. ويلزم التسلسل. وهو محال. وإن كان هو الله فهو المطلوب.

فثبت بالقرآن والبرهان : أن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على مشيئة لذلك الفعل ، وثبت أيضا بالقرآن والبرهان : أن حدوث تلك المشيئة في قلب العبد متوقف على إن شاء الله إحداث تلك المشيئة في قلبه ، وثبت في بدائه العقول : أن الموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على الشيء. فيلزم القطع بأن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على مشيئة الله. وذلك هو

__________________

(١) سورة الانسان ، آية : ٣٠.

المطلوب. وهذا برهان نفيس شريف ، مركب من مقدمتين مقررتين بالنص القاطع ، والبرهان الساطع.

الحجة الثالثة : إنه تعالى أضاف أعمال العباد إليهم ، ثم إنه تعالى أضافها بأعيانها إلى نفسه. وذلك يدل على أن فعل العبد ، فعل الله تعالى. بيان المقدمة الأولى ، بآيات : إحداها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : آمِنُوا) (١) ثم قال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢) وذلك يدل على أن إيمان العبد فعل الله تعالى ، والعبد معا. وثانيها : قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً ، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (٣) ثم قال : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤) وثالثها : قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (٥) وقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٦) ورابعها : قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ. وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٧) فأضاف قتلهم ورميهم إلى نفسه. وخامسها : قوله تعالى : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٨) ثم قال : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) (٩).

فإن قيل :

أما قوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) فالمراد منه : الإعانة ، وهو خلق الألطاف.

وأما قوله : (هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) فالكلام فيه من وجهين : الأول : لا نسلم أن «أضحك» عبارة عن إيجاد الضحك ، بل المضحك والمبكي من

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٣٦.

(٢) سورة المجادلة ، آية ، آية : ٢٢.

(٣) سورة التوبة : آية : ٨٢.

(٤) سورة النجم ، آية : ٤٣.

(٥) سورة العنكبوت ، آية : ٢٠.

(٦) سورة يونس ، آية : ٢٢.

(٧) سورة الأنفال ، آية : ١٧.

(٨) سورة التوبة ، آية : ٤٠.

(٩) سورة الأنفال ، آية : ٥.

يفعل ما عنده يحصل الضحك والبكاء ، يقال : أضحكني كلامك ، وأبكاني وعظك. والثاني : سلمنا : أنه عبارة عن فعل الضحك والبكاء. لكنه إخبار عن أمر في الماضي. فيقتضي ذلك مرة واحدة. فلم قلتم : إن ضحكنا وبكاءنا هو تلك المرة؟.

وأما قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فهو محمول على الإقدار والتمكين. كما يقال : سير الأمير جنده إلى بلدة كذا. فإن الفهم يسبق إلى ما ذكرناه.

وأما قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فنقول : الفعل دل على امتناع وقوع الأثر الواحد بمؤثرين ، فوجب أن يحمل أحد الجانبين على المجاز. ثم إن الرمي يذكر ويراد به الإضافة. يقال : رمية من غير رامي. فكان التقدير : وما رميت عن علم ومعرفة وجزم بحصول المقصود. ولكن الله رمى ، أي ولكن الله أوصله إلى المقصود.

وأما قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) فالسؤال عليه ما تقدم في قوله : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) فإنه إذا قيل أخرج الأمير فلانا من البلد ، لم يفهم منه البتة : أنه فعل منه ماهية الخروج ، بل السابق إلى الافهام : أنه كلفه بالخروج وألجأه إليه. سلمنا : أنه يقتضي نفس الخروج ، ولكنه لا يقتضي إلا مرة واحدة. فلم يتناول محل النزاع : والجواب : إن جميع الوجوه التي ذكرتموها عدول عن الحقيقة إلى المجاز. وذلك خلاف الظاهر.

وليس لهم أن يقولوا : دلت الدلائل العقلية على فساد القول بأن الله تعالى موجد لأفعال العباد ، فلا جرم حملنا هذه الآيات على مجازاتها. لأنا نقول : قد سبقت دلائلنا العقلية ، بحيث بلغت في القوة إلى قلع الجبال ، وهدم السموات.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١) وقوله : (إِنَّ اللهَ

__________________

(١) سورة البروج ، آية : ١٦.

يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١) ولا نزاع أنه تعالى أراد الإيمان. أما عندكم فمن الكل. وأما عندنا فمن المؤمن. فوجب أن يكون هو الفاعل لإيمانه ، بحكم هذا النص. وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه هو الفاعل للكفر. ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

فإن قيل : المراد أنه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فعله. فلم قلتم : إنه تعالى يريد أن يفعل فعل العبد ، فإن ذلك أول المسألة؟ قلنا : قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يتناول كل ما يريد وجوده ، وما ذكرتموه يفيد. خلاف الظاهر.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ، إِذا أَرَدْناهُ. أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وقد أراد الله الإيمان ، فوجب أن يتكون ذلك الإيمان بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وذلك عبارة عن تكوين الله إياه. فدل هذا النص : على أن إيمان العبد ، وجميع طاعاته ، حصل بتكوين الله وإيجاده.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (٣) وذلك لأن قوله : (أَغْفَلْنا) على وزن قوله : أحيينا وأمتنا. فكما أن هذا يفيد خلق الحياة ، فكذا قوله : (أَغْفَلْنا) وجب أن يفيد خلق الغفلة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد بقوله : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) إنا وجدنا قلبه غافلا. ولا يكون المراد منه : خلق الغفلة. والدليل عليه : ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيدي ، أنه قال لبني سليم : «قاتلناكم فما أجبناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم ، وهجوناكم فما أفحمناكم» أي : ما وجدناكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين.

ثم نقول : حمل هذا اللفظ ، على هذا المعنى : أولى. والدليل عليه : أنه لو كان المراد ، هو أنه تعالى جعل قلبه غافلا ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا. فاتبع هواه. لأن هذا على هذا التقدير يكون من أفعال المطاوعة. وهي إنما تعطف بالفاء ، لا بالواو. ومنه قولهم : كسرته

__________________

(١) سورة الحج ، آية : ١٤.

(٢) سورة النحل ، آية : ٤٠.

(٣) سورة الكهف ، آية : ٢٨.

فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر واندفع.

والجواب عن الأول من وجهين :

الأول : إن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدها ، مجاز في الآخر. وجعله حقيقة في التكوين ، مجازا في الوجدان : أولى من العكس. ويدل عليه وجوه :

الوجه الأول : إن مجيء هذا البناء بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان. والكثرة دليل الرجحان.

الثاني : إن مبادرة الفهم إلى التكوين ، أكثر من مبادرته إلى الوجدان. أعني : من هذا اللفظ ، ومبادرة الفهم دليل كونه حقيقة فيه.

الثالث : إنا إن جعلناه حقيقة في التكوين ، أمكن جعله مجازا عن الوجدان ، لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في الأصل ، مجازا في التبع ، موافق للعقول. أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان ، مجازا في الوجود ، لزم جعله حقيقة في التبع ، مجازا في الأصل ، وإنه على خلاف المعقول.

والوجه الثاني في الجواب : إنا نسلم كون اللفظ ، بالنسبة إلى هذين المفهومين. إلا أنا نقول : يجب حمل قوله : (أَغْفَلْنا) على خلق الغفلة. وذلك لأن العبد يمتنع كونه موجدا لغفلة نفسه. والدليل عليه : أنه إذا حاول إيجاد الغفلة. فإما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين. والأول باطل. وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا أولى من أن تحصل له الغفلة عن ذاك. لأن الطبيعة الحسنة ، نسبتها إلى كل الأنواع على السوية. وأما الثاني. فهو أيضا محال. لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر الغفلات ، إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين ، فلا يمكنه أن يقصد إلى إيقاع الغفلة عن كذا ، إلا إذا اعتقد كونه غفلة عن كذا. ولا يمكنه أن يعتقد كون هذا الاعتقاد غفلة عن كذا ، لا إذا تصور ذلك الشيء. لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر ، مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين.

فثبت : أنه لا يمكنه أن يقصد إلى تحصيل الغفلة عن كذا ، إلا مع الشعور بكذا ، لكن الغفلة عن كذا مضادة للشعور. فثبت : أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة ، إلا عند اجتماع الضدين. وهذا محال ، فوجب أن يكون ذاك أيضا محالا. وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه لا موجد لغفلات العباد إلا الله تعالى. وهذه نكتة قاطعة عقلية في بيان أن خالق الغفلات هو الله تعالى. وحينئذ نجعل نص القرآن مؤكدا لهذا البرهان. فثبت أن قوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) لا يمكن حمله ، إلا على خلق الغفلة في القلب.

أما قوله : «لو كان المراد ذلك ، لكان الواجب ذكر الفاء ، لا ذكر الواو».

فجوابه : إن هذا إنما يلزم لو كان اتباع الهوى من لوازم الإغفال عن ذكر الله ، كما أن الانكسار من لوازم الكسر. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، لأنه لا يلزم من صيرورة الإنسان غافلا عن ذكر الله ، صيرورته متبعا للهوى. لاحتمال أن يكون الغافل عن ذكر الله ، لا يصير متبعا للهوى. بل يبقى متوقفا ، لابثا في حيز الحيرة. فسقط ما قالوه.

الحجة السابعة : إن الله تعالى أخبر عن أكابر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أنهم اعترفوا بأن الكفر والإيمان من الله. فقال حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (١) وقال حكاية عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) (٢) إلى قوله : (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) (٣) وقال حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) (٤) وقال لمحمد صلوات الله عليه وسلامه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٥) وكل هذه النصوص دالة على أن الإيمان والكفر من الله.

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٣٥.

(٢) سورة يوسف ، آية : ٣٣.

(٣) سورة يوسف ، آية : ٣٤.

(٤) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.

(٥) سورة الإسراء ، آية : ٧٤.

فإن قيل : هذا محمول على فعل الألطاف ، أو على الحكم والتسمية. قلنا : سبق الجواب عن الكل ، على سبيل الاستقصاء.

الحجة الثامنة : قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ومجيء ما يجري مجرى هذا اللفظ في القرآن كثير. فنقول : إن فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون الله قادرا عليه ، بحكم هذا النص ، فثبت : أن مقدور العبد ، مقدور لله تعالى ، فوجب أن يقع بقدرة الله تعالى. لأنه لو وقع بقدرة العبد ، لامتنع على الله تعالى إيقاعه. لأن إيجاد الموجود محال. وذلك يفضي إلى أن العبد يعجز عن فعله. وذلك محال.

فإن قيل : قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عام دخله التخصيص من وجوه : منها : إن ذات الله وصفاته أشياء ، وهو غير قادر عليها. ومنها : إن الجواهر ـ حال بقائها ـ أشياء. وهو تعالى غير قادر عليها. لأن إيجاد الموجود محال. ومنها : إن الحركة شيء ، ثم إن إيجادها حال حصول ضدها محال. ومنها : إن الجوهر شيء ، ثم إن إيجاده حال عدم العرض محال. فثبت : أن هذا عام دخله التخصيص. فتصير دلالة هذا العام ظنية.

سلمنا : أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، فلم قلتم : إنه يجب وقوعه بقدرة الله تعالى ، وما ذكرتموه من التعجيز ، فهو لازم عليكم. لأنه تعالى إذا خلق شيئا ، امتنع عليه أن يخلقه مرة أخرى. فيلزمكم أن تقولوا : إن الله تعالى أعجز نفسه ، وهو محال.

والجواب : إنا ذكرنا مرارا : أن هذه الدلائل السمعية ظنية. وأما قوله : «يلزمكم أن الله إذا خلق شيئا ، أن يكون قد أعجز نفسه» قلنا : الإعجاز هو أن يصير بحيث لا يمكنه أن يفعل ما كان يمكنه أن يفعل ، بسبب منفصل. فالمقدور الواحد ، إذا كان مقدورا لله تعالى وللعبد. فإذا فعله العبد ، امتنع بهذا السبب أن يفعله الله تعالى ، فكان هذا تعجيزا. لأن هذا التعذر إنما جاء

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

بسبب منفصل ، بخلاف ما إذا خلق الله ذلك الفعل. فإن التأثير قد حصل منه وبه ، فكيف يكون تعجيزا؟.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) ومعلوم أن كون الإنسان منصورا على الغير. إما أن يكون بأفعال الجوارح. كما إذا تصارع رجلان ، ثم إن أحدهما يصرع الآخر. أو بالعلم واللسان ، كما إذا أغلب أحدهما صاحبه بالحجة والبرهان. فإذا كان النصر لا معنى له إلا ذلك. وكل ذلك فعل العبد ، ثم دل هذا النص ، على أن النصر ليس إلا من الله ، ثبت : أن فعل العبد حاصل بإيجاد الله.

فإن قيل : النصر قد يكون بتقوية القلب ، وبالإمداد بالملائكة ، وبإزالة الخوف عن القلب. وكل ذلك من الله. قلنا : هب أن ما ذكرتموه يسمى بالنصر ، إلا أن الأفعال المؤثرة في الغلبة ، لا شك أنها أيضا مسماة بالنصر. فلما قال تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) دخل فيه ما ذكرتم وما ذكرنا. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ ، مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٢) ومعلوم أن وقوف الطير في الهواء ، فعل اختياري لذلك الطير. وهذا يدل على أن الأفعال الاختيارية للحيوانات مخلوقة لله تعالى.

فإن قيل : المراد بالإمساك : إعطاء الآلات والقدر ، التي بها يتمكن الحيوان من فعل ذلك الاستمساك. قلنا : هذا عدول عن الظاهر. والأصل عدمه.

الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٣)

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٢٦.

(٢) سورة النحل ، آية : ٧٩.

(٣) سورة طه ، آية : ٢٥.

وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟) (١) وقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) ولا معنى لانشراح الصدر ، إلا حصول العلوم والمعارف. فهذه النصوص كلها دالة على أن المعارف والعلوم إنما تحصل بخلق الله تعالى.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من شرح الصدر ، إزالة الخوف والغم والحزن عنه ، بحيث لا يتأذى بكل ما يسمع من المكروهات؟ فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن كل ما يتعلق بالإقدار والتمكين ، وإزالة الموانع والعلل ، كان حاصلا قبل أن قال موسى ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) فيمتنع حمل هذا السؤال على تلك الأشياء.

الثاني : قيد هذا الشرح بالإسلام. فقال : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ثم قال : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) وذلك النور ليس إلا المعرفة. والله أعلم.

الحجة الثانية عشر : أنه كما قال أولا : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال بعده : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) وهذا الأمر مجمل ، فوجب حمله على ما تقدم ذكره ، وهو قيامه بتبليغ الرسالة ، وشروعه في تلك المهمات على الوجه الأبلغ الأحسن. ولا يمكن حمل هذا التيسير على الإقدار ، وإزاحة العلل والأعذار. لأن كل ذلك ، كان حاصلا قبل هذا الدعاء. فوجب حمل هذا السؤال على خلق المعرفة والطاعة.

الحجة الثالثة عشر : قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (٣) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : إنه تعالى إن كان لا يزيغ القلوب البتة ، ولا يجوز أن يصدر عنه

__________________

(١) سورة الشرح ، آية : ١.

(٢) سورة الزمر ، آية : ٢٢.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ٨.

هذا الفعل ، كان هذا الدعاء طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال.

الثاني : إن القلب صالح ، لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر. ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبيين إلا لمرجح. وذلك المرجح هو حدوث داعية وإرادة في القلب. ولا يمكن أن يكون حدوث تلك الإرادة ، لإرادة أخرى. وإلا وقع التسلسل. فهي إرادة تحدث بإحداث الله تعالى. ثم تلك الداعية وتلك الإرادة. إن كانت داعية الكفر. فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والدين والقسوة والوقر والكنان. وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن. وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان ، فهي التوفيق والإرشاد والهداية والتسديد والعصمة. وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» والمراد من هاتين الإصبعين : هاتان الداعيتان. فكما أن الشيء الذي يكون بين إصبعي الإنسان يقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الإصبعين فكذلك القلب لوقوعه بين داعيتي الفعل والترك يتقلب كما يقلبه الحق ـ سبحانه ـ بواسطة تينك الداعيتين. ومن أنصف ولم يتعسف ، وجرب نفسه ، وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس. ولو جوّز العاقل حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ، لزمه نفي الصانع.

وكان صلوات الله عليه يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك» ومعناه : ما ذكرناه. فلما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : «آمنا» بالمحكمات والمتشابهات ، وأن كلها «من عند» الله ، حكى عنهم أنهم تضرعوا في أن لا يجعل قلبهم مائلا إلى الباطل ، بعد أن جعله مائلا إلى الحق. فهذا كلام عقلي برهاني قاطع متأكد بهذا التقرير القرآني.

فإن قيل : لما دلت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يخلقه الله تعالى ، وجب حمل هذه الآية على التأويل. وهو من وجوه :

الأول : قال «الجبائي» : المراد بقوله : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تمنعها الألطاف التي معها تستمر القلوب على صفة الإيمان. وذلك لأنه تعالى لما منعهم

ألطافه عند ما صاروا مستحقين لذلك المنع ، جاز أن يقال : إنه تعالى أزاغهم. ويدل على صحة هذا الوجه : قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا ، أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١).

قال : «أبو بكر الأصم» : معناه : لا تسلط علينا بلايا ، تزيغ عندها قلوبنا. وهو كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ : أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ. ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٢) وقال : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ، لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (٣) فصار حاصل هذا الوجه : لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معها من الزيغ. وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك ، وعلى سوء الأدب عندك. أي لا تفعل بي ما أصير عنده سيئ الأدب عندك.

الثالث : قال «الكعبي» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تسمنا باسم الزائغ ، كما يقال: فلان يكفر فلانا ، إذا سماه كافرا.

الرابع : قال «الجبائي» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن طريق الجنة ، ودار الثواب. ويرجع حاصله إلى فعل الألطاف. فيكون هذا هو الوجه الأول. أو يحمل ذلك على شيء آخر. وهو أنه تعالى : إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية : كفر. فقول : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) محمول على أن يميته قبل أن يصير كافرا. فإن أبقاه حيا إلى السنة الثانية ، يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة.

الخامس : قال «الأصم» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن كمال العقل بسبب خلق الجنون فينا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنور العقل.

السادس : قال «أبو مسلم الأصفهاني» : احرسنا من الشيطان ، ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ.

__________________

(١) سورة الصف ، آية : ٥.

(٢) سورة النساء ، آية : ٦٦.

(٣) سورة الزخرف ، آية : ٣٣.

والجواب :

أما التأويل الأول : فضعيف. لأن مذهبهم : أن كل ما أمكن في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم من الألطاف ، فقد وجب ذلك وجوبا ، لو ترك لبطلت إلهيته ، ولصار جاهلا أو محتاجا. والشيء الذي يكون ، فأي حاجة إلى الدعاء والتضرع في طلبه؟

وأما الثاني : فضعيف أيضا. لأن التسديد في التكليف. إن علم الله أن له أثرا في حمل المكلف على القبيح ، كان فعله من الله قبيحا. وإن علم أنه لا أثر له في حمل المكلف على فعل القبيح ، كان وجوده كعدمه ، فيما يرجع إلى كون العبد مطيعا وعاصيا. فلا فائدة في صرف الدعاء إليه.

وأما الثالث : وهو أن يكون المراد أن لا يوقع الله علينا اسم الزيغ. فقد تقدم جوابه.

وأما الرابع : فجوابه : أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية ، يوجب عليه أن يميته في الحال ، لكان علمه بأنه يكفر طول عمره ، يوجب عليه أن لا يخلقه البتة.

وأما الخامس : وهو حمله على إبقاء العقل. فضعيف. لأن هذه الآية متعلقة بما هو مذكور قبل هذه الآية. وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).

وأما السادس : وهو أن يحمل ذلك على الحراسة من الشيطان ، ومن شرور النفس. فنقول : ذلك إن كان مقدورا لله ، فقد وجب فعله ، فلا فائدة في طلبه. وإن لم يكن مقدورا فلا فائدة في الدعاء. فظهر بما ذكرنا : سقوط جملة هذه الوجوه.

ثم نقول : المصير إلى هذه التأويلات. إنما يحسن إذا دل الدليل على تعذر إجراء هذا النص ، فهو الحق الصريح. وإذا كان كذلك ، فكيف يصار فيه إلى التأويل.

الحجة الرابعة عشر : قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وجه الاستدلال : إن لفظ السيئة يقع على البلية تارة ، وعلى المعصية أخرى. وأيضا : الحسنة تقع على النعمة تارة ، وعلى الطاعة أخرى. قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢) وقال : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) أي الطاعات والمعاصي.

إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) يفيد العموم في كل الحسنات. وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يفيد العموم في كل السيئات. ثم قال بعده : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله تعالى. ولما ثبت أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة ، ودل هذا النص على أن جميع الحسنات والسيئات من الله ، لزم القطع بأن جميع المعاصي والطاعات من الله تعالى.

فإن قيل : المراد هاهنا بالحسنة والسيئة ، ليس هو الطاعة والمعصية. ويدل عليه وجوه:

الأول : اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم ، وقت مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين ، أمسك الله عنهم بعض الإمساك ، كما جرت عادته في جميع الأمم. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ ، مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) (٤) فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل. نقصت ثمارنا ، وغلت أسعارنا ، منذ قدم. فكان قوله : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار. قالوا : (هذا مِنْ عِنْدِ

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٧٨.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١٦٨.

(٣) سورة هود ، آية : ١١٤.

(٤) سورة الأعراف ، آية : ٩٤.

اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) وهي الجدب وغلاء الأسعار. قالوا : هذا من شؤم محمد ـ عليه‌السلام ـ فثبت : أن المراد هاهنا من الحسنة والسيئة ليس هو الطاعات والمعاصي ، بل الرخص والقحط.

الثاني : إن الحسنة إذا أريد بها الخير والطاعة. لا يقال فيها : أصابتني. وإنما يقال : أصبتها. وليس في كلام العرب : أصابت فلانا حسنة. بمعنى أنه عمل خيرا ، وأصابته سيئة بمعنى عمل معصية. بل نقول : لو كان المراد ما ذكرتم ، لقال : إن أصبتم حسنة.

الثالث : لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعات ، وعلى المنافع الدنيوية ، وهاهنا أجمع المفسرون على أن المنافع مرادة ، فيمتنع كون الطاعات مرادة. ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا.

الرابع : إنه تعالى قال بعد هذه الآية : ما دل على أن المراد بالحسنة والسيئة في هذه الآيات ، ليس هو الطاعات والمعاصي. وبيانه من وجهين :

الأول : إن تعالى قال بعد هذه الآية : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ ، لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ولو كان حصول العلم والمعرفة بخلق الله ، لم يبق لهذا التعجب معنى. لأن السبب في أن لا تحصل هذه المعرفة على قول من يقول خالق أعمال العباد هو الله : هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها. وذلك يبطل هذا التعجب. فلما حصل هذا التعجب ، دل ذلك على أن العلم والمعرفة إنما يحصلان بإيجاد العبد.

الثاني : إنه تعالى قال بعد هذه الآية : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وجه الاستدلال به : أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة ، وتارة يقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه بقوله : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأضاف السيئة في آخر هذه الآية إلى العبد بقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ولا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين. ولما كانت السيئة بمعنى البلية والمحنة ، مضافة إلى الله تعالى ، وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية ، مضافة إلى العبد ، حتى

يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين.

ولا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : إن بعضهم قرأ (فَمِنْ نَفْسِكَ) (١)؟

الثاني : إنه تعالى أضاف الحسنة إلى نفسه ، حيث قال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) تعالى ، وعند المعتزلة : أن الطاعات والمعاصي كلها من العباد. لأنا نقول : أما الأول. فجوابه : من وجهين :

الأول : إن هذه القراءة مهجورة مردودة ، وأنها جارية مجرى تغيير القرآن على سبيل التصحيف والتحريف. وهي طريقة مذمومة.

الثاني : إن القراءة التي تمسكنا بها ، لا يمكن الطعن فيها. فإنها متواترة. وهي تدل على قولنا. وإذا ثبت ذلك فنقول : هذه القراءة الشاذة. إن كانت منافية لتلك القراءة المتواترة ، وجب القطع بكونها مردودة ، وإن لم تكن منافية لها ، فهي لا تضرنا في هذا المطلوب.

وأما الثاني فجوابه : إنا إذا قلنا في الشيء المعين : إنه من فلان. فقد يراد منه : أنه بتخليقه وتكوينه. وقد يراد به : أنه هو الذي أقدره عليه وأعانه عليه وأزال الموانع العائقة منه ، وحصّل الشرائط المعتبرة فيه.

إذا ثبت هذا فنقول : أما كون السيئة من العبد ، فليس المراد أنها حصلت بإقدار العبد. وذلك لأن القدرة على المعصية ، ما حصلت من العبد البتة. ولما تعذر حمل اللفظ على هذا ، وجب حمله على أن المراد منه : أنها حصلت بإيجاده وتكوينه. وأما كون الحسنة من الله ، فهو يحتمل أن يكون المراد

__________________

(١) في تفسير القرطبي ؛ «وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة. والمعنى : أ«فمن نفسك؟ ومثله : قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ؟) والمعنى : أو تلك نعمة؟ وكذا قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً ، قالَ : هذا رَبِّي؟) أي : أهذا ربي؟ قال أبو خراش الهذلي :

رموني. وقالوا : يا خويلد ، لم ترع

فقلت ـ وأنكرت الوجوه ـ : هم هم؟

أراد «أهم»؟ فأضمر ألف الاستفهام» انظر تفسير الآية ٧٩ من سورة آل عمران في تفسير القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. والقراءة على الاستفهام قراءة شاذة.

منه : أنها حصلت بإقدار الله وبإعانته عليه ، فوجب حمل اللفظ عليه ، إزالة للتناقض بين الآيات.

قوله : «المراد من الحسنة والسيئة ؛ المنافع والمضار» قلنا : قد بينا أن لفظ الحسنة والسيئة ، كما يتناولان المنافع والمضار ، فقد يتناولان الطاعات والمعاصي. فتخصيصه بأحدهما تحكم محض.

قوله : الآية إنما نزلت في المنافع والمضار ، والخصب والجدب قلنا : العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

قوله : «لا يقال في الطاعات والمعاصي ، إنها أصابتني» قلنا : لا نسلم. فإنه يجوز أن يقال : أصابني توفيق من الله ، وعون من الله. وفلان أصابه خذلان من الله. والمراد من ذلك : التوفيق والعون لتلك الطاعة ، أو ما يرجح جانبه على جانب المعصية.

قوله : «لفظ الحسنة والسيئة ، بالنسبة إلى المعنيين مشترك ، فلم يمكن حمله عليها» قلنا : لا نسلم أنه مشترك ، بل متواطئ. وذلك لأن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة. ثم إنه إن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة ، وإن كان منتفعا به في الدنيا ، فهو النفع الحاضر. فثبت : أن هذا اللفظ بالنسبة إلى هذين الأمرين متواطئ ، لا مشترك ، فكان متناولا لكل واحد من القسمين.

قوله : «لو حملنا الحسنة والسيئة هاهنا على الطاعات والمعاصي ، لزم التناقض بين أول الآية وبين آخرها» قلنا : لا نسلم. أما قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فنقول : وجه تمسك الخصم به : أن المدح والذم لا يصحان ، إلا إذا كان العبد موجدا. وسيأتي الجواب عن هذه الشبهة ، إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فالجواب عن تمسكهم به من وجوه :

الأول : إنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (١) أضاف المرض إلى نفسه ، والشفاء إلى الله. ولم

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية : ٨٠.

يقدح ذلك في إقراره بأن خالق المرض والشفاء ، هو الله تعالى. فكذا هاهنا. أضاف السيئة إلينا ، والحسنة إلى نفسه. ولا يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للكل.

الثاني : إن أكثر المفسرين. قالوا في تفسير قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (هذا رَبِّي) (١) : أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الإنكار. كأنه قال : هذا ربي؟ فههنا يحتمل أن يكون المراد ذلك. كأنه قيل : الإيمان الذي وقع على وفق قصده : من الله. والكفر الذي وقع خلاف قصده : من نفسه. وهذا محال. لأنه لو وقع بإيقاعه ، لما وقع إلا ما قصده واختاره. فلما حكمنا بأن الإيمان الذي وقع على وفق قصده : من الله ، لا منه. فكيف يمكن أن يقال : الكفر الذي وقع على خلاف مقصده : منه؟

والحاصل : إن قوله : «وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك؟» : محمول على الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، حتى يلزم التناقض بين أول الآية وآخرها. ومما يدل على أن المراد من قوله : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : جميع الممكنات والمحدثات وجهان :

الأول : البرهان القاطع العقلي. وهو أن كل موجود. فهو إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته. والواجب لذاته واحد. وهو الله ـ سبحانه ـ والممكن لذاته كل ما سواه. ثم إن الممكنات لذاته ، إن استغنى عن المؤثر ، فحينئذ ينسد باب الاستدلال بحدوث العالم وبجوازه على وجود الصانع ، ويلزم نفي الصانع. وأما إن كان الممكن لذاته ، محتاجا إلى المؤثر ، وجب أن يثبت هذا الحكم في جميع الممكنات ، وأن لا يختلف لكونه حيوانا أو جمادا ، أو فلكا أو ملكا ، أو حركة أو سكونا ، أو فعلا أو قولا. لأنه لما كان الإمكان منشأ للحاجة ، وجب تحقق الحاجة في جميع الممكنات. ولأجل قوة هذا البرهان وظهوره. قال سبحانه : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ ، لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) على سبيل التعجب. لأنه لما كان الإمكان هو المنشأ للحاجة. فالحكم في بعض

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ٧٦.

الممكنات بالحاجة ، وفي بعضها بعدم الحاجة : عجيب خارج عن المعقول.

والوجه الثاني في بيان ما ذكرناه : أنه تعالى قال في آخر هذه الآية : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ، فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى ، فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يعني : ما أرسلناك إليهم ، لأجل أن تجعلهم مؤمنين ، عارفين واصلين إلى الحق. فإن ذلك ليس في وسعك. بل لا يحصل ذلك إلا بقدرتي وإرشادي.

وهذا آخر تقرير هذه الحجة. والله أعلم.

الحجة الخامسة عشر : الإيمان حسنة ، وكل حسنة فمن الله ، ينتج : أن الإيمان من الله. بيان المقدمة الأولى : إن الحسنة هي الفعل الخالي عن جميع جهات القبح ، والإيمان كذلك. فكان حسنة. ولأنهم اتفقوا على أن قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً : مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (١) المراد به : كلمة الشهادة وقيل في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٢) : إن ذلك هو قول : لا إله إلا الله. فثبت : أن الإيمان حسنة.

وإنما قلنا : إن كل حسنة فمن الله. لقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وهو نكرة في موضع الشرط ، فيفيد الاستغراق. وإذا ثبت أن الإيمان من الله ، وأردنا أن نبين أيضا : أن الكفر من الله تعالى. فلنا فيه وجوه :

الأول : إنه لا قائل بالفرق.

الثاني : العبد لو قدر على إيجاد الكفر. فالقدرة الصالحة لإيجاد الكفر. إما أن تكون صالحة لإيجاد الإيمان ، أو لا تكون. فإن كان الأول فحينئذ يعود ذلك إلى القول بأن إيمان العبد منه. وإن كان الثاني فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده. وذلك عندهم باطل. وأيضا : على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور. وذلك عندهم يمنع من كون القادر قادرا على الفعل. فثبت : أنه لما لم يكن الإيمان منه ، وجب أن لا يكون الكفر منه.

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٣.

(٢) سورة النحل ، آية : ٩٠.

الثالث : إن العبد لما لم يكن موجدا للإيمان. فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى. وذلك لأنك لا ترى في الدنيا إنسانا يرضى بالكفر والجهل والضلال. بل إنما يريد الحق والإيمان. فلما نص تعالى على أن الإيمان الذي وقع على قصده ، ليس منه ، بل من الله. والكفر الذي وقع على خلاف قصده بأن لا يكون منه ، بل من الله : كان أولى.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الإيمان من الله ، هو أن الله أقدره عليه ، وهداه إليه؟ قلنا : فعلى هذا التقدير. الذي من الله هو الاقدار والتمكين. فأما تعين الإيمان فليس من الله. وهو على خلاف الآية. وأيضا : فجميع الشرائط مشتركة بالنسبة إلى الإيمان والكفر. وهو القدرة ، والعقل. والدلائل. ثم إن العبد باختيار نفسه ، أوجد أحد الضدين دون الآخر. فلا بد وأن يكون ذلك بإعانة الله ، وبترجيح داعيته على ما حققنا هذا الكلام في دليل الداعي. وهو المطلوب. والله أعلم.

الحجة السادسة عشر : لو لم يكن الإيمان بخلق الله ، لما حسن من العبد أن يحمد الله على الإيمان. وقد حسن ذلك ، فوجب أن يكون الإيمان بخلق الله تعالى. بيان الملازمة : بالنص والمعقول. أما النص : فهو أنه تعالى حكم بأن كل من أحب أن يحمد على ما لم يفعل ، كان مذموما. قال تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (١) وأما المعقول. فهو أن الحمد في اللغة عبارة عن مدح الفاعل على الإحسان الذي صدر منه. فإذا لم يكن الفعل فعلا له ، امتنع مدحه عليه. وإنما قلنا : إنه يحسن من العبد أن يحمد الله على الإيمان : لإطباق الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنا بحمد الله على الإيمان ، بمعنى : أنه تعالى أعاننا على الإيمان ، وأقدرنا عليه ، وأرشدنا إلى كيفية تحصيله؟ وأيضا : فمذهب «ثمامة بن الأشرس» إنا لا نحمد الله على الإيمان ، بل الله تعالى

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٨٨.

يحمدنا عليه. كما قال تعالى : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١) وقال : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (٢) وقال : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) (٣).

والحاصل : إنا نحمد الله على الإقدار على الإيمان. والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان. وعند هذا قال : «ثمامة» : لا يجوز أن يقال : الحمد لله على نعمة الإيمان ، ومنع هذا الإجماع.

والجواب عن الأول : إن الإيمان غير ، والقدرة على الإيمان غير. فهب أنا نشكره على أن أعطانا القدرة على الإيمان ، لكن كيف نشكره على الإيمان ، مع أنه تعالى ما أعطانا الإيمان؟

وأما السؤال الثاني فهو باطل. لأن إجماع الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان : معلوم بالتواتر. فكان منكره منكرا للإجماع. والذي يدل على أن هذا الإجماع معلوم بالتواتر : أن المعتزلة ذكروا أن «ثمامة بن الأشرس» إنما منع هذا الإجماع عند «جعفر بن حرب» جوابا عن كلام رجل من أهل السنة ، احتج بهذا الدليل. قالوا : فلما سمع «جعفر بن حرب» هذا الكلام ، قال : لما شنعت هذه المسألة ، سهلت. وهذا يدل على أن «جعفر بن حرب» كان معترفا بأن منع هذا الإجماع : شنيع.

وأما الآيات الدالة على كون العبد مشكورا على الطاعات : فهي لا تنافي كون الله تعالى مشكورا على تلك الطاعات. لأن الشكر هو التعظيم. وتعظيم العبد لله ، ليس إلا المدح والثناء. وتعظيم الله للعبد ، ليس إلا إيصال الثواب إليه. ولا منافاة بين الأمرين. فثبت: أن كون العبد مشكورا على الطاعات ، لا ينافي كون الله مشكورا عليها. والله أعلم.

الحجة السابعة عشر : قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية : ١٩.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٥٨.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ١١٥.

وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) (١) وإيتاء الرشد ، ليس عبارة عن أصل العقل وسلامة المزاج. لأن ذلك حاصل في حق الأكثرين. فلا يجوز ذكره في معرض المنة عليه. وليس المراد أيضا : التوفيق والبيان. لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار. فوجب أن يكون المراد : ما حصل عنده من العلوم الكثيرة والأفعال الشريفة. وذلك يدل على أن أفعال العبد تحصل بخلق الله تعالى.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الرشد : النبوة؟ والدليل عليه : قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وذلك لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب عن كل ما لا يليق بها. ولذلك قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢).

سلمنا ذلك. فلم لا يجوز أن يقال : المراد من هذا الرشد ، هو ما آتاه الله من العقل والفهم الكامل؟ قوله : «العقل حاصل في حق الكل» قلنا : لفظ الرشد إنما يطلق فيمن انتفع بعقله واستعمله في تحصيل مصالحه. والجواب : إن الرشد هو الاهتداء إلى وجوه المصالح. قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً. فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٣) ولا يمكن أن يكون المراد والتعظيم ، ولا يجوز تخصصه بالنبوة. لأن لفظ الرشد ، مطلق ، فتقييده بالنبوة خلاف الظاهر ، فوجب حمله على كل ما كان حاصلا له من العلوم والأفعال الشريفة. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة الثامنة عشر : قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ، أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤) دل هذا النص : على أنه تعالى أوقع الإغراء بينهم ، حتى تقاتلوا. ولا شك أن تلك العداوة المقاتلة : أفعال قبيحة. فإن قالوا : قوله : (بَيْنَهُمُ) راجع إلى النصارى ، وإلى من تقدم ذكرهم من اليهود ، فالله تعالى

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٥١.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٢٤.

(٣) سورة النساء ، آية : ٦.

(٤) سورة المائدة ، آية : ١٤.

أغرى بين النصارى واليهود ، فيما كان يفعله كل فريق منهم من ضروب الكفر بالله. وإنكار القبيح ليس بقبيح ، بل هو حسن. فدل ذلك على أن تلك العداوة ، ليست من القبائح.

والجواب : إن إنكار القبيح إنما يحسن إذا أنكره ، لكونه قبيحا. أما إذا أنكره لغرض أن يدعوه إلى قبيح آخر ؛ كان قبيحا. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة التاسعة عشر : قوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، مِنْ رَبِّكَ : طُغْياناً وَكُفْراً. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) والاستدلال به من وجهين:

الأول : إن قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ، ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ : طُغْياناً وَكُفْراً) معناه : أن إسماع الله إياهم هذه الآيات ، اقتضى أن يحصل لهم زيادة ميل ورغبة في الكفر. إذا ثبت هذا فنقول : إسماع تلك الآيات ، اقتضى ترجيح فعل الكفر على فعل الإيمان. وقد دللنا على أن عند حصول الرجحان يجب الفعل. فثبت : أن إسماع الله تعالى إياهم هذه الآيت ، يستلزم حصول الكفر. وذلك ينافي قول المعتزلة.

والوجه الثاني في الاستدلال : قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والاستدلال به كما تقدم.

الحجة العشرون : الاستدلال بجميع آيات الهدى والضلال. وسنفرد لذلك بابا على سبيل الاستقصاء. ولنقتصر من ذكر الدلائل القرآنية على هذا القدر. فإن من وقف على ما ذكرناه ، أمكنه الاستدلال بآيات القرآن من وجوه كثيرة ، خارجة عن الحصر. وبالله التوفيق.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٤.

الباب الثالث

في

الدلائل الاخبارية في هذه المسألة

الفصل الأول

في

أن التمسك بأخبار الآحاد

في هذه المسألة هل يجوز أم لا؟

اتفق الأصوليون على أنه لا يجوز. واحتجوا عليه بوجوه :

الحجة الأولى : إن خبر الواحد مظنون. فلا يجوز التمسك به في المسائل اليقينية. وإنما قلنا : إنه مظنون. لوجوه :

الأول : إن كل واحد من هؤلاء الرواة. إما أن يحصل القطع بأنه لا يجوز إقدامهم على الكذب ، أو لا يحصل هذا القطع. والأول باطل. لأن ذلك يقتضي القول بكونهم معصومين قطعا. وذلك باطل بإجماع المسلمين. وكيف لا نقول ذلك ، والروافض. لما ادعوا عصمة «علي بن أبي طالب» ـ رضي الله عنه ـ وبعض أولاده ، كفرهم أكثر المحدثين ، لهذا السبب. فكيف يجوز العاقل ادعاء عصمة هؤلاء الرواة؟ وأيضا : فنحن نعلم أن القول بعصمة كل واحد من هؤلاء المحدثين كذب وزور وبهتان. وأما الثاني : وهو إن سلموا بأنا لا نقطع بوجوب كونهم صادقين ، فعلى هذا التقدير يجوز كونهم كاذبين ، ومع هذا التجويز كيف يمكن القطع بصحة هذه الأخبار؟.

واعلم ؛ أن الآفة الكبرى في هذا الباب : أن هؤلاء المحدثين لا يميزون بين حس الظن وبين القطع واليقين. فنحن نسلم أنه يجب علينا إحسان الظن بهؤلاء الرواة. أما الجزم واليقين فلا سبيل إليه. وهؤلاء المحدثون ظنوا أن من سلم حسن الظن بهؤلاء الرواة ، فقد سلم الجزم واليقين. وذلك بعيد.

حضرت في بعض المجالس. فتمسك بعض الحشوية بما يروون : أنه عليه‌السلام. قال : «إن ابراهيم كذب ثلاث كذبات» فقلت : إنه لا يجوز إسناد الكذب إلى خليل الله بمثل هذا الخبر الذي لا يفيد إلا الظن الضعيف. فقال الحشوى ـ كالغضبان عليّ ـ كيف يجوز تكذيب الراوي؟ فقلت له : العجب منك ومن دينك ، حيث تستبعد تكذيب الراوي ، ولا تستبعد براءة خليل الله عن الكذب ، ولو قلبت القضية لكان أنفع لك في دينك ودنياك.

الوجه الثاني في بيان أن خبر الواحد : مظنون الصحة : إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا بالضرورة أن هذا الشّخص لا يمكننا أن نجزم بصحة قوله ، إلا إذا تأيد قوله بالمعجزات ، أو بشيء من قرائن الأحوال. فأما مجرد الخبر الصادر عن هذا الإنسان ، فإنه لا يبعد أن يكون كذبا ، والعلم بحصول هذا الجواز ضروري.

والثالث : أجمعنا على أن شهادة الشخص الواحد ، غير كافية. ولهذا السبب لما شهد «علي بن أبي طالب» مع «أم أيمن» في قصة «فدك» قال «أبو بكر» : لا بد من رجلين ، أو رجل وامرأتين. ولو كان قول الواحد يفيد العلم ، لوجب أن تكون شهادته كافية.

الرابع : إن قول الأربعة لا يفيد العلم. فقول الواحد أولى أن يفيده. إنما قلنا : إن قول الأربعة لا يفيد العلم ، لأنه لو جعل العلم بخبر أربعة ، لكان لا يجوز ورود التعبد بقبول شهادتهم ، لا إذا زكاهم المزكى ، ما لم يحصل العلم بصدقهم. لأن من المعلوم أن الحاكم إذا شهد عنده أربعة. بأن فلانا زنا بفلانة ، ولم يعلم الحاكم صدقهم. فإنه لا يرد شهادتهم ، بل يرجع في ذلك إلى المزكى. فإن حصلت التزكية قبل شهادتهم ، وإن حصل الجرح ردّها. ولو كان العلم يحصل بشهادتهم ، لكان يستغني عن الجرح والتعديل. فلما علمنا وجوب الرجوع إلى المزكى ، مع فقد العلم بما شهدوا ، علمنا أن خبر الأربعة لا يفيد العلم.

فثبت بهذه الوجوه الأربعة : أن خبر الواحد ، لا يفيد إلا الظن ، فوجب

أن لا يجوز التمسك به في المسائل القطعية.

الحجة الثانية على أنه لا يجوز التمسك بأخبار الآحاد في اليقينيات : أن نقول : أشرف طبقات الرواة : طبقة الصحابة ، ثم إن رواياتهم لا تفيد اليقين. أما في حق الصحابة. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن اظهر الأمور وأجلاها : أمر الأذان والإقامة. وذلك لأنه ـ عليه‌السلام ـ واظب عليهما مدة عشر سنين ، أو أكثر أو أقل. والكل كانوا يشاهدونه ، في كل يوم خمس مرات. والخلفاء الراشدون واظبوا عليها مدة ثلاثين سنة مع الجمع العظيم. ثم إن الرواة ما ضبطوا أحوال الأذان ، ولا أحوال الإقامة. أما أحوال الأذان. فهو أن الترجيح هل هو معتبر في الأذان أم لا؟ وأما الإقامة. فإنها هي فرادى أو مثناة؟ وليس لقائل أن يقول : لعلها كانت مرة فرادى ، ومرة مثناة. لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن ينقل الراوي أنها كانت مرة فرادى ، ومرة مثناة ، فلما عجزوا عن ضبط هذا القدر مع أن الكل شاهدوا هذه المدة الطويلة ، فكيف يبقى الوثوق برواياتهم في المسائل الدقيقة ، وفي المباحث الغامضة. مع أنهم ـ بزعمهم ـ ما سمعوها إلّا مرة واحدة؟.

ومن ذلك ما روي أنه ـ عليه‌السلام ـ أفرد الحج ، أو قارن ، أو تمتع. مع أن الحج : حجة واحدة ، ومع أنا نعلم أنه لم يأت بالجميع.

ومن ذلك أنه ـ عليه‌السلام ـ هل كان يرفع يديه عند الركوع والانتصاب؟ فابن مسعود ، روى عدم الرفع. وابن عمر روى حصول الرفع. ومرة ذكر أنه في التكبيرة الأولى ، كان يرفع يديه إلى حذو المنكبين ، أو إلى حذو الأذنين. فكل هذه الأمور أمور مشاهدة محسوسة. يكفي في معرفتها سلامة الحاسة وأصل العقل. فلما عجزوا عن ضبط هذا القدر ، فكيف يقدرون على ضبط المسائل الفقهية ، التي ما سمعوها إلا مرة واحدة. ثم إنهم ما كتبوا ذلك المجموع. بل اعتمدوا على مجرد حفظهم. ثم نقلوه بعد خمسين سنة أو أكثر.

الثاني : وهو أن المحدثين نقلوا طعن بعض القوم في البعض. وذلك يوجب رد الروايات. بيان المقدمة الأولى من وجوه :

أحدها : ما روي أن أبا موسى الأشعري ، استأذن على عمر ، ثلاث مرات. فلم يأذن له ، فرجع فبلغ ذلك عمر. فقال له : ما ردّك؟ فقال : سمعت النبي ـ عليه‌السلام ـ يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات ، فلم يأذن له ، فليرجع» فقال عمر : لتأتيني ببينة على صحة ما قلت ، وإلا آذيتك. وهذا يدل على أن عمر ، كان يتهم أبا موسى في تلك الرواية.

وثانيها : المخاصمة الشديدة التي وقعت بين عثمان وبين أبي ذر ، حتى نقل أن عثمان سير أبا ذر إلى الربذة. ونقل أيضا : أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعان من أضلاعه. وكان كل واحد منهما يعظم الطعن في صاحبه. وأيضا : إنهم حبسوا عثمان في داره ظلما وقتلوه.

وثالثها : ما نقل أن عليا ، كان يستحلف الرواة. ولو لا التهمة ، وإلا لما فعل ذلك.

ورابعها : المحادثة التي وقعت بين علي بن أبي طالب ، وبين طلحة ، والزبير ، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ وطعن كل واحد منهم في الآخر.

وخامسها : أن ابن مسعود ، كان يجتث المعوذتين من المصاحف ، ويقول : إنهما ليسا من القرآن. وسائر الناس أنكروا عليه ذلك. مع كون القرآن منقولا على سبيل التواتر. فما ظنك بسائر الأشياء.

وسادسها : روي أن معاوية كان يقول على منبر دمشق : إياكم وأحاديث رسول الله ـ عليه‌السلام ـ إلا حديثا كان في عهد عمر. فإن عمر كان يخيف الناس في الله. ولو لا معاوية اتهم أولئك الرواة ، وإلا لم يقل ذلك.

وسابعها : شما روى مسلم في صحيحه : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب. فقال: إني أجنبت ، فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت. فأما أنت فلم تصل. وأما أنا

فتيممت فصليت. فذكرت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عليه‌السلام : «يكفيك الوجه والكفان» فقال عمر : اتق الله يا عمار. فقال : إن شئت لم أحدث به.

وجه الاستدلال به : أن عمر لما قال لعمار. اتق الله. دل على أنه اتهمه في هذه الرواية. ولما قال عمار : إن شئت لم أحدث به ، فقد قويت التهمة. لأن عمارا إن كان صادقا في تلك الرواية ، فكيف يجوز له إخفاء الدين ، بسبب كراهية عمر لذلك ، وإن كان كاذبا فقد قويت التهمة.

وثامنها : نقل أن عائشة قالت : اخبروا زيد بن أرقم ، أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب مسلة العينة.

وتاسعها : أن ابن عباس ، لما قال : إن رسول الله عليه‌السلام ، رأى ربه ليلة المعراج. قالت عائشة : وقف شعري مما سمعت. من قال : إن محمدا رأى ربه ، فقد أعظم الفرية على الله. وهذا الكلام منها : طعن عظيم في ابن عباس.

وعاشرها : ما روى أن ابن عباس لم يقبل خبر أبي سعيد في ربا الفضل. وتمسك بما رواه عن أسامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ربا إلا في النسيئة».

وفي الجملة : فهذا القدر القليل يرشدك إلى وجدان أمثال هذه المطاعن في كتب التواريخ. وإذا ثبت هذا ، فنقول : هذا يوجب تطرق الطعن إليهم. لأن الطاعن ، إن صدق فقد صار المطعون فيه مجروحا ، وإن كذب فقد صار الطاعن مجروحا. وكيف كان فالجرح لازم.

الوجه الثالث في تقرير هذا الطعن : إن كثيرا من الصحابة طعنوا في أبي هريرة. وبيانه من وجوه :

أحدها : إن أبا هريرة روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصبح جنبا فلا صوم له» فرجعوا في هذه المسألة إلى عائشة ، وأم سلمة. فقالتا : كان النبي عليه‌السلام يصبح جنبا ، ثم يصوم. فذكروا ذلك لأبي هريرة. فقال : هما

أعلم بذلك. أنبأني بهذا الخبر : الفضل بن عباس. واتفق أنه كان ميتا في ذلك الوقت.

وثانيها : أنه لما روى قوله عليه‌السلام : «إذا استيقظ أحدكم فلا يغمسن يده في الإناء ، حتى يغسلها ثلاثا» قال ابن عباس كالمنكر لقوله : فما تصنع بمهر أستا؟

وثالثها : ما روي أن عمر رضي الله عنه منع أبا هريرة عن الرواية ، وعلاه بالدرة. فنقول : أبو هريرة إن كان صادقا في تلك الروايات ، صار عمر مطعونا فيه ، بسبب ذلك المنع ، وإن كان متهما فقد صار أبو هريرة مطعونا فيه.

ورابعها : إن أبا هريرة ، كان يقول : «حدثني خليلي أبو القاسم» فمنعه علي بن أبي طالب. وقال : متى كان خليلا لك؟.

وخامسها : إن البراء بن عازب ، طعن في أبي هريرة. وقال : سمعنا كما سمعوا. لكنهم حدثوا بما لم يسمعوا.

وسادسها : إن الأفاضل الذين صحبوا من أول المبعث إلى آخر الوفاة ، ما حدثوا إلا قليلا. كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ مع كثرة علومهم وقوة خواطرهم ، وشدة ملازمتهم لحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد النبي في إرشادهم وتعليمهم. وأما أبو هريرة فإنه لم يصل الى خدمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مدة قليلة. وهو في نفسه ، ما كان زائدا في الذكاء والفطنة على أبي بكر وعلي.

ثم إنه روى ألفي خبر ، وأكثر. وهو نصف الصحاح. وهذا يدل على الطعن الشديد. لأنه لو قدر في تلك المدة القليلة على تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، مع أن أبا بكر وعليا ، ما قدرا على عشر تحصيل تلك العلوم ، في المدة الطويلة ، لوجب القطع بأن أبا هريرة ، كان أفضل منهما ، وأكثر علما منهما. ومعلوم أن ذلك باطل.

ولا يقال : إن سائر الصحابة كانوا مشغولين بالتجارات ، وطلب الدنيا ، وأن أبا هريرة كان ملازما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لأنا نقول : إن أبا بكر ترك التجارة بالكلية ، واشتغل بخدمة النبي. وفي زمان الإمامة ، كان مقدم الأمة ، والمرجوع إليه في حل المشكلات ، وإزاحة المعضلات. فكان هو أولى بالرواية. فحيث لم يفعل ذلك ، علمنا أن تركه هذه الروايات كان أولى. باتفاق أكابر الصحابة. وحينئذ يتوجه الطعن في أبي هريرة.

الوجه الرابع في تقرير هذا الطعن : إنه ليس في جملة الأخبار الصحيحة خبر أظهر ولا أشهر عند المحدثين من الخبر المشتمل على شرح الإسلام والإيمان والإحسان. ثم إنه اضطرب هذا الخبر ، اضطرابا شديدا ، بسبب ما فيه من الزيادات والنقصانات. ونحن نذكر القدر الذي ذكره الشيخ أبو بكر الجوزقي في كتابه الذي سماه بالمتفق بين الشيخين. وهو أول خبر أورده في ذلك الكتاب. فروى بإسناده عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال :

بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوما بارزا للناس. فأتاه رجل. وقال يا رسول الله : ما الإيمان؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه. وتؤمن بالبعث الآخر. قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان. قال يا رسول الله : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فلو أنك لا تراه. فإنه يراك. قال يا رسول الله : متى الساعة؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها ، فذلك من أشراطها ، وإذا رأيت الحفاة العراة رءوس الناس ، فذلك من أشراطها. وإذا تطاول رعاة الغنم في البنيان ، فذاك من أشراطها. في خمس لا يعلمهن إلا الله. وتلا : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١).

قال الشيخ أبو بكر الجوزقي مصنف كتاب المتفق بين الشيخين : هذا الحديث ما اجتمع الشيخان على صحته ، وله طرق. في بعضها زيادات.

__________________

(١) سورة لقمان ، آية : ٣٤.

ثم ذكر طريقا ثانيا : وروى هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، أن رسول الله عليه‌السلام ، قال : «سلوني» فهابوا أن يسألوه. فجاء رجل ، فجلس عند ركبته. وقال يا رسول الله : ما الإسلام؟ قال : لا تشرك بالله شيئا. وزاد في الإيمان : هذا جبريل.

ثم طريقا ثالثا : عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفيه من الزيادات في ذكر الاسلام: قال : أن تصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وقال : الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر كله خيره وشره. وقال في آخره : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.

ثم ذكر طريقا رابعا : بإسناده عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من تكلم في القدر: معبد الجهني بالبصرة. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجا ، فلما قدمنا المدينة إذا نحن بعبد الله بن عمر. وذكر الحديث إلى : حدثني عمر بن الخطاب قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه شاب شديد سواد الشعر ، شديد بياض الثياب. لا نرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد. فجلس إلى رسول الله ، فألصق ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. ثم قال : يا محمد. ما الإيمان؟ فذكر الحديث مع هذه الزيادات.

ثم ذكر طريقا خامسا : وفيه من الزيادات : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان. قال : فإن فعلت هذا ، فأنا مسلم؟ قال : نعم. وقال : الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت. وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : فإذا فعلت ، فأنا مؤمن؟ قال : نعم. وقال : هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فخذوا عنه. والذي نفسي بيده : ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى

وأقول : هذه طرق خمسة ذكرها الشيخ أبو بكر الجوزقي. ورأيت في سائر الكتب اختلافات كثيرة ، أزيد من هذا. إلا أني اكتفيت بما ذكره هذا

الشيخ لكونه مقبولا عند كل المحدثين. وإذا كان حال هذا الخبر في الاضطراب والتفاوت هكذا ، مع أنه أقوى الأخبار الصحيحة. فما ظنك بسائر الأخبار التي ما بلغت في القوة إلى عشر درجة هذا الخبر؟

واعلم : أن من تأمل في كتب الأخبار ، عرف أن أكثرها مضطرب بسبب الزيادات والنقصانات ، بحسب الروايات المختلفة.

الوجه الخامس : إنا نعلم بالضرورة : أن الصحابة الذين نقلوا عن رسول الله هذه الأخبار. ما كانوا يكتبونها عند سماعها منه ، بل كانوا يكتفون بمجرد السماع. ثم إنهم بعد سماعها منه ، ما كانوا يقرءونها عليه عند حضوره لغرض تصحيح الغلط وإصلاح الفاسد. بل كانوا يكتفون بالسماع مرة واحدة. ثم ربما رووا ذلك الحديث بعد المدة بثلاثين سنة ، أو أربعين سنة ، أو خمسين سنة. وعند هذا يحصل القطع واليقين. بوقوع التفاوت الكثير في الألفاظ ، وفي المعاني.

أما في الألفاظ : فلأن الفقيه الذي اعتاد تلقف الدرس من الأستاذ ، وبلغ في هذه القدرة إلى الغاية القصوى ، إذا ألقى الأستاذ الدرس عليه مرة واحدة ، فإنه لا يمكنه أن يعيد ذلك الدرس بألفاظ الأستاذ بالكلية. بل لا بد وأن يقع فيه تغيير كثير في الألفاظ ، وتقديم وتأخير. ثم من المعلوم : أن هؤلاء الرواة تعودوا تلقف الدروس ، وما مارسوا هذه الصنعة. بل كانوا يسمعون ألفاظ الرسول عليه‌السلام ، ثم كانوا يعيدونها بعد السنين المتطاولة. فلما لم يقدر الفقيه المتعود لتلقف الألفاظ على إعادة ما سمعه في ذلك المجلس بتلك العبارة ، فبأن لا يقدر عليه الرجل الذي لم يتعود البتة ضبط الألفاظ بعد خمسين سنة ، إعادة تلك الألفاظ ، كان أولى.

وبالجملة : فالعلم الضروري حاصل بأن إعادة تلك الألفاظ بعين ذلك الترتيب ، غير مقدور البتة.

وأما أن إعادة تلك المعاني غير ممكن أيضا : فذاك. لأن رجلا كبيرا مهيبا. إذا جلس يحدث الناس ، وحضر عنده ، جمع عظيم. فإذا تفرقوا عن

مجلسه ، وحاول كل واحد من أولئك السامعين أن يحكي عين ما سمعه. فإنه يقع بينهم اختلاف شديد ، واضطراب عظيم ، بسبب الزيادة والنقصان في ذلك الكلام. فإذا كان الأمر كذلك مع قرب الزمان ، فكيف مع تطاول المدة ، وكثرة الوسائط ، وشدة رغبات المحدثين في وجوه التحريف والتغيير؟ فبهذا الطريق. ظهر أن هذه الأخبار المنقولة إلينا ، ليست ألفاظها ، ألفاظ صاحب الشريعة ، ولا معانيها تلك المعاني.

الوجه السادس من وجوه الطعن في أخبار الآحاد : إن من المحتمل أن يكون الحديث الذي رواه الراوي ، كان مسبوقا بكلام آخر ، فدخل هذا الراوي في أثناء الكلام ، ولم يسمع تلك المقدمة ، فيقل القدر الذي سمعه. وكان ذلك القدر حظى بانفراده. ولنذكر لهذا أمثلة :

المثال الأول : روى أن ابن عمر ، وأبوه عمر ـ رضى الله عنهما ـ كان ينهي كل واحد منهما عن البكاء على الميت. ويقول : سمعت رسول الله يقول : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه. فأنكرت عائشة رضي الله عنها ، على ذلك. وقالت : إن لكم في القرآن ما يكفيكم. قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ ، وِزْرَ أُخْرى) (١) والرسول ـ عليه‌السلام ـ إنما قال ذلك في حق يهودية ، وأهلها يبكون عليها : «إنهم يبكون وإنها لتعذب في قبرها» فإذا جاز أن يخفى على عمر ، وعلى ابنه عبد الله ذلك ، مع كثرة علمهما ، فما الظن بغيرهما.

المثال الثاني : لما رووا أن التاجر فاجر. قالت عائشة : إنه عليه‌السلام إنما قال ذلك في حق تاجر ، قد غش.

المثال الثالث : روى ابن مندة الأصفهاني في كتاب التوحيد ، عن ابن عطية. أنه قال: دخلنا على عائشة ، فقلنا : يا أم المؤمنين. إن ابن مسعود روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال: «من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله ، كره الله لقاءه» فقالت عائشة: رحم الله أبا عبد الرحمن. حدثكم بأول الحديث ، ولم تسألوه عن آخره. وسأحدثكم: «إن الله تعالى إذا

__________________

(١) سورة فاطر ، آية : ١٨.

أراد بعبد خيرا قيّض له ملكا قبل موته ، فسدده حتى يموت على الخير. فإذا رأى عند القرب من الموت مما يتنزل عليه من الرحمة والبركة ، أحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه ، وإذا أراد بعبد شرا ، قيض له شيطانا قبل موته ، فأغواه. فإذا حضره الموت رأى المكروه. فعند ذلك يكره لقاء الله ، ويكره الله لقاءه».

المثال الرابع : روي أنه عليه‌السلام قال : «ولد الزنا شر الثلاثة» فقال ابن عمر : بل ولد الزنا خير الثلاثة : والنبي عليه‌السلام إنما قال ذلك في ولد زنا بعينه.

فثبت : أن الكلام قد يكون مسبوقا بمقدمة ، ويتغير المعنى بسبب تغير تلك المقدمة. فإذا لم يسمعها الراوي ، تغير المقصود جدا.

الوجه السابع من وجوه الطعن : اختلاف الإعراب : فإن الحركات الإعرابية قد تخفى وتشتبه. فيتغير المعنى بسبب ذلك. كما في قوله : فحج آدم موسى. فإنك لو نصبت آدم ، كان المعنى شيئا. ولو رفعته كان المعنى ضد ذلك.

الوجه الثامن : أن الراوي قد يروي على سبيل التأويل : روى أن أبا هريرة كان في سفر ، فلما نزل القوم ، ووضعوا السفرة ، بعثوا إليه واحدا ، وهو يصلي. فقال : إني صائم ، فلما كادوا أن يفرغوا ، جاء أبو هريرة ، وشرع في الأكل ، فنظر القوم إلى رسولهم. فقال : ما تنظرون إلي؟ والله قد أخبرني أنه صائم. فقال أبو هريرة : صدق. سمعت رسول الله يقول : «من صام ثلاثة أيام من كل شهر ، فقد صام الشهر كله» وقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر. فأنا صائم الشهر كله. وتصديق ذلك في كتاب الله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١).

وأقول : لو أن أبا هريرة لم يكشف عن مراده ، لحصل التلبيس. ولكنه لما بين ذلك ، علموا أنه إنما قال ذلك على سبيل التأويل. وإذا كان كذلك فلا

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٦٠

شيء من الأخبار ، إلا ويجوز على الراوي أن يزيد فيه ، أو ينقص من جهة التأويل.

الوجه التاسع : لعل الراوي ما سمع ذلك الكلام. ثم يقول : قال رسول الله. روي عن ابن عباس ، البراء بن عازب ، أنه قال : ليس كل ما حدثتكم به ، فقد سمعته من رسول الله. إلا أنا لا نكذب. فصرح بأنه قد يضيف إلى رسول الله ما لم يسمع منه.

وروي : أن أبا هريرة روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أصبح جنبا ، فلا صوم له» فلما طولب بإثباته. قال : أخبرني به الفضل بن عباس.

الوجه العاشر : يجوز أن يعتقد بعضهم أن الحق كذا وكذا ، ثم يعتقد أن تقرير الحق بكل طريق أمكن جائز. فلهذا السبب ينقل عن الرسول عليه‌السلام في ذلك المعنى خبرا ، ويظن أنه جائز.

الحادي عشر : لا شك أن الرئاسة على الناس ، والتقدم عليهم ، أمر مطلوب لكل أحد ، ولا شك أنه إذا روى خبر ، أعرابيا ، لا يرويه غيره عن رسول الله ، كان ذلك يدل على أنه عليه‌السلام خصّه بذلك التعليم ، وجعله موضع سره في إظهار ذلك العلم. وذلك منصب عظيم ، ودرجة عالية عند الخلق. فلا يبعد أن يقدم بعضهم عليه طلبا للجاه والمنزلة عند الناس. ولعمري هذا بعيد جدا ، لا سيما في حق الصحابة ، إلا أن أصل الاحتمال فيه قائم. لأنا لما رأيناهم أقدموا على المقاتلة والملاعنة ، بسبب الجاه ، فكيف يبعد إقدامهم على هذا القدر من الذلة ، بسبب الجاه.

الثاني عشر : لا شك أن الأخبار الكثيرة واردة في المنع من الافتراء على الرسول. قال عليه‌السلام : «من كذب عليّ معتمدا ، فليتبوأ بيتا من جهنم» وقال : «نضّر الله امرأ ، سمع مقالتي فوعاها ، وأداها ، كما سمعها» وقال : «أعظم الفرية ثلاث» وعد منها : «أن يقول : سمعت رسول الله ، ولم يسمع منّي» ولو لا أنه ـ عليه‌السلام ـ علم أن أقواما يكذبون عليه. وإلا لم يقل ذلك. ولا جائز أن يقال : أولئك الأقوام هم المنافقون. وذلك لأن أهل النفاق

لا ينزجرون بزجره ، ولا يمتنعون بسبب هذا الوعيد ، لأنهم يكذبونه في ادعاء الرسالة ، فكيف يلتفتون إلى وعده ووعيده؟ فثبت : أنه عليه‌السلام إنما ذكر ذلك ، لأنه عرف أن جماعة من المسلمين ، كانوا يكذبون عليه.

الثالث عشر : المحدثون نقلوا أخبارا كثيرة في أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يحث الناس في الرجوع إلى القرآن ، والمسك به ، والمنع من الأحاديث ، وكتابتها. وذلك يدل أيضا على تقوية قولنا.

الرابع عشر : إن الأخبار المذكورة في باب التشبيه ، بلغت مبلغا كثيرا في العدد ، وبلغت مبلغا عظيما في تقوية التشبيه ، وإثبات أن إله العالم يجري مجرى إنسان كبير الجثة ، عظيم الأعضاء ، وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل. ولما كان القائل بالتشبيه جاهلا بربه. والجاهل بربه يمتنع أن يكون رسولا حقا من عند الله ، علمنا : أن أكثر هذه الروايات : أباطيل وأضاليل ، وأن منصب الرسالة منزه عنه.

والعجب من هؤلاء المحدثين : أنهم يقولون : فلان متهم بالرفض ، فلا تقبل روايته ، ولم يقل أحد منهم : فلان مصرح بالتشبيه ، فكان جاهلا بربه ، فوجب أن لا تقبل روايته. لأن الطعن في أبو بكر وعمر ، لا يزيد على الطعن في ذات الله تعالى ، وفي صفاته.

فثبت بمجموع هذه الوجوه : أن أخبار الآحاد ضعيفة لا تفيد إلا الظن.

وإذا ثبت هذا فلنرجع إلى مطلوبنا من هذا الكتاب. فنقول : مسألة القضاء والقدر ، مسألة قطعية يقينية ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. والتمسك بالحجة الظنية في المسألة القطعية لا يجوز.

هذا تقرير هذا السؤال.

والجواب من وجهين :

الأول : هب أن كل واحد من هذه الأخبار غير معلوم الصحة ، إلا أن مجموعها ، ربما بلغ مبلغ القطع واليقين. وبهذا الطريق تمسكنا بالمعجزات

المروية بالآحاد. إلا أن هذا الطريق ينتقض بأخبار التشبيه. للمشبهة أن يقولوا : إن مجموعها بلغت مبلغ التواتر. فإن منعناهم عن ذلك ، كان لخصومنا في هذه المسألة أن يمنعونا عنه أيضا.

الثاني : نسلم أنها لا تفيد إلا الظن. ونكتفي منها بالظن. بل فيه فائدة أخرى. وهي: إن الدلائل العقلية إذا دلت على صحة قولنا ، ثم رأينا أن ظواهر القرآن والأخبار تؤكد تلك العقليات ، قوي اليقين وزالت الشبهات. وبالله التوفيق.

الفصل الثاني

في

تقرير الدلائل الاخبارية

على صحة القول بالقضاء والقدر

الحجة الأولى : ما رواه الشيخان في الصحيحين بإسنادهما عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس. أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ـ عليه‌السلام ـ : «احتج آدم وموسى. فقال موسى : يا آدم. أنت أبونا ، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم يا موسى. اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ، تلومني على أمر قدره الله عليّ ، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى» وهذا الخبر مروي بطرق مختلفة. وفيها زيادات ونقصانات.

فإن قيل : هذا الحديث ضعيف. وبيانه من وجوه :

الأول : إنه روى هذا الحديث بطرق مختلفة فيها زيادات ونقصانات. والواقعة واحدة. وذلك يدل على الضعف.

الثاني : إن صاحب شرح السنة ، روى هذا الخبر بإسناد آخر. عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجّ آدم وموسى. فقال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس فأخرجتهم من الجنة إلى الأرض» إلى آخر الحديث. والولد لا يجوز أن يشافه أباه بمثل هذا القول الغليظ ، والإيذاء الشديد. قال تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١) وقال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢) فكيف إذا كان الأب مثل آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في كونه

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة الإسراء ، آية : ٢٣.

موصوفا بالنبوة والعلم ، وكونه مسجودا للملائكة. فكيف يليق بموسى أن يخاطبه بمثل هذا الإيذاء الشديد ، ويقول له : أنت أغويت الناس؟.

الثالث : إن الدليل دل على أن الزلة التي صدرت من آدم ، كانت من باب ترك الأفضل. أو من باب الصغائر. وعلى كلا التقديرين ، فإنه لا يجوز إلحاق الذم به ، بسبب ذلك. فلو فعله موسى ، لدل على جهله. وحاشاه عنه.

الرابع : أنه قال لآدم : «أنت الذي أشقيت الناس ، وأخرجتهم من الجنة» وقد علم موسى عليه‌السلام أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة ، ما كان بسبب آدم ، بل الله خلقهم ليكونوا في أول الأمر في الأرض. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١).

الخامس : إن آدم عليه‌السلام احتج بما ليس بحجة. إذ لو قلنا : إن الله لما كتب عليه ذلك ، كان ذلك حجة لآدم. وقد كتب الله الكفر أيضا على فرعون ، وهامان ، وسائر الكفار. فوجب أن يكونوا معذورين فيه. ولما بطل ذلك ، علمنا فساد هذه الحجة.

السادس : إن الخبر اشتمل على أن رسول الله عليه‌السلام : صوّب آدم في هذا الاستدلال. فلما ثبت أن هذا الدليل خطأ ، لزم أن يكون تصويب النبي عليه‌السلام ، لآدم عليه‌السلام. في هذا الاستدلال : خطأ.

السابع : إن الدلائل العقلية قامت على فساد القول بالجبر ، والقرآن من أوله إلى آخره ناطق بفساد الجبر. وخبر الواحد إذا ورد على خلاف العقل ، وخلاف القرآن : وجب تأويله ، إن قبل التأويل ، ورده إن لم يقبل التأويل. وهذا الخبر يقبل التأويل من وجوه :

الأول : لعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد حكى هذا الكلام عن اليهود ، إلا أن الراوي

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.

حين دخل ، ما سمع تلك الحكاية ، بل سمع هذا القدر ، فظن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما حكاه عن نفسه ، وعن مذهبه.

الثاني : لعله عليه‌السلام قال : «فحج آدم موسى» ـ بنصب آدم ـ أي أن موسى غلبه وجعله محجوجا ، وأن الذي ذكره آدم ليس بحجة ولا بعذر. وقد بينا : أنه لو كان ذلك عذرا، لوجب أن يكون كل الكفار معذورين. وذكرنا أيضا : أن وقوع التفاوت في الإعراب ، في أخبار الآحاد : غير مستبعد.

الثالث : وهو الوجه الأقوى أنه ليس المراد من هذه المناظرة : الذم على المعصية ، ولا الاعتذار منه بعلم الله. بل موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله عن السبب الحامل له على تلك الزلة ، حتى خرج بسببها من الجنة. فقال آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن خروجي من الجنة ، ما كان بسبب تلك الزلة ، بل كان بسبب أن الله كان قد كتب عليّ أني أخرج إلى الأرض ، وأكون خليفة فيها. وهذا المعنى كان مكتوبا في التوراة ، فلا جرم كانت حجة آدم قوية ، وصار موسى عليه‌السلام في ذلك كالمغلوب.

الرابع : إن قوله : «كيف تلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة»؟ ليس المراد من لفظ التقدير هاهنا : الخلق والتكوين. لأن فعل الإنسان ، قبل خلق ذاته بأربعين سنة : محال. بل المراد من هذا التقدير : هو أنه تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ. والتقدير بهذا التفسير مما لا نزاع في إثباته البتة.

فهذا جملة كلام المعتزلة على استدلال أصحابنا بهذا الخبر :

والجواب :

أما قوله : «رواية أبي هريرة مضطربة في هذا الخبر» قلنا : جميع الروايات مشتملة على التعليل بتقدير الله. ودليلنا : هو هذا القدر المشترك.

قوله ثانيا : «كيف يشافه الولد والده بالسوء ، لا سيما إذا كان الولد من

أكابر الأنبياء؟» قلنا : لا نسلم أن ذلك من باب المشافهة بالسوء. بل كان ذلك من باب الشكاية.

قوله ثالثا : «الصادر من آدم كان من باب الصغائر ، فلا يجوز أن يلام عليه» قلنا : لا نسلم أنه كان من باب الصغائر ، بل كان من باب الكبائر. إلا أنا نقول : إن تلك الواقعة وقعت قبل النبوة.

وقوله رابعا : «خروج الناس من الجنة ، ما كان بسبب آدم» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : لما حصل الإخراج مقارنا لتلك الزلة ، انضاف إليها بحسب الظاهر.

وقوله خامسا : «لو كان ذلك حجة لآدم ، لكان أيضا حجة لفرعون وهامان» قلنا : هذه المناظرة إنما وقعت بين آدم وبين موسى. وهذه الحجة قوية بشرط أن تقع المناظرة بين إنسانين. إلا أن عندنا المناظرة مع الله ممتنعة. فلله ـ سبحانه ـ أن يقول : هذا العذر ، وإن كان عذرا فيما بين الخلق. إلا أني لا أقبله من فرعون وهامان ، وأقبله من آدم. لأن أفعالي معللة بمحض الإلهية.

وقوله [سادسا (١)] : «لعله ـ عليه‌السلام ـ إنما حكى هذا الكلام عن اليهود» قلنا : هذا سوء ظن بالراوي.

وقوله سابعا : «لعل الإعراب بخلاف ما ذكرتم» قلنا : هذا أيضا سوء ظن بالراوي.

وقوله ثامنا : «لعل المراد بهذا التقدير : أنه تعالى كتب ذلك على آدم» قلنا : هب أنه كذلك. لكن الله تعالى لما أخبر عنه ، امتنع أن لا يقع ، وإلا لزم أن ينقلب خبر الله من كونه صدقا إلى كونه كذبا ، وإنه محال.

واعلم : أنه لما رجع حاصل الاستدلال بهذا الخبر إلى هذا الحرف. فنقول : هذا الحرف حاصل ، بدون التمسك بهذا الخبر. لأن القرآن دل على أنه تعالى أخبر عن بعضهم ، أنه لا يؤمن. حينئذ يتم هذا الاستدلال ، من غير

__________________

(١) زيادة.

حاجة إلى التمسك بهذا الخبر. ويمكن أن يقال : فائدة هذا الخبر : أن يعلم أن الاستدلال بمثل هذه الحجة منقول عن أكابر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وذلك من أعظم الفوائد. والله أعلم.

الحجة الثانية : روى أبو داود في سننه ، بإسناده ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن عبد ، حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله بعثني بالحق. ويؤمن بالبعث بعد الموت. ويؤمن بالقدر» وزاد بعضهم : «خيره وشره».

قال الإمام الداعي إلى الله ، فخر الملة والدين ، محمد الرازي ، ختم الله له بالحسنى : هذا الترتيب موافق لكتاب الله. وذلك لأنه تعالى فصل أحوال الفرق الثلاثة في أول سورة البقرة. وهم المؤمنون والكافرون والمنافقون. ثم ابتدأ بدلائل التوحيد ، فقال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ثم ثنى بدلائل النبوة فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) ثم ثلث بأمر البعث والقيامة ، فقال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ : أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ثم ربع بأمر القدر ، فقال : (يُضِلُ) (١) بِهِ كَثِيراً ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فصارت الأمور الأربعة المذكورة في الخبر ، هي الأمور المذكورة في أول كتاب الله تعالى بذلك الترتيب من غير فرق.

إذا عرفت هذا فنقول : لا نسلم أن المراد بالقدر : الخلق ، بل لفظ القدر ، قد يستعمل أيضا في الكتابة. قال الشاعر :

واعلم : بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى ، التي كان سطر.

ويستعمل أيضا في الحكم. قال تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢) وفي آية أخرى : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٣) أي حكمنا

__________________

(١) بين الله في نهاية الآية أنه لا يضل إلا الفاسقين.

(٢) سورة النمل ، آية : ٥٧.

(٣) سورة الحجر ، آية : ٦٠.

بذلك ، فلم قلتم : إنه ليس المراد من القدر المذكور في هذا الخبر ، هو الكتابة؟ فإنه تعالى كتب جميع الكائنات في اللوح المحفوظ ، أو نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : الحكم أو العلم. فإنه تعالى عالم بجميع الجزئيات على التفصيل التام؟

والدليل على صحة هذا التأويل : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «سبق علم الله في خلقه ، قبل أن خلقهم. فهم صائرون إلى ما علم الله منهم» فكان هذا الخبر ، كالمفسر لجميع الأخبار الواردة في باب القدر.

سلمنا : أن المراد من القدر الخلق والإيجاد. فلم قلتم : إن المراد من الخير والشر ، هو الطاعة والمعصية؟ وذلك لأن لفظ الخير والشر ، قد يستعملان أيضا في المنافع والمضار. قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١) ومعلوم أن الابتلاء لا يقع بالخير والشر ، بمعنى الطاعة والمعصية. وإنما المراد بالخير : المنافع التي هي الأموال ، والرفاهية في العيش ، والصحة في البدن ، والأهل والأولاد. والمراد بالشر : المضار التي هي القحط والمرض ، والمصيبة. ولهذا سمى الحرب والفتنة : شرا. قال الشاعر :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

وقال :

لكن قومي. وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء ، وإن هانا

وقال :

فلما أصبح الشر ،

فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوان ،

دناهم كما دنوا

وفي الشر نجاة حين

لا ينجيك إحسان

إذا ثبت هذا فنقول : المراد بالقدر خيره وشره : ما ذكرناه. وذلك لأن الثنوية أثبتوا للعالم صانعين. أحدهما : يفعل اللذات والراحات. والآخر : يفعل الآلام والأسقام ، فشرط النبي عليه‌السلام في الإيمان : حصول الإيمان ،

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٣٥.

بأن فاعل الكل ، هو الله ـ سبحانه ـ

سلمنا : أن المراد من الخير والشر : الطاعة والمعصية. إلا أن قوله : «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» ليس فيه بيان أن المعتبر هو الإيمان ، بأن قدر الخير والشر من الله ، أو من العبد. فنحن نقول : المراد : أن قدر الطاعات والمعاصي من العبد ، وأنتم تقولون : المراد: أنه من الله. فلم كان قولكم أولى من قولنا؟ والذي يؤكد قولنا : أنكم تزعمون أن القدرية هم المعتزلة ، لأجل أنهم أثبتوا القدر لأنفسهم ، ونحن نقول : القدرية هم المجبرة ، لأنهم أثبتوا القدر لله. فعند هذا قلتم : إن تسمية من ثبت القدر لنفسه بالقدري ، أولى من تسمية من ثبت القدر لغيره بالقدري. وإذا كان الأمر كذلك. فاقبلوا هاهنا مثل هذا الكلام. وهو أن نقول : حمل قوله : «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» على إثبات القدر للنفس ، أولى من حمله على إثبات القدر للغير.

وأيضا : فالأركان الثلاثة المتقدمة. وهي إثبات الربوبية ، وإثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، لا تتم إلا بإثبات العبودية للعباد ، وذلك لا يتم إلا أن يكون تقدير الطاعات والمعاصي ، بحسب اختيار العباد. فلما ذكر الأركان الثلاثة ، ثم ذكر عقيبها قوله : «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» وجب حمله على ما ذكرناه.

سلمنا : ما ذكرتم ، لكن راوي هذا الخبر ، هو علي بن أبي طالب. والقول بالعدل متواتر عنه ، وعن أولاده. والراوي إذا خالف روايته ، أورث ذلك طعنا وضعفا في الرواية. والله أعلم.

والجواب :

أما حمل القدر على الكتابة في اللوح المحفوظ. فجوابه من وجهين :

الأول : إن هذا باطل. لأن المسلمين أجمعوا على أن العلم بوجود اللوح المحفوظ ، وبأن الله تعالى أحدث فيه رقوما مخصوصة دالة على أحوال هذا العالم ، ليس من شرائط الإيمان ، ولا من واجباته. والخبر الذي ذكرناه يدل

على أن الإيمان بالقدر من شرائط صحة الإيمان. وهذا ينتج من الشكل الثاني : أنه ليس المراد من القدر المذكور في هذا الخبر هو الكتابة في اللوح المحفوظ :

وأما حمل القدر على العلم واللسان ، فباطل أيضا. لأن ذلك البيان ، إما أن يكون بيانا للبشر ، وهو مفقود. أو للملائكة ، وهو أيضا باطل. لأن العلم بأن الله بيّن أحوال أفعال العباد للملائكة ليس من واجبات الإيمان. وإيمان بالقدر من واجبات الإيمان بحكم دلالة هذا الخبر. وذلك يدل على أنه ليس المراد من هذا القدر هو البيان.

وأما حمل القدر على العلم ، فضعيف. لأنه إن حمل على أي علم كان ، فهو باطل. بدليل : أن من علم ذات الله وصفاته. لا يقال : إنه قدر ذات الله وصفاته ، وإن حمل على العلم المقتضي إيقاع الفعل على وجه خاص ، فهذا يقتضي أن لا يحصل القدر إلا مع التخليق والتكوين. وإن حمل على علم الله بكيفية أفعال العباد ، فالجبر أيضا لازم. لما ثبت : أن خلاف معلوم الله : محال الوقوع.

وأما قوله : «الإيمان بالقدر ، محمول على أن خالق اللذات والآلام ، هو الله» قلنا : هذا ضعيف. لأن قولنا : لا إله إلا الله ، تصريح بنفي الإلهين. وذلك يدل على أن خالق المنافع والمضار ، هو الله. فلما أوجب بعده الإيمان بالقدر ، وجب أن يكون المراد من القدر شيئا آخر ، سوى ذلك. وما ذاك إلا الإيمان بأن الطاعات والشرور كلها من الله.

وأما قوله : «المراد من ذلك : إثبات أن القدر من العبد» قلنا : هذا مدفوع بما أنه جاء في بعض الروايات : «وأن تؤمن بأن القدر خيره وشره من الله»

وأما قوله : «مذهب علي بن أبي طالب ، نفي الجبر ، والراوي إذا خالف روايته دل على ضعف في الرواية» قلنا : لا نسلم أن مذهب «عليّ» ما ذكرتم. وسيأتي تقريره ، إن شاء الله تعالى.

الحجة الثالثة : روى الشيخان في الصحيحين بإسنادهما عن الأعمش ،

عن زيد بن وهب ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود ، يقول : حدثنا رسول الله عليه‌السلام ، وهو الصادق المصدوق : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ، أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك بأربع كلمات. فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد» قال : «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها».

والاستدلال بهذا الخبر من وجهين :

الأول : إنه تعالى لما حكم به بأنه شقي ، امتنع أن يصير سعيدا ، وإلا لزم أن ينقلب الخبر الصدق : كذبا ، وأن ينقلب العلم : جهلا. وكل ذلك محال.

الثاني : إنه عليه‌السلام بيّن أن الرجل يعمل بعمل أهل النار ، إلا أنه لأجل أنه سبق الكتاب بكونه من أهل الجنة ، ينقلب من عمل أهل النار إلى عمل أهل الجنة. وهذا يدل على أنه لا قدرة للعبد ، على خلاف حكم الله وعلمه. وذلك يبطل القول بالاعتزال.

فإن قيل : هذا الخبر مشتمل على أمور باطلة ، فوجب أن يقال : إنه ليس كلاما لرسول الله. وبيانه من وجوه :

الأول : حكى الخطيب في «تاريخ بغداد» عن «عمرو بن عبيد» أنه قال : «لو سمعت الأعمش يقول هذا ، لكذبته ، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ، ما أجبته ، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ، ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله يقوله ، لرددته ، ولو سمعت الله يقول هذا ، لقلت : ليس على هذا أخذت ميثاقا»

الثاني : وهو أن هذا الحديث يدل على أن النطفة تبقى نطفة أربعين

يوما ، ثم تبقى علقة أربعين يوما ، ثم تبقى مضغة أربعين يوما. والمشاهدات الطبية دلت على أن الأمر ليس كذلك (١). فإنه في مدة أربعين يوما يتكون الولد بتمامه ، ومشاهدة السقط يدل على هذه الأحوال. وإذا كان هذا الخبر مشتملا على الخطأ ، وجب تنزيه منصب النبوة عنه.

الثالث : إن الأمر لو كان كما قرره في كتاب «الجبر» وجب أن يكون الكفار كلهم معذورين. وفي ذلك بطلان نبوته ورسالته. والفرع إذا أدى إلى فساد الأصل ، كان باطلا.

سلمنا : صحة الحديث. لكن الحديث لا يدل إلا على أن جميع أفعال العباد بعلم الله وبحكمه. وذلك لا نزاع فيه. لأن مذهبنا أنه تعالى كان عالما في الأزل ، بأن «زيدا» سيكون مؤمنا مطيعا ، وأن «عمرو» سيكون فاسقا كافرا. وأنه لا يصدر عنهما إلا ما علم الله صدوره منهما ، وهذا القدر لا يدل على أنه لا قدرة للعبد على خلافه ، لأن العلم لا يقلب الممكن محالا ، ولا يخرجه عن حد الجواز.

أما قوله : «لو لم يحصل ذلك المعلوم لانقلب العلم جهلا ، والصدق كذبا» قلنا : لما رجع حاصل الاستدلال إلى هذا الحرف ، لم يبق لخصوصية هذا الخبر فائدة فإنه يقال : إنه تعالى علم من كل أحد فعله المعين ، فوجب أن لا يقدر على تركه ، وإلا لزم انقلاب علمه جهلا. ولا يقال : إنا نستدل بهذا الخبر على أنه تعالى عالم بالجزئيات. لأنا نقول : إثبات النبوة فرع لهذه المسألة. فلو أثبتناها ، نقول : النبي لزمه الدور. وإنه محال.

ثم نقول : الإشكال الذي ذكرتم إنما يلزم لو حكم الله بأفعال العباد حكما مطلقا. وهذا ممنوع. بل عندنا : أنه تعالى يحكم بها مشروطا ، فيقول : إن صدرت الطاعة عن «زيد» دخل الجنة ، وإن صدرت المعصية عنه دخل النار. وإذا كان هذا الحكم مشروطا ، لم يلزم من تغير فعل العبد : تغير علم الله ، وتغير حكمه.

__________________

(١) دلت المشاهدات الطبية على أن الروح في الجنين من حين النطفة.

حكى الخطيب في تاريخ بغداد : أن رجلا قال لعمرو بن عبيد : أخبرني عن «تبّت» هل كانت في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو : ليس هكذا كانت. بل كانت : «تبت يدا من عمل ، بمثل عمل أبي لهب» فقال له الرجل : فهكذا ينبغي أن تقرأ ، إذا قمنا إلى الصلاة. فغضب عمرو. وقال له : اعلم أن الله ليس بشيطان ، إن علم الله لا يضر ولا ينفع.

والجواب :

أما أن خبر الواحد يقبل في هذه المسألة أم لا؟ فقد تقدم القول فيه. ثم نقول : هذا خبر واحد ، تأكد مدلوله بالعقل. وذلك لأنا نرى أن الإنسان قد يكون مواظبا على الكفر والفسق ، وأعمال أهل النار ، ثم إنه ينقلب مؤمنا برّا تقيا ، وقد نرى الأمر على العكس منه. فانقلابه من الحالة المتقدمة إلى الحالة الأخرى المضادة لها. لا شك أنه من الجائزات الممكنات.

فإن وقع ذلك الممكن ، لا لمرجح ، لزم نفي الصانع ، وإن كان لمرجح. فذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال فيه ، وإن كان من الله ، فقد حصل المطلوب. فثبت : أن هذا البرهان العقلي القاهر يدل على أن المواظب على أعمال أهل النار ، إنما ينقلب مؤمنا لأن القضاء الإلهي ، وجب قلبه من إحدى الحالتين إلى الأخرى. وهذا هو المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة» والمراد من الكتاب : إلقاء داعية ذلك الفعل في قلبه. لأن قلب العبد يجري مجرى اللوح. وإلقاء تلك الدواعي المختلفة فيه ، يجري مجرى إلقاء الرقوم المختلفة ، والنقوش المتباينة في قلب العبد.

قوله : «إن مراتب النطفة والعلقة والمضغة المذكورة في النص ، غير موافقة للمحسوس ، فكان الخبر غلطا» قلنا : إطلاق اسم الكل على الأغلب : مجاز مشهور.

قوله : «لو كان الأمر كذلك ، لزم كون الكفار معذورين» قلنا : قد ذكرنا أن المناظرة مع الله لا تجوز. ثم نقول : هذا خبر واحد تأكد مدلوله

بالعقل. وذلك لأنا نرى أن الإنسان قد يكون مواظبا على الكفر والفسق ، وعلى أعمال أهل النار ، ثم ينقلب مؤمنا برا تقيا. وقد نرى الأمر على العكس من ذلك. فانقلابه من الحالة المتقدمة ، إلى الحالة المتأخرة ، لا بد وأن يكون لمرجح. إذ لو جاز حصول الرجحان ، لا لمرجح ، فلنجوز ذلك في كل الممكنات. ثم ذلك المرجح إن كان من العبد ، عاد الطلب. وإن كان من الله ، فقد حصل المطلوب.

فثبت : أن هذا البرهان العقلي يدل على أن المواظب على أعمال أهل النار ، إنما ينقلب مواظبا على أعمال أهل الجنة. لأن القضاء الإلهي ، اقتضى ذلك ، وقلبه من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر. وهذا هو المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة».

قوله : «هذا الحديث لا يدل إلا على أن أفعال العباد ، لا تقع إلّا على وفق علم الله» قلنا : هب أنه كذلك. إلا أنا بينا أن خلاف المعلوم ممتنع الوقوع.

أما قوله : «حكم الله في أفعال العباد ، مشروط ، لا جازم» قلنا : لا نزاع أن الله تعالى يعلم أن «زيدا» لو أطاع فإنه يثاب. ولكن هل حصل مع هذه القضية الشرطية ، علم بأنه يطيع أم لا؟ فإن لم يحصل العلم ، لا بالوقوع ، ولا بعدم الوقوع ، كان تعالى غير عالم بالجزئيات. وهو كفر. وإن علم الوقوع ، أو اللاوقوع ، وجب أن لا يكون خلافه ، ممتنع الوقوع. وحينئذ يعود الإلزام المذكور. والله أعلم.

الحجة الرابعة : ما رواه الشيخان في الصحيحين بإسناديهما ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب. قال : خرجنا على جنازة. فبينا نحن بالبقيع. إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيده مخصرة فجاء ، فجلس ، ثم نكت بها في الأرض ساعة ، ثم قال: «ما من نفس منفوسة ، إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار. وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة» فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله ، وندع العمل؟ قال : «لا. ولكن اعملوا ،

فكل ميسر. أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة» قال : «ثم تلا هذه الآية : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١).

والاستدلال بهذا الحديث ، كما تقدم تقريره في الحديث الثالث.

واعلم : أن هذا الحديث تصريح بما اخترناه من أن مجموع القدرة والداعي ، يوجب الفعل وذلك لأن صلاحية الآلة وسلامة الأعضاء ، حاصل بالنسبة إلى الطاعة والمعصية ، وإلى اليسرى والعسرى. إلا أنه إن حصلت داعية الطاعة ، فذاك هو التيسير لليسرى. وإن حصلت داعية المعصية. فذاك هو التيسير للعسرى.

وأما قول السائل : أفلا نتكل على الكتاب السابق؟ فلا جواب عنه إلا ما ذكره سيد البشر عليه‌السلام. وذلك لأن حصول اليسرى تارة ، والعسرى أخرى ، إنما كان بواسطة هذه الدواعي والبواعث. فأهل الشقاوة هم الذين تيسرت لهم دواعي الفساد ، وأهل السعادة هم الذين تيسرت لهم دواعي الطاعات. فإن الداعية توجب الفعل ، وحصول الفعل يوجب الأثر في الدار الآخرة. وكيف يقال : إنا نترك الفعل ، ونجد أثر ذلك الفعل؟.

الحجة الخامسة : ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن طاوس اليماني ، أنه قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله عليه‌السلام ، يقولون : كل شيء بقدر الله ، وسمعت عبد الله بن عمرو ، يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء بقدر ، حتى العجز والكيس» والاستدلال بالخبر : ظاهر. وتقريره من حيث العقل : إن كل ما سوى الله ممكن ، وكل ممكن محتاج. وذلك يدخل فيه الأفعل والأقوال والأحوال والأخلاق.

الحجة السادسة : ما رواه مسلم في صحيحه ، بإسناده عن جابر ، قال :

__________________

(١) سورة الليل ، آية : ٤ ـ ١٠.

جاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله بيّن لنا ديننا ، كأنا خلقنا الآن. فيم العمل اليوم؟ فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير؟ أو فيما نستقبل؟ قال عليه‌السلام : «بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير؟ قال : ففيم العمل؟ قال : «اعملوا : فإن كلا ميسر». قال صاحب شرح السنة ، بعد ما روى هذا الخبر : «وصح عن أبي هريرة ، عن رسول الله عليه‌السلام أنه قال : «يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق». فاختصمه على ذلك ، أبو ذر» قالوا : المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأمر قد فرغ منه» هو الكتابة في اللوح المحفوظ ، والإخبار عن كونه شقيا أو سعيدا. قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه : أنهعليه‌السلام بيّن أن تلك الكتابة غير موجبة لشقاوة العبد ولسعادته ، وإنما يستحق ذلك بعمله الذي يحصل باختياره.

وأما قوله : «كل ميسر لما خلق له» فالمراد : أنه قادر عليه ، غير ممنوع. وذلك هو صريح مذهب الاعتزال.

والجواب :

أما حمل هذا الكلام على الحكم والكتابة فقد تقدم القول بأن هذا يوجب قولنا.

وأما قوله : «إنه عليه‌السلام ما أحال السعادة والشقاوة على ذلك الكتاب ، بل على ذلك العمل» فجوابه : إن الحديث دل على أنه تعالى إنما قدر له السعادة تارة ، والشقاوة أخرى ، بواسطة الأعمال المفضية إليها ، والموجبة لها. وذلك هو صريح قولنا.

الحجة السابعة : روى البخاري بإسناده عن ابن عباس أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللحمة ، مما قاله أبو هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة. وزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه».

وجه الاستدلال بالخبر : ما تقدم. أنه تعالى لما علم ذلك وأخبر عنه ،

وكتبه في الكتاب ، صار واجب الوقوع ، وإلا لزم الجهل والكذب.

وأيضا : فقوله عليه‌السلام «أدرك ذلك لا محالة» مشعر بأنه يجب صدور ذلك الفعل عنه. وذلك يبطل قول المعتزلي.

الحجة الثامنة : ما رواه مالك بن أنس في «الموطأ» أن عمر بن الخطاب ، سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، مِنْ ظُهُورِهِمْ ، ذُرِّيَّتَهُمْ. وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) (١) قال عمر بن الخطاب : سئل رسول الله عنها ، فقال رسول الله : «إن الله خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، فقال: خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال عليه‌السلام : إن الله إذا خلق العبد للجنة ، استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة. وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله به النار».

والاستدلال بهذا الخبر كما تقدم. وقوله : «استعمله بعمل أهل الجنة» معناه : بخلق الدواعي الموجبة للأفعال المخصوصة. واعلم : أن هذه الأحاديث بأسرها صريحة في أن الحق ما اخترناه من أن مجموع القدرة مع الداعي : مستلزم للفعل.

الحجة التاسعة : روى مسلم في صحيحه بإسناده عن عائشة قالت : أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار. فقالت عائشة : طوى له عصفور من عصافير الجنة. فقال عليه‌السلام : «وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار ، وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم».

ووجه الاستدلال به : ظاهر. كما تقدم : واعلم : أنا ذكرنا في باب

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ١٧٢.

الدلائل العقلية : أن اختلاف أحوال الخلق في العقائد والأفعال ، قد يكون لاختلاف جواهر النفوس الناطقة في حقائقها وماهياتها. وقد يكون لأجل الأسباب الخارجية.

أما القسم الثاني من السعادة والشقاوة فإنها لا تحصل إلا لنفوس البالغين. وأما القسم الأول فإنها حاصلة لنفوس الأطفال. لأن النفس إذا كانت في جوهرها وماهيتها شديدة الاستعداد لقبول الإشراق الروحاني ، قليلة الالتفات إلى اللذات الجسدانية ، فهي سعيدة ، والتي على العكس من ذلك فهي شقية.

فإن قيل : «إنه تعالى خلق النار ، وخلق لها أهلا» المراد من اللام : لام العاقبة. كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) وسيأتي الكلام في هذا المعنى عند التمسك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) (٢).

الحجة العاشرة : روى مسلم بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كتب الله مقادير الخلائق كلها ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» والاستدلال به : أن الكتابة مسبوقة بالعلم وبالخبر. فلو انقلب ذلك المكتوب عن ذلك المقدار ، لزم انقلاب العلم جهلا ، والصدق كذبا. وذلك محال. واعلم : أن حاصل التمسك بجميع هذه الأخبار ، يرجع إلى هذا الحرف الواحد.

الحجة الحادية عشر : روى الخطيب في تاريخ بغداد ، في باب تاريخ «محمد بن إسماعيل البخاري» بإسناده عن البخاري أنه قال : «أفعال العباد : مخلوقة» ثم قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ثم حدثنا مروان بن معونة حدثنا أبو صلتك عن ربعي بن حراش عن حذيفة ، قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» وهذا نص صريح في المسألة.

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٨.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١٧٩.

الحجة الثانية عشر : روى أنس أنه قال : خدمت النبي عليه‌السلام سنين. فما بعثني في حاجة لم تتهيأ ، إلا قال : «لو قضى لكان» أو «لو قدر لكان» قالوا : المراد : أن الله لو علم أنه سيكون ، لكان. أو المراد : أنه لو كتب في اللوح المحفوظ أنه كائن ، لكان. ثم قالوا : وليس المراد من التقدير : الخلق. وإلا لصار معنى الكلام إنه لو كان لكان. فيصير الجزاء عين الشرط.

والجواب : أما حمل التقدير على الكتابة ، أو العلم. فقد سبق القول فيه. وقوله : «يلزم كون الجزاء عين الشرط» قلنا : هذا لا يلزم على قولنا : إن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل. لأن الشرط هو خلق القدرة مع الداعي ، والجزاء ترتيب الفعل عليه.

الحجة الثالثة عشر : قال ابن الرملي : أتيت أبي بن كعب ، فقلت : في نفسي شيء من القدر ، فحدثني بشيء لعله أن يذهب عن قلبي. فقال : إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، عذبهم غير ظالم. ولو رحمهم ، كانت رحمته إياهم خيرا لهم من أعمالهم. ولو انفقت مثل جبل أحد في سبيل الله ، ما قبل الله منك ، حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو متّ على غير ذلك ، أوجبت النار. قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود ، فقال : مثل قوله ، ثم أتيت حذيفة بن اليمان ، فقال : مثل قوله ، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل ذلك. وأما المعتزلة. فإنهم حملوه على العلم والكتابة. وقد سبق جوابه.

الحجة الرابعة عشر : التمسك بالدعاء المروي في صلاة الاستخارة ، روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري. قال : كان رسول الله عليه‌السلام يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما يعلمنا السورة من القرآن. يقول : «إذا همّ أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة» ثم ليقل : «اللهم اني استخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعيشتي ،

وعاقبة أمري ، فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به» قال : ويسمي حاجته. قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح.

واعلم : أن الاستدلال به من وجوه :

الأول : إن الفعل الذي يطلب الاستخارة فيه. لا شك أنه قادر عليه ، نظرا إلى سلامة الأعضاء ، وصحة المزاج. ثم إنه مع ذلك طلب من الله تيسيره له ، إن كان له فيه مصلحة ، وصرفه عنه ، إن كان له فيه مفسدة. وهذا التيسير والصرف لا معنى له إلا إلقاء داعية الفعل في القلب ، أو إلقاء داعية الترك فيه. فهذا الحديث يدل على أن صدور الفعل عن العبد ، يتوقف على إلقاء تلك الداعية في قلبه ، ويدل أيضا على أنه متى حصلت تلك الداعية الجازمة في القلب ، فإنه يحصل ذلك الفعل ، لا محالة.

والوجه الثاني : قوله : «اقدر لي الخير ، حيث كان» وهذا يدل على أن الكل بقدر الله.

والثالث : قوله : «ثم أرضني به» وهذا يدل على أن حصول الرضا في القلب تارة ، والسخط أخرى. ليس إلا من الله تعالى.

قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من التيسير ، فعل الألطاف ، وتحصيل المعدات ، وإزالة العوائق؟ وأما قوله : «فاقدره لي» فالمراد : فاكتب لي ذلك.

والجواب : إن مذهبكم أن العبد قادر على ذلك الفعل ، وعلى ضده ، وأن ترجيح أحدهما على الآخر ليس إلا من العبد ، وليس لله في ذلك الترجيح ، صنع ، ولا عمل البتة. وإذا كان كذلك ، كان طلب هذا التيسير عبثا ولغوا.

الحجة الخامسة عشر : روى أبو عيسى في جامعه ، بإسناده عن

الحسن بن علي ، أنه قال : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلمات أقولهن في الوتر : «اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت. إنك تقضي ولا يقضى عليك. إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت» والاستدلال به من وجوه :

الأول : إن قوله : «اللهم اهدني فيمن هديت» يدل على أن الهداية من الله. ولا يمكن حمله على البيان والدلالة. لأن ذلك حاصل عند المعتزلة. وطلب الحاصل عبث.

والثاني : إن قوله : «وتولني فيمن توليت» يدل على قولنا. لأن ولاية الله تعالى. إن كانت عبارة عن خلق القدرة والآلة ، ووضع الدلائل ، وإزالة الأعذار ، فهذا قد فعله تعالى ، في حق الكافر والمؤمن. فهو تعالى ولي الكفار ، وولي المؤمنين جميعا ، بهذا التفسير. والخبر يدل على أنه يتولى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار. وما ذاك إلا ما ذكرناه من خلق الدواعي الموجبة.

والثالث : قوله : «وقني شر ما قضيت» وهذا يدل على أنه تعالى قد يقضي بالشر ، كما يقضي بالخير.

فإن قيل : الكلام عليه من وجوه :

الأول : إنا نحمل هذا الشر على المصائب والأمراض.

والثاني : إن هذا الكلام يدل على أن تغيير قضاء الله جائز. وذلك هو مذهب المعتزلة. أما على قول الجبرية. فقضاء الله عبارة عن حكمه الأزلي. وذلك لا يجوز تغييره.

والجواب عن الأول : إن الشر. بمعنى المصائب والآلام. قد يكون مصلحة في حق المكلف عند المعتزلة. فلا يجوز من العبد أن يطلب من الله مطلقا أن يصرفها عنه. بل إنما يجوز ذلك السؤال ، بشرط أن يكون صرفه عنه مصلحة. فثبت : أن الشر بمعنى الألم لا يجوز للعبد أن يطلب من الله صرفه

عنه ، إلا مع شرط كونه مصلحة.

وقوله : «وقنا شر ما قضيت» طلب مطلق غير مشروط ، فامتنع أن يكون المراد بهذا الدعاء ما ذكروه.

والجواب عن الثاني : إن التكليف بالدعاء ، تكليف بفعل مخصوص ، كسائر التكاليف. وعندنا : أنه ليس لشيء من أفعال العباد تأثير في إيجاب ثواب ، أو إيجاب عقاب. فكذا هاهنا.

والوجه الرابع في الاستدلال بهذا الخبر : قوله : «فإنك تقضي ولا يقضى عليك» وهذا صريح مذهبنا في أنه لا يقبح من الله شيء. وليس لأحد على الله حق. ولا يلزمه تعالى ، بسبب أفعال العباد شيء. وكل ذلك يبطل قول المعتزلة. والله أعلم.

الحجة السادسة عشر : ما رواه الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى لما وعد موسى أن يكلمه ، خرج في الوقت الذي وعده الله» قال : «فبينا هو يناجي ربه ، إذ سمع خلفه صوتا. فقال : اللهم اسمع خلفي صوتا. لعل قومي ضلّوا. قال : نعم يا موسى. قال : إلهي. فمن أضلهم؟ فقال : أضلهم السامري. قال : إلهي. فيم أضلهم؟ قال : صاغ لهم عجلا جسدا ، له خوار. قال : إلهي. هذا السامري ، صاغ لهم العجل ، فمن نفخ فيه الروح ، حتى صار له خوار؟ قال : أنا يا موسى. قال : فوعزتك يا إلهي. ما أضل قومي غيرك. قال : صدقت يا حكيم الحكماء. لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك».

قال الكعبي في بعض تصانيفه : هذا الخبر ضعيف. وبيانه من وجوه :

الأول : إن هذا الخبر ، اشتمل على تكذيب الله. لأنه تعالى قال : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (١) والحديث دل على أن موسى حلف بعزة الله : أنه ما أضلهم غير الله. وإذا كان المضل هو الله ، فالسامري لا يكون مضلا لهم ، مع

__________________

(١) سورة طه ، آية : ٨٥.

أن الله تعالى قال : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) فيكون هذا تصريحا من موسى بتكذيب الله ، وحاشاه من مثل هذا المقال.

والثاني : في هذا الحديث. أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحكم الحكماء ، بسبب أنه أضاف ذلك الإضلال إلى الله ، وأن الله أضاف الإضلال إلى السامري في القرآن ، حيث قال : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) وهذا يقتضي أن يكون موسى عليه‌السلام أكثر حكمة وعلما من الله ـ تعالى عما يقول الظالمون ـ.

والثالث : إن موسى عند اشتغاله بمناجاة الله ، ما كان بحيث يسمع صوت قومه.

والرابع : إنه لما سمع ذلك الصوت ، لم يفهم كلامهم ، فكيف عرف بمجرد سماع الصوت ، أن القوم قد ضلوا؟

والجواب عن الأول : ظاهر على قولنا : إن مجموع القدرة مع الداعي ، يوجب الفعل. وذلك لأن السامري «أضلهم» على معنى أنهم إنما ضلوا بسبب الفعل الصادر عنه. والله تعالى أضلهم بمعنى أنه تعالى هو الذي خلق القدرة والداعية ، اللذين صار مجموعهما موجبا لحصول ذلك الفعل. فأحدهما : سبب قريب. والآخر : سبب بعيد.

وبه خرج الجواب عن السؤال الثاني : وذلك لأنه تعالى أضاف الإضلال إلى السامري ، إضافة الحكم إلى السبب القريب. وموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضافه إلى الله تعالى إضافة الحكم إلى السبب البعيد. والمبدأ الأول لما بينه موسى عليه‌السلام ، أنه المؤثر الأول ، الذي هو سبب الأسباب ، لا جرم قال تعالى : «إنك أحكم الحكماء» ولا يلزم من هذا القدر أن يكون أكثر حكمة من الله.

وأما قوله ثالثا : «كيف سمع موسى هناك أصوات القوم؟ فنقول : ذلك الزمان أمكن انخراق العادات. وعندنا لا يبعد أن يخلق الله سمعا للإنسان يسمع به الأصوات المتباعدة جدا.

وأما قوله رابعا : «هب أنه سمع الأصوات ، فكيف عرف أنهم

ضلوا؟» قلنا : بالطريق الذي ثبت جواز أن سمع به تلك الأصوات البعيدة ، ثبت أيضا جواز أن يفهم كلامهم.

وبهذا الطريق سقطت هذه الكلمات. والله أعلم.

الحجة السابعة عشر : ما روى أنس. أن النبي عليه‌السلام قال : «إذا أراد الله بعبد خيرا ، استعمله» قيل : فكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال : «يوفقه لعمل صالح قبل الموت (١)» ووجه الاستدلال بهذا الخبر : هو أن هذا صريح مذهبنا في أن قدرة العبد إن كانت صالحة للعمل الصالح وللعمل الفاسد. فذلك التوفيق ، عبارة عن ترجيح داعية الصلاح على داعية الفساد في قلبه. ثم إنه تعالى اكتفى بذكر هذا التوفيق عن وقوع ذلك العمل الصالح. لأن عند حصول هذا التوفيق يكون حصول الفعل واجبا ، فاستغنى بذكر السبب عن ذكر المسبب. ولو كان تخلف الفعل عن حصول هذا التوفيق ممكنا ، لكان من الواجب أن لا يكتفي بذكر هذا التوفيق عن حصول ذلك الفعل. بل كان ينبغي أن يذكر أن ذلك الفعل. هل حصل أم لا؟

الحجة الثامنة عشر : قوله عليه‌السلام ، حكاية عن رب العزة : «خلقت هؤلاء للجنة ، ولا أبالي ، وخلقت هؤلاء للنار ، ولا أبالي» والخصوم حملوه على العلم ، أو على الكتابة في اللوح المحفوظ. وقد سبق جوابه.

الحجة التاسعة عشر : ما روى أبو حازم ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وقى الذي بين لحييه ورجليه دخل الجنة» النص : دل على أن تلك الوقاية مضافة إلى غير العبد. وما ذاك إلا الله تعالى. وهذا يدل على أن العبد إنما يبقى مصونا عن المعاصي بتوفيق الله. قالوا : المراد منه : «الألطاف» وجوابنا : إن كل ما قدر الله (٢) عليه من الألطاف ، فقد فعله. وأيضا : اللطيف لا بد وأن يكون مرجحا ، وكل مرجح

__________________

(١) إلى هنا نهاية السقط في المخطوطات ، غير مخطوطة أسعد أفندي. السقط المشار إليه في نهاية الباب الثاني.

(٢) الله من عليه الألطاف (م).

فهو موجب. على ما مر تقريره مرارا. وقالوا (١) : «ليس كل ما رجح الداعي ، فإنه واجب الفعل ، فإنه قد يميل قلبنا إلى بعض الأفعال ، مع أنا لا نفعل (٢)» والجواب : إن ذلك الميل. إنما لا يوجب الفعل ، لأنه لما صار معارضا بصادر (٣) آخر أقوى منه ، فحينئذ لم يبق ميلا. بل الميل المرجح إذا حصل وخلى عن المعارض ، فإنه كما يرجح ، فلا بد وأن يوجب الفعل كما قررناه.

الحجة العشرون (٤) : ما روى يحيى بن معمر عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال عمران بن الحصين : يا أبا الأسود أرأيت ما يعمل الناس اليوم ، ويكدحون فيه؟ أشيء (٥) قضى عليهم ، ومضى عليهم؟ أو فيما يستقبلون مما أتى به نبيهم وأخذ به عليهم الحجة. قال : «بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال : فلم نعمل إذا؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا فقلت : إنه ليس شيء إلا خلق الله ، وملك يده. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٦) فقال عمران ابن الحصين : سددك الله ووفقك. أما والله ما سألت إلا لأجد. وإن رجلا من مرسية ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال يا رسول الله : أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه؟ أشيء قضى عليهم ومضى عليهم؟ أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأخذت عليهم من الله الحجة قال : «بل شيء قضى عليهم ، ومضى عليهم» قال : فلم نعمل إذا؟ قال : «من كان خلقه لواحد من المنزلتين ، فهو مستعمل لها». وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٧).

واعلم : أن القضاء يحتمل أن يكون المراد منه : وضع الأسباب التي

__________________

(١) قالوا : [الأصل].

(٢) لا نفعل (م).

(٣) بصادق (م).

(٤) العشر (م).

(٥) بشيء (م).

(٦) سورة الأنبياء ، آية : ٢٣.

(٧) سورة الشمس ، آية : ٧ ـ ٨.

يلزم من مصادقات بعضها لبعض ، تأديها بالآخرة إلى هذا الفعل ـ على ما هو مذهبنا ، وقولنا خاصة ـ ويحتمل أن يكون المراد منه : علم الله تعالى بوقوع ذلك الفعل ، أو حكمه بوقوعه. وعلى (١) جميع التقديرات ، فقد بينا : أن العبد لا استقلال له بالفعل والترك.

الحجة الحادية والعشرون : ما روى أبو موسى الأشعري قال (٢) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض. فجاء بنو آدم على قدر الأرض. منهم الأحمر والأسود والأبيض والأصفر. ومن ذلك السهل والحزن والخبيث والطيب» واعلم : أن هذا إشارة إلى ما بينا من اختلاف الأمزجة. فوجب اختلاف الأخلاق والأفعال والعقائد. فمن كانت الصفراء عليه أغلب ، كان الغضب والسبعية والقسوة عليه أغلب. ومن كان البلغم عليه أغلب ، كان السكون والهدوء والبلادة عليه أغلب.

الحجة الثانية والعشرون : ما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أقبل أبو بكر وعمر ، ومعهما قوم (٣) من الناس ، قد ارتفعت أصواتهم. فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحديث وتسمع. فلما دنوا ، جاء أبو بكر فسلم على رسول الله وجلس إلى جنبه ، ثم جاء عمر وسلم وجلس بعيدا منه. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «ما هذا الذي ارتفعت أصواتكم فيه؟ قال بعض القوم : يا رسول الله تكلم أبو بكر وعمر ، واختلفا فاختلفنا باختلافهما. قال : «وما ذاك؟» قالوا : في القدر (٤) قال أبو بكر : يقدر الله الخير ولا يقدر الشر. وقال عمر : بل يقدرهما. فتبع بعض القوم أبا بكر ، وبعضهم عمر. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف قلت يا أبا بكر؟» قال : قلت الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا. فأعرض عنه. ثم أقبل على عمر ، وقال : «كيف قلت يا عمر؟» قال : قلت : الحسنات

__________________

(١) على (م).

(٢) يقول (م).

(٣) فتام (م).

(٤) القدرة (م).

والسيئات كلها من الله قال فانبسط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى عرف البشر في وجهه. وقال : «والذي بعثني بالحق ، لأقضي بينكما بما قضى به إسرافيل ، بين جبريل وميكائيل» فقال بعضهم : أو تكلم فيه جبريل وميكائيل؟ فقال : «والذي نفس محمد بيده إنهما لأول الخلائق تكلما فيه. أما جبريل فقال : مثل مقالتك يا عمر ، وأما ميكائيل فقال مثل مقالتك يا أبا بكر. فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهما قضاء هو قضائي بينكما» قالوا يا رسول الله فما كان من قضائه؟ قال : «قضى إسرافيل بينهما بأن الخير والشر من الله. وهذا قضائي بينكما» ثم قال : «يا أبا بكر لو أراد الله [أن (١)] لا يعصى في أرض أحد ، لم يخلق إبليس».

فإن قيل : هذا الخبر ضعيف المتن. وبيانه من وجوه :

الأول : إنه منقطع أو مرسل. لأن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. إذا حكى عنه أنه (٢) روى عن أبيه عن جده. فالضمير (٣) في قوله : «جده» إما أن يكون عائدا إلى عمرو ، أو إلى شعيب. فإن عاد إلى عمرو. فجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص. وإنه ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكان الخبر مرسلا. وإن عاد إلى شعيب ، فجده عبد الله ، إلا أنه ما لقيه. فكان الخبر منقطعا.

الثاني : إن الاختلاف في هذه المسألة يوجب الإكفار (٤). فلو وقع الاختلاف فيها بين أبي بكر وعمر ، وبين جبريل. لزم إكفار أحدهما.

الثالث : إن هذه القضية. روى أنها كانت بالمدينة. فكيف بقي أبو بكر

__________________

(١) سقط (م).

(٢) إذا (م).

(٣) والضمير (م).

(٤) لو وجب الاكفار بالاختلاف في القضاء والقدر. لشك المعتزلة في إيمان الأشاعرة. وشك الأشاعرة في إيمان المعتزلة ، وشك الشيعة في إيمان أهل السنة ، وشك أهل السنة في إيمان الشيعة. وبذلك تكون الفرق الإسلامية كلها كافرة. لا بعينها ، كما قال واصل بن عطاء في المتحاربين من المسلمين «أحدهما فاسق. لا بعينه».

وعمر هذه [المدة (١)] مع جهلهما بهذه المسألة؟.

السؤال الثاني : إن صح متن هذا الخبر ، فله تأويلان : أحدهما : إنهما اختلفوا في إطلاق اسم الشر على الآلام والأسقام والمحن فمنعه أبو بكر عن ذلك. لأنه وإن كان مؤلما ، فهو خير للعبد. لما فيه من الأعراض. وأجازه عمر. فبين رسول الله : جواز ذلك ، وأنها وإن كانت مصلحة ، فهي شر بمعنى كونه مؤلما.

الثاني : إن المراد بالقدر : الكتابة. فكان أبو بكر يقول : يقدر الخير دون الشر ، أي أن يكتب الخير في اللوح المحفوظ ، ولا يكتب الشر. وعمر كان يقول يكتبهما.

فأما قوله : «لو شاء الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس» فنقول : هذا ضعيف. لأنه عند المجبرة : وجود إبليس وعدمه سواء. فإن ثبت هذا الكلام ، فمعناه : لو شاء الله أن لا يخلق من يعصيه ، لما خلق إبليس. وهو رأس العصاة. فأشار إلى أنه تعالى كما يخلق من يعلم أنه يؤمن ، كذلك يخلق من يعلم أنه يكفر وإنما يأتي المكلف بالكفر والايمان من قبل نفسه لا من قبل ربه. ويحتمل أيضا : أنه لو شاء أن يمتنع من المعصية جبرا ، أو قسرا ، لما خلق إبليس ، مع علمه بأنه رأس الكفر. ولكنه تعالى أراد أن يؤمن العبد باختياره ليستحق الثواب. والله اعلم.

والجواب عن جميع هذه الأسئلة : إنا لا نطلب من التمسك بهذا الخبر ، إلا الظن القوي. ولا شك أن كل ما ذكرتموه ، وجوه مرجوحة ضعيفة. فهي لا تقدح في الظن.

الحجة الثالثة والعشرون : ما رواه البخاري في صحيحه بإسناده عن عمران ابن حصين. قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلقت ناقتي ، ودخلت. فأتاه نفر من بني تميم. فقال : «أقبلوا البشرى يا بني تميم» فقالوا : بشرتنا ، فأعطنا. فجاءه نفر من أهل اليمن ، إذ لم يقبلها إخوانكم بني تميم» فقالوا :

__________________

(١) من (م ، ل).

قد قبلنا. وأتيناك لنتفقه في الدين ، ونسألك عن بدو هذا الأمر. فقال : «كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء (١)» وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض».

واعلم : أن هذا الخبر فيه فوائد :

أحدها : أن الحيز والجهة : أمر موجود. بدليل : أنه مشار إليه بحسب الحس ، ومقصد المتحرك. ويوصف بالقرب والبعد ، ويقبل التقدير والمساحة. وكل ما كان كذلك ، فهو شيء موجود لا محالة. فقوله عليه‌السلام : «كان الله ولم يكن شيء غيره» يدل على أن الأحياز والجهات ما كانت موجودة في الأزل ، وإذا كان كذلك ، علمنا : أنه تعالى ما كان في الأزل ، حاصلا في حيز وجهة أصلا.

وثانيها : إن قوله : «ولم يكن شيء غيره» يدل على حدوث الأجسام والأعراض والعقول والنفوس. ويدل أيضا : على فساد قول المعتزلة في أن المعدوم شيء.

وثالثها : قوله : «وكتب كل شيء في الذكر» فهذا يدل على قولنا في مسألة القضاء والقدر. لأن العبد لو أتى بخلاف ذلك المكتوب ، لصار حكم الله باطلا ، وخبره كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال محال. فثبت : أن كل ما كتب في اللوح المحفوظ ، فهو واقع ، وإن العبد لا قدرة له على خلافه.

الحجة الرابعة والعشرون : عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا. وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار ، وخلق لها أهلا. وهم في أصلاب آبائهم» والاستدلال به ظاهر.

الحجة الخامسة والعشرون : الدعاء المشهور المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو قوله : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت» ولو كان جعل العبد ليس من خلق الله تعالى ، لكان العبد قد يمنع كثيرا مما (٢) أعطى الله ،

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٧.

(٢) إنما (م).

وقد يعطي كثيرا مما منع الله منه. وهو خلاف الحديث.

الحجة السادسة والعشرون : عن معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ألا أعلمك كلمات تقولهن؟ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» وجه الاستدلال : أن هذه الإعانة. إن كان المراد منها الإقدار والتمكين وإزاحة الأعذار ، فالكل قد جعله الله ، فلا فائدة في طلبه بالدعاء. وإن كان المراد شيئا آخر. فهو المطلوب.

الحجة السابعة والعشرون : عن معاذ بن جبل أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال : «إنه ليسير على من يسره الله عليه» وجه الاستدلال : أن النص دل على أن التيسير الصادر من الله تعالى ، يلزمه (١) اليسر في العمل ، وحيث لا يحصل اليسر في العمل ، علمنا : أنه لم يحصل التيسير من الله. استدلالا بعدم اللازم لعدم الملزوم. ثم إن التيسير بمعنى الإقدار وخلق العقل وإزاحة الأعذار : حاصل للكل ، فوجب أن يكون المراد بهذا التيسير (٢) المذكور هاهنا : شيء آخر. وذلك بخلق الدواعي إلى الطاعات ، وخلق الصوارف عن أضدادها. وهو المطلوب.

الحجة الثامنة والعشرون : الخبر المشهور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أنه قال : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» وكان يقول : «يا مقلب القلوب. ثبت قلبي على دينك» ـ «والميزان بيد الرحمن يرفع ويخفض» وعن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما (٣) يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك ، فقيل له يا رسول الله : أتخاف علينا ، وقد آمنا بك ، وبما جئت به؟ فقال : «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا» وأشار إلى السبابة والوسطى ، يحركهما.

__________________

(١) فإنه يلزمه (م).

(٢) التفسير (م).

(٣) لكثير أن (م).

واعلم : أن هذا الذي بينه صاحب الشريعة صلوات الله عليه في هذا الخبر معلوم الصحة بالبراهين اليقينية العقلية. وذلك لأن أفعال الجوارح لا تصدر إلا عند الدواعي والصوارف في القلوب. فرجحان الفعل موقوف على حصول داعية الفعل ، ورجحان الترك موقوف على عدم حصول تلك الداعية ، لأن علة العدم : عدم العلة. فالقلب كالشيء الموصوف بين حصول تلك الداعية واللاحصول لها. فإن حصلت داعية الفعل ، حصل الفعل. وإن لم تحصل تلك الداعية ، لم يحصل ذلك الفعل. فصاحب الشريعة ، عبر (١) عن حصول هذه الداعية وعدم حصولها بالإصبعين ، لما ثبت أن حصول تلك الداعية ليس إلا بالله تعالى. وإلا لزم التسلسل.

وكما ثبت هذا المعنى بهذا البرهان العقلي ، وبهذا الخبر الذي رويناه ، ثبت أيضا بنص القرآن. وهو قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا : أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٢).

ومن تأمل في هذه البراهين العقلية ، وضم إليها هذه الآيات ، وهذا الخبر خاصة ، ورجع إلى نفسه : لم يبق في قلبه شك في صحة مذهبنا. ولكن ذلك إنما يسهل على من سهله الله عليه.

الحجة التاسعة والعشرون : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أعلمك كلمة من تحت العرش [كنز (٣)] من كنوز الجنة : لا قوة إلا بالله. يقول الله : «أسلم عبدي واستسلم» وجه الاستدلال به : إن القدرة بالنسبة إلى الفعل أو إلى الترك ، على السوية. وما دام تبقى القدرة على هذا الاستواء ، امتنع صدور الفعل. فإذا رجح جانب الفعل على جانب الترك بتحصيل الدواعي وإزالة الصوارف ، فحينئذ يحصل الفعل. وهذه التقوية هي المشار إليها بقوله : «لا حول ولا قوة إلا بالله» ولما كان الإيمان لا يتم ولا يكتمل إلا به ، لا جرم زعم أنه من تحت العرش ، ومن كنز الجنة.

__________________

(١) غير (م).

(٢) سورة الأنفال ، آية ؛ ٢٤.

(٣) من (ط ، ل).

الحجة الثلاثون : عن أبي طهمان عن ابن عباس قال : «أول ما خلق الله تعالى : القلم». فقال : «اكتب. فقال : وما أكتب؟ فقال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة». وجه الاستدلال به : إنه دخل في هذا المكتوب جميع أفعال العباد ، وخلافه يوجب انقلاب العلم جهلا ، والصدق كذبا. وكل ذلك محال.

واعلم : أن الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة ، ومن وقف على كيفية الاستدلال بهذه الأخبار التي رويناها ، أمكنه التمسك بسائر الأخبار الواردة في هذا الباب. والله أعلم.

الباب الرابع

في

الآثار الواردة عن علماء السلف

في هذا الباب

اعلم : أن حال هذه المسألة : حال عجيبة. وذلك لأن الخلق أبدا كانوا مختلفين فيها ، بسبب أن الوجوه التي يمكن الرجوع إليها في هذه المسألة متعارضة متدافعة.

وتقرير ذلك : أن نقول :

الجبرية : عولوا في تقرير قولهم على أن الممكن لا بد له من مرجح. وهذه المقدمة مقدمة بديهية. وإذا كان الأمر كذلك ، فالقادر على الضدين يمتنع أن يرجح أحد الطرفين على الآخر ، لا لمرجح. وذلك المرجح ليس منه ، وإلا لزم التسلسل ، بل هو من الله (١). وحينئذ يلزم الجبر.

__________________

(١) يقول المسيح عليه‌السلام : «لما كان كل إنسان محتاجا ، كان يعمل كل شيء لأجل منفعته. ولكن الله الذي لا يحتاج إلى شيء ، عمل بحسب مشيئته. لذلك لما خلق الانسان خلقه حرا ، ليعلم أن ليس لله حاجة إليه. كما يفعل الملك الذي يعطي حرية لعبيده ، ليظهر ثروته ، وليكون عبيده أشد حبا له. إذا قد خلق الله الإنسان حرا ، لكي يكون أشد حبا لخالقه وليعرف جوده. لأن الله وهو قادر على كل شيء ، غير محتاج إلى الإنسان. فإنه إذ خلقه بقدرته على كل شيء ، تركه حرا بجوده ، على طريقه يمكنه معها مقاومة الشر وفعل الخير. وإن الله على قدرته على منع الخطيئة ، لم يرد أن يضاد جوده. إذ ليس عند الله تضاد. فلما عملت قدرته على كل شيء وجوده ، عملهما في الإنسان ، لم يقاوم الخطيئة في الإنسان ، لكي تعمل في الإنسان رحمة الله وبره» [برنابا ١٥٥ : ١٠ ـ ١٦].

وأما القدرية : فقد عولوا (١) في تقرير قولهم : على أن حسن المدح والذم معلوم بالبديهة. ونعلم بالبديهة : أنه لو لم يكن العبد قادرا على الفعل لما حسن المدح والذم. وما كان أصلا للبديهي : أولى أن يكون بديهيا.

فالحاصل : أن عمدة الجبرية هي أن الممكن لا بد له من مرجح. وعمدة (٢) القدرية : هي حسن المدح والذم. وهما مقدمتان معلومتان بالبديهية. فقد وقع التعارض بين هاتين المقدمتين في هذا المقام.

وأما الدلائل العقلية : فاعتماد الجبرية على أن هذه التفاصيل ، غير معلومة (٣) لنا فلا تكون مخلوقة لنا. واعتماد القدرية على أن هذه الأفعال ، واقعة على وفق مقصودنا ودواعينا. فهي منّا. فقد وقع التعارض بين دليل العلم ودليل القصد.

وأما الإلزامات العائدة إلى باب الكمال والنقصان فاعتماد الجبرية على حرف واحد ، وهو أن القدرة على الإيجاد صفة كمال ، فلا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان. واعتماد القدرية على حرف واحد ، وهو أن أفعال العباد سفه وعبث ، وإيجادها نقصان. وذلك لا يليق بالإله المتعالي عن النقصان.

وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء مما يوهم الجبر تارة ، ومما يوهم القدر أخرى.

وأما الأنام (٤) فكذلك جميع الملل والنحل ، بعضهم مجبرة ، وبعضهم قدرية. ولا ترى أمة من الأمم خالية عن هاتين الطائفتين.

وأما الأوضاع والحكايات فهي أيضا متعارضة في هذا الباب. حتى قيل : إن واضع «النرد» وضعه على مذهب الجبر ، وواضع «الشطرنج» وضعه على مذهب القدر. فظهر عندك أن التعارض غالب في هذه المسألة إلا

__________________

(١) فقد عوا في (م).

(٢) وعملة القدرية حسن (م).

(٣) مضمونة [الأصل].

(٤) [الأصل].

أن مذهبنا أقوى بسبب حرف واحد ، وهو أنا [إن (١)] قدحنا في قول : «الممكن لا بد له من سبب» انسد علينا باب إثبات الصانع ، وإن سلمنا بهذه المقدمة لزمنا القول بأن العبد غير مستقل بالإيجاد. فلما كان دليل قولنا في هذه المسألة ، ودليل إثبات الصانع : دليلا واحدا ، لا جرم كان جانبنا أقوى وأكمل.

ولنذكر الآن طرفا من الحكايات المذكورة في هذه المسألة :

الحكاية الأولى : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، وقال : أنا أملك الخير والشر ، والطاعة والمعصية. فقال علي بن أبي طالب : تملكها مع الله أو تملكها بدون الله؟ فإن قلت: أملكها مع الله (٢) فقد ادعيت أنك شريك الله ، وإن قلت : أملكها بدون الله ، فقد ادعيت أنك أنت الله. فتاب الرجل على يده.

الحكاية الثانية : جاء رجل آخر إلى علي بن أبي طالب ، وسأل عن القضاء والقدر. فقال : «بحر عميق. لا يدرك غوره» فأعاد السائل السؤال. فقال : «طريق مظلم ، لا نسلكه» فأعاد السؤال. فقال [علي (٣)] : «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» تعرف معناها؟ قال : لا. فما (٤) معناها؟ قال : «لا حول عن معصية الله ، إلا بعصمة الله. ولا قوة على طاعة الله ، إلا بتوفيق الله» وهذا إشارة إلى ما ذكرناه ، من أن القادر متساوي القدرة بالنسبة إلى الطاعة والمعصية. فلا يترجح أحد الجانبين على الآخر ، إلا لمرجح من قبل الله.

الحكاية الثالثة : ورد الشام معتزلي. فكتب هشام بن عبد الملك إلى أبي

__________________

(١) زيادة.

(٢) يقول المسيح عليه‌السلام : «لو لم يخطئ الإنسان ، لما علمت أنا ولا أنت رحمة الله وبره. ولو خلق الله الإنسان غير قادر على الخطيئة ، لكان ندا لله في ذلك الأمر. ولذلك خلق الله المبارك : الإنسان صالحا وبارا ، ولكنه حر أن يفعل ما يريد من حيث حياته وخلاصة لنفسه ، أو لعنته» [برنابا ١٥٤ : ٢٣ ـ ٢٥].

(٣) من (م ، ل).

(٤) فإيش معناها [الأصل]

جعفر الباقر ، ليحضر ويتكلم معه. فقال إني كبير ، والآن ابني جعفر ينوب عني في المناظرة. فجاء جعفر الصادق ، وقال للقدري : اقرأ الفاتحة. فقرأ فلما بلغ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال له جعفر الصادق : على ما ذا تستعين بالله ، وعندك : أن الفعل (١) منك. وجميع ما يتعلق بالإقدار بالتمكين ، والألطاف قد حصلت وتمت؟ فانقطع القدري بهذا الحرف الواحد.

الحكاية الرابعة : جاء قدري ليتكلم مع أبي حنيفة. فقال أبو حنيفة : هل يمكنك التكلم بالحروف؟ فقال [نعم فقال (٢)] اذكر. فذكرها. فقال : أين مخرج الحاء والخاء؟ وكم بينهما؟ [وأي شيء تفعل حتى تخرج الحاء؟ (٣)] وأي شيء تفعل حتى تخرج الخاء؟ فقال : لا أعرف. فقال أبو حنيفة : من لا يعرف هذه الأشياء. فكيف يمكنه أن يخلقها ويوجدها؟

الحكاية الخامسة : جاء رجل إلى عمرو بن عبيد. وقال : أنت مستجاب الدعوة. وقد سرق ردائي. فادع الله أن يرد علي ردائي. فرفع يده وقال : اللهم إنك لم ترد أن يسرق ، وقد سرق. اللهم فرد عليه رداءه. فقال الرجل : امسك عن الدعاء. فإنه لم يرد أن يسرق ردائي وقد سرق ، فإذا أراد أن يرد علي ردائي ، لم يرده أيضا.

الحكاية السادسة : قيل لعمرو بن عبيد : هل ألزمك أحد سؤالا لم تقدر على جوابه؟ قال : بلى. ركبت البحر ، وكان في السفينة مجوسي. فقلت له : لم لا تسلم؟ فقال : لأن الله لم يرد إسلامي. فإذا أراد إسلامي أسلمت. فقلت للمجوسي : إن الله يريد إسلامك ، ولكن الشياطين لا يتركونك. فقال المجوسي : فأنا أكون مع الشريك الأغلب. لأن الله أراد شيئا ، ولم يحصل مراده. والشيطان أرادوه ، وحصل. فالشيطان غالب. والكون مع الغالب ، أولى من الكون مع المغلوب.

الحكاية السابعة : كان «الصاحب بن عباد» يؤاكل الأستاذ «أبا اسحاق

__________________

(١) الفطر (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ل).

الأسفرايني» من أصحابنا ـ فقال الصاحب : لا شك أن فاعل أفعالي أنا لا غيري. ورفع لقمة ووضعها في فمه. وقال : الرفع باختياري ، والوضع في الفم باختياري ، والمضغ باختياري ، والابتلاع باختياري. ثم اتفق في أثناء المضغ أن عطس ، فسقطت اللقمة ، ووثبت الهرة ، فأخذت اللقمة ، وأكلتها.

الحكاية الثامنة : وحكى أن «الصاحب بن عباد» كان جالسا مع الأستاذ «أبي اسحاق» في بستان ، فمد يده إلى ثمرة وفصلها عن الشجرة. وقال : أيها الأستاذ من الذي فصل هذه الثمرة عن الشجرة؟ فقال الأستاذ أبي اسحاق : الذي فصل هذه الثمرة عن هذا الغصن ، الثمرة عن هذا الغصن ، هو الذي يقدر على أن يصلها به مرة أخرى. والمراد منه : أن القادر عند المعتزلة لا بد وأن يكون قادرا على الضدين. فلو كان العبد قادرا على الفصل ، لوجب أن يكون قادرا على الوصل. وحيث لم يقدر على الوصل ، وجب أن لا يقدر على الفصل.

الحكاية التاسعة : كان الأستاذ «أبو اسحاق الأسفرايني» جالسا في دار «الصاحب بن عباد» فدخل «القاضي عبد الجبار الهمداني» فلما رأى الأستاذ «أبا إسحاق» قال في الحال : سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ في الحال : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.

قال الداعي إلى الله ، محمد الرازي ـ رحمة الله عليه ـ : من نظر في هاتين الكلمتين ، علم أن كل واحد من هذين جمع جميع كلماته (١) في هذا الحرف.

الحكاية العاشرة : قال أكثر الفقهاء : إذا قال المؤذن : حي على الصلاة ، حي على الفلاح. فالسنّة عند سماع هذه الكلمة : أن يقال : لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه يقول : لا حول ولا قوة على أداء الصلاة ، وعلى أداء سائر العبادات ، إلا بإعانة الله وبتوفيقه. وذلك صريح مذهبنا.

ولنكتف بهذه الحكايات في هذا الباب.

والله أعلم بالصواب

__________________

(١) أي آراءه في القضاء والقدر.

الباب الخامس

في

حكاية الشبه العقلية

التي عليها تعويل المعتزلة

الفصل الأول

في

حكاية قول من يقول

العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا

ـ قد نقلنا في أول المسألة : أن «أبا الحسين» يدعي العلم الضروري بأن العبد موجد لأفعال نفسه ـ واحتجوا على أن العلم الضروري حاصل بذلك بوجوه ثلاثة :

الأول : إن كل عاقل يعلم من نفسه : أن وقوع تصرفاته موقوف على دواعيه [ولو لا دواعيه (١)] لما وقع شيء منها. فمتى اشتد به الجوع ، وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنه يصدر منه تناول الطعام. ومتى اعتقد أن [في (٢)] الطعام سما ، ينصرف عنه. وكذلك يعلم من غيره من العقلاء ، الذي أحوالهم سليمة : أنه يجب وقوع أفعالهم بحسب دواعيهم. فإن الولد العاقل السليم إذا علم ما له من المنفعة في شرب الماء ، حال شدة عطشه ، ولم يمنعه منه مانع ، فإنه يصدر منه الشرب ، لا محالة. ومتى علم ما له من المضرة في دخول النار ، فإنه لا يدخل فيها. وإذا كان معنى الموجد للشيء : هو الذي يحدث منه الفعل ، موافقا لدواعيه ، ثبت أن العقلاء قد يعرفون (٣) ببدائه عقولهم كون العبد كذلك. علمنا : أن علمهم بكون العبيد محدثين لتصرفاتهم : علم ضروري.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) يعرف في بداية عقولهم (م).

الوجه الثاني في تقرير ذلك : أن العقلاء يعلمون بالضرورة : حسن ذم من أساء إليهم ، ومدح المحسن إليهم. ويعلمون بالضرورة : قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا ، وكون السماء [فوقه (١)] والأرض تحته. ولو لا علمهم الضروري بكون العبد محدثا لأفعاله ، لما علموا بالضرورة حسن مدحه وذمه على أفعاله ، وقبح مدحه وذمه على ما لا يكون واقعا به. لأن العلم بحسن المدح والذم لما كان فرعا على العلم بحدوث ذلك منهم ـ والعلم بالفرع إذا كان ضروريا ، كان العلم بالأصل أولى أن يكون ضروريا ـ لزم القطع بأن علم العقلاء بكونهم محدثين لتصرفاتهم : علم ضروري بديهي. ولأجل ظهور هذا العلم عند العقلاء ، حصل هذا العلم للمراهقين. فإن الإنسان إذا رمى المراهق بآجرة ، فإنه يذم الرامي ولا يذم تلك الآجرة. ولو لا أنه عالم (٢) بالضرورة : بأن الرامي فاعل ، وأن الآجرة ما فعلت شيئا ، وإلا لما فرق بينهما من الوجه المذكور.

الثالث : إن الواحد منا يجد من نفسه ـ ومن غيره ـ إذا طلب فعلا من غيره ، أنه يطلب منه طلب عالم بأنه [هو (٣)] الذي يحدث ذلك الفعل. ولذلك فإنه يتلطف في استدعائه ذلك الفعل منه ، بكل لطف وينهاه عن فعل ما يكرهه ، ويعنفه على فعله ، ويتعجب من فعله ، ويستظرفه ، ويعجب العقلاء في فعله. ويعلل كل ذلك : بأن فعله. وأيضا : فنجد من أنفسنا : الفرق الضروري بين أمره بالقيام والقعود ، وبين أمره بإيجاد السماء والكواكب. ولو لا أن العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا ، وإلا لما صح ذلك.

قالوا : فهذه الوجوه الثلاثة : منبهة على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. وهذا غاية تقرير مذهب «أبي الحسين البصري» في هذه المسألة.

__________________

(١) من (ط).

(٢) علم (م).

(٣) سقط (م).

واعلم : أن دعوى الضرورة في كون العبد موجدا لأفعاله : [باطل (١)] ويدل عليه [وجوه (٢)].

الأول : إن الناس كانوا قبل «أبي الحسين» فريقان : منهم من يزعم : أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، ومنهم من يزعم : أنه يحصل بإيجاد العبد (٣) وبتكوينه. والعلم بذلك علم استدلالي. ولذلك فإن جميع مشايخ المعتزلة إنما كانوا يثبتون هذا المطلوب بناء على الدلائل والبينات. ولو كان العلم بهذا المطلوب ضروريا ، لكان جميع الناس الذين كانوا قبل «أبي الحسين» منكرين للبديهيات. أما مخالفوا المعتزلة. فلا شك أنه يلزم على قول «أبي الحسين» كونهم منكرين للبديهيات. وأما جميع مشايخ المعتزلة فكذلك. لأنهم لما كانوا مطبقين على أنه لا سبيل إلى إثبات هذا المطلوب إلا بالدلائل ، كانوا متفقين على أن العلم بهذا المطلوب ليس بضروري. فثبت : أن العلم بهذا المطلوب لو كان ضروريا ، لزم أن يقال : إن جميع الخلق الذين كانوا قبل «أبي الحسين» كانوا مطبقين متفقين على إمكان البديهيات والضروريات. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا فساد قول «أبي الحسين».

الثاني : إنا [إذا (٤)] رجعنا إلى أنفسنا ، لم نعلم إلا أن (٥) هذه الأفعال حاصلة على وفق تصورنا ودواعينا. فأما أن المؤثر في دخولها في الوجود هو قدرتنا فقط ، أو مجموع قدرتنا مع دواعينا. أو (٦) المؤثر في حصولها شيء آخر يحصلها مقارنا لذلك المقصود (٧) فذلك البتة غير معلوم. إذ ليس من المشتبه أن يقال : إنه تعالى أجرى عادته بأن الإنسان الذي تكون أعضاؤه سليمة ، ومزاج بدنه يكون خاليا من الأسقام والأمراض ، إذا خلق فيه إرادة حصول شيء ، فإنه

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الله (م ، ل).

(٤) سقط (م).

(٥) لأن (م).

(٦) إلى [الأصل].

(٧) لذات المطلوب (م).

يخلق ذلك المراد على وفق تلك الإرادة. والحاصل : أن مقارنة الفعل مع حصول القدرة والإرادة معلومة. فأما كون الفعل به ، فذاك البتة غير معلوم. ومن قال خلاف ذلك ، كان مكابرا معاندا.

الثالث : إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا : أن إرادتنا للشيء ، لا تتوقف على إرادتنا لتلك الإرادة. وإلّا لزم التسلسل. بل نعلم بالضرورة : أنا إن شئنا أم أبينا ، فإنا نريد ذلك الفعل المخصوص ، ونعلم أنه متى حصلت تلك الإرادة بنا. فالإنسان مضطر في صورة مختار.

والعجب من «أبي الحسين» أنه خالف أصحابه في قولهم : «الفعل لا يتوقف على الداعي» وزعم : أن الفعل يتوقف على الداعي ، وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي واجب. والاعتراف بهاتين المقدمتين : عين الاعتراف بالجبر. ثم إنه بعد ذلك بالغ في إثبات الاعتزال ، وزعم : أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. والجمع بين هذين القولين: عجيب. والأظهر : أنه لما بالغ في تقرير الجبر من حيث المعنى ، فلعله خاف من مخالفة أصحابه ، فأراد إخفاء ذلك المذهب بهذه المبالغة. والله أعلم.

الفصل الثاني

في

حكاية الدلائل التي تمسكوا بها

في اثبات أن العبد موجد

اعلم أنهم احتجوا بوجوه كثيرة :

الحجة الأولى : أنهم قالوا : إن أفعالنا يجب وقوعها على وفق دواعينا ، ويجب انتفاؤها على حسب كراهاتنا لها. وذلك يدل على وقوعها بنا.

أما المقدمة الأولى : فبيانها : أن الصائم في الصيف الصائف (١) إذا اشتدت شهوته إلى شرب الماء ، والشارع يشير إليه بذلك ، والطبيب يشير إليه به. وعلم قطعا أنه لا تبعية عليه في شرب ذلك الماء ، في الحال ولا في الاستقبال. فإنه لا بد وأن يشربه. وكذلك العالم بما في دخول النار من الألم ، إذا علم أنه لا نفع (٢) له في دخولها البتة ، وعلم أنه لو دخلها لحصلت آلام عظيمة في جسده. فإنه مع هذا العلم لا يدخلها البتة. فثبت بما ذكرنا : أن أفعالنا يجب وقوعها بحسب دواعينا ، ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا. وذلك هو تمام المقدمة الأولى.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : إن الأمر لما كان كذلك ، وجب أن يكون حدوث أفعالنا بنا. والدليل عليه : أنه لو كان المحدث لها غيرنا ، لصح

__________________

(١) الصيف (م).

(٢) يقع (م).

من ذلك الغير أن لا يحدثها عند حصول إرادتنا ، وأن يحدثها عند حصول كراهتنا. وذلك يبطل ما بيناه في المقدمة الأولى من وجوب مطابقة أفعالنا لدواعينا نفيا وإثباتا.

الحجة الثانية : الأنبياء عليهم‌السلام أجمعوا على أن الله أمر عباده ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها. ولو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما صح ذلك. فكيف يعقل أن يقول الله للعبد : افعل الإيمان والصلوات والعبادات ، ولا تفعل الكفر والمعاصي. مع أن الفاعل لهذه الأفعال ، والتارك لها ليس هو العبد؟ فإن أمر (١) الغير بالفعل يتضمن الإخبار عن كون ذلك المأمور قادرا على الفعل ، حتى إنه لو لم يكن المأمور قادرا عليه لمرض أو لسبب آخر ، ثم أمره غيره به. فإن العقلاء يتعجبون منه وينسبونه إلى الحماقة والجنون. ويقولون : إنك تعلم أنه لا يقدر على ذلك الفعل ، فكيف تأمره به؟ ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع المعجزات ، والكتب والشرائع. لأجل أن يبلغ ذلك الرسول تلك الشرائع إلى تلك الجمادات. ثم إنه تعالى يخلق الحياة والعقل لتلك الجمادات ، ويعاقبها ، لأجل أنهم لم يمتثلوا أمر الرسول ، حال كونها جمادات. وذلك مما يعلم فساده ببديهة العقل.

واعلم : أنا قد حكينا لهم استدلالهم بما تقرر من هذا الوجه ، على أن علم العبد بكونه موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري. وذلك الوجه مغاير لهذا الوجه. لأنا في ذلك الوجه استدللنا بحصول العلم الضروري ، وبحسن المدح والذم على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. والآن نستدل بحسن المدح والذم على كون العبد موجدا. فظهر الفرق.

ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : العبد وإن لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، إلا أنه مكتسب لها ويكفي (٢) هذا القدر في حسن المدح والذم؟ لأنا نقول : دخول فعل العبد في الوجود ، إما أن يكون من العبد ، وإما أن لا يكون منه

__________________

(١) من (م).

(٢) ففي [الأصل].

وهذا تقسيم دائر بين النفي وبين الإثبات ، ولا واسطة بينهما. فإن كان فعل العبد في الوجود من العبد ، فقد حصل المقصود. وإن لم يكن به ، فحينئذ يكون أمره بتحصيل العقل مع أنه لا قدرة له على التحصيل يكون أمرا له لما ليس في وسعه. وحينئذ تتوجه المحالات المذكورة. وإذا كان ترتيب الدليل على هذا الوجه لم يكن إلقاء لفظ الكسب (١) في البين : دافعا لهذا الإشكال البتة. وبالله التوفيق.

الحجة الثالثة : لو كان موجد فعل العبد هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل والترك ، تكليفا بما لا قدرة له عليه ، واللازم باطل. فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن العبد [لو كان (٢)] له قدرة [على الفعل (٣)] لكان إما أن يقدر عليه حال ما خلق الله الفعل ، أو حال (٤) ما لم يخلقه الله. والأول محال. لأن ذلك الفعل لما دخل في الوجود بتخليق الله تعالى ، امتنع أن يقدر العبد على تحصيله. لأن تحصيل الحاصل محال. والثاني محال. لأنه تعالى إذا لم يخلق ذلك الفعل ، فلو قدر العبد على تحصيله كان هذا تسليما ، لكون العبد قادرا على التحصيل والإيجاد ، وذلك ينافي قولنا : إنه غير قادر عليه. فثبت : [أن غيره قادر عليه. فثبت (٥)] أن موجد فعل العبد لو كان هو الله تعالى لما كان العبد قادرا على الفعل البتة. وإنما [قلنا (٦)] أنه قادر على الفعل. لأنه إذا قيل لنا : انتقل من هذا المكان إلى ذلك المكان. ثم قيل لنا : اخلق شمسا وقمرا وسماء وأرضا. فإنا ببديهة العقل ندرك التفرقة بين البابين ، ونعلم بالضرورة : أنه يمكننا الحركة يمنة ، بدلا عن يسرة ، وبالعكس. ولا

__________________

(١) الأشعري قال بالكسب ، كحل وسط بين القائلين بالجبر وبين القائلين بالاختيار. والكسب يرجع إلى الجبر. كما فسره الأشعري نفسه في كتاب الإبانة. فقد ذكر الأشعري الحديث المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه أن الملاك يكتب رزق الإنسان وأجله وأن شقى أو سعيد. واحتج به على القدر. فإذن القول بالكسب تبرير بدون دليل من القائل به. لأن القائل به دليل على الجبر.

(٢) من (م ، ل).

(٣) (م ، ل).

(٤) حال لم يخلقه والأول ... (م).

(٥) من (م).

(٦) من (ط ، ل).

يمكننا خلق الشمس والقمر والسماء والأرض. ولو لا كوننا قادرين على أفعالنا ، وإلا لما حصلت هذه التفرقة. وأما إلقاء لفظ الكسب في البين ، فلا فائدة فيه. لأنه إن كان قادرا على التحصيل ، فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن قادرا عليه ، فالإلزام المذكور لازم ، ولا واسطة بين القسمين. فكيف ينفع في مثل هذا الموضع إلقاء لفظة مجهولة في البين؟

الحجة الرابعة : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه لبطل القول بإثبات إله ، وبإثبات النبوة. وكون كتب الله المنزلة : حجة. وقد تقدم تقرير هذا الفصل.

الحجة الخامسة : إن الله تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عن فعلها. وكل من كان كذلك ، امتنع كونه فاعلا لهذه القبائح. وذلك يدل على أنه تعالى ما أوجد هذه القبائح البتة.

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنها ، فتقريره يتوقف على إثبات أمور ثلاثة :

الأول : أن القبائح إنما تقبح لوجوه عائدة إليها ـ وتقريره سيجيء في مسألة الحسن والقبح ـ.

وثانيها : إنه تعالى غني عن الحاجات.

وثالثها : إنه تعالى عالم بجميع المعلومات. وحينئذ يحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة ، قولنا : إنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنها.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : كل من كان كذلك ، فإنه لا يفعل القبيح البتة. فتقريره : إن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعي ، والعلم بقبح القبيح مع العلم بالاستغناء عنه : جهة صرف وامتناع. وكون العلم الواحد داعيا صارفا مقتضيا مانعا : محال. فثبت : أنه تعالى يمتنع أن يكون فاعلا لهذه القبائح.

الحجة السادسة : لو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، وفيها القبائح

كالظلم والعبث ، لجاز أن يخلقها ابتداء ، وحينئذ يلزم أن يكون ظالما عابثا سفيها. وذلك باطل بالعقل والسمع.

الحجة السابعة : إن من جملة أفعال العباد : الإشراك بالله ، ووصفه بالأضداد ، والصاحبة والأولاد ، وشتمه وسبه. فلو كان تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان فاعلا لكل هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته. لأن الحكيم لا يشتم نفسه. وفي ذلك إلحاقه بالسفهاء.

الحجة الثامنة : لو جاز أن يخلق الزنا واللواطة ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه. ولو جاز ذلك ، لجاز فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة ، والأفعال القبيحة ، ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف بالله وبرسوله وبالوالدين ، وذم المحسن ومدح المسيء.

الحجة التاسعة : لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه. لكان ضرره على العبد أشد من ضرر الشيطان [لأنه (١)] لا يمكنه أن يلجئهم إلى القبح ، بل الغاية القصوى منه : أن يدعوهم إلى القبح. كما حكى الله تعالى ذلك عنه في قوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) (٢) وأيضا : فدعاء الشيطان أيضا من فعل الله تعالى. وأما الله سبحانه ، فإنه يلجئهم إلى القبائح ويخلقها فيهم. ولو كان كذلك ، لكان يحسن من الكافر أن يمدح الشيطان ، وأن يذم الله سبحانه ـ تعالى الله علوا كبيرا ـ.

الحجة العاشرة : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما استحق ثوابا وعقابا ، ولكان تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير حصول استحقاق لذلك. ولو جاز ذلك ، لجاز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة. ولو كان كذلك ، لكان أسفه السفهاء. وقد نزه نفسه عن أن يفعل ذلك فقال في كتابه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣)؟.

الحجة الحادية عشر : لو خلق الكفر في الكافر ، لكان قد خلقه للعذاب

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٢٢.

(٣) سورة القلم ، آية : ٣٥ ـ ٣٦.

في نار جهنم. ولو كان كذلك ، لما كان لله نعمة على الكافر أصلا في الدين. وأيضا : على هذا التقدير ، وجب أن لا يكون له عليه شيء من النعم الدنيوية ، لأن اللذات العاجلة بالنسبة إلى العقوبة الأبدية. كالقطرة في البحر. وذلك لا يعد نعمة. ألا ترى أن من جعل السم في الحلو ، فإن اللذة الحاصلة من تناول ذلك [الحلو (١)] لا تعد نعمة. فكذا هاهنا. ومتى التزم ملتزم فقد خالف الكتاب. قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (٢) وقال : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (٣).

الحجة الثانية عشر : لو خلق الظلم والجور والفساد ، لصح وصفه بأنه ظالم وجائر ومفسد ، لأنه لا معنى للظالم إلا كونه فاعلا للظلم. ولذلك فإنه لا يصح إثبات أحدهما مع نفي الآخر. وأيضا : فإنه لما فعل العدل سمي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم وجب أن يسمى ظالما ، بل يجب أن لا يسمى العبد ظالما وسفيها ، لأنه لم يفعل شيئا من ذلك.

الحجة الثالثة عشر : لو جاز أن يخلق الكفر في الكافر ، ثم يقول له : لا تكفر. لجاز أن يقيد يديه ورجليه ثم يرميه من شاهق الجبل ، ويقول له : ارجع. ولجاز تكليف الأعمى بنقط المصحف. بل يلزم جواز التكليف بخلق العدم ، والجمع بين السواد والبياض. ولو جاز ذلك ، لجاز تكليف الجمادات. وكل ذلك باطل بالضرورة.

الحجة الرابعة عشر : لو كان تعالى هو الخالق لأعمال العباد ، لكان إما أن يتوقف خلقه لها على دواعيهم وقدرهم ، أو لا يتوقف. والأول باطل. لأنه يلزم منه أن يكون تعالى محتاجا إلى إرادتهم وقدرتهم. والثاني باطل لأنه يلزم أن يصح منه تعالى خلق تلك الأفعال من دون قدرتهم وإرادتهم. فيلزم صحة أن توجد الكتابة والصياغة المحكمتان فيمن لا يكون عالما بالصياغة والكتابة ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٢٨.

(٣) سورة القصص ، آية : ٧٧.

وصحة صدور الكتابة ممن لا يد له ولا قلم. ويلزم تجويز أن تقدر (١) النملة على نقل الجبال ، وأن لا يقوى الفيل على نقل الذرة ، وأن يجوز من الممنوع المقيد : المقدرة ، وأن يعجز القادر الصحيح المخلي : من تحريك الأنملة. وفي زوال الفرق بين القوي والضعيف ، وفساد تصرفاتهم في حبس السراق وقطاع الطريق. وكل ذلك معلوم الفساد بالضرورة.

الحجة الخامسة عشر : لو جوزنا صدور القبائح من الله تعالى فلعل هذه العلوم البديهية الحاصلة فينا ، كلها جهالات ، خلقها الله فينا ، وجعلها فرية متأكدة في قلوبنا. وتجويز ذلك يفضي إلى الشك في البديهيات ، وكل باطل محال.

فهذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.

واعلم : أن هذه الوجوه ـ وإن كثرت ـ إلا أن حاصلها راجع إلى شبهات (٢) أربعة:

أولها : إن وجود أفعالنا دائر مع حصول قصورنا وإرادتنا ، فوجب أن يكون وقوع هذه الأفعال بها.

وثانيها : إن المكنة من الفعل والترك ، أمر وجداني اضطراري ، وكون الله تعالى موجدا لأفعال العباد ، يبطل هذا الوجدان.

وثالثها : إن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، يلزم أن يكون تكليفه جاريا مجرى تكليف العاجز. وذلك قبيح في العقل. ولزم كونه تعالى خالقا لهذه القبائح ، وبشتم نفسه. وكل ذلك قبيح في العقول.

ورابعها : إنه لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لزم العجز عن إثبات الإله ، وعن إثبات النبوة ، وعن كون القرآن معجزا. وكل ذلك باطل.

__________________

(١) تقوى (م).

(٢) أمور [الأصل].

فهذا حاصل هذه (١) الوجوه.

والجواب عما احتجوا به أولا من وجوه :

الأول : إنكم إما أن تدعوا وجوب حصول الفعل عند حصول الداعي ، وامتناع حصول الفعل عند عدم تلك الدواعي. وإما أن لا تدعوا ذلك. فإن ادعيتم الأول لزمكم الجبر ، لأن حصول تلك الدواعي ليست (٢) من العبد. وإلا لزم التسلسل ، بل تكون من الله تعالى.

وعلى هذا التقدير : إذا خلق الله في العبد تلك الدواعي ، وجب حصول ذلك الفعل ، شاء العبد أم أبى [وإذا لم يخلقها فيه امتنع حصول الفعل ، شاء العبد أم أبى (٣)] وإذا كان كذلك ، كان تكليف العبد تكليفا بما ليس في وسعه. وأيضا : فلأنه تعالى لما كان هو الفاعل لما يوجب حصول هذه الأفعال القبيحة ، كان أيضا فاعلا لهذه القبائح. لأنه لا فرق بين فعل القبيح ، وبين ما يوجب فعل القبيح ، أو فعل ما يجب عنده القبيح. فأما أن لا تقولوا بوجوب حصول الفعل عند حصول الإرادة ، وامتناع حصوله عند عدم الإرادة. فحينئذ لا يتم لكم هذا الاستدلال. لأنه إذا لم يجب حصول الفعل عند حصول الدواعي ، لم يلزم من عدم حصول الفعل عند توفر الدواعي ، ومن حصوله عند خلوص الصوارف : محال. وحينئذ يفسد هذا الدليل بالكلية.

الثاني : أن نقول : لا نسلم أن حصول هذه الأفعال عند توفر الدواعي واجب. وذلك لأنه ليس حصول الأفعال عند حصول الدواعي أظهر من حصول الشبع للحي السليم ، عند تناول الغذاء (٤) الجيد. وحصول الري عقيب الشرب. وحصول النبت عند إلقاء البذر في الأرض الحرة ، مع حصول سائر الشرائط من السقي والشمس. ثم إن الأكثرين من المعتزلة : سلموا أن

__________________

(١) هذا الجواب (م).

(٢) ليس (م).

(٣) من (ط).

(٤) العبد (م).

حصول هذه الأشياء عقيب هذه الأمور على سبيل العادة ، لا على سبيل الوجوب. فكذا هاهنا.

الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الفعل كان واجب الحدوث في ذلك الوقت بعينه لذاته ، وكان ممتنع الحدوث في سائر الأوقات لعينه ولذاته؟ وهذا غير مستبعد على أصول المعتزلة. وذلك لأن عندهم الأعراض التي لا تبقى ، يختص (١) حدوث كل واحد منها بوقت معين ، مع أنه كان يمتنع حدوثه قبل ذلك أو بعده. فإذا عقل اختصاص ذلك الجواز بوقت دون وقت ، فلم لا يجوز أيضا أن يختص وجوب حدوث هذه الأفعال ، بوقت دون وقت ، لا لمؤثر أصلا البتة؟ وعلى هذا التقدير ، يمتنع أن يقال : إن ذلك الفاعل إنما وقع بقدرة العبد. وعلى هذه الشبهة [أصول كثيرة ، شرحناها في كتاب «نهاية العقول»].

وأما الشبهة (٢) الثانية : وهي قوله : «لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لزم أن لا يكون متمكنا من الفعل والترك».

فالجواب عنها : أن نقول : هذا أيضا لازم عليكم في صور كثيرة :

أولها : إن علم الله متعلق بجميع الجزئيات. وما علم أنه يقع : محال أن يقع ، وما علم أنه لا يقع : محال أن يقع. فيلزمهم في العلم ، كل ما ألزموه علينا في الإيجاد.

الثاني : إنه تعالى أخبر عن «أبي جهل» أنه لا يؤمن ، فلو صدر عنه الإيمان ، انقلب الخبر الصدق : كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال : محال. فلزمهم في الجبر ما ألزموه علينا.

الثالث : أن يقال : كلف «أبو لهب» بالإيمان. ومن الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنه : أنه لا يؤمن. فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن.

__________________

(١) تخصيص (م).

(٢) من (ط ، ل).

الرابع : إنه تعالى إذا وجب [عليه (١)] إيصال الثواب والعوض إلى العبد ، فإذا لم يفعل ذلك ، لزم إما الجهل أو الحاجة. وهما محالان. والمفضي إلى المحال : محال. وهذا يقتضي أنه يستحيل من الله [تعالى (٢)] عقلا أن لا يفعل ذلك الواجب. وإذا امتنع الترك ، وجب الفعل. فإن كان هذا الوجوب يمنع من المدح والذم ، وجب أن لا يستحق الله تعالى بذلك مدحا ، ولا بتركه ذما. وذلك باطل.

الخامس : إنا بينا : أن البديهة دلت على أن الفعل يتوقف على الدواعي. وبينا (٣) : أن عند حصول الداعية يجب الفعل. وعلى هذا التقدير فالجبر لازم ، ويلزمهم ما ألزموه علينا. وأيضا : فبتقدير أن نقول : فاعل الفعل لا يتوقف على الداعي ، كان معناه : أن القادر يصدر عنه أحد الفعلين من غير أن يميل طبع ذلك [الفاعل إلى ذلك (٤)] الواقع من غير أن يخص ذلك الفاعل ، ذلك الواقع بأمر البتة. وعلى هذا التقدير يكون حصول ذلك الفعل [حصولا (٥)] على الاتفاق من غير تخصيص ، ومن غير ترجيح. والاتفاقيات لا تكون في الوسع والقدرة. فحينئذ يكون التكليف به ، تكليفا بما لا يطاق. وأيضا : بتقدير أن يقول قائل : الفعل يتوقف على الداعي ، لكن عند حصول الداعي لا يجب. فإنه إذا لم يجب جاز تارة ، وأن لا يجوز (٦) أخرى. وحينئذ يكون اختصاص أحد الوقتين بالوقوع دون الوقت الثاني ، يكون اختصاصه (٧) به اتفاقيا ، لا لمرجح أصلا. وذلك يوجب الجبر ـ على ما قررناه ـ وحينئذ يلزمهم كل ما ألزموه علينا.

السادس : إن الأمر بتحصيل العلم وارد. كقوله تعالى : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) وهنا (م).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط).

(٦) يوجد (م).

(٧) اختصاص (م).

لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (١) وقد دللنا على أن تحصيل العلم : ليس في الوسع.

السابع : إن التكليف. إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعي إلى الفعل والترك ، أو حال الرجحان. فإن كان الأول لزم أن يصير مأمورا بالترجيح حال الاستواء ، وذلك تكليف بالجمع بين النقيضين. وإن كان الثاني فهو محال. لأنه [إن (٢)] أمر بترجيح الطرف الراجح كان ذلك أمرا بتكوين الكائن. وهو محال. وإن أمر بترجيح الطرف المرجوح كان ذلك أمرا بأن يحصل المرجوح حال كونه مرجوحا راجحا. فيكون أمرا بالجمع بين النقيضين. وهو محال. ولا يقال : إنه حال الاستواء يكون مأمورا بأن يرجح بعد ذلك. لأنا نقول : هذا باطل. لأنه إما أن يكون المراد منه : أنه حال الاستواء مأمورا بأن يرجح في الزمان الثاني ، قبل مجيء الزمان الثاني ، أو عند مجيئه. والأول محال. لأن إحداث الترجيح في الزمان الثاني قبل حضور الزمان الثاني محال. وإن كان الحق هو الثاني ، فنقول : إن عند مجيء الزمان الثاني يعود التقسيم المذكور فيه. لأن عند مجيء الزمان الثاني ، إما أن يكون الطرفان على السوية ، أو لا يكون على السوية ، وحينئذ تعود المحالات المذكورة.

الثامن : إن القدرة إما أن تكون قدرة على الفعل [حال وجود الفعل (٣)] أو حال عدمه. والأول يقتضي أن يقال : الكافر لا قدرة له على الإيمان. مع أنه مأمور بالإيمان. فيكون هذا تكليف بما لا يطاق. والثاني محال. لأن قبل الوجود يكون الشيء باقيا على عدمه الأصلي ، والعدم الأصلي لا يكون مقدورا ، فيمتنع أن تكون القدرة ، قدرة عليه. ولا يقال : القدرة حال عدم الفعل تقتضي حصول وجود ذلك الفعل في الزمان الثاني. لأنا نقول: إما أن يكون المراد أن القدرة تقتضي حصول الوجود في الزمان [الثاني (٤)] قبل حضور الزمان الثاني ، أو بعد حضوره. والقسمان باطلان. على ما سبق تقريره.

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ١٩.

(٢) زيادة.

(٣) من (ط).

(٤) من (ط ، ل).

التاسع : التوبة واجبة. وقد دللنا على أن تحصيل الندم ليس في الوسع.

العاشر : إن العبد إذا صار مأمورا ، بأن يحرك إصبع نفسه ، فقد صار مأمورا بتحريك جملة الأجزاء التي منها تركب ذلك الإصبع ، في جميع تلك الأحياز ، التي منها تركبت (١) تلك المسافة في جميع تلك الآنات ، التي منها تركب ذلك الزمان. ثم أن كمية تلك الأجزاء مجهولة ، وكمية تلك الأحياز مجهولة ، وكمية تلك الآنات مجهولة. فكان الأمر بهذا الفعل ، أمرا بتكوين ما هو مجهول من هذه الوجوه. وذلك تكليف بما ليس في الوسع. لأن القصد إلى تكوين ما هو غير معلوم ، ولا متصور : تكليف بما لا يطاق.

فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن الذي ألزموه علينا ، فهو لازم عليهم. وهذه المسائل العشرة ، كل ما هو جوابهم عنها ، هو جوابنا عما ألزموه علينا. وأما أصحابنا. فقد أوردوا عليهم إلزامات أخرى :

أحدها : أن الذوات عندهم حاصلة في العدم ، فلا يمكن أن يكون للقدر أثر فيها. وأما الصفة صفة (٢) الوجود فهي عندهم حال ، والحال لا تكون معلومة ولا مقدورة. وأما الماهية الموجودة فهي ليست إلا الماهية وإلا الوجود. ولما لم يكن واحد منهما صالحا للمقدورية ، لم يكن المجموع أيضا صالحا للمقدورية. فيلزمهم أن يكون التكليف بالفعل ، تكليفا بما لا يطاق. إلا أن هذا الإلزام غير وارد على «أبي الحسين» فإنه ينكر كون المعدوم شيئا.

وثانيها : إن عندهم الكائنية معللة بمعنى يوجبها. ثم إن أكثر الخلق لا يتصورون هذا المعنى. والقدرة لا تأثير لها في الكائنية أصلا. إذا ثبت هذا ، فنقول : التكليف إن وقع بتحصيل الكائنية ، كان ذلك تكليفا بما لا يطاق. لأن العبد لا قدرة له على الكائنية. وإن وقع بتحصيل ذلك الموجب ، فذلك غير متصور الماهية ، عند أكثر الخلق. فكان التكليف بإيجاده تكليفا بتحصيل ما لا تكون ماهيته متصورة عند الذهن. وذلك تكليف بما لا يطاق. لأن إيجاد

__________________

(١) تركيب (م).

(٢) الصفة (م).

الشيء لا يمكن إلا بالقصد إلى تحصيله والقصد إلى تحصيله مشروط بالعلم بماهيته. وعند فقدان هذا العلم يكون هذا تكليفا بما لا يطاق. إلا أن هذا الإلزام غير وارد على «أبي الحسين» لأنه لا يثبت هذا المعنى. والله أعلم.

وأما الشبهة الثالثة :

فالجواب عنها من وجهين :

الأول : إنا بينا بالدلائل العشرة : أنه تعالى كلف بما لا يطاق. وذلك يبطل قولهم : أنه تعالى لا يفعل ذلك.

والثاني : إنه بناء على الحسن والقبح العقلين. وذلك باطل على ما سيأتي تقريره إن شاء الله.

واعلم : أن أكثر ما ذكروه من الوجوه راجع إلى هذا الأصل. مثل : قولهم : لو جاز تكليف العبد بما لا قدرة له عليه ، لجاز إرسال الرسل إلى الجمادات. وأيضا : لا يجوز من الحكيم أن يخلق شتم نفسه. وأيضا : لو جاز مثل هذا التكليف ، لجاز أن يقيد يديه ورجليه ، ويلقيه من شاهق الجبل ، ثم يضربه ، ويقول له : قف في الهواء. فإن هذه الكلمات يرجع حاصلها إلى أنها قبيحة في العقول. فإذا نازعنا في هذا الأصل ، فقد سقط الكل.

وأما الشبهة الرابعة : وهي قولهم : «لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما أمكن الاعتراف بالصانع وبالنبوة وبكون القرآن حقا» فالجواب : أن الاعتراف بهذه الأصول إن كان موقوفا على العلم يكون العبد موجدا ، لم يكن إثبات كون العبد موجدا ، بالبناء على تلك الأصول. وإلّا وقع الدور [وإن لم يكن موقوفا عليه ، لم يلزم من القدح في كون العبد موجدا ، القدح في تلك الأصول. والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ط ، ل).

الباب السادس

في

حكاية الدلائل القرآنيّة

التي يتمسكون بها

اعلم : أن كلام المعتزلة في هذا الباب قد طال وكثر. ونحن نشير إلى معاقد أقوالهم على سبيل الاختصار.

النوع الأول

الاستدلال الاجمالي

وتقريره : إن المقصود من جميع كتب الله المنزلة. إما تقرير الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد. وإما الأمر والنهي ، والمدح والذم ، والثواب والعقاب. وإما القصص (١) لإرادة أن يعتبر المكلف ، فيحترز عن مخالفة تكاليف الله تعالى. فهذه هي المعاقد الكلية ، والمطالب الأصلية من كتب الله المنزلة. وكلها مبطلة للقول بالجبر. أما تقرير الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد وسائر المطالب ، فالكل على مذهب الجبر عبث باطل. لأنه تعالى إن كان قد خلق العلم والمعرفة بتلك الأشياء ، فلا حاجة به البتة الى معرفة الدلائل. وإن كان الله لم يخلق العلم في المكلف ، لم ينتفع المكلف البتة بشيء من تلك الدلائل. فعلى كلا التقديرين [يكون (٢)] نصب الدلائل وتقريرها وإيضاحها : عبثا ضائعا ، على مذهب الجبر. وأما الأمر والنهي فهو أيضا ضائع على مذهب الجبر. لأن الأمر والنهي إنما يحسنان إذا كان المأمور والمنهي قادرا على الفعل ، متمكنا منه. ألا ترى أن من قيد يداه ورجلاه ورمي من شاهق جبل ، ثم أمر بالرجوع ، أو نهي عن النزول : كان ذلك سفها وعبثا. ولو كان [كل (٣)] فعل : خلقه الله تعالى ، لكان جميع تكاليف الله تعالى كذلك. لأن الذي خلقه

__________________

(١) التقصيص (م).

(٢) زيادة.

(٣) زيادة.

الله تعالى فيه كان واجب الحصول. فكان الأمر به جاريا مجرى ما إذا يقيد الإنسان يدي عبده ورجليه ، ويرميه من شاهق الجبل ، ثم يقول [له (١)] : انزل ، وإن [لم (٢)] تنزل عذبتك. والذي ما خلقه الله تعالى فيه [يكون (٣)] ممتنع الحصول ، فكان الأمر به جاريا مجرى ما إذا يقيد يديه ورجليه ويرميه من شاهق الجبل ، ثم يقول له : ارجع وإن لم ترجع (٤) عذبتك. ومعلوم : أن أمثال هذه التكاليف عبث فاسد. فثبت : أن القول بالجبر يفضي (٥) إلى أن تكون جميع تكاليف الله باطلة ضائعة. وأما المدح والذم والوعد والوعيد فكل ذلك إنما يحسن إذا كان المخاطب قادرا على الفعل والترك ، متمكنا منهما. حتى أنه إذا (٦) أطاع باختياره مدح وأثيب ، وإن (٧) عصى باختياره ذم وعوقب. فأما إذا خلق الكفر فيه ، شاء أم أبى ، ثم يعاقبه عليه أبد الآباد ، ويذمه عليه ، ويقول : لم فعلت؟ فهذا محض الكذب ، ومحض الظلم والسفه. وأما القصص المذكورة في كتب الله المنزلة. فالفائدة منها : أن يعتبر المكلف بها ، فيقدم على الطاعة ، وينزجر عن المعصية. كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٨).

وهذه الفائدة إنما تحصل إذا كان العبد قادرا على الاختيار أولا ، وقادرا على الطاعة والمعصية ثانيا. فأما إذا كان لا قدرة له على الطاعة ولا على المعصية الستة ، كان ذكر الاعتبار عبثا محضا. لأن الله تعالى إن خلق الطاعة فيه ، فهي حاصلة. سواء حصل ذلك الاعتبار أو لم يحصل ، وإن لم يخلقها امتنع حصولها. سواء حصل هناك اعتبار ، أو لم يحصل. فكان ذكر القصص لإرادة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) ولم ترجع (م).

(٥) يقضي أن يكون (م).

(٦) إنما (م).

(٧) ولك (م).

(٨) اخر سورة يوسف.

الاعتبار عبثا محضا. فثبت بما ذكرنا : أن المقصود من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب عليهم : ليس إلا هذه الأمور ، وثبت : أنها بأسرها لا تقرر إلا على القول بالعدل ، وإبطال القول بالجبر والجور. فثبت : أن جميع كتب الله ناطقة بفساد القول بالجبر (١).

__________________

(١) في التوراة : «إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ، ليست عسرة عليك. ولا بعيدة منك. ليست هي في السماء ، حتى تقول : من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. ولا هي في عبر الحبر ، حتى تقول : من يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جدا. في فمك وفي قلبك لتعمل بها» [تثنية ٣٠ : ١١ ـ ١٤].

ومعلوم أن أ ـ الوصية هي الشريعة. ب ـ والغرض من الشريعة : العمل بها. ت ـ والعمل بها يستلزم أن يكون الإنسان قادرا على الفعل ، وقادرا على الترك.

وفي الإنجيل : يستدل المسيح عليه‌السلام بنص التوراة السابق على كون الإنسان حرا. يقول المسيح : «أما كون الإنسان حرا ، فواضح من كتاب موسى. لأن إلهنا عند ما أعطى الشريعة على جبل سيناء. قال هكذا : «ليست وصيتي في السماء لكي تتخذ لك عذرا قائلا : من يذهب ليحضر لنا وصية الله؟ ومن يا ترى يعطينا القوة لنحفظها؟ ولا هي وراء البحر ، لكي تعد نفسك كما تقدم. بل وصيتي قريبة من قلبك ، حتى إنك تحفظها متى شئت» ... الخ [برنابا ١٦٤].

وفي إنجيل لوقا يقول المسيح : «ولا تبتدءوا تقولون في أنفسكم : لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم : إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا ، تقطع وتلقى في النار» [لوقا ٣ : ٨ ـ ٩].

وبولس قد حرف نص التوراة عن مواضعه ـ النص الذي استدل به المسيح على الحرية ـ بقوله : إن المراد من وصية الله هي الإيمان بالمسيح ربّا مصلوبا. وأما العمل فإنه غير واجب على الإنسان إذا آمن بالمسيح ، لأن المسيح ألغى الأعمال بصلبه فداء عن الخطايا. وتفسير بولس باطل لأنه إذا ألغى الأعمال ونادى بأن المسيح هو الإله الخالق للعالم. فإن يكون داعيا إلى هدم الشريعة من أساسها [انظر الرسالة إلى أهل رومية].

وفي القرآن الكريم يقول تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي من كانت نيته متجهة إلى الضلال واستحب الضلال على الهدى. فإن الله يضله. ولقد سأل المسيح عن سبب ضلال الله لفرعون. فأجاب بقوله : «إنما فعله لأنه نكل بشعبنا وحاول أن يبغى عليه بإبادة كل الأطفال الذكور من إسرائيل ، حتى كاد موسى أن يخسر حياته» [برنابا ٦٦].

النوع الثاني

من وجوه تمسكهم بالقرآن

أن قالوا : القرآن من الباء من «بِسْمِ اللهِ» إلى السين من قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ناطق بفساد مذهب الجبر. ونحن نشرح ذلك في سورة الفاتحة. ليقاس عليه الباقي. ورتبناه على فصول :

الفصل الأول

في

المباحث المستنبطة من قولنا :

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»

قالوا : هذا يدل على بطلان القول بالجبر من وجوه :

الأول : إن قولنا : «أعوذ» : اعتراف بكون العبد فاعلا. ولو كان فعل العبد (١) مخلوقا لله تعالى ، لامتنع كونه فاعلا ، للاستعاذة. لأن تحصيل الحاصل محال ، لأن الله تعالى إذا خلق ذلك الفعل ، لم يقدر العبد على الامتناع منه ، وإن لم يخلقه الله تعالى فيه ، استحال منه الإقدام على تحصيله. فثبت : أن قوله : «أعوذ» : اعتراف بكونه موجدا لأفعال نفسه.

__________________

(١) الفعل (م).

الثاني : إن الاستعاذة بالله ، إنما تعقل ، لو لم يكن الله هو الفاعل للأمور التي منها يستعاذ. أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ به تعالى من تلك الأفعال. لأنه يصير كأنه استعاذ بالله ، من الله ، في الفعل الذي فعله الله تعالى.

الثالث : إن إقدام العبد على الاستعاذة من المعاصي ، يدل على أن العبد غير راضي بها. ولو كانت المعاصي مخلوقة لله تعالى ، لزم أن لا يكون العبد راضيا بقضاء الله. وذلك كفر.

الرابع : إن الاستعاذة بالله من الشيطان ، إنما تعقل لو كانت الوسوسة فعلا للشيطان. أما إذا كانت فعلا لله تعالى ، ولم يكن للشيطان فيها (١) أثر. فكيف يعقل أن يستعاذ من شر الشيطان؟

الخامس : إن لفظ «الشيطان» مشتق. إما من شطن ، وهو البعد. أو من شاط ، وهو الاحتراق. وعلى التقديرين فهو اسم دم. والذم إنما يحسن في حق القادر على الفعل. فإذا كان الشيطان لا قدرة له على الفعل لم يحسن ذمه.

السادس : إن «الرجيم» معناه المرجوم. وهو إشارة إلى كونه معذبا. وذلك إنما يحسن في [حق (٢)] القادر على الفعل. لا في حق العاجز عنه.

فثبت بما ذكرنا : أن قوله «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : يبطل القول بالجبر. ولا يقال : إنا لا نقول بالجبر ، بل نقول : العبد مكتسب. لأنا نقول : هذا ليس بشيء. فإن العبد إما أن يمكنه تحصيل شيء وتكوينه ، أو لا يمكنه ذلك. فإن أمكنه فهو مذهبنا. وإن كان لا يمكنه فقد توجهت السؤالات المذكورة. وليس بين النفي والإثبات واسطة. فثبت: أن إلغاء لفظ الكسب في الشيء : محض التزوير.

قال أهل السنة والجماعة : إن كانت الوجوه التي استنبطوها من قولنا :

__________________

(١) فيه (م).

(٢) من (ط ، ل).

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» توجب فساد الجبر ، فههنا وجوه أخرى مستنبطة منها توجب فساد القول بالاعتزال.

فالأول : إن شر الشياطين والأبالسة إذا لم يكن لله [تعالى (١)] فيه أثر البتة ، لم تجز الاستعاذة بالله. لأن على هذا التقدير إما أن يكون المطلوب من الله في هذه الاستعاذة : أن يمنع الشيطان بالنهي والزجر والتهديد ، أو بأن يمنعه منه بالقهر والإلجاء.

أما الأول فقد فعله الله تعالى ، فكان طلبه لتحصيل الحاصل ، وهو عبث. وإن كان الثاني لم يجز من الله تعالى أن يفعله ، لأن الإلجاء ينافي كون الشيطان مكلفا.

الثاني : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع منه ذلك. فإن [كان (٢)] المتوقع من الشيطان إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاحه ، فلم خلقه؟ ولم يسلطه على العبد؟ وإن كان لا يتوقع منه إفساد العبد. فأي فائدة في الاستعاذة بالله منه؟

وأما الثاني : فهو أن الله قد لا يريد إصلاح العبد. وعلى هذا التقدير : الاستعاذة بالله لا تفيد الاعتصام من آفات الدين والدنيا.

الثالث : إن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو لا يكون قادرا على الشر والخير. فإن كان الأول فقد أجبره الله تعالى على الشر. وذلك يناقض الاعتزال. وإن كان الثاني فحينئذ لا تترجح فاعلية الشر على فاعلية الخير ، إلا لمرجح من قبل الله تعالى ـ على ما قررناه مرارا وأطوارا ـ فحينئذ يلزم الجبر ـ فكيف يستعاذ من الشيطان؟

الرابع : إن كان الفعل المستعاذ منه : معلوم الوقوع. فهو واجب

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) زيادة.

الوقوع. وإن كان معلوم اللاوقوع ، فهو ممتنع الوقوع. وعلى التقديرين فلا فائدة في الاستعاذة.

الخامس : إنا إذا قلنا : ضلال الكافر والفاسق ، إنما حصل من وسوسة الشيطان. فإن قلنا : إن ضلال الشيطان ، إنما حصل من شيطان آخر. لزم التسلسل. وهو محال. وإن قلنا : حصل من قبل نفسه ، فهو باطل من وجهين :

الأول : إنا إذا قلنا ذلك ، فلم لا نقول : إن ضلال الكافر والفاسق إنما حصل من قبل نفسه ، لا من قبل الشيطان؟ وحينئذ تكون الاستعاذة من الشيطان عبثا.

الثاني : إن المكلف لا يرضى لنفسه [البتة (١)] باختيار الجهل والكفر ، إلا إذا قيل: إنه إنما اختار ذلك ، لأنه ظن أن ذلك الاعتقاد : علم. لأنه على هذا التقدير لا يمكنه اختيار هذا الجهل ، إلا لسبق جهل آخر. ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جهل أول. وحينئذ يعود السؤال في كيفية حصوله. فثبت : أن ضلال ذلك الشيطان إنما حصل بإضلال الله تعالى ، وحينئذ تقبح الاستعاذة بالله من الشيطان ، على هذا التقدير. وإلى هذا التحقيق الإشارة بقوله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) (٢) يعني : إن كانت غوايتهم منا ، فغوايتنا ممّن. فالذي أغوانا هو الذي أغوى الكل.

الوجه السادس في بيان أن الاستعاذة من الشيطان غير معقولة : إن الحدقة السليمة إذا صارت مقابلة للمرئي ، وكان ذلك المرئي قريبا ، والشرائط حاضرة ، والموانع زائلة. فعند اجتماع هذه الأمور يجب حصول الإدراك. وحصول الإدراك مستلزم للعلم بماهيّة المدرك. والعلم بماهية المدرك يوجب

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) سورة القصص ، آية : ٦٣ وفي تفسير مجمع البيان : (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون أتباعهم (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي أضللناهم عن الدين بدعائنا إياهم إلى الضلال ، كما ضللنا نحن بأنفسنا.

العلم بكونه نافعا أو ضارا أو خاليا عنهما. والعلم بكونه نافعا خاليا عن المعارض يوجب الميل إلى تحصيله. والعلم بكونه ضارا خاليا عن المعارض يوجب النفرة عنه. والميل الجازم يوجب الفعل والنفرة توجب الترك. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ترتب ضروري ذاتي ، ولا عمل للشيطان فيه. لأن الواجب بذاته لا يصير واجبا بغيره. وثبت : أنه لا تأثير لعمل الشيطان في مرتبة من هذه المراتب. فكيف يستعاذ بالله منه؟ بقي أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الشيطان ألقى كلاما في خاطر الإنسان وذكره صورة أمر ، بعد أن كان غافلا؟ لكنا نقول : صدور هذا التذكير عن الشيطان ، لا بد فيه من المراتب الأربعة المذكورة. فإن كان ذلك الإدراك إنما حصل في قلب ذلك الشيطان ، لأن شيطانا آخر ذكره ، لزم التسلسل. وإن انتهت هذه الحركات والبواعث والدواعي (١) إلى [أنها] لم تقع [إلا] بتخليق الله وبتكوينه فقد صار الكل من الله وحينئذ يرجع حاصل قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى ما صرح به رسول الله وهو قوله : «أعوذ بك منك» فوسوسة الشيطان هي المبدأ القريب ، وفعل الحق سبحانه هو المبدأ البعيد. لأنه سبحانه مسبب الأسباب. ومراتب الكتاب منتهية إليه ، ودرجات الحاجات متصاعدة إليه.

ونظيره : قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٢) ثم قال : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٣) ثم قال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٤) وما ذاك إلا لما ذكرنا : من أن من الأسباب ما قد تكون قريبة ، وقد تكون بعيدة. فكذا هاهنا.

الوجه السابع : إن المقصود من الاستعاذة. إما أن يكون طلب مصالح الدين ، أو طلب مصالح الدنيا. فإن كان الأول فالمطلوب : إما الأقدار ، أو التمكين ، أو تحصيل الإيمان. أما الأول فهو حاصل عند المعتزلة. فلم لا يجوز طلبه؟ وأما الثاني فذاك اعتراف بأن الإيمان والكفر من الله. وأما مصالح الدنيا

__________________

(١) والدواعي التي لم تقع بتخليق ... الخ [الأصل].

(٢) سورة الزمر ، آية : ٤٢.

(٣) سورة السجدة ، آية : ١١.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ٦١.

فهي خسيسة. فلا يجوز أن يجعل (١) المكلف طلبها ، مقدمة لإقدامه على جميع العبادات والطاعات. والله أعلم.

فهذا خلاصة المباحث الواقعة في ماهية الاستعاذة ، على المذهبين.

وبالله التوفيق

الفصل الثاني

في

المباحث الواقعة في قولنا : (بِسْمِ اللهِ)

قالت المعتزلة : الإله هو الذي تحق له العبادة.

وهذا المعنى لازم على القول بالجبر. وبيانه من وجهين :

الأول : إنه تعالى إنما يكون مستحقا للعبادة ، لأنه صدر عنه غاية الإنعام والإحسان. ولو أنه خلق فيهم الكفر ، ليستدرجهم إلى النار ، لما كان منعما على العبيد. وأيضا : فكل من آمن في الحال ، لم يأمن أن تكون عاقبة أمره : الردة والكفر. وحينئذ يصير كل ما هو فيه وبالا عليه. ومن كان كذلك ، فهو أعظم المفترين ، لأعظم المنعمين. فكيف يستحق العبادة والتعظيم؟ ولهذا السبب قال الجبائي في تفسير قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٢) : إن كان تعالى يخلق الكفر في الكافر [في الدنيا (٣)] ثم يعذبه عليه أبد الآباد في الآخرة ، فحينئذ لا يكون هو ـ تعالى ـ (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بل يكون: بئس المولى وبئس النصير.

الثاني : إنه ـ تعالى ـ إنما يستحق العبادة على العبد ، لو كان العبد قادرا

__________________

(١) يحصل (م).

(٢) آخر الحج.

(٣) من (ط ، ل).

على فعل (١) العبادة. أما إذا كان العبد غير قادر على العبادة. بل يكون القادر على العبادة هو الله تعالى لزم أن يقال : إنه استحق على نفسه أن يعبد نفسه ، وذلك غير معقول.

قال أهل السنة : كلامكم مبني على أن لفظ «الله» معناه : المستحق للعبادة. وهذا باطل. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنا بينا في تفسير أسماء الله : أن «الله» : اسم [علم (٢)] غير مشتق.

[الثاني (٣)] : لو سلمنا أنه مشتق ، لكن لا نسلم أن معناه : أنه الذي يستحق العبادة. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنه لو كان كذلك ، لوجب أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم ، لأنه ـ تعالى ـ يستحق عليها العبادة ، ولزم أن لا يكون إلها في الأزل لم يخلق أحدا ، ولم ينعم على أحد فلم يكن مستحقا للعبادة.

الثاني : إنا بينا : أن العقل لا يدل على حصول الاستحقاق. لأنه لا يتفاوت حال المعبود بسبب هذه العبادة ـ وهي شاقة على العابد ـ فوجب أن لا يحكم العقل بوجوبه.

إذا ثبت هذا ، فنقول : الإله هو القادر على الاختراع. والدليل عليه : أنه تعالى إنما ظهر الامتياز بينه وبين سائر الذوات بصفته الخلاقية. فقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٤)؟ ولما كان المذكور في معرض الامتياز هو هذه الصفة ، علمنا : أن معنى الإلهية ليس إلا الخلاقية. فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان خالقا لها ، وحينئذ يبطل الفرق بين الإله ، وبين العبد في

__________________

(١) أفعال (م).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٤) سورة النحل ، آية : ١٧.

أخص أوصاف الإلهية. فكان قولنا (بِسْمِ اللهِ) دالا على أن العبد غير موجد من هذا الوجه.

الفصل الثالث

في

المباحث الواقعة في قولنا : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قالت المعتزلة : لو كان الكفر والفسق كله من الله ، لا من العبد ، لكان المغضوب عليه من الخلق ، أكثر من المرحوم. لأن أهل النار أكثر من أهل الجنة. ومن كان عقابه وضرره أكثر من رحمته وإحسانه ، لم يكن رحمانا. لأن الرحمن هو الكامل في الرحمة ، والرحيم من صفة الرحمة بشرط أن لا يحصل نقيضه. قالوا : فأما على مذهبنا فإنه يتم لنا القول بأنه الرحمن الرحيم. لأنه تعالى خلق الخلق كلهم للنفع والرحمة ، وأما الذين كفروا وفسقوا فمن جهة أنفسهم. ونقول في ذلك كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ، حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١) وقال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ. إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (٢) وقال : (قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي. لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٣) فثبت : أن كونه رحمانا رحيما لا يثبت إلا على قولنا.

قال أهل السنة والجماعة : هذا الذي أوردتم علينا ، وارد عليكم. وبيانه من وجوه :

الأول : عند حصول القدرة والداعية. إما أن يجب الفعل ، أو لا يجب. فإن وجب ، لزمكم ما ألزمتموه علينا. لأنه تعالى هو الخالق لتلك القدرة ولتلك الداعية. وهما يوجبان الكفر والفسق. فكان ذلك إجبار للعبد على القبح. وأما إن قلتم : إن عند حصول القدرة والداعية لا يجب الفعل فحينئذ يكون صدور الفعل اتفاقيا ، والاتفاقي لا يكون مقدورا للعبد. فيترتب

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ١١.

(٢) سورة النساء ، آية : ١٤٧.

(٣) الفرقان ، آية ٧٧.

أن العقاب عليه ظلم. فثبت : أن الذي أوردوه [علينا (١)] وارد عليهم لا محالة.

الثاني : إن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع. فإذا قال لمن علم أنه يموت على الكفر : كلفتك بالإيمان. فكأنه قال له : غير علم الله وإلا عاقبتك. ومعلوم أن هذا لا يليق بالرحمة البتة. لأن كل ما أوصل الله من الرحمات إلى عباده ، لا يخلو إما أن يقال : إنه تعالى أحوجهم إليها وجعلهم مشتهين لها ، أو ما فعل ذلك. فإن كان الأول لم يكن ذلك رحمة. لأنه تعالى لما أحوجهم إليها ، ثم أعطاهم ذلك المحتاج إليه ، جرى هذا مجرى ما إذا خرق بطن إنسان ثم يداويه. فإن ذلك لا يعد رحمة. وإن كان الثاني وهو أنه تعالى ما أحوجهم إليها ، وما جعلهم (٢) مشتهين لها ، راغبين في حصولها ، لم يكن إيصال ذلك إليهم (٣) نفعا في حقهم. ألا ترى أن إلقاء العظم إلى الكلب إحسان إليه. لأنه يشتهي ذلك العظم. أما إلقاء قلادة من الدر (٤) إليه ، فإنه لا يكون إحسانا إليه. لأنه لا يشتهي ذلك فثبت أن على القسمين لا تعقل حصول الرحمة. وهذا بخلاف الإحسان الصادر من الخلق ، لأن الحاجة ما حصلت من قبل هذا المحسن ، بل كانت الحاجة موجودة في ذات ذلك الشخص. فإذا سعى إنسان في دفع تلك الحاجة ، كان ذلك إحسانا. أما الحق سبحانه فهو الذي أحوج إلى ذلك الشخص ، فإذا أعطى المحتاج إليه ، جرى [ذلك (٥)] مجرى ما إذا أساء ثم أحسن بقدر تلك الإساءة ، ومجرى ما إذا جرح ثم عالج ، فإن ذلك لا يكون إحسانا. فثبت: أن هذا الإلزام وارد عليهم.

الرابع : إنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يقبل الإيمان ، وأنه يقدم على الكفر والفسق ، وأنه لا يستفيد من الخلق والتكليف ، إلا عذاب الأبد. كان

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) وما جعلتم (م).

(٣) إليها (م).

(٤) الذي (م).

(٥) من (ل).

خلقه وتكليفه مع علمه بأن عاقبته تؤدي إلى هذه الحالة : سعيا في الإضرار والإيلام. وذلك لا يليق بالرحمة.

قال أهل السنة والجماعة : الرحمة الكرم إنما تتحقق على مذهبنا ، لا على مذهب المعتزلة. وذلك لأن الجود هو إفادة ما ينبغي ، لا لغرض. وعند المعتزلة أنه تعالى لو لم يعط الثواب والعوض ، فإنه يستحق الذم ، فهو بإعطاء ذلك الثواب ، وذلك العوض ، يتخلص من الذم ، وإذا تفضل فقد اكتسب استحقاق الحمد من العبد. ولو لا ذلك التفضل ، لما حصل ذلك الاستحقاق. فثبت : أنه تعالى بإعطاء تلك المنافع قد اكتسب لنفسه منفعة وعوضا. فلم يكن هذا جودا. فأما على قولنا : إنه لا يجب على الله لأحد شيئا ، وأنه مستحق الثناء والحمد لذاته ، لا لأمر منفصل (١) عن ذاته. لم يكن [لفعل (٢)] شيء من أنواع الجود والكرم ، أثر في تخليته (٣) عن الذم ، ولا أثر في تحصيل مزيد استحقاق الحمد. فكانت عطاياه محض الجود والكرم والرحمة. والرحيم هو الذي يرحم وليس من شروطه أن لا يفعل الرحمة. فهو تعالى رحيم لمن أراد ، وقهار لمن أراد. كما أنه تعالى نافع ضار.

واسم الرحمن يدل على المبالغة في الرحمة. وهذه المبالغة إشارة إلى وجهين :

الأول : إن كل ما سواه فإنما يرحم لاكتساب عوض. وهو إما استحقاق الثواب ، أو استحقاق الثناء ، أو التخلص من الذمة ، أو دافع الرقة الحقيقية عن القلب. وكل ذلك أعواض. فأما الحق سبحانه فإنه يرحم لا لغرض أصلا. فكانت رحمته هي الرحمة الحقيقة. ولهذا السبب استحق أن يسمى رحمانا.

والثاني : إن جميع الخلق لا يرحمون أحدا ، إلا إذا حصلت في قلوبهم

__________________

(١) متصل (م).

(٢) من (ط).

(٣) تخليفة (م).

داعية الرحمة ، والخالق لتلك الداعية هو الله سبحانه ، فكان الراحم في الحقيقة ليس إلا الله سبحانه من هذا الوجه. فهذا هو الكلام في هذا الباب.

والله أعلم بالصواب

الفصل الرابع

في

قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

قالت (١) المعتزلة : هذا لا يتم إلّا على مذهبنا. وذلك لأن المستحق للحمد هو الذي لا قبح في فعله ، ولا جود في قضيته ، ولا سوء في مشيئته ، ولا عيب في صنعه. وعندنا : أن الله كذلك. فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح. أما على مذهب الجبر ، فلا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو قضيته ، ولا عبث إلا وهو صنعه. لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه [ويؤلم الحبر امانه (٢)] من غير أن يعوضها ، فامتنع كونه مستحقا للحمد والمدائح. وأيضا : ذلك الحمد الذي يستحقه بسبب كونه إلها. إما أن يستحقه على العبد ، أو على نفسه. فإن استحقه على العبد ، وجب أن يكون [العبد (٣)] قادرا على الفعل. وذلك يبطل القول بالجبر. وإن كان يستحقه على نفسه ، كان معناه أنه يجب عليه أن يحمد نفسه. ومعلوم أن ذلك باطل. فثبت : أن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : لا يتم إلا على قولنا.

قال أهل السنّة والجماعة : بل هذا لا يتم إلا على قولنا. وبيانه من وجوه :

__________________

(١) في (م) أدمج الناسخ الفصل الرابع والخامس في فصل واحد هو الرابع. وفصل (رَبِّ الْعالَمِينَ) في (ط) فقط.

(٢) من (ط).

(٣) من (ط ، ل).

الأول : إن الألف واللام في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يفيدان الاستغراق والاستغراق يوجب أن تكون كل المحامد والمدائح لله.

الثاني : إن العبد لو كان هو الموجد للإيمان والطاعات ، لكان فعله أحسن من فعل الله تعالى. لأن أشرف المخلوقات هو العلم والإيمان. ومن كان فعله أشرف من فعل غيره ، كان استحقاقه للحمد أعظم من استحقاق غيره فلو كان الايمان حصل بإيجاد العبد ، لوجب أن يكون استحقاق العبد للحمد ، أكمل من استحقاق الله له. وذلك يقدح في صحة قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الثالث : إنه تعالى إذا فعل فعلا ، فذلك الفعل إما أن يكون في حقه من الواجبات ، مثل : إعطاء الثواب والعوض ، أو لا يكون من باب الواجبات ، بل يكون من باب التفضل. فإن كان الأول فقد تخلص ذلك الفعل عن استحقاق الذم. فهو تعالى إنما فعل ذلك الفعل ليتخلص عن هذا الضرر ، فلا يوجب الحمد. وإن كان من القسم الثاني فهو تعالى إنما فعله ليكتسب له نوع فضيلة وكمال ، فلا يكون إحسانا محضا. فوجب أن لا يستحق الحمد بسببه. أما على مذهبنا فإنه لا يجب عليه شيء ، ولا يكتسب بفعل شيء مريد محمدة ولا فضيلة ، فكان إحسانا محضا. فلا جرم كان موجب الحمد والمدح.

الرابع : إن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : مدح منه لنفسه ، ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق. ولما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد. وذلك يبطل مذهب الاعتزال بالكلية. فثبت : أن قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا يتم إلا على قولنا.

والله أعلم

الفصل الخامس

في

قولنا (رَبِّ الْعالَمِينَ)

قالت المعتزلة : التربية عبارة عن إيصال المنافع إلى الغير ، لغرض الإحسان إليه. فلما وصف الله نفسه بأنه رب العالمين ، وجب أن يقال : إن كل ما أوصل الله إلى الغير فإنه منفعة ، وأنه تعالى إنما أوصلها إليهم لغرض الإحسان إليهم. وهذا إنما يتم على قولنا. فإنا نقول : إنه تعالى ما خلق الخلق ، وما كلف أحدا إلا لغرض الإحسان إليهم. فأما على قول الجبرية ، وهو أنه تعالى خلقهم للنار والعذاب الدائم ، فهذا لا يكون ربا ولا مربيا البتة.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل على صحة قولنا. وبيانه من وجوه :

الأول : إن العالم كل موجود سوى الله ، فتكون أفعال العباد من جملة العالم. ولما كان ربا للعالمين ، وجب أن يكون ربا لأفعال العباد والرب هو المتصرف [بالشيء (١)] فيلزم كونه متصرفا في أفعال العباد ، والتصرف في أفعال العباد لا يكون إلا بخلقها وتكوينها. فدلت هذه الآية على أنه تعالى خالق لأفعال العباد.

الثاني : إنه تعالى لما علم أن الكافر لا يؤمن ، وأنه لا يستفيد من صيرورته مأمورا بالإيمان إلا استحقاق العذاب الدائم ، فكيف يمكن أن يقال : إنه تعالى إنما كلفه لغرض الإحسان؟ ومثاله : من وقع في البئر ، وعلم إنسان علما يقينا : أنه لو رمى إليه حبلا ، فإنه يخنق نفسه ، ثم إنه مع هذا اليقين رمى إليه حبلا ، وقال : غرضي منه : أن يستعين به على الصعود من البئر. فإن كل أحد يقول : إنك علمت أنه لا يصرف ذلك الحبل إلا إلى مضرة نفسه ، فكان

__________________

(١) من (م ، ل).

إلقاء الحبل إليه محض الإضرار. فكذا هاهنا.

الثالث : إن الإيمان أكثر نفعا للعبد من كل سواه ، ولما كان إيمان العبد من خلقه ، كان تربية العبد لنفسه أكمل من تربية الله له. فوجب أن يكون كون العبد ربا ومربيا لنفسه ، أكمل من كون الله ربا ومربيا له. وهذا يوجب أن يصح من الله التمدح بكونه ربا للعالمين.

والله أعلم

الفصل السادس

في

قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

قالت المعتزلة : الدين هو الجزاء. والجزاء إنما يحسن على الفعل فإذا [كان (١)] لا فعل للعبد ، امتنع ترتب الجزاء عليه. فوجب أن يكون مالكا ليوم الدين.

قال أهل السنة والجماعة : كونه تعالى مالكا ليوم الدين ، لا يتم إلا على قولنا. وبيانه من وجوه :

الأول : إنا نفرض رجلا استمر على كفره ثمانين سنة ، ثم اتفق أن آمن ، ومات عقيب إيمانه بلحظة. فهذا الرجل عصى الله بالكفر في جميع عمره ، ثم أتى بالإيمان لحظة واحدة ، فإنه ينعزل عن الإلهية ، ويصير سفيها مستحقا للذم. وعلى هذا التقدير لا يكون مالكا ، بل يكون مملوكا [بل يكون حاله أشد من حال مملوك (٢)] لأن المملوك قد يتوقع الخلاص عن ذلّ تكليف المولى. والله تعالى لا رضاء له [البتّة في الخلاص (٣)] عن ذلك التكليف.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

فيلزم أن لا يكون تعالى مالكا ليوم الدين ، بل يكون مملوكا في يوم الدين ـ تعالى الله عنه علوا كبيرا ـ

الثاني : إن كفر العبد ومعصيته متناهية. والعقل يقضي أن يكون العقاب بقدر الجرم. لا زائدا عليه. فوجب أن يكون عقاب الكفر والمعصية متناهيا [فلما جعل عقاباته غير متناهية (١)] علمنا أنه لا يمكن أن يقال : أحكام أفعاله على أحكام أفعالنا في الحسن والقبح. وذلك يبطل قول المعتزلة.

الثالث : إن المحاسبة على المأكول والمشروب مستقبحة من العظماء. وجميع الدنيا بالنسبة إلى خزائن الله أقل من الذرة بالنسبة إلى البحر الأعظم. فلو كانت أحكامه مثل أحكامنا ، لوجب أن يقبح منه حساب العبد في الذرة واللقمة. ولما لم يقبح ، علمنا : أنه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ، ولا أحكامه على أحكامنا. وذلك يبطل الاعتزال بالكلية.

الفصل السابع

في

قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)

قالت المعتزلة : هذا تصريح بكون العبد فاعلا ومستقلا بأفعال نفسه. فإنه لو كان فعل العبد قد خلقه الله ، لكان سعي العبد جاريا مجرى تحصيل الحاصل. وذلك محال. وحينئذ يبقى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : كذبا محضا. وأيضا : لو كانت العبادة خلقها الله تعالى ، لوجب أن يقول العبد : إياك نسأل منك خلق العبادة.

قال أهل السنّة والجماعة : إنما تصير [العبادة (٢)] داخله في الوجود

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) بالقدر وهو ليس (م).

بالقصد ، وهي ليست من العبد ، وإلا لزم التسلسل. فهي من الله. وذاك من أقوى البراهين في أن العبد غير مستقل بفعل [العبادة (١)].

الفصل الثامن

في

قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

قالوا : هذا إنما يتم على قولنا : إن للعبد فعلا وتصرفا. لأن الاستعانة والإعانة [لا يعقلان (٢)] إلا في القادر على الفعل. أما إذا لم يكن له فعل ، فكيف تعقل الاستعانة؟ وهل يجوز أن يقال : إياك أستعين في طولي وفي قصري ، وفي خلق السماء والأرض؟ ولما لم يجز ذلك علمنا : أن الاستعانة هي طلب المعونة على ما يقدر العبد عليه ، ويحصل من جهته. وأيضا : فقوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : نص في كون العبد فاعلا لهذا الطلب. فوجب كونه مستقلا بالفعل.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل. لأن الآية تدل على طلب الإعانة وهذه الإعانة إما أن تكون عبارة عن تحصيل نفس الإيمان [أو عبارة عن تحصيل الإعانة على العبادة (٣)] والأول باطل ويدل عليه وجهان :

الأول : إن كل ذلك حاصل. وطلب الحاصل عبث.

الثاني : إن على هذا التقدير تكون هذه الإعانة إعانة في تحصيل القدرة بالآلة وإزالة الموانع ، لا في نفس العبادة. والآية دالة على أن المطلوب في هذا الدعاء هو تحصيل الإعانة على العبادة. لأنه ذكر العبادة أولا في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذا يدل على أن المطلوب هو الاستعانة فيما

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (م ، ل).

(٣) زيادة

[تقدم (١)] ذكره. وهو العبادة. فثبت : أن المطلوب في هذه الآية هو الإعانة. في نفس العبادة. ولا بد وأن تكون لقدرة الله تعالى أثر في نفس تلك العبادة. ومتى كان ذلك ، امتنع أن يكون لقدرة العبد فيها أثر. لما بينا أن اجتماع المؤثرين على الأثر الواحد : محال. فعبارة هذه الآية دالة على قولنا من هذا الوجه.

والله أعلم

الفصل التاسع

في

قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)

قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على قولنا من وجهين :

الأول : إن قوله : (اهْدِنَا) : طلب. وهذا تصريح بكون العبد فاعلا لهذا الطلب. الثاني : إن طلب الهداية إنما يحسن إذا كان العبد يصح منه أن يهتدي بهداه. إذ الهدى هو الدلالة والبيان. ولا يجوز المراد بقوله : (اهْدِنَا) أي اخلق لنا الإيمان لأن الهدى في اللغة عبارة عن الدلالة والبيان ، لا عن خلق العلم. بدليل قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢).

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل على مذهبنا من وجهين :

الأول : إنه لا يمكن حمل هذه الهداية على البيان والدلالة. لأن الله تعالى

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سورة فصلت ، آية : ١٧.

قد فعل ذلك. فلو حملنا هذا الدّعاء عليه ، كان [هذا (١)] طلبا لتحصيل الحاصل. وهو باطل. بل الهدى عبارة عن الدلالة بشرط أن تكون تلك الدلالة مفضية إلى المقصود ، وذلك إنما يكون بخلق العلم والمعرفة. ولا يقال : فهذا يقتضي أن لا يكون الإيمان حاصلا لهم في الحال. لأنا نقول : هذا غير لازم. وبيانه من وجهين :

الأول : قال بعض المفسرين : المراد بقوله (اهْدِنَا) : أي ثبتنا على هذه الهداية الحاصلة في الحال. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) والثاني : أن يكون المراد : اهدنا إلى معرفة قدسك وجلا لك وكبريائك. فإنه لا نهاية لهذه المعرفة.

الثاني : إنه قال : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالهداية والمعرفة. وذلك يدل أيضا على مذهبنا.

والله أعلم

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سورة ابراهيم ، آية : ٢٧ وفي تفسير مجمع البيان : «قيل في معنى (اهدنا) وجوه : أحدها : أن معناه : ثبتنا على الدين الحق. لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم. إلا أن الإنسان قد يزل وترد عليه الخواطر الفاسدة فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه ويديمه عليه ويعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين ، كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وهذا كما يقول القائل لغيره وهو يأكل : كل. أي : دم على الأكل. وثانيها : أن الهداية هي الثواب لقوله تعالى (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فصار معناه : اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا ، ويؤيده قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) وثالثها : أن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر ، كما دللتنا عليه في الماضي ... الخ.

الفصل العاشر

في

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

قالت المعتزلة : هذا إنما يتم على قولنا. لأن العبد لو لم يقدر على الفعل لكان غضب الله [عليه (١)] محض الظلم. وأيضا قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) يقتضي إسناد الضلال إليهم ، لا إلى الله تعالى.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية دالة على قولنا. لأنه تعالى وصفهم بكونهم مغضوبا عليهم ، ثم ذكر عقيبه كونهم ضالين. وهذا يدل على أن كونهم مغضوبا عليهم ، هو المؤثر في كونهم ضالين. والذي يدل عليه : أن العبد لما كان قادرا على الإيمان والكفر ، امتنع أن يقدم على الإيمان بدلا عن الكفر ، وبالعكس ، إلا لمرجح من قبل الله تعالى. فإذا خلق الله فيه مرجح الكفر ، فذلك هو غضب الله عليه. والضلال بعد ذلك هو أثر ذلك الغضب ونتيجته وثمرته. فثبت بهذا البرهان العقلي. أن كونه مغضوبا عليه هو الموجب لصيرورته من الضالين. واللفظ أيضا مشعور به. لأنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب (٢) الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية. وكونه ضالا يناسب أن يكون معللا بكونه مغضوبا عليه. وهو مذكور عقيبه. فيوجب كونه معللا به ، وذلك يبطل القول بالاعتزال. ونظير هذا قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ) (٣) فإن كونه تعالى راضيا عنهم ، هو الذي أوجب صيرورتهم راضين عنه. وهذا هو الواجب ، لتكون صفة الحق مؤثرة في صفة الخلق. أما لو كان كوننا راضين عنه يؤثر في كونه تعالى راضيا عنا ، لكانت صفة الخلق مؤثرة في صفة الحق. وذلك محال. ونظيره أيضا قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٤) والله أعلم.

__________________

(١) من (ط).

(٢) تركيب (م).

(٣) سورة البينة ، آية : ٨.

(٤) سورة المائدة ، آية : ٥٤.

فهذا إشارة مختصرة إلى المناظرة الجارية بين الجبرية وبين القدرية. ومن وقف على ذلك أمكنه استنباط الدلائل من الجانبين ، وعند هذا يصير كل القرآن صالحا لأن يتمسك به.

هذا. ولا يكاد يظهر الترجيح القاطع إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية. وقد عرفت قوة الدلائل العقلية من جانبنا. فثبت : أن قولنا هو الحق ، ومذهبنا هو الصدق.

والله أعلم

النوع الثالث

من استدلالات المعتزلة بالقرآن

اعلم أنها كثيرة جدا. غير أنا نذكر معاقدها على سبيل الاختصار :

فالوجه الأول من استدلالاتهم بالقرآن : الألفاظ الدالة على إسناد الأفعال إلى العباد [وهو على طريقين :

الطريق الأول (١)] إسناد الأفعال إلى الفاعلين. أ ـ قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢) فأضاف الفعل إليهم ، ولم يقل : الذين خلق فيهم الايمان ، والصلاة ، والإنفاق. ب ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) (٣) فبين تعالى : أن الإيمان موقوف عليهم ، وأنهم لا يأتون به. ج ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللهَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٤) وعلى قول المجبرة : كان يجب أن يقال يخادع الله نفسه ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. وكل

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٣.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٦.

(٤) سورة البقرة ، آية : ٩.

ذلك نص في أن هذه الأشياء منهم. ه‍ ـ (قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١) فأضافوا الفساد وسفك الدماء إلى الشر ، وأضافوا التسبيح والتقديس إلى أنفسهم. وبالجملة : فأمثال هذه الإضافات والإسناد في القرآن مما لا حد لها ولا حصر. وطريق الاستدلال بالكل : أن نقول : خروج هذه الأفعال من العدم إلى الوجود. إما أن يكون بقدرة الله تعالى ، أو بقدرة العبد. فإن كان بقدرة الله لم يكن للعبد قدرة ، لا على وجودها ، ولا على عدمها. لإن الله تعالى إذا خلقها فهي حاصلة. سواء أراد العبد ذلك ، أو لم يرده. وإذا لم يخلقها ، لم يقدر العبد على تحصيلها. فثبت : أن حصول الفعل ، لو كان بقدرة الله لم يبق للعبد إليه اختيار ومكنة ، وعند هذا لا يكون الفعل فعلا للعبد ، وحينئذ تصير هذه الآيات الدالة على كونه فاعلا ، كلها أكاذيب وأباطيل وأضاليل. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن العبد موجد لأفعال نفسه. ولا يقال : العبد وإن لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لكنه مكتسب لها. لأنا نقول : هذا اللفظ غير ملخص المعنى. إلا أنا ذكرنا في الدليل : أن المؤثر في إخراج (٢) هذه الأفعال من العدم إلى الوجود. إما أن يكون هو العبد ، أو لا يكون. فإن كان هو العبد فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن هو العبد ، لم يكن العبد على هذا التقدير متمكنا لا من الفعل ، ولا من الترك. وذلك يقتضي كون هذه الآيات أكاذيب. وإذا كان لا واسطة بين النفي وبين الإثبات ـ ونحن أبطلنا أحد القسمين ـ فحينئذ يبقى [الثاني (٣)] لا محالة. فكان إلقاء لفظ «الكسب» في هذا الموضوع : محض التزوير.

والجواب : لا شك أن القرآن مملوء من هذا النوع من الآيات. فإنكارها يكون إنكارا للقرآن ، وقد دلت الدلائل القاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، فلا بد من التوفيق بين البابين. فنقول : مجموع القدرة مع الداعي

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.

(٢) خروج (م).

(٣) زيادة.

مؤثر في الفعل ، وخالق ذلك المجموع هو الله تعالى ولكون هذا المجموع مستلزما لحصول الفعل ، صحت هذه الإضافات والإسنادات. ولكون ذلك المجموع ، موجبا لوقوع هذه الأفعال ، صح أن الكل بقضاء الله وبقدره ، وبهذا الطريق يزول التناقض بين الدلائل العقلية وبين هذه الدلائل القرآنية.

قال مولانا الداعي إلى الله :

واعلم : إن هذا إنما يتم على مذهبي خاصة. حيث قلت : مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل ، أما من لا يقول بذلك فإنه يتعذر عليه التصديق بهذه الآيات. والطريق الثاني للمعتزلة في هذا الباب : أن قالوا : ليس للفعل اسم في لغة العرب ، إلا وقد دل القرآن على إضافة الفعل إلى العبد بذلك الاسم.

واعلم : أن تلك الألفاظ ثمانية :

فالأول : العمل. قال تعالى : أ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (١) ب ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) (٢) ج ـ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ، لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣) د ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ. أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٤)؟ ه ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (٥) و ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦) ز ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) ح ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨) ط ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٤٦.

(٢) سورة الكهف ، آية : ٧.

(٣) سورة الجاثية ، آية : ٢١.

(٤) ص ٢٨.

(٥) سورة الصافات ، آية : ٦١.

(٦) سورة الواقعة ، آية : ٢٤.

(٧) سورة السجدة ، آية : ١٧.

(٨) سورة الكهف ، آية : ١٠٧.

لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (١) يا ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢) يب ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٣) يج ـ (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٤) يد ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٥) يه ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٦) يو ـ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) يز ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (٨) يح ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً؟) (٩) يط ـ (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١٠) ك ـ (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١١).

فقد ذكرنا عشرين آية دالة على إثبات العمل للعبد. ومن استقصى في الطلب وجد في القرآن كثيرا.

اللفظ الثاني [الفعل (١٢)] قال الله تعالى : أ ـ (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (١٣) ب ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (١٤) ج ـ (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) (١٥) د ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ٢٩.

(٢) سورة البينة ، آية : ٧.

(٣) سورة غافر ، آية : ٤٠.

(٤) أول العصر.

(٥) سورة الكهف ، آية : ٣٠.

(٦) سورة فاطر ، آية : ١٠.

(٧) سورة هود ، آية : ٧.

(٨) سورة الجاثية ، آية : ٣٣.

(٩) سورة الكهف ، آية : ١٠٣.

(١٠) سورة الكهف ، آية : ٤٩.

(١١) سورة التحريم ، آية : ٧.

(١٢) من (م ، ل).

(١٣) سورة البقرة ، آية : ٢١٥.

(١٤) سورة الزمر ، آية : ٧٠.

(١٥) سورة الحج ، آية : ٧٧.

فاعِلُونَ) (١) ه (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٢).

اللفظ الثالث : الصنع. قال في المائدة : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٣) وقال في العنكبوت : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤).

اللفظ الرابع : الكسب قال تعالى : أ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٥) ب ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (٦) ج ـ (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٧) د ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٨) ه ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٩).

اللفظ الخامس : الجعل. قال تعالى : أ ـ (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (١٠) ب ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١١) ج ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) (١٢).

اللفظ السادس : الخلق. قال الله تعالى : أ ـ (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٣) وهذا يقتضي كون غيره خالقا. كقوله : زيد أفضل الفضلاء فإنه يقتضي كون غيره فاضلا ب ـ قال مخاطبا لعيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٤.

(٢) سورة النساء ، آية : ٦٦.

(٣) سورة المائدة ، آية : ٦٣.

(٤) سورة العنكبوت ، آية : ٤٥.

(٥) سورة آل عمران ، آية : ٢٥.

(٦) سورة الروم ، آية : ٤١.

(٧) سورة الطور ، آية : ٢١.

(٨) سورة المدثر ، آية : ٣٨.

(٩) سورة غافر ، آية : ١٧.

(١٠) سورة البقرة ، آية : ١٩.

(١١) سورة الزخرف ، آية : ١٩.

(١٢) سورة الأنعام ، آية : ١٠٠.

(١٣) سورة المؤمنون ، آية : ١٤.

كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١) ج ـ وقال عيسى عليه‌السلام ، حاكيا عن نفسه : (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) (٢) د ـ (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣) ه ـ (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٤).

اللفظ السابع : [الإحداث (٥)] قال تعالى حكاية عن بعض البشر : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٦).

اللفظ الثامن : الإبداع قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (٧).

إذا عرفت هذا ، فنقول : الألفاظ المستعملة في إسناد الفعل إلى فاعله في اللغة ليس إلا ما ذكرناه. وكلها ورد في كتاب الله تعالى في إسناد أفعال العباد إليهم ، فمن أنكر في هذا الإسناد كان ساعيا في تكذيب [كتاب (٨)] الله تعالى ، مجاهرا بالإنكار والإبطال. وأنه محض الكفر.

والجواب : إن هذا أيضا خارج عن المذهب الذي اخترناه ، وهو أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم الفعل (٩) لأنه فعل من الفاعل ، إلا الذي يكون بحال متى اتصف بالقدرة والإرادة الجازمة ، وارتفعت الموانع فإنه يجب الفعل. والعبد كذلك. فيكون فاعلا وصانعا. إلا أن خالق تلك القدرة وتلك الداعية لما كان هو الله سبحانه كان الكل بقضاء الله وقدره وتخليقه وتكوينه. وبهذا الطريق [ظهر (١٠)] أن جميع ألفاظ القرآن مستعملة في موضعها الأصلي من غير حاجة إلى الإنكار ولا إلى الابتكار. وبهذا الطريق ظهر أن الذي اخترناه هو خير

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١١٠.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ٤٩.

(٣) سورة العنكبوت ، آية : ١٧.

(٤) سورة الشعراء ، آية : ١٣٧.

(٥) من (م ، ل).

(٦) سورة الكهف ، آية : ٧٠.

(٧) سورة الحديد ، آية : ٢٧.

(٨) من (ط).

(٩) الفعل لا يفعل ... الخ (م).

(١٠) من (م ، ل).

المذاهب والأقوال في هذا الباب. والله أعلم.

الوجه الثاني من وجوه استدلالتهم من كتاب الله تعالى : الأمر والنهي : أ ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) [ب ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢)] ج ـ (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ ، وَآمِنُوا بِهِ) (٣) د ـ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٤) ه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) (٥) و ـ (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) (٦) ز ـ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٧) ح ـ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٨) ط ـ (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٩) ي ـ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١٠).

وبالجملة : فالأوامر والنواهي الواردة في كتاب الله ، لا حد لها ولا حصر ، ولو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك ، لم يقبل أمره ولا نهيه ، وكيف يجوز في العقل أن يقال : افعل يا من لا يفعل؟ ولو جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يبعث الأنبياء إلى الجمادات ، وينزل عليهم الكتب [ويملأ تلك الكتب (١١)] من الوعد والوعيد للجمادات؟ وكما أن صريح لفظ القرآن يشهد بأن كل ذلك سفه وعبث ، فكذلك صريح العقل يشهد بأن أمر العبد ونهيه ـ مع أنه لا قدرة له على الفعل والترك ـ عبث وسفه.

والجواب : إنا بينا في باب الجواب عن شبههم العقلية : إن تكليف ما لا

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٣٣.

(٢) من (ل). والآية رقم ٢١ من سورة الحديد.

(٣) سورة الأحقاف ، آية : ٣١.

(٤) سورة الأنفال ، آية : ٢٤.

(٥) سورة الحج ، آية : ٧٧.

(٦) سورة النساء ، آية : ١٧٠.

(٧) سورة الزمر ، آية : ٥٥.

(٨) سورة الزمر ، آية : ٥٥.

(٩) سورة الحشر ، آية : ٧.

(١٠) سورة النساء ، آية : ٥٩.

(١١) من (ط ، ل).

يطاق ، لازم على المعتزلة من أثني عشر وجها ، فلا فائدة في إعادتها (١) في هذا المقام [وبالله التوفيق (٢)].

الوجه الثالث من استدلالات القوم : الآيات الدالة على أنه لا مانع لهم من الإيمان والطاعة ، ولا مجبر لهم على الكفر والمعصية. ولنذكر من هذا الجنس آيات :

أحدها : قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٣)؟ قالوا : هذه الآية دالة على أن الكفر من قبل العبد. وبيانه من وجوه : الأول : لو كان تعالى قد خلق الكفر فيهم ، لما جاز أن يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) على سبيل التوبيخ ، كما لا يجوز أن يقول : كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون؟ الثاني : إن كان خلقهم أولا للشقاء وللنار ، أو ما أراد بخلقهم إلا الكفر والوقوع في النار فكيف يصح أن يقول (٤) موبخا لهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟ الثالث : كيف يليق بالحكيم أن يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) حال ما يخلق الكفر فيهم؟ الرابع : إنه تعالى إذا قال للكفار : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) فهل ذكر هذا الكلام توجيها للحجة على العبد ، وطلبا للجواب منه ، أو ذكره على سبيل الهزل والعبث؟ والثاني لا يقول به مسلم. فبقي الأول : فنقول : لو كان موجد الكفر هو الله تعالى ، لكان للكافر أن يقول :

عندي اثني عشر وجها من وجوه العذر. كل واحد منها مستقل بأن يكون جوابا عن هذا السؤال : فالأول : أنه يقول : يا إله الخلق خلقت الكفر في ، فكيف لا أكون كافرا. مع أني لا أقدر على دفع فعلك؟ الثاني : أردت الكفر ، وأنا لا أقدر على دفع إرادتك. والثالث : علمت الكفر مني ـ وعند المجبرة : أن خلاف المعلوم ممتنع الوقوع ـ والرابع : أجبرت على وقوع الكفر ـ وعند المجبرة ، خلاف خبر الله ممتنع الوقوع ـ والخامس : إنك خلقت في قدرة لا

__________________

(١) إعلائها (م).

(٢) من (ط).

(٣) سورة البقرة ، آية : (٢٨).

(٤) يقال (م).

تصلح إلا للكفر ، ومع حصول تلك القدرة يكون الكفر واجب الحصول. والسادس : إنك خلقت في إرادة جازمة مقتضية لحصول الكفر ، ومع حصول تلك الإرادة يكون الكفر واجب الحصول. وأيضا : فكما حصلت هذه الأسباب الستة في جانب حصول الكفر ، فهي بأسرها مفقودة في جانب الإيمان. مع أنه يمتنع حصول الإيمان إلا عند حصول مجموعها. فثبت : أنه حصل لعدم الإيمان اثني عشر سببا. كل واحد منها مستقل بعدم الإيمان. فكيف يليق بالحكيم أن يقول مع هذه الموانع القاهرة : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١)؟ أو يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٢) اللهم إلا إذا قاله على سبيل الهزل. إلا أن على هذا التقدير يصير القرآن كتاب الهزل والسخرية.

وثانيها : قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٣)؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام. ومعلوم : أن رجلا لو جلس في موضع ، بحيث لا يمكنه الخروج ، وقال له مولاه : ما منعك عن التصرف في حوائجي ، كان ذلك الكلام عبثا. وأيضا : المجبرة يقولون : إن الختم والطبع [والقسوة (٤)] والغشاوة والوقر والصّم والبكم والعمى والسد والإغواء والإضلال والإرانة والصرف والمكر والاستدراج والخداع. وكل واحد من هذه الأمور الستة عشر : سببه مستقل بالمنع من الإيمان. فمع قيام هذه الموانع بأسرها كيف [يليق (٥)] بالحكيم أن يقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا؟) وأيضا : الأعذار الاثني عشر قائمة ، ومع حصولها ، كيف يليق بالحكيم أن يقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) (٦).

وثالثها : قوله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟) (٧) وقول موسى

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٨.

(٣) سورة الكهف ، آية : ٥٥.

(٤) من (ط ، ل) والدس (م).

(٥) سقط (م).

(٦) سورة الكهف ، آية : ٥٥.

(٧) ص ٧٥.

عليه‌السلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (١)؟ [وقوله (٢)](فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣)؟ و ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤) ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٥) ـ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٦) ـ (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٧)؟ ـ (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٨)؟.

وقال «الصاحب بن عباد» في فصل له في هذا الباب : «كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهي عن الكفر ويريده ، ويعاقب على الباطل ويقدره ، وكيف يصرفه عن الإيمان ، ثم يقول : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٩) ويخلق فيهم الإفك ، ثم يقول : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١٠)؟ وينشأ فيهم الكفر ، ثم يقول : (لِمَ تَكْفُرُونَ) (١١)؟ ويخلق فيهم لبس الحق بالباطل [ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (١٢)] ويصدهم عن سبيل الله ، ثم يقول : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (١٣)؟ وحال بينهم وبين الإيمان ، ثم يقول : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١٤)؟ وذهب بهم عن الرشد ثم قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (١٥) وأضلهم عن الدين ، حتى أعرضوا ، ثم قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١٦).

__________________

(١) طه ، آية : ٩٢.

(٢) من (ل).

(٣) سورة الانشقاق ، آية : ٢٠.

(٤) سورة المدثر ، آية : ٤٩.

(٥) سورة التوبة ، آية : ٤٣.

(٦) سورة التحريم ، آية : ١.

(٧) سورة آل عمران ، آية : ٧١.

(٨) سورة آل عمران ، آية : ٩٩.

(٩) سورة غافر ، آية : ٧٠.

(١٠) سورة المائدة ، آية : ٧٥.

(١١) سورة آل عمران ، آية : ٩٨.

(١٢) من (ط ، ل). والآية ٧١ من آل عمران.

(١٣) سورة آل عمران ، آية : ٩٩.

(١٤) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(١٥) سورة التكوير ، آية : ٢٦.

(١٦) سورة المدثر ، آية : ٤٩.

فإن قال قائل : إن السؤال والجواب إنما يتم مع الأكفاء والأمثال ، والله منزه عن ذلك. فكيف تمكن المناظرة مع الله؟ ولهذا قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (١).

فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن المناظرة مع الله ، إذا كانت ممتنعة كان إيراد هذا السؤال من الله يجب أن يكون عبثا ، وذلك يقتضي القدح في كلمة الله تعالى.

الثاني : إن القرآن قد دل على أن هذه المناظرة غير ممتنعة. ويدل عليه آيات : أحدها : قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) (٢) وثانيها : قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٣) وثالثها : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ ، لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٤) ورابعها : قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (٥)؟ [ومعلوم (٦)] أن المراد منه : إنا أمهلناكم وأزلنا عذركم [حتى لا يبقى لكم عذر (٧)] ولا حجة علينا. وخامسها : قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (٨) ومعلوم أن تلك المجادلة إنما تكون مع من يطالبها ويجانسها. وما ذاك إلا الله تعالى. فيلزم أن تكون مجادلة العبد مع الله. وسادسها : قوله تعالى حكاية عن الكفار : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى. وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (٩)؟ ثم لم يقل في

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة المائدة ، آية : ١٩.

(٣) سورة النساء ، آية : ١٦٥.

(٤) سورة طه ، آية : ١٣٤.

(٥) سورة فاطر ، آية : ٣٧.

(٦) من (ط ، ل).

(٧) من (ط ، ل).

(٨) سورة النحل ، آية : ١١١.

(٩) سورة طه ، آية : ١٢٥.

الجواب : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (١) بل قال : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢) وسابعها : قوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ : فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣).

فهذه الآيات دالة على أن الكفار يجعلون عدم بعثة الأنبياء ، وعدم الإمهال عذرا لهم في ترك الإيمان. والله يقول : إني أزلت هذا العذر لئلا يبقى سؤالهم متوجها عليّ. فإذا كان هذا القدر من العذر ، وهو عدم بعثة الأنبياء عليهم‌السلام [لم (٤)] يقبله الله تعالى من الكفار [فلأن لا (٥)] يكون العبد ممنوعا عن الإيمان من الوجوه الاثني عشر التي ذكرناها ، لئلا (٦) يكون عذرا له في عدم الإيمان : كان أولى. بل نقول : هذا العذر أولى بالقبول. وذلك لأن الله تعالى لو بعث الرسل ، ولم يخلق الإيمان البتة لم يؤمن العبد البتة. ولو خلق الإيمان ، ولم يبعث الرسل ، لآمن لا محالة. فكيف يجوز أن يزيل الله عذرا ، لا تأثير له البتة ولا يزيل ما هو المؤثر الأصلي؟ فإن هذا يكون كالمناقض. وأما قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فقالوا : المراد منه : لما ثبت بالدلائل أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ، لم يكن في السؤال عن كل واحد من التصور مزيد فائدة. بل العلم حاصل بأن أي شيء يفعله الله فهو حكمة وصواب. وليس المراد بأنه تعالى بلغ في الظلم مبلغا لا يسأل عن فعله خوفا من شره كالفراعنة والجبابرة ، والذين يظلمون ولا يسألون عن فعلهم ، خوفا من شرهم.

فهذا تمام تقرير كلام القوم في هذا الباب.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة طه ، آية : ١٢٦.

(٣) سورة المنافقون ، آية : ١٠.

(٤) زيادة.

(٥) زيادة.

(٦) لأن يكون (م).

والجواب : إن هذه الآيات دالة على أنه لا مانع للقوم من الإيمان. وقد دلنا بالوجوه الاثني عشر على قيام الموانع. ولا بد من التوفيق ، فتحمل هذه الآيات على عدم الموانع الظاهرة ، وتحمل الدلائل العقلية على قيام الموانع العقلية. عملا بالدليلين بقدر الإمكان.

والله أعلم

النوع الرابع

من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن

الآيات التي أمر الله عباده فيها بأن يستعينوا بالله ، وبأن يعين بعضهم بعضا

أما الاستعانة بالله : فكقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٢) ـ (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) (٣) وتقديره : إن الاستعانة إنما تعقل في حق من يقدر على الفعل ، لكنه لا يقدر على إتمامه وإكماله إلا بإعانة المعين. فلو لم يكن العبد قادرا على التكوين والتحصيل كانت إعانته ممتنعة ، فكان أمره بالاستعانة عبثا. وأما الأمر بإعانة بعضهم بعضا. فكقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٤) ومن لم يقدر على الفعل أصلا فكيف يمكنه إعانة غيره على الفعل؟

والجواب : مذهبنا : أن الملزوم للفعل هو مجموع القدرة والداعي. وذلك مشروط بإزالة الموانع. فإعانة الله لعبده. هو أن يزيل الموانع عن كون ذلك المجموع مستلزما لذلك الأثر.

وأما إعانة بعضهم بعضا : فهو أنه من الجائز أن لا تكون قدرة الإنسان

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٩٨.

(٢) سورة المؤمنون ، آية : ٩٧.

(٣) سورة الأعراف ، آية : ١٢٨.

(٤) سورة المائدة ، آية : ٢.

الواحد وداعيته كافية في استلزام ذلك الفعل. بل لا بد فيه من قدر أناس كثيرين ومن دواعيهم ، حتى يترتب على مجموع تلك القدر وتلك الدواعي ، حصول ذلك الأثر. فزال الإشكال.

النوع الخامس

من استدلالات القوم بالقرآن

[وهو (١)] جميع الأدلة الدالة على أنه تعالى لم يكلف فوق الوسع والطاقة. قالوا : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان تكليفه بالفعل تكليفا بما لا يطاق ، وهذا باطل ، فذاك باطل. بيان الملازمة : إنه إذا كان فعل العبد واقعا بتكوين الله. فإن خلق ذلك الفعل لم يقدر على تحصيله لأن تحصيل الحاصل محال ، وإن لم يخلقه لم يقدر العبد أيضا على تحصيله. لأن قدرته غير صالحة للتحصيل فثبت : أن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لكان [تكليفه (٢)] تكليفا بما لا يطاق. وإنما قلنا : إن ذلك باطل. لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) ولقوله تعالى : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) ومعلوم : ان تكليف ما لا يطاق اعظم أنواع العسر ولقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) [ولا حرج (٦)] فوق أن يكون الإنسان مكلفا بما لا طاقة له به. والجواب : إنا بينا أن تكليف ما لا يطاق لازم على المعتزلة من الوجوه الاثني عشر التي ذكرناها وقررناها. فلا فائدة في الإعادة. وإذا كان كذلك فتحمل هذه الآيات على عدم الظاهرية.

__________________

(١) زيادة.

(٢) سقط (م).

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢٨٦.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٨٥.

(٥) سورة الحج ، آية : ٧٨.

(٦) من (ل).

النوع السادس

من وجوه القوم

أن قالوا : لو كان الله تعالى موجدا للكفر والمعاصي ، لكان مريدا لها. وهذا باطل فذاك باطل. بيان الملازمة : إن المجبرة ساعدوا على أنه تعالى لو كان خالقا لأعمال العباد ، لكان مريدا لها. وبيان هذه المساعدة من وجهين :

الأول : إنهم في [مسألة (١)] إرادة الكائنات. قالوا : لما ثبت أن الله خلق أعمال العباد ، وجب [أن يكون (٢)] مريدا لها.

والثاني : أنهم قالوا إنه تعالى لما خصص بعض أفعاله ، بإحداثه في وقت معين ، ومحل معين ، مع جواز أن يخلقه في وقت آخر ، وفي محل آخر ، وجب أن يكون ذلك التخصيص لأجل الإرادة. فثبت : أنه تعالى لو كان موجدا لأفعال العباد ، لكان مريدا [لها (٣)] وبيان أنه تعالى غير مريد لها : قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٤) والمكروه لا يكون مرادا لامتناع الجمع بين الضدين. وتمام الكلام في هذا المقام ، والاستدلال بجميع الآيات التي يتمسكون بها في أنه تعالى غير مريد للقبائح سيأتي الاستقصاء فيه في مسألة إرادة الكائنات (٥) إن شاء الله.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سورة الإسراء ، آية : ٣٨.

(٥) ليست في الأصول.

النوع السابع للقوم

الآيات الدالة على أنه متى فعل العبد فعلا ، فإنه تعالى يجازيه بفعل آخر

وتقديره : أن نقول : القرآن يدل على أن العبد قد يفعل أمورا. متى فعلها. فإنه تعالى يجازيه عليها بأفعال أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن تكون تلك الأفعال واقعة بتكوين العبد ، لا بتكوين الله تعالى. بيان المقدمة الأولى (١) : إن الآيات : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣) ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٤) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥) ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٦) ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٧) ـ (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨) هذه الآيات وأمثالها دالة على أن العبد إذا أتى بهذه الأفعال فإنه تعالى يجازيه

__________________

(١) الأولى بآيات جزاء ... الخ (م).

(٢) سورة الواقعة ، آية : ٢٤.

(٣) سورة التوبة ، آية : ٩٥.

(٤) سورة النجم ، آية : ٣١.

(٥) سورة التحريم ، آية : ٧.

(٦) سورة الحج ، آية : ١٠.

(٧) سورة غافر ، آية : ١٧.

(٨) سورة فصلت ، آية : ١٧.

[عليها (١)] بأفعال أخرى. وبيان المقدمة الثانية. وهي قولنا : إن ذلك يقتضي أن لا يكون فعل العبد فعلا لله تعالى. فتقديره من وجهين :

الأول : إنه لو كان الشرط فعلا لله تعالى ، كما أن الجزاء فعله ، لصار العبد من هذا الشرط والجزاء خارجا من البين ، ويصير التقدير كأنه تعالى يقول : إني متى فعلت الفعل الفلاني فإني أفعل بعده فعلا آخر. إلا أن التغاير بين هذا الكلام وبين [قوله (٢)] أيها العبد إن أطعتني أثبتك ، وإن عصيتني عاقبتك : معلوم بالضرورة.

الثاني : إنه تعالى إنما رتب هذه الأجزية على أفعال العباد ترغيبا لهم (٣) في الطاعات ومنعا لهم عن المحظورات. وهذا إنما يفيد إذا كانوا قادرين على الفعل والترك ، متمكنين من كل واحد منهما على البذل. وقد بينا : أنه لو كان موجد أفعال العباد هو الله تعالى لما [بقيت (٤)] هذه القدرة وحينئذ يصير هذا الترغيب والترهيب عبثا بالكلية. ومما يؤكد ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا : أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٥) والاستدلال به من وجهين :

الأول : إن ذلك القول لو كان مخلوقا لله تعالى لصار الكلام ركيكا لأنه يصير تقدير الكلام : تكاد السموات أجعلها منفطرة والأرضين أجعلها منشقة بما خلقت في العبد هذا الكلام ، وأردته وقضيت به. ومعلوم : أن ذلك في غاية الركاكة. وأيضا : فقوله : (لقد جئتم شيئا إدّا). نص في أن العبد هو الذي جاء بذلك الفعل.

الثاني : إن الواحد منا إذا أنكر على غيره فعلا ، ثم أتى بمثله عد سفيها.

__________________

(١) زيادة.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) إليهم (م).

(٤) ثبت (ط).

(٥) سورة مريم ، آية : ٨٨ ـ ٩١.

قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ، وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (١)؟ فلما عاب عليهم قولهم إن ولدا للرحمن [فالذي (٢)] خلق ذلك [القول (٣)] فيهم يكون العبث عليه ألزم. لو أن قائلا قال : تأملوا قبح قولهم إن للرحمن ولدا ، ومن قبحه انفطرت السموات وانشقت الأرض فانهدت الجبال [ثم مع ذلك (٤)] فإني أنا الذي فعلت ذلك ، وخلقته فيهم وقضيته عليهم وأردته منهم. لقال الناس : ما أشد حماقة هذا القائل ، وما أقبح صنعه. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يليق هذا برب العالمين؟

والجواب : إن عندنا مجموع القدرة والدّاعي ، موجب للفعل ، وعلى هذا التقدير فهذه الإلزامات ساقطة عنا. وأيضا : فالوجوه الاثني عشر المذكورة دالة على وقوع تكليف ما لا يطاق ، وكل ذلك يبطل هذه الكلمات.

والله أعلم

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٤٤.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط).

النوع الثامن للقوم

الآيات الدالة على كون العبد متمكنا من الإيمان والكفر ، قادرا على الخير والشر.

قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وقال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢) وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) وقال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) أي طريقي الخير والشر. وقال : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٥) والجواب : إنا ذكرنا هذه الآيات دليلا لنا. لأنها تقتضي تعليل الفعل. بالمشيئة. ومشيئة العبد معلقة بمشيئة الله تعالى ، فيكون فعل العبد معلقا بمشيئة الله تعالى. من هذا الوجه.

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

(٢) سورة التكوير ، آية : ٢٨.

(٣) سورة الإنسان ، آية : ٣.

(٤) سورة البلد ، آية : ١٠.

(٥) سورة الشمس ، آية : ٧ ـ ٨.

النوع التاسع للقوم

الآيات الدالة على أنه تعالى لا يظلم أحدا من عباده.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ. لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (١) وقال : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢) وقال : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) قالوا : لو أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر ، ثم يعاقبه عليه ، لكان ظالما بل نقول على مذهب الجبرية : لا ظالم إلا الله. لأن أحدا لما لم يفعل شيئا البتة ، لم يكن أحد ظالما ، بل نقول : ليس في أنواع الظلم أوضح من أن يؤاخذ الواحد منا عبده بما يفعله فيه ، ولا أقبح من أن يعاقبه على ما لم يفعله. فلو لم يقل : إن هذا ظلم ، لم يكن في تنزيه الله عن الظلم فائدة. إذ لا نعقل عن كونه ظالما إلا هذا. والجواب : إن الظلم هو التصرف في ملك الغير ، وإذا كان (٤) ما سوى الله تعالى لم يكن في تصرفه [في ملكه ظالما (٥)] فكيف يكون [الله (٦)] ظالما.

والله أعلم

__________________

(١) سورة يونس ، آية : ٤٤.

(٢) سورة النحل ، آية : ١١٨.

(٣) سورة ق ، آية : ٢٩.

(٤) ما كان (م).

(٥) زيادة.

(٦) زيادة.

النوع العاشر للقوم

الآيات الدالة على أن أفعاله حسنة ، ومنزهة عن التفاوت والعبث والباطل.

فإحداها : قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) ـ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢) فهاتان (٣) الآيتان دالتان على أن كل ما كان صنعا لله ، فهو حسن. وهذا يقتضي أن لا يكون حسنا ، لم يكن صنعا لله تعالى. فالقبائح والفواحش لما لم تكن موصوفة بالحسن. وجب أن لا تكون فعلا لله تعالى.

وثانيها : قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤) فنص على أن من اعتقد أنه تعالى خلق باطلا ، فقد كفر.

وثالثها : قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٥) دل هذا الكلام على تنزيه الله تعالى عن خلق الباطل ، فوجب أن يقال : إن كل ما كان باطلا ، فإنه لا يكون مخلوقا.

__________________

(١) سورة النمل ، آية : ٨٨.

(٢) سورة السجدة ، آية : ٧ والآية مذكورة في (ل).

(٣) فهذه الآية (م).

(٤) ص ٢٧.

(٥) سورة آل عمران ، آية : ١٩١.

ورابعها : قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) (١).

وخامسها قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (٢).

وسادسها : قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣) ولا شك أن العقائد الفاسدة ، والمذاهب الباطلة فيها تفاوت شديد. لأن بعضها يكذب بعضا ، وبعضها يبطل بعضا. فلو كانت تلك المذاهب مخلوقة لله تعالى ، لحصل التفاوت في خلق الله تعالى. والجواب : إن كل من تصرف في ملك نفسه ، كان تصرفه عدلا صوابا ومنزها عن الباطل والعبث. وما سوى الله فإنه ملكه ، فلم يكن تصرفه على جميع التقديرات إلّا حقا صوابا.

__________________

(١) سورة الدخان ، آية : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) سورة المؤمنون ، آية : ١١٥.

(٣) سورة الملك ، آية : ٣.

النوع الحادي عشر للقوم

الآيات التي تدل بصريحها على أن أفعال العباد ليست من الله

فأحدها : قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ. وَيَقُولُونَ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وجه الاستدلال بالآية : أنه لو كان التحريف والكذب في اللسان خلقا لله تعالى ، لكان اليهود صادقين في قولهم : إنه من عند الله ، ولذم تكذيب الله في قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عند الله (٢)] والله تعالى نفى عن نفسه أنه ما هو من عنده. ثم قال الجبائي في تفسيره ، عند تقرير هذا الكلام : «وكفى هذا الخزي ، لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله».

قالوا : ولا يقال : المراد من قولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنه كلام الله

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ٧٨ وفي مجمع البيان : «وفي هذا دليل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله. لأنها لو كانت من فعله ، لكانت من عنده على آكد الوجوه. فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله ، وكما لا يجوز أن يكون من الكتاب على وجه من الوجوه ، لإطلاق النفي بأنه ليست من الكتاب كله ، لا يجوز أن يكون من عند الله ، لإطلاق النفي بأنه ليس من عند الله».

(٢) من (ط).

وحكمه [فلا جرم (١)] قال تعالى : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ما هو من كلام الله ولا حكمه.

قالوا : هذا السؤال باطل من وجوه :

الأول : قال الجبائي : «إن على هذا التقدير لا يبقى بين قوله : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وبين قوله : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فرق. وإذا لم يبق هذا الفرق. لم يحسن العطف ، لأن عطف الشيء على نفسه فاسد».

الثاني : قال الكلبي : «كون المخلوق [من عند (٢) الخالق] آكد من كون المأمور به من عند الآمر ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى : أولى».

الثالث : قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه. فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.

والجواب : [قوله قولهم (٣)] لم لا يجوز أن يكون المراد من قول اليهود إنه من عند الله ـ أنه كلام الله وحكمه ـ قول يلزم [عليه (٤)] عطف الشيء على نفسه»؟ قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إنه ليس كل ما لم يكن من الكتاب ، لم يكن من عند الله. فإن الحكم الشرعي قد يثبت تارة بالكتاب (٥) وتارة بالنسبة ، وتارة بسائر الطرق مثل الإجماع والقياس في شرعنا. ثم كل هذه الطرق من عند الله وبحكمه فقوله تعالى : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) نفي خاص وهو كونه

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٣) زيادة.

(٤) زيادة.

(٥) ثبوته بالكتاب أو بغير الكتاب لا ينفي الإشكال فإن الادعاء أنه من عند الله لم يرتفع. لأن المستدل بالسنة يقول : هي من عند الله.

مذكور في كتاب الله ، ثم عطف عليه النفي العام فقال : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)

الوجه الثاني في الجواب : [أنه يجوز (١)] أن يكون المراد من الكتاب : التوراة (٢) ويكون المراد في قولهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : إنه موجود في كتب سائر الأنبياء مثل : «إشعياء» و «إرمياء» و «حبقوق» وذلك لأن اليهود كانوا في نسبة تلك التحريفات إلى الله منجرين. فإن وجدوا قوما أغمارا جهالا بالتوراة ، نسبوا تلك المحرفات إلى أنها من التوراة. وإن وجدوا عقلاء لا يروج عليهم ذلك الكلام. زعموا : أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى عليه‌السلام. فثبت بهذين الوجهين : أنه لا يلزم عطف الشيء على نفسه. وقوله : «كون المخلوق من عند الخالق ، آكد من كون المأمور به من عند الآمر ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى : أولى» قلنا : لكن هاهنا قرينة أخرى تدل على أن الذي قلناه أولى. وذلك لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال ، والقوم ما ادعوا أن التحريف الذي ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى ، وإنما ادعوا أنه حكم الله (٣) ونازل في كتابه. فوجب أن يكون قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلى (٤) هذا المعنى لا إلى غيره. وهذا الكلام يصلح لجعله جوابا عن السؤال الثالث [وأيضا : فعنه (٥)] جواب آخر ، وهو أن يكون تأدى هذا الحكم حكما لله تعالى وكون هذا الشيء مخلوقا لله تعالى : معنيان مختلفان ، وحمل اللفظ المشترك على كل مفهوميه لا يجوز ، ولما ثبت أنه لا بد وأن يكون هذا اللفظ محمولا [على نفي الحكم [وجب أن لا يكون محمولا على (٦)] نفي

__________________

(١) من (ط).

(٢) الصحيح : أن المراد من الكتاب هو التوراة. واليهود الفريسيون ، الذين يدعون الغيرة على الشريعة الموسوية ـ وهم طائفة من اليهود العبرانيين ـ هم الذين يلوون ألسنتهم بالمد والغنة وترقيق الحروف وتفخيمها ، ليوهموا السامعين أنه كلام الله. ويبعدوا شبهة التحريف عن التوراة.

(٣) من (ط).

(٤) وحكيم الله هو خلقه.

(٥) عليه إلى [الأصل].

الخلق. وإلا لزم كون اللفظ المشترك مستعملا في مفهوميه معا. وإنه لا يجوز. والله أعلم.

ومن الآيات التي يتمسكون بها من هذا الجنس قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) (١) وعندنا : المراد نفي الحكم [وعندهم : المراد نفي الحكم (٢)] والخلق معا.

والآية الثالثة من هذا الجنس قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ. ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٣) ولو كان ذلك من خلقه ، لكان قد أنزل الله بها أعظم وجوه السلطان. لأن السلطان مشتق من التسلط ، ولا تسلط فوق الإيجاد ، والإخراج من العدم إلى الوجود.

__________________

(١) المائدة ١٠٣. وفي مجمع البيان : «وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة ، لأنه ـ سبحانه ـ نفى أن يكون جعل البحيرة وغيرها. وعندهم : أنه سبحانه هو الجاعل والخالق له. ثم بين أن هؤلاء قد كفروا بهذا القول وافتروا على الله الكذب ، بأن نسبوا إليه ما ليس بفعل له. وهذا واضح».

(٢) من (ط).

(٣) سورة النجم ، آية : ٢٣.

النوع الثاني عشر للقوم

الآيات الدالة على التحدي بالقرآن.

قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ووجه الاستدلال به : إن التحدي مع من يقدر على شيء من الأفعال. لأنه لما كان قادرا على الفعل في الجملة ، ثم عجز عن فعل (٢) له معنى خاص. دل ذلك على أن لذلك الفعل خصوصية. لأنه [لو (٣)] عجز ذلك الفاعل عن الإتيان (٤) بمسألة ، ولا يقدر على الفعل أصلا فإن التحدي معه لا يفيد الفائدة المطلوبة. إذا ثبت هذا فنقول : إذا لم يكن العبد قادرا على الإيجاد والتكوين أصلا ، لم يحصل التحدي بالقرآن على كونه معجزا. ولما كان ذلك باطلا بإجماع الأمة ، علمنا : أن العبد موجد.

والجواب : إن هذا الإشكال غير وارد علينا. لأنا سلمنا أن مجموع القدرة [مع الداعي قد (٥)] يوجب بعض الأفعال. وإذا لم يؤثرا في أمر من الأمور ، علمنا : أن ذلك المتيسر ممتاز عن ذلك المتعسر (٦) لمزيد خاصية ، لأجلها حصل ذلك اليسر.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) عن فعل معنى خاصة [الأصل].

(٣) سقط (م).

(٤) الإثبات (م).

(٥) من (ط ، ل).

(٦) المتيسر [الأصل].

النوع الثالث عشر للقوم

التمسك بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً. أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١) ووجه الاستدلال به : أن هذه القبائح والفواحش. إما أن يكون فاعلها هو الله تعالى [أو العبد. فإن كان فاعلها هو الله تعالى (٢)] كان العبد بريئا عن فعلها وتحصيلها. ثم إن الله تعالى نسبها إلى العبد ، لأنه وصف العبد بكونه سارقا زانيا كافرا. فلزم أن يكون تعالى قد رمى العبد بهذه الأمور مع [أنه يعلم (٣)] أنه بريء عنها. فيلزم أن يقال : إنه تعالى احتمل بهتانا وإثما مبينا. ومعلوم : أن كل من قال بذلك فهو كافر. وأما إن كان فاعل هذه القبائح والفواحش هو العبد ، كان الله بريئا عن فعلها. فالمجبرة اللذين رموا إله العالم بفعل هذه القبائح مع أنه تعالى بريء عنها ، وجب أن يدخلوا تحت قوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

والجواب : إن هذه الأمور أفعال للعباد من حيث إنه إنما حصلت عن قدرتهم ودواعيهم ، وأفعال الله تعالى من حيث إنها موجبة عن فعل الله تعالى ، وهو مجموع القدرة مع الداعي ، وحينئذ يسقط هذا السؤال عنها.

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١١٢.

(٢) من (ل).

(٣) من (م ، ل).

النوع الرابع عشر للقوم

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١)

دلت الآية على أن مقصوده تعالى من بعثة الأنبياء إقدام الخلق على الطاعة. فلو كان تعالى يخلق الكفر فيهم ، لامتنع أن يكون غرضه من البعثة حصول الطاعة. وهذا التمسك بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) وهكذا الاستدلال بكل ما جاء في القرآن من قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣) ـ (فَقُولا لَهُ : قَوْلاً لَيِّناً. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤) فإن هذه النصوص وما يشبهها نصوص صريحة في أنه تعالى يريد [من عباده فعل (٥)] الطاعة والتقوى [ولو كانت الطاعة والتقوى (٦)] من خلق الله تعالى لكان يجب أن يقول : لعلي أتذكر وأتقي.

والجواب : إن القضية الموجبة يكفي في العمل بها ، حصول مستمر (٧) من وقت واحد وعندنا : أنه تعالى يجعل الكل مؤمنا عارفا في القيمة.

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٦٤.

(٢) سورة الذاريات ، آية : ٥٦.

(٣) سورة الأنعام ، آية : ٥١.

(٤) سورة طه ، آية : ٤٤.

(٥) من (م ، ل).

(٦) من (م ، ل).

(٧) مسمى (م).

النوع الخامس عشر للقوم

قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (١)

ووجه الاستدلال : إنه تعالى احتج عليهم بالتمكن والإقدار ، والعمر الطويل ، والمهلة في أوقات التكليف ، وإزاحة الأعذار ببعثة الرسل. فلو كان الإيمان والتذكر موقوفين على خلق الله ، لكان لهم أن يقولوا : آلهتنا قد فعلت فينا الكفر ، والعدول عن طاعتك ، وكنا عاجزين عن دفع ما خلقت ، ولم تخلق فينا الإيمان. ولو خلقت الإيمان فينا لكنا مؤمنين بك. قالوا : فكيف يعقل أن يحتج الله سبحانه عليهم بما لا حجة له فيه ، مع أنه قال : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٢)؟ وليس لهم أن يقولوا : المناظرة مع الله لا تجوز. لأن هذا الكلام قد سبق جوابه.

والجواب : إن كل ذلك مشكل عليهم ، بما أن حصول الفعل موقوف على خلق [القدرة و (٣)] الداعي وذلك يوجب الجبر ، ويشكل أيضا. بما أن خلاف معلوم الله محال الوقوع.

__________________

(١) سورة فاطر ، آية : ٣٧.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٤٩.

(٣) زيادة.

النوع السادس عشر للقوم

تمسكوا بقوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ. هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ. لا مَرْحَباً بِهِمْ. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ. قالُوا : بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا. فَبِئْسَ الْقَرارُ. قالُوا : رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ، فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) (١)

قالوا : على مذهب المجبرة : إنه تعالى هو الذي قدم لهم. فانظر ما يلزم على قول المجبرة في هذا الموضوع. والجواب : إن هذا أيضا وارد على المعتزلة بسبب مسألة الداعي ، ومسألة العلم. والله أعلم.

__________________

(١) ص ٥٨ ـ ٦١.

النوع السابع عشر للقوم

إن القرآن مملوء من كونه تعالى رحيما [كريما (١)] جوادا محسنا بل الكتب الإلهية بأسرها مملوة من هذا المعنى ، والخلق مطبقون على كونه أكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين [من ذلك (٢)] قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) (٣) فإن كان هو تعالى يخلق الإنسان ويسلط عليه في الدنيا الفقر والزمانة والمرض والعمى ، ثم يخلق فيه الكفر ، ثم يخرجه من الدنيا إلى الآخرة ، ويدخله في النار أبدا الآباد ويعذبه أشد العذاب. فكيف يليق به أن يكون كريما رحيما ، فضلا عن أن يكون أكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين؟ واعلم : أن هذا نوع من الاستدلال ، من أراد تطويله وتشعيبه قدر عليه.

والجواب [عنه (٤)] إنه معارض بقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٥) تم الجواب عنه ما ذكرناه في سورة الفاتحة ، في قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) زيادة.

(٣) سورة النساء ، آية : ١٤٧.

(٤) سقط (م).

(٥) سورة الأعراف ، آية : ١٧٩ وفي مجمع البيان : («وَلَقَدْ ذَرَأْنا) ـ أي خلقنا ـ (لِجَهَنَّمَ : كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ـ يعني : خلقناهم على أن عاقبتهم المصير إلى جهنم بكفرهم وإنكارهم وسوء اختيارهم. ويدل على هذا المعنى قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فأخبر : أنه خلقهم للعبادة ، فلا يجوز أن يكون خلقهم للنار ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) في نظائر لذلك لا تحصى. والمراد بالآية : كل من علم الله أنه لا يؤمن ويصير إلى النار».

النوع الثامن عشر للقوم

قالوا : إله العالم شهد بأن هذه الأفعال صدرت عن العباد والأنبياء اعترفوا به ، والمؤمنون أقروا به ، وإبليس اللعين اعترف به. فمن أنكر ذلك فقد خالف [كل (١)] هؤلاء. أما بيان أن الله تعالى شهد به ، ففي آيات :

أ ـ (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٢) وهذا تصريح بأن ذلك الإضلال من السامري ، ولو كان خالق الضلال هو الله تعالى لكانت إضافة الإضلال إلى السامري كذبا. ولا يقال : قراءة بعضهم : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٣) أي : أشدهم ضلالا هو السامري. لأنا نقول : القراءة التي تمسكنا بها حقة صحيحة بالاتفاق وهي تدل على قولنا. فقد حصل المقصود. وأما القراءة التي ذكرتم فإنها لا تنافي ما ذكرناه لأن كون السامري ضالا ، لا ينافي كونه مضلا.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سورة طه ، آية : ٨٥ وفي تفسير مجمع البيان : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه ، وضلوا عند دعائه. فأضاف الضلال إلى السامري والفتنة إلى نفسه. ليدل سبحانه على أن الفتنة غير الضلال. وقيل : إن معنى (فَتَنَّا قَوْمَكَ) عاملناهم معاملة المختبر المبتلي ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق ، فيوالي المخلص ويعادي المنافق».

(٣) في تفسير الكشاف : «قرئ» (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي هو أشد ضلالا ، لأنه ضال مضل ، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم».

ب ـ (قُلْتُمْ : أَنَّى هذا؟ قُلْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (١) ج ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (٢) فلو كان حصول الذنب بخلق الله ، لكان مؤاخذا لا بذنب نفسه ، بل بالذنب الذي فعله فيه غيره. د ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٣) وهذا تصريح بأن ذلك ليس من الله بل منهم. ه ـ (أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (٤) وكيف يصيبهم بذنوبهم ، ولا ذنب لهم في تلك الأفعال ، التي هي الكفر والمعصية كما لا ذنب لهم في وجود السماء والأرض؟ و ـ (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٥) وهذا تصريح بأن الضلال من فرعون ولو كان من عند الله ما كان من فرعون. ز ـ (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٦) ح ـ (كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (٧) وهذا تصريح بأن ذلك الفعل من عند أنفسهم. ط ـ قال تعالى حكاية عن أهل النار (يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا : بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) (٨) وهذا نص صريح في أنه لا صنع لله في الكفر. ى ـ (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٩) وكلمة إنما للحصر. يا ـ (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ ، وَأَمْلى لَهُمْ) (١٠) يب ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (١١)؟ وهذا يفسد قول من يقول : إنه خلق الكفر في الدنيا ثم يعذبه عليه في الآخرة ، وإنه تعالى ما خلقه إلا لهذا العذاب.

وأمثال هذه الآيات كثيرة فنكتفي بهذا القدر

وأما بيان أن الأنبياء عليهم‌السلام اعترفوا بذلك. ففيه آيات : أ ـ قال

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٦٥.

(٢) سورة العنكبوت ، آية : ٤٠.

(٣) سورة الزخرف ، آية : ٧٦.

(٤) سورة المائدة ، آية : ٥٠.

(٥) سورة طه ، آية : ٧٩.

(٦) سورة النساء ، آية : ٦٠.

(٧) سورة البقرة ، آية : ١٠٩.

(٨) سورة الحديد ، آية : ١٤.

(٩) سورة المجادلة ، آية : ١٠.

(١٠) سورة محمد ، آية : ٢٥.

(١١) سورة النساء ، آية : ١٤٧.

تعالى حكاية عن آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) فأضاف الظلم والذنب إلى نفسه ، والغفران والرحمة إلى الله تعالى. ولو كان الكل من الله تعالى ، لكان هذا التفصيل والتمييز عبثا. ب ـ قال نوح عليه‌السلام (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ : أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (٢) ج ـ قال يعقوب عليه‌السلام لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٣) د ـ قال يوسف عليه‌السلام : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (٤) ه ـ قال موسى عليه‌السلام : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (٥) سماه : عدوا مضلا ، لأنه أوقعه في ذلك العمل ولو كان فاعل ذلك الفعل هو الله تعالى فالعدو والمضل هو الله تعالى. و ـ وقال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (٦) ز ـ وقال يونس عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٧) فهؤلاء الأنبياء والرسل عليهم‌السلام اعترفوا بأن الذنب منهم ، وأنهم هم الآمرون بهذه الدلالات. فمن حملها على الله فقد ظاهر بتكذيب الأنبياء. وأما بيان أن المؤمنين اعترفوا بذلك. فهو قوله تعالى حكاية عن المؤمنين : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٨) فأضافوا الخطأ إلى أنفسهم. وأما بيان أن الكفار اعترفوا بذلك فهو قوله تعالى حكاية عنهم (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا. فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٩) والاستدلال بهذه الآية من وجهين : الأول : إن الكفار أضافوا الإضلال إلى سادتهم وكبرائهم ، ولم يقولوا : إلهنا أنت أضللتنا. والثاني : إنهم قالوا : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ٢٣.

(٢) سورة هود ، آية : ٤٧.

(٣) سورة يوسف ، آية : ١٨.

(٤) سورة يوسف ، آية : ١٠٠.

(٥) سورة القصص ، آية : ١٥.

(٦) سورة القصص ، آية : ١٦.

(٧) سورة الأنبياء ، آية : ٨٧.

(٨) سورة البقرة ، آية : ٢٨٦.

(٩) سورة الأحزاب ، آية : ٦٧ ـ ٦٨.

الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وإنما ذكروا ذلك جزاء لهم على إضلالهم. فلو كان الإضلال من الله. فانظر ما يلزم. وأيضا : حكى الله عن الكفار أنهم قالوا : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (١) وأما بيان أن إبليس اعترف بذلك. فهو قوله تعالى حكاية عنه (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٢) وهذا نص صريح في أن متابعة الشيطان إنما حصل [بسبب الشيطان (٣)] لا لأن الله تعالى أضلهم. قال الشيطان : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) وهذا اعتراف منه بأن الإضلال ليس من الله. ثم قال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) (٤) وهذا صريح في ذلك. ثم قال : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) (٥) وهذا تهديد ووعيد على من فعل ذلك. ولو كان ذلك من خلق الله ، فكيف يليق إلحاق الوعيد والتهديد به؟ فثبت بمجموع ما ذكرنا : أن الإله والأنبياء والمؤمنين والكافرين وإبليس اللعين ، اعترفوا بأن هذه الذنوب ليست من الله. فمن قال إنها من الله فقد خالف الصديق والزنديق والرحمن والشيطان.

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية : ٩٩.

(٢) سورة الشعراء ، آية : ٩٩.

(٣) من (ط ، ل).

(٤) سورة النساء ، آية : ١١٩.

(٥) سورة النساء ، آية : ١١٩.

النوع التاسع عشر لهم

الآيات الدالة على أحوال أهل القيامة من العقاب والحسنات والثواب والعقاب.

فلو لم يفعل (١) العبد شيئا من هذه الأفعال ، بل كان فاعلها هو الله تعالى ، كانت محاسبته ومعاتبته عبثا.

__________________

(١) يعقل (م).

النوع العشرون للقوم

لو أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر ، وخلقه للنار. ما كان لله نعمة أصلا.

وهذا باطل فذاك باطل. بيان الملازمة :

إن النعم (١) إما دينية أو دنيوية. ولا شك أن النعم الدينية أفضل وأكمل من النعم الدنيوية. فلو قدرنا أن خالق الكفر هو الله تعالى ، لم يكن له تعالى في خلق الكافر شيء من النعم الدينية. وأما النعم الدنيوية فهي أيضا على هذا التقدير ، يجب أن تكون معدومة. لأن منافع الإنسان في الدنيا ومضاره فيها ، إذا تقابلا كانت منافعه بالنسبة إلى مضاره كالقطرة في البحر ، ثم إذا قوبل عمر الإنسان بالأبد الذي لا نهاية له ، كان عمره بالنسبة إلى ذلك الأبد كالعدم. وإذا كان كذلك ، فلو خلق الله الكفر في الكافر وعذبه عليه أبد الآباد ، كانت المنافع الحاصلة في الدنيا بالنسبة إلى هذه المضار كالقطرة بالنسبة إلى البحار التي لا نهاية لها. ومعلوم : أن مثل هذا لا يعد نعمة ولا منفعة. ألا ترى أن تقديم الخبيص (٢) المسموم إلى الإنسان ، لا يعد نعمة. لأن اللذة الحاصلة منه قليلة

__________________

(١) النعيم (م).

(٢) الخبيص.

طبق خليجي مشهور ، يعد في كثير من الدول العربية تحت اسماء أخرى. في العراق يدعى حلاوة الطحين. اقتصادي سهل التحضير ، يفضل تقديمه حارا مع القهوة الخليجية في حفلات الشاي والزيارات والرحلات.

بالنسبة إلى المضار الحاصلة. فكذا هاهنا. فثبت : أنه لو كان [حصول (١)] الكفر بخلق الله تعالى ، لم يكن لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم البتة. وإنما قلنا : إن لله نعمة في حق الكافر ، بل نعما ، لا حدّ لها ولا حصر ، لما ذكره الله تعالى في كتابه على الترتيب المعقول. وذلك لأن أصل جميع النعم هو الحياة. فإنه لو لا الحياة لما حصل الانتفاع. فكانت الحياة أصلا لجميع النعم. فلهذا السبب ابتدأ الله تعالى بذكره فقال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ. وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٢)؟ ثم لما ذكر الحياة أردفه بذكر ما ينتفع به. فقال : (هُوَ الَّذِي

__________________

ـ المقادير

٤ أكواب طحين (لجميع الاستعمالات) كوب وثلث سكر زائد نصف كوب سكر كوبان إلى كوبين ونصف ماء كوب دهن سائح أو زيت نباتي ملعقة أكل مسحوق هيل نصف كوب ماء ورد. زعفران مذاب في ماء ورد.

للتنويع : ثلثا كوب مشمش ولوز أو حسب الرغبة.

الطريقة :

١ ـ يسيح كوب سكر في قدر متوسط حتى يكتسب السكر لونا بنيا محمرا ثم يصب عليه الماء بحذر.

٢ ـ يذاب باقي السكر في الماء ويترك على نار هادئة حتى يغلي.

٣ ـ يشفشف (يحمص) الطحين في قدر على نار هادئة مع مراعاة التقليب المستمر حتى يشقر لونه يم ينخل ويقاس.

٤ ـ يضاف نصف كوب دهن ويقلب المزيج جيدا.

٥ ـ يضاف نصف مزيج السكر والماء تدريجيا إلى الطحين مع التقليب.

٦ ـ يضاف المتبقى من الدهن ويقلب ثم يضاف باقي السكر والماء تدريجيا ويذاق المزيج لتعديل طعمه.

٧ ـ تخفف النار ثم يضاف المشمش والهيل والزعفران والمذاب في ما الورد ويقلب الخبيص ثم يغطى القدر ويترك على نار هادئة أو يوضع في فرن هادئ لمدة ١٥ دقيقة على الأقل.

٨ ـ يسكب الخبيص ويزين باللوز المقلى.

ملاحظة : يمكن استبدال الطحين في الوصفة السابقة بالسميد

(١) من (ط. ل)

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٨.

خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) ثم ذكر بعده : أنه تعالى قصد إلى السموات وساها تسوية مطابقة لمصالح العباد فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٢) وأيضا : قال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (٣) وهذا تصريح بأن الله تعالى قد أنعم على الكفار. وقال في قصة إبليس : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٤) ولو لم تكن عليهم النعم من الله ، ما كان لهذا القول [فائدة (٥)] وقال حاكيا عن موسى : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً. وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٦)؟ وقال في سورة النحل : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها. لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٧) ولا شك أن هذا مذكور في معرض تعديد النعم. ثم قال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً. لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ) (٨) إلى قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٩) وهذه الآيات دالة على أن نعم الله واصلة إلى جميع الخلق. فثبت : أنه تعالى لو خلق الكفر في الكافر ، لما كان له عليه نعمة. وثبت بهذه الآيات : أن نعم الله واصلة إلى الكافر والمؤمن. وهذا يدل على أنه ليس خالقا للكفر في حق الكافر.

واعلم : أن من وقف على هذه الوجوه العشرين التي لخصناها للقوم ، أمكنه الاستدلال بكل آية من آيات القرآن.

واعلم : أن المعتمد في الجواب أن نقول : الآيات الدالة على مذهبنا أيضا كثيرة جدا. ولما تعارضت تلك الآيات [بهذه الآيات (١٠)] وجب الرجوع فيها

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٩.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٩.

(٣) سورة البقرة : آية : ٤٠ و ٤٧.

(٤) سورة الأعراف ، آية : ٣.

(٥) من (ط. ل).

(٦) سورة الأعراف ، آية : ١٤٠.

(٧) النحل / ٥.

(٨) النحل / ١٠.

(٩) النحل / ١٨.

(١٠) من (ط. ل).

إلى الدلائل العقلية (١) التي عولنا عليها فإنها باهرة [قوية (٢)] لا شك فيها ولا شبهة.

والله ولي التوفيق

__________________

(١) الدلائل العقلية محل نزاع أيضا. والأصح هو الاعتماد على الدلائل القرآنية.

(٢) من (ل).

الباب السابع

في

تمسكات المعتزلة بالأخبار

اعلم : أن كل ما ورد من الأخبار ، من الأمر والنهي ، والمدح والذم ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، فالقوم يحتجون به. وتقريره على الوجه المذكور في الدلائل القرآنية.

ثم بعد هذا يتمسكون بوجوه أخرى :

الحجة الأولى : لو كان الكفر والفسق حاصلا بتخليق الله تعالى وقضائه ، لوجب الرضا به. لكن الرضا به لا يجوز ، فوجب أن لا يكون بتخليق الله ولا بقضائه. بيان الملازمة:

إن كل ما كان بقضاء الله ، فإنه يجب الرضا به فذلك مجمع عليه بين الأمة. ثم نقول: الدليل عليه أيضا : القرآن والخبر والأثر.

أما القرآن : فقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١)

وأما الأخبار فكثيرة : أحدها : ما روى سعد بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سعادة ابن آدم استخارة الله ، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله ، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله ، ومن شقاوة ابن آدم سخطه

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية : ٣٦.

بما قضى الله. وثانيها : ما روى عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضاء بالقدر» وثالثها : ما روى عبد الله بن شداد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم رضني بقضائك ، وبارك لي في قدرك ، حتى لا أحب تأخير ما عجلت ولا تعجيل ما أخرت» ورابعها : إن من مشاهير الأخبار الربانية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حكى عن رب العزة أنه يقول : «ومن لم يرض بقضائي ، فليطلب رب سواي».

وأما الآثار فكثيرة : أحدها : قال أبو الدرداء : «المروءة أربع خلال : الصبر للحكم ، والرضاء بالقدر ، والإخلاص في التوكل ، والاستسلام للموت» وعنه أيضا أنه قال : «إن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى بقضائه» وثانيها : عن عمران بن حصين أنه قال : ثلاث يدرك بهن العبد رغائب الدنيا والآخرة : «الصبر عند البلاء ، والرضا بالقدر ، والدعاء في الرخاء» وثالثها : روى محمد بن كعب : أن موسى عليه‌السلام قال : «أي ربي أي خلقك أعظم ذنبا؟» قال : «الذي يتهمني» قال : «أي ربي ، وهل يتهمك أحد؟» قال : «نعم الذي يستخيرني ولا يرضى بقضائي» ورابعها : قيل فيما أوحي الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : «يا داود إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لي عنك ، ولا أحط لوزرك من الرضا بقضائي».

فثبت بهذه الوجوه : أنه لو كان الكفر بقضاء الله لكان الرضا به واجبا.

وأما بيان أنه لا يجوز الرضا بالكفر والعصيان : فهذا أيضا مجمع عليه بين الأمة. ثم الدليل عليه : القرآن والخبر.

أما القرآن : فهو أن الظالم يجب لعنه. لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١) وذلك ينافي وجوب الرضا بظلمه. وأيضا : فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بأقصى الوجوه. وذلك يمنع من وجوب حصول الرضا بالكفر والفسق.

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ٤٤.

وأما الخبر : فما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرضا بالكفر : كفر» فثبت : أنه لو كان الكفر بقضاء الله ، لكان الرضا به واجبا ، وثبت : أن الرضا به غير واجب ، فوجب أن لا يكون الكفر واقعا بقضاء الله ولا بخلقه. وهو المطلوب.

الحجة الثانية : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كره لكم ثلاث : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» ولما كانت هذه الأشياء الثلاثة مكروهة لله تعالى ، وجب أن لا تكون مرادة له. لأن الشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يكون مكروها ومرادا معا. وإذا لم يكن مرادا لله تعالى ، وجب أن لا يكون مخلوقا له ، لأن الخلق لا يحصل إلا بالإرادة. ويقرب منه الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض المباحات إلى الله الطلاق» دل النص على أن الطلاق مبغوض لله ، والمبغوض لا يكون مرادا وما لا يكون مرادا لله لا يكون مخلوقا له.

الحجة الثالثة : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي. ثم ليقل : «اللهم افتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج فليسلم ، وليقل : «اللهم أجرني من الشيطان» ولو كان فعل الشيطان قد حصل بإيجاد الله تعالى ، لوجب أن يقول : اللهم أجرني منك. وهكذا القول في سائر الأدعية. كقوله : «أعوذ بك من شر كل شيء ، أنت آخذ بناصيته» لأن كل الشرور من الله تعالى على قول المجبرة.

الحجة الرابعة : روى سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عبد الله بن قيس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أحد أصبر على أذى سمعه ، من الله ، يجعلون له ندا ، ويجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم» وجه الاستدلال به : إن المراد من هذا الصبر شدة كراهية الله تعالى لهذا الكلام. وذلك يدل على أنه تعالى يكرهه ، وإذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون الله خالقا له ، لأن من لم يكن ملجأ للفعل ولا ساهيا ، فإنه إذا كان لا يريده لم يفعله.

الحجة الخامسة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وجه

الاستدلال به : أنه تعالى بين أن الخلق مخلوقون للعبادة كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) فلا جرم قال : اعملوا بالطاعة. فإن جميع الخلق قد يسر الله لهم الاشتغال بالعبادة التي لأجلها [خلقوا (٢)] وإنما يكون هذا التيسير حاصلا إذا قلنا : العبيد قادرون (٣) على الفعل ، وأنه تعالى لا يخلق فيهم الكفر جبرا ، ولا يمنعهم عن الإيمان ، ولا يضلهم عن سواء السبيل. فثبت : أن قوله عليه‌السلام : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» : نص صريح في هذه المسألة.

الحجة السادسة : الدعاء المشهور المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو دعاء الاستفتاح وهو قوله : «اللهم أنت الملك ، لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك [ظلمت نفسي (٤)] واعترفت بذنبي [فاغفر لي (٥)] فإنه لا يغفر الذنوب [إلا أنت (٦)] واهدني لأحسن الأخلاق ، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك. والشر ليس إليك ، إنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، استغفرك وأتوب إليك» وجه الاستدلال به : إن قوله : «والشر ليس إليك» صريح في المسألة.

ولا يقال : إن قوله : «الخير في يديك» : يقتضي كون الإيمان من الله تعالى ، لأنه أعظم الخيرات. لأنا نقول : لما وقع التعارض وجب التوفيق ، فيحمل قول «الخير في يديك» على أن الإيمان حصل بإقدار الله تعالى ، ونصب الدلائل عليه. ويحمل قوله : «الشر ليس إليك» على أنه ليس بخلقه وتكوينه. وبهذا الطريق يزول التعارض.

__________________

(١) سورة الذاريات ، آية : ٥٦.

(٢) من (م ، ل).

(٣) العبد قادر (م).

(٤) من (م ، ل).

(٥) زيادة.

(٦) من (ط ، ل).

الحجة السابعة : ما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبت منه خادما. فقال لها : «قولي اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، أنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها» وجه الاستدلال : قوله : «أعوذ بك من شر كل دابة» [يدل على أن الشر ليس من الله ، ومن قال بغير ذلك (١)] فإنه باطل.

الحجة الثامنة : روى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال العبد عند ما يصيبه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك. ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضائك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، وأنزلته في كتابك ، وعلمته أحدا من خلقك ، واستأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي : أذهب الله همه ، وأبدل مكان حزنه فرحا» ووجه الاستدلال به : أن قوله : «عدل في قضاؤك» يدل على أن لا جور في قضائك.

ولا يقال : إن كل ما يفعله الله تعالى بعبده فهو عدل ، لأنه يتصرف في ملك نفسه. لأنا نقول : فعلى هذا التقدير يمنع أن يكون له ظلم على العبد ، فوجب أن لا يتمدح بذلك. لأن من لم يقدر على الظلم فلم يظلم ، لم يكن ذلك قدحا في حقه.

ولقائل أن يقول : يشكل هذا بقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (٢) فإن هذا في معرض المدح ، مع أن إيجاد الولد له ممتنع في نفسه.

الحجة التاسعة : روى أبو عمر (٣) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة مريم ، آية : ٣٥.

(٣) يقول المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام : «فإن ملكوت السموات يشبه رجلا ، رب بيت ، خرج مع الصبح ، ليستأجر فعلة لكرمه. فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم ، وأرسلهم إلى ـ

وهو قائم على المنبر : «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أعطي أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا عنها. فأعطوا قيراطا قيراط. وأعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به ، حتى إذا بلغوا صلاة العصر ، عجزوا. فأعطوا قيراطا [قيراطا (١)] وأعطيتم القرآن فعلمتم به ، حتى إذا غربت الشمس أعطيتم قيراطين [قيراطين (٢)] قال أهل التوراة والإنجيل : ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر جزاء. فقال : الله : هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟» فقالوا : لا. فقال : فضلي أوتيته من أشاء» ووجه الاستدلال به : أنه لا يصح استحقاق الأجر والثواب على ما يخلقه الله فينا كألواننا وصورنا [وحيث (٣)] أثبت الله الأجر ظهر أن أفعالنا ليست بخلق الله.

الحجة العاشرة : قوله عليه الصلاة والسلام : «نية المرء خير من عمله» وهذا تصريح بإثبات العمل للعبد.

الحجة الحادية عشر : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حكاية عن رب العزة : «كذبني ابن

__________________

ـ كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة ، ورأى آخرين قياما في السوق بطالين. فقال لهم : اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم ، فأعطيكم ما يحق لكم. فمضوا. وخرج أيضا نحو الساعة السادسة والتاسعة ، وفعل كذلك. ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياما بطالين. فقال لهم : لما ذا وقفتم هاهنا كل النهار بطالين؟ قالوا له : لأنه لم يستأجرنا أحد. قال لهم : اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم ، فتأخذوا ما يحق لكم. فلما كان المساء. قال صاحب الكرم لوكيله : ادع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئا من الآخرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارا دينارا. فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر. فأخذوا هم أيضا دينارا دينارا وفيما هم يأخذون ، تذمروا على رب البيت ، قائلين : هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا. نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر. فأجاب وقال لواحد منهم : يا صاحب ما ظلمتك. أما اتفقت معي على دينار. فخذ الذي لك واذهب. فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك ، أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي. أم عينك شريرة ، لأني أنا صالح؟ هكذا يكون الآخرون أولين ، والأولون آخرين. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» [متى ٢٠ : ١ ـ ١٦]

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) زيادة.

آدم. ولم يكن له ذلك. وشتمني ابن آدم. ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي فهو قوله : أني يعيدني كما بدأني؟ وأما شتمه إياي فهو أن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الصمد ، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» ووجه الاستدلال : أنه تعالى لو كان هو الذي خلق هذه الأحوال في ابن آدم ، فكيف يجوز أن يحكى ذلك عنه في معرض الشكاية.

الحجة الثانية عشر : الخبر المشهور المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الله [يوم خلق (١)] السموات والأرض مائة رحمة ، فجعل في الأرض منها رحمة واحدة ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحوش بعضها بعضا ، وأخر تسعة وتسعين في يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة أكمل الله لها هذه الرحمة» ووجه الاستدلال بهذا الخبر : أن من كانت رحمته هكذا ، فكيف يليق به أن يخلق الإنسان في الدنيا فقيرا مريضا أعمى زمنا ، ثم يخلق فيه الكفر ، ويخرجه من الدنيا إلى أطباق النيران أبد الآباد ، بسبب كفره الذي خلقه فيه ، وألجأه إليه. وجعل من كل ألف من بني آدم تسعمائة [وتسعة (٢)] وتسعين كفارا من أهل النار؟ فكيف تليق هذه القسوة بهذه الرحمة؟.

الحجة الثالثة عشر : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه» وهذا تصريح بإضافة الفعل إلى الأبوين لا إلى الله تعالى.

الحجة الرابعة عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «لما خلق الله الخلق كتب كتابه على نفسه. فهو موضوع عنده على العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» والاستدلال به : إن الكفار والفساق أكثر من أهل الثواب ، فلو كان الكفر والفسق إنما يحصلان بخلق الله ، لكانت رحمته مقلوبة وغضبه غالبا ، وذلك يناقض ظاهر الحديث.

الحجة الخامسة عشر : ما رواه أبو ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه عن ربه عزوجل ـ «إني حرمت الظلم على نفسي ، وحرمته على عبادي

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

[فلا تظالموا. يا عبادي (١)] إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ، ولا أبالي. فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عاري إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم [كانوا على أتقى قلب رجل واحد لم يزد ذلك شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم (٢)] اجتمعوا في صعيد واحد. فسألوني فأعطيت كل إنسان منه ما يسألني ، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا. إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط ، يا عبادي هذه أعمالكم أحفظها عليكم. فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه».

قالت المعتزلة : هذا الخبر يؤكد مذهبنا من وجوه :

الأول : إنه تعالى قال : «إني حرمت الظلم على نفسي» وهذا يدل على أنه تعالى قادر على الظلم. إذ لو لم يقدر على الظلم ، لما قال : «إني حرمته على نفسي» لأنه يجري مجرى ما إذا قال : إني حرمت على نفسي أن أجمع بين النقيضين ، ومعلوم أنه ركيك.

الثاني : إنه تعالى لما بين أنه حرم الظلم على نفسه ، أوجب على العباد أن لا يظلم بعضهم بعضا. ولو كان تعالى هو الذي يخلق الظلم فيهم ، لكان ظالما. وأيضا : فكيف يقول لهم : لا تظالموا مع أنه تعالى هو الذي يخلق ذلك الظلم فيهم؟.

والثالث : قوله : «إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب. ولا أبالي» فلو كان حصول ذلك الخطأ بخلق الله وإيجاده ، كما أن الغفران منه ، لم يكن في هذا التفضيل والتميز فائدة. وأيضا : فإذا خلق الخطأ غيره فهو تعالى إنما غفر للعبد بسبب فعل ما فعله العبد ، وتصريح النص يبطل ذلك.

الرابع : إنه تعالى قال في آخر هذا الحديث : «هذه أعمالكم أحفظها

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (م ، ل).

عليكم» وهذا تصريح بأن هذه الأعمال أعمالنا ، لا أعمال الله. ثم قال : «من وجد خيرا فليحمد الله» وهذا يدل على أنه تعالى خلق القدرة على الفعل ، وهدى العبد إليه ، ووضع الدلائل [عليه (١)] وأرشد إليه ، ومنع عنه أضداده. ثم قال : «ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه» وهذا تصريح بأن المعاصي ليست من الله البتة.

الحجة السادسة عشر : ما روى هشام الدستواني قال : حدثنا قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حماد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم في (٢) خطبته «إلا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ، مما علمني في يومي هذا : كل مال نحلت عبادي فهو حلال لهم ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتاهم الشيطان فاحتالهم عن دينهم ، وحرم عليهم ما حللت لهم» وهذه الخطبة طويلة. والمقصود منها : أنه عليه الصلاة والسلام صرح بأنه تعالى خلق الخلق حنفاء على السلامة الأصلية وإن الشياطين هم الذين أضلوهم عن الحق. فمن قال : إن الله هو أصلهم عن الدين ، فقد (٣) جاهر بتكذيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الخطبة.

الحجة السابعة عشر : ما روى أبو هريرة [رضي الله عنه (٤)] قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما» ووجه الاستدلال بهذا الخبر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حثه على الإتيان (٥) بهذه الأفعال ، فلو كانت من خلق الله ، لصار هذا الحث والترغيب باطلا.

الحجة الثامنة عشر : عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة فلتدركه منيته ، وهو مؤمن بالله

__________________

(١) من (ل).

(٢) إذا (م).

(٣) الذين قعد (م).

(٤) من (ل).

(٥) الإيمان (م).

واليوم الآخر ، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» ووجه الاستدلال : إنه لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ، لكان هذا الترغيب عبثا. لأن العبد لا يقدر على أن يموت مؤمنا إذا خلق الله فيه الكفر ، ولا يقدر على أن يموت كافرا إذا خلق الله الإيمان فيه.

الحجة التاسعة عشر : عن أبي هريرة [رضي الله عنه (١)] قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البيان من الله ، والغنى عن الشيطان. وليس البيان كثرة الكلام ، ولكن البيان: الفصل في الحق ، وليس الغنى قلة الكلام ، ولكن من سفه الحق» وهذا نص في موضع الخلاف.

الحجة العشرون : عن أبي هريرة [رضي الله عنه (٢)] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل : حرثت يا أبا هريرة ألم تسمع إلى قول الله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣) وهذا من أوضح الدلائل على وجوب التفرقة بين فعل الله وبين فعل العبد.

فثبت : أن الفعل المضاف إلينا مغاير للفعل المضاف إلى الله.

ولنكتف بهذا القدر من الأخبار. فإن من وقف عليها يمكنه التمسك بأخبار كثيرة سوى ما ذكرناه. والمعتمد لنا في الجواب عن الكل : أن الأخبار التي تمسكنا بها على صحة قولنا [معارضة لهذه الأخبار (٤)] ولما تعارضت الأخبار وجب الرجوع إلى دلائل العقل (٥). وقد بينا ؛ أن دلائلنا العقلية أقوى وأكمل وأوضح.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

(٣) سورة الواقعة ، آية : ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) من (م ، ل).

(٥) هذا اعتراف من المؤلف بأن دلائل المعتزلة من القرآن الكريم والأخبار في إثبات الحرية للإنسان ، لا يمكن ردها. وإلا ما أحال على العقل. وكيف يمكن ردها ، وهي المحكمة ، وما تمسك به المؤلف هو المتشابه؟

__________________

ـ والرجوع إلى دلائل العقل لا يحسم النزاع. لأن دلائل العقل إذا تعارضت يحسمها القرآن الكريم. ألا ترى أن العقل جوز وجود الإله ، والعقل أيضا لم يجوز وجود الإله. والقرآن حسم نزاع الطائفتين ، المجوزة عقلا ، والمنكرة عقلا بقوله : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فإذا استعمل المؤلف الشغب في إبعاد دلائل النقل عن القضية ، ثم استعمل الشغب في إبعاد دلائل العقل. فليدلنا على طريق آخر للاستدلال؟.

الباب الثامن

في

شرح الآثار المروية

عن الصحابة والتابعين مما

تمسك الخصم بها في إثبات قولهم

قالوا :

أ ـ اشتهر عن أبي بكر الصديق ، أنه لما سأل عن معنى الكلالة. قال : «أقول فيها برأيي. فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان» وهذا تصريح منه بأن ذلك الخطأ ليس من الله. قال أصحابنا : المراد منه : أن ذلك ليس من الله ومن رسوله ، بمعنى الحكم والقضاء به. فأما أن يكون المراد أنه ليس منه بمعنى الخلق والتكوين ، فممنوع. وتمام الكلام هاهنا ، كما في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١).

ب ـ وأما عمر بن الخطاب فيروي أن كاتبه كتب : «هذا ما أرى الله عمر» فقال للكاتب : امحه. فمحاه. فقال : «اكتب هذا ما رأى عمر» قال الأصحاب : قوله : «هذا ما أرى الله عمر» لا يصدق إلا فيما عرف بنص. ولهذا السبب غيره.

ج ـ قالوا : ونقل عنه أنه لما أخذ له سارق. وقال له : لم سرقت؟ قال له : بقضاء الله. قطع يده وجلده (٢) وقال : «هذا لسرقتك ، وهذا لافترائك

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ٧٨.

(٢) ضربة ثلاثين سوطا.

على الله» ولقائل أن يقول : لعله كان مراد السارق من لفظ القضاء : إذن الله فيه وحكمه به.

د ـ وأما علي بن أبي طالب. فقالوا : القول بالعدل عنه في غاية الشهرة. وخطبه دالة عليه. فعنه أنه سأل عن [التوحيد (١)] والعدل. فقال : «التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه» وهذا كلام في غاية الجلالة. والمراد من قوله : «أن لا تتهمه» أي لا تتهمه بأنه يفعل القبائح والفواحش وظلم العباد. وقال أصحابنا : المراد منه : أن الظلم من الله محال. لأن كل ما يفعله فإنه تصرف في ملك نفسه ، وليس ذلك بظلم.

ه ـ وأيضا : نقل عن علي بن أبي طالب أنه لما انصرف من صفين قام إليه شيخ من أهل الحجاز ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال : «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ، ما هبطنا واديا ، وما علونا تلعة (٢) إلا بقضاء الله وقدره» فقال الشيخ [عند الله (٣)] احتسب عنائي ومسيري ، والله ما احتسب لي من الأجر شيئا. فقال : أمير المؤمنين : لعلك تظن قضاء لازما ، وقدرا حتما. لو كان كذلك لبطل [الثواب (٤)] والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، وما كان يأتي من الله لائحة لمذنب ، ولا محمدة لمحسن. ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب ، ولا المذنب كان أولى بالعقوبة من المحسن. تلك مقالة إخوان الشياطين ، وعبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وشهود الزور ، وأهل العمى والفجور. تلك قدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا وكلف تيسيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكروها ، ولا بعث الأنبياء عبثا ، ولا أرى عجائب الآيات باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) بقلة (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

النَّارِ) (١) فقال الشيخ : وما ذلك [القضاء (٢)] الذي ساقنا؟ فقال أمير المؤمنين : أمر الله بذلك وإرادته. ثم تلا عليهم : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٣) قال : فنهض الشيخ مسرورا ، وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان مشتبها

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

و ـ روى مجاهد أن ابن عباس كتب إلى قرى أهل الشام : رسالة طويلة ذكر فيها أنه قال : «هل منكم إلا مفتري على الله ، يحل ما حرمه عليه ، وينسبها علانية إليه».

ز ـ وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : القدر بحر عميق ، فقفوا عند أدناه. ولا تقولوا : إنه جبر العباد على المعاصي فتظلموه ، ولا تقولوا : إن الله لم يعلم ما العباد عاملون فتجهلوه؟ ولكن رجل امتحن الله قلبه للتقوى قال : إن عذب فبذنب ، وإن عفى فبفضل.

ح ـ وعن علي بن عبد الله بن عباس قال : كنت جالسا عند أبي. فقال له رجل : يا أبا العباس إن هاهنا قوما يزعمون أنهم أتوا من قبل الله ، وأن الله أجبرهم على المعاصي. فقال : لو أعلم أن هاهنا ، أحدا منهم لقبضت على حلقه ، فصرعته حتى تزهق نفسه.

ط ـ ونقل أن زين العابدين سأل عن أفعال العباد. فقال : إنها لا تخلو إما أن تكون فعلا لله تعالى ولا صنع للعبد فيه ، أو تكون فعلا للعبد ولا صنع لله فيه ، أو تكون بينهما. فإن كانت فعلا لله لزم سقوط الذم والعقاب من العبد ، وإن كانت بينهما فاللوم عليهما ، وإن كانت من العبد فهو الذي نقوله.

__________________

(١) ص ٢٧.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سورة الإسراء ، آية : ٢٣.

وهو المجرم المذنب. ثم إن أبا العباس الناشئ (١) ـ من المعتزلة ـ نظم هذا المعنى. فقال :

إن تعد أفعالنا اللاتي نذم بها

إحدى ثلاث خلال في معانيها

إما تفرد مولانا بصنعتها

فاللوم يسقط عنا حين تأتيها

أو كان يشركنا فاللوم يلحقه

إن كان يلحقنا من لائم فيها

وإن لم يكن لإلهي في جنايتها

فعل فما الذنب إلا ذنب جانيها

ى ـ ونقلوا : أن النفس الزكية : محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب : قبل الاعتزال عن واصل بن عطاء. فقال أبوه عبد الله يوما : يا ولدي أنت كامل في كل شيء لو لا أنك تقول بالقدر. فقال النفس الزكية : أيها الأب أتلزمني على فعلي ، أو على ما خلق الله في جبرا وقسرا؟ فإن كنت تلزمني على فعل صدر عني ، فهذا هو مذهبي. وإن كنت تلزمني على فعل خلقه الله في جبرا وقسرا. فما ذنبي؟ قالوا : فتفكر عبد الله في كلام ابنه ، وانتقل إلى مذهبه (٢).

__________________

(١) من الطبقة الثامنة للمعتزلة. وهو عبد الله بن محمد ، وكنيته أبو العباس ، من أهل الأنبار ، نزل بغداد. وله كتب كثيرة نقض فيها كتب المنطق ، وهو شاعر ، وله قصيدة على روي واحد وقافية واحدة ، أربعة آلاف بيت ، وخرج في آخر عمره إلى مصر ، وأقام فيها بقية عمره. وله مناظرات كثيرة ، إلا أن في كلامه طولا. ومن قصيدة له قوله :

ما في البرية أخزى عند فاطرها

ممن يدين بإجبار وتشبيه

(٢) يقول مؤلفو كتاب التربية الإسلامية لوزارة التربية في الكويت طبعة ١٤٠٠ ه‍ «وبعض المسلمين أخطأهم التوفيق في فهم حقيقة القدر. فجعلوه سببا فيما يقع منهم من أعمال سيئة ، يقولون : إن الله قدرها عليهم ولو شاء ما فعلوها. وهم مخطئون في هذا ، فقد خلق الله النفس الإنسانية مهيأة لتقبل الخير والشر (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ومنح الإنسان العقل الذي يميز به بينهما ، ويتجه باختياره إلى أي منهما. فحين يعمل الإنسان أو يقول ، ينطلق في عمله وقوله بمحض إرادته ومشيئته وهذا هو ما يتعلق به التكليف ، والثواب والعقاب (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، لَها ما كَسَبَتْ ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

وقد حذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من هذا القول ، وجعل الذين يردون على القائلين به في منزلة المجاهدين في سبيل الله بالسيف. روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ثم يقولون : الله قدرها علينا. الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله».

واعلم : أن أصحابنا حكوا عن هؤلاء الأكابر ، ضد ما حكاه المعتزلة

أ ـ فروى القاضي أبو بكر في كتاب الهداية : أن عمر بن الخطاب خطب فحمد الله وأثنى عليه وذكر في تحميده : «من يهدي (١) الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له» والجاثليق بين يديه ، فأنكر «الجاثليق (٢)» ذلك بلسانه. فقال : ما يقول؟ فقالوا : يزعم ؛ أن الله يهدي ولا يضل فقال عمر : «كذب عدو الله ، بل الله خلقك ، وهو أضلك ، وهو يدخلك النار».

ب ـ وروي أيضا عن الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة. فقال : «ليس منا من لم يؤمن بالقدر ، خيره وشره».

ج ـ وقد اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه حين أراد حرب أهل الشام.

قال :

شمرت ثوبي

ودعوت قنبرا

قدّم لوائي

لا تؤخر حذرا

لن يدفع الحذار

ما قد قدرا

قال القاضي أبو بكر ـ رحمه‌الله ـ هذا تصريح منه بأنه لا ينفع حذر من قدر.

د ـ وقال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة في مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وقال كل خليل كنت آمله

لا ألهينك ، أني عنك مشغول

فقلت : خلوا سبيلي لا أبالكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول

__________________

وأوقع عمر رضي الله عنه عقوبتين على رجل قال هذا القول. فقد جيء إليه بسارق ، فسأله : لم سرقت؟ فقال : قدر الله ذلك. فقال عمر : اضربوه ثلاثين سوطا ، ثم اقطعوا يده. فقيل له : ولم؟ فقال يقطع لسرقته ، ويضرب لكذبه على الله» ا. ه.

(١) إن الله يهدي الإنسان لعمل الخير ، إذا كانت نية الإنسان متجهة لعمل الخير ، والله يضل الإنسان إذا كانت نية الإنسان متجهة إلى الضلال.

(٢) الجاثليق : رئيس النصارى الكاثوليك. والكلام صحيح. فإن الله يرسل الأنبياء لهداية الناس ، ولمنعهم من الضلال.

ه ـ وقال لبيد :

إن قربي ربنا خير نفل

وبإذن الله ديني والعمل

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير ، ما شاء فعل

من يهده سبل الخير اهتدى

ناعم البال. ومن شاء أضل

ولنكتف من الحكايات بهذا القدر. احترازا عن الإطناب. والله أعلم بالصواب.

[قال الناسخ] : رأيت في النسخة [هكذا].

قال ناقلها : «وجدت هذا الفصل على الحاشية في هذا المقام في الكتاب. بخط المصنف مع الشعر له ، فكتبته هاهنا».

وأقول : «كتبت هذه الحكاية في الفصل هاهنا تأسيسا به» :

فيا أيها العبيد لا تتشبهوا بالمريد العنيد ، ولا تقولوا على الحاضر العتيد ، وراقبوا الله في الوعد والوعيد. وأطيعوه في المنهج السديد ، وكونوا على حذر منه في العذاب الشديد. فمن [أتى (١)] بذلك فهو السعيد ، والزمان الذي ينفق فيه ذاك ، فهو المديد (٢) تذكروا إذ كنتم نطفا ثم [الكثيف (٣)] يرسب ، واللطيف طفا. وكأن بما بقي وقد انطفأ ، وخير بشدة ما وفى. تذكروا من استكبر وأبى ، وأتى من هذه المذرة كل ما أتى. ثم انتقل إلى دار الآخرة وترك [لأعدائه (٤)] ما حصله [من (٥)] المراتب الفاخرة ، ثم أحضر في موقف الجلال. وعرضت عليه موجبات النكال ، وحوسب بكل مقدار ، عند الملك الجبار.

وقال رحمه‌الله تعالى عليه شعرا :

__________________

(١) سقط (م).

(٢) المعيد (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) في (م).

إليك إله الخلق وجهت وجهتي

وأنت الذي أدعوك في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة

وأنت رجائي في حياتي وفي قبري

وأنت الذي يسرت لي كل مطلب

وأنت معاذي في غنائي وفي فقري

الباب التاسع

في

بيان أن الله تعالى قد يمنع

المكلف عن الايمان بالقهر والقسر

اعلم : أن مذهبنا ذلك. وأما المعتزلة فإنهم ينكرون أشد الإنكار.

ويدل على صحة قولنا : المعقول والمنقول.

أما المعقول فوجوه :

البرهان الأول : وهو أن الكافر المقدم على الكفر إن لم يكن متمكنا من الإيمان فقد حصل المطلوب ، وإن كان متمكنا منه كانت قدرته بالنسبة إلى الضدين على السوية. فإقدامه على الكفر دون الإيمان ـ مع أن ضده كان ممكنا ـ إما أن يستغني عن المرجح أو يفتقر إليه. فإن كان الأول لزم استغناء الممكن عن المرجح. وهو محال. وإن كان الثاني فذلك المرجح ، إن كان من العبد عاد التقسيم فيه ، وإن كان من الله تعالى ، فهو المطلوب. لأنه ظهر أن الكافر ما أقدم على الكفر إلا لأجل أن الله تعالى قوى تلك الداعية في قلبه ، وقد دللنا على أنه متى حصلت الداعية المرجحة ، فإنه لا بد من [الوجوب (١)] وهذا برهان قاطع لا محيص عنه (٢).

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) برهان ليس قاطعا. لأنه افترض المرجح بين الله والإنسان. ومن الممكن افتراض المرجح من الإنسان نفسه. أي أن الإنسان إذا ظهر له خير وظهر له شر. فإن الإنسان يمكنه بنفسه ترجيح جانب الخير ، أو ترجيح جانب الشر ، ومن الممكن افتراض المرجح في ذات الشيء نفسه. على ـ

البرهان الثاني : إن العبد قصد الحق والإيمان. فلما حصل الباطل والكفر. علمنا : أن ذلك ليس منه بل من الله.

البرهان الثالث : العبد ما لم يعرف أن هذا الاعتقاد علم لا جهل ، يمكنه أن يقصد إلى إيجاد العلم بدلا عن الجهل ، وإنما يعلم كون هذا الاعتقاد علما ، إذا علم أنه مطابق للمعلوم. وإنما يعلم ذلك إذا علم حال المعلوم. وإلا فيلزم أن تكون قدرته على تحصيل العلم بالشيء مشروط بحصول العلم بذلك الشيء. وإنه محال. وهذه الدلائل قد بيناها في الباب الأول من هذا الكتاب. فلا فائدة في الإعادة.

أما الدلائل السمعية : فاعلم : أنه تعالى ذكر أنواعا من الموانع في كتابه. ونحن [نكتفي بإيراد نوع من هذه الموانع. وهو أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين (١)].

بيان أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين

ويدل عليه آيات :

الحجة الأولى : قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) واعلم : أن هذه الآية وردت في القرآن الكريم في خمس مواضع. أحدها : في سورة إبراهيم قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) وثانيها : في سورة الرعد (وَيَقُولُ

__________________

ـ طريقة الحسن والقبح الذاتيين فترجيح الإيمان على الكفر ، لأنه في ذاته به مميزات لا توجد في الكفر ، بسببها ، اختاره الإنسان. وإذا ما افترض أنه كيف يقع في ملك الله ما لا يريده الله؟ فإن الافتراض مدفوع بأن الله أراد في الأزل أن يترك الإنسان حرا ، وقد خلقه ومنحه الحرية ، والقدرة على أن يفعل أو لا يفعل. ولمزيد من البيان راجع مسألة إرادة الكائنات في كتاب الإرشاد للجويني.

(١) عبارة الأصل : «ونحن نفرد لكل واحد منها فصلا. الفصل الأول في بيان أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين» وليس في الأصل إلا هذا الفصل.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٤ وفي تفسير الكشاف في هذه الآية : إنها مثل قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) لأن الله لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن ، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن.

الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١) وثالثها : في سورة النحل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) ورابعها : في سورة الملائكة (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، فَرَآهُ حَسَناً؟ فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) وخامسها : في سورة المدثر ، وذلك أنه تعالى قدم بيان امتحان الفريقين بعدة ملائكة النار ، ثم قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤) فإن قيل : دلت الدلائل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآيات خلق الكفر والضلال ، وإذا كان كذلك ، وجب المصير إلى التأويل.

أما بيان المقام الأول : فمن وجوه :

الأول : إنا سنذكر الدلائل العقلية والنقلية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يخلق الكفر والجهل في المكلف.

الثاني : إن تفسير الإضلال بخلق الجهل غير جائز بحسب اللغة. أما أولا : فلأن من منع غيره من سلوك طريق كرها وجبرا ، فإنه لا يقال في اللغة الصحيحة : إنه أضله عن الطريق ، بل يقال : إنه منعه وصرف عنه ، وإنما يقال : أضله عن الطريق إذا لم يرد عليه وارد من الشبه ، ما لأجله التلبس عليه الصواب. وأما ثانيها : فلأنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكون [كل واحد منهما (٥)] مضلا. قال تعالى حكاية عن إبليس : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) (٦) وقال تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) (٧) ثم إنا توافقنا على أنهما ما كانا خالقين للضلال في

__________________

والمراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف. وبالهداية : التوفيق واللطف. فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان».

(١) سورة الرعد ، آية : ٢٧.

(٢) سورة النحل ، آية : ٩٣.

(٣) سورة فاطر ، آية : ٨.

(٤) سورة المدثر ، آية : ٣١.

(٥) زيادة.

(٦) سورة النساء ، آية : ١١٩.

(٧) سورة طه ، آية : ٧٩.

قلوب من أتبعهما. أما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد. ولما حصل اسم الضلال في هذه السورة ، مع أنه لم يحصل فيها خلق الجهل والضلال ، علمنا : أن الإضلال غير موضوع في اللغة لخلق الضلال. وأما ثالثها : فلأن الإضلال في مقابلة الهداية ، فكما صح أن يقال : هديته فما اهتدى ، وجب صحة أن يقال : أضللته فما ضل. وإذا كان كذلك ، امتنع حمل لفظ الإضلال على خلق الإضلال.

الوجه الثالث في بيان أن لفظ الإضلال في هذه الآيات لا يمكن حمله على خلق الضلال هو أن هذا التفسير لا يليق بهذه الآيات الخمس. وذلك لأن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (١) وكيف يجوز أن يقال : إني لم أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم الغرض من التكاليف ، ثم يقول بعده : إني أضللتهم عن الدين؟ فإنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله ، ويصير الكلام ركيكا.

فثبت بهذه الوجوه : أنه لا يمكن أن يكون المراد من قوله «يضل من يشاء» خلق الكفر والجهل فيهم. وإذا ظهر هذا ، علمنا أن المراد منه شيء آخر. وحينئذ لا نحتاج إلى تعيين ذلك المراد في مقام الجدل.

ثم إنا نبين وجوها كثيرة تحتملها هذه الآية :

فالتأويل الأول : إن الرجل إذا ضل باختياره عند حضور شيء من غير أن يكون لذلك أثر في ضلاله. فيقال لذلك الشيء : إنه أضله. قال تعالى في حق الأصنام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) أي ضلوا عند رؤيتها. وقال تعالى : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) (٣) أي ضل كثير من الناس عند رؤيتهم. وقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٤.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٣٦.

(٣) سورة نوح ، آية : ٢٣ ـ ٢٤.

مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (١) وقال أيضا : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٢) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فرارا. وقال أيضا : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) (٣) ومعلوم : أنهم لم ينسوهم في الحقيقة ، بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه. لكن لما كان استغناؤهم بالسخرية منهم سببا في نسيانهم ، أضيف النسيان إليهم. وقال أيضا في سورة التوبة : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٤) فأخبر سبحانه : أن نزول السورة المشتملة على الشرائع تفرق أحوالهم. فمنهم من يصلح عند نزولها ، فيزدادوا إيمانا ، ومنهم من يفسد حينئذ ، فيزدادوا كفرا. فلا جرم أضيفت الزيادة في الإيمان ، والزيادة في الكفر ، إلى السورة لأجل أن تلك الزيادة إنما حصلت عند نزول تلك السورة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنما أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى على هذا الوجه ، وذلك لأنهما لو كانا يحدثان من العبد عند فعل مخصوص يفعله الله تعالى ، لا جرم أضيفا إلى الله تعالى ، وإن كانا في الحقيقة إنما يحصلان بإيجاد العبد وتكوينه.

والتأويل الثاني : إن الأصل هو التسمية بالضلال. يقال : أضله. أي سماه ضالا وحكم عليه به. وحكم (٥) فلان على فلان بالكفر ، إذا سماه كافرا.

وأنشدوا بيت «الكميت»

وطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا : مسيء ومذنب

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٨.

(٢) سورة نوح ، آية : ٦.

(٣) سورة المؤمنون ، آية : ١١٠.

(٤) سورة التوبة ، آية : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٥) في الأصل : تصحيف.

وقال «طرفة» :

وما زال شربي الراح حتى أضلني

صديقي ، وحتى ساءني بعض ذلك

أراد سماني ضالا. وهذا الوجه مما ذهب إليه جمع عظيم من المعتزلة.

والتأويل الثالث : الإضلال مفسر بالتخلية وترك المنع بالقهر والجبر. يقال : أضله أي خلاه مع ضلاله. قالوا : ومجازه من قولهم : أفسد فلان ابنه وأهلكه وذم عليه. إذا لم يؤدبه.

وقال بعضهم :

أضاعوني. وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية ، حتى فسد وصدأ : أفسدت سيفك.

والتأويل الرابع : الضلال هو العذاب والإضلال هو التعذيب. والدليل عليه : قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (١) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال. وذلك الضلال ليس إلا العذاب. وقال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٢) وهذه الآية تدل على أن الضلال المذكور في هذه الآية هو العذاب.

والتأويل الخامس : أن يحمل الإضلال على الهلاك قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣) قيل : أبطلها وأهلكها. ومجازه : من قولهم : ضل الماء في اللبن ، إذا صار مستهلكا فيه. ويقال : أضللته أنا : إذا أهلكته وصيرته كالمعدوم. ومنه يقال : أضل القوم رئيسهم. إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى.

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) سورة غافر ، آية : ٧١ ـ ٧٤.

(٣) أول سورة محمد ،

قال «النابغة»

وآب مضلّوه بعين خلية

وغودر بالجولان خرم ونائل

وقال تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١)؟ أي صرنا مدفونين في الأرض وخفيت أشخاصنا.

والتأويل السادس : حمل الإضلال على الإضلال عن طريق الجنة. قالت المعتزلة : وهذه في الحقيقة ليست تأويلا ، بل حملا للفظ على ظاهره. فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم ، وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم؟ فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة. ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل (٢) وهو اختيار الجبائين. قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٣) أي يضله عن طريق الجنة.

والتأويل السابع : أن [لا (٤)] تحمل الهمزة في لفظ الإضلال على التعدية ، بل على الوجدان. قال عمرو بن معدي كرب ، لبني سليم : «قاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم» : أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ويقال : أتيت أرض قوم فأعمرتها ، أي وجدتها عامرة.

__________________

(١) سورة السجدة ، آية : ١٠.

(٢) في مجمع البيان : (كُتِبَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) معناه : أنه يتبع كل شيطان. كتب الله على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ : أنه يضل من تولاه. فكيف يتبع مثله ويعدل بقوله عمن دعاه إلى الرحمة. وقيل : معناه : كتب على الشيطان : أنه من تولاه أضله الله تعالى. وقيل : معناه : كتب على المجادل بالباطل : أن من أتبعه ووالاه يضله عن الدين». وفي تفسير الكشاف : «ويتبع» في ذلك خطوات «كل شيطان» عات. علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له ، لم تثمر له ولايته إلا الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية ، المتلقبين بالإمامة في دين الله ، إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا. بل هم أشد الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق ، حيث دونوا الضلال تدوينا ، ولقنوا أشياعهم تلقينا ... الخ».

(٣) سورة الحج ، آية : ٤.

(٤) زيادة.

والجواب :

أما قوله : «الدلائل العقلية دلت على أنه لا يجوز أن يخلق الله الكفر في العبد» قلنا : الدلائل العقلية التي يذكرونها لا تزيد على فعل المدح والذّم. وذلك مبني على الحسن والقبح العقليين. وسنبين أن هذه القاعدة في غاية الضعف. أما دليلنا (١) العقلي : فإن ميل القلب إلى جانب الضلال ، بدلا عن جانب الهدى ، لا يمكن إلا لمرجح. وذلك المرجح ليس إلا الله. فوجب أن يكون ترجيح جانب الضلال. وهذا برهان قاطع لا يحتمل التأويل. فثبت : أن البرهان ليس إلا من جانبنا.

قوله : «تفسير الإضلال لا يرى في اللغة» قلنا : الإضلال عبارة عن أن يعمل به عملا ، فلا يدعوه ذلك العمل إلى فعل الضلال. وإذا زين الله في قلبه ذلك الفعل ، وقبح عنده ضده ، دعاه ذلك التزيين إلى فعل ذلك الشيء. فكان ذلك التزيين إضلالا. ولا شك ان هذا المعنى يسمى بالإضلال ، بحسب اللغة.

قوله : «إنه تعالى حكم على فرعون وإبليس والسامري بكون كل واحد منهم مضلا ، مع أن أحدا منهم لا يقدر على خلق الضلال» قلنا : إن الإضلال هو فعل ما يدعو إلى الضلال. سواء كان ذلك [بسبب (٢)] الأمر به ، والترغيب فيه. كإضلال فرعون وإبليس ، أو بسبب خلق الداعية الموجبة لذلك. كما في حق الله تعالى.

قوله : «إنه تعالى أضله فما أضل» قلنا : المفهوم من الإضلال فعل ما يقتضي ترجيح جانب الضلال. ثم إن المقتضى قد يصير معارضا بشيء آخر ، فيخرج عن كونه مقتضيا. وقد لا يصير كذلك.

قوله : «حمل لفظ الضلال في هذه الآيات على خلق الكفر والضلال يوجب الركاكة» قلنا : لا نسلم.

قوله : «كيف يليق أن يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ

__________________

(١) دليل فالعقلي (م).

(٢) من (ط).

قَوْمِهِ) (١) لأجل أن يكون البيان كافيا تاما. ثم يقول عقيبه : إني أخلق الجهل في البعض ، والعلم في البعض»؟ قلنا : إنه تعالى بين أنه بعث الرسول إليهم بلسانهم ، حتى يكمل البيان ، ويظهر الدليل ، ولكنه يضل البعض ويهدي البعض ، ومع ذلك لا يظهر أنه لا يكفي في حصول الهداية تكميل البيان ، وإيضاح الحجة والبرهان. بل الدلائل وإن ظهرت ، والبراهين وإن بهرت ، إلا أنه ما لم يخلق الله الهداية ، لم يحصل المقصود. وهذا الكلام من هذا الوجه في غاية الانتظام. ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢).

فثبت : أن الدلائل التي ذكروها في بيان أنه لا يمكن حمل لفظ الإضلال على خلق الإضلال ، كلها واهية ساقطة. وإذا كانت حقيقة لفظ الإضلال هو خلق الضلال ، وثبت : أن الأصل في الكلام هو الحقيقة ، وجب حمل اللفظ عليه ، والإعراض عما ذكروه من التأويلات ، وحمل اللفظ على المجازات (٣).

والله أعلم

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٤.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١١١. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند هذه الآيات : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجبرهم على الإيمان. عن الحسن ـ وهو المروي عن أهل البيت (ع) والمعنى : أنهم قط لا يؤمنون مختارين ، إلا أن يكرهوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أن الله قادرا على ذلك. وقيل : معناه يجهلون أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وقيل : معناه يجهلون مواضع المصلحة فيطلبون ما لا فائدة فيه. وفي الآية : دلالة على أن الله سبحانه لو علم أنه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك. ولكان ذلك من الواجب في حكمته ، لأنه لو لم يجب ذلك ، لم يكن لتعليله بأنه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا : معنى. وفيها أيضا : دلالة على أن إرادته محدثة. لأن الاستثناء يدل على ذلك. إذ لو كانت قديمة ، لم يجز هذا الاستثناء ولم يصح ، كما كان لا يصح لو قال : ما كانوا ليؤمنوا ، لأنه سبحانه يعلم أنه لم يشأ. فالقول فيه : إنه لو كان كذلك ، لكان وقوع الإيمان منهم موقوفا على المشيئة ، سواء كانت الآيات أم لم تكن ، وفي هذا إبطال للآيات».

(٣) في (س) بعد ذلك : «ولنبين الآن أن كل واحد من التأويلات التي ذكروها في غاية الضعف. أما تأويلهم الأول وهو قولهم» وفي (س) بعد ذلك : فاعلم : أن مصنف الكتاب رضي الله عنه. أراد أن يضيف إليه أشياء أخر كثيرة ، إلا أنه اقتصر على هذا القدر. وأخر إتمامه. وإني نقلت هذا القدر من خطه في نوتته. نور الله مضجعه وقدس روحه ، وإنه توفي يوم الاثنين ، ـ

وقع الفراغ من نسخه في العشر الأخير من محرم ،

[سنة ست وستمائة (١)].

وبتمامه تم كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي»

للإمام فخر الدين الرازي ؛ محمد بن عمر بن الحسين ،

المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ رحمه‌الله تعالى برحمته الواسعة.

آمين].

١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م

__________________

ـ وقت العصر من عيد الفطر ، من شهور سنة ست وستمائة» وفي (س) أيضا : «وقع الفراغ من نسخه في العشر الأخير من محرم سنة ست وستمائة. على يد الفقير الكسير المحتاج ، إلى فضل الله : عبد الجبار بن محسن».

(١) من (س).

فهرس الجزء التاسع من كتاب

المطالب العالية من العلم الالهي

مقدمة المؤلف للجزء التاسع..................................................... ٥

مسألة خلق الافعال............................................................. ٧

المقدمة في بيان تفاصيل مذاهب الناس

في مسألة خلق الأفعال.......................................................... ٩

* * *

الباب الأول : في تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال العباد كلها بتقدير الله وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك ١٩

الفصل الأول : في الدلائل الدالة على أن العبد غير مستقل بنفسه

بالفعل والترك................................................................ ٢١

البرهان الأول................................................................ ٢١

البرهان الثاني................................................................ ٣٣

البرهان الثالث............................................................... ٣٥

البرهان الرابع................................................................ ٤٦

البرهان الخامس.............................................................. ٥٧

البرهان السادس............................................................. ٥٩

البرهان السابع............................................................... ٦٣

البرهان الثامن............................................................... ٦٥

البرهان التاسع............................................................... ٦٦

البرهان العاشر............................................................... ٧٣

الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الدالة على أن قدرة العبد غير مؤثرة في خروج شيء من العدم الى الوجود      ٧٥

البرهان الأول................................................................ ٧٥

البرهان الثاني................................................................ ٧٧

البرهان الثالث............................................................... ٨٣

البرهان الرابع................................................................ ٨٤

البرهان الخامس.............................................................. ٨٩

البرهان السادس............................................................. ٩١

البرهان السابع............................................................... ٩٣

البرهان الثامن............................................................... ٩٦

البرهان التاسع............................................................... ٩٦

البرهان العاشر............................................................... ٩٧

الفصل الثالث : في الدلائل الدالة على أن حصول الإيمان والكفر ، في قلول العباد ، لا يمكن أن يكون إلا بتخليق الله تعالى............................................................................ ١٠١

البرهان الأول.............................................................. ١٠١

البرهان الثاني.............................................................. ١٠٢

البرهان الثالث على أن العبد لا يقدر على خلق العلوم.......................... ١٠٧

البرهان الرابع.............................................................. ١٠٩

البرهان الخامس............................................................ ١٠٩

* * *

الباب الثاني : في تقرير الدلائل القرآنیة على أن خالق أعمال العباد ، هو الله تعالى ١١١

الفصل الأول : في أن التمسك بالدلائل السمعية ، هل يجوز في هذه المسألة ، أم لا؟ ١١٣

البحث الأول.............................................................. ١١٣

البحث الثاني.............................................................. ١١٩

الفصل الثاني : في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الخلق................. ١٣٥

الفصل الثالث :في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الجعل ، وما يجري مجراه ١٦١

الفصل الرابع : في سائر الدلائل المأخوذة من سائر الآیات..................... ١٧٥

* * *

الباب الثالث : فی الدلائل الاخبارية في مسألة خلق الأفعال.................... ١٩٩

الفصل الأول : في التمسك بأخبار الآحاد في هذه المسألة. هل يجوز أم لا؟.... ٢٠١

الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الاخبارية على صحة القول بالقضاء والقدر..... ٢١٥

* * *

الباب الرابع : في الآثار الواردة من علماء السلف في القضاء والقدر............ ٢٤٥

* * *

الباب الخامس : في حكاية الشبه العقلية التي عليها تعويل المعتزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه         ٢٥٣

الفصل الأول : في حكاية قول من يقول : العلم الضروري حاصل بكون العبد موجوداً ٢٥٥

الفصل الثاني : في حكاية الدلائل التي تمسكو بها في إثبات أن العبد موجد..... ٢٥٩

* * *

الباب السادس : في حكاية الدلائل القرآنیة التي يتمسك بها المتعزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه      ٢٧٣

النوع الأول : الاستدلال الاجمالي............................................ ٢٧٥

النوع الثاني................................................................. ٢٧٩

الفصل الأول : في المباحث المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم....... ٢٧٩

الفصل الثاني : في المباحث الواقعة في قولنا بسم الله............................. ٢٨٤

الفصل الثالث : في المباحث الواقعة في قولنا الرحمن الرحيم....................... ٢٨٦

الفصل الرابع : في قولنا الحمدلله.............................................. ٢٨٩

الفصل الخامس : في قولنا رب العالمين......................................... ٢٩١

الفصل السادس : في قولنا مالك يوم الدين.................................... ٢٩٢

الفصل السابع : في قولنا إياك نعبد........................................... ٢٩٣

الفصل الثامن : في قولنا وإياك نستعين........................................ ٢٩٤

الفصل التاسع : في قولنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم....... ٢٩٥

الفصل العاشر : في قولنا غير المغضوب عليهم ولا الضالين...................... ٢٩٧

النوع الثالث : من وجوه استدلالالت المعتزلة بالقرآن.......................... ٢٩٩

النوع الرابع : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن............................ ٣١٣

النوع الخامس : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن......................... ٣١٥

النوع السادس............................................................... ٣١٧

النوع السابع................................................................ ٣١٩

النوع الثامن................................................................. ٣٢٣

النوع التاسع................................................................ ٣٢٥

النوع العاشر................................................................ ٣٢٧

النوع الحادي عشر.......................................................... ٣٢٩

النوع الثاني عشر............................................................ ٣٣٣

النوع الثالث عشر........................................................... ٣٣٥

النوع الرابع عشر............................................................ ٣٣٥

النوع الخامس عشر......................................................... ٣٣٩

النوع السادس عشر......................................................... ٣٤١

النوع السابع عشر........................................................... ٣٤٣

النوع الثامن عشر............................................................ ٣٤٥

النوع التاسع عشر........................................................... ٣٤٩

النوع العشرون.............................................................. ٣٥١

* * *

الباب السابع : في تمسكات المعتزلة بالأخبار................................. ٣٥٥

الباب الثامن : في شرح الآثار المروية عن الصحابة والتابعين التي تمسك بها المعتزلة في إثبات قولهم  ٣٦٩

الباب التاسع : في بيان أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الايمان بالقهر والقسر ٣٧٩

فهرس مواضيع الجزء التاسع.................................................. ٣٩١

تم فهرس الجزء التاسع من كتاب المطالب العالية

من العلم الإلهي للإمام فخرالدين الرازي

المطالب العالية من العلم الإلهي - ٩

المؤلف: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
الصفحات: 395
  • مقدمة المؤلف للجزء التاسع 5
  • مسألة خلق الافعال 7
  • المقدمة في بيان تفاصيل مذاهب الناس
  • في مسألة خلق الأفعال 9
  • الباب الأول : في تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال العباد كلها بتقدير الله وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك 19
  • الفصل الأول : في الدلائل الدالة على أن العبد غير مستقل بنفسه
  • بالفعل والترك 21
  • البرهان الأول 21
  • البرهان الثاني 33
  • البرهان الثالث 35
  • البرهان الرابع 46
  • البرهان الخامس 57
  • البرهان السادس 59
  • البرهان السابع 63
  • البرهان الثامن 65
  • البرهان التاسع 66
  • البرهان العاشر 73
  • الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الدالة على أن قدرة العبد غير مؤثرة في خروج شيء من العدم الى الوجود      75
  • البرهان الأول 75
  • البرهان الثاني 77
  • البرهان الثالث 83
  • البرهان الرابع 84
  • البرهان الخامس 89
  • البرهان السادس 91
  • البرهان السابع 93
  • البرهان الثامن 96
  • البرهان التاسع 96
  • البرهان العاشر 97
  • الفصل الثالث : في الدلائل الدالة على أن حصول الإيمان والكفر ، في قلول العباد ، لا يمكن أن يكون إلا بتخليق الله تعالى 101
  • البرهان الأول 101
  • البرهان الثاني 102
  • البرهان الثالث على أن العبد لا يقدر على خلق العلوم 107
  • البرهان الرابع 109
  • البرهان الخامس 109
  • الباب الثاني : في تقرير الدلائل القرآنیة على أن خالق أعمال العباد ، هو الله تعالى 111
  • الفصل الأول : في أن التمسك بالدلائل السمعية ، هل يجوز في هذه المسألة ، أم لا؟ 113
  • البحث الأول 113
  • البحث الثاني 119
  • الفصل الثاني : في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الخلق 135
  • الفصل الثالث :في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الجعل ، وما يجري مجراه 161
  • الفصل الرابع : في سائر الدلائل المأخوذة من سائر الآیات 175
  • الباب الثالث : فی الدلائل الاخبارية في مسألة خلق الأفعال 199
  • الفصل الأول : في التمسك بأخبار الآحاد في هذه المسألة. هل يجوز أم لا؟ 201
  • الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الاخبارية على صحة القول بالقضاء والقدر 215
  • الباب الرابع : في الآثار الواردة من علماء السلف في القضاء والقدر 245
  • الباب الخامس : في حكاية الشبه العقلية التي عليها تعويل المعتزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه         253
  • الفصل الأول : في حكاية قول من يقول : العلم الضروري حاصل بكون العبد موجوداً 255
  • الفصل الثاني : في حكاية الدلائل التي تمسكو بها في إثبات أن العبد موجد 259
  • الباب السادس : في حكاية الدلائل القرآنیة التي يتمسك بها المتعزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه      273
  • النوع الأول : الاستدلال الاجمالي 275
  • النوع الثاني 279
  • الفصل الأول : في المباحث المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 279
  • الفصل الثاني : في المباحث الواقعة في قولنا بسم الله 284
  • الفصل الثالث : في المباحث الواقعة في قولنا الرحمن الرحيم 286
  • الفصل الرابع : في قولنا الحمدلله 289
  • الفصل الخامس : في قولنا رب العالمين 291
  • الفصل السادس : في قولنا مالك يوم الدين 292
  • الفصل السابع : في قولنا إياك نعبد 293
  • الفصل الثامن : في قولنا وإياك نستعين 294
  • الفصل التاسع : في قولنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم 295
  • الفصل العاشر : في قولنا غير المغضوب عليهم ولا الضالين 297
  • النوع الثالث : من وجوه استدلالالت المعتزلة بالقرآن 299
  • النوع الرابع : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن 313
  • النوع الخامس : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن 315
  • النوع السادس 317
  • النوع السابع 319
  • النوع الثامن 323
  • النوع التاسع 325
  • النوع العاشر 327
  • النوع الحادي عشر 329
  • النوع الثاني عشر 333
  • النوع الثالث عشر 335
  • النوع الرابع عشر 335
  • النوع الخامس عشر 339
  • النوع السادس عشر 341
  • النوع السابع عشر 343
  • النوع الثامن عشر 345
  • النوع التاسع عشر 349
  • النوع العشرون 351
  • الباب السابع : في تمسكات المعتزلة بالأخبار 355
  • الباب الثامن : في شرح الآثار المروية عن الصحابة والتابعين التي تمسك بها المعتزلة في إثبات قولهم  369
  • الباب التاسع : في بيان أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الايمان بالقهر والقسر 379
  • فهرس مواضيع الجزء التاسع 391